نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله

هوية الکتاب

نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1206 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 N5 2018 LC المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق). العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛(1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي. تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة، عهد مالك الاشتر. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات. موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

ص: 1

المجلد 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1206 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 N5 2018 LC المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق). العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛(1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي. تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة، عهد مالك الاشتر. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات. موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة. اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الاشتر.

تمت الفهرسة قبل النشرة مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1) نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة لسنة 1438 ه - 2016 م (المحور القانوني والسياسي) الجزء الأول إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 07815016633 الموقع الالكتروني: www.inahj.org الايميل: Inahj.org@gmail.com تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

المقدمة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير النعم وأتمها محمد وآله الأطهار الأخيار.

أما بعد:

إنّ مما يمر به وطننا اليوم من تحديات عسيرة، ومخاطر محدقة، ليدعونا جميعاً إلى تكثيف الأبحاث العلمية، وتدارس المظاهر السلبية، وتشخيص مواضع الخلل، وتفعيل العمل، واستنهاض الهمم لدى المفكرين والباحثين والمكلفين بإدارة البلد، من ولاة وسياسيين ومسؤولين.

وإن خير ما يأخذ بيد قادة هذا البلد ويسهم في تحقيق النهوض بوطننا الحبيب، هو دراسة الدستور الذي وضعه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر (رضی الله عنه)، فقد كان بحق مفخرة التراث العلمي الإسلامي في إدارة الدولة واستصلاح الرعية وعمارة البلد. ولإدراك هذا السفر الخالد؛ فقد حرصت مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة، ومركز دراسات الكوفة التابع لرئاسة جامعة الكوفة الموقرة على إقامة مؤتمر علمي وطني مشترك عن هذا العهد وفقاً لمحاور بحثية تتضمن جملة من الحقول المعرفية وهي: (القانون والسياسة، الإدارة والاقتصاد، الاجتماع والنفس، الأخلاق وحقوق الإنسان، اللغة والأدب)

وقد وصلت بحمد الله تعالى عدد البحوث المشاركة مائة وثمانية وعشرون (128) بحثاً موزّعة على المحاور الخمسة ضمن الأعداد الآتية:

1- المحور القانوني والسياسي (24) بحثاً

2-المحور الإداري والاقتصادي (22) بحثاً.

3- المحور الاجتماعي والنفسي (14) بحثاً.

4- المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان (33) بحثاً.

5- المحور اللغوي والأدبي (35) بحثاً.

والله ولي التوفيق.

السيد نبيل الحسني الكربلائي عن: اللجنة التحضيرية

ص: 5

شعار المؤتمر:

(عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) رسالة إصلاح ودستور حياة).

جدوى المؤتمر:

1. رسم السياسة العامة للدولة العراقية عبر البعد الاستراتيجي لإدارة الحكم في فكر أمير المؤمنين (علیه السلام) من خلال عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه).

2. استنباط المعرفة العلمية، وجعل العهد مورداً لها وتطبيقها على المجتمع المعاصر.

3. إدراك المعرفة التنظيمية للفرد والمجتمع من استنطاق العهد، فهو صالح لكل الأقوام والأزمان. 4. التأكيد على عالمية العهد، وتوسيع دائرة مصاديقه، إذ إنه دستور حياة، ومنطق إصلاح.

أهداف المؤتمر:

1. استلهام البعد الاستراتيجي والعالمي في فكر أهل البيت (علیهم السلام) من خلال قراءة التراث قراءة معاصرة.

2. استظهار سبل البناء التقوائي الذي سنّه أمير المؤمنين (علیه السلام) لمن كلّف بإدارة البلد وقيادته.

3. تنضيج الرؤى الأكاديمية حول مؤسسات الدولة العراقية وإصلاح المنظومات الإدارية والمالية والسياسية فيها.

4. التلاقح الفكري والمعرفي بين العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات من داخل العراق وخارجه.

ص: 6

اللجنة العلمية:

1. أ. د. حسين لفته حافظ

2. أ. د. أكرم محسن الياسري

3. أ. د. رضا صاحب أبو حمد

4. أ. د. أياد عبد الحسين الخفاجي

5. أ. م. د. صباح صاحب العريض

6. م. د. د. عدنان عاجل عبيد

7. أ. م. د. علي عبد الفتاح الحاج فرهود

8. أ. م. د. علي عباس الأعرجي

9. م. د. د. عدنان مارد جبر

10. أ. م. د. شكيب غازي بصري

اللجنة التحضیریة

1. السيد نبيل قدوري حسن الحسني رئيساً

2. أ. م. د. فكري جواد عبد عضوا

3. أ. م. د. فهد نعيمة مخيلف عضواً

4. أ. م. د. عقيل جاسم دهش العذاري عضواً

5. أ. م. د. ليث قابل الوائلي عضواً

6. أ. م. د. منير عباس عبد الكاظم عضواً

7. أ. م. د. حيدر غانم عبد الحسن عضواً

8. م. د. لواء عبد الحسن عطية عضواً

9. م. د. علي زهير هاشم الصراف عضواً

10. م. د. محمد علي محمد رضا الحكيم عضواً

ص: 7

محاور المؤتمر:

أولاً: المحور القانوني والسياسي:

- المبادئ القانونية والدستورية في ضوء العهد.

- أسس العلاقة بين السلطة والشعب - جدلية الحقوق والواجبات - في ضوء العهد.

- آلیات اختیار ذوي المناصب العامة في الدولة في ضوء العهد.

- سلطات الحاكم ومهامه الوظيفية في ضوء العهد.

- العلاقة بين المركز والإقليم - نظام الولايات - في ضوء العهد.

- استقلال القضاء وآليات اختيار القضاة في ضوء العهد.

- المبادئ الجنائية والعقوبات الجزائية في ضوء العهد.

ثانياً: المحور الإداري والاقتصادي:

- إدارة الدولة في ضوء النظرية الإسلامية والنظم الإدارية المعاصرة.

- التنمية الاقتصادية في ضوء العهد.

- إدارة الموارد البشرية في ضوء العهد.

- استثمار الموارد الطبيعية في ضوء العهد.

ص: 8

ثالثاً: المحور الاجتماعي والنفسي:

- العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في ضوء العهد.

- التعايش السلمي وحسن الجوار في ضوء العهد.

- القيم السلوكية والمحددات النفسية في ضوء العهد.

رابعاً: المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان:

- البناء التقوائي والقيمي للراعي قبل الرعية في ضوء العهد.

- مبادئ حقوق الإنسان في ضوء العهد.

- بناء المنظومة القيمية في المجتمع من خلال العهد.

- حق المواطنة والحريات العامة في ضوء العهد.

خامساً: المحور اللغوي والأدبي:

- عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه) في ضوء النظريات اللسانية والنقدية المعاصرة.

ص: 9

ص: 10

حُرمة الدماء في العهد العلوي

اشارة

أ. د. ساجد أحميد عبل الركابي أ. م. د. تيسير أحميد عبل الركابي كلية القانون والسياسة جامعة البصرة

ص: 11

ص: 12

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابة المنتجبين...

وبعد... فأن مسألة (الدماء) من المسائل المهمة في دين التسامح والمساواة والعدل (الإسلام)، وقد دفعت البشرية دمائها الغزيرة ولا زالت جراء الجور والظلم والأرهاب والعنف، فللدماء حرمة في دين الإسلام أكدتها الآيات القرآنية الكريمة والسُنة النبوية المطهّرة وسيرة آل البيت النبوي الأطهار عليهم الصلاة والسلام.

ولعل أهمية الموضوع تنبع مما يواجهه المسلمون في بلادهم من اراقة الدماء وسفكها مع ماظهر من دعاوى التكفير والأرهاب من جماعات تدعي الإسلام منهجاً لها، فضلاً عن اشكال الأضطهاد والظلم والتنكيل الذي تمارسة أنظمة حاكمة يقودها مسلمون، مما أساء إلى صورة الإسلام وشوّه سمعة المسلمين في العالم، فصّورت وسائل الأعلام الغربي والمعادي أمة الإسلام على أنها أمة تسترخص الدماء وتستهين بإنسانية الإنسان(1).

إن من المبادى الإسلامية الهامة على المتسوى الإنساني مبدأ عصمة الدماء والنفوس والأعراض وحرمتها، فالقاعدة الإساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها بغض النظر عن هوية اصحابها المذهبية والدينية، لأن القتل وسفك الدماء قبيح في

ص: 13

حكم العقل والعقلاء بإعتباره مصداقاً واضحاً للظلم وهو مما أستقل العقل بقبحه، وأما في شريعة السماء فأن حفظ النفوس من أهم المقاصد التي هدفت الشريعة الغراء إلى تحقيقها(2).

لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) تجسيداً حياً لروح الإسلام ومبادئه الإنسانية السامية، التي تضمنها القرآن المجيد والسُنة النبوية المطهرة، وقد مثلَّ في عهده (عليه السلام) إلى من ولاه مصر، مالك بن الحارث الأشتر النخعي عام (38 ه / 658 م) أسس الحكم الرشيد العادل والذي تُقاس بِه مستويات صلاح أنظمة الحكم السياسية في كل مكان وزمان.

وإن كان هناك موضع للمقارنة، مع ما وضعتهُ البشرية في سلسلة تطورها وإرتقائها القانوني متمثلاً في المواثيق والعهود والمعاهدات التي نادت بحقوق الإنسان ومنها حق الحياة ومنع الأعدام التعسفي والتطهير العرقي والأبادة الجماعية فأن ما تضمنه عهد الإمام علي (عليه السلام) من تحذير شديد ونهي وتحريم سفك الدماء الإ بحلها، حالة متقدمة، ولا شك في أن تلك العهود والمواثيق استمدت نصوصها وروحها من العهد، وهو يمثل تراثاً إنسانياً خالداً ضمن التراث القانوني والسياسي والحضاري العالمي والذي تستوحي منهُ نصوص وقواعد القانون الدولي العام مضامينها.

إن من ضرورات إقامة الحكم الصالح الذي يفتقد العالم وجوده، وتظهر الحاجة إليه في نواحي الحياة والوجود الإنساني، أن تستقي نصوص ذلك الحكم وشرعيته من المبادى التي أرسى مضامينها الحقيقية والواقعية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في سنين خلافته القصيرة المضطربة الممزوجة بالأحداث الجسام (35 - 40 ه / 655 - 660 م)، وتلك التي سطرها في عهده إلى مالك بن الحارث

ص: 14

الأشتر النخعي (رضي الله عنه)، فلم تكن المبادى مجرد أفكار مثالية غير قابلة للتطبيق أو صادرة من شخص جلس وحيداً يفكر وينظر بعيداً عن احداث الزمان والمكان

إن الحالة المثلى للحكم الصالح الرشيد التي أوجدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في العقل والوجدان والتاريخ الإسلامي هي المعالجة الواقعية لما تواجهه الأمة من أزمات تهدد كيانها ووجودها بالتدهور والإنحلال.

لذلك بات من الضروري البحث والدراسة لهذا الفيض الراقي للفكر الإنساني الذي مثلته نصوص العهد العلوي، وفي أحدى أهم مفاصله الممثلة في (حرمة الدماء) والتي وصف أثرها الكبير والخطير على الحكم، أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنها تُضعفه وتوهنه، بل تزيله وتنقله، وقد أثبتت وقائع التاريخ وأحداثه مصداقيته، مما يستدعي رعايته من قبل ولاة الأمر والساسة الذين تقع على عواتقهم مسؤولية إدارة أمور العباد وصلاح شوؤنهم، وتقتضي دراسة ماتقدم الخوض في المسائل الآتية:

1. أولاً: العهود والمواثيق الدولية.

2. ثانياً: القرآن المجيد.

3. ثالثاً: السنة النبوية.

4. رابعاً: العهد العلوي.

5. خامساً: حُرمة الدماء في العهد.

ص: 15

أولاً / العهود والمواثيق الدولية.

لم يكن الوصول إلى تشريع العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان وابرزها حق الحياة، أمراً يسيراً بل مرَّ بمخاض عسير دفعت ثمنه البشرية ضحايا جراّء الأنظمة الاستعمارية والظالمة والحروب التي زُجت في أتونها شعوباً وأمماً كثيرة وواجهت ويلات واحداثاً مروعة سُفكت فيها الدماء الغزيرة، وسقطت من جراءها ضحايا عديدة، وهُدمت وخُربت شواهد حضارية وثقافية ومدنية واستنزفت من خلالها ثروات طائلة، حتى وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من فقر شديد ومجاعات وانتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، دفعت الضمير الإنساني إلى وضع قواعد قانونية دولية حاولت الحد من تلك الانتهاكات وعلاج واصلاح مايمكن إصلاحه وتفادي عدم تكرار تلك المآسي البشرية.

من الوثائق الدولية المهمة التي يمكن تلمس موضوع حق الحياة وعدم انتهاكه وسفك الدماء، الآتي:

أ. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الجمعية العامة للأمم المتحدة 10 كانون الأول / ديسمبر 1948).

صدر الاعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تسببت والحرب العالمية الأولى خلال النصف الأول من القرن العشرين، بملايين الاصابات واجتاح الموت والتدمير والتخريب آوربا وأفريقا وآسيا، وأستخدمت فيها الأسلحة الفتاكة التقليدية والبايلوجية والنووية، وقد عكست حقيقة الشر في النفس البشرية في أنظمة وحكومات الدول الأستعمارية والأنظمة السياسة التابعة لها.

وعلى الرغم من أن القوى العظمى التي خاضت الحرب وأنتصرت واسست

ص: 16

واوجدت منظمة الأمم المتحدة لتكون منظمة أممية قادرة على ضبط الصراعات الدولية والحيلولة دون حدوث حرب عالمية ثالثة مدمرة للبشرية مع تنامي صناعة الأسلحة النووية وتطوير وسائل ايصالها بأستخدام التقدم التقني والعلمي، فضلاً عن التنافس والصراع الدولي والاستعداد لأستخدامها مع بدء ظهور الحرب الباردة مابين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية، فأن تلك القوى أرادت أن تضع قواعد قانونية لحماية حقوق الإنسان وحرياته ومعالجة القضايا الخطيرة التي تواجه البشرية وأبرزها الصراعات والحروب الأهلية وأنتهاكات أنظمة الحكم الاستبدادية لحقوق شعوبها في الحياة وهي احدى نتائج الحرب الباردة والتنافس على مناطق النفوذ والهيمنة في العالم من قبل القوى الدولية نفسها وتوابعها من الدول والأنظمة الحاكمة.

وللاعتبارات الإنسانية التي تناولتها ديباجة ميثاق الأمم المتحدة بالقول: «نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف. فقد جاء الاعلان العالمي لحقوق الأنسان بعد ثلاث سنوات من صدور الميثاق وتأسيس الأمم المتحدة.(3) وتضمن الاعلان في أهم نصوصة، (المادة 3) ((لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه)).

وحق الحياة يعني حق الإنسان في حياة منحها الله له منذ ولادته حتى وفاته، ويتضمن هذا الحق السلامة الجسدية والنفسية وعدم انهاء الحياة بالقتل، أو بالاعدام أو التطهير العرقي و الإبادة الجماعية تُمارس من قبل النظام الحاكم دون اساس قانوني شرعي. إن هذه الممارسة كانت ولازالت موجودة في كثير من الدول والأمم والشعوب نتيجة الحكم الجائر والشمولي والظالم الذي يعاقب المواطنين بالاعدام والقتل الجماعي لأسباب عنصرية أو دينية أو طائفية أو سياسية.

ص: 17

وعلى هذا الأساس تضمن الاعلان، وكأمتداد لهذه المادة الأساس، تفاصيل تصب في هذا الحق، عبر النصوص الأخرى، ومنها (م 4) حظر الاسترقاق والاستعباد، (م 5) حظر التعذيب والعقوبة القاسية واللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة، (م 6) الاعتراف بالشخصية القانونية، (م 7) المساواة امام القانون، (م 8) حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية للإنصاف، (م 9) حظر اعتقال أي أنسان أو حجزه أو نفيه تعسفياً، (م 11) حق المحاكمة العادلة، (م 12) وحظر تعريض احد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون اسرته أو مسكنه أو مراسلاته فضلاً عن حقوق أخرى تضمنها الاعلان في مواده الثلاثين.

ب. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (الجمعية العامة للأمم المتحدة 16 كانون الأول / ديسمبر 1966).

تضمنت المادة (14) من العهد

((1- الناس جميعاً سواء امام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون.

2- من حق كل متهم بإرتكاب جريمة أن يعتبر برئياً إلى أن يثبت عليه الجرم)).

وتعتبر المادة ضمانة للإنسان لعدم تعرضه لاجراءات غير قانونية تبرر اعتقاله وسلب حريته أو إنهاء حياته دون محاكمة قانونية تتيح له دفع التهمة الموجهة إليه وممارسة حق الدفاع.

ص: 18

ت. ضمانات تكفل حماية حقوق الذين يواجهون عقوبة الإعدام (المجلس الأقتصادي والأجتماعي / الأمم المتحدة 25 آيار / مايو 1984).

يقصد بالاعدام إنهاء حياة الإنسان لأسباب قانونية كقيام الشخص بأرتكاب جرائم يعاقب عليها القانون بالاعدام، ويكون ذلك بحكم قانوني صادر من محكمة مختصة. وقد يكون هناك تعسف في استخدام النصوص العقابية القانونية لانهاء حق الإنسان بالحياة فتخرج عن نطاق الشرعية لأسباب سياسية غالباً، يتبعها النظام الحاكم أو مؤسساته وأجهزته القمعية، وعلى ضوء ماتقدم وضع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة ضمانات لأولئك الذين يواجهون عقوبة الاعدام في الفقرات:

((1. في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام، لا يجوز أن تفرض عقوبة الاعدام إلا في أخطر الجرائم على أن يكون مفهوماً نطاقها ينبغي ألا يتعدى الجرائم المعتمدة التي تسفر عن نتائج مميتة أو غير ذلك من النتائج البالغة الخطورة.

2. لا يجوز فرض عقوبة الاعدام إلا حينما يكون ذنب الشخص المتهم قائم على دليل واضح ومقنع لا يدع مجالاً لأي تفسير بديل للوقائع.

3. لا يجوز تنفيذ عقوبة الاعدام إلا بموجب حكم نهائي صادر من محكمة مختصة بعد اجراءات قانونية توفر كل الضمانات الممكنة لتأمين محاكمة عادلة.

4. لكل من يحكم عليه بالاعدام الحق بالأستئناف لدى محكمة أعلى، وينبغي أتخاذ الخطوات الكفيلة بجعل هذا الأستئناف أجبارياً.

5. لكل من يحكم عليه بالاعدام الحق في ألتماس العفو، أو تخفيف الحكم، ويجوز منح العفو أو تخفيف الحكم في جميع حالات عقوبة الإعدام.

6. لا تنفذ عقوبة الإعدام إلا أن يتم الفصل في إجراءات الأستئناف أو أي أجراءات تتصل بالعفو أو تخفيف الحكم.

7. حين تحدث عقوبة الإعدام، تنفذ بحيث لا تسفر إلا عن الحد الأدنى من المعاناة.

ص: 19

ث. مبادى المنع والتقصي الفعالين لعمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة. (أوصى بها المجلس الأقتصادي والأجتماعي / الأمم المتحدة 24 آيار / مايو 1989).

1. نظراً لكثرة الإجراءات التعسفية من قبل أنظمة الحكم وأجهزتها القمعية والتي أشرت حالة لافتة من أحكام الإعدام الكثيرة ضد الخصوم السياسيين والمعارضة، في نهاية ثمانينات القرن العشرين، والتي شهدت نهاية الحرب الباردة وتحول أهتمام المجتمع الدولي نحو إقامة الديمقراطية وأحترام حقوق الإنسان وكأنها صحوة للضمير العالمي بإتجاة احترام حقوق الإنسان وخاصة حقهُ في الحياة والحد من حالات الإعدام التعسفي.

2. لذلك أوصى المجلس الأقتصادي والأجتماعي التابع للأم المتحدة بمبادى (المنع والتقصي) والتي جاء في (الاجراءات الوقائية) مايأتي: ((1. تحظر الحكومات، بموجب القانون جميع عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة، وتكفل إعتبار هذه العمليات جرائم بموجب قوانينها الجنائية، يعاقب عليها بعقوبات مناسبة تراعي خطورتها. ولايجوز التذرع بالحالات الأستثانية، بما في ذلك حالة الحرب او التهديد بالحرب، أو عدم الأستقرار السياسي الداخلي، أو أي حالة طوارىء عامة أخرى، لتبرير عمليات الإعدام هذه.

3. تحظر الحكومات على الرؤساء والسلطات العامة اصدار أوامر ترخيص لأشخاص أخرين اي نوع من أنواع الإعدام خارج نطاق القانون أو الإعدام التعسفي أو الإعدام دون محاكمة أو تحرضهم على ذلك)).

ص: 20

ج. أتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. (الجمعية العامة الأمم المتحدة 12 كانون الأول / ينايرا 1951).

تجاوزت حالات القتل والتجاوز على حق الحياة الحالات الفردية، لتصبح إبادة وقتل جماعي لمجموعات عرقية ودينية وسياسية معارضة للأنظمة السياسية مما يؤشر إزدياد حالات القمع وسفك الدماء غير القانونية أو خارج نطاق القانون، وهو الذي دفع المجتمع الدولي إلى الوقوف عندها وتوقيع اتفاقية بهذا الخصوص عام 1951، وتضمنت الأتي: ((م 2: في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:

أ- قتل أعضاء من الجماعة.

ب- إلحاق اذى جسدي أو روحي خطير بأعفاء من الجماعة.

ج- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جُزئياً.

د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

ه- نقل اطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى))

ص: 21

ح. في عقد التسعينات من القرن العشرين شهدت الإنسانية صراعات عرقية وعمليات تطهير وقتل جماعي في يوغسلافيا 1993 ورواندا 1994،

ونتج عنهُ إصدار أنظمة الحماية الجنائية لحقوق الإنسان متمثلة بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الرواندا فضلاً عن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998، ومنحت المادة(4) من نظام محكمة يوغسلافيا 1994 للمحكمة الدولية سلطة محاكمة الأشخاص الذين يرتكبون جريمة إبادة الأجناس، وهي حسب الفقرة(2) تعني ((أي فعل من الأفعال التالية يُرتكب بقصد القضاء كلياً أو جزئياً على جماعة وطنية أو أثنية أو عرقية أو دينية، بإعتبارها جماعة لها هذه الصفة)). والأفعال هي: قتل أفراد هذه الجماعة، وإلحاق ضرر بدني أو عقلي بالغ بأفراد الجماعة وأرغام الجماعة عمداً على العيش في ظروف يُقصد بها أن تؤدي كلياً أو جزئياً إلى القضاء عليها قضاءً مادياً، وفرض تدابير يُقصد بها منع التوالد في الجماعة، ونقل الأطفال قسراً إلى جماعة أخر.....)) وتضمنت المادة(5) الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية وهي ((القتل، الإبادة، الأسترقاق، الأبعاد، السجن، التعذيب، الأغتصاب، الأضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية، فضلاً عن سائر الأفعال غير الإنسانية)).

وتكررت صيغ مواد محكمة يوغسلافيا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا عام 1994 في المادتين الثانية والثالثة وتأكدت تلك النصوص الجنائية في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 بتفاصيل أكثر في المادتين السادسة والسابعة.

ص: 22

ثانياً / القرآن المجيد.

على الرغم من كثرة وتعدد المواثيق والعهود والإتفاقيات الدولية التي أبدعت البشرية في صناعة قواعدها ونصوصها القانونية للحد من الصراعات والحروب وسفك الدماء والقتل الفردي والجماعي وجرائم إبادة الجنس والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، إلا أنها لم تفلح في وضع حد لتلك الإنتهاكات وبقيت تلك النصوص إما عاجزة عن الإلمام والاستيعاب لكل حالات ارتكاب تلك الجرائم وتحديد عناصرها وأوصافها وتشريع القواعد الخاصة بمعالجتها، وإما أنها لم يتم تطبيقها على مَن اقترفوا هذه الجرائم وفرض أو أيقاع العقوبة عليهم، فضلاً عن استمرار ارتکاب تلك الجرائم بوتائر متصاعدة وهي في تزايد مستمر.

إن مَن يتفحص قواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني يجد أنها، وإن اختلفت في الصياغات الشكلية، إلا أنها متفقة مع المسار العام للقواعد القانونية الإنسانية الرفيعة التي وجدت في الإسلام والتي تضمنت مبادی عالية الرفعة والسمو في احترام الإنسان وحقوقه، على وفق تشريع إلهي کامل لا يعتريه النقص صالح لكل زمان ومكان. إن أول مصدر لهذا التشريع الإلهي الحكيم هو القرآن المجيد، کلام الله المُنزّل على الرسول الكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن خلال الآيات الكريمة يمكن الإستدلال على كرامة الإنسان وإعلاء منزلتهِ وحرمة دمه وعرضه وماله والتأكيد على حق الحياة و دون المساس بها بأي حال من الأحوال، إلا في حالات وظروف يتسبب الإنسان في فعلها وأرتكابها فتكون عقاباً دنيوياً له.

لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأعلى منزلته في المخلوقات، وسخر لهُ مما خلق، فإستحق أن يتبوأ المكانة الرفيعة في هذه المعمورة(4) قال تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا

ص: 23

بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(5).

ذلك التكريم يقضي أيضاً وجوب الحفاظ على حُرمات الأموال والأعراض، فلا يجوز ينتهك شيئاً منها(6).

لقد ورد (سفك الدماء) في القرآن المجيد بقول الملائكة لله تعالى وتساؤلهم حين أخبرهم بخلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(7).

لقد فهم الملائكة وقوع الفساد وسفك الدماء من قوله «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، (إذ أن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مرکباتها في معرض الإنحلال، و انتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لاتتم الحياة فيها الإبالحياة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك إن الخلافة المرادة لاتقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعي بينهم يقضي بالاخرة إلى الفساد والسفك)(8).

وهكذا الكلام، كما يذكر السيد الطباطبائي في تفسيره، في مقام التعرف على ما جهلته الملائكة وإسستیضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخلفية، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: إِنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ(9): «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»(10)

ص: 24

لقد عظم فعل القتل وسفك الدماء عند الله حتى جعل قتل إنسان بمنزلة قتل الناس جميعاً واحیاء نفس إنسان كإحياء الناس جميعاً، بقوله سبحانه وتعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(11). وهو كناية عن كون الناس جميعاً ذوي حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحدة منها والجميع سواء، فمن قصد الإنسانية التي في الواحد منهم فقد قصد الإنسانية التي في الجمع. اما قوله تعالى «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، والمراد بالإحياء ما يُعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق وإطلاق الأسير (إن القتل من شاقة أمره أن الذي يقع منه على نفسي واحدة كالذي يقع منه على الناس جميعاً وأن من أحيا نفساً كأنما أحيا الناس جميعاً)(12).

لذلك تم تحريم القتل بغير الحق فقال سبحانه وتعالى «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(13)، فالنفس المحرّم قتلها هي نفس المسلم والمعاهد دون الحربي، والحق الذي يستباح به قتل النفس المحرّم قتلها ثلاثة أشياء: القود والزنا بعد إحصان والكفر بعد إيمان أو إسلام، وأن كانت كافرة لم يتقدم، کفرها إسلام فإن لا يكون تقدم قتلها عهدٌ أو أمان مصداقاً لقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): { لا يحل دم أمريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق}. ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(14). وآية أخر سبب خاص وهو الكفر الأصلي، قال تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ

ص: 25

حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ»(15). فضلاً عن أسباب أخرى أبداها الفقهاء كتارك الصلاة عند الشافعي، واللائط، و الساحر إذا قال قتلت فلانا بسحري و جوّز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة(16).

لقد تكرر قول الله سبحانه وتعالى في تحريم قتل النفس البشرية في مواضع عديدة ولأسباب كثيرة منها قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا»(17). وهو نهي عن قتل النفس المحترمه إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بإن يستحق ذلك لقود أو ردة أو بغير ذلك من الأسباب الشرعية، ولعل في توصیف النفس بقوله (حَرَّمَ اللهُ) من غير تقیید، أشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة(18).

وكذلك الحال في قوله تعالى «وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا»(19).

وكذلك نهی جل شأنه عن القتل لأسباب الخشية من الفقر، كقوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ»(20). وقوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ»(21). وقوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا»(23).

(الإملاق) هو الافلاس من المال والزاد ومنه التملق، و (خشية إملاق) خوف

ص: 26

أقتار وفقر، وقد كانت هذه السُنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب والقحط إلى بلادهم فكان الرجل اذا هدده الافلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفاً من أن يراهم على ذلة العدم والجوع، وقد علل النهي بقوله «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» اي إنما تقتلونهم مخافة أن لاتقدروا على القيام بأمر رزقهم ولستم برازقين لهم بل الله يرزقكم وإياهم جميعاً فلا تقتلوهم، وفي الآية هذه والآية الأخرى من سورة الإسراء نهي شدید عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر والحاجة والقول «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هو أيضاً تعليل للنهي وتمهيد لقوله بعده «إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا»(23).

ومن اوجه القتل الأخرى التي نهی عنها الله سبحانه وتعالى، وهو ما تعارفت عليه العرب في الجاهلية بتفضيل الذكر على الأنثی وفي ذلك قوله جل وعلا: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»(14) ولذلك كانت عادة وأد البنات كما في قوله تعالى: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»(25). يقصد بالمؤودة الجارية المدفونة حية، وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فأن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته.

ومعنى الآيتان، إن المؤودة تُسأل فيقال لها بأي ذنبٍ قُتلت. ومعنی سؤالها توبیخ قاتلها لأنها تقول (قتلت بغير ذنب). وقيل أن معنی (سُئِلَت) طولب قاتلها بالحجة في قتلها وسُئل عن سبب قتلها، وعلى هذا فيكون القتلة هنا هم المسؤولون عن الحقيقة لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها(26).

لقد توعد جل ثناؤه بالجزاء الأليم لمن يرتكب جريمة القتل وسفك الدم بقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ

ص: 27

وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(27)، والآية تهدید شدید ووعيد أكيد لمن أقترف هذا الذنب العظيم، وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمداً مخلداً بالنار، غير أن قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(28)، وكذا قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»(29) تصلحان لتقييد هذه الآية فهذه الآية تُوعد النار الخالدة لكنها ليست صريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.(30)

لقد جعل الله سبحانه وتعالى لجريمة القتل وسفك الدم وأزهاق النفس المحرّمة عقاباً دنيوياً فضلاً عن العقاب الآخروي، وذلك في قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(31). والآية إشارة إلى حكمة التشريع ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهي نشر الرحمة وإيثار الرأفة، أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو لو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بقصاص(32). فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو والدية ولا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لبّ وقوله «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي القتل، وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص. إن الآية فيها تعريف القصاص وتنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة، وهي تتضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة، دون القتل فإن من القتل مايقع عدونا ليس يؤدي للحياة(33).

ص: 28

ثالثاً / السُنة النبوية المُطهرة.

تضمنت السنة النبوية الشريفه تحريماً لقتل النفس البشرية إلا بالحق فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): [لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة] و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): [لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بعد إسلامه، أو زنی بعد إحصانه، أو قتل فيُقتل](34).

وتأكيداً لحرمة النفس البشرية فأن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد شدد على هذا الأمر، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجة الوداع، فقال: إي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم. قال: فأي شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر (ذي الحجة)، فقال فأي بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد (مكة)، قال: فأن دماءكم وأموالکم علیکم حرام کحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه، فيسألكم عن أعمالكم ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد ألا من كانت عندهُ أمانه فلیؤدها إلى من أئتمنه فإنهُ لا يحل دم أمريء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ولا تظلموا أنفسكم وترجعوا بعدي كفاراً(35).

وقال الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: [والذي بعثني بالحق لو أن أهل السماء والأرض شركوا في دم أمريء مسلم ورضوا بهِ لأكبهم الله على مناخرهم، في النار، أو قال: على وجوههم(36). وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أول ما يُحكم الله فيه يوم القيامة الدماء فيوقف أبني أدم فيفصل بينهما ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى

ص: 29

منهم أحد ثم الناس بعد ذلك ثم يأتي المقتول بقاتلهِ فيتشخَّب في دمهِ وجههِ فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثاً(37). وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمر فقال رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يطوف الكعبة ويقول (ما أطيبكِ، وما أطيب ريحكِ، وما أعظمكِ وما أعظم حرمتكِ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمهِ(38)، كما أنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): أكد عظمة الذنب الذي يرتكبة بقتل النفس وجعله بمنزلة الشرك بقوله الشريف: [كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا رجل يموت مشركاً أو يقتل مؤمناً متعمداً](39)، وكذلك ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم): [من أعان على دم امريء مسلمٍ بشطر كلمة كُتب بين عينيه يوم القيامة: آیس من رحمة الله](40).

وذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) في موضع آخر أن القاتل ملعون من الله، فعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنهُ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لعن الله من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لعن الله من أحدثَ حدثاً أو أوي مُحدثاً، قيل وما المحدث؟ قال: من قتل. وزاد عن ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم): بإنه قال: إن أعتى الناس على الله عزَّ وجل من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه(41).

ولم يقتصر تحريم القتل وسفك الدماء على المسلمين بل شمل أيضا المعاهدات وأهل الذمة، إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): [من قتل معاهداً في كنهه حرّم الله عليه الجنة]، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): [من قتل نفساً معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة وان ريح الجنة ليوجد من مسيرة مائة عام](43).

لقد مثّل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بخلقهِ الرحيم مع المسلمين وأهل الذمة إنموذجاً يُحتذى به في السماحة والعدل ودفع الظلم و تحريم العنف، ولهذا

ص: 30

قال عز وجل فيه «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(43). فلم يضرب بيده الكريمة أحداً قط، إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى، وما أنتقم من شيء صنع إليه إلا أن تنتهك حرمة الله(44). ومن ثم فلم يكن عقابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بغرض الانتقام والثأر وإنما بغرض تطبيق الشريعة السمحاء والحفاظ على الدين القيم. لذلك فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحد عن تطبيق مبادى الشريعة الإسلامية في تحريم العنف والقتل والأخذ بالقصاص على حرمة دماء المسلمين وأهل الذمة(45). (فعن أنس أن يهودياً رضّ «رضخ» رأس جارية بحجرين، فقيل لها من فعل هذا بكِ؟ فلان، أو فلان؟ حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فأعترف فأمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرضّ رأسهِ بحجرين أعتماداً للمماثلة وحكماً بها)(46).

في الوقت ذاته كان (صلى الله عليه وآله وسلم)، شديد في محاسبة الذين يسفكون الدماء وإن كانوا مسلمين ومن أبرز الحوادث الدالة على ذلك هو بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد حيث أفتتح مكة داعياً ولم يبعثهُ مقاتلاً ومعهُ قبائل من العرب فوطئوا بني جذيمة بن عامر، فلما رأه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكتُفوا ثم عرضهم على السيف فقتل مَن قتل منهم. فلما أنتهى الخبر إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع يديه إلى السماء ثم قال [اللهمّ أني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد]. ثم دعا رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: [يا علي أخرج إلى هؤلاء القوم فأنظر في أمرهم، وأجعل أمر الجاهلية تحت قدميك]. فخرج الإمام علي (عليه السلام) حتى جاءهم ومعهُ مال قد بعث بهِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فودّى لهم الدماء وما أُصيبَ لهم

ص: 31

من الأموال، حتى إنهُ ليدي ميلغة الكلب(47)، حتى إذا لم يبقَ شيء من دم ولا مال إلا ودّاه، بقيت معه بقية من المال، فقال الإمام علي (عليه السلام) حين فرغ منهم، هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال أحتياطاً لرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل ثم رجع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) [أصبت وأحسنت] ثم قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأستقبل القبلة شاهراً يديه حتى أنهُ ليُرى ما تحت منكبيه يقول: [اللهمّ أني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد] ثلاث مرات(48).

ومن الحوادث الأخرى، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلّظ محلم بن جثامة بن قيس عندما قتل عامر بن الأخبط الأشجعي عندما مرَّ على نفر من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهُ غنم فسلّم عليهم، فقالوا ما سلّم عليكم إلا ليتعّوذ منكم، فحمل عليه جثامة فقتله بشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره وغنمه فقال لهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): [إن الله ابي على من قتل مؤمن، قالها ثلاث مرات، وقال لمحلم [أمنتهُ بالله ثم قتلته] أو قتلته بسلاحك في غرّة الإسلام، ودعا (صلى الله عليه وآله وسلم) [اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامه] ثلاث مرات بصوت عالٍ(49)، وحوادث اخرى يذكرها أصحاب السير والمغازي تدلل على حرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشديده على حرمة النفس البشرية وتحريم سفك الدم والقتل، و إن دل ذلك على شيء فإنه يدل على سماحة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخُلقِه العظيم وتألفه للناس وتأكيداً لسماحة الإسلام ومبادئه السامية(50). وذلك کله كان يمثل البيئة والمناخ الذي نشأ في كنفه الإمام بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتربى عليه، فهو ربيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 32

ووصيه وقد تشربت في نفسهِ الكريمة هذه المبادىء السامية والراقية ليضعها موضع التطبيق على نفسهِ وأهله وصحبه ورعيته.

رابعاً / العهد العوي.

مَثّلَ عهد أمير المؤمين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمتداداً للقرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة في المجالات كافة، وهي جزء أساس في سلسلة البناء العقائدي والفكري والحضاري للأمة الإسلامية.

في هذا العهد أسند أمير المؤمنين (عليه السلام) سلطات أساسية تمثل أركان بناء اية دولة مؤسسات على وفق القياسات المتطورة والمتقدمة للدول والحكومات الحديثة في عصرنا هذا، أسندها إلى مَن هو محل ثقة وقرب من أمير المؤمنين ومن أتباعه المخلصين وهو مالك بن الحارث الأشتر النخعي وهذه السلطات الرئيسة:

1- جباية الخراج: وهي الوظائف المالية ويخص ميزانية الدولة وموارد تحصيل المال لخزينة الدولة.

2- جهاد العدو: وهي تمثل السياسة الخارجية والتعامل مع الدول الأخرى.

3- أستصلاح الأهل: وتمثل السياسة الداخلية.

4- عمارة البلاد: وهي التنمية الأقتصادية(51).

ولغرض القيام بها على أكمل وجه، يلتزم مَن عُهد إليه أمر مصر والتي وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنها (بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور) أي أنها خُبرت أصناف مختلفة من الحكومات والسياسات، ما بين العدل والجور

ص: 33

(الظلم) وهي إشارة إلى أنها بلاد ليس من السهل ولاية الأمر فيها، ووجوب أتخاذ الصالح من الأدراة والقدرة على سياسة الأمور بإتجاه مبتغى أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحكم العادل لها.

لذلك فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) فَصّل دقائق الأمور ووضع قواعد وتعليمات تتعلق بتفاصيل دقيقة، قانونية ودستورية وسياسية وأقتصادية وعسكرية وأجتماعية، قلما يجوز حاكم أو ولي أمر العلم والمعرفة الدقيقة فيها، واثقاً إن المهمة ثقيلة على بلاد واسعة ومهمة من الولايات والبلدان الإسلامية إنذاك في سنوات الخلافة المضطربة والحوادث الجسام التي واجهتها الأمة الإسلامية، ولكنه (عليه السلام) كان على ثقة تامة بالشخص الذي ولاه أمر مصر (الأشتر النخعي).

لقد تضمنت تلك التفاصيل حصانة الحاكم وعلاقتة بالرعية ورقابة الجمهور لهُ وسعي الراعي لنيل رضا الرعية وتحقيق العدل الإجتماعي ومبدأ سيادة الأمة وسلطان الرأي العام وأختيار المستشارين وأهل الثقة القريبين من الحاكم وطبقات الهيأة الإجتماعية من الجنود وقادتهم والقضاة والموظفين والوزراء وأصحاب الصناعة والتجارة والعمال، والتحذير من احتجاب الوالي عن رعيته وبطانة السوء ومسؤولية القائد إتجاة الأمة والحرب والصلح وأداب الولاة فضلاً عن تحريم سفك الدماء بغير حقها(52).

ويمكن القول إن تلك الهياكل والأبنية التي وضع هندستها وتصميمها لدولة إسلامية مثالية مطابقة لروح وجوهر الرسالة السماوية للدين الحنيف، الإسلام، أمير المؤمين (عليه السلام) قد سبقت بقرون ما إجتهد في وضع قواعده ونصوصه الدستورية والقانونية فقاء ومشرعون وفلاسفة بعد صراع طويل دفعت البشرية أثماناً باهضة لأدراكهِ وتجسيدهِ على أرض الواقع، إلا أنها لم تُفلح لحد الآن في تحقيقه بصورة

ص: 34

كاملة وناجزة.

لقد سبق أمير المؤمنين (عليه السلام) عصرهُ وعصور أعقبت عصره وتظافرت جهود هدامة في الحيلولة دون تحقيقهُ وآلت الأمور إلى ما آلت إليه أوضاع المسلمين اليوم من أنحطاط وتدهور وضياع.

وبقدر تعلق الأمر بحرمة الدماء في العهد العلوي لمالك الأشتر (رضي الله عنه) فإن دراستهُ لا تتم بمعزل عن باقي تفاصيل العهد، وفي ذلك رابطة وثيقة لا يمكن أهمالها لأسباب شتى:

أ- إن جريمة قتل النفس وسفك الدم هي نتيجة حتمية للظلم والجور وفساد ولاة الأمر وبطاناتهم السيئة والفقر والتجويع والأضطراب والضعف العسكري والسياسي وفشل السياسات العامة ومخاطر التمردات والحرب الأهلية ثم ممارسة القمع إتجاه من يعارض هؤلاء الولاة.

ب- وهي، أي جريمة قتل النفس وسفك الدم الحرام، أيضاً سبباً في تفاقم النقمة الشعبية وكراهية الحاكم والتمرد عليه، بناءً على ما تقدم فإن كيمياء التفاعل بين العناصر المكونة لأي نظام تحدد مستوى العنف وسفك الدماء، سلباً أم إيجاباً، ولذلك فإن أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد بقوة على تلك العلاقة الإيجابية ما بين الراعي والرعية فيقول: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فأنهم صنفان: إما أخّ لك في الدين، أو نضيراً لك في الخلق.....). وتلك هي قمة الإنسانية التي تميّز الحاكم العادل الصالح والحكم الرشيد، وهي مصداق للحديث النبوي الشريف [ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته].

ص: 35

إن ما يمكن الأستدلال على أن سفك الدماء هي نتيجة لعوامل واسباب تصيب الحكم وتؤدي به إلى الخروج عن جادة الصواب والإيغال في قتل النفس التي حرم الله قتلها، وكان قد قدم لها أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده ليكون التحذير (إياك والدماء وسفكها بغير حلها) في نهاية العهد، فكان تمهيداً نفسياً وعقلياً للمتلقي كي يعي أمور الحكم جيداً، ومن هذه الأفكار التمهيدية التي ذكرها العهد:

أ- قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولا تنصبن نفسك لحرب الله «أي مخالفة شريعته بالظلم والجور» فإنه لا يد لك بنقمته «لا طاقة لك بها»، و لا غنى بك عن عفوه ورحمتهِ، ولا تندمن على عفوٍ، و لا تبجحن بعقوبة «كفرح لفظاً ومعنى»، و لا تسرعن إلى بادرة «مايبدو من الحدة عند الغضب في القول أو الفعل» وجدت منها مندوحة «المتسع، أي المخلص»، و لا تقولن: إني مؤمَّر «أي مسلّط» أمر فأطاع، فإن ذلك إدغال «أدخال الفساد» في القلب، ومنهكة للدين «مضعفة وتقرب من الغِيَر «حوادث الزمان بتبدل الدول»....).

ما تقدم يمثل الفساد، والظلم والجور وهو بداية لكل أثام الحكم الجائر الظالم.

ب- العظمة والكبرياء والزهو الذي يصيب الحاكم فيحذر منه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: (وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة «العظمة والكبريا» أو مخيلة «الخيلاء والعُجب» فأنظر إلى عِظم مُلك الله فوقك وقدرتهُ منك على ملا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطامن «يخفض منه» إليك من طماحك، ويكن عنك من غربَكَ «الحدة» ويفيءُ «يرجع» إليك بما عَزَبَ «غاب» عنك من عقلك).

ت- الأحساس بالسمو والعلو، (إياك ومساماة « المباراة في السمو، أي العلو» الله في عظمته، والتشبة بة في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال).

ص: 36

ث- ظلم العباد والإقامة على ظلم، وفي ذلك يقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) القاعدة الاساسية للحكم الصالح وهي قاعدة (الإنسان) وتركها يعني الظلم، فيقول (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم؛ ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته «أبطل»، وكان لله حرباً «أي محارباً» حتى ينزع «يقلع عن ظلمه، أو يتوب) ويأتي أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذكر نتيجة ذلك فيقول: (وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظُلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد).

ج- أختيار المستشارين، وأمير المؤمنين (عليه السلام) ينصح بإبعاد ذوي الخصال السيئة من المستشارين عن مجالس الحكام لما يؤثرون فيه سلباً بقوله (عليه السلام): (و لا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل «الإحسان»، ويعدك الفقر «يخوفك منه لو بذلت»، و لا جبان يضعفك عن الأمور، و لا حريصاً يزين لك الشرّه «أشد الحرص» بالجور، فإن البخل والحرص غرائز شتى «طبائع متفرقه» يجمعها سوء الظن بالله).

ح- بطانة السوء: وهي التي تزين للحاكم أخطاءه وزلاته وتصورها اعمالاً عظيمة وتحجبهُ عن الرعية ولا تكون أمينة الصلة مع الناس، طامعة غاصبة للحقوق تمتاز بالشرّه والفساد وفي ذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن أيقن شر وزرائك من كان للإشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة «بطانة الرجل خاصته، وهو من بطانة الثوب خلاف ظهارته»، فإنهم أعوان الأثمة «جمع إثم وهو فاعل الأثم، أي الذنب، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن لهُ مثل أرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثله آصارهم «الذنب والإثم» وأوزارهم «جمع وزر وهو

ص: 37

الذنب والإثم أيضاً» وأثامهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا أثماً على إثمهِ...).

خ- مساواة السيء والحسن من الناس (و لا يكونن المُحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن ذلك تزهيد لأهل الإحسان في الإحسان وتدريب لأهل الإساءة على الإساءة فإلزم كلاً منهم ما ألزم منهُ أدباً منك ينفعك الله به وتنفع بهِ أعوانك).

د- سوء أختيار الموظفين، ينصح أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه على مصر بحسن أختيار المؤظفين «العمال» فهو (عليه السلام) يقول: (ثم أنظر إلى أمور عمالك وأستعملهم أختباراً «ولهم الأعمال بالأمتحان» و لا توليهم أمورك محاباةً «أي أختصاصاً وميلاً منك لمعاونتهم» وأثرة «أي أستبداد بلا مشورة» فإن المحاباة والأثرة جماع الجور والخيانة)، وينصح أمير المؤمنين (عليه السلام) في مجال الأختيار لولاية الأعمال فقال: (فإصطفِ لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً وأق-ل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً من غيرهم، فليكونوا أعوانك على ما تقلدت)، و لا يتكف بذلك، إنما ينصح أن الأمر لا يقف عند الأختيار والتولية إنما في المتابعة والمراقبة فينصح (عليه السلام) قائلاً: (ثم تفقد أعمالهم وأبعث العيون عليهم من أهل الصدق والوفاء فإن تعهدك في السر أمورهم حدوة لهم «أي سوق لهم وحث» على أستعمال الأمانة والرفق بالرعية) ثم تأتي مرحلة العقاب: (فإن أحذ منهم بسط يده إلى خيانة أجتمعت بها أخبار عيونك أكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عملهِ ثم نصبته بمقام المذلة فوسمته بالخيانة وقلدتهُ عار التهمة)، وهو ما يصطلح عليه اليوم (مكافحة الفساد الإداري).

ص: 38

ذ- الإستغلال الأقتصادي البشع والفقر وإهمال العمارة والإحتكار، لذلك أوجه عديدة ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) منها: إهمال عمارة الأرض والسعي لتحصيل الخراج فقال (عليه السلام): (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في أستجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمر إلا قليلاً).

ومنها الإحتكار المحرم فقد قال (عليه السلام): (وأعلم - مع ذلك - إن في كثير «أي التجار» ضيقاً «عسر المعاملة» وشحاً «البخل» قبيحاً، وإحتكاراً «حبس المطعوم» ونحوه عن الناس لا يسمحون بهِ الا بأثمان فاجشة» للمنافع، وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامة، وعيب على الولاة).

ر- أحتجاب الولاة وفقدان ثقة الشعب بهم: نصح أمير المؤمنين (عليه السلام) الأشتر النخعي (رضي الله عنه) بعدم الإحتجاب عن الرعية وأوضح سوء ذلك بقوله: (فإن أحتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والأحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما أحتجبوا دونهِ فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل)، وفي ذلك سوء النتائج بشيوع اليأس في الحاكم (فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أسیوا من بذلك «العطاء» مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة في-ه عليك، من شكاة» شكاية مظلمة، أو طلب أنصاف في معاملة.

ز- إستئثار البطانة الخاصة بالوالي: فيذكرهم امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم إستئثار، وتطاول، وقلة إنصاف في المعاملة)، ولذلك على الحاكم أن يحسم أمرهم ويقطع مادة شرورهم وينصح (عليه السلام): (و لا تقطعن لأحد من حاشيتك، وحامتك «الخاصة والقرابة «قطيعة، ولا يطمعن منك في

ص: 39

إعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس، في شرب «نصيب من الماء» أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك «العاقبة» لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والأخرة).

س- العيوب النفسية والاجتماعية في شخصية الحاكم: يذكر (عليه السلام) العديد منها في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، ويحذره أمير المؤمنين (عليه السلام) منها فهي تؤدي إلى الظلمِ والجور والعدوان، ومن هذه العيوب التي تُذكر بصيغ التحذير:

1- (وإياك والأعجاب بنفسك، والثقة بما يُعجبك منها وحب الاطراء «المبالغة في الثناء»، فإن ذلك من أوثق فُرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان).

2- (وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزّيد «أظهار الزيادة في الاعمال عن الواقع منها في معرض الافتخار» فيما كان من فعلك. أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخُلفك، فإن المن يُبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخُلف يوجب المقت عند الله والناس).

3- (وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط «التهاون» فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت «لم يعرف وجه الصواب فيها» أو الوهن «الضعف» عنها إذا أستوضحت، فضع كل أمر موضعه و أوقع كل أمر موقعه).

4- (وإياك والاستئثار «تخصيص النفس بزيادة» بما الناس فيه أسوة «أي متساوون» والتغابي «التغافل» عما تُعنى به عما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك).

إن هذه الصفات والخصائص السيئة في النفس البشرية، تجعل من الحاكم میالاً أكثر نحو الجور والظلم تساعده وتنّمي فيهِ هذه الروح بطانة السوء والمقربين، فيبتعد

ص: 40

عن رعيته ويحتجب ويتغافل عن كثير من امور رعيته ويقسو قلبه و يجفو ولاي عند ذاك عن إرتكاب الأثام والمعاصي فتزل قدمه ويبغي على خلق الله.

وعند ذاك تاتي اسوأ مراحل الحكم المستبد فتسفك الدماء وتقتل النفس المحرم قتلها إلا بالحق، وعلى ذلك فإن هذه المسألة من أخطر المسائل والقضايا التي عانى منها الحكم منذُ عهود بني امية (عليهم اللعنة) وبنو العباس وحتى اليوم، وفي ذلك يشدد أمير المؤمنين (عليه السلام) على حرمة الدماء.

خامساً / حُرمة الدماء في العهد

يُحذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه على مصر بقوله: (إياكَ والدماء وسفكها بغير حلها...)، ولفظ (إياكَ) ضمير منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول بهِ منصوب على التحذير لفعل محذوف تقديره إحذر.

أي إحذر سفك الدماء بغير حقها أو الاسباب الشرعية التي تستدعي سفك الدم وهو تعبير عن قتل النفس المحرم قتلها الإبحقها.

وقد ذكرت تلك الأسباب الشرعية لسفك الدم فيما سبق في القرآن المجيد والسُنة النبوية المطهرّة، وذلك التحذير يعني عدم الوقوع في المحظور والمحرّم مادام غير جائز و لا مشروع من قبل الشارع المقدس أم من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن التحذير الشديد من سفك الدماء بغير حلها، إنما هو لمنع الحاكم أو الوالي لأمر أحد الأمصار الإسلامية من عواقب ذلك، بقوله (عليه السلام): (فإنهُ ليس شيء أدنى لنقمة، و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة، وأنقطاع مُدّة، من سفك الدماء بغير حقها..).

ص: 41

وبذلك فإن هذا الفعل المحرّم يؤدي إلى نقمة الله وغضبه، وينتج عنه تبعة أو مسؤولية عظيمة، تؤدي إلى زوال نعمة الأمن والأمان، والاستقرار والنماء والعيش الكريم، فضلاً عن انتهاء مدة الحكم و التعجيل بنهايتها على سوء بسبب ذلك الفعل المحرم في سفك الدماء.

ويؤكد (عليه السلام) ماسبق إن تحدث به وحذر منه الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بإن [الله سبحانه مبتدىء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة]. لما لفضاعة هذا الفعل وتاثيره العظيم على كيان المجتمع واستقراره، وهضماً لحقوق الناس في الحياة، حتى جعل عقوبة القصاص، فعن أبي عبدالله (عليه السلام) إنهُ قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من خاف القصاص كف عن ظلم الناس) ثم أورد الحديث عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)(53)، وبذلك عُدَّ القصاص مبعثاً للحياة كعقوبة دنيوية رادعة من أرتكاب الفعل وتكراره ليحرم الإنسان من حقه في الحياة.

وبعد ذلك يوصي واليه على مصر عبر النهي عن تقوية السلطان بسفك الدم فقال (عليه السلام): (فلا تقوّين سلطانك بسفك دمٍ حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله..). إن في ذلك حكمة بليغة رائعة استقرأت احداث التاريخ قبل عهد الإمام علي بن أبي طالب(35 - 40 ه) واحداث الأمم والدول والشعوب بعده، فكل الممالك والأمبروطوريات وأنظمة الحكم الغاشمة والطاغية التي قامت على سفك الدماء والظلم والجور قد إنهارت وزالت وأصبحت نسياً منسيا، وهي حقيقة ثابتة.

وعلى الرغم من معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) بمن كلفهُ ولاية مصر، وصلته الوثيقة بهِ كأحد قادة جيوشهِ وخبرة في أشد الظروف وأقساها، حتى شبّه منزلته منهُ،

ص: 42

كمنزلة الإمام علي (عليه السلام) نفسه من النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه يشدد عليه في القول: (و لا عذر لك عند الله و لا عندي في قتل العمد، لأنه فيه قود البدن «القصاص، هو و أضافته للبدن لأنه يقع عليه»). ودل هذا القول بإنه ليس لهُ شفاعة في حد من حدود الله وهو القصاص في القتل العمد دون سبب مشروع لذلك ويسمى اليوم «الإعدام التعسفي».

ويبدأ في نصحهِ في حالة إرتكاب الخطأ بقوله (عليه السلام): (وإن أبتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة «أي عجل بما لم تكن تريده، فأردت تأديباً فأعقب قتلاً، «أي القتل الخطأ»، فإن في الوكزة «الضربه بجمع الكف»،أي قبضته، «اللكمة» فما فوقها مقتلةً، فلا تطمحن «ترتفعن» بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم). وذلك يترتب على الوالي أو الحاكم في حالة القتل الخطأ وغير المقصود دفع الدية إلى ذوي المقتول، وهذا مافعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بنفسهِ على الرغم من إنهُ لم يرتكب قط مثل هذا الفعل عمداً أم خطأ وأراد أن يعلم الأمة المبادىء السامية الحقيقية للإسلام وأحترام حقوق الناس في الحياة، فعن أبي عبدالله (عليه السلام) إن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل عذّب عبدهُ حتى مات فضر به مائة نكالاً وحبسهُ سنة وأغرمهُ قيمة العبد فتصدق بها عنهُ.

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولاً لا يدري من قتله. قال: (إن كان عُرف وكان لهُ أولياء يطلبون ديته أعطوا ديتهِ من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم أمرىء مسلم لأن ميراثه للإمام، فكذلك تكون ديته على الإمام، ويصلّون عليه ويدفنونهُ)(54).

کما قضى (عليه السلام) في رجل زحمهُ الناس يوم الجمعة فمات، أن ديته من بيت مال المسلمين، وفي ذلك قال (عليه السلام): (مَن مَات في زحام الناس يوم الجمعة،

ص: 43

أو يوم عرفه أو على جسر لا يعلمون من قتله فديته من بيت المال)، وقال (عليه السلام): (لا يبطل دم أمرىء مسلم).

ويدل ما تقدم أن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وعهده مبني على الشريعة الإسلامية والنهي عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه الدين، وهو يضعف السلطان و ويهدمهُ وهو تعريف بإن القتل العمد يوجب القود «القصاص» فقال لهُ «قود البدن «أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول، والمراد إرهابهِ بهذه اللفظة فإنها أبلغ من أن يقول لهُ فإن فيه القود، ثم قال لهُ إن قتلتَ خطأً أو شُبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية(55).

لقد تسامى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رفعة شأنه ومنزلته عن باقي البشر، في أحترام النفس البشرية، ولم يكن، وهو المقاتل الباسل الشجاع الذي قضى سنين طوال من عمره في معارك نصرة الإسلام ومواقعها الكبيرة، ذلك السفّاك للدماء المحب للقتل، بل كان متسامحاً حتى مع خصومهِ، وبلغ رقيه الإنساني في وصيتهُ (عليه السلام) للحسن والحسين (عليه السلام) لما ضربهُ أبن ملجم (لعنهُ الله)، يوصيهما بقاتلهِ خيراً بقوله: (إنهُ أسير فأحسنوا نزله وأكرموا مثواه فإن بقيت قد قتلت أو عفوت، وإن متُ فأقتلوه قتلي و لا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين). وأوصى أيضاً (إلى أكبر ولدي غير طاعن عليهِ في بطن و لا فرج). وقولِه (عليه السلام): (ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، أنظروا إذا أنا متُ من ضربتهِ هذهِ، فأضربوه ضربة بضربه، و لا تمثلوا بالرجل، فإن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: [إياكم والمُثلة ولو بالكلب بالعقور)(56).

ص: 44

الخاتمة

إنموذج رائع ومتميز على صعيد الفكر الإنساني، وعلى صعيد المارسة العملية في جوانب الحياة الإجتماعية والقانونية والسياسية والأقتصادية والعسكرية، ذلك ما أبدعهُ أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) من وثيقة قانونية، دستورية، إجتماعية، إخلاقية، إسلامية، متكاملة في أمتداد لنهج القرآن المجيد والسُنة النبوية المطهرّة.

وأمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن ليصدر هذه الوثيقة إلى واليه على مصر، على إنها كتاب خاص من حاكم أعلى إلى حاكمهِ في مستوى إدنى في الأدارة والحكم، لتكون دليل عمل في ظرف زماني محدود ومكان محدد ألا وهو (مصر)، إنما جاءت لتكون تشريعاً دينياً ودنيوياً ينظم أحوال البلاد والعباد كافة، على إسس وقواعد ومبادىء هي جوهر الإسلام الحنيف التي نطقت بها آيات القرآن المجيد وأقوال وأفعال النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن من أساسيات العهد العلوي، حرمة الدماء والتحذير من سفكها بغير حلها، لما للدماء من حرمة عظيمة عند الله ورسولهِ يقابلها عقاب إليم في الدينا ومقيم في الآخرة، ذلك لأن هذا الجرم العظيم يوهن المُلك ويهدم بناء المجتمع والدولة ويُضعف كيان الأمة ويُسهم في قيام حكم الجور والظلم والطغيان.

لقد بين العهد في تفاصيلة الدقيقة العوامل والأسباب، الإجتماعية الأقتصادية، السياسية والنفسية التي تتفاعل لتنتج نظام الظلم والجور الذي يؤدي إل قتل النفوس البريئة، وقد شدد عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) ناصحاً الأخذ بأفضل الأسباب لتجنبها، وقد ابتدأ (عليه السلام) وصاياه في أصلاح نفس الحاكم وحاشيته وبطانته ومنزلة العلماء والحُكماء منهُ قرباً أو بعداً، فضلاً عن عمارة البلاد وإصلاح العباد

ص: 45

والأخذ بإسباب النماء في مجالاته كافة، وأسلوب التعامل مع طبقات المجتمع المختلفة من جُند وقادة وقضاة ووزراء ومستشارين وتجار وصُناع وفقراء ومساكين وذوي حاجة والمرضى (المزمنى)، ولم يدخر أمير المؤمنين (عليه السلام) وسعاً في وضع خطط أصلاح للأمة في مفاصلها الدقيقة وجوانب حياتها كافة.

إن ما توصلت إليهِ الدراسة من نتائج مهمة يمكن ملاحظتها من خلال ربط عناصر العهد العلوي بعد تفكيكها لتصب في جوهر أساس هو قيام الحكم الرشيد على وفق قواعد ومبادى الإسلام الإنسانية السامية.

ولعل أهم النتائج التي أثمرتها الدراسة الأتي:

1- إن حرمة سففك الدماء بغير حلها، التي حذر أمير المؤمنين (عليه السلام) منها واليه على مصر، إنما هي نتاج تفاعل معطيات كثيرة تفرزها تجربة الحكم في بلد ما، سلباً أم إيجاباً، تؤدي إلى زيادة نسبة جرائم القتل أو إنخفاضها تبعاً لنوع نظام الحكم وطبيعة الحاكم، ودرجة التفاعل تلك.

2- إن حرمة سفك الدم لها أسبابها التي أكدت عليها الآيات الكريمة والسُنة النبوية المطهرة، قال تعالى: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا». (سورة المائدة / الآية 32)، فقتل النفس الواحدة بمنزلة قتل المجتمع بأسره والناس فيه جميعاً، وإحياءها، وإنقاذها من الموت هو إحياء لجميع الناس في ذلك المجتمع. لذلك فهي بادئة حياتية مجتمعية لم يدرك أبعادها الإنسانية الحقيقية غير الإسلام وتوصل إلى عقلائيتها المجتمع الدولي اليوم.

3- إن حرمة سفك الدم وقتل النفس التي أكد وشدد عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) في آخر عهدِهِ هي أمتداد للقرآن المجيد والسُنة النبوية المطهرة وآخر عهد

ص: 46

يوليه خليفة المسلمين حقهِ حتى اليوم، أكد تفاصيل ودقائق الأمور التي تؤدي إلى أرتكاب الفعل الإجرامي، وأستكملهُ ببحث نتائجهُ ومعالجة أسبابه والوقاية منه، وأصلاح الضرر من وقوعهِ بسبب الغفلة أو التمادي أو زهو السلطان وأفراط سوطه أو يده أو سيفه.

4- لقد أدركت البشرية وبعد قرون من عهود الطغيان والأستبداد والحروب والمجازر التي تعرضت لها الأمم والشعوب بسبب ملوكها وحكامها وطغيان أجهزة دولهم القمعية، معنى وحقيقة الجريمة وآثارها ونتائجها الهدامة التي أفضت إلى الخراب والتدهور الإنساني للعديد من الشعوب والدول والأمم.

5- أفضى هذا الأدراك المتأخر للاثمان الباهضة على صعيد المعاناة الإنسانية لتكاليف أقامة (حضارات) و (دول مدنية حديثة) قائمة على أنتهاك حقوق البشر في الحياة والإمان والأستقرار، أن تقوم هذه الأمم العظيمة بقدراتها الأقتصادية والعسكرية والسياسية والعلمية، المتحكمة في إدارة العلاقات الدولية، بإصدار العهود والمواثيق وتوقيع الإتفاقيات والمعاهدات و إنشاء المحاكم الجنائية، لمواجهة الأنتهاكات الجسيمة لحق الإنسان في الحياة وحظر أعمال وأجراءات الإعدام التعسفي، وإبادة الجنس البشري والإبادة الجماعية والتطهير العرقي على وفق مبادى إنسانية كريمة سبقهم بها الدين الحنيف من خلال القرآن المجيد والسُنة النبوية المطهرة والقواعد القانونية - الدستورية - الإنسانية التي أوجدها أمير المؤمنين (عليه السلام) على صعيد الفكر والممارسة.

6- حريٌّ بنا إن نعتمد العهد العلوي بما فيه من قيم إسلامية ومبادىء إنسانية وقواعد قانونية وفلسفة حكم صالح ورشيد في إقامة بناء الدولة ومؤسساتها و أجهزتها و إن يكون دليل عمل لولاة الأمر بما يصلح أحوال البلاد والعباد.

والحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على محمد وآل محمد.

ص: 47

مراجع الدراسة

أ) القرآن المجيد

ب) التفاسير

1) الطباطبائي: الميزان في تفسير الميزان، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1423 ه.

2) الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، منشورات مكتبة الحياة. بيروت (د. ت).

3) الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، دار الحديث، القاهرة 1987 م.

4) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، القاهرة 1381 ه / 1961 م.

ت) كتب الحديث

5) البيهقي: السنن الكبرى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند 1356 ه.

6) الساعاتي: منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، المطبعة المنيرية بالأزهرة 1372 ه.

7) الكليني: أصول الكافي، دار المرتضى، بیروت 2012.

8) الكليني: فروع الكافي، دار المرتضى، بیروت 2013.

9) المنذري: الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، دار مكتبة الحياة بيروت 1987.

ص: 48

ث) المراجع الأخرى

10) أبي الحديد، نهج البلاغة، دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329 ه.

11) أبن اسحاق: سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مطبعة المدني، القاهرة، 1383 ه - 1963 م.

12) أبن سعد: الطبقات الکبری، دار بيروت للطباعة 1978.

13) أبن كثير: السيرة النبوية، دار المعرفة بيروت 1976.

14). أبو محمد عبد الملك بن هشام: سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مطبعة حجازي القاهرة 1937 م.

15) الخشن، الشيخ حسين: الإسلام والعنف، الدار البيضاء - المغرب 2006 م.

16) الحيدر ابادي، د. محمد: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلاقة الراشدة، القاهرة / 1376 ه - 1956 م.

17) الدوري، د. قحطان: الإسلام والإرهاب، مطبعة الرشاد بغداد 1988 م.

18) الركابي، د. ساجد: الإسلام والإرهاب، البصرة 2006 م.

19) الغزالي: إحياء علوم الدين، بيروت 1986 م.

20) الواقدي: المغازي، دار المعارف القاهرة، 1965.

21) عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، شكبة الفكر،alfeke.net.

ص: 49

الهوامش

1. الشيخ حسين الخشن، الإسلام والعنف، قراءة في ظاهرة التكفير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب 2006 ص 64.

2. المصدر السابق، ص 64.

3. وقع ميثاق الأمم المتحدة في 26 حزيران / يونيو 1945 في سان فرانسيسكو في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بنظام الهيأة الدولية وأصبح نافذاً في 24 تشرين الأول / أكتوبر 1945، ويعتبر النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية جزءاً متمماً للميثاق.

4. د. ساجد أحميد عبل الركابي: الإسلام والإرهاب «دراسة في مبادي السلام والحرب في الشريعة الإسلامية «.المركز الوطني للدراسات الإجتماعية والتاريخية. البصرة 2006/ ص 46

5. سورة الإسراء / الآية 70.

6. د. قحطان عبد الرحمن الدوري: الإسلام والإرهاب. في: د. رشدي محمد عليان وآخرون: الدين والإرهاب. بحوث الندوة الفكرية لكلية الشريعة / جامعة بغداد 11/ 4 / 1988 مطبعة الرشاد بغداد 1988 ص 10 - 11.

7. سورة البقرة / الآية 30.

8. السيد محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير الميزان. مؤسسة النشر الإسلامي. جماعة المدرسين. قم 1423 ه/ ج 1 ص 115.

9. المصدر السابق: ص 115.

10. سورة البقرة / الآية 32.

ص: 50

11. سورة المائدة / الآية 32.

12. السيد الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن: مصدر سابق. ج 5 ص 316 - 217.

13. سورة المائدة / الآية 151.

14. سورة المائدة / الآية 33.

15. سورة البقرة / الآية 191.

16. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن. دار الحديث. القاهرة 1987. م 8، ج 15، ص 58، أبو الفضل بن حسن الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن. منشورات مكتبة الحياة. بیروت (د. ت) م 3، ج 8 ص 231.

17. سورة الإسراء / الآية 33.

18. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن. ج 13 ص 90.

19. سورة الفرقان / الآية 68.

20. سورة الأنعام / الآية 141.

21. سورة الأنعام / الآية 151.

22. سورة الإسراء 31.

23. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن ج 7 ص (371-372)، ج 13 ص 85. وكذلك الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن م 8 ج 15 ص 57.

24. سورة النحل / الآيتان 58 - 59.

25. سورة التكوير / الآيتان 8 - 9.

26. الطبرس: مجمع البيان في تفسير القرأن. م 6 ج 3 ص 49.

27. سورة النساء / الآية 93.

ص: 51

28. سورة النساء / الآية 48.

29. سورة الزمر / الآية 52.

30. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن. ج 5 ص 39، الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن. م 4 ج 5 ص 136 - 137، ص 156.

31. سورة البقرة / الآية 159.

32. القصاص مصدر، قاص يقاص، من قص أثرهُ إذا تبعهُ، ومنهُ القصاصّ لمن يحدث بالآثار والحكايات، كأنه يتبع اثار الماضي، فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنایته فيوقع عليه مثل ما اوقعهُ على غيره. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن. ج 2 ص 434.

33. الطباطبائي: المصدر السابق ج 2 ص 233.

34. أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي: منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، ج 2 المطبعة المنيرية بالأزهر 1372 ه ص 291.

35. محمد بن يعقوب الكليني: فروع الكافي. کتاب الديات، باب القتل (172) دار المرتضی بیروت 2013، ص 1788.

36. المصدر السابق: ص 1787، الساعاتي: ج 2 ص 289، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري: الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. مج 2، ج 3 دار مكتبة الحياة بیروت 1987 ص 183 - 186.

37. الكليني: فروع الكافي. المصدر السابق ص 1786.

38. الساعاتي: ج 2 ص 289، المنذري: م 2 ج 3 ص 183 - 186.

39. الساعاتي: ج 2 ص 289، المنذري: م 2 ج 2 ص 183 - 186.

ص: 52

40. الساعاتي: المصدر السابق ج 2 ص 290، والمنذري: المصدر السابق ص 187.

41. الكليني: مصدر سابق ص 1788.

42. الساعاتي: مصدر سابق ص 290، المنذري: مصدر سابق ص 187.

43. سورة الأحزاب / الآية 21.

44. أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: إحياء علوم الدين. مج 2، دار الكتب العلمية بیروت 1986 ص 395.

45. د. محمد حمیدالله الحیدر آبادي: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة ط 2 / 1376 ه - 1956 م ص 282.

46. أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي: السنن الکبری، ج 8 مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حیدر آباد الدكن، الهند، 1356، ص 282.

47. میلغة الكلب: مايحفر من الخشب ليلغ فيه الكلب، ويكون عند أصحاب الغنم

48. أبو محمد عبد الملك بن هشام: سيرة النبي (صلى الله علیه واله) ج 2. مراجعة و تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد. مطبعة حجازي القاهرة 1937 ص 428 - 431. البيهقي: السنن الکبری: ج 9 ص 115، كذلك: عماد الدين أبو الفداء أبن كثير: السيرة النبوية، ح 3 تحقيق مصطفى عبد الواحد. دار المعرفة بيروت 1976 ص 591 - 592.

49. البيهقي: السنن الکبری ج 9 ص 116، ابو عبدالله محمد بن اسحاق بن اليسار المطلبي: سيرة النبي (صلى الله عليه واله). هذبها ابو محمد عبد الملك بن هشام بن ایوب الحميري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ج 4، مطبعة المدني، القاهرة، 1383 ه - 1963 م، ص 1043- 1045، كذلك: أبو عبدالله محمد بن

ص: 53

أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القران، مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة، 1381 ه - 1961 م، ج 5 ص 339.

50. ينظر تفاصيل الحوادث في: سيرة أبن اسحاق: ج 4 ص 1039 - 1040، والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 5 ص 339 وكذلك أبن سعد، الطبقات الكبرى. مج 3، دار بيروت للطباعة 1978، ص 35 - 37. و محمد بن عمر بن واقد الواقدي: المغازی، ج 2 تحقيق الدكتور مارسدن جونس، دار المعارف القاهرة، 1965 ص 725.

51. عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر. وثيقة إسلامية ذات أبعاد قانونية - سياسية - أجتماعية - أدارية - أقتصادية - عسكرية - شكبة الفكر، .alfeker.net

52. المصدر السابق: ص 5 - 13.

53. محمد يعقوب الكُليني: أصول الكافي (ج 2) کتاب الإيمان والكفر / باب الظلم، دار المرتضی، بیروت 2012، ص 640 و 642.

54. الكُليني: فروع الكافي، کتاب الديات / باب القتل ص 1810، 1847، 1848

55. عز الدين أبي حامد عبدالحميد بن هبة الله المدائني، أبن أبي الحديد، نهج البلاغة، م 4، ج 17. دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، 1329 ه. ص 80.

56. أبن أبي الحديد: نهج البلاغة، ص 112 - 113. وكذلك أبن سعد، الطبقات الكبرى ، م 3، ص 35 - 36

ص: 54

الأساس الإداري والقضائي في عهد الأمام علي (عليه السلام)

اشارة

م. م. هند كامل م. م. أنسام سمير

ص: 55

ص: 56

الملخص

إن الرؤية السياسية التي تبناها الإمام علي (عليه السلام) في دولته كانت ذات آليات متطورة تبعاً للمنهج الإسلامي وتصوراته ولما يمتلك من خبرة دينية وعسكرية واجتماعية جعلته مؤهلاً لأن يكون صاحب منهج متميز في إدارة شؤون الدولة إداريا وقضائيا لذا يرى أمير المؤمنين أن بقاء القيادة السياسية الأولى للدولة في العاصمة وعدم خروجها للحرب اصلح فبقاؤها لإدارة شؤون الجنود والعسكر في الولايات وإدارة بیت المال واقتصاديات الدولة وبسط العدل والقضاء والعمل لاستقرار الدولة والمجتمع وتقدمهما بينما تذهب القيادات العسكرية لمحاربة العدو وقتاله.

ومن هذا المنطلق، فأن عهد الإمام عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي عهد به إلى واليه على مصر مالك الأشتر، والذي ضمّنه الخطوط العامّة والأمور المفصليّة للحكم وإدارة البلد بما يرضي الله، ويحفظ حقوق الرعية بمختلف طبقاتها، وخصوصاً تلك المغبونة حقّها دائماً، فهو بحقِّ دستور رصين، و قانون متكامل، يقضي على الحاكم أن يجعل وصاياه نصب عينيه، ومفاهيمه لا تفارق مخيلته.

ومن هنا فقد أفرد الإمام علي (عليه السلام) رسالةً مفصّلةً بهذا الخصوص في نهج البلاغة، وألزم الوالي بتطبيق مضامينها، حيث يقول: (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ، حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبَایَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا).

ولكن ليس من السهل الكتابة عن الامام علي عليه (عليه السلام) ودوره الفكري

ص: 57

في ترسيخ أسس بناء الدولة الاسلامية ولاسيما في مجال الإدارة والقضاء. ولكن الواقع الذاتي حفزنا على البحث والدراسة في هذين المجالين لأهميتها لذا سوف نتناول هذا الموضوع في مبحثين:

المبحث الأول: الأساس الإداري في فكر الأمام علي (عليه السلام) وقسمناه الى مطلبين المطلب الأول التنظيم الإداري للدولة في فكر الأمام علي (عليه السلام). أما المطلب الثاني فيتناول السياسة الادارية في فكر الأمام علي (عليه السلام). أما المبحث الثاني فيتضمن الفكر القضائي في عهد الامام علي (عليه السلام) وتم تقسيمه الى مطلبين المطلب الاول التعريف بالقضاء وينقسم الى فرعين: الفرع الأول القضاء في اللغة والفرع الثاني القضاء في الاصطلاح. أما المطلب الثاني فيتناول القضاء في عهد الأمام علي (عليه السلام) وينقسم الى ثلاث فروع: الفرع الأول مؤهلات القاضي وصفاته في فكر الأمام علي (عليه السلام) و الفرع الثاني وصايا الأمام علي في إجراءات التحقيق أما الفرع الثالث فيتناول استقلال القضاء.

ص: 58

المقدمة

أولا / أهمية موضوع البحث:

تتمثل اهمية هذا الموضوع بدور القائد للأمام علي (عليه السلام) في وضع أسس ودعائم الدولة الإسلامية التي تقوم على احترام حقوق الانسان واحترام انسانية الانسان وقد سعى الأمام علي (عليه السلام) سعيا حفيفا في سبيل تحقيق ذلك حيث تركز في ذلك على الجانب الإداري حيث اعتبر الامام علي (عليه السلام) أن الادارة لیست فعلا میکانیکیا بل هي مجموعة صفات وخصال تمتزج فيما بينها للحصول على المدير الجيد والادارة الجيدة وهذه الصفات هي التنظيم فلا ادارة بدون تنظیم ونظام فاذا نقص التنظيم حلت محله الفوضى. أما بالنسبة للمحور الاخر الاكثر بروزا في منهج حكمه (عليه السلام) وهو الأساس القضائي الذي اقترن فيه اسم الامام علي (عليه السلام) بالعدالة وامتزج بها قدرا كبيرا لذا اصبح اسمه عنوانا للعدالة واصبحت مفردة العدالة توحي باسم الامام علي (عليه السلام).

ثانيا / مشكلة البحث.

ان المجتمع الاسلامي يعاني من مشاكل كثيرة في الوقت الحاضر فيما يتعلق بالجانب الإداري المتمثل بالتنظيم الاداري للدولة و السياسة الادارية والجانب القضائي المتعلق بالإجراءات والاحكام القضائية وبالتالي فنحن بحاجة الى اصلاحات واقعية وعملية في هذين المجالين لذا لابد من اختزال هذه المشاكل ومعالجتها معالجة دقيقة حتى نستطيع النهوض بمجتمع قائم على اساس المفاهيم الاسلامية.

ص: 59

ثالثا / خطة البحث:

لقد قسمنا هذا البحث الى مبحثين: تناولنا في المبحث الأول الأساس الإداري في فكر الأمام علي (عليه السلام) وقسمناه الى مطلبين المطلب الأول التنظيم الإداري للدولة في فكر الأمام علي (عليه السلام). أما المطلب الثاني فيتناول السياسة الادارية في فكر الأمام علي (عليه السلام) وقد قسمناه الى فرعين الفرع الاول: الضوابط والمواصفات الشخصية لاختيار الولاة العمال والفرع الثاني: سياسة الإمام علي مع عماله. أما المبحث الثاني فيتضمن الفكر القضائي في عهد الامام علي (عليه السلام) وتم تقسيمه الى مطلبين المطلب الاول التعريف بالقضاء وينقسم الى فرعين: الفرع الأول القضاء في اللغة والفرع الثاني القضاء في الاصطلاح. أما المطلب الثاني فيتناول القضاء في عهد الأمام علي (عليه السلام) وينقسم الى ثلاث فروع: الفرع الأول مؤهلات القاضي وصفاته في فكر الأمام علي (عليه السلام) والفرع الثاني وصایا الأمام علي في إجراءات التحقيق أما الفرع الثالث فيتناول استقلال القضاء.

ص: 60

المبحث الاول: الأساس الاداري للدولة في عهد الأمام علي (عليه السلام)

يمتاز الأساس الاداري عند الأمام علي (عليه السلام) بمتانته وتماسكه واستناده الى قواعد منطقية رصينة فجاء هذا الفكر متميزا بخصائص قد لا يضفر بها اي مفكر داري غربي فهو فكر انساني لأنه ينظر الى الادارة بنظرة انسانية فالذي يتحرك في افق الإدارة هو الانسان وليس الاله كما وان نظرة الامام الى المؤسسة الادارية أنها مجتمع مصغر تتضامن فيه جميع المقومات الاجتماعية كما وان نظرته الى الاداة انها جهاز منظم وليس خليطا من الفوضى وأن لهذا الجهاز هدفا ساميا فالتنظيم لم يوجد عبثا بل وجد من أجل تحقيق اهداف كبيرة في الحياة. لذا سوف نقوم بتقسيم هذا المبحث الى مطلبين نتناول في المطلب الأول التنظيم الاداري لدولة الخلافة في عهد الامام علي (عليه السلام) وفي المطلب الثاني السياسة الإدارية في فكر الإمام علي (عليه السلام).

المطلب الأول: التنظيم الاداري لدولة الخلافة في عهد الامام علي (عليه السلام):

ان اولى أوليات الامام علي (عليه السلام) حين تقلد منصب الخلافة هو تنظيم الجهات التنفيذية والتشريعية لدولته، لأن «الامام هو اعلى سلطة ادارية في الدولة تنتهي اليه جميع السلطات وتستمد العناصر الادارية سلطاتها، بقدر ما يكون الامام منيباً الى القانون والنظم يكون المجتمع منتظماً سائراً في طريق التوازن الاجتماعي والاقتصادي»(1).

ص: 61

وانطلاقاً من ذلك فقد توجه الامام علي (عليه السلام) في مستهل سنة 36 ه الى «بعث... عمالة الانصار»(2)، وكان قد ورث أعباء ثقيلة من العهد السابق ولا سيما ولاة عثمان بن عفان المطعون في سيرتهم وسياستهم التي كانت في مقدمة الاسباب للثورة على الوضع السائد آنذاك، فاصبح «القرار التغييري الأكثر الحاحاً حينذاك هو اعادة النظر في الجهاز الاداري كونه الاداة التنفيذية المسؤولة للخلافة...»(3).

وكان الامام علي (عليه السلام) قد اسند مهام الحكم في عهده الى العمال والاقاليم الى كل من ابي ايوب الانصاري (ت 52 ه) على المدينة(4) وقيل: انه ولي عليهما تمام بن عباس «عندما سار من المدينة نحو البصرة»(5)، وقثم بن العباس (ت 55 ه) على مكة والطائف(6).

اما العاصمة الكوفة فقد تعاقب عليها عدد من الولاة وكان اولهم ابو موسى الاشعري(7)، وعمارة بن شهاب(8)، وقرطبة بن كعب الانصاري (ت 40 ه)، وبو مسعود البدري (ت 40 ه) وهاني بن هون النخعي (ت 40 ه)(9).، وقلد ولاية البصرة وكور الاهواز وفارس وكرمان الى عدد من الولاة منهم عثمان بن حنيف الانصاري (ت 57 ه)(10)، وعبد الله بن عباس، ت 65 ه وقيل 68 ه)(11).

ويذكر ابن عباس قد «جمعت اليه الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها...»(12)، وسمرة بن جندب (ت العقد 6 ه)(13)، وعين على المدائن سعد بن مسعود عم المختار الثقفي(14). اما ولاية الموصل وما يحيط بها حتى معركة صفين سنة(37 ه)، سنة (37 ه)، فقد اسندت الى مالك الاشتر (ت 38 ه)(15).

وولي على مسلحة عين تمر مالك بن كعب الارحبي(16). في حين اسندت ولاية البحرين الى عمر بن مسلمة (ت 83 ه)، وقدامة العجلان والنعمان بن العجلان

ص: 62

الانصاري (ت بعد سنة 37 ه) (17)، وعلى عمان الحلو بن عون الازدي، وبعد مقتله توجه معقل بن قيس الرياحي (ت 42 ه)، عندما وثب «بنو ناجية... وارتدوا عن الاسلام»(18).

وعقد الامام علي (عليه السلام) ولاية مصر الى قيس بن سعد (ت 59 ه)، وبعده «بعث علي على أمرة مصر مالك الأشتر النخعي فسار اليها... فلما بلغ القلزم شربه شربة من عسل فكان فيها حتفه... فلما بلغ علياً مالك الاشتر بعث محمد بن ابي بكر (ت 38 ه) على امرة مصر، وقيل وهو الاصح ان علياً ولى محمد بن ابي بكر بعد قيس بن سعد...»(19).

وعهد بولاية اليمن الى كل من عبيد الله بن العباس (ت 85 ه)، وقثم بن العباس.(20).

اما الشام فقد اسند ولايتها الى سهل بن حنيف (ت 38 ه)، ولكن لم يتسنَ له الوصول وتسليم مقاليد الامور(21).

في حين ولي اقليم فارس الى «خليدة بن قرة اليربوعي وقيل ابن ابزي*، ثم تولاها زياد ابن ابه (ت 51 ه) بعد سنة (40 ه) بعدها «طمع اهل فارس واهل کرمان فغلب اهل كل ناحية على ما يليهم واخرجوا عمالهم...»(22).

اما اقليم خراسان فقد «بعث علي خليدة بن قرة اليربوعي ويقال خليدة بن، طريف...»(23)، وولي على اصفهان عمر بن مسلمة (ت 86 ه)(24) وعقدت ولاية الري الى يزيد بن حجية التميمي،(25) وكان على اقليم اصطخر المنذر بن الجارود (ت 61 ه)، وعلى اذربيجان ولى الامام علي عليه السلام الاشعث بن قيس (ت 401 ه)(26)، وعقد لمصقلة بن هبير (ت نحو 50 ه)، على اردشير طره(27).

ص: 63

اما القضاء في العاصمة فقد اسندها الامام علي (عليه السلام) طيلة عهده الى اكثر من قاضي في مقدمتهم شريح القاض (ت 76 ه)، ومحمد بن يزيد بن خليدة الشيباني(28)، وسعيد بن نمران الهمداني (ت 70 ه)، وعبيدة السلماني (ت 72 ه)(29)، وتولى قضاء البصرة عدد من القضاة، منهم ابو الاسود الدؤلي (ت 67 ه)، وقيل الضحاك بن عبد الله الهلالي ويقال: عبد بن فضالة الليثي(30).

وكانت الحجابة من مسؤولية قنبر، مولى الامام علي (عليه السلام)(31).

وتولى مهام الكتاب لدى الامام علي (عليه السلام) عدد من الكتاب، كان اشهرهم عبيد الله بن ابي رافع (ت 40 ه)(32)، ثم سعيد بن نمران الهمداني(33)، وعبد الله بن جعفر (ت 88 ه)،وعبيد الله بن جبير (ت 81 ه)(34).

وكان صاحب الشرطة في عهد الامام علي (عليه السلام) كل من: معقل بن قيس الرياحي (ت 42 ه)(35)، ومالك بن حبيب اليربوعي*، وعلى شرطة الخميس الاصبغ ابن نباتة(36)**

وأسند الأمام علي (عليه السلام) مهمة خزانة بيت المال الى ابن ابي رافع (ت 40 ه)(37) واصبحت الخارطة الجغرافية لدولة الخلافة في هذه المدة هي «الحرمان والمصران، والحجازان، واليمن، والبحران، وعمان، واليمامة ومصر، وفارس، والجبل وخراسان...»(38).

ومن الدعائم التي يستند عليها الحاكم هم الوزراء والاعوان، والمستشارون وقد اولى الامام في فكره الاداري هذه الناحية اهمية كبيرة، وادراجها ضمن فقرات دستوره الشامل لعامة الحكام والولاة ليس لمالك الاشتر فحسب، فأوصى علي عليه السلام باختيار هؤلاء الوزراء والاع-وان والمستشارين بمواصفات غاية في الدقة ولا

ص: 64

سيما ممن لم تكن لهم سوابق ومؤشرات مشينة في العهود التي سبقت، فيكونوا من حسنت سيرتهم وسلوكهم فيوصيه عليه السلام ان: «شر وزرائك من كان قبلك للاشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام فانهم اعوان الآثمة واخوان الظلمة...»(39).

وبالرغم من عدم ظهور منصب الوزراء في تلك المدة الا ان اثره كبير فيعدّ «الوزير عوناً على الامور وشريك في التدبير على السياسة ومفزع عند النازلة»(40).

وكان الامام علي (عليه السلام) قد سبق ولاته وعماله في التطبيق العملي لهذه الفقرة من الدستور او العهد الذي نظره، فقد اتّخذَ الامام علي عليه السلام وزراء واعوان ومستشارين من «اهل البصائر واليقين من المهاجرين والانصار مثل: عمار بن ياسر (ت 37 ه)، والمقداد (ت 30 ه) وابي ايوب الانصاري، وخزيمة بن ثابت (ت 37 ه) وابو الهيثم بن النبهان، وقيس بن سعد ومن اشبه هؤلاء من اهل البصيرة والمعرفة»(41).

وتلي هذه الحلقة حلقة اخرى من المستشارين والاعوان وهم على درجة كبيرة من الاستعداد لتقديم العون والمشورة ومنهم الحسن والحسين (عليه السلام) وصعصعة بن صوحان (ت 56 ه)، ومالك الاشتر وغيرهم(42).

ويستدل على نشاطهم في المعاونة والمؤازرة كتابه عليه السلام الذي عاتب فيه احد ابرز وزرائه ومعاونيه ابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: «فاني كنت قد اشركتك في امانتي، وجعلتك شعاراً من بطانتي، ولم يكن من أهلي أوثق منك، لمؤاساتي ومؤازرتي...»(43).

ويعد التنظيم الاداري هو الخطوات الاولى لحكم الامام علي (عليه السلام) للانطلاق الى ميدان اوسع بالمهات والمسؤوليات والعمل ووفقاً لما تنبئ به ظروف

ص: 65

التغيير للواقع السياسي وفقاً لرؤية الامام علي عليه السلام السياسية والإدارية «على جادة الخلافة ويحاول ما بوسعه الجهد ان يجعل الحكم والرعية كليهما يحملان في نطاق الله، ويسيران على ما شرعه الإسلام...»(44).

المطلب الثاني: السياسة الإدارية في فكر الإمام علي

وضع الامام علي (عليه السلام) سياسة ادارية محكمة حدد فيها الوظائف واوضح طرق تعيين الموظفين وبين واجباتهم وحقوقهم واقام عليهم تفتيشا دقيقا ووضع اسس الثواب والعقاب والمسؤولية الادارية بشكل عام.

الفرع الأول: الضوابط والمواصفات الشخصية لاختيار الولاة العمال:

مما تقدم يبدو ان الإمام عليا كان ممعنا في اختيار عمال لإيمانه بالشخص الوالي من تأثير في الرعية عن طريق المؤهلات الذاتية والتي تمنحه له السلطة، فيقول في هذا الشأن: «فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة...»(45)، وتؤكد بعض المصادر ان لم يول إلا «ممن عرفوا بالصلاح...»(46)، و «أهل الديانات والأمانات..»(47)، اما بشأن تولية بعض المقربين من الإمام علي وهو من الأمور المنكرة على عثمان بن عفان، فيبرر العقاد هذا الاجراء بقوله: «فهو إذن بضع ما انكره على حكومة عثمان من اتيان الاقرباء بالولايات واقصاء الآخرين عنها... ولكنها مقارنة بالأشكال والحروف دون البواطن والغايات لان المقارنة الصحيحة بين العمليتين تسفر عن فارق كبير كالفارق بين النقيض والنقيض، فبنو هاشم، لم يكن لهم متسع لعمل أو ولاية في حكومة غير الإمام ولم يكن الإمام معتمدا على غيرهم بعد ان حاربته قريش وشاعت الفرقة والشغب بين اعوانه من أبناء الأنصار... وهم مع هذا لم يؤثروا بالولايات كلها...»(48)

ص: 66

ان الضوابط والمؤهلات الشخصية للعامل أو الولي، التي يؤكد عليها ان يكون من أصحاب المروءات وممن صهروا في البيوتات الصالحة ومن لها سبق في الدين الإسلامي وجاءت هذه الصفات الحميدة في قول الإمام علي (عليه السلام) «وتوخ من أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، نانهم اكرم اخلاقا واصلح اعراضا، واقل في المطامع اشرافا وابلغ في عواقب الأمور نظرا»(49).

وللكفاءة وأمانة الشخص المراد توليته، فانهما صفتان غاية في الأهمية والخطورة عند تسلمه زمام المسؤولية، ويبدو ان الإمام علي (عليه السلام) يشير إلى قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب ويتبين ذلك من وصيته «ولكن اختبرهم بما ولوا الصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة اثرة، واعرفهم بالأمانة وجها...»(50).

وللشخصية القويمة العارفة بقدر نفسها وقد الآخرين، في سلوكه وسياسته بإدارتها لمهامه في إطار الدولة والمجتمع، فيشير الإمام علي إلى ذلك بقوله:» لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فان الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل» (51).

واشترط الإمام علي (عليه السلام) ان تكون النزاهة من الشروط والمواصفات الرئيسة لعمال الدولة وموظفيها وحدد الإمام علي الشخص النزيه بان «یکسر نفسه عن الشهوات وينزعها عن الجحمات فان النفس امارة بالسوء...»، فيكون مترفعا عن كل النزوات النفسية المعنوية مثل بهرجة الحكم أو أبهته أو النزوات المادية بتصرف بأموال الأمة التي قيد اوامره وعليه ان يحترم ذمم الرعية، ويذكر احد المفكرين عن هذه الحالة الخطرة والمهمة للجهاز الإداري للدولة بقوله: «وكسر النفس عن الشهوات اليت هي التعفف في الموظف الإداري على طرفي نقيض، أو من المستحيل ان عفيفا حتى استرسل مع شهواته وانقاد إلى نفسه الامارة بالسوء المغتر بالإمارة

ص: 67

والجاه الطويل العريض، وهل معنى ايصائه بردع نفسه عند الجحات إلا لتحذيره من الته-ور في المسائل الإدارية والعسكرية وان يتصف بالمتانة والتبصرة المشترطين في كل إداري...»(53)، ويحذر الإمام من احد أمراض الفساد الإداري وهي قبول الموظف الهدية أو اخذ الرشوة فيقول:؟ وان اخذ هدية كان غلولا، وان اخذ الرشوة فهو مشرك»(54).

وللصفات الاخلاقية جانب كبير من الأهمية تبعد صاحبها عن الشبهات والأساليب الدنيئة والملتوية، فمتى كان الموظف صادقا ورعا كان أشد حرصا على شؤون البلاد والعباد وتفضيله المصلحة العامة على موقعه الوظيفي، فضلا عن ان الورع يدفعه إلى الاخلاص فيشير الأمام علي بقوله: «والصق باهل الورع والصدق ثم رضهم على إلا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله...»(55).

ومن الصفات الإنسانية للحاكم الإسلامي ان يكون متواصلا مع شعبه ورعيته واقفا على حوائجهم سواء في حدود موقعه أو عند من تبعه من في دائرته أو رقعته الجغرافية، وهذه صفات القيادي الناجح القريب من شعبه ومن الله سبحانه وتعالى، ويقول الإمام علي: «أيما والي احتجب عن حوائج الناس احتجب الله يوم القيامة عن حوائجه...»(56)، وثم يذكر الإمام علي الحاكم ويحذره من نفسه بقوله: «وإياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه»(57).

ولا بد لعامل الدولة الإسلامية في أي مفصل من مفاصلها الحكومية أو الإدارية ان يكون على درجة من احترام الذات والابتعاد عن التكلف والتكبر، وان يكون كيسا غير مبتذل في سلوكيات تصغره عند العامة، وهذه النظم من عناصر النجاح الإداري، فيشير الإمام علي إليها في وصاياه إلى احد عماله على الصدقات ان «امض

ص: 68

اليهم بالسكينة والوقار، حتى تقو بينهم فتسلم عليهم ولا تخذج بالتحية لهم»(58). ودعم الإمام علي الشروط والمواصفات أعلاه بان يجري استعمال العمال عن طريق الاختيار والابتعاد عن الشفاعة العصبية القبلية أو الاجتماعية فأشار بقوله: «ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة»(59). وفي ضوء ما تقدم فان الإمام علي قد «وضع... أسسا متينة للنظام الإداري في الإسلام عند توليه الخلافة عام 35 ه..»(60).

الفرع الثاني: سياسة الإمام علي مع عماله:

57. أ- سياسة الثواب والعقاب.

58. ب- سياسة التفتيش والمراقبة.

59. ج- التوجيهات الإدارية للأمام علي إلى الولاة والعمال.

أ- سياسة الثواب والعقاب:

لقد اتسمت سياسة الامام علي (عليه السلام) مع عماله بين جانبي اللين والشده کل جانب يقدر ويقوم ويأخذ استحقاه من سياسية الامام علي لان امير المؤمنين حين تولي الحكم لم يكن يستهد من تولي الحكم تحصين التجربة او الدولة بقدر ما كان يستهدف المثل الأعلى للإسلام»(61).

وانطلاقا من جوهر هذا الهدف، كان الامام علي (عليه السلام) يحث عماله بتحقيق الافضل لرضى الله سبحانه وتعالى ولخدمة المسلمين ففي احد كتب الثناء والتقدير لاحد العمال المتفانين في واجبهم وعملهم يقول له عليه السلام «أما بعد فقد وفتروا على المسلمين قيثهم، وأطعت ربك ونصحت أمامك فعل المتنزه العفيف

ص: 69

فقد حمدت اثرك ورضيت امامك وابيت رجدك غفر الله لك والسلام»(62).

وضمن سياسة الثواب هذه وثمنينا وتشجيعا من الامام علي (عليه السلام) لكل عامل مخلص في الدولة عسى غيره من العمال والولاة أن يحتذى به فقد ارسل كتابا الى احد العمال الاكفاء في ادارتهم يبلغه فيه رضاه عنه قائلا «فأنك قد اديت خراجك واطعت ربك فغفر الله ذنبك وتقبل سعيك وحسن مآبك»(63).

أما من الجانب الاخر فان الامام علي (عليه السلام) اتبع سياسة الحزم والعقوبة فتفاوتت مساحة هذه السياسة بين العتب والتوبيخ الى الحبس. فالولاة جميعهم في نظر الامام علي (عليه السلام) على السواء الى في تقييم اداء العمل ويضع الامام علي (عليه السلام) هذه الحقيقة امام عين العمال والولاة فيقول لهم «وان تكونوا عندي في الحق سواء فاذا فعلت ذلك وجبت عليك النعمة ولي عليكم الطاعة وان لا تنكصوا عند دعوة ولا تفرطوا في صلاح وان تخوضوا الغمرات الى الحق فان انتم لم تسمعوا لي على ذلك لم يكن احد اهون عليه من فعل ذلك منكم ثم اعظم فيه العقوبة»(64).

وفي تقريع وتوبيخ لاحد عماله لما بلغه عنه من اعمال لا ترضي وانه سوف يتخذ اقصى العقوبات بحقه عندما يتحقق من الامر جاء في الكتاب «ان صلاح ابيك قد غرني بيك وان كان ما بلغني حقا لجمل اهلك وسشع نعلك خير لك فاقبل اليه حين يصل اليك كتابي»(65). وبعد التحقيق قرر الامام علي (عليه السلام) عزله وتقريعه وحبسه»(66). ولم يتسم موقف الامام علي (عليه السلام) بالتهاون مع ابن عمه عبد بن عباس عنما علم (عليه السلام) انه اخذ اموالا من بيت مال المسلمين بعث اليه كتابا شديد اللهجة وفيه من التهديد والتوعد باتخاذ اقصى العقوبات بحقهن واقسم على ذلك قائلا «فوالله لو ان حسنا وحسينا فعلا الذي فعلته لما كانت لهما عندي هوادة لله ولا ضفرا مني برخصة حتى اخذ الحق لظلومهما»(67) وعندما بلغ الامام علي (عليه

ص: 70

السلام) ان مصقلة ابن هبيرة يقسم الفيء بين ابناء عشيرته فقام الامام علي (عليه السلام) بإنذاره في الكتاب الذي بعثه اليه مبلغه موقفه منه بقوله «فولله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لان كان ذلك حقا لتجدن بك عليه هوانا فلا تستهن بحق ربك ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الاخسرين عملا»(68).

ومن مواقف العدالة الملفتة للنظر في سياسة الأمام علي عليه السلام وعدم تهاونه مع اي انحراف صغيرا كان او كبيرا في سياسة الولاة والعمال ففي كتاب فيه الكثير من التقريع والوعظ لا لخيانة امانه او تجاوز لحقوق المسلمين بل لكونه استجابة لدعوة حضور وليمه ويعد الامام علي هذه الدعوة ليس لشخصه عثمان بن حنیف بذات بل تمثل لدعوه بمنصبه في الدولة فكتب اليه «اما بعد يبن حنيف فقد بلغني رجلا من فتية اهل البصرة دعاك الي مآدبة فأسرعت اليها تستطاب لك الالوان وتنقل اليك الجفان وما ظننت انك تجيب الي طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو»(69).

وهنالك العديد من المواقف الأخرى في سياسة الامام علي عليه السلام هذه مع ولاته وعماله»(70).

ب- سياسة التفتيش والمراقبة:

وضمن حلقات سياسة الامام علي (عليه السلام) الادارية كانت حلقة التفتيش والمراقبة لما لهذا الاسلوب من اثر ايجابي على سير الاعمال الادارية في زمن لم تكن الإدارة في الاسلام قد بلغت هذا المستوى من التطور»(71). وكانت سياسة الامام علي (عليه السلام) في هذا الجانب سیاسة دقيقة يحاول فيها ان لا يسمح باي انحراف يضر بالمنفعة العامة للمسلمين ويتوضح ذلك في كتاب لاحد عماله فيقول «فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لأفتشن عن ذلك تفتیشا شافيا»(72).

ص: 71

ومن اساليب التفتيش الاداري الذي انتهجه الامام علي (عليه السلام) هو التفتيش الميداني بأرسال المفتشين ويمكن القول ان اللجان التفتيشية تذهب الى اماكن العمل الاداري ومن ذلك ما امر به الامام علي (عليه السلام) احد عماله وهو كعب ابن مالك بأن يتراس مجموعة تتولى مهمة التفتيش الميداني ويبلغه الامام علي (عليه السلام) توجيهات وتعليمات عمله بقوله: «اما بعد فاستخلف على عملك واخرج في طائفة من اصحابك حتى تمر بارض السواد كورة كورة فتسالهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم»(73).

ولم يكتفي الامام علي (عليه السلام) بأسلوب التفتيش العلني بل كان يعتمد على اسلوب التفتيش السري وذلك للاطمئنان والمراقبة على سياسات العمال العادلة وسلامة حقوق المسلمين فيوصي عامله على مصر مالك الاشتر بقوله «ثم تفقد اعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية»(74). أي «اجعل عليهم طرفا او ناظرا يحفظهم ويخبرك بأحوالهم وافعالهم»(75).

ان استخدام الاشخاص الذين حسنت سيرتهم في المراقبة السرية كي يزودوا الوالي او الخليفة بأوثق الاخبار وادق المعلومات عن الموظفين لان تقاريرهم واخبارهم يتوقف على مصير الموظف في حالتي الثواب والعقاب والغاية من مراقبة الموظفين هي ان تقدم تقارير سرية وهم على حقيقتهم غير متظاهرين او مغالطين»(76).

ص: 72

ج. توجيهات الامام علي الادارية:

حرص الامام علي (عليه السلام) على ان تكون متابعته وتوجيهاته لعماله منذ اللحظات الاولى لاستعمالهم اذ يقوم الامام علي (عليه السلام) باستدعاء العامل ليملي عليه توجيهاته الخاصة بعمله وسياسته في ادارته ويذكر انه اراد ان يستعمل رجلا دعاه فأوصاه وقال «عليك بتقوى الله الذي لا بد من لقائه.. وعليك في ما أمرك به بمها يقربك من الله»(77).

ولم يكن الامام علي (عليه السلام) موجها فقط بل كان منكبا ایضا على وضع الخطط والسياقات الادارية للدولة بشكل عام ومنا ما اشار علي السلام الى اعماله للتخصص بالعمل وتقسيمه وتحديد المسؤولية بقوله «واجعل لرأس كل امر من امورك رأسا ليقهره كبيره ولا يشتت عليه كثيرها»(78). وهذا يدل من الناحية التنظيمية والادارية المعاصرة يقوم بجعل الاعمال الموكلة للأفراد على شكل دوائر متشابهة ولجميع الاعمال المتماثلة بدائرة واحدة ولكل عمل يحدد له رئيس من الكتاب بقسم ذلك التقسيم القدرة على ضبط الاعمال الموكلة بحيث لا تكون كبيرة يتعذر على الرئيس ادارتها ولا تخرج عن قدرته بتشتتها»(79).

ومن الاشارات التنظيمية الدقيقة والمهمة التي حذر الامام علي (عليه السلام) عماله وأولاده من ظاهرة خطيره غالبا ما تسبب بالاستئثار بمصالح الدولة والرعية وهي ظاهرة النفعيين والوصوليين الملتفين حول العامل او الوالي أو اي رئيس عمل فيحذر الامام علي (عليه السلام) من ذلك بقوله «فأن للوالي خاصة وبطانة فيهم استأثرا وتطاول وقلة انصاف في معاملة فأحسن مؤونة أولئك يقطع اسباب تلك الاحوال». ومن توجيهات الامام علي (عليه السلام) في السياسة الادارية دعوته الى الوالي ان يتمتع بالصبر ويبتعد عن اتخاذ القرارات المتسرعة وغير المدروسة والتي ربما تعود بالضرر على الدولة والرعية في ان واحد. ويوجه الامام علي (عليه السلام)

ص: 73

في ذلك بقوله «واياك والعجلة بالأمور قبل اوانها وضع كل امر موضعه واوقع كل عمله موقعه»(81).

وفي تنبيه اداري اشار الامام علي (عليه السلام) على الرئيس الاعلى او الوالي بالأشراف المباشر والاطلاع المستمر بكل شؤون دائرته ومعرفة حاجات الموظفين وخلق الانسجام الوظيفي فلا يكون بعيدا او متكلا على غيره فبهذا الخصوص وجه الامام علي (عليه السلام) التوجيه التالي «ثم امورك لابد من مباشرتها منها اجابة عمالك بما يعيا كتابك وفيها اصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تخرج به صدور اعوانك»(82). ومن الأهداف التي يتوخاها الامام علي (عليه السلام) في متابعة العامل شؤون عماله «حتى لا تخفى عليه احسان محسن ولا إساءة مسيء لا يترك واحدا منها بغير جزاء فأن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ وفسد الامر وضاع العمل»(83).

ويعد التنظيم دلالة من دلالات رقي وتطور الدولة في فكرها و سیاستها وقد سبق الامام علي (عليه السلام) المشرعين السياسيين والاداريين جميعا بالإيعاز الى الاهتمام بالوقت وتنظيم العمل منذ البداية حتى تكون النتائج سليمة ومسددة في عملها وفي علاقتها بالرعية عن طريق الاعمال والخدمات المقدمة لها فيوصي الامام (عليه السلام) بهذا التوجيه «وامضي لكل يوم عمله فان لكل يوم ما فيه»(84). ومن التوجيهات القيمة ايضا التي اشار اليها الامام علي (عليه السلام) هو التذكير بالجانب العبادي الذي هو صلب وجوهر العمل للدولة الإسلامية فحث الأمام علي (عليه السلام) الولاة والعمال بأن يجعلوا أوقاتا خاصة للعمل العبادي والفرائص المكلفين بها عسى ان تكون فيها خير مراجعة مع النفس فيوصي (عليه السلام) بقوله «وأجعل النفسك في ما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الاقسام وأن كانت كلها لله، واذا صلحت فيها النية ، وسلمت منها الرعية»(85).

ص: 74

المبحث الثاني مفهوم الفكر القضائي في عهد الإمام علي (عليه السلام)

ان النظام القضائي يعد من الوظائف المهمة والخطرة في الاسلام لاهميته في تحقيق العدالة المساواة، وقد اهتم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حل الخصومات والنظر في الدعاوى، كما اسند بعض الصحابة مهمة القضاء بين المسلمين في مقدمتهم الامام علي (عليه السلام) مما اكسبه خبرة واسعة في الجانب العملي، فضلا عن سعة علمه في احكام الشرع الاسلامي، ولبيان هذه الاهمية سنقسم هذا المبحث الى مطلبين نبين في المطلب الاول التعريف بالقضاء ودليل مشروعيته اما المطلب الثاني فسنبين فيه الية القضاء في عهد الامام علي (عليه السلام) وذلك على النحو الاتي:-

المطلب الأول: التعريف بالقضاء ودليل مشروعيته

سنتناول في هذا المطلب التعريف بالقضاء على الصعيد اللغوي والاصطلاحي وذلك في الفرع الاول اما الفرع الثاني سنبين فيه الغرض من القضاء ودليل مشروعيته وعلى النحو الاتي:

ص: 75

الفرع الأول: التعريف لغة واصطلاحا

أولا: القضاء في اللغة

يطلق لفظ القضاء في اللغة على معان منها(86):

1- الحكم: بمعنى المنع، ومنه سمي القاضي حاكما لمنعه الظالم من ظلمه، ومنه قوله تعالى ((وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه - الاسراء 23 -))، أي حكم واوجب.

2- الأداء: كما في قوله تعالى ((فاذا قضيتم مناسککم - البقرة 200 -))، أي اديتم وقضى محمد دينه أي اداه.

3- الإنهاء والتبليغ: كما في قوله تعالى ((وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب)) وقوله تعالى ((وقضينا اليه ذلك الامر)) أي انهيناه اليه وبلغناه اياه، لان الخبر ينتهي الى من يبلغه.

4- الهلاك والفراغ: كما في قوله تعالى ((فوكزه موسی فقضى عليه - القصص 15 - وقوله ((فمنهم من قضى نحبه - الأحزاب 23 -)) أي هلك. وقضى حاجته أي فرغ منها. ومنه قوله تعالى ((فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها - الأحزاب 37 -)).

5- المضي: كما في قوله تعالى ((ثم اقضوا الي ولا تنظرون - یونس 71 -)) أي امضوا.

6- الصنع والتقدير: يقال قضاه أي صنعه وقدره. ومنه قوله تعالى ((فقضاهن سبع سموات في يومين - فصلت 12 -)) أي صنعهن وقدرهن وخلقهن. ومنه القضاء والقدر.

واصل هذا اللفظ قضاي لانه من قضيت، فلما جاءت الياء - الالف الاخيرة قلبت همزة. والجمع اقضية. والقاضي في اللغة القاطع للامور. واستقضى فلان جعل

ص: 76

قاضيا. والواقع ان معاني القضاء في اللغة ترجع كلها إلى معنی واحد هو امضاء الشيء واحكامه، او اتمام الشيء والفراغ منه قولا اوفعلا (87).

ثانيا: القضاء في الاصطلاح

عرف الفقهاء القضاء بتعاریف تعددت فيها عباراتهم.

فقد عرفه ابن رشد وابن فرحون والامام علاء الدين ابو الحسن بن خليل الطرابلسي بانه ((الاخبار عن حكم شرعي على سبيل الالزام))(88)، وقد نظر هؤلاء الى صورة اللفظ او متعلقه او لازمه، والا فالقضاء انشاء لا اخبار لحصول مضمونه في الخارج به لا بغيره.

ولذا عرفه القرافي من المالكية بانه ((انشاء الزام او اطلاق)) کالالزام بالصداق او النفقة، واطلاق الارض المحياة اذا زال احياؤها والصيد البري اذا زال احرازه، وان كان من لازمه الزام المالك عند الاختصاص(89).

وعرفه الشافعية بانه ((الالزام ممن له ولاية الالزام بحكم الشرع في الوقائع الخاصة)) فخرجت الشهادة والفتيا لانتفاء ولاية الالزام العامة، وخرج نحو الحكم بثبوت الحلال، فانه ثبوت لا حكم، لان الحكم على عام غیر ممکن(90).

وعرفه فقهاء الاحناف بانه ((قول ملزم يصدر عن ولاية عامة))(91).

على ان هذا التعريف يدخل في القضاء ما ليس بقضاء. وهو قول القاضي في شأن ثبوت رؤية الهلال فهذا منه ليس حكما وانما هو ثبوت.

واقتصر بعض الحنابلة على تعريف القضاء باعتبار الأثر المترتب عليه فقالوا انه ((فصل الخصومات)).

ص: 77

ذلك انه يقضي الى وضع حد للنزاع الناشب. وهم يعنون فصل الخصومات على وجه مخصوص، ليخرج الصلح والتحكيم.

وعرف الجمهور القضاء بانه ((الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للنزاع بالاحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة)).

الفرع الثاني: الغرض من القضاء ودليل مشروعيته

الغرض من القضاء

القضاء امر لازم لقيام الامم، ولسعادتها، وحياتها حياة طيبة، ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، واداء الحقوق الى مستحقيها، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وللضرب على ايدي العابثين واهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد فيه على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، ومن ثم يزيد الانتاج، فتنهض البلدان ويتحقق العمران، ويتفرع الناس لما يصلحهم دنيا ودينا، فان الظلم من شيم النفوس، ولو انصف الناس استراح قضاتهم.

دليل مشروعيته

القضاء من عمل الرسل عليهم السلام، يدل على ذلك قوله تعالى ((وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلا - الانبياء 78، 79 -))، وقوله ((یا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب - ص 26 -)).

ورسول الاسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الرسالة الخاتمة

ص: 78

والدائمة كما كان مامورا بالدعوة والتبليغ، كان مامورا بالحكم والفصل في الخصومات، وقد ورد في القرآن الكريم في غير اية ما يشير الى ذلك، منها قوله تعالى ((فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهواءهم - المائدة 48 -)) وقوله ((وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم - المائدة 49 -)) وقوله ((وان حکمت فاحکم بينهم بالقسط ان الله يحب المقسطين - المائدة 42 -)) وقوله ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما - النساء 65 -)).

ومن السنة احادیث، منها ما رواه عمرو بن العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ((اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران، واذا اجتهد فاخطأ فله اجر)) وما روته السيدة عائشة ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ((هل تدرون من السابقون الى ظل الله يوم القيامة؟ قالوا: الله ورسوله اعلم. قال: الذين اذا اعطوا الحق قبلوه، واذا سئلوه بذلوه، واذا حكموا للمسلمين حكموا كحكمهم لانفسهم)) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((لا حسد الا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها)). وقد اجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاة والحكم بين الناس(92).

المطلب الثاني: القضاء في عهد الإمام علي (عليه السلام)

تبين في المبحث السابق الاثر الريادي للامام علي (عليه السلام) ولاسيما في عهد الخلفاء الراشدين الذين سبقوه، ((الذي اسهم في منحه القدرة على الاصلاح والتطوير بعد توليه الخلافة، وقد شملت اجراءات الامام علي (عليه السلام) كافة الجوانب ذات الصلة مؤسسة القضاء...))(93)، وهذه الجوانب هي:

ص: 79

الفرع الأول: مؤهلات القاضي وصفاته في فكر الإمام علي (عليه السلام)

لقد اعطى الامام علي (عليه السلام) للقاضي مكانة مرموقة ليقوي موقعه بين عمال الدولة والمجتمع، ففي واحدة من وصايا الامام علي (عليه السلام) المهمة التي تدل دلالة واضحة على سمو شخص القاضي ومكانته يوصي قاضيه شریح بقوله: ((یا شریح قد جلست مجلسا ما جلسه الا نبي او وصي نبي او شقي))(94).

وفي كتابه الى مالك الاشتر يوصيه باختيار القاضي بقوله: ((ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك... واعطه من المنزلة ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك...))(95).

وللامام علي (عليه السلام) تأكيد واضح على ثقافة من يعمل بالقضاء وعلميته، لكيلا يتسبب في ظلم وجور فرد او جماعات لظهور ذلك على امر الامة برمتها، ويوضح الامام علي (عليه السلام) في ذلك بقوله: ((ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الامة... قد اسماه اشباه الناس عالما، وليس به... حتی ارتوى من آجر، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فان نزلت به احدى المبهمات، هيأ لها حشوا رثا من رأيه، ثم قطع به فهو من لبس الشبهات... جاهل خباط جهالات... لم يعض على العلم بضرس واسع.. تصرخ من جور قضائه الدماء وتضج منه المواريث الى الله ...))(96).

ومن سمات القاضي المهمة في فكر الإمام (عليه السلام) التي تقوي قوة القضاء

وقراراته، هو ان يتمتع بالذاكرة القوية وان يكون فطنا عند تعامله مع قضاياه مهما کثرت وتعقدت ويشير الامام علي (عليه السلام) الى هذه السمة بقوله: ((لو اختصم

ص: 80

الي رجلان فقضيت بينهما ثم مكثا احوالا كثيرة ثم اتيا في ذلك لقضيت بينهما قضاء واحدا...))(97).

ومن السمات الضرورية في شخصية القاضي ان يكون ورعا ملتزما اشد الالتزام بالشريعة الإسلامية، متنكرا لذاته، ولا يمل من عمله ويحدد الامام علي (عليه السلام) معالم تلك الشخصية بوصية لمالك الاشتر بتأكيده على تلك السمات بقوله: ((اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تمحکه الخصوم ولا يتمادي في الزلة ولا يحصر في الفيء إلى الحق اذ عرفه...))(98).

وتعد النزاهة وعفة النفس من السمات الاخلاقية الواجب توافرها في شخصية القاضي، ومؤشرا مهما على سلامة العملية القضائية ففي احدى وصايا الامام علي (عليه السلام) في اختيار القاضي اكد على تلك السمة بقوله: ((ولا تشرف نفسه على طمع.. ممن لا يزدهیه اطراء ولا يستميله اغراء...))(99).

وعلى القاضي ان يتمتع بالمبدئية والحزم لكي يمضي في الاحكام واقامة دولة الحق والعدل وان لا تأخذه الرأفة والرحمة على من تثبت ادانتهم، ويذكر ((ان علي بن ابي طالب (عليه السلام)... اقام الحد على رجل فقال: قتلتني يا امير المؤمنين، فقال له: الحق قتلك، قال: فارحمني، قال: الذي اوجب عليك الحد ارحم بك مني...)(100).

وعلى القاضي ان يكون لديه المعرفة التامة باللغة وبفقرات القانون المستمد من القرآن والسنة النبوية الشريفة، وان يكون صيغة النطق بقرار الحكم واضحة وصريحة لا تحتمل التأويل، واكد الامام علي (عليه السلام) على هذه الفقرة المهمة بقوله: ((اذا كان الحد لعل او عسى فالحد معطل))(101).

ص: 81

الفرع الثاني: وصايا الإمام علي في إجراءات التحقيق

اما من الجانب الاخر فقد اكد الامام علي (عليه السلام) على التحقيق الذي هو احد العناصر الرئيسة والمهمة في سير العملية القضائية ولاسيما في القضايا التي يكتنفها الغموض، لذا تحتاج الى فكر قضائي ثاقب من اجل الوصول الى الحقيقة فاولى الامام علي (عليه السلام) هذا الجانب عناية كبيرة وضع لها بعض الاليات في وصاياه وعمله الذي يتم عن فكره القضائي الرصين ومن هذه الاليات، الية التفريق بين المهتمين. وهي طريقة مهمة وذكية في كشف ما ابهم والتبس من القضية عندما يكون فيها اكثر من طرف، وقد مارس الامام علي (عليه السلام) هذه الالية في عهد عمر بن الخطاب واستطاع كشف الجريمة وتحقيق العدالة وانصاف المظلوم وقال الامام علي (عليه السلام): ((انا اول من فرق بين الشهود الا دانيال...))(103).

اما في خلافته فقد تولى التحقيق في قضية بعد ان عجزت امكانية قاضيه شريح من کشف غموضها، فأحيلت القضية الى الامام علي (عليه السلام) فاتخذ اجراء التفريق بين المتهمين، ثم استجوبهم فتباينت اقوالهم مما سهل على الامام علي (عليه السلام) کشف غموض الجريمة واعترافهم بقتل الرجل واخذ امواله(103).

يؤكد الفكر القضائي للأمام علي (عليه السلام) على اهمية الاعتراف في عملية التحقيق ووقائع الثبوت؛ حتى لا يكره المتهم بانتزاع اعترافه بأساليب الضغط والاكراه، ويدعو الامام علي (عليه السلام) الى بناء اقرار الحكم على اعتراف المتهم بذنبه و جريرته، ومن تلك الامثلة اتيان احد مرتكبي الجرائم الى الامام علي (عليه السلام) ((فقالوا انه سرق جملا، فقال: ما أراك سرقت؟ قال: بلى، قال: فلعله شبه لك؟ قال: بلى قد سرقت، قال: فاذهب به یا قنبر فشد اصبعه واوقد النار وادع الجزار ليقطع، ثم انتظر اجيء، فلما جاء قال له: أسرقت؟ قال: لا، فتركه، قالوا: يا

ص: 82

امير المؤمنين، لم تركته وقد اقر لك؟ قال: اخذه بقوله واتركه بقوله...))(104)

ويعد وجود شهود الاثبات من اركان الدعوى القضائية المهمة التي تساعد القاضي على التوصل الى تحقيق العدل والمساواة في القضية المترافع فيها، ودعا الامام علي (عليه السلام) ان يطلب من المترافعين شهودا عدولا فقال: ((واجعل لمن ادعى شهودا غيبا امدا بينهم فان احضرهم اخذت له بحقه وان لم يحضره-م اوجبت عليه القضية...))(105).

وهناك جوانب مهمة اخرى حددها الامام علي (عليه السلام) في موضوع الشهود منها بقوله: ((لا اقبل شهادة على رجل وان كان حي...))(106)*. ومن التفاتات الامام علي (عليه السلام) وذلك بعض التفصيلات للشهود فيقول: ((ان شهادة الصبيان اذا شهدوهم صغار جاءت اذا كبروا ما لم ينسوها، وكذلك شهادة اليهود والنصارى اذا اسلموا جازت شهادتهم والعبد اذا شهد على شهادتهم ثم اعتق جازت شهادته اذا لم يردها الحاكم قبل ان يعتق وقال (عليه السلام)، اذا اعتق العبد لموضوع الشهادة لم يجز شهادته))(107).

اما الشريحة التي تقام عليها الحدود، فقد حددت الشريعة الاسلامية شريحة معينة من المجتمع لا تقام عليهم الحدود، او لا تقع عليهم احكام العلل الشرعية وانسانية فسلجية او مرضية وغيرها ويذكر ((ان من وجوب الامور المعتبرة للحد العلم بالتحريم، وانما اعتبر العقل والبلوغ لان الصبي والمجنون ليسا من اهل التكليف...))(108).

وعلى هذا استثنى الامام علي (عليه السلام) بعضهم من اقامة الحدود عليهم بقوله: ((لا حد على مجنون حتى يستيقظ ولا على الصبي حتى يدرك، ولا على النائم

ص: 83

حتى يستيقظ))(109)، ثم ان الحدود في الشريعة الاسلامية انما شرطت للتقويم وليس للانتقام، وجاء بهذا المعنى ان ((يضرب الرجل في الحد والتعزير ولا يحد ولا يربط، لان لكل عضو قسطا من الضرب ويتوقى الوجه والرأس واعط كل عضو حقه واتق وجهه ومذاكيره...))(110).

الفرع الثالث: استقلال القضاء

على الرغم مما عرف عن استقلال القضاء في عهد الخلفاء الراشدين بصورة عامة، فقد كان القضاء من حيث الوظيفة لم يكن مستقلا ((وانما كان عمل القاضي يقع ضمن مسؤوليات الخلفاء في مركز الخلافة والولاة في المناطق التابعة للدولة...)(111).

اما من حيث سلطة القضاء فقد كان مستقلا وان ((كان الخليفة هو الذي يولي القضاة فان هؤلاء كانوا نوابا عن الخليفة بل كانوا نوابا على الجمهور يوزعون العدل بينهم... ولم يكن تولية الخليفة للقضاة الا تمكينا لمن عنده اهلية للقضاء))(112).

وفي عهد الامام علي (عليه السلام) فقد تمتع القضاة بالاستقلالية التامة في عملهم واصدار احکامهم ففي بداية عهده (عليه السلام) ومع استمرار الفتنة او عز الى قضاة الدولة الاسلامية ((فاقضوا كما کنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة... وحين ذاك اعرفكم ما عندي في هذه القضايا والاحكام التي استمررتم عليها...))(113)، وخير دليل على استقلالية القضاء في هذا العهد هو حضور الامام (عليه السلام) و خصمه النصراني عند قاضيه شريح في الكوفة وذلك عندما وجد الامام (عليه السلام) درعا مفقودا منه في حوزة النصراني وعند عرض القضية امام القاضی شریح قضى لصالح النصراني دون تردد او تأثیر من سلطة الخليفة الذي منحهم تلك الحرية في قضائهم(114).

ص: 84

الخاتمة

في نهاية بحثنا توصلنا الى جملة من النتائج من ضمنها:

1- ومن الدعائم التي يستند عليها الحاكم هم الوزراء والاعوان، والمستشارون وقد اولى الامام في فكره الاداري هذه الناحية اهمية كبيرة، وادراجها ضمن فقرات دستوره الشامل لعامة الحكام والولاة ليس لمالك الاشتر فحسب، فاوصى علي عليه السلام باختيار هؤلاء الوزراء والاعوان والمستشارين بمواصفات غاية في الدقة ولا سیما ممن لم تكن لهم سوابق ومؤشرات مشينة في العهود التي سبقت، فيكونوا من حسنت سيرتهم وسلوكهم فيوصيه عليه السلام ان: «شر وزرائك من كان قبلك للاشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام فانهم اعوان الآثمة واخوان الظلمة».

2- ويعد التنظيم الاداري هو الخطوات الاولى لحكم الامام علي عليه السلام للانطلاق الى ميدان اوسع بالمهمات والمسؤوليات والعمل ووفقاً لما تنبيء به ظروف التغيير للواقع السياسي وفقاً لرؤية الامام علي عليه السلام السياسية والإدارية «على جادة الخلافة ويحاول ما بوسعه الجهد ان يجعل الحكم والرعية كليهما يحملان في نطاق دين الله، ويسيران على ما شرعه

الإسلام...»

3- لقد اتسمت سياسة الامام علي (عليه السلام) مع عماله بين جانبي اللين والشده كل جانب يقدر ويقوم ويأخذ استحقاه من سياسية الامام علي لان امير المؤمنين حين تولي الحكم لم يكن يستهد من تولي الحكم تحصين التجربة او الدولة بقدر ما كان

ص: 85

يستهدف المثل الأعلى للإسلام»

4- ومن اساليب التفتيش الاداري الذي انتهجه الامام علي (عليه السلام) هو التفتيش الميداني بأرسال المفتشين ويمكن القول ان اللجان التفتيشية تذهب الى اماكن العمل الاداري ومن ذلك ما امر به الامام علي (عليه السلام) احد عماله وهو كعب ابن مالك بأن يتراس مجموعة تتولى مهمة التفتيش الميداني ويبلغه الامام علي (عليه السلام) توجيهات وتعليمات عمله بقوله: «اما بعد فاستخلف على عملك واخرج في طائفة من اصحابك حتى تمر بارض السواد كورة كورة فتسالهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم»

5- وللامام علي (عليه السلام) تأكيد واضح على ثقافة من يعمل بالقضاء وعلميته، لكيلا يتسبب في ظلم وجور فرد او جماعات لظهور ذلك على امر الامة برمتها، ويوضح الامام علي (عليه السلام) في ذلك بقوله: ((ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الامة... قد اسماه اشباه الناس عالما، وليس به... حتى ارتوى من أجر، واكتنز من غير طائل، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، فان نزلت به احدى المبهمات، هيأ لها حشوا رثا من رأيه، ثم قطع به فهو من لبس الشبهات... جاهل خباط جهالات... لم يعض على العلم بضرس واسع.. تصرخ من جور قضائه الدماء وتضج منه المواريث الى الله ...))

6- وتعد النزاهة وعفة النفس من السمات الاخلاقية الواجب توافرها في شخصية القاضي، ومؤشرا مهما على سلامة العملية القضائية ففي احدى وصايا الامام علي (عليه السلام) في اختيار القاضي اكد على تلك السمة بقوله: ((ولا تشرف نفسه على طمع.. ممن لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء...))

ص: 86

7- يؤكد الفكر القضائي للامام علي (عليه السلام) على اهمية الاعتراف في عملية التحقيق ووقائع الثبوت؛ حتى لا يكره المتهم بانتزاع اعترافه باساليب الضغط والاكراه، ويدعو الامام علي (عليه السلام) الى بناء اقرار الحكم على اعتراف المتهم بذنبه وجريرته.

8- وقد تمتع القضاة في عهد الامام علي (عليه السلام) بالاستقلالية التامة في عملهم واصدار احكامهم ففي بداية عهده (عليه السلام) ومع استمرار الفتنة او عز الى قضاة الدولة الاسلامية ((فاقضوا کما کنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة... وحين ذاك اعرفكم ما عندي في هذه القضايا والاحكام التي استمررتم عليها...))

ص: 87

المصادر

1- الموسوي، محسن باقر، الادارة والنظام الاداري عند الامام علي عليه السلام، بیروت، 1998 م).

2- ابن الجوزي، جمال الدين بن الفرج عبد الرحمن علي (ت 597 ه)، المنتظم في تاريخ الملوك والامم، تحقیق سهیل زکار، (بیروت، 1995)، ج 3.

3- السعد، غسان، حقوق الانسان عند الامام علي عليه السلام.

4- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 5.

5- ابن خیاط، تاریخ خليفة خياط.

6- ابن كثير البداية والنهاية، ج 3.

7- اليعقوبي، تاریخ، ج 2.

8- الكندي، ابو عمر محمد بن يوسف (ت 353 ه) الولاة والقضاة، تحقيق: محمد بن اسماعيل واحمد فريد المزيدي (بيروت 2003 م).

9- ابن خیاط، تاریخ خليفة خياط، المسعودی، مروج الذهب، ج 2.

10- ابن قتيبة، الأمانة والسياسية، ج 1.

11- ابن الاثير، الکامل، ج 3.

12- الدينوري، الأخبار الطوال

13- انظر: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 1.

14- وکیع، محمد بن خلف بن حیان (ت 306 ه)، اخبار القضاء، مراجعة: سعید اللحام، (بیروت 2002 م).

15- ابن الكازروني، مختصر التاريخ.

16- ابن حبیب، المحبر.

ص: 88

17- الجهشياري، الوزراء والكتاب.

18- ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج/ 17.

19- الطرطوشي، سراح الملوك.

20- الاسكافي، ابو جعفر، المعيار والموازنة.

21- المسعودي، مروج الذهب، ج/ 2.

22- عبد المقصود، عبد الفتاح، المجموعة الكاملة الإمام علي بن أبي طالب، ج 4.

23- ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الاصحاب، ج 2.

24- العقاد، عبقرية الإمام علي.

25- انظر: الكيذري، حدائق الحقائق.

26- الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية.

27- المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة أخبار الأئمة الاطهار، ج/ 72.

28- الحكيم، حسن عيسى، الإمام علي روح الاسلام الخالد.

29- الصدر، محمد الباقر، الأمام علي (عليه السلام) سيرة وجهاد.

30- البلاذري، أنساب الأشراف، ج 2.

31- التوحيدي، البصائر والذخائر، ج/ 2.

32- الزركلي، اعلام، ج/ 7.

33- الشريف الرضي، نهج البلاغة.

34- ابن حمدون، التذكرة الحمدونية.

35- القندوزي، ينابيع المودة ذوي القربى، ج/ 1.

36- شمس الدین، نظام الحكم والادارة في الاسلام.

37- أبو يوسف، الخراج.

38- الكذري، حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة.

89

ص: 89

39- جعفر، نوري، فلسفة الحكم عند الامام علي (عليه السلام).

40- ابن عبد البر، بهجة المجالس وانس المجالس وشحذ الذاهن والهامس، ج 3.

41- حمود، خضیر کاظم، السياسة الادارية في فكر الامام علي (عليه السلام) بين الاصالة والمعاصرة، (بیروت 1999، م).

42- القلقشندي، مآثر الأناقة في معالم الخلافة، ج 2.

43- مختار الصحاح

44- تاريخ القضاء في الإسلام.

45- القضاء في الإسلام: تاريخه ونظامه؛ القضاء في الاسلام.

46- العيساوي: علاء كامل صالح، النظم الادارية والمالية في عهد الامام علي (عليه السلام).

47- الشيخ الصدوق، ابو جعفر محمد بن الحسين: (ت 381 ه - 991 م) من لا يحضره الفقیه، ج 3.

48- ابن ابی الحدید، عز الدين ابو حامد عبد الحميد هبة الله المدائني: (ت 656 ه - 1258 م)، شرح نهج البلاغة، ج 17، تح: محمد ابو الفضل ابراهیم، بغداد - 2005 م.

49- ابن حمدون، محمد بن الحسين بن علي: (ت 562 ه - 1166 م)، التذكرة الحمدونية، ج 1، تح: احسان عباس و بکر عباس، (بیروت - 1996 م)، یاقوت، الحموي (ت 626 ه - 1228 م).

50- الشيخ المفيد، ابو عبد الله بن محمد بن النعمان العكبري: (ت 413 ه- 1022 م).

51- ابن الاخوة: محمد بن احمد القرشي (ت 729 ه)، معالم القربة في احكام الحسبة،

52- تحقیق: محمد محمود شعبان و صدیق احمد عيسى المطبعي، (مصر، 1976 م).

53- الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 4.

54- لمزيد من التفاصيل انظر: الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 3؛

ص: 90

55- العسكري، ابو هلال الحسين بن عبد الله بن سهل (من اعلام ق 2 ه)، الأوائل، (بیروت، 1978 م).

56- الشيخ المفيد: الارشاد؛ الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3.

57- المتقي الهندي: کنز العمال، ج 5.

58- الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3.

59- الطوسي: الاستبصار.

60- ابن الاخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة.

61- الديلمي: ابو الحسن بن محمد (ت 841 ه - 1437 م)، ارشاد القلوب، (بیروت، 1978 م)، ج 27.

62- ابن الاخوة: معالم القربة.

63- العيساوي: علاء کامل صالح، النظم المالية والادارية في عهد الامام علي (عليه السلام).

64- بدري: ثروت، النظم الاسلامية، (القاهرة، 1964 م)، ج 1.

ص: 91

الهوامش

1. الموسوي، محسن باقر، الادارة والنظام الاداري عند الامام علي عليه السلام، (بيروت، 1998 م)، ص 126.

2. ابن الجوزي، جمال الدين بن الفرج عبد الرحمن علي (ت 597 ه)، المنتظم في تاريخ الملوك والامم، تحقیق سهیل زکار، (بيروت، 1995)، ج 3/ ص 345.

3. السعد، غسان، حقوق الانسان عند الامام علي عليه السلام، ص 15.

4. الطبري، تاریخ الرسل والملوك، ج 5، ص 155.

5. ابن خیاط، تاریخ خليفة خياط، ص 152، اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 124، ابن كثير البداية والنهاية ج 3/ ص 128.

6. اليعقوبي، تاریخ، ج2/ ص 124، ابن الجوزي، المنتظم، ج 3/ ص 405، تمام بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي، ولد بمكة لام ولد واستعمله علي عليه السلام على المدينة، وادرك النبي صلى الله عليه وسلم، ان علياً لما سار الى العراق استعمل تمام، وكان للعباس عشرة من الولد وكان تمام اصغرهم مات ولا عقب له ...: انظر: الاميني، محمد هادي، اصحاب امير المؤمنين والرواة عنه، « بيروت 1992 م) ج 1/ ص 88.

7. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 124.

8. الكندي، ابو عمر محمد بن يوسف (ت 353 ه) الولاة والقضاة، تحقیق: محمد بن اسماعيل واحمد فريد المزيدي (بيروت 2003 م)، ص 19، عمارة بن شهاب «كان له هجرة واستعمله الامام علي عليه السلام على الكوفة «، انظر: ابن حجر المسقلاني، احمد بن علي (ت 852 ه)، الاصابة في تمييز الصحابة، تحقیق: علي محمد البجاوي، (بیروت، 1993 م).

ص: 92

9. ابن خیاط، تاریخ خليفة خياط، ص 151، المسعودي، مروج الذهب، ج 2/ ص 277

10. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 124.

11. ابن قتيبة، الامانة والسياسية، ج 1/ ص 105.

12. ابن الأثير، الكامل، ج 3/ ص 263.

13. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 139.

14. الدينوري، الأخبار الطوال، ص 54، انظر: الطبري، تاریخ الرسل والملوك، ج 1/ ص 565، سعد بن مسعود: وهو (عم المختار بن ابي عبيدة بن مسعود الثقفي، من الاحلاف ويقال: ان مسعوداً جده هو عظیم القريتين، فولد مسعود سعداً وابا عبيدة ...)، انظر: ابن قتيبة، المعارف، ص 400، 401.

15. الدينوري، الأخبار الطوال، ص 154.

16. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 135، مالك بن کعب الهمداني الارحبي: استعمله علي على دومة الجندل، وحين بعث معاوية مسلم بن عقبة المري اليها ...) و خرج في الف فارس واقتتلوا يوماً ثم انصرف منهزماً، وهو من العشرة الذين شهدوا صحيفة التحكيم في صفين ...)، انظر: الاميني، محمد هادي، اصحاب امير المؤمنين والرواة عنه، ج 2/ ص 905.

17. ابن خیاط، تاریخ خليفة خياط، ص 151.

18. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 135.

19. ابن کثیر، البداية والنهاية، ج 7/ ص 235.

20. الطبري، تاریخ الرسل والملوك، ج 5 ص 155، «قثم بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي، أمير أدرك صدر الاسلام في طفولته ... وولاه ... علي بن ابي طالب على المدينة فاستمر الى ان قتل علي، فخرج في ايام معاوية الى سمرقند، استشهد بها

ص: 93

...، الزركلي، أعلام، ج 5/ ص 190.

21. الدينوري، الاخبار الطوال، ص 154.

(*) ابن زي وهو: «عبد الرحمن بن بزي الخزاعي، مولى نافع عبد الحارث الخزاعي، سكن الكوفة واستعمله علي على خراسان، وادرك النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلفه ...» انظر: ابن عبد البر، (ت 463 ه) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (بیروت 2003 م) ج 1/ ص 495.

22. الدينوري، الاخبار الطوال، ص 154.

23. المصدر نفسه، ج 3/ ص 401.

24. الطبري، تاريخ الرسل والملوك ج 4/ ص 558. خليدة بن طريف وهو: «من اصحاب امير المؤمنين عليه السلام بعثه الى خراسان بعد وقعة الجمل، وكانوا قد ارتدوا وعصوا ففتحها، وقيل انه بعث خليدة بن قرة اليربوعي ... ويقال خالد بن قرة بن طريف او خالد بن طریف بن قرة نسبة تارة الى ابيه واخرى الى جده...»، الامینی، محسن، اعیان الشيعة، حققه: حسن الامين، ط 5، بیروت، 200 م)، ج 10/ ص 121.

25. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3/ ص 364.

26. المصدر نفسه، ج 3/ ص 171. وهو «یزید بن حجية بن أبي عبيد الله بن خالد بن عائد بن ثعلبة بن الحارث بن تيم اللات بن ثعلبة ... ويقال يزيد بن ربيعة التميمي وقد شهد وقعة صفين مع الامام علي عليه السلام وكان احد الشهود في کتاب الصلح ...»، انظر: الشاهوردي، علي النمازي، مستدرکات علم رجال الحديث، (طهران، 1412 ه)، ج 8/ ص 279.

27. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 140.

28. المصدر نفسه، ج 2/ ص 140.

ص: 94

29. وكيع، محمد بن خلف بن حیان (ت 306 ه)، اخبار القضاء، مراجعة: سعید اللحام، (بيروت 2002 م)، ص 58.

30. المصدر نفسه، ج 2/ ص 140.

31. ابن خیاط، تاریخ خليفة بن خياط، ص151. هو «عبد الله بن فضالة الليثي: ولدت في الجاهلية فعق عني ابي بفرس ...»، انظر: ابن عبد البر، الاستیعاب، ج 3/ ص 962.

32. المصدر نفسه.

33. ابن الكازروني، مختصر التاريخ، ص 77.

34. ابن حبيب، المحبر، ص 377.

35. الجهشیاري، الوزراء والكتاب، ص 23.

36. ابن خیاط، تاریخ خليفة بن خیاط، ص 151.

(*) مالك بن حبيب اليربوعي: «كان صاحب شرطته في الكوفة، ولما قدم امیر المؤمنين عليه السلام الكوفة بعد حرب البصرة يوم الاثنين ...36 ه، صعد المنبر وخطب اهل الكوفة فقال: والله اني لا ارى الهجر واسماع المكروه لهم قليل والله لئن امرتنا لنقتلنهم...»، انظر الاميني اصحاب امير المؤمنين والرواة عنه، ج 2/ ص 50.

(**) «وكان من خاصة أمير المؤمنين وعمره بعده، روى عنه الاشتر ووصيته إلى ابنه محمد ...» انظر: النجاشي، ابو العباس احمد بن علي بن احمد بن العباس (ت 450 ه)، رجال النجاشی، ط 5، (قم المقدسة 1416 ه)، ص 8.

37. ابن الجوزي، المنتظم، ج 3/ ص 407.

38. الدينوري، الاخبار الطوال، ص 156.

39. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 34.

40. المصدر نفسه: ج 9/ 217.

ص: 95

41. الطرطوشي: سراح الملوك، ص 211.

42. الاسكافي، ابو جعفر، المعيار والموازنة، ص 98.

43. انظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 124، المسعودي، مروج الذهب، ج 2/ ص 378.

44. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 16/ ص 130.

45. عبد المقصود، عبد الفتاح، المجموعة الكاملة الإمام علي بن أبي طالب، ج 4/ ص 102.

46. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 11/ ص 70.

47. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 124.

48. ابن عبد البر، الاستیعاب في معرفة الأصحاب، ج 2/ ص 54.

49. العقاد، عبقرية الإمام علي، ص 168-169.

50. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 54.

51. المصدر نفسه: ج 17/ ص 59،

52. انظر: الكيذري، حدائق الحقائق، ص 419، 430.

53. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 59.

54. المصدر نفسه: ج 17/ ص 26.

55. الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، ص 25.

56. المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة أخبار الأئمة الأطهار، ج 72/ ص 345.

57. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 36.

58. المجلسي، بحار الأنوار، ج 72/ ص 345.

59. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج17 /ص 87.

ص: 96

60. المصدر نفسه، ج 15/ ص 165.

61. المصدر نفسه، ج17/ ص 154.

62. الحكيم، حسن عيسى، الإمام علي روح الاسلام الخالد، ص 125.

63. الصدر، محمد الباقر، الأمام علي (عليه السلام) سيرة وجهاد، ص 61.

64. البلاذری، أنساب الأشراف، ج 20، ص 387.

65. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 139.

66. الاسكافي، ابو جعفر، المعيار والموازنة، ص 130.

67. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 18/ ص 41.

68. اليعقوبي، تاریخ، ج 2/ ص 142.

69. التوحيدي، البصائر والذخائر، ج 2، ص 189.

70. الزركلي، اعلام، ج 7، ص 249.

71. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 527.

72. ابن حمدون، التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 98.

73. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 16/ص 127.

74. القندوزي، ينابيع المودة ذوي القربی، ج 1، ص 439.

75. شمس الدين، نظام الحكم والادارة في الاسلام، ص 542.

76. اليعقوبي ، تاریخ، ج 2/ ص 140.

77. أبو يوسف، الخراج، ص 118.

78. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 54.

79. الكذري، حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة، ص 545.

80. جعفر، نوري، فلسفة الحكم عند الامام علي (ع)، ص 55.

81. ابن عبد البر، بهجة المجالس وانس المجالس وشحذ الذاهن والهامس، ج 3، ص 48.

ص: 97

82. حمود، خضیر کاظم، السياسة الادارية في فكر الامام علي (عليه السلام) بين الأصالة والمعاصرة، (بیروت 1999، م)، ص 70.

83. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 74.

84. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 87.

85. القلقشندي، مآثر الأناقة في معالم الخلافة، ج 2، ص 325.

86. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17/ ص 68.

87. مختار الصحاح: ص 540.

88. تاريخ القضاء في الإسلام: ص 9.

89. القضاء في الإسلام: تاريخه ونظامه. ص 5، القضاء في الاسلام، ص 11.

90. القضاء في الإسلام: تاريخه ونظامه. ص 6.

91. القضاء في الإسلام: تاريخه ونظامه. ص 6.

92. القضاء في الإسلام: ص 11.

93. القضاء في الإسلام: ص 12، القضاء في الاسلام: تاريخه ونظامه، ص 8.

94. العيساوي: علاء کامل صالح، النظم الادارية والمالية في عهد الامام علي (عليه السلام)، ص 273.

95. الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 430.

96. ابن ابی الحدید: شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 47.

97. ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 84 - 85.

98. الشيخ المفيد: الامالي، ص 286.

99. ابن ابی الحدید: شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 46.

100. ابن ابی الحدید: شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 46.

101. ابن الاخوة: محمد بن احمد القرشي (ت 729 ه)، معالم القربة في احکام

ص: 98

الحسبة، تحقيق: محمد محمود شعبان وصديق احمد عيسى المطبعي، ( مصر، 1976 م)، ص 14.

102. الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 4، ص 653.

103. لمزيد من التفاصيل انظر: الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 434؛ العسكري، ابو هلال الحسين بن عبد الله بن سهل (من اعلام ق 2 ه)، الأوائل، (بيروت، 1978 م)، ص 143.

104. الشيخ المفيد: الارشاد، ص 155-116؛ الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 436.

105. المتقي الهندي: کنز العمال، ج 5، ص 217.

106. الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 432.

107. الطوسي: الاستبصار، ص 472.

108. الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 432.

109. ابن الاخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 227.

110. الديلمي: ابو الحسن بن محمد (ت 841 ه)، ارشاد القلوب، (بیروت، 1978 م)، ج 27، ص 213.

111. ابن الاخوة: معالم القربة، 227.

112. العيساوي: علاء کامل صالح، النظم المالية والادارية في عهد الامام علي (عليه السلام)، ص 41.

113. بدري: ثروت، النظم الاسلامية، (القاهرة، 1964 م)، ج 1، ص 115.

114. انظر: ابو يعلى، الاحکام السلطانية، ص 66؛ العسكري، الاوائل، ص 143.

ص: 99

ص: 100

الرشد السياسي لدى الحاكم بين الغياب والحضور قراءة في الخطاب العلوي عهد الأشتر إنموذجاً

اشارة

د. محمد عبد الحمزة خميس الديني تربية القادسية / الكلية التربوية فرع القادسية -

ص: 101

ص: 102

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربِّ العالمين، وأتم الصلاة والتسليم على المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمد وآله المصطفين الأخيار، وصحبه المنتجبين الأبرار الذين والوه بإحسان إلى قيام يوم الدين.

الرشد بمفهومه العام إصطلاح يؤميء الى وجود منظمومة فكرية، وسلوكية تكشف عن تحلي الحاكم بالنضج والكياسة بما يجعله مؤهلاً للإدارة والقيادة، ومتمكنا من معالجة الأمور الآنية والمستقبلية، ومنتقلاً بالعباد من حالة التعثر الى حالة الخلاص بما يؤمن لهم العيش الكريم وتوفير الظروف اللازمة السليمة فينتقل بهم الى برَ الأمان، متعديا من الأزمات الى ما يصلح البلاد والعباد بوضع الحلول الكفيلة الناجعة المعربة عن أحقيته لإدارة البلاد.

إن الرشد كمصطلح إذا ما أضيف إليه ما بعده إتضح بحدود ما أضيف إليه کالرشد المالي، والرشد الاجتماعي وهكذا دواليك يتحدد مفهومه بحدود الإضافة، ويتضح المطلب في المقام بإضافة السياسة الى الرشد ليكون الرشد السياسي لدى الحاكم بين الغياب والحضور وأثر ذلك سلباً وإيجاباً، ويتخذ مادته من الخطاب العلوي، وليكون عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر إنموذجاً، سيما وإن هذا العهد المبارك يحدد للوهلة الأولى عمل الحاكم برباعية لا تنفك إحداها عن الأخرى لتشكل منظومة متكاملة تتمثل بالجانب الإقتصادي بجباية خراجها، والجانب الأمني بحفظه،

ص: 103

والجانب الفكري باستصلاح أهلها، ثم التخطيط لإعمار البلاد.

لذا تحدد خطوط البحث المنتظم تحت عنوان الرشد السياسي لدى الحاكم بين الغياب والحضور قراءة في الخطاب العلوي عهد الأشتر إنموذجاً الى محاور ثلاث أولها يحدد مفاهیم مفردات البحث، والثاني يتعلق ببيان الأثر السلبي لغياب الرشد السياسي لدى الحاكم وتحديد مفهوم غيابه، والمحور الثالث يسلط الضوء على تحديد عناصر الرشد السياسي ومقوماته وبيان الأثر الإيجابي لتوفره، فإستعراض للنتائج، وخاتمة للبحث، وثبت بالمصادر.

المحور الأول مفاهيم مفردات البحث

إن من الضروري التعرف على المفردات المكونة للعنوان لإتصالها بتبيان المعنى الإجمالي له، وذلك بالوقوف على المعنى اللغوي والإصطلاحي وبيان التشابك بينهما.

الرشد في اللغة:

تعد الراء والشين والدال - رشد - أصل واحد يدل على إستقامة الطريق(1)، ومنه إصابة وجه الأمر والطريق(2)، ويأتي ويراد منه خلاف الغي، ونقيض الضلال(3) لقوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»(4)، ويأتي بالفتح والضم ولعل الفارق بينهما إن الأول يخص الأمور الأخروية، والثاني أعم فيشتمل على الدنيوية والأخروية(5)، فهو الإهتداء الى أصح الأمور وأسلمها دنيوية كانت أم دينية، وقيل الرشد بمعنى الصلاح وهو إصابة الحق فيقال: أمر بيّن رشده أي صوابه.(6)

ص: 104

إنّ أغلب المعاني التي ذكرت للرشد تدور في إصابة وجه الأمر والحق، وفي الصلاح والهداية لذا عبّر الراغب عنه في أوضح مصاديقه الكاشفة عنه في الجانب المالي(7)، ومن هنا جاء التوسع في صدق معنى الرشد على الصلاح والإصلاح من إستعماله مع المال الى التوسع في الإستعمال الى الدين، فنجد الإمام الشافعي في معرض بيان تحديد رشد اليتيم من عدمه وتسليمه أمواله يقول: (الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة وإصلاح المال، وإنما يعرف إصلاح المال بأن يختبر اليتيم....)(8)، ومثل هذا التوسع في الإستعمال يبدوا صريحاً في عبارة الشيخ الطوسي بقوله في الموارد ذاته: (فإذا بلغ وأونس منه الرشد فإنه يسلم إليه ماله، وإيناس الرشد منه أن يكون مصلحا لماله عدلاً في دينه، فأما إذا كان مصلحاً لماله غيرُ عدل في دينه غير مصلح لماله فأنه لا يدفع إليه ماله...)(9)، وكذا أشار إجمالاً الى أن الرشد هو العقل وإصلاح المال(10)، والمحصلة إن معاني الرشد اللغوية تحوم حول معنى الهداية والصلاح والنضج، وخلاف الغي، الموحية بحسن التصرف وسلامة التوجه.

الرشد في الإصطلاح

لا يبعد إستعماله عند اهل الفن والصناعة عن معناه اللغوي، فهو عندهم نقیض الغي الدال على إصابة الخير، ومنه الإرشاد بمعنى الدلالة على وجه الإصابة للخير(11)، وبه فسر الطبرسي قوله تعالى: «لَعَلَّهُم يَرشدُون» بإصابة الحق والهداية إليه(12)، وقريب منه عند الثعالبي في الكشف والبيان(13)، فهو أقرب ما يكون إصطلاحاً الى مجموع الإمكانات المتوفرة في الفرد الكاشفة عن صلاحه وأهليته لأدارة الأمور وسلامة تصرفه ضمن الأطر السليمة عند العقلاء، إنه قمة الوعي، والنضج المانع من الانجرار الى الفساد، وجميل تعريف الراغب الأصفهاني له سيما إذا كان أعم من وصفه المالي الى الوصف الأعم فيقول فيه بأنه: (ملكة نفسانية تقتضي إصلاح

ص: 105

المال وتمنع من إفساده، وصرفه في غير الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء)(14).

الرشد شرعاً

ونرصد فيه أبرز المعاني التي استعملها النص القرآني للفظ الرشد لأن التعرّف عليها كفيل بالتعرّف على المعاني ذاتها التي يستعملها الإمام أمير المؤمنين بوصفه العارف بالنص الدال عليه.

لقد ورد إستعمال الرشد في القرآن الكريم مقابل الغي ونقيضه ومنه قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(15)، أي لعلهم يصيبون الحق ويهتدوا إليه(16)، وكذلك إستعمل بمعنى الإيمان في مقابل الكفر ومنه قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(17)، أي قد تميّز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة والآيات الدالة عقلاً وسمعاً على ذلك(18)، ولعل المراد في الآية هو المصداق الأبرز من اللفظ وإنصراف المعنى إليه بدلالة السياق، وعليه نجد الفخر الرازي يذكر ألفاظاً متقابلة لبيان الرشد في المقام بأنه الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهدى من الضلالة بكثرة الحجج أي تميّز الرشد من الغي(19)، كذلك إستعمل الرشد قرآنياً في الجانب المالي ومنه قوله تعالى «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا»(20)، أي إبتلوهم وإختبروهم برشدهم المالي بحسن التصرف ووضع الأموال في محلها(21)، ومثلما إستعمل في الرشد المالي ورد إستعماله في الرشد الإداري کمتلازمتين بين الإختبار المالي والإداري فهما کاشفان عن صلاح الإدارة المالية ومنه قوله تعالى: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ

ص: 106

فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا» وكذلك ورد إستعماله في الرشد الفكری كقوله تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ»

إن القاسم المشترك في المعاني السالفة الذكر كما يبدوا من ظاهر الإستعمال إنها تدور في حسن التصرف، ووضع الأمور في محلها ببعديها المادي والمعنوي، الدنيوي والأخروي والذي يمنع من الإفساد، والصرف في الأوجه النافعة المتطابقة مع مراد العقلاء وأفعالهم.

السياسة في اللغة

تدور معاني السياسة في تدبير الأمور، وحسن رعايتها وإصلاحها، فقال فيها إبن منظور إن السياسة: (تدبير شؤون الدولة، فالساسة هم قادة الأمم ومدبروا شؤونها العامة)(24)، وقال في مورد آخر بأنها - السياسة -: (القيام على الشيء بما يصلحه(25).

السياسة في الإصطلاح

لم تبعد عبارات أهل الفن والإختصاص في تعريف لفظ السياسة عن المعنى اللغوي، إذ تدور في معاني التدبير والقيام بالأعباء على وجهها السليم بما ينجزه ويصلحه من حيث أنها (رأس مال السلطان، وعليها التعويل في حقن الدماء وحفظ الأموال وتحصين الفروج ومنع الشرور وقمع الدعار والمفسدين والمنع من التظالم المؤدي الى الفتنة والأضطراب)(26)، وهي (حفظ الشيء بما محوطه من غيره، فسياسة الرعية حفظ نظامها بقوة الرأي والأخذ بالحدود)(27)، فهي تنظيم العلاقة بين

ص: 107

الحاكم والمحكوم ضمن الأطر السليمة بما يعود فيها النفع على البلاد والعباد، وتنظيم العلاقة بين الأمة والأمم الأخرى بما يحفظ حقوقها ويجلب کرامتها.

إن المتتبع لكلمات أئمة الهدى (عليهم السلام) لا سيما الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يجد بوضوح إستعمالُه للفظ السياسة بمعاني الحفظ والرعاية ومداراة الأمر منها قوله (عليه السلام): (سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وأدفعوا أمواج البلاء بالدعاء)(28)، ومنها: (سياسة الدين بحسن اليقين(29)، ومنها: سياسة الدين ثلاث: رقة في حزم، وإستقصاء في عدل، وإفضال في قصد)(30)، ومنها: (سياسة الدين حسن الورع واليقين)(31)، ومنها: (حسن السياسة يستديم الرياسة)(32)، ومنها: (من حسنت سياسته دامت ریاسته)، ومنها: (حسن التدبير وتجنب التبذير من حسن السياسة(34) واشباهها بالنص والمعنى كثير يفضي الى المعاني ذاتها.

الحاكم:

ومرادنا منه الفرد الذي يتمتع بمساحة من الصلاحيات التي تؤهله لتطبيق القانون بوصفه الفرد الذي يحضى بمسؤلية فرعية أو رئيسية من الحكم والإدارة.

فنتهي مما سبق الى إجمالي ما إستبطنه عنوان البحث أنه النضج والقدرات الكافية والكفيلة المتوفر في جملة من الأفراد وآلياتهم في عملية إدارة شؤون البلاد والعباد وتسييس حوائجهم لما فيه مصالحهم، وحفظ كرامتهم وحقوقهم والتجاوز بهم لكل الأزمات وعبور العقبات، فيكون حينها الرشد السياسي منظومة تتفاعل فيها عناصرها وآلياتها من أجل السمو بمن يسيسوا أمورهم في شتى المجالات، وبتجاوز الأزمات والإبتعاد عن الإخفاق، وخلق أجواء النجاح الضامن لرقي البلاد والعباد، ومن هنا تبر أهمية حضور الرشد السياسي وخطورة غيابه.

ص: 108

المحور الثاني غياب الرشد السياسي بين التشخيص وأثاره السلبية على المحكومين.

إن توفّر الرشد السياسي لدى الحاكم ومجمل العاملين معه ينبيء عن نضج في القرار الذي يتخذونه، ويكتسب قوة، کما يكون له أثره الإيجابي على الأفراد، كما يعطي الحاكم قدرة على تجاوز الأزمات، وحلحلة الأمور المتشابكة، ويمنحه القدرة على رصد الأخطار ووضع الحلول الناجعة، مع إعطاء مساحة كبيرة لذوي المعرفة والحل والعقد بإبداء آرائهم ومشاركتهم الفاعلة بالإنتفاع من قدراتهم وقابلياتهم، وفسح مساحة واسعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي إن توفر الرشد السياسي فيها ساهم في إيجاد علاقة كبيرة حسنة بين الحاكم والمحكوم، وإن غاب لم تظهر إلاّ التشنجات والتقاطعات في تلك العلاقة مما يؤدي توتر في تلك العلاقات قد يفضي الى ما لا تحمد عقباه.

إن من الضروري تحديد المؤشرات التي تساعد وتعين على تحديد غياب الرشد السياسي كي يتضح بأن غيابه عقبة كؤود لا ينبغي إلاّ تجاوزها لخطورة ذلك الغياب ومن أبرزها:

المؤشر الأول:

إن من أبرز المؤشرات على غياب الرشد هو إخفاء المسؤول حقيقة الفشل وعدم إعترافه بوجود مشكلة، بل يصر على عدم وجودها ويعزز ذلك بتعداد إنجازات من نسج الخيال أو لا يليق أن تذكر لضآلتها من أجل التغطية على مساحة التباطؤ في إنجاز ما كان مأمولا منه.

ص: 109

إن النص القرآني يضع أيدينا على قضية مهمة تتلخص بضرورة تحديد المشكلة وضرورة تطويقها وتحجيمها بالمعالجة بطرحها و طرح علاجها وعدم السكوت عليها أو بذكر الإنجازات بغية تغطية ذلك الفشل، فنلاحظ في سورة التوبة قوله تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ»(35) كيف يستعرض المولى تبارك وتعالى كثرة المسلمين المتجهين لحرب المشركين يوم حنين وتلبّسهم بحالة العجب مع كثرتهم وكيفية خسارتهم المعركة باديء ذي بدأ حتى ولّو الأدبار منهزمين إلاّ قلة مؤمنة، فلم نجد النص يغض الطرف عن هذه المشكلة بحجة إنتصارات المسلمين السابقة بل طرحها ليعالجها ويسعى لتطويقها حتى لا تتكرر ثانية، فهي رسالة يوجهها النص الكريم تعرب عن حضور الرشد لدى القائد، وخطورة غيابة(36)، وضرورة معالجة المشكلة ووضع الحلول الناجعة لا بذكر الإنجازات التي لا تغني في المقام مع فرض صحتها في المورد ووقوعها على وجه الحقيقة.

إن إنموذجاً آخراً يسوقه النص الكريم يدللنا على ضرورة حضور الرشد وخطورة غيابه حين تطرأ المشكلة، فملك مصر الفرعون حين إستشعر عن طريق الرؤيا ضخامة ما رآه وأصر على التعرف على تأویلٍ سليمٍ يتطابق مع الحقيقة حتى وفقه الله وألهمه الصواب بالتوصل إلى ما كان يريد عن طريق نبي الله يوسف (عليه السلام)، ثم لم يكتف بالتعرف على التأويل بل سلَّم الأمر وزمامه إلى نبي الله يوسف (عليه السلام) کي يحلّ هذه الأزمة موجهاً رسالة الى كلّ حاکم بضرورة تحلية بالنضج الإداري والسياسي، فكما تحلى الملك المصري بالرشد السياسي وخلّص الأمة من الأشكالات وأنقذهم من الهلكة، حريّ بمن يريد بلاده تأمن وتصل الى بر الأمان

ص: 110

أن يتخذ من هذا الأمر وهذا النهج مسلكاً.

إن النهج العلوي الذي خطه امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) کفیل بمن يرصده يجد ما نحن بصدده واضحاً جلياً، فيكتب الأمام (عليه السلام) الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري يؤنبه الى سرعة إستجابته الى وليمة دعل إليها من قبل بعض فتية أهل البصرة، وكان بالإمكان التستر عليه ومحاسبته بالسر، إلاّ أ، الأمر في نظر الإمام (عليه السلام) يستوجب الإظهار وعدم المهادة، بل يستوجب السرعة في المعالجة وكبح الجماح فيقول مخاطباً واليه: (أما بعد یا بن حنیف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه. ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به، ويستضئ بنور علمه)(37)، إنه أمر يدوي آناء الليل وأطراف النهار ومنهج يتلى في كل زمان، ورشد لابد وأن يكون حاضراً عند كل من يريد التصدى لإدارة البلاد وتسييس شؤون العباد.

إن عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر يشهد لما نحن بصدده حيث يقول (عليه السلام): (ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور. وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فأملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيها أحبت أو كرهت...)(38).

ص: 111

المؤشر الثاني

إن المؤشر الثاني لغياب الرشد السياسي لدى الحاكم يظهر بإنتاجه الأزمات التي يحاول جاهداً إشغال الرأي العام بها، وكأنه لا يعلو له صوت أو بقاء إلاّ بتلك الأزمات، وخلقه للصراعات، وتفعيله للمآزق، وتشديده على خلق الإرباكات في السياسة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية بحجة ضرورة إشغال العامة بالهموم الضيقة، وعدم التوجه الى الأمور العامة، بينما الحاكم الذي يمتلك رشداً سياسياً وأفقاً واسعاً ورؤية سليمة يسارع الى إستحواذ الأزمة وإطلاق الحلول التي تطوقها، فيطرح لها عدّة حلول إستباقية لا تسمح بإنتشارها، بل تقيدها كفعل نبي الله يوسف (عليه السلام) حين إستحوذ على الأزمة الاقتصادية في مصر ببركة ما يحمله من رؤية سليمة، وتقنية وآليات تحديد الأزمة وحضور للرشد السياسي.

وكفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما أشعل معاوية فتيل أزمة سياسية في مصر بإغتياله عامل الإمام محمد بن أبي بكر على يد شرذمة من المنتفعين، فنظر (عليه السلام) الى أهمية المصر ومايمكن أن يحدثه إغتيال محمد بن أبي بكر من أزمة في البلد، فعمد (عليه السلام) الى تطويق تلك الأزمة بإختيار كفاءة عسكرية وإدارية أثبتت التجارب قدرته على حسن القيادة وحسن الطاعة وإمتلاكه لآليات التغيير السليمة، فبادر (عليه السلام) الى إرسال المغوار مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة بن ربيعة النخعي المعروف بالأشتر، بمعيته عهده المبارك، معلناً عن رشد سیاسي يتحلى به الإمام (عليه السلام) ونظر ثاقب الى ضرورة تطويق الأزمة وتضييق رقعتها بإرسال الأكفأ بغية إصلاح ما أفسده القوم، محدداً له معالم إصلاح ذلك الفساد بقوله (عليه السلام): (ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في إستجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عبارة أخرب البلاد

ص: 112

وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلا ...)(39).

ومن نماذج تطويق الأزمة وإنهائها لا السعي في إنتاجها موقف الامام يوم إستلم الخلافة الظاهرية، إذ عمد الى التصريح بسعيه الى إرجاع الاموال التي إختلست والتي تصرف بها القوم الى بيت مال المسلمين، وسعيه في تطهير جهاز الحكم بإقالة المفسدين من الولاة، وكذلك النظر بشأن المعارضين السياسين وحفظ حقوقهم إن أبَو الرضوخ لحكم الامام وبيعته ما لم يحدثوا شرخاً في الأمة أو يعيثوا في الارض فساداً، وقد صرّح (عليه السلام) في غير موضع الى بعض عماله بقوله: (وإخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك، وألن لهم جنابك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك.....)(40)، ومثله في عهده الى مالك الأشتر (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم)(41)، ومن نماذج تطويق الأزمة ومعالجتها لا إنتاجها فعله (عليه السلام) حين بلغه عن عين سلطها لمراقبة عمل الولاة والحكام، فقد بلغه أن بن هرمة قد خا سوق الأهواز فکتب (عليه السلام) الى عامله (إذا قرأت كتابي فنح ابن هرمة عن السوق وأوقفه للناس واسجنه وناد عليه، واكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند الله، وأعزلك أخبث عزلة - وأعيذك بالله منه - فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن، واضربه خمسة وثلاثين سوطا، وطف به إلى الأسواق فمن أتی علیه بشاهد فحلفه مع شاهده وادفع

ص: 113

إليه من مكسبه ما شهد به عليه ومر به إلى السجن مهانا مقبوحا ومنبوحا، واحزم رجليه بحزام، وأخرجه وقت الصلاة ولا تحل بينه وبين من يأتيه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش...)(42)، والنماذج على وأد الأزمات في مهدها لا السعي في إنتاجها كثيرة وفيها أشير إليه كفاية.

المؤشر الثالث

إن الحراك الذي يُحدثه الواعون المهتمون بشأن أبناء جلدتهم لا يُقلق الحاكم المتمتع بالرشد السياسي لأنه يعي أن حراكهم في حقيقته حراك تقويمي، وإن لم يكن تقويمياً كأن يكون لديهم شبهة فهم أحوج ما يكونوا لرفع هذه الشبهة، لا أن يعنفوا ويقمع حراكهم وتکمم أفواههم، ويوصموا بأنواع التهم وتلصق بهم الأوصاف السيئة.

إنّ الحاكم الرشيد المتمتع بالحنكة السياسية السليمة أسرع من غيره في إحتواء الأمور ومعالجتها، وحينها تظهر ضرورة حضور الرشد السياسي لدى الحاكم من حيث قدرته وقابليته على التعايش في ظل السلم الأهلي.

إن من نماذج رشد الحاكم وتفاعله مع حراك الشعوب وإحتوائه وتطويق تلك الأزمة موقف الإمام علي (عليه السلام) من الخريت بن راشد الناجي الذي دخل على الامام بعد مشكلة التحكيم في ثلاثين من أصحابه يمشي بينهم حتى قام بين يديه فقال: (لا والله لا أطيع أمرك، ولا أصلي خلفك، وأني غداً مفارق لك، فقال (عليه السلام): ثكلتك أمك، إذا تنقض عهدك، وتعصي ربك ولا تضر إلاّ نفسك أخبرني لم تفعل ذلك...)(43)، إن الامام يَجِدّ في تطويق الأزمة ويعقد حواراً معهم لبيان ما أشكل عند القوم ويدعوهم الى مؤتمر للإجابة على ما إختلط من الأمر عندهم إلاّ

ص: 114

أنهم نقضوا ما أُبرم ولم يحضروا في الموعد المحدد لهم حتى ذمهم الإمام بعد إستنفاذ الطرق المتعددة معهم فقال فيهم: (بعداً هم کما بعت ثمود، أما لو أشرعت الأسنة إليهم، وصبت السيوف على هاماتهم، لقد ندموا على ما كان منهم...)(44)، وغير بعيد من هذا موقف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من طلحة والزبير ومن لف لفهما.

إن الحاكم المتصف بالرشد السياسي عليه أن يميّز بين حراك الشعوب القائم على أسس غير سليمة تريد نشر الفوضى بين العباد وتهلك البلاد، وبين التي تبغي الإصلاح وتقصد الخير بالاحتكام الى المنهج السليم المقنن بقانون يكشف عن سلامة هذا التحرك ومشروعية مطالبهم بخلاف الحراك المتجه للإصلاح وعقلانية مطالبه، فالسياسي الراشد هو القادر على التمييز بين الحراكين القادر على إحتوائهما بما يناسب كلّ منهما، حيث يخلق في المجتمع حالة القناعة ويصنع الثقة في الحاكم إذ يُلتمس منه الصدق والجدية في التعامل مع الأزمات إجمالاً والقدرة على إيجاد الحلول بنشر الأمن والأمان.

إن قراءة متأنية لخطاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر يظهر منها وضعه الخطة مستقبلية إحترازية تمكنه من التعامل مع أمثال هذه الأزمات فيقول (عليه السلام): (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنی بك

ص: 115

عن عفوه ورحمته. ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة. ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير ...)(45)، وكم بين هذا الإستشراف المستقبلي عند الإمام (عليه السلام) وبين ما يختزنه معاویه بوصفه حاکم حيث يروى(46) أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت عليه بعد شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين، وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف، هذا بشر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عز و منعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا کفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:

صلى الاله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا *** فصار بالحق والایمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة؟ قالت: هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف، وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي و عليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلکم خیر لکم إن کنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي

ص: 116

هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام». ثم دفع الرقعة إلي، فوالله ما ختمها بطين ولا خزنها، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا، فقال معاوية: اكتبوا لها كما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.

إنها حقيقة ناصعة تكشف عن غياب الرشد السياسي عند معاوية بإختلاقه الأزمات التي يعتاش منها ويُشغل الناس فيها ويكمم أفواه معارضيه.

المحور الثالث حضور الرشد السياسي وآلياته

إنّ الرشد السياسي في حقيقته نتاج تفاعل عدّة مكونات في بناء مستوى معرفي نقدي عند الفرد أو الجماعة يؤهلها لتجاوز الأزمات والإبتعاد عن أسباب الإخفاق في المجالين الاجتماعي والسياسي(47).

إن الرشد لفظ يصح إطلاقه على الحاكم والفرد والمجتمع على حد سواء، فإذا توفرت في الحاكم أو الفرد أو المجتمع مميزات الرشد صح إطلاقه عليها حينئذ فيقال حاکم رشید وفرد رشید و مجتمع رشيد وذلك برصد تصرفاته الحسنة في ضبط المواقف ووضع الأمور في محلها، فحينها تكون ناضجة متميزة بالرجحان، ومن أبرز المؤشرات على وجود الرشد السياسي ترصد من خلال:

1- النزوع العقلي وذلك بإستباقه للحدث أو التعايش مع تفاصيله ولملمة أطرافه بما يخدم الصالح العام، وتغليب المصالح العليا التي تفصح حقيقة عن حضور الرشد السياسي لدى الحاكم، ونرصد أمثال هذا الرشد في أمثلة متعددة منها ترجيح المصلحة وإيثار حفظ النظام ودفع الخطر وتغليبه الى وقت تتضح فيه الأمور وتنكشف فيه

ص: 117

الحقائق، كفعل أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ماله من الأدلة النقلية والعقلية إلاّ أنه آثر تغليب الصالح العام الذي به تحفظ معالم الإسلام فيسجل التاريخ لنا موقف الإمام علي (عليه السلام) من أحداث ما بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) و کیف غلّب مصلحة الاسلام، والمحافظة عليه فيقول (عليه السلام): (أما والله لقد تقمصها فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحي. ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير. فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها کشحا. وطفقت أرتأي بين أن أصول بید جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير. ويشيب فيها الصغير. ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجی فصبرت وفي العين قذي. وفي الحلق شجا أری تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبیله ....)(48)، ومثله ترکه (عليه السلام) لفدك بيد من صادرها مسجلاً بشاعة ما إرتكبوه من غصب للحقوق ومصادرة لنصوص القرآن فيقول (عليه السلام): (بلي كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لوزيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)(49).

2- الإيجابية ويُتعرف عليها من خلال الابتعاد عن السلوك التخريبي، والسعي في تكوين شخصية منتجة فعالة تتفاعل مع الآخرين متمتعة بروح الغيرة على الآخرين فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهد لمالك منبهاً له على ذلك: (إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبّه في جبروته فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل محتال)(50)، فإن الامام یزرع في

ص: 118

نفس الوالي خوفا من الله تعالى ثم ينبهه الضرورة العمل المنتج والابتعاد عن السلوك التخريبي ثم يقول (عليه السلام): (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك هوى فيه من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمة دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله يسمع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة...)(51)، إن التخويف من عاقبة الظلم إسلوب تربوي ساقه الامام في المقام ووظفه في سياق عهده المبارك.

3- الإنفتاح على الاخرين من حيث كونه سمة عالية المضمون تُكسب المتحلي بها من الحاکمین رشداً تستحق أن يوصف به.

إن فتح قنوات للحوار مع الآخرين ضرورة للتواصل مع أفراد المجتمع وخلق طرق للتواصل بين القائد والقاعدة، وترصد مثل هذه الدعوى في عهد الإمام (عليه السلام) إذ يقول: (...فلا تطولن احتجابك عن رعيتك. فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور. والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ویشاب الحق بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على القول سمات يعرف بها الصدق من الكذب، فتحصن من الادخال في الحقوق بلين الحجاب فإننا أنت أحد رجلين: إما امرء سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك؟ من واجب حق تعطيه؟ أو خلق کریم تسديه؟، وإما مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك

ص: 119

مالا مؤونة عليك فيه من شكاية مظلمة أو طلب إنصاف. فانتفع بما وصفت لك واقتصر فيه على حظك ورشدك إن شاء الله ...)(52).

4- الإلتزام المقنن المازج بين الحلم والحزم فعن أبي الحسن موسی بن جعفر (عليه السلام) قال: (يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل، وما تم عقل امرء حتى يكون فيه خصال شتي: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه، وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر)(53).

إن صفات تضمنها خطاب الإمام تكشف عن حزم وعطف کررها في عهده، وليست بالجديده على خطابات أهل البيت فقد روي عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (لا تصلح الامامة الاّ لرجل في ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم، وفي رواية أخرى حتى يكون للرعية كاأب الرحيم)(54)، ومثله في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) (يا علي ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل، ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجاهل)(55)، وترجمها الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك حينما يقول: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل،

ص: 120

ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم)(57).

5- التوجه المستمر نحو الكمال، فالحاكم الرشيد لا يقف عند حد بعينه من صور الكمال بل يستمر في النزوع نحوه، فنجد في خطابات الامام (عليه السلام) تحديداً سایکلوجيا يحدد فيه معالم الشخصية الرشيدة الحاكمة فيقول (عليه السلام) في جملة من خطاباته محدداً أوصاف الحاكم القائد الرشيد، فمن تتوافر فيه هذه الصفات لايمكن أن يترقى إلاّ بعد التخلص منها ليقدر على الإدارة والقيادة: (وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة)(57).

6- الإستعانة بالآليات المكملة والمعينة على أداء عمله بإشراك أصحاب الرأي الحصيف والمشورة الحسنة من الصادقين وأهل الثقة فيقول (عليه السلام): (وإلصق بأهل الورع، والصدق ثم رضهم على ألاّ يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة)(58)، وقال في موضع آخر مجملاً أهم الشروط المحددة للرشد السياسي لدى الحاكم بقوله: (وأعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طویلا، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده)(59)، ثم يؤكد

ص: 121

على ضرورة تعرق الحاكم على السنن الحميد وعد التجاوز عليها لأن بنقضها فتح الباب لايصح فتحه فيقول (عليه السلام): (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية. لا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن، فيكون الاجر لمن سنها، والوزر عليك با نقضت منها)(60)، ثم يحدد العقول الواجب الإستإناس بها بوصفهم مستشارين يأنس بآرائهم ويعينوه على ما هو قائم به فيقول (عليه السلام): (وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك)(61)، وكما أوصى عامله بالإهتمام بوجهاء الناس وضرورة الإهتمام بذوي المروءات لما في ذلك تعزيز وتقويه للصلات بين عامة الناس وما ينطوي عليه ذلك من بعد إستراتيجي يضمن هدوء المجتمع وإستقراره فنراه يوميء الى طبقات المجتمع وحسن التعامل معهم بشتی تصانيفهم.

الخلاصة من كل ما تقدم يتجلى بوضوح أهمية تكون الرشد السياسي لدى الحاكم، وإن غيابه يجر على الأمة الويلات ويكسبها إنحداراً ومزالق صعبة قد يستعصي في بعض الأحيان معالجتها.

ص: 122

المصادر

القرآن الكريم

1- الأم: محمد بن إدريس الشافعي، ط دار الفكر للطباعة، ط 1، 1400 ه

2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ناصر مکارم الشيرازي، ط: مدرسة الامام علي بن أبي طالب، 1412 ه

3- أصول المحاضرات: کامل الهاشمي، مؤسسة أم القرى، 1425 ه.

4- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: محمد باقر المجلسي، تح: محمد الباقر البهبودي ط: 1403، 3 ه، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

5- تاج العروس من جواهر القاموس: محمد بن مرتضى الحسيني الزبيدي، تح: علي شيري، دار الفکر بیروت، ط: 1414 ه.

6- التبيان في تفسير القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار إحياء التراث العربي.

7- التحرير والتنوير: محمد بن طاهر بن عاشور، بلا طبعة.

8- تحف العقول: ابن شعبة الحراني، تصحیح و تعليق: علي أكبر الغفاري ط 2 1404 ه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

9- الخصال: الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، تصحیح علي اکبر غفاري، 1403 ه، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم

10- تفسير المراغي: احمد بن مصطفی، دار إحياء التراث العربي

ص: 123

11- جامع البيان في تفسير القرآن: ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار المعرفة 1412 ه.

12- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، الناشر مكتبة آية الله المرعشي، 1404 ه.

13- روح المعاني: محمود الآلوسي، دار الكتب العلمية، 1415 ه

14- شرح رسالة الحقوق: حسن السيد علي القبانجي، ط 2، 1406 ه، مؤسسة إسماعيليان

15- شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، مصادر تح: محمد أبو الفضل إبراهیم دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي مؤسسة مطبوعاتي إسماعیلیان

16- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي، ط: دار الحديث ط 1

17- الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري، تح: مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، 1412 ه.

18- الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، تعليق علي أكبر غفاري، دار الكتب الاسلامية، ط 3

19- الكشف والبيان: أحمد بن ابراهيم الثعالبي، دار احیاء التراث العربي، 1422 ه.

20- لسان العرب: جمال الدين محمد بن مکرم، نشر أدب الحوزة، قم، ط: 1405 ه.

21- المبسوط في فقه الإمامية: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تح: محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية.

22- مجمع البحرين: فخر الدين الطريحي، تح: أحمد الحسيني مكتب النشر الثقافي الإسلامي ط 1408 ه.

23- مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، منشورات

ص: 124

ناصر خسرو.

24- معجم مقاییس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریا، تح: عبد السلام محمد هارون، ط دار الفكر 1979 م

25- مفاتح الغيب: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي، 1420 ه

26- مفردات ألفاظ القرآن الكريم: الراغب الأصفهاني، تح: صفوان عدنان عوادي، ط 2، 1427 ه، الناشر طليعة النور.

27- میزان الحكمة: محمد الريشهري، دار الحديث، ط 1 التنقيح الثاني 1416 ه

28- النهاية في غريب الحديث: بن الأثير مؤسسة إسماعیلیان، ط 1346 ه ش

29- نهج البلاغة: شرح محمد عبدة، ط دار الذخائر

30- نهج السعادة: محمد باقر المحمودي ط 1، 1387 - 1998 م، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، مؤسسة التضامن الفكري - بيروت،

31- وسائل الشيعة: محمد بن الحسن الحر العاملي، ط: الإسلامية

ص: 125

الهوامش

1. ظ: معجم مقاییس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریا، تح: عبد السلام محمد هارون، ط دار الفكر 1979 م، 2/ 398

2. ظ: لسان العرب: جمال الدين محمد بن مکرم، نشر أدب الحوزة، قم، ط: 1405 ه، 3/ 175، وظ: تاج العروس من جواهر القاموس: محمد بن مرتضى الحسيني الزبيدي، تح: علي شيري، دار الفکر بیروت، ط: 1414 ه، 4 / 453.

3. ظ: لسان العرب: بن منظور، 3/ 175، وظ: معجم مقاییس اللغة: بن فارس 2/ 398.

4. البقرة: 256.

5. ظ: تاج العروس: الزبيدي 4/ 453، ظ: الفروق اللغوية: أبو هلال العسكري، تح: مؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، 1412 ه، ص 256.

6. ظ: مجمع البحرين: فخر الدين الطريحي، تح: أحمد الحسيني مكتب النشر الثقافي الإسلامي ط 1408 ه، 2/ 180.

7. ظ: مفردات ألفاظ القرآن الكريم: الراغب الأصفهاني، تح: صفوان عدنان عوادي، ط 2، 1427 ه، الناشر طليعة النور، ص 196.

8. الأم: محمد بن إدريس الشافعي، ط دار الفكر للطباعة، ط 1، 1400 ه، 3/ 22.

9. المبسوط في فقه الإمامية: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تح: محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية، 2/ 284.

10. ظ: التبيان في تفسير القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار إحياء التراث العربي، 2/ 131.

ص: 126

11. ظ: التبيان: الطوسي، 2/ 131

12. ظ: مجمع البيان في تفسير القرآن: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، منشورات ناصر خسرو 1413 ه، 2/ 501.

13. ظ: الكشف والبيان: أحمد بن ابراهيم الثعالبي، دار احیاء التراث العربي، 1422 ه، 2/ 75.

14. مفردات ألفاظ القرآن الكريم: الراغب الأصفهاني، ص 196.

15. البقرة: 186.

16. ظ: جامع البيان في تفسير القرآن: ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار المعرفة، 1412 ه، وظ: الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، الناشر مكتبة آية الله المرعشي، 1404 ه، 1/ 197.

17. البقرة: 256.

18. ظ: مجمع البيان: الطبرسي 2/ 631.

19. ظ: مفاتح الغيب: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، دار إحياء التراث العربي، 1420 ه، 7/ 15.

20. النساء: 6.

21. ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ناصر مکارم الشيرازي، ط: مدرسة الامام علي بن أبي طالب، 1412 ه، 3/ 110.

22. النساء: 5.

23. الأعراف: 146.

24. لسان العرب: إبن منظور، 6 / 107.

25. لسان العرب: بن منظور، ط أدب الحوزة، 6/ 108، و ظ: تاج العروس: الزبيدي 8/ 322، وظ: النهاية في غريب الحديث: بن الأثير مؤسسة إسماعیلیان

ص: 127

، ط 136 ه ش 2/ 421.

26. شرح رسالة الحقوق: حسن السيد علي القبانجي، ط 2، 1406 ه، مؤسسة إسماعيليان، ص 389.

27. نهج البلاغة: شرح محمد عبدة، ط دار الذخائر، 4 / 35.

28. نهج البلاغة: محمد عبدة، 4/ 35، و ؟ وسائل الشيعة: محمد بن الحسن الحر العاملي، ط: الإسلامية 6/ 7.

29. عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي، ط: دار الحديث ط 1، ص 284.

30. عيون الحكم: الواسطي، ص 284.

31. میزان الحكمة: محمد الريشهري، دار الحديث، ط 1 التنقيح الثاني 1416 ه، 2/ 1384.

32. میزان الحكمة: الريشهري، 2/ 1384.

33. میزان الحكمة: الريشهري، 2/ 1384.

34. میزان الحكمة: الريشهري، 2/ 1384.

35. التوبة: 25.

36. ظ: تفاصيل الحادثة وما يمكن الأفادة منها: تفسير التحرير والتنوير: محمد بن طاهر بن عاشور، بلا طبعة 10/ 58، وظ: تفسير المراغي: احمد بن مصطفی، دار إحياء التراث العربي 10/ 86 وما بعدها، وظ: روح المعاني: محمود الآلوسي، دار الکتب العلمية، 1415 ه 5/ 266.

37. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، مصادر تح: محمد أبو الفضل إبراهیم دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي مؤسسة مطبوعاتي إسماعیلیان، 16/ 205.

ص: 128

38. نهج البلاغة: محمد عبده 3/ 83 - 84.

39. نهج البلاغة: محمد عبدة، 2/ 106.

40. نهج البلاغة: محمد عبدة، 2/ 10.

41. نهج البلاغة - بن أبي الحديد، 17/ 32

42. نهج السعادة: محمد باقر المحمودي ط 1، 1387 - 1968 م، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، مؤسسة التضامن الفكري - بيروت، 5/ 34

43. نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 3/ 128.

44. نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 10/ 74.

45. نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 32.

46. ظ: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: محمد باقر المجلسي، تح: محمد الباقر البهبودي ط: 3، 1403 ه، دار إحياء التراث العربي، بيروت 41/ 119 - 120

47. ظ: أصول المحاضرات: کامل الهاشمي، مؤسسة أم القرى، 1425 ه، ص 177.

48. نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع): محمد عبدة 1/ 30 - 32.

49. نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع): محمد عبدة 3/ 70 - 72.

50. نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 33.

51. نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 34.

52. تحف العقول: ابن شعبة الحراني، تصحیح و تعلیق: علي أكبر الغفاري ط 2 1404 ه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة ص 144.

53. الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، تعليق علي أكبر غفاري، دار الكتب الاسلامية، ط 3، 1/ 18

ص: 129

54. الكافي: الكليني، 1/ 407.

55. الخصال: الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، تصحیح علي اکبر غفاري، 1403 ه، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، ص 125.

56. نهج البلاغة: محمد عبدة، 3/ 84.

57. نهج البلاغة: محمد عبدة، 2/ 14.

58. شرح نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 44.

59. شرح نهج البلاغة: بن ابي الحديد، 17/ 47.

60. شرح نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 47.

61. شرح نهج البلاغة: بن أبي الحديد، 17/ 47.

ص: 130

الرؤية السياسية عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قراءة في عهده الى مالك الاشتر

اشارة

أ. د. شاكر مجيد كاظم قسم التاريخ / كلية الاداب / جامعة البصرة / العراق /

ص: 131

ص: 132

المقدمة

يتناول البحث الدستور الذي وضعه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وابراز الفكر القانوني والسياسي له في حكم الدولة الاسلامية وذلك من خلال العهد، او الرسالة، الذي كتبه الى مالك بن الحارث الاشتر، عندما ولاه على مصر سنة 38 هجرية / 658 ميلادية، وهو اطول عهد كتبه الامام علي واجمعه للمحاسن، وقد ضم ما بين دفتيه على جميع ما تحتاج اليه السلطة أياً كان مسماها والي، عامل، أمير، حاكم، رئيس دولة، في ادارة الحكم في جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية والعسكرية....، ويشير البحث الى ان الامام علي (عليه السلام) يُعد اول من دعى الى الفصل مابين السلطات الثلاث التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، واقرار حقوق الانسان، علاوةً على ذلك فثمة قضية مهمة اشار اليها عهد، (دستور) امير المؤمنين علي عليه السلام وتتناولها الدراسة الا وهي انه وضع القواعد الدستورية العامة في التعامل مع جميع ابناء المجتمع على حد سواء قوامها الرحمة والشفقة، ووفق مبدأ العدل والمساوات، وعلى اساس الحقوق والواجبات، وليس على اساس الدين او المعتقد او العرق او الجنس بمعنى ان يكون التعامل معهم على ما يعرف اليوم حسب المفهوم الساسي ب،، حق المواطنة،، حيث يقول في عهده لمالك واعلم بان الناس (صنفان اما أخ لك في الدين، واما نظير لك في الخَلق).

ويتناول البحث ما دعى اليه الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر عندما ولاه على مصر الى تشكيل النظام اللامركزي، وآلية اختيار الموظفين من ذوي المناصب العالية ممن يتميزون بالكفاءة، والمهنية، والعفة، وحسن

ص: 133

السلوك، على ان يجرى لهم اختبار لمعرفة مدى صلاحيتهم والتعرف على مؤهلاتهم الشخصية.

ويشير البحث الى العلاقة ما بين المركز والاقليم والتي نظمها الامام علي عليه السلام في عهده المالك الاشتر والتي تؤكد على ان الثروات الوطنية ملكاً عاماً لجميع ابناء المجتمع، والتطرق الى ما اورد العهد من طبقات المجتمع المختلفة، ومنها طبقة القضاة وقد اكد فيه على استقلالية مؤسسة القضاء كما يتم الحديث عما ورد بالعهد عن محاربة الفساد والجشع بمختلف صوره وايقاع العقوبات الجزائية على كل موظف تثبت ادانته بإساءت استخدامه للمال العام.

التعريف بالعهد:-

في سنة (38 ه - 658 م) أسند الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ولاية مصر الى مالك بن الحارث بن يغوث النخعي(1) والمشهور ب (مالك الأشتر)(2) والشتر:- انشقاق جفن العين وبه سمي الاشتر النخعي(3) وقال ابن الكلبي أن الذي ضربه هو أبو مسیکه بن ربیل بن عمرو بن الطمثان من بني أياد بن نزار على عينه في معركة اليرموك(4) وقيل سمي بالاشتر لأنه يلتقط الرجال في الحرب کما يلتقط الديك الحبوب(5) والرأي الأول أثبت.

وكان زعيم قومه وأحد أبطال الإسلام وكان خطيباً بليغاً فارساً(6) ومن أبرز المقاتلين الى جانب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الجمل وصفين والنهروان(7)، وكانت له منزلة عظيمة عند الأمام علي وله حظوة كبيرة لديه، وقد تحدث الأمام عن تلك المنزلة حيث وصفها بقوله: (فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(8). وعندما وصل خبر وفاة مالك الاشتر حزن عليه أمير المؤمنين

ص: 134

علي (عليه السلام)، حزناً شديداً ونعاه للأمة قائلاً ((ألا أن مالك بن الحارث قضى وأوفي بعهده، ولقي ربه فرحم الله مالكاً ولو كان جبلاً لكان قداً، ولو كان حجراً لكان صلداً))(9) فعلى ((مثل مالك فلتبك البواكي))(10).

أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، کان یُعنی باختيار عماله من أهل القدرة والصلاح، والتقوى، ويزودهم بعهود مكتوبة الى أهل ولاياتهم، ثم يتعاهدهم بكتبه موجهاً وناصحاً ومرشداً(11). ولقد زود أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، مالك الاشتر عندما ولاه مصر بتوجيهات وتعليمات مفصلة ومودعه في کتاب عهده اليه، والذي يُعد أول عهد جامع شامل في مطاليبه ومضامينه في التاريخ الإسلامي(12). باعتباره النموذج المثالي في ادارة الدولة،. ويبدو لي أن هذا العهد لیس بنصه الكامل، وإنما هو عبارة عن فقرات أختارها الشريف الرضي وبثها في نهج البلاغة الذي (أودع فيه ما أختاره من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام))(13) وقد أشار الشريف الرضي الى منهجه هذا حيث قال: (فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب)(14).

ويضم العهد القواعد والمباني الفكرية الإسلامية في نظرية الحكم في جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية والعسكرية وتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم على أساس العدل والحق والمساواة، وهو خير نتاج أنتجته العبقرية الإسلامية بل الإنسانية في مختلف الأدوار التاريخية. وأن القواعد التشريعية السياسية، والإدارية، والقضائية، والمالية والنظريات الدستورية التي قررها الأمام علي (عليه السلام)، في عهد مالك الاشتر، تُعد مثالاً من أروع الأمثلة للحكم الديمقراطي في الإسلام(15).

وهذا العهد من جملة مآثر أمير المؤمنين (عليه السلام)، التي لا تحصى ولا تستقصی

ص: 135

وهو من أطول عهوده وأعظمها شأناً لانه (يحتوي على أهم القواعد والأصول التي تتعلق بالقضاء والقضاة، وإدارة الحكم في الإسلام، وقرر فيه قواعد مهمة في التضامن الاجتماعي بل التعاون الإنساني لأقامته العدل وحسن الإدارة والسياسة، وبيان الهيئة الاجتماعية وبيان الخراج وأهميته، وكيف يجب أن تكون المعاملة فيه والنظر في عمارة الأرض وما يتعلق بذلك من أصول العمران وما فيه صلاح البلاد ومنابع ثروته وما للتجارة والصناعة من الأثر في حياة الأمة الى غير ذلك من القواعد العامة التي تهدف الى أسمى هدف في العدل الإسلامي، حتى أصبح موضع العناية من رجال الفكر وأعطوه كبير العناية بالشرح والإضافة، واعتنى به علماء القانون وساسة الأمم، فهو أثر خالد ومفخرة الإسلام على مر الدهور)(16).

ويعتبر عهد الأمام علي (عليه السلام) الى واليه على مصر، مالك الاشتر، دستوراً كاملاً للدولة الإسلامية فيه نظريات الإسلام في الحكم والحكومة، ومناهج الدين في الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والحرب، والادارة، والأمور العبادية والقضائية(17).

وتتضح السياسة الشمولية للعهد من المقدمة التي قدم بها الأمام له وكذلك من بنود العهد ومحتوياته الأخرى، ففي هذه الوثيقة التي هي أطول وثيقة كتبها الإمام علي (عليه السلام)، وأجمعها لحقوق الرعية، ففي صدر هذا العهد أجمل هذه الحقوق أجمالاً ثم فصلها بعد ذلك تفصيلاً، فقال: (هذا ما أمر به عبد الله، علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حين ولاه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها)(18).

فهذه المقدمة تتضمن أربعة أهداف سياسية، رئيسية، يجب أن يسعى اليها الحاكم ويعمل على تحقيقها لرعيته وان يضعها أمام نصب عينيه لغرض إنجازها وهي:-

ص: 136

الأول: يتعلق بجباية الخراج، وما يتعلق بأموال الدولة التي يجب أن تنفق على مختلف القطاعات وتنمية المجتمع.

الثاني: - جهاد العدو، وما يستلزم ذلك من تأسيس جيش قوي له القدرة على حماية البلد والدفاع عنه وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية محكمة.

الثالث: - يقوم على الإصلاح الاجتماعي ويقصد بها بناء الإنسان القادر على تطوير بلده ومجتمعه، ورفع مستواه في مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية، وفي مختلف الأمور الأخرى.

الرابع: - التنمية الاقتصادية والعمرانية، والتي تهدف الى بناء مختلف المؤسسات في الدولة لأجل تطوير البلد اقتصادياً، ورفع المستوى المعاشي للمواطنين وإقامة المشاريع المختلفة في البلد.

ومما يؤسف له حقاً أن أغلبية الدول في منظورها السياسي، تختصر على السعي من أجل تحقيق الهدفين الأول والثاني، فتستحصل الضرائب من المواطنين بمختلف الطرق والوسائل والذرائع وتقيم جيشاً قوياً و مؤسسات أمنية ذات سطوة على الناس وفي المقابل فأنها تهمل الهدفين الآخرين وهما، إصلاح المجتمع وتحقيق التنمية.

ونلاحظ أن الأمام علي (عليه السلام)، في عهده هذا لمالك الاشتر، فقد أوضح الرؤية السياسية التي يتبناها الإسلام في إدارة الدولة، والسبل السياسية التي ينتهجها الاسلام في معالجة الأحداث، كما أوضح في العهد الموارد التي على مالك، أن يستمد منها القوانين والتشريعات والأنظمة التي يصدرها في إدارة شؤون البلاد، وقد حددها له بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ومن التجارب الخاصة بأمير المؤمنين (عليه السلام) في الحياة العامة وفي الشؤون السياسية والتي كان مالكاً شاهداً وحاضراً

ص: 137

عليها بحكم طول صحبته لأمير المؤمنين. ومن خلال قراءتنا للعهد اتضح أن الأمام علي (عليه السلام)، أعطى له حرية الاجتهاد بغية تنفيذ مضامين العهد، أو قد تكون حالات معينة يمكن معالجتها من خلال الاستفادة من تجارب وخبرات الأمم السابقة والسنن الفاضلة التي كان الناس يعملون بها في شؤون حياتهم وتعاملهم اليومي كالعادات والتقاليد والأحكام والأعراف والقيم التي تتفق مع قيم وروح وجوهر الإسلام، لان شرع من سبقنا شرع لنا ما لم ينسخ فقال له: - (والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو أثر عن نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في أتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة)(19).

لقد دأب الأمام علي (عليه السلام)، وبكثرة على كتابة أوامره الى عماله وولاته على شکل نصائح عامة تبين لهم وللرعية طريق العمل الصحيح، وفق كتاب الله وسنة نبيه المصطفی (صلی الله عليه وآله وسلم)، وكتب علي (عليه السلام) كانت تتميز بالفصاحة والوضوح، والتقنين الجامع في أيجاز یکاد یکون معجزاً تتلقاه القلوب، وكل من يقرأ هذا العهد بعناية يجده قد أحاط بأصول الحكم كلها أجمالاً في أسلوب مشرق أخاذ، فعلي كان يأخذ المواثيق من عماله في كتب يبعث بها اليهم ليعلم كل ذي حق حقه وواجبه(20).

مصادر العهد:-

أهتم العلماء والمؤرخون ورجال الفكر والسياسة بهذا العهد، وعنوا به عناية فائقة، وأوسعوه شرحاً وتحليلاً وتعليقاً، وسندرج أدناه بعض المصادر الأولية التي

ص: 138

ذكرت العهد وبحسب قِدَم وفاة مؤلفيها وهي: -

1- إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي (ت 283 ه)، في كتابه الغارات(21).

2- أبو محمد الحسن بن شعبة الحراني (ت 332 ه)، في كتابه تحف العقول عن آل الرسول وذكر العهد بزيادة بعض الفقرات واختلاف في بعض الألفاظ مما يدل على أن الشريف الرضي في نهج البلاغة نقل ما أختاره من هذا العهد من غير هذا الكتاب(22).

3- القاضي النعمان بن محمد بن منصور المغربي (ت 363 ه)، في كتابه دعائم الإسلام(23).

وهذه المصادر الثلاثة أعلاه هي أقدم عهداً من زمن الشريف الرضي فالعهد ورد في مصادر سابقة ومتقدمة على الشريف الرضي، الذي أورد العه-د في نهج البلاغة.

4- الشريف الرضي (ت 406 ه) في كتابه نهج البلاغة، وقال: - أنه (أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن)(24).

5- الشيخ الطوسي (ت 460 ه) في كتابه الفهرست(25).

6- أبن حمدون (ت 562 ه) في كتابه التذكرة الحمدونية، أذ قال عن العهد أنه: (جمع فيه بين حاشيتي التقوى والسياسة على بعد أقطارها، وجدته يغني عن كثير من كلام الحكماء والقدماء، وهو مع فرط الإطالة مأمون الملاله لجمعه بين البلاغة البارعة والمعاني الرائعة ولولا رغبة الناس لكلام وميل النفوس الى التنقل في الألفاظ لأكتفين بأيراد هذا العهد عن غيره أذ كان حاويا لأشتات الأدب والسياسات جامعا للأسباب التي تلزم الملوك والولاة) ثم أورد نص العهد بطوله(26).

ص: 139

7- أبن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) في كتابه شرح نهج البلاغة، حيث قال في هذا العهد (أنه نسيج وحده، ومنه تعلم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة)(27).

8- النويري (ت 732 ه) في كتابه نهاية الأرب، حيث نعته بقوله: (ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى - أي في وصايا الملوك الى الحكام - أجمع للوصایا، ولا أشمل من عهد كتبه علي بن أبي طالب عليه السلام الى مالك بن الحارث الاشتر، حيث ولاه مصر، فأحببت أن أورده على طوله، وآتي على جملته وتفصيله لأن مثل هذا العهد لا يُهمل وسبيل فضله لا يُجهل) ثم ذكر العهد(28).

9- القلقشندي (ت 821 ه) في كتابه صبح الأعشى، فقد قال فيه: (أنه من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التقوى وسياسة الملك)(29)، وذكره أيضاً في كتابه الآخر مآثر الأنافة(30).

10 - المجلسي (ت 1111 ه) في كتابه بحار الأنوار(31).

ولهذا العهد شروح عديدة منها:

1- أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة(32).

2- قطب الدین البيهقي، حدائق الحقائق(33).

3- السرخسي، أعلام نهج البلاغة(34).

4- میثم البحراني، شرح نهج البلاغه(35).

5- شراح نهج البلاغة الذين يزيد عددهم على المائة(36).

6- شرح الشيخ محمد عبده، مفتي الآيار المصرية(37).

ص: 140

7- شرح الشيخ محمد باقر الكجوري والموسوم (أساس السياسة في تأسيس الرياسة)(38).

8- شرح العلامة هادي بن محمد حسين البيرجندي(39).

9- شرح الحسين الهمداني، والموسوم (هدية الحسام لهداية الأحكام)(40).

10- شرح الشيخ عبد الواحد المظفر والموسوم (السياسة العلوية) وهو مخطوط يقع في ثلاث أجزاء(41).

11- شرح الأستاذ توفيق الفكيكي والموسوم (الراعي والرعية)(42).

12- وغيرها من الشروح وقد ذكر العديد منها الشيخ آغا بزرك الطهراني(43).

لقد كان عهد الأمام علي (عليه السلام)، لمالك الاشتر، موضوع العناية منذ أقدم العصور الى يوم الناس هذا عند كثير من رجال العلم(44)، وأعلام الأدب(45)، وأساتذة القانون(46)، وعلماء السياسة، والإدارة، والمالية الاقتصاد، وكبار الفلاسفة وقادة الجيوش وأمراء الحرب في مختلف البلدان(47).

ومما هو جدير بالذكر، أن العهد قد تعرض له عامة شراح نهج البلاغة بشرح مبسط ومختصر، وكل بحسب طريقته في شرح نهج البلاغة(48)، ولو أنها انتزعت من تلك الشروح لكانت عدة مجلدات.

وقد قام السيد (احمد محمد) كاتب مكتبة الأزهر بانتزاع العهد من شرح الشيخ محمد عبده لنهج البلاغة وطبعه على حده وسماه (مقتبس السياسة وسياج الرياسة)، وقال في تقديمه له: (أنه جمع أمهات السياسة وأصول الإدارة في قواعد حدت من فصاحة الكلام وبلاغة الكلام وحسن الأسلوب ما لا يمكن لعاجز مثلي

ص: 141

أن يصفه فدهشت جداً لما لم أجد لهذا الكتاب تداولاً على ألسنة المتكلمين بالعربية خصوصياً المشتغلين بتعلمها من طلبه الأزهر والمدارس الأخرى مع أنه كان من الواجب أن مثل هذا الكتاب يحفظ في الصدور لا في السطور)(49).

ومما يدل على أهمية عهد علي (عليه السلام) لمالك اهتمام العلماء بترجمته لمختلف اللغات العالمية وشرحه ودراسته(50)، بهدف الاستفادة منه(51).

الفصل ما بين السلطات الثلاث.

أن للإمام علي (عليه السلام)، أراء ومفاهيم أدارية قيمة في أدارة الحكم والسياسة ضمنها في (دستور) عهد مالك الاشتر ومن أبرز تلك السياسات هي الفصل ما بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبذلك فأن للأمام علي (عليه السلام) قصب السبق على كافة رجال السياسة والإدارة والقانون الذين جاءوا من بعده، ونهلوا من مورده، فأقر مبدأ الفصل ما بين السلطات الثلاث(52) وكان أول من أشار اليها في الدساتير الحديثة الدستور الفرنسي الذي صدر في (4 أيلول عام 1791) حيث يعد دستور فرنسا الذي وضع عقب ثورتها 1789 م أول من أقر الفصل ما بين السلطات، وأقر حقوق الإنسان(53) تتصدره العبارة الذائعة الصيت (يولد الناس أحراراً ومتساوين في الحقوق) علما بأن فكرة إعلان (حقوق الإنسان) قد تبلورت خلال الثورة الأمريكية على بريطانيا وقد نص إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في (6 تموز سنة 1776 م) على (أن كل الرجال قد ولدتهم أمهاتهم سواسية) وتضمن الإعلان في ديباجيته ذكر حقوق الإنسان في المساواة والحرية والسعادة وتغيير الحكومات التي لا ترعى تلك الحقوق، ثم صدر الإعلان الذي سبق دستور (24 يوليو سنة 1793 م) وقد ركز بصيغه خاصة على المساواة وأشار الى

ص: 142

الواجبات، كما أشار الى حق الجميع في التعليم وفي المساعدات العامة ثم صدر إعلان آخر لحقوق الإنسان في (22 أغسطس سنة 1795 م)، وقد سادت مبادئ الإعلان الفرنسي الصادر سنة 1789 م الدساتير الفرنسية التالية وكثيراً من دساتير دول أوربا الغربية الصادرة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلاديين(54) وبعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية صدرت العديد من الوثائق الدولية التي تخص حقوق الإنسان(55) فالذي يقرأ هذه الإشارات للوهلة الأولى يظن أن ذلك من نتاج أفكار رجال العصر الحديث، ومن ثم أصبحت قاعدة دستورية أخذت بها دساتير الدول في القرن العشرين، في حين أن أول من وضع مبدأ الفصل ما بين السلطات الثلاث وأقر حقوق الإنسان هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد نص على ذلك بشكل رسمي ومدون وذلك في العهد الذي كتبه الى مالك الاشتر(56) وهي من أللفتات الأصيلة والمتميزة للفكر الثاقب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الإدارة السياسية للدولة.

1. السلطة التشريعية:-

السلطة التشريعية عند الأمام علي (عليه السلام)، هي القرآن الكريم والسنة النبوية وهما يمثلان الدستور الإسلامي، حيث قال في عهده لمالك: (واردد الى الله ورسوله ما يضلعك - يمنعك - من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال تعالى لقوم أحب أرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(57)*. فالرد الى الله الأخذ بمحكم كتابه - النص الصريح - والرد الى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة)(58).

وورد في موضوع آخر من العهد المباني الأخرى للسلطة التشريعية، وذلك في

ص: 143

قوله (عليه السلام) لمالك: (والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أو فريضة في كتاب الله)(59) وكذلك يضم الدستور الإسلامي في جنباته كما جاء في العهد (سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية)(60).

كما أن العاملين بالهيئة التشريعية يعملون في تفسير المواد القانونية، وتشريع لوائح قانونية لما يستجد في مجالات التشريع غير المشرع لها، وللهيئة التشريعية أن تقوم باستعراض ما تشابه من مصادر التشريع وتحديد المبادئ الأساسية للدستور الإسلامي(61).

2. السلطة التنفيذية:-

أما السلطة التنفيذية، فهي السلطة الثانية في أدارة الدولة والمتمثلة أياً كان مسماها، والي، عامل، أمير، رئيس دولة، أن تعمل على توفير مستلزمات العيش للمواطنين وتوفير الأمن، وإتاحة فرص العمل لأبناء الأمة وتنظيم حياتهم الاجتماعية وحماية الدولة من خلال أعداد الجيش القوي القادر على الدفاع عنها، وصد هجمات الأعداء وقد أشار الأمام علي (عليه السلام) الى ذلك بقوله: (وأنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر)(62).

وتحدث الأمام علي (عليه السلام)، عن الشروط الضرورية الواجب توفرها في القائد الإداري حيث أوجزها في خطبة له بقوله: (أن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم

ص: 144

عليه، وأعلمهم بكتاب الله)(63). فيلاحظ أن الأمام علي (عليه السلام) وضع شرطين أساسين هما القوة، والعلم، والقوة لا يقصد بها فقط القوة الجسدية بل تشمل الجوانب الفكرية والمؤهلات العلمية والذهنية، والمتمثلة من الاطلاع الواسع بأمور الإدارة والحكم وله القدرة على التخطيط الإداري، وما يتمتع به من فن الإدارة.

وأما العلم فهي المعرفة بالدستور الإسلامي، القرآن الكريم والسنة النبوية وتحصيله للعلوم المساعدة الآخرى بما يؤهله للقيام بمهامه كزعيم للدولة، وعلاوة على ذلك ذكر الأمام علي (عليه السلام) شروط أخرى واجب توفرها في الحاكم، الوالي،، القائد، وقد حدها ب (6) ستة شروط، مع بيانه لعلة كل واحدة منها، فأشترط أن يكون كريم النفس لئلا يدفعه الطمع وشدة الحرص الى العدوان على أموال المسلمين وأن يكون عالماً، لأنه قائد المسلمين فيجب أن يهديهم، ولو كان جاهلاً لأضلهم، وأن يكون لين العريكة، رحب الصدر وأن يكون عادلاً في أعطاء الأموال فيسوي بين الناس في العطاء ولا يفضل قوماً على حساب آخرين استجابة لشهوات نفسه، وميول قلبه، وأن يكون نزيهاً في القضاء فلا يرتشي، لأن ذلك مؤذن بذهاب العدل في الأحكام وأن يكون عاملاً بالسنة فيجري الحدود ولو على أقرب الناس اليه، ويعطي الحق من نفسه كما يطلب من غيره(64)، وذلك عندما قال: (لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم - حرصه المفرط في أخذها - ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدولة* فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع - الحدود التي حدها الله - ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة)(65).

ص: 145

ويلاحظ أن فلسفة الحكم عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، تتلخص في أن الحكم هو ضرورة اجتماعية أقيم لصالح المجتمع.

3. السلطة القضائية:-

وقد أشار اليها الإمام علي (عليه السلام) باعتبارها ضرورة اجتماعية، لأن الإنسان مجبول على المخاصمة والنزاع مع غيره بفعل حب ذاته وحب التملك، وتُعد السلطة القضائية من أعظم سلطات الدولة، بها يفرق بين الحق والباطل وبها ينتصف للمظلوم من الظالم، وقد رسم الأمام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر ثلاثة أمور ينبغي أن تتبع في انتقاء أفراد هذه الطبقة ومعاملتهم علماً بأن منصب القاضي يتطلب من شاغله الى جانب علمه بالشريعة صفات أخرى فصلها الأمام في عهده وأناط اختيار طبقة القضاة بتوفرها، وهذا يعني أن فاقدها ليس جديراً بهذا المنصب الخطير(66) وهذه الصفات هي: -

1- أن يكون واسع الصدر، اي له القدرة على استيعاب الآخرين وتحمل ما يصدر عنهم والانصات لارائهم ووجهات نظرهم وافكارهم، وان لايكون انفعالياً، او ذو غلظة في التعامل معهم، كريم الخلق، وذلك لان منصبه يقتضيه أن يخالط صنوفاً من الناس، وألواناً من الخَلق.

2- أن يكون من الورع، وثبات الدين وتأصل العقيدة، والواعي لخطورة مهمته بحيث يرجع عن الباطل أذا تبين له أنه حاد عن شريعة العدل في حكمه ولم يصبها اجتهاده، فلا يمضي حكماً تبين له خطأه. لان الرجوع الى الحق خير من التمادي بالباطل.

3- ان يكون من شرف النفس، ونقاء الجيب، وطهر الضمير، بحيث لا تشرف نفسه

ص: 146

على طمع.

4- أن يكون من الوعي لمهمته، بحيث لا يعجل في الحكم، ولا يُسرع في إبرامه وأنما عليه أن يمضي في دراسة القضية ويستعرض وجوهها المختلفة، فأن ذلك أحرى أن يهديه الى وجه الحق وسنة الصواب، فإذا ما استصعب الأمر واشتبه عليه، فلا يجوز له أن يصدر للقضية حكماً من عند نفسه، وإنمًا عليه أن يقف حتى ينكشف له ما غمض عنه وينجلي له ما أشتبه عليه(67)، فهذه الصفات يجب أن تتوفر في القاضي، وبذلك يضمن الوالي ألا يشغل منصب القضاء الا الأكفاء في عملهم ودينهم، فقال الأمام علي عليه السلام لمالك في عهده: (ثم أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأذى منهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وأخذهم في الجمع، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأضرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، أولئك قليل)(68).

ولم يكن الموضوع الاقتصادي للقاضي غائباً عن ذهن أمير المؤمنين (عليه السلام)، في هذا العهد، لان القاضي بصفته إنساناً قد يجوز عليه الطمع أو أخذ الرشوة، لا سيما أذا لم يكن مكتفياً اقتصادياً عند ذلك تصبح حقوق الإنسان في خطر وتضيع حقوق الضعفاء والمظلومين في بحر الفساد المالي للأغنياء والأقوياء وقد أدرك أمير المؤمنين (عليه السلام) خطورة ذلك وأثره على المجتمع، فوضع الضمانات لتلافيها في عهده لمالك الاشتر ومنها:-

ص: 147

1- مراقبة الحاكم لأحكام القاضي:

وهو أن يكون الوالي أو الحاكم، الرقيب على الأحكام التي يصدرها القاضي، ويقوم بمراجعة تلك الأحكام وتدقيقها حتى يكون الحكم القضائي يطابق الجرم المقترف وبذلك يكون الحاكم بمثابة محكمة التمييز في الوقت الحاضر، التي تميز الأحكام، حتى يكون الحكم متكيفاً مع القوانين والعقوبات المنصوص عليها بشأن القضية، كما أنها تكشف الحكم الجائر. وبذلك يكون الأمام علي (عليه السلام)، أول من وضع فكرة محكمة التمييز وهذا نستشفه مما ورد في دستوره او عهده الذي كتبه لواليه على مصر مالك الاشتر حيث يقول له (ثم أكثر تعاهد قضائه) فعلي (عليه السلام)، لم يكتفي بأن يقوم الحاكم بمراجعة الأحكام القضائية التي تصدر من القاضي، بل يطلب من الوالي أن يكثر من تلك المراجعات لأحكامه، وليس فقط مراجعتها لمرة واحدة أو مراجعة لها بشكل روتيني أو أن يكون على عجلة من أمره بمراجعة أحكامه، بل طلب منه أن يطيل النظر ومراجعتها مرة بعد مرة، ولا يكتفي بمراجعة قضية واحدة ثم يترك مراجعة باقي القضايا، بحجة أن القاضي قد أصاب بتلك القضية بل عليه مراجعة جميع الأحكام التي يصدرها القاضي ولذلك يقول له: (أكثر تعاهد قضائه) أي استمر في مراقبة القاضي وتدقيق جميع أحكامه القضائية حتى لا يظلم إنسان منه جراء تلك الأحكام.

2- منح القاضي راتباً مجزياً:

أن حصول القاضي على مرتبٍ يسد نفقاته ويوفر مستلزمات معيشته لها الأثر الكبير في نزاهته وشفافية أحكامه التي يصدرها، لأنها ستكون بعيدة عن الجور والظلم، لأن القاضي لا يكون، مرتشياً، أما أذا فشى الفساد في مؤسسة القضاء، وأخذ القاضي باستلام أموال الرشوة، فعندها يجلس على دكة الحكم ويصدر الأحكام الجائرة لانها

ص: 148

مغلفة بالمال الفاسد، فيقول الأمام في عهده لمالك بشأن القاضي (وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس)(69).

3- ضمان حقوق القاضي:

أن طبيعة عمل القاضي ومكانته الاجتماعية، أوجب الأمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر، أن يصار الى ضمان حقوقه والحفاظ على كرامته وضمان حياته، وماله، وأسرته خشية تعرضه للاعتداء من قبل الذين أصدر بحقهم عقوبات، أو ذويهم، فإذا لم يشعر القاضي بأن له تلك الضمانات، فأن ذلك سوف ينسحب على قراراته القضائية، فيبتعد عن تطبيق القانون، وتدخل المحسوبية والمساومات والشفاعات، خاصة مع الناس الذين لهم مكانة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية في البلد، كما أن منصب القاضي يصبح عرضة للعزل والتغيير، فيسلب مركزه ومكانته، فحينئذ يطبق القانون على طرف واحد وهم الفقراء والضعفاء ومن ليس لهم حول ولا قوة في المجتمع.

هذه الناحية وعاها الأمام علي (عليه السلام)، وأعد لها علاجها لكي يأمن ذلك كله، يجب أن يكون القاضي من الحاكم بمنزلة لا يطمع فيها أحد غيره، ولا تتاح لأحد سواه وبذلك يأمن دس الرجال له عند الحاكم ويثق بمركزه وبنفسه وتكسب منزلته هذه رهبة في قلوب الأشرار، يقوي بها على حملهم على الحق وردهم اليه حين ينحرفون عنه ويتمردون عليه(70) فقد ورد في دستور علي لمالك الاشتر في حقوق القاضي (وأعطيه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فأنظر في ذلك نظراً بليغا)(71).

ص: 149

أن اهتمام الأمام علي (عليه السلام) بالقضاء وحرصه على نزاهته أو تطبيقه على جميع أبناء المجتمع، وأنه لا يوجد أحد فوق القانون، هذه المبادئ الإنسانية السامية، طبقها الأمام علي (عليه السلام)، على نفسه بشكل عملي حتى يكون القدوة للآخرين، فعلي (عليه السلام) وهو بمنصب الخليفة يقف مع خصم له وكان يهودياً، أدعى ضده دعوة باطلة - كيدية - وقف معه سواسية أمام القاضي شريح، وهو الذي عينه الخليفة علي ليكون قاضياً على الكوفة، فلم يأنف الأمام من ذلك ولم يرفض طلب القاضي للمثول أمامه في ساحة القضاء، ولم يقول أنه خليفة فلا يحضر أمام القاضي، أو تتحول جلسة القضاء من مجلس القضاء الى مجلس الخليفة، أو يرفض الحضور أمام خصمه، وهو من أهل الذمة ولم يكن مسلماً أصلاً، فهو من الأقليات الدينية، كان بأمكان الأمام يستغل منصبه ويرفض الحضور ولكنه لم يفعل، لأن دين علي وأخلاقه الإسلامية - الإنسانية - تأنف ذلك، وخلقه الإنساني يرفض ذلك، فحضر شأنه شأن أي شخص عادي في الدولة ووقف بين يدي القاضي وعندما كناه القاضي وقال له يا أبا الحسن، رد عليه الأمام علي (عليه السلام)، قائلاً له أنك لم تنصف خصمي لأنك لم تكنيه كما فعلت معي فيجب أن تكون المعاملة سواسية بين الخصوم ولا يميز بين شخص وأخر، ولو بالألفاظ والكلمات، ثم جاء قرار القاضي ضد علي، ولصالح خصمه اليهودي، الذي أدعى زوراً بأن الدرع الذي مع علي هو له، فأعطاه علي حسب قرار القاضي، هنا أنبهر اليهودي ووقف متعجباً من علي وحكومته وسياسته، فعندها أعترف للأمام بأن دعوته كانت باطلة، وأن أدعائه كان زوراً، وأن الدرع هو للأمام علي حقاً(72).

ص: 150

ولذلك فأن مفهوم العدل في تراث الإمام علي (عليه السلام) يتجسد في مجالين: -

الأول:- أن الأمام نفسه كان مثالاً للعدل، وبالتالي فأنه مجسد حي له ولغيره من الفضائل الأساسية، فنلاحظ أنه كان في حياته مثال التمسك غير المتخاذل بهذه الفضيلة الكبيرة(73).

الثاني: - أن أقوال وأحادیث ورسائل الأمام علي (عليه السلام)، تعد مصادر غنية لمفهوم العدل والفضيلة(74).

وقد وردت تحذيرات في عهد الأمام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر بخصوص الظلم والقمع وهي بالحقيقة خطاب عام لكل حاکم ظالم وتنطبق على كل أولئك الذين يضعفون أمام إغراءات السلطة السياسية بالرغم من كونهم يخضعون شكلياً للإسلام وتشريعاته، فيخاطب الأمام علي (عليه السلام) عامله على مصر، مالك الاشتر قائلاً: (أياك والاستئثار - أي تفضيل نفسك على الآخرين - بما الناس فيه إسوة - متساوین - والتغابي - التغافل - عما تعنی به مما قد وضح للعيون، فأنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك المظلوم)(75).

وحسب نظرية الأمام علي (عليه السلام) في السياسة فأن السلطة الممنوحة اللحاكم ليست امتیازاً له على رعاياه يحصل عليها بسبب الحكم، وذلك لان الحكم لا يعطي للحاكم أي امتیاز شخصي، وأنما هو بمثابة اختبار من الله له، فهي تعبر بوضوح عن موقف الأمام (عليه السلام) الخاص من نظرية الحكم الإسلامي وهذه المبادئ الأساسية في الفكر السياسي لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) كتبها في عهده لمالك الاشتر إذ قال (فأنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم...)(76)

ص: 151

عهد - دستور - الإمام علي وحقوق الإنسان:-

أن ما تضمنه عهد الأمام علي (عليه السلام) من مبادئ وقيم إنسانية وعدل ومساواة بين جميع أبناء المجتمع حيث ضمن لهم حق العيش والتعبير عن الرأي وضمان كرامتهم، وبذلك فأن عهد علي (عليه السلام)، سبق وثيقة حقوق الإنسان، ولذا فأنه (يصعب على المرء أن يجد اختلافاً بين العهد العلوي والوثيقة الدولية لحقوق الإنسان، فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان، ألا تجد له مثيلاً في دستور أبن أبي طالب، هذا إلى إطار من الحنان الإنساني العميق يحيط به الأمام دستوره في المجتمع ولا تحيط الأمم المتحدة وثيقتها بمثله)(77).

ولذلك أخذ رجال القانون والسياسة والإدارة في مختلف دول العالم بدراسة عهد الأمام علي وتفسيره، فانبهروا بما وجدوا ما فيه من مبادئ وتشريعات وقفوا منه موقف الإكبار والإعجاب والتعظيم، بل درست على ضوء بعض القوانين والنظم الأوربية الحديثة وثم مقارنتها بالعهد فظهرت میزته وأفضليته وهذا ما دفع بالعديد من دول العالم أن تأخذ من مواد العهد وتضمنها في دساتيرها(78).

وبذلك أصبح عهد الأمام علي عليه السلام، الى مالك الاشتر، (مصدر الهام عبر القرون حيث كان يقرأ كدستور مثالي للإدارة الإسلامية من خلال وصفه المفصل لواجبات الحاکم و حقوق وواجبات معظم موظفي الدولة وطبقات المجتمع الرئيسية)(79) واما ما ذهب اليه الشيخ محمد السند عن أهتمام الأمم المتحدة بعهد الإمام علي عليه السلام وأمينها العام السيد كوفي عنان، ومنظمة حقوق الانسان وتأثره بأقوال الإمام علي التي وردت بالعهد مثل: وأشعر قلبك الرحمة، ولا تكن عليهم سَبُعاً ضارياً، وأعلم بأن الناس صنفان اما أخ لك في الدين أو نظير لك في

ص: 152

الخلق، ودعوة كوفي عنان للمؤسسات القانونية لدراسة العهد والأخذ منه وأصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في عام 2002 م باعتبار العهد أحد مصادر التشريع الدولية(80) حسب قوله. وذكر احد الباحثين انه قد صوتت على القرار أكثر من 200 دولة وهذا اعتراف صریح من دول العالم على عبقرية الأمام علي (عليه السلام) وإنسانيته و مراعاته لجميع فئات المجتمع لأنه من أروع القوانين والأنظمة والتي بحاجة العالم الى تطبيقها لان الناس اليوم بأمس الحاجة الى العدالة والا يكون الحاكم كالسبع على أبناء مجتمعه(81) وما أشار اليه كذلك الدكتور رضا العطار بشأن القرار الأممي وأستناده على وثائق شملت 160 صفحة باللغة الانكليزية(82). ولكن هنالك من ينفي وجود هذا القرار(83).

ولغرض توثيق ذلك ارتأينا البحث عن رقم القرار ونصه الصادر عام 2002 عن لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وذلك من خلال مراجعتنا للكتاب السنوي الصادر عن الأمم المتحدة. انظر الملحق رقم (1) والذي يوثق جميع نشاطات المنظمة الدولية، والقرارات الصادرة منها، سواء التي تخص مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الأخرى المرتبطة بهيئة الأمم المتحدة ومنها لجنة حقوق الإنسان الذي وثقت نشاطاتها في هذا الكتاب في الجزء الثاني من المجلد 56 والصادر في عام 2004، ولكن للأسف الشديد لم نعثر على ذلك القرار الخاص(84). ويبدو لي ان هنالك لبساً قد وقع بشأن علاقة الامم المتحدة بعهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، فمن خلال دراستي للموضوع وجدت ان المنظمة الدولية التي ورد فيها ذكر اسم الامام علي وأقتبست بعض من حُکَمِهِ وأقوالهِ فأن ذلك ورد في (تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002)

ص: 153

(2002 ARAB Human Development Report) بدعم من برنامج الامم المتحدة الإنمائي والذي يقع في 168 صفحة باللغة الأنكليزية وقد وجدت أنه ورد ذكر اسم الامام علي عليه السلام في هذا التقرير مرتين وذلك في صفحة رقم 82، وصفحة رقم 107 وتم فيهما الأستشهاد ببعض أقواله وحِكَمِهِ و آراءهِ في مختلف المجالات كالتربية والتعليم وحقوق الإنسان والسياسة والحُكم والعدالة، وفي صفحة 107 وردت فيها ترجمة الى بعض الفقرات مما ورد في عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر كقوله (ثم أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء الى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأذى منهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات وأخذهم في الجمع، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأضر مهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، أولئك قليل) حيث ترجمت إلى:

(Choose the best among your people to administer justice among them. Choose someone who does not easily give up who is unruffled by enmities, someone who will not persist in wrongdoings who will not hesitate to pursue right once who will not hesitate to pursue right once he knows it someone whose heart knows no greeds who will not be satisfied with a minimum of explanation without seeking the maximum of understanding“ who will be the most steadfast when doubt is cast who will be the least impatient in correcting the opponents

ص: 154

the most patient in pursuing the truth the most stern in meting out judgment; someone who is unaffected by flattery and not swayed by temptation and these are but few).

وقد وضعت تلك الأقتباسات في داخل إطار مربع - بمثابة بوسترات - ضمن النص الأصلي في كلا الصفحتين ولم يُشار في متن كلاهما الى الإمام علي او التنويه الى تلك الأقتباسات من أقواله، أو شرح مضمونها، ولم يذكر اسم مالك الاشتر او عهد الامام علي (عليه السلام) اليه، وفي اسفل ذلك المربع وردت اشارة الى مصدر تلك الأقوال وهو كتاب نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده، الجزء الاول، الطبعة الثانية، دار البلاغة، بیروت، 1985(85) أنظر الملحق رقم (2 أ، ب، ج). وبذلك يتضح لنا ان الجهة التي اوردت فقرات من عهد الامام علي عليه السلام للاشتر انما قد ورد ذلك ضمناً في تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 والذي صدر ب 168 صفحة باللغة الانكليزية، وليس كقرار صادر من الجمعية العامة للامم المتحدة او منظمة حقوق الانسان مستندة على وثائق شملت 160 صفحة وهو رقم قريب من الرقم 168 صفحة التي صدر فيها تقرير التنمية البشرية العربية ولعل هذا التوضيح سيساعدنا على رفع اللَبس الذي وقع فيه بعض الاساتذة الكرام من غير قصد.

ورب سائل يسأل لماذا تم اختيار الأمام علي بن ابي طالب عليه السلام والأقتباس من عهده للاشتر وبعض من أقواله وحِكَمِهِ التي طرزت صفحات التقرير؟ فاظن انها دعوة للساسة، واصحاب الحل والعقدَ للأخذ بمنهجه الأنساني السليم في الحُكمُ المتجلي بروح العدالة الاجتماعية والسلام، والحث والنصح لهم على اتخاذ الامام علي عليه السلام كمثال في تأسيس نظام يقوم على الديمقراطية والمعرفة لكون علي المجُسِد الحقيقي لتعاليم ومباديء وقيم الاسلام، وان عهده للاشتر يمثل افضل دستور لحكم الدولة.

ص: 155

الامام علي عليه السلام والنظام اللامركزي في ادارة الدولة.

ان النظرية السياسية للامام علي بن ابي طالب عليه السلام في حكم الدولة الاسلامية تقوم على اساس اتباع النظام اللامركزي في ادارة الدولة وقد تجسد ذلك من خلال دعوته الى تشكيل حكومة محلية في ولاية مصر - اي في اقاليم الدولة - والصفات التي يجب ان تتوفر في وزراءها. فلم يكتفي الأمام علي (عليه السلام) بذكر مميزات وصفات الحاكم للرعية فحسب و أنما ذكر أيضاً في عهده صفات بطانة هذا الحاكم ومن يتخذه أعواناً له في حكمه والمشورة، ومنهم الكُتاب، أن المقصود من لفظ الكُتاب في الأدب الإداري الإسلامي خلال القرن الأول الهجري وحتی العصور الإسلامية المتأخرة هم الوزراء وهذا ما أوضحه أبن أبي الحديد عندما قال: - (أن الكاتب الذي يشير اليه أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي يسمى الأن في الاصطلاح العرفي وزيراً لأنه صاحب تدبیر حضرة الأمير والنائب عنه في أموره، واليه تصل مکتوبات العمال، وعنه تصدر الأجوبة، واليه العرض على الأمير، وهو المستدرك على العمال، والمهيمن عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكُتاب، وبهذا يسمونه الكاتب المُطلَق)(86) ويدخل ضمن أعوان الكُتاب الجهاز الإداري الذي ينظم شؤون الدولة كالموظفين والنساخيين، والذين يتولون حفظ الرسائل والبريد وتصنيفها حسب المواضيع وغيرهم فلهم الأثر الكبير في تسيير و إدارة أعمالها.

أن ما يبذله الحاكم من جهد جهيد في اختيار الكتاب - الوزراء - وتحري الصدق والأمانة فيهم وأجراء المفاضلة بين المرشحين وما يستلزم ذلك وبذل الجهد والتدقيق في سيرتهم فأن الأمام علي (عليه السلام) يقول لمالك أن ذلك (دليل على نصيحتك الله)، ولذا فأن الأمام علي (عليه السلام) يجعل عمل الإنسان وما يبذله من جهد ليس من أجل الحصول على فائدة أو مکاسب دنيوية بل يجب أن يكون عمله كله

ص: 156

لله سبحانه وتعالى، وعلى رأس هؤلاء الوزراء جميعاً وهو (كاتب الكُتاب)(87)، أي رئيس الوزراء أو رئيس الحكومة(88) والذي يتصف بأن يكون خيّراً ورعاً تقياً ذو خلق رفيع كما يتميز بأن لديه خبرة ودراية أكثر من باقي الوزراء في مختلف شؤون الدولة، وان يكون لديه خبرة سياسية وله القدرة على التفاوض مع الآخرين وأن يكون شديد الحرص على المحافظة على مصالح رعيته وعدم إظهار الحاكم أمام الحكومات والشعوب الأخرى بالضعف والهوان والدفاع عن مصالح رعيته وهو ما تضمنه العهد للاشتر في قول الإمام علي (عليه السلام): (ولا يضعف عقداً أعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك)(89).

وكما هو معروف ما للوزراء من أثر كبير في تسيير شؤون الدولة، والقدرة على مواجهة المشكلات التي تعترض عملهم، وإيجاد الوسائل الناجحة لها وهذه تأتي من المحصلة النهائية لمجمل خبراتهم المهنية المتراكمة وإلمامهم بشؤون الوزارة المكلف بها، ويتم اختيار هؤلاء الوزراء ليس على مبدأ الظن والحدس، والاعتقاد بل يكون مبنياً على أسس وقواعد سليمة، ممن يتصف بالعلم والورع والمعرفة ومن المشهود بمقدرتهم وكفاءتهم، ولعظمة مسؤولية الكاتب وضع الأمام علي (عليه السلام) شروط معينة لاختيار من يتسنم هذه المسؤولية وتجلت هذه الشروط في عهده الى مالك الأشتر بقوله (ثم أنظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، وأخصص رسائلك التي تدخل فيها مکایدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فیجتری بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا، ولا تقصر به الغفلة عن أيراد مکاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك، وقيما يأخذ لك ويعطي عنك، ولا يضعف عقداً أعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ماعقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فأن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل)(90).

ص: 157

فهو يطلب من الحاكم أن يطلع على سيرتهم الذاتية ليتعرف على الوظائف والمهام التي عملوا بها سابقاً وهل كانوا أكفاء في إدارة وانجاز ما تم تكليفهم به، کما یؤخذ بنظر الاعتبار مدى مقبوليتهم من قبل الرعية والانطباع الذي تركوه فيهم، فتكون في نفوسهم محبة لهم جراء ما قدموا اليهم من خدمات، ثم ينتقل الأمام بعهده الى مالك الأشتر بعدم تعيين من يتملق ويقترب زلفى الى الحاكم بهدف الحصول على رضاه والتصنع له وأمره بإبعادهم والقضاء على نفوذ هؤلاء من الوصوليين والمتملقين الذين يكونون من حاشية وبطانة الوالي ويبذلون أقصى ما في وسعهم ليكونوا من اقرب المقربين له وضمن الدائرة الضيقة التي تحيط به لأنهم يرغبون بالاستئثار بالوظيفة دون مراعاة المصالح العامة حيث يقول الإمام علي (عليه السلام): (ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فأن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنيعهم وحسن حديثهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثر، وأعرفهم بالأمانة وجهاً فأن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره)(91). فمن الضروري أن يتصفوا بالعفة والفطنة والحكمة وحسن الإدارة والتدبير فأذا عقدوا عقداً للوالي أحكموه، وأذا عُقد عليه عقداً اجتهدوا في نفضه وحله.

ولما كان من الدعائم التي يستند عليها الحاكم هم الوزراء والأعوان والمستشارون، فقد أولى الأمام علي (عليه السلام) في فكره الإداري هذه الناحية أهمية كبيرة وأدرجها ضمن فقرات دستوره الشامل لعامة الحكام والولاة وليس لمالك الاشتر في عهده فحسب فأوصى باختيار هؤلاء الوزراء والأعوان والمستشارين بمواصفات غاية في الدقة ولاسيما من لم تكن لهم سوابق ومؤشرات مشينه في العهود التي سبقت، فيكونوا ممن حسنت سيرتهم وسلوكهم(92) فوصيته (عليه السلام) أن (شر وزرائك

ص: 158

من كان قَبلَكَ للأشرار وزیراً، ومن شَرَكهُم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فأنهم أعوان الآثمة، وأخوان الظلمة)(93).

ا ة وكان الأمام علي (عليه السلام) قد سبق عماله وولاته على الأمصار في التطبيق العملي في اتخاذه الوزراء والمستشارين والأعوان من (أهل البصائر واليقين من المهاجرين والأنصار مثل أبن عباس، والمقداد، وأبي أيوب الأنصاري، وخزيمة بن ثابت وأبي الهيثم بن التيهان و قیس بن سعد بن عباده الأنصاري، ومن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة والمعرفة)(94).

منح الأمام علي (عليه السلام) في عهده او دستوره لمالك الاشتر صلاحية تشکیل حكومة محلية وان تحديد عدد أعضائها مناط على قدر الحاجة التي تدعو اليها المصلحة العامة(95). وذلك كل حسب اختصاص كل وزير وهذا ينسجم تماماً مع مبدأ التخصص بالعمل وتقسيمه وتحديد المسؤولية فقال له مخاطباً (أن يكون أحدهم للرسائل الى الأطراف والأعداء، والآخر لأجوبة عمال السواد، والآخر بحضرة الأمير في خاصته وداره، وحاشيته وثقافته)(96)، وحسب فهمنا لهذه التعليمات فان الامام علي (عليه السلام) قد شرع في الدولة الاسلامية نظام الاقاليم او الولايات او الحكم اللامركزي، وذلك بان يكون لكل ولاية حكومتها المحلية التي تدير شوؤنها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك لتوفير المستلزمات والخدمات لمواطني الولاية، ومما لاشك فيه ان نظام الولايات سيترتب عليه ايضاً فسح المجال امام الحكومة المحلية بمعالجة القضايا ذات الطبيعة الخاصة والتي قد تنفرد بها عن باقي الولايات الاخرى فيتم معالجتها وفق الصيغ المحلية المعمول بها والتي اقرها المجتمع بشرط عدم تعارضها وتقاطعها مع قيم الاسلام وتعاليمه وبذلك يكون الامام علي عليه السلام اول المشرعين الى اتباع النظام اللامركزي في ادارة الدولة الاسلامية

ص: 159

وهذه من نوادر فكره السياسي الثاقب ومما لاشك فيه ان لهذا النظام اثاره الايجابية، وفوائده الجمة ولذلك نجد الان العديد من دول العالم تتبع ذلك النظام في ادارة دولها.

وهذا يدل من الناحية التنظيمية والإدارية المعاصرة يقوم بجعل الأعمال الموكولة للأفراد على شكل دوائر متشابهة ولجميع الأعمال المتماثلة بدائرة واحدة، ولكل عمل يُحددّ له رئيس من الكتاب بقسم ذلك التقسيم بالقدرة على ضبط الأعمال الموكولة بحيث لا تكون كبيرة يتعذر على الرئيس إدارتها ولا تخرج عن قدرته بتشتتها(97) وهذا خير دليل على أن الأمام علي (عليه السلام) كان من أوائل السياسيين الذين دعوا الى تكليف الوزراء المهنيين في المناصب الوزارية، أي تشكيل حكومة تكنوقراط حسب المصطلح السياسي اليوم، أن الفكر الثاقب لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) أشار بوضوح الى قضية في غاية الأهمية ألا وهي التخصص المهني والتأكيد على احترامه، وفسح المجال أمامه ليأخذ دوره في العمل وفي الوظيفة التي تُعهد أدارتها اليه، وهذه الصفة المهنية في الإدارة مهمة جداً لأنها تُهيئ الكادر الوظيفي المناسب في إدارة المؤسسات، علاوة على أن صاحب الاختصاص له القدرة في إدارة الوظيفة بشكل سليم، وفي تشخيص السلبيات ومعالجتها، وفي تدعيم الحالات الايجابية ورفدها، وبالتالي فأن المحصلة النهائية تكون في صالح العمل وتطويره وتحسين إنتاجه، وهذا ما دعا اليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قبل 1400 سنة، فكانت آراءه سبقت عصره، وذلك عندما خاطب مالك الاشتر بقوله، (وأجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم)(98) ويمكن تحليل هذا النص بالشكل التالي:-

وأجعل لرأس = الرأس هو الوزير.

لكل أمر = الوزارات.

ص: 160

من أمورك = من وزاراتك.

رأسا منهم = وزيراً.

فعلي (عليه السلام) منذ القِدّم دعا الى تشكيل حكومات محلية في الاقاليم وزرائها من أصحاب الاختصاص الدقيق، أما عدد أعضاءها فهذا الأمر متروك للحاكم وذلك على قدر الحاجة وبذلك بلور الأمام علي (عليه السلام)، الكثير من المفاهيم الإدارية الإسلامية في عهده الى مالك الاشتر والتي يمكن توضيحها وفق ما يأتي:-

1- التعامل مع الوظائف الإدارية بوصفها عملية ذات طبيعة متحركة وليس بوصفها وظيفة محدده باختصاصها.

2- تجد الإنسان الأساس الذي تستند عليه العملية الإدارية، فهو أساس التفاعل بين الوظائف.

3- تتوجه الوظائف الإدارية نحو البناء القيمي والسلوكي لشخصية الفرد المستقلة وشخصيته من خلال الجماعة بما يحقق وحدة السلوك التنظيمي والانسجام والتعاون والتفاعل بين الأفراد والجماعات.

4- تُشكل مبادئ الأيمان والتقوى والإحسان والعدالة والاستقامة الضوابط التي تحكم العملية الإدارية وتوحد فيما بينها.

5- يُشكل القائد ودوره العامل الرئيسي في تحقيق الانتظام والتفاعل بين الوظائف الإدارية ويخضع التدرج القيادي الى مدى الاقتراب من المواصفات القيادية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى آخر، أي مستوى قيادي ينبغي أن يكون أكثر تمثيلاً لخصائص القيادة في الإسلام مقارنة بالمستوى الأدنى منه وهذا يحقق قناعة الرعية ورضاهم عن القائد(99).

ص: 161

طبقات المجتمع:

وردت كلمة (الطبقات) في عهد الأمام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر، ويقصد بها الفئات الاجتماعية وليس الطبقات بالمعنى الذي شاع استعماله في الحياة الاجتماعية والسياسية في العصور الوسطى(100)، وقد اعترف الإسلام کما اعترف الأمام علي (عليه السلام) بالطبقات الاجتماعية اي (الفئات) القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً وذلك لأن وجود هذه الطبقات (الفئات) ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلا بد أن يوجد تصنيف مهني يسد حاجات المجتمع المتجدد، وإذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلا بد ان يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي حينئذ توجد الطبقات(101).

يقدم الأمام علي (عليه السلام) وصفات لطبقات الناس المختلفة داخل الدولة والمجتمع وقد قسمها إلى تسع طبقات (فئات) وهي: -

1- الجنود

2- الکتاب

3- القضاة

4- العمال

5- أرباب الجزية

6- أرباب الخراج

7- التجار

8- أرباب الصناعات

9- الطبقة السفلى (ذوي الحاجات الخاصة)(102).

ص: 162

ولكل طبقة منها حقوقها وعليها واجباتها.

أن تقسيم الأمام علي (عليه السلام) المجتمع الى طبقات (فئات) لا يعني هذا أن كل طبقة تعمل بصورة منفردة وكأنها وحدة قائمة بذاتها ليس لها أي علاقة بالطبقة الأخرى وبالتالي فهي في معزل عن سواها، بل كان يريد القول أن هذه الطبقات تعمل جميعاً في بوتقة واحدة وهو المجتمع ولا تنفصل واحدة عن الأخرى لأن لكل منها دور تؤديه يصب في خدمة المجتمع، كما أنها تؤدي خدمة للطبقة الأخرى في ذات الوقت وتلبي حاجاتها، لان كل طبقة من طبقات المجتمع لا تستطيع أن تكون في اكتفاء ذاتي بل يجب التعاون فيما بينها وإنها ترتبط مع بعضها البعض بصلات وعلاقات وشيجة ولذا فأن كل واحدة منها تؤدي دوراً معيناً ومجموع الأدوار لهذه الطبقات يصب في خدمة المجتمع وهذه المعاني هي التي أشار اليها أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في بداية حديثه وقبل أن يذكر أصناف تلك الطبقات حيث ورد في ديباجة حديثة مخاطباً مالك الاشتر عن هذه الطبقات: (وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض)(103).

وهنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يشير الى أن الإنسان اجتماعي بطبعه، وهو ما أشار اليه أبن خلدون بعد ذلك أي بعد مرور ثمانمائة سنة من عهد علي (عليه السلام) عندما قال: أن (الإنسان مدني بالطبع)(104)، وهو ما أكد عليه علماء النفس والتربية والاجتماع في العصر الحديث(105)، فهو لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الآخرين وعدم التفاعل معهم لأنه غير قادر على توفير جميع مستلزمات حياته وحاجاته بنفسه بل لا بد من مساهمة ومشاركة الآخرين بتوفيرها.

ص: 163

الناسُ بالناسِ من حضرٍ وباديةٍ *** بعضُ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدمُ(106)

وبذلك فأن الأمام علي (عليه السلام) سبق العلماء والمفكرين وأساتذة الاجتماع بشأن كون الإنسان اجتماعي بطبعه.

فئة الإداريين: -

أما بالنسبة للإداريين فقد طلب الإمام علي (عليه السلام) من مالك في عهده أن يختبرهم وهذا يتفق مع القوانين الإدارية المعاصرة التي تفرض خضوع الموظف الجديد في التعيين لفترة اختبار وهو ما يطبق الآن في الأنظمة الإدارية الحديثة(107)، وبذلك فأن الإمام علي (عليه السلام) أدرك ذلك وأوجده في إدارته للدولة الإسلامية قبل أن يعرفه النظام الإداري الحديث.

كما حذر الإمام علي (عليه السلام) في العهد من عوامل الانحياز والمحاباة عند تعيين الموظفين وأنما يجب ان يكون تعيينهم حسب الكفاءة والمهارات بعيداً عن الوساطة والمحسوبية والقرابة وقد يكون هؤلاء الاقارب المُعَيَنيِن ليس لديهم الكفاءة في إدارة الأعمال فعندها ينخفض مستوى الأداء للدائرة والمؤسسة التي يعملون فيها فالإمام علي (عليه السلام) يضع قاعدة إدارية رصينة في إدارة الحكم في الدولة الراشدة عند تعيين الموظفين فيها، وذلك أعتماداً على الكفاءة وما يمتلكه الفرد من مؤهلات علمية شخصية تساعده في التوظيف في تلك المهنة، وليس على أساس القرابة أو الصلة القبلية، أو على أساس الصداقة والمحسوبية أو بتأثير الانتماءات العقائدية أو الاتجاهات السياسية فالإمام علي (عليه السلام) رفض مثل تلك التعيينات في إدارة الدولة وأكد على قاعدة ((الرجل المناسب في المكان المناسب))، علاوة على ضرورة مراقبة الموظفين والعمال للإطلاع على سير العمل ومعرفة مقدار كفائتهم وكشف

ص: 164

درجة الأمانة التي يتحلون بها فقال له الإمام: - (ثم أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباةً فأنهما جماع من شُعَب الجور والخيانة)(108).

النزاهة في إدارة الدولة:.

اشترط الإمام علي (عليه السلام) أن تكون النزاهة من الشروط الرئيسية الواجب توفرها عند تعيين ذوي المناصب العامة كالعمال أو الولاة أو الحكام في ادارة الدولة وكذلك في موظفيها وحدد الإمام علي (عليه السلام) الشخص النزيه بأن (یکسر نفسه عن الشهوات وينزعها عن الجمحات فان النفس امارة بالسوء الا ما رحم ربي)(109) فيكون مرتفعاً عن كل النزوات النفسية المعنوية مثل بهرجة الحكم أو أبهته أو النزوات المادية بالتصرف بأموال الأمة التي قيد أوامره، وعليه ان يحترم ذمم الرعية وبذلك فأن الإمام علي (عليه السلام) يشير الى حالة خطيرة في الجهاز الإداري للدولة بكسر النفس عن الشهوات التي هي التعفف في الموظف الإداري لان هناك طرفي نقيض ما بين العفة وما بين الاسترسال بالشهوات لان الأخيرة تؤدي الى انقياده الى نفسه الأمارة بالسوء، ويحذر الإمام علي (عليه السلام) من أحد أمراض الفساد الإداري وهي قبول الموظف الهدية أو أخذ الرشوة(110) فيقول (وأن أَخَذَ هدية كان غلولاً، وان أَخَذَ رشوة فهو كافر)(111).

ومن الأمور المهمة التي وجه الإمام علي (عليه السلام) مالك الاشتر بإيقاع العقوبات الجزائية على كل موظف تثبت إدانته بإساءة استخدام الأموال العامة ثم التشهير به، وعزله عن الوظيفة بتهمة الخيانة، حيث يقول له (فأن أحداً منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة)(112).

ص: 165

أن الشيء الذي يسترعي النظر ويبهر العقل هو أننا نجد أثر هذه التعليمات بعد أن مر على وضعها أربعة عشر قرنا ملموساً وواضحاً في غاية الوضوح في قانون انضباط موظفي الدولة وقانون الخدمة المدنية في العراق في العصر الحديث(113).

طبقة ذوي الحاجات الخاصة: -

كان للفئة العامة والعاجزين عن العمل وأصحاب العاهات التي تمنعهم من اكتساب رزقهم حضوراً في عهد أو دستور الأمام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر، فمن المعلوم أن المجتمع فيه مراتب مختلفة من المستوى الاقتصادي الذي يعيش فيه الناس فهناك الأغنياء وبجانبهم الفقراء، فعلي (عليه السلام) بفكره الإنساني لم ينسى هؤلاء المحتاجين والمعدومين فأنه بدأ بالتشديد والتعظيم بوصيته لمالك فيهم بقوله: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي والزمني، فأن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، وأجعل لهم قسماً من بين مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فأن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه)(114).

فقد أشار الأمام علي (عليه السلام) الى فئة رئيسية من فئات المجتمع الا وهي فئة أو طبقة العمال ومن الذين لا يستطيعون العمل أما بسبب عاهة تمنعهم من والتي وصفهم بأهل الزمني، وهو الشخص المصاب بعاهة لآن الزمانة هي العاهة(115). أو بسبب صغر سنهم، أو بسبب كبر سنهم، وهو الذين قصدهم بقوله (وذوي الرقة في السن)(116)، أو بسبب المرض الذي يحول بينهم وبين العمل.

وكذلك أشار الأمام علي (عليه السلام) الى أن في هذه الطبقة المساكين وهم الفقراء والمحتاجين وأيضاً القانع والمعتر ( فأن في هذا الطبقة قانعاً ومعتراً، فالقانع

ص: 166

هو السائل والمعتر الذي يعترض للعطاء ولا يسأل(117)، فيمنعه الحياء وعزة النفس أن يظهر بأنه فقير فتحسبه غنياً من شدة التعفف، وهما من ألفاظ القرآن الكريم وهو ه قوله تعالى «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(118).

ثم أشار الأمام علي (عليه السلام) الى فئة أخرى ضمن هذه الطبقة الا وهم اليتامى حيث أمره أن يتولى رعايتهم بقوله (وتعهد أهل اليتم) فالحاكم مسؤول عن توفير مستلزمات عيشهم بما يكفل لهم معونتهم حتى يقوى عودهم ويشتد عظمهم لان هؤلاء والفقراء والمعوزين أذا لم توفر لهم الدولة وسائل العيش وفرص العمل فأنه لا يستبعد أن ينحرفوا وأن ينتهجوا طريق الأجرام لأنهم لم يجدوا من يرعاهم ويهتم بهم ويُقوم سلوكهم فأصبحوا عرضة لكل طارق ولكل مسي أن يؤثر عليهم وينجروا وراء تحقيق رغباتهم بالوسائل غير الشرعية وعندها يصبحوا عالة على المجتمع وخطراً يهدد كافة فئاته، كما أن شعور الناس بالظلم وعدم المساواة الاجتماعية وعدم حصولهم على حقوقهم والتباين الكبير بين طبقات المجتمع فأنه يولد شرارة التمرد والثورة على الفئة الحاكمة وفي التاريخ العديد من الشواهد والأدلة التي تدعم ذلك(119).

وقد أوضح الأمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك وسائل رعاية هؤلاء ومصادر الأنفاق عليهم باعتبارهم مواطنين في الدولة ولهم حق، العيش وعليها توفير مستلزمات معيشتهم بقوله: (وأجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي(120) الإسلام في كل بلد فأن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه)(121) فأن الأمام علي (عليه السلام) جعل الدولة ضامنة وكافله

ص: 167

بتوفير مستلزمات العيش لرعاياها وذلك بالأنفاق عليهم من خزينة الدولة وهو بیت المال لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(132).

وكذلك يحصلون على المعونات من الدولة من خلال المحاصيل الزراعية التي ترد من أراضي الصوافي التي فتحها المسلمين بالقوة وأصبحت ملكاً لهم لكونهم يدفعون عنها ضريبة العشر لخزينة الدولة فأن خيرها يعود لجميع المسلمين وهنا الأمام علي (عليه السلام) يشير الى موضوع له من الأهمية بمكان في عالم السياسة والاقتصاد الا وهو موضوع الثروات الوطنية بأعتبارها ملكاً عاماً للجميع ولا يستأثر به أحداً دون الآخرين لأنها ثروة عامة ولكل فرد من الأفراد له حق ونصيب فيها، ولا يجوز التصرف بها أو حيازتها وملكيتها لأحد، بل هي ملك عام لجميع أبناء الأمة، وهذا ما أشار اليه الإمام علي (عليه السلام) بأن الثروات التي يتم الحصول عليها كالضرائب المفروضة على المحاصيل الزراعية فأنها لا توزع حكراً على المحتاجين من سكان ذلك الإقليم فقط بل توزع على جميع المحتاجين والمعوزين من أبناء الأمة وذلك عندما جعل لهم حق في غلات صوافي الإسلام في كل بلد (فأن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعیت حقه)(133). ونستطيع أن نعزز رأينا وندعمه بما ذكره أبن أبي الحديد في شرحه للعهد حيث قال أنه (یرید به لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد الى مساكين ذلك البلد خاصة فأن حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد)(124).

وبذلك فأن الإمام علي (عليه السلام) قد سبق جميع الأفكار والآراء التي توصلت

ص: 168

اليها الدول ألحديثه عندما جعلت الثروات الوطنية ملكاً لجميع أبناء الوطن وقد نصت عليها في دساتيرهاً، ومنها الدستور العراقي وذلك حسب ما جاء في المادة(111) من الدستور الصادر في عام 2005(125). فهذه الافكار مستمدة ومستوحاة من فكر الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ففكره سبق عصره الذي عاش فيه بل وسبق العصور التي أتت من بعده لأن مثل تلك الأفكار لم يتوصل سواه اليها. فالنظرية الإسلامية السياسية تؤكد على ان الثروة الوطنية يتم توزيعها على جميع أبناء الأمة(126). لكونها مُلكاً للجميع.

ولغرض تنفيذ تلك التوجهات فأن الأمام علي (عليه السلام) أمر الحاكم بأن يتفقد الفقراء والمساكين وأصحاب العاهات واليتامى وان تكون لديه قاعدة من المعلومات ويوكل بهم من يتفقدهم ويتعرف عليهم ويشخص حالاتهم والمشكلات التي يعانون منها وإيصالها الى الحاكم، حتى يصرف لهم تلك المعونات والمساعدات حيث قال له: (ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع اليك أمورهم)(127)، فعلي (عليه السلام) يأمر بتشكيل لجان من ذوي السلوك الحسن وممن عرفوا بالتقوى لفرز وتشخيص حالات الفقر والعوز لغرض معالجتها وإيجاد السبل الناجحة لها.

مميزات عهد الأمام علي (عليه السلام): -

وختاماً وبعد هذه الجولة في هذا السفر الخالد أنه يمكن إدراج المميزات التالية بشأنه:

1- يُعدٌ عهد او دستور الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك الاشتر واحداً من أهم الوثائق التاريخية وهو بمثابة ثورة أصلاحية لسير القادة والولاة مع شعوبهم على منواله، ولرسم الطريق وتجديد العلاقة بينهم، وكان من الأهمية

ص: 169

القصوى أن يوضع أمام مسيرة البشرية وتمكين الأجيال من تدارسه والانتفاع بمضامينه ليؤدي دوره في مجال البناء والتوجيه(128).

2- أن هذا العهد يعتبر من أهم الوثائق التي تطرقت للنظام السياسي الإسلامي بتفصيل وشمول لا نجده في غيره من النصوص التي وصلت الينا من تلك الحقبة(129).

3- سبقه الزمني وكونه نتاجاً لتزواج بين الجانب النظري والجانب العملي في السياسة والحكم والإدارة للدولة الاسلامية.

4- أن ما ورد في العهد من مبادئ وقيم وأفكار وقواعد في الحكم وما تضمن من مباني سياسية تتجاوز حدود سياقها التاريخي.

5- أن النصائح الواردة في العهد هي نص أخلاقي بمقدار ما هي نص سياسي ولكنها ليست نظاماً متنوع الأساليب والأغراض أو نظرية في الأخلاق بل تعبير ملهم في الحقيقة عن فضائل روحانية جسدها الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) وشعت عنه طبائع فاضت مباشرة من مصادر الوحي الإسلامي وتكشف بالتالي عن جذور الفضيلة والأخلاق في مناخ محكوم بمبدأ الوحي الشامل لكل شيء، فهي تفوق كثيراً المقاييس الموضوعة تقليدياً بالنصوص السياسية أو القانونية الخاصة بالإدارة والحكم، وبغض النظر عن كونها تخاطب لأول وهلة الحاكم أو الوالي في الدولة، فأن القسم الأعظم من النصيحة ينتمي في الحقيقة الى المبادئ الأخلاقية المطبقة عالمياً وبالتالي فأن صلتها بالمحكومين تماثل صلتها بالحاكم(130).

6- أن عهد الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر، کشف عن دور المبادئ الروحية في تشكيل القيم الأخلاقية وتقرير نوعية الممارسة السیاسیة.

ص: 170

التوصيات

ندرج ادناه بعض التوصیات الخاصة بعهد او دستور الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي كتبه الى مالك الاشتر: -

1- تدریس عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في الكليات والمعاهد وذلك ضمن مادة الديمقراطية وحقوق الانسان ورفع توصية بذلك الى لجنة المناهج في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لاضافته الى مفردات المنهج.

2- توجیه معلمي المدارس ومدرسي الثانويات للتنويه بما جاء بالعهد من افکار و آراء وقيم ومبادئ لتوعية الطلبة وتدعيم روح المواطنة فيهم.

3- ضرورة تضمين الدستور العراقي لفقرات ونصوص من العهد لما لها من اهمية في ترسيخ مبادئ حقوق الانسان والمواطنة، والعدل والمساواة ورفع توصية بذلك الى اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي.

4- ضرورة اطلاع المؤسسات الادارية على العهد، والتعرف على ما ورد فيه من افکار ادارية واجتماعية، واخلاقية وانضباطية والالتزام بها.

5- كتابة وطباعة لوحات تعريفية، وبوسترات، تتضمن فقرات من العهد وتُعلق عند مداخل الجامعات والكليات والمراكز العلمية والمؤسسات ودوائر الدولة المختلفة والمدارس، لغرض التعريف بما ورد بالعهد وحث المواطنين على السير على منوالها لكونها المثال الأعلى للاقتداء به والتي تُعزز قوة التماسك بين جميع ابناء المجتمع العراقي.

6- كتابة مقالات في الصحف والمجلات تتناول موضوع العهد وما يهدف اليه وبیان ابعاده و مضامینه.

ص: 171

7- اقامة ندوات تربوية في وسائل الاعلام المختلفة وكذلك في الكليات والمؤسسات التعليمية ودوائر الدولة يشترك فيها عدد من الاساتذة الجامعيين في مختلف الاختصاصات التاريخية، والاجتماعية والاقتصادية، والقانونية للتعريف بالعهد وتوضيح مضامينه وما ورد فيه من المبادئ والقيم والحقوق والواجبات، لما له من أثر ايجابي في ترسيخ الوحدة الوطنية.

8- توجيه طلبة الدراسات العليا في الكليات ذات الاختصاص بكتابة رسائل واطاريح جامعية عن مضامين عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر في مختلف المجالات.

9- التوصية بقيام الجهات العراقية المختصة بمفاتحة المنظمات الدولية كمنظمة الامم المتحدة، واليونسيف ومنظمة حقوق الانسان وغيرها بادراج عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ضمن لوائحها وبرامجها المتعددة.

ص: 172

الخاتمة:

من خلال دراستنا لموضوع العهد او الدستور الذي كتبه علي بن ابي طالب عليه السلام لواليه على مصر مالك بن الحارث الاشتر سنة 38 ه / 658 م. تبين لنا ان هذا العهد يعد من اطول العهود السياسية التي حفلت بها الثقافة الاسلامية فيما يخص الحياة السياسية ليس في العصر الراشدي فحسب بل على طول التاريخ الاسلامي.

کما ان العهد يُمثل افضل النظريات السياسية في ادارة الدولة الراشدة والمثال الحسن الذي يُقتدى به.

واتضح لنا ان ما جاء في هذا العهد من أفكار وآراء و نظريات في ادارة الدولة الاسلامية قد سبقت المرحلة التاريخية التي ظهر فيها كدعوته الى الفصل بين السلطات الثلات التنفيذية والتشريعية والقضائية والدعوة الى اتباع النظام اللامركزي في ادارة الدولة الاسلامية وتشكيل حكومة محلية من ذوي الاختصاص الدقيق، تكنوقراط في الولايات او الاقاليم فيها، وان يكون التعامل مع جميع ابناء المجتمع على حد سواء دون التمييز او التفرقة بينهم، وفق مبدأ المواطنة، وأقرار العهد لمبدأ حقوق الأنسان. وبذلك فأن أفكار وآراء الامام علي بن ابي طالب عليه السلام في تلك المجالات كان لها قصب السبق.

کما توصلنا ان العهد الذي كتبه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام كان من اوائل الراعين الى أعتبار الثروات الوطنية ملكاً عاماً لجميع أبناء المجتمع ولا يجوز أن تستأثر به جماعة دون اخرى.

کما شخص البحث العديد من المفاهيم الادارية، والاساليب التي يجب أن تُتبع في ادارة الدولة وفي تعيين المواطنين ومراقبة الجميع ومحاسبتهم وأنزال العقوبات الرادعة

ص: 173

بحق كل من يسيء الى المال العام لأنه لا احد فوق القانون. ونظراً لأهمية هذا العهد وما تضمنه من أفكار ومبادئ وقيم أنسانية وهذا ما توصلنا اليه من خلال سير البحث فقد لاقى أهتماماً كبيراً من خلال ترجمتهُ الى العديد من اللغات العالمية واقتباس بعض من فقراته وتضمينها في دساتير بعض من الدول أو السير على منواله، کما ان المنظمات الدولية لم تكن بعيدة عن عهد او دستور الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وأفكاره وآراءه وحِکَمِهِ بل كانت حاضرة ومتفاعلة معه بشكل إيجابي.

ص: 174

الملاحق

ص: 175

ص: 176

ملحق رقم (1) الكتاب السنوي للامم المتحدة لعام 2002

Yearbook of the United Nations 2002

ص: 177

ملحق رقم (2 أ) صورة غلاف تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 ARAB HUMAN DEVELOPMENT REPORT 2002 UNITED NATIONS DEVELOPMENT PROGRAMME ARAB FUND FOR ECONOMICAND SOCIAL DEVELOPMENT ARAB HUMAN DEVELOPMENT REPORT 2002 Creating Opportunities for Future Generations 7007

ص: 178

ملحق رقم (2 ب) صورة صفحة رقم 28 من تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 ARAB HUMAN DEVELOPMENT REPORT 2002« p 82.

Efforts should be made to develop Arabic Language witware for general education, adult training and p uding of profissional skik Programme for de training should be en information industry. Lors should be pused to protect rational andives, induding and pan-Arab institutions. Heritage an , in dudin text, pidu fil de und radio and TV Bordings should be dritid. Developers and use shodd be informed of the able Arab Duces of content and the duction of ICT in the workplace The Internet should be used to the max in order to ir Arab women to participate the multi-media producindemics. A INFO2000 progree of the European Union.

Rab for CT. Priority should be given to research the addresses the ICT trends dis Thember of technological support cen the should be increased The Egyptin expe rience of creating a group of such contro in se province, with UNDP funding, is und in this regard The Tedinology A ss Comitiation Cantre (TAC is provide eing in decironic trade, office manne ent, dother skills to Expeines with him lanpe A network of specialised research instituts show he cut to tackle the prou Essing of the Arabic L ipe and the ne brands of ICT. Thee ons ond he bried in existinn Arbrecard institutions.

European Union in ICT and should be stered Developers and implementer Develapers and implementers should realize the importance of innovation in the age of information bal med information red an be apbisin Arabuntis in order to move hat linksKCT with day diy life The dancer of autant. Content shod be considered a major component in the mad- human dendopment. Chapter 6 mntins the fmous on the of human philities in the Imam Ali bin abi Telek: (556+19 AD.) knowledge and work 9000 morts quakohte nde

ص: 179

Jg914 jtd sibel Gobell jagtl Jlaci XI.

ملحق رقم (2 ج) صورة صفحة رقم 701 من تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 ARAB HUMAN DEVELOPMENT REPORT 2002. P 107 12 lifted and that the actor's apaty 000 tribute cffectively to poverty cradication is de veloped and strengthened.

Gorenince bemünolog in the Anbic lange The daton a punts relating to a bojda. amuna in the Arabic Lane s ad Another pedaalian irer be Fir nice the WTOIL 2007d Tun"-pin Pro Yar all the NS of modo duas " M"which in the end amung into andmed sent a Atic see linally means in, telter tot . ] Etich die indiq-1 mening the 20mm, ponds to ICT". "Coat", i LML G r opTIGIL dabe The shoot, zich bin phonic dolm, Du free Antidiano " mn" what Fnal, "nular" 3 1 Pon up porn in jure 100 mpka". The other do 91IDENE is, malerih of the frsund Linetton', tid out of the nice. "Tyran dcienins diaria fer ditt another simple dertion Irom the act, Another phonetic Dodifc u ts in mnd ni E is a Sepe lemn jutic" z u wido", ztich this indistic Int l PUNT:tha forchal otsidentit i byen b und kr disisal. Huden y and public w rz Poverty, in the bed was di tris Report-deprivation of apabilities is the anithesis of hoan de clopment. By Quotras, 2 JOLCAT is fundamentally about libertin human capabuities As Kofi Annun, the UN Sceny Cereri d. "Good governance is perhaps the single post portant factor in tradicting porerly and promoting derdlopment". The institutions of 2010mm in the three demens (stre, 4 pdcy and the private sector] But he de signed to contribute to sustainable tende dopment by estabSshing the posial, la Coric dodil draumsines for them.

ng human capabties in order to PTOMICE ho wdfare through, ie, poverty reduc tion, job cestion, environmental protection and the drinem of can In Ene with this concept of liberation, today's cries is at the med allatie Way to eradicate poveriy, ie, to build human development, is to empower the poor to Eft than is out of povery. However, the poor have no capital except their labour power and creative capabilitis, which poverty Sup press. Empowering the poor, the cloc, IC uits the state, the guardian of the interesis of all cities, to adopt polids od progress that equip them with a range of apabilitis and that give them in all decisions affec. ing them. As noted in chapter 6 building - capabilsis tra d icin, train ing and health care-is critical for coming poreray while financial anal boxen cial to give merial expression to people's a publizis. That the state has the utere te pensbay for empowering the poor dos mot ran that the state asums the role of di tect poorider of cocnomic goods and services This approach has failai T uirement is that the state guarantee the provision of affer ent forms of apitel to the poor through dis tributive e te in fact, distributive justice is in sential decent of the societal structure is mature market comodit.

In addition to povertiment, civil society can be a critical social force for empowering the poor, provided the onstraintson forming civil society institutions and on their activitis 2001 T.

Imli Ali bin Abi Talcks on veze He whats upon hinter der is unntatious, who ha TITLE e cocktai baby doda t e and to It hitaal bedonc rche other, is 12d dilbarlis Inting clothes and belir bu ting those the better papir who berns by twins und suctiu p o n the desc he is Cority of pad than he pl to und b is 100 thothandeyado. Tento ni not pure in Engine Ind should be creier than you can becomes , WC ubahen knoes ih nacin , for he ler o gerd who will not be gidia with a only be obited by daydipin, bent minimum of alnmn without acting he tho di vite mii dep the mi dt und sinding star O try the curry and the be the bad shadi zizten doebt is cut storhetta del DIECI I ODLETED * Set the camped the lined and the opponent, the ITS PLENE the risinordoshing the puble plina the truth, the modern in e a Non h ID EY Nİ OT beping ULTI E pinion nd there arbete.

outono. Sou Naha 1 klach, morded by Im Vmad Abitu, Ful, Dur El of 2 lat ndodon grut 1983.

The nhu 12 LIELLTIN HUMAN CAPARILITIES: GOVERNANCE HLVAN DEVELOPMENT AND THE ALLE TIL

ص: 180

قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم

الاسكافي، ابو جعفر محمد بن عبد الله المعتزلي (ت 220 ه/ 830 م)

(1) المعيار والموازنة، تحقيق محمد باقر المحمودي، ط 1، نشر مؤسسة المحمودي، بیروت، 1981.

اسماعیل، محمد بكر

(2) فقيه الامة ومرجع الأئمة علي بن ابي طالب، ط 1، مطبعة گلها، قم، 2009.

الأعرجي، زهير

(3) العدالة الاجتماعية، ط 1، مؤسسة محراب الفكر، قم، 1994.

الأميني، عبد الحسين

(4) الغدير، ط 4، دار الكتاب العربي، بیروت، 1997.

بحر العلوم، محمد

(5) لمحات من الصراع السياسي في الاسلام، ط 1، زيد للنشر، بغداد، 2007.

البلاذري، ابو الحسن احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه/ 901 م)

(6) انساب الاشراف، ط 1، تحقیق سهیل زکار، ورياض زركلي، دار الفکر، بیروت، 1996.

البيهقي، قطب الدين الكيذري (من اعلام القرن السادس الهجري)

(7) حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة، تحقيق عزيز الله العطاردي، ط 1، مطبعة

ص: 181

اعتماد، قم، 1416 ه

ابن تغري بردي، جمال الدين ابي المحاسن يوسف (ت 874 ه / 1469 م)

(8) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، قدم له وعلق عليه محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت (ب. ت)..

التميمي، احمد محمد جودي

(9) مالك بن الحارث الاشتر ودوره في الاحداث السياسية في القرن الاول الهجري، رسالة ماجستير، الجامعة المستنصرية، بغداد، 2005.

الجاحظ، ابو عثمان عمر بن بحر (ت 255 ه/ 839 م)

(10) تهذیب الاخلاق، تحقیق ابراهيم بن محمد، ط 1، دار الصحابة للتراث، مصر، 1989.

الجبوري، ماهر صالح علاوي وآخرون

(11) حقوق الأنسان والطفل والديمقراطية، الموصل، 2009.

ابن ابی الحدید، عبد الحميد بن هبة الله (ت 655 ه / 1257 م)

(12) شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهیم، ط 1، دار احياء الكتب العربية، القاهرة، 1959

الحراني، ابن شعبه (ت في القرن الرابع الهجري)

(13) تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليهم، تحقیق علي اکبر الغفاري، ط 2، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين، قم، 1404 ه.

حسن، بهي الدين، ومحمد السيد سعيد

ص: 182

(14) حقوقنا الآن وليس غداً، المواثيق السياسية لحقوق الانسان، نشر مركز القاهرة الدراسات حقوق الانسان، سلسلة رقم (8)، (ب. ت).

العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر (ت 726 ه / 1325 م)

(15) خلاصة الأقوال، ط 2، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، 1381 ه.

ابن حمدون، محمد بن الحسن بن محمد بن علي (ت 562 ه / 1166 م)

(16) التذكرة الحمدونية، نسخة الكترونية نشر موقع الوراق http: // www. alwarraq. Com

حميد الله، محمد

(17) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط 6، دار النفائس، بیروت، 1987)

حیدر، اسد

(18) الامام الصادق والمذاهب الأربعة، ط 3، توزیع، مکتبة الصدر، قم (ب. ت)

الخطيب، عبد الزهراء الحسيني

(19) مصادر نهج البلاغة واسانیده، ط 3، دار الأضواء، بیروت، 1985.

ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه / 1405 م)

(20) تاریخ ابن خلدون، المسمی کتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، دار الكتاب العربي، بیروت، 1957.

ابن دحية الكلبي، أبو الخطار عمر بن الحسن (ت 633 ه / 1235 م)

(21) أعلام النصر المبين في المفاضلة بين اهلي صفين، تحقيق محمد أمحزون، دار

ص: 183

الغرب الإسلامي، بيروت، 1998.

ابن دريد، أبو بكر محمد بن الحسن (ت 321 ه 942 م)

(22) الأشتقاق، تحقیق عبد السلام محمد هارون، ط 2، دار المسيرة، بيروت، 1979.

الدستور العراقي

(23) الصادر في عام 2005.

الذهبي، ابو عبد الله شمس الدين محمد (ت 748 ه/ 1347 م)

(24) تاریخ الاسلام، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، دار الكتب العلمية، بیروت، 2005.

رسالة علي بن ابي طالب الى مالك الاشتر

(25) مقالة في الموسوعة الحرة الويكيبيديا http: // ar. Wikipedia. Org

الزركلي، خير الدين

(26) الأعلام، قاموس تراجم، ط 8، دار العلم للملايين، بیروت، 1989.

السرخسي، علي بن ناصر (من اعلام القرن السادس الهجري)

(27) اعلام نهج البلاغة، تحقيق الشيخ عزیز الله العطاردي، ط 1، مؤسسة الطباعة والنشر، طهران، 1415 ه.

السند، الشيخ محمد

(28) بحوث معاصرة في الساحة الدولية، ط 1، نشر مركز الأبحاث العقائدية، مطبعة ستارة، قم، 1428 ه

سوبول، البير

ص: 184

(29) تاريخ الثورة الفرنسية، ترجمة جورج کوسي، ط 4، منشورات بحر متوسط، بیروت، 1989.

السراي، رشید

(30) موضوع اعدل حاکم، مقال بالنت، شبكة اخبار الناصرية بتاريخ 22 / 10 / 2011

الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسي (ت 406 ه/ 1015 م)

(31) - نهج البلاغة، دار احیاء التراث العربي، بیروت (ب. ت).

شمس الدین، محمد مهدي

(32) دراسات في نهج البلاغة، ط 3، الدار الاسلامية للطباعة، بیروت، 1981.

الشيخ، حسن محمد

(33) ملامح من الفكر الاداري عند الامام علي عليه السلام، ط 1، دار البيان العربي، بیروت، 1993

صبحي، احمد محمود

(34) في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية (ب. ت)

الصفار، رشید عبد الحميد

(35) مالك الأشتر بطل صفين، مطبعة أونسيت الميناء، بغداد، 1977.

الطائي، نجاح

(36) سيرة الامام علي بن ابي طالب، ط 1، دار الهدى لأحياء التراث، بیروت، 2003.

ص: 185

الطبري، ابو جعفر محمد بن جریر (310 ه/ 922 م)

(37) تاريخ الطبري، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1999

الطريحي، فخر الدين (ت 1075 ه/ 1674 م)

(38) مجمع البحرین، تحقيق السيد احمد الحسيني، ط 2، مکتب نشر الثقافة الاسلامية قم، 1408 ه

الطهراني، آغا بزرك

(39) الذريعة الى تصانيف الشيعة، ط 2، دار الأضواء، بیروت، 1378 ه.

الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه / 1067 م)

(40) الأمالي، تحقيق، بهراد الجعفري، وعلي اکبر الغفاري، نشر دار الكتب الاسلامية، طهران، 1380 ه

(41) الفهرست، تحقيق الشيخ جواد القيومي، مطبعة باقري، قم، 1422 ه.

عبده، الشيخ محمد

(43) نهج البلاغة، ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1993.

عثمان، محمد فتحي

(43) حقوق الانسان بين الشريعة الاسلامية والفكر القانوني الغربي، ط 1، دار الشروق، القاهرة، 1983.

عدوه، علي سعد تومان

(44) أسس بناء الدولة الاسلامية في فكر الامام علي عليه السلام، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الاشرف، 2011.

ص: 186

العطار، رضا

(45) مفهوم الخلافة في دولة الامام علي عليه السلام، مقال بالنت نشر موقع كتابات، بتاریخ 2008/9/20.

العلياوي، مزهر عبد السادة حنين

(46) صياغة مبادئ ادارة الأعمال وفق المنظور الأسلامي، دراسة استطلاعية، اطروحة دكتوراه، كلية الادارة والاقتصاد، جامعة البصرة، 2007.

الفكيكي، توفيق

(47) الراعي والرعية، ط 1، مطبعة شریعت، قم، 2004.

القاضي النعمان، ابو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت 363 ه / 973 م)

(48) دعائم الاسلام، تحقیق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، القاهرة، 1963

قدامة بن جعفر، ابو الفرج (ت 337 ه / 938 م)

(49) الخراج وصناعة الكتابة، تحقیق محمد حسين الزبيدي، دار الرشید، بغداد، 1981

القلقشندي، أبو العباس احمد بن علي بن احمد (ت 821 ه / 1418 م)

(50) صبح الأعشى في كتابة الإنشا، المطبعة المصرية، القاهرة، 1931.

کاظمي، رضا شاه

(51) العدل والذكر تعریف بروحانية الامام علي، ترجمة سيف الدين القصير، ط 1، دار الساقي، بیروت، 2009.

ابن الكلبي، ابو المنذر هشام بن محمد بن السائب (ت 204 ه/ 817 م)

(52) نسب معد واليمن الكبير، تحقیق ناجي حسن، ط 1، عالم الكتب، بیروت، 2004

ص: 187

مارکس، کارل

(53) رأس المال، ترجمة راشد البراوي، مطبعة الشبكشي، القاهرة، 1947.

المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي (ت 111 / 1699 م)

(54) بحار الانوار، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1983.

محمد، احمد

(55) مقتبس السياسة وسياج الرياسة، المطبعة الأدبية، مصر، 1317 ه.

المحمودي، محمد باقر

(56) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ط 1، مطبعة النعمان، النجف الاشرف، 1386 ه.

المرزباني، ابو عبد الله محمد بن عمران بن موسي (ت 384 ه/ 994 م)

(57) معجم الشعراء، تحقيق فاروق اسلم، ط 1، دار صادر، بیروت، 2005.

ابن مزاحم، نصر المنقري (ت 212 ه/ 827 م)

(58) وقعة صفين، تحقیق عبد السلام محمد هارون، ط 2، المؤسسة العربية للطباعة بیروت، 1382 ه.

المظفر، عبد الواحد

(59) قائد القوات العلوية مالك الاشتر النخعي، ط 1، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت، 2008

المعري، ابو العلاء احمد بن عبد الله (ت 449 ه / 1057 م)

(60) دیوان شعره، تحقیق امين عبد العزيز الخانجي، مكتبة الهلال، بیروت، 1924.

ص: 188

المفيد، ابو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري (ت 413 ه/ 1022 م)

(61) الامالي، دار التيار الجديد (ب. ت)

ابن منظور، ابو الفضل جمال الدین محمد بن مکرم (ت 711 ه / 1131 م)

(62) لسان العرب، ط 1، دار صادر، بیروت، (ب. ت)

الموسي، صباح

(63) النقيب وصية الامام علي الى مالك الاشتر (مقال منشور في جريدة النهار اللبنانية)، العدد 882 بتاریخ 22/ 12/ 2009.

میثم البحراني، کمال الدين بن علي بن میثم البحراني (ت 679 ه/ 1280 م)

(64) شرح نهج البلاغة، ط 2، مطبعة خدمات، ایران، 1404 ه.

النحلاوي، عبد الرحمن

(65) التربية الاجتماعية في الاسلام، ط 1، دار الفكر، دمشق، 2006.

النويري، شهاب الدین احمد بن عبد الوهاب (ت 733 ه/ 1332 م)

(66) نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقیق مفید قميحه، ط 1، دار الكتب العلمية، بیروت، 2004.

آل ياسين، محمد حسن

(67) نهج البلاغة لِمَن، ط 3، مطبعة المعارف، بغداد، 1975.

اليعقوبي، احمد بن اسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح (ت 292 ه/ 904 م)

(68) تاريخ اليعقوبي، علق عليه خليل المنصور، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999.

ابو يعلي محمد بن الحسين الفراء (ت 458 ه/ 1065 م)

ص: 189

(69) الاحکام السلطانية، صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي، ط 2، مطابع مكتب الاعلام الاسلامي، ایران، 1406 ه.

ابو يوسف، يعقوب بن ابراهيم (ت 181 ه/ 797 م)

(70) کتاب الخراج (ضمن كتاب موسوعة الخراج)، دار المعرفة، بیروت، (ب. ت).

(71) Arab Human Development Report، 2002: Crating opportunities for future generations. New york• 2002. Cited in: http://www.undp. org/rbs

(72) United Nation، The Year book 2002. vol. 56، printed in the United States of America، part Two« (2004). Cited in: https://unyearbook. un.org (the Yearbook 2002).

ص: 190

الهوامش

1. أبن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير 1 / 289؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 135؛ محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، 5 / 99؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 2 / 398؛ أبن تغري بردي، النجوم الزاهرة 7 / 326 - 327.

2. المرزباني، معجم الشعراء الشعراء، ص 310.

3. أبن دريد، الاشتقاق، ص 138.

4. أبن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير 1 / 57

5. السيد حسني، أعلام نهج البلاغة، ص 265.

6. ((الذهبي، تاريخ الإسلام 2 / 211، أبن تغري بردي، النجوم الزاهره 1 / 138.

7. نصر بن مزاحم / وقعة صفين، 54، 171، 175، 250، 506، 554؛ أبن دحية الكلبي، أعلام النصر المبين / ص 96؛ الزركلي، الأعلام 5 / 259.

8. العلامة الحلي،خلاصة الأقوال، ص 277؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 42/ 176، عبد الحسين الأميني، الغدير 9/ 41

9. الطريحي، مجمع البحرين 2 / 481.

10. الشيخ المفيد، الأمالي، ص 83؛ الذهبي، تاريخ الإسلام 2 / 211.

11. محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة، ص 333.

12. احمد محمد التميمي، مالك بن الحارث الاشتر ودوره في الأحداث السياسية في القرن الأول الهجري، ص 162.

13. محمد حسن آل ياسين، نهج البلاغة لمن ص 11.

14. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 12.

ص: 191

15. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، ص 8.

16. أسد حیدر، الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 / 570.

17. نجاح الطائي، سيرة الأمام علي بن ابي طالب 6 / 76.

18. أبن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 126؛ أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17، 24.

19. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 88.

20. محمد بكر إسماعيل، فقيه الأمة، ص 321 - 323.

21. في ص 232.

22. ص 126 - 149؛ وانظر كذلك محمد بكر إسماعيل، فقیه الأمة ص 176.

23. 1/ 354 وما بعدها.

24. محمد عبده، نهج البلاغة 3/ 571.

25. ص 85.

26. (6) 1/ 78 - 79

27. (1) 6/ 58

28. (2) 1/ 78 - 79

29. 6/ 21 - 30.

30. 10/ 12.

31. 3/ 6.

32. 33/ 599 - 612.

33. 17/ 30 وما بعدها.

34. 2/ 539 - 547.

35. 4/ 137 - 187.

ص: 192

36. ص 1/ 89 وما بعدها.

37. أسد رستم، الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1/ 571.

38. نهج البلاغة 3/ 571 - 596.

39. أسد رستم، الأمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 / 571.

40. أسد رستم، المصدر نفسه 1/ 571.

41. أسد رستم، المصدر نفسه 1/ 571.

42. أسد رستم، م، ن، 1/ 571؛ وأنظر كذلك عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية، ص 60 هامش رقم (1).

43. ص 38 وما بعدها.

44. الذريعة، 13 / 373 - 375.

45. رشید عبد الحميد الصفار / مالك الاشتر بطل صفين / ص 32.

46. للتفاصيل راجع عبد الزهره الخطيب / مصادر نهج البلاغة / 3/ 426 - 430.

47. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية / ص 38 وما بعدها.

48. للتفاصيل راجع / توفيق الفكيكي / المصدر نفسه / ص 9.

49. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 24 - 91؛ میثم البحراني / 1 / 89 وما بعدها، محمد عبده / نهج البلاغة، 3/ 571 - 596.

50. احمد محمد، ص (2 - 3).

51. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 9

52. آغا بزرك الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة 13 / 373؛ عبد الزهراء الخطيب، مصادر نهج البلاغة 3/ 427 - 428.؛ رسالة علي بن أبي طالب الى مالك الاشتر، مقال بالنت نشر موقع ویکیپدیا.

53. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 158.

ص: 193

54. ماهر صالح الجبوري وآخرون، حقوق الإنسان والطفل، ص 62.

55. محمد فتحي عثمان، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 13.

56. للمزيد من المعلومات عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبنوده الثلاثين راجع، بهي الدين حسن وآخرون، حقوقنا الآن وليس غداً المواثيق الأساسية لحقوق الإنسان، ص 39 - 45، 47 - 345؛ محمد فتحي عثمان، حقوق الإنسان، ص 14 وما بعدها.

57. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 158.

*. القرآن الكريم، النساء، 59.

58. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 40.

59. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 141.

60. أبن أبي الحديد، المصدر السابق 17 / 46.

61. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 75.

62. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 327.

63. ابن ابي الحديد، المصدر السابق 9 / 328.

64. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 160.

*. والدول: جمع دولة بالضم، وهي أسم المال المتداول به يقال هذا الفيء دولة يهتم يتداولونه والمعنى يجب أن يكون الأمام يقسم بالسوية ولا يخص قوماً دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون أخرى، أو لإنسان من المسلمين دون غيره فيتخذ ذلك بطانة، أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 8 / 266.

65. أبن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة، 8 / 204

66. محمد مهدي شمس الدين / دراسات في نهج البلاغة، ص البلاغة، ص 75، 78.

ص: 194

67. محمد مهدي شمس الدين، المصدر نفسه، ص 79 - 80.

68. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 58 - 59.

69. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 59.

70. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 82.

71. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 59.

72. أبو يعلى، الأحكام السلطانية 1/ 66.

73. رضا شاه کاظمي / العدل والذكر / ص 59.

74. للتفصيل أكثر ينظر: أبن شعبه الحرائي، تحف العقول، ص 171 - 180؛ البيهقي، حدائق الحقائق 2/ 30؛ نجاح الطائي، سيرة الأمام علي بن أبي طالب، 6/ 102 - 106.

75. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 112 - 113؛ البيهقي، حدائق الحقائق 2/ 537.

76. أبن أبي الحديد، المصر نفسه 17/ 32؛ البيهقي، المصدر نفسه 2/ 520.

77. عبد الزهراء الخطيب، مصادر نهج البلاغة 3/ 425.

78. آغا بزرك الطهراني، الذريعة، 13/ 373.

79. ((رضا شاه کاظمي، العدل والذر، ص 106.

80. بحوث معاصره في الساحة الدولية، ص 364 - 365.

81. صباح الموسى، النقيب وصية الأمام علي الى مالك الاشتر، مقال منشور في مجلة النهار اللبنانية، عدد 822 بتاریخ 2009/12/22.

82. رضا العطار، مفهوم الخلافة في دولة الإمام علي (عليه السلام)، مقال بالنت نشر موقع كتابات بتاريخ 2008/9/20.

83. رشيد السراي، مقال بالنت عن موضوع أعدل حاکم، شبكة اخبار الناصرية

ص: 195

بتاریخ 22 / 10 / 2011.

84. United Nation , the year book 2002, vol. 56, printed in the united states of America , part Two, p. 611 -812 (2004).

85. ARAB Human Development Report 2002, p. 82, 107.

86. شرح نهج البلاغة 17/ 61.

87. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 67.

88. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 147.

89. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 58.

90. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 75.

91. أبن أبي الحديد، المصدر نفسه 17/ 58.

92. علي سعد عدوة، أسس بناء الدولة الإسلامية، ص 204.

93. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 42.

94. أبو جعفر الأسكافي، المعيار والموازنة، ص 98.

95. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، ص 156.

96. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 79.

97. علي سعد عدوة، أسس بناء الدولة الإسلامية، ص 214.

98. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17 / 76.

99. مزهر عبد السادة حنين العلياوي، صياغة مبادئ ادارة الأعمال، ص 51.

100. کارل مارکس، رأس المال 2/ 131 - 143؛ احمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص 231 - 242.

101. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في تاريخ البلاغة، ص 35 - 36.

102. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 39.

ص: 196

103. أبن أبي الحديد، المصدر نفسه 17/ 37.

104. أبن خلدون، تاريخ أبن خلدون (المقدمة) 1/ 41.

105. عبد الرحمن النحلاوي، التربية الاجتماعية في الإسلام، ص 19 - 24.

106. أبو العلاء المعري، ديوانه 2/ 277.

107. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 138.

108. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 18.

109. أبن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 30.

110. علي سعد عدوة، أسس بناء الدولة الإسلامية، ص 208.

111. المجلسي، بحار الأنوار 72/ 13.

112. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 53.

113. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية، ص 142.

114. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 65.

115. أبن منظور، لسان العرب 13/ 199.

116. البيهقي، حدائق الحقائق 2/ 546.

117. البيهقي، حدائق الحقائق / 2 / 546؛ أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 66.

118. القرآن الكريم / سورة الحج / أيه 36.

119. للتفصيل عن أسباب قيام ثورة الأمام الحسين (عليه السلام) وثورة زيد بن علي، راجع محمد بحرالعلوم، لمحات من التاريخ السياسي 2 / 55، 231؛ وعن الثورة الفرنسية عام 1789، راجع البير سوبول، تاريخ الثورة الفرنسية ص 18 وما بعدها.

120. أراضي الصوافي وهي الأراضي التي فتحت عنوة بحد السيف وكانت ملكاً

ص: 197

لأفراد الأسر الحاكمة لآل کسری، والروم، أو الأراضي التي قتل أصحابها في معارك الفتح الإسلامي، أو هربوا منها وهذه الأراضي تعد ملكاً لبيت مال المسلمين، ويمكن أن يعطي جزء منها لمن هو بحاجة اليها من المسلمين ويدفع عنها العشر، للتفصيل راجع أبو يوسف، الخراج، ص 57 - 58؛ قدامه بن جعفر، الخراج، ص 217 - 218.

121. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 17/ 65.

122. القرآن الكريم، الأنفال أية 41.

123. البيهقي، حدائق الحقائق 2/ 531.

124. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17/ 66 - 67.

125. المادة (111) من الدستور العراقي الصادر في عام 2005.

126. زهير الأعرجي، العدالة الاجتماعية / ص 13.

127. البيهقي، حدائق الحقائق 2/ 532.

128. عبد الزهراء الخطيب، مصادر نهج البلاغة / 3/ 429.

129. محمد حمید الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص 43 - 757.

130. رضا شاه کاظمي، العدل والذكر، ص 106 - 107.

ص: 198

اختيار الحاكم وأبرز واجباته في ضوء عهد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام لعاملة على مصر مالك بن الحارث الاشتر النخعي

اشارة

أ. م. د. أسعد حميد أبوشنة جامعة المثنى - كلية التربية للعلوم الانسانية

ص: 199

ص: 200

الخلاصة

يعد عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لمالك بن الحارث الأشتر النخعي رضوان الله عليه عندما ولاه مصر من أهم الوثائق الرسمية التاريخية الغنية بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية، كونه صادر من أعلى سلطة في الدولة العربية الاسلامية في عهودها الاولى، ويمثل كذلك مرحلة مهمة من مراحل تطور الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاداري لدى المسلمين، لما شمله من تعلیمات و وصایا وسياسات وأساليب إدارية وطرق اختيار الحاكم، وأساليب مراقبته وعلاقة الحاكم مع المجتمع بمختلف فئاته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

نحاول في هذا البحث الحديث عن أهم صفات اختيار الحاكم في نظر الامام علي عليه السلام من خلال عهده لمالك الاشتر، أي الصفات التي اهلت مالك كي ينال ثقة الامام علي، فكان ذلك العهد مليئاً بالتعليمات والنصائح والمواعظ، دون أن يمنح الامام علي لمالك الاشتر الحرية المطلقة في التصرف في شؤون الحكم والرعية، بل وضع له أسس صارمة للعمل مصحوبة بأساليب مراقبة فعالة أولها تقوى الله تعالى، وفي مواصفات اختيار الحاكم مع واجباته المكلف بها تكامل واضح تجسيدا لمقولة الرجل المناسب في المكان المناسب، وبناءً على ما جاء في العهد فان الحاكم يمر بثلاث مراحل: اختيار الحاكم وفقاً لصفات محددة، تحديد واجباته الوظيفية وسبل نجاحه، ومن ثم وضع آليات لمراقبته، أي بمعنى وجود منهج متكامل لبناء لنظام السياسي والاداري.

ص: 201

ادارة الامام علي علیه السلام الدولة بعد توليه الخلافة سنة 35 ه / 645 م

الصفات العامة للحاكم

كانت اولى اولويات الامام علي عليه السلام حين تولى الخلافة هو تنظيم الجهات التنفيذية والتشريعية لدولته، بصفته اعلى سلطة ادارية في الدولة وبيده جميع الصلاحيات، وقد توجه الامام في مستهل سنة 36 ه الى بعث عماله الى الامصار الاسلامية، وكان قد ورث اعباء ثقيلة من العهد السابق لاسيما النتائج المترتبة على سياسات ولاة عثمان بن عفان، والتي كان من اهمها مقتل عثمان نفسه بعد حركة احتجاجات واسعة سببت اضطرابا كبيرا في الدولة الاسلامية(1).

ان تصدي الانسان لادارة سياسة العباد فيما يخدم مصالحهم العامة والخاصة تعد مسؤولية كبيرة، ويحتاج من يتصدى لها الى كفاءة ذهنية ونفسية عالية، اذ يتوقف على شخصیته نجاح السياسة او فشلها، باعتباره العقل المدبر والمحرك الاساسي لهذا الموقع الحيوي، ولا يتوقف الامر في السياسة الاسلامية في ادارة شؤون الناس على حفظ مصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية، بل يتعداه الى ان يحمل الوالي الاسلامي الناس على الاستقامة على جادة الشريعة ويحثهم على الترقي والسلوك الحسن، لذا إن فإن الوالي بحاجة الى مضاعفة تقوى الله سبحانه وتعالى والاخلاص له والشعور بالرقابة الالهية في كل لحظة من لحظات حياته، فهذا من شأنه جعل الحاكم المؤمن يسير دائها على خط مستقيم فيخلص في عمل-ه اي-ا اخلاص خاصة اذا كان وراءه من يحاسبه بدقة وشده كعلي بن ابي طالب.

لقد وضع الامام علي عليه السلامة صفات عامة يجب أن تتوفر في ولاته تكون اسبابا لاختيارهم، بعض تلك الصفات وردت في عهده لمالك الاشتر والبعض الاخر

ص: 202

في خطبه، وقد اختار مالك الاشتر لصفات عدوة متوفرة في شخصيته، ونشير هنا الى الصفات العامة ثم ننتقل الى مؤهلات مالك، فهو عليه السلام لم يول غير «أهل الصلاح والديانات والامانات»، وقد وضع ضوابط ومؤهلات عامة لشخصية للوالي على النحو الاتي:

1- ان يكون من اصحاب المروءات وممن صهروا في البيوتات الصالحة ومن لها سبق في الاسلام وجاءت هذه الصفات الحميدة(2) في قول الامام علي: «وتوخ من أهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فانهم أكرم أخلاقاً واصلح اعراضا، واقل في المطامع اشرافا وابلغ في عواقب الامور نظرا»(3).

2- الامانة والكفاءة، مقلما ورد في قوله: «ولكن اختبرهم بما ولوا الصالحين قبلك، فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثرة، واعرهم بالامانة وجهاً»(4).

3-الشخصية القويمة العارفة بقدر نفسها وقدر الاخرين، في سلوكه وسياسته بإدارته لمهامه في اطار الدولة والمجتمع(5)، ويشير الامام في هذا الصدد: «لا يجهل مبلغ قدره نفسه في الامور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل»(6).

4- النزاهة والترفع عن النزوات النفسية والمعنوية، مثل مظاهر الحكم والتصرف في اموال المسلمين دون ضوابط شرعية، أو قبول الرشوة أو الهدية(7)، وقد وصف الامام علي الشخص النزيه بقوله: «يكسر نفسه عن الشهوات وينزعها عن الجمحات فإن النفس امارة بالسوء»(8)، ووصف قابل الهدية وآخذ الرشوة بقوله: «وإن أخذ هدية كان غلولاً، وإن أخذ رشوة فهو مشرك»(9).

5- الصدق والورع والابتعاد عن الاساليب الملتوية، فالوالي الصادق الورع يكون أشد حرصا على شؤون البلاد والعباد وتفضيله المصلحة العليا على موقعه وامتيازاته

ص: 203

(10)، يقول الإمام: «والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله»(11).

6- التواضع مع الرعية والوقوف على حوائجهم، وهذه صفات الحاكم الصالح القريب من الله تعالى ومن شعبه(12)، وفي هذا الصدد يقول الامام علي: «أيما والي احتجب عن حوائج الناس احتجب الله يوم القيامة عن حوائجه»، ويحذر الامام علي الحاكم من نفسه فيقول: «واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه»(13).

7- احترام الذات والابتعاد عن التكلف والتكبر، وان يكون كيساً غير مبتذل في سلوكيات تصغره عند العامة، وهذه النظم من عناصر النجاح الإداري(14)، ويشير الامام علي الى احد عماله على الصدقات الى هذا المعنى بقوله: «امض اليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم»(15).

7- صفات اخلاقية ومعنوية مثل؛ سعة الصدر، والحلم، والصبر، وحسن الخلق، والانصاف من النفس وقد ورد عن الامام في هذا الصدد قوله لمالك حين ولاه مصر: «لا تسر الى بادرة وجدت منها مندوحة»، وقوله عليه السلام: «أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته»، وقوله «آلة الرياسة سعة الصدر»

8- الالمام الواسع بخصائص العمل الذي يخوض فيه، فيجب أن يكون ذو معرفة بمتطلبات عمله اكثر من اي شخص آخر أو يكون على الاقل خبيرا بالشخص الاكثر كفاءة لاداء هذا الواجب(16).

واذا كانت تلك الشروط وامثالها لابد ان تتوفر لدى الانسان وهو في منصب الحاكم، فمن الواضح ان المؤمن الحقيقي هو اولى الناس بالتصدي لهذا الموقع، على

ص: 204

اعتبار ان المؤمن يجمع كل الصفات النفسية التي تؤهله لذا الامر الحيوي(17).

اما ولاته على الامصار الاسلامية فكانوا؛ ابي ايوب الانصاري ت 52 ه على المدينة(18)، وقثم بن العباس ت 55 ه على مكة والطائف(19)، أما العاصمة الكوفة فقد تعاقب عليها عدد من الولاة؛ كان اولهم ابو موسى الاشعري(20)، وعمارة بن شهاب(21)، وقرظة بن كعب الانصاري ت 40 ه(22)، وابو مسعود البدري ت 40 ه(23)، وهانئ بن هوذة النخعي ت 40 ه، فيما تولى البصرة والاهواز وفارس وكرمان عدد من الولاة منهم؛ عثمان بن حنيف ت 57 ه(24)، وعبدالله بن عباس ت 65 ه(25)، اما المدائن فقد تولاها سعد بن مسعود الثقفي، فيما تولى الموصل وما يحيط بها مالك بن الحارث الاشتر النخعي(27) أما مصر قد تولاها قيس بن سعد ت 59 ه(28)، اما الشام فقد تولاها سهل بن حنيف ت 38 ه(29).

صفات مالك الاشتر رحمه الله التي اهلته كي يختاره الامام علي علیه السلام لولاية مصر

1- تاريخ مالك الاشتر ومكانته عند الامام

أولى الامام علي عليه السلام التاريخ عناية كبيرة في اختياره مالك الاشتر لولاية مصر، كما وأمره عليه السلام بالتأمل والتدبر في التاريخ كما سيمر بنا لاحقا، فقد ترجمه الذهبي في سير اعلام النبلاء بقوله: «الاشتر ملك العرب، مالك بن الحارث النخعي، أحد الاشراف والابطال المذكورين فقئت عينه يوم اليرموك، وكان شهما مطاعا ألب على عثمان وقاتله، وكان ذا فصاحة وبلاغة، شهد صفين مع علي، وتميز يومئذ وكاد ان يهزم معاوية، فحمل عليه أصحاب علي لما رأوا مصاحف جند الشام على الاسنة يدعون الى كتاب الله، وما أمكنه مخالفة علي، فكف»(30)، وقال العلامة الحلي في خلاصة الاقوال:» قدس الله روحه ورضي عنه، جليل القدر عظيم المنزلة،

ص: 205

وكان اختصاصه بعلي أظهر من أن يخفى، وتأسف أمير المؤمنين لموته وقال: كان لي كما كنت لرسول الله»(31).

وكان لمالك الاشتر مكانة مشهودة في الفتوحات الاسلامية، فقد ذكر جملة من المؤرخين مناقب الاشتر وشجاعته وبسالته في الحروب فقد وصف ان العديم في تاریخ حلب مشاركة الاشتر في فتح الشاح وتوغله في عمق اراض الروم: «واول من قطع جبل اللكام وسار الى المصيصة مالك بن الحارث الاشتر النخعي»(32)، وذكر البلاذري ان مالك الاشتر كان قائداً في فتح انطاكية، وكيف خطط لفتح حلب، وفتحه حصن عازار(33)، وذكر اليعقوبي: «ان ابا عبید ارسل الاشتر الى جمع من الروم وقد قطعوا الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله واصحابه»(34)، وكان لمالك الاشتر دور كبير في فتح الموصل فقد اشار الواقدي الى ذلك بقوله: «والتقى مالك الاشتر بيورنيك الارمني فلما عاين زيه علم انه من ملوكهم، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره»(35)، وروى ابن الاعثم دور مالك في فتح آمد وميافارقين في تركيا بقوله: «ثم ارسل عياض مالك الاشتر النخعي واعطاه الف فارس وارسله الى ناحية آمد وميافارقين، وحين وصل مالك مع الجيش الى آمد تبين له ان القلعة حصينة جدا فأخذ يفكر بالامر وان مقامه سيطول هناك، ولما اقترب من آمد وعاين بنفسه قوة الحصن، امر الجيش ان يكبروا معاً تكبيرة واحدة بأعلى صوت فخاف اهل آمد وتزلزلت اقدامهم وظنوا ان المسلمين يبلغون عشرة آلاف، وانهم لا قبل لهم بحربهم، فأرسلوا شخصا الى الاشتر فأجابهم الى الصلح..»(36).

ذكرنا آنفاً لمحة عن دور مالك بن الحارث الاشتر النخعي في معارك الفتح الاسلامي، التي حاول المؤرخون المحسوبين على السلطات آنذاك طمس معالم تاريخ الاشتر بسبب قربه من علي بن ابي طالب، والتي تدل على تاريخ مشرق حافل

ص: 206

بالانجازات التي تدل جعلته مؤهلا في نظر الامام علي عليه السلام و جديرا بذلك التكليف.

2- ثبات القلب في الظروف القاسية والصعبة، فلا ينهزم او يتراجع مهما كانت المواقف

مثلما حصل في معركة اليرموك التي كان فيها لمالك الاشتر دور مهم في تحقيق النصر، فقد ذكر الكلاعي في الاكتفاء «وتوجه خالد في طلب الروم حين انهزموا فلما بلغوا ثنية العقاب من ارض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة، اقبلوا یرمون المسلمين من فوقهم بالصخر، فتقدم اليهم الاشتر في رجال من المسلمين واذا امام الروم رجل جسيم من عظمائهم واشدائهم، فوثب اليه الاشتر لما دنا منه فاستویا على صخرة مستوية فاضطربا بسيفيهما فضرب الاشتر کتف الرومي فأطارها، وضربه الرومي بسيفه فلم يضره شيئاً، وأعتنق كل واحد منهما صاحبه، ثم دفعه الاشتر من فوق الصخرة فوقعا منها، ثم تدحرجا والاشتر يقول وهما يتدحرجان: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له بذلك امرت وأنا أول المسلمين. فلم يزل يقول هذا وهو في ذلك ملازم العلج لا يتركه حتى انتهيا الى موضع مستو من الجبل، فلما استقر فيه وثب الاشتر على الرومي فقتله، ثم صاح في الناس ان جوزوا، فلما رأت الروم ان صاحبهم قد قتله الاشتر خلوا سبيل العقبة للناس ثم و انهزموا»(37).

ص: 207

3-أخبار الرسول الاعظم بمالك الاشتر وصلاحه وقوله الحق وفعله وعدم الخشية من السلطة، والوقوف الى جانب المظلومين ونصرتهم

مثلما حصل في حادثة دفن ابو ذر الغفاري (رض)، في الربذة، وفي تفاصيل الرواية ما يوثق تلك الصفات فقد روى الكشي في كتابه رجال الكشي: «حدثني عبيد بن محمد النخعي الشافعي السمرقندي عن ابي احمد الطرطوسي قال حدثني خالد بن طفيل الغفاري عن ابيه عن احلام بن دلف الغفاري وكانت له صحبه قال مكث ابو ذر بالربذة حتى مات، فلما حضرته الوفاة قال لامرأته: اذبحي شاة من غنمك واصنعيها فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق فأول ركب ترينهم قولي: يا عباد الله المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد قضى نحبه ولقي ربه فأعينوني عليه وأجيبوه، فإن رسول الله أخبرني أني أموت في أرض غربة وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة عليَ رجال من أمته صالحون»(38).

وعن محمد بن علقمة بن الاسود النخعي قال: «خرجت في رهط أريد الحج منهم مالك بن الحارث الاشتر وعبدالله بن الفضيل التميمي ورفاعة بن شداد البجلي حتى قدمنا الربذة فإذا بإمرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد هلك غريبا ليس لي احد يعيني عليه قال فنظر بعضنا الى بعض وحمدنا الله على ما ساق إلينا واسترجعنا على عظم المصيبة، ثم أقبلنا معها فجهزناه وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء، ثم تعاونا على غسله حتى فرغنا منه ثم قدمنا الاشتر فصلى بنا عليه ثم دفناه، فقام الاشتر على قبره ثم قال:» اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين لم يغير ولم يبدل ولكنه رأى منكراً فغيره بلسانه وقلبه حتى جُفي ونُفي وحُرم وحُقر ثم مات وحيداً غريباً، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره حرم رسولك. قال: فرفعنا أيدينا جميعاً

ص: 208

وقلنا: أمين. ثم قدمت الشاة التي صنعت فقالت: إنه أقسم عليكم ان لا تبرحوا حتى تتغدوا، فتغدينا وارتحلنا»(39).

أوردنا تلك الروايات إثباتاً لمكانة مالك الاشتر السياسية والتاريخية في صدر الاسلام، وبالفعل فقد حصل ما أخبر به أبو ذر، كما إن إخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمالك الاشتر وصلاحه، شرف عظيم للاشتر.

4- كان مالك الاشتر من قبيلة مشهود لها بالجهاد والمواقف المناصرة للاسلام

فقد كان من الضروري اختيار شخص لولاية مصر تتوفر فيه كل المواصفات، ومنها المنبت الطيب والقبيلة المعروفة بتاريخها، بعد ان سيطر على مصر عمرو بن العاص ابن النابغة، فلقبيلة مالك الاشتر تاريخ مشهود في ساحات المعارك، فقد كان للنخعيين مئات الفرسان الورعين والشجعان الذين شاركوا على مختلف الساحات، فشاركوا في معركة اليرموك تحت قيادة مالك الاشتر، فقد أورد الكلاعي، ان مالك الاشتر طارد الروم الى حلب على رأس 300 فارس(40)، فيما أشار ابن ابي شبيه انهم كانوا في القادسية 2400 مقاتل، وقال: «كنت لا تشاء ان تسمع يوم القادسية أنا الغلام النخعي، إلا سمعته»(41)، في اشارة الى حجم قبيلة النخعيين في تلك المعركة وافتخار ابناءها عند النزال بقبيلتهم.

5- لكل مرحلة سياسية وتاريخية ظروفها وخصائصها

لكل اقليم خصائصه وظروفه ايضا، لذا كان الاشتر هو الخيار المناسب لادارة اقليم م-صر، وهذا ما كان الامام علي عليه السلام يراعيه في ادارة شؤون البلاد من ناحية اختيار الحاكم المناسب للبيئة والظروف المحيطة.

ص: 209

عهد الامام علي علیه السلام لمالك الأشتر رحمه الله وأبرز المهام الوظيفية الواردة فيه

لم يختر الامام على ولاته بشكل عام ومالك الاشتر بشكل خاص دون ان يوجههم ويرشدهم ويرسم لهم اسس سياساتهم الي تمكنهم من ادام واجباتهم، ويعد عهده عليه السلام للاشتر لما ولاه مصر سنة 37 ه ابلغ واوضح تعاليم يعهد بها خليفة مسلم لاحد ولاته، وهذا يدل على بلوغ الفكر السياسي الاسلامي مرحلة مهمة من التطور على يد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام.

المهام الاساسية للحاكم

يقول عليه السلام في أول العهد «هذا ما أمر به عبدالله أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها».

أ- رعاية المصالح الاقتصادية للبلاد

ب- الدفاع عن البلاد

ج- رعاية شؤون المجتمع

د- تطوير البلاد واعمارها(42)

کما ونلاحظ في هذا النص أمور عدة منها: عدم استخدامه عليه السلام عبارة التبجيل والتعظيم للحاكم، وتحت هذه العناوين الاربع يمكن تعيين جملة من الوظائف وعلى النحو الاتي:

ص: 210

أ- رعاية المصالح الاقتصادية للبلاد

تحت هذا العنوان ذكر الامام علي مجموعة من التعليمات ومنها:

1- «ولا تخل في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله»(43).

2- «واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض»(44)

3- «ولا قوام لهم جميعا الا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من اسواقهم ويكفونهم من الترف بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم».

4- «ثم الطبقة الوسطى من اهل الحاجة والمسكنة والذين يحق لهم رفدهم ومعونتهم»

5- «ثم اسبغ عليهم الارزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت ایدیهم وحجة عليهم ان خالفوا امرك أو ثلموا امانتك».

6- «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحهم صلاحا لمن سواهم إلا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج».

7- «استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا فالمقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، واسباب المرافق، وجُلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته».

8- «وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك ان في كثير منهم

ص: 211

ضيقا فاحشا، و شحا قبيحا، او احتکارا للمنافع، وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فان رسول الله منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل، واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن فارق حكره بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه في غير اسراف».

شمل هذا الجانب من العهد تعلیمات ونصائح وارشادات و مفاهیم اقتصادية مهمة دون ان يهمل الامام علي علاقة الاقتصاد بالمجتمع، فيوجه الامام علي مالكاً بعدم استخدام المستشارين البخلاء المترددين الذين يمنعوه عن أداء واجباته في بناء وتطوير البلد، وعدم استخدام مستشارين جبناء يمنعونه عن فعل الحق وتطبيق القانون، وهذه الوصايا الواردة اعلاه لها صلة مباشرة بحياة المجتمع الذي له خصائص عديدة منها وجود فواق طبقية على اساس المكانة الاقتصادية لكل فئة، مع التأكيد على التكامل بين تلك الفئات، وليس الفوارق مثلما هو شائع لدى المفكرين الاقتصاديين ذوي النزعة المادية، ومن جملة الامور التي أكد عليها الامام علي عليه السلام هي التجارة كونها مصدر مهم في توفير السلع الضرورية لحياة الناس، لذا يوصي عليه السلام مالك الاشتر بهذا الجانب الاقتصادي المهم وبالقائمين عليه، بعدها ينتقل الامام علي الى موضوع آخر مهم هو الطبقة الفقيرة التي يوصي مالكاً برعايتهم بشكل خاص وتوفير العمل المناسب لهم، فمن أهم واجبات الحاكم تفقد أمور مختلف فئات المجتمع، ومراقبة علاقة تلك الفئات الاجتماعية بعضها بالبعض الاخر، والعلاقات الاقتصادية القائمة بين تلك الفئات ضماناً لعدم حصول خلل في الواقع الاقتصادي للبلاد، ومن أهم الامور التي ذكرها امير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الاشتر وجوب ضبط واردات البلاد لان الجميع معتمد عليها ابتداءً، ومنها تبنى المرافق العامة والمنشآت والمشاريع التنموية في البلاد.

ص: 212

ب- الدفاع عن البلاد

1- «فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبيل الامن، وليس تقوم الرعية الا بهم».

فالواجب الاول للجيش والوالي هو الدفاع عن المواطنين وحمايتهم كما يحمي الحصن سكانه، وهم بعملهم هذا يكونون مدعاة فخر ورضا للولاة، وهم يكون الدين عزيزا مصانا، ويشكلون مع الرعية او المواطنين المدنيين بناء الدولة.

2- «ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم».

بمعنى العناية بمصدر عيش اولئك الجنود، وتوفير اسباب معاشهم، ومستلزمات ادائهم واجباتهم العسكرية من سلاح وعتاد وغيرها من المستلزمات التي تساعدهم في اداء واجباتهم، وهذا كله يعتمد على واردات الدولة وكيفية تخصیص جزء منها للجيش الذي يعد من أهم مؤسسات قيامها وبقائها.

3- «فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وانقاهم جيبا، وافضلهم حلما، ومن يبطئ عن الغضب، ويستريح الى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الاقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف».

يأمر الامام علي مالكاً بأن يولي المناصب القيادية الجنود من تتوفر فيهم صفات معينة منها رجاحة العقل والحكمة، والذي يسير على المنهج القويم الذي اختطه الله تعالى لرسوله والامام علي عليه السلام، وكذلك امر الامام مالكا ان يختار المطهرين من ذوي الاصول الطيبة والسمعة الحسنة والسيرة العادلة، وكذلك لا غني لمالك عن ذوي الحلم تلك الصفة المهمة للقائد العسكري الذي لا يتسرع

ص: 213

او يقوم بالاعمال المفاجئة، وخاصة عن الغضب الذي عندما يمر به ذلك القائد وتلك الحالة التي غالبا ما يمر بها الجنود في القتال، فان كان كذلك فيجب عليه الرأفه بالضعفاء ممن هم دونه ويقبل الاعذار، ولكنه شديد على المستكبرين ولا يخافهم، وعلى من تتوفر فيه صفات القيادة ان يكون ثابتا عند المواقف الصعبة فلا مهتز او يتزلزل، وبهذا يكون ثابت القدمين حتى في حالات الضعف التي قد يمر بها، فلا يستسلم ابدا او يتقاعس عن أداء واجباته.

3- «ولیکن آثر رؤوس جندك من واساهم في معونته، وافضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف اهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو»(45)

أي القائد الحريص على جنوده المساهم في سد احتياجاتهم، لا الذي يترك للجند تدبر أمورهم كل على حد، وكذلك سد احتياجات عائلاتهم حتى لا ينشغل الجند بالتفكير بقوت عائلاتهم ويركزوا جهودهم مع قادتهم في القتال.

4- «فربما حدث من الامور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة انفسهم به».

أن يقدر تضحيات الجنود التي قدموها دون اكراه تحت أمرته وفي سبيل اعلاء كلمة الله سبحانه و احقاق الحق.

ج-رعاية شؤون المجتمع

1- «واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير في الخلق».

ص: 214

2- «يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه»(46)

3- «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك اليه هوی من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربا حتى ينزع أو يتوب»(47)

4- «وليكن أحب الامور اليك اوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضی العامة» (48)

5- «وليس شيء ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم فان الله سمیع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد».

6- «وانما عماد الدين، وجماع المسلمين والعدة للاعداء العامة من الامة ليكن صغوك لهم وميلك معهم»

7- «ولیکن ابعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس فإن في الناس عيوبا الوالي احق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنها عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يشتر الله منك ما تحب ستره من رعیتك»

8- «أطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يضح لك ولا تعجلن الى تصدیق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين»

9- «وأعلم انه ليس شيئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من احسانه اليهم وتخفيفه

ص: 215

المؤونات عليهم وترك استكراهه ایاهم على ما ليس له قبلهم».

10- «ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم».

11- «فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية»(49)

12- «ایاك والدماء وسفكها بغير حلها، فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتعبئة ولا احری بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن».

يبدأ الامام علي عليه السلام في هذا المحور المهم من عهده، وهو المحور الانساني بوصية مالك الاشتر باللطف والرفق بالناس و تحمل اخطائهم واحتمال زلاتهم وتقبل آرائهم حتى وان كانت مختلفة عن آراءه، فليس كل الناس من دین و معتقد مالك الاشتر، فوراء ذلك الاختلاف في الآراء علل واسباب عليه ادراکها، کما ويجب على مالك انصاف الناس من نفسه، وهذه الصفة قد لا تتوفر لدى الكثير من الناس العاديين الذين لا مناصب لديهم، فكيف اذا كان من يجب ان ينصف الناس من نفسه هو الحاكم وولي الامر، وهذه الصفة لا تتوفر الا في اناس معدودین کمالك الاشتر الذي اختاره الامام علي بعناية لهذا الامر، کما اوصى مالكا ان يكون وسطياً غير متطرف، لان الوسطية تؤدي الى العدل مع عامة الناس الذين يمثلون الفئة التي تدافع عن الدين، لذا يجب ان يصغي اليهم ما عدا فئة محددة فيها صفات معينة منها البحث عن عيوب الناس التي واجب على الوالي أن يعرفها هو اولاً لانه الاولى بسترها فهذا واجبه، واوصى الامام مالك بعدم الضغط على الرعية، وعدم اجبارهم

ص: 216

على أمور يكرهونها، وأوصاه بالعناية بشكل خاص بالطبقة الفقيرة التي كان تربطها بالامام علي علاقة خاصة وكان يراعاها في الكوفة بنفسه في دعوة للاقتداء به.

ومن جملة من الامور التي وردت في كلام الامام علي عليه السلام تأكيد حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم، فضلا عن المساواة بين الحاكم والمحكوم من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغلة في موضوع التعدي على الدماء والحياة، كما ان سفك الدماء يثير غضب ونقمة الشعب مما يؤدي الى خلق الاضطرابات وعدم استقرار المجتمع(50).

د- تطوير البلاد واعمارها

1- «فليكن احب الذخائر اليك العمل الصالح».

2- «فإن شكو ثقلا او عله، او انقطاع شرب او بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من اجمالك، والثقة بهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم»(51).

3- «ولیکن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عبارة أخرب البلاد، واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليل»(52).

في هذا المجال يؤكد الامام علي لمالك الاشتر انك يجب ان تكون محبا وخلصا

ص: 217

لما تقوم به، بمعنى يجب توفر الدافع الذاتي للعمل والنجاح الذي هو جوهر العمل الصالح، وبالتالي يتوفر الاتقان في العمل، ثم يوصي الامام عليه السلام مالكاً ان لا يثقل كاهل الناس، ويخفف عنهم ويواسيهم في حالات الاضطرابات الاقتصادية، وقلة الاعمال، فإن سياسته تلك ستعود عليه بالنفع في المستقبل في تأييد حكمه ومساندته وتطوير البلاد، ثم يوصي الامام مالك الاشتر بان يكون هدفه الاساسي هو بناء وتطوير البلاد وليس جمع الواردات، التي لا تنميها وتطورها الا مقدار التطور في مختلف مرافق الدولة والمجتمع، اي بمعنی ضرورة استثمار تلك الاموال، وفي حالة عدم استثمارها، فإن ذلك سيؤدي الى مجيء اليوم التي لا يكون لهذه الأموال من قيمة، وهذا ما يجري الان فالواردات تجمع دون ان تستخدم بالشكل الصحيح في الاعمار والبناء على ارض الواقع.

وهذا المعنى الذي اشار اليه امير المؤمنين عليه السلام هو ذاته الذي نبه القرآن الكريم اليه كحقيقة مهمة في الاموال، وهي انها قوام المجتمع وانها كالعمود الفقري الذي يقوم عليه جسد ذلك المجتمع، ولذلك نهي القرآن الكريم عن ترك تلك الاموال دون تنمية، بيد من يبذرها ويضيعها ويتصرف بها تصرفاً سفيها يؤدي الى ضعف الاقتصاد(53) وانهياره قال تعالى: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا»(54).

ص: 218

الهوامش

1. عدوه، علي سعد تومان، اسس بناء الدولة الاسلامية في فكر الامام علي عليه السلام، ط 1، النجف، 2012، ص 200.

2. المصدر نفسه، ص 207.

3. أبن أبي الحديد ، عز الدين ابو احمد عبدالحميد هبة الله المدائني ت 656 ه، شرح نهج البلاغة، تحقیق: محمد ابراهیم، ج 7، بغداد، 2007، ص 54.

4. المصدر نفسه، ص 59.

5. عدوه، المصدر السابق، ص 207.

6. أبن أبي الحديد، المصدر السابق، ص 59.

7. عدوه، المصدر السابق، ص 207.

8. أبن أبي الحديد، المصدر السابق، ص 27.

9. المصدر نفسه، ص 36.

10. عدوه، المصدر السابق، ص 208.

11. أبن أبي الحديد، المصدر السابق، ص 36.

12. عدوه، المصدر السابق، ص 209.

13. أبن أبي الحديد ، المصدر السابق ، ص87. 14. عدوه، المصدر السابق، ص 209.

15. أبن أبي الحديد ، المصدر السابق، ج 15، ص 166.

16. شعبة الدراسات والنشر في العتبة العلوية المقدسة، من وحي نهج البلاغة في الاخلاق والفلسفة والسياسة، 2012،، ص 66 - 67.

17. المصدر نفسه، ص 70.

ص: 219

18. الطبري، محمد بن جریر ت 310 ه، تاریخ الرسل والملوك، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، ج 5، ط 2، مصر، ص 155.

19. اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، تاريخ اليعقوبي، تحقیق عبدالامير مهنا، ج 2، ط 1، بیروت، 2010، ص 124.

20. المصدر نفسه، ص 124.

21. الكندي، ابي عمر محمد بن يوسف، الولاة والقضاة، بيروت، 1908، ص 19.

22. ابن خیاط، ابي عمرو خليفه، تاریخ خليفة بن خياط، تحقیق اكرم ضياء العمري، ط 2، 1985، ص 151.

23. المسعودي، أبي الحسن بن علي، مروج الذهب، ج 2، تحقیق کمال حسن مرعي، ط 1، بیروت، 2005، ص 387.

24. اليعقوبي، المصدر السابق، ج 2، ص 124.

25. الدينوري، ابي محمد عبدالله بن مسلم ت 27 ه، الامامة والسياسة، تحقیق علي شيري، ج 1، ط 1، 1990، ص 105.

26. الطبري، المصدر السابق، ص 565.

27. الدينوري، أبي حنيفه احمد بن داود ت 282 ه، الاخبار الطوال، تحقیق عبدالمنعم عامر، ط 1، مصر، ص 145.

28. ابن کثیر، أبي الفداء اسماعيل ت 774 ه، البداية والنهاية، ج 7، ط 2، 2010، ص 235.

29. الدينوري، ابي حنيفه...، المصدر السابق، ص 145.

30. الذهبي، شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان ت 748 ه، سير أعلام النبلاء، تحقیق مأمون الصاغرجي، ج 4، ط 1، 1996، ص 34.

31. الحلي، أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي ت 726 ه، خلاصة

ص: 220

الاقول في معرفة الرجال، تحقیق جواد القيومي، ط 4، 1431 ه، ص 276.

32. ابن العديم، الصاحب کمال الدين عمر بن احمد بن ابي جراده، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقیق سهیل زکار، ج 1، بيروت، ص 156.

33. البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر ت 279 ه، فتوح البلدان، تحقیق: عبدالقادر محمد علي، ج 1، ط 1، بيروت، ص 302، 306

34. اليعقوبي، المصدر السابق، ج 2، ص 462

35. الواقدي، أبي عبدالله محمد بن عمر ت 207 ه، المغازي، تحقیق مارسدن جونز، ج 1، ط 3، 1984، ص 462

36. ابن الاعثم الكوفي، أبي محمد احمد ت 314 ه، الفتوح، تحقیق علي شيري، ج 1، ط 1، 1991، ص 258.

37. الكلاعي، أبي الربيع سليمان بن موسى الأندلسي ت 634 ه، الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق مصطفى عبدالواحد، ج 3، ط 1، 1968، ص 273

38. الكشي، ابي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز، رجال الكشي، تحقیق احمد الحسيني، ط 1، بیروت، 2009، ص 54

39. المصدر نفسه، ص 54.

40. الكلاعي، المصدر السابق، ج 3، ص 273.

41. المصدر نفسه.

42. سوادي، فليح، عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الاشتر، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العلوية المقدسة، ط 1، 2010، ص 15.

43. المصدر نفسه، ص 17.

ص: 221

44. المصدر نفسه، ص 22.

45. المصدر نفسه، ص 19-21.

46. المصدر نفسه، ص 15.

47. المصدر نفسه، ص 16.

48. المصدر نفسه، ص 17.

49. المصدر نفسه، ص 17 - 19.

50. السعد، غسان، حقوق الانسان عند الامام علي عليه السلام، ط 2، العتبة العلوية المقدسة، 2012، ص 70.

51. المصدر نفسه، ص 15.

52. المصدر نفسه، ص 23.

53. الموسوي، عبد المطلب، نهل الحضارة من نهج البلاغة، ط 1، النجف الاشرف، 2013، ص 65.

54. النساء: 5.

ص: 222

المصادر والمراجع

اولا: القرآن الكريم

ثانيا: المصادر

1- أبن أبي الحديد، عز الدين ابو احمد عبدالحميد هبة الله المدائني ت 656 ه، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد ابراهیم، ج 7، بغداد، 2007.

2- أبن خیاط، ابي عمرو خليفه، تاریخ خليفة بن خیاط، تحقیق اكرم ضياء العمري، ط 2، 1985.

3- أبن كثير، أبي الفداء اسماعیل ت 774 ه، البداية والنهاية، ج 7، ط 2، 2010.

4- أبن العديم، الصاحب کمال الدين عمر بن احمد بن ابي جراده، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقیق سهیل زکار، ج 1، بیروت.

5- أبن الاعثم الكوفي، أبي محمد احمد ت 314 ه، الفتوح، تحقیق علي شيري، ج 1، ط 1، 1991.

6- البلاذري، احمد بن یحیی بن جابر ت 279 ه، فتوح البلدان، تحقيق: عبدالقادر محمد علي، ج 1، ط 1، بيروت.

7- الحلي، ابي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي ت 726 ه، خلاصة الاقول في معرفة الرجال، تحقیق جواد القیومي، ط 4، 1431 ه.

8- الطبري، محمد بن جریر ت 310 ه، تاریخ الرسل والملوك، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهیم، ج 5، ط 2، مصر.

9- الدينوري، ابي محمد عبدالله بن مسلم ت 26 ه، الامامة والسياسة، تحقیق علي

ص: 223

شيري، ج 1، ط 1، 1990.

10- الذهبي، شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان ت 748 ه، سير أعلام النبلاء، تحقیق مأمون الصاغرجي، ج 4، ط 1، 1996.

11- الكندي، ابي عمر محمد بن يوسف، الولاة والقضاة، بیروت، 1908.

12- الكلاعي، أبي الربيع سليمان بن موسى الاندلسي ت 634 ه، الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق مصطفى عبدالواحد، ج 3، ط 1، 1968.

13- الكشي، ابي عمرو محمد بن عمر بن عبدالعزيز، رجال الكشي، تحقيق احمد الحسيني، ط 1، بیروت، 2009.

14- المسعودي، ابي الحسن بن علي، مروج الذهب، ج 2، تحقیق کال حسن مرعي، ط 1، بیروت، 2005.

15- الواقدي، ابي عبدالله محمد بن عمر ت 207 ه، المغازي، تحقيق مارسدن جونز، ج 1، ط 3، 1984.

16- اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، تاريخ اليعقوبي، تحقیق عبدالامير مهنا، ج 2، ط 1، بیروت، 2010.

ثالثاً: المراجع الثانوية

1- الموسوي، عبد المطلب، نهل الحضارة من نهج البلاغة، ط 1، النجف الاشرف، 2013.

2- السعد، غسان، حقوق الانسان عند الامام علي عليه السلام، ط 2، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

3- سوادي، فليح، عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الأشتر، قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العلوية المقدسة، ط 1، 2010.

ص: 224

4- شعبة الدراسات والنشر في العتبة العلوية المقدسة، من وحي نهج البلاغة في الاخلاق والفلسفة والسياسة، 2012.

5- عدوه، علي سعد تومان، اسس بناء الدولة الاسلامية في فكر الامام علي عليه السلام، ط 1، النجف، 2012.

ص: 225

ص: 226

أجزاء الدولة ووظائفها دراسة تحليلية بين النص الامامي والفلسفي عهد الامام علي (عليه السلام) انموذجا

اشارة

د. اسعد کاظم شبيب كلية العلوم السياسية / جامعة الكوفة

ص: 227

ص: 228

المقدمة:

تعد مسالة تكوين الدولة احدى اهم الكبرويات التي اهتم العقل الإنساني الواعي في بلورتها في محاولة منه لتنظيم المجتمع لا سيما بعد انتهاء حالة الفطرة، وحكم القانون الطبيعي، وبالرغم من ان ظاهرة الدولة تعد ايضا من المفاهيم التنظيمية الحديثة، لكن جذورها كسلطة وتنظيم، ضاربة في القدم، وقد اختلفت وتباينت حجم الاهتمام الحضاري والبشري من حيث التنظير والتباين بالدولة، لكن الذي لا غبار فيه ان العقل الغربي القديم، لا سيما بحضارتي اليونان والرومان، اخذت الدولة حيزا كبيرا من مؤلفات فلاسفتها، حيث كتب افلاطون و ارسطو عن نشأة الدولة، ووظائفها، ومثلها العليا، وطبيعة الانظمة الصالحة والفاسدة التي تحكمها، وتطور فلسفة العقل الغربي في الاهتمام بالدولة مع الزمن حتى انتقلت من كتابات على الورق الى دول واقعية من معالمها القانون، والعلم، واحترام حقوق الانسان، كمعطی من انتاج العقد الاجتماعي - الحقوق والواجباتي - الى جانب التقدم التكنولوجي والصناعي والتفكير في تكوين الدولة الكاملة والناجحة ليس فقط على سطح الارض وانما التفكير بالانتقال والعيش في الفضاء.

وفي سياق الاهتمام بالدولة لم يكن هناك القدر العقلي التنظيري الشامل بتکوین الدولة في سياق دويلات العالم الاسلامي، الذي يعد وريث حضارات قديمة برعت في جوانب عديدة ابرزها التشريعات القانونية الجزائية، لعل ابرز ما كتب في اطار تنظيم الدولة عبر اسلوب النصح والتعامل الاخلاقي هو ما كتبه الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك الاشتر حينما ولاه على مصر في مرحلة عدت من افضل

ص: 229

المراحل التاريخ الاسلامي عدلاً وكان بالإمكان ان تتطور، لكن سرعان ما افسدت الخلافات الاسلامية - الاسلامية هذا التطور في مجال حكم الدولة بصورة صالحة، وسادت الانقسامات ولا تزال بين المسلمين انفسهم فأضاعوا انفسهم وضاعت معهم حلم حكم الدولة بالعدالة، وسيادة القانون، و تحقیق رفاهية الانسان وسعادته، وكامل حقوقه وحرياته الدينية والشخصية.

من هنا تأتي دراسة اجزاء الدولة ووظائفها في هذا البحث من خلال تحليل العهد الامامي العريق، ذلك من خلال استخدام المنهج المقارن حيث تتطلب بالدراسة بیان روی فلسفية سبقت مجي الاسلام حيث ابدع فلاسفة اليونان الكبار کسقراط، وافلاطون، وارسطو، في عرض روائهم المتباينة ما بين المثل والواقعية بشان حکم الدولة ووظائفها وطبقاتهم من خلال استخدامنا ايضا للمنهج التحليلي. تأتي هذه المنهجية العلمية من اجل تفكيك و تحليل النص الامامي كتراث انساني واسلامي ومقارنته بالتراث الفلسفي الغربي التقليدي للاستفادة منهما في تطوير فكرنا السياسي وتجديده في مجال نظرية الدولة وبما ينسجم مع عصر الحداثة والتطور العلمي، وايجاد حلول اللازمة لتدبير الدولة وتبيان وجهة نظر النص الامامي في ادارة التنوع الديني والقومي والاثني، وحالات التمزق وضياع الانسان في متاهات الفقر، والجهل، والتكفير، والقمع، والفساد السياسي والاداري والمالي، والى ما لا نهاية من المشاكل التي تواجه اغلب بلدان العالم الاسلامي خاصةً وان عدد من بلدان هذا العالم یدار بصورة فاشلة وبدائية من قبل احزاب وجماعات سياسية اسلامية لاسباب عدة ابرزها نهج الاقصاء الذي تتبناه هذ الجماعات والاحزاب مع المختلف و تتبنى فتوى ومقولات فقهية كالخلافة والحاكمية ونهج السلف وغيرهم، كأنها وضعت هذه المقولات لزمن مختلف عن عصر الحداثة وحقوق الانسان. وعليه جاءت هذه

ص: 230

الدراسة لتباين كيفية تعامل النص الامامي والفلسفي مع الدولة وطبقاتها الاجتماعية التي قسمت الى المحاور الاتية:

اولاً: اجزاء الدولة

ثانياً: وظائف الدولة

ثالثاً: العلاقة بين الطبقات الاجتماعية والدولة

رابعاً: اركان السياسة العدلة

اولاً: أجزاء الدولة

تتمثل الدولة من المنظور الفلسفي والعقلي على اجزاء، فهناك السلطة او يعبر عنها بتسميات مختلفة كالمدبرون مثلما جاء المتون الفلسفية او الخلافة - الامامة، كتصنيفات اسلامية تطلق على رئيس وحاكم الدولة الى جانب عدد من التسميات الحديثة وهناك جزء ثاني يسمى بالحفظة وهم الجيش وهناك القوى العاملة، وسنبين هذه الاجزاء من خلال النقاط الآتية:

1. المدبرون

التدبير يعني التفكير النظري العلمي في القضايا والبحث الفلسفي الدقيق، ووضع البرامج والتفنن في تنفيذها(1). ومن الناحية السياسية هم الذين تقع على عاتقهم ادارة الدولة وتنظيم شؤونها، ويسمون بالحكام او طبقة الصفوة المختارة، وقد اختلفت المنظومات البشرية حول من هم المدبرون واليه اختيارهم، فاذا اتينا الى الفقه الاسلامي، نرى انه يذهب الى ان الوجود الانساني وبقائه يتطلب قيام المعاملة التي لابد من لها من سنة وعدل والذي لابد من انسان يقيم العدل ويتثمل بالنبوة والنبي اذ من الواجب ان يكون له خصوصية ليس لساير الناس حتى يشعر الناس فيه امرا

ص: 231

لا يوجد لهم فيتميز له منهم فيكون له المعجزات(2). وقد اختلف الفقهاء بعد رحيل النبي حول طبيعة اختيار المدبر بعد افتراق الامة الى مذاهب وفرق، فقد ذهب الشيعة الى ان الامامة وشان التدبر هي قضية الالهية وكمسالة دينية تنصيبة قرآنية ونبوية. اما السنة فهي عد مسالة التدبير والخلافة هي مسالة اختياري وشورية مناطة باهل الحل والعقد، اما الفلاسفة القدماء كسقراط وافلاطون وارسطو فقد جعل مسالة التدبير وادارة الدولة مرتبطة بالفضيلة والمعرفة وهي لا تتوفر الا في الفلاسفة بذلك هم رفضوا الحكم الشعبي واختيار الحكام بالانتخاب او ما يعرف بالحكم الديمقراطي وفي هذا السياق يقول سقراط: «ان السياسي الصالح ليس الشخص الذي يفوز في الانتخابات او الذي يسعده الحظ بكسب القرعة - على ما كان الحال في اثينا وانما هو ذلك الحكيم العالم العاقل الذي يشع نور حكمته ومعرفته عدلاً بين مواطنيه»(3).

2. الجيش

وهم الذين تقع على عاتقهم مهمة الدفاع عن المدينة وتسمى بطبقة الحفظة او قوى الامن والدفاع وتتكون هذه الطبقة من القادة والجيش المحارب والاحتياط القادرين على حمل السلاح، وعلى الرغم من خلو الجانب الاسلامي الدستوري الا ما ندر في جانب تنظيم الدولة وتقنينها من الناحية العسكرية اذ اغلب كتب الفقه تشير الى الغزوات واحكام البغاة وهو ما يدخل ضمن الحروب الاهلية والصراعات الاسلامية - الاسلامية، اذ من النوادر هو عهد الاشتر حيث جاء فيه ما يخص هذه الطبقة: «وَاِعلَم أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصلُحُ بَعضُهَا إِلاَّ بِبَعضٍ وَلاَ غِنَى بِبَعضِهَا عَن بَعضٍ فَمِنهَا جُنُودُ الله»(4). اذ ان قضية وأمر الأمن عند الإمام، فهي رضا الناس عن حكومتهم وقبولهم العافية لما يصان من حقوقهم ويتوفر من أسباب ويشيع بينهم من عدل فيهم حق المساواة، وبهذا يسود الأمن في الناس وتظهر مودتهم

ص: 232

لحكومتهم لذا يقول علي في دستوره وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد(5). وبخصوص العلاقة القادة والمراتب والجند وعلاقة بينهم، يقول (عليه السلام): «وَلْیکُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَیهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا یسَعُهُمْ وَ یسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ، حَتَّی یکُونَ هَمَّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَیهِمْ یعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیكَ... وَ إِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَ لَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ... ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»(6)، اما من المنظور الفلسفي فقد وصف افلاطون هذا الجزء بطبقة الجنود المحاربين (حراس دولة المدينة) وقال انها تضطلع بمهمة الدفاع وحماية الدولة من الاعتداءات الخارجية ونظرا لهميتم فقد شبههم بالفضة كمعدن ثمين يأتي من حيث الاهمية والقيمة بعد الذهب.

3. القوى العاملة

وهو جزء مكمل ومتخصص في الانتاج ويشمل كل القوى العاملة من مزارعين وصناع وتجار، ونظر الجانب الاسلامي بعين الحرمة للبطالة والتعطيل وفي حالة وجود قوم متعطلين عن العمل ويتوجب النظر في ارمهم فان كانوا قادرين على العمل وكان الامتناع منه يرجع للكسل وجب ردعهم او نفيهم من الارض ان لم ينفع فيهم الردع والتأنيب اما اذا كان سبب البطالة مرضا او زمانة فيتوجب ان يجمعوا في مکان خاص يكون عليهم فيه قيم ينظر في امورهم ولابد من مال ينفق عليهم منه وتصلح به امورهم به امورهم(7). وفي هذا السياق جاء النص الامامي ليذكر اصناف هذه الطبقة: «وَمِنْهَا عُمَّالُ الْأِنْصَافِ وَالرِّفْقِ وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ

ص: 233

وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی» ونظر الفلاسفة لهذا الجزء كقوى اقتصادية رافدة للدولة وان أي انفصال عن القوى الاقتصادية وتهميشها سيودي الى نظام سياسي غير متوازن ومستقر وعادل ولا يكون التوافق السياسي - الاقتصادي الا حيث تكون هناك طبقة وسطى كبيرة من حيث العدد ومن حيث القدرة وقوة الامكانيات.

ثانياً: وظائف الدولة

ما بين حكم الدولة والدفاع عنها واعمارها والقيام بعمليات الانتاج تتمثل وظائف الدولة عند الامام علي في عهد لمالك الاشتر: «جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَإِستِصلاَحَ أَهلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا»(8). ذهب باحثين الى ان الدولة كاداة قانونية واخلاقية تتولى وظائف امنية واقتصادية وسياسية من هنا يبدأ الأمام علي عهده لمالك الاشتر بالكلمات الأربع أعلاه وهي تمثل المرتكزات الوظيفية للدولة من المنظور البشري التقليدي التي تبني عليها الدولة، وتغطي الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهذه الجوانب تتفاعل وتتداخل بصورة وثيقة وحساسة والقيادة بينها تحتاج إلى قيادة إدارية واعية تمتلك القدرة على التخطيط والموازنة بشكل لا يطغى فيها جانب الاقتصاد على جانب السياسة، ولا تنفرد السياسة عن غيرها من الجوانب الأخرى فالوظيفة الأولى «جباية خراجها» تعني جانباً من المسار الاقتصادي للدولة بكل ما لهذا الجانب من إبعاد ومعطيات وخطط ومشاريع؛ لان الخراج يعني: دفع الضرائب والرسوم المالية بمختلف إشكالها وأصنافها من قبل الناس إلى الدولة لاسيما ضرائب الأرض الزراعیة من اجل أن تقوم الدولة بمهماتها الأخرى من الأعمار والتنمية والصحة والتعليم ومشاريع الحياة العامة. أما المسؤولية

ص: 234

الثانية «جه-اد عدوها» التي تحدد على الدولة مسؤولية الدفاع والأمن(9). و«استصلاح أهلها» يريد بها الإمام الجانب السياسي والاجتماعي والاهتمام برعاية شؤون الأمة والمجتمع، ولزوم توعية المواطنين على مبادئ الحق والعدل وإرادة البناء ومشاريع الخير والبر والإحسان، وتنمية مواهبها وقدراتها وتوظيف طاقاتها في مجال التكافل والتضامن والتوازن، وإشاعة ثقافة الوحدة والإخاء والتعاون، وترسيخ مفاهيم التسامح والمحبة والإيثار والانسجام بين الناس جميعاً وتقع هذه المسؤولية في العصر الحديث على وزارات الدولة التي تعرف بالوزارات الخدمية(10). ويحدد الإمام المسؤولية الرابعة للدولة «بعمارة بلادها»، وفي الفكر الفلسفي قديما قال الفيلسوف اليوناني افلاطون بوجود ثلاث وظائف للدولة لابد من للدولة من تأديتها وهي(11):

أ- اشباع الحاجات الطبيعية وهي مهمة تقع على طبقة العمال والصناع والتجار

ب- حماية الدولة من الخطر الخارجي وهي مهمة تضطلع بها طبقة الجنود والضباط او (حراس المدينة) كما يسميهم افلاطون او الحفظة كما في الادبيات السياسية الاسلامية

ت- حكم الدولة وهي وظيفة تقع في الفكر الفلسفي عند سقراط وافلاطون تقع على عاتق الحكماء والعلماء

وتقوم طبقة الحكام بمهمة وضع القواعد المنظمة للجماعة وادارة شؤونها وهي لا تحصر حديثا بالحكومة او رئيس الدولة وانما بالجانب التشريعي ايضا لما يوديه من مراقبة ومحاسبة والمحافظة على اموال الدولة. اما طبقة الجنود فتضطلع بمهمة الدفاع وحماية الدولة ضد الاعتداءات الخارجية، في حين تقوم طبقة العمال المنتجين بمهمة اشباع حاجات الافراد جميعا وتضم جميع من يقومون بالنشاط الاقتصادي من زراع وعمال وصناع. وفكرة التقسيمات المذكوره اعلاه تبنى على ان المجتمع مزيج من ثلاث

ص: 235

فئات رئيسه تتمثل: باولئك الذين اهلتهم الطبيعة للعمل لا للحكم وهم (العمال والصناع والمزارعين) واولئك الذين يصلحون للحكم بشرط ان يكونوا تحت رقابة غيرهم وتوجيههم وهم (الجند او الحفظة) واولئك الذين يصلحون لاسمى اعباء الحكم كالفصل النهائي في رسم الوسائل وتحديد الاهداف وهم (الحكام). اما الاتجاه الفقهي الذي تعتمد عليه جماعات الاسلام السياسي التقليدية من احزاب وجماعات راديكالية اسلامية فيتخذ مسار مختلف بلجوئها إلى تقديم مجموعة من الواجبات، قد تطول أو تقصر حسب كل مفكر، منوطة بالخليفة للقيام بها. فمعظم الكتابات التي تنتمي لهذا الاتجاه، ونشير بذلك إلى الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» حيث يُفصّل الواجبات أو الوظائف إلى عشرة، وهي(12): حفظ الدين على أصوله المستقرة. وتنفيذ الأحكام بين المتشاجرين. وحماية البيضة والذب عن الحريم. وإقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك. وتحصين الثغور بالعدة والمنعة. وجهاد من حاد عن الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع. وتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال. واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال. وأن يباشر بنفسه الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة. في حين لم يهتم الفقه الشيعي التقليدي بالدولة كثيرا بسبب سيطرة احكام الامامة كنظرية تنصيبة الالهية مقدسة الا في كتابات محدودة ابرزها تلك التي وضعها الشيخ محمد حسين النائيني في كتابه (تبيه الامامة وتنزيه المله) بصوره تقرب كثيرة من نظرية الدولة في الفكر والقانون الدستوري عندما قسم الدولة الى سلطات ثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية وكل سلطة لها وظائف محددة.

ص: 236

ثالثاً: العلاقة بين الطبقات الاجتماعية والدولة

ينبع النظام التراتبي في كل مجتمع منظم من وجود عدد من الطبقات التي تتوزع على النواحي الاجتماعية وهي لا تكون متفاوتة من الناحية الاقتصادية والتوزيعية بصورة تخلق حالة الا مساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانما كل طبقة تودي دورا ما تقدم خدماتها التخصصية لبناء الدولة وحمايتها وتحقيق سعادة الفرد والمجتمع.

وفي هذا الصدد جاء في عهد الامام علي الى مالك الاشتر : «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لَا یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ وَلَا غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَمِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَمِنْهَا عُمَّالُ الْأِنْصَافِ وَالرِّفْقِ وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ»(13). وعليه تتمثل وظيفه هذه الطبقات بالشكل الاتي:

1- الطبقة الحاكمة ومن ضمنها طبقة القضاة وتقع على عاتقها ادارة الدولة والفصل بين الناس وباشراف الامام لذا يوصي عليه السلام ان يختار الحكام من بين افضل الناس وممن لا تضييق به الامور ولا تمحكه الخصوم. وكذلك قال بشان هذه الطبقة: «ان الناس ينظرون في امورك في مثل ما كنت تنظر فيه امور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.. فليكن احب الذخائر اليك العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك»(14).

2- جنود الله (الضباط والجنود) التي يقع على عاتقهم الدفاع عن الدولة من اي اعتداء وحماية الثغور يقول علي (عليه السلام) فيما يخص مهام هذه الطبقة: (فالجنود

ص: 237

باذن الله حون الرعية وزين الولاة وعز الدين وبل الامن).

3- كتاب العامة والخاصة وهم العاملون للعامة كالمحابين في المعتاد من شؤون العامة، كالخراج والمظالم، ومنهم مختون بالحاكم يفضي اليهم باسراره ويوليهم النظر فيما يكتب لأولياه واعدائه وما يقرر في شؤون حربه وسلمه مثلاً.

4- قضاة العدل وهم الذين يفصلون في المنازعات التي تحدث بين الناس، حيث يقضي الحاكم بالحق والذين يسميهم الامام (عمال الانصاف والرفق).

5- التجار والصناع وهم الطبقة المسؤولة عن الانتاج وتلبية متطلبات الناس الغذائية والمنزلية.

6- الطبقة الفقيرة من اهل الحاجة والمسكنة فيوصي الامام بهم من خلال رفدهم ومعونتهم لان الله كلا منهم سمى له سهمه.

أما عن العلاقة بين الدولة وبين الطبقات والفئات الاجتماعية، فيقول الامام (عليه السلام): «فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الاَمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ(155) لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ... ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَیْنِ الصِّنْفَیْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ لِمَا یُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَیَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَیُؤْتَمَنُونَ عَلَیْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا. وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِیعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ فِیمَا یَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَیُقِیمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَیَکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَیْدِیهِمْ مَا لَا یَبْلُغُهُ رِفْقُ غَیْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَهُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ الَّذِینَ یَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ»(16). ويقول الإمام (عليه السلام) عن طبقة حراس الدولة: «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ... أَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، ويَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَ يَنْبُو

ص: 238

عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ»(17).

وبخصوص العلاقة بين تشعبات هذه المؤسسة من القادة والمراتب والجند يقول (عليه السلام): «وَلْیکُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَیهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا یسَعُهُمْ وَ یسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ، حَتَّی یکُونَ هَمَّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَیهِمْ یعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیكَ... وَ إِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَ لَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ... ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»(18)، وهناك فلسفات واقعية نراها مغايرة تمام في اليات التعامل الجند مع الشعب فمثلا يذهب الفكر الواقعي السلطاني لنيقولاى ماكيافيلي في الفصل الرابع عشر من كتابه الشهير (الامير) اذ يقول عن واجبات الامير نحو الجند: «لا ينبغي للامير ان يكون له مقصد او فکر او یعنی بدرس امر سوى الحرب ونظامها وترتيبها لأنها الصنعة الوحيدة الضرورية للذي يأمر وينهى وفائدتها في انها تحفظ ملك من يولد اميرا وترفع الى مرتبة الامراء بعض الناس من الطبقات»(19) ويرى ماكيافيلي ان الامراء الذين يفكرون في الرفاهية اكثر من التفكير في الحرب يفقدون في امارتهم والسبب الذي يفقد الامراء ممالكهم هو احتقارهم الحرب ووسيلة الحصول عليها هي التبحر في علوم الحرب(20)

وعن شخصية طبقة القضاة ومؤهلتهم وعلاقة اللجنة المختصة والمكلفة من قبل الدولة باختيارهم يقول الإمام (عليه السلام): «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُور، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى

ص: 239

فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ. مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاء وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ»(21). ولضمان نزاهة القاضي يقول ( عليه السلام): «وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً»(22). وفي هذا المعنى لخص لنا مفكرين طبيعة عمل هذه الطبقة ومؤهلتهم حيث ذكر جورج جرداق: إن الشرط الأول الذي يجب توفره في شخص القاضي في دستور ابن أبي طالب: الكفاءة العلمية، فبدون هذه الكفاءة يضطر القاضي أن يحكم أما بعلمه المحدود وإما بهواه، وكلاهما لا يكفي بأن يقيم حدود المساواة بين الناس(23). اما الراي الثاني لشيخ محمد مهدي شمس الدين: إن الكفاءة العلمية تعني استناد القاضي إلى خبرة الأجيال التي سبقته والى علوم الأولين والشرائع، ذلك لما لأصحابها التفوق على القاضي، وكذلك يشير الأمام إلى ضرورة استناد القاضي إلى قوانين موحدة يعمل بها في إنحاء البلاد جميعاً، ومن الضروريات أن يتراجع عن الخطأ ولا يصر عليه، وأيضاً الدقة في معالجة المشكلات فلا يتسرع إذا اشتبهت عليه الأمور إلى أن تزول الشبهة(24).

رابعاً: اركان السياسة العادلة

من خلال دراسة ما جاء في النص الامامي يمكن لنا نسمي عدد من الوصايا الاخلاقية بانها بمثابة اركان للسياسة العادلة، وتتمث-ل بما يلي:

ص: 240

1. تحقيق الإنصاف والعدالة:

يعد تحقيق العدالة بين ابناء المجتمع من مقومات الدولة الناجحة وقد ذكر الامام علي الى ان شعور الناس في عدم عدالة الحاكم سيودي حتما الى الظلم وان الظلم يودي الى زوال الملك وتعجيل نقمة الله على من اقام الظلم لان الله سميع دعوة المضطهدين، وفي هذا سياق قال الامام علي موصيا بالعدالة والانصاف: «أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِینَ». وبهذا المعنى يكتسب مفهوم العدالة معنى اخلاقي كحالة وسط بين الظلم والانظلام، وبذلك فهو يبتعد بمعاملته مع الشعب عن سياسة الرغبة والرهبة. وبهذا الخصوص جاءات الفقرة الأولى من كلام الإمام تشير إلى قضية رئيسة في الأنظمة السياسية التي تقوم على الاستبداد ولا تخضع لمؤسسات الدولة، ولهذا فأن الأمام (عليه السلام) ينبه على أن تقوية السلطان لا تكون بسياسة القمع(26). بمعنى ان الوالي أو المسؤول في دوائر الدولة أنى كان مستواه ثلاثة اطر يتحرك عبرها، الأول: نفسه التي بين جنبيه، الثاني: خاصته الأقربون منهُ الثالث: عامة الناس، وإنما الوالي ملك الأمة فلا يجوز له إن يجعل نفسه والأقربين يستأثرون بمكاسب الحكم وثروات الدولة، بل لابد أن يتصف للعدالة، والعدالة وحدها، وإنما يكون ذلك بأن حق الناس من نفسه وخاصته ليفيء بعهد الله عليه(27).

ويختلف الامام علي مع كل كتاب ومعلمي الامراء والسلاطين كتلك اوردها نيقولاى ماكيافيلي في كتابه الامير من ان اي امير حتى لو يود ان يكون معروفاً بالرأفة

ص: 241

دون القسوة ولكن ينبغي له أن لا يسئ استعمال الرأفة(28) . في حين يوصي الأمام الوالي قائلاً: «وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَهَ لِلرَّعِیَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَ اللُّطْفَ بِهِمْ»(29)، ويقول الإمام (عليه السلام) ایضا: «..فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ..»(30)، وكذلك يذكر الأمام غير المسلمين فيقول: «أموالهم كأموالنا ودماؤهم کدمائنا»، اذ ان الرحمة والمحبة في المنظور الامامي للناس عنصران من عناصر نجاح القائد المتصدي في الأمة، في الفقرة الماضية يعالج الإمام العلاقة الوجدانية بين الحكومة والمواطنين، فيلاحظ منه تأكيد على هذه العلاقة الايجابية التي تتوخى منفعة المواطنين وسعادتهم(31).

وضرورة معاملة الناس بالحسنى حتى تنتج الثقة بين الحاكم والمحكوم، إذ قال الإمام (عليه السلام): «وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَیسَ شَیءٌ بِأَدْعَی إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِیتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَیهِمْ، وَ تَخْفِیفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَیهِمْ، وَ تَرْكِ اسْتِکْرَاهِهِ إِیاهُمْ عَلَی مَا لَیسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْیکُنْ مِنْكَ فِی ذلِكَ أَمْرٌ یجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِیتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ یقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِیلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ، وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ»(32) وهذا يدلل على ان النص الامامي يوصي مرة اخرى بأن يكون قلب الحاكم منبع العطف على المواطنين والمحبة لهم؛ أي: أن على الحاكم أن يحب الناس حباً ابوياً بمجامع قلبه، وان يظهر لهم مودته وعطفه.

في حين ذهب الفكر الفلسفي ما بين المثالية الافلاطونية والبرهانية الواقعية الارسطية اذ ربط افلاطون استمرار حكم الدولة بعدالتها من خلال قوله بان ليس للاجتماع المدني من قاعدة سوى العدل وان أي دولة لا تعرف ان تقوم عليه هي دولة فاسدة موذنة بالانهيار، وقد حدد افلاطون فكرة العدالة في الكاب الرابع من الجمهورية بالقول انها تعني لديه ان يودي كل انسان عمله الخاص به دون ان

ص: 242

يتدخل في عمل سواه فالمدينة عادلة اذا قام الصانع والجندي والحاكم فيها كل بعمله دون ان يتدخل في اعمال الطبقتين الاخريين بعبارة اخرى انها الوشيجة التي توطد الروابط في المجتمع(34). اما ارسطو فقد جعل من العدالة الركن والمثل الثاني للدولة ويميز ارسطو في الفصل الخامس من كتابه عن الاخلاق بين معنيين للعدالة: فهي من ناحية توازي كل الفضيلة الخلقية حيث الرجل العادل هو ذلك الرجل الورع الفاضل الشريف وهي من ناحية اخرى فضيلة خاصة محددة تأخذ مكانها الى جانب الشجاعة والاعتدال والكرم او تلك الفضيلة التي يتحلى بها الانسان في معاملاته مع الاخرين في امور الملكية والعقود وما شاكل ذلك(35). عموماً فقد طور الغرب هذه الفلسفة بعناوین حقوقية ودستورية مكتوبة ضامن بذلك كل حقوق الانسان ولعل ابرز الدساتير والمواثيق الدولية كوثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص في المادة(2): «لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سیاسياً أو غير سياسي أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر».

2. تحقيق الصالح العام

يقوم المذهب السياسي عند الامام علي (عليه السلام) على تحقيق مسائل مهمة اخرى في قيادة الدولة كضرورة تحقيق رفاهية ورضا المجتمع حتى وان ادى هذا الرضا الى سخط اصحاب المنافعة او ما يسميه ب (سخط الخاصة)، يقول: «وَلْیَکُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَیْكَ أَوْسَطُهَا فِی الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِی الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِیَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ یُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ یُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ. وَلَیْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِیَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِی مَؤُونَةً فِی الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِی الْبَلَاءِ وَأَکْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ

ص: 243

صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّینِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِینَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلْیَکُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَیْلُكَ مَعَهُمْ»(36). ويفسر هذا الطرح بان المعادلة الصعبة عند القيادات تتمثل في التوازن بين الخاصة والعامة، بين من يحيط بالقائد من أصحابه ومعاونيه ومدراء شؤون الأمة، وبين أبناء الشعب. ولقد صرح الأمام علي (عليه السلام) بضرورة تفضيل العامة على الخاصة؛ لان سخط عامة الناس يجحف برضى الخاصة، بينما سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، ويبين الأمام أيضاً معايب الخاصة ووصفهم بأنهم العظيم مؤونتهم والقليل معونتهم، وأنهم يبغضون العدل ويحلون على قضاء حوائجهم، وإذا منعتهم لا يرضون بعذرك، وعند المشاكل يسارعون للهرب، بينما العامة من أبناء الشعب تجدهم عدة جاهزة(37).

ونجد في راي الفلاسفة تحذير من التفاوت الفاحش الذي تسببه الملكية الخاصة لأنها تودي الى نشوء طبقتين متعارضتين طبقة الاغنياء وطبقة الفقراء تناهض احداهما الاخرى وتناصبها العداء والحقد ينجم عنه تمزق وحدة الدولة وتفكك اوصالها لهذا، لهذا رأى افلاطون القضاء على الشر المتمثل بالملكية الخاصة برغم من نفيه ان تكون فكرته هذه تستهدف تحقيق هدف اقتصادي محدد - العمل على رفع مستوى معيشة الشعب او بعض طبقاته - بقدر ما كان يتوخي الوصول الى هدف سياسي يتلخص في توفير اقصى قدر مستطاع من الوحدة داخل الدولة وتحقيق اعلى درجة واعلى قدر من الولاء للوطن من حراسه ونخبته(38). والتي يسميها الامام الا علي بالخاصة القريبة من الحاكم. ومن جانب ثاني يوصي الامام علي بمساعدة الفئات المحتاجة: «ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکنَةِ الَّذِینَ یحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ»(39) وقال الامام موصياً ايضا بالفقراء والمساكين: «اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ»(40). ثم يوجه الأمام اهتمامه إلى فئة أخرى هم الزمني، وهم أصحاب الإمراض التي يصعب علاجها وهم الذين لا يجدون

ص: 244

العناية الكافية، ثم وجه العناية إلى اليتامی ممن لا يجدون وليا: «..وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الْإِسْلاَمِ فِي کُلِّ بَلَ فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَدْنَى، وَکُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ»(41). وكذلك الاهتمام بالناس المتعففين: «وتَفَقَّدْ اُمورَ مَن لایَصِلُ إلَیكَ مِنهُم مِمَّن تَقتَحِمُهُ العُیونُ، وتَحقِرُهُ الرِّجالُ، ففَرِّغْ لاُولئكَ ثِقَتَكَ مِن أهلِ الخَشیَةِ والتَّواضُعِ، فلْیَرفَعْ إلَیكَ اُمورَهُم...» وتاسيس ما كان يعرف بديوان المظالم: «وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ، الَّذِی خَلَقَكَ وَتُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ، وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّی یُکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ»(42).

3. الشورى وعمل المستشارون:

اهتم الجانب الاسلامي في العلاقه بين السلطة وضرورة اخذ راي اهل الشوری مستنبطين ذلك من القران والسنة، اذ يوكد الماوردي اشهر المفكرين في جانب الفقه الدستوري الاسلامي في كتابه الاحکام السلطانية على ضرورة ان لا يمضي صاحب السلطة الامور المستبهمة برايه لوحدة بحجة خشيته من انشاء الاسرار او تكبرا عن الاستعانه بالاخرين بل ينبغي عليه ان يشاور المؤهلين الامناء ممن حنكتهم التجارب وعرفوا حقائق الامور ومصادرها.

وفي سياق متقدم يقول الامام علي: «وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بِخِیلاً یَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَیَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً یُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلاَ حَرِیصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ»(43) وقال ايضا في محاولة لخلق حالة من الانسجام و بناء مجتمع متماسك تسوده الثقة واحترام خصوصيات الناس: «وَلْیَکُنْ أَبْعَدَ رَعِیَّتِكَ مِنكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُم

ص: 245

لِمَعایِبِ النّاسِ، فَإِنَّ فِی النّاسِ عُیُوبا الْوالی أَحَقُّ مَنْ سَتَرَها، فَلا تَکْشِفَنَّ عَمّا غابَ عَنكَ مِنها، فَإِنَّما عَلَیكَ تَطهیرُ ما ظَهَرَلَكَ وَ اللّه ُ یَحْکُمُ عَلی ما غابَ عَنكَ..»(44).

ولعله في عرض هذا النص من قبل الامام يريد ان يوصل رسالة هو ان هناك كثير من الدول عادة ما تحيط بالماسك بالسلطة زمرة تسعى لديه بذم الناس، وتشويه صورهم، وكشف أسرارهم لديه وهذه البطانة خطر على الدولة؛ لأنها تجعل الحاكم يرى بعينها ويفكر بعقلها، وهذا ما يفهمه الإمام للحاكم من الوقوع في أمر كهذا(45). ثم يقول الإمام (عليه السلام): «أَطْلِقْ عَقْدَ کُلِّ حِقْدٍ، وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ کُلِّ وِتْرٍ وَ تَغَابَ عَنْ کُلِّ مَا لَا یَصِحُّ لَكَ، وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِیقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِیَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِینَ»(46). وهنا يذكر الإمام بأنه لا ينبغي على الحاكم أن يعجل بتصديق الوشاة والسعاة للأضرار بالآخرين، إذ إن السعاة يتسمون بالوشاية وان تظاهروا بالنصح، وهذا القول ايضاً يدل على روح التعامل مع المواطنين بسبل ذات قيم عليا(47). ثم يوصي الإمام بالاعتماد على رجل الحكمة والعلماء، وهو ما ذهب إليه الفيلسوف اليوناني أفلاطون عبر تأكيده على ضرورة وجود الحاكم الفيلسوف، ويقول الإمام (عليه السلام): «وَ أَکْثِرْ مُدَارَسَهَ الْعُلَمَاءِ، وَ مُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ فِی تَثْبِیتِ مَا صَلَحَ عَلَیْهِ أَمْرُ بِلادِكَ، وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ»(48). وقد ربط الفكر الفلسفي بطا وثيقا بين اصحاب الحكمة او الفلاسفة وما بين ان يحكم بل انهم اناطوا مهمة ادارة الدولة وتدبير شؤونها الى القلة من اهل العلم ويتمثلون بالفلاسفة وفي هذا السياق یری افلاطون ان السلطة ظاهرة فردية ترتبط بشخصية الحاكم يمارسها الفيلسوف على انها خاصة بشخصه ونالها بفضل علمه ومعرفته. وبتعليقه على ضرورة ايجاد الترابط بين العلم والقيادة يقول شمس الدين أن الأمام أشار إلى قضية كبيرة الأهمية في نظام الاجتماع السياسي، إذ أنه حينما ينفصل الجسم عن العلم وعن الفكر، فأنه يتخبط أي الحاكم في مجاهل كثيرة، أو يؤول أمره إلى فقدان العنصر الإنساني، ويغدو العلم من غير غطاء، أو من غير حماية تقع الكراهية والاتهام بين العلماء والحاكمين(49).

ص: 246

4. اختيار الوزير الصالح:

تعد الوزارة بما ولاية عامة صادرة عن الامام او الحاكم في الاعمال العامة، او كمهمة تنفيذية وتفويضية تداري شؤون الناس واحتياجاتهم، ينبغي ان يتوفر سمات يتميز من خلالها الوزير عن غيره من الناس وباعتبار طبيعة منصب الوزير من المسؤوليات الثقيلة والجامعة بين ما هو سائس وما هو مسوس. وقد اشار الامام علي موصي واليه على مصر قائلا: «إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ کَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِیراً وَ مَنْ شَرِکَهُمْ فِی الآْثَامِ، فَلاَ یَکُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ، وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ، مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ، وَ لَیْسَ عَلَیْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ، وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ یُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَی ظُلْمِهِ وَ لاَ آثِماً عَلَی إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَیْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَ أَحْنَی عَلَیْكَ عَطْفاً، وَ أَقَلُّ لِغَیْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ، وَ حَفَلاَتِكَ ثُمَّ لْیَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِیمَا یَکُونُ مِنْكَ مِمَّا کَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِیَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَیْثُ وَقَعَ»(50). وهنا الامام وفق احد الآراء يرى بان استبداد الوزراء والأولياء من الموالي والمصطفين هو إحدى شرور بطانة السوء، الأشرار الذين يتغلبون على الولاة المنغمسين في الترف والنعيم وفي اللذات والشهوات وهم أصحاب الأوزار والآثام(51). ثم يحذر الإمام الحاكم من الحاشية؛ أي: الذين هم بموقع قريب من الحاكم، وبيانه لأهمية العمل بسياسة التكريم والعقوبة جاء في النص: «أَلْصِقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلی أَنْ لا یُطروكَ وَلا یُبَجِّحوكَ بِباطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإنَّ کَثْرَهَ الإطْراءِ تُحْدِثُ الزَّهوَ، وَ تُدْنی مِنَ العِزَّةِ ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهيداً لأهل الاحسان في الاحسان وتدريباً لأهل الاساءة والزم كلاً منهم ما الزم نفسه»(52). في سياق ذاته اهتمام الفكر الفلسفي في مسالة الوزارة ولكن من باب التخصص حيث ان السلطة التنفيذية اذا تحررت فأنها قادرة على معالجة العجز السياسي.

ص: 247

الخاتمة:

مما تقدم يمكن لنا ان نقول ان فكرة التنظيم او الدولة بالمفهوم الحديث اخذت حيزا في النص الامامي والتفكير الفلسفي، فعندما نأتي اجزاء الدولة نرى ان كل مجتمع او مجموعة بشرية تسكن على ارض محددة تحتاج الدولة الى اجزاء تسير عمل الدولة فهناك المدبرون او القيادة وهنا تأتي أهمية وجود السلطة او الحكومة بل اتفق عليها العقلاء بالاجماع حتى قال الامام علي (عليه السلام) مقولته الشهيرة بوجوب السلطة: لابد للناس من امیر برا كان او فاجر. وقد ذهب النص الامامي في سياق عهد الاشتر بالتأكيد على عدد من مسائل الاخلاقية التي تدل على ان من يتولى ادارة وتدبير شؤون الدولة لابد ان يكون على درجة رفيعة من الحكمة والسمو قائلاً: «ان الناس ينظرون في امورك في مثل ما کنت تنظر فيه امور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.. فليكن احب الذخائر اليك العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك»، كما ان التفكير الفلسفي بصورته التقليدية قد اناطت مسالة التدبير لأهميتها بالفلاسفة لكونهم من القلة المؤهلة والمتمتعة بالفضيلة والمعرفة، وتأتي الاجزاء الاخرى مكملة حيث لابد من وجود طبقة الجند او الجيش لأنها الطبقة الضامنة للحماية الدولة وحراستها من المخاطر الخارجية والنزاعات والفوضى الداخلية كما ان الدولة تحتاج الى الطبقات والقوى العاملة اذ انها هي من تقوم بوظيفة الانتاج ورفد الطبقات الاخرى بالغذاء والمنتوجات المصنوعة وغيرهم من هنا فان طبيعة الحياة تقضي وجود القيادة والتدبير وهناك اناس اهلتهم الموهبة او التجربة للمارسة الحكم في حين ان هناك اناس لهم صفات بدنية وقدرة على التحمل تجعل هم خير من يذود عن الدولة ويدافع عنها وهم ما يسمون بالحفظة او الجيش في حين ان الحاجة تقضي وجود الصانع والمزارع والتاجر وهكذا فان الدولة يتفاوت ابناءها

ص: 248

في مجالات اشغالهم وخدماتهم الى ان ينتهي على حد تعبير الفلاسفة الى عدم وجود عاطل عن العمل.

وفي سياق ذي صله ما تقدم يمكن لنا ان نستنج ايضا من الدراسة ان النص الامامي على ان الدولة تقع عليها وظائف لابد من ان تؤديها فهناك كما يسميها الامام علي في عهده للأشتر: «جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاِستِصلاَحَ أَهلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا» وهي وظائف تشبه الى حد كبير وظائف الدولة في التفكير الفلسفي التقليدي في طور الافلاطونية المثالية - الارسطية الواقعية، عندما اشاروا الى ان وظائف الدولة تتمثل: بإشباع الحاجات الطبيعة وحماية الدولة من الخطر الخارجي وحكم الدولة، لكن ان الاختلاف ما بين المنظومتين هي ان الاولى تجمدت وتراجعت القهقري وانتقلت من الاجتهاد والتأمل العقلي البشري في مسائل الحكم وادارة الدولة الى المقولات الفقهية وتفسير النصوص بما ينسجم مع هذه المقولات في حين طور الغرب من النظريات الفلسفية التقليدية المذكورة عن الدولة واجزائها وطبقاتها الى التأسيس البراغماتي والعقدي القانوي المتمثل بإيجاد الدساتير الوضعية حيث تطورت وظائف الدولة وفق الفهم السياسي والاقتصادي المعاصر حيث قسمت: الى وظائف دنیا وتشمل: توفير الخدمات والمنافع العامة والاهتمام بشؤون الدفاع والنظام والقانون وحماية حقوق الملكية وادارة الاقتصاد الجزئي والعناية بالصحة العامة وتحسين مستوى العادلة وحماية الفقراء وظائف وسطى وتشمل: معالجة المظاهر الخارجية والتربية والتعليم والبيئة وتنظيم الاحتكارات والتغلب على المشاكل الناجمة عن قصور التعليم وتنظيم القطاع المالي وقطاع الضمان الاجتماعي، ووظائف عليا وتشمل: السياسيات الصناعية واعادة التوزيع.

ص: 249

الهوامش

* كلية العلوم السياسية / جامعة الكوفة

1. محمد جواد اللاريجاني، الإستراتيجية القومية (دراسات في معالمها وأهدافها)، ترجمة علاء رضائي، ط 1، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1995، ص 35.

2. جهاد تقي صادق، الفكر السياسي العربي الاسلامي دراسة في ابرز الاتجاهات الفكرية، جامعة بغداد، كلية العلوم السياسية، 1993، ص 51.

3. نقلاً عن غانم محمد صالح، الفكر السياسي القديم والوسيط، بغداد، مكتبة السنهوري، 2001، ص 41.

4. الشريف المرتضى (الجامع)، نهج البلاغة للامام علي بن ابي طالب، شرح محمد عبده، ج 1 - 4، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، (د. ت)، ص 462.

5. جورج جرداق، الأمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 2، ط 2، مملكة البحرين: دار ومكتبة صعصعة، 2001، ص 280.

6. المصدر السابق نفسه، ص 462.

7. جهاد تقی صادق، مصدر سابق، ص 53.

8.الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 457.

9. محمد مهدي شمس الدين، عهد الاشتر، ط 1، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 2000، ص 67.

10. محمد تقي المدرسي، فقه الدستور وأحكام الدولة الإسلامية، ط 1 ، قم: دار محبي الحسين، 2004، ص 8.

11. غانم محمد صالح، مصدر سابق، ص 54.

12. نقلاً عن سعدي كريم سلمان، وظائف الدولة دراسة في الفكر السياسي العربي الاسلامي، مجلة العلوم السياسية، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد. العدد 35، السنة الثامنة عشر، تموز - كانون الثاني 2007، 108.

ص: 250

13. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 462.

14.المصدر السابق نفسه، ص 458.

15.

16. المصدر السابق نفسه، ص 463.

17. المصدر السابق نفسه، ص 463.

18.المصدر السابق نفسه، ص 464.

19. نيقولاى ماكيافيلي، الامير، ترجمة محمد لطفي جمعة، القاهرة، دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع، (د. ت) ص 136.

20. المصدر السابق نفسه، ص 136.

21.الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، 465.

22. المصدر السابق نفسه، ص 466.

21. جورج جرداق، مصدر سابق، ص 256.

24. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 120.

25.الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 459.

26. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 79.

27. محمد تقي المدرسي، مصدر سابق، ص 11 - 12.

28. نيقولای ماکیافیلی، مصدر سابق، ص 147.

29. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 458.

30. المصدر السابق نفسه، ص 458.

31. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 74.

32. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 462.

33. مرتضى مطهري، روى جديدة في الفكر الإسلامي، تحقيق وتصحيح عبد الكريم الزهيري، ج 4، ط 1، قم: مكتبة الإمام الصادق، 2008، ص 314.

ص: 251

34. غانم محمد صالح، مصدر سابق، ص 55.

35. المصدر السابق نفسه، ص 92.

36.الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 459 - 458.

37. محمد تقي المدرسي، مصدر سابق، ص 12 - 13.

38. غانم محمد صالح، مصدر سابق، ص 58.

39. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 463.

40. المصدر السابق نفسه، ص 470.

41. المصدر السابق نفسه، ص 470.

42. المصدر السابق نفسه، ص471.

43. المصدر السابق نفسه، ص 460 - 461.

44.المصدر السابق نفسه، ص 460.

45. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 86.

46. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 460.

47. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 86.

48. الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 462.

49. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 97.

50.الشريف المرتضى (الجامع)، مصدر سابق، ص 461.

51. توفيق الفكيكي، الراعي والرعية المثل الأعلى للحكم الديمقراطي في الإسلام، بغداد: شركة المعرفة والتوزيع المحدودة، 1990، ص 136.

52. الشريف المرتضى، مصدر سابق، ص 416.

ص: 252

مواصفات وواجبات الحاكم الاسلامي قراءة عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه على مصر

اشارة

د. امل هندي

ص: 253

ص: 254

مقدمة

تميزت السنوات المعدودة التي تولى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الخلافة فيها بوفرة الإنتاج الثقافي سواء كان على شكل خطب وكتب ووصايا و عهود، أو على شكل حوادث ووقائع حيث غطى هذا الإنتاج حقولاً عديدة في الفكر والأخلاق والمعارف والحقوق والآداب إلى غير ذلك. وتمثل رسائل الإمام «عليه السلام» إلى ولاته وعماله وموظفيه خير وجه ناصع لسياسة الإسلام في كيفية ادارة البلاد والعباد فهي جامعة للسياسة الإسلامية في كل أبعادها وفي مختلف شؤونها، وكان مجموع الكتب التي أرسلها إلى ولاة الأمصار وعماله على الصدقات والخراج 30 كتاباً، ومجموع وصاياه لأهل بيته وللأمراء والعمال 11 وصية، أما مجموع ما أرسل إلى أمراء الجيوش من كتب فهو إضافة إلى عهدين، وأرسل ثمانية كتب إلى أهل الأمصار وكتب 20 كتاباً إلى أعدائه. وإذا كان هذا الكم الذي وصل ألينا من الكتب والوصايا يعكس شدة الأحداث التي واجهها عليه السلام في مدة خلافته، فإنها تعكس من جهة أخرى حرصه على بناء نظام سياسي وأداري ناجح ويبقى عهد الإمام الذي كتبه إلى عامله مالك الاشتر سنة 37 ه حين بعثه والياً على مصر، يكتسب أهمية فائقة من خلال تحشيده للرؤى والأفكار وعلاجات الواقع فيه، فقد جاء العهد ليؤسس خطاباً ليس معاصراً ومعانقاً لحاضرة فحسب، بل هو خطة منزوعة الخصوصيات، مطلقة الأفكار، صالحة للتطبيق في أية مرحلة مستقبلية يواجهها أصحاب القرار في خضم تجاذبات الواقع السياسية والاجتماعية والفكرية.

إن قراءة هذا العهد بشكل تفصيلي والوقوف على المفاصل الرئيسية التي تناولها

ص: 255

يحتاج إلى سلسلة من الدراسات العميقة والمتخصصة فهو» أطول عهد كتبه واجمعه للمحاسن»، كما نص على ذلك ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة وهو «أفضل مرسوم إداري كتب لحد ألان ولم يصبه غبار النسيان على مرور الزمان». كما يؤيد الإمام الشيرازي وهو من «عيون الفكر السياسي الشاهد على نضج الفكر العبقري في السياسة والإدارة ما يشهد لموهبة الأمام في هذا الفن «،على حد تعبير محمد عمارة.

ولقد تضمن التقرير الذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام التي تضمنها هذا العهد. وسنقتصر في بحثنا هذا على تناول مسألة محورية وجوهرية وردت في ثنايا العهد وتتعلق بصفات الحاكم الاسلامي وواجباته الاساسية تجاه الرعية

وللإحاطة بالأسس والأفكار التي ثبتها الإمام عليه السلام في عهده لمالك الاشتر والتي أسست لنظرية أدارية وقانونية لا زالت مادة للقراءة من قبل نظام الحكم في أية دولة تسعى لتطبيق الرؤية الإسلامية في جهازها الإداري والحكومي، سيتم تناول الموضوع عبر العناوين الرئيسية التالية:

ص: 256

المبحث الأول مواصفات الحاكم الاسلامي

من الأمور الجوهرية في نظام الحكم العادل أن يكون المسؤلون فيه شخصيات قوية فاعلة ومؤثرة في إدارة مفاصل ذلك النظام، توجهه نحو إخصاب الحالة العامة للبلاد وازدهارها في جوانبها المختلفة، ففي الحكم تكمن قوانين وسمات ومؤشرات الظلم والعدل.

ويعد العدل الأساس والمرتكز الأساس الذي لابد أن تقوم عليه اية إدارة ناجحة، فهو لا يختص بزمن دون آخر، ولا تحتاج أليه فئة دون غيرها، بل هو سنة تاريخية أودعت في سياق هذا الكون والوجود الكبير، وظاهرة سيوسيولوجية تأتي ثمارها حين يمارسها الناس إلى جانب ممارستها من قبل الساسة وولاة الأمر في الدولة، وتتمثل ثمارها في ازدهار المجتمع ونظام الحكم، هذا فيما يؤدي الظلم والاستبداد لا إلى انهيار النظام السياسي فحسب، بل وانهيار الكيان الاجتماعي لأية جماعة بشرية.

وإدراكاً منه لمخاطر الحكم ومسؤولياته الكبرى تلك، كان الإمام (عليه السلام) متشدداً في تحدید مواصفات الوالي العادل الذي يمثل قمة الهرم في الجهاز الإداري ومؤكداً على اثر التفاعل السيكولوجي بين ذات الفرد ومبدئه بالنسبة إلى حركة السياسي المسئول على إدارة نظام الحكم، فعندما يعي المسئول عظم مهامه سينطلق

ص: 257

في حركته الإدارية تطبيقاً وتجديداً، واعتدالاً، ومساواة بحرص، ووعي، ونزاهة، ومبدئية، وإخلاص متوخياً تجسيد الهدف المنشود في إسعاد الشعب وعيشه بكرامه وحرية واستقلال. وجاءت نقطة البداية من اختيار الشخص الملائم الذي يمتلك مقومات الإداري الناجح ومبادئ المسلم القوي فجاء اختياره لمالك الاشتر الذي يقول فيه «والله لو کان جبلاً لكان فنداً، ولو كان حجراً لكان صلداً، لا يرتقيه الحافز ولا يوفي عليه الطائر»

وكان لابد للإمام من أن ينبه الوالي إلى عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه فيما يتصل بإدارة شؤون المصر الذي يخضع له من الناحية السياسية والمالية والخلفية، فالإمام يحكم الأقاليم الإسلامية المختلفة بطريقة غير مباشرة أي عبر الولاة، فالوالي أذن هو الخليفة في ولايته فعليه كما على الخليفة واجبات خلقية وسياسية ومالية، وان كانت في حدود أضيق من حدود الخليفة من الناحية السياسية والمكانية، وأوسع من حدود الموظفين الآخرين.

وتناول عهد الإمام لوالي مصر أهم المسائل المتعلقة بشخصية الحاكم، والخطوات الواجب عليه اتخاذها وذلك على النحو التالي:

أولا: - المقومات الخلقية والعقائدية للحاكم

كانت البدایة بالشرط الأصعب ووضع اليد على البداية الصحيحة للقيام بحكم عادل وذلك بتحديد المواصفات الواجب توافرها وترسيخها في نفس القائد الإداري والتي تنطلق من خشية الله تعالى وتقواها. والتقوى معناها حفظ النفس ومراقبتها والسيطرة عليها وقد أمر الإمام «عليه السلام» واله «بتقوى الله وإيثار طاعته وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنته التي لا يسعد احد إلا بإتباعها ولا

ص: 258

يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها.. وأمره إن يكسر نفسه من الشهوات وينزعها عن الجموحات، فان النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله «.وبذلك يؤشر الإمام بعدي التقوى حيث يتمثل بعدها الأول بالعمل بالواجبات والفرائض الدينية، بينما يتمثل بعدها الثاني بترك المحرمات والمحظورات، وأشار إلى الأول بتعبير «إيثار طاعته «والى الثاني «أن يكسر نفسه عن الشهوات».

إن أهمية التقوى تتأتى من إن الإيمان بقوة غيبية شرعية وقاهرة يدعو إرادة الحاكم السياسي للتفاعل مع المكونات الفكرية والقانونية لمقاصد تلك القوة الآلهية، لان مقاصد الله سبحانه التشريعية بالنسبة للإنسان والحياة ونظام الحكم حركة الوعي، بينما تبقى الرؤى الوضعية والتشريعات الأخرى غير قادرة على إنتاج نظام حكم عادل يؤمن الجانبين، العدالة والخير والفضيلة من جانب، والتطور والانفتاح والاستمرارية من جانب آخر. أما فيما يتعلق بالجانب النفسي فعلى الحاكم ان يتجنب الانزلاق والانصياع لرغباته الشخصية ونزعاته الغريزية، فالقدرة على السيطرة الذاتية أمام الرغبات الدنيوية تكتسب أهميتها البالغة بالنسبة للعاملين في الوسط السياسي والإداري باعتبارها النماذج التي تصلح البلاد بصلاحها وتتطور بناها الاجتماعية والثقافية بتطورها وانفتاحها، ويعتبر الأمام السيطرة على الذات مما لا يحل لها فعله إنصافا وعدلاً في السلوك الشخصي للحاكم «فاملك هواك وشح نفسك مما لا يحل لك فان الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو ترهب».

ويستمر الإمام (عليه السلام) بالتأكيد على القيم والشروط العقائدية والأخلاقية التي لا بد إن تتوفر في شخص الحاكم لإيمانه بان الأخلاقية هي الضمانة الحيوية لحسن تطبيق النهج السياسي للعدل الاجتماعي، وفيما عداها لا يتلقى المواطنون من رجال الحكم والإدارة غير الصفات السلبية التي يتحمل أوزارها المجتمع، وكلما ازدادت

ص: 259

قيمة المكانة الوظيفية لرجال الحكم والإدارة والمسؤولية، كلما ازدادت أهمية التوكيد على الاتصافات الاخلاقية العالية والتي يجملها الإمام بعضاً منها في ثنايا عهده للاشتر ومنها، إشاعة الخير للرعية دون منة أو تزيد، والعمل على اقتران الوعود بالتنفيذ وتجنب الخلف بالوعد وإرجاء الأقوال الغير مسنودة بأعمالها «وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من قبلك...» والحفاظ على السنن الصالحة التي توارثها الناس والتي تدل على الخير والعقل والحكمة والصلاح «ولا تنقض سنة صالحة عل بها صدور هذه الأمة «فضلاً عن الاعتدال في الحكم واتخاذ التدابير في أوانها والابتعاد عن العجلة» وإياك والعجلة بالأور قبل أوانها أو التساقط فيما عند أمكانها... «والاعتدال في الشخصية والابتعاد عن الغضب والعصبية في الأمور «واملك حمية نفسك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك» والارتباط الدائم بالمبدأ ومقاصد الشريعة وعالم الغيب «ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد من ربك» وحب الشعب والرحمة به والإحسان إليه والحرص عليه» «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم»

ثانيا:- الثقافة العامة للحاكم الاسلامي

وبعد إن يفرغ من تحديد المواصفات الشخصية للحاكم العادل، يتجه الإمام «علیه السلام» لرسم برنامج عمل متكامل لكي يعتمده الحاكم في عمله السياسي والإداري، وحيث إن فكرة تأسيس الدولة قائمة على أسس العدل ومبادئ المساواة والأمن، وبدونها يعدم وجود الدولة وينهار كيانها ويتداعى بنيانها، ولما كان الموظف الإداري هو رجل الدولة وهو وحده المسئول عن حفظ جسم الدولة، ومن هنا تأتي أهمية ضرورة تثقيف الموظف الإداري بالثقافة العلمية وتزويده بالمعارف ليتمكن

ص: 260

من تامين الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع وتأمينها بين الأمة والحكومة على المبادئ العلمية والأخلاقية والعرفية التي تقتضيها مصلحة الدولة ودوامها.

ولعل من أهم عناصر الثقافة للإداري الناجح وقوفه على التطورات التاريخية والتشريعية التي مرت بالإقليم الذي يعيش فيه، وخير معين له على تفهم الأخلاق والعادات والعرف وسائر التقاليد الاجتماعية المهمة هو تاريخ البلد وحوادثة الكبرى، فعلى قدر تبحره وسعة اطلاعه في تاريخ بلده ومحيطه، يستطيع القائد الإداري معالجة الأمراض الإدارية والسياسية وحل مایجابهه من المشكلات والمعضلات فيها.

وانطلاقاً من هذا الفهم لفت الأمام عليه السلام نظر واليه الاشتر إلى تاريخ مصر وما دالت عليها من دول وحكومات فيقول «ثم اعلم يا مالك أني قد وجهك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور،

وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم»، وفي ذلك إشارة إلى إن السنن التاريخية تعيد نفسها على يد الإنسان، فقد شهد تاريخ مصر حكم الفراعنة وظلمهم فانحسرت حضارتهم وسلطاتهم عن مسرح التاريخ، كما شهد حكاماً عادلين مارسوا مفهوم العدل وطبقوه على واقع الناس فأنتج کیاناً اجتماعياً وسياسيا متلاحماً.

وهذا الأخير هو الذي ينتظره شعب مصر من الولاية السياسية لمالك الأشتر وعليه فلا ينبغي خذلانهم

فيما يتوقعون من مستقبل سياسي عادل ولا يصح للحاكم إن يهمل سنة العدل الان إهمالها يؤدي إلى انهيار کيان الدولة وخذلان الجماهير.

ص: 261

ثالثا: - الفطنة وحسن الاختيار:-

يبين الإمام العلاقة الوطيدة والمباشرة بين صلاح الحكومة وعلو مقامها وبين صلاح الوزراء ونضجهم، فالوزراء هم ارفع الذين يضطلعون بمسؤولية برمجة مشاريع الحكومة وهم الذي يمكنهم قيادة المسيرة

الإدارية نحو الصلاح والفلاح، أو جرها إلى الفساد والانحراف ويوصي عليه السلام واليه بسلب

صلاحية التصدي للوزارة والمناصب الحساسة في الحكومة من كان ذا تجربة وسابقة في وزارات الحكومات الطاغية والأنظمة الفاسدة لأنهم تأقلموا على الثقافة الجائرة السائدة في ذلك النظام، فهم لا يتورعون عن الظلم، فيوكد إن الأمر الذي يحول بينهم وبين التجانس مع حكومة العدل التي ترفض كافة أشكال الظلم والاضطهاد

«شر وزراءك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فأنهم أعوان الأئمة وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم و أوزارهم وآثامهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على آثمة».

وبذلك تحذير من المخضرمين الذين أزروا الأشرار والظلمة وشاركوهم في الآثام من الانتهازيين الذين لا يجيدون غير النفاق والإطراء، وحث من جهة أخرى على اختيار الذين ينطقون بالحق مهما كان مراً، ويرشد إلى العناصر الكفوءة المجربة لسد الفراغ خشية، إن تؤدي تلك التصفية إلى قلة الكادر المجرب والمتخصص والعادل،

ص: 262

و البديل عن مراكز التخريب هم النخب المفكرة القادرة على إسناد النظام فكرياً وجماهيرياً.

رابعا: العلاقة المباشرة بالناس:

حين تتنوع مسؤوليات الوالي وتتعدد فانه يعمد في علاقاته مع الناس إلى استخدام أدواته السياسية والوظيفية فتنشأ شبكة من الإداريين والمسئولين الثانويين الذين يمثلون البيروقراطية الجديدة المحيطة بالوالي، فتمثل مراكز جديدة تؤثر على التوجه السياسي العام للوالي فتحرکه وفقاً لإرادتها ومصالحها، ولذلك يبدي الإمام «عليه السلام» احترازاً نظرياً وسلوكياً ضرورياً لمجابهة تلك الظاهرة وأشكالها المتجددة، لذلك ستكون العلاقة الحية والصحيحة مع الناس وجهاً لوجه ضمانة کبری لسيادة الحق. ولابد من رفض السفراء والحجاب والوسطاء بين الوالي وبين شعبه لتربية الولاة على نسق العلاقة المباشرة لكي تصبح منهجاً إسلامياً ثابتاً تصنع من خلاله قرارات الحق والعدل ويأتي قوله بهذا الصدد «فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ویشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور».

على القيادة في هذه الحالة شرح مواقفها وسياساتها تجاه القضايا المختلفة في خطوة للتلاحم بينها وبين جماهيرها وشراكتهما في اتخاذ القرارات والمواقف المتباينة، وهذا الشرح يؤدي إلى رفع الالتباس الحاصل ويشرك الأمة في بلورة الموقف وصياغة إستراتيجية مواجهته الحدث.

ص: 263

ويرى احد الباحثين بان سر نجاح القائمين على الشؤون التنفيذية أنما يكمن في أمرين أساسيين: -

أولهما: إن كبار المسئولين لا يتمكنون من القيام بكافة مهامهم فيضطرون لتفويض البعض منها لمساعديهم ومستشاريهم، وبالطبع فان هنالك مهام ينبغي هم ممارستها مباشرة بأنفسهم، ولكي يستطيع المسئول من الأشراف على سير مهام مساعديه، إلى جانب مباشرته لبعض الأعمال عليه أن يفرق بين الأمور ذات الأولوية عن تلك الثانوية غير الضرورية التي يمكن تفويضها للمساعدين، وعلى أساس ذلك يقوم بأداء وانجاز الأعمال ذات الأولوية على نحو السرعة والدقة بينما يستعين بمساعديه في سائر الأعمال.

وثانيهما:- إن يتم فرز الأعمال الضرورية عن غيرها حتى يعين لها أوقاتها فلا يؤجل عمل اليوم إلى الغد

لان التنظيم والدقة أساسيين للعمل الإداري و كل ذلك مستوحى من قول الإمام علي بن أبي طالب «ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعدائك وامض لكل يوم عمله فان لكل يوم ما فيه».

وبذلك يؤكد (عليه السلام) على ضرورة التنظيم في العمل والدقة في انجازه عن طريق توزيع الإعمال وتوزيع السلطات التي يعدها من صميم وظائف الحاكم الإسلامي، ومن البديهي أن الأنشطة والفعاليات سوف تصاب بالتعثر والعرقلة ما لم تسير على ضوء منهاج ونظام، وعليه فلا بد للحاکم من تعيين و تحديد آلية عمل السلطات ثم يسند الأعمال إلى أصحابها وفق أهليتهم وجدارتهم.

ص: 264

خامسا:- اعتماد الشورى وتقريب العلماء

من المبادئ الأساسية التي ينبغي للحاكم أتباعها مبدأ الاستشارة التي تعني أشراك الأمة في القضايا التي تتعلق بها وتحريك فعالية المسلمين نحو الأمور المختلفة، وتعد من العناصر العملية في الحيلولة دون التسلط والاستبداد، إلى جانب الانفتاح على أفكار الآخرين والتوصل إلى الأساليب الناجعة للتعامل مع بعض الأمور وتنشا أهميتها من أمرين «التطور والشمولية التي تشهدها القضايا السياسية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها في كافة مجالات الحياة لاسيما أن التعقيد والتخصص الذي يكتنف اغلب المسائل يجعل من الصعوبة فهمها وإدراك فقراتها وبالتالي لا مناص من استشارة ذوي الخبرة والاختصاص إن كل فرد من أفراد البشر مهما امتلك من قوة عضلية وذكاء حاد مقارنة بالآخرين، فانه يبقى أنساناً محدداً، فإذا استشار الآخرين وتعرف على أفكارهم حصل على النتيجة الأمثل.

وقد اعتمد أمير المؤمنين عليه السلام الشورى عملياً واستشار أصحابه في أكثر من موطن ومناسبة تأسيا بسيرة الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» و تجسيداً لقوله تعالى «وشاورهم في الأمر» ولذلك نصح بها واليه الاشتر في إدارته لأمور الدولة موکداً بعدها العلمي المتمثل في ضم الآراء إلى بعضها، حيث يعطي جميع الآراء القوة والمتانة للرأي المستخلص منها، فضلاً عن بعدها الاجتماعي الذي يتمثل في اجتماع المسلمين للمداولة في أمورهم والبحث عن رأي سليم وسدید.

وإذا يستفيد عالمنا المعاصر اليوم من قضية الاستشارة ويحاول الانفتاح على تجارب الآخرين ولاسيما في الأجهزة المرتبطة بالدولة التي توظف الأفراد من ذوي العلم والتجربة والاختصاص، غير أن الأمر الذي أغفلته اغلب الأوساط إنما یکمن

ص: 265

في المعايير الأخلاقية التي ينبغي إن تتوفر في المستشارين واستبعاد من لا تنطبق عليه تلك المعايير من هيئة الشورى وهذا ما أشار أليه أمير المؤمنين بالقول «ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فان البخل والجبن الحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله».

بذلك ترى المدرسة الإسلامية ضرورة توافر المعايير والأسس الأخلاقية إلى جانب العقل والدراية والتجربة فتشترط استشارة من يتصف بالإسلام والعقل والحلم والنصح والتقوى والتجربة وتنهي

بالمقابل، عن استشارة من يتصف بالجبن والبخل والحرص والتلون والجهل لان أولئك لا يساعدون على التوصل إلى اتخاذ القرار الصائب. وتساوقاً مع سياسة الشورى، لا بد للحاكم من التقرب إلى أهل العلم والحكمة والمعرفة، إن في ذلك شرفاً وتنويراً وتطويراً وإبداعاً، وتعزيز العوامل الصلاح في الإدارة وتزود النظام بعوامل القوة والتقدم، ففي السياسة منعطفات ومزالق يغفل عنها من لم يشارك العقول رأيها وعقلها وحكمتها فتحدث المهالك وتستعصي معالجتها «وأكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك».

ص: 266

المبحث الثاني مقومات ومبادئ بناء الجهاز الإداري للدولة

فضلاً عن الإرشادات والنصائح التي قدمها الإمام للحاكم لتكون خطوات وبرنامج عمل باتجاه سياسته الإدارية الناجحة يستكمل «عليه السلام» إرشاداته بوضع أسس ومبادئ عامة يمكن اعتمادها في بناء الجهاز الوظيفي القادر على أداء عمله على الوجه الأكمل ولعل ابرز تلك المقومات والأسس:

أولا: الكفاءة والأمانة أساسا للتوظيف

إن من أهم مميزات المجتمع والحكومة الإسلامية سيادة العدل واعتماد المساواة دون تمييز أو تحيز لجانب على حساب الجانب الأخر، فضلاً عن تغييب الوساطة والاتجاهات السياسية والأهواء الشخصية، وإذا كانت النظرة السائدة في اختيار رجال الحكم والإدارة عبر التاريخ تركز في الغالب على الصفات السياسية التي تعبر عن نهج الحكم وسياسته العامة، أو على الاعتبارات الشخصية كالقرابة والصداقة، فان العدالة الإسلامية تقتضي اعتماد الخصال الإسلامية والامتيازات الخلقية في توزيع المناصب والوظائف بحيث يشغل كل فرد المنصب الذي تؤهله اليه كفاءته وجدارته وعلمه وتقواه وورعه.

وفي سياسة العدل المتكاملة لعلي بن ابي طالب يحتل هذا الموضوع حيزاً كبيراً نظراً الى مسؤولية الحكم مسؤولية تاريخية تسعى لانشاء مشروع العدل الاجتماعي

ص: 267

على اسس قويمه، وبضوابط ادارية فعالة وغالباً ما تهمل الخصائص الشخصية للولاة ورجال الحكم والادارة وبخاصة من قبل السياسيين الذين يؤمنون بالمبادي الشمولية في التغيير والبناء في نطاق تصورات مادية تخصهم، وذلك لانهم يرون في الخصائص الشخصية اموراً ثانوية لا قيمة لها ازاء القضايا الاساسية العامة. وقد وضع الامام «عليه السلام» الذي عاش قبل مئات السنين مقاییساً للتوظيف لم تصل اليها ارقى النظم الحديثة واكد على ضرورة ان تسند الوظائف الحكومية لذوي الكفاءة والاختصاص دون غيرهم، واضاف لذلك جانباً اخر لايقل اهمية عن الكفاءة هو الامان ونزاهة النفس ليؤكد بذلك وحدة الشروط الاخلاقية والعقائدية فالشرط الاخلاقي تجسيد للشرط العقائدي وتوكيد له کما انه الشرط العقائدي بلورة للشرط الاخلاقي وتركزة له فيقول «عليه السلام» بهذا الصدد «ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة واثرة فانهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم اهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فانهم اكرم اخلاقاً واصح اعراضاً واقل في المطامع اشراقاً وابلغ في عواقب الأمور نظراً»

وهو بذلك يلقي على الحاكم مسؤوليات اساسية في انتخاب الولاة والعمال فلابد ان يعرض ولاته وعماله للاختبار والامتحان وان يراعي في عملية الاختيار ما يحظى به هؤلاء من مؤهلات اخلاقية واصالة عائلية وما يتحلون به من كفاءة و تخصص وتجربة، وغير هذا النوع من التعيين الذي يقوم على المحاباة والاثرة والمحسوبية والمنسوبية سيكون ضرباً من الجور والخيانة، اما الجور فانه اي الحاكم يكون قد عدل عن المستحق ففي ذلك جور على المستحق، واما الخيانة فلأن الأمانة تقتضي تقليد العمال الاكفاء فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من

ص: 268

ولاه. بل الامر ابعد اثراً من ذلك، بحسب احد الباحثين، فالجور في هذا الموضوع لا يقتصر على عدل الحاكم في التعيين عن المستحق الى غير المستحق فقط، وانما هو يمس غير المستحق من الصميم، واذا ما قصر الموظف عن اداء واجبه او خان او عرض نفسه للفصل والعقاب فكان تعيينه محاباة او اثره قد مهد السبيل الى اقصائه عن الخدمة وتطبيق حدود الله عليه في حالة الخيانة.

وتقاس الكفاءة في العادة بالدراسة والتخصص والشهادة، غير ان تلك الامور لم تكن موجودة في عهد الامام، لذلك كان مقياس الكفاءة بنظره هو توسم قيام الشخص بالواجب المناط به بشكل مرضي، فاذا عين الشخص في منصبه ولم يثبت الكفاءة المطلوبة في الوظيفة فصل عن عمله بعد مدة من اختباره لان وجوده في الوظيفة لم يجعله قادراً على ادار وظيفته على الشكل الامثل. اما الامانة فهي الامتناع عن الاعتداء على اموال الاخرين وحقوقهم، فهي ذات جانبين:

جانب مادي: فالموظف الامين هو الذي لا يقبل الرشوة ولا تمتد يداه الى ما تحتها من اموال الدولة وجانب معنوي فالموظف الامين هو الذي يعطي كل ذي حق حقه في المجال الذي يعمل فيه، فلا يجعل بعض الناس يعتدي على حقوق بعض آخر ولا يجعل الدولة تعتدي على حقوق الناس ولا العكس لا يقبل في التعيين، اذن، شفاعة الا شفاعة الكفاءة والامانة وان تقدمت الثانية على الاولى فالموظف الكفوء غير الامين قد يتجاوز ضرره الاجتماعي ضرر الموظف غير الكفوء فيتخذ كفاءته وسيلة لاتقان الخيانة واتقان التواري عن الانظار، اما الموظف الامين غير الكفوء فیکون ضرره الاجتماعي في حالة وقوعه غير مقصود وغير موجه نحو بعض الناس على حساب البعض الاخر، ويشير احد الباحثين الى خطأ قادة الحكم حينما يركزون على

ص: 269

القدرة التنفيذية لرجال الادارة والمسؤولية بمعزل عن الطبائع الاخلاقية لهم، لان القدرة التنفيذية ليست مجردة عن الطبيعة والطبع وبخاصة في المهمات ذات المغزی الاجتماعي العام ولان كل انسان يحمل صفاته معه اینما حل في الوظيفة الادارية او في غيرها وستباشر تلك الصفات حضورها عبر الاشكال المتعددة للنشاط السياسي والثقافي له.

ولقد لخصت سياسة الامام في تعيين قادته الاداريين بالقول: كان علي (عليه السلام) لايخص بالولايات الا اهل الديانات والامانات واذا بلغه عن احدهم خیانه کتب الیه «وقد جاءتكم موعظة من ربکم فاوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس اشيائهم اذا اتاك كتابي هذافاحتفظ بما في يديك من اعمالنا حتى نبعث اليك من يستلمه منك»

ان المبادي التي استند اليها الامام عليه السلام في تولية عماله هي ذات المبادي التي اوصى بها عماله فاكد لهم بانه لا يجوز للولاة في النظام السياسي الاسلامي ان يوزعوا المناصب على اساس الصلات العائلية والعلاقات السياسية ولا يحق ان يلي امور الناس المحروم من الاصالة العائلية، ولا تناط المسؤولية بسي الخلق او ان يتعهد بشؤون المجتمع لمن يفتقر الى الكفاءة والتخصص لانهم سينزلقون الى خيانة عملهم الاداري.

ومجمل خصائص وسمات الملاكات الادارية وموظفي الدولة من وجهة نظر الامام يمكن ايجازها بما يلي:-

- التجربة والاختصاص والتعايش مع القضايا والمشاكل.

- النجاح والعفة والحياء وصون النفس عن الرذيلة والفحشاء.

ص: 270

- الترعرع على التقوى والورع والفضيلة في البيوتات الصالحة.

- امتلاكه للسابقة الحسنة في الاسلام مما يجعله يتقدم على غيره.

- ان يكون من الشخصيات الذين جهدوا بصون نفوسهم وتهذیب ارواحهم وبعدوا عن الزلات والعثرات.

- ان يكون ممن لهم القدرة على الادارة وبعد النظر ومن اهل التدبر والتأمل في مختلف الامور.

- ان يكون عالي الهمة بعيداً عن المطامع الدنيوية ومغرياتها.

ثانيا: تامين الحاجات المادية للموظفين:

ان الاسلام، بوصفه مدرسة انسانية، وديناً الهياً واقعياً، قد اولى اهمية قصوى التغطية الحاجات المادية للافراد، وقد اكد على ضرورة تلبيتها واشباعها حتى وضع بعض المقرارت والضوابط بهذا الخصوص. وقد سمي لكل فرد من افراد المجتمع سهمه فلكل صنف من اصناف المهن في المجتمع سهماً مالياً يتناسب من طبيعة عمله، وقد نص القرأن الكريم على ذلك واكدته السنة النبوية المطهرة. وكان الامام عليه السلام يحذر بان عدم تلبية حاجات تلك الطبقات سيدفع بالافراد المغرضين لاتخاذ ذلك ذريعة من اجل مقارنة السرقة والرشوة والتعدي على اموال الاخرين وبالتالي تضييع العفة والامانة، وتزول انذاك حجة الوالي على الرعية والعمال فهم يبررون السرقة والخيانة بوقوعهم تحت طائلة الحاجة فيلقوا المسؤولية على الوالي، وعلى العكس من ذلك اذا اعطي الناس حقوقهم كما هي كاملة غير منقوصة ساد العدل المجتمع وانتشر بين ابنائه النظام والتعاون بدل التذمر وسيادة

ص: 271

الفوضى وقد نص عهد الامام الى مالك الاشتر على ذلك بالقول «واعلم ان الرعية طبقات، لايصلح بعضها الاببعض ولاغنى ببعضها عن بعض، فمنها حنودالله ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها اهل الجزية والخراج من الذمة ومسلمة الناس، و منها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وكل قد سمى الله سهمه، ووضع على حده وفريضة في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه واله عهداً منه عندنا محفوظا»

ولم يكتف الامام عليه السلام بتعيين انواع الحاجات والمهن، بل فصل وعدد مميزات وخصائص كل طبقة منها مع تبیان اهمية مركزها في المجتمع والطرق التهذيبية والاصلاحية التي يستعان بها على تقوية عناصرها واصلاح معایشها وفق ما تقتضيه سنة البقاء والتطورُ، وركز الامام في هذا الصدد على بعض الطبقات وضرورة تلبية حاجاتها المادية، كالجنود والقضاة نظراً لحساسية وظائفهم واهميتها في حفظ امن المجتمع وكيانه واستقراره واشاعة العدل فيه «فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وسبل الامن وليس تقوم الرعية الا بهم ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم.....»

وفيما يخص القضاة فكان الامام رائداً بالاشارة الى موضوع مهم جداً التفتت اليه الحكومات المعاصرة في تعاملها مع تلك الفئة من الموظفين! فحساسية المهام التي يقوم بها القاضي وقلة الافراد الذين تتوفر فيهم صفة القاضي العادل تقتضي معاملة خاصة لتلك الفئة لاسيما من الناحية المالية فيوكد «عليه السلام» على ضرورة ان يلتفت الحاكم الى ضرورة عدم معاناة القاضي من ضيق الحياة المادية وذلك لانه اما ان يستقيل من منصبه أو أن يثبط عزمه فلا یمارس وظيفته كما ينبغي، أو

ص: 272

ان يخشى عليه من الزلل بحيث تنفذ اليه الرشوة التي تجعله يقلب الحق راساً على عقب، «ثم اكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل مایزیل علتة وتقل معه حاجته الى الناس من واعطه المنزلة لديك ما لا يطمح فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً فان هذا الدين قد كان اسيراً في أيدي الاشرار يعمل فيه الهوى وتطلب به الدنيا» بهذا يعد تامين الاحتياجات الاقتصادية لموظفي الدولة وتحقيق كفايتهم المادية من اصول السياسة التي دأب امير المؤمنين على ترسيخها والتاكيد على انها من الاركان المهمة لادارة شوون البلاد ووسيلة تحول دون خيانة العمال والموظفين وتطاولهم على بيت المال أو تعاطي الرشوة الامر الذي يؤدي الى هضم الحقوق وتصدع النظام وجاء في العهد مانصه «ثم اسبغ عليهم الارزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم وغنى لهم عند تناول ما تحت ایدیهم وحجة عليهم ان خالفوك امرك أوثلموا امانتك».

نستنتج مما تقدم ان التزام الحاكم بتلك الارشادات القيمة ستحقق اكثر من هدف وتؤدي الى اكثر من نتيجة، فالكفاية المادية لطبقات المجتمع وموظفي الدولة ودفع استحقاقات كل منهم ستؤدي الى:

1- تحقيق الشرط الذي يجب ان يتوفر في جميع افراد الجهاز الحكومي المدني والقضائي والعسكري وهو نقاوة الجيب.

2- ستمثل تلك الاجراءات قوة لموظفي الدولة يستعينون بها على استصلاح انفسهم وتقويم تصرفاتهم.

3- ستشكل حصانة من الرشوة ومن اختلاس الأموال العامة.

4- ستكون حجة بيد السلطات لمعاقبة المرتشين والسارقين والمعتدين على الاموال

ص: 273

العامة أو الخائنين

لاماناتهم، وفي ذات الوقت ستسلب حجة اولئك المتجاوزين على المال العام.

ثالثا: - تشكيل جهاز المراقبة والاشراف

ادراكاً لاثر المراقبة والمحاسبة في تطبيق العدالة، وبغية الحيلولة دون استغلال بعض الافراد لمناصبهم ومسؤولياتهم لمصالحهم الخاصة، تتاتی ضرورة الاشراف الدقيق والمستمر على فعاليات وانشطة موظفي الدولة وعمالها، ولا يتحقق هذا الهدف الامن خلال تشکیل جهاز اشراف يتصف بالصدق والامانة ليرفع التقارير الموثقة بشأن الولاة والعمال وهي احدى وظائف ومسؤوليات الحاكم الاسلامي. ويصطلح الاسلام على مثل هؤلاء الافراد الذين يمارسون مهمة الاشراف والتحري «بالعيون» ويبعث بهم سراً الى مختلف مناطق البلاد والمراقبة السرية تدفع بالعيال الى الامانة واجتناب الخيانة والاستغلال من جانب، وتحثهم على الرافة والشفقة بالامة، والاسراع في انجاز اعمالهم من جانب اخر واذا كان الامام علي «عليه السلام» قد نهی بشدة عن ممارسة التجسس والتدخل في الامور الشخصية للمجتمع، بيد انه مع ذلك يرى من الضروري فرض رقابة على العاملين في المؤسسات الاسلامية وممارسة ذلك عبر جهاز رقابي خاص ومن خلال موظفين سريين لئلا يتوانی العاملون في اداء وظائفهم، أو يتعدوا على حقوق الناس بالاتكاء الى مالديهم من سلطة. وتجدر الاشارة الى ان سياسة المراقبة والمتابعة للمسؤولين والولاة كان الامام عليه السلام قد اعتمدها بالفعل خلال مدة خلافته، وعهد الامام للاشتر وغيرها من العهود واللوائح التي اصدرها بخصوص المراقبة الدقيقة للولاة وما بعث به من رسائل لولاته، كلها تؤيد تاسيسه لجهاز رقابي مقتدر كان ينهض بمهمة مراقبة

ص: 274

العاملين معه وورد في كتابه الى ابن عباس عامله على البصرة «.. بلغني انك جردت الارض واكلت ماتحت يديك، فارفع الى حسابك واعلم ان حساب الله اشد من حساب الناس والسلام» کانت رقابة الامام علي «عليه السلام» للموظفين اذن على راس سياسته الادارية لهم فهو لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه - شان الكثير من الحكام والساسة، وانما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقبقاً و کاملاً ودائماً، فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسوولاً عن تصرفاتهم. فكان ينصحهم ثم يوجههم ثم يعاقبهم على تصرفاتهم غير المسؤولة، ثم

ان لم يفد ذلك كله كان يعمد الى عزلهم وعقوبتهم ان استحقوا العقوبة، ويؤكد «الشيرازي» بهذا الصدد على ان الحصانة الدبلوماسية والحصانة الادارية وحصانة الوظيفة ونحو هذه المصطلحات. لامفهوم لها عند علي «عليه السلام» اذا خرج الدبلوماسي عن الحق وعمد الموظف الى ما لا يليق به من اجحاف و ظلم او عدم اهتمام بالامة، «فالأصل في اختيار الموظف وابقاء الموظف هو واحد في منطق امیر المومنین علیه السلام لا يختلف احدهما عن الاخر الله: الامة هذا هو الاصل في اختيار الموظف وهذا هو الاصل في الابقاء عليه «لاشك ان للرقابة دور فاعل في رصد العيوب التي تقع من قبل شخص معين أو مجموعة من الناس، ورصد الاخطاء ونقدها يساعدان على عدم تكرارها، أو التقليل من حصولها.

ص: 275

وتنقسم الرقابة الى نوعين

1- رقابة ذاتية: هذه الرقابة مركزها الضمير الانساني والذي يقوم بوعظ الانسان نحو الافعال الحسنة أو يزجره عن الافعال السيئة.

2- رقابة خارجية: هذه الرقابة قوامها افراد المجتمع حيث يقومون بدور الرقيب والمتابع للاخطاء التي تصدر من قبل الولاة أو العمال أو العناصر التي لها دور في المجتمع. وكان الامام يحث الناس على تفعيل الرقابة والنقد لان بها قوام حياة المجتمع وحيويته ويمكن ان تكون رافداً لتقارير «العيون» وتاكيداً لاخبارهم.

ان الدعوة الى تاسيس جهاز رقابي فاعل كانت احدى نصائح الامام للاشتر فقد خاطبه قائلاً:

«ثم انظر في امور عمالك ثم تفقد اعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لامورهم عدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية»

ولاتقف مهمة الحاكم عند المراقبة بل تتعداها الى اتخاذ الموقف الحازم من الموظفين والعمال الذين يودون امانة اعمالهم ويعاقب الخائن منهم، وقد ورد عنه «عليه السلام» في عقوبة العمال الخائنين مادياً ومعنوياً «فان احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها اخبار عيونك كتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، واخذته بما اصاب من عمله ثم نصبه بمقام المذلة فوسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة»

والسوأل الذي قد يطرح في هذا المجال ماهي ضوابط المراقبة وماهي شروطها؟ وهل يعتبر تقرير المراقبين حجة بحد ذاته؟

ص: 276

ان القراءة المتانية لوصايا الامام علي بهذا الصدد تشير الى ضوابط معينة في جهاز المراقبة والاشراف وكيفية عمله منها. لابد ان يكون قادة هذا الجهاز من الافراد المعروفين بالورع والتقوى والصدق والامانة ومن المعتمدين لدى الحاكم، حيث لابد من وثوقه بصحة اخبارهم وتقاريرهم التي لايشوبها ادنی كذب أو افتراء، لان على تقاريرهم واخبارهم يتوقف مصير الموظف في حالتي الثواب والعقاب فاذا كذب المفتش أو تحيز أو خان ما أُتمن علیه تعرضت اجراءات الوالي المستنده الى تلك الامور الى الزلل والشطط فلابد ان يكون قصدهم من تمرير التقارير ورفقها للحاكم خدمة الاسلام والمسلمين والحكومة الاسلامية.

3- على الوالي فضلاً عن الدقة في انتخاب العيون والوثوق بسلامتهم الروحية ومکارمهم الخلقية، عليه متابعة سير الاعمال من مختلف الطرق والقنوات بحيث يزول شكه في صحة مايرده من تقارير اذا وردت من عدة قنوات. وهذا يعني انه رغم توفر كافة الشرائط المعتمدة في انتخاب العيون، فان التقرير وحده ليس بحجة هذا اولاً، وثانياً اذا لم يكن هناك من اتفاق ووحدة راي في تقريرما، فلابد من القيام بمزيد من التحقيق والتحري.

4- مع ذلك فموازنة الحاكم في التعامل مع تقارير العيون امراً ضرورياً فبعد تاکده من صحة التقارير لابد ان يعتمدها حجة ينبغي ترتيب الاثر عليها، اذ لو شعر العيون بريبة الحاكم في تقاريرهم التي تتضمن عيوب الولاة ومفاسدهم، وعدم التعامل معها فسوف لن يعد هناك من يكترث لجهاز الاشراف والمراقبة ويفتح الباب على مصراعيه امام المغرضين ليرتكبوا ماشاءوا من المفاسد ختى يقضوا على النظام السائد في المجتمع يتضح بذلك اهمية المراقبة ودورها الفاعل في تقديم تقارير سرية عن الموظفين وهم على حقيقتهم غير متظاهرين أو مغالطين ودورها ايضاً في التحفيز للموظفين والعمال على القيام بواجباتهم على الوجه المطلوب.

ص: 277

رابعا: - الثواب والعقاب في التعامل مع الموظفين:

اذا كان العدل القيمة الاساسية والمبدأ الجوهري الذي قام عليه الاسلام، فهو يعني وضع الشيئ في موضعه، وبناء عليه فان الادارة الصحيحة المنسجمة مع الاسلام هي الادارة التي تفرق في نظرتها بين العامل المحسن والعامل المسيئ فتكافئ الاول وتعاقب الثاني، والمعيار المعتمد في تشجيع الافراد هو ما يقومون به من اعمال وما يترتب عليها من نتائج، فلوغيب الترغيب في النظام وتمتع المحسن بذات الحقوق والواجبات التي يحظى بها المسيئ فستكون النتيجة ان يدب الضعف والوهن في اجهزة الدولة لافتقاد الموظف الحريص للحافز المادي والمعنوي الذي يدفعه للمزيد من العطاء والعمل الدروب. وفي نفس الوقت فان فقدان المسيئ للمحاسبة سيكون عاملاً من عوامل انتشارها وهو امر ياباه الاسلام، في هذا الصدد یاتی تاکید امیر المومنين (عليه السلام) ولايكونن المحسن والمسيئ عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهيداً لاهل الاحسان في الاحسان وتدريباً لاهل الاساءة على الاساءة «فلابد للحاكم ان يضع كل شخص في منزلته ويصارحه بحقيقة امره کي يستقيم له الناس وتعاونه على القضاء على عوامل الفساد والدس والمواربة والتضليل. يقول «عليه السلام» «ازجر المسيئ بثواب الحسن» ياتي ذلك تساوقاً مع مبادين السياسة الادارية عند الامام «عليه السلام» وهي اتباع الحزم المصحوب باللين اذ يسير النظام السياسي العلوي في التعاطي مع العاملين والولاة في النطاق الحكومي على منهج يجمع بين الحزم واللين فمن وجهة نظر الامام تعد القسوة المطلقة افة تهدد النسق الاداري، وفي الوقت ذاته يلحق اللين اللامحدود اضراراً بادارة المجتمع. فیکون الاهتمام بمكافة المحسنين والعفو عن المذنبين الذي يؤمل بتوبتهم وعودتهم عن ذنوبهم أي «مكافاة المحسن بالاحسان ليزدادو رغبة فيه وتغمد ذنوب المسيئ ليتوب

ص: 278

ويرجع غيه، وتالفهم جميعاً بالاحسان والانصاف».

وفي كل الاحوال فان عفو الوالي وان كان واسعاً رقيقاً ليناً ولكنه لابد ان يكون حازماً وصارماً كلما مس العمل حداً من حدود الله أو تقصير متعمد في اداء الواجب مما يهدد کیان النظام ولدى الامام علي «عليه السلام» اوامر واضحة بالمساواة بين الناس امام القانون فالناس جميعاً متساوون امام القضاء واحكامه وهولاء الناس لا تحدهم الاصفة الانسانية فحسب، فالقريب والبعيد والصديق والعدو، المسلم وغير المسلم سواء لا فرق بينهم امام الحق فلابد للحاكم ان يلزم الحق مع من لزمه من القريب والبعيد ويكون في ذلك صابراً محتسباً لايراعي قرابته وخاصته. ويؤكد بهذا الصدد «وضع الناس في مواضعهم ثم اعرف لكل امريء ما ابلی ولاتضمن بلاء امريئ الى غيره ولاتقصرن به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امريئ الى ان تعظم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امريئ الى ان تستصغر من بلائه ماكان عظيماً»

سیاسية الثواب والعقاب اذن سياسة متوازنة امر الامام باتباعها وفق سياقات تحقق احياناً اهدافاً مزدوجة فثواب المحسن یكون دافعاً له للعمل الدؤوب والاستمرار في العطاء وفي ذات الوقت تكون زجراً للمسيئ ودعوة له بالاقتداء بالمحسنين باداء واجبه على الوجه الاكمل. بینما معاقبة المسيئ ومحاسبته ستكون رادعاً له عن الاستمرار في الخطاء، وتحذير لغيره من السير على خطاه.

ص: 279

تلك الاسس والمباديء التي وضحها الامام، من شانها بناء جهاز اداري مقتدر وكفوء، اذا ما طبقت باخلاص وتفاني، اما الصلاحيات التي منحت للحاكم الاسلامي والقائد الاداري فستمد الجهاز الحاكم والاداري في المجتمع بمرونة كبيرة تجعلها صالحة للاستمرار مادامت تتفاعل مع كل مصلحة تتجدد في الحياة الاجتماعية وكل حاجة تحدث في اوساطه لمجتمع فلا يكون الجهاز الاداري في المجتمع الاسلامي منطوياً على نفسه بعيداً عن مؤثرات الحياة وانما يتفاعل باستمرار مع الاحداث وما يتجدد من الحاجات والظروف نتيجة لهذه المرونة التي اودعها الاسلام فيه.

ص: 280

المبحث الثالث واجبات الحاكم الاسلامي

لاتعد الدولة في الاسلام هدفاً بحد ذاتها، بل هي وسيلة وضرورة تقتضيها ضرورة الحياة الاجتماعية، فهي دولة ذات مهمة حضارية تهدف الى خير الانسان وسعادته من خلال تحقيقها لغاية وجود الانسان على الارض وتحقيق مبدأ الخلافة الربانية وبناء المجتمع السليم.

وتسعى الدولة الاسلامية لتحقيق غايات واهداف نبيلة لانها مسؤولة عن صيرورة المجتمع لا عن وجوده فقط، ولاسيما وانها تقوم على فلسفة شاملة للحياة تؤهل الانسان من خلال قيمتها ومبادئها لدور متميز على المستويات كافة.

من اجل ذلك ولوضع المباديء الاسلامية موضع التطبيق العملي، فان الحاكم الاسلامي يتحمل مسؤوليات وواجبات عدة، تحتمها طبيعة موقعه المهم كقائد اداري وسياسي اعلى. وقد وضح عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه على مصر ابعاد تلك الواجبات الجسيمة الملقاة على عاتق الحاكم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والامنية. ويمكن تلخيص تلك المهام بالاتي:

ص: 281

أولاً: الاصلاح الاجتماعي:

لقد كان الامام علي (عليه السلام) رائداً في دراسته للمجتمع وتحديد المؤثرات فيه، وانطوت فقرات العهد على افکار اجتماعية غاية في الاهمية، حيث يؤكد على الفطرة الاجتماعية التي فطر الخالق سبحانه وتعالى الانسان عليها، ومعناها ان من التكوين الطبيعي للانسان میله الى ابناء جنسه وذلك من حيث التكامل الخلقي والتالف الانساني، وهذه الفطرة هي التي ستحقق التربية الصحيحة لحاجات الانسان وغرائزه التكاملية، كاشباع الجوع والتملك والامن وغير ذلك.

کما تناول الامام تركيبة المجتمع والقوى المؤثرة فيه والقطاعات الضرورية فيه، وحدد كيفية التعامل مع تلك القوى المهمة ومسؤوليات السلطة العليا تجاه كل طبقة.

وبهذا الصدد يذكر الامام ان المجتمع الانساني ينقسم الى عدة طبقات ولايمكن لهذه الطبقات ان يستغني بعضها عن البعض الاخر، ولا يتم صلاحها الا بتعاونها والتئامها

(واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الابعض ولا غنى لبعضها عن البعض)

ويعدد الامام هذه الطبقات ويذكر اهمية كل طبقة وما تقدمه من خدمة للطبقات الاخرى وحاجتها اليها وكما يلي:

1- الجنود: وهم الحصون التي يلجأ اليها الرعية للحماية وتحقيق الأمن وبذلك (فالجنود باذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن وليست تقوم الرعية الابهم) تعد الموسسة العسكرية قطب الرحى في تماسك أي مجتمع وهي الحارس الامين لكل فضيلة، والمساعد المتين لقمع كل رذيلة، وميزان العدل، ولولا الجنود لا نعدم

ص: 282

الأمن. وينصح الامام واليه بالقول (فول من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك، وانقاهم جيباً و أفضلهم حلماً ممن يبطيء عن الغضب ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء. وينبو على الأقوياء ممن لا يثير العنف ولا يقعد به الضعف)

2- كتاب العامة والخاصة: وهم الذين يكتبون ويحفظون العهود بين الناس وينظموا احوالهم ويدبروا شؤونهم ويسعون لعمارة المجتمع لمنع المظالم، اما الخاصة فهم کتاب الحاكم والذين يكتبون مخاطباته لعماله واعوانه في السلم والحرب.

وحذر (عليه السلام) بان لايجوز اختیار افراد هذه الطبقة بالقرابة وحسن الظن، فان الرجال قد يتصنعون الصلاح ويتظاهرون بالقدرة والامانة ليظفروا بمثل هذا المنصب دون ان يكونوا في حقيقتهم على شيء من الصلاح والكفاءة، والاختيار الامثل هؤلاء يتم على اساس المعرفة التامة بمحيطهم وكفاءتهم وقدرتهم وممن يعرفهم الشعب بالحب لة ورعاية مصالحه والسهر على رفاهيتة وسعادته "ثم انظر في حال كتابك فول على امورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك باجمعهم لوجوه صالح الاخلاق.... ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك وحسن الظن منك... ولكن اختبرهم بها ولوا للصالحين من قبلك"

3- القضاة: وهم الذين يقضون بين الناس بالحق والعدل ويقيموا حكم الله تعالى في خلقه ويأخذوا حق المظلوم من الظالم، ويوصي (علية السلام) (ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق بة الامور ولا تحكمه الخصومة، ولايتمادي في الزلة)

ومن المعروف بان السطلة القضائية من أهم سلطات الدولة بها يفرق بين الحق والباطل، وبها ينتصف للمظلوم من الظالم، ولأجل ذلك كانت الحيطة من الامام

ص: 283

شديدة في اختيار القضاة، وارشد واليه الى ضرورة ان يختار للقضاة من الرعية افضلهم علما «واقومهم نفسا»، «واجودهم فهما»، «واشدهم التزاما»، «وامضاهم دفاعاعن الحق وتثبيتا له»، وغير ذلك من الصفات التي لخصها فقهاء الاسلام «بالاجتهاد المطلق في الشريعة،دوالعدالة»

4- رجال المال (اهل الخراج): ويقصد بهم الموظفين الذين يجمعون مال الله من عباده بالحق ويحفظونه ويصرفونه بالعدل والاحسان واولى الامام علي الخراج في الدولة الاسلامية عناية خاصة وذلك لان الخراج كان المصدر الرئيسي لاقتصاد الدولة في ذلك العصر. ولعل من بديهيات النظريات الاقتصادية المعادلة الدقيقة بين الانتاج والاستهلاك فتطور الاقتصاد في الامة متوقف على احكام تلك المعادلة. ويعرف الخراج بانه «عبارة عن الاجرة التي تتسلمها الدولة عن الارض التي تدخل في حساب المسلمين نتيجة جهاد اسلامي مشروع »، «فلما كان الانتفاع بسبب الارض سموها (اي النفقة) خراجا».

تلك ولما كانت الارض هي المصدر الرئيسي للدولة، كان صلاحها وصلاح القائمين عليها صلاحاً لمن سواهم من الرعية وجاء في نص عهد الامام لمالك الاشتر قوله، وتفقد أمر الخراج بما يصلح اهله فان في اصلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولاصلاح لمن سواهم الابهم لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله «ويضيف قائلاً وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لايدرك الا بالعمارة»

وهذه القاعدة عرفت عند المختصين في علم الاقتصاد في عصرنا بقاعدة «ليس للخراج ان يعرقل الانتاج»

ص: 284

وتاكيدا لما يسمى اليوم بالتنمية المستدامة» والتي تعني عملية تطوير الارض والمجتمعات وكذلك الاعمال التجارية بشرط ان تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الاجيال القادمة على تلبية حاجاتها.

5- التجار واهل الصناعات: وهم ركيزة السوق ومن يوفر للناس احتياجاتهم وسلعهم بالتصنيع او المتاجرة. وقد نبه الامام عامله على مصر الى اهمية دور ومكانة اصحاب التجارة و أرباب الصناعات في المجتمع وعلى الوالي مسؤولية تفقد شوؤنهم واحوالهم فيقول «ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، واوصي بهم خيراً»

من جانب اخر يلفت نظر الوالي الى ما في هذه الطبقة من سلبيات وعيوب اجتماعية واقتصادية فقد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك الى الاحتكار في القوت والحيف اي تطفيف في الوزن والكيل وزيادة في السعر او ما يعبر عنه بالاحتكار الذي نهی عنه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم..

ويتوجب على الوالي ان يتصدى لمنع ذلك ومطاردة المخالفين ومعاقبتهم في غير اسراف «واعلم ان في كثير منهم حيفاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتکاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله منع منه...»

6- الطبقة السفلى: من المعروف بان الطبقة الفقيرة تشكل القسم الاكبر من المجتمع في كل زمان ومكان، لذلك لابد من توجيه كل الطبقات السابقة لحماية ومساعدة هذه الطبقة حتى تنهض مما هي فيه وتنعم بالعدالة الاجتماعية

ويطلق الامام علي علية السلام الطبقة السفلى على طبقة الفقراء ويوصي واليه بها خيراً، والناس من هذه الطبقة هم الذين لا قدرة لهم على الكسب والتكسب،

ص: 285

ويجعل لهم حقوقاً مقررة وثابتة في بيت المال «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين واهل البوسي والزمني فان في هذه الطبقة قانعاً ومقراً... واجعل لهم قسماً من بيت مالك»

وهؤلاء الفقراء هم اليتامى وكبار السن واصحاب الامراض والعاهات المزمنة وكذلك الذين يمنعهم الحياء عن سؤال الناس رغم حاجتهم «المتعففين».

ويمضي امير المؤمنين في دعوة واليه لرعاية امرهم وبحث احوالهم وان يخصص من وقته قسماً يتفرغ فيه لامور هذه الطبقة والسماح لهم بالتحدث عن قضاياهم واحتياجاتهم ومطالبهم دون خوف «ولايشغلنك عنهم بطر... وتفقد امور من لايصل اليك منهم... ففرغ لاولئك ثقتك من اهل خشيتك فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله سبحانه يوم تلقاه، فان هولاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم»

أن لكل طبقة من هذه الطبقات حقه وسهمه کما حدده الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد لذلك يوصي الامام بالتوازن بين الحقوق والواجبات، فكما ان لكل شريحة من شرائح المجتمع تودي واجبات تجاه الاخرين، فان لها حقوقاً على الاخرين لابد من ادائها فيكون للمجتمع حق تلبية حاجاتهم المادية وتوفير الامن وتحقيق العدالة وسد حاجة الطبقة الفقيرة كواجب لابد ان يؤديه الحاكم.

ولايقف امام حصول الفرد على حقه حسب أو نشاة او حسب ولا مقصد ولادین فلكل انسان ماسعی اياً كان هذا الانسان، والفرد والجماعة متكافلان في كافة الحقوق، فالفرد اذا كفل له المجتمع فرصة للعمل وكفل له حقه في الامن ضمن نطاق من جهده وطاقه، وجب على هذا الفرد ان يكون بدوره عوناً للجماعة وان يكيف حريته

ص: 286

الفردية بما لايسيء الى مواطنيه، فليس للجماعة ان تظلم الفرد وعلى الفرد حماية المصالح العامة ويحرص عليها كا يحرص على مصلحة الخاصة.

ثانياً: تحقيق الامن والدفاع

تعد الوظيفة الامنية للدولة الاسلامية واجباً في المنظور الاسلامي، ولذا فهي ليست منة من الدولة للمواطنين، بل ان احد مظاهر فقدان السلطة لمشروعيتها هو عدم قدرتها على توفير الامن للشعب. وعلى الدولة ان تسعى لحماية وتفعيل حقوق الانسان بعدها الضمانة الاساسية للامن الداخلي والخارجي لان سياسة الدولة تعد من ابرز عوامل اشاعة اجواء عدم الاستقرار السياسي اذا كانت موجهة ضد حقوق وحريات المواطنين.

وللجيش اهمية كبيرة في حفظ النظام الاسلامي لانه الحصن الحصين للحاكم والرعية وحماية الدين من البغاة والمعتدين، فلذا وضع الاسلام نظاماً دقيقاً في رعاية وتنقية صفوفه من كل مايشين للدين والانسانية وتحديد حقوقهم وواجباتهم ورعاية عوائلهم في حلهم وترحالهم «وليكن اثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وافضل عليهم من جدته بما يسعهم من وراءهم من خلوف اهليهم حتى يكون همهم واحداً في جهاد العدو»

وعلى الصعيد الخارجي يحدد الامام عليه السلام معالم العلاقة الطيبة للبلاد الاسلامية مع البلدان المجاورة مع توطيد الاحترام المتبادل وعدم التدخل بشؤون الغير وتجنب الضرر والتربص بالجيران، وياتي الوفاء بالعهد تدعيماً لاركان السلم مع الاخرين ولذلك يفرض على كل من اعطى عهداً او ذمة ان يصونها بجسده وروحه فيهلك او يفي بها، ويخاطب الاشتر بالقول «وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة او

ص: 287

البسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة واجعل نفسك جنة دون ما اعطيت فانه ليس من فرائض الله شي الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق اهوائهم وتشتت ارائهم من تعظيم الوفاء بالعهود... فلا تغدرن بذمتك... فانه لايجتري على الله الا الجاهل الشقي»

ويمكن تلخيص اهم ما جاء في العهد حول الأمن والدفاع بالاتي:

1- ان دعوة السلم هي دعوة ساوية ولذلك يدعو الحاكم الى عدم رفض صلح فيه رضي الله لان في الصلح دعة للجنود «وراحة للحاكم من الهموم «وامناً للبلاد» وقد جعل الله عهده وذمته امناً افضاه بين العباد برحمته وحريصاً يسكنون الى منعته ويستفيضون الى جواره»

2- ولكن علي الحاكم ان يأخذ الحيطة والحذر من عائلة العدو وکيده بعد الصلح فيمكن ان يكون هذا الصلح خدعة من العدو للتربص بالدولة الاسلامية فلابد ان يكون يقضاً حازماً فلا يعتمد حسن الظن في ذلك.

3- يذكر الامام واليه بضوابط الشريعة الاسلامية التي تدعو الى التقيد بالعهد والمواثيق التي تعقد وينصحه بالوفاء ومراعاة الذمة والامانة في الالتزام ببنود العقد وتطبيقه والمحافظة عليه بروحه ونصه.

4- يبين الامام ضابطاً اجتماعياً قد اجتمعت عليه البشر على اختلاف اهوائهم ومذاهبهم لحاجاتهم المتبادلة له وهو احترام العهود والوفاء والالتزام بها ويذكر بانه اذا كان المشركين قد رعو ذلك فحري بالمسلمين ان يكونوا سباقين له لان دينهم دین عهد و موثق فقد جاء في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ويذكر الوالي بان عواقب الغدر وخيمة وهي التي تدفع المشركين للالتزام بالعقود ويحذره من خيانه العهد ونقضه.

ص: 288

5- يدعو الامام الى ان يكون العقد المبرم للصلح خالياً من علة او ضعف، واضح المعالم صحیح العبارة لا لبس فيه ولا ابهام «فلا ادغال ولا مدالسة ولا خداع فيه» وهذا يعني ضرورة ان تكون مواد العقد غير قابلة للتأويل او التورية ولاحمال وجوه فيكون ممهدة للافساد والخيانة وحتى لو كان العقد فيه ثقلاً فان الله تعالى يلزمه بادائه وحثه على الصبر في تحمل هذا العقد والالتزام به فهو خير. له من نسخ العقد لان هذا ليس من خلق الاسلام

6- «ولايدعونك ضيق امر لزمك فيه عهد الله الى طلب انفساخه بغير الحق، فان صبرك على ضيق امر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من عذر تخاف تبعته» ويختتم الامام وصاياه فيما يخص الجانب الامني، بالاشارة الى صفات وسمات امر الجند الذي لابد ان يكون انصح الجند الله ورسوله وللامام، ويتسم بنزاهة الروح والبدن، حلیم في تعامله مع الجند. رؤوف بالضعفاء، مهيمن على الاقوياء من ذوي النفوذ، ذا خلق قویم وکریم، وله نسب طاهر وکریم الاصل، شجاع، کریم النفس، صاحب دین وتقوى ملماً بالامور الحربية وفنون القتال، فضلاً عن رعايته لعوائل الجند وتفقد احوالهم.

ثالثا: عمارة البلاد "التنمية الاقتصادية"

عندما بويع الامام علي بن ابي طالب لقيادة الامة الاسلامية واصبح خليفة رابع للمسلمين سنة 35 ه (656 م) أعلن معالم سياسته التي تميزت بتقدم حضاري ملموس، حيث اكد على السياسة المالية وواردات الدولة، والية توزيعها، واهتامه بأمر الخراج والضرائب وما تملكه الدولة من عائدات مالية التي هي ملك الشعب.

وتجدر الاشارة الى ان الموارد المالية في صدر الاسلام کانت تقتصر على الخراج

ص: 289

والجزية والخمس والزكاة، ومن خلال نصوص العهد اولى الامام اهمية متميزة للخراج بعده العصب الرئيسي للموارد المالية فيوصي الوالي بان يصلح القائمين على استحصاله لانهم الاداة المنفذة لجبابيه، فاذا صلح حالهم صلح الخراج، وان صلاح اهل الخراج هو صلاح للامة بكاملها لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله اي اعتمادهم في معيشتهم وبناء حياتهم عليه.

ويلتفت الامام الى مسالة مهمة تتعلق بالتحولات الطبيعة وحلول الكوارث الطبيعة كالافات الزراعية وشحة مياه السقي والجفاف والفيضان، الامر الذي يترك اثاراً سلبية على حال الزراعة وينعكس سلبياً على الانتاج.

هذه الاحوال لابد ان ياخذها الحاكم ينظر الاعتبار حين يفرض الخراج فلا يثقل على اهله ويتنازل عن مقدار من الخراج فهو وان كان يسيب نقصاً موقتاً في موارد الدولة في الظاهر، الا ان ذلك يعد ادخاراً غير مباشر للدولة حيث ستصلح الارض فيزيد عطائها مستقبلاً، ويصلح حال اهلها، الامر الذي ينعكس ايجابياً على الرعية والدولة في ان واحد «ولا يثقلن عليك شي خففت به المؤونة عنهم، فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك»

وقد رسخ الامام علي عليه السلام بعض السمات للاقتصاد الاسلامي من خلال التاكيد على اهم المبادي للسياسة المالية للدولة لعل ابرزها:

1- الابتعاد عن الربا والاحتكار: التاكيد على قيمة العمل ويستمد ذلك من مبادىء الاسلام حيث اشارت نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الى تلك الامور عندما حرمت الربا والاحتكار، ودعت الى حفظ الموازين، والتوازن والاعتدال الذي لايتعدى الافراط والتفريط والبخل والتبذير، كما اهتم الامام بتنظيم معاملات البيع

ص: 290

والشراء ومراقبة الاسعار «فا منع من الاحتكار فان رسول الله منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل واسعار لا تحجف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف مكره بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف»

2- الملكية المطلقة الله تعالى: فمن مباني النظام الاسلامي في الاقتصاد هو ان الملكية الله، وملكية الانسان اعتبارية ومؤقتة، وما هو الامستخلف عليها، فلا بد من حفظ الامانة واتقان معادلة الكسب والصرف بما يحقق رضا المستخلف على المستخلف.

3- المال وسيلة: يعرض الامام مبدا فلسفي من مبادى الفلسفة الاقتصادية في الاسلام، وهو ان المال وسيلة وليس غاية، وسيلة لبناء الحياة وخدمة الانسان وتحقيق ادميته على طريق الصلاح.

4- التوزيع العادل للثروة: يوجه الامام واليه بان لا يصطفي نفسه وذويه في اموال الدولة، وانما تنفق تلك الاموال لتطوير وتنمية الحياة العامة من خلال خلق فرص العمل وتقليل معدل البطالة، ورفع مستوى المعيشة للفرد، والقضاء على الجريمة والفساد، واشاعة الرفاه الاقتصادي لسكان الدولة الاسلامية دون تمييز او اعتبار جانبي.

5- عمران الارض والمجتمع: يعرض الامام معادلة يتناسب طرفاها تناسياً طردياً وهي عمران الارض والمجتمع، فكلما تحسن العمران تتعا ظم قدرة تحمل الناس ويزداد عطاؤهم، والمعادلة الثانية تناسبهما عكسياً فتنحدر الارض واهلها نحو الخراب والانحطاط كلما ازداد حرص الحكام على جمع المال «وانما توتی خراب الارض من اعواز اهلها، وانما يعوز اهلها لاشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر»

ص: 291

6- الامن الاقتصادي: من المبادى المهمة التي يوكد عليها العهد مبدأ توفير الامن للتجار وخاصة في اسفارهم فان له اهمية كبيرة في حفظ التجارة وسهولة حركتها وانسيابيتها في الاسواق، وتحقيق الامن الاقتصادي سيحقق الاستقرار في الاسعار ويضمن سريان العقود التجارية بيسر ونجاج مما يسهم في الحفاظ على مصالح الناس بجلب الربح ودفع الخسارة وينعكس بالتالي على الحالة الاقتصادية للمجتمع ككل واوجز الامام اثار الاخلال بالمعاملات التجارية بقوله «وذلك باب مضره للعامة وعيب على الولاة»

ان تلك المزايا في النظام الاقتصادي الاسلامي والتي رسخها الامام في عهده لواليه الاشتر، انما تعكس تكامل ذلك النظام الذي يستجيب لحاجات الانسان الفطرية دون اطلاق العنان للغرائز، ومن خلال التوازن الذي يجعل الانسان يعيش برفاه واطمئنان لاسيما وان ذلك النظام يتقوم بالاخلاق وهي جوهره الاساس وليس على اساس المنفعة والاحتكار والفساد والاستغلال، ولابد ان تتوجد الوسائل والاهداف في انسجام ثمرته خلق الحياة الافضل للانسان الذي هو اساس المجتمع.

ص: 292

الخاتمة:

لقد وجه الامام رسائل عديدة لولاته وعماله في اقطار الدولة الاسلامية خلال مدة حكمه التي دامت خمس سنوات وثلاث أشهر ومن خلال تلك الرسائل اراد الامام ان يبسط العدل والمساواة بين الرعية من خلال تطبيق مبادىء العدل لدى الحاكم و نظرية الامام في العدل والمساواة بين الرعية قائمة على احترام الانسان وحقوقه التي اسسها الاسلام كدين حق.

من خلال استعراض بعض فقرات عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه على مالك الاشتر والمتعلقة بمواصفات الحاكم وواجباته، يمكن القول انه اراد ان يضع اسساً واضحة لادارة الحكم وتطبيق العدالة وايصال الحقوق لاصحابها ومنع الظلم عن الناس وهذه من اهم مميزات ماد يسمى اليوم «الحكم الرشيد» أو مبادىء النزاهة والعدالة والشفافية والمحاسبة التي تعتبر اهم اسس الحكم الصالح والصحيح.

ص: 293

الهوامش

1- حيدر حب الله - الامام علي وتنمية ثقافة اهل الكوفة، (قم: المركز العالي للدراسات الاسلامية. 1985)، ص 46

2- محمد سعيد الاحمد، المستقبلية الاسلامية: نهج البلاغة نموذجاً لانطلاقة الرؤية: مركز الشهيدين الصدرين للدراسات والبحوث العامة، 2006

3- نقلاً عد المصدر السابق، ص 265

4- صادق الحسيني الشيرازي، السياسة من واقع الاسلام (كربلاء: دار صادق للطباعة والنشر، 2005) ط 5،ص 131

5- محمد عمارة - الاسلام وحقوق الانسان، ضرورات لاحقوق، (القاهرة: دار الشروق، 1989 انظر: قاسم)، ص 176

6- انظر قاسم خضير عباس، الامام علي رائد العدالة الاجتماعية والسياسية على ضوء تقرير الامم المتحدة، دار الاضواء، ص 11

7- محمد سعيد الامجد مصدر سبق ذكره،ص 265

8- الشريف الرضي (الجامع) نهج البلاغة - تقديم وشرح محمد عبدة (القاهرة موسسة المختار للنشر والتوزيع، 2006) ص 504

9- نفس المصدر ص 416

10- محمد سعيد الاحمد، مصدر سبق ذكره، ص 265

11- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، ص 416

12- نفس المصدر، ص 416 - ص 436

13- توفيق الفكيكي - الراعي والرعية (قمم: المكتبة الحيدرية، 2002) ص 60

14- نهج البلاغة مصدر سبق ذكره، ص 417

ص: 294

15- محمد الفاضل اللتكراني، الدولة الاسلامية: شرح لعهد الامام علي الى مالك الاشتر النخعي، (قسم: مركز فقه الائمة الاطهار، 2005) ص 101

16- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، ص 420

17- عزیز السيد جاسم: علي سلطة الحق، (قمم: الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، 2000)، ص 453

18- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، ص 431

19- اللنكراني، مصدر سبق ذكره، ص 146

20- نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، ص 431

21- اللنكراني - مصدر سبق ذكره، ص 96

22- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، ص 419

23- نفس المصدر،ص 421

24- عزيز السيد جاسم - مصدر سبق ذكره، ص 473

25- نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره ص

26- نوري جعفر فلسفة الحكم عند الامام، (القاهرة، مطبوعات النجاح 1978)، ط 2، ص 51

27- نفس المصدر السابق ص 52

28- عزيز السيد جاسم مصدجر سبق ذكره، ص 473

29 - عباس محمود العقاد - عبقرية الامام علي (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر) ص 169

30- ابن عبد البر يوسف القرطبي - الاستيعاب في معرفة الاصحاب - نقلاً عن احمد عدنان عزيز - العدالة الاجتماعية عند الامام علي بن ابي طالب عليه السلام رسالة ماجستير غير منشورة، 2007 -، ص 108

ص: 295

31- اللنكراني، مصدر سبق ذكره، ص 126

32- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، ص 421

33- نفس المصدر، ص 421

34- نفس المصدر، ص 422

35- نفس المصدر، ص 425

36- اللنكراني، مصدر سبق ذكره، ص 130

37- نقلاً عن: صادق الشيرازي - مصدر سبق ذكره، ص 202

38- نفس المصدر - ص 101

39- حيدر حب الله - مصدر سبق ذكره، ص 164

40- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، 426

41- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، 426

42- اللنكراني، مصدر سبق ذكره، ص 131

43- نفس المصدر، ص 130

44- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، 420

45 - نفس المصدر، ص 484

46- الشيرزاي - مصدر سبق ذكره، ص 108

47- نهج البلاغة - مصدر سبق ذكره، 420

ص: 296

مصادر التشريع القضائي والقواعد القضائية في عهد الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

أ. م. د. علاء كامل صالح العيساوي 1438ه / 2016 م

ص: 297

ص: 298

المقدمة:

يُعّد القضاء من الوظائف المهمة والخطرة في الإسلام لأهميته في تحقيق العدالة والمساواة بين أبناء المجتمع، وقد اهتم الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في حل الخصومات والنظر في الدعاوى، كما اسند لبعض الصحابة مهمة القضاء بين المسلمين كان في مقدمتهم الامام علي (عليه السلام) مما اكسبه ذلك خبرة واسعة في الجانب العملي فضلاً عن سعة علمه في أحكام الشرع الإسلامي، وقد مارس الأمام علي (عليه السلام) القضاء في عهود الخلفاء الذين سبقوه، فكان هذا قد أسهم في منحه القدرة على الإصلاح والتطوير بعد توليه الخلافة، وقد شملت إجراءات الأمام علي (عليه السلام) كافة الجوانب ذات الصلة بمؤسسة القضاء كأساليب التوليه واختيار القضاة وتحديد واجباتهم.

وبما ان مصادر التشريع والقواعد القضائية التي ارساها الامام علي (عليه السلام) في مجال الإصلاح والتطوير للنظام القضائي من الامور المهمة في خلافته (عليه السلام)، اثرنا ان يتناول بحثنا هذا الموضوع، لان الامة الاسلامية عانت من قضاة السوء في العهود السابقة، ونجد مصداق هذا في قول الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر(1) حينما ولاه على مصر ((فأنظر في ذلك نظراً بليغاً فأن هذا الدين كان اسيراً بأيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا...))(2). وقد ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي إن في ذلك إشارة إلى قضاة عثمان فأنهم لم يقضوا بالحق بل بالهوى لطلب الدنيا(3). لذلك فان هذا البحث يبين الهوة الشاسعة في دقة الاحكام عن ماسبقه، وايضا» يعقد مقارنة بين هذه القواعد القضائية وما هو موجود في وقتنا الحاضر،وسنرى من خلال

ص: 299

هذا البحث ان الكثير من القواعد القضائية واحكامها التي تناولتها كتب القانون مأخوذة من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر ومن الاحكام التي طبقها طول فترة حياته ان الامام (عليه السلام) هو اول من طبق هذه القواعد.

اولا / مصادر التشريع القضائي:

حدد الأمام علي (عليه السلام) المنابع الاساسية لتشريع الاحكام القضائية وهي:

1- القرآن الكريم

وهو المصدر الاول للتشريع واستنباط الاحكام لذا فأن ذلك استوجب اختيار القضاة الذين يمتلكون معرفة واسعة في علوم القرآن من حيث حفظ القرآن وتفسيره ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمتشابه من الآيات القرانية، وهذا المنبع الاساسي اكد عليه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) واوصى بالاستنباط منه معاذ(4) بن جبل(5)، کما حرص عمر على ضرورة الاحتكام للقرآن الكريم وعده المصدر الاساسي والاول في التشريع القضائي(6)، وبنفس هذا الاتجاه نجد الأمام علي (عليه السلام) يؤكد اختياره للقضاة على درجة تفهمهم للقرآن الكريم وقدرتهم على استنباط الاحكام عنه القضائية منه(7).

2- السنة النبوية

وتعني كل ما اثر عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من قوله او فعله او تقرير(8)، وهي المصدر الثاني والمهم في التشريع. كما اكد ذلك الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وهو ما جاء التأكيد عليه في عهود الخلفاء الراشدين ومنهم الأمام علي

ص: 300

(عليه السلام) فعلى القاضي ان يحكم فيما عنده من ((الاثر والسنة))(9).

3- علم الائمة الاطهار (عليهم السلام)

ويقصد بذلك الرجوع الى علم الائمة من آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم الذين اوصى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ضرورة الاعتماد عليهم بقوله: ((اني تارك فيكم الثقلين، ما ان تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي ابداً، كتاب الله وعترتي اهل بيتي، فأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))(10).

فهم (عليهم السلام) احد مصادر التشريع القائم على قدرتهم في استنباط الاحكام، وعلى الرغم من تأكيد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) على مسألة ألاجتهاد في القضاء كما جاء ذلك في قول معاذ ((..اجتهد برأيي..))(11)، فان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) جعل الركون الى علم ألائمة من آل البيت (عليهم السلام) في جميع ألأمور الخاصة بالمسلمين أمراً واجباً.

ومن الطبيعي ان يكون القضاة في مقدمة الذين يلجأون الى علم الائمة (عليهم السلام) وهم اكثر من غيرهم في امس الحاجة لذلك العلم، وهذا العلم يعد الركيزة الاساسية التي لها الاولوية والأهمية القصوى، ويأتي ذلك في تفسير الأمام علي (عليه السلام) لمسألة الاجتهاد بالاشارة الى ان القضاة مهما وصلوا من علم بالفقه واحكام الشرع فأنهم يخطئون في الاجتهاد وفي استنباط الاحكام الصائبة وهذا مما يؤدي الى التباين في الاحكام الصادرة بشأن القضايا المتشابهة لذا لابد من الاستعانة بمن فرض الله ولايتهم من اهل بيت النبوة فهم وحدهم القادرين على الاستنباط(12).

وبهذا ادلى الأمام علي (عليه السلام) في الكتاب الذي بعثه للأشتر بقوله: ((.. على الحاكم ان يحكم بما عنده من الاثر والسنة فاذا اعياه ذلك رد الحكم الى اهله،

ص: 301

فأن غاب اهله عنه ناظر غيره من فقهاء المسلمين ..))(13)، فالأمام (عليه السلام) هنا يدعوا الى رد الامر الى الله تعالى والاخذ بمحكم كتابه والرد الى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) والاخذ بسنته الجامعة غير المتفرقة ثم قال: ((.. ونحن اهل رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) الذين نستنبط المحكم من كتابه ونميز المتشابه منه ونعرف الناسخ مما نسخ الله ووضع اصره.))(14)، وعزى الأمام علي (عليه السلام) الاختلاف الواضح بين القضاة في اصدار الاحكام يعود لضعفهم بأصول الاستنباط(15). وهذا ما دعى الأمام علي (عليه السلام) الى حث قضاته على ضرورة عرض ما يصدرونه من احكام ولا سيما تلك التي تكون محل شك او شبهة، فأن كل امر اختلف فيه مردود الى حكم الأمام علي (عليه السلام)(16).

4- اجماع الفقهاء

ويظهر ان الامام علي (عليه السلام) دعى الى ضرورة عرض الامور المختلفة بها التي لا يوجد بصددها نص صريح في الكتاب او السنة وفي حالة غياب اهل العلم من الائمة الاطهار (عليهم السلام) على الفقهاء المسلمين في كل ولاية للتناظر والوصول الى اتفاق بشأنها، فقد امر الأمام علي (عليه السلام) ولاته بضرورة متابعة القضاء في ولاياتهم، ودعاهم الى النظر فيما اشتبه من الاحكام، اذ ينبغي جمع فقهاء الولاية ومناظرتهم وامضاء ما يجتمع عليه رأي الفقهاء(17).

ثانيا / القواعد القضائية التي ارساها الامام علي (عليه السلام):

ارسى الامام علي (عليه السلام) العديد من القواعد القضائية المهمة التي استند عليها القضاة فكان بعضها يمثل استمراراً لما اقره الرسول (صلى الله ليه واله وسلم)، والبعض الآخر منها يمثل ما استحدثه الأمام علي (عليه السلام) في مجال اصلاح

ص: 302

وتطوير النظام القضائي ومن تلك القواعد نذكر:

1- توحيد الاحكام في القضايا (عليه السلام) المتشابهة

ابدى الأمام علي (عليه السلام) استغراباً شديداً من ظهور التباين الملحوظ في الاحكام الصادرة بصدد بعض القضايا المتشابهة، وهو يرى عكس ذلك حيث ان القضاء في كل وقت وزمان وفي كل مكان حال لا يتغير مهما طال الزمن او بعد المكان، وبهذا قال: ((لو اختصم الي رجلان فقضيت بينهما ثم مكثا احوالاً كثيرة ثم اتياني في ذلك الامر لقضيت بينهما قضاءاً واحداً، لان القضاء لا يحول ولا يزول)(18)، وبهذا الشان كتب للأشتر يأمره ان يختار قضاة في انحاء ولايته ممن لا يختلفون ولايتدابرون في حكم الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، ومحل استغراب الأمام علي (عليه السلام) يكمن في ان المسلمين جميعاً الههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد، وهو يتسائل: ((..افأمرهم الله تعالى بالاختلاف فاطاعوه، ام نهاهم عنه فعصوه، ام انزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه، ام كانوا شركاءه فلهم ان يقولوا وعليه ان يرضى. ام انزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) عن تبليغه وادائه والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ)(19)، وقال فيه ((وهذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقيين))(20) ولو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وان القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولاتكشف الظلمات الابه ..))(21).

وقد شخص الأمام علي (عليه السلام) الاثار الناجمة عن الاختلاف وهي اضاعة العدل وفرقة الدين والدخول بالبغي لقوله: ((.. فأن الاختلاف في الحكم اضاعة للعدل وغلاة في الدين وسبب من الفرقة .. فأنما اختلاف القضاة في دخول البغي بينهم واكتفاء كل امرى منهم برأيه ..))(22)، ثم عزى الأمام (عليه السلام) اسباب

ص: 303

ذلك الاختلاف كما ذكر انفاً الى جهلهم باستنباط الاحكام وعدم ارجاع الامر الى من فرض الله ولايته أي رد الامر للإمام علي (عليه السلام)فهو من ((استودعه الله علم كتابه واستحفظه الحكم فيه))(23)، ومن المؤكد ان يكون رد الامر بعد الأمام علي (عليه السلام) للأئمة من آل البیت (علیهم السلام) كما اسلفنا، وبذلك يظهر ان عهد الأمام علي (عليه السلام) شهد ولأول مرة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وحدةً في احكام القضاء ونبذ التباين للقضايا المتشابهة.

2- قاعدة المتهم بريء حتى تثبت ادانته

وهي من القواعد القانونية المعمول بها في الوقت الحاضر(24)، الا ان جذورها تعود الى عهد الأمام علي (عليه السلام) بل انه هو الذي اتحف النظام القضائي بهذه القاعدة، حيث ان الأمام علي (عليه السلام) لم يكن يأخذ على التهمة او الظنة أي بمجرد الادعاء والشك دون بينه نافذة ودليل ناصع. فقد قال: ((اني لااخذ على التهمة ولا اعاقب على الظن ..))(25)، وهو بذلك يستند على القرآن الكريم لقوله تعالى: ((ان بعض الظن اثم))(26)، ولم يقتصر الأمام علي (عليه السلام) في هذا الامر على نفسه وانما طبق ذلك على قضاته حيث كتب الى قاضي الاحواز يأمره بالقول: ((.. ودع عنك اظن واحسب وارى ليس في الدنيا اشكال ..))(27) وهنا يبدو بوضوح ان الأمام علي (عليه السلام) يعد المتهم بريء لا يعاقب بلا دليل ولا يتم ذلك حتى تثبت ادانته.

3- القواعد التي اقرها في مجال الشهادة والشهود

هناك بعض القواعد التي أقرّ الأمام (عليه السلام) العمل بها في العديد من القضاة فيما بعد والى يومنا هذا، ومن تلك القواعد نذكر:

ص: 304

أ- تفريق الشهود(28)

لاشك ان الأمام علي (عليه السلام) كان اول من فرق بين الشهود في الاسلام لئلا يتواطى اثنان منهما على شهادة جائرة تدعو الى طمس الحق وتضليل العدالة، ففي رواية ورد فيها ان قضية طرحت امام القاضي شريح(29) وهي تتمثل بدعوة شاب موجهة ضد مجموعة من الرجال لم يرجع معهم والد الشاب وادعوا انه توفي، فقام شريح بتحليفهم فحلفوا له فبرئهم لعدم توفر البينة لدى الشاب، فرفع الاخير القضية للإمام علي (عليه السلام) الذي ابدى دهشته من فعل شريح وقال: ((.. يا شريح هيهات اهكذا تحكم في مثل هذا ؟... يا شريح والله لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به خلق قبلي الا داوود النبي (عليه السلام)))، فأمر قنبر(30) ان يدعوا له شرطة الخميس وامرهم ان يقوم كل واحد منهم بأخذ واحداً من اولئك الرجال وتفريقهم عن بعضهم البعض الاخر، ثم استدعاهم واحداً تلو الاخر وسمع شهادتهم كل واحد على حدة، فبدت الشهادة مختلفة وبذلك انكشفت الحقيقة(31). ومن خلال نص قول الأمام علي (عليه السلام) نلحظ انه اول من طبقها في عهده المبارك.

ب- تدوين شهادة الشهود(32)

ذكر ان الأمام علي (عليه السلام) هو اول من امر بتدوين شهادة الشهود ليحول بذلك عن تراجع الشهود عن اقوالهم او تغييرها بأغراء من رشوة او تدليس من طمع او ميل من عاطفة او خوف، ففي القضية السابقة الذكر التي رفعها شاب لشريح ثم احالها للإمام علي (عليه السلام)، روي انه (عليه السلام) امر كاتبه عبيد الله بن ابي رافع(33) ان يكتب شهاداتهم(34). وهذه ايضاً خطوة اولى في الاسلام، لما ورد ان ما جرى من حكم كان قد حكم به نبي الله داوود (عليه السلام) ولم يسبق الأمام علي (عليه السلام) في ذلك احد من المسلمين، اذ ان الأمام (عليه السلام) هو الرائد

ص: 305

لهم فأن تدوين الشهادات تعني تدوين تفاصيل الدعاوي وما ورد بشأنها من اقوال وشهادات.

ج- اجازة شهادة التائب

اجاز الأمام علي (عليه السلام) شهادة رجل اقيم عليه الحد ثم عرفت توبته(35)، وقد اوصى القاضي شريح: ((.. واعلم ان المسلمين عدول بعضهم على بعض الا مجلوداً في حد لم يتب منه، او معروف بشهادة زور او ظنين..))(36)، ولاشك ان بناء هذه القاعدة سار متوازياً مع العدل الالهي، فأن الله تعالى تقبل من المسلمين نوبتهم لقوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)(37)، وقول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): ((التائب من الذنب كمن لاذنب له))(38)، وقد اكد الباري عز وجل على قبول التوبة الصادقة بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..»(39).

د- اجازة شهادة ذو القربى

اكد الأمام علي (عليه السلام) على اجازة شهادة الولد لوالده، والاخوة والقرابات والزوجين بعضهم لبعض شهادة العدول منهم(40)، فالأساس هنا هو ليس القربي وانما توفر شرط العدالة وعليها تبنى احكام الاسلام حيث عد الشهادة العادلة واحدة من اهم ثلاث دعائم تقام عليها احكام المسلمين(41)، وقد انتقد الأمام علي (عليه السلام) ما قام به القاضي شريح حينما رفض اجازة شهادة الأمام الحسن (عليه السلام) في قضية الدرع التي رفعها الأمام (عليه السلام) ضد اليهودي، حيث شهد الأمام الحسن (عليه السلام) ان الدرع لابيه اذ كان من الشهود العدول فكيف

ص: 306

والشاهد هو سيد شباب اهل الجنة لما روي عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: ((الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة))(42)، فكيف لا تجوز شهادة رجل من اهل الجنة(43). ومقابل ذلك فان الأمام علي (عليه السلام) لم يجز شهادة الابن على ابيه(44).

ه- معاقبة شهود الزور

لم يكتف الأمام علي (عليه السلام) بالتأكيد على الشهود العدول، وعدم اجازة شهادة الزور(45)، بل انه (عليه السلام) اكد على معاقبة شاهد الزور عقاباً صارماً مما يدل مدى صرامة وشدة الأمام (عليه السلام) مع شهود الزور وعدم تجرؤ الشهود على الادلاء بشهادة زور في عهده (عليه السلام)، ففي رواية ورد فيها ان الأمام علي (عليه السلام) هدد شاهدين من مغبة قول الزور بقوله: ((.. لا اوتي بشاهد زور الا فعلت كذا كذا ..)) فما كان امام الشاهدان الا الفرار من المجلس وحينما تم استدعاؤهما لم يجدهما(46).

لذا فان اجراءات الأمام (عليه السلام) وعقوباته الصارمة ساهمت بالطبع الى االحدٌ من تزوير الشهادات واثرها في تحقيق العدالة.

4- قاعدة اقرار حق الدولة (الحق العام)

القضية ان ما ظهر بشأن الحق العام في القوانين الوضعية الحديثة التي تتمثل بحق الدولة في الجرائم المرتكبة وليس فقط الحق الخاص، ففي حالة الصلح والتنازل عن فأن الحكم لا يسقط على المجرم لغاية استيفاء الدولة لحقها، فتصدر عليه عقوبة محددة هي التي يطلق عليها اسم ((الحق العام))(47).

ص: 307

فالحق العام هي واحدة من القواعد المهمة التي ارساها الأمام علي (عليه السلام) انذاك فعلى الرغم من حثه (عليه السلام) على تحقيق المصالحة بين المتخاصمين الاصلح يُحرم حلالاً او يحلل حراماً(48)، الا انه (عليه السلام) اكد على ان تأخذ الدولة حقها من المجرم لأسائته للمجتمع بأسره، فقد روي ان رجل ضرب اخر فرفعت القضية للإمام (عليه السلام) وقبل اصدار الحكم تنازل الرجل المضروب عن القضية أي عن حقه الا ان الأمام (عليه السلام) اصدر حكماً يقضي بضرب المتهم بالدرة تسع مرات وقيل خمس عشر مرة وقال: ((.. هذا حق السلطان))(49)، ومن المؤكد ان تكون هذه القاعدة قد طبقت في عهده (عليه السلام) وعمم العمل بها في مختلف ارجاء الدولة.

5- قاعدة الضرورة

ان القضاء عدل ورحمة وانصاف، ونظرة الأمام علي (عليه السلام) في هذه القاعدة، نظرة تجعل للقوانين والاحكام الصادرة عنها لتأخذ مأخذاً انسانياً بعيداً عن الجفاف والقسوة(50)، وهذه القاعدة التي اوجدها الأمام علي (عليه السلام) هي من اهم القواعد المعمول بها في القانون الجنائي الحديث(51)، فقد روي انه جئ لعمر في خلافته بأمرأة جهدها العطش فمرت على راعٍ فطلبت منه ماء، فأبى الراعي ان يعطيها الا ان تمكنه من نفسها، ففعلت. فشاور عمر الناس في رجمها. فقال الأمام علي (عليه السلام): ((هذه مضطرة ارى ان يخلى سبيلها)). ففعل(52).

6- القواعد التي اقرها في مجال البينة واليمين

هناك العديد من القواعد التي اقرها الأمام علي (عليه السلام) في البينة واليمين لضمان العدالة، فقد اولى (عليه السلام) اهمية كبيرة للبيئة التي اوجدها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وهي: ((البينة على من ادعى واليمين على من انكر))(53)، واشار

ص: 308

الأمام (عليه السلام) الى عدم الحكم على التهمة والظن كما اسلفنا، وكتب لمحمد بن ابي بكر (54): ((.. وان تسأل المدعي البينة والمدعي عليه اليمين ..))(55)، وانكر على القاضي شريح عدم اخذه بشهادة الرجل الواحد، فالأمام (عليه السلام) يرى ان تقبل شهادة الواحد مع يمين صاحب الحق(56)، وقد قضى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) باليمين مع الشاهد وكذا فعل الأمام علي (عليه السلام) ايضاً(57). وفي الوقت الذي اجاز فيه بعض الفقهاء اليمين مع الشاهد الواحد في الحقوق والاموال فقط فأن الأمام (عليه السلام) كان له حكم وهو ان البينة في الاموال على المدعي واليمين على المدعي عليه، غير ان البينة في الدماء على من انكر براءة مما ادعى عليه واليمين على من ادعى(58)، وغير ذلك من القواعد الاخرى في هذا الباب.

7- القوعد الخاصة في اساليب التعامل مع الخصوم

اوصى الأمام علي (عليه السلام) بالعديد من القواعد فيما يتعلق باسلوب التعامل مع الخصوم في مجالس القضاء، وكان بعضها مما أقره الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وسار على نهجها الأمام علي (عليه السلام)، اما البعض الاخر فأنها بالحقيقة أُقرت من قبل الأمام (عليه السلام) نفسه، وطبقت في عهده واصبحت اساساً استند عليها القضاة ودعى اليها الفقهاء على مرَ الاَزمان، ومن هذا القواعد نذكر:

أ- المساواة بين الخصوم في مجلس القضاء

أي المساواة بينهم من حيث النظر والوجه والكلام وبذلك اوصى شريحاً بقوله: ((..ثم واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك ..))(59)، ولعل ما يميز عهد الأمام علي (عليه السلام) انه طبق مسألة المساواة بين الخصوم بشكل فعلي حينما رفع قضية سرقة

ص: 309

درعه من قبل اليهودي فجلس الى جنب شريحا» وقال: ((.. لولا ان خصمي ذمي لأستويت معه في المجلس ..))(60)، وذكر ابن العماد الحنبلي ان شريح قام للإمام علي (عليه السلام) فقال له: ((هذا اول جورك))، فقال: ((لو كان خصمك مسلماً لما قمت))(61)، فالأمام (عليه السلام) اعتبر وقوف القاضي له جوراً بحق الخصم. ان موقف الأمام (عليه السلام) وعدله والمساواة بين اليهودي وبين امير المؤمنين (عليه السلام) وخليفة المسلمين قد دفعت ذلك اليهودي الى الاعتراف بحق الأمام (عليه السلام) بالدرع واعتناق الاسلام(62). بل ان الأمام علي (عليه السلام) عد التكنيه لأحد الخصوم وترك الاخر خطأ من القاضي وعدم مساواة بحق الخصم، فقد روي ان الأمام (عليه السلام) دخل على عمر مع خصم له، فكنى عمر الأمام (عليه السلام) وترك الاخر فغضب الأمام (عليه السلام) لذلك(63).

ب- حسن التعامل مع الخصوم

أمر الأمام علي (عليه السلام) بضرورة التعامل بأحسان مع الخصوم ففي الكتاب الذي وجهه لمحمد بن ابي بكر اشار الى هذه النقطة بقوله: ((.. اذا قضيت بين الناس فأخفض لهم جناحك، ولين لهم جنابك، وابسط لهم وجهك ..))(64)، وقد اكد (عليه السلام) ضمن شروط اختيار القضاة على التحلي بسمة التواضع في التعامل مع الخصوم(65)، وقال لقاضي الاحواز(66): ((.. لاتبتز الخصوم ولا تنهر السائل ..))(67) تعبيراً عن حسن معاملة الخصوم بل ان الأمام (عليه السلام) عزل ابا الاسود الدؤلي(68) عن القضاء لسوء تعامله مع الخصم حيث اوضح الأمام (عليه السلام) بسبب العزل بقوله: ((اني رأيت كلامك يعلوا كلام خصمك))(69)، وعلى القاضي ان يحسن الاستماع من الخصوم فلا يأخذ بأول الكلام دون اخره(70). وان ذلك كان تطبيقاً لما تعلمه الأمام من الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) حينما بعثه قاضياً

ص: 310

لليمن اذ قال له الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): ((اذا تقاضى اليك رجلان، فلا تقضي للاول حتى تسمع كلام الاخر، فسوف تدري كيف تقضي))، قال الإمام (عليه السلام): ((فما زلت قاضياً بعد))(71).

ولضمان حسن التعامل مع الخصوم من جهة واصدار احکام صحيحة وعادلة من جهة اخرى، فأن الأمام (عليه السلام) حث قضاته على ان لا يقضوا وهم بحالة غضب، اذ ان الغضب يدفع الى قول الحماقات والى الاساءة في التصرف والمعاملة فضلاً عن اصدار احکام سريعة وغير صائبة وهذا ما نجده في قوله لشريح: ((.. واذا غضبت فقم ولا تقضين وانت غضبان.))(72)، کما امر الأمام (عليه السلام) ان لايقضي القضاة وهم جياع لان الجوع هو الاخر يفقد صاحبه القدرة على التفكير والاستماع وربما يدفعهم ذلك الى الاستعجال بأصدار الاحكام او ان تكون الاحكام الصادرة غير صائبة وان الجوع يولد دائماً الغضب ايضاً، ونجد تأكيد الأمام (عليه السلام) للقضاة على عدم الجوع في قوله لشريح: ((.. ولاتقعد في مجلس القضاء حتى تطعم))(73)، فأن ما اشار اليه الأمام (عليه السلام) في عدم الغضب والجوع لا بد انها شكلت اساساً اعتمد عليه القضاة واكد عليه الفقهاء فيما بعد.

8- القواعد الخاصة بأصدار العقوبات

لقد تنوعت العقوبات الصادرة بحق الجناة والمجرمين وفقاً لنوع الجرم المرتكب منذ ايام الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وفي عهود الذين سبقوا الأمام علي (عليه السلام) فكان منها عقوبات قصاص وحدود(74)، وهناك عقوبات تعزیریه وتأديبية متمثلة بالحبس او الضرب او النفي او التشهير او الغرامة او غير ذلك(75)، فأن عهد الإمام (عليه السلام) شهد بروز عقوبات اخرى او جدها (عليه السلام) لغرض الحد من الجريمة ومحاربة الانحراف، وقد تكون عقوبات شديدة وصارمة

ص: 311

نذكر هنا ما انفرد الأمام (عليه السلام) في فرضها ابان خلافته اذ لم تكن معروفة قبله ومنها:

أ- عقوبة الحبس المؤبد

وهي عقوبة اصدرها الأمام علي (عليه السلام) بحق بعض اللصوص وبالتحديد بحق من يسرق منهم للمرة الثالثة، ففي المرة الاولى يكون العقاب بقطع اليد وفي المرة الثانية بقطع الرجل من خلاف، وعند معاودة السرقة يودع السارق بالسجن حتى الموت، ويعني انه يلاقي حكماً بالحبس المؤبد، وبهذا الصدد روی ان الأمام علي (عليه السلام): ((اذا سرق الرجل اولاً قطع يمينه فان عاد قطع رجله اليسرى، فان عاد ثالثة خلده في السجن وانفق عليه من بيت المال))(76)، وتفرض هذه العقوبة على الجاني الذي يتسبب بموت المجني عليه بعد امساکه حیث روي ان ثلاث رجال احدهم امسك رجلاً وقام الاخر بقتله، اما الرجل الثالث فكان يراهم دون ان يتدخل لانقاذ المجني عليه فحكم الأمام (عليه السلام) بأن يقتل القاتل وهذه هي عقوبة القصاص المعروفة وسمل عين الذي رأي الجريمة وقضى على الذي امسك المجني عليه ان يسجن حتى يموت کما امسكه(77)، وقد روي ان الأمام علي (عليه السلام)، حكم على امرأة مرتدة: (( .. ان تحبس حتى تسلم او تموت ولا تقتل ..)) (78)، لذا فقد اكد الفقهاء فيما بعد على عقوبة الحبس المؤبد على المرتد عن الدين الاسلامي في حالة عدم الرجوع والتوفي فيبقى المرتد بالسجن لغاية الموت(79) التي اقرها الأمام علي (عليه السلام)، عُمل فيها في الوقت الحاضر وأقرتها قوانين العقوبات الجنائية الحديثة(80).

ص: 312

ب- عقوبة قطع الراتب

لقد اكدت الكثير من المواد القانونية التي تضمنها قانون العقوبات في الدساتير الحديثة عقوبة قطع الراتب عن الموظف الذي يستغل وظيفته استغلالاً غير شرعياً(81)، وهذه العقوبة اول من قام باصدارها الأمام علي (عليه السلام) بحق احد موظفيه الى جانب عقوبات اخرى نتيجة لأستحواذه على اموال و حقوق الرعية، وطلب من الوالي ان يتولى تنفيذ العقوبة، حيث كتب اليه قائلاً: ((.. واقطع عن الخائن رزقه))(82).

ج- قاعدة لاحبس على مفلس

اسقط الأمام علي (عليه السلام) عقوبة الحبس عن المدين المفلس الذي لا يمتلك القدر الكافي من الأموال لسداد ديونه، وبهذا قال (عليه السلام): ((لاحبس على مفلس قال الله عز وجل: «وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»(83)، فالمعسر اذا ثبت افلاسه وادى اليمين على ذلك ولم يظهر له من المال او بينة يتم اخلاء سبيله(84)، ووجه الأمام علي (عليه السلام) للقاضی شریح امراً بتولي استفاء حقوق الناس من المماطلين في استرجاع الديون من اهل اليسار والمقدرة وان اضطر الامر الى بيع ما لديهم من أملاك او عقار او دار وتسديد الديون من اثمانها، اما من يثبت عسره فلا حكم عليه ويخلى سبيله، حيث روي عن الإمام (عليه السلام) قوله لشريح: ((انظر الى اهل المعك والمطل(85)، ودفع حقوق الناس من اهل المقدرة واليسار، ممن يدلي بأموال الناس الى الحكام، فخذ للناس حقوقهم منهم، وبع فيها العقار والديار، فأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول: ((مطل الموسر ظلم للمسلم))(86). ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه..)) (87)..

ص: 313

الخاتمة

بسم الله أوله وأخره والحمد لله حمداً كثيراً والصلاة والسلام على نبي الهدى والعروة الوثقى التي لا انفصام لها محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، وبعد أقدم موجزاً مختصراً لأهم ما تناوله البحث وأهم ما أسفر ان الإمام علي (عليه السلام) أبدى اهتمام بالغ بمؤسسة القضاء حيث رسم للقضاة الخطوات الصحيحة في مجال عملهم شمل ذلك تحديد مصادر التشريع القضائي المتمثلة بالكتاب والسنة وعلم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وإجماع الفقهاء، كما أن الإمام (عليه السلام) أعاد العمل بالعديد من القواعد القضائية التي اقرها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلاً عن استحداث قواعد جديدة أخرى كقاعدة ((المتهم بريء حتى تثبت أدانته)) وقاعدة ((إقرار حق الدولة العام)) وقاعدة ((الضرورة)) وغيرها من القواعد الأخرى. وحدد (عليه السلام) أساليب التعامل مع الخصوم بالمساواة واللين وعدم استخدام الشدة أو الضرب كوسيلة للتهديد والإرغام على الاعتراف وما إلى ذلك.

وبالمقابل اوجد الإمام علي (عليه السلام) عقوبات صارمة ومتنوعة بحق الجناة تتناسب مع حجم الجرائم المقترفة كعقوبة الحبس المؤبد، وعقوبة قطع الراتب، وعقوبة النفي وغيرها من العقوبات.

ص: 314

قائمة الهوامش

1- ابو ابراهيم مالك بن الحارث بن يغوث ابن مسلمة بن ربيعة النخعي المعروف بالاشتر، كان من خيرة اصحاب الامام علي (عليه السلام) ومن قادة جيشه الموصفين بالشجاعة والعلم والحكمة، تولى ولاية الجزيرة الفراتية منذ سنة (36 ه / 656 م) وكان مقر اقامته في مدينة الموصل وظل واليا» عليها حتى سنة (39 ه / 659 م) عندما استدعاه الإمام علي (عليه السلام) و ولاه على مصر. فدبر معاوية له مؤامرة دنيئة لاغتياله في نفس السنة قبل ان يصل الى مصر استشهد سنة (39 ه/ 659 م). ينظر ترجمته. ابن سعد، الطبقات الكبرى (تحقیق: محمود ابراهیم زايد، ط - 1، بیروت / د: ت، ج 6، ص 213؛ اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي (تحقيق: العلامة محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، النجف الاشرف / 1939)، ج 2، ص 181؛ الثقفي: الاستنفار والغارات (ط - 1، قم المقدسة / 1989)، ج 1، ص 46؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك (تحقیق وتعليق الاستاذ. عبد أ. علي مهنا، ط - 1، بيروت / 1998)، ج 4، ص 199 - 200، ص 209، 270، 278، 237 - 238.

2- نهج البلاغة (ضبط نصه ونظم فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، ط - 2، بیروت، 1402 ه/ 1982)، ص 435؛ ابن شعبة الحراني: تحف العقول عن ال الرسول (صلى الله عليهم) (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الاشرف - / 1993، ص 91؛ ابن ابي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة (تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط -1، بیروت / 1987)، ج 17، ص 59.

3- شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 60.

4- أبو عبد الرحمن، معاذ بن جبل بن عمرو بن اوس الأنصاري الخزرجي، من

ص: 315

إجلاء الصحابة. اسلم وهو فتی وشهد بيعة العقبة الأولى وبدر واحد والخندق والمشاهد كلها. توفي في أو بعد طاعون عمواس في سنة (23 ه/ 644 م). ينظر ترجمته في. ابن سعد: المصدر السابق،، ج 3، ص 583 - 590؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة (تحقیق: محمود فاخوري و د. محمد رواسي قلعة جي، بیروت / 1979)، ج 1، ص 489 - 502؛ ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة طهران / 1957)، مج 4، ص 376 - 378.

5- الترمذي: الجامع الصحيح - سنن الترمذي (بيروت / 2000)، ص 384؛ الماوردي: الإحكام السلطانية والولايات الدينية (تحقيق: د - خالد رشید العسلي، بغداد / 1989)، ص 113.

6- وكيع: أخبار القضاة (تحقیق وتعلیق: عبد العزيز مصطفى المراغي، بيروت / د: ت)، ج 2، ص 179؛ ابو الفرج الاصفهاني: الأغاني (تحقيق: سمير جابر، ط - 2، بيروت / 1989)، ج 17، ص 216.

7- المغربي: دعائم الإسلام (القاهرة / 1965)، ج 2، ص 535؛ ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91؛ النوري، الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي: مستدرك الوسائل (قم المقدسة، / 1988)، ج 17، ص 348.

8- السيوطي: شرح سنن ابن ماجة (كراتشي / د: ت)، ج 1، ص 111؛ المناوي: شرح فیض الغدير (ط - 1، القاهرة، / 1937)، ج 1، ص 132.

9- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91.

10- ابن حنبل: فضائل الصحابة (تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، ط - 1، بیروت، 1403/ 1983) ج 2، ص 585، 603، 779؛ الشيخ المفيد: الفصول المختارة (ط - 1، قم المقدسة -/ 1992)، ص 173؛ ابو نعيم الاصبهاني: حلية الاولياء وطبقات الأصفياء (تحقيق: حسام الدين المقدسي، ط - 4، القاهرة / 1985)،

ص: 316

ج 1، ص 355؛ ابن البطريق الحلي: عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب أمام الأبرار أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) (قم المقدسة - / 1986 م) عمدة عيون صحاح الأخبار، ص 68 - 74.

11- الترمذي: المصدر السابق، ص 384؛ الماوردي: ألاحکام السلطانية، ص 113.

12- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 90.

13- ابن شعبة الحراني: المصدر نفسه، ص 91.

14- ابن شعبة الحراني: المصدر نفسه، 89 - 90.

15- الفكیكي، توفيق: الراعي والرعية ((المثل الأعلى)) للحكم الديمقراطي في الإسلام - شرح عهد الإمام (عليه السلام) الموجه إلى مالك الاشتر حين ولاه مصر (ط - 1، قم المقدسة - /2004)، ص 53.

16- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91

17- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91.

18- ابن عقدة الكوفي: فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (جمعه و رتبه وقدم له: عبد الرزاق حمد حسين حرز الدين، ط - 1، قم المقدسة / 2001)، ص 49؛ الشيخ الطوسي: الامالي (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الاشرف/ 1964)، ص 62.

19- سورة الأنعام، اية 31.

20- سورة آل عمران، اية 138.

21- نهج البلاغة، ص 60 - 61.

22- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91.

23- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 91.

24- ينظر ذلك في: السعدي، د. حمید: شرح قانون العقوبات الجديد - دراسة تحليلية

ص: 317

مقارنة في الاحكام العامة (الجريمة والعقاب والمسؤولية الجنائية) (ط - 2، بغداد / 1976)، ج 1، ص 33 - 47؛ الصيفي، عبد الفتاح مصطفى: قانون العقوبات - القسم العام (ط - 6 ، القاهرة / 1964)، ص 54 - 59.

25- ابن أبي الحديد المعتزلي: المصدر السابق، ج 3، ص 148.

26- سورة الحجرات، اية 12.

27- المغربي: المصدر السابق، ج 2، ص 534؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، 11، ص 347.

28- ينظر تفصيل هذه القاعدة قانونية في مصطفی، د. محمود محمود: شرح قانون الاجراءات الجنائية (القاهرة / 1965م)، ص 260.

29- ابو امية شريح بن الحارث بن قيس الكندي الكوفي، عمل بالقضاء لاكثر من 60 سنة، عينه الإمام علي (عليه السلام) على قضاء الكوفة ثم عزله ثم اعاده وبقي حتى استشهاد الإمام علي (عليه السلام) توفي ما بين سنة (76 - 80 ه / 695 - 699 م). ينظر ترجمته. ابن سعد: المصدر السابق، ج 6، ص 33 - 34؛ وكيع: المصدر السابق، ج 2، ص 189 - 411؛ ابو الفرج الاصفهاني: الاغاني، ج 17، ص 216 - 244.

30- أبو همدان قنبر بن حمدان، كان من اقرب الناس للإمام علي (عليه السلام) كانت له مساهمات في مختلف الجوانب في عهده الشريف. استشهد على يد الحجاج ابن يوسف الثقفي. ينظر. الطبري: المصدر السابق، ج 5، ص 145 - 155.

31- ينظر تفصيل ذلك في: الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقيه (قم المقدسة / 1993)، ج 3، ص 17 - 24؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام في شرح المقنعة (طهران / 1945)، ج 6، ص 316؛ الجزائري: قصص الأنبياء (عليهم السلام) (قم المقدسة / 1984)، ص 338؛ المجلسي: بحار الأنوار، (تحقیق

ص: 318

ونشر: مؤسسة الوفاء، بیروت / 1984)، ج 14، ص 11، ج 40، ص 259؛ الحر العاملي: وسائل الشيعة الى تحصيل الشريعة (تحقیق: مؤسسة اهل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، ط - 1، قم المقدسة، / 2003)، ج 27، ص 279، ص 436؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 385.

32- ينظر تفصيل هذه القاعدة قانونياً في د. محمود محمود مصطفی: شرح قانون الاجراءات الجنائية، ص 262.

33- عبيد الله بن ابي رافع من خيرة اصحاب الامام علي (عليه السلام) و من ثقاته، تولى ادارة بیت المال بعد وفاة والده ابو رافع، وتولى الكتابة للامام علي (عليه السلام) طول فترة خلافته. ينظر ترجمته. ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الاصحاب (تحقیق: علي محمد البجاوي، ط - 1، بیروت / 1960)، ج 1، ص 84؛ ابن ابي الحديد المعتزلي: المصدر السابق، ج 11، ص 92؛ اليعقوبي: المصدر السابق، ج 2، ص 176.

34- الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 24؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الإحكام، ج 6، ص 316؛ الجزائري: المصدر السابق، ص 338؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 14، ص 11، ج 4، ص 259؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 27، ص 279؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 385.

35- الشيخ الطوسي: الاستبصار فيما اختلف من الاخبار (ط - 3، طهران / 1970)، ج 3، ص 21، 37؛ تهذیب الاحکام، ج 6، ص 245 - 246؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 27، ص 385.

36- الكليني: الاصول من الكافي (صححه وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط - 6،

ص: 319

طهران / 1968)، ج 7، ص 13؛ الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 15؛ البراقي، السيد حسين بن السيد احمد: تاريخ الكوفة (استدراك: السيد محمد صادق ال بحر العلوم، تحقیق: ماجد بن احمد العطية، ط 1، النجف الاشرف / 2000)، ص 253.

37- سورة الشورى، اية 25.

38- ابن ماجه: سنن ابن ماجه (تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت / د: ت)، ج 2، ص 1419؛ البغدادي: مسند ابن الجعد (تحقيق: عامر احمد حیدر ط -1 ، بيروت / 1990)، ص 266؛ القضاعي: مسند الشهاب، (تحقیق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط - 2، بیروت / 1986)، ج 1، ص 97؛ البيهقي: السنن الكبرى (بيروت / د: ت)، ج 10، ص 154؛ الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (تحریر: الحافظين العراقي وابن حجر العسقلاني، بيروت / 1987)، ج 10، ص 200؛ الكناني: مصباح الزجاجة (تحقيق: محمد المنتقي الكشناوي، ط - 2، بيروت / 1983)، ج 4، ص 247.

39- سورة التحريم، اية 8.

40- الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 428.

41- الكليني: الفروع من الكافي (صححه و قابله وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط - 4، طهران، / 1998 م)، ج 7، ص 432؛ الشيخ الصدوق: الخصال، ج 1، ص 155؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 6، ص 28؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 101، ص 291؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 27، ص 231.

42- ينظر ابن حنبل: فضائل الصحابة، ج 1، ص 768، 774؛ الترمذي: المصدر السابق، ص 998 - 999؛ النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي ابن أبي

ص: 320

طالب (کرم الله وجهه) (عليه السلام) (تحقيق:

43- محمد هادي الاميني، ط - 1، النجف الاشرف / 1969)، ص 123، الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين (ط - 1، بیروت / 2002)، ص 956؛ محب الدين الطبري: ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي (تقديم ومراجعة: جميل ابراهیم حبیب، بغداد / 1984 م)، ص 139؛ القندوزي الحنفي، الشيخ سليمان بن ابراهيم: ينابيع المودة لذوي القربی (سید علي جمال اشرف الحسيني، ط - 2، قم المقدسة، / 2002)، ج 2، ص 34؛ الشبلنجي، الشيخ مؤمن بن حسن مؤمن: نور الإبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (صلى الله عليه واله وسلم) (دار احیاء التراث العربي، بيروت / د: ت)، ص 114.

44- ينظر تفصيل ذلك في: الثقفي: المصدر السابق، ج 1، ص 74؛ وكيع المصدر السابق، ج 2، ص 200؛ الكليني: الفروع من الكافي، ج 7، ص 425؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) (قم المقدسة / 1959)، ج 2، ص 378؛ ابن كثير: البداية والنهاية (تحقيق: د. فالح حسين، ط - 1، بیروت / 1987)، ج 8، ص 4 - 5 [الا انه قال نصراني]؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط - 1، القاهرة / 1952)، ص 184 - 185؛ ابن العماد الحنبلی: شذرات الذهب في أخبار من ذهب (تحقيق: شعيب الارناؤوط، محمد نعیم العرقسوسي، ط - 9، بیروت / 1993)، ج 1، ص 85؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 101، ص 290؛ وذكر كل من جعفر، نوري: علي ومناوئوه (قدم له: الأستاذ عبد الهادي مسعود، راجعه وعلق عليه: السيد مرتضى الرضوي، ط 4، القاهرة، / 1976)، ص 105؛ العقاد، عباس محمود: عبقرية الإمام علي (بيروت / د: ت)، ص 46 [انه نصراني].

ص: 321

45 الكوفي: الجعفريات (الاشعثيات) (طهران / د:ت)، ص 114.

46- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7 ص 413؛ الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 15؛ السيد حسين بن السيد احمد البراقي: المصدر السابق، ص 253.

47- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7 ص 413؛ الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 15؛ البراقي المصدر السابق، ص 253.

48- للاستزادة حول هذه القاعدة ينظر: الصيفي، د. عبد الفتاح مصطفی: حق الدولة في العقاب نشأته واقتضاؤه وانقضاؤه (بيروت / 1971) ص 75 - 196.

49- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 119.

50- الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، ص 403 - 404.

51- جرداق، جورج سجعان: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية - بين علي والثورة الفرنسية (بيروت / 1958)، ج 2، ص 479.

52- جورج جرداق: المصدر نفسه، ج 2، ص 480.

53- ينظر ذلك في: الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقیه، ج 4، ص 354؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 10، ص 18؛ محب الدين الطبري: ذخائر العقبی، ص 91؛ ابن طاووس الحلي: بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية (ط - 1، مؤسسة ال البيت (عليهم السلام) طهران / 1990)، ص 296؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 76، ص 5؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 28، ص 111.

54- الترمذي: المصدر السابق، ص 387.

55. أبو القاسم محمد بن أبي بكر القرشي التيمي، وأمه أسماء بنت عمیس، ولد

ص: 322

عام حجة الوداع. عينه الإمام علي (عليه السلام) واليا» على مصر، استشهد في سنة (38 ه/ 659 م). ينظر. ابن حجر العسقلاني: تهذیب التهذيب (ط 1، بیروت/ 1984)، ج 9، ص 70 - 71.

56- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 119.

57- الشيخ الطوسي: الاستبصار، ج 3، ص 15.

58- ابن انس: الموطأ (ضبط وتوثیق وتخریج: صدقي جميل العطار، ط - 3، بیروت / 2002)، ص 440؛ الترمذي: المصدر السابق، ص 387؛ قطب الدين الراوندي: فقه القران (ط - 2، قم المقدسة، / 1985)، ج 2، ص 17، ابن البطريق الحلي: عمدة عيون صحاح الأخبار، ص 257.

59- الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 367.

60- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7، ص 413؛ الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقيه، ج 3، ص 15؛ السيد حسين بن السيد احمد البراقي: المصدر السابق، ص 253.

61- الثقفي: المصدر السابق، ج 1، ص 74؛ وكيع المصدر السابق، ج 2، ص 200؛ الكليني: الفروع، ج 7، ص 425؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل ابي طالب، ج 2، ص 378؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 8، ص 4؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء، ص 184؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 101، ص 290.

62- شذرات الذهب، ج 1، ص 85.

63- الثقفي: المصدر السابق، ج 1، ص 74؛ وکيع المصدر السابق، ج 2، ص 200؛ الكليني: الفروع، ج 7، ص 425؛ ابن شهر اشوب، مناقب آل ابي طالب، ج 2، ص 378؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 8، ص 5؛ السيوطي: تاریخ الخلفاء، ص 184؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 101، ص 290.

ص: 323

64- ابن ابي الحديد المعتزلي: المصدر السابق، ج 17، ص 15.

65- ابن شعبة الحراني: المصدر السابق، ص 119.

66- ابن شعبة الحراني: المصدر نفسه، ص 119.

67- الأهواز: جمع هوز واصله حوز، غیرت لكثرة استخدام الفرس لها حتى أذهبت أصلها ثم استعملتها العرب بلفظ أهواز، وهي مدينة بناها اردشیر، وهي عبارة عن سبع كور بين البصرة وفارس تقع في الإقليم الثالث وهو إقليم خوزستان وهي قصية الإقليم. ينظر المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم (تحقیق: غازي طليمات، ط - 1، دمشق / 1980)، ج 1، ص 33؛ یاقوت الحموي: معجم البلدان (تحقیق: صلاح بن سالم المصراتي، ط - 1 بیروت / 1997)، ج 1، ص 284 - 287.

68- المغربي: المصدر السابق، ج 2، ص 535؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 348.

69- أبو الأسود ظالم بن عمرو وقيل بن عویمر وقيل عمران الديلي ويقال الدؤلي، من أئمة علم النحو والعربية، كان قاضيا» لابن عباس في البصرة في خلافة الإمام علي (عليه السلام). توفي في سنة (69 ه / 688 م). ينظر ابن سعد: المصدر السابق، ج 7، ص 99؛ ابو الفرج الأصفهاني: الاغاني، ج 12، ص 359 - 368.

70- الاحسائي: عوالي اللألي العزيزية في الأحاديث النبوية (ط - 1، قم المقدسة / 1984 م)، ج 2، ص 343؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 359؛ الهمذاني، الشيخ احمد الرحماني: الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) من حبه عنوان الصحيفة (ط - 1، طهران / 1997 م)، ص 679.

71- الحر العاملي: المصدر السابق، ج 27، ص 216.

ص: 324

72- وكيع المصدر السابق، ج 1، ص 84؛ الطوسي: الامالي، ص 134؛ الماوردي: الاحكام السلطانية، ص 75؛ الطرطوشي: سراج الملوك (ط - 1، بیروت 1995)، ص 93؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: المصدر السابق، ج 1، ص 18؛ محب الدين الطبري: ذخائر العقبی، ص 94؛ الذهبي: تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والاعلام (القاهرة / 1948)، ج 2، ص 199.

73- الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 6، ص 227؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 27، ص 213.

74- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7، ص 412؛ الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقيه، ج 3، ص 15.

75- ابن قيم الجوزية: الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية (راجعه وصححه: احمد عبد الحليم العسكري، القاهرة / 1960)، ج 1، ص 8.

76. ابن تیمیه : الحسبة في الاسلام (تحقیق: عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، د: م/ د: ت)، ج 5، ص 109

77- الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 4، ص 63؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 18، ص 125 - 126؛ الكوفي: المصدر السابق، ص 141 [الا انه قال من فيء المسلمين [الاحسائي: المصدر السابق، ج 3، ص 571؛ المجلسي: المصدر السابق، ج 76، ص 188؛ الحر العاملي: المصدر السابق، ج 28، ص 258 [الا انه قال حتى يموت في السجن]؛ النوري الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي: المصدر السابق، ج 18، ص 244.

78- الشيخ الصدوق: من لایحضره الفقیه، ج 4، ص 63؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 10، ص 219؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 18، ص 227 [واضاف ان يضرب خمسين سوط كل عام].

ص: 325

79- الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر نفسه، ج 18، ص 166.

80- ينظر الشافعي: الام (بيروت / 1973)، ج 4، ص 85؛ الشوكاني: نيل الأوطار من احديث سيد الاخیار، شرح منتقى الأخبار (بيروت / د: ت)، ج 8، ص 8.

81- ينظر تفصيل ذلك في د. حميد السعدي: المصدر السابق، ص 434 - 435؛ د. محمود محمود مصطفی: شرح قانون العقوبات - القسم العام، ص 485 - 487.

82- ينظر تفصيل ذلك في د. حميد السعدي: المصدر السابق، ص 336 -341؛ کرم، جورج: قانون العقوبات معدلاً ومضبوطاً على الأصل (د: ت / د: م)، ص 65 - 66، ص 153 - 157؛ د. محمود محمود مصطفی: شرح قانون العقوبات - القسم العام، ص 537 - 539.

83- المغربي: المصدر السابق، ج 2، ص 533؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 17، ص 404.

84- سورة البقرة، آية 280.

85- الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: المصدر السابق، ج 13، ص 431.

86- المطل: هو التسويف والمدافعة بالعدة والدين. ينظر ابن منظور، لسان العرب المحيط (تحقيق: عبدالستار احمد فراج، ط - 1 بيروت/ 1985)، ج 11، ص 624.

87- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7، ص 41؛ الشيخ الصدوق: من لايحضره الفقیه، ج 3، ص 15.

88- الكليني: الفروع من الكافي، ج 7، ص 412؛ الشيخ الصدوق: من لايحضره الفقیه، ج 3، ص 15؛ البراقي:، ص 252.

ص: 326

قائمة المصادر والمراجع

خير ما افتتح به القران الكريم

اولا: المصادر الأولية

- ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن بن أبي الكرم الجزري (ت 630 ه/ 1231 م):

1- أسد الغابة في معرفة الصحابة، 5 مج (المطبعة الإسلامية، طهران، 1377 ه/ 1957 م).

- ألاحسائي، ابن أبي جمهور محمد بن علي بن إبراهيم (ت في القران العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي):

2- عوالي اللألي العزيزية في الأحاديث النبوية، (ط - 1، دار سيد الشهداء (عليه السلام) قم المقدسة، 1405 ه/ 1984 م).

- ابن انس، الإمام مالك (ت 179 ه / 795 م):

3- الموطأ (ضبط وتوثیق و تخریج: صدقي جميل العطار، ط - 3، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1422 ه/ 2002 م).

- ابن البطريق الحلي، يحيى بن الحسن بن الحسين (ت 533 - 600 ه / 1138 - 1203 م):

4- عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب أمام الأبرار أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) (مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، 1407 ه/ 1986 م).

- البغدادي، علي بن الجعد بن عبد أبو الحسن الجوهري (ت 220 - 302 ه /

ص: 327

817 - 914 م):

5- مسند أبي الجعد (تحقیق: عامر احمد جور، ط - 1، مؤسة نادر، 1410 ه/ 1990 م).

- البيهقي، الشيخ ابراهيم بن محمد (ت 470 ه / 1077 م):

6- السنن الكبرى (دار الفكر للطباعة، بیروت، د: ت).

- الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (ت 209 - 279 ه/ 822 - 892 م):

7- الجامع الصحيح - سنن الترمذي (دار احياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، 1421 ه/ 2000 م)

- ابن تيمية الحراني، ابو العباس احمد بن عبد الحليم (ت 661 - 728 ه / 1262 - 1327 م):

8- الحسبة في الإسلام، (تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، مكتبة ابن تيمية، د: م / د: ت).

- الثقفي، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد الأصفهاني (ت 283 ه/ 896 م):

9- الاستنفار والغارات (ط - 1، دار الكتاب، قم المقدسة، 1410 ه/ 1989 م).

- الجزائري، السيد نعمة الله (ت 1050 - 1112 ه/ 1640 - 1700 م):

10- قصص الأنبياء (عليهم السلام) (نشر مكتبة اية الله المرعشي، قم المقدسة، 1404 ه/ 1984).

جعفر محمد النقدي، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، 1344 ه/ 1915 م).

- ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 ه/ 1116 م):

11- صفوة الصفوة، 4 ج (تحقیق: محمود فاخوري و د. محمد رواسي قلعة جي دار المعرفة، بیروت، 1399 ه/ 1979 م).

ص: 328

- الحاكم النيسابوري، الحافظ ابو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد (ت 405 ه / 1014 م):

12- المستدرك على الصحيحين (ط - 1، دار احیاء التراث العربي، بیروت، 1422 ه / 2002 م)

- ابن حجر العسقلاني، ابو الفضل احمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م):

13- تقريب التهذيب (تحقیق: محمد عوامة، ط - 1، دار الرشید، دمشق، 1406 ه/ 1986 م).

- ابن ابي الحديد المعتزلي، عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه/ 1258 م):

14- شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط - 1، دار الجيل، بیروت، 1407 ه / 1987 م).

- الحر العاملي، العلامة الشيخ محمد بن الحسن (ت 1104 ه/ 1692 م):

15- وسائل الشيعة الى تحصيل الشريعة، (تحقيق: مؤسسة اهل البيت (عليهم السلام) الاحياء التراث، ط - 1، قم المقدسة، 1424 ه/ 2003 م):

- ابن حنبل، ابو عبد الله احمد بن حنبل (ت 241 ه/ 855 م):

16. فضائل الصحابة (تحقيق: د. وصي الله محمد عباس، ط - 1، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1403 / 1983 م).

- الذهبي، ابو عبد الله شمس الدين محمد بن احمد عثمان بن قایماز (ت 748 ه/ 1347 م):

17- تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والاعلام (مكتبة القدسي، القاهرة، 1368 ه/ 1948م).

ص: 329

- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع ابو عبد الله البصري الزهري (ت 168 -230 ه / 784 - 941 م):

18- الطبقات الکبری، 8 ج (تحقیق: محمود ابراهیم زايد، ط 1، دار صادر، بیروت / د: ت)

- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 911 ه/ 1505 م):

19- تاریخ الخلفاء (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط - 1، مطبعة منير ومطبعة السعادة، القاهرة، 1371 ه / 1952 م).

20- شرح سنن ابن ماجة (دار النشر: قدیمی کتب خانة، كراتشي / د: ت)

- الشافعي، محمد بن ادریس (ت 204 ه/ 819 م):

21- إلام، (دار المعرفة، بیروت، 1393 ه/ 1973 م).

- ابن شعبة الحراني، الشيخ ابو محمد الحسن بن علي بن الحسين (ت القرن الرابع الهجري / القرن العاشر الميلادي):

22- تحف العقول عن ال الرسول (صلى الله عليهم) (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، منشورات المطبعة الحيدرية ومكتبتها، النجف الاشرف، 1383 ه/ 1963 م).

- ابن شهر آشوب، محمد المازندراني (ت 489 - 588 ه / 1095 - 1992 م).

23- مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) (نشر: مؤسسة العلامة للنشر، قم المقدسة، 1379 ه/ 1959 م).

- الصدوق، الشيخ ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين (ت 386 ه/ 996 م):

24- من لایحضره الفقيه، (مؤسسة النشر الاسلامي، قم المقدسة، 1414 ه/

ص: 330

1993 م).

- ابن ابي طالب، الإمام علي (عليه السلام) (ت 40 ه/ 660 م):

25- نهج البلاغة (ضبط نصه ونظم فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، ط 2، دار الكتاب اللبناني، بیروت، 1402 ه/ 1982 م).

- ابن طاوس الحلي، جمال الدین احمد ابن موسی (ت 673 ه/ 1274 م):

26- بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية (ط 1، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) طهران، 1411 ه/ 1990 م).

- الطبري، ابو جعفر بن محمد بن جریر (ت 310 ه/ 922 م).

27- تاريخ الأمم والملوك، 7 ج (تحقیق وتعليق الأستاذ. عبد أ.علي مهنا، ط 1، منشورات: مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1418 ه/ 1998 م).

- الطرطوشي، محمد بن محمد بن الوليد (ت 520 ه/ 1126 م).

28- سراج الملوك (ط - 1، دار صادر، بیروت، 1415 ه/ 1995 م).

- الطوسي، الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه / 1067 م).

29- الاستبصار فيما اختلف من الاخبار (ط - 3، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1390 ه/ 1970 م).

30- الأمالي (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، مطبعة النعان، منشورات المكتبة الأهلية، النجف الاشرف، 1384 ه/ 1964 م).

31- تهذیب الاحکام في شرح المقنعة، (دار الكتب الاسلامية، طهران، 1365 ه/ 1945 م).

- ابن عبد البر النميري، ابو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 ه/

ص: 331

1070 م):

32- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4 ج (تحقیق: علي محمد البجاوي، ط - 1، دار الجيل، بیروت، 1380 ه/ 1960 م).

- ابن عقدة الكوفي، احمد بن محمد بن سعيد (ت 332 ه/ 943 م):

33- فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (جمعه و رتبه وقدم له: عبد الرزاق حمد حسين حرز الدين، ط - 1، مطبعة نكارش، قم المقدسة، 1421 ه/ 2001 م).

- ابن العماد الحنبلي، ابي الفلاح عبد الحي (ت 1089 ه/ 1678 م):

34- شذرات الذهب في أخبار من ذهب (تحقیق: شعيب الأرناؤوط، محمد نعیم العرقسوسي، ط 9، دار الكتب العلمية، بيروت ن 1413 ه/ 1993 م).

- ابو الفرج الاصفهاني، علي بن الحسين (ت 356 ه / 966 م):

35- الأغاني (تحقیق: سمير جابر، ط 2، دار الفکر، بیروت، 1409 ه/ 1989 م).

-، القضاعی، ابو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر (ت 454 ه/ 1062 م).

36- مسند الشهاب، (تحقیق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط 2، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1407 ه/ 1986 م).

- قطب الدين الراوندي، ابي الحسين سعيد بن هبة الله (ت 573 ه / 1177 م):

37- فقه القران، (ط - 2، مکتبة اية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1405 ه/ 1985 م).

- ابن قيم الجوزية، أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزرفي الدمشقي (ت 751 ه/ 1349 م)

38- الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية (راجعه وصححه: احمد عبد الحليم

ص: 332

العسكري، المؤسسة العربية، القاهرة ن 1380 ه/ 1960 م).

- ابن کثیر، عماد الدین ابوالفداء اسماعیل بن عمر (ت 774 ه/ 1372 م):

39- البداية والنهاية (تحقيق: د. فالح حسين، ط. 1، مكتبة المعارف، بیروت، 1407 ه/ 1987 م).

- الكليني، ثقه الاسلام الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الرازي (ت 328 أو 329 ه/ 939 أو 940 م):

40- الأصول من الكافي، 8 ج (صححه وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط. 6، مطبعة حيدري، نشر: دار الكتب الاسلامية، طهران، 1388 ه/ 1968 م).

41- الفروع من الكافي، (صححه وقابله وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط 4، مطبعة حيدري، نشر دار الكتب الإسلامي، طهران، 1418 ه/ 1998 م).

- الكناني، احمد بن أبي بكر بن اسماعیل (ت 762 - 840 ه/ 1360 - 1936 م):

42- مصباح الزجاجة، (تحقیق: محمد المنتقى الكشناوي، ط - 2، دار العروبة، بیروت، 1403 ه/ 1983 م).

- الكوفي، محمد بن محمد الاشعث (ت القرن الرابع الهجري / القرن العاشر الميلادي):

43- الجعفريات (الاشعثيات) (مكتبة نينوى الحديثة، طهران / د: ت).

- ابن ماجه، محمد بن یزید (ت 273 ه/ 886 م):

44- سنن ابن ماجه (تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة، بيروت / د: ت).

- الماوردي، ابي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت 450 ه/

ص: 333

1058 م):

45- الإحكام السلطانية والولايات الدينية (تحقيق: د. خالد رشيد العسلي، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1409 ه/ 1989 م).

- المجلسي، العلامة محمد باقر (ت 1037 - 1111 ه/ 1627 - 1700 م):

46- بحار الأنوار (تحقیق و نشر: مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه/ 1984 م).

- محب الدين الطبري، احمد بن عبد الله (ت 694 ه/ 1294 م):

47- ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربی (تقديم ومراجعة: جميل ابراهيم حبیب، دار القادسية، بغداد، 1404 ه/ 1984 م).

- المغربي، نعمان بن محمد التميمي (ت 259 - 360 ه / 872 - 970 م):

48- دعائم الإسلام (دار المعارف، القاهرة، 1385 ه/ 1965 م).

- المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العبكري البغدادي (ت 413 ه/ 1022 م):

49- الفصول المختارة (ط 1، طبع و نشر: المؤتمر العالمي لالفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413 ه/ 1992 م).

- المقدسي، محمد بن احمد (ت 335 - 390 ه/ 946 - 990 م):

50- أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم (تحقیق: غازي طليمات، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق ن 1400 ه/ 1980 م).

- المناوی، محمد عبد الرؤوف (952 - 1031 ه/ 1545 - 1621 م):

51- فيض القدير (ط - 1، المكتبة التجارية، القاهرة، 1356 ه/ 1937 م).

- ابن منظور، جمال الدين محمد بن بکر مکرم (ت 711 ه/ 1311 م):

ص: 334

52- لسان العرب المحيط (تحقیق: عبد الستار احمد فراج، ط - 1، دار صادر، بیروت، 1405 ه/ 1985 م).

- النسائي، أبي عبد الرحمن احمد بن شعيب الشافعي (ت 303 ه/ 915 م)

53- خصائص أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (کرم الله وجهه) (عليه السلام) (تحقيق: محمد هادي الاميني، ط. 1، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، 1388 ه / 1969 م).

- أبو نعيم الاصبهاني، احمد بن عبد الله (ت 430 ه / 1038 م):.

54- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، (تحقيق: حسام الدين المقدسي، ط . 4، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1405 ه/ 1985 م).

- الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (ت 807 ه / 1404 م):

55- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (تحرير: الحافظين العراقي وابن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي، بیروت، 1407 ه / 1987 م).

- وکیع، محمد بن خلف بن حیان (ت 306 ه/ 918 م):

56- أخبار القضاة، (تحقیق وتعلیق: عبد العزيز مصطفى المراغي، عالم الكتب، بیروت / د: ت)

- ياقوت الحموي، شهاب الدين ابو عبد الله ياقوت بن عبد الله (ت 626 ه/ 1238 م):

57- معجم البلدان (تحقیق: صلاح بن سالم المصراتي، ط. 1، دار الفکر، بیروت، 1418 ه/ 1997 م)

- اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن جعفر بن وهب الكاتب

ص: 335

(ت 292 ه/ 904 م):

58- تاريخ اليعقوبي (تحقيق: العلامة محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، مطبعة الغري، النجف الاشرف، 1358 ه/ 1939 م).

ثانيا / المراجع الحديثة:

- البراقي، السيد حسين بن السيد احمد (ت 1332 ه / 1913 م)

59- تاريخ الكوفة (استدراك: السيد محمد صادق ال بحر العلوم، تحقیق: ماجد بن احمد العطية، ط 1، مطبعة شريعين، نشر: المكتبة الحيدرية، النجف الاشرف، 1424 ه/ 2000 م).

- جرداق، جورج سجعان:

60- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية (مطبعة الجهاد، نشر دار الفكر العربي، بیروت، ج 2 - بين علي والثورة الفرنسية، 1378 ه / 1958 م).

- جعفر، د. نوري:

61- علي ومناوئوه (قدم له: الأستاذ عبد الهادي مسعود، راجعه وعلق عليه: السيد مرتضى الرضوي، ط 4، دار المعلم - مطبوعات النجاح، القاهرة، 1396 ه/ 1976 م).

- السعدي، د. حمید:

62- شرح قانون العقوبات الجديد - دراسة تحليلية مقارنة في الإحكام العامة - الجريمة والعقاب والمسؤولية الجنائية (ط - 2، دار الحرية للطباعة، بغداد 1396 ه/ 1976 م)

- الشبلنجي، الشيخ مؤمن بن حسن مؤمن (ت 1298 ه / 1880 م).

63- نور الإبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (صلى الله عليه واله وسلم) (دار

ص: 336

احیاء التراث العربي، بيروت / د: ت، اعادت طبعة دار العلوم الحديثة، بیروت، مكتبة الشرق الجديدة، بغداد).

- الصيفي، د. عبد الفتاح مصطفی:

64- حق الدولة في العقاب - نشأته واقتضاؤه وانقضاؤه (طبع: دار الأحد الجيري أخوان، بیروت، 1391 ه، 1971 م).

65- قانون العقوبات - القسم الخاص (دار المعارف، بیروت، 1387 ه / 1967 م).

- العقاد، عباس محمود:

66- عبقرية الإمام علي (دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت / د: ت).

- الفكیكي، توفیق:

67- الراعي والرعية ((المثل الأعلى)) للحكم الديمقراطي في الإسلام - شرح عهد الإمام (عليه السلام) الموجه إلى مالك الاشتر حين ولاه مصر (ط - 1، مطبعة شریعت، نشر: المكتبة الحيدرية، قم المقدسة، 1424 ه/ 2004 م).

- القندوزي الحنفي، الشيخ سليمان بن ابراهیم (ت 1220 - 1294 ه/ 1805 - 1877 م):

68- ينابيع المودة لذوي القربي (سيد علي جمال اشرف الحسيني، ط 2، دار الاسوة للطباعة والنشر، منظمة الاوقاف والشؤون الخيرية، قم المقدسة، 1422 ه/ 2002 م).

- کرم، جورج:

69- قانون العقوبات معدلا «ومضبوطا» على الأصل (د: م / د: ت).

- مصطفی، د. محمود محمود:

ص: 337

70- شرح قانون الإجراءات الجنائية (القاهرة، 1385 ه/ 1965 م).

71- شرح قانون العقوبات - القسم العام (ط - 6، مطابع دار الشعب - الاتحاد الاشتراكي العربي، القاهرة، 1384 ه/ 1964 م).

- النوري، الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي (ت 1333 ه/ 1914 م):

72- مستدرك الوسائل، (نشر مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة، 1408 ه/ 1988 م).

- الهمذاني، الشيخ احمد الرحماني:

73- الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) من حبه عنوان الصحيفة (ط - 1، مؤسسة المنير للطباعة والنشر، مطبعة افست فتاحي، طهران، 1417 ه/ 1997 م).

ص: 338

خصائص الحاكم العادل في كلمات اميرالمؤمنين (عليه السلام) عهد مالك الاشتر (رضوان الله عليه) انموذجا

اشارة

أ. م. د کریم شاتي السراجي

ص: 339

ص: 340

المقدمة

تعد مسألة الحكومة والدولة والحاكم من المسائل المهمة في حياة الانسان و المجتمعات، ومن المسائل الاساسية التي واجهها الفكر البشري منذ نشوء المجتمعات، وقد طرحت في هذا المجال نظريات واراء كثيرة و مختلفة من قبل مفكرين و ادیان و مدارس فلسفية على طول التاريخ وقد سجل لنا التاريخ شواهدا كثيرة على هذا الجهد البشري، ومن اقدم المحاولات في هذا الاتجاه ما وصل الينا من تنظير فكري رائع حول الدولة و الجمهورية من قبل فلاسفة اليونان و بالخصوص افلاطون في جمهوريته التي تحدث فيها عن العدالة و النظام وطبيعة الدولة و الحكومة وقد تأثر به الفيلسوف الاسلامي الكبير الفارابي والف على نهجه المدينة الفاضلة التي تحاكي جمهورية افلاطون في نسقها و عدالتها و حاكمها و مثاليتها.

وكان المحور في هذه المدينة هو الحاكم و الرئيس الذي يمثل الضمانة الاكيدة للدولة الفاضلة العادلة و شبهه بقلب الانسان و علاقته بباقي اعضاء الجسد فاذا صلح القلب صلح و طاب جميع الجسد واذا مرض القلب مرض وخبث جميع الجسد فكذلك الحاكم اذا صلح صلح جميع المجتمع و اذا فسد فسد جميع المجتمع وهذا المعنى يشير اليه الحديث الوارد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (صنفان من امتي اذا صلحا صلحت امتي واذا فسدا فسدت امتي الامراء والقراء)(1)

وقد عالج التشريع الاسلامي من خلال القرآن وسيرة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والسنة النبوية الشريفة هذه المسألة المهمة الحساسة من خلال بين

ص: 341

صفات و شروط الحاكم العادل وواجباته و حقوقه.

وقد حضيت مسألة الحكومة والعدالة باهتمام كبير من قبل الامام علي (عليه السلام) من خلال تجربته الفذة والرائعة والمتفردة على طول التاريخ في الحكم وادارة الدولة في عصره (عليه السلام) وقد تجسدت هذه التجربة الرائعة في الحكم من خلال سيرته (عليه السلام) و کلماته و خطبه ووصاياه الى الولاة و الامراء، و اشمل واجمل و اطول هذه النصوص واجمعها لاصول ومسائل ادارة الدولة والحكم هو العهد الذي كتبه الى واليه على مصر مالك الاشتر.

وسوف نتناول من خلال هذا العهد صفات وخصائص وواجبات و حقوق الحاكم والمسؤول العادل و اثره في بناء المجتمع والدولة الفاضلة. وقد انتظم البحث في ابعاد عدة: الايماني والاخلاقي (الروحي)، الاداري والسياسي، الاجتماعي، الاقتصادي و العسكري.

البعد الايماني والاخلاقي (التقوى)

ان المتصفح للقرآن الكريم يجد ان كلمة التقوى و مشتقاتها استعملت اكثر من مئتين مرة في القرآن الكريم وهذا التركيز والتأكيد والتكثيف لهذه المفردة يدل على اهميتها وخطورتها في حياة الانسان في الدنيا والاخرة، بل ورد في بعض الآيات ان التقوى سبب لنزول البركات و استقرار المجتمعات قال تعالى «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» الاعراف 96، فالتقوى اصل لكل فضيلة ولذلك نجد ان القران الكريم في كثير من الايات المباركات يوصي بالتقوى وايضا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الائمة (عليه السلام) فتجد خطب وكلمات سيد البلغاء والمتكلمين مشحونة بهذه المفردة فلا تخلو كلمة له

ص: 342

(علیه السلام) من الاشارة الى هذه الخصلة التي تعد سببا لسعادة و استقرار وثبات المجتمعات في الدنيا والاخرة.

ان اول وصية للامام (عليه السلام) تضمنها عهده الى مالك الاشتر هي وصية التقوى حيث جاء في العهد (امره بتقوى الله وايثار طاعته واتباع ما امر به في كتابه من فرائضه و سننه التي لا يسعد احد الا بأتباعها ولا يشقى الا مع جحودها و اضاعتها)(2)

حيث ان الامام (عليه السلام) ربط سعادة الانسان وشقاوته باتباع التقوى و تضييعها. فما المقصود بالتقوى؟

التقوى في اللغة من وقى، وكل ما وقى شيئا فهو وقاء له وقاية3.

وايضا هي حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره، وجعل النفس في وقاية مما يخاف، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفا، ثم صار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عما يؤثم وذلك بترك المحضور(4).

و في الاصطلاح: هو الاحتراز بطاعة الله عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل او ترك(5).

وعرفها الامام الصادق ع ((ان لايفقدك حيث امرك وان لايراك حيث نهاك))(6)

وعليه فالتقوى تعني الالتزام بالاوامر الالهية والانتهاء عن النواهي الالهية. وهي الرقيب الداخلي الذي يحفظ سلوك الانسان عن الزيغ والخروج عن الطريق السوي الذي امر الله تعالى به.

فالتقوى تعتبر صمام امان و ضابط مهم لكل فرد في المجتمع و بالخصوص للحاكم لانها تمنعه ان ينحرف بتأثير شهواته و مطامعه واهوائه و ان يتعالى على نفسه

ص: 343

ليستطيع ان يحكم بين الناس بالعدل والانصاف فلا يجور ولا يتعسف ويضع نصب عينيه رضا الله تعالى فينتصر للمظلوم من الظالم ويرجع الحقوق الى اهلها.

ان النظام الاخلاقي والقيمي في الاسلام يربط الانسان ربطا اكيدا بالله تعالى ويعتبر الانسان موجودا له عمر غير متناه تمتد حياته الى ابعد من هذه الحياة الدنيا المحسوسة الى حياة اخرى لا يموت فيها وان الانسان مخلوق لله تعالى لا يملك حولا ولا قوة الا بأذنه فهو موجود رابط فقير غير مستقل يحتاج في كل ان الى المدد الالهي و هذه الحقيقة لمن يستشعر بها لها تأثير كبير على اخلاق وافعال الحاكم وبهذا الصدد يقول امير المؤمنين: (انا وانتم عبيد ملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من انفسنا)(7)

فمن يعيش هذا الاحساس والشعور تجاه خالقه وربه فلا شك سوف يقوم باعماله على افضل ما يكون و ينضبط ضمن اوامر خالقه و ربه وهذا بدوره يؤدي الى قيام دولة العدل والانصاف بواسطة عدالة هذا الحاكم،

فالحاكم الذي له علاقة بهذا المستوى مع الله تعالى لا يظلم احدا قطعا ولهذا يقول الامام علي (عليه السلام) (والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته وان دنياكم عندي لا هون من ورقة في فم جرادة تقضمها)(8)

ولذلك كلما كان الحاكم على معرفة و ارتباط بالله تعالى كلما كان ملتزما بالاوامر الالهية مطيعا لشرع الله و قوانينه بين الرعية.

ان ضبط النفس عن الهوى والغضب والميول والرغبات يرتبط ارتباطا وثيقا بالخوف من الله تعالى وتقواه الذي ينعكس على تعامل الحاكم مع رعيته بالعدل والانصاف والرحمة وعدم الاستهتار بأموال المسلمين و التصرف بها على انها ملك

ص: 344

خاص للحاكم يفعل بها كيفما شاء.

يقول امير المؤمنين (عليه السلام) (أأقنع من نفسي بأن يقال ((امير المؤمنين)) ولا اشاركهم في مكاره الدهر؟ أو اكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها...)(9)

فالتقوى تمثل حصانة للحاكم و المسؤول عن خيانة الامة في الاموال والانفس والاعراض.

ولذلك نجد سيرة ائمة العدل و في مقدمتهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امير المؤمنين و امام المتقين شديد الحرص على حفظ اموال الامة و اعراض وارواح الناس بل تعامل مع اعدائه بالعدل والانصاف وهذا ما حصل في معركة صفين عندما منع العدو الماء عن جيش الامام علي (عليه السلام)

و عندما كان الماء تحت سيطرتهم وبعد ان دفعهم جيش الامام عن الماء لم يمنعهم (عليه السلام) من الماء و قال ان الماء للجميع، وكذلك ما صنع في معركة الجمل حيث حكم شرع الله ولم يتعداه فلم يسبي النساء والذراري وانما اقتصر على اموال الناكثين التي كانت في ساحة المعركة(10).

وايضا مقولته المعروفة في حق الخوارج ((لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطائه كمن طلب الباطل فأصابه))(11)

و ما ورد عن سيرة عمر بن عبد العزيز حيث رفع السب عن امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) و اعاد بعض الحقوق الى اهلها و كان يقال ان سبب هو تدينه و تقواه التي تميز بها عن باقي خلفاء بني امية(12).

ص: 345

فالتقوى تمثل ركنا اساسيا و شرطا مهما للحاكم العادل التي من خلالها يستطيع الحاكم ان يحكم بالقسط والعدل وبهذا الصدد يقول الامام الحسين (عليه السلام) من كتاب له الى اهل الكوفة: ((فلعمري ما الامام الا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله تعالى))(13) فحبس النفس و الهوى هو عين التقوى وهو الذي يجعل الحاكم قائما بالقسط والعدل لان اساس الظلم اتباع الهوى وحب الدنيا و طول الامل ولذلك قال امير المؤمنين (عليه السلام) ((اني اخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى و طول الامل فاما اتباع الهوى فانه يرد عن الحق واما طول الامل فينسي الاخرة))(14)

وقد اتفق المسلمون(15) على ان الامام لابد ان يكون عادلا حتى لا يجور في حكمه بل الامامية(16) اشترطوا ان يكون معصوما وذكروا لذلك ادلة عقلية ونقلية.

وعليه فعدالة الحاكم موضع اتفاق جميع المسلمين و لها اثر بالغ في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية وحفظ المجتمع و الامة من الانحراف والفساد والضياع.

ولذلك كلما كان الحاكم عادلا متقيا كان رحيما رفيقا شفيعا على ضعاف الناس واهل الحاجة والمسكنة قويا في وجه المستكبرين والظلمة وقد وعد الله المتقين بالمفاز والجنة والرضوان قال تعالى (ان للمتقين مفازا حدائق واعنابا).

ص: 346

البعد الاداري والسياسي

يتضمن عهد الامام (عليه السلام) الى مالك الاشتر قواعد واصول مهمة للعمل الاداري والسياسي بشكل عام و للحاكم والوالي و المتصدي لامور الناس بشكل خاص.

القاعدة الاولى: الاعتبار بتجارب الحكام السابقين

ومن هذه القواعد النظر والتأمل في مسيرة الحكام السابقين وان يراقب الحاكم نفسه بعين العامة والمحكومين.

وقد عبر عنها الامام (عليه السلام) بقوله: (اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك و يقولون فيك ماكنت تقول فيهم و انما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده، فليكن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح))(17)

في هذا النص يؤصل الامام لقاعدة مهمة في ادارة الحكم وهي ان الحاكم يراقب خلال سيرة الحكام السابقين و يعتبر بها و يجعل نفسه في صفوف المحكومين والعامة في تقييم اعماله و هذا كلام في غاية الروعة لان الانسان بطبعه عندما يكون ضمن العامة ينظر الى تصرفات الحاكم

بطريقة مختلفة عن الحاكم نفسه و بذلك تكون حكومته وقراراته منطلقة من حاجات الناس ومن رغبة الشعب و عامته واذا كان الحاكم بهذه الصورة فان الله تعالى قد جعل له سننا تجري في عباده ومن هذه السنن الذكر الطيب والرضا من قبل عامة الناس على

ص: 347

هذا الحاكم ان هذه الوصية جعلها الامام في اول وصاياه وعهده الى مالك الاشتر لانها في غاية الاهمية وذلك لان اغلب الذين يتصدون للحكم و المسؤولية يتناسون انتقادهم لاعمال الحاكم والمسؤول عندما کانوا ضمن المحكومين و عامة الناس فينفصل تماما عن تلك المرحلة (مرحلة المحكوم) و يمارس دور الحاكم بدون الاستفادة من تجربته عندما كان محكوما و ضمن عامة الناس و الشعب و هذه الصفة تجعل الحاكم بعيدا عن رغبات و طموح عامة الناس. وهذا ما حصل لمن تولى الحكم بعد عام 2003 م في العراق حيث ان الحكام لم يعتبروا من تجربة النظام البائد مع الشعب العراقي و تناسوا معاناتهم و الامهم وانتقاداتهم و معارضتهم للنظام البائد عندما كانوا في المعارضة و اليوم الكثير منهم يكرر كثيرا من اعمال الظلمة و كان جديرا بهم و بالخصوص اتباع اهل البيت و من يدعون بالرجوع الى الامام علي (عليه السلام) ان يجعلوا سيرة الامام و کلماته و عهده لمالك الاشتر المليء بالوصايا المهمة في مسألة ادارة الدولة و المجتمع موضعا للتطبيق، وهذه الوصية تدعو الى اعطاء اهمية كبيرة لرأي العامة و الشعب. وهي من القوانين المتقدمة في الفكر الانساني في هذا المجال.

القاعدة الثانية: الرحمة والمحبة و اللطف بالناس وعامة الشعب

وهذه القاعدة لها اثر كبير في التفاف الجمهور و عامة الناس حول القائد و الحكام والمسؤول و قد وضع الامام (علیه السلام) مبدأ انسانيا و اخلاقيا عظيما للتعامل مع المجتمع على اساس المشتركات معهم اما باخوة الدين واما باخوة الانسانية حيث قال (عليه السلام): (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان اما اخ لك في الدين و اما نظير لك في الخلق))(18)

فهذه الوصية من الامام قبل 1400 سنة حيث كانت المفاهيم القبلية و الشعوبية

ص: 348

والعنصرية هي السائدة فالأمام له الريادة والسبق في وضع قانون انساني مهم يحترم الانسان لأنسانيته ويعلو من قيم المحبة والاخاء بين ابناء النوع الانساني وهذا بالواقع هو منطق القرآن (اكرمكم عند الله اتقاكم)الحجرات 13

((وقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس سواسية كأسنان المشط))(19)

فالأمام (عليه السلام) يضع قاعدة مهمة لتعامل الحاكم مع ابناء شعبه وان كان بعضهم من اديان اخرى فالاخوة الدينية مع ابناء دينه والاخوة الانسانية مع ابناء الاديان الاخرى، فالحاكم في منطق الامام (علیه السلام) اب للجميع و ليس طاغوتا و مستبدا بل قلبه مليء بالرحمة والعفو و الحب و هذا ما جسده امير المؤمنين (عليه السلام) عندما تصدى للحكم ابان خلافته (عليه السلام) و الامام يوصي الحاكم بان يعطي من عفوه وصفحه للمسيء من عامة الناس ((ولا يكونن عليهم سبعا ضاريا))(20) لان مسؤولية الحاكم مسؤولية انسانية قائمة على العلاقة الطيبة بينه و بين عامة الناس فهو كالأب الحنون الحريص على مصالحهم الذي يأخذ بأيديهم الى مواطن الخير والصلاح فاذا فعل ذلك فسوف يحصل على ثقة الناس و محبتهم و تعاونهم وان الله تعالى سوف يجري له الذكر الطيب على السنتهم و هذا وعد الهي.

القاعدة الثالثة: انصاف الناس

يتعرض الامام (عليه السلام) في هذه الفقرة الى قاعدة مهمة في الادارة والتصدي للمسؤولية وهي عملية انصاف الحاكم الناس من خاصته حيث قال (عليه السلام) ((أنصف الله و أنصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن فيه هوى من رعيتك فانك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباده الله كان الله خصمه))(21)

ص: 349

العدال والانصاف اساس الحكم و دوامه فان الملك يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم فالحاكم و المسؤول العادل الذي يعطي الناس حقهم من نفسهم و من خاصته سوف تكون له مكانة مكرمة ومقدسة عند عامة الناس و بالتالي سوف يكون موضع رضا الله تعالى و نصره وبعكسه سوف يكون مبغوضا من الناس مبغوضا من الله تعالى وكان من خصماء الله تعالى و اعدائه فيأذن بحرب من الله تعالى، و من دواعي تغيير النعم و زوالها هي ظلم العباد لان دعوة المظلوم ليس دونها حجاب بل تخرق الحجب وبهذا الصدد يقول الامام (عليه السلام) ((وليس شيء ادعى الى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته، من اقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد))(22)

القاعدة الرابعة: مداراة العامة على حساب الخاصة

الامام في هذا العهد يضع وصية مهمة للحاكم و المسؤول وهي مداراة العامة على حساب الخاصة من الاقارب والوجهاء واصحاب الثروة و المناصب.

وذلك لان الخاصة يشكلون عبئا على الحاكم و لانهم اصحاب امتيازات بخلاف العامة الذين تقع عليهم اعباء الحرب ومقارعة الاعداء و البناء و الزراعة والصناعة فهم عماد الدين و جماع المسلمين، فإرضائهم على حساب الخاصة لا يؤثر على الامور العامة و مصلحة الدولة و الناس بخلاف ارضاء الخاصة على حساب العامة لان العامة تقع على عاتقهم الاعمال الجسام وادامة المصالح العامة من الدفاع عن كيان الدولة و محاربة الاعداء ومن القيام بتوفير الحاجات الاساسية للدولة من خلال الزراعة و الصناعة و امور اخرى وقد عبر الامام (عليه السلام) عن هذه القاعدة بقوله: (فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة)(23)

ص: 350

القاعدة الخامسة: اختيار المستشارين

في هذه الوصية الإمام (عليه السلام) يوصي الحاكم و الوالي و المسؤول ان لا يدخل في مشورته بخيلا ولا جبانا ولا حريصا.

مما لاشك فيه ان الحاكم لا يستغني عن المستشارين و لذلك عليه ان ينتخب منهم الشجاع والكريم واهل الحكمة و العقل لان البخل والجبان والحرص صفات مذمومة وسيئة تؤدي الى اخطاء جسيمة وتوقع الحاكم في امور يذم عليها وقد جاء في وصيته (عليه السلام) بهذا الصدد: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانا يضعفك عن الامور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله تعالى))(24)

ان مركز الخطر في المستشارين والمقربين من الحاكم يجعلونه ينظر الى الامور من وجهة نظرهم وعليه فكلما كانوا يتمتعون بصفات صالحة و خيرة كانت اراء الحاكم صالحة و سديدة والعكس صحيح. ولذلك الامام (عليه السلام) يوصي الحاكم بمشاورة العلماء و الحكماء وان صلاح الامة وخيرها يرتبط بمشاورة اهل الخبرة واهل الاختصاص من العلماء والحكماء و بهذا الصدد يقول الإمام (عليه السلام): (واکثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء في تثبیت ماصلح عليه امر بلادك و اقامة ما استقام به الناس قبلك)(25)

وهذا النص في غاية الروعة و الدقة لانه يرسم للحاكم المسار الصحيح في اتخاذ المستشارين و المقربين اليه.

القاعدة السادسة: استبعاد اعوان الظلمة من مواقع المسؤولية

هذه وصية مهمة من الامام (عليه السلام) للحاكم العادل في استبعاد وعدم استوزار او تقريب او جعل في بطانته ما كان وزيرا للظلمة لان هؤلاء اصحاب

ص: 351

تاریخ سيء تجاه عامة الناس وفي رقابهم مظالم و اثام كثيرة واصحاب نفاق وليس لهم اخلاص حقيقي تجاه الحكومة الجديدة و انما هم اصحاب مصالح شخصية لا يتوانون في خذلان الدولة و تخريبها، ثم ان هؤلاء يمثلون مرحلة ظالمة كانت لها ضحايا كثيرة من عامة الناس و لذلك وجودهم ينفر العامة والمظلومين من قبلهم فعلى الحاكم العادل ان لا يقرب هؤلاء اليه و يستبعدهم من التصدي لامور العامة و الناس لانهم اعوان الظلمة فهم لا دين لهم ولا ضمير عندهم. وقد جاء في وصيته (عليه السلام) ((ان شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الاثام، فلا يكونن لك بطانة فانهم اعوان الأئمة واخوان الظلمة وانت واجد منهم خير الخلف))(26)

على اهميتها هذه الوصية الا ان الذين تصدوا للحكم في العراق من اتباع علي (عليه السلام) لم يعملوا بهذه لوصية فقد جعلوا اعوان الظلمة من بطانتهم و استوزروهم وسلطوهم على رقاب الناس في مواقع شتی ومهمة في ادارة الدولة و السبب في ذلك ان هؤلاء منافقون متملقون يزينون الامور للمتصدي والمسؤول على حساب الحق والحقيقة فلا يواجهونه بمر الحق وعادة المسؤول ينسجم نفسيا مع هؤلاء و يبعد من يجاهر بالحق والحقيقة من المخلصين ثم ان الامام (عليه السلام) عندما يوصي الحاكم بعدم استوزار الظلمة يوصیه من جهة اخرى في مكان اخر من العهد بان يقرب منه ويلصق نفسه باهل الاحسان واهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة و اهل النجدة والشجاعة والسخاء و السماحة(27).

ومما لاشك فيه ان الحاكم عندما يجعل بطانته و مقربيه من اهل هذه الصفات سوف يكونون له عونا على الخير والصلاح وكل ما ينفع الامة لانهم كما عبر عنهم الامام علي (عليه السلام) ((جماع من الكرم وشعب من العرف)(28)

ص: 352

القاعدة السابعة: اعطاء كل ذي حق حقه

في هذه الوصية يوجه الامام (عليه السلام) الحاكم في كيفية التعامل مع الناس و ان لا يجعل المحسن والمسيء في كفة واحدة و بمنزلة سواء لان هذا العمل سوف يقتل حالة الابداع عند المحسن والناس الاخرين من اهل الاحسان و يطمّع المسيء في اسائته و تغيب الموازين الحقة في التمييز بين اهل الاحسان واهل الباطل فعلى الحاكم ان يشعر المحسن باحسانه من خلال اساليب كثيرة لا يعدمها الحاكم من خلال الشكر والتقدير والهدايا والتصريح باعماله الحسنة على رؤوس الاشهاد وايضا بالنسبة للمسيء لابد من محاسبته على قدر اسائته و اشعاره بتقصيره حتى يتجاوزها في القابل ويعبر عن هذه الوصية بقوله (عليه السلام) (ولايكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان و تدريبا لاهل الاساءة على الاساءة)(29) فالمحسن لابد ان يكافأ لاحسانه والمسيء لابد ان يجازى باسائته حتى يعتبر به غيره.

القاعدة الثامنة: عدم نقض السنن الصالحة السابقة

هنا الامام (عليه السلام) يوصي الوالي بالمحافظة على السنن الصالحة التي كانت سائدة قبله وعدم نقضها لان فيها خير للامة و للصالح العام فيجب ادامتها والعمل على وفقها وان كانت من صنع حكام سابقين ظالمين لان المدار العمل الصالح ((الحكمة ضالة المؤمن))(30) فلا ينبغي على الحاكم التفريط بها مازالت موضع اجتماع وصلاح الامة، وهذه الوصية تشير الى احترام العادات و التقاليد للشعوب التي لا تتقاطع مع الشريعة الاسلامية و بلا شك هذه الوصية تؤدي الى الالفة و المحبة بين الحاكم والمحكومين، والحاكم حقيقته امين على مصالح الامة فلا يتحرك من خلال انانيته و نزعته الشخصية فينظر نظرة سيئة تجاه اعمال الحكام السابقين وان

ص: 353

كانت صالحة و خيرة مادامت لا تحمل اسمه.

القاعدة التاسعة: الاتصال المباشر مع الناس

يضع الإمام (عليه السلام) قاعدة مهمة في ادارة الدولة وهي تواصل الحاكم و المسؤول مع الناس بشكل مباشر وعدم الاحتجاب عنهم لان الاحتجاب عن الناس يؤدي الى القطيعة بين الحاكم والمحكوم بينما التواصل يؤدي الى حالة المحبة والالفة والتواصل من قبل الحاكم مع شعبه و يطلع بصورة مباشرة على حاجاتهم و امورهم مما يؤدي الى التفاف الشعب حول الحاكم والوالي و يغلق الباب امام العصيان و الثورات من قبل الشعب على الحاكم وهذه الوصية تعد من اساسيات الحكومة الصالحة العادلة.

فيقول الامام (عليه السلام) ((فلا تطولن احتجابك عن رعيتك))(31)

القاعدة العاشرة: عدم المن على الرعية باعماله الصالحة

وهذه من الوصايا المهمة للحاكم العادل ان لا يمن على رعيته بصالح اعماله و ينتقصهم من خلال ما يقدم لهم من اعمال و يذكرهم دائما بانهم كانوا اصحاب عوز و حاجة و فقر و بجهوده اصبحوا اهل خير وغني و هذا ما يحصل دائما من قبل الحكام الظلمة عندما يقومون بأبسط الاعمال يمنون على الشعب بها وهذا ما كان يردده النظام البائد فكان يذكر الناس بأنهم كانوا حفاة واهل فقر و حاجة وبجهوده الشخصية اصبحوا بهذا الواقع الجديد فيقول الإمام (عليه السلام) (اياك و المن على رعيتك باحسانك)(32).

ثم ان الامام يوصي الوالي ان لايحدث سنة تضر بالسنن الصالحة السابقة لانه

ص: 354

يصدق عليه ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة عليه وزرها و وزر من عمل بها الى يوم القيامة))(33) وقد جاء في هذه الوصية ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة))(34)

البعد الاجتماعي والاقتصادي والعسكري

الامام (عليه السلام) في وصيته الى مالك الاشتر يقسم و يصنف المجتمع الى طبقات و الامام (عليه السلام) يستعمل مصطلح الطبقة و يريد منه الذين ينتمون الى نشاط مهني واحد کالجنود والزراع و القضاة والتجار ... فالتقسيم و التصنيف على اساس العمل و المهنة و ليس على اساس مناطقي او عنصري او قومي او اسياد و عبید، و هذا التقسيم يتناسب مع نسق المدينة المتنوعة و لمتحضرة و الكبيرة لا القرية الصغيرة لان مجتمع المدينة مجتمع يتبادل المصالح و المنافع و التخادم فيما بينهم فالجنود يقدمون الامن للمجتمع والزراع يقدمون مزروعاتهم و منتجاتهم للناس و لولاهم لحصل القحط و هكذا كل صنف من الاصناف يقوم بتقديم خدمة للمجتمع تكون قوامه واستمراره فيقول الإمام (عليه السلام) في وصيته: ((واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض:

فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها اهل الجزية و الخراج من اهل الذمة و مسلمة الناس، ومنها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة))(35)

الامام علي (عليه السلام) في هذا النص الذي يشير الى علم الامام للمجتمع ومكوناته و مسؤولياته وما يصلحه فان الامام (عليه السلام) يصنف المجتمع على اساس المهن والاعمال وان هذا التصنيف يقتضي التعاون و التلاحم و التخادم بين

ص: 355

ابناء المجتمع لان صلاحهم يقوم على تعاونهم وهلاكهم يقوم على تصارعهم وان كل صنف من هذه الاصناف لا تستقيم اموره الا بالتعاون مع الاصناف الاخرى وهذه طبيعة المجتمع المدني القائم على تبادل الخدمات و المنافع ثم ان الامام علي (عليه السلام) صنف المجتمع الى هذه الاصناف لغاية و لغرض هام هو وضع مناهج و عمل و مسؤوليات وقوانين لكل طبقة (حقوق وواجبات)

ثم ان الامام علي (عليه السلام) يتكلم عن حالة التداخل والتخادم والتعاون بين الطبقات من الجنود والزراع و القضاة...) وانه لا غنى لصنف عن الاصناف الاخرى فان مصالحهم متداخلة متوقفة على المصالح الاخرى لتلك الطبقات فالجنود تقع على عاتقهم حفظ امن البلد من الداخل والخارج وان قوام معيشة الجند يعتمد على ما يقوم به الزراع و التجار من اعمال تستوجب الخراج والضرائب الذي يمد الدولة بالاموال فتقوم الدولة بإعطاء المعاش لهذه الشريحة وهذه يحتاج الى جهاز اداري من القضاة والكتبة لتسيير امور الدولة و الاشراف على هذه النشاطات، و حل النزاعات عن طريق القانون ولولاهم لغاب القانون و سيطر القوي على الضعيف و ضاعت الحقوق وغابت الدولة و اصبح الهرج المرج.

ثم ان الامام (عليه السلام) يوصي الحاكم في كيفية اختبار الجند والقادة و يضع له منهجا دقيقا و رائعا في الاختيار الناجح فأول الصفات والمزايا للجند و القادة التدين والخوف من الله تعالى وقد عبر عنها الامام بالنصيحة الله و للرسول و للامام.

ثم الصفة الثانية ان يكون امينا طاهرا لا يتعدى على اموال الاخرين و يراعي حقوقهم فعبر عنها (واطهرهم جيبا)(36)، وايضا من صفاته ان يكون عونا وسندا للضعفاء و الفقراء شديدا على الاقوياء والظلمة.

ثم انتخابهم واختيارهم من البيوتات الصالحة و اهل التاريخ الحسن ويتصفون

ص: 356

بالنجدة والشجاعة والسخاء و السماحة وهذه الصفات مجمع الخير والصلاح ولها اثر كبير في اشاعة العدل والإنصاف و المحبة والألفة بين عموم الناس.

ثم ان الامام يوصي الوالي ان يتفقد و يتعاهد حوائج الجند باستمرار ويشعرهم بالمحبة والرعاية حتى يبادلونه التضحية والاخلاص والثقة في سبيل حفظ امن الدولة وصد العدوان فيقول (عليه السلام) ((ثم تفقد من امورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما))(37)

ثم ان الامام يوصي الوالي بوصية مهمة جدا للجند و لغيرهم و هي حسن الثناء عليهم وابراز محاسنهم وشجاعتهم ونجدتهم فانها تثير العزيمة فيهم و تدفع بقليل الهمة الى الاندفاع و التسامي نحو النجدة و الشجاعة والبسالة وهذا اسلوب رائع لتشجيع الضعيف والخامل دون لومه واظهار عيوبه لكن من خلال الثناء على المحسن فيقول (عليه السلام) ((وواصل في حسن الثناء عليهم و تمدید ما أبلی ذوو البلاء منهم فان كثرة الذكر الحسن افعالهم تهز الشجاع و تحرض الناكل ان شاء الله))(38)

الإمام (عليه السلام) يضع ضوابط للقائد الذي يكون موضع قرب واهتمام و استخلاص من قبل الوالي ان يكون مواسيا لجنوده في السهر على توفير الضروري من حاجاتهم وعوائلهم حتى يشعروا بالاطمئنان على مستقبلهم ومستقبل اولادهم لكي يقوموا بأداء واجباتهم على افضل ما يكون، وهذه اشارة مهمة من الامام (عليه السلام) لاصلاح طبقة العسكر.

ثم ان الإمام (عليه السلام) يستعرض وصاياه للولي في طبقة القضاة و الحكام الذين يحكمون بين الناس فيذكر الامام (عليه السلام) مجموعة من الصفات والمميزات التي يجب ان يتوافر عليها القاضي والحاكم لان القاضي والحاكم تقع عليه مسؤولية كبيرة ومهمة في اقامة العدل و الانصاف بين الناس، فالقضاء في الاسلام

ص: 357

بمثل مؤسسة مستقلة بذاتها عن الحكومة والسلطة التنفيذية و لا تتدخل في امورها ومن هذه الصفات:

89. 1- ان يكون عالما كثير الاطلاع والدراية و الخبرة بحيث لا تضيق عليه الامور قادرا على اعطاء الحلول و الاحكام بين الخصوم قال (عليه السلام) ((اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور..))(39)

90. 2- عفیف النفس (لا تشرف نفسه على طمع)(40) وهذه الصفة جدا ضرورية للقاضي حتى لا يميل في حكمه لمن يبذل له او يتوقع منه نفعا او مصلحة.

91. 3- دقيقا صبورا قوي الحجة والبرهان لا يتسرع في الشبهات وهذا المعنى يشير اليه قوله (عليه السلام) ((ولا يكتفي بأدنی فهم دون اقصاه و اوقفهم في الشبهات و اخذهم بالحجج))(41)

ثم ان الامام يوصي الوالي بأن يتعهد القاضي في البذل والعطاء لكي لا يقع في الحاجة و العوز التي قد تؤدي عند ضعفاء النفوس الى الجور في الحكم لمن يبذل لهم لكي يبقى القضاء نزيها مستقيما لا يؤثر عليه احد وكذلك يجب ان يأخذ مكانه الاجتماعي اللائق به وان يكون موضع اهتمام و تواصل من الوالي حتى لا يتوسل الى الاخرين في اموره فلا يطمع احد فيه من اصحاب الجاه والثروة، فيقول الإمام (عليه السلام) ((ثم اكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علته و تقل سعة حاجته الى الناس، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك))(42).

ومن وصايا الامام علي (عليه السلام) للوالي في كيفية اختيار عماله لادارة امور ولايته و دولته ان لا يختارهم على اساس القرابة و المحاباة بل على اساس المهنية و

ص: 358

الادارة الناجحة من خلال اختبارهم و مراقبتهم.

وان يكونوا من اهل الحياء و من اهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام ومن اصحاب الاعراض الطيبة الشريفة وهذه وصايا من الامام في غاية الروعة للحاكم والمسؤول الذي يريد ان يدير دولته او مؤسسته بطريقة ناجحة وعادلة ان يعتمد على اشخاص يحملون هذه المواصفات التي تؤهلهم للقيام بأعمالهم على اتم وجه فالحياء في الحديث ((شعبة من شعب الايمان))(43).

((ولكل دين خلق وخلق الاسلام الحياء))(44) فالحياء صفة مهمة للانسان الذي يريد ان يتولى مسؤولية، وايضا كونه من اهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام، فان لهما اثرا كبيرا على شخصية المتصدي تمنعه من الانحراف عن طريق الحق لان التاريخ المشرق والسمعة الوطيبة بلا شك يكونان حصنا له ازاء الضغوطات المادية والدنيوية.

وقد جاء في هذا الصدد عنه (عليه السلام) ((ثم انظر في امور عمالك ما ستعلمهم اختبارا و لا تولهم محاباة و أثرة فانهم جماع من شعب الجور والخيانة و توخ منهم اهل التجربة و الحي-اء م-ن اهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام..))(45).

ثم ان الامام يوصي الوالي والمتصدي ان لا يعتمد على فراسته و حسن ظنه في اختيار رجال الدولة بل يعتمد على التجربة و الاختبار و التاريخ الطيب و الحسن في خدمة الناس لان الكثير من هؤلاء يستطيعون التمويه على الوالي و خداعه من خلال تملقهم وحسن خدمتهم وتصنعهم في التقرب للحاكم لانهم اصحاب مصالح خاصة و لا يهمهم امر الدولة والشعب و هي وصية في غاية الاهمية للمتصدي فيقول الامام (عليه السلام) ((ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك و استنامتك و حسن الظن منك فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم و ليس

ص: 359

وراء ذلك من النصيحة والامانة شيء ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فأعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا و اعرفهم بالامانة وجها))(46).

ثم ان الامام (عليه السلام) يوصي الوالي بوصايا تحفظ سلامة ادارة الحكام و عدم الاستنتثار فيما تحت ایدیهم من اموال واعمال واعراض و حقوق الناس، فيوصیه بسد حاجتهم من بیت المال بحيث تخصص لهم رواتب تجعلهم في غنی و کفاية و تضمن لهم حياة معيشية كريمة و ذلك لتحصينهم من خيانة ما تحت ایدیهم من اموال ولاقامة الحجة عليهم فيما لو خانوا الامانة و تعدوا على حقوق الناس والعامة و بذلك يوصي الامام بوضع الرقباء و المفتشين والعيون على ادارتهم واعمالهم حتى يشعروا بمراقبة الوالي لهم فيكون ذلك مانعا من الظلم والعدوان والتفرد في امور ادارتهم واعمالهم.

وبهذا الصدد يقول الامام (عليه السلام): ((ثم اسبغ عليهم الارزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت ایدیهم وحجة عليهم ان خالفوا امرك او ثلموا امانتك ثم تفقد اعمالهم و ابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم))(47).

ثم ان الامام يوصي الوالي في حال اذا ثبتت خيانة على عامل من عماله او موظف في حكومته فلابد من معاقبته بما يستحق لكي يكون عبرة لغيره كما جاء في قوله تعالى «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة 179

اما في الجانب الاقتصادي فان الامام (عليه السلام) يضع وصايا مهمة في هذا المجال منها ما يتعلق بامر الخراج و جباية الضرائب و اصلاح الارض وعمارتها، فان الدولة لا يمكن ان تقوم بدون هذه الامور لان معيشة الناس من الجند وموظفو الدولة و غيرهم يعتمدون على هذا الرافد المهم ولذلك على الوالي ان يحسن ادارته

ص: 360

وان يعمل على اصلاح الارض و عمارتها وتوفير فرص العمل مما يؤدي الى اصلاح المجتمع و تقدمه و سعادته ثم ان الوالي عليه ان يتبع سياسة عادلة في جباية الضرائب من دون ان تؤدي الى افقار الناس والاضرار بهم وتخريب الاراضي الزراعية فعلى الوالي ان يهتم اولا بأصلاح الارض و زراعتها وتوفير كل مستلزمات اعمار الارض قبل التفكير في طلب الخراج و لذا يقول الامام (عليه السلام) في وصيته: ((وتفقد من امر الخراج بما يصلح اهله فأصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح عن سواهم الا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله، وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد و اهلك العباد))(48).

وعليه فان سياسة الوالي في الضرائب اذا كانت عادلة ومنصفة وذات نظرة بعيدة سوف تؤدي الى اعمار الارض و زراعتها.

اما اذا كانت سياسة جائزة قائمة على عدم مراعاة الزراع وفرض ضرائب تثقل كاهلهم دون النظر الى واقعهم و ظروفهم سوف تؤدي الى هجران الارض و تركها و بالتالي يصبح البلد لا يجد قوته لان الزراعة هي اساس اقتصاد الدولة و خرابها ينعكس على جميع الاصعدة السياسية و التجارية والدفاعية و لذلك وصى الامام (عليه السلام) في جباية الضرائب بالرفق بأصحاب الارض وعدم اثقال كاهلهم بالضرائب المجحفة لانه سوف يؤدي الى اعوازهم ثم الى عدم قدرتهم على زراعة الارض و هجرانها حيث يقول (عليه السلام) (والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم ... و انما يؤتى خراب الارض من اعواز اهلها))(49)

اما وصية الامام (عليه السلام) بخصوص التجار و اصحاب الصناعات مما لاشك فيه ان التجار واصحاب الصناعات يشكلان اركان مهمة في السياسة وفي

ص: 361

اقتصاد الدولة فالأمام يوصي الوالي بهم خيرا أي انه تقع على عاتق الدولة حمايتهم و توفير الامن لهم و حماية اموالهم و تيسير حركة تجارتهم و تهيئة مستلزمات اعمالهم، فيقول (عليه السلام) (ثم استوص بالتجار و ذوي الصناعات و اوص بهم خيرا)(50)

ومن جهة اخرى الامام (عليه السلام) يوصي الوالي بمراقبتهم ليمنع الاحتكار الذي يقوم به بعض التجار من ضعاف النفوس و اصحاب الشأن لان الاحتكار يمثل خطرا كبيرا على مصالح العامة ولذلك الشريعة المقدسة حرمة الاحتكار ومنعته فقال (عليه السلام) بهذا الصدد: ((واعلم ان في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحا قبيحا، واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات و ذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه))(51)

ثم واخيرا الامام (عليه السلام) يوصي الوالي بالطبقة الضعيفة من المجتمع وهم الفقراء والمساكين والايتام بأن يجعل لهم نصيبا من بيت المال لان الدولة مسؤولة عن توفير الحياة الكريمة لهؤلاء وهو تأسيس من قبل الامام لمؤسسات الرعاية الاجتماعية الموجودة الان عند الدولة المتحضرة حيث ان الامام (عليه السلام) امر الوالي بتعهد هؤلاء ورعايتهم و تدبير امورهم و توفير مستلزمات العيش الكريم لهم من قبل الدولة و هذا واجب عليها.

فيقول (عليه السلام) ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين واهل البؤس والزمنى فان في هذه الطبقة قانعا ومعتراً(52) واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهما قسما من بيت مالك))(53).

ثم ان الامام (عليه السلام) في وصيته يعتبر هذا العمل من افضل الاعمال لان هذه الطبقة محرومة وتحتاج الى الانصاف من قبل الوالي اكثر من غيرها (فأن هؤلاء من بين الرعية الحوج الى الانصاف من غيرهم))(54)

ص: 362

الخاتمة والنتائج

ان هذا العهد يمثل وثيقة مهمة و برنامج عمل متكامل للحاكم والمسؤول في مواقع الدولة والمسؤولية فانه يتضمن وصايا في غاية الدقة والروعة و تضع معالجات من قبل شخصية عملاقة في المجال السياسي والاداري والاجتماعي والاقتصادي والعسكري قد مارست الحكم والادارة والحرب وهو باب علم مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اعلم الناس بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما جاء من قوانين و بنود في هذه الوصية تمثل الفكر النير الوهاج و المتميز للامام علي (عليه السلام) في مسائل ادارة الدول والحكم حيث يسجل فيها صفات الحاكم والمسؤول العادل ويضع فيها قواعد واصول ادارة الدولة على كافة الاصعدة.

ص: 363

اما بخصوص النتائج

فان الاسلام من خلال عهد امير المؤمنين قد اسس لمجموعة من المؤسسات الرقابية و الاجتماعية والاقتصادية و السياسية وقد كانت تمثل سابقة في الفكر الانساني حيث ان هذه الافكار والملاحظات لم يكن لها حضورا في دساتير الدول الا متأخرا كمؤسسة الرعاية الاجتماعية التي تعني بالفقراء و المساكين والايتام و اصحابة الحاجة، ومؤسسة الرقابة لاجهزة الدولة من قضاة و وزراء و کتاب و جند و تجار، ومؤسسة النزاهة التي تتابع مؤسسات الدولة و تحفظ المال العام.

وايضا ما ورد من وصايا للحاكم بالتواصل مع رعيته و شعبه باستمرار تعطي اشارات مهمة على ان الحاكم ليس الا خادما لشعبه و رعيته فليس له حق الاستبداد و التفرد والظلم و ايضا ما ورد من وصايا في ثنايا العهد من تقديم مصالح العامة على الخاصة فيه دلالة واضحة على ان السياسة العامة في الاسلام هي تحقيق مصالح الاغلبية من الشعب دون الخاصة و هذا قد تضمنته الدساتير الغربية متأخرا عن عهد الامام (عليه السلام) بمدة طويلة جدا.

وان الحاكم لابد ان يعتمد في قراراته على مجموعة من المستشارين من اهل الخبرة و الاختصاص و الصلاح و لا تكون عشوائية بدون تنسيق و تخطيط.

اشار الامام علي (عليه السلام) الى ان المجتمع يتكون من اصناف مختلفة كالقضاة والجن-ود و التجار...

وان صلاح المجتمع لا يتم الا بتعاون هذه الطبقات و الاصناف فيما بينها.

ص: 364

الهوامش

1. الصدوق / الامالي / 448 / ح 601

2. نهج البلاغة / 450 / عهده الى مالك الاشتر

3. ظ: كتاب العين / 864 (وقی)

4. ظ: الاصفهاني/ مفردات غريب القرآن / 530

5. الجرحاني / كتاب التعريفات / 52

6. ابن فهد / عدة الداعي / 285.

7. نهج البلاغة / 362 / خ 216

8. نهج البلاغة/ 374

9. م. ن / 441

10. ظ: الشيخ المفيد / الجمل / 216

11. محسن الامين / اعيان الشيعة 1 / 524

12. م. ن 1/ 24

13. الفتال النيسابوري / روضة الواعظين / 173

14. البرقي / المحاسن 1 / 211 ح 84

15. ظ: الايجي / المواقف / 398

16. ظ: العلامة الحلي / كشف المراد / 492

17. نهج البلاغة / 449

18. نهج البلاغة / 450

19. محمد جواد مغنية / التفسير الكاشف 7/ 115

20. نهج البلاغة / 450

ص: 365

21. م. ن

22. م. ن / 451

23. م. ن

24. م. ن

25. م. ن / 453

26. م. ن / 452

27. ظ: م. ن/ 454

28. م. ن

29. م. ن / 453

30. م. ن / 497 حكم امير المؤمنين -ع-

31. نهج البلاغة / 461

32. م. ن / 464

33. الشيخ المفيد / الفصول المختارة / 136

34. نهج البلاغة / 453

35. م. ن

36. م. ن / 454

37. م. ن

38. م. ن / 455

39. م. ن

40. م. ن / 456

41. م. ن

42. م. ن

ص: 366

43. سنن النسائي 8/ 110

44. الامام مالك / الموطأ 2/ 905

45. نهج البلاغة / 456

46. م. ن

47. م. ن

48. م. ن 457

49. م. ن 458

50. م. ن

51. م. ن / 459

52. القانع: الذي يسأل الناس، و المعتر: الذي يتعرض للعطاء و لا يسأل. ظ: ابن منظور / لسان العرب 12/ 202

53. نهج البلاغة / 459

54. م. ن/ 460

ص: 367

المصادر

55.- الاصفهاني، محمد الراغب

56. 1- المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الکتاب / ایران

57.- ابن فهد الحلي

58. 2- عدة الداعي، مكتبة وحداني / قم

59.- الامام مالك

60. 3- الموطأ، دار احياء التراث العربي، بيروت

61.- ابن منظور

62. 4- لسان العرب، دار صادر، بيروت ط 2000 م

63.- الايجي

64. 5- المواقف، عالم الكتب، بيروت

65.- البرقي

66. 6- المحاسن، دار الكتب الاسلامية / طهران

67.- الحلي

68. 7- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، مؤسسة النشر الاسلامي / قم

69.- الفتال النيسابوري

70. 8- روضة الواعظين، منشورات الشريف الرضي / قم

71.- الفراهيدي

72. 9- كتاب العين، مؤسسة النشر الاسلامي / قم

73.- محسن الامین

74. 10- اعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت،لبنان

ص: 368

75.- محمد جواد مغنية

76. 11- تفسير الكاشف، دار العلم للملايين،بيروت، لبنان

77.- المفيد

78. 12- الجمل، مكتبة الداوري / قم

79. 13- الفصول المختارة، دار المفيد، بيروت ط2 1993

80.- النسائي

81. 14- سنن النسائي، دار الفكر،بيروت ط 1.

ص: 369

ص: 370

القواعد الفقهية غير المصرح بها في عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

د. هناء محمد حسين احمد التميمي م. ايمان كاظم مزعل العبودي

ص: 371

ص: 372

المقدمة

الانسان يولد في المجتمع ولا يعيش الا فيه. وهذا العيش المشترك تنشأ عنه علاقات ومعاملات بين الافراد وان الفرد لا يمكن ان يتمتع بحرية مطلقة، لأنه يتعارض مع حريات الاخرين ويؤدي الى خصام مستمر لا يوّلد الا فناء المجتمع... لهذا كان لابد من قواعد تحد من هذه الحريات المطلقة وتنظم العلاقات ليعيش افراد المجتمع بأمان واستقرار.

فجاءت الشريعة الاسلامية بأحكامها وقواعدها منظمة لجميع الحريات والعلاقات، سواء كانت هذه العلاقات بين الفرد وربه أم بين الفرد والفرد، أم بين الفرد والجماعة ام بين الجماعة والجماعة فهي بحق دین ودولة(1). هذه الاحكام والقواعد فيها الصلاح والاصلاح للمجتمعات الانسانية اذا طبقت بشكلها الصحيح من مصادرها الالهية اولا ثم من المأثور من تراثنا الاسلامي (الفقه الاسلامي واحكامه وقواعده). والقواعد الفقيه التي هي محور بحثنا، تساعد الفقيه والراعي على فهم مناهج الفتوى ويطلعه على حقائق الفقه ومآخذه(2)، ويمكنه من تخريج الفروع بطريقة سليمة، واستنباط الحلول للوقائع المتجددة، وقال السيوطي (ت 911 ه): ان فن الاشباه والنظائر فن عظیم، به يطلع على حقائق الفقه، و مدارکه ومآخذه، واسراره، ويتمهر في فهمه، واستحضاره، ويقتدر على الالحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا ينقضي على مر الزمان(3)

ومن هذا المنطلق لا يسعنا الا ان نخطو خطوات ابا الحسن علي بن ابي طالب (عليه

ص: 373

السلام) في تطبيق شرع الله وسنة نبيه الكريم محمد (صلی الله عليه واله وسلم .. (لأنها تجسيداً وتمثيلا للحقيقة المحمدية، فهو «وزيره ونفسه المقدسة و خلفيته، وبلغ من تمثيل اصله القمة وهو امة مستقلة ليس له في الامة مثيل ولا لهم فوقه بعد بنیها دلیل، فكان له الاختصاص الاتم بالرسول الأعظم وله القيادة والسياسة العليا في الحكومة العادلة بمآلها بمحض الحقيقة في تحصيل مصالح العباد واقامة اسس العدل اي سياسة الدولة(4) ..، بتقعيد القواعد العملية لبناء مجتمع اسلامي انساني متوازن يكفل اقامة دولة اسلامية، ندرك ذلك من القواعد الفقهية غير المصرح بها في عهده عليه السلام الى واليه في مصر مالك الاشتر.

وفي هذا البحث ان شاء الله نسلط الضوء على بعض اضاءات حياة واعمال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مستشار الدولة الاسلامية الاول في السياسة والتنظيم الاداري.، ونعرف بشخصية المحارب والوالي مالك الاشتر، ومن ثم نبين اهم القواعد الفقهية غير المصرح بها من عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه التي يوصيه باتباعها وتطبيقها مع الرعية لإقامة حدود الله، فأمره: اولا بحسن الخلق والتواضع، وعدالته مع افراد المجتمع دون تمایز. ومن ثم امره بجباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح اهلها، واعمار بلادها ... مبينا بهذا العهد كيفية بناء اقتصادیات الدولة و الدفاع عنها وحمايتها، بایجاد افراد صالحين مؤمنين بدينهم مدافعين عن وطنهم.

ص: 374

الفصل الأول: حياة الإمام (عليه السلام) وحياة واليه (رضوان الله عليه)

المبحث الأول: حياة الامام علي (عليه السلام)

حياته: (600 - 661 م)

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ابن عم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولد سنة 600 بعد الميلاد بمكة في قبلة الاسلام، في اول بيت وضع للناس ببكة مباركة وهدى للعالمين، فكانت ولادته من اكبر الآيات الحاكية لمكانته العظيمة من رب البيت، حيث انشق جدار البيت حينما ظهر قمره الى الوجود، فكان مولده (عليه السلام) في بيت الله تشريف خص به لم يسبقه الى ذلك سابق.

يروى ان: (فاطمة بنت اسد بن هاشم تشتكي المخاض و ابو طالب زوجها حائر قلق لا يدري ماذا يصنع، فاذا برسول الله يصادفه، قائلا: يا عم ما شأنك! فأخبره، فأخذ الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بيده فجائا اليها فذهب بها الى الكعبة المكرمة فأجلسها فيها، قائلا: اجلسي على بركة الله، فطلقت طلقة طيبة، فولدت غلاما طيبا)(5) ... فكانت ولادته تمثل القاعدة الأولى لتولي الخلافة.

وهو اول هاشمي ولد بين هاشمين، وبعد ثلاثة ايام من ولاته فتح عينيه في وجه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ليقتبس من انوار قدسه بادئ بدء، فيقول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) آنذاك: (خصني بالنظر وخصصته بالعلم)(6). فتعلم منه عبادة الله الواحد، قبل أن يعلم بوجود الاصنام، فكانت ولادته وتربيته

ص: 375

مسلما، بكلتا الولادتين، فولادته الجسمية كانت في قبلة الاسلام بدلاته النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وولادته العقلية والروحية في حجر الهدى و هو جو الوحي و الرحمة.

كفله النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قبل ان يوحى اليه، حينما اصابت قریش صدمة شديده وكان ابو طالب ذو عيال كثير، فأخذه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، قبل ان يبلغ الرابة من سنه فضمه الى نفسه المقدسة، وفي هذه الفترة تلقی بذور الاخلاق الفاضلة، فترعرع في كنف رحمته حتی بعثه الله نبيا، فاكتملت تربيته عنده بصبغة النبوة والوحي(7)

لقد كان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) پستهدف من ذلك امرين:

1- يخفف عن كاهل عمه اقتصاديا.

2- ويضع عن نفسه وزر الرسالة بنصرته ومعونته، تناصرا من الجانبين، وليس يحق ذلك الا فيمن يربيه كما يجب، ليستلهمه (صلى الله عليه واله وسلم) كيف يؤازره وينصره في الظروف الصعبة من حياته النيرة(8). انه عليه الصلاة والسلام كان نیمه في فراشه في طفولته ولكي ينام وحده في فراشه في رجولته وبطولته، ذودا عنه وصيانتا لنفسه القديسة، اذ ضحى نفسه المقدسة احتفاظا على الرسول الاعظم.

ولقد آخى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بينه وبين نفسه المقدسة، مرتين مره في مكة المكرمة قبل الهجرة، وفي المدينة المنورة بخمسة اشهر بعد الهجرة، فآخی بين المهاجرين، ثم آخی بين المهاجرين والانصار، وقال لعلي (عليه السلام) في كل منهما: (انت اخي في الدنيا والاخرة)(9)، فكان التآخي بينه وبين نفسه المقدسة (عليه السلام) روحیا کمثل ولاته روحيا، فكانت حقيقة هذه الاخوة هي المماثلة و المؤازرة

ص: 376

حيث الاخ يماثل اخاه وهو عونه و ضهره و ظهيره، فأصبحت الاخوة القاعدة الثانية لتولى الخلافة.

لقد آمن علي بن ابي طالب (عليه السلام)

ص: 377

المبحث الثاني: خلافة الامام علي (عليه السلام) نموذجا للسياسة المحمدية

الفصل الثاني: القواعد الفقهية غير المصرح بها

المبحث الأول: تعريف مفردات البحث

تستدعي طبيعة البحث أن نعرج على تعريف بعض المصطلحات التي نرى علاقتها بالموضوع. وهي كالاتي:

اولا - الحاكم.

وهو في اللغة: الحاء والكاف والميم، أصل واحد وهو المنع، وأول ذلك الحكام، وهو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها... وأحكمته: إذا أخذت على يديه، ويدل في اللغة العربية على منع وقوع الفساد في امر من الامور، واصلاحه، حتی يحقق اعلى درجات الكال وذلك اعتمادا على الفقه والعلم والحكمة(10).

وقد اتفق المسلمون على ان الله تعالى هو الحاكم وحده وهو مصدر لجميع الاحكام. لقوله تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(11). وقوله تعالى «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»

الا ان الحاكم عند الفقهاء هو القاضي او فيما معناه: هو الذات الذي نصب وعين من قبل السلطان لأجل فصل وحسم الدعوى والمخاصمة الواقعة بين الناس توفيقا لأحكامها المشروعة(13) والحاكم

ص: 378

ثانيا - المحكوم.

وهو: المكلف .. المسلم، العاقل، البالغ (انسان کامل الأهلية عند الفقهاء)(14).

ولم يكن تأسيس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الفكر الإسلامي ناشئة من فراغ أو صادرا من بنيات أفكار العلماء، أو من محض الاجتهاد، بل جاءت بذلك الشريعة الاسلامية التي نزلت على محمد (صلى الله عليه واله وسلم) من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، بل إن النصوص المتعلقة بالموضوع كثيرة جدا يصعب على المتتبع حصرها. فهي علاقة تقوم على الاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم، لأن كلا منهما عرف ماله من حقوق، وما عليه من واجبات. وكل منهما يشعر أن الطرف لآخر أهل للاحترام والتقدير، لأنه يشاركه في المسؤولية، ويقوم بجزء منه، ولا يتأتی ذلك الأمر إلا بالتواضع، كما قال الحق تعالى «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(10)، وفي الحديث النبوي: «أن الله أوحي إلى أن تواضعوا، حتى يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد»(16). وقال الامام علي (عليه السلام): «اياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته. فان الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال....

واذا احدث لك ما انت فيه من سلطانك ابهة او مخيلة، فانظر الى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فان ذلك يُطامن اليك من طموحك، ويكف عنك من غربك، يفيي اليك بما عزب عنك من عقلك

ثالثا - القواعد الفقهية:

القواعد في اللغة، هي جمع قاعدة، وهي من الجذر الثلاثي "قعد" أي استقر وثبت في مكانه، وتعني: الاستقرار والثبات، وقد أطلقت العرب على شهر من عدة الشهور: شهر ذي القعدة، سمي بذلك لقُعُودهم في رحالهم عن الغزو والميرة وطلب الكلأ،

ص: 379

وتعني ايضا الاساس، فقد جاء في لسان العرب. القَاعِدَةِ: أَصلُ الأُسِّ، والقَواعِدُ: الإِساسُ، وقواعِد البيت إِساسُه(17)، ومنها قول الله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(18).

وأما اصطلاحا فقد عرفها الفقهاء على أنها: قضية كلية تنطبق على جزيئاتها، أو أنها: الحكم الشرعي الكلي الذي ينطبق على الحكم الفرعي»(19)... وبما أنها حکم شرعي فتتطلب الدليل.

اما الفقه الذي يستمد أصوله من الكتاب الذي هو المصدر الأول لكلّ معرفة، نجده يعني في دلالته اللغوية: العلم بالشيئ وادراکه، وحسن الفهم(20)، كما تشير إلى ذلك أكثر من آية، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى «فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا»(21). أو قوله تعالى«فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(22). کما نجد أكثر من حديث نبوي شريف يميل إلى نفس معنى الفهم، كقوله (صلى الله عليه واله وسلم): «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»(23).

فاذا انتقلنا إلى المعنى الاصطلاحي للفقه وجدناه يتجلّى في جملة من الدلالات تجسّدها مجموعة من المترادفات، ومن هذه التعريفات، تعريف الإمام البيضاوي للفقه بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من أدِّلتها التفصيلية(24).

فمن خلال هذا التعريف يمكن استنباط أنّ التقعيد الفقهي الإسلامي، يصاحبه استدلال واجتهاد، واستنباط، من شأنه أن يمّكن للعبادات والمعاملات الاستقرار في العقل، وإشاعة الأمان والوئام في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان داخل مجتمع إنساني يطبعه العدل والإخاء. وإنّ التقعيد الفقهي من القاعدة تتمثل في وضع الأساس

ص: 380

المستنبط من الدين المدعم بالفعل، المحاط بالقول المنزّل على الحكم، أي التطبيق السليم للأحكام الشرعية وفقا لما يصفه الأصوليين بمناط الحكم. وتكتسب القواعد الفقهية اهمیتها من استمداد اغلبها من الكتاب والسنة النبوية وتعلقها بموضوعات حياتية مهمة.

وعليه فالقاعدة الفقهية تعني: حكم كلي مستند الى دليل شرعي مصوغ صياغة تجريدية محكمة منطبق على جزيئاته على سبيل الاطراد او الاغلبية(25).

المبحث الثاني: القواعد الفقهية غير المصرح بها في عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه في مصر.

بعد قراءتنا للعهد الذي اوصى به الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) واليه، وجدناه متضمنا قواعد فقهية اساسية في سياسة الدين والدولة (غير مصرح بها)، من شأنها ان طبقت، ان تبني دولة اسلامية مقامة على العدل والمساواة، مستثمرة لكل الموارد البشرية والطبيعية وفق ما جاءت به الشريعة الاسلامية.

فالعهد من بدايته الى نهايته مقصده وغايته تحقيق العدالة بكل صورها، شاملة لكل افراد المجتمع وذلك بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم جميعا بدون تمیز او عنصرية، وينظم العهد امور الدولة.. من الحاكم (الراعي) الى الرعية، كلا حسب دوره في الحياة. و هو مقصد الشرعية الاسلامية.، و معرفة القواعد الفقهية لغير المتخصص تمكنه من الاطلاع على الفقه الاسلامي بروحه ومضمونه بأيسر الطرق(26). ومن هذه القواعد:

ص: 381

اولا - قاعدة: «انما الاعمال بالنيات»(27)، «الأمور بمقاصدها»(28).

ان معنى النية اللغوي: القصد، وهو استقامة الطريق، او الاعتماد والام والتوجه، فيقال قصده يقصده قصدا(29). اما النية: النوى التحول من دار الى دار.. ونوى الامر ينويه اذا قصدله(30). ثم ان الكلام على تقدير مقتضى، اي: احکام الامور بمقاصدها،. لان الحكم الذي يترتب على أمر يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الامر(31).

ومعناها في الاصطلاح الفقهي لا يخرج عن المعنى اللغوي: ان الحكم الذي يترتب على امر يكون بمقتضى المقصود من ذلك الامر(32). فأعمال المكلف وتصرفاته القولية والفعلية تترتب عليها نتائجها واحكامها الشرعية تبعا لمقصود الشخص وغايته وهدفه من وراء هذه الاعمال او التصرفات، فالحكم على تصرف الانسان بكونه واجبا او حراما او مندوبا او مکروها او مباحا، او بكونه مثابا عليه او معاقبا، كل ذلك انما يكون تابعا لقصد المكلف وهدفه من وراء ذلك التصرف.

معنى القاعدة الاجمالي: ان احکام الافعال والاقوال كلها تتبع القصد المراد منها، والامور جمع أمر، وهو لفظ عام للأفعال والأقوال كلها، ومنه قوله تعالى «واله يرجع الامر كله»(33)

واصل هذه القاعدة الحديث النبوي الشريف: «انما الاعمال بالنيات»(34)، وهذا الحديث قاعدة من قواعد الاسلام، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الاخرة. لان كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية احد الاقسام، وهي ارجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها، ولذلك كانت.. نية المؤمن خير من عمله». فلا خلاف بين أهل العلم في اشتراط النية لسائر العمل ولا يختلف الفقهاء في

ص: 382

ان العمل الذي يراد به التقرب الى الله عز وجل لابد من الاخلاص فيه(35). وقد شرعت لتميیز العبادات من العادات و تمیز بعض العبادات عن بعض، وشرط لسائر العمل... بها الصلاح والفساد للعمل. والشريعة الاسلامية تراعي مقاصد المكلفين وبناء الاحکام، فمتى ظهرت المقاصد أخذ بها وبنى عليها، ولا عبرة باللفظ. ومتی ثبت اللفظ وتردد بين معنيين او اكثر، حمل على المعنى الموافق للقصد(36). لان بالنية تتحدد الأفعال وتتمایز.

وتتضح هذه القاعدة في قوله عليه السلام إلى واليه:

1. جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، و حريما يسكنون الى منعته الى جواره، فلا ادغال ولا مدالسة، ولا خداع فيه.

2. اتقي الله، واثر طاعته واتبع ما امر به في كتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد احد الا باتباعها، ولا يشقى الا مع جحودها واضاعتها، وانصر الله بيدك وقلبك ولسانك، فانه جل اسمه، قد تكفل بنصرة من نصره، واعزاز من اعزه... ولیکن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح. (لان التَّقوَى: اعتِمَاد المتقي مَا يحصل بِهِ الحَيلُولَة بَينه وبَين مَا يكرههُ، فالمتقي: هُوَ المحترز مِمَّا اتَّقَاهُ.)... واخلاص النية لله يتم به التوفيق والقبول.

3. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الومه الله من ذلك الا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه او ثقل.

ص: 383

ثانيا - قاعدة «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»(37).

هذه القاعدة من اعظم القواعد الفقهية في السياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة في الاسلام. فهي ترسم حدود الادارة العامة وتحدد سلوك الحكام والولاة في جميع التصرفات وتضبط تصرفاتهم النافذة والملزمة او الباطلة المردودة مع من هم تحت ولايتهم.

وهي قاعدة مطردة عامة تسري على الحكام والولاة عموما حتى على راعي الاسرة، فكل ولاية عامة او خاصة منوطة بتحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وتتزامن مع مقاصد الشريعة الكبرى في حفظ: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسل او العرض.

ونجد ان العهد بكامله تناول كل مفردات السياسة في الدولة. بدءاً بمخافة الله سبحانه وتعالى في العبادات والمعاملات وانتهاءً بتقديم العون والمساعدة للفقراء والمساكين، وحتى التجار والصناع والاهتمام بالجيش والقادة والافراد والسياسة الخارجية، فنرى مبدأ جلب المصلحة ودرء المفسدة هو المبدأ الوحيد للتعامل مع افراد المجتمع كلاَ حسب موقعه وحاجته، ووفق ما جاءت به الشريعة الاسلامية

ومعنى القاعدة الاجمالي:. ان تصرف الراعي (الامام، و كل من ولي شيئا من امور المسلمين) في امور رعيته ومن تحت يديه يجب ان يكون مبنيا ومعلقا على المصلحة والنفع التي حددهما الشرع الإسلامي، بعيدا عن المفسدة والضرر، وكل تصرف لا يبني على المصلحة ولا يقصد منه نفع الرعية فانه لا يكون جائزا شرعا. لان الراعي انما اعطيت له السلطة للحفاظ على مصلحة العباد وصيانة دمائهم واعراضهم واموالهم، وهو مؤتمن من قبل الشارع على مصلحة من تحت يديه، و مأمور ان يحوط رعيته بالنصح والنفع والصلاح و موعود على ترك ذلك بأعظم الوعيد(38). والسياسة

ص: 384

حياطة الرعية بما يصلحها لطفا او عنفا. والسياسة المدنية تدبير المعاش مع العموم سنن العدل والاستقامة(39).

واصل القاعدة هذه، قول للأمام الشافعي: «منزلة الامام من الرعية، منزلة الولي من اليتيم»(40). ان نظرية المصلحة نظرية ناضجة في شريعة الاسلام، وابرزها اكثر التطبيق النبوي. ثم ازدادت بروزا واتساعا عندما اشتدت الحاجة اليها بعد توقف الوحي، وذلك من خلال سنة الخلفاء.

ويتبين حرص الامام على الاهتمام بالرعية كأنهم ایتام، کما وصفهم الشافعي، وهو وصف اعده دقيقا لما للرعية من حاجة ماسة للاهتمام الراعي بكل جوانب حياتهم المادية والمعنوية،،، كلهم بدون استثناء.. يتبين حرصه، بقوله:

1. ان اشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخا لك في الدين، و اما نظير لك في الخلق... فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، و الله فوق من ولاك.

2. انصف الله وانصف الناس من نفسك، و من خاصة اهلك، ومن لك فيه هوی من رعيتك... ولیکن احب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية..

3. وتفقد من امورهم ما يتفقده الولدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وان قل، فان داعية لهم الى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك.

4. ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم.

ص: 385

5. وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على اقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.

ثالثا - قاعدة: «اليقين لايزال بالشك»(41)

هذه القاعدة من القواعد الفقهية الكبرى المتفق على مدلولها ومعناها، و اساسها نصوص شرعية، وادلة عقلية. فهي تقرر أصلا شرعيا مهمّا تُبنَی عليه أحكام فقهية كثيرة، تعبِّر عن مدى سماحة الشريعة ويُسرها، ورفعِ الحرج فيها عن الناس، وتركِ الشكوك والوساوس، والاعتماد على الثابت يقينا أي قطعا، ولا سيما في حالات الطهارة والصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات والعقوبات والأقضية.

واليقين هو طمأنينة القلب على حقيقة الشيء دون تردد، وهو العلم وازاحة الشك وتحقيق الامر(42). واليقين عند الفقهاء اوسع لان الاحكام الفقهية انما تبني على الظاهر(43). اما الشك: هو تردد الفعل بين الوقوع وعدمه.. فاذا ثبت امر من الامور یقینا قطعيا، ثم وقع الشك في وجود ما يزيله، يبقى المتيقن هو المعتبر الى ان يتحقق السبب المزيل(44).

ومعنى القاعدة الاجمالي: يفيد بان الظن لا يؤثر على الحكم. اي ان الامر الثابت والمقرر بدلیل، او امارة، او اي طريق من طرق الاثبات المعتد بها شرعا، والمعبر عنه باليقين، لا يرتفع حكمه بالشك.

ومصدرها الحديث النبويّ الذي أخرجه البخاري عن عبّاد بن تميم عن عمّه في ترك الالتفات للشكّ في الصلاة: «لا ينصرف أحد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا». قال النووي عند شرح هذا الحديث: «وهذا أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة

ص: 386

من قواعد الفقه، وهي أنّ الأشياء یُحكم ببقائها على أصولها حتى يُتيقّن خلاف ذلك، ولا يضرّ الشك الطارئ عليها».

تتجسد القاعدة بقول الامام عليه السلام:

1- اطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن الى تصدیق ساع، فان الساعي غاش، وان تشبه بالناصحين.

2- ان حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا، وان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان احق من ساء بلاؤك عنده.

رابعا - قاعدة: «الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله،(45)».

الاجتهاد: بذل الوسع في تحصيل أمر فيه كلفة ومشقة، و عند الفقهاء: بذل الفقيه وسعه في تحصيل ظن بحكم شرعي(46)

معنى القاعدة: ان احکام القضاة والولاة وفتاوى المفتين ووسائل التحري المبينة على الاجتهاد اذا نفذت ثم تبين خلافها انها لا تنقض ولا تنفسح اذا كان خلافها عن طريق الاجتهاد ایضا(47)، واما اذا تبين مخالفتها للنصوص الثابتة نقضها وفسخها لان الاجتهاد لا يعارض النص... لان الاجتهاد الثاني الاجتهاد الاول، وترجح الاول باتصال القضاء. ولان عدم نقض الاجتهاد الاول يؤدي الى ان لا يستقر حکم لأنه لو نقض الاول بالثاني لنقض بغيره - لأنه ما من اجتهاد الا ويجوز ان يتغير بتغير الازمان - فيؤدي الى ان لا تستقر الأحكام(48). اي فيما يستقبل يقضي بما ادى اليه اجتهاده.

ص: 387

ونجد هذه القاعدة مجسدة في قول الامام عليه السلام:

1- «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الاجر بمن سنها، والوزر عليك بما نقضت.

2- والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، او سنة فاضلة، او اثر عن نبينا او فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، و تجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علة عند تسرع نفسك الى هواها، فلن يعصم من السوء، ولا يرفق للخير الا الله تعالى.

3- والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة او سنة فاضلة... اجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا

خامسا قاعدة «العادة محكمة»(49)

هذه القاعدة احدى القواعد الفقهية الكبرى والتي تقرر أحد مصادر التشريع، وهو العرف بنوعيه اللفظي والعملي، والعادة العامة أو الخاصة، و الذي تقتضي الحاجة إليه في توزيع الحقوق والالتزامات في التعامل بين الناس فيها لا نص فيه من کتاب او سنة او اجماع. وهذا أساس في المقارنة ومعرفة أصول الاجتهاد والتقاضي والمعاملات(50).

والاصل ان السؤال والخطاب يمضي على ماعم وغلب، لا على ما شذوندر، والاصل ان جواب السؤال يمضي على ما تعارف كل قوم في مكانهم... ودليل

ص: 388

القاعدة: قول النبي عليه واله افضل الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح(51)».

وهذه القاعدة فيها مراعاة للأحوال الناس وتعاملاتهم وتجارتهم، فيقول الامام عليه السلام:

- استوص بالتجار خير وذوي الصناعات، واوصي بهم خيرا: المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فانهم مواد المنافع واسباب المرافق.

- وليكن البيع سمحا بموازین عدل، و اسعار، لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع.

سادسا - قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»(52).

وهي قاعدة عظيمة، بل من أعظم قواعد الفقه في السياسة الشرعية، وعليها تنبني فروع فقهية كثيرة يتعسر حصرها هنا. وهي اساس لمنع الضار وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، كما انها مسند لمبدأ الاستصلاح في جلب ودرء المفاسد.

معنى القاعدة الاجمالي: الضرر والضرار قيل: هما لفظتان بمعنى واحد على وجه التأكيد، ويقال: الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى غيرك فيه مضرة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وقيل: الضرر أن تضر بمن لا يضرك، والضرار أن تضر بمن أضربك، لا على سبيل المجازاة بالمثل والانتصار للحق، بل على سبيل الإضرار والانتقام. ونص هذه القاعدة ينفي الضرر فيوجب منعه مطلقا، ويشمل الضرر الخاص والضرر العام، ويشمل منع وقوعه بطرق الوقاية الممكنة، ويشمل رفعه ايضا بعد وقوعه بما يمكن من التدابير والتي تزيل اثاره وتمنع تكراره.

ص: 389

فالعقوبات المشروعة على المعاصي والمخالفات؛ تشريعها وتقريرها على محدثي الضرر ومرتكبيه فيه عظة وعبرة للآخرين؛ بحيث يمثل ذلك ردعاً وزجراً يمنع من تكراره أو يقلل من فرص حدوثه، على حد ما جاء في قوله - تعالى - «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»(53)، ولا تجوز المجازاة أو العقوبة على الضرر بإحداث ضرر مثله على المعتدي، لا فائدة منه للمعتدى عليه؛ ويمكن ازالة آثار الضرر عن طريق التعويضات المشروعة التي تجعل الضرر كأن لم يكن، أو تخفف آثاره إلى أقصى حد ممكن؛ فقد روى، أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم): كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، وحبس الرسول [أي الخادم] والقصعة، حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة(54).

و مستند هذه القاعدة ودليلها نص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه»(55).

ومنها نصيحة الامام علي (عليه السلام) في عدم الاضرار بالطبقات الضعيفة من المجتمع ولا بالتجار والصناع بفرض عليه مالا يطيقونه من اوامر و نواهي، فقال:

- وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية.

- نصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوی من رعيتك، فانك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده.

ص: 390

الخاتمة

إنّ الطاقة التي تحويها الأمّة الإسلامية لا يمكن أن تقاس، سواء على صعيد العدد أو على صعيد المضمون، ولكن الآفات الكبرى التي تنخر جسم الأمّة الإسلامية تتمثل على الخصوص في ازدواجية المعايير وثنائية التعامل، وأحداث مجتمعين هما مجتمع القول، ومجتمع الفعل، لذلك بات من الضروري التطبيق الفعلي للنصوص الشرعية، وهذا ما أكده عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه مالك الاشتر (رضي الله عنه) من وجوب تعاون الراعي والرّعية في الحفاظ على المصلحة العامّة، وذلك بإشاعة العدل، ومحاربة الظلم، واتخاذ القصاص أداة لتحقيق ذلك. و تعریف العامة من الناس بقيمة الاجتهاد كقاعدة فقهية منبثقة من حقيقة أنّ لكلّ زمان فقه، ولكلّ زمان نازلة، ولكلّ نازلة حكم، وبالتالي فإنّ فقه الفقه معلّق بفقه الواقع، لا والكل محكوم بفقه الكتاب والسنة.

ص: 391

الهوامش

1. مدخل للشريعة الاسلامية، عبد الكريم زيدان ص 5.

2. القواعد الفقيه لابن رجب ص 23.

3. الاشباه والنظائر للسيوطي ص 6.

4. ينظر الشريعة لأبو بكر محمد بن الحسن اآجري، تحقيق الوليد سيف النصر، مؤسسة قرطبة، المكتبة ط 1، سنة 1417، ج 3 / 191.

5. بحار الانوار، محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء - بيروت ج 3/ 30

6. المصدر السابق ج 38 / 394.

7. المصدر السابق 35/ 24.

8. البحار الزخار للزيدي ج 35/ 24.

9. المستدرك للحاكم النيسابوري 3/ 14.

10. ينظر: ابن فارس ولسان العرب مادة حكم

11. سورة الأنعام الآية 57

12. سورة الأحزاب الآية 36

13. المادة 1785 من مجلة الاحكام العدلية

14. الاهلية: صلاحية الانسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه وصلاحيته لصدور الافعال منه على وجه يعتد به شرعا... ينظر: تنقيح الاصول لصدر الشريعة ص 92

15. سورة الشعراء الآية 215.

16.سنن ابن ماج

17. ينظر لسان العرب لابن منظور مجلد 3ص 361.

ص: 392

18. سورة البقرة الاية

19. القواعد والضوابط الفقهية

20. معجم مقاییس اللغة لابن فارس م 4 ص 442

21. سورة النساء الاية 78

22. سورة النساء الاية 100

23. صحيح البخاري

24. الابهاج للسبكي 1/ 28

25. نظرية التقعيد الفقه. د. فاروق حمادة الروكي، دار الصفاء بيروت ط 1412، 1/ 53.

26. المدخل لدراسة التشريع الإسلامي، د. عبد الرحمن الصابوني 1/ 269.

27. ينظر: المبسوط للسرخسي ج 6 / 59،

28. ينظر: الاشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 54، والاشباه للسيوطي ص 8، 50. والاشباه لابن نجیم ص 27.

29. ينظر : بغية الوعاة لابن جني ج 2/ 132، ولسان العرب لابن منظور مادة (ق ص د)

30. ينظر: معجم مقايس اللغة لابن فارس ج 5/ 366، والقاموس المحيط للفيروز آبادي ج 4/ 397.

31. ورد في مجلة الاحكام العدلية القاعدة الاولى - العبرة في العقود للمقاصد والمعاني للألفاظ والمباني - شرح المجلة ج 1/ 13

32. سورة هود الاية 11

33. صحيح البخاري

34. الاجماع لابن منذر

394) أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول

ص: 393

35. نظرية المقاصد للشاطبي ص82

36. ينظر: قاعدة (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) دراسة تأصيلية تطبيقية فقهية، د. ناصر بن محمد بن مشري الغامدي (جامعة ام القرى) مكة المكرمة.

37. قاعدة (تصرف الامام بالرعية منوط بالمصلحة) ص 16.

38. قواعد الفقه لمحمد عمیم الاحسان المجددي ص 230.

39. ينظر: الاشباه والنظائر للسيوطي ص 142

40. ينظر المبسوط للسرخسي 3/ 64، والاشباه للسيوطي ص 50،والاشباه للسبكي 1/ 40. والاشباه لابن نجيم ص 55

41. ينظر: لسان العرب لابن منظور مادة (ش ك)

42. ينظر: قاعدة اليقين لايزال بالشك (دراسة تأصيلية) .د. يعقوب عبد الوهاب الباحسين. ودروس في علم الاصول لمحمد باقر الصدر 2/ 237.

43. قاعدة اليقين لايزال بالشك للباحسين ص 44

44. ينظر: الاشباه والنظائر لابن السبكي 1/ 403، والاشباه للسيوطي 93، والاشباه لابن نجيم ص 105.

45. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الاربعة لل 389

46. موسوعة القواعد الفقهية للبورنو 1/ 431.

47. درر الحكام شرح المجلة ،لعلي حيدر 1/ 30

48. ينظر: المنثور للزركشي 2/ 167.

49. ينظر: الوجيز في ايضاح قواعد الفقه الكلية ص 34. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الاربعة، د. مصطفى الزحيلي 1/ 298.

50. مسند الامام احمد، كتاب السنة.

51. ينظر: دراسة فقهية تطبيقية لقاعدة (لاضرر ولا ضرار). د. عبد الحي أبرو

ص: 394

52. سورة البقرة الاية 179

53. صحيح البخاری کتاب الایمان 1/ 201

54. المستدرك للحاكم النيسابوري 2/ 66.

ص: 395

المصادر

1- الأشباه والنظائر، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (المتوفي: 771 ه، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى 1411 ه - 1991 م.

2- الاشباه والنظائر، جلال الدين السيوطي المتوفي (911)، دار الكتب العلمية، بیروت، 1399 ه/ 1979 م.

3- الأَشبَاهُ والنَّظَائِرُ عَلَى مَذهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعمَانِ، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجیم المصري (المتوفى: 970 ه)، تحقیق: محمد مطیع، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1419 ه - 1999 م

4- الأصول في القواعد الفقهية لأبي الحسن الكرخي، مطبوع مع تأسيس النظر، مطبعة الإمام - القاهرة.

5- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الامصار، احمد بن يحيى بن المرتضى المتوفي (840 ه)، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة - مصر 1949 م

6- دليل القواعد الفقهية، الشيخ حيدر اليعقوبي

7- سنن ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (المتوفي 273 ه)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار احیاء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي.

8- شرح القواعد الفقهية، أحمد محمد الزرقا، اعتني بها: مصطفي أحمد الزرقاء. دمشق: دار القلم، بیروت: الدار الشامية، الطبعة الرابعة، 1417 ه - 1996 م

9- شرح المجلة، سلیم رستم باز اللبناني. بيروت: المطبعة الأدبية، الطبعة الثالثة،

ص: 396

1923 م

10- شرح مجلة الاحكام العدلية لمنير القاضي، وزارة المعارف العراقية

11- صحيح البخاري بهامش فتح الباري، ابو عبدالله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري(المتوفي 256 ه)، طبع المطبعة الخيرية، الطبعة الاولى سنة 1319 ه

12- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج ابو الحسين القشيري النيسابوري المتوفي (261 ه)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة المصرية، 1972

13- الفقه الاسلامي وادلته، وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر،الطبعة (31) السنة 2009 م

14- الفقه على المذاهب الاربعة، عبد الرحمن الجزيري، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية (1424 ه - 2003 م).

15- قاعدة الأمور بمقاصدها - دراسة نظرية و تأصيلية، د. يعقوب الباحسين، مكتبة الرشيد، الرياض، الطبعة الاولى (1419 ه - 1999 م). قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي

16- كراتشي: الصدف ببلشرز، توزيع: إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، الطبعة الأولى، 1407 ه - 1986 م.

17- قواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف، د. محمد الروكي. جدة: مجمع الفقه الإسلامي، دمشق: دار القلم، الطبعة الأولى، 1419 ه - 1998 م.

18- القواعد الفقهية، مفهومها، نشأتها، تطورها، دراسة مؤلفاتها، ادلتها، مهمتها،

ص: 397

تطبيقاته، تأليف: علي احمد الندوي، قدم لها: العلامة الفقيه مصطفى الزرقاء، دار القلم دمشق، الطبعة السابعة (1428 - 2007)

19- القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الاربعة، محمد مصطفى الزحيلي، الطبعة الثالثة 1430 ه - 2009 م

20- القواعد لابن رجب، زين الدين عبد الرحمن بن احمد بن رجب بن الحسن السلامي البغداي ثم الدمشقي الحنبلي (المتوفي 795 ه)، مطبعة جدة - مكتبة الارشاد.

21- القواعد و الفوائد للشهيد الاول محمد مكي العاملي (المتوفي 965 ه)، مكتبة الداوري - قم، الطبعة الحجرية 1396 ه

22- لسان العرب، ابي الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور الافريقي (المتوفی 711 ه)، مطبعة دار صادر، بیروت - لبنان، 1375 ه- 1955 م، ط 1

23- مئة قاعدة فقهية، الدكتور السيد كاظم المصطفوي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة لجماعة المدرسين، قم المشرفة

24- المستدرك على الصحيحين، لابي عبدالله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن نعيم النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفي 405 ه)، تحقيق: مصطفی عبد القادر عطا، نشر: دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1411 ه - 1990 م)

25- مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي. عَمّان: دار النفائس، الطبعة الأولى، 1420 ه - 1999 م.

26- المنشور في القواعد الفقهية، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفي: 794 ه)، تحقيق د. تيسير فائق، وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة

ص: 398

الثانية، 1405 ه - 1985 م

27- موسوعة القواعد الفقهية، تالیف و جمع و ترتیب و بیان، د. محمد صدقي بن احمد البورنو ابو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة

28- الوجيز في ايضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي بن احمد بن محمد آل بورنو أبو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة (1426 ه - 1996 م)

29- الوجيز في شرح القواعد الفقهية في الشريعة الاسلامية، د. عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 1، (1422 - 2001 م)

30- مقاصد الشريعة لأبو بكر محمد بن الحسن اآجري، تحقيق الوليد سيف النصر، مؤسسة قرطبة، المكتبة، ط 1سنة 1417 ه.

31- الاجماع لابن منذر، محمد بن ابراهيم، تحقیق: فؤاد عبد المنعم احمد، دار المسلم للنشر والطباعة، ط 1425، 1 ه - 2004 م

32- الابهاج في شرح المنهاج، للسبكي. دار الكتب العلمية، 1999 م

33- بحار الانوار، محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء - بيروت.

34- البحار الزخار الجامع لمذاهب علماء الامصار. احمد بن يحيى بن مرتضی.

35- بغية الوعاة لابن جني.

36- دراسة فقهية تطبيقية لقاعدة «لاضرر ولا ضرار». د. عبد الحي أبرو

37- درر الحكام شرح المجلة، لعلي حيدر.

ص: 399

38- دروس في علم الاصول لمحمد باقر الصدر.

39- سنن ابن ماجة

40- قاعدة اليقين لايزال بالشك «دراسة تاصيلية .د. يعقوب عبد الوهاب الباحسين

41- القاموس المحيط للفيروز ابادي.

42- المبسوط للسرخسي.

43- المدخل لدراسة التشريع الاسلامي، د. عبد الرحمن الصابوني

44- مسند الامام احمد.

45- نظرية التقعيد الفقهي .د. فاروق حمادة الروكي، دار الصفاء - بيروت ط، 1412.

46- نظرية المقاصد للشاطبي.

ص: 400

مقاربات فقهية من العهد الذهبي د. هيثم الحلفي

اشارة

ص: 401

ص: 402

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبين الصادق الأمين واهل بيته الطاهرين وبعد...

يعد عهد الامام علي عليه السلام من النصوص المهمة جدا كونه يحتوى على ضوابط واحكام فقهية لابد من الوقوف امامها ومحاولة دراستها وتحليلها، من هنا كانت البداية مع شخصية الصحابي الجليل مالك الأشتر هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفيّ، المعروف بالأشتر، من اصحاب امير المؤمنين (عليه السلام) ومن أثبتهم، أدرك رسول الله وهو من ثقات التابعين، وكان رئيس قومه وكان الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) يثق به ويعتمد عليه وطالما كان يثني على وعيه وخبرته، كان حضوره فاعلاً في فتح دمشق وقد اصصيبت عينه في حرب اليرموك(1) وبسببها عرف فيما بعد ذلك بالاشتر(2)، وعاش في الكوفة، وقد اثنى عليه الإمام امير المؤمنين قائلاً: (لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3) وكان طويل القامة وعريض الصدر، وفارس مقاتل يقل من يجاريه في القتال والصبر في الحرب(4).

نُفي مالك مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيام عثمان بسبب اصطدامه بسعيد بن العاص والي عثمان. ولما اشتدت نبرة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة، ومنع والي عثمان الذي كان ذهب إلى المدينة آنذاك من دخولها، واشترك في ثورة المسلمين على عثمان، وتولي قيادة الكوفيين الذين كانوا قد توجهوا إلى المدينة وكان له دور حاسم في القضاء على حكومة عثمان، توفي مسموماً سنة 39 ه وهو في طريقه مصر لأداء

ص: 403

مهامه الموكلة إليه، حيث لما ولاه علي (عليه السلام) على مصر بلغ ذلك معاوية ودس إليه السم في العسل على يد الدهقان الذي كان مقيماً بالعريش(5)، فتأثر الإمام (عليه السلام) لوفاته كثيراً حتى ظن بعض النخعيين أن الإمام فقط هو صاحب المصيبة(6).

التعريف بالعهد

إنه (عليه السلام) سمى هذه التوصيات التي كتبها إلى مالك الأشتر وارد منه أن يعمل بها سماها بالعهد حيث قال (عليه السلام): (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر...)(7)

العهد لغة: للعهد في اللغة عدة معان فقد ذكر الجوهري أنه بمعنى: (الأمان، واليمين، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، وقد عهدت إليه، أي أوصيته. ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة)(8).

فعهده إليه كان عبارة عن وصية يوصي بها مالك الاشتر ان يعمل بها، ومن الطبيعي انها ليست الوصية بالمعنى الإصطلاحي الفقهي بل بمعناها العرفي؛ لان الأخيرة لا تكون منجزة إلا بعد الموت بل هي بمعنى تعليمات وأوامر يأمر الإمام علي (عليه السلام) مالك الاشتر أن يعمل بها ويطبقها في فترة حكمه على مصر، وهذا ما نصّ الإمام (عليه السلام) عليه فيه، حيث قال: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر...)(9)، والملاحظ على هذه الوصايا أنها لو لوحظت في حد نفسها بغض النظر عن كونها موجهة إلى الحاكم والمتصدي للولاية على الناس؛ أنها ليست جميعاً من الواجبات بل بعضها مستحباً، ومع ذلك يأمر بها الإمام المعصوم احد ولاته أن يقوم بها مما ينبه على أنها لابد أن تأخذ وتقرأ في هذا الإيطار لا في حد نفسها بل بما هي واجبات ملقات على عاتق ولي

ص: 404

الامر والحاكم على الناس، فهي بالنظر إليه تعتبر واجبات ومسؤليات يتحتم عليه القيام بها لكي يسقط التكليف الثابت عليه بحكم قبوله مسؤلية الولاية على الناس؛ فإن الوالي بعد قبوله الولاية والحكم على الناس صارت ثمة مجموعة تكاليف ثابتة في عنقه يتحتم عليه امتثالها لكي يسقطها عن عهدته ولا يكون مسؤلاً تجاهها أولاً أمام الله تعالى ثم أمام امير المؤمنين (عليه السلام).

اهمية العهد الذهبي

يكفينا في مقام بيان اهمية عهده (عليه السلام) لمالك الاشتر النخعي أبان توليه منصب الحكم على مصر، اعتماد الأمم المتحدة لهذا العهد كمصدر حقوقي كونه يبين الحقوق والواجبات بين الدولة والشعب، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة: إن هذه العبارة من العهد يجب تعلق على كل المؤسسات الحقوقية في العالم والعبارة هي: واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فإنهم صنفان: إما اخ لك في الدين وإما نضير لك في الخل-ق) ب-ل ن-ادى ك-وف-ي عنان بأن تدرس الإجهزة الحقوقية والقانوينية عهد الإمام لمالك الاشتر، وترشيحه لكي يكون احد مصادر القانوني الدولي وبعد مداولات استمرت لمدة سنتين في الأمم المتحدة صوتت غالبية دول العالم على كون عهد علي ابن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر كاحد مصادر التشريع القانوني الدولي وقد تم بعد ذلك إضافة فقرات اخرى من نهج البلاغة غير عهده (عليه السلام) لمالك الاشتر كمصدر للقانون الدولي(10)، فإذا اخذنا بنظر الأعتبار الفارق الزمني الكبير بين اطلاع كوفي عنان على عهده (عليه السلام) وبين تأريخ صدوره، حيث كان قد صدر عنه (عليه السلام) قبل اكثر من اربعة عشر قرناً من الزمان ولازال صالحاً في الاستناد

ص: 405

إليه إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة مما يدل على عظمة الإمام (عليه السلام) وأن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين.

كما جاء في كتاب los history الموجود حاليا في مكتبة الكونغرس الامريكي بواشنطن لمؤلفه الكاتب الامريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان الذي يذكر فيه اعجابه الفائق بالسياسة الحكيمة لشخص خليفة المسلمين علي بن ابي طالب بعد ان اطلع على رسائله التي حررها الى ولاته في الامصار الاسلامية ومنهم مالك الاشتر مؤكدا عليهم ان يعاملوا المواطنين من غير المسلمين بروح العدل والمساواة في الحقوق والواجبات(11)، فالكاتب الاجنبي اعتبر ذلك انعكاسا صادقا لسلوكيات الخليفة الحميدة المؤطرة بفضائل الاخلاق التي اهلته للدخول في تاريخ الانسانية من ابوابه العريضة.

ص: 406

المبحث الأول: الوزارات السيادية وشرائط رئيس الحكومة

المطلب الأول: الوزارات السيادية

المطلب الثاني: شرائط رئيس الحكومة

تمهيد

إن وضيفة الوالي والرئيس هي متابعة كل صغيرة وكبيرة في حدود البلد المسؤول عليها ومن الطبيعي أن ذلك لا يتسنى له بالمباشرة وخصوصاً فيما إذا كانت اطراف البلد متباعدة وواسعة، ومن هنا فلا بد من الأعتماد على نظام الوسائط او سلسلة المراتب الإدارية سواء كانت مدنية او عسكرية، وهذا المفهوم كان موجوداً وتحدث عنه الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) في عهده غاية الأمر أن هذا المفهوم توسع وأضيفت له مصاديق اخرى في زماننا وإن كان المفهوم واحداً، وسوف يأتي في آخر هذا البحث الملاك فيمن يقع عليهم الإختيار ليكونوا بطانة الحاكم وإدارة الوزارات والمسؤليات المهمة في البلد فانتظر.

وقد اوجز الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) في بداية العهد كليات ما يريد الحديث عنه وتناول ذلك بنحو الإجمال ثم اردف ذلك بتفصيل لما اجمله في البداية، حيث ركز حديثه في المقدمة عن المسؤليات السيادية أو الوزارات السيادية وهي:

1- وزارة المالية

2- وزارة الدفاع والداخلية

3- وزارة الثقافة والإعلام

4- وزارة الإسكان والإعمار

ص: 407

المطلب الأول: الوزارات السيادية

1- وزارة المالية:

إن الموارد المالية للدولة الإسلامية في ذلك الزمان تنحصر بالإموال المستحصلة من الخراج وهذه الأموال تقوم الدولة على تقسيمها في انجاز الوضائف الإساسية لعموم الناس، وعلى مصالحهم العامة وقد نصّ الإمام الأمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك من خلال بيان الوظيفة الأساسية التي يجب على الوالي والحاكم القيام بها حيث ذكر ان على الحاكم: (جباية خراجها)، وهذا المورد يمثل عصب الحياة الرئيسية لإنجاز وضائف الدولة وتغطية نفقاتها.

2- وزارة الدفاع والداخلية

إن على الحاكم التصدي لتشكيل وزارتي الداخلية والدفاع، وهما جبهتين أحدهما الغرض منه ردّ العدو الداخلي والثاني الغرض منه رد العدو الخارجي وقد نصّ الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) على تشكيل كلا الوزارتين بقوله: (وجهاد عدوها)، ويدخل تحت إطلاق قوله (عدوها) تشكيل أي قوات مسلحة أو غير مسلحة لهذا الغرض؛ طالما أن الجميع يدخل تحت عنوان العدو، وذلك من قبيل جهاز المخابرات وجهاز الأمن الوطني، وغيرهما مما يقتضيه جهاد الأعداء.

3- وزارة الإعلام

نص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أستصلاح أهل مصر، حيث قال: (استصلاح أهلها)، وهو نضير استصلاح الأرض، حيث أن الارض البوار تحتاج إلى استصلاح وذلك لانها سبقت بفترة كانت الارض فيها غير مزروعة وبتالي فهي

ص: 408

مالحة، وهكذا الحال في الانسان يحتاج إلى استصلاح حيث تعاقبت عليه دول جائرة وعادلة كما ذكر (عليه السلام)، وهذا لا يكون إلا بالتعليم والتثقيف والتوجيه عبر الوسائل المتاحة ذلك الزمان والمتمثلة في حضور الناس للمساجد والحضور في المنتديات العامة وأن الملاحظ من سيرة الإمام كان دائم التوجيه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً لا يصرفه عنه جهاد ولا يقعده عنه سبب، حيث روي أنه (عليه السلام) كان إذا فرغ من الجهاد يتفرغ لتعليم الناس والقضاء بينهم(12).

4- الوزارات الخدمية

من وضائف الحاكم الاهتمام بالوزارات الخدمية من قبيل وزارة الاسكان والإعمار ووزارتي الزراعة والصناعة وغيرهما من الوزارات الخدمية الأخرى وقد نصّ الإمام عليه بقوله: (وعمارة بلادها)، فإن وظيفة هذه الوزارات الثلاث وغيرها، ينصب عملها لعمارة البلاد.

المطلب الثاني: شرائط رئيس الحكومة

إن الشرطان الاساسيان الواجب تحققهما في رئيس الحكومة بل لابد من توفرهما كشرط في تسنم جميع هذه المسؤليات والوزارات السيادية هو أمران ورد النص عليهما في القرآن الكريم هما:

الاول: قال امير المؤمنين (عليه السلام): (تقوى الله وإيثار طاعته وإتباع ما امر به في كتابه، من فرائضه وسننه التي لا يسعد احد إلا بإتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وان ينصر الله بقلبه ويده ولسانه فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه)(13)؛ حيث ورد النصّ على ذلك في القرآن الكريم، حيث قال عزّ من

ص: 409

قائل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(14)، فمن برز لنصرة الله برز الله تعالى لنصرته وهكذا تسير الوزارات في أعمالها على نحو ايجابي سلس، والضامن له ما تعهد الله تعالى به في الآية، وامير المؤمنين (عليه السلام) طالما الكل يسعى لنصرة الله تعالى.

الثاني: نصّ الإمام امير المؤمنين على الشرط الثاني حيث قال: (وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها(15) عند الجمحات(16)، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله)(17)، ومفاده عصيان رغبات النفس وشهواتها وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»(18)، فإن النفس الإنسانية لابد من ترويضها بأداء الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات والمكروهات، وإلا خرجت عن حد الإعتدال بالإنسان إلى ما لا يريده الله تعالى.

ص: 410

المبحث الثاني

المطلب الأول: الأطر العامة لسيرة رئيس الحكومة

إن الإمام (عليه السلام) بيّن لمالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) الأطر العاملة لشخصية رئيس الحكومة وما لها وما عليها، وبداية يخبره بأن عقلية القوم غير مرتبة فالمفاهيم مضطربة عندهم وذلك لانه قد جرت عليهم دول مختلفة من عدل وجور، وبتالي يحتاج إلى إعادة ترتيب المنظومة المعرفية لهم ويجب أن يروا ذلك عملاً لا فقط بالقول من لدن الحاكم، قال (عليه السلام): (ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم)(19)، وينبغي أن يحسب رئيس الحكومة حسابه فإنه مراقب من قبل عموما الناس فإنهم ينتظرون منه تلبية حاجاتهم الظرورية والعمل بوظيفته وعليه مراعاة ما يأتي:

1- إن مثل رئيس الحكومة كمثل عامة الناس يجب أن يكون همه وغمه هو العمل الصالح، قال امير المؤمنين: (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح)(20).

2- يجب ألا ينساق الإنسان وفقاً لشهواته، بل الأمر بالعس بإن يملك الإنسان التحكم بهواه، وهكذا الحال بالنسبة إلى رئيس الحكومة قال امير المؤمنين: (فأملك هواك).

3- رئيس الحكومة مثله كمثل سائر الناس فإنه لا يكون كل شيء له مباح، بل له الحق

ص: 411

فيما يحب ويكره في حدود الأشياء المباحة له، قال امير المؤمنين (وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيها أحبت أو كرهت).

4- يجب أن يكون الوالي على بلد رحيماً بالرعية محباً لهم عطوف عليهم كأفراد عائلته، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم).

5- لا يجوز للوالي على بلد أن يصادر حقوقهم وذلك بالإستحواذ عليها بلا وجه حقٍ؛ ولا يكون صدور الخطأ منهم مبرراً لهذا الفعل، وذلك لانهم من بني البشر وهم معرضون للخطأ، والزلل والمتوقع من الوالي أن يغفر زلاتهم، قال امير المؤمنين (عليه السلام) (ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ)(21).

6- يجب أن يكون نظر الحاكم إلى ما دونه من عموم الرعية كما يرغب أن يكون نظر الله تعالى إليه من العفو والرحمة، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم)(22).

7- ويجب أن يكون الحاكم عبداً لله تعالى لا أن يكون عدواً له؛ لأنه بحاجة إلى رحمة الله وعفوه، قال امير المؤمنين (عليه السلام) (ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته)(23).

8- لا ينبغي للحاكم أن يندم على عفوٍ منحه للرعية، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولا تندمن على عفو)(24).

ص: 412

9- لا ينبغي ان تكون العقوبات الشرعية سبباً للتبجح والشماتة، كما لا ينبغي المصير إلى العقوبة مع امكان التفصي عنها بعذر، قال امير المؤمنين: (ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن إني فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير فأطاع)(25).

10- لا ينبغي للحاكم ان يحس بالأبهة والاستطالة على الاخرين، وإذا ما حدث ذلك، فينبغي أن يتذكر قدرة الله تعالى عليه، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفي إليك بها عزب عنك من عقلك)(26).

11- لا ينبغي للحاكم مباراة الله في علوه؛ لانه يذل كل جبار، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال)(27).

12- يجب على الحاكم أن ينصف الله والناس من نفسه، بأن يؤدي حقوق الله وحقوق الناس على حد سواء ولا ينبغي أن يأخذ من حقوق الله لنفسه او اهله ولمن له فيهم هوى من الرعية؛ وذلك لان مآل ذلك إلى ظلم الناس ومن ظلمهم كان الله خصيمه وهو المدحض لحجته، فضلاً عن ان الظلم يغير النعم ويعجل بزوال الملك، فضلاً عن أن دعوة المظلوم على ظلمه مستجابة، ولا تزال آثاره إلا برد الحق إلى اهله والتوبة، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله و تعجیل نقمته من إقامة على

ص: 413

ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد)(28).

13- ورد في المأثور (أن خير الامور اوسطها) وإذا دار الامر بين ما يكون موجباً للإجحاف بالاكثرية والاقلية فينبغي اختيار ما يكون مجحفاً بالاقلية دون الاكثرية، وخصوصاً إذا كانت الأقلية هي الخاصة، قال الإمام امي المؤمنين: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، و أعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة)(29).

فإن للخاصة مجموعة خصال هي:

أ- ليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء من الخاصة، قال الإمام امير المؤمنين (عليه السلام): (وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء)(30).

ب- الخاصة قليلوا المعونة في البلاء، قال امير المؤمنين: (وأقل معونة له في البلاء)(31).

ت- الخاصة يكرهون الانصاف، قال امير المؤمنين (عليه السلام) (وأكره للإنصاف).

ث- الخاصة اقل شكراً عند الإعطاء، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (وأقل شكرا عند الاعطاء)(32).

ج- الخاصة لا يعذرون الحاكم إذا منعهم، قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأبطأ عذرا عند المنع)(33).

ح- الخاصة اضعف صبراً على الملمات قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة)(34).

والنتيجة من كل هذه الخصال التي يتصف بها الخاصة، فإنه لا بأس بسخط الخاصة مع رضا العامة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة)(35).

ص: 414

14- أن الدين لا يقوم إلا بالعامة فإنهم عماده، والعدة الذين يستعان بهم على الأعداء وبناءاً عليه فلابد ان يكون الحاكم صاغٍ لهم ومائلاً معهم، ومن هنا فقد نصّ الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك بقوله: (وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم)(36).

15- حث الإمام على أبعاد الحاشية الذي يطلبون معائب الناس وينقلونها إلى الحاكم؛ لان الحاكم المفروض أن يكون الساتر على معائب الناس، قال الإمام امير المؤمنين: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها)(37).

16- لا ينبغي للحاكم أن يكشف عما غاب عنه بل عليه تقویم ما ظهر له من أخطاء الناس وعيوبهم: (فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر)(38).

17- لا ينبغي للحاکم تصديق الساع، فإنه غاش وان تشبه بالناصحين، قال الإمام امیر المؤمنين (عليه السلام): (ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين)(39).

18- ولا ينبغي أن تكون في بطانة الحاكم بخيلاً أو من يعده الفق او حريصاً جباناً؛ لانها غرائز يجمعها سوء الظن بالله تعالى: قال امير المؤمنين (عليه السلام): (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله)(40)

ص: 415

المطلب الثاني: شرائط تسنم الوزارات والمسؤليات المهمة

إن ثمة خصال وسجايا يجب ان يتحلى بها الوزير لكي يقع اختيار الحاكم ورئيس الدولة عليه من بينها:

1- يجب ألا يكون الوزير المختار من قبل رئيس الحكومة وزيراً للأشرار قبل حکومته، ومشتركاً في آثام الحكومات الباطلة، اكد امير المؤمنين على ذلك بقوله (عليه السلام): (إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأئمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك)(41).

2- إن افضل الوزراء منزلة لدى الحاكم يجب أن يكون من يصدقه القول ولا ينقل له غير الحق ولو كان مراً، والورع منهم الصادق القول، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (ثم لیکن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق)(42).

3- إن من الحالات السلبية التي لدى الرؤساء هي حبهم الاطراء عليهم حتى ولو لم يكن لديهم ما يستحق الاطراء، والإمام علي (عليه السلام) ينص على بيان سلبيات الإطراء وإن الإطراء من الباطل على كل حال، وهي:

أ- كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء

ص: 416

تحدث الزهو وتدني من العزة)

ب- إن في الإطراء تزهيداً لاهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة (ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم کلا منهم ما ألزم نفسه)(43).

ت- إن السبب الحقيقي لحسن ظن رئيس بمرؤسيه، هو إحسانه إليهم وتخفيفه متاعب الحياة عنهم، قال امير المؤمنين: (واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طویلا، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده. وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده)(44).

4- لا ينبغي للحاکم ان يزيل السنن الصالحة التي عمل بها الاوائل من هذه الأمة، قال امير المؤمنين (عليه السلام): (ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية)، كما لا ينبغي للحاكم إن يحدث سنة لم تكن موجودة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن فیکون الأجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها)(45)، وقد ورد النص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا المعنى، بقوله (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شي)(46).

5- يجب على الوزير أن يكون شخصاً علمياً لا يصدر إلا عن علم ومعرفة وبناءاً

ص: 417

عليه يجب أن يكثر من مدارسة أحوال ما يصلح بلاده مع العلماء، قال امير المؤمنين: (وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبیت ماصلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك)(47).

ص: 418

الهوامش

1. أنظر الفصول المهمة في معرفة الأئمة: المالكي، ابن الصباغ (855 ه)، 1/ 448، مطبعة: سرور، نشر: دار الحدیث، عام: 1422 ه. انظر: الكنى والألقاب، القمي، عباس (1359 ه)، 2/ 28، نشر: مکتبة الصدر. طهران.

2. مقال عن مالك الاشتر من موقع ويكي شيعة htt://ar.wikishia.net/vew/

3. وسائل الشيعة: العاملي، الحر، 30/ 466، ط 2، مطبعة: مهر، تح: محمد رضا الجلالي، ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرفة، عام: 1414 ه. ق. موسوعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، القرشي، باقر شریف، 9-10/ 58، ط 1، مطبعة: شریعت، عام: 1422 ه، نشر: دار الهدى للطباعة والنشر.

4. تاريخ الطبري: محمد بن جریر (310)، 3/ 570، تح: نخبة من العلماء الأجلاء، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

5. انظر مروج الذهب و معادن الجوهر، المسعودي، علي بن الحسين، 1 - 2/ 537 ه، ط 1، تحقیق و طبع و نشر: دار احیاء التراث العربي، بيروت - لبنان.

6. مقال عن مالك الأشتر من موقع ويکی شيعة htt://ar.wikishia.net/vew/.

7. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: رقم 53، ص: 137، جمع: السيد الشريف الرضي، طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، ط 6، عام: 1422 ه. ق.

8. الصحاح:، 2/ 510.

ص: 419

9. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: رقم 53، ص: 137.

10. /https://ar.wikipedia.org/wiki.

11. المصدر السابق نفسه.

12. موسوعة الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام، القرشي، باقر شریف، 4/ 160، ط 1، مطبعة: شریعت، عام: 1422 ه، نشر: دار الهدى للطباعة والنشر.

13. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

14. سورة محمد الآية 7.

15. يكفها

16. منازعات النفس إلى شهواتها ومآربها.

17. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

18. سورة يوسف، الآية 53.

19. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

20. المصدر السابق نفسه.

21. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

22. المصدر السابق نفسه.

23. المصدر السابق نفسه.

24. المصدر السابق نفسه.

25. المصدر السابق نفسه.

26. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

27. المصدر السابق نفسه.

28. المصدر السابق نفسه.

29. المصدر السابق نفسه.

ص: 420

30. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

31. المصدر السابق نفسه.

32. المصدر السابق نفسه.

33. المصدر السابق نفسه.

34. المصدر السابق نفسه.

35. المصدر السابق نفسه.

36. المصدر السابق نفسه.

37. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

38. المصدر السابق نفسه.

39. المصدر السابق نفسه.

40. المصدر السابق نفسه.

41. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

42. المصدر السابق نفسه.

43. نهج البلاغة، امير المؤمنين، علي بن ابي طالب، الرسائل: 53، ص: 137.

44. المصدر السابق نفسه.

45. المصدر السابق نفسه.

46. المصدر السابق نفسه.

47. المصدر السابق نفسه.

ص: 421

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. وسائل الشيعة: العاملي، الحر، 466/30، ط 2، مطبعة: مهر، تح: محمد رضا الجلالي، ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرفة، عام: 1414 ه-. ق.

2. موسوعة الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام)، القرشي، باقر شريف، 9 - 10 / 58، ط 1، مطبعة: شريعت، عام: 1422 ه، نشر: دار الهدى للطباعة والنشر.

3. مقال عن مالك الاشتر من موقع ويكي شيعة / htt://ar.wikishia.net/vew.

4. الكنى والألقاب، القمي، عباس(1359 ه)، 2/ 28، نشر: مكتبة الصدر. طهران.

5. الفصول المهمة في معرفة الأئمة: المالكي، ابن الصباغ (855 ه)، 1/ 448، مطبعة: سرور، نشر: دار الحديث، عام: 1422 ه.

6. تاريخ الطبري: محمد بن جرير (310)، 3/ 570، تح: نخبة من العلماء الأجلاء، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.

https://ar.wikipedia.org/wiki.v 7.

ص: 422

المحتویات

حُرمة الدماء في العهد العلوي

مقدمة:...13

أولاً / العهود والمواثيق الدولية...16

ثانياً / القرآن المجيد...23

ثالثاً / السُنة النبوية المُطهرة...29

رابعاً / العهد العلوي...33

خامساً / حُرمة الدماء في العهد...41

الخاتمة...45

مراجع الدراسة...48

الهوامش...50

الأساس الإداري والقضائي في عهد الأمام علي (عليه السلام)

الملخص...57

المقدمة...59

أولا / أهمية موضوع البحث:...59

ثانيا / مشكلة البحث:...59

ثالثا/ خطة البحث:...60

المبحث الاول: الأساس الاداري للدولة في عهد الأمام علي (عليه السلام)...61

المطلب الأول: التنظيم الاداري لدولة الخلافة في عهد الامام علي (عليه السلام)...61

المطلب الثاني: السياسة الإدارية في فكر الإمام علي...66

الفرع الأول:الضوابط والمواصفات الشخصية لاختيار الولاة العمال:...66

المبحث الثاني: مفهوم الفكر القضائي في عهد الإمام علي (عليه السلام)...69

ص: 423

المطلب الأول: التعريف بالقضاء ودليل مشروعيته...75

الفرع الأول: التعريف لغة واصطلاحا...76

الفرع الثاني: الغرض من القضاء ودليل مشروعيته...78

المطلب الثاني: القضاء في عهد الإمام علي (عليه السلام)...79

الفرع الأول: مؤهلات القاضي وصفاته في فكر الإمام علي (عليه السلام)...80

الفرع الثاني: وصايا الإمام علي في إجراءات التحقيق...82

الفرع الثالث: استقلال القضاء...84

الخاتمة...85

المصادر...88

الهوامش...92

الرشد السياسي لدى الحاكم بين الغياب والحضور قراءة في الخطاب العلوي عهد الأشتر إنموذجاً

المقدمة...103

المحور الأول: مفاهيم مفردات البحث...104

الرشد في اللغة:...104

الرشد في الإصطلاح...105

الرشد شرعاً...106

السياسة في اللغة...107

السياسة في الإصطلاح...107

الحاكم:...108

المحور الثاني غياب الرشد السياسي بين التشخيص وأثاره السلبية على المحكومين...109

المؤشر الأول:...109

المؤشر الثاني...112

المؤشر الثالث...114

المحور الثالث: حضور الرشد السياسي وآلياته...117

ص: 424

المصادر...123

الهوامش...126

الرؤية السياسية عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قراءة في عهده الى مالك الاشتر

المقدمة...133

التعريف بالعهد...134

مصادر العهد...138

الفصل ما بين السلطات الثلاث...142

1. السلطة التشريعية:-...143

2. السلطة التنفيذية:-...144

3. السلطة القضائية:-...146

عهد - دستور - الإمام علي وحقوق الإنسان:-...152

الامام علي عليه السلام والنظام اللامركزي في ادارة الدولة...156

طبقات المجتمع...162

فئة الإداريين...164

النزاهة في إدارة الدولة...165

طبقة ذوي الحاجات الخاصة...166

مميزات عهد الأمام علي (عليه السلام)...169

التوصيات...171

الخاتمة:-...173

الملاحق...175

ملحق رقم (1) الكتاب السنوي للامم المتحدة لعام 2002...177

قائمة المصادر والمراجع...181

الهوامش...191

ص: 425

اختيار الحاكم وابرز واجباته في ضوء عهد الامام علي بن أبي طالب عليه السلام لعامله على مصر مالك بن الحارث الاشتر النخعي

الخلاصة...201

ادارة الامام علي (عليه السلام) الدولة بعد توليه الخلافة سنة 35 ه / 645 م الصفات العامة للحاكم...202

صفات مالك الاشتر التي اهلته كي يختاره الامام علي لولاية مصر...205

عهد الامام علي لمالك الاشتر وأبرز المهام الوظيفية الواردة فيه...210

المهام الاساسية للحاكم...210

الهوامش...219

المصادر والمراجع...223

اجزاء الدولة ووظائفها دراسة تحليلية بين النص الامامي والفلسفي عهد الامام علي(عليه السلام) انموذجا

المقدمة:...229

اولاً: اجزاء الدولة...231

1. المدبرون...231

2. الجيش...232

3. القوى العاملة...233

ثانياً: وظائف الدولة...234

ثالثاً: العلاقة بين الطبقات الاجتماعية والدولة...237

رابعاً: اركان السياسة العدلة...240

الخاتمة:...248

الهوامش...250

ص: 426

مواصفات وواجبات الحاكم الاسلامي قراءة عهد الامام علي(عليه السلام) لواليه على مصر

مقدمة...255

المبحث الأول: مواصفات الحاكم الاسلامي...257

أولا:- المقومات الخلقية والعقائدية للحاكم...258

ثانيا:- الثقافة العامة للحاكم الاسلامي...262

ثالثا:- الفطنة وحسن الاختيار:...262

رابعا:- العلاقة المباشرة بالناس:...263

خامسا:- اعتماد الشورى وتقريب العلماء...265

المبحث الثاني: مقومات ومبادئ بناء الجهاز الاداري للدولة...267

أولا:- الكفاءة والأمانة أساسا للتوظيف...267

ثانيا: تامين الحاجات المادية للموظفين:...271

ثالثا:- تشكيل جهاز المراقبة والاشراف...274

وتنقسم الرقابة الى نوعين...276

رابعا:- الثواب والعقاب في التعامل مع الموظفين:...278

المبحث الثالث: واجبات الحاكم الاسلامي...281

أولاً: الاصلاح الاجتماعي:...282

ثانياً: تحقيق الامن والدفاع...287

ثالثاً: عمارة البلاد "التنمية الاقتصادية"...289

الخاتمة:...293

الهوامش...294

ص: 427

مصادر التشريع القضائي والقواعد القضائية في عهد الإمام علي (عليه السلام)

المقدمة:...299

اولا / مصادر التشريع القضائي:-...300

1- القرآن الكريم...300

2- السنة النبوية...300

3- علم الائمة الاطهار (عليهم السلام)...301

4- اجماع الفقهاء...302

ثانيا / القواعد القضائية التي ارساها الامام علي (عليه السلام):-...302

1- توحيد الاحكام في القضايا (عليه السلام) المتشابهة...303

2- قاعدة المتهم بريء حتى تثبت ادانته...304

3- القواعد التي اقرها في مجال الشهادة والشهود...304

4- قاعدة اقرار حق الدولة (الحق العام)...307

5- قاعدة الضرورة...308

6- القواعد التي اقرها في مجال البينة واليمين...308

7- القوعد الخاصة في اساليب التعامل مع الخصوم...309

8- القواعد الخاصة بأصدار العقوبات...311

الخاتمة...314

قائمة الهوامش...315

قائمة المصادر والمراجع...327

خصائص الحاكم العادل في كلمات اميرالمؤمنين(عليه السلام) عهد مالك الاشتر انموذجا

المقدمة...341

البعد الايماني والاخلاقي (التقوى)...342

البعد الاداري والسياسي...347

ص: 428

القاعدة الاولى: الاعتبار بتجارب الحكام السابقين...347

القاعدة الثانية: الرحمة والمحبة و اللطف بالناس و عامة الشعب...348

القاعدة الثالثة: انصاف الناس...349

القاعدة الرابعة: مداراة العامة على حساب الخاصة...350

القاعدة الخامسة: اختيار المستشارين...351

القاعدة السادسة: استبعاد اعوان الظلمة من مواقع المسؤولية...351

القاعدة السابعة: اعطاء كل ذي حق حقه...353

القاعدة الثامنة: عدم نقض السنن الصالحة السابقة...353

القاعدة التاسعة: الاتصال المباشر مع الناس...354

القاعدة العاشرة: عدم المن على الرعية باعماله الصالحة...354

البعد الاجتماعي والاقتصادي و العسكري...355

الخاتمة والنتائج...363

الهوامش...365

المصادر...368

القواعد الفقهية غير المصرح بها في عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه مالك الاشتر( رضي الله عنه)

المقدمة...373

الفصل الاول: حياة الامام وحياة واليه...375

المبحث الاول: حياة الامام علي (عليه السلام)...375

حياته: (600 - 661 م)...375

المبحث الثاني: خلافة الامام علي (عليه السلام) نموذجا للسياسة المحمدية...378

الفصل الثاني: القواعد الفقهية غير المصرح بها...378

المبحث الاول: تعریف مفردات البحث...378

اولا - الحاكم...378

ثانيا - المحكوم...379

ص: 429

ثالثا - القواعد الفقهية:...379

المبحث الثاني: القواعد الفقهية غير المصرح بها في عهد الامام علي (عليه السلام) الى واليه في مصر...381

اولا - قاعدة : «انما الاعمال بالنيات»، «الامور بمقاصدها»...382

ثانيا - قاعدة «التصرف على الرعية منوط بالمصلحة»...384

ثالثا - قاعدة: «اليقين لايزال بالشك»...386

رابعا - قاعدة: «الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثل»...387

خامسا «قاعدة «العادة محكمة»...388

سادسا - قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»...389

الخاتمة...391

الهوامش...392

المصادر...369

مقاربات فقهية من العهد الذهبي

مقدمة...403

التعريف بالعهد...404

اهمية العهد الذهبي...405

المبحث الأول: الوزارات السيادية وشرائط رئيس الحكومة...407

المطلب الأول: الوزارات السيادية...407

المطلب الثاني: شرائط رئيس الحكومة...407

تمهید...407

المطلب الأول: الوزارات السيادية...408

1- وزارة المالية:...408

2- وزارة الدفاع والداخلية...408

3- وزارة الإعلام...408

4- الوزارات الخدمية...409

ص: 430

المطلب الثاني: شرائط رئيس الحكومة...409

المبحث الثاني...411

المطلب الأول: الأطر العامة لسيرة رئيس الحكومة...411

المطلب الثاني: شرائط تسنم الوزارات والمسؤوليات المهمة...416

الهوامش...419

المصادر والمراجع...422

ص: 431

ص: 432

المجلد 2

هوية الکتاب

أعمال

المُؤْتَمَرِ العِلِميِّ الوَطَنيِّ المُشْتَرَكِ الأوّلِ

لِمُؤْسَّسَةُ عُلُوْمِ نَهْج البَلَاغَةِ وَمَرْكَزِ دِرَاسَاتِ الكُوفَةِ

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1207 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر:

المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي : مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1207 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر:

المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي : مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

(1)

أعمال

المُؤْتَمَرِ العِلِميِّ الوَطَنيِّ المُشْتَرَكِ الأوّلِ

لِمُؤْسَّسَةِ عُلُوْمِ نَهْج البَلَاغَةِ وَمَرْكَزِ دِرَاسَاتِ الكُوفَةِ

لسنة 1438 ه - 2016 م

(المحور القانوني والسياسي)

الجزء الثاني

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر(عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني:

www.inahj.org

الايميل:

Inahj.org@gmail.com

الکتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحکم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) لمالك الأشر (رحمه الله).

الجهة الراعیة للمؤتمر: الأمانة للعتبة الحسینیة المقدسة ورئاسة جامعة الکوفة.

الجهة المقیمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة.

المدة: أقیم في یومي 24 - 25 من شهر کانون الأول من العام 2016 م الموافق 23 - 24 من شهر ربیع الأول من العام 1438 ه.

رقم الإیداع في دار الکتب والوثاق الوطنیة 1207 لسنة 2018 م

الناشر: العتبة الحسینیة المقدسة.

عدد المجلدات: 10 مجلد

عدد البحواث المشارکة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة: مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه: إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

التأصيل الفقهي لدور الحاكم في الاسلام قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام)

اشارة

الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

د. بتول فاروق محمد علي

ص: 5

ص: 6

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في ضوء التجاذبات الكبيرة بين الطوائف حول دور الحاكم وسلطته المطلقة او المقيدة في الاسلام، وكذلك التجاذبات الأخرى مع من يرى ان الإسلام ليس له نظرية حكم، وان الحاكم لا يفترض ان يكون له الدور الديني. ومع ملابسات الدور التاريخي الذي لعبه الحاكم الاسلامي عبر العصور، نجد ان التنظير الفقهي بدوره كان ملتبسا نتيجة تغييب ائمة اهل البيت عليهم السلام، عن الحكم. وربما وجدت كتابات متفرقة عن شكل الحكم، ولكن الأدوار التي ينبغي ان يمثلها الحاكم لم تكن موجودة، سواء كان الحاكم خليفة او من الولاة على الامصار الاسلامية. الا ان عهد مالك الاشتر احتوی تفصیلات متعددة يطلب فيها الخليفة الشرعي من واليه ان يقوم بها، كواجب عليه، لإصلاح رعيته، وكانت هذه التعليمات بمثابة دستور على الحاكم أن يطبقه ويعمل على ضوئه.

من هنا جاء البحث ليسلط بعض الضوء على هذه الأدوار بدراسة فقهية أولية، لنرى براعة الامام في رسم ملامح کاملة لها، مما جعلها خالدة تطبق في كل عهد

و مکان.

تناول البحث كما هو معتاد في المبحث الأول، تأصيل العنوان و تعريف المفردات والمصطلحات المستخدمة فيه. كما تناول نظرية الحكم واهمية الحاكم للحياة العامة.

اما المبحث الثاني فانه تناول المعطيات الموجودة في العهد المرسومة بوضوح بكلمات

ص: 7

بليغة شاملة. اما المبحث الثالث فقد تناول التأصيل الفقهي لها، اي للمعطيات وكيفية استخراج حکم عام من خلال هذا النص، يمكن أن يشكل دستورا عاما للحاكم في اي مكان بغض النظر حتی عن انتمائه الديني لأنها مفاهیم انسانية عامة، تنطبق على اي تجمع انساني.

وسيكون للبحث نتائج يمكن أن تكون كتوصيات لنا لنضع العهد في مكانه

التطبيقي وليس في بطون الكتب، ولتكن ثقافة عامة يعرفها السياسي حين يتقلد اي منصب سلطوي عام.

كما أن البحث سيحتوي على مصادر ومراجع يذكر في اخره، كما هو متعارف في البحوث.

ومن الله التوفيق.

ص: 8

المبحث الأول تأصيل العنوان

وسيتناول تعريف المصطلحات الواردة في البحث، تلافيا لحصول لبس في بعض

مفرداته.

المطلب الأول: مقاربات مصطلحية

التأصيل: لغة: ايجاد اصل للشيء، والأصل الذي يبنى عليه غيره

والفقه: هو العلم بالشيء والفهم له، واصطلاحا: هو العلم بالأحكام الشرعية

العملية المستنبطة من ادلتها التفصيلية

الدور: لغة: دور جمعها ادوار: مهمة ووظيفة، قام بدور، اي لعب دورا: شارك

بنصيب كبير.

الحاكم: الحكم هو المنع لغة، والحكم بالشيء: أن تقضي بانه كذا، أو ليس بكذا،

سواء الزمت ذلك غيرك ام لم تلزمه والحاكم يقال لمن يحكم الناس.

والاسلام، لغة، هو الخضوع والانقياد.

الاسلام اصطلاحا: هو الدين الذي اوحی به الله تعالى لنبيه محمد ص، ليوصله

للناس كافة.

الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، هو خليفة المسلمين الرابع، واول الائمة عند الامامية، استمرت خلافته لاربع سنوات وبضعة اشهر 35 ه - 40، وهو اخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمؤاخاة، وصهره على فاطمة عليها السلام.

ص: 9

العهد او الرسالة: هو كتاب رسالة كتبها الامام الى مالك الأشتر، حينما ولاه بلاد

مصر، وهو من اهم واطول كتب امير المؤمنين عليه السلام.

مالك الأشتر: مالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفيّ، المعروف بالأشتر، من أصحابه أمير المؤمنين عليه السلام ومن أثبتهم. أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهو من ثقاة التابعين. وكان رئیس قومه. وكان الإمام عليّ عليه السلام يثق به ويعتمد عليه، وطالما كان يُثني على وعيه وخبرته وبطولته وبصيرته وعظمته، ويفتخر بذلك. أوّل حضور فاعل له كان في فتح دمشق و حرب اليرموك، وفيها أُصيبت عينه فاشتُهر بالأشتر.

عاش مالك في الكوفة. وكان طويل القامة، عريض الصدر، عدیم المثيل في الفروسيّة. وكان المزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته وأُبّهته وحياته، تأثير عجیب في نفوس الكوفيّين.

المطلب الثاني: صفات الحكم في عهد الامام علي عليه السلام

اشتهر الأمام بالقيام بالعدل بين الناس والمساواة في العطاء، وتغيير النظام التمييز بين الصحابة والتابعين وغيرهم من حيث الحسب والنسب، وقد اتّسم موقف الإمام عليه السلام بالشدّة والصرامة على هؤلاء الذين نهبوا أموال المسلمين بغير حقّ، فأصدر أوامره الحاسمة بمصادرة جميع الأموال التي اختلسوها من بیت المال، وتأميمها للدولة، وقد قال في الأموال التي عند عثمان: «وَاللهِ! لَوْ وجده - أي المال - قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِماءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإنَّ في العَدْلِ سَعَةً. وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أضيَقُ».

ومن ابرز خطواته في المساواة كانت:

ص: 10

1- المساواة في العطاء:

ساوى الإمام عليه السلام في العطاء بين المسلمين وغيرهم، فلم يقدّم عربياً على غيره، ولا مسلماً على مسيحي، ولا قريباً على غيره، وسنتحدّث عن كثير من مساواته في العطاء الأمر الذي نجم منه أنّه تنکّرت له الأوساط الرأسمالية وأعلنوا الحرب عليه .

2- المساواة أمام القضاء:

وألزم الإمام عمّاله وولاته على الأقطار بتطبيق المساواة الكاملة بين الناس في

القضاء وغيره، قال عليه السلام في إحدى رسائله إلى بعض عمّاله:

«فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَألِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتّى لا يَطْمَعَ العُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، وَلا يَیْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ..».

3 المساواة في الحقوق والواجبات:

ومن مظاهر المساواة العادلة التي أعلنها الإمام عليه السلام المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، فلم يفرض حقّاً على الضعيف ويعفُ عن القوى، بل الكلّ متساوون أمام عدله.

4- انشاؤه بيتاً للمظالم.

وأنشأ الإمام بيتاً للمظالم أنشاه للذين لا يتمكّنون من الوصول إلى السلطة، وكان عليه السلام يشرف عليه بنفسه ولا يدع أحداً يصل إليه فيطلع على الرقاع، ويبعث خلف المظلوم ويأخذ بحقّه من الظالم، ولمّا صارت واقعة النهروان ورجع إلى الكوفة فتح باب البيت فوجد الرقاع كلّها مليئة بسبابه وشتمه، فألغى ذلك البيت».

ص: 11

5- أمرُهُ بكتابة الحوائج

وأصدر الإمام عليه السلام مرسوماً بكتابة الحوائج وعدم ذكر أسمائهم، فقد قال عليه السلام لأصحابه:

(مَنْ كانَتْ لَهُ إلَيَّ مِنکُم حاجَة فليرفَعْها فِي كتابٍ لأصُونَ وُجُوهَکُم مِن المسألَة.

سياسته المالية:-

كان للإمام عليه السلام منهج خاصّ متميّز في سياسته المالية، ومن أبرز مناهجه أنّه كان يرى المال الذي تملكه الدولة مال الله تعالى ومال المسلمين، ويجب إنفاقه على تطوير حياتهم، وإنقاذهم من غائلة البؤس والحاجة، ولا يختصّ ذلك بالمسلمين، وإنّما يعمّ جميع من سكن بلاد المسلمين من اليهود والنصارى والصابئة، فإنّ لهم الحق فيها کما للمسلمين.

كان الإمام عليه السلام يرى الفقر كارثة اجتماعية مدمرة يجب القضاء عليه

بجميع الوسائل، وقد اُثر عنه أنّه لو كان رجلاً لقتلته

واحتاط الإمام كأشدّ ما يكون الاحتياط في أموال الدولة، وقد روى المؤرّخون

صوراً مدهشة من احتياطه فيها كان منها ما يلي:

ص: 12

1- مع عقيل:

وفد عليه عقيل طالباً منه أن يُرفّه عليه ويمنحه الصلة، فأخبره الإمام أنّ ما في بیت المال للمسلمين، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً، وإذا منحه وأعطاه منه فإنّه يكون خائناً ومختلساً، وإخذ عقيل يلحّ عليه ويجهد في مطالبته، فأحمي له الإمام حديدة وأدناها منه، فظنّ أنّها صرّة فيها مال، فألقى نفسه عليها، فلمّا مسّها كاد أن يحترق من میسمها، وضجّ ضجيج ذي دنف منها.

2. مع الحسن والحسين:

ولم يمنح الإمام أي شيء من بیت المال لسبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وعاملهما كبقيّة أبناء المسلمين. يقول خالد بن معمر الأوسي لعلياء بن الهيثم وكان من أصحاب الإمام: اتّق الله يا علياء! في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمّل عند رجل أردته أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها العيش فأبی وغضب فلم يفعل؟

وهناك الكثير من الاحداث والصور التي تحمل المعاني النبيلة للإمام وتبين ادوار

الحاكم المثالي.

المطلب الثالث: العهد قراءة تاريخية:-

اولا: سند العهد تاريخيا:

رواه:

1 - محمّد بن الحسن الطوسي من أعلام القرن الخامس: ذكر الشيخ الطوسي سنداً

صحيحاً عند المشهور للعهد.

2 - النجاشي: روى العهد بطريق آخر صحيح عند المشهور،

ص: 13

3 - ورواه الشريف الرضي أخو الشريف المرتضى في كتاب نهج البلاغة.

4 - ورواه أيضاً ابن أبي شعبة الحرّاني - الذي كان يعيش في أواسط القرن الرابع

المعاصر للشيخ الصدوق - في كتابه تحف العقول.

5 - ورواه القاضي النعمان، وهو من علماء الإمامية، وكان قاضياً أيام حكم الفاطميين في مصر في القرن الرابع والخامس، رواه في كتابه دعائم الإسلام، إذن عهد مالك الأشتر له العديد من المصادر.

المطلب الرابع: اهمية نظام الحكم في الاسلام والتنظير الفقهي التاريخي:-

نظام الحكم جزء من الدين الاسلامي، فالإسلام ليس نظاما عقائديا بحتا، بل فيه تفصیلات لإدارة شؤون الناس. ويركز الاسلام على ضرورة تطبيق شرع الله في الأرض، من هنا كان لابد من وجود دولة تطبق ذلك في مسألتين:

1 - عرض الإسلام على العالم والقيام بالدعوة الإسلامية.

2 - وجود نظام حکم او هيئة أو جماعة سياسية تتصدى لتطبيق احكام الاسلام

وتطبق العقوبات وتقيم الحدود. يقول تعالى «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ» الحج: 41.

وقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» النساء:59

ونظام الحكم في الاسلام لم يدرس بشكل كاف، لما حصل من التباس بين المذاهب الاسلامية، فالأمامية يرون الحكم مسألة دينية ويعود امرها إلى الأمام المعصوم،

ص: 14

والاخرون يرونها للامة أحيانا، وشورى لمجموعة من الناس، وملك عضوض، وخلافة بالوراثة. او استيلاء بالقوة، وكان الحاكم يمارس ادوار الخلافة الدينية والدنيوية بلا رادع من احد وكانوا يرون البيعة لا ترد، حتى لو اخطأ الحاكم، او تحاوز تعاليم الشريعة والعدالة. الأمامية يرون ان اولي الامر المذكورة في الآية هم المعصومون، الذين أذهب الله عنهم الرجس اهل البيت (عليهم السلام)، لان الله لا يأمر باتباع الانسان الخطاء. ان اهم مسألة في حياة المسلم في البلد الاسلامي هي مسألة الحكم والعدل فيه. ومع ذلك وجدنا التاريخ الاسلامي کله مليء بالصراعات والمواقف البعيدة عن الاطار الصحيح الذي رسمه الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وهناك دعوات لعدم الخروج على الحاكم الظالم، قال ابن كثير :» الامام اذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه على اصح قولي العلماء، بل لا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من آثارة للفتنة، ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الاموال...»

ومن هنا نشأت فكرة الاستبداد في التنظير الفقهي الإسلامي، يقول السيد عبد الجبار الرفاعي: «يمكن القول أن الاستبداد ظل على الدوام اشد العوامل تأثيرا في تفكير المسلمين السياسي، فما انجزه هذا التفكير من أحكام وافکار، کانت تصاغ في افاق رؤية المستبد، وتتخذ من اراء المستبد وقناعاته مرجعية له»، وهذا يبين ان المسلمين اعتمدوا رؤية الحاكم لإنتاج فقه الدولة وليس العكس، اي انتاج فقه الدولة اولا وفق مفاهيم الإسلام ليلتزم بها الحاكم والرعية على حد سواء. وهذا التنظير هو الذي جعل التجربة السياسية للحكم الاسلامي متسما بالظلم والجور، والخلاعة والمجون، خلافا لتعاليم الاسلام الواضحة.

ص: 15

المبحث الثاني: المفاهيم التي وردت في العهد لمالك الأشتر في دور الحاكم او الوالي الاسلامي.

يمكن تقسيم ادوار الحاكم الى ادوار عدة:

1 - الدور القيادي في حكم البلد: الولاية على الحكم وتمشية امور الدولة.

وهو الدور الاول للحاکم، ويشمل جوانب كثيرة. منها الدعوة للدين ومراقبة

الحالة العامة للبلد.

2 - الدفاع عن الدولة والحفاظ على أمنها وعلى نظامها.

3 - توجيه القضاء العادل وفق احكام الشرع الاسلامي.

4 - تعيين الموظفين والولاة والجباة.

5 - توجيه السياسة المالية للدولة وفق مفاهيم العدالة وعدم الجور في اخذ الجباية.

و هناك ادوار اخرى للحاکم، يمكن أن يقوم بها، كأدواره الاجتماعية والروحية

التي يكون بها المثل الأعلى للناس.

وهنا سنقرأ العهد ونرى ماهي الأدوار التي رسمها الامام لوليه الذي ولاه مصر.

(عهد الامام علي الى مالك الأشتر حين ولاه مصر.

اولا: ولاه لغرض:

أ - جباية خراجها، اي تنظيم امور الضرائب بالمفهوم الحديث.

ب - مجاهدة عدوها. اي الحفاظ على الأمن والدفاع عن البلد ضد العدو.

ج - استصلاح اهلها، باقامة العدل. والرحمة بهم والعفو عنهم ومسامحتهم.

د - عمارة بلادها. واحیاء اراضيها والعمل على نموها. قال الامام عليه السلام في

ص: 16

عهدة «جباية خراجها ومجاهدة عدوها واستصلاح أهلها وعارة بلادها».

ثانيا: في التعامل مع الرعية / المواطنين:

اسهب العهد بذكر صفات الحاكم والادوار الروحية والدينية والاجتماعية،

والطريقة التي يجب أن يتعامل بها الوالي مع الرعية.

فقد ذكر العهد «أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها ولا يشقى إلآ مع جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه فإنّه قد تكفّل بنصر من نصره إنّه قوي عزيز.

وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم. وأن يعتمد کتاب الله عند الشبهات فإنّ فيه تبيان كلّ شيء وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون. وأن يتحرّى رضا الله ولا يتعرّض لسخطه ولا يصرّ على معصيته فإنّه لا ملجأ من الله إلاّ إليه»

هذه هي الصفات التي يرسمها الإمام للحاكم المسلم:-

أ - تقوى الله بكل تجلياتها بالرحمة والايثار. وان على الحاكم الرجوع الى كتاب الله عند الشبهات فهو دستور المسلمين. وانه لابد للحاكم أن لا يصر على الخطأ وعلى المعصية، على العكس من التنظيرات التي لا تجبر الحاكم على أن لا يتجاهر بالمعصية وان لا يعصي الله أصلا، وأن يقوم بالعدل بين الناس.

ب - أن يضع الحاكم ذاته معیارا، فيما كان يكرهه من الحكام:

«ثمّ اعلم يا مالك أنّي وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأنّ الناس ينظرون من أُمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أُمور الولاة قبلك

ص: 17

ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم وإنّما يستدلّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعی به رعيّتك فاملك هواك وشُحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وكرهت.

ج - الرعاية والرحمة:

وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بالإحسان إليهم ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتَعرِض لهم العِلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاّك بما عرّفك من كتابه وبصّرك من سنن نبيّه (صلى الله عليه وآله).

هذا الدور للحاكم - الدور الراعي المحب-، لا الحاكم المتسلط الجبار الذي يغتنم اكل الرعية، هو ما يريده الاسلام، دین الرحمة والعطف والمساواة والعدالة. وهذا مالم يتواجد في الانظمة الاسلامية التي حكمت بلاد المسلمين عبر التاريخ الاسلامي، الابتعادهم عن هذه المفاهيم الحية الرحيمة. وذلك لانهم ابتعدوا عن منهج النبوة المحمدية التي تمثلها اقوال الامام علي عليه السلام وحكمه وكتبه وخطبه وسيرته العملية.

د - العفو والصفح:

«فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه..» وقوله: «لا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة..»

ص: 18

ه - عدم التكبر والغرور ومساماة الله في عظمته، أي عدم مباراة الله في سموه.

«اياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه في جبروته، فان الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال».

ز - انصاف الناس من ذات الحاكم ومن خاصته من اهله، ومن خواص الناس عنده:

يلاحظ أن من المشاكل الكبيرة التي يواجهها الناس والحاكم، هو بطانته السيئة، لذا خذر الامام من هذه الناحية «أنصف الله، وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك «، وعدم ادخال من في مشورة الحاكم من يبحث عن معائب الناس، والبخيل والجبان والحريص الذي يزين للحاكم الشر بالجور ظ: نهج البلاغة.

ح - طلب الامام من الحاكم أن يكون عادلا غير ظالم:

«من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض

حجته..»

ط - الاكثار من مجالسة العلماء والحكماء. «و اکثر مدارسة العلماء، ومنافثة الحكاء، في تثبیت ماصلح عليه امر بلادك، واقامة نا استقام به الناس قبلك».

ي - سياسة الناس حسب اعمالهم ومهنهم، فالعدل يكون بينهم، والطبقة السفلى من الرعية «يحق رفدهم ومعونتهم».

ص: 19

ويقول عليه السلام «الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمسكين،

والمحتاجين، واهل البؤسي والزمني..، واجعل لهم قسما من بيت مالك..».

ك - اختيار القضاة من افضل الرعية في نفس الحاكم: «ممن لاتضيق به الأمور،

ولاتمحكه الخصوم..».

ل - اختيار العال (الموظفون) بعد الاختبار: «انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا توهم محاباة وأثرة».

م - مراقبة العمال بتفقد أعمالهم: «وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء

عليهم..».

ن - تفقد الخراج بما يُصلِحُ اهله: «وتفقد امر الخراج بما يُصلِحُ أهله، فان في صلاحِه وصلاحِهِم صلاحا لمن سواهم..».

س - على الحاكم أن يعمر الأرض قبل التفكير باخذ الخراج (او الضريبة المالية بالتسمية الحديثة): «ولیکن نظرك عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة...».

ع - الاهتمام بالحالة الاقتصادية للرعية، والوضع الاقتصادي للبلد 1 - الوصية

بالتجار واصحاب المهن: «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، واوص بهم خيرا المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فانهم مواد المنافع واسباب المرافق..».

2 - المنع من الاحتكار: «فامنع من الاحتكار، فان رسول الله صلى الله عليه و آله منع منه، وليكن البيع بيعا سمحاء بموازین عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حُکْرَةً، بعد نهيك اياه، فنكل به، وعاقبه من غير اسراف..».

ص: 20

ف - اقامة مجلس لسماع شكاوى الناس وحاجاتهم: «واجعل لذوي الحاجات منك

قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غیر متتعتع..»، اي غير متردد من الخوف. لا يطول الاحتجاب عن الناس:

«فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور

ص - اقامة الفرائض الدينية كاملة غير مثلومة ولا منقوصة من قبل الحاكم، ولكن

«اذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فان في الناس من به العلة وله الحاجة..»، وهذا يمثل الدور الديني للحاكم في الدولة الدينية القائمة على اساس الدين الإسلامي، وليس في الدولة المدنية، بغياب الامام المعصوم علیه السلامعند الامامية وينظر فتاوى السيد السيستاني وموقفه من الدولة المدنية، على سبيل المثال: مشروع المدنية وقيم المواطنة واظهار الحق المخفي واعلام الناس بالحقائق حول الحاكم والحكم:» وإن ظنّت الرعية بك حيفاً فأصحِر لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في تلك رياضة منك لنفسك ورفقاً منك برعيّتك وإعذاراً تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحقّ في خفض وإجمال».، واصحراي ابرز لهم وبين عذرك فيه. کما ذکره محمد عبدة في شرحة لنهج البلاغة.

وهذا يبين اثر الاعلام على الناس، وان يفصح الحاكم عن تصرفاته وخطواته لئلا تثير الشكوك في نفوس الرعية، يؤدي بهم الى التذمر وربما العصيان نتيجة لذلك، مما يؤدي إلى انعدام الأمان.

ر - قبول الصلح اذا دعا العدو الحاكم اليه، وفيه رضا الله «فإنّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك. ولكنّ الحذر كلّ الحذر من مقاربة عدوّك في

ص: 21

طلب الصلح فإنّ العدو ربا قارب ليتغفّل فخذ بالحزم «وتحصّن كلّ مخوف

تؤتي منه وبالله الثقة في جميع الأُمور».

ش - الوفاء بالعهد للعدو اذا اتخذ الحاكم معهم عقدا:» وإن لجّت بينك وبين عدوّك

قضية عقدت بها صلحاً أو ألبسته منك ذمّة فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّة دونه فإنّه ليس شيء من فرائض الله جلّ وعزّ الناس أشدّ عليه اجتماعاً في تفريق أهوائهم وتشتيت أديانهم من تعظيم الوفاء بالعهود» وايضا قوله «فلا تغدرنّ بذمّتك ولا تخفر بعهدك ولا تختلنّ عدوّك فإنّه لا يجترئ على الله إلاّ جاهل وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى مَنَعته ويستفيضون به إلى جواره فلا خداع ولا مدالسة ولا إدغال فيه»

ش - عدم سفك الدماء بغير حلّها:» وإيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى لزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير الحقّ والله مبتدئ بالحكم بين العباد فيما يتسافكون من الدماء فلا تصوننّ سلطانك بسفك دم حرام فإنّ ذلك يخلقه ويزيله « فإيّاك والتعرّض السخط الله فإنّ الله قد جعل لولي من قتل مظلوماً سلطاناً قال الله: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا».

الاسراء: 33.

ت - المساواة بين الرعية والحاكم: «وإيّاك والاستئثار بما للناس فيه اسوةٌ «. اي احذر أن تخص نفسك بشيء تزيد به عن الناس وهو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

تتحدد الأدوار هنا، حسب الرؤية الدينية للحاکم، الذي يمثل الشريعة الاسلامية - الانسانية، التي هي الدستور الكامل للحياة في البلاد الإسلامية .

ص: 22

المبحث الثالث: التنظير الفقهي لأدوار الحاكم في الاسلام

ربما من اعقد الامور الاشكالية التي واجهت المسلمين عبر تاريخهم هي مسالة الحكم، فانقسم المسلمون الى فريقين

القسم الأول: يرى أن الأمور في مسالة الحكم قد جرت بشكل عفوي، غير منظم، في فترة الرسول ص وما بعده في الخلافة التي سميت بالراشدة بوقت متأخر عن فترتها، وهذه ما تمثله مدرسة الجمهور، التي ترى أن الحكم يعود للناس، من اهل الحل والعقد.

القسم الثاني: يرى ان الاسلام جاء متكاملا، وقد رسم نظام الحكم القائم على اساس الدين الاسلامي، وهي نظرية الامامة المنصوص عليها من قبل الرسول ص. لان الدين الاسلامي هو خاتم الديانات، ولذلك لابد من طرح نظام الحكم بشكل واضح ويتولاه اشخاص يتحلون بالكمال، لان اقامة الحدود ومجاهدة الاعداء، امر خطير، يحتاج إلى انسان يتمتع بالعصمة. ومن خلال هذا الجدال العقدي، شهد التاريخ الاسلامي تزيفا واسعا وصار الحكم بأشكال متعددة، لا تعطي صورة واضحة لنوع نظام الحكم في الاسلام. فاذا كان الحكم دينيا قائما على الرؤية الشرعية للأحكام الاسلامية المتفق عليها، وهي كثيرة، فكيف شهدنا تناقضا بين تصرفات الخلفاء الذين يدعون خلافتهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تطبيقا للإسلام. فاذا نظرنا إلى انظمة الحكم بصورة عامة وجدنا:-

ص: 23

أ - الحكم الديني (مثل الحكم البابوي في المسيحية، والخلافة الاسلامية عند المسلمين)

ب - الحكم المدني (النظام الديمقراطي: حكم الشعب)

ج - نظام امبراطوري.

د - نظام ملكي.

اما نظام الحكم في الاسلام فصار ملوکیا امبراطوريا، فلا هو يحمل شکل الخلافة

الدينية ولا حكم الشعب بل ملكية متوارثة كما في العهد الأموي.

والعباسي وما بعدهم الى العثماني. ثم جاءت الدول الحديثة بعد الاحتلالات الاستعمارية الغربية لحواضر «الخلافة الاسلامية» التي لم تكن تمثل الاسلام حقيقة. بل ملکیات متوارثة متخلفة اوصلت المسلمين إلى الحضيض اقتصاديا وثقافيا وسياسيا.

التنظير الفقهي لأدوار الحاكم عند جمهور المسلمين:

استند التنظير الفقهي لأدوار الحاكم، عند هذه المدرسة، بحسب ما افرزه الواقع العملي للحكام الذين تعاقبوا على تولي « الخلافة«، وصارت تخضع الامور الى مزاجية الحاكم والى مزاجية المحيطين به، بل تدخل بالحكم حتى الجواري والقیان، کما يحدثنا التاريخ العباسي، كمثال بارز على ذلك. فكان كتاب الاحکام السلطانية للماوردي قد ذكر فيه خلاصة ما فعله الحكام وأدوارهم. فالإمامة هي: «الْإِمَامَةُ: مَوْضُوعَةٌ لِخلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ شَذَّ عَنْهُمْ الْأَصَمُّ».

ص: 24

ويقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «إنَّ أهل السنَّة والمعتزلة يرون أنَّ الخلافة واجب شرعي، ولكنَّهم يختلفون في أساس هذا الوجوب؛ فأهل السُنَّة يرون أنَّ سند وجوب الخلافة هو الإجماع، أمَّا الرأي الآخرِ وغالب أنصاره من المعتزلة، فيرى أنَّ سند الوجوب هو العقل، وهناك طائفة من المعتزلة ترى أنَّ سند وجوب الخلافة شرعيّ وعقليّ في واقت واحد، ويرى الشيعة كذلك وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. وقام هذا الفقه على التنظير لأدوار الحاكم واعطاه الصلاحيات المطلقة بالتصرف، يعطي اموالا بلا حساب ويمنع عن اخرين عطاياهم، بلا مبرر منطقي، بل ربما تعود لأمور شخصية، مثل مدح الخليفة او ذمه، عبر ابيات شعرية يقرأها شاعر في حضرة الخليفة، والتاريخ يحدثنا بالكثير من هذه القصص.

كان الخليفة والوزراء الذين يعينهم يجمعون بين التشريع والتنفيذ، وزارة التنفيذ ووزارة التفويض، وهو الذي له حق عزل الولاة وتعينهم. بحسب تعبير الماوردي: «وَأَمَّا وَزَارَةُ التَّنْفِيذِ فَحُكْمُهَا أَضْعَفُ وَشُرُوطُهَا أَقَلُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَتَدْبِيرِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ وَسَطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَمَرَ، وَیُنَفِّذُ عَنْهُ مَا

ذَکَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الْولَاۃِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوش، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُهِمٍّ وَتَجَدَّدَ مِنْ حَدَثٍ مُلِمٍّ؛ لِيَعْمَلَ فِيهِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ بِوَالٍ عَلَيْهَا وَلَا مُتَقَلِّدًا لَهَا، فَإِنْ شُورِكَ فِي الرَّأْيِ کَانَ بِاسْمِ الْوَزَارَةِ أَخَصَّ، وَإِنْ يُشَارَكْ فِيهِ کَانَ بِاسْمِ الْوَاسِطَةِ وَالسِّفَارَةِ أَشْبَهَ، وَلَيْسَ تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ إلَى تَقْلِيدٍ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَهَّلِ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدُ بِوِلَايَةٍ وَلَا تَقْلِيدٍ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّیَّةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْکُمَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ».

ص: 25

اما وزير التفويض فصلاحياته اوسع وهي: -

«أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ وَالنَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ.

وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ

التَّنْفِيذِ.

وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَسْيِيرِ الْجُيُوشِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ،

وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ.

وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْوَالِ بَیْتِ الْمَالِ بِقَبْضِ مَا يَسْتَحِقُّ لَهُ، وَبِدَفْعِ مَا يَجِبُ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ، وَلَيْسَ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَا يَمْنَعُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْهَا، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيلُوا فَیَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنَ الاِسْتِطَالَة».

ويلزم الامام في عشرة امور، منها:

حفظ الدين بما اجمع عليه السلف، و تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وحماية البيضة، واقامة الحدود، وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، وجهاد من عاند الاسلام، واخذ الفيء والصدقات، واستكفاء الأمناء وتقليد الفصحاء، ومشارفة الأمور بنفسه ليهتم بسياسة الامة.

هذه الأدوار التي على الحاكم أن يؤديها، بحسب فهمه الخاص في ادارة الامور، ولم يكن هناك دستورا واضحا يستعمله الخليفة او الوالي او الوزير للعمل على ضوئه، بينما نجد ان الامام علي (عليه السلام) قد كتب عهدا على مالك الاشتر لیقوم به، لكنه لم ينفذ عبر التاريخ الإسلامي، وهذا مما يؤسف له، أن تكون لدينا مثل هذه الثروة الفكرية التنظيرية، ولا يوجد تطبيق فعلي لها.

ص: 26

کما کتبت في العصر الحاضر، ضمن هذه المدرسة كتابات تنظّر إلى كيفية ادارة الحكم في العهد الحديث، مثل كتاب السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتكون عصبة امم شرقية، تناول فيه مفهوم الخلافة بشكل عصري يلائم الدولة الحديثة، خاصة وانه كتبه عام 1926 باللغة الفرنسية، ونال عليه شهادة الدكتوراه، بعد انهيار الخلافة العثمانية عام 1924.

ان الملاحظ على هذه التنظيرات الفقهية - السياسية تراعي ما جرى بالتاريخ الاسلامي من انواع الحكم، وتسبغ عليها التأويلات الفقهية، إلى أن وصلنا الى من يفكر بإعادة الخلافة على منهاج الخلافة الراشدة التي لم تكن مثالية حتى لمن يؤمن بها. فهذه الخلافة اصطبغت بالتكفير والقتل غير المبرر لصحابة كثر لمجرد الاختلاف في تطبيق بعض البنود التشريعية، مما جعل تاريخ الاسلام يصطبغ بلون الدم. علما انه تاریخ مسلمين ولم يكن يمثل تاريخا اسلامیا بحتا.

التنظير الفقهي لأدوار الحاكم عند الامامية الاثني عشرية:

لم يستلم الامامية زمام السلطة عبر تاريخهم، الا في فترة متاخرة، في دولة حديثة، وفي بقعة محددة من الاراضي الاسلامية وهي ایران، حيث ينص دستورها على أن المذهب الشيعي الأمامي، هو المذهب الاسلامي الذي تعمل به جمهورية ایران الاسلامية.

قام على تنظير فقهي اجتهادي وهي نظرية ولاية الفقيه العامة، اما قبل ذلك فلم يتم بهذا العنوان فخلافة الامام علي والامام الحسن عليهما السلام، كانت مليئة بالفتن والحروب التي افتعلها بعض الصحابة، كانت خلافة عامة لكل المسلمين، وجاءت بناء على مبايعة المسلمين لهم، بعد ان ميزوا بين سياستهم التي تخدم الفرد

ص: 27

المسلم بغض النظر عن مكانته الاجتماعية، وبين غيرهم من الخلفاء، فقد خط الامام علي (عليه السلام) اسلوبا خاصا في الحكم، وكتب عهدا يعد بمثابة دستور اللحاکمین، فيه مبدأ العدالة هو المعيار للحكم بين الناس: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ساعة إمام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة، وحديقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.« ويمكن استنباط احکام متنوعة من هذا العهد الذي شمل كل اركان الدولة. ليس المهم شكل الحكم، بقدر ان يقوم على مبادئ الاسلام الانسانية، واعار الدولة لخدمة ناسها.

لذا نجد أن الأحكام التي اعطاها الامام علي (عليه السلام) للوالي او الحاكم الذي ارسله على الامصار هذه الامور وهي تعتبر احكاما شرعية ينبغي أن يطبقها الحاكم في ولايته، وهي:

1 - لا نجد فيها صلاحية مطلقة بالتصرف بالمال والعطايا، ولا توزيع المناصب حسب القرابة والمعرفة الخاصة بل انها توزع حسب الكفاءة والاستحقاق کما تم ذكره سابقا.

2 - ليس من حق الحاكم أن يعطي لنفسه امتیازات اكثر من الرعية. وعليه أن يساوي نفسه مع الناس البسطاء.

3 - الأهمية لإعمار البلاد، والضريبة لا ينبغي أن تكون مقدمة على حياة الناس.

«لا تكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم» كما في العهد، وقوله: «وتفقد الخراج

بما يصلح اهله..»

4 - حفظ الدين، من خلال تحبيب الناس لتطبيق تعاليمه لا بالفرض والتنكيل بل

بالقدوة الحسنة التي يمثلها الحاكم. والعهد به فقرات كثيرة تبين ان الامام عليه ان لا يستخدم الشدة في ذلك انظر قوله عن الناس يفرط منهم الزلل وتَعرِض

ص: 28

لهم العِلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاّك بما عرّفك من كتابه وبصّرك من سنن نبيّه (صلى الله عليه وآله).، وقوله (عليه السلام): «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة،

ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة..»

5 - حفظ الأمن بالذهاب إلى قبول الصلح احيانا مع العدو، اذا طلب الصلح والهدنة. کما مر سابقا (في المبحث الثاني).

وهناك الكثير من المفاهيم يمكن أن تكون المعيار الدائمي للبلد، لأنها مفاهیم انسانية عامة، تصلح لكل زمان ومكان. يمكن للمجتهد ان يرسم بها شكلا ونظاما صالحا لإدارة البلدان، بما يتماشى مع تعاليم الاسلام السمحة، وليس المتشددة، كما شوهتها بعض التعاليم السلفية المتشددة .

ص: 29

الخلاصة ونتائج البحث والتوصيات:

الاسلام بمنظومته الفقهية على منهج اهل البيت عليهم السلام، فيه تعالیم واضحة لإقامة الحكم وفق المفاهيم الاسلامية الانسانية السمحة، وبمقولات وكتابات موثقة، كعهد الامام علي عليه السلام الى مالك الأشتر، التي تعد ابرز وثيقة توضح كيفية ادارة الحكم الإسلامي، بما يحويه من مفاهیم غاية في التسامح والانسانية، بالإضافة إلى اقامة مفهوم العدالة والمساواة بين الرعية، وهذا ينسف القول ان الاسلام لم يكن لديه رؤية محددة للحكم، كما تدعيها المذاهب الأخرى، الذين برروا للحكام تصرفاتهم، فصار الاسلام هو نفسه التاريخ الاسلامي، وهنا الخطأ الفاحش، الذي انتج لنا داعش، لان التقديس بدلا من ان يذهب الى الدين في ذاته وتعاليمه الرسمية المنصوص عليها، صار الاسلام هو سيرة الخلفاء الذين حكموا المسلمين، بما تحويها سيرتهم من تناقض وابتعاد عن الاسلام في اغلب الاحيان.

وضح البحث أن العهد يمكن الاستنباط منه مفاهيم عامة، وكاملة وتفصيلية الأدوار الحاكم الإسلامي، علما انه لم يطبق عبر تاريخه الا في دستور ایران بعد الثورة عام 1979. حيث استمد من بعض مفاهيمه وضمنها في الدستور. وبعد هذه الظروف التي يمر بها العالم الاسلامي من ضياع بسبب جور الحكام والارهابيين، لابد من اعادة النظر بهذا العهد وتبنيه بالكامل والعمل على اعادة الثقة للمسلمين بان يتبنوا المنهاج الاقوم الذي يمثله اهل البيت ع، وتعاليمهم التي اثبت التاريخ صلاحيتها واستمراريتها، لإنسانيتها العالية ولغتها الواضحة. كما أن عدى الفقهاء والمجتهدين العمل على بلورة العهد على شكل فتاوی تفصيلية يمكن أن تعطي الحكم الشرعي الواضح لمن يعمل بالسياسة ويقوم بأمور الناس، عبر مختلف السلطات في اية دولة في هذه الارض. لأننا مازلنا نعاني من قلة الدراسات في هذا الموضوع المهم.

ص: 30

الهوامش

1 - كتاب التعريفات الجرجاني، علي بن محمد، مؤسسة التاريخ العربي - دار احیاء التراث العربي، بيروت، ط 1، 2003 م، ص 23.

2 - العين، الفراهيدي ابو عبد الرحمن، تح: مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، ط 2، 1409 ه، ص 570.

3 - العدة في الاصول، الطوسي، جعفر بن محمد، تح: مهدی نجف، مؤسسة اهل

البيت، قم، ج 1، ص 21.

4 - قاموس المعاني، معجم المعاني الجامع

http://www.almaany.com

5 - معجم مقاییس اللغة، ابن فارس، تح عبد السلام محمد هارون، مط دار الفكر،

دمشق، 1979، ج 2، ص 91.

6 - التعريفات، الجرحاني، م. س، ص 19.

7 - الاقليات واحکامها في الفقه الاسلامي، بتول فاروق، زيد للنشر، بغداد، ط 1، 2009، ص 28.

8 - تاریخ الخلفاء، السيوطي، جلال الدين، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة الشرق الجديد، بغداد - دار العلوم الحديثة، بیروت، 1986، ص 166.

9 - ظ: شرح نهج البلاغة، ابن ایب الحدید، ج 6، ص 315.

10 - م. ن.

11 - الانترنت:

www.arabic. Shirazir

12- نهج البلاغة للأمام علي، تح: محمد عبدة، انتشارات لقاء، قم، ط 1، 2004، ص 571.

13 - الانترنيت. م. ن

ص: 31

14 - الانترنیت. م. ن

15 - الانترنيت. م. ن

16 - محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، 364 - 363.

17 - البداية والنهاية، مج 4 ج 8، ص 226.

18 - مفهوم الدولة في مدرسة النجف الاشرف، مجلة المعهد، العدد 7، كانون الأول / 2015، العارف للمطبوعات، بیروت - لبنان، النجف - العراق. ص: 61 - 62

19 - عهد الامام علي الى مالك الأشتر حين ولاه مصر نهج البلاغة، 291 من عهد له ع، شرح محمد عبدة، انشارات لقاء، قم، 2004، ص 571.

20 - محمد عبدة، نهج البلاغة، م. س، ص 573.

21 - م. س، ص 575.

22 - م.ن، ص 577.

23 - م. ن 578 - 579.

24 -م. ن ص 587.

25 -م. ن. ص 579.

26 - م. ن. ص 583.

27 - م. ن. ص 583.

28 - م. ن. ص 584.

29 - م. ن. ص 584.

30 - م. ن. ص 586.

31 - م.ن. ص 587.

32 - ظ: محمد عبدة، ص 588.

33 - م. ن. ص 590.

ص: 32

34 - م. ن ص 590.

35 -: مصطفى الكاظمي، في 13 / 11 2014،

www.al-monitor.com

36 - نهج البلاغة 591 - 592.

37 - م. س، ص: 591.

38 - نهج البلاغة ص: 592.

39 - م س، ص 592.

40 - نهج البلاغة، ص 593.

41 - محمد عبدة، م س، ص 595.

42 - ظ: نظام الحكم في الاسلام، تقي الدين النبهاني، تقديم: عبد القويم زلوم، د. ن، ط 6، 2002، د. م، ص 41.

43 - ظ: عقائد الامامية، محمد رضا المظفر، ط: النجف، 1961 م، ص: 54.

44 - ظ: تاريخ الدولة الاموية، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، ط 7، 2010، مصر، ص 14 وما بعدها.

45 - ظ: دور الجواري والقهرمانات في دار الخلافة العباسية، سولاف فیض الله حسن، دار عدنان، بغداد، دار صفحات للدراسات والنشر، دمشق، 2013، المقدمة وما بعدها.

46 - الاحکام السلطانية، الماوردي، القاضي ابو یعلا محمد بن الحسين الفراء (ت 458 ه)، علق عليه: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000 م، ص 19.

47 - «فقه الخلافة وتطورها، عبد الرزاق السنهوري، تح: توفيق محمد الشاوي و نادية عبد الرزاق السنهوري، ن: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، ت 2001، ص 59.

ص: 33

48 - ظ: كتاب الأغاني، لابي الفرج الأصفهاني وغيره.

49 - م. ن، ص 32.

50 - ظ: الاحکام السلطانية، م س، ص 27 - 28.

51 - شبكة الانترنت

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread

310563= php?t

=310563http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t

52 - ظ: دستور جمهورية ايران الاسلامية، المادة: 12.

53 - ظ: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، حسين علي المنتظري، الدار الاسلامية، قم، ط 2، 1988، ج 1 - 3

54 - الوسائل 18 / 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

55 - نهج البلاغة، ص 587.

56 - نهج البلاغة، م س، ص 572 - 573.

57 - م. ن، ص 573.

ص: 34

تأصيل فقه العمران عند الامام علي (عليه السلام) مقاربة في عهده لمالك الأشتر

اشارة

م. د. حيدر حسن ديوان الاسدي

كلية الفقه / جامعة الكوفة

ص: 35

ص: 36

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد واله الطيبين الطاهرين، وبعد:

يستمد فقه العمران وجوده من التصور الإسلامي العام للكون، وربما المعنى اللغوي للفقه يعين على ذلك، وعليه ليس بالضرورة اقتصار المجتهد في المعاصر على تلك الموضوعات التي كانت محل ابتلاء في الماضي، اذا ما اريد للفقه مدي اوسع (الفهم والتمكن)، وان كان التعريف الاصطلاحي محدد ب «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من ادلتها التفصيلية» لكن ذلك لا يمنع من بحث الموضوعات ذات الافق الأبعد، طالما تنتهي مرجعيتها القران الكريم والسنة الشريفة، وللعقل.

وعليه لا بد من معالجة الجوانب ذات الصلة المنهجية والمعرفية بفقه السياسة وإشكالاته، إذ من المعروف وجود قراءات، وربما تنظير حول «شكل الدول وأحوالها وامدى استمراريتها»، والتملك والتغلب وأنواعه وكيف ينتهي به المآل.

ولذلك سلط البحث الضوء على ثلاثة أمور تضمنها نهج البلاغة ولم تعط حقها

بشكل كاف من قبل كثير من الباحثين:

الأولى: «الحاجة إلى العمران البشري».

الثانية: فتتعلق ب«ضرورة وجود قاعدة سياسية واجتماعية واقتصادية للدولة»؛ لكي ينتظم العمران.

الثالثة: التعامل العلوي العملي مع الضبط النظري والمنهجي لفقه العمران.

ص: 37

لقد كان ابن أبي الحديد في منتهى الدقة والإنصاف حين وصف هذا (العهد) بأنه: نسيج وحده، ومنه تعلّم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة... وحقيق مثله أن يُقتني في خزائن الملوك. (الشرح: 2 / 310)

ولم يهمل البحث التطرق لمسألة دعوی اسبقية ابن خلدون في التنظير للعمران، في مقدمته، مع أن نهج البلاغة، وخصوصا عهد الامام علي المالك الأشتر، اشار وفصّل بشكل واضح لهذه المسألة، وبعض جزئیاتها مثل عمران الدولة وبقائها وديمومتها، فمن المعلوم أن ابن خلدون ربط ذلك بمبدأ «العصبية»، وایده بعض الباحثين امثال محمد عابد الجابري، في حين الرؤية العلوية ترهن بقاء وعمران او زوال الدول في مدى تعاطيها مع «الحقوق والواجبات»، مما يرجح اعتماد البعد المؤسساتي في الادارة في الاصطلاح المعاصر.

ولما كان العمران هدفا سام في القران الكريم، وفي السنة المطهرة للنبي الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل البيت عليهم السلام، حاولت البحث في «التأصيل الفقه العمران عند الامام علي مقاربة في عهده المالك الأشتر» فجاء البحث على ثلاثة مباحث:

الأول: المقاربة الاصطلاحية للعمران.

الثاني: مرتكزات فقه العمران عند الامام علي (عليه السلام).

الثالث: اجرائیات فقه العمران عند الإمام (عليه السلام).

وانتهى البحث إلى مجموعة من النتائج، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

ص: 38

المبحث الأول المقاربة الاصطلاحية للعمران

لفظ (عمران) مشتق من الجذر ع.م. ر وله عدة معاني:

الأوّل «سکن، بقي، أقام، استوطن».

الثاني: «تعمير، كثافة، به ناس كثر، استصلح، هذّب جيدا، وعکسها قفر، صحراء، فظاظة»، الثالث: يمكن لمفردة عمران أن تعني أيضاً «بناء منزل، والسكن فيه، جعله مرفها»

هذه المجموعات الثلاثة من المعاني تعود كلها إلى معنيين أساسيين: من جهة إلى النشاط البشري، ومن جهة أخرى، إلى العنصر الجغرافي، أي المكان الذي فيه النشاط الإنساني وتطوره.

والعمارة من أعمر، وأعمره أي جعله آهلا، وفي اللغة أعمرت الأرض وجدتها عامرة، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ»، أي أذن لكم في عمارتها، واستخراج قوتكم منها، وجعلكم عمارها، وعمر عليه أي أغناه. وقوله تعالى: «وَاسْتَعْمَرَكُمْ» أي أسكنكم فيها ألهمكم عمارتها من الحرث، والغرس، وحفر الأنهار، وغيرها أي خلقكم لعمارتها. وحيث إن قوله تعالى «وَاسْتَعْمَرَكُمْ» هو طلب مطلق من الله تعالى، ومن ثم يكون على سبيل الوجوب.

والاستعمار عند المفسرين هو طلب العمارة، والطلب من الله على سبيل الوجوب أي الفرض. وربط معنى العمارة المادية بالعمارة الروحية. والاستعمار هو جوهر حقيقة

ص: 39

الاستخلاف، حيث المبدأ العام للشريعة إصلاح وعمارة الأرض، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق التمكين عليها، وتعبيد الفعل البشري لله سبحانه، بحيث تكون جميع فعاليات الكون متوجهة إلى الله، ويكون الإنسان مقتدياً على قدر طاقته البشرية بالأفعال الإلهية، متخلقاً بأخلاق الله، ساعيا نحو أعمال صفات الله في الكون، وبهذا يتحقق الاتساق بين الفعل البشري، والهدف أو المقصد الإلهي من وجود الكون.

وكان لفظ «عمران» يستخدم للتعبير عن أفكار حول الحياة، حول الساكنة، الأماكن الآهلة، واستصلاح أرض ما وتعميرها. وبهذا المعنى نجد في القرآن

«وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا»، واستعمل بمعنى أكثر واقعية بالرجوع إلى جهات الأرض المسكونة، التي يمكن فيها میلاد الحياة وتطورها.

أما فكرة التعمير والاستصلاح فهي مرتبطة بالإنسان مشيرة إلى مكانٍ يمكن الإقامة فيه أو مؤهلٌ لأن يكون عامرا إذا كان للنّباتات فهو مستصلح أو قابل للاستصلاح.

واستعمل ابن خلدون لفظ «عمران» في ثلاث معان، احدهما عام، والاخرين

خاصيَن:

المعنى العام: ويعني به «الحضارة» أي التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش»

أما المعنيين الخاصين فنجدهما عندما يتحدث عن نوعين من الحياة بربطها بما ينتج عن كل واحدة منها، وهما «عمران بدوي»، و «عمران حضري».

بينما نجد الامام عليه السلام يصنف الناس وبالتالي محيطهم الاجتماعي الى ثلاث اقسام، يقول:

ص: 40

الناس ثلاثة: فعالم رباني.. ومتعلم على سبيل نجاة.. وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لا يستضيئون بنور العلم؛ فيهتدوا، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق؛ فينجو»، ومن المعلوم ان العلم والتعلم سمة ملازمة للحضارة. وفي الغالب يترجم لفظ عمران في اللُّغتين الإنجليزية والفرنسية بكلمة «حضارة civilisation»

ان تحليل مختلف دلالات لفظ عمران، يسمح لنا بالعودة إلى الوقوف على إختيار ترجمة بعينها لضبط المصطلح وتدقيق المعنى. أحد تلك الألفاظ التي استعملت لجعل «عمران» بمعنى مجتمع، كما فعل الباحث ناصيف نصّار، الذي اعتبر أن العلم الخلدوني، كعلم اجتماع بحق قبل وجود علم الاجتماع الحديث.

في حين يحيلنا لفظ Sociologie الحديث إلى اللفظ العربي اجتماع مشتق من الجذرج. م.ع (ضمَّ بعضه إلى بعض، وضع معاً) ومنها علم الإجتماع (-Sociolo gie). ويبدو ان هناك وحدة هوية بين لفظي «اجتماع» و»عمران».

ولفهم المعنى الفلسفي لكلمة عمران لا بد من الرجوع إلى فكرة العُمْر: لنفس الجذر ع-م-ر التي اشتق منه الفعل عمَّرَ، بمعنى «العيش طويلا»، والإسم عمر الذي يعني حياة أو فترة الحياة.

ان وضع السياسة في قلب «علم العمران»، والتعبّير عن ذلك بعبارات أرسطية کما فعل ابن خلدون في مناسبات عديدة يحتاج الى اعادة نظر ونقد، يقول: «الدولة والملك للعمران، بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها»، ما يقصده ابن خلدون هنا بالمادة هو العناصر التي تحيا عن طريق السياسة: «فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر»

ص: 41

كما أن ربط - ابن خلدون بوصفه منظرا لعلم العمران البشري في القرن الثامن الهجري - من عدم امکان تصور الدولة فكرةً ووجوداً بدون عصبية. وعدها «الامتدادَ المكاني والزماني لحكم عصبية ما»، وما انتهى له محمد عابد الجابري ب» ارتباطَ عُمر الدولة، أي امتدادها في المكان وديمومتها في الزمان، بالعصبية أو العصبيات، وهو ما يفيد ارتهانَ «العمران» وعمارة الأرض بهذه القوَّة التي أخذت في المتن الخلدوني اسم «العصبية» وما يدخل في معناها»، نرى ان هذا الربط اقرب لمنطق التغلب والتصارع منه الى روح الاجتماع والتنظيم الذي تسعى الدول المعاصرة لتحقيقه بغية انتعاش وتطور دولها وظهورها كقوى عظمى وهو ما يسمى ب(دولة الحقوق والمؤسسات) التي تجعل الحاكم او رئيس الدولة من ضمن المنظومة المجتمعية، ولا نبالغ اذا ما قلنا ان نهج البلاغة تضمن هذا الامر بشكل صريح وواضح، يقول الامام علي (عليه السلام): «وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ - سُبْحَانَهُ - مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَاليِ، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ - سُبْحَانَهُ - لِكُلّ عَلَى كُلّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاِلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ. فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَاليِ حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الاَعْدَاءِ. وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَاليِ بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الِاْدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الاَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الاَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الاَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ».

ص: 42

ويميل الباحث الى ان مسائل علم العمران تتقاسهما علوم أخرى من زوايا متقاربة، وهو ما سمّاه ابن خلدون «الجريان العرضي» الذي به يمكن فهم الجانب الوظيفي للقضايا، وهي المجالات التي يهتم بها علم العمران.

ولقد تجاهل عدد من الباحثين أهمية التركيب الإبداعي الذي دعّم ابن خلدون به أصوليته، وقد نتج عن هذا التجاهل ثلاثة اتجاهات:

الأول: ينكر العلاقة بين علم العمران والعلوم الشرعية.

والثاني: يقر بوجود هذه العلاقة، ولكنه يقلل من أهميتها.

والثالث: يتمثل في التأكيد على أن للمجتمع والتاريخ والعمران قوانين موضوعية يجب الرجوع إليها للحصول على معرفة علمية موضوعية حول حركته وأحواله المتغيرة.

والحقيقة أن الغرض من تسليط الضوء على الفهم الخلدوني لعلم العمران هي من أجل ذكر العلاقة بين ما اكتشفه ابن خلدون من أثر الطبائع والأحوال وفهم الاجتماع الإنساني وما سبق اليه الامام علي في نهج البلاغة وتحويل هذه المؤثرات والمفاهيم إلى آليات عمل ضمها عهده للاشتر، ومشاريع بناء، وعمارة للأرض من اجل المساهمة في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل.

ولذلك لا بد من ربط تاصيل العمران بمنهج معرفي، وقواعد علمية من شأنها

مواكبة المعطيات الحضارية؛ لغرض خدمة المجتمع.

و(فقه العمران) هو من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه يحمل المسلم إلى عمارة الأرض وبنائها، وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتها. وللأسف إن الغفلة عن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به

ص: 43

فحسب؛ بل تجاوز إلى إلغائه وإنكاره أحياناً من فقه الشريعة، واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية!

يقول الله تعالى «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

ص: 44

المبحث الثاني مرتكزات فقه العمران عند الامام علي

ورد لفظ اشتقاق لفظ العمران والعمارة في نهج البلاغة سبع مرات، اثنان اريد بها العمران المعنوي وخمس منها المادي، وهذه الالفاظ الخمسة وردت جميعها في عهده عليه السلام للأشتر.

ويعد مصطلح العمارة، من أقرب المصطلحات تعبيراً عن التنمية إذ يحمل مضمون التنمية الاقتصادية والعمرانية، وقد يزيد عنه، فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، - بصفة أولية - جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه - والذي لا يخرج عن تعظيم عمليات الإنتاج المختلفة.

ويؤكد ذلك قول الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيْهِ السَّلام) لمالك الاشتر النخعي لما ولاه مصر حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر: «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لِانَّ ذلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلُكُ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً».

إن الإمام يرى في العمارة أبعد من مجرد الزيادة في الإنتاج أو رفع الدخل الاقتصادي للدولة، أو مضاعفة متوسط دخل الفرد، لأنها تتطلب عدالة في توزيع الدخل ورفع مستوى المعيشة لجميع أفراد المجتمع، دون استثناء، سواء من كانت لديه القدرة على الكسب، أم من يعجز عنه، إذ تقوم الدولة بضمان مستوى الكفاية لمن يحتاجها.

ويعتبر عدم الإسراف والتبذير في الاستهلاك، وفي تخصيص الموارد، من

ص: 45

مستلزمات العمارة، حيث ينبغي أن تكون عند حد الكفاية، مع مراعاة الاستمرار في عمارة الأرض. ومع اقتران الاستخلاف بالتسخير للموارد لتسهيل التكليف، واقتران التكريم بحسن الخلق، فكراً وعقلاً وإرادةً، ومن خلال هذا الاستخلاف والتكريم، فان على الإنسان انتهاج السلوك الرشيد في تخصيص الموارد ونمائها وتنميتها.

ويمكن استخلاص جملة من المرتكزات لفقه العمران عند الامام علي عليه السلام:

المرتكز الاول: وحدة العمران البشري والاقتصادي:

بدأ الامام علي عهده لمالك الاشتر بعد البسلمة بقوله: (هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بنَ الْحَارِثِ الاْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا).

هنا الامام يقدم مهمة جبوة الخراج والجهاد واستصلاح اهل مصر قبل عمارة البلاد، وهذا فيه بعد مرتبي، والاهم والمهم...... لكنه يعود في الايراد الثاني للعمران ليقول: (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لِانَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً).

المرتكز الثاني: تحقيق النفع العام:

يقول الامام علي عليه السلام (فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ، وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ)

ص: 46

أي إذا شكوا ثِقَلاً أوعلّة، يريد المضروب من مال الخراج أو نزول علة سماوية بزرعهم أضرت بثمراته. وكذلك إنقِطاع الماء عن الارض في البلاد التي تسقى بماء الانهار. وكذلك انقطاع الماء عن الارض التي تسقى بالمطر. ويصل الامر الى فساد بذور الفلاحين بالتعفن او عمها من الغرق فغلبت عليها الرطوبة حتى صار البذر فيها غمقاً او أجحفت بالعطش و أتلفت وذهب بمادة الغذاء من الارض فلم ينبت.

وهنا يؤكد الامام على ضرورة تدخل الدولة لإصلاح وعمارة ما فسد.

وهذا الامر اتضح في مقاربات الفقهاء حيث ميزوا بين المرافق العامة وبين المباحات، فالمعيار الفقهي للتمييز بين الأموال المرصدة للنفع العام (المرافق العامة) وبين المباحات الأصلية والاختصاص الناتج عليها يعد:

الأشياء أو الأموال التي تمنع أو تحول طبيعتها دون ان تتحول إلى الملكية الخاصة، تعتبر من المؤسسات العامة كالطرق وغيرها، وما تعلقت به مصلحة الناس ومنافعهم وحاجاتهم العامة كأفنية المدن والميادين العامة والاراضي المتروكة حول القرى، والمعادن الظاهرة والباطنة تكون منافع عامة لكل أفراد الأمة على اختلاف في ذلك.

وما خصص لمنفعة من المنافع العامة بناء على ما يراه الإمام والدولة يكون من

المنافع المشتركة تحقيقاً للنفع العام.

وعليه فان الأموال المباحة: هي الأموال التي اطلقها الشارع ولم يخصصها أو

يرصدها للمنافع العامة، وإنما اباح الانتفاع واباح تمليكها.

والأموال المرصدة للنفع العام هي: الأموال التي اباح الشارع الانتفاع بها واستعمالها دون إعطاء الحق بحيازتها أو وضع اليد عليها، لتغلب طابع النفع العام

ص: 47

علیها، ومنع الافراد تملك هذه الأموال، بسبب تعلق حق الجماعة بها لاهميتها، و

ينتفع بها الناس باعتبارهم جزأ من الجماعة.

وثمة فارق رئيس بين المنافع المشتركة (المرافق العامة) وبين المباحات الاصلية وهو ان المباح الأصلي ناتج من عدم تدخل أي جهة في حصوله سواء كانت هذه الجهة على وجه العموم كالدولة، أو جهة خاصة كفرد من الافراد فان المياه وجدت بشكل طبيعي دون تدخل أي شخص، وهذا غير حاصل في المؤسسات العامة كالوقف الذي هو ناتج من واقف، فما اباح الشارع الانتفاع بمنافعها فقط مؤسسة عامة، وما اباح الانتفاع بمنافعها واعيانها مباحات اصلية.

فقد ذكر أكثر الفقهاء ان المرافق العامة لا يثبت بها اختصاص لاحد والناس كلهم فيها سواء، فعمارة الأرض بالبناء والصناعة والزراعة والانتفاع بما في باطنها من معادن وخيرات مطلوب من النّاس عامّةً، ومن المسلمين خاصّةً، فهو من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض. قال الإمام الغزالي: «فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم».

وعمارة الارض امر دعا اليه الله تعالى في القرآن الكريم، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»

قال الطبري مؤكداً معنى العمارة في الآية: ««واستعمركم فيها»، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها».

وقال البيضاوي: ««واستعمركم فِيهَا» عمر كم فيها واستبقاكم من العمر، أو

أقدر كم على عمارتها وأمركم بها».

وقال الطوسي : وقوله «واستعمركم فيها «اي جعلكم قادرين على عمارة الارض،

ص: 48

ومكنكم من عمارتها والحاجة إلى سكناها. والاستعمار جعل القادر يعمر الارض كعمارة الدار».

وعلى ما مر يكون معنى قوله: «هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها» - و الكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس.

وقال مجاهد معنى «استعمركم فيها» أي اعمركم بأن جعلها لكم طول اعماركم، وفي الآية دلالة على فساد قول من حرم المكاسب، لانه تعالى امتن على خلقه بأن مكنهم من عمارة الارض فلو كان ذلك محرما لم يكن لذلك وجه، والعبادة لا تستحق إلا بالنعم المخصوصة التي هي أصول النعم فلذلك لا يستحق بعضنا على بعض العبادة ابتداء، وان استحق الشكر، ولذلك لا تحسن العبادة ابتداء، كما لا يحسن الشكر إلا في مقابلة النعم.

وقال العلامة الطباطبائي:«العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: «و عمارة المسجد الحرام» يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال: «و عمروها أكثر مما عمروها» «و البيت المعمور» و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: «و استعمركم فيها» فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها».

ص: 49

والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛ لأنّ ذلك يُعدّ تعميراً للأرض حتى سُمّي الحرث عِمارة؛ لأنّ المقصود منه عَمر الأرض.

فمقصود هذه الآيات وغيرها واضح الدلالة في بيان مقصود العمارة من خلق الإنسان، وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به، وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله:»(واستعمركم فيها) يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية».

المرتكز الثالث: مرتكز الاستخلاف والتسخير:

خلق الله الكون من اجل الإنسان وجعله مستخلفاً له في الأرض وسخر له كل

شيء، ويمكن بيان الرؤية القرآنية للاستخلاف والتسخير من خلال الآتي:

أولاً - الاستخلاف:

عقيدة الاستخلاف تقدر ان كل شيء في الوجود انما هو ملك الله تعالى خالقه وخالق السموات والأرض وما بينهما، وان الإنسان فيما لديه من مال انما هو حائز لوديعة أودعها الله بين يديه، فالله وحدهُ الذي له ملك السماوات والأرض، والإنسان هو خليفة الله في الأرض امره خالقه بالانتفاع بهذا المال في صورتيه، ومكنه من هذا الانتفاع

منسجماً مع مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، ومصلحة الإنسانية بوجه عام.

فالأفراد وفقاً لمبدأ الاستخلاف في الأرض قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على ما فيها من الخيرات والطيبات ومكّن لهم الانتفاع منها بما اعطاهم ووهبهم من القوى

ص: 50

العقلية والجسمية، وبناءً على هذا الاستخلاف العام فان الأصل اشتراك البشر جميعاً في الانتفاع مما اوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات.

ان الله تعالى اوجب على الإنسان كثمرة من ثمرات النيابة الإلهية له باستخلاف وامكانية الانتفاع بالمخلوقات ان يعمر الأرض ويستثمر الموارد، و قد غرست الآيات القرآنية الكريمة عقيدة الاستخلاف، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي امرکم بعمارتها.

وعقيدة الاستخلاف تجعل المسلم يحس دائماً (ان الله خالق هاذ الكون ومالکه الأصلي، والمال الذي في ايدي البشر هو مال الله وهم فيه خلفاء لا اصلاء).

قال تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»، وقال سبحانه: «وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ».

فقد استخلف الله الإنسان في الكون ليدير موارده ويعمره ويظهر أسرار الله وقدرته في خلقه وهي مهمة ارادت الملائكة أن تكون لها، وارادها الله للانسان تکریماً له: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، وقد ذكر ان المراد من الخليفة المعنى المجازي، قال الطاهر بن عاشور: ((المراد من الخليفة المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقةٍ، لأن الله تعالى لم يكن حالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي اودعه في الإنسان وهو السلطة على موجودات الأرض، ولان الله لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الاعظم لم يزل الله تعالى فالإنسان

ص: 51

هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما اودع الله في خلقه ان يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان)).

ومن هنا فان الخلافة تکلیف بمهمة الانتفاع بموجودات الكون يكون الإنسان فيها سيداً في الكون لا سيداً للكون، فسيد الكون وحاكمه ومالك امره

الله سبحانه وتعالى، ولان الإنسان هو احد مخلوقاته قد تميز بالعقل فقد كرمه الله وانعم عليه نعمة الاستخلاف تمييزاً له عن غيره من المخلوقات. قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا».

وقد اثارت مسألة الاستخلاف قضية مهمة تتعلق بسلطنة الإنسان الموارد الطبيعية هل هو نحو ملكية الرقبة ام حق اختصاص بالانتفاع أي ملكية انتفاع - وقد رجح احد الباحثين حق الاختصاص بالانتفاع (ملكية الانتفاع) وذلك للاسباب الاتية.

1 - ان كثيراً من نصوص القرآن الكريم تضيف الملكية إلى الله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»، وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ»، وقوله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى»، وقوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ»، (فإذا كان المال مال الله، وكان الناس صحيحاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعلمون فيها ويعمرونها بمال الله وهي الله، كان من الضروري ان يكون المال - وان ربط باسم شخص معين - لجميع عباد الله يحافظ عليه الجميع وينتفع به المجتمع).

ص: 52

2 - ان وجود الإنسان في هذه الحياة مؤقت واستخلافه فيها مؤقت أيضا ولذلك كان انتفاعه بمواردها مؤقت: «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ»، وهذا التحديد الزمني للبقاء يترتب عليه تحديد للاستخلاف والانتفاع ومن هنا تبرز احقية الأجيال المتعددة في الانتفاع بالموارد الطبيعية وضرورة أن يعي الإنسان هذه الحقيقية لكي يحفظ للاجيال التي بعده حقها في الانتفاع بما خلق الله في هذا الكون.

3 - ان شعور الإنسان بملكيته الدائمة للموارد يثير فيه الفساد المؤدي إلى نضوب الموارد، ولذلك كانت الآيات الكريمة واضحة في النهي عن الفساد في الأرض: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

وفي ضوء ذلك قال احد الباحثين : ((ولا نتجاوز روح التشريع الإسلامي إذا قلنا: أن القواعد والمبادئ الأساسية المنظمة لاستخلاف الإنسان في الأرض ومضمونها تنزل (حق الإنسان) على موارد الطبيعية من (حق الملكية) إلى مرتبة (حق الانتفاع) فقط، والذي تقل فيه سلطان صاحبه عن سلطان المالك وفكرة حق الانتفاع تبدو أكثر ملاءمة إذا روعيت القواعد الشرعية في اعاله، فلن يكن الانتفاع قاصراً على شخص دون اخر ومن ناحية أن المنتفع لا يجوز له اهدار أو تدمير أصل أو عين المال الذي ينتفع به، لأن سلطة التصرف الشرعي في المادة لا تكون للمنتفع بل لمالك العين أو الرقبة)).

ان فهم الواقع نافذة تساعد على تحقيق الاهداف والمبادى العليا للتشريع، وهو أمر ضروري يلزم عنه ضرورة النظر في توافق العُرف مع الشرع أو مخالفته، وذلك

ص: 53

لأن مصادر الوحي تتوافر فيها الأدلة والقواعد والأحكام اللازمة والشروط العلمية والمبادئ الأصولية التي تمكّن الفقيه من التمييز بين العُرف المعتبر شرعاً وغيره. وفي مجال فقه العمران يلزم التركز على محورين، هما:

1 - فطرة الإنسان.

2 - طبيعة العمران.

ومن خلالهما فإنَّ علم العمران مؤهل لتقديم خدمات معرفية لتلك الأصول.

والكلام عن عقيدة الاستخلاف في حياة المُسلم ينطوي على نماذج ومشاريع

إصلاحية عديدة، يحاول أصحابها إيجاد طريقة لتفعيلها في حياة المُسلم، فهو ليس معزولاً عن علم العمران، وأهميته لا تقل عن العمران، بدلالة الإرادة الإلهية في خلق الإنسان.

ولذلك يمكن الاستعانة بمفاهيم أخرى لتوضيح عقيدة الاستخلاف، ينبني

بعضها على نظام كلي، تشكل مادته ثلاث قضايا أساسية، هي:

- مرجعية النص الوحياني.

- الفطرة السليمة التي هي عماد العمران البشري.

- الاستناد لمبدأ التسخير، ولاهمية نسلط الضوء عليه بشيء من التفصيل.

ثانياً: التسخير:

تشير آيات كثيرة في القرآن الكريم إلى أن الكون قد سخره الله سبحانه للإنسان أي طوعّه وذله ليستطيع الانتفاع به والتصرف فيه، ويمكن ذكر بعض الآيات الكريمة في ذلك:

- قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا».

ص: 54

- قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

- قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَی أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ».

إلى غيرها من الآيات التي تذكر ما سخره الله للانسان في الكون لينتفع به دون تملكه.

ان النظرة إلى ايات التسخير الواردة في القرآن الكريم يمكن ان تبين امور عدة منها:

1 - ان هذا التسخير المذكور في ايات القرآن الكريم محدود بإرادة الله ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قوة مادية أو علمية ان يحصر الاستفادة منه بفئة معينة أو افراد محددين، ولذلك فهو لانتفاع الجميع يمكن ان يحصل حق الاختصاص بالانتفاع به عند التزاحم والاسبقية.

2 - إذا كان التسخير الالهي لمظاهر الكون للانسان نعمة فهي إذاً حق من حقوقه التي منحه الله اياها يستطيع من خلاله الانتفاع بكل مافيه صلاح لبناء المجتمع.

3 - ان جميع موارد الحياة خلقها الله لنا، وبالتالي فان الانتفاع بها يعتبر في الإسلام حقاً للجميع، وينبغي ان لا ينظر إليها انها ملكية منحصرة في جيل معين دون غيره بل ملكية مشتركة لجميع الناس، ينتفع بها كل جيل بحسيب حاجته دون اخلال بمصالح الاجيال القادمة.

ومن هنا نعلم أن العمارة الحقيقية إنما تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم

ص: 55

الحقوق والواجبات العمرانية، ولو فُقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد، وهذا ما قصده ابن خلدون في قوله: «إن الحضارة مفسدة للعمران»، من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق، وتمزق المجتمع، وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة. ولذلك قال الامام في بداية عهده: (وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا).

ومما تقدم يمكن أن ننتهي إلى القول: ان التأسيس النظري لفقه العمران عند الامام علي، مرتبط بعدد من المفاهيم والقواعد الكلية، تشكل المنطلق للفعل العمراني، من دونها لا تتحقق غاية العمران.

ص: 56

المبحث الثالث اجرائيات فقه العمران عند الامام:

اتضح في المباحث السابقة المعالم النظرية لفقه العمران عند الامام علي، وفي هذا المبحث نسلط الضوء على بعض الامور العملية التي اقرها الامام في سبيل عمران الدولة ومواطنيها واقاليمها.

ولعل ما قام الامام علي بتوزیع ثروات الدولة توزيعا عادلا على جميع افراد الامة، من الاجرائيات المهمة في تحقيق العمران:

اولا - اجراءات اولية.

1 - المساواة في التوزيع والعطاء:

بدء الامام علي عليه السلام عهده في الخلافة بتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية التي من شأنها تحقيق العمران، يقول: «ولا يتخلّفنّ أحدٌ منكم عربيّ ولا عجميّ، كان من أهل العطاء أم لم يكن، إلّا حضر..».

وفي خطبةٍ له عليه السلام يؤكّد مبدأ المساواة والعدالة، يقول: «فأمّا هذا الفيء فليس لأحدٍ على أحد فيه إثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيِّنا بين أظهرنا فمن لم يرضَ به فليتولّ كيف شاء».

ص: 57

فليس لاحد على أحد فضل أو امتياز، وانما الجميع على حد سواء، فلا فضل للمهاجرين على الانصار ولا لأسرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره، وقد طبق الامام (عليه السلام) هذه الجهة بصورة دقيقة وشاملة فكان قد ساوى بين المسلمين في العطاء، ولم يميز قوما على آخرين، فقد وفدت اليه سيدة قرشية من الحجاز طالبة منه الزيادة في عطائها، وقد التقت قبل أن تصل اليه بعجوز فارسية كانت مقيمة في الكوفة فسألتها عن عطائها فاذا به يساوي ما خصص لها، فأمسكت بها وجاءت بها اليه، وقد رفعت عقيرتها قائلة:» هل من العدل أن تساوي بيني وبين هذه الامة الفارسية؟!! «. فرمقها الامام بطرفه، وتناول قبضة من التراب، وجعل ينظر اليه ويقلبه بيده وهو يقول: «لم يكن بعض هذا الترب أفضل من بعض، وتلا قوله تعالى:» إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم».

وقد سببت هذه الاجراءات العمرانية في اثارة بعض النفعيين، فأعلنوا سخطهم وعداوتهم على الامام، ولم يقف الأمر عند هذه الحد بل وصل الامر الى مطالبة بعض اصحابه بالعدول عن اجراءاته، حتى ان الامام اجابهم: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَميرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءَ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لَسَوَّيْتُ لسويت بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ، أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الاخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللهِ».

ص: 58

ويرى المدائني أن من اهم الاسباب التي أدت إلى تخاذل الكثير عن الامام اتباعه لمبدأ المساواة حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف - في العطاء - ولا عربيا على عجمي.

2 - ربط الانفاق بالعمران: تطوير اقتصاد الدولة، وتحقيق العمران من اهم اهداف الانفاق، وقد أكد الامام في عهده للأشتر علی عمران الأرض قبل جباية الحراج يقول: «ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة اخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره الا قليلا...». ولذلك دعا الامام ايضا الى ترشيد الانفاق.

وهذه اهم المبادئ الاقتصادية التي تشجع على الاستثمار وتحقيق الرفاهية

الاجتماعية والاقتصادية لأفراد المجتمع، والتخفيف من مستوى الفقر.

ولذلك كانت للأمام وصايا واوامر للولاة تعزز روح التعاون وتحقق مبدا الضمان الاجتماعي وفي هذا المجال جاء في عهده المالك الأشتر «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى مثل الذي للأدنى وكل قد استرعیت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر».

ويختلف معنى الطبقة في زمن الامام عليه السلام عن المعاني المتغيرة، للطبقات المتطورة والمستحدثة، في العصور المختلفة، وبخاصة في العصر الراهن، ولذلك يقول في عهده المالك الأشتر: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ

ص: 59

الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الاِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ

وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصَّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَکُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً».

أي أن الدلالة الاقتصادية، والدينية والعسكرية، متداخلة تبعا لتداخل الفئات المذكورة في المجرى العام لحركة العمران الخاصة بالمجتمع والدولة في الاسلام، الا ان الامام علي يركز على الوحدة) و (التنوع) في التركيبة الاجتماعية للرعية، فهو يرفض عمومية التحدث عن وحدة الرعية، مقدما رؤية واقعية عن مكان كل طبقة، وفعاليتها الاجتماعية والاقتصادية و(العسكرية).

3 - الفصل بين الأموال العامة وبين اموال الأفراد من قبل رجال الدولة والمتصدين للشأن العام: حرص الامام علي نهي ولاته في الامصار على عدم الاستئثار بأي شئ من الأموال العامة، فقد تحرج الامام فيها كأشد ما يكون التحرج.

وبالتأكيد ان يحصل مثل هذا الأمر من قبل اهل الطمع، الذين لا يناسبهم زهد الإمام (عليه السلام) وأقواله، حيث يقول: "ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - ولعلّ بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّي، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا اشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة

ص: 60

المربوطة، همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدی..».

وتذكر بعض المصادر ان الامام عليه السلام اجاب عمر بن الخطاب عندما سأل عما يصلح لي من بيت المال فقال له الامام علي: «غداء، وعشاءٌ فأخذ عمر بذلك».

وكان يقول الامام عليه السلام لأصحابه في هذا الشأن إني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: «لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله».

ثانيا - بيت المال و الخراج والعمران:

يعد «بیت المال» مجمع الثروة الاجتماعية للدولة الاسلامية، ومصدر تنظيمها وتوزيعها، ويحمل بیت المال معنيين، حسب نوع السياسة العامة لقيادة الدولة:

الاول: قد يكون بیت المال الحكومي الذي يكرس إرادة قيادة سلطة الدولة ومصالح الفئات الاجتماعية المرتبطة والموالية لها، وهو بهذه المعنى ذو دلالة طبقية، ممثلة لمصالح القوى السياسية والطبقة المتنفة ومنافية للمعنى الذي حدده الاسلام البيت المال.

الثاني: وهو المصداق الذي حدده التشريع الإسلامي، ويكون ماثلا في تكريس بیت المال لخدمة المسلمين ومن يعيش في كنف الدولة عموما.

وتتكون خزائن بیت المال بشكل اساس من «الخراج» و»الجزية» وبقية الموارد مثل الزكاة وغيرها، ويعد الخراج الدعامة الأساسية لإقتصاد الدولة في الاسلام في

ص: 61

ذلك الوقت؛ لان اغلب مراتب الجند - مثلا - من موارد الخراج: «فاذا ادت الرعية إلى الوالي حقه، وادي الوالي اليها حقها، عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الاعداء».

ومن الاخطاء الفادحة التي تمثل انحرافا خطيرا عن المضمون العمراني الاجتماعي لبيت المال، توجه أجهزة الدولة وجباتها الى الافراط في الجباية، على حساب الاهتمام بعمران الأرض، أي أن استجلاب الخراج يصبح سياسة النظام وهمّه الكبير، دونما أي اكتراث بالعلاقة الاقتصادية والسياسية بين الخراج وأحوال الناس.

وكان منهج الامام علي في العمران «وحدة العناية بالخراج والجزية بالانطلاق من الاهتمام بعمران الأرض، فهو يقول في عهده للأشتر «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، غير ان عمران الأرض «نفسه - مرتبط أصلا بمكانة الانسان و قیمته»، لذك يقول: «وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً».

وتظهر وحدة الافق بين الانسان وعمران الأرض والخراج وبناء الدولة في ذلك التأصيل المنهجي لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها العمراني الانساني بين تلك الأطراف في قوله عليه السلام: «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ».

ولكي يؤدي الخراج فاعليته المادية والمعنوية حرص الامام على وضع مجموعة من الأسس التشريعية ليحقق الخراج اثره العمراني:

ص: 62

1 - محاسبة العمال على سياستهم عند المخالفة.

حرص الامام علي بنهجه العادل على محاسبة الولاة والعمال الذين يمثلون سياسة الدولة، ومتابعة أعمالهم، ذلك أن الولاة والعمال هم وجه السلطة، وصورتها المعبرة عنها، في الامصار والمناطق البعيدة عن مركز الخلافة، فالناس يرون في الولاة والعمال عليهم صورة الخليفة ووجه الدولة، والممثل لنهجها و سیاستها، فاذا انهارت ثقة الناس بهؤلاء انهارت الدولة.

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى مصقلة بن هُبَيرة الشيباني وهو عامله على أردشير خُرّة: يلزمه بإعادة المبلغ الذي أخذه من بيت المال، والذي أنقذ فيه من الاسر خمسمائة رجل معظمهم من بني بكر بن وائل قوم مصقلة، قال فيه: بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَأَغْضَبْتَ إِمَامَكَ: أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُيُولُهُمْ، وَأُرِيقَتْ عَلَیْهِ دِمَاؤُهُمْ، فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَئِنْ کَانَ ذلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ بِكَ عَلَيَّ هَوَاناً، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً، فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ، وَلاَ تُصلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً.

2. تحصيل الخراج بالحق، فمن كتاب له عليه السلام إلى قیس بن سعد بن عبادة، وهو عامله على آذربایجان: (اما بعد فاقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله).

وبلغ من احتياط الإمام (عليه السلام) لتحقيق العدل انه كان يوصي عمال صدقاته بالتأدب مع الناس والتزام اللطف بهم، وجاوز ذلك إلى إلزامهم بالرفق بحيواناتهم المستحقة لفريضة الصدقات عليها «ولا تنفرن بهيمة، ولا تفز عنها، ولا تسوءن صاحبها فيها» ونصح بالرفق بما جبي من حيوانات الصدقة والعناية بها،

ص: 63

لأنها ملك لبيت مال المسلمين والمستحقين لها، «ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفیظا، غير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب».

3. اتباع سياسة التحذير لمن يعطل او يؤخر الخراج من الولاة، وسياسة التشجيع والتحفيز لمن يجلبه في وقته، وهذا جانب لتحقيق العمران في اقاليم الدولة، فمن کتاب له عليه السلام إلى يزيد بن قيس الارحبي: «أما بعد فإنك أبطأت بحمل خراجك، وما أدري ما الذي حملك على ذلك، غير أني أوصيك بتقوى الله، وأحذرك أن تحبط أجرك وتبطل جهادك بخيانة المسلمين، فاتق الله ونزه نفسك عن الحرام، ولا تجعل لي عليك سبيلا، فلا أجد بدا من الايقاع بك، واعزز المسلمين ولا تظلم المعاهدين، «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»».

ومن كتاب له عليه السلام إلى سعد بن مسعود الثقفي - عم المختار - عامله على المدائن: «أما بعد فإنك قد أديت خراجك وأطعت ربك وأرضيت إمامك فعل البر التقي النجيب، فغفر الله ذنبك وتقبل سعيك وحسن مآبك».

وتأكيدا للردع والنهي عن الجور والفساد في هذا الشأن - وهو الهاجس الذي يؤرق الإمام (عليه السلام) ويشغل باله لما شهده في زمان العال قبله - حذر الإمام عال الخراج، في كتاب وجهه إليهم، من سوء التصرف والتعسف في معاملة الناس واضطرارهم إياهم إلى ما لا يجوز ولا يصح «ولا تبيعن الناس في الخراج- أي بسببه - كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا

لمكان درهم».

ص: 64

4. الحرص على قوة وهيبة الدولة أمام الرعية، مع الاحتفاظ بالرحمة في باطن العمال. وعدم التعدي على حاجات الناس الأساسية، والرحمة بهم والعفو عنهم. ومما يدلل على هذا المنهج العمراني خطابه عليه السلام لاحد قَالَ:» اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عَلَى عُکْبُرَاءَ، فَقَالَ لِي، وَأَهْلُ الأَرْضِ معي يسمعون «انْظُرْ أَنْ تَسْتَوْفِيَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُرَخِّصَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ یَرَوْا مِنْكَ ضَعْفًا، ثُمَّ قَالَ: رُحْ إِلَىَّ عِنْدَ الظُّهْرِ، فَرُحْتُ إِلَيْهِ عِنْدَ الظُّهْرِ، فَقَالَ لِي: إِنَّمَا أَوْصَيْتُكَ بِالَّذِي أَوْصَيْتُكَ بِهِ قُدَّامَ أَهْلِ عَمَلِكَ لأَنَّهُمْ قَوْمُ خِدَعٍ، انْظُرْ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِمْ فَلا تَبِيعَنَّ لَهُمْ کِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلا صَيْفٍ، وَلا رِزْقاً يَأْكُلُونَهُ، وَلا دَابَّةً يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا، وَلا تَضْرِبَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَوْطًا وَاحِدًا فِي دِرْهَمٍ، وَلا تُقِمْهُ عَلَى رِجْلِهِ فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ، وَلا تَبِعْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَرَضًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَرَاجِ، فَإِنَّا إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ، فَإِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ يَأْخُذُكَ الله بِهِ دُونِي، وَإِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ ِخلافَ ذَلِكَ عَزَلْتُكَ، قَالَ: قُلْتُ: إِذَنْ أَرْجِعُ إِلَيْكَ کَمَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، قَالَ: وَإِنْ رَجَعْتَ کَمَا خَرَجْت، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَعَمِلْتُ بِالَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أُنْقَصْ مِنَ الْخَرَاجِ شَيْئاً».

ويستشرف الإمام علي، المصير الذي سارت إليه دولة الأمويين، من خلال نظرتها القصيرة إلى الخراج، مقترناً لديها بالاستغلال، ذلك الذي ألبَّ عليها شعوب البلدان المفتوحة. وخلافاً لذلك، حرص علي على تكريس الشعور بالمساواة لدى هذه الشعوب، محذراً من استغلال أهل الخراج، وموصياً بالتالي أن يؤخذوا باللين والحوار والمودة. ولعل كتابه إلى عمّال الخراج، يشكل نموذجاً في هذا المجال، محدداً وظيفة الخراج وطبيعتها وصفات العامل عليه ورسالته. وقد جاء فيها: «فانصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنکم خُزّانُ الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طِلبتهِ، ولا تبيعُنَّ للناس في

ص: 65

الخراج كسوةَ شتاءٍ ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً، ولا تضربُنَّ أحداً سوطاً لمكانٍ درهم، ولا تمسُّن مال أحد من الناس مُصَلَّ ولا مُعاهَدٍ، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعتدى به على أهل الإسلام».

أن الامام علي «كان يؤمن بمقولة (الناس على دين ملوكهم) وليس بمقولة (كيفما تكونوا يولَّ عليكم) فأشد ما كان يشغل فكر الإمام هو صلاح ذوي الشأن القائمين على أمور الناس في مجال الإدارة والقضاء والدفاع وغيرها من شؤون إدارة الدولة، انطلاقا من إيمانه بمقولة (صلاح الرعية بصلاح الوالي) لذلك لا نجد في (العهد) کله غير تفصيلات واجب المسؤول تجاه مسؤوليه وتذكيره بإقامة حكم الله وسلطان الحق فيهم، ثم رعايتهم بأقصى ما يستطيع من ذلك»

ثالثا - اولوية العمران على جلب الخراج:

اتبع الامام علي سياسة اقتصادية واقعية في الخراج، توازن بينه وبين الواقع

الاجتماعي والاقتصادي لمواطني الدولة، ليؤدي الخراج دوره العمراني.

من خلال الضبط الإداري والتفويض والصلاحية بحسب كل حالة، فأمر بعض الولاة بطاعة صاحب بیت المال فيما يتعلق به وذلك كنوع من الاستقلال، بينما أعطى ولاة آخرين مسؤولية عامة عن الخراج کالأشتر النخعي جاء في العهد: «هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِیْنَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا...»

وقد عمد الامام علي في بعض الحالات إلى فصل وظيفة الخراج، كذلك بیت المال، ضبطاً لمالية الدولة، وحتى لا تكون السلطات محصورة بكاملها في يد الوالي

ص: 66

الذي قد يلجأ إلى استغلال نفوذه الواسع. ولقد روى اليعقوبي أن علياً كتب إلى قرظة ابن کعب الأنصاري، يأمره بشق نهر كان قد عفا في أرضٍ لأهل الذمة، خاتماً رسالته بالقول: «فلعمري لأن يعمروا أحب إلينا من أنيخرجوا». وهكذا يأتي تشجيع الزراعة في خدمة الاستقرار، ويقترن الخراج بعمارة الأرض وإصلاحها، ولعل هذه السياسة، وإن وجدها البعض «شديدة»، لا سيما المتضرّر من المساواة، حفرت بعمق أمام الإسلام لينتشر بتلك السرعة في البلاد المفتوحة.

اهتم الامام في الحفاظ على عمران الأراضي وأولويتها على أمر الخراج، وان كان الحراج مورداً رئيساً لبيت المال الذي تعتمد عليه الدولة في سد حاجاتها المالية، مع الإضرار به يؤثر على حياة الأفراد، وربما يؤدي إلى هلاكهم.

ولذلك يروي ان الامام عليه السلام كان في احد الايام يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس: فوجه الإمام السؤال إلى من حوله من الناس قائلاً: ما هذا؟ فقالوا: إنه نصراني کبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له مال يعيش به، فيكتنف الناس.. فقال الإمام - في غضب: استعملتموه على شبابه حتى إذا كبر تركتموه؟ ثم جعل الإمام (عليه السلام) لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت.

وهذا يدل على أن الفقر كاد أن لا يرى لنفسه مجالاً في دولة الإمام حتى إذا رأى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقيراً واحداً كان يستغرب، ويعتبره ظاهرة مخالفة للعمران الذي اراده الله تعالى على هذه الأرض وغير لائقة بالمجتمع الانساني.

ولذلك امر مالك الاشتر بعمران الأرض اولا وليس جلب الخراج، ليخفف عن الناس ويزدهر العمران، قال الامام (ولیکن نظرُك في إعمار الأرض أبلغَ من نظرك

ص: 67

في استجلاب الخراج، لأن ذلك يُدَركُ بالعمارة ومن طلب الخراج بغیر عمارة أضر بالبلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خفَفتَ عنهم بما ترجوا أن يصلح به أمرهم. فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما إعوازها أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعِبر...).

كانت نظرة الامام علي إلى الخراج - الذي يرتبط عضوياً بالعطاء، خصوصاً

بعد توقف الغنائم إثر رکود جبهات الفتوح. وهي نظرة تؤسس لعلاقة إيجابية مع شعوب البلاد المفتوحة، بما يسهم في عمرانها وتعزيز انتمائها للأمة. لذا يرى ضرورة إصلاح أمر الخراج، بما يتعدى الجباية، إلى المسألة الاقتصادية برمّتها، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت، وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في عهده للأشتر، فيوصیه قائلاً: «تفقد أمر الخراج با يُصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لِمَن سِواهم، ولا صلاح لمن سِواهم إلا بهم، لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغَ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً».

فإذا تعرضت الأرض إلى عطش بسبب شحّة المطر أو انقطاع مياه الري أو إلى آثار الفيضان أو الآفات الزراعية لزمه التخفيف عن كاهل أهلها- عند الجباية - بما يصلح أمرهم، وليس في ذلك خسارة على بيت المال بل تشجيع لهم على معاودة الإنتاج بجد ونشاط، وإصلاح عمارة الأرض، فضلا عما فيه من إشاعة الطمأنينة في نفوس الناس تجاه أولياء الأمور، واستعدادهم للبذل والمعونة عند حدوث أزمة أو

ص: 68

إلمام ملمة. فليس من المصلحة استنزاف ما في أيدي المزارعين، لأن خراب الأرض يؤتى من إعواز أهلها الناجم عن إلحاح أهل الجباية والتحصيل، وهو ما حذّر منه الإمام ع، لأنه من مظاهر الفساد والجور وسوء التدبير لان من «طلب الخراج بغیر عمارة الأرض أخرب البلاد وأهلك العباد»

وبالعودة إلى المصادر التاريخية، نجد أن الإمام علياً يلتزم القاعدة التي اشار بها على عمر بن الخطاب بالامتناع عن تقسيم الأراضي التي فتحت عنوة بين الفاتحين، وبالتالي لزوم إبقائها بید اهلها، كي لا تؤول الى الخراب بانتقالها إلى الغير.

وكذلك عرف عن الامام علي (عليه السلام) انه كان يعمل جهده على تحقيق عدالة التوزيع والحيلولة دون تكتل الاراضي والضياع بید افراد قلائل يستأثرون بها، دون عمرانها، ولذلك بادر فور توليه الخلافة الى الأمر بإرجاع القطائع التي اقطعها عثمان الى بيت المال، يقول: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة ومن ضاق عنه العدل فالجور عليه أضيق».

وهي سياسة أثارت على الخليفة الأسبق قريشاً وبعض صحابتها، كما أثارت قادة الأمصار الذين استفزهم منح عثمان بن عفان قطائع لهؤلاء ولأقربائه، وهو ما يبدو أنه كان أحد حوافز القادة للثورة على عثمان. ولذلك كان استرداد هذه «القطائع»، جزءاً من الحركة الإصلاحية التي استهدفت من جانب الامام علي عليه السلام مجمل نهج الخليفة السابق، على كافة الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية.

ص: 69

الخاتمة

بعد هذه الوقفة الفكرية مع عهد علي عليه السلام، يمكن ذكر بعض

المستخلصات:

1. ورد لفظ اشتقاق لفظ العمران والعمارة في نهج البلاغة سبع مرات، اثنان اريد بها العمران المعنوي وخمس منها المادي، وهذه الالفاظ الخمسة وردت جميعها في عهده عليه السلام للأشتر.

2. وربط معنى العمارة المادية بالعمارة الروحية، حيث المبدأ العام للشريعة،، و تحقیق التمكين، رکن اساس في تأصيل فقه العمران عند الامام علي عليه السلام. 3. تضمن عهد الامام علي المالك الأشتر تأكيدا على اولوية العمران البشري ومن ثم عمارة الأرض بالبناء و الصناعة والزّراعة والانتفاع بما فيها كجزء من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض.

4. لقد سبق الامام علي في نهج البلاغة في تأصيل مفاهیم فقه العمران وحولها إلى إلى اجراءات عمل ضمها عهده للأشتر، ومشاريع بناء، وعمارة للأرض من اجل المساهمة في صياغة فعل إنساني يتجاوز انحطاط الواقع وغموض المستقبل.

5. في مجال فقه العمران يلزم التركز على محورين، هما: فطرة الإنسان، وطبيعة العمران. ومن خلالهما فإنَّ علم العمران مؤهل لتقديم خدمات معرفية لتلك الأصول، ولذلك فان التأسيس النظري لفقه العمران عند الامام علي، مرتبط بعدد من المفاهيم والقواعد الكلية، تشكل المنطلق للفعل العمراني، من دونها لا تتحقق غاية العمران.

ص: 70

6. تظهر وحدة الافق بين الانسان وعمران الارض وبناء الدولة في ذلك التأصيل المنهجي لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها العمراني الانساني بين تلك الاطراف، ولكي يؤدي المنهج فاعليته المادية والمعنوية حرص الامام علي على وضع مجموعة من الاسس التشريعية لتحقق الموارد المالية للدولة اثرها العمراني.

7. حرص الامام علي بنهجه العادل على محاسبة الولاة والعمال الذين يمثلون سياسة الدولة، ومتابعة أعمالهم، ذلك ان الولاة والعمال هم وجه السلطة، وصورتها المعبرة عنها، في الامصار والمناطق البعيدة عن مركز الخلافة، فالناس يرون في الولاة والعمال عليهم صورة الخليفة ووجه الدولة، والممثل لنهجها وسياستها، فاذا انهارت ثقة الناس بهؤلاء انهارت الدولة.

ص: 71

الهوامش

1. (Lane, Arabic-English Lexicon, V, p.2153-2156). عن موقع: موسوعة الأنسنة المتوسطية.

2. المصدر نفسه.

3. سورة هود: 61

4. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب،

جدة، 2001، ص 51

5. عبد الهادي علي النجار، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة (63)،

المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983، ص 61.

6. نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية مقارنة

في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، ط 4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006، ص 258 - 259.

7. سورة 30 الروم / 9.

8. المقدِّمة، ص 17.

9. نهج البلاغة: ص 808، و حلية الأولياء لأبي نعيم، رقم الحديث: 239

10. (أنظر ترجمات الفرنسية والإنجليزية لكتاب المقدِّمة: ،68 - 1862 De Slane Monteil 1967-68, Cheddadi 2002, et les etudes critiques de Hussein 1917, Bouthoul 1930, Talbi 1973, et, en anglaise, la traduction de la Muqaddima de F. Rosenthal 1958, ainsi que les textes de E. Rosenthal 1958)

ص: 72

11. Nassar، 1967، p. 143 ; voir aussi Oumlil، 1979، et Pizzi) 1985)

12. مقدمة ابن خلدون، ص 150 - 151.

13. المصدر نفسه.

14. المصدر نفسه.

15. 30. محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة، مركز

الوحدة العربية، بيروت، 1994 من ص 213.

16. نهج البلاغة، ص 528

17. مقدمة ابن خلدون، ص 184.

18. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني * تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي.

19. مسفر القحطاني، مدخل لفقه العمران، الشبكة العنكبوتية.

20. سورة القصص: الآية 77.

21. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية

وتطبيقاتها المعاصرة صض 2 ض 22، ص 51

22. نهج البلاغة، ص 712.

23. د.حسن لطيف الزبيدي، الإسلام والتنمية الاقتصادية: سعة المضمون

وتكامله:http://hasnlz.com/permalink/3393.html

24. حمد إبراهيم منصور، عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية: رؤية إسلامية معاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص 327.

25. نهج البلاغة، ص 712.

26. المصدر نفسه.

ص: 73

27. نهج البلاغة، ص 713.

28. ظ: أبو يوسف، الخراج، 97 - 98.

29. ظ: ابن قدامة، المغني: 5 / 426.

30. أبو عبيد : الأموال: 381، و ظ: الشواني، نيل الاوطار: 5 / 349.

31. د. محمود المظفر، الثروة المعدنية، دار الحق، ط 2، بیروت، 1419ه - 1998، ص 86 - 87.

32. المصدر نفسه.

33. د. منذر عبد الحسين الفضل، الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الشريعة

الإسلامية، مجلة الحقوق، السنة السادسة، العد الأول 1982، ص 113

الكويت.

34. ظ: الكاساني، بدائع الصنائع، 6 / 192، الطوسي،: 3 / 276.

35. سورة هود: 61

36. القرافي. الفروق 4 / 92. 37. الزركشي. المنثور في القواعد 3 / 35، انظر: السيوطي. الأشباه والنظائر 2 / 251.

38. ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسى التبيان في تفسير القرآن، الناشر: مكتب الاعلام الاسلامي طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي الطبعة: الاولى، 1409 ه.، 6 / 15.

39. الطوسي، التبيان: 6 / 15..

40. الميزان في تفسير القرآن: 10 / 310.

41. ظ: الماوردي: النكت والعيون 1 / 252. البغوي: معالم التنزيل 2 / 89. ابن عاشور: التحرير والتنوير 3 / 186.

ص: 74

42. الجصاص، احکام القران: 3 / 378

43. الشيخ يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، دار التعارف، ط 1،

1993 م، بیروت، ص 145.

44. فقه البيئة، شبكة المعلومات العالمية (الانترنت).

45. سورة هود: 61.

46. ظ: ابن عربي، احکام القرآن: 3 / 1059، الرازي ، التفسير الكبير،، 18 / 17، الزمخشري الكشاف، 2 / 278 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 9 / 56، الجصاص، احکام القرآن: 3 / 23، الطباطبائي، الميزان: 10 / 310.

47. السيد محمد تقي الشيرازي، الاقتصاد ، ص 37.

48. سورة الحديد: 7.

49. سورة النور: 33.

50. سورة البقرة : 30.

51. التحرير والتنوير: 1 / 398

52. الإسلام والبيئة، ص 3. (انترنت). 53. سورة الإسراء: 70.

54. الإسلام والبيئة، ص 2، الشبكة العنكبوتية (انترنت).

55. سورة الحديد: 7.

56. سورة النور: 33.

57. سورة طه: 6.

58. سورة المائدة: 120.

59. الشيخ محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، ط 19، القاهرة، 2007 م، ص 33.

ص: 75

60. سورة البقرة: 36.

61. سورة الأعراف : 74.

62. احمد سلامة، حماية البيئة في الفقه الإسلامي، مجلة الاحمدية، دبي سنة 1998، 295، عن احمد فتح الله الزيادي، W.W.W.islamicrabta.com. 63. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي.

64. سورة الجاثية: 13.

65. سورة النحل: 14.

66. سورة الحج: 65.

67. ظ: د. احمد عبد الرحيم وعوض، ود. احمد عبده، قضايا البيئة من منظور اسلامي، مركز الكتاب للنشر، ط 1، القاهرة، 1425 ه - 2004 م، ص 72 - 76.

68. ابن خلدون ، المقدمة 3 / 877

69. الجابري ، فكر ابن خلدون. العصبية والملك ص 233 وما بعدها.

70. نهج البلاغة،ص 695.

71. ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة: 7 / 37.

72. المصدر نفسه: 7 / 40.

73. سورة الحجرات: الآية 13.

74. نهج البلاغة، ص 286.

75. شرح ابن أبي الحديد 1 / 180.

76. المصدر نفسه.

77. نهج البلاغة ص 438.

ص: 76

78. نهج البلاغة، ص 704.

79. ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 419.

80. المصدر نفسه: 16 / 287.

81. ابو یوسف، الخراج، ص 35.

82. مسند أحمد في المسند، 1 / 78. وظ: ابن كثير،، البداية والنهاية: 8 / 2، مكتبة المعارف بيروت.

83. ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 422.

84. نهج البلاغة، ص 419.

85. ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423.

86. نهج البلاغة، ص 712.

87. ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423.

88. نهج البلاغة، ص 712.

89. المصدر نفسه.

90. ظ: عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 433.

91. نهج البلاغة، ص 673، وذكره البلاذري في انساب الاشراف، ص 160.

92. تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 178

93. نهج البلاغة، ص 611.

94. قال الشيخ الطوسي (تحت الرقم السادس من باب الياء من اصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من رجاله ص 62 -: يزيد بن قيس الارحبي كان عامله على الري وهمدان واصبهان. وفي شرح المختار - 25) من خطب نهج البلاغة من شرح ابن ابي الحديد: ج 2 ص 4 س 1، عكسا: انه (عليه السلام) شکا قومه ممن كاتب معاوية من اهل (الجند وصنعاء) إليه، وأراد (عليه السلام)

ص: 77

أن يبعثه للتنكيل بهم. فراجع القضية فانها دالة على جلالته، لا سيما باض آفة ما قيل من أنه أخو سعيد بن قيس الهمداني المتفاني في ولاء أمير المؤمنين (عليه السلام) هو خاصة، وقومه عامة. وفي قصة اعتزال الخوارج عليا (أمير المؤمنين عليه السلام) من تاريخ الطبري: ج 4 ص 47، من حوادث سنة 37، وكذلك في كامل ابن الأثير: ج 3 ص 166

95. القصص: 28

96. تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 176. 97. المصدر نفسه.

98. نهج البلاغة، ص 693.

99. الخراج لأبي يوسف، ج 1 ص 15

100. د. ابراهیم بیضون / "الامام علي في رؤية النهج" و"رواية التاريخ"

101. نهج البلاغة، ص 693.

102. الدكتور صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي (عليه السلام) قراءة في عهد التولية لمالك الأشتر: -

http://arabic.balaghah.net/con- tent.

103. نهج البلاغة، ص 610.

104. تاريخ اليعقوبي، 2 / 192.

105. د. ابراهیم بیضون / "الامام علي في رؤية النهج" و"رواية التاريخ"

106. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج 15 ص 66 ب 19 ح 19996.

107. نهج البلاغة، ص 713.

108. د. ابراهیم بیضون / "الامام علي في رؤية النهج" و"رواية التاريخ"

109. نهج البلاغة، ص 624.

ص: 78

110. الدكتور صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي عليه السلام قراءة في عهدالتولية لمالك الأشتر: http://arabic.balaghah.net/content.

111. نهج البلاغة، ص 713.

112. ظ: الحنبلي، الاستخراج، ص 37، وظ: باقر شريف القرشي،ص 23.

113. ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 269، 270.

ص: 79

المصادر والمراجع:

- القرآن الكريم.

- نهج البلاغة.

1. ابراهيم بيضون،الامام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ، الناشر: بيسان للنشر والتوزيع والاعلام، ط، 2 2009، بیروت.

2. ابن أبي الحديد: عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين المعتزلي (ت: 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1977 م.

3. ابن خلدون: عبدالرحمن بن محمد التونسي المالكي (ت 808 ه)، المقدمة، دار الكتب العلمية، ط 8، بيروت، 2003 م.

4. ابن عاشور: التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس، د.ت.

5. ابن قدامة (ت 630 ه)، المغني، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.

6. ابن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف بيروت.

7. أبو عبيدة القاسم بن سلام، الأموال، مكتبة الكليات الأهرية، القاهرة، 1968 م.

8. أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم القاضي، كتاب الخراج، المطبعة السلفية، القاهرة، ط 2، 1352 ه.

9. احمد سلامة، حماية البيئة في الفقه الإسلامي، مجلة الاحمدية، دبي سنة 1998، 295، عن احمد فتح الله الزيادي، W.W.W.islamicrabta.com.

10. احمد عبد الرحيم وعوض، ود. احمد عبده، قضايا البيئة من منظور اسلامي، مركز الكتاب للنشر، ط 1، القاهرة، 1425ه - 2004 م، ص72 - 76.

ص: 80

11. امحمد مالکي، ابن خلدون والعُمران البشري من منظور فقه السياسة (إعداد)،

موقع: تادارات مركز الدراسات الاباضية،

http://www.taddart.org 12. البغوي، ابو محمد الحسين بن مسعود الفراء الشافعي (ت 516 ه)، تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل /، تحقیق: خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، بیروت، دار المعرفة، ط 1، 1406 ه.

13. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر المتوفي سنة 279 ه، کتاب جمل من أنساب الأشراف حققه وقدم له الأستاذ الدكتور سهيل زكّار، والدكتور رياض زرکلي / بإشراف مكتب البحوث والدراسات في دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / الطبعة الأولى: 1417 ه. 14. الجصاص، أبو بكر أحمد بن علي الرازي المتوفي سنة 370 ه، أحكام القرآن، ضبط نصه وخرج آیاته عبد السلام محمد شاهين / ط 1، 1415 ه - 1994 م / دار الكتب العلمية بيروت لبنان. الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج 15 ص 66 ب 19 ح 19996.

15. حسن لطيف الزبيدي، الإسلام والتنمية الاقتصادية: سعة المضمون وتكامله:

http://hasnlz.com/permalink/3393.html

16. حمد إبراهيم منصور، عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية: رؤية إسلامية معاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، 2007، ص 327.

17. الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمود بن محمد بن عمر بن محمد (ت 538 ه) تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تح: عبد الرزاق المهدي، بيروت دار إحياء التراث العربي، ب ت ط

18. صاحب أبو جناح، السياسة الإدارية عند الإمام علي عليه السلام قراءة في عهد

ص: 81

التولية لمالك الأشتر:

http://arabic.balagah.net/content

19. الطوسی، ابو جعفر محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، الناشر: مکتب الاعلام الاسلامي طبع على مطابع: مكتب الاعلام الاسلامي الطبعة: الأولى، 1409 ه.، 6 / 15.

20. عبد الهادي علي النجار، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة (63)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1983، ص 61.

21. عزیز السيد جاسم، علي سلطة الحق، تحقيق: صادق جعفر الروازق، الغدير للطباعة والنشر،، قم، 2007 م. 22. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 2001، ص 51

23. فؤاد عبد المنعم أحمد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة

24. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي. 25. قراءة في كتاب علم العمران الخلدوني * تأليف: صالح طاهر مشوش، موقع المعهد العالمي للفكر الاسلامي.

26. القرافي: شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت: 684 ه)، دار الكتب العلمية،

بیروت ط 1، 1998 م.

27. القرطبي: محمد بن احمد بن أبي بكر (ت 171 ه): الجامع لاحکام القرآن

المعروف ب(تفسير القرطبي)، تحقيق: احمد عبد العليم البردوني، مطبعة دار

ص: 82

الشعب - القاهرة، ط 2، 1372 ه.

28. الكاساني، علاء الدين أبي بكر بن مسعود (ت 587 ه) بدائع الصنائع:، دار

الكِتَاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1402 ه - 1982 م.

29. محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، ط 19، القاهرة، 2007 م.

30. محمد عابد الجابري، فکر ابن خلدون، العصبية والدولة، مركز الوحدة العربية، بیروت، 1994 م.

31. محمود المظفر، الثروة المعدنية، دار الحق، ط 2، بیروت، 1419 ه - 1998.

32. منذر عبد الحسين الفضل، الملكية ووظيفتها الاجتماعية في الشريعة الإسلامية، مجلة الحقوق، السنة السادسة، العد الأول 1982، ص 113 الكويت.

33. موقع: موسوعة الأنسنة المتوسطية.

34. الميزان في تفسير القرآن / العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه) ط 3، بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1393 ه. و طبعة ثانية، ط 1 المحققة، بيروت، 1417 ه. 35. نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري الإسلامي، ط 4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2006.

36. اليعقوبي: احمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب، (ت 284 ه)، تاريخ اليعقوبي، نشر دار صادر - بيروت (د.ط) (ب.ط)

37. يوسف القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، دار التعارف، ط 1، 1993م، بيروت.

ص: 83

ص: 84

أسس النظام الجنائي الموضوعي الإسلامي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

أستاذ القانون العام المساعد الدكتور زين العابدين عواد كاظم

ص: 85

ص: 86

المقدمة:

مما لا ريب فيه أن الأمام علي (عليه السلام) هو خير ولد آدم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأدلة والشواهد على ذلك من الكثرة حتى بلغت حد التواتر في كتب الحديث عند العامة والخاصة، إذ رُويَّ أن رسول الله قال: « أدعوالي سيد العرب يعني علياً». قالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: «أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب». لا بل أن الأمام عليه هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال لعلي عليه السلام:» أنت مني وأنا منك».

ولو لم تقضي المشيئة الإلهية أن يكون رسونا الأكرم عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين لكان عليا عليه السلام نبيا أيضا بدلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «یا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»

أما عن علم الأمام فكان أعلم الناس بعد رسول الله وأقضاهم، حتى ورد ذلك

الأمر على لسان عمر بن الخطاب إذ قال: «أقضانا علي».

وإذا كانت الأمم تفتخر بعلمائها وعظمائها وفقهائها، فلا بد لنا أن نرجع بالزمن إلى حياة الأمام علي عليه السلام، لنقلب ما حفظته لنا ذاكرة التاريخ، لنسترشد ونستنير بضياء الإرث الحضاري والإنساني الكبير الذي خلّفه لنا لتستفيد منه البشرية جمعاء.

وبما أن هذا الإرث من السعة حيث لا تحويه الموسوعات والمجلدات، آثرنا

أن نبحث جزءً محددا منه، وهو مايتعلق بالأسس والمبادئ المتعلقة بالنظام الجنائي الموضوعي الإسلامي، التي وضع لبنتها الأساس نبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام، وأقام بنیانها بعده الأمام علي عليه السلام.

ص: 87

أهمية البحث:

تنطلق أهمية البحث من ذات أهمية شخص الأمام علي عليه السلام الذي عُرف بسعة علمه، ونبوغ معرفته، وعلو منزلته، ورفعة شأنه، وقوة عزيمته، وتسيده على أصحابه، إذ كان أكثرهم حلماً وذكاءً، وفطنةً، وورعاً، وزهداً، وشجاعةً، وفصاحةً، وبلاغةً، فعلى الرغم من حداثة سنه ولاّهُ الرسول الأعظم اليمن حاكما وقاضيا، واستشاره الخلفاء من بعده صلى الله عليه وآله وسلم في القضايا التي أعيتهم الحيلة عن الفصل بها، حتى ترك للأمة الإسلامية إرثا حضاريا عظيما في مجال القانون الجنائي، حتى أن المدارس الفقهية الجنائية الغربية الحديثة أخذت الكثير من آرائه والتي لا تزال يعمل بها حتى الوقت الحضر كما سيتضح لنا من ثنايا البحث.

مشكلة البحث:

توجد الكثير من المراجع والمصادر التي تتناول مسألة قضاء الإمام عليه السلام وأحكامه في المسائل التي طرحت أمامه، غير أنه لم تسلط الضوء على الأسس والمبادئ التي يمكن أن نستقيها من تلك الأحكام، وتحديداً في القانون الجنائي.

وأود الإشارة إلى أن هناك معلومة كثيرة التداول مفادها بأن مبادئ القانون الجنائي کمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وأسباب الإباحة وموانع المسؤولية وغيرها، هي من بنات أفكار المدارس الفكرية الأوربية الحديثة. ولو دققنا النظر في تلك المعلومة لوجدنا أن الإمام علي عليه السلام قد عَمِلَ وطبق تلك المبادئ والنظريات قبلهم بأكثر من ألف سنة.

ص: 88

أهداف البحث:

يمكن تلخيص أهداف هذا البحث بما يأتي:

1 - تسليط الضوء على الأسس والمبادئ ذات الصلة بالقانون الجنائي الموضوعي، والمتعلق بالقسم العام تحديدا، التي وضع أصولها الأمام علي عليه السلام.

2 - توضيح وبيان تلك الأسس والمبادئ لتحقيق المنفعة القانونية، ليسترشد المشرع العراقي بها ويضعها في الحسبان عن سن القوانين الجنائية.

3 - اثبات الحقيقة العلمية التي تؤكد بأن أكثر مبادئ القانون الجنائي المطبقة حاليا

تجد أساسها في الحضارة الإسلامية التي أسسها الرسول الأعظم صلى الله عليه

وآله وسلم، وسار على نهجه الأمام علي عليه السلام

منهج البحث:

سيعتمد الباحث في بحثه هذا على المنهج الاستقرائي للانتقال من الأحكام الجزئية لتكوين مبادئ كلية عامة، فضلا عن استخدام المنهج المقارن بين الشريعة الغرّاء والقانون الوضعي.

نطاق البحث:

يتحدد نطاق هذا البحث بالأسس والمبادئ المتعلقة بالقانون الجنائي الموضوعي، لذلك سيكون الجانب الإجرائي الجنائي خارج نطاق البحث بل سنفرد له بحثاً مختصاً به، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب لا بل أن الباحث سيتناول القسم العام من الجانب الموضوعي من دون بحث القسم الخاص للسبب ذاته أعلاه.

ص: 89

المبحث الأول مبدأ الشرعية الجنائية في فكر الأمام علي (عليه السلام)

يُعد مبدأ الشرعية الجنائية من أهم المرتكزات الأساسية التي يتكئ عليها قانون العقوبات، ولتوضيح هذا المبدأ وبيان الأساس الشرعي له وموقف الأمام منه، سیتم تقسيم هذا المبحث إلى مبحثين أثنين وكما يأتي:

المطلب الأول / مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية

أختلف شراح القانون الجنائي في تسمية هذا المبدأ، فبعضهم أطلق عليه مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات أو مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وذهب آخرون إلى تسميته بمبدأ شرعية الجريمة والجزاء أو مبدأ لا عقوبة ولا تدبير إلا بنص.

وعلى الرغم من الإختلاف حول تسمية هذا المبدأ غير أن المراد بمدلوله واحداً

وهذا سيتم بيانه ضمن ثنايا البحث.

الفرع الأول / تعريف مبدأ الشرعية الجنائية

الشرعية الجنائية مصطلح مكون من كلمتين، الأولى الشرعية: وهي أسم مؤنث مشتق من الفعل شَرَعَ و أشرع والشَرعُ يعني الطريق المستقيم وما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده.

إذن الشرعية تعني بأن الشيء قائم على أساس صحيح ومشروع.

ص: 90

أما كلمة الجنائية: فهي مشتقة من الفعل جنى، والجناية في اللغة تعني الذنب.

ومن الناحية الاصطلاحية يمكن تعريف مبدأ الشرعية الجنائية بأن المشرع وحده هو من يمتلك سلطة تحديد الأفعال والسلوكيات التي تعد جرائم، وهو أيضا (أي المشرع) من يحدد العقوبات والتدابير الاحترازية المناسبة لمرتكب الفعل المجرم. فالقاضي ليس له الحق في أن يُجرم فعلا لم ينص القانون عليه ولا أن يعاقب بعقوبة لم يذكرها المشرع.

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لمبدأ الشرعية الجنائية

يُثار تساؤل في هذا الموضع من البحث مفاده، هل أن الشريعة الإسلامية الغرّاء عَرَفَت مبدأ الشرعية الجنائية وأقرته؟ أم أن هذا المبدأ هو من نتاج مفكري وفلاسفة أوروبا؟ كما يشير بذلك أحد شراح القانون بقوله ولم يكن هذا المبدأ موجود منذ القدم فقد ظهرت الأصول الأولى له في أوروبا لأول مرة في انكلترا حيث تضمنتها المادة 39 من العهد الأعظم».

و الصواب أن الشريعة الإسلامية المباركة تنبهت إلى مبدأ الشرعية الجنائية قبل انكلترا بمئات السنين، ونجد الأساس الشرعي له في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة أيضاً.

أولا: الأساس الشرعي للمبدأ في القرآن الكريم.

تشير العدید من الآيات القرآنية الكريمة إلى مدلول مبدأ الشرعية الجنائية منها قوله تعالى «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً». وقوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»، وقوله تعالى «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».

ص: 91

ومن تلك الآيات الكريمة يستدل الفقهاء

رون على أن الله سبحانه وتعالى لا يُعَذب أحدا من خلقه حتى يُبَيِنُ له الأفعال المحرمة وما يجب عليهم اجتنابه، ويوضح له العقوبات الدنيوية والأخروية لمرتكب تلك الأفعال المحرمة، كل ذلك بوساطة الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ثانيا: الأساس الشرعي للمبدأ في السنة النبوية الشريفة.

يَجِد مبدأ الشرعية الجنائية في عدد من الأحاديث الشريفة للرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد روي عنه أنه قال:» أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».

الفرع الثالث / مبدأ الشرعية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام

لا يخفى على أحد أن الأمام علي عليه السلام وضع مبادئ الكثير من العلوم، كاللغة والخطابة والفقه والقضاء وغير ذلك، كونه ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو من رَّباه، وعاش في كنفه، فهو أول المؤمنين أسلاماً، فقد روي عن زيد بن أرقم أنه قال:» أن أول من أسلم مع رسول الله علي بن أبي طالب عليه السلام». كما أنه عليه السلام وارث علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد روي أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال:» وصيي، ووراثي، يقضي ديني، ويُنجز موعدي علي بن أبي طالب».

ولكل ذلك فأن الأمام علیه السلام هو خير من طبق القرآن الكريم والسنة الشريفة، لذا أشار أحكامه إلى أنه كان يطبق مبدأ الشرعية الجزائية في القضايا التي تعرض عليه، فتذكر الروايات أنه كان يشترط لإقامة الحد على الجاني أن يكون عالما وقاصدا ارتكاب الفعل المجرم والمحرم وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فقال عليه

ص: 92

السلام: «لا حد إلا على من علمه»، وفي عهده عليه السلام جاءته إمرأة فقالت له أن زوجي زنی بجاريتي، فقال الزوج: صدقت، هي ومالها لي. فقال: عليه السلام «إذهب ولا تعد» كأنه درأ عنه الحد بالجهالة».

ويستنتج من ذلك أن الأمام علي عليه السلام لم يعاقب الجاني لأنه لم يكن يعلم

بتجريم هذا الفعل.

المطلب الثاني / مبدأ عدم الرجعية في القانون الجنائي في فكر الأمام علي عليه السلام

من أهم النتائج المترتبة على العمل بمبدأ الشرعية الجنائية، هو مبدأ عدم رجعية قواعد القانون الجنائي على الماضي (كقاعدة عامة). ومن أجل الإحاطة بالموضوع سيتم توزيع المطلب على فروع ثلاثة وكما يأتي:-

الفرع الأول / مفهوم مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي - الموضوعي -

يقصد بمبدأ عدم رجعية القانون الجنائي على الماضي بأن قواعده الجديدة عندما تصدر، تكون ذات تطبيق فوري وأثرها مباشر، بمعنى أنها تحكم الوقائع التي نفاذها، ولا تطبق على الوقائع السابقة بل تبقى الأخيرة خاضعة للقانون القديم.

والجدير بالذكر ان العمل بهذا المبدأ تقتضيه قواعد العقل والمنطق والعدل، فليس من المعقول معاقبة شخص على فعل لم يكن مجرما وقت اقترافه أو يعاقب بعقوبة أشد من تلك المقررة وقت ارتكاب الفعل المجرم.

علماً أن هذا المبدأ أخذت به أكثر القوانين الجنائية في الوقت الحاضر بما المشرع العراقي في المادة (1) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة (1969) المعدل النافذ.

ص: 93

الفرع الثاني/ الأساس الشرعي لمبدأ عدم الرجعية

تبين لنا فيما سبق أن مبدأ الشرعية الجنائية وُجِدَ أساسه الشرعي في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك ح-ال مبدأ عدم الرجعية، إذ له أسانيد شرعية واضحة الدلالة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، سنوضحها كما يأتي:

أولا: الأساس الشرعي في القرآن الكريم:

يستند مبدأ عدم الرجعية على عدد غير قليل من الآيات القرآنية الكريمة التي توضح وجوب العمل به، وتدل بعض النصوص القرآنية الكريمة دلالة واضحة لا تقبل التأويل على أن القاعدة الشرعية تطبق بعد نزولها من لدن الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغ المسلمين بها. ومن أدلة ذلك قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ........إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا»، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ.....عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ»، وقوله تعالى: «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»، وغير ذلك الكثير من الآيات.

ومن يُلاحظ أن أحكام الشريعة الإسلامية تطبق بعد نزول الآية على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغها للناس، والأفعال التي تعد جرائم على وفق أحكام الشريعة الإسلامية فلا يعاقبون عليها إذا كانت مرتكبة قبل نزول الآية التي تُحرمها.

ص: 94

ثانياً: الأساس الشرعي للمبدأ في السنة النبوية الشريفة.

المدُقق في تاريخ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الشريفة يُلاحظ، بأنه لم يحاسب ويعاقب شخصا على ارتكابه لفعل في عصر الجاهلية أو بتعبير أدق قبل الإسلام، لا بل حتى الذين لم يدخلوا الاسلام في بداية الدعوة ما لم يُسلموا.

لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا وأن كل ربا في الجاهلية موضوع لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فانه كله موضوع، الأ وان كل دم كان في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب». ويقصد بالموضوع في الحديث الشريف أي متروك لا قصاص ولا دية.

كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عفا عن الذين سببوا له ولأهله وأصحابه الأذى لابل حتى عن المجرمين الذين قاتلوه، وعن قاتل عمه الحمزة عليه السلام، فعندما دخل مكة في عام الفتح قال صلى الله عليه وآله وسلم» يا معشر قريش، ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال:» اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ص: 95

الفرع الثالث / مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

إذا كان مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي على الماضي يجد أساسه في القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الإمام علي عليه السلام هو أولى بتطبيق القرآن والسنة، لأنه أعلم الناس بالقرآن والسنة، فقد روي عن زوجة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عائشة أنها قالت: «علي أعلم الناس بالسنة».

فقد كان عليه السلام لا يقيم الحد إلا على المسلم، أمّا اذا ارتكب غير المسلم جريمة فلا يعاقبه بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية، احتراما لحرية غير المسلم بعقيدته وفكره.

ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما كتبه واليه على مصر محمد بن أبي بكر رحمه الله في رسالة كتبها للإمام عليه السلام يسأله فيها عن مسلم زنی بنصرانية فأجابه عليه السلام: «وأما المسلم فأقم عليه الحد، وإدفع النصرانية إلى أهل دينها».

ص: 96

المبحث الثاني أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام

لكل شيء جزء يَتَقَّوَم به ويرتكز عليه ويُعَد من ماهيته ويسمى بالركن، والجريمة لا تخرج من هذا الإطار، فما هي أركان الجريمة؟ وعلى الرغم من ارتكاب بعض الأفعال التي تعد جرائم معاقب عليها، غير أن حالات تطرأ على الفعل المجرم وتُخِرجُه من نطاق التجريم إلى الإباحة، لذلك سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين الأول لبيان ماهية أركان الجريمة في فكر الإمام والمطلب الثاني لبيان أسباب الإباحة في فكر الإمام علي عليه السلام.

المطلب الأول / ماهية أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام

قبل التطرق إلى اركان الجريمة لابد من أن نتعرف على المقصود بالركن والفرق بينه وبين الشرط، ويراد بالركن «هو مايتوقف عليه وجود الشيء وكان جزء داخلا في حقيقته»، أو هو ما يتم به الشيء وهو داخل فيه بخلاف شرطه وخارج عنه».

أما الشرط فهو «ما يتوقف عليه المشروط، ولا يكون داخلاً في المشروط......». لذلك فإن البحث سيعني بأركان الجريمة دون شرطها كما سيتضح في الفروع القادمة.

ص: 97

الفرع الأول / مفهوم أركان الجريمة

لم يتفق الفقه الجنائي على أركان الجريمة وانقسم على نفسه في تحديدها، فهناك من يرى بأن للجريمة ركن واحد هو الركن المادي، أي الفعل أو السلوك الذي أمر القانون بمنعه أو القيام به، أمّا الركن المعنوي فلا يعد ركنا وفقا لأصحاب هذا الرأي وإنما هو شرط لقيام المسؤولية الجنائية.

وذهب إتجاه آخر للفقه بأن للجريمة ركن واحد وهو الركن المعنوي أو النفسي، إذ أن السلوك ما هو الاّ تعبير عن نفسيات المجرم. غير أن غالبية الفقه الجنائي لا يأخذ بالرأيين المتقدمين، ويرون بأن للجريمة أركان ثلاثة: الركن الشرعي، والركن المادي، والركن المعنوي. ويضيف جانب من الفقه ركن رابع للجريمة وهو ركن البغي أو العدوان.

ويؤيد ابلباحث الرأي الذي يقول بأن للجريمة ركن واحد الاّ وهو الركن المادي، فالجانب النفسي هو ركن لتحقق المسؤولية الجنائية، أمّا الركن الشرعي فلا نبحثه لأننا ملزمون بمبدأ لا جريمة ولاعقوبة ولا تدبير الاّ بنص، وفيما يتعلق بركن العدوان فهو يدخل أصلا ضمن الركن المادي.

وجدير بالذكر أن للجرائم اركان عامة وخاصة، الأولى متوافرة في الجرائم جميعاً، اما الخاصة فتعد متطلبات لتحقق بعض الجرائم، على سبيل المثال لا الحصر وجوب توافر صفة الموظف في جريمة الرشوة، وجوب قيام حالة الزوجية لتحقق جريمة زنا الزوجية.

وتختلف أركان الجريمة عن ظروفها، فالأخيرة هي حالات تطرأ على الجريمة بعد اكتمال أركانها، فالظروف لاتدخل في تكوين الجريمة، إذ يقتصر تأثيرها على العقوبة بالتشديد أو التخفيف أو الاعفاء.

ص: 98

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لأركان الجريمة

سنتناول في هذا الفرع الأساس الشرعي لأركان الجريمة في القرآن الكريم والسنة

النبوية الشريفة وكما يأتي:

أولا: الأساس الشرعي لأركان الجريمة في القرآن الكريم.

يُعَرِّفُ فقهاء الشريعة الاسلامية الجريمة بأنها «محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو قصاص أو تعزير». ومن التعريف المتقدم يَستَنتَج بأن للجريمة ثلاثة أركان: الأول هو الركن الشرعي وهو المحظور الشرعي الوارد في الدليل الشرعي، والثاني الركن المادي وهو السلوك المنهي عنه أو المأمور به، ولما كانت هذه الأوامر والنواهي المحظورة شرعا تخاطب الشخص المكلف، فلابد أن يكون الأخير فاهما مدركا لما يخاطب به، إذ لا يعقل أن يكون عاجزا عن فهم الخطاب لكل يكون مسؤولا عن أفعاله، وهذا ما يسمى بالركن المعنوي.

مما تقدم يتضح بأنه لابد من وجود نص شرعي يجرم السلوك ويعاقب عليه، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى» السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما»، أو قوله تعالى:» الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة»، فالآية الكريمة هي خطاب موجه للإنسان العاقل المدرك الذي عليه أن يمتنع عن هذا الفعل المجرم والا تعرض للعقوبة المنصوص عليها في الآية المباركة.

ص: 99

ثانيا: الأساس الشرعي لأركان الجريمة في السنة النبوية الشريفة.

تبدأ الجريمة من حيث البدء بتنفيذ الفعل لمكون للجريمة، فمجرد الخواطر

والنوايا والتحضيرات لاتعد سلوكيات مجرمة، فالركن المادي يبدأ عند البدء بالتنفيذ المكون للجريمة، والأساس الشرعي لذلك، ماروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:» قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هَمَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً»، كما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: کما «ان الله تجاوي لأمتي عمّا وسوست - أو حدثت به نفسها، ما لم تعمل أو تكلم».

ويجد الركن المعنوي للجريمة أساسه الشرعي في السنة النبوية الشريفة في قوله علیه أفضل الصلاة والسلام» إنما الأعمال بالنيات، وانما لإمرىء مانوى».

الفرع الثالث / تطبيقات أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام

إن المدقق في بعض الأحكام الجنائية التي أصدرها الإمام علي عليه السلام في القضايا التي عرضت أمامه، يمكن أن يستنتج بأنه لم يكن يعاقب شخصا ما لم تكتمل أركان الفعل الجرمي الذي ارتكبه، ومن الأمثلة على ذلك يروى أن رجلا قال لآخر:» أني احتلمت بإمك فاستشاط غضبا وانتفخت أوداجه فاشتكى عليه عند أب بكر، فرفع أمره إلى الإمام علي عليه السلام فقال له: «إذهب به فأقمه في الشمس وحد ظله فإن الحلم مثل الظل». وهذا يعني أن الركن المادي لجريمة الزنا غير متوافر فلا يمكن معاقبته على هذه الجريمة.

ص: 100

المطلب الثاني / أسباب الإباحة في فكر الإمام علي عليه السلام

يكتسب السلوك الصفة الإجرامية إذا أضفى عليه المشرع تلك الصفة، فهو يحدد لكل سلوك إجرامي نموذجا قانونيا، بحيث لا تتحقق الجريمة إلا إذا تطابق السلوك المرتكب مع النموذج القانوني.

وعلى الرغم من وصف السلوك المرتكب بالجريمة، غير أن هناك حالات قد تلحق بالسلوك الإجرامي فتخرجه من نطاق التجريم إلى نطاق الإباحة، وتلك الحالات تسمى بأسباب التبرير أو أسباب الاباحة. ولغرض بحث هذا الموضوع سيتم تقسيم المطلب إلى فروع ثلاثة، نبحث في الأول تعريف أسباب الاباحة، ونخصص الفرع الثاني للأساس الشرعي لأسباب الإباحة، وتناول في الفرع الثالث تطبيقات أسباب الإباحة عند الإمام علي عليه السلام.

الفرع الأول / تعريف أسباب الإباحة

إتضح فيما سبق بأن للجريمة أركانٌ لا تقوم إلاّ بها، وهي الركن الشرعي والركن المادي والركن المعنوي، وإن السلوك الإجرامي يتحقق عندما يضفي المشرع عليه هذا الوصف، لكن قد تنتفي الصفة الإجرامية عن السلوك إذا وجدت إحدى الحالات التي من شأنها إجراجه من حيز التجريم ورده إلى حيز الإباحة. لذا نرى بأن المقصود بأسباب الإباحة هي» الأسباب التي إذا عرضت لسلوك (فعل) خاضع لنص تجريم أخرجته من نطاق هذا النص وأزالت عنه الصفة غير المشروعة وردته إلى سلوك مشروع لا عقاب عليه»، أو هي حالات انتفاء الركن الشرعي للجريمة بناءً على قيود نص التجريم تستبعد منه بعض الأفعال».

ص: 101

وعُرِّفت بأنها «قيود ترد على بعض نصوص التجريم فتمنع تطبيقها في ظروف معينة».

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لأسباب الإباحة

لاشك بأن الإسلام عقيدةٌ وشريعةٌ، فلم تغفل الشريعة الإسلامية الغراء لا عن صغيرة ولا كبيرة غلاّ وضعت لها حكما، قال تعالى:» ما فرطنا في الكتاب من شيء»، لذا سنبحث الأساس الشرعي لأسباب الإباحة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كما يأتي:

أولا: الأساس الشرعي لأسباب الإباحة في القرآن الكريم.

يُعد الدفاع الشرعي من أسباب الإباحة، فمن تعرض إلى اعتداء كان له الحق بأن يرد بمثل ما أعتدي عليه، والدليل الشرعي على ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى:» فمن اعتدى عليکم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»، وقال عز وجل:» وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به».

أمّا عن استعمال الحق، كحق تأديب الزوج لزوجته نجد سنده الشرعي في قوله تعالى» واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن».

كما أن الأدلة الشرعية على أداء الواجب كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ».

ص: 102

ثانيا: الأساس الشرعي لأسباب الإباحة في السنة النبوية الشريفة.

1 - الدليل الشرعي على حق الدفاع الشرعي، ماروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:» من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد»، ويتضح لنا من هذا الحديث الشريف بأن الدفاع عن الدين والنفس والأهل والمال هو حق أقرته الشريعة الإسلامية بحيث أن المدافع عن حقه لا يتحمل المسؤولية

الجنائية في الدنيا، أمّا في الآخرة فانه يحظى بمنزلة رفيعة.

2 - الدليل الشرعي على استعمال الحق: من الأدلة الشرعية على استعمال الحق المقرر وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية هو قول الرسول الأعظم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام:» من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن».

ومن مفهوم المخالفة لهذا الحديث نفهم بأن الطبيب العارف بالطب عند قيامه بعلاج المرضى وتطبيبهم لا يكون ضامنا عند وقوع أذى للمريض متى كان الطبيب متبعا لأصول الطب في العلاج.

الفرع الثالث / تطبيقات أسباب الإباحة عند الإمام علي عليه السلام

يُطرح تساؤل في الموضع من البحث مفاده هل أن الأحكام القضائية التي أصدرها الإمام علي عليه السلام وُجِدَتْ فيها تطبيقات الأسباب الإباحة؟

ان الإجابة عن التساؤل أعلاه تستوجب البحث للتعرف على ذلك، والمتقصي عن ذلك يمكن أن يجيب بأن الإمام عليه السلام قد طبق بعض أسباب الإباحة في أحكامه منها ما يأتي:

ص: 103

أولاً: حق الدفاع الشرعي:

يروى أن واقعة حدثت مفادها أن رجلاٍ عَضَّ يد آخر فنزع يده من فيه فسقطت ثنيتاه، فعرض أمره على الإمام فقال:» إن شئت أمكنت يدك فعضها ثم تنزعها»،

فلم يجعل الإمام على الشخص الذي نزع يده وحَطَّمَ ثنايا من قام بفعل العَضّ

أي دية لأنه دافع عن نفسه بسحب يده.

ثانيا: استعمال الحق.

لم يكن الإمام علي عليه السلام يحمل الطبيب أو البيطري أي مسؤولية جنائية عند قيامه بعمله إلاّ في حالة خطأ الطبيب وهذا ما قضى به عليه السلام، فيروى أنه خطب قائلا:» يا معشر الأطباء، البياطرة، والمتطببين من عالج منکم إنسانا أو دابة فليأخذ لنفسه البراءة، فغنه إن عالج شيئا ولم يأخذ لنفسه البراءة فعطب فهو ضامن».

ثالثاً: أداء الواجب.

يُعد أداء الواجب من أسباب الإباحة عند الإمام علي عليه السلام، والدليل على ذلك ما يروى أن الإمام لم يكن يحمل الشرطة أو الجند أي مسؤولية جنائية عند تنفيذهم لواجباتهم وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، فعلى سبيل المثال لو نفذ أحد الشرطة القصاص أو الحد الشرعي في مجرم ما وكان القصاص أو الحد ما دون النفس وأدى ذلك إلى مقتله فإن القائم بالتنفيذ لا يعاقب، فقد قال عليه السلام:» ما كنت أقيم على أحدٍ حداً ليموت فیه فأجد في نفسي شيئاً إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وَدَيتُهْ».

ص: 104

المبحث الثالث المسؤولية الجزائية في فكر الإمام علي عليه السلام

إختلف الفقهاء والفلاسفة وشراح القانون الجنائي حول الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الجنائية، وكان محور اختلافهم حول الجواب عن التساؤل الآتي: هل أن الإنسان مجبر في أفعاله أم مخيَّر؟

ولبحث هذا الموضوع سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، الأول يُخصص لبحث أساس المسؤولية الجنائية في فكر الأمام علي عليه السلام، والمطلب الثاني نتطرق فيه إلى موانع المسؤولية في فكر الإمام علي عليه السلام.

المطلب الأول / أساس المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام

يُعد الأساس الذي تُبنی عليه المسؤولية الجنائية من الأمور الذي أثارت جدلا واسعا، فهل أن أعمال الإنسان عائدة إلى محض إرادته ومشيئته أم أنها مُقَدَرةٌ عليه ولا سبيل له على دفعها؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي تقسيم المطلب إلى فروع ثلاثة وكما يأتي:

الفرع الأول / تعريف المسؤولية الجزائية

قبل الخوض في أساس المسؤولية الجنائية لابد من التعرف على تعريف المسؤولية الجنائية، يراد بالمسؤولية الجنائية بأنها:» صلاحية الإنسان لأن يتحمل نتائج تصرفاته

ص: 105

المُجَرَّمة شرعاً إيجابا أو سلبا»، وعرفها آخر بأنها:» تحمل الشخص تبعة عمله المجرم بخضوعه للجزاء المقرر لفعله....».

بينما عرف المسؤولية الجنائية الأستاذ عبد القادر عودة ب «أن يتحمل الإنسان

نتائج أفعاله المحرمة التي يأتيها مختارا وهو مدرك لمعانيها ونتائجها».

وبذلك يمكن لنا القول بأن المسؤولية الجنائية هي أن يتحمل الشخص (طبيعيا كان أم معنوياً) الذي يمتلك الأهلية الجنائية تبعة سلوكه الإجرامي بنيله للجزاء الجنائي المناسب.

الفرع الثاني / أساس المسؤولية الجنائية في الفكر الإسلامي

لم يتفق المفكرون المسلمون على رأي واحد على الأساس الذي ترتكز عليه

المسؤولية الجنائية، وذهبوا في ذلك اتجاهات متعددة ويمكن إجمالها بالآتي:

أولا: أنصار مذهب الجبر:

يرى أصحاب هذا الرأي بأن الإنسان مسيرٌ ومجبرٌ في أفعاله وليس محير، إذ أن جميع أفعاله مقدرة عليه، ويسمى أصحاب هذا الرأي (بالجبرية) وأول من قال بهذا الرأي هو (الجهم بن صفوان). ويستند هؤلاء على مجموعة من الآيات الكريمة لتعزيز رأيهم كقوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ»، وقوله تعالى «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»، وقوله تعالى «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

ثانيا: أنصار مذهب حرية الإرادة:

يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأن الإنسان حرٌ في أفعاله فهو يخلقها خيرها

ص: 106

وشرها، فهو مختار في كل ما يفعله، وأشهر من قال بهذا الرأي عند المسلمين هو (غيلان الدمشقي القدري) ويطلق على أتباعه بالقدرية.

ومن أدلتهم على قوله بالإختيار المطلق قوله تعالى «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، وقوله تعالى «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وجدير بالذكر أن كلا المذهبين تعرض للنقد، فمذهب الجبرية يُعدِم إرادة الإنسان ويجعله مسيراً كالجماد، وهذا القول غير دقيق، فلا يمكن محاسبة المجرم على وفق هذا الرأي لأنه كان مجبورا على ارتكاب هذا الفعل.

وبالغ أنصار الرأي الرأي الثاني قدرة الإنسان وحريته واختيار، إذ منحوه قدرة لا يحدها شيء، وهذا القول فيه شيء من الغلو. لذلك ظهر مذهب وسطاً حاول التوفيق بين الرأيين السابقين.

ثالثا: المذهب التوفيقي:

نتيجة للانتقادات التي تعرض لها مذهب الجبرية ومذهب الأختيار المطلق، ظهر مذهب ثالث حاول أن يمسك العصا من الوسط إن صح التعبير، ومن القائلين بهذا الرأي الأشاعرة وهم الذين على نهج أبو الحسن البصري الأشعري، ويرون بأن الأفعال التي تصدر عن الإنسان تكون بارادته واختياره لكن هذه القدرة والإرادة لا تأثير لها بجانب قدرة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإنسان حر في اختياره، فإنه في بعض الأحيان مضطر في اختياره، لاسيما أن فعله وارادته مخلوقتان من لدن الله سبحانه وتعالى.

ص: 107

الفرع الثالث / أساس المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام

سُئِلَ الإمام علي عليه السلام من أحد جنده عند مسيرهم لقتال معاوية، أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله؟ فأجابه عليه السلام قائلاً: «ويحك لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدرا حاتماً. ولو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد. إنّ الله سبحانه وتعالى أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيراً وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مُكرِها، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم يُنزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً «ذلك ظن الذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار».

أن المدقق في قول الإمام علي عليه السلام أعلاه يلاحظ بأن أعمال الإنسان هي من ارادته واختياره، إذ ترك الله سبحانه وتعالى لعباده حرية الإخيار ومن دون إكراه فالله أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا، وهذا يعني بأن الله سبحانه وتعالى لو أراد جبر خلقه أو عباده على شيء لم يستطع أحدٌ على مخالف إرادة الله.

ويقول أحد المفكرين المسلمين بهذا الشأن» وإذا محصنا قول الإمام في القضاء والقدر وجدناه قولا سديدا ورأيا رشیدا، فبينما فرطت طائفة فقالت بالجبر، أفرطت أخرى فقالت بالتفويض، وجاء أئمة أهل البيت عليهم السلام ليصححوا المفاهيم والمعتقدات ويرجعوا بهؤلاء وأولئك فقالوا لاجبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين».

ص: 108

المطلب الثاني / موانع المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام

تخاطب القاعدة القانونية الجنائية الإنسان العاقل المختار المدرك لأفعاله ونتائجها، غير أن هناك بعض الحالات التي تؤثر على اختيار الإنسان وإدراكه، فما القيمة القانونية التلك لأفعال؟ وما الأثر الذي ترتبه تلك الحالات في المسؤولية الجنائية للإنسان؟

أن تلك الحالات تسمى موانع المسؤولية الجنائية، وأثرها يمنع مسألة الإنسان ومعاقبته بالجزاء الجنائي. فما تعريفها وما أساسها الشرعي وهل لها تطبيقات عند الإمام عليه السلام؟ للإجابة عن ذلك سيتم تفريع هذا المطلب إلى فروع ثلاثة وكما يأتي:

الفرع الأول / تعريف موانع المسؤولية الجنائية

تُعَرَّف موانع المسؤولية بأنها« الحالات التي تتجرد فيها الإرادة من القيمة القانونية» أو هي «الحالات التي ينتفي فيها الإدراك أو الإختيار أو كلیهما»، وبينما غالبية الفقه يسيمها بموانع المسؤولية نجد أحدهم يطلق عليها الأسباب الشخصية، ويُعرفها بأنها حالات تُعدم المسؤولية لأنها ترجع إلى شخص الفاعل، إذ أنها تنفي الإختيار أو التميز اللازم توافرهما في شخصه.

وجدير بالإشارة أن المشرع الجنائي العراقي تطرق إلى موانع المسؤولية الجنائية في الباب الرابع، الفصل الأول من الكتاب الأول وتحديدا في المواد من 60 - 65 وتحت عنوان المسؤولية الجزائية وموانعها، و أوضح أن موانع المسؤولية هي 1 - فقد الإدراك والإرادة 2 - الإكراه 3 - الضرورة 4 - السن.

ص: 109

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لموانع المسؤولية الجنائية

سيراً على المنوال المتبع في هذا البحث، سيكون بحثنا للأساس الشرعي لموانع المسؤولية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:

أولا: الأساس الشرعي في القرآن الكريم:

1 - الدليل الشرعي على الإكراه في القرآن الكريم هو قوله تعالى:» لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».

2 - الدليل الشرعي على حالة الضرورة قوله تعالى» فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه».

3 - الدليل على صغر السن قوله تعالى:» إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما أستأذن الذين من قبلهم».

ثانيا: الأساس الشرعي لموانع المسؤولية في السنة النبوية الشريفة.

1 - الدليل على فقد الإرادة والإدراك لنوم أو وصغر السن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق».

2 - الدليل على الإكراه هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:» أن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

ص: 110

الفرع الثالث / تطبيقات موانع المسؤولية الجنائية عند الإمام علي عليه السلام

لا ريب بأن الإمام علي عليه السلام كان أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأحفظهم لعلمه، فيروى «أن عمر بن الخطاب أراد أن يرجم مجنونة، فقال له علي(عليه السلام) ما لَكَ ذلك. قال: سمعت رسول الله صلى عليه وآله

وسلم يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل فأدرأ عنها عمر».

ومن تطبيقات الإمام علي عليه السلام لحالة الضرورة كمانع من موانع المسؤولية ما روي أن إمرأة أتت عمر فقالت: أني زنيت فإرجمني فرددها، حتى شهدت أربع شهادات فأمر برجمها، فقال عليٌ (عليه السلام) ردها فاسألها ما زناها لعل لها عذراً؟ فردها فقال: ما زناك؟ قالت: كان لأهلي إبل، فخرجت في إبل أهلي، فكان لنا خليط فخرج في إبله فحملت معي ماءً ولم يكن في إبلي لبن، وحمل خليطنا ماء وكان في إبله لبن فنفذ مائي فاستسقيته، فأبى يسقيني حت أمكنه من نفسي فأبيت حتى روحي تخرج أعطيته، فقال عليٌ (عليه السلام) الله أكبر، فمن أضطر غير باغ ولا عاد أرى لها عذرا»

ص: 111

الهوامش

1. ينظر: محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ج 1، مؤسسة الكتاب الإسلامي، كلمة الحق للنشر، قم ، 2009، ص 339.

2. ينظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، ص 912.

3. ينظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، ص 912، ينظر: صحيح مسلم، مرجع سابق، حديث رقم (2404) ص 1128.

4. ينظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، حديث رقم (4481) ص 1098.

5. ينظر: د. سلطان عبد القادر الشاوي، د. محمد عبد الله الوريكات، المبادئ

العامة في قانون العقوبات، ط 1، دار وائل، عمان، 2011، ص 110. ينظر: د. خري عبد الرزاق صليبي الحديثي، شرح قانون العقوبات القسم العام، ط 2، المكتبة القانونية، بغداد، 2007، ص 35؛ ينظر: د. علي حسين الخلف، د. سلطان عبد القادر الشاوي، المبادئ العامة في قانون العقوبات، ط 2، العاتك لصناعة الكتاب، القاهرة، 2010، ص 30.

6. ينظر: ابراهيم مصطفى وآخرون: المعجم الوسيط، ط 2، استانبول، 1972، ص 479.

7. ينظر: المرجع نفسه، ص 141.

8. ينظر: د. فخري عبد الرزاق صليبي الحديثي، مرجع سابق، ص 35.

9. من الجدير بالإشارة إلى أن الباحث لم يتعرض لمفهوم مبدأ الشرعية الجنائية بشيء من التفصيل وأنما كانت الغاية من الاشارة إليه في البحث هي أن يتبين لنا ماهو موقف الإمام علي عليه السلام من هذا المبدأ كما سيتضح لنا ذلك في الصفحات القادمة من البحث. فكانت الإشارة بشيء من الإيجاز.

ص: 112

10. ينظر: د. علي حسين الخلف، د. عبد القادر سلطان الشاوي، مرجع سابق، ص 30.

11. الإسراء، من الآية 15.

12. فاطر، من الآية 24.

13. النساء، من الآية 165.

14. ينظر: کمال مصطفی شاکر، مختصر تفسير الميزان، ط 1، ذوي القربى للطباعة والنشر، قم، 1424 ه، ص 129.

15. : ينظر: صحیح مسلم، مرجع سابق، حديث رقم (892) ص 66.

16. ينظر: أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على

الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ج 3، ط 2، دار الكتب العلمية،

بیروت ،2002، رقم الحديث (4663) ص 167.

17. ينظر: ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربی، مرجع سابق، ص 345. 18. ينظر: أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، ج 7، ط 1، المكتب الأسلامي، بيروت، 1983، رقم الحديث (13648).

19. ينظر: د. علي عبد القادر القهوجي، شرح قانون العقوبات القسم العام دراسة مقارنة، ط 1، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2002، ص 101.

20. ينظر: د. فخري عبد الرزاق الحديثي، مصدر سابق، ص 58 - 59. 21. ينظر: 22.

22. النساء، من الآية 23.

23. المائدة، 95.

24. النساء، 22.

25. ينظر: د. محمود نجيب حسني، دور الرسول الكريم في ارساء معالم النظام

ص: 113

الجنائي الاسلامي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1984، ص 2.

26. ينظر: أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الكبير، المجلد 5، دار الغرب الإسلامي، 1996، ص 168.

27. ينظر: أبي القاسم عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن أب الحسن الخثعمي السهيلي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، ج 4، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون سنة نشر، ص 171.

28. ينظر: أبي عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم الجعفي البخاري، كتاب التاريخ الكبير، مجلد 2، تحقيق هاشم الندوي وآخرون، من دون سنة نشر، حديث رقم (2377)، ص 255.

29. ينظر: مصنف عبد الرزاق، ج 7، مرجع سابق، حديث رقم (13416)، ص 342.

30. ينظر: محمد طلال العسلي: أحكام إجراءات الشهادة بالوسائل الحديثة، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والقانون، غزة، فلسطين، 2011، ص 13.

31. ينظر: سامر برهان محمود حسن: أحكام جريمة التزوير في الفقه الاسلامي، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح، نابلس، فلسطين، 2010، ص 35.

32. ينظر: أحمد بن مشعل بن عزيز الغامدي، مفهوم الشرط عند الأصوليين، اطروحة دكتوراه، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى،

المملكة العربية السعودية، 2008، ص 87.

33. ينظر: د. علي عبد القادر القهوجي، مصدر سابق، ص 46.

34. ينظر: المصدر نفسه، ص 46.

35. ينظر: د. علي حسين الخلف، ود. سلطان عبد القادر الشاوي، مصدر سابق،

ص: 114

ص 138؛ د. جمال ابراهيم الحيدري، شرح أحكام القسم الخاص من قانون

العقوبات، مكتبة السنهوري، بغداد، 2012، ص 16.

36. ينظر د. علي عبد القادر القهوجي، مصدر سابق، ص 47.

37. ينظر: د. عادل عازر، النظرية العامة في ظروف الجريمة، المطبعة العالمية، القاهرة، 1967، ص 43.

38. ينظر : عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج 1، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 111.

39. ينظر: المصدر نفسه، ص 111. 40. المائدة، من الآية 38.

41. النور، من الآية 2.

42. ينظر: صحيح مسلم، مصدر سابق، حدیث رقم (203)، ص 70.

43. ينظر: صحيح البخاري، مرجع سابق، حديث رقم (6664)، ص، 65. 44. ينظر: صحيح مسلم، مرجع سابق، حدیث رقم (1907)، ص 920.

45. تناول المشرع العراقي أسباب الاباحة في المواد من 39 - 46 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل.

46. ينظر : د. علي حسن الخلف، د. سلطان عبد القادر الشاوي، مصدر سابق، ص 240.

47. ينظر : لمصدر نفسه، ص 242.

48. ينظر: د. فخري عبد الرزاق صليبي الحديثي، مصدر سابق، ص 103.

49. الأنعام، من الآية 38.

50. البقرة، 194.

51. النحل، من الآية 126.

ص: 115

52. النساء، من الآية 34.

53. التوبة، من الآية 29.

54. ينظر: جلال الدين السيوطي، سنن النسائي، مكتبة المطبوعات الإسلامية،

حلب، ج 7، حديث رقم (4095)، 1984، ص 116.

55. ينظر: أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ج 4، مرجع سابق، حدیث رقم (7686)، ص 236. 56. ينظر: مصنف عبد الرزاق، جزء 9، مرجع سابق، حديث رقم (17550) ص 355.

57. المصدر نفسه، حديث رقم (18047)، ص 471.

58. صحیح مسلم، مصدر سابق، حديث رقم (1707) ص 816.

59. ينظر: د علي حسين الخلف، د. سلطان عبد القادر الشاوي، مصدر سابق، ص 330.

60. ينظر: جمال عبد الباقي لافي، أثر المرض النفسي في رفع المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والقانون، الجامعة الإسلامية غزة، 2009، ص 37.

61. ينظر: عبد الله سليمان، شرح قانون العقوبات الجزائري القسم العام، دیوان المطبوعات الجامعية، جامعة بن عكنون، الجزائر، 2002، 263.

62. ينظر: عبد القادر عودة، مصدر سابق، ص 392.

63. هو ابو محرز الجهم بن صفوان الترمذي ولد في مدينة الكوفة سنة 78 هجرية وتوفي سنة 128 هجرية، مؤسس مذهب الجهمية.

64. ينظر: عمار عباس الحسيني، مبادئ علمي الإجرام والعقاب، التميمي للنشر والتوزيع، النجف الأشرف، 2012، ص 147.

ص: 116

65. الصافات، 96.

66. الزمر، 62.

67. التكوير، 29.

68. ينظر : د. أحمد فتحي بهنسي، المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، ط 4، دار الشروق القاهرة، 1988، ص 28.

69. الكهف، 29.

70 . المائدة، 30.

71. د. أحد فتحي بهنسي، مصدر سابق، ص 30.

72. ينظر: محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 4، دار المعرفة، بيروت، من دون سنة نشر، ص 17.

73. ينظر: د. محمد التيجاني السماوي التونسي، لأكون مع الصادقين، المؤسسة الجامعية للدراسات الإسلامية، ط 2، من دون مكان نشر، 1993، ص 182 - 183.

74. ينظر: د. علي حسين الخلف،د. سلطان عبد القادر الشاوي.

75. ينظر: د. أحمد فتحي بهنسي، مصدر سابق، ص 215.

76. البقرة، من الآية 256.

77. البقرة، من الآية 173.

78. النور، من الآية 59.

79. ينظر: أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، سنن إبن ماجة، ج 1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، من دون سنة طبع، حديث رقم (2041) ص 658.

80. المصدر نفسه، حديث رقم (2043) ص 659.

81. أبي عبد الله أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، بيت الأفكار الدولية،

ص: 117

السعودية، 1998، حديث رقم (1183) ص 133.

82. علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي،كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ج 5، ط 5، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985، حديث رقم (13596)،

ص 456.

ص: 118

التنظيم القضائي في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)

اشارة

أ.م.د. سماهر محي موسى

م. د. ظافر اکرم قدوري

ص: 119

ص: 120

الملخص

اولی الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مسألة القضاء أهمية كبيرة لاسيما عندما ارسى قواعد القضاء والعدل وأكد على ضرورة من يتولى القضاء ان يكون على درجة من الاستقلالية والحيادية في اصدار الحكم.

فالقضاء ركن من اركان الدولة وجزء هام من مقومات المجتمع وتقع مسؤوليته حماية الانفس والارواح والاموال والحقوق وتطبيق الانظمة ليؤمن الطمائنينة والهدوء وتحقيق العدل بين أبناء المجتمع سعياً للوصول إلى نوع من أنواع العدالة الاجتماعية والتي هي غاية كل الحكام والملوك والأمراء، فيها يتحقق الاستقرار وبها تدوم الدول وتتصل ببعضها البعض لذلك فقد ارتأت هذه الدراسة تخصيص موضوع للتعريف بنظام القضاء لغة واصطلاحا ثم نتطرق الى التنظيم القضائي والإداري في عهد الامام علي (عليه السلام)، اما المحور الأخر التنظيم الموضوعي للقضاء في عهد الامام علي (عليه السلام) وبعدها نعرج على قضاة الامام علي ونماذج من أقضية الامام علي (عليه السلام) التي حققت أعلى درجات العدل الاجتماعي بين الناس.

ص: 121

ص: 122

المقدمة

تعد مهمة القضاء من المهن المقدسة، لان عن طريق القضاء العادل يتحقق الأمن والعدل والاستقرار في المجتمع، ذلك أن القضاء هو الملاذ والملجأ الذي يأوي اليه الأشخاص، الذين يلحقهم ظلم أو تعد على اموالهم أو اعراضهم لذا تحتاج وظيفة القضاء إلى أناس يتمتعون بصفات ومؤهلات محددة كي يستطيعوا أن يؤدوا هذه المهمة الخطيرة، وإذا تولى القضاء نخبة من الصفوة الصافية، لا تأخذها في الحق لومة لائم انصاع لحكمها الجميع دون استثناء.

وفي المجتمع الاسلامي ليس القاضي وحده يتصدى لمعالجة الأحداث بل أن الخليفة بنفسه يجلس في مقام القاضي، وكل ذلك بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والرقي الحضاري، وقد ظهرت حالات من تقاضي الخليفة ووقوفه امام القاضي مع ابسط رجل في الدولة.

اولاً: القضاء لغة واصطلاحاً

القضاء: القضاء في اللغة مصدر الفعل قضى يقضي يأتي بعده معاني منها الحكم. ويأتي بمعنى اللزوم، ولهذا سمي القاضي قاضياً لانه يلزم الناس. ومن هذا قول الله عز وجل: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ». ويأتي معناه الحكم والفصل بين المتخاصمين، وهذا المعنى هو الأكثر شيوعاً وتداولاً، ومنه جاء قوله عز وجل: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ».

ص: 123

القضاء في الاصطلاح:

أما في الاصطلاح فقد ورد للقضاء العديد من التعريفات منها: «يراد به الفصل في الخصومات وقطع النزاعات». ويتضح من خلال التعريف أعلاه إبراز جانب الإلزام في القضاء وفصل الخصومات.

قال الله عز وجل: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ». وهذا يعني الفصل بينهم.

ومن التعاريف، قضى القاضي أي الزم الحق أهله. وهو التعريف الذي أورده ابن خلدون قائلاً: (القضاء.. منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع).

يتضح مما تقدم ان مهمة القضاء والقاضي هو الفصل بين المتخاصمين احدهما متمسك بالحق والاخر على غير ذلك والهدف من قطع النزاع والخلاف بين الاثنين من اجل حفظ الامن والاستقرار وتحقيق العدالة الاجتماعية.

المحور الثاني: التنظيم القضائي والاداري في عهد الامام علي (عليه السلام)

كان الامام علي (عليه السلام) مرجع الناس في القضاء منذ العهد النبوي وطوال العهد الراشدي، واستمر على ممارسة القضاء والفصل في المنازعات أثناء خلافته، واقضيته كثيرة مع رسائلة الشهيرة في القضاء، ومتابعته لشؤون القضاة في الولايات والأمصار.

ان الهدف من القضاء هو تحقيق العداله، واصلاح المجتمع، ويتضح هذا الهدف من خلال القضايا التي قضى بها الأمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» وكذلك في الكتاب الذي أرسله الأمام علي (عليه السلام)، إلى واليه على مصر مالك بن الأشتر

ص: 124

النخعي قال له: ((انظر في القضاء بين الناس نظر عارف بمنزلة الحكم عند الله، فان الحكم ميزان قسط الله الذي وضع في الأرض لأنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، واقامة حدود على سنتها ومنهاجها التي لا يصلح العباد والبلاد وألا عليها).

وفي قضية أخرى عُرضت على الإمام: (أن امرأة جاءت إلى علي (عليه السلام) فذكرت أن زوجها يأتي جاريتها، فقال: (عليه السلام) أن كنت صادقة رجمناه، وأن كنت كاذبة جلدناك، فقالت ردوني إلى أهلي غير نفرة، قال معناه أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة). فالقضية واضحة أن المرأة أخذتها الغيرة على زوجها، فافتعلت هذا الأمر، وأن أمير المؤمنين أراد الحفاظ على الحياة الزوجية للزوج والزوجة، فوضح للمرأة في حالة كذبها فأن مصيرها الجلد. ولهذا فإن الإمام خيَّرَ المرأة من أجل إعادتها إلى قول الصدق.

فالعدالة أمر مهم وهدف رئيس للقاضي، والحق ومعرفته هو الآخر هدف يجب الوصول إليه لأنه ربّما كان الحق مغموراً والوصول إليه يحتاج إلى قاض متمرس ومحنك وذو معرفة عالية بشؤون القضاء.

ففي عهد أبو بکر ألقي القبض على شخص يشرب الخمر، وعندما وقف أمام ابا بكر، ادعى انه لا يعلم أنّ هناك آية حرمت شرب الخمور، فأصبح ابو بكر في حيرة من أمره، وكان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاضراً لهذه القضية فَطُلب منه ان يعطي رأيه، فنصحه قائلاً له: (ابعث معه من يدور في مجالس المهاجرين والأنصار، فمن كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء عليه).

وهنا أيضاً تتضح صورة العدالة، في قضاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 125

فالأمر واضح في القضية، فأما أن يكون ادعاء الرجل كاذباً أو صادقاً، فإذا كان بريئاً، فإن ما قاله الإمام (عليه السلام) هو المخرج الوحيد لبرائته من هذا الأمر.

جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب، وهي متهمة بالزنا فأمر عمر برجمها وهي حامل وهذا الأمر سبب إسقاط الجنين، وكان الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاضر الحادث فقال: (إن کنتم اجتهدتم أصبتم، ولقد كنتم برأيكم قلتم لقد أخطأتم). وقضى الإمام قائلاً لعمر بن الخطاب، (عليك ديّة الصبي).

وواضح من الحادثة أن الإمام (عليه السلام) يريد إثبات الحق والعدالة، حتى لو كانت نتيجة القضية لم ترضي عمر بن الخطاب.

أن مهمة القاضي صعبة يجب أن يكون عارفاً بكل الإحكام وتفسير الآيات والسنة التي وصلت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاهم من ذلك أن يكون محايداً بعيداً عن الأهواء وما ذلك إلا لتكون الأحكام صادقة تبتغي العدل والحق حتى الايقع الظلم بين الناس وتكثر الضغائن والاحقاد وكنموذج من تلك المساواة بين المتخاصمين وضرورة أن يكون كل طرف مساوي لخصمه ما نقله الأبشيهي من أدعاء رجل على الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) واشتکاه زمن عمر بن الخطاب فحكم بينهما عمر وعندما نادي على المتخاصمين قال الامام علي (عليه السلام) «یا أبا الحسن قم فاجلس مع خصمك فتناضرا» فلما فرغت المناظرة وانتهى الحكم رجع علي (عليه السلام) إلى مكانه فتبين لعمر التغيير في وجه علي (عليه السلام) «یا ابا الحسن مالي أراك متغيرة أكرهت ما كان قال: نعم، قال: وماذاك، قال: «کنیتني بحضرة خصمي هلا قلت ياعلي قم فاجلس مع خصمك»، وهي رواية تؤكد مسألة بسط العدل الاجتماعي ولو كان ذلك يخص الناس أصحاب المنزلة والمكانة الرفيعة، ولابد أن ذلك الرعيل الأول أحس بضرورة أن يكون القاضي أو من يتولى

ص: 126

مهمة القضاء على درجة تامة من الاستقلال والحيادية حتى في مناداة الخصوم وأصحاب الشكوى مهما علت وأرتفعت مكانتهم.

أعطى الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) حق للقاضي أن يأخذ الرزق، وإغناء القاضي وإشباع حاجاته المادية والمعنوية، حتى لا يشعر بالضعف تجاه الآخرين، حيث أعطى رزقاً للقاضي شريح ما مقداره خمسمائة درهم، بعد ما كان رزقه في عهد عمر بن الخطاب مائة درهم بالشهر، والسبب في زيادة رزق شريح من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو ارتفاع مستوى المعيشة. وان الارتزاق يمنع القاضي التقرب من الرشوة.

ومثال آخر الكتاب الذي أرسله الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر، مالك بن الأشتر، يقول فيه: (ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، واعطهِ من المنزلة لديك ما لا يطمعُ فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك أغتيال الرجال عندك).

ويعد الإمام علي (عليه السلام) أول من أنشأ ولاية المظالم، وهذا ما أكده الباحث حسن إبراهيم حسن قائلا: (ولم يجلس للمظالم أحد ممن سبق إلا عليا (عليه السلام. ويذكر الماوردي سبب ذلك إلى (حين تأخرت إمامته، وأختلط الناس فيها وتجوروا). فأحتاج الإمام إلى فصل صرامة في السياسة وزيادة تيقظ في الوصول الى غوامض الأحكام، فكان أول من سلك هذه الطريقة وأستقل بها ولم يخرج فيها الى نظر المظالمِ لاستغنائه عنه.

وقد عرف عن الامام علي (عليه السلام) أنه يقضي في المسجد، حيث أتخذ مكانا في جامع الكوفة سمي بدكة القضاء، وأراد من قضاته ان يقتدوا به، فعندما بلغه أمر قاضيه شريح انه يقضي في بيته، قال له: (يا شريح، أجلس في المسجد فانه أعدل بين

ص: 127

الناس، وانه وهن بالقاضي ان يجلس في بيته). وقد أتخذ بيتا سماه (بیت المظالم، کما انه طلب من المظلومين ان يكتبوا رقاعا يسجلون فيها ظلامتهم، وفي الوقت نفسه كان يباشر الأمر بنفسه).

ومن الأمثلة على تصدي الأمام لحوادث (المظالم)، ما ذكره المجلسي نقلا عن أبو جعفر: (دخل علي عليه السلام المسجد فأستقبله شاب وهو يبكي وحوله قوم يسكتونه فقال علي عليه السلام ما أبكاك فقال: أمير المؤمنين، ان شريحا قضي علي بقضية ما أدري ما هي: ان هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في سفرهم فرجعوا ولم أبي، فسألتهم عنه فقالوا مات، فسألتهم عن ماله فقالوا ما ترك مالا فقدمتهم الى شريح فأستحلفهم وقد علمت يا أمير المؤمنين، ان ابي خرج ومعه كثير، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) أرجعوا فردهم جميعا والفتى معهم الى شريح فقال له يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء قال أمير المؤمنين: أدعى هذا الفتى على هؤلاء النفر إنهم خرجوا في سفر وأبوه معهم فرجعوا ولم يرجع أبوه فسألتهم فقالوا مات وسألتهم عن ماله فقالوا ما خلف شيئا فقلت للفتى: هل لك بينة على ما تدعي، قال: فاستحلفتهم فقال (عليه السلام) لشريح: يا شريح والله لأحكمن فيه بحكم ما حكم به خلف قبلي إلا داود النبي، يا قنبر ادع الي شرطة الخميس فدعاهم فوكل بهم). وعمل الإمام (عليه السلام) على تغويتهم ثم سألهم أسئلة عن سبب وكيفية موت رفيقهم، فأنتبه الى اختلاف أجوبتهم فأخذهم بجر مهم ورد أموال الابن.

التنظيم الموضوعي للقضاء

أهتم الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بوضع نظام دقيق للقضاء وشرح

المبادئ والاصول التي اقرها القرآن الكريم والسنة النبوية.

وكان التنظيم الموضوعي للقضاء في عهده نظرياً بالكتب والرسائل والتوجيهات

ص: 128

التي كتبها إلى القضاة والولاة وتوجيهم إلى أفضل النظم القضائية لتحقيق العدل وحماية الحقوق ومنع الاعتداء والظلم، وعملياً في التطبيق والممارسة لشؤون القضاء والنظر في الاقضية وفصل الخصومات والخلافات. وأشهر كتبه كتابه الى عامله على مصر الأشتر النخعي. ونص الكتاب هو «أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق به الأمور ولاتمحکه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولايحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولاتشرف نفسه على طمع». يحثهم على التزام الجاد وتطبيق الشرع والتحذير من الظلم والعدوان والاعتداء على الغير. وأكد على مسالة أهمية القضاء ومكانة القاضي سبل اختياره ومكانته مراعياً بذلك مسألة استقلال القاضي حتى تصل تلك الاستقلالية إلى مكانة تسمو فوق الخليفة او الحاكم او الوالي، وأكد على أهمية التثبت دائما من المتخاصمين لكي يقضيا بالعدل بينهما.

أن مسألة تولي القضاء والحكم بين الناس كانت تأخذ في غالب الأحيان بنظر الاعتبار تطبيق الأحكام الشرعية والنصوص الدينية والتي لم تؤول وأنما كان تفسيرها يقع بجزءه الأكبر على براعة المفسر وتبحره في العلوم الدينية والموروث الديني وهي مشكلة بدأت تظهر مع تدوين المسلمين للتفسير، وللحديث النبوي والسيرة النبوية. ومع توسع التدوين واختلاف التفسير كان على القاضي أن يكون بارعاً في أمور عدة ليس أقلها مسألة التثبت من المتخاصمين والسماع لهما.

وكان الاختصاص الموضوعي واضحاً في عدة جوانب باعتبار أن القاضي نائب عن الخليفة ووكيل عنه وللخليفة أن يقيد أو يحدد أختصاص النائب أو الوكيل فكان الامام علي (عليه السلام) يوكل أخاه عقيلاً في المخاصمة ولما أسن عقيل وكل عبدالله بن جعفر بن ابي طالب عنه امام القضاء وكان يقول: «ماقضي لوکيلي فلي، وماقضي على وكيلي فعلي».

ص: 129

كان الامام علي (عليه السلام) ينظر في القضايا الكبيرة والمهمة والخطيرة في الجنايات والقصاص والحدود خشية الفتنة لانها تحتاج الى هيبة القضاة وسلطة الحكام.

قضاة الامام علي (عليه السلام)

ابقى الامام علي (عليه السلام) بعض القضاة الذين كانوا قبل توليه الخلافة لجدارتهم في القضاء، وغير بعض القضاة.. ومنهم شريح بن الحارث الذي كان على قضاء الكوفه فاقره الامام عليها، وابو موسى الاشعري الذي كان على قضاء الكوفة اقره عليها ثم عزله ومالك بن الحارث الاشتر النخعي عينه واليا وقاضيا على مصر وكتب له رساله مهمة ومشهورة، ولكنه مات في الطريق في العريش قبل أن يصل مصر، وقيس بن سعد على مصر وعبيد الله بن مسعود واليا وقاضيا على اليمن، وعبدالرحمن بن يزيد الحداني كان اخا المهلب بن ابي صفرة لامه وبقي قاضيا على البصرة في عهد الامام علي(عليه السلام) ومعاويه حتى قدم زياد فعزله.

وكان ابن عباس يفتي الناس ويحكم بينهم واذا خرج ابن عباس عن البصرة أستخلف أبا الاسود الدؤلي فكان هو المفتي والقاضي يومئذ يدعى المفتي فلم يزل كذلك حتى قتل الامام علي (عليه السلام).

اما عبيدة السلماني محمد بن حكزة الذي عينه الامام علي (عليه السلام) على قضاء الكوفة بعد عزل سعيد الهمذاني وقال له: اقضوا كما كنتم تقضون ثم عزله وعین شريحاً، وكان شريح أعلم الناس بالقضاء وكان عبيدة يوازي شريحاً في القضاء، وكان من علماء الكوفة المشهورين وكان شريح يستشيره ويرجع اليه. وهذه نماذج من القضاة ويوجد الكثير ولكن لايسع البحث لذكرهم.

ص: 130

نماذج من اقضية الامام علي (عليه السلام)

لقضاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في القضايا التي حكم فيها، نمط خاص يختلف عن جميع القضايا التي حُكم فيها، في الخصومات والنزاعات، فهو نحط له مزايا منفردة عن الآخرين، فالقضايا التي حكم فيها، كانت قبل الإسلام أو بعده، لا ترتقي إلى مستوى القضايا التي عرضت على الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) ولا سيما أسلوبه الذي تعامل فيه مع الخصوم، والطرق التي اتبعها في كشف الحكم، فضلاً عن طبيعة الأحكام التي أنهى بها الخصومات.

وسنروي نماذج من اقضية الامام علي (عليه السلام) ومنها قضية محيرة في النسب وردت الى عمر بن الخطاب فجمع الصحابة وعرضها عليهم لم يجدو لها حلا فقال عمر لشريح: حدث ابا الحسن بالذي حدثتنا فذكر شريح القضية على الامام علي (عليه السلام) أن رجلا أودعته أمراتين حرة مهيرة وأم ولد فقال له: أنفق عليهما أقدم، فلما كان في هذه الليلة وضعتا جميعاً إحداهما ابناً والاخى بنتاً وكلتاهما الابن وتنتفي من البنت من أجل الميراث. فقال الامام علي (عليه السلام) لاحدى المرأتين، أحلبي فحلبت فوزنه، ثم قال للاخرى: احلبي، فحلبت، فوزنه، فوجده على النصف من لبن الاولى فقال لهل: خذي انت ابنتك وقال لاخرى خذي انت ابنك.

ثم قال لشريح: أما علمت أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام، وأن ميراثها نصف ميراثه، وأن عقلها نصف عقله وأن شهادتها نصف شهادته وأن ديتها نصف ديته وهي على النصف في كل شيء. فاعجب به عمراً إعجاباً شديداً ثم قال: أبا حسن، لا أبقاني الله لشدة لست لها، ولا في بلد لست فيه.

ص: 131

اما قضية القتل فقد أتي برجل وجد في خربة وبيده سكينة ملطخة بالدماء، وبين يديه قتيل واعترف الرجل بقتله فاصدر الامام الحكم عليه بالقتل ولكن جاء القاتل الحقيقي واعترف بجريمة القتل يبدو أن شعوره بالذنب هو الذي ادى الى اعترافه. فسال الامام علي (عليه السلام) الأول عن الأسباب التي دفعته الى الاعتراف بالقتل وانه لم يقتل، فقال: يا أمير المؤمنين ما استطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل وهو يتشخط بدمه، وأنا واقف وفي يدي سكين، وفيها أثار دم، وقد أخذت بالخربة، وخفت أن لا يقبل مني - فااعترفت بذلك، فقال الامام علي (عليه السلام) بئس ماصنعت. ملخص الرواية ان الرجل قصابا وذبح بقرة وسلخها واراد قضاء حاجته

(البول) فذهب إلى خربة قريبة منه ثم عاد إلى حانوته فوجد القتيل وجاء العسس فوجدوا الرجل يداه ملطخة بالدماء وبيده سكينة والقتيل بجانبه وقال الناس هذا قتل هذا، ماله من قاتل سواه، فاايقنت أنك لاتترك قولهم بقولي فاعترفت بما لم اجنه.

اما الرجل الثاني فساله الامام علي (عليه السلام) فقال له: أغواني الشيطان فقتلت الرجل طمعا في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة وأستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوه بدمه أيضاً فاعترفت بالحق.

فاستند حكم الامام علي (عليه السلام) على الايه القرانية في قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، صح انه قتل نفساً ولكن في نفس الوقت أحيا نفساً عندما اعترف بجريمته وظهرت براءة الرجل القصاب. فخلي الامام علي (عليه السلام) عنهما واخرج دية القتيل من بيت المال، ولعله فعل ذلك بعد أن أسقط أولياء القتيل حقهم بالقصاص.

ص: 132

الخاتمة

نستنج في خاتمة البحث بان البساطة في سير الدعوة والاجراءات القضائية وقلة الدعاوى والخصومات اذا ما قورنت باتساع الدولة وتعدد الشعوب والامصار وحسن أختيار القضاةة والشروط الكامله فيهم، كذلك مارس الامام علي (عليه السلام) القضاء بنفسه والنظر في المنازعات کما أولى أهتمام الكامل لتولي المظالم وقضاء الحسبة.

اما الاحكام القضائية والتنظيم القضائي في عهد الامام علي (عليه السلام) أصبح مصدر للاحكام الشرعية والاجتهادات القضائية والاراء الفقهية في مختلف العصور عند جميع العلماء والمذاهب مع وجود الاختلاف في التدقيق والجزيئات والتفاصيل.

وفيما يخص التنظيم الاداري الدقيق للقضاء تبين من خلال الرسائل المشهوره التي ارسلها الامام علي (عليه السلام) الى القضاة لتنظيم شؤون القضاء وكذلك تطور التحقيق الجنائي على يد الامام علي (عليه السلام).

ص: 133

الهوامش

1 - السبكي، محمد محي الدين ومحمد عبد اللطيف، المختار من صحاح اللغة، مطبعة الاستقامة، (القاهرة - 1934 م)، ص 426.

2 - اب-ن الشحنة، إبراهيم بن أبي اليمن، لسان الحكام في معرفة الأحكام، بهامش معين الحكام للطرابلسي، ص 4.

3 - سورة طه. من الآية (72).

4 - سورة غافر، أية: 20.

5 - ابن الشحنة، لسان الحكام، ص 3.

6 - سورة الشورى، أية: 14.

7 - ابن عابدين، محمد أمين عمر (ت: 1252 ه). حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، (اسطنبول - د.ت)، ج 5، ص 352.

8 - اورنك، أبو المظفر محي الدين محمد، الفتاوى الهندية، ط 2، المطبعة الأميرية، (القاهرة - 1310 ه)، ج 3، ص 307.

9 - ابن خلدون، عبد الرحمن (ت: 808 ه) المقدمة، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة - د.ت)، ص 221.

10 - النوري، ميرزا حسن، مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لأحياء التراث،(قم - 1320 ه)،، ج 17، ص 348.

11 - التستري، محمد تقيقضاء أمير المؤمنين، منشورات المكتبة الحيدرية، (النجف - 1966)، ص 189. 12 - الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق (ت 358 ه)، الكافي في الاصول، ط 3، (بيروت، 1968 م)، ج 7، ص 249.

ص: 134

13 - المصدر نفسه، ج 7، ص 249. 14 - المصدر نفسه، ج 7، ص 389.

15 - المصدر نفسه، ج 7، ص 389. 16 - الأبشيهي، بهاء الدين ابو الفتح محمد بن احمد بن منصور(ت 854 ه)، المستطرف في كل فن مستطرف، ط 3، دار صادر، (بیروت - 2007)، ص 140.

17 - الأبشيهي، المستطرف، ص 140.

18 - أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت: 182 ه)، کتاب الخراج، ط 2، المطبعة السلفية، (د. م - 1352 ه)، ص 187. السرخسي، شمس الدين أبو بكر محمد بن سهل (ت 490 ه)، المبسوط: مطبعة السعادة، (مصر - د.ت)، ج 16، ص 102.

19 - ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله محمود (ت 655 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة - 1964)، ج 17، ص 55.

20- حسن، حسن ابراهیم ، النظم الإسلامية، ط 2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة - 1909)، ص 35. 21 - الماوردي. ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (ت 450 ه)، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، (بیروت - 1978)، ص 73.

22 - المصدر نفسه، ص 78.

23 - النوري، مستدرك وسائل الشيعة، باب 11 من أبواب آداب القاضي، الحديث رقم 3.

24 - القرشي، باقر شریف، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، (النجف - 1966 م)، ص 378.

25 - بحار الانوار، ج 4، ص 19. 26 - ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 58

ص: 135

27 - الأبشيهي، المستطرف، ص 141 (قصة المامون مع القاضي يحيى بن أكثم)

28 - ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 155.

29 - وکیع، محمد بن خلف بن حیان (ت 306 ه)، أخبار القضاة، عالم الكتب، (بیروت - د.ت)، ج 2، ص 227.

30 - الكندي، ابو عمر محمد بن يوسف (ت 350 ه)، الولاة والقضاة، مكتبة المثنی (بغداد - 1908)، ص 13،

26، 22

31 - وکیع، أخبار القضاة، ج 1، ص 288.

32 - وكيع، أخبار القضاة، ج 1، ص 288.

33 - وكيع، أخبار القضاة، ج 2، ص 399 - 401.

34 - العاملي، زين الدين بن علي بن أحمد الشامي (ت 911 ه)، کنز العمال، (النجف الاشرف - د.ت) ج 5، ص 490.

35 - ابن قيم الجوزیه، شمس الدين محمد (ت 751 ه)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مكتبة دار البيان، (دمشق -1989)، ص 56.

36 - سورة المائدة، الاية (32).

ص: 136

المصادر والمراجع

الابشيهي، بهاء الدين ابو الفتح محمد بن احمد بن منصور(ت 854 ه).

1 - المستطرف في كل فن مستطرف، ط 3، دار صادر،(بيروت - 2007)،

اورنك، أبو المظفر محي الدين محمد.

2 - الفتاوى الهندية، ط 2، المطبعة الأميرية، (القاهرة - 1310 ه).

التستري، محمد تقي.

3 - قضاء أمير المؤمنين، منشورات المكتبة الحيدرية، (النجف - 1966)

ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله محمود (ت 655 ه).

4 - شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار أحياء الكتب العربية، (القاهرة - 1964).

حسن، حسن ابراهيم.

5 - النظم الإسلامية، ط 2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مكتبة النهضة

المصرية، (القاهرة - 1959)

ابن خلدون، عبد الرحمن (ت: 808 ه).

6 - المقدمة، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة - د.ت

ص: 137

السبكي، محمد محي الدين و محمد عبد اللطيف.

7 - المختار من صحاح اللغة، مطبعة الاستقامة، (القاهرة - 1934 م).

السرخسي، شمس الدين أبو بكر محمد بن سهل (ت 490 ه).

8 - المبسوط، مطبعة السعادة، (مصر - د.ت)

ابن الشحنة، إبراهيم بن أبي اليمن.

9 - لسان الحكام في معرفة الأحكام، بهامش معين الحكام للطرابلسي (د.م - د.ت).

ابن عابدین، محمد أمين عمر (ت: 1252 ه).

10 - حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، (اسطنبول - د.ت).

العاملي، زين الدين بن علي بن أحمد الشامي (ت 911 ه).

11 - کنز العمال، (النجف الاشرف - د.ت)

القرشي، باقر شریف.

12 - نظام الحكم والإدارة في الإسلام، (النجف - 1966 م)،

ابن قيم الجوزیه، شمس الدين محمد (ت 751 ه).

13 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مكتبة دار البيان، (دمشق -1989).

الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق (ت 358 ه).

14 - الكافي في الأصول، ط 3، (بیروت، 1968 م)

ص: 138

الكندي، ابو عمر محمد بن يوسف (ت 300 ه).

15 - الولاة والقضاة، مكتبة المثنى (بغداد - 1908).

الماوردي. ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (ت 450 ه).

16 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، (بیروت - 1978)

النوري، میرزا حسن.

17 - مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت الأحياء التراث، (قم - 1320 ه)

وكيع، محمد بن خلف بن حیان (ت 1309).

18 - أخبار القضاة، عالم الكتب، (بیروت - د.ت).

أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 182 ه).

19 - كتاب الخراج، ط 2، المطبعة السلفية، (د.م - 1352 ه).

ص: 139

ص: 140

الموازنة بين العدالة والرعاية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

اشارة

أ.م.د. سناء كاظم كاطع أ.م.د. إيناس عبد السادة علي

ص: 141

ص: 142

المقدمة

إن التجرد عن الصفات والخصال التي يختص بها علي، لهو ضرورة بحثية بحتة، تفرضها الحقيقة التي عبر عنها لسان علي بالقول: (لا تجعلونا أرباباً، وقولوا فينا ما شأتم، ولن تبلغو)، فلن نبلغ كنه علي وحقيقته، ولن نصل إلى معرفته وهو الذي لا يعرفه إلا الله ورسوله، لذا لن نتحدث عن شخص علي بصفاته الربانية وعلمه اللدني، إنما عن حيثيات دنيوية تتعلق بالدولة والمجتمع في فكر علي بوصفه مؤسس لفكر ينظم العلاقة بين مؤسسة الدولة من حيث كونها الراعي، وبين المجتمع الذي يمثل رعايا هذه المؤسسة.

لقد طرح علي في عهده لواليه على مصر، مالك الأشتر، قضية من بالغة الأهمية، ألا وهي الموازنة بين ضرورتين تشكلان أساس وظائف الدولة التنظيمية في علاقتها مع رعاياها. لقد شكلت الموازنة بين العدل والرعاية جوهراً فكرياً تأسيسياً لهذا العهد، مع ملاحظة أن هذه الموازنة قد حققت علاقة فريدة بين الوظيفتين بالربط بينهما بشكل يجعل كل منهما يتضمن في الآخر ولا يتحقق إلا به.

لقد أخترنا هاتين الوظيفتين لأن الفكر العربي والإسلامي على مدى تاريخه ركز على واحدة منها، وهي العدل، وأهمل الثانية، وهي الرعاية، فنجد هذا الفكر قد أنشغل لردح من الزمان بالجدل حول دولة العدل وقضية المستبد العادل، في حين إن وظيفة الرعاية لا تقل أهمیة عن عن وظيفة العدل، ونحن نعزو ذلك إلى أن الفكر العربي والإسلامي هو فكر سلطوي لا رعوي.

ص: 143

من هنا فضلنا الحديث عن علي المؤسس، الذي أسس لنظام الرعاية ضمن نظام العدل، ونظام العدل ضمن نظام الرعاية، أسس للمعادلة الموازنة بين الوظيفتين، وكان أهمال هذه الموازنة قصوراً في الفكر العربي والإسلامي، وهو الفكر الجهوي المؤدلج المنكفئ على الذات وغير المنفتح على الآخر حتى وإن كان من أبناء جلدته.

لقد كان تأسيس علي لنظام الرعاية في عهده لواليه على مصر، وليد واقع دولة الخلافة التي أستلمها علي وهي تعاني من قصور كبير في وظائفها تجاه رعاياها، فكان العهد برنامج عمل لإحداث التغيير الأجتماعي الشامل، فكانت الرعاية نظاماً دقيقاً لقيادة التغيير الأجتماعي هذا وتوجيه الوجهة الصحيحة ضمن نظام العدل بين الرعية.

المحور الأول: دولة العدالة والرعاية في العهد العلوي.

من المؤكد، أن مفهوم العدل قد جاء في نطاق واسع وشامل ولم يحصر بزاوية أو مجال ما، فالله سبحانه وتعالى ذكر العدل في كتابه الكريم في الفاظ متعددة ومتنوعة وحث عليها كقيمة أساسية وجبت كفرض على المسلمين في كل مجالات حياتهم، أبتداءا من العدل في الحكم الى معاملة الأسرة والزوجة وجميع الناس، لذلك يمكننا القول مع ما قاله مطهري من أنه (إذا دققنا النظر في القرآن وجدناه يدور حول محور واحد وهو العدل من كل الأفكار القرآنية، من التوحيد الى المعاد، ومن النبوة الى الأمامة والزعامة، ومن الآمال الفردية الى الأهداف الأجتماعية، فالعدل في القرآن قرين التوحيد وركن المعاد وهدف تشريع النبوة وفلسفة الزعامة والأمامة ومعيار كمال الفرد ومقياس سلامة المجتمع). ومن بين الآيات التي ذكرها الله عز وجل في قضية العدل وأهميته نورد ما يلي: -

ص: 144

«وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ». و«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»**. «إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»***. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»****. «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»*****. «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا»*******. وهكذا يمكن ملاحظة أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه ليكون القاعدة الفكرية والمنهج العملي الذي يريد للأنسان أن يتحرك فيه على أساس قيم الفضيلة.

الى جانب أن العدل صفة من صفات الله جل جلاله، فقد ركز الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله على قضیة العدل مؤكدا أن (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها)، بل وأن (العدل ميزان الله في الرض فمن أخذه قاده الى الجنة ومن تركه ساقه الى النار). كما كان العدل المنهج الواضح الذي سار عليه اهل البيت عليهم السلام في طيلة مسيرتهم، وما رسالة الحقوق للأمام زين العابدين خير مثال ممكن الأستشهاد فيه على تركيز اهل البيت عموما على حقوق الناس وواجباتهم والحكم بينهم بالعدل وتعليمهم المضامين الأساسية لحقوق كل منهم على بعض.

فضلا عن ذلك، فأن العدل أصل من أصول الدين عند الشيعة الإمامية، حيث جاء كل من العدل والإمامة كأصلين من أصول مذهب التشيع مع سائر أصول الإسلام الأساسية (التوحيد والنبوة والمعاد).

ص: 145

ويعرف العدل بأنه إعطاء كل ذي حق حقه، مما يؤكد أختلافه عن المساواة كمفهوم يختزل مراعاة التساوي بين طرفين أو عدة أطراف، في أشتراط وجوده (العدل) في أمر من قبيل (مراعاة الأستحقاق، وأخذ الأولويات بنظر الأعتبار، وأعطاء كلا نصيبه بموجب ما يستحق) والتي لا يشترط وجودها في المساواة. ويعد تعريف الإمام علي عليه السلام للعدل من أفضل التعاريف وأجزلها معنى، حينها بينه في أنه (وضع الأمور في مواضعها) ليكون بذلك الظلم عند أهل اللغة (وضع الشيء في غير موضعه).

ان التأكيد الرباني على مسألة العدل وضرورته جعل منه الهدف الأسمى والغاية المقصودة من الشريعة الإسلامية، بل هو جوهر الإسلام الصحيح وقيمته العليا التي لا يجوز تجاوزها مع الناس كافة مسلمين كانوا أو غير مسلمين، في وقت السلم والحرب معا. لذلك كان حفظ العدل وإشاعة العدالة في المجتمع مطلب أساس في السياسة الإسلامية النبوية والعلوية ومقوم من مقومات الدولة الإسلامية ببعديها الرسالي والعلوي والتي تميزت فيها القيم السياسية بالبعد الأخلاقي وكان في مقدمتها العدل والإنصاف، فالسياسة الإسلامية عرفت العدل كمفهوم واقعي وتطبيقي ملازم لمقولات الشريعة الإسلامية ومبادئه، فأصبحت للعدالة معنى وظيفيا بحيث شکلت أحدى الأهداف والمهام الأساسية التي تسعى الجماعة السياسية تحقيقها في النظام السياسي الإسلامي القائم آنذاك.

لقد قدم الإمام علي عليه السلام على أرض الواقع ومنذ توليه السلطة دولة العدالة المرتكزة على الأسس الأخلاقية والتكوينية العظيمة لحاكمها، وفي ذلك وصف جورج جرداق في سفره الكامل عدالة الإمام علي عليه السلام بأنها «ليست مذهبا مكتسبا، وأن أصبحت في نهجه مذهبا فيما بعد، وليست خطة أوضحتها سياسة

ص: 146

الدولة، وأن كان هذا الجانب من مفاهيمها لديه، وليست طريقا يسلكها عن عمد فتوصله من أهل المجتمع الى مكان الصدارة... بل لأنها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتحد بأصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لكأن هذه العدالة مادة ركب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه». وحينما ركز جل وصاياه ورسائله الى الولاة بمحور العدل «إلا لأنه ميزان العدالة الذي لا يميل الى قريب ولا يساير نافذا ولا يجوز فيه إلا الحق».

وبذلك حقق الإمام علي عليه السلام حينما أقام دولة العدالة الواضحة مضامينها في عهده الى الأشتر كل أمنيات البشرية وأحلامها في العيش في مجتمع فاضل عادل صالح لا مجال للظلم فيه، منطلق من مبدأ الإنسانية في التعامل مع الآخر دون أي أعتبار آخر، مشكلا نظاما متكاملا متماسكا من خلال بيان حاجة كل فرد للآخر دون إمكانية لأستغناء أحدهما عن الآخر، حينما قال «وأعلم أن الرعية طبقات لا يصلح

بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض».

لقد عسر على الوجود ولادة هكذا دولة دون أن تنسب لشخص عظيم كعلي أبن أبي طالب عليه السلام، فمفهوم الدولة وتطوره في الفكر السياسي الغربي تطلب بحثا ووقتا طويا للأرتقاء الى مستوى تمدين الحياة المجتمعية التي سيطرت عليها الكنيسة برجالاتها المستبدين وأفكارها المتسلطة والتي ساعدت، فيما بعد، في التأهيل والتأسيس لثورة التحرر والتقاطع مع كل فكر تسلطي. كما أن الظهور السياسي لمفهوم الدولة في التاريخ السياسي الغربي كان متأخرا عن الفكر السياسي الذي لازمه، ومن ثم، لا وجود لظهور الدولة هناك كما ظهرت في التاريخ الإسلامي والتي تجسدت في البيان السياسي الذي أصدره الرسول الأعظم في يثرب والمعروف بوثيقة المدينة. وهكذا بلورت الرسالة النبوية فكرة الدولة التي توضحت في الممارسات السياسية والدينية

ص: 147

التي كان المسلمون يطلقون عليها السنة النبوية. حتى أن مشروعية الدولة وقيامها قد أدركت بالفطرة والعقل وبهما أدركوا بديهية الموضوع السياسي الملازم لتطبيق أحكام الإسلام والملازم لتثبيت قواعد المنهج الإسلامي في المجتمع. وتوضح مرتكز إقامة العدل كمبرر أساس الى وجود الدولة ليتم من خلال الأستناد عليه

توزيع الخيرات، والوقوف بوجه الظالمين الطغاة، ومناصرة الضعفاء ورعايتهم، على أساس ذلك، تضمنت دولة العدالة في العهد الرسالي والإمامي بأعتبارهما خط واحد في السياسة، الجمع ما بين العدالة والرعاية والموازنة بينهما في حالة فريدة من نوعها، لم تكن لها سابقة ولا لاحقة في التاريخ السياسي أجمالا، التي لابد من أن يكون لظلم الفقير والضعيف وإضاعة الحقوق مجالا فيه لصالح طبقة الأثرياء والأقوياء. فأهل البيت عموما كانوا قد تعاملوا مع شرائح المجتمع كافة على أساس إنساني فقط، وذلك واضحا في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر الذي خص رعايته لكل فئات المجتمع لاسيما الطبقة السفلى داعيا الى مشاركتها في إدارة البلاد ليطرح بذلك أسس ومبادئ عامة ليسلكها الناس ولاة وحكاما. حيث أوصى عليه السلام مالك على أن يكون محبا للرعية محترما لمشاعر الناس المنتمين لأي فئة كانت مسلمة أو من أهل الكتاب، وذلك تثبيتا لإنسانية الإسلام وتقوية لبنية النظام السياسي، وهو ما قاله عليه السلام بالنص «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»، مؤكدا أن يغمر عفوه وصفحه الرعية، قائلا «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»، کما دعى عليه السلام إلى ألغاء التمييز في العطاء بين الرعية «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هدى من رعيتك، فأنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده».

ص: 148

ومن كل ذلك، يمكن القول، أن الإمام علي عليه السلام بكل مواقفه وآرائه

وسياساته، كان منهجا فريدا في سياسة الدولة الساعية نحو تحقيق العدالة وتضمينها الرعاية لطبقات المجتمع كافة، ففي عهده الى الأشتر ذكر أمورا كثيرة منها ما يعود الى الوالي ومنها ما يعود الى الرعية ومنها ما يعود لكليها وذلك حينما قال في مستهل عهده اليه «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها». و» وأن أفضل قرة عين الولاة أستقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية».

وعلى اساس ذلك، عدت قيام دولة العدالة الرعوية العلوية ضرورة ملحة لتحقيق التوازن الأجتماعي والسياسي وكبح النوازع البشرية وتهذيبها، وفض المنازعات الحاصلة بين طبقات المجتمع ورعاية أفراد المجتمع كافة، وأحتضان المحتاجين والضعفاء، الأمر الذي يؤكد الجانب الوظيفي لقيامها وممارسته في نشر الأمن وفض النزاعات وتحكيم سلطة العدل. حيث أكد الإمام علي عليه السلام على وظيفة حكومته (وأي حكومة ممكن أن تؤول إليها الأمور في تسييس أحوال المجتمع) ودورها في أحقاق الحق وأبطال الباطل جاعلا العدل والأنصاف القضية الأساسية والمسؤولية العظمى التي ألقاها على ولاته في دولته العادلة، وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح في عهده إلى واليه في مصر مالك الأشتر النخعي.

المحور الثاني: نصوص مختارة من العهد.

إن محاولة تفكيك نصوص وثيقة شمولية تحيط بجوانب إدارة الدولة كافة، وكيفية قيام الحاك-م به-ذه الإدارة، بمستوى وثيقة عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر، لهي محاولة، وإن كانت معقدة، إلا أنها خطوة مهمة في التعرف على نظرية الحكم وإدارة الدولة في فكر الإمام علي، وفهم المنظور العقلي والإنساني الذي انطلق منه لتأسيس

ص: 149

دولة العدالة والرعاية.

بداية لا بد من عدم الفصل بين وظيفة الحاكم ووظيفة الدولة، فالحاكم موظف خدمة عامة لدى الدولة، وقائم بوظيفتها والمسؤول عن رعايتها ورعاية الرعية والعدل بها وبهم.

في مطلع العهد نقرأ العبارة أدناه: (هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أميرُ المؤمنينَ مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها).

نرى أن مسألة أستصلاح أهلها تصب في مضمون الرعاية، وعمارة بلادها كذلك، فعمارة البلاد وجه من أوجه الرعاية بالرعية. أما جباية الخراج فأنها، وإن كانت ذات مضامين تتعلق بالعدالة بمضامينها المختلفة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، فإن هذا الأمر يحقق رعاية بالدولة والمجتمع والفرد.

ويمكن تلمس ذلك في موضع آخر من العهد: (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من

ص: 150

إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر).

كل هذه المضامين، أو الوظائف، التي ذكرت في بداية العهد، إنما تأسس لعلاقة الحاكم بالرعية وفق معطيات الرعاية العادلة التي يجب أن تتوفر لدى صاحب السلطة واليد العليا في تسيير مقاليد الأمور: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك).

يرتبط معنى الرعاية هنا بإنصاف الرعية من هوى الراعي وخاصته، فالأحتكام إلى هوى النفس ومحاباة الأقربين يورث معاداة الله والخصومة معه والأبتعاد بالأمة عن طريق الحق والعدل: (وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك

فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون

عباده).

إن الحق والعدل من أوجب الأُسس التي تقوم عليها الدولة، إذ الحكم بالعدل والحق يحقق رضا الرعية ويوفر للراعي شروط الإدارة الصحيحة: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط

العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره

ص: 151

للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم).

ويؤدي أستحصال رضا الرعية إلى حسن ظنهم براعيهم، مما يحقق بدوره موازنة في العلاقة بين الطرفين لها في المحصلة نصيب في حسن الإدارة والحكم: (واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك

عنده).

يستدعي توجه الحاكم نحو أستحصال رضا الرعية بالحق والعدل، أن لا يستشير من هم يحوزون على مداني الصفات والأخلاق: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور). لأنهم سيميلون بالحاكم عن جادة الصواب. خلاف ذلك على الراعي الركون إلى من يملكون شرف العلم والحكمة: (وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).

علاوة على ذلك على الحاكم أختيار الأفضل للبت في قضايا الرعية، وفق شروط حددها الإمام ومزايا: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم

ص: 152

على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فیه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنیا!).

إن أختيار الأفضل في هذا الجانب ينطلق من حقيقة إن المجتمع متنوع الطبقات والفئات، ولابد من إيجاد الروابط والصلات الصحيحة التي تؤلف بينهم: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة).

ص: 153

الخاتمة

في عام 656 م، صك الإمام علي (عليه السلام) عهده لواليه على مصر الأشتر، متضمناً نهجاً للحكم وإدارة الدولة ورعاية الرعية، قدم بهذا العهد صورة إنسانية متكاملة لا يشوبها هوى ولا تشوهها الشبهات، لما أحتواه مضمون العهد من قيم إنسانية قبل كل شيء، قيم لا تفرق بين أبناء الرعية وفق خطوط تمييز زائفة تبتعد بصاحب السلطة عن أداء مهمته التي أوكلت إليه بالشكل الإنساني الأمثل.

إن ما تضمنه العهد من منهج متكامل لإدارة الدولة، وفق مضامين العدل والرعاية، أعطته أستمرارية لم ولن تتمتع بها أي وثيقة أخرى، وقد تجلت هذه الأستمرارية في أعتمادها، بعد ما يقارب 1300 عام، من الأمم المتحدة بوصفها أحد

مصادر التشريع للقانون الدولي.

لقد أستوقفت عبارة «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان، ورأى بأنها عبارة يجب ان تنشدها البشرية، ونادي بوجوب أن تعلق على كل المؤسسات الحقوقية في العالم، وجعلته ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام لمالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع في القانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي.

وفي عام 2002، أصدرت لجنة حقوق الإنسان في نيويورك قرارها التاريخي، أعلنت فيه «يعتبر خليفة المسلمين علي بن أبي طالب أعدل حاكم ظهر في تاريخ

ص: 154

البشرية»، مستندة بوثائق شملت 160 صفحة باللغة الأنجليزية. وقد تمت دراسة هذا العهد من المختصين بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، وبعد مرور عدة أعوام أعلنت اللجنة القانونية في الأمم المتحدة التي قامت بطرح قول الإمام علي بن أبي طالب: «الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) للتصويت، وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول، بأنه أحد مصادر التشريع في القانون الدولي.

ولا يسعنا إلا أن نختم بقول الكاتب المسيحيّ جورج جرداق: (هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاته بمثل هذا القول في الناس: «فإنّهم إما أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، أعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»). فقد جسدت هذه العبارة كل معاني الإنسانية المتمثلة في رعاية الرعية بالعدل، والعدل بينهم في الرعاية.

فسلام الله عليك يا سيدنا ومولانا يوم ولدت ويوم أستشهدت ويوم تبعث حيا.

ص: 155

الهوامش

1. مرتضى المطهري، العدل الألهي، ترجمة - محمد عبد المنعم الخاقاني، دار الفقه للطباعة والنشر ،ص 46.

*. البقرة - 123.

**. النحل - 90.

***. النساء - 58.

****. المائدة - 42.

******. المائدة 8.

******. الحجرات - 9.

*******. الأنعام 152.

2. محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، أعداد وتنسيق - صادق اليعقوبي،

دار الملاك، 2003، ص ص 30 - 31.

3. للمزيد ينظر: - العلامة الساعدي، شرح رسالة الحقوق للأمام زين العابدين

عليه السلام، دار المرتضى، بيروت، 2005.

4. للمزيد ينظر:- محمد الريشهري، العدل في الرؤية التوحيدية للوجود، تعريب - علي هاشم، دار الحديث.

5. علاء الحسون، العدل عند مذهب أهل البيت، المعاونية الثقافية للمجمع

العالمي لأهل البيت عليهم السلام، 1432، ص 19.

6. عادل عبد الرحمن البدري، معالم الفكر السياسي ونظرية الدولة في الأسلام،

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، 1431ص 75.

ص: 156

7. جورج جرداق، الأمام علي صوت العدالة الأنسانية، مشورات ذوي القربى،

1323 صص 38 - 39.

8. المصدر السابق ،ص 74.

9. نهج البلاغة، شرح الیخ محمد عبدة، مؤسسة التاریخ العربي، بیروت، 2007، ص 426.

10. عادل عبد الرحمن البدري، مصدر سبق ذكره ص ص 236 - 237.

11. نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، ص 458.

12. نهج البلاغة، ص 458.

13. نهجج البلاغة، ص 459.

14. نهج البلاغة، ص 457.

15. نهج البلاغة، ص 464.

16. عادل عبد الرحمن البدري، مصدر سبق ذكره، ص 242.

ص: 157

ص: 158

مالك الاشتر ودوره السياسي في عهد الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

اعداد

أ.م.د سؤدد كاظم العبيدي

أ.م.د وداد جابر الزويني

ص: 159

ص: 160

المقدمة

التاريخ يخلد الزعماء والقادة الفاتحين ويحكي لنا ملاحمهم وسيرتهم حتى أن شابها الطغيان والظلم والتعدّي على حقوق الانسان وكرامته أو كانت عواقب أمورهم سوءاً وخراباً، لكن هذا لا يمنعنا من أن نميّز بين من قدم للإنسانية مصادیق للتضحية والایمان والوفاء وبين من لوث التاريخ بالدماء وأثقله بالمساوئ والمخازي.

فمن تشرّف به التاريخ وتخلّد في صفحاته، مالك الأشتر النخعي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام وأقرب المقربين إليه في سوح القتال ضد الباطل والزيغ والانحراف و ممثله وصورته الناصعة في ميدان الحكم والإدارة، وكيف لا يكون كذلك وقد قال الإمام في رثائه ما لم يقله في غيره: (من مثل مالك...)؟! وقال أيضا عليه السلام: (عقمت النساء عن أن تلد مثل مالك..) وقال: (كان لي مالك كما كنت لرسول الله)..

ص: 161

نبذة عن حياته:

هو مالك بن الحارث بن عبد يَغوث بن سَلِمة بن ربيعة... بن يَعرُب بن قحطان. لُقّب ب«الأشتر» لأن إحدى عينيه شُتِرَت - أي شُقّت - في معركة اليرموك، حين كان يشارك في حروب المسلمين ضدّ الروم والفرس.

1 - قال ابن حَجَر: ذكره ابن حبان في (الثِّقات) قائلاً: شَهِد اليرموك فذهبت عينه

يومئذ، وكان رئيس قومه.

2 - وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: ولَعمري لقد كان الأشتر.. شديد البأس، جواداً رئیساً حليماً، فصیحاً شاعراً، وكان يجمع بين اللين والعنف؛ فيسطو في موضع السطوة، ويرفق في موضع الرفق.

3 - أمّا الزِركْليّ فقد قال: شهد (مالك) اليرموك، وذهبت عينه فيها. على هذا اتّفقت المصادر جميعها.

لا تذكر المصادر التاريخية تاريخاً محدّداً لولادة مالك الأشتر رحمه الله، ولكن توجد قرائن تاريخيّة نستطيع من خلالها معرفة ولادته على وجهٍ تقريبيّ تخمينيّ.. إذ تُقدّر بين سنة 25 - 30 قبل الهجرة النبويّة الشريفة، بعد أن ذكره ابن حجر في (الإصابة) في عداد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ووصفه معاوية مع جماعة بأنّهم ذوو أسنان وألسنة، أي متقدّمون في السنّ والخطابة-

ص: 162

وقائع مهمّة في حياة مالك الأشتر:

ذُكر مالك الأشتر في جملة المحاربين الشُّجعان الذين خاضوا معركة اليرموك،

وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم. وثمّة اشارات تدلّ على أنّ مالكاً رضوان الله عليه كان قبل اليرموك يشارك في فتوح الشام ويدافع عن مبادئ الإسلام وقيمه السامية، ويدفع عن كيان الإسلام وثغور المسلمين شرور الكفّار.

وحينما كان المسلمون في الشام يقاتلون الروم، كان إخوانهم يقاتلون الفرس في جهة العراق، لذا احتاجوا إلى المَدد لمجابهة كسرى، فكان المدد الذي توجّه إلى الشام ألفَ فارس.. فيهم هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص، وقيس بن هُبيرة المُراديّ، ومالك الأشتر، فالتحقوا بجيش اليرموك الذي خفّ عبؤه بعد فتح دمشق، فتوجه إلى العراق ليحسم معركة القادسيّة هناك. قال ابن الأثير: سَيَّر أبو عبيدة بن الجرّاح جیشاً مع مَيسَرة بن مَسروق العَبْسيّ، فسلكوا درب (بغراس) من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم... فلقي جمعاً للروم معهم عربٌ من قبائل غسّان وتَنُوخ وإياد يريدون اللَّحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ لحق به مالك الأشتر النَّخَعيّ؛ مدداً من قِبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية . فيما نقل ابن أعثَم في (الفتوح) أنّ الأشتر تزعّم جيشاً قوامُه ألف فارس ليفتح (آمُد) و (مِیافارقين)، فلمّا رأي مالك حصانةَ حصنِ آمُد أمر جيشَه بالتكبير وتعالت أصواتهم بالتكبير، فظنّ العدوّ أنّهم عشرة آلاف، فأرسلوا إلى الأشتر في طلب الصلح، وكذلك فعل أهل میافارقين حيث صالحوه وانتهى الأمر بنصر المسلمين.

في عهد عثمان عاش المسلمون أوضاعا مضطربة وسيئة جدا بسبب سياسات عثمان الظالمة والمجحفة، فانطلق الاشتر ليسجل الدور الأول والرسالي في جبهة

ص: 163

الاصلاح هذه المرة وتقويم المسيرة ومواجهة الانحراف في الداخل، وهو ما يكون صعباً جداً في كثير من الأحيان ولا يمكن السكوت عليه او مهادنته..

لذا جاهد مالك بلسانه عندما رأى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وقد کُسر ضلعه وأخرجه عثمان من المسجد النبوي، كما أعلن التنديد والاستنكار ضد تنکیله وظلمه الفادح للصحابي أبي ذر العفاري عندما تعرض للضرب بكل قسوة من قبل حاشيته الأموية، وكان جزاؤه النفي ثم الموت وحيدا وسط صحراء الربذة، كل ذلك ليس لذنب أتاه هذا الصحابي سوى أنه صدح بالحق وفضح النهب والسلب وانتهاك حقوق المسلمين جهارا.

بعد مقتل عثمان بن عفان، أتجهت أنظار المسلمين الى الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فخرجوا في طلبه فوجدوه في داره، فقالوا له: (نبايعك فمد يدك، لابد من أمير فأنت أحق بها. فقال: ليس ذلك اليكم أنما، هو لأهل الشورى وأهل بدر فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة... فابی ان یبایعهم فانصرفوا عنه).

وقال الشيخ المفيد، ملخصا بيان ما وقع في ذلك اليوم: (لما قتل عثمان مال،

الناس الى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يعدلوا به طلحة ولا غيره وخرجوا في طلب علي، يتقدمهم الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وعمار بن یاسر حتى أتو علياً (عليه السلام)، وهو في بيت سكن فيه، فقالوا له: بايعنا على الطاعة لك فتلكأ ساعة، فقال الأشتر: يا علي، ان الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن تختلف الناس)، ولم يزل مالك الأشتر يكلم الامام ويخاف الفتنة فلم يجد الامام علي (عليه السلام) بداً بعد أجتماع الناس اليه، وانثيالهم عليه من الاذعان لذلك والقبول به على الرغم من جميع الصعاب المتوقعة. فمدَّ يده للبيعة وكان مالك الأشتر أول المبايعين.

ص: 164

کما بایعه طلحة والزبير، أما بقية المسلمين فبايعوه في اليوم الثاني في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وكانت بيعة عامة وبعد اجتماع المسلمين في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبايعة الامام علي (عليه السلام) بالخلافة قام مالك الأشتر خطیباً، فقال: (ايها الناس هذا وصي الأوصياء ووارث علم الانبياء، العظيم البلاء، الحسن العناء، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ورسولهِ بجنة الرضوان من كملت فيه الفضائل ولم يشك في سابقته وعلمه وفضلة الأواخر والاوائل). ولما فرغ من خطبته تقدم نحو الإمام وبايعه و بایع بعده الخاصة والعامة، ثم تعاقب الناس على البيعة حتى لم يبق في المدينة من لم يعلن البيعة وكان ذلك في يوم الثلاثاء من شهر ذي الحجة سنة (35 ه). لقد كانت بيعة الامام عامة في المسجد وقد بایعه جميع المهاجرين والأنصار وسائر (قریش الا ثلاثة نفر... مروان بن الحكم وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة). لقد أختار هؤلاء طريق العناد والتمرد ومخالفة الاجماع فلم يعلنوا البيعة للامام فقال الامام علي (عليه السلام): (انه لا حاجة لنا فيمن لا يرغب فينا، فقال له مالك الأشتر: يا أمير المؤمنين، أننا وان لم يكن لنا في السابقة مالهم، فأنهم ليسوا بشيء أولى من أمور المسلمين منا، وهذه بيعة عامة الخارج منها طاعن علينا، فلا تدعهم أو یبایعوا... وأنما أرادك القوم لانفسهم فردهم لنفسك). ثم بدأ، توافد المسلمين من البلدان والاقاليم، الى المدينة للبيعة وفي مقدمة هؤلاء أهل اليمن فقد جاءوا لمبايعة الامام بالخلافة وعندما قربوا من المدينة المنورة وبلغ وصولهم الإمام (عليه السلام) (دعا مالك الأشتر النفعي وأمره أن يخرج، فيتلقاهم في أهل المدينة. فخرج الأشتر في تعبه حسنه حتی تلقاهم فرحب بهم وقال: (قدمتم خیر مقدم الى قوم يحبونكم وتحبونهم، والى امام عادل و خليفة فاضل قد رضي به المسلمون وبايعة الانصار والمهاجرون). واستمر تقدم الوفود على الامام الى ان تمت له البيعة من قبل كافة المسلمين.

ص: 165

وقد ذكر الطبري في روايته، أن أول يد بايعت الأمام هي يد طلحة. لكن العديد من، المصادر تؤكد على أن أول يد بايعت الامام علي (عليه السلام) هي يد مالك الأشتر، ثم لحقتها ايدي الناس، وبعد مبايعة مالك الأشتر للامام علي (عليه السلام) اخذ يرقب الجموع ويتفقد من يغيب وكان الأشتر حاد المزاج سريع الغضب، فأراد اکراه المحجمين عن البيعة فنهاه الامام فانصاع لأمره.

وبعد إتمام المبايعة اعتلى الإمام (عليه السلام) المنبر، وخطب في الناس ووزع عماله على الأمصار، وقد امتدت خلافته اربع سنوات وتسعة شهور، وعدة أيام انشغل، خلالها بقتال، الناكثين، والقاسطين، والمارقين، أصحاب الجمل وأصحاب صفين، والخوارج.

دوره في استنفار الناس لقتال الناكثين:

وبعد ان تم أمر البيعة للامام (عليه السلام)، وتم تعين العمال على الأمصار، كتب الامام (عليه السلام) کتاباً الى معاوية بدمشق يطلب منه، بيعة أهل الشام فلم يجبه بشيء، فكتب اليه مرة ثانية وجاء في الكتاب: (اما بعد فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان بن عفان، واجتماع الناس على مبايعتهم لي، فادخل في السلم، أو أئذن بحرب). فتباطأ معاوية في الإجابة، حتى مضت ثلاث أشهر، ثم دعي معاوية (رجل من بني عبس فدفع اليه طومار مختوم عنوانه من معاوية إلى علي) ولم يذكر في الكتاب شيء أخر وانما تحدث رسول معاوية مع الامام واخبره بان أهل الشام لا يرضون الا بالقوة وقال: ((ترکت ستين الف شیخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد البسوه منبر دمشق)). وعندئذ تكشفت للامام علي (عليه السلام) نوایا معاوية العدائية وعزمه على المواجهة فقرر، السير الى الشام لأخماد فتنة معاوية

ص: 166

قبل أن يستفعل خطرها، وعندما بلغ ذلك، طلعة والزبير، أستاذناه في العمرة فاذن لهما فلحقا بمكة، بحجة العمرة، وقد كتبا الى عائشة، زوجة الرسول الكريم (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد كانت بمكة، بمقتل عثمان بن عفان، وطلبا منها أن تخرج لتطالب بدمه وقالا لها: (ان اطعتنا طلبنا يدم عثمان) فقالت لهما: (وممن تطلبون بدمه) قالا: (أنهم قوم معروفون، وأنهم بطانة علي ورؤساء أصحابه فأخرجي معنا حتى ناتي البصرة فيمن تبعنا من أهل الحجاز، وان أهل البصرة أن رأوكي لكانوا جميعا يدا واحدة معك) فاجابتهم للخروج، فسارت والناس حولها، يمينا وشمالا.

وفي هذه الأثناء سار الامام علي (عليه السلام) من المدينة في تسعمائة راكب (من وجوه المهاجرين، والأنصار من أهل السوابق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعهم بشر کثیر...) متوجها إلى دمشق لاخماد فتنة معاوية قبل أن يستفحل خطرها وكان الامام علي (عليه السلام) لا يعلم بخبر طلحة والزبير ونكثهما للبيعة، وبينما هو في طريقة الى الشام اذ وصل کتاب من اخيه عقيل يخبره بأن طلحة والزبير قد نكثا بيعتهما له وانظمت اليهما عائشة، وأنهم قد سخطوا امارته ودعوا الناس الى الاصلاح والمطالبة يوم عثمان بن عفان. فكان جواب الامام علي (عليه السلام): (سأصبر مالم اخف على جماعتكم واكف آن كفوا واقتصر على ما بلغني، ثم اتاه الخبر بأنهم يريدون البصرة). بل ان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ومعهما عائشة، وصلوا فعلاً الى البصرة وكان بها عثمان بن حنيف الانصاري واليا من قبل الامام علي (عليه السلام) فبعث عثمان بن حنیف، حکیم بن جبله العبدي، فالتقى مع طلحة والزبير، فقاتلهم قتالا شديداً وقتَل، وقتُل أيضاً مجاشع بن مسعود السلمي وكان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرج عثمان بن حنیف من البصرة وأستتب لهم الأمر فيها، وكان ذلك في سنة (36 ه). ولم يكن للامام علي

ص: 167

(عليه السلام) من سبيل لصد هذا التجمع وردع الفتنة وألاقتال الناكثين للبيعة، وقال لأصحابه: (ان هؤلاء القوم قد خرجوا يؤمون البصرة، لما دبروه بينهم، فسيروا بنا على أثرهم، لعلنا نلحقهم قبل موافاتهم). وبعد مشاورات الامام مع أصحابه قرر أرسال ابنه الحسن (عليه السلام) وعمار بن یاسر و قیس بن سعد وأخرين الى الكوفة لحمل أهلها واستنفارهم للقتال والمشاركة في معركة الجمل وعند دخولهم الكوفة أصطدموا بمعارضة أبي موسى الأشعري - وكان والياً عليها منذ أواخر عهد عثمان بن عفان - ورفضه التعاون معهم و تخذيلة الناس عن الخروج. ولما بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان من أمر أبي موسى الأشعري في تخذيل الناس عن نصرته فقام اليه مالك الأشتر وقال: (فأن رأيت - اكرمك الله - يا أمير المؤمنين ان تبعثني في أثرهم، فأن أهل المصر احسن شيء لي طاعة، وان قدمت عليهم رجوت الا يخالفني منهم أحد. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحق بهم على أسهم الله عز وجل). ولدى وصول مالك الأشتر الى الكوفة ورای الناس مجتمعين في المسجد الأعظم، (فجعل لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مسجد أو مجلس الادعاهم ويقول: اتبعوني إلى القصر فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فأقتحم القصر فدخله وابو موسی قائم في المسجد يخطب الناس ويثبطهم... وعمار يخاطبه، والحسن (عليه السلام) يقول له: أعتزل عملنا لا أم لك وتنح عن منبرنا).

وخرج غلمان لأبي موسى ينادون: يا أبا موسى، (هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج من قصرنا لا أملك أخرج الله نفسك،... ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر وأخرجهم من القصر... فكف الناس).

أستطاع مالك الأشتر عند دخوله القصر ان يأخذ زمام المبادرة، وأستطاع من

ص: 168

السيطرة على الموقف المتداعي الذي خلقه الاشعري، ولم يترك لخصمه مجالاً لأكمال ما أبتدأ به من تثبيط عزيمة الناس وأستنفارهم للقتال مع الامام علي (عليه السلام) بل أستطاع أن يجمع المسلمين ويخطب بهم، في المسجد الأعظم خطبة مؤثرة جاء فيها، بعد ان حمد الله واثنی عليه وذكر النبي محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) وقال: (وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا واعظمهم حرمه، واصوبهم في الإسلام سهماً ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وافقه الناس في الدين، وأقربهم لكتاب الله، واشجعهم عند اللقاء يوم البأس وقد أستنفر کم فما تنتظرون؟ أسعيداً، أم الوليد، الذي شرب الخمر وصلى بكم على سكر وهو سكران منها وأستباح ما حرمه الله فیکم؛ أي هذين تُريدون... الا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم ولا يتخلف رجل له قوه...).

وما ان اتم مالك الأشتر خطبته، حتی اجابه الناس بالسمع والطاعة، فخرج مالك يتقدم الناس الى ان التقوا مع الامام علي (عليه السلام) في ذي قار على طريق البصرة وكان عدد أهل الكوفة ستة الاف وستمائة رجل.

ولد اجتماع الناس خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة مفصلة شرح فيها الموقف، وذكر فيها أهل الكوفة واثنی علی کرمهم وشجاعتهم، فأجابوه: (نحن انصارك على عدوك ولو دعوتنا إلى اضعافهم من الناس، احتسبنا في ذلك الخير والاجر ورجوناه).

وبعد انتهاء الامام (عليه السلام) من خطبته قام مالك الأشتر فقال: (الحمد الله الذي مَّن علينا فأفضل، وأحسن الينا فأجمل، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، ولقد أصبت ووفقت وأنت ابن عم نبينا وصهره ووصيه، وأول مصدق به ومصل معه شهدت مشاهده كلها فكان لك الفضل فيها على جميع الامة، فمن أتبعك أصاب

ص: 169

... يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير علينا بمخيل، ولقد دخلا في هذا الأمر أختياراً ثم فارقانا على غير جور عملناه ولا حدث في الإسلام أحدثناه؛ ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين ليس معها حجة ترى ولا اثر یعرف...).

فسار مالك الأشتر - وهو المسلم الغيور - في مائتي رجل، وفيهم كثير من الصحابة الأتقياء والتابعين بإحسان، فعرضوا مطاليبهم ومعارضتهم لهذه الانتهاكات الواضحة، إلا أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام أرجعهم؛ توقّياً من الفتنة، وحفظاً لدماء المسلمين من أن تُراق، بل حفاظاً على الإسلام من ارتداد الناس عنه. فلمّا رجع المعترضون أمسكوا في الطريق بغلام معه كتاب من عثمان يأمر فيه عامله بالتنكيل ببعض المعترضين وحبس بعضهم وقتل البعض الآخر، فغضبوا ورجعوا إلى المدينة وحاصروا دار الحكومة، ومِن هناك سَرَت نيران الثورة، فكان ما كان.

مواقفه الشامخة في حكومة الامام علي ابن طالب (عليه السلام):

وفي خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله علیه و حکومته، كانت مواقف الأشتر واضحةً جَليّة المعالم، فهذا العملاق الشجاع.. أصبح جُنديّاً مخلصاً لأمير المؤمنين لم يفارقه قطّ، كما كان من قبل تسلّم الإمام لخلافته الظاهريّة، فلم يَرِد ولم يصدُر إلاّ عن أمر الإمام عليّ سلام الله عليه.. حتّى جاء مدحه جلیلاً على لسان أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان أن كتب في عهده له إلى أهل مصر حين جعله والياً على هذا الإقليم: اما بعد (فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله ، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنکُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجّار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنِفروا فانفِروا، وإن أمَرَكم

ص: 170

أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري. وكتب عليه السّلام له يوماً: وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقِهم في نفسي، وأنصحِهم وأرآهُم عندي).. ولهذا القول الشريف مصاديق مشرقة، إذ كان للأشتر رضوان الله تعالى.

المواقف والأدوار الفريدة لمالك الاشتر:

1 - قيل: إنّه أوّل مَن بايَعَ الإمامَ عليّاً عليه السّلام على خلافته الحقّة، وطالب المُحجِمين عن البيعة بأن يقدّموا ضمانة على أن لا يُحدِثوا فِتَناً، لكن أمير المؤمنين عليه السّلام أمره بتركهم ورأيَهُم

2 - زَوَّد أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السّلام بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل الحاسمة، مستثمراً رئاسته زعامته على قبيلة مِذحج خاصّة والنَّخَع عامة، فحشّد منهم قوّاتٍ مهمّة. فيما وقف على ميمنة الإمام في تلك المعركة يفدّيه ويُجندِل الصَّناديد، ويكثر القتل في أصحاب الفتنة والخارجين على طاعة إمام زمانهم.

3 - وفي مقدّمات معركة صفّين.. عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات؛ ليعبر عليه جيش الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقاتل جيش الشِّقاق والانشقاق بقيادة معاوية بن أبي سفيان. ثمّ كان مالك رحمه الله المحوَر الفعّال في إدارة المعركة، فأزال - هو والأشعث - أبا الأعور السُّلَميّ عن مشرعة الماء بعد أن استولى عليها. وقاد في صفّين أيضاً جيشاً من الفُرسان والمشاة تعداده أربعة آلاف مقاتل، وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام 37 ه حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية. ولمّا رفع أهل الشام المصاحف، يخدعون بذلك أهل العراق ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم، انخدع الكثير، بَيْد أن مالكاً لم ينخدع

ص: 171

ولم يتراجع حتّى اضطره الإمام عليّ عليه السّلام إلى الرجوع، كما اضطُرّ إلى قبول صحيفة التحكيم - وكان لها رافضاً - خضوعاً إلى رضى إمامه عليه السّلام.

بلوغه الوفاة:

وبعد حياة حافلة بالعزّ والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوّة والإمامة.. يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق. لقد أمضى مالك حياته يخدم الدين والمسلمين، فكان مدّةً في سُوح الجهاد في سبيل الحقّ، ومدّة والياً لأمير المؤمنين عليه السّلام على الموصل ونَصيبينَ ودارا وسِنجار وآمُد وهِيت وعانات، وغيرها من المدن والولايات.

وكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتمايل أهلها إلى أهل البيت وكراهتهم لأعدائهم، بادر معاوية بإرسال الجيوش إليها وعلى رأسها عمرو بن العاص ومعاوية بن حديج ليحتلّها. فكان من الخليفة الشرعيّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن أرسل مالكَ الأشتر والياً له على مصر.. فاحتال معاوية في قتله، داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار - وهو رجل من أهل الخراج، وقيل: كان دهقان القُلْزُم - وكان معاوية قد وعد هذا ألاّ يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفّذ مهمّته الخبيثة تلك، فسقاه السمّ وهو في الطريق إلى مصر، فقضى رضوان الله عليه شهيداً، فقال عمر و بن العاص مُعرِباً عن شماتته: إنّ الله جنوداً من عسل!

وقال معاوية: إنه لكان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان: قُطِعت إحداهما بصِفِّين - يعني عمّار بن ياسر - وقُطعت الأُخرى اليوم - يعني مالك الأشتر.

وكانت شهادته رحمه الله عام 38 هجريّة، بعد أن امتدّ العمر به فنال ما كان يتمنّاه

ص: 172

أن يقضي مظلوماً على أيدي أعداء الله وقد حاربهم جهده، فاستجاب الله دعوته

وأُمنيّته، إذ كان يقول:

ياربِّ جنّبْني سبيلَ الفجَرهْ

ولا تُخيّبْني ثوابَ البررَهْ

واجعَلْ وفاتي بأكفِّ الكفرَهْ

أمّا أمير المؤمنين سلام الله عليه.. فجعل يتلهّف ويتأسف على فقدان الأشتر ويقول: للهِ دَرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالك فلْتَبكِ البواكي. وقال عليه السّلام: كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلّى الله عليه وآله.

ص: 173

المصادر

1 - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) - ط 1.

2 - أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين العامليّ، تحقيق السيّد حسن الأمين، ط 5.

3 - الأمالي، لأبي عليّ القالي (ت 356 ه) - ط 2 أوفسيت، بيروت.

4 - تاريخ الطبريّ (ت 310 ه) - ط 1 مصر - المطبعة الحسينيّة 1326 ه.

5 - الحماسة، للبحتري (ت 284 ه) - ط بيروت.

6 - دائرة المعارف، لبطرس البستانيّ.

7 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الإصبهانيّ.

8 - احمد محمد جودي التميمي، مالك بن الحارث الاشتر ودوره في الأحداث السياسية في القرن الأول الهجري، رسالة غير منشورة مقدمة الى كلية التربية جامعة المستنصرية، بغداد، 2005.

9 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - ط دار إحياء الكتب العربيّة 1385 ه.

10 - تاريخ الطبريّ (ت 310 ه) - ط 1 مصر - المطبعة الحسينيّة 1326 ه.

11 - الطبقات الكبرى لابن سعد - دار صادر، بيروت.

12 - العبر في أخبار من غبر، للذهبيّ.

13 - الغارات، لأبي هلال الثقفيّ.

14 - الفتوح، لابن أعثم الكوفيّ (ت 314 ه) - دار الكتب العلميّة، بيروت 1986.

15 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير (ت 630 ه) - مؤسّسة الأعلميّ، بيروت. 16 - مروج الذهب، للمسعوديّ (ت 346 ه)، تحقيق محمّد محيي عبدالحميد - ط 4، القاهرة 1964 م.

ص: 174

17 - المؤتلف والمختلف، للآمديّ (ت 370 ه) - دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة 1961 م.

18 - وقعة صفيّن، لنصر بن مزاحم المنقريّ (ت 212 ه)، تحقیق عبدالسلام محمّد هارون - مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قمّ 1403 ه.

ص: 175

ص: 176

المشروع السياسي للأمام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر

اشارة

م.د. صلاح هاتف حاتم

م.د. اياد كاظم جلو

ص: 177

ص: 178

المقدمة

العدالة والقيم الإنسانية الحقيقية، التي تتجسد في شخصية امير العدالة الإنسانية الإمام علي ابن ابي طالب صوت العدالة الإنسانية لكافة البشر، وليس لفئة محددة، انه يمثل الحق والعدالة والحرية التي جعلها من اساسيات الحكم، يعد افضل نموذج للحاكم العادل في كل مكان وزمان.

انه شخصية عظيمة وفريدة في التاريخ الانساني، تربى في أحضان النبوة، ولم يسجد لغير الله قط (فتفرد بلقب كرم الله وجه)، وقدم أفضل الدروس في الفداء والبطولة والاباء فكان (لا فتى إلا علي ولا سيف الا ذو الفقار)

إمام العلم والفصاحة والبلاغة والحكمة، والحك-م والإدارة، وإمام النحو واللغة والادب يشهد تراثه اللغوي والادبي الذي يعد قمة في الروعة والابداع دونته كتب اللغة والادب

الإمام علي ابن أبي طالب مدرسة في فن التعامل مع كافة الناس بانهم أخوة،

حيث قال: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».

شخصية اسلامية لا غنى عنها في الدراسة والبحث وفهم منهج الاسلام الاصيل، فهو وليد الكعبة المشرفة، وتربى بين يدي الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو نفس رسول الله وزوج فاطمة الزهراء البتول، ووالد سبطي النبي الكريم الحسن والحسين، وصاحب التاريخ المشرف في الفداء والبطولة والاباء والعطاء والإعمار والعدالة الانسانية، وهو شهيد المحراب.

ص: 179

شخصية الإمام عظيمة ولد في أطهر بقعة في الكعبة المشرفة، واستشهد في المحراب أثناء صلاة الفجر، في أفضل وأشرف الشهور، في اواخر شهر رمضان المبارك.

معنى السياسة

جاء في لسان العرب لأبن منظور ان السياسة مصدر للفعل ساس يسوس،

وساس الأمر سياسة، قام به، وسوّسه القوم اي جعلوه يسوسهم، وعند الفيروز ابادي في القاموس المحيط: سست الرعية سياسة اي امرتها ونهيتها، ويسوس الشيء اي يتعهد بما يصلحه.

وفي المعنى الاصطلاحي تعرف بأنها رعاية كافة شؤون الدولة الداخلية، وكافة

شؤونها الخارجية، و تقوم على توزيع النفوذ والقوة ضمن حدود مجتمع ما. و بأنها العلاقة بين الحكام والمحكومين في الدولة، وعرفت أيضاً بأنها طرق وإجراءات مؤدية إلى اتخاذ قرارات من أجل رفاه المجتمعات والمجموعات البشرية، هذا و يختلف مفهوم السياسة اصطلاحا تبعا لآراء مفكرين ومدارس فكرية من شعب الى آخر ومن مدرسة الى اخرى وعموما يتفق اغلب منظري الفكر السياسي على ان السياسة هي عقد بين الحاكم والمحكوم وبشكل عام فأن معنى السياسة في اللغة العربية تشير الى القيادة والفطنة.

وفي المصطلح الانكليزي (politics) وفي الفرنسية (politique) وهم من الاصل اللاتيني (polis، politica) وتعني المدنية والدولة، وهما مفهومان يشيران بشكل عام الى الحكومة والسيادة والمدنية والدولة والدستور والشعب.

ص: 180

مفاهيم السياسة

1 - ميكافيلي (1469 - 1527) یری میکافيلي ان السياسة ماهي الا معركة وصراع بين الأفراد والجماعات للوصول الى السلطة وان الغاية فيها تبرر الوسيلة ومن المنظرين الحديثين لهذا الراي هو المنظر اليهودي الأمريكي هانز مورجنثاو

(1904 - 1980)

2 - عند فلاسفة الاغريق قال سقراط (469 - 399 ق م) أن السياسة فن الحكم والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن بینما یری افلاطون (428 - 437 ق م) ان السياسة هي فن حكم الافراد برضائهم، حيث اكد هذا المفهوم في ما يعرف اليوم بأدبيات الديمقراطية بالرضا الشعبي برضا المحكومين وليس عن طريق القوة ومن ابرز الامثلة في سياسة الامام علي عليه السلام عندما كاتب معاوية قائلا (اما بعد، فأن بيعتي لزمتك وانت بالشام، فقد بايعني الذين بايعوا ابا بكرا وعمر وعثمان على ما بایعوا، فلم يكن للشاهد أن يختار وللغائب ان يرد) فقد بایعه امير المؤمنين عليه السلام الناس باختيار منهم وليس بالإكراه او الخديعة وقد اختاروه لدفع الضرر ودرء الفتنة التي وقعت بعد مقتل عثمان بن عفان.

3 - السياسة هي فن الخداع، اي فن حكم البشر عن طريق خداعهم وان السياسة هي فن المكر والتضليل وكلما كان السياسي مخادعا استطاع الاحتفاظ بالسلطة لوقت اطول وهذا يحيلنا إلى قول علي بن ابي طالب عليه السلام (والله ما معاوية بأدهی منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة، والله ما أُستغفل بالمكيدة، ولا أُستغمز بالشديدة)

ص: 181

4 - الاسلام في نظرية الحكم أكد على مبدأ الشورى وتقديم النصح للحكام، ولأن

الاسلام لم يتعرض للتفصیلات فأن نظام الحكم متروك للظروف والزمان والمكان وما تقرره المصلحة العامة وهو ما أكد عليه شهاب الدين بن أبي ربيع (هي القيام بامر الناس وتدبير احوالهم بالدين القيم والسنة العادلة) کما یذکر ابن خلدون على (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي بما يحقق مصالحهم الدينية والدنيوية، ويحصل نفع السياسة في الدارين)

سياسة الامام علي عليه السلام

كانت سياسة الامام في خلافته مثيرة للجدل والنقاش، وقد تباينت الآراء بين مؤيد ومعارض فهناك من قال ان الامام علي لم يدرك مفاهيم السياسة ولم يستخدم الاساليب المتعارفة في المكر والخديعة لمواجهة خصمة معاوية بن ابي سفيان ولم يتفنن في ذلك وأن معاوية كان ادهی منه بل ادعى البعض انه لم يتمكن من ادارة البلاد کما ينبغي وهؤلاء يعتقدون في أن الحاكم عليه ان يتبع مبدأ الغاية تبرر الوسيلة والسياسة الميكافيلية كمنهج، كما هو حال خصمه معاوية، وانه ليس هناك مُثل او اخلاق في عالم السياسة.

ان هذه الاراء وغيرها تصدر اما عن جهل بشخصية الامام والظروف والاحداث التاريخية التي احاطت به قبل توليه الخلافة او محاول لتشويه الحقائق وثوابت اخلاقية تؤسس للإنسان بوصفه انسانا يسمو عن الخداع والتضليل للوصول الى الاهداف والغايات النبيلة فكلما كانت النفوس كبيرة تعبت في مرامها الابدان ولاشك في ان طريقها شاق وطويل مازالت البشرية الى يومنا هذا تتوق الى القيم والمثل العليا لتتحقق الغايات والاهداف النبيلة وما قرارات الامم المتحدة وحقوق الانسان والحيوان

ص: 182

والطفولة ومنظمات الاغاثة الا تتويج لهذا الجهد البشري الأخلاقي الذي يدعو الى تأسیس مجتمعات تقوم على المثل والاخلاق والفضيلة فقد كان لعلي بن ابي طالب قصب السبق في الدعوة الى المساواة فحينما طلب منه تفضيل القرشيون والاشراف على الموالي في تقسيم العطاءات لكسب ودهم وتأييدهم مقابل شراء معاوية للذمم قال: (أتأمرونني أن اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطور طور به ما سّمر سمير وما أم نجمٌ)

لقد كانت الفتنة التي وقعت قبل توليه الخلافة مزقت اوصال العرب المسلمين وتعقد الظروف والتباسها على الكثير من العرب المسلمين وقد استفاد معاوية شر افادة في خلق ظروف ومساحة للمناورة والمراوغة ومحاولة الانفصال عن الدولة العربية الاسلامية.

لم يكن علي بن ابي طالب مداهنا او غافلا عما يعمل الظالمون بل انه كان فطنا مدركا ولديه يقين ثابت في معالجاته للحوادث فقد كانت معالجاته تلك تتضمن بعدا اجتماعيا وانسانيا وسناتي على ذكر اهم ما دونته كتب التاريخ

اولا: طلحة والزبير

فقد ذكر المسعودي أن طلحة والزبير استأذنا المام بحجة انها يريدان العمرة فقال لهما امير المؤمنين (لعلكما تريدان البصرة او الشام) اي الالتحاق بمعاوية او عمل فتنة في البصرة وهو ما حدث فعلا لاحقا وقد ادرك امير المؤمنين زيفهما بعد ان اوثقا له القسم بأنهما انما يريدان العمرة وكان يدرك انه امرادبر بليل مع زوجة الرسول وهذا يدل على فطنته وسعة ادراکه لطبيعة الامور ومجريات الأحداث.

ص: 183

ثانيا: خدعة المصاحف

هل ان عليا انطلت عليه خدعة رفع المصاحف؟، حينما قال مالك الأشتر امهلوني عدوة فرس لقادة الجيش وبطون العشائر الذي رفض التقدم لحسم المعركة لصالح جيش امير المؤمنين وقد رفض اغلب جيش الامام الانصياع لأمر الأمام بالتقدم واقر الاحتكام الى خدعة معاوية في رفع المصاحف، اذ يروي المسعودي (قيل لعلي: قد اعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله فأقبل منه.. فقال ويحكم ما رفعوها لكم الا خديعة ودهاء ومكيدة.... فقد عصوا الله فيما امرهم ونبذوا كتابه.... الى اخر الحديث) وربما يعترض البعض على علي بن ابي طالب في عدم حسم المعركة واعدام من يرفض الانصياع الى الأوامر فمن المرجح أن هذا الامر يزيد من الامر سوءا ليغير مجرى الأحداث اسوأ مما بدت عليه وستعتبر مثلبة يدونها التاريخ على علي بن ابي طالب ناهيك عن شخصية امير المؤمنين التي تؤسس لمشروع انساني سیاسي.

ثالثا: التحكيم

اراد علي بن ابي طالب ان يكون ممثله في التحكيم هو عبد الله بن عباس كشخص کفؤاوندا لعمرو بن العاص داهية العرب وذلك لمعرفته بشخصية عمرو وقدرته على الخداع والتضليل وحسم الأمور لصالح معاوية ولكن قطعات كبيرة من جيشه رفضوا هذا الأمر ووقع اختيارهم على شخصية هزيلة و مهزوزة هو ابي موسى الاشعري فكانت مؤامرة انخدعت بها العوام ولم ينصاعوا لأوامر امير المؤمنين

وقد حذر الامام من غارات معاوية على اطراف الدولة العربية الاسلامية وكان يحث دائما على المسير الى حسم الصراع مع معاوية الذي تمادی کثيرا في جرأته على سلطة الامام الشرعية.

ص: 184

الامام عليه السلام والأحاديث

ابدی امیر المؤمنين العديد من الأحاديث والتوجيهات لغرض خطورة تلفيق الاحادیث و تفسير الاسلام وفهم النصوص فقال (عليه السلام): «ان في ايدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً و منسوخاً وعاماً و خاصاً و محکماً و متشابهاً وحفظاً ووههماً» ووضع الأسس لمعرفة أصول الحديث الصحيح فيقول: «انما اتاك بالحديث اربعة رجال ليس لهم خامس منافق مظهر للايمان لا يتحرج يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمداً... ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا.. ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمر به ثم انه نهی عنه وهو لا يعلم او سمعه ينهي عن شيء ثم امر به وهو لا يعلم.. واخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على سمعه لم يزد به ولم ينقص منه.

واوضح (عليه السلام) دعامتي حكمه وحياة الأمة في حواره مع معارضيه،

طلحة، والزبير، حيث قال: «والله ما كانت لي في الولاية اربة، ولكنكم دعوتموني اليها، وحكمتموني، فلما افضت الي نظرت الى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته وما استسن النبي (صلى الله عليه وآله) فاقتديته».

الوعي التاريخي عند الأمام عليه السلام

ورد في قوله: «ان لكم في القرون السالفة لعبرة «وهو دليل على دعوته الى معرفة تاريخ الماضي واخذ الدروس منها، ومشورته على عمر بن الخطاب بتسجيل التاريخ الاسلامي من تاريخ الهجرة، بعد رفض كتابة التاريخ بالتقويم الروماني او

ص: 185

الفارسي، وهذا يدل على وعيه بالخصوصية التاريخية للشعوب بصورة عامة ويكتب الامام لولده الإمام الحسن قائلاً: «أي بني، اني وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت کاحدهم، بل كاني بما انتهى إلي من امورهم قد عمرت مع اولهم الى اخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره»

وفي عهده الى مالك الأشتر حيث يوجه الإمام رفيق كفاحه الأشتر قائلا: «ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور» وهذا ما يدل على اطلاع واسع بالتاريخ ومراحل تطور وانحطاط الأمم ناهيك عن مراعاة الخصوصية الحضارية لمصر

اما ما يصهر هذه المعارف والخبرات في بوتقة واحدة، لتوجد لنا اسمى قيمة فكرا وسلوكا، فكانت شخصية علي بن أبي طالب الإنسان الذي وصفه، احد ابناء شعبه، امام الّد اعدائه، معاوية ابن أبي سفيان، إذ قال له معاوية، بعد اغتيال الإمام وهيمنة معاوية على سدة الحكم، صف لي عليا؟ فقال ضرار: أو تعفيني؟ قال لا اعفيك، قال ضرار: «والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس ما خشن ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا يجيبنا اذا سألناه ويبتدئونا اذا اتيناه ويأتينا اذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، ان تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم اهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله،... فقال معاوية فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترفاً عبرتها ولا يسكن حزنها»، هذه لوحة انسانية رسمت بصدق، فهي ليست رؤية المحكوم للحاكم المثالي فحسب، انما رأي صادق بإنسان ارتقى ليجسد الإنسانية الدينية والسلطة كواقع ملموس.

ص: 186

الامام عليه السلام ومالك الأشتر رضوان الله عليه

تحدث الإمام عليه السلام عن سمو شخصية مالك و عظيم شأنه في رسالته التي بعثها لأهل مصر حينها ولاه عليهم جاء فيها: ((أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله تعالى لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله تعالى لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخر، ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شکیمته على عدوكم))

وعندما انتهى اليه خبر وفاة مالك الاشتر حزن الأمام كثيرا فقال ((رحم الله تعالى مالكاً فقد وفي بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، وإنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله)..)).

ولا يخفي تأثر الأمام على مالك وشدة فقده اليه بعد الاغتيال السياسي الذي دبره معاوية بن أبي سفيان فيقول بحراة بالغة ((لله در مالك لو كان من جبل لكان فنداً ولوكان من حجر لكان صلداً أما والله ليهدني موتك، وأضاف: على مثل مالك فلتبك البواكِ، وهل موجود کمالك))

وضع الأمام جوهر الحكم والإدارة في عهده لعضده مالك الاشتر واليه على مصر، فقد جعل فيه أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية، وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم والإدارة، وقد شرع الإمام أروع صور الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري الأنساني، ومن عظيم

ص: 187

ما سنه الإمام في عهده أنه أمر الحكام أن يساووا بين جميع طبقات الشعب حتى في اللحظة والنظرة، وقد أقام بذلك أسمى صور العدالة التي تنشدها الانسانية.

((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور وأن الناس ينظرون من أمرك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم: وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله تعالى على ألسن عباده، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت..)).

العهد العظيم

عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الأشتر في سنة (38 ه / 658 م) تضمن العهد مضامین وحقوق اقتصادية وسياسية واجتماعية انسانية خالدة فقد وضح العلاقة بين الراعي والرعية الخليفة والوالي والامير والرعية هم طبقات وافراد المجتمع الإدارة وحدودها وواجبات كل طرف في الدولة، كان عرض العهد متسلسلا بمنهجية علمية، فضلا عن دقة مفرداته وما اشتمل عليه النص من صور واستعارات وتشبيهات بالإضافة إلى الأسلوب البلاغي الذي أدى لإيجاز کامل النظام الإداري الإسلامي في كتاب واحد لذا جاء الاهتمام ببحث الوثيقة الدستورية الراقية في هذه الدراسة في محاولة لاستخلاص القواعد الأساسية للنظام الإداري في المنهج الإسلامي.

سنركز في هذا العهد على مبدأ انساني ابداه الامام علي في عهده الى مالك في فقرة انسانية خالدة، قال عليه السلام: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين

ص: 188

أو نظيرٌ لك في الخلق، يفرط بينهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤثر على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله تعالى فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله تعالى، فإنه لابد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته..))

الناس صنفان لم يفرق بين الذكر والانثى او الاسود والابيض او المسلم وغير المسلم ففي هذه الفقرة اكد على انهم اخٌ او نظیر ولیس کما شرع الفقه الاسلامي بين الذمي والكتابي و المسلم وغيرها من تلك الأمور التي تحط من قدر الانسان ان الناس متساوون في نظر امير المؤمنين كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلق فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغني والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور حيث ما نراه اليوم في الحكومات من امتیازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمی کما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله) ويعقب أحد الكتاب على هذا المقطع فيقول: ومن هذا الاعتبار کان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر المساعدة، وكان موقفه عندما أبلغ أهل الكوفة انه لن يأخذ حصته من العطاء حيث قال: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن) إنها كلمة عظيمة تستحق الوقوف عندها والتأمل في هذا الرجل العادل الذي لم يخرج من الدنيا إلا بمدرعته التي طالما كان يستحي من ترقيعها ويؤكد على انه غير مستبير وليس مرتشيا ولا يرضى بالفساد والخيانة مطلقاً.

ص: 189

ونراه مع (عبد بن زمعة) عندما أتاه يطلب مالا إذ قال له: إن هذا المال ليس لي ولا لك إنما هو فيء للمسلمين.

فهو يرى انه موظف مسؤول أمام أموال المسلمين وأنها مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها وأن التقصير خيانة وجريمة كبرى والحفاظ على أموال المسلمين واجب مقدس. والوثيقة التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر تشعرنا بأنه كان ناذراً نفسه لخدمة الشعب

في هذا المقطع من عهد الإمام مالك الأشتر نجد معاني سامية وعظيمة قلما توجد في حاكم من الحكام. إن هذه الوثيقة هي اعلان عن حقوق الإنسان والمواطنة تجاه السلطة أو الحكومة بشكل عام واعطاء الحقوق للفرد تجاه الحاكم والحاكم تجاه الفرد وتحديد مسؤوليتهما تجاه الآخر وبهذا تحكي الوثيقة مدى العلاقة الإيجابية التي تربط الرعية بالحاكم والعكس وهذا عين ما نراه من الممارسة العملية التي كان الإمام علي یمارسها تجاه أفراد شعبه من الرأفة والحنو والتودد حتى مع الداعداءه بل مع قاتله عبد الله بن ملجم. وكان يشارك الناس في طعامهم وشرابهم وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمعوزين ليلاً حاملاً کیس الدقيق على ظهره وطائفاً بين الازقة ليتفقد من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع كان يعطف عليهم کالأب على أولاده بل أكثر، وهم ربما لا يعرفون انه الخليفة ولكن كل ذلك من أجل أن يكون واقعياً في خطابه وكلماته وإيمانه بالله ورغم كل سلبيات الرعية وتقصيرها تجاهه إلا انه لم يكن سبباً ليحول دون الرأفة والرحمة بهم وإن رجلاً مثل الإمام علي ينزل من علياء سلطته إلى بيوتات الناس ليسأل عنهم وعن أحوالهم ويتفقد صغيرهم وكبيرهم حريٌ أن يكون قدوة ومثالاً لباقي الحكام ولكل الإنسانية إذ أن قائد دولة عظمی بل أعظم دول الأرض في عهده الذي يتحمل مئات المسؤوليات الثقيلة في إدارة بلاده يشعر بمسؤوليته إلى هذه

ص: 190

الدرجة بحيث يخرج إلى شيخ مقعد اعمى ويدير شؤونه بنفسه الشريفة ويضع ذلك جزءاً من برنامجه اليومي وبعيداً عن كل أنواع التكبر والاستنكاف يطهر وينظف ذلك الشيخ ويستبدل اثوابه كل يوم بغيرها ويطعمه حتى يشبع. نعم لا وجود لهكذا معاملة وسلوك في تاريخ كل القيادات إلا القيادات القليلة فقط

إن الإمام علي كان من الممكن أن الثيوقراطية (الحكومة الدينية) ضد الشعب کما مارسه بعده الحكام والملوك ضد شعوبهم حتى ينبسط له الحكم والإدارة بصورة اکثر لكنه كان يرى أن الحكم لابد أن ينطلق من رؤية انسانية بحتة اساسها العدل وأن لا يتجاوز الثوابت الإسلامية للحاکم مهما كانت العقبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فكان من اللازم أن تحصل اخفاقات سياسية أو عسكرية نتيجة عدم نضوج الوعي الجماهيري ولذلك نرى أن الإمام اعلن عن ذلك بصراحة بعد اتهامه بأنه عديم الخبرة بالحرب قائلاً: (وافسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش أن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالقيادة لله ابوهم وهل أحد منهم اشدها مراساً واقدم فيها مقاماً مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع). وهكذا نرى الإمام في اكثر من موقف أن رؤيته السياسية تنطلق من معرفة جيوسياسية تجعل رأيه لا يجانب الصواب، وأن أفقه المعرفي جعله قادراً على استيعاب مجمل القضايا التي كانت تمس الدولة على المستوى الخارجي والداخلي کما نرى ذلك في قضية غزواته وحروبه في صفين والبصرة والنهروان وكيف انه وصلت بشائر الانتصار عندما اقترب القتال إلى رواق معاوية ولكن الدهاء السياسي لمعاوية ورفع المصاحف جعل من المقاتلين ينقسمون فيما بينهم ويوقفون القتال ويؤثرون على قرار الإمام ومثل هذه الوقائع والهزائم كثير مما يؤكد قصور القاعدة الجماهيرية وعدم النضوج الفكري السياسي.

ص: 191

الهوامش

[1] ابن منظور، لسان العرب ج 6، دار احیاء التراث العربي، بیروت 1996، ص 429.

[2] الفيروز آبادي، مجد الدين بن محمد: القاموس المحيط، ج 2، فصل السين

والشين، ص 220

[3] الحمداني، قحطان احمد: الأساس في العلوم السياسية، عمان 2004، ص 15

[4] مجاهد حورية توفيق: الفكر السياسي من افلاطون إلى محمد عبده، القاهرة 2013، ص 310

[5] محمد علي احمد: اصول الاجتماع السياسي، القاهرة،ص 17

[6] بن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: مقدمة بن خلدون، تحقیق درویش

الجویدی، بیروت 2009، ص 189

[7] المصدر نفسه.

[8] المفيد، الارشاد، ص: 97 _ 98، والمجلسي، بحار الأنوار: 40 / 251، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 494.

[9] الإرشاد، ص: 98، والمناقب: 1 / 497.

[10] التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص: 51.

[11] الكليني، الكافي: 7 / 185 _ 187.

[12] الكليني، الكافي: 7 / 185 _ 187.

[13] الكليني، الكافي: 7 / 289 _ 290.

[14] الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 25، أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

[15] المصدر نفسه.

[16] قارن بين مذهب أمير المؤمنين 7 في حقّ الإنسان في الحياة، وبين ما جاء في المادّة (435) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحق في الحياة والحرّية

ص: 192

وسلامة شخصه (انظر: ص: 19 من الوثيقة).

[17] - حول حياة الامام الحسن (عليه السلام) ينظر: علي بن عيسى الاردبيلي،

کشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 2، (بیروت، دار الأضواء، د. ت)، ص 137 وما بعد ها

[18] المجلسی، بحار الأنوار: 14 / 13، روایة 21.

[19] الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: 11 / 49.

[20] صحيحة ابن خالد الكابلي عن الإمام الباقر 7: وجدنا في كتاب عليّ 7 ثمّ ذکر الحديث: راجع التهذيب: 4 / 145، رواية 26.

[21] اکتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

[22] التستري، قضاء أمير المؤمنین، ص 196.

[23] المصدر نفسه، ص 61.

[24] الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 46، جهاد العدو، حدیث 22.

[25] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 / 192.

[26] القرشي، العمل وحقوق العامل، ص 327.

[27] باب الرسائل، رقم 53.

[28] ورد في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان المادّة ((17)): لكلّ شخص حقّ

التملّك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملکه تعسّفاً، ص 22 - 23.

[29] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 492 _ 493، والمجلسي في بحاره: 40 / 227.

[30] الكليني، الكافي: 5 / 42، الحدیث 2.

ص: 193

المصادر والمراجع:

1 - ابن منظور، لسان العرب ج 6، دار احیاء التراث العربي، بیروت 1996.

2 - الفيروز آبادي، مجد الدين بن محمد: القاموس المحيط، ج 2، فصل السين والشين.

3 - الحمداني، قحطان احمد: الأساس في العلوم السياسية، عمان 2004، ص 15

4 - مجاهد حورية توفيق: الفكر السياسي من افلاطون الى محمد عبده، القاهرة 2013

5 - محمد علي احمد: اصول الاجتماع السياسي، القاهرة.

6 - بن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: مقدمة بن خلدون، تحقیق درویش

الجویدی، بیروت 2009.

7. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة؛ دار احیاء التراث العربي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع القاهرة.

8. ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن بن علي)؛ الكامل في التاريخ؛ دار صادر، بیروت.

9. ابن شهر آشوب (رشيد السروي)؛ مناقب آل أبي طالب، طهران.

10. ابن عبد ربه؛ العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1953 م.

11. الاربلي (علي بن عيسر) (687)، کشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة، قم، 1346 ه.

12. الأنصاري (الشيخ مرتضی)؛ القضاء والشهادات المكتبة الفقهية، ط 1، قم، 1410.

13. التستري (محمد تقي)، قضاء أمير المؤمنين، منشورات الشريف الرضي ط 5، قم.

14. الثقفي (أبو هلال إبراهيم)، الغارات، دار الكتاب الإسلامي، ط1، قم 1990 م.

15. الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصیل مسائل الشريعة، تحقيق عبد الرحيم

ص: 194

المرباني، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

16. الحلي (المحقق) أبو القاسم نجم الدين، جعفر بن الحسن (676)، شرائع

الإسلام في مسائل الحلال والحرام، انتشارات الاستقلال، طهران.

17. الراغب الأصفهاني (520)، مفردات الفاظ القرآن، تحقيق محمد سید کلاني، ط 2، المكتبة المرتضوية.

18. الراوندي (هبة الدين سعيد بن عبد الله) (573)، فقه القرآن، سلسلة الينابيع

الفقهية، ط، طهران 1406.

19. زیدان (عبد الكريم)، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ط 1، مطبعة العاني، بغداد، 1984.

20. الصهر شتي (نظام الدين سليمان بن الحسن) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة، سلسلة الينابيع الفقهية، طهران 1406.

21. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار سویدان، بيروت.

22. الطحاوي (سليمان محمد)، السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، 1967.

23. الطوسي: شيخ الطائفة (أبو جعفر محمد بن الحسن) (460 ه) تهذیب الأحکام في شرح المقدمة، دار الكتب الإسلامية، طهران.

24. فقاهتي (ميرزا عبد الرحيم الزنجاني)، کتاب القضاء، مكتبة المرتضوي، طهران.

25. القرشي (باقر شريف)، العمل وحقوق العامل في الإسلام، دار التعارف، مصر، 1966.

26. الكليني (أبو جعفر محمد بن يعقوب)، الكافي (الروضة) المكتبة الإسلامية، قم.

27. المجلسي (محمد باقر)، بحار الأنوار الجامع لدرر الأخبار، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1983.

ص: 195

28. المفيد (محمد بن النعمان 413 ه)، الارشاد، دار التيار الجديد، دار المرتضى، لبنان.

29. الموسوي (محسن)، دولة الإمام علي، دار البيان العربي، ط 1، 1993. 30. النسائي، (أحمد بن شعیب)، سنن النسائي، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

31. النوري، مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، بيروت.

ص: 196

العلاقة بين الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر

اشارة

م.م. سند وليد سعيد

أ.د. طه حميد حسن العنبكي

ص: 197

ص: 198

مقدمة

في خضم ما تمر به الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر من تحديات جمة ألقت بظلالها القائمة على وجود امتنا ومستقبلها تبرز قضية (حقوق الإنسان) ببعديها النظري والعملي كتحد مهم وصعب ينبغي الاستجابة له، لاسيما مع محاولة تعميم النموذج الغربي المحصن بمنظومة فكرية تمتلك بعض عناصر القوة، وان احتوت على سلبيات وتناقضات كثيرة، وممارسة عملية مميزة، على الرغم من محدودیتها، فانها تنفرد بكونها الماثلة للعيان والشاخصة في الأذهان دون غيرها.

وقد سعى أمير المؤمنين) علي ابن ابي طالب عليه السلام) لرسم معالم جديدة لمفهوم الحقوق والواجبات، بداها بنفسه كحاکم اعلى للبلاد، ولذلك كانت مفاهيمه عملية بعيدا عن التنظير على الرغم من أن الكثيرين يعتبرونها بعيدة عن الواقع ولا يمكن الالتزام بها، فيما فهمها الغرب بشكل سليم فعمل بها ودعا إلى العمل بها، كما فعلت الأمم المتحدة في تقريرها السنوي للتنمية والصادر في العام 2001، عندما دعت البلاد النامية إلى التعلم من عهد الامام عليه السلام الى مالك الأشتر عندما ولاه مصر، كمنهج حقيقي وعملي يساعد في تحقيق التنمية وعلى مختلف الأصعدة السياسية والتعليمية والصحية والادارية وغيرها.

انه كان يبذل كل ما في وسعه لايضاح حقوق الناس وواجباتهم، كما انه كان يوضح حقوق الحاكم وواجباته، ولذلك فان اول ما بادر اليه الامام عند توليه الخلافة

ص: 199

وقف خطيبا ليرسم معالم الحقوق والواجبات لكلا الطرفين الحاكم والمحكوم ينطلق البحث من فرضية مفادها «ان للامام (علي بن ابي طالب عليه السلام) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق من جهة، ويمكن الاستفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر، من جهة اخرى».

فرضية البحث: ينطلق البحث من فرضية مفادها «ان للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق، وكذلك وضح حقوق الحاكم وحقوق المحكوم والعلاقة بينهما، ويمكن الاستفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر.

مناهج البحث: ان طبيعة موضوع الدراسة واحتوائه على عدة عناصر رئيسة كالتاريخ، والفقه، والسياسة، قد حددت منهجية البحث بالمنهجين التاريخي بشكل رئيس والاستفادة كذلك من المنهج المقارن كلما اقتضت الضرورة ذلك. هيكلية البحث: تقوم الهيكلية على تقسيم مضامين هذا البحث - فضلاً عن المقدمة

والخاتمة - على المباحث الآتية:

المبحث الأول: مضامين حقوق الإنسان في ظل عهد الإمام عليه السلام لمالك

الأشر...

المبحث الثاني: حقوق وواجبات الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشر...

المبحث الثالث: تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشر...

المبحث الرابع: الخاتمة

ص: 200

المبحث الأول: مضامين حقوق الإنسان في ظل عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر

ظهرت فكرة حقوق الإنسان في إعلان الاستقلال الأمريكي عام (1776)، وفيه بعض الحقوق كحق الحياة، والحرية، ومبدأ المساواة بين الناس، وان صلاحية

الدولة مستمدة من الشعب، ثم جاء بعد ذلك اعلان) الدستور الامريكي (عام) 1787 (،اذ تعدل عدة مرات مع ما يحتوي عليه من حقوق مهمة، مثل حرية العقيدة وحرمة النفس والمال والمنزل وحرية التقاضي وتحريم الرق لغاية سنة) 1789)، وفي العام نفسه) 1789(صدرت في فرنسا وثيقة حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي التي بدأت بعبارة) يولد الناس احراراً ومتساوين في الحقوق (وقد حرص الفرنسيون على هذا الاعلان وما تضمنه من حقوق، ووضعوه في مقدمة دستورهم عام) 1791)، ثم جاءت المؤسسات الدولية في القرن العشرين فاعلنت حقوق الإنسان في مواثيقه سنة) 1919 (في عصبة الامم، ثم في ميثاق الامم المتحدة سنة 1945) المادة 55 (وتم تأسيس لجنة حقوق الإنسان وعملت على صياغة حقوق الانسان، واصدرت الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في) 1948)، والذي احتل في العالم المعاصر مكانة مهمة، اذ تبنته الامم المتحدة وعدته المثل الاعلى المشترك الذي ينبغي ان تصل اليه الشعوب والامم كافة.

ص: 201

ويبدو ان الحاجة دعت الى استمرار المجتمع الدولي لتعزيز مجالات حقوق الإنسان وتجاوز الانتقادات حول الاعلان العالمي فقد صدر كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد بدأ نفاذهما عام (1976) ويضمن الاول منها الحقوق المدنية والسياسية والحرية الدينية والاجتماعات السلمية وحرية التنقل ويمنع غير الإنسانية والتوقيف والاعتقال التعسفي ويؤكد الحق في الحياة وفي محاكمة عادلة وينص على حماية مختلف الأقليات اما الثاني فيشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحق العمل والتعليم والعناية الطبية وما يرافق ذلك من فوائد اقتصادية.

کما ان هناك ايضا البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبدأ نفاذه عالم (1976)، وتتعهد الدول المنظمة الى البروتوكول بتمكين اللجنة المعنية بحقوق الإنسان من القيام على وفق احكام هذا العهد بتسلم ونظر الرسائل المقدمة من الافراد، الذين يدعون انهم ضحايا أي انتهاك لاي حق من الحقوق المقررة في العهد والبرتكول الاختياري، الذي يهدف الى الغاء عقوبة الاعدام الذي اعتمدته الجمعية العامة وبدأ نفاذه عام (1991)، فضلاً عن كثير من الصكوك الدولية في شتى المجالات.

فقد عد الإمام الحقوق الاساسية الثلاثة وهي حق الحياة، حق المساواة العادلة،

وحق الحرية، المرتكز للانطلاق نحو حقوق الإنسان الاخرى:

اولا: الحقوق الاساسية:

ان حقوق الانسان منظومة متكاملة وكل لا يتجزأ كونها تصب لصالح الإنسان، ولكن هذه الحقوق تتفاوت من حيث الاولوية والاهمية، فالمهم منها يعد اساساً

ص: 202

لغيره، فإذا فقد الاساس والاصل فقد البناء والفرع.

المحور الاول:

وعليه إلى ما يمکن عده حقوق اساسية للإنسان عند الامام علي (عليه السلام) تضمن ثلاثة مسائل الاول منها يتناول حق الحياة، اما الثاني فيتطرق إلى حق المساواة العادلة والمسالة الثالث يختص بحق الحرية:

1 - حق الحياة عند الإمام علي (عليه السلام)، قد يتبادر الى الذهن، وللوهلة الاولى، صورة الإمام الفارس وسيفه ذو الفقار ومجده العسكري الذي اسهم في تدعيم ركائز الاسلام وانتشاره كمنهج وكوسيلة لتكريم الحياة الانسانية وصيرورتها اغلى ثمنا واعلى مقاما من أي شي آخر.

2 - حق المساواة اذ شغلت فكرة المساواة والعدالة حيزاً مهماً من الجهد الفكري والعملي الذي قام به الانسان على امتداد مسيرته في هذه الحياة، ولم يكن الإمام علي(عليه السلام) بعيدا عن هذا المسعى الانساني في سبيل تحقيق وارساء حق المساواة العادلة.

اما الامام علي (عليه السلام) فانه يتعامل مع المساواة والعدالة من منطلقين:

الاول: حق المساواة الانسانية للجميع، ومن اهمها حق الحياة والكرامة، والحرية المنضبطة والتقاضي العادل واحترام الملكية وغيرها من الحقوق.

الثاني: العدالة أي وضع الشيء محله، ان معنى العدالة في نظر الإمام ان تلاحظ الحقوق الواقعية والطبيعية فيعطى لكل شخص ما يستحقه بحسب استعداده وعمله.

وهناك كثير مما يمكن ان يقال عن ايمان الإمام بالمساواة العادلة وعدها قاعدة

ص: 203

للتعامل بين مختلف فئات الناس، ومن هذا المنطلق فان مضمون المساواة العادلة عند علي بن ابي طالب له عدة ابعاد، لعل من اهمها:

الانساني،الاجتماعي، الاقتصادي، القانوني، والسياسي.

أ - البعد الانساني، ينطلق الإمام في سعية نحو المساواة العادلة من النفس البشرية فالعدالة الانسانية الفردية هي الاساس والبنية التحتية للعدالة في المجتمع

ب - البعد الاجتماعي،وبعد ان يهذب الإمام النفس البشرية، ينطلق نحو رحاب المساواة في عنوانها الاشمل المساواة في اطار المجتمعات الانسانية.

ج - البعد الاقتصادي، غير بعيد عن رفض الإمام للمساواة بين الخامل والعامل الكفؤ وبين الذكاء والابداع ونقيضهما، بل انه يقرر عدم شرعية أي مكسب مالي على حساب القوى العاملة في الامة، ناتج عن حسب أو جاه أو منصب وما الى ذلك من اعتبارات لا تفيد الا اصحابها على حساب المجتمع، بل ان ثروة الامة في نظر الإمام علي تكون لابنائها العاملين فقط، وبعد اخذ الحق العام فجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم.

د - البعد السياسي، اما البعد السياسي، فان الإمام يتوجه نحو السلطة الحاكمة، ليبين حالة التأثير والتأثر بين الامة والحاكم على محك المساواة العادلة، فيقول الإمام «جمال السياسة العدل».

3 - حق الحرية: ان الامام يؤمن ان الحرية تنبع اولاً من داخل الانسان: من وروحه فيوجه (عليه السلام) امرا او نصيحة او درسا اخلاقيا للانسان في أي مکان او زمان قائلا: «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا، وهنا يحمل الامام الانسان مسؤولية نيل الحرية والمحافظة عل يها. وكذلك نشر الوعي في ضمن

ص: 204

الامة. فحرية الانسان لاتوجد بقانون او دستور ينظمان الحرية نظريا وانما هي هبة الهية لايمتلك سلطان في الارض ان ننتزعها من الانسان الا خاطئا مواجهته ومقاومته.

ويقف الامام من اصحاب الديانات الاخرى بانفتاح اسلامي وحضاري وانساني مميز إذ يمنحهم معظم الحقوق التي للمسلمين إلا من ناحية المناصب السيادية كالحكم وتولي القضاء.

المحور الثاني: الحقوق السياسية:

الحقوق والسياسة هي الحقوق التي تنظم علاقة الانسان بالدولة، اوبالمجتمع باعتبار ان الانسان مدني واجتماعي بطبعه لذلك فان ظاهرة الحكمهي حالة انسانية وان الحقوق السياسية هي حقوق للانسان بشكل عام، وان تطلبت بعض الشروط الخاصة لممارستها، وميدان الحقوق السياسية واسع جداً، فستناول في الحقوق السياسية من حقوق الانسان عند الامام علي (عليه السلام) حق حرية الرأي والتعبير )حق المشاركة السياسية) (حق ضبط الحكام( (حق المعارضة السياسية).

1 - حرية التعبير عن الراي: من السمات الواضحة في تجربة الامام علي بن ابي طالب السياسية، هو سعيه (عليه السلام) الحثيث نحو ايجاد وتوسيع دائرة الحرية السياسية وفتح سبل التعبير سواء بحرية القول والفكر والراي ام بالعمل وتبني المواقف ازاءالاحداث السياسية. فقد كفل الامام حق اختيار الخط السياسي لكل مواطن في اصقاع دولته وشملت هذه الحرية حتى مناوئيه وفق رؤية كاتب معاصر تذهب الى اعطاء الحرية السياسية في ظل مبدأ: «دعوهم وما اختار والانفسهم». وكتب في عهده للاشتر: (والزم كل منهم) المحسن والمسيئ (ما الزم نفسه) ويشير

ص: 205

المفكر محمد حسين فضل الله إلى هذا البعد في مسيرة الامام بأنه (عليه السلام) «كان يفتح باب الحوار امام الافراد والجماعات حرصا منه على حرية المجتمع واسباب تطوره، بمعنى انه لم يعزل الحرية الفردية عن الحرية العامة في مجرى قيادته لشؤون المجتمع الاسلامي. وفي اصعب المحن التي مرت بها خلافة الامام علي ظل تمسكه المبدئي الصارم بالحرية ورفضه الحاسم للاكراه من اي نوع كان».

2 - حق المشاركة السياسية: يعد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من السباقين في منح الامة حقها في المشاركة السياسية؛ التي يمكن تعريفها بانها «أي عمل تطوعي من جانب المواطن، بهدف التأثير في اختيار السياسات العامة وادارة الشؤون العامة او اختيار القادة السياسين على أي مستوى حكومي او محلي او قومي».

وفي تعريف آخر تعد المشاركة السياسية (عملية تشمل جميع صور) اشتراك او

اسهامات المواطنين في توجيه عمل اجهزة الحكومة او اجهزة الحكم المحلي او لمباشرة القيام بالمهمات التي يتطلبها المجتمع وكان طابعها استشاريا او تقريريا او تنفيذيا او رقابيا.

ووفقاً لذلك يمكننا ان نتناول حق المشاركة السياسية للامة عند الامام علي (عليه السلام) عبر النقاط الآتية:

- السلطة للامة.

- حق الامة في اختيار حكامها.

- حق الشورى.

- الموافقة الشعبية على السياسات العامة.

- عملية الرقابة الشعبية على الحكومة وسنتناول هذه المواضيع تباعاً.

ص: 206

1 - حق ضبط الحكام: بالرغم من دعوة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) (حول حق الحرية والمشاركة السياسية، الا انه تميز باهتمام خاص بمسألة (الحاكم والحكم والتي يمكن ان نفهمها بشكل اوسع لتعني) كيان الدولة وكامل

مؤسساتها وتشمل تعبئة جهازها بالكفاءات وتطبيق شريعتها وادارة امورها

بالشكل الذي يجعلها محققة لغايات وجودها في النظام السياسي.

2 - حق المعارضة: مع ما وضعه الامام من شروط ومواصفات ومحددات عملية لمن يمسكزمام السلطة؛ خشية من عواقب انحرافها وما هياه من بيئة تترسخ فيها الحرية بشتى ابعادها ولاسيما الحرية السياسية وسبل التعبير عن الرأي الا انتجربة الامام (عليه السلام) تمتاز باقراره لحق المعارضة السياسية كجزء مهم وحيويمن حقوق الانسان، وجعلها من الواجبات الشرعية والسياسية في بعض الظروف والحالات.

المحور الثالث: الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية:

تعد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من المواضيع المهمة في منظومة حقوق الانسان كونها اسلوباً لحياة الفرد وآلية لتنظيم المجتمع مثل:

1 - حق المرآة: ان محاولة الكشف عن جوهر رؤية الاسلام للمرأة وحقوقها ضرورة انسانية واسلامية وسياسية لاسيما في الوقت الحالي، ويقينا ان كشف اللثام عن حقوق المرأة عند الامام هي جزء اساسي من الصورة الكلية لموقف الشريعة الاسلامية من المرأة.

2 - حق الاسرة: ان من اهم الحقوق الاساسية ذات الاثر في الفرد والمجتمع هو حق تكوين الاسرة، إذ عدها الامام اللبنة الاولى في البناء الحضاري للانسان، فقد

ص: 207

وضع الاسلام اساسا متينا لتكوين الاسرة القوية وشرع لها الضمانات التي تؤدي الى انجاح عملية الزواج والانجاب والتربية حتى تكون الاسرة قادرة على مواجهة عملية التنمية والتغيير

3 - حق التعلم: لقد عد الامام (عليه السلام) نيل العلم والتعليم من اهم حقوق الانسان التي يجب ان يتم السعي الحثيث لتحقيقه، ذلك ان من حق كل فرد ان يأخذ من التعليم ماينير عقله ويرقى بوجوده ويعلو من شأنه.

4 - حق العمل والتملك: يكن الامام علي (عليه السلام) للعمل المنتج الصالح احتراماً عميقاً مبينا ان الاسلام هو دعوة للعمل، ويشير الامام كذلك الى البعد الاقتصادي في تنمية مقدرات الفردو المجتمع من خلال العمل، اما التملك فقد اكد الامام المبدأ الاسلامي الذي يمكننا ايجازه بانه لا يعني ان لا يملك الانسان شيئاً وانا ان لا يملكه شيء وان المعيار الاساسي للحكم على الاشياء هو اثرها في المحصلة النهائية لمسيرة الانسان والهدف منها، ويشير الامام (عليه السلام) الى ان الملكية والنزاع عليها هي احد اسباب العداء والنزاع في المجتمع، وقد تكون الملكية ذات اثر سلبي في سلوك الفرد وفقاً لرؤية الامام،، ولكن مع هذا التشخيص لبعض سلبيات الملكية فان الامام علي (عليه السلام) لم يجعلها سببا في القدح بحق الملكية للانسان كونه هو الاساس اما الظواهر السلبية التي قد تترافق معها فهي تخص الانسان نفسه ولا تعود الى حق الملكية.

5 - حق الضمان الاجتماعي: فقد فرض الامام (عليه السلام) على الحكام والولاة والموظفين مساعدة المجتمع وافراده لتحقيق الاهداف الالهية والاخذ بيده نحو الكال والتحرر والرفاه، ومن هذه المسؤولية تنطلق كل الاسس والقرارات التي تتخذ في جميع الاصعدة والتي تصب لصالح انجاز حق الضمان الاجتماعي.

ص: 208

وتضمن حقوق الإنسان في ظل عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر التالي:

اولا: لا شرعية لحاكم يستولي على السلطة من دون تفويض من الناس او رضاهم او انتخابهم، كان يستولي عليها بالتآمر، فشرعية السلطة من رضى الناس فقط، ولا اعتبار لما يسمونه بالشرعية الثورية او شرعية التوريث او الانقلابات العسكرية، او الخلع بالقوة والقتل بالتآمر، ابدا.

ثانيا: لا سلطة مطلقة للحاكم الذي يصل الى السلطة عن طريق الانتخابات، انها محدودة، فليس من حقه ان يتصرف بالمال العام والموقع والمناصب كيف يشاء، بذريعة انه منتخب، فالسلطة مقيدة وليست مطلقة.

ثالثا: القانون فوق الجميع، فلا احد في النظام الديمقراطي محمي من القانون، بسبب قرابته من الحاكم او صداقته لعائلته او انتمائه لحزبه، ولقد قال (عليه السلام) مثبتا ذلك {وان تكونوا عندي في الحق سواء} و {الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه} بغض النظر عن اي شئ.

ولقد وصف مالك الاشتر مبدا (القانون فوق الجميع) عند الامام بقوله: انت تاخذهم، يا امير المؤمنين، بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتنصف الوضيع من الشريف، فليس لشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجت طائفة ممن معك من الحق اذ عموا به، واغتموا من الذل اذا صاروا فيه، وراوا صنائع معاوية عند اهل الغناء والشرف، فتاقت انفس الناس للدنيا، وقل من ليس للدنيا بصاحب، واكثرهم يحتوي الحق ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فان تبذل المال يا امير المؤمنين تمل اليك اعناق الرجال.

ص: 209

رابعا: الحساسية المفرطة ضد الفساد بكل اشكاله. فالحاكم - الانسان لا يعين

المسؤولين لاعتبارات فاسدة كالمحسوبية مثلا او الولاء او القرابة او ما اشبه، ابدا، وانما على اساس قيم ومبادئ حضارية هي حجر الزاوية في عملية البناء والتنمية، كالخبرة والنزاهة والامانة وغير ذلك على قاعدة (الرجل المناسب في المكان المناسب) ولذلك فقد اوصى الامام علي عليه السلام مالكا الاشتر في عهده اليه عندما ولاه مصر، بقوله {ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة واثرة، فانهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم اهل التجربة والحياء} فالامام يعتبر التعيين على اساس المبادئ الفاسدة خيانة للامة، لان من يتبوأ موقع المسؤولية وهو

غير صالح له سيفشل في اداء المهام الموكولة اليه، عجزا وتقصيرا وليس قصورا، ما يؤدي الى ضياع حقوق الناس وهدر طاقات البلد والوقت المصروف على ما فشل في تحقيقه، وكل ذلك خيانة في خيانة.

من اجل ذلك وصف الامام محمد الباقر عليه السلام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {انه ولي خلافته خمس سنين، وما وضع أجرة على أجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا أقطع قطيعا ولا أورث بيضاء ولا حمراء}.

خامسا: الرقابة الشعبية كذلك مكفولة، بل ان الحاكم يشجع عليها ويحث الناس على ممارستها، لان الحاكم وكيلهم ومن حقهم ان يراقبوه ويحاسبوه على كل شاردة وواردة.

ومن الممكن ان تنتهي الرقابة الشعبية الى اسقاط الحاكم اذا لم يلتزم بما الزم به نفسه، فعندما بعث الامام علي عليه السلام قيس بن سعد واليا على مصر في بداية عهده بالخلافة، علمه هذا المعنى في كتابه الذي حمله معه الى اهل مصر، وعندما وصل قيس مقصده قام خطيبا، ومن بين ما قال: فقوموا ايها الناس فبايعوا على كتاب الله

ص: 210

عز وجل وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان نحن لم نعمل لكم بذلك، فلا بيعة لنا عليكم.

فالبيعة تسقط اذا فشل الحاكم في تحقيق اهداف الناس، كما انها تسقط عن اعناق الرعية اذا انحرف الحاكم عن برنامجه الانتخابي، ولا يتأتى ذلك للناس، اسقاط الحاكم الشرعي، الا بالرقابة والمحاسبة والحضور الدائم في الشان العام، ولذلك كفل الامام كل ذلك للناس ليمكنهم من ممارسة حق اسقاط الحاكم الشرعي اذا ما انتفت ضرورات وشروط البيعة السليمة، اما ان يكتفي الحاكم المنتخب بالبيعة الاولية ليفعل ما يشاء وانى وكيف يشاء، من دون رقابة من الامة، فهذا ليس من الديمقراطية بشئ ابدا.

ولتحقيق هذا المبدا، يعمد الحاكم - الانسان الى ازالة كل الحواجز النفسية وكسر كل الموانع المادية التي ترهب الناس وترعبهم فتحول بينهم وبين ممارسة هذا الحق، الرقابة الشعبية، ولطالما سمع الناس الامام يقول {فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل}.

سادسا: الحقوق والواجبات مكفولة للمواطن على اساس المواطنة وليس على

اساس الدين او المذهب او القومية، فالفرص والامن والشان العام مكفول للجميع بلا استثناء او تمييز.

ففي اول خطاب عام له بعد البيعة كخليفة، خاطب الامة بقوله {ايها الناس}

ص: 211

للتعبير عن ان كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بلا تمييز على اي اساس جاهلي، فالمواطنة بالانتماء للوطن فحسب وليس لاي شئ آخر، ولذلك عمم الامام خطاب الحقوق لكل الناس بقوله {ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين أمركم}.

والملفت للنظر في خطاب الحقوق هذا، هو ان الامام حدد واجبات الحاكم وحقوق الرعية قبل ان يحدد واجبات الرعية وحقوق الحاكم، وهو تقديم وتاخير له مدلوله العظيم، الا وهو انه لا يحق للحاكم ان يطالب الرعية بواجباتها الا بعد ان

يمنحها حقوقها كاملة غير منقوصة، فلا واجبات قبل الحقوق، ولا حقوق للحاكم

قبل ان يلتزم بواجباته.

انها اشارة رائعة لحقيقة في غاية الاهمية، الا وهي ان شرعية الحاكم تسقط اذا لم يصن حقوق الرعية، وان حقوقه على الرعية تسقط اذا فشل في صيانة حقوقها اولا وقبل ذلك.

يقول الامام عليه السلام {ولا أؤخر لكم حقا عن محله، ولا اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواء، فاذا فعلت ذلك وجبت الله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، والا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات الى الحق}.

سابعا: حق المواطن في الحصول على المعلومة، ولا يحق للحاكم حجبها عنه الا في حرب، قول الامام (عليه السلام) مخاطبا الناس تحت سلطته {الا وان لكم عندي الا

ص: 212

احتجز دونكم سرا الا في حرب}.

وسعى عليه السلام الى ان يثبت هذا الحق في اول خطبة عامة كان قد حدد فيها الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية بقوله {وتعليمكم كيلا تجهلوا} ومن المعروف فان من ابرز اسباب الجهل هو اخفاء المعلومة واحتكارها، الامر الذي حذر منه الامام في هذه الخطبة وفي خطب اخرى كثيرة.

ثامنا: حرية المعارضة مكفولة سواء في القول، حرية التعبير، او في الفعل، کالاعتصام او التظاهر وغيرها من طرق التعبير عن المعارضة بالطرق السلمية، فليس للحاكم ان يمنع المعارضة او يقمعها ابدا، ولذلك، فعندما تناهي الى مسامع الامام خبر خروج (طلحة والزبير وعائشة) الى البصرة لقيادة المعارضة ضده، قال {وساصبر و ما لم اخف على جماعتكم، واكف ان كفوا، واقتصر على ما بلغني عنهم}

ص: 213

المبحث الثاني: حقوق وواجبات الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر.

عندما نتحدث عن واجبات الحاكم، فهذا يعني اننا نتحدث عن حقوق الرعية تجاه الحاكم. وعندما نتحدث عن واجبات الرعية، فهذا يعني اننا نتحدث عن حقوق الحاكم تجاه رعيته. فالحقوق والواجبات ليسا في النهاية الا وجهان لعملة واحدة.

أولاً - واجبات الحاكم:

1. الشفافية والوضوح مع الرعية: من واجبات الحاكم مع رعيته ان يكون واضحا معهم، صريحا، يتسم خطابه بشفافية وصدق. فلا يعقد الصفقات والتسويات خلف ظهورهم، لا يكتم عليهم سرا الا في الضرورات القصوى. المطلوب من الحاكم ان تكون خطواته وقرارته مبررة وواضحة، وبمقدور الرعية تفهمها بدون غموض او لبس. يقول تعالى: «قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني».

يقول علي (عليه السلام) في خطبة له: «الا وان لكم عندي الا احتجز دونكم سرا الا في حرب، ولا اطوي دونكم امرا الا في حكم، ولا اؤخر لكم حقا عن محله، ولا اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواء. فاذا فعلت ذلك وجبت الله عليكم النعمة، ولى عليكم الطاعة».

ص: 214

2. عدم الاحتجاب عن الرعية: تواصل الحاكم الدائم مع الناس ليس امرا مطلوبا في الاسلام فحسب، وانما هو من الضرورات التي يتعين على الحاكم الالتزام بها. والا فالمجتمع مشرف على خطرين:

اولهما: عدم وضوح ما يحدث في مؤسسة الحكم عند اذهان الناس، ونتيجة ذلك ان يصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل.

ثانيهما: عدم وضوح ما يحدث بين عامة الناس في ذهن الحاكم، وفي النتيجة سيفقد بالتدريج ملاحقة المجتمع، وستداهمه الاحداث، وتفاجئه المستجدات، وستظهر فجوة تتسع مع الايام، وقد لا يسعفه المستقبل على جبرانها.

لذا نجد امير المؤمنين يوصي مالك الاشتر بان لا يقع في خطا الاحتجاب عن الرعية، فيقول له: «واما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالامور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن: ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وانما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب».

3. طلب المشورة: من الامور الملفتة في الاسلام اهمية طلب المشورة، في الامور الخاصة، فضلا عن العامة، فقد ورد في الحديث «من شاور الناس شاركهم في عقولهم». وحينما مدح القرآن المؤمنين، نجده يذكر صفة الشورى باعتبار انهم يتصفون بها، فيقول تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». ومن واجبات الحاكم الاسلامي ان يستشير رعيته، فقراراته لا تخصه وحده فقط، وانما ينعكس تاثيرها

ص: 215

على عامة الناس، فلابد ان يستانس بآرائهم. وان كان الرسول (صلى الله عليه وآله) مامورا من قبل الله سبحانه باستشارة المسلمين، فالحاكم الاسلامي اولى بذلك.

ووجوب الاستشارة لا تعني وجوب العمل بها بالضرورة، لان الحاكم قد يرى ما لا يراه العامة. وانما يعني هذا الوجوب ان للعامة دور في صنع القرار، وفي بلورة الصورة واتضاحها لدى الحاكم، وعندئذ - وبعد المشورة - اذا عزم على امر فليتوكل على الله، وان لم يوافق راي بعضهم، يقول تعالى: «وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله». ومع ذلك فالحاكم مامور بمراعاة راي الاكثرية مهما امكن، وان ادى ذلك إلى تذمر الاقلية. يقول علي (عليه السلام) في عهده للاشتر: «وليكن احب الامور إليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة».

4. الزهد في المعيشة: زهد الحاكم في المعيشة، وبساطته في الماكل والمشرب والملبس والمسكن، ليس امرا محببا في الاسلام فقط، بل يمكن اعتباره واجبا شرعيا يتعين على الحاكم الالتزام به. فلا يمكن في النظرية الاسلامية ان يعيش الحاكم حياة مرفهة مترفة تسمو على حياة عامة الرعية، لان الفقير حينما يقارن حياة الحاكم المترفة بحياته، سوف يشتد احساسه بالفقر، بخلاف ما لو رآه يعيش حياة بسيطة، بمستوى يقترب من بساطة عيشه هو، ففي هذه الحالة سوف تزداد مقاومة وصبر هذا الفقير على فقره وجشوبة عيشه، يقول علي (عليه السلام): «ان الله تعالى فرض على ائمة العدل ان يقدروا انفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره».

ص: 216

5. حفظ الامن: والمقصود بحفظ الامن الاستعداد الدائم والجهوزية المستمرة لقتال العدو الخارجي والداخلي، يقول علي (عليه السلام): «لابد للناس من امير برا كان او فاجرا، يعمل في امرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفي ء، ويقاتل به العدو، وتامن السبل»، ويقول ايضا: «اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شي ء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيا من المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك».

6. التربية والتعليم: ان على الحاكم ان يرسم خطة تربوية، يقوم هو بتنفيذ جزء منها خلال النصيحة والارشاد والموعظة، وباقي اجزائها تنفذها الاجهزة المختلفة التابعة له، وهناك فرق واضح بين التربية والتعليم، فالتربية تعني توفير الاجواء المناسبة لنمو الملكات الروحية والعقلية التي تزيد من انسانية الانسان، والتعليم يعني محو الامية والجهل، وبناء المؤسسات المعنية بتثقيف الرعية. ومن واجب الحاكم على رعيته الا يبخل عليهم بالنصائح التربوية، التي تربط الانسان بالله، وتذكره بانه مجرد عابر سبيل في هذه الحياة. كما ان من واجب الحاكم العمل على محو حالة الجهل والتخلف.

يقول علي (عليه السلام): «انه ليس على الامام الا ما حمل من امر ربه: الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة»، ويقول ايضا: «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق: فاما حقكم علي فالنصحية لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتاديبكم كيما تعلموا».

7. اقامة الفرائض: وهذا البند لا ينفصل عن خطة الحاكم التربوية، فمن واجبات الحاكم الاهتمام بالفرائض، واقامتها، من قبيل صلاة الجماعة يوميا، وصلاة

ص: 217

الجمعة اسبوعيا، وصلاة العيدين في موسمها...الخ. واهمية اقامة الفرائض واضحة، فهي الوسيلة المثلى والفرصة الثمينة التي تمكن الحاكم من الاتصال بالناس؛ فيسمع شكاواهم، ويتعرف على مشاكلهم، ويستفيد من هذه المنابر في ممارسة الوعظ والارشاد والنصيحة، وان اقيمت الفرائض كما ينبغي لها ان تقام، فان معالم الدين ستصبح بالضرورة واضحة، وآثار العملية الاصلاحية ظاهرة.

يقول تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ». ويقول امير المؤمنين في هذا الشان: «اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شي ء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلاد».

8. العمل علي احياء السنة واماتة البدعة: وهذا الواجب لا يمكن القيام به الا من خلال نشر ثقافة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العادات والتقاليد، التي تنسجم مع القيم الاسلامية، وترسخها في المجتمع، على اساس ان احياء السنة واماتة البدعة احد اهم حقوق الرعية - في المجتمع الاسلامي

تجاه حاکمه.

واذا جاء الحاكم فراى ان الرعية قائمة على سنة حسنة، فمن واجبه القيام بالترتيبات اللازمة للمحافظة على تلك السنة، وعدم تغييرها. والا فسيتحمل هو وزر تركها، بوصفه مميتا لسنة حسنة، يقول علي (عليه السلام) في عهده للاشتر: «ولا تنقضن سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشي ء من ماضي تلك السنن، فيكون الاجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها».

ص: 218

9. منع الظلم واحقاق حقوق الضعفاء واعمال الشدة مع الظالمين والمنافقين، والقضاء بالعدل واقامة حدود الله، من ضروريات الاسلام حرمة اعانة الظالم، ووجوب نصرة المظلوم ما امكن، وتشتد الحرمة، ويعظم الوجوب على الحاكم العالم؛ فمن المعلوم ان الحاكم اذا اعان الطغاة والظالمين والاقوياء، وخذل المستضعفين والمظلومين، لن يستقر حجر على حجر، فتضيع المعايير والمقاييس، وتختلط الامور على العوام، ولن يعني هذا في النهاية الا اماتة الدين،

وفي الخطبة يقول الامام علي (عليه السلام): «وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم»، ويقول: «لابد للناس من امير برا كان او فاجرا، يعمل في امرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفي ويقاتل به العدو، وتامن السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر»، ويقول: «انه ليس على الامام الا ما حمل من امر ربه: الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والاحياء للسنة، واقامة الحدود على مستحقيها».

10. الحفاظ على الاموال العامة (بيت المال): الحفاظ على اموال الناس، وحرمة اكلها بالباطل من الواجبات الاسلامية الخطيرة. ويتاكد هذا الوجوب على الحاكم، فمن ناحية، لا يجيز له الشارع ادخارها لمصلحة، مع مسيس حاجة الافراد إليها، ومن ناحية اخرى، لا يجيز له التصرف بها الا في مواردها ومصارفها المقررة لها، يقول تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»، ويقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا».

ص: 219

11. جباية الفيء والصدقات وتوزيعها على مستحقيها: يقول الامام علي: «ايها الناس، ان لي عليكم حقا ولكم علي حق: فاما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم».، يقول ايضا: «انه ليس على الامام الا ما حمل من امر ربه: الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والاحياء للسنة، واقامة الحدود على مستحقيها، واصدار السهان على اهلها»

12. التمييز بين الاخيار والاشرار: يقول تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ»، ويقول تعالى: «أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ».

وفي عهده لمالك الاشتر يقول: «ولا يكونن المحسن والمسي ء عندك بمنزلة سواء، فان في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لاهل الاساءة علي الاساءة».

13. اعمال الرفق في غير ترك الحق، فيكون للرعية كالوالد الرحيم: يقول الله سبحانه وتعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ».

ويقول تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ». وامير المؤمنين في عهده لمالك الاشتر يقول: «...واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم..». اما بالنسبة الى مسألة الشروط التي يجب ان يتمتع بها من يشغل هذا المنصب > فلها اهمية عند الامام، بل ان النظر إلى هذه الشروط المفترة - فضلاً

عن كونها مؤهلات ومتطلبات لقيادة امة صاحبة رسالة انسانية عالمية - فانها حق

ص: 220

للامة أن لا يحكمها إلا اشخاص يمتلكون هذه المؤهلات. وهذه ميزة اخرى تضاف لصالح منهج الامام في مجال حقوق الانسان، الا وهو اهتمامه بمن يحكم كأساس المعرفة كيفية الحكم، ويمكن اجمال أهم الشروط او المؤهلات التي طالب الامام ان يتمتع بها الحاكم المسلم بالاتي:

1 - معرفة الاسلام وحسن تطبيقة: ان اول شروط القيادة في الاسلام - على وفق رؤية الامام - هو معرفة الاسلام بالمفهوم الدقيق للكلمة واستيعاب اصوله ومبادئه واحكامه في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية المختلفة.

2 - العدالة: كشرط اساسي للحاكم عند الإمام (عليه السلام) الذي كان مدركاً

لمخاطر الحكم ومسؤولياته الكبرى لذلك كان متشدداً في تحديد مواصفات الوالي

العادل وهي مواصفات نظرية وعملية حقيقية.

3 - الوعي السياسي: ان من اهم الصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم هو الفهم الدقيق للمسائل وحسن التشخيص وسرعة الادراك ودقة النظر في جميع الامور التيتحتاج إلى تدبير وحسن سياسة.

4 - الصفات الشخصية للحاکم: وهي مجموعة من الصفات التي طالب الامام ان يتصف بها كل من يقود المجتمع او يطمح لقيادته، ولعل اهم الصفات الشخصية التي اشترطها الامام، تتجسد في أن يكون الحاكم من اسخى الناس، اما الشرط الثاني للحاکم فقد طالب الامام ان يكون من اشجع الناس، ويتطرق الامام إلى مسألة الصبر وكظم الغيض كسمة ضرورية للحاکم، وانتقد الامام حالة الكبر والغرور التي تميز اغلب الحكام واصحاب النفوذ.

ص: 221

ثانیاً - واجبات المحکوم:

1. الوفاء بالبیعة: یعنی اطاعة الحاکم، واجابة دعوته، وعدم تضعیفه بقول او عمل،

وعدم البغي عليه. فطالما ان الحاكم شرعي، جامع للشرائط، ملتزم بواجباته، فعلى المحكوم الا يخذله، ولا يتركه وحيدا في الازمات. فقوة الحاكم وقدرته على القيام بالامر، منوط بالتفاف الناس حوله، ودعمهم له. والا فسيكون مصداقا لكلمة امير المؤمنين: «لا راي لمن لا يطاع»(43).

ويقول الامام علي (عليه السلام): «الا وان لكم عندي الا احتجز دونكم سرا الا في حرب... فاذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة، ولى عليكم الطاعة، والا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات إلى الحق، فان انتم لم تستقيموا لي على ذلك، لم يكن احد اهون علي ممن اعوج منکم، ثم اعظم له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من امرائكم، واعطوا من انفسكم ما يصلح الله به امرکم، والسلام»، ويقول ايضا: «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق... واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوکم، والطاعة حين آمركم»(44).

2. النصيحة: من حق الحاكم على المحكوم الا يتردد الاخير في اسداء النصيحة، والتذكير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فالحاكم مهما بلغ بعلمه وتقواه، يبقى في النهاية بحاجة إلى ملاحظات الناقدين، ونصيحة الناصحين. واذا ما تقاعس المحكومون عن القيام بدور الناصح، فلن يسوغ لهم حينئذ اتهام الحاكم بالتفرد بالراي، الا اذا كان الحاكم نفسه يرفض القيام بهذا الدور، تصريحا او تلويحا.، على الحاكم نفسه ان يذكر الرعية بانه على استعداد دائم لقبول نصيحة الناصحين، ونقد

ص: 222

الناقدین، بصدر رحب، ودون اي تبرم او ضيق. ليشجع بذلك حالة النقد البناء، حتى يظل المجتمع حيا، يشترك الجميع في صنع قراراته، ويشترك الجميع في رسم مسيرته(45).

يقول تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(46). ويقول علي (عليه السلام): «ايها الناس، ان لي عليكم حقا، ولكم علي حق... واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والاجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم» (47).

بل ان عليا يامر الاشتر لما عهد اليه ولاية مصر ان يقرب اليه اكثر الرعية صراحة ووضوحا، وان كان صدقه مؤلما له، يقول: «ثم لیکن آثرهم عندك، اقولهم بمر الحق لك»، ويقول: «فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس احد - وان اشتد على رضا الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما الله سبحانه اهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على اقامة الحق بينهم. وليس امرؤ - وان عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - بفوق ان یعان على ما حمله الله من حقه. ولا امرؤ - وان صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون ان يعين على ذلك او یعان عليه»(48).

اما الحق الاهم الذي دعا اليه الامام فهو (حق الطاعة) فقد اولى الامام (عليه السلام) هذا الحق اهمية كبيرة حيث يقول: «الطاعة تعظيماً للامامة»، ولكنه (عليه السلام) في الوقت نفسه، وضع عدة محددات وضوابط حول متى وكيفية الطاعة المطلوبة من الامة ازاء حكامها، لعل من اهمها ما يأتي(49):

ص: 223

1. ان تحقق الطاعة مرضاة الله تعالى وتنسجم مع احكام الشريعة الاسلامية إذا

يقول»ع): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ويؤكد الامام هذه المبدأ بقوله (عليه السلام): «لا يسخط الله برضا احد من خلقه، فان في الله خلفا من غيره وليس من الله خلف في غيره».

وعندما تولى الإمام (عليه السلام) سدة الحكم كان وفياً لهذا المبدأ وحريصاً على تنبيه الجماهير له إذ كان يحدد حق الطاعة لولاته قائلاً للرعية): «فاسمعوا له واطيعوا امره فيما طابق الحق» بل انه يضع تحت طائلة مبدأ الطاعة بالمعروف الحاكم نفسه حيث يقول (عليه السلام): «الا واني لست نبياً ولا يوحى الي ولكني اعمل بكتاب الله ما استطعت، فما امرتكم به من طاعة الله فحق علیکم طاعتي فيما احببتم وفيما كرهتم وما امرتكم به او غيري من معصية الله فلا طاعة في المعصية الطاعة في المعروف الطاعة في المعروف الطاعة في المعروف».

ويرفض الامام سلوك بعضهم في الطاعة المطلقة لولاة الامر وما يرتبط بهذا النمط من السلوك إذ يصفهم (عليه السلام) «يلتمسون الحق بالباطل ويطيعون المخلوق في معصية الخالق». ولتأكيد هذا المبدأ ينقل الامام عن الرسول قوله: «يا علي اربعة من قواصم الظهر» ويعدد هذه الاربعة التي من بينها «امام يعصي الله ويطاع امره...»، وهذا الموقف والتحديد للطاعة سيكون له اثر مهم في رؤية الامام لحق المعارضةً.

2. ان حق الطاعة الذي طالب به الامام للسلطة الحاكمة على شقين الاول منهما امر الحاكم في عدم استغلال هذا الحق الا فيما وافق الحق إذ يقول (عليه السلام) «لا تقولن اني مؤتمر امر فاطاع فان ذلك ادغال في القلب ومنهكة للدين وتقريب من الغير»، اما الثاني فهو: من يجب ان تطيع فان الامام قال: «الحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم والقوا

ص: 224

الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله على ما صنع بهم مكابرة لقضائه ومغالبة لالآئه فانهم قواعد اسس العصبية ودعائم ارکان الفتنة وسيوف اغتراء الجاهلية». ويحذر الامام بشدة من توظيف البعد الالهي لصالح السلطة السياسية اذ قال

(عليه السلام): (احذروا على دينكم ثلاثة) احدهم (رجلاً اتاه الله سلطاناً فزعم ان طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ).

3. ويقصر الامام لطاعة بشرط الامكانية إذ قال (عليه السلام): (لا تعذبوا خلق الله

ولا تكلفوهم فوق طاقتهم).

ص: 225

المبحث الثالث: تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر

العلاقة بين الحاكم والمحكوم لها تاريخ حافل بالمتناقضات والمتجانسات، وبالاستقرار والاضطرابات، بحسبانها تقوم على فلسفة الأمة وثقافتها تارة، وعلى فلسفة الحاكم وطبيعته تارة أخري.

لقد مر على بعض الأمم فترات كان الحاكم فيها له السلطة المطلقة التي تجعله يتظاهر بأنه إله، أو يدعي الربوبية.

قال تعالى في كتابه الكريم «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(50).

«اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ٭ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ٭ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ٭ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ٭ فَكَذَّبَ وَعَصَى ٭ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ٭ فَحَشَرَ فَنَادَى ٭ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ٭ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى»(51).

وإذا ما انتقلنا إلى أوربا (العصور الوسطى) وجدنا أن نظريات غريبة استحکمت في عقول الحكام والمحكومين، مثل نظرية الحلق الإلهي، التي ترى أن الحاكم له سلطة

ص: 226

مطلقة مستمدة من الله تعالى، يمارسها بحسب رغبته، وليس لأحد الاعتراض على شيء من تصرفاته، على اعتبار أن الله اختاره واصطفاه ليسوق الناس بعصاه، وقريب من هذه النظرية نظرية التفويض الإلهي، التي تمنح الحاكم قداسة، وتعطيه سلطة يتصرف باسم الدين، أو (الكنيسة) لا يجوز لأحد الاعتراض على شيء من تصرفاته (52).

وفي القرن السادس عشر الميلادي ظهرت (الماكيافيلية) المنسوبة إلى نيكولا ماکیادفيلي (الإيطالي) الذي قدم نصائحه للأمير بأن يعتمد على القوة والخداع، بحجة أن الغاية تبرر الوسيلة، ولاسيما أننا نجد في المقابل فترات تاريخية تخللها موجات من الفوضى والاضطرابات والمنازعات بين الشعوب والقبائل، لا تعرف قيادة موحدة، أو دولة ذات سيادة، وكان للعرب في الجاهلية نصيب من ذلك، فلما جاء الإسلام بنظمه المتكاملة، والشاملة لكل شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، كان للجانب السياسي حظ وفير من التنظيم والتشريع (53).

اولا: الأساس الشرعي والنظامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم:

1- الأساس الشرعي:

لم يكن تأسيس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الفكر الإسلامي ناشئة من فراغ أو صادرا من بنيات أفكار العلماء، أو من محض الاجتهاد، بل جاءت بذلك التشريعات السماوية التي نزلت على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة. بل إن النصوص المتعلقة بالموضوع كثيرة جدا يصعب على المتتبع حصرها، وبخاصة في السنة النبوية، والآثار الواردة عن علماء الملة(54).

ص: 227

وهنا نثبت بعضًا من تلك النصوص:

أ: من القرآن الكريم :

1 - قول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ٭ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً»(55).

ففي الآية الثانية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» خطاب للرعية. وقد اختلفت في المراد بأولي الأمر في الآية، فقيل الأمراء وقيل: العلماء، وقيل الأمراء والعلماء: ورجح كثير من أهل العلم القول الأخير. کابن کثیر والشوكاني، وأما قوله تعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ».

وجملة ما تضمنته الآيتان الكريمتان: إلزام الولاة والرعية بأداء الأمانات كلها، وعلى الحكام أن يحكموا بالعدل، ثم واجب على الرعية أن يطيعوا الحكام في طاعة الله، فإذن حصل بينهم نزاع فمرجعه کتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله و سلم.

2 - قال سبحانه: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(56)، وفي ذلك ربط للراعي والرعية بالمصادر الشرعية المعتبرة.

3 - قال سبحانه في صفات المؤمنين الصادقين: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۞ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا

ص: 228

الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (57).

وقال مثنيًا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم-: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (58)، ففي هذه الآيات تشريع لمبدأ سياسي عظيم، هو الشورى.

يقول ابن عطية مفسرًا الآية من سورة آل عمران: «أمر الله تعالى رسوله هذه الأوامر التي هي بتدریج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور، والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب (59).

ب: من السنة النبوية:

1- دخل عائذ بن عمرو - وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على عبيد الله بن زیاد فقال له: أي بني، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: (إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم، فقال له: اجلسي، فإنما أنت نخالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم-، فقال: وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم) (60).

2 - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: (أن أطاعني فقد أطاع

الله ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني) (61).

ص: 229

3 - عن عوف بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((خیار

أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون علیکم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قیل: یا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاکرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة) (62).

ثانيا: الأساس النظامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم:

ربما يتساءل البعض الأساس النظامي للعلاقة بين الحاكم والمحكومين في هذه البلاد على وجه الخصوص، بحسبانها نموذجا من النماذج المتميزة في العصر الحاضر في مجال التنظيم والتقنين.

وهذه بعض المواد المنظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم (63):

أ - يبايع المواطنون الملك على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى السمع الطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره.

ب - الدفاع عن العقيدة الإسلامية والمجتمع والوطن واجب على كل مواطن، ويبين

النظام الخدمة العسكرية.

ج - مجلس الملك ومجلس ولي العهد مفتوحان لكل مواطن ولكل من له شكوى أو

مظلمة.

د - حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمقيمين بالمملكة، ويبين النظام الإجراءات اللازمة لذلك.

ه - يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقا لأحكام الإسلام، ويشرف على

تطبيق الشريعة الإسلامية والأنظمة، والسياسة العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع.

ص: 230

ثالثا: القواعد التي تبني عليها العلاقة بين الحاكم والمحكوم:

ليست العلاقة بين الحاكم والمحكوم معلقة في هواء أو فراغ أو أنها بنيت على أرض رخوة، بل هي مؤسسة على قواعد متينة، بناها الشارع الحكيم وفرضها من خلال الوحي المطهر، ومن يتأمل نصوص وقواعد الشريعة العامة يمكن أن يخرج بالقواعد الآتية (64):

1- التزام العبودية لله تعالى:

فالناس كلهم، على اختلاف أشكالهم وأجناسهم وطبقاتهم ومسؤولياتهم مطالبون بعبادة الله تعالي، والخضوع لأمره وحكمه، مثلما كانوا خاضعين وتقديره وملكه.

2- المساواة العامة بينهما في:

أ - القيمة الإنسانية: قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (65).

ب - المساواة في التكاليف الشرعية والمسؤولية والجزاء والقضاء أي أن كل إنسان بالغ عاقل فهو مكلف بالحكم الشرعي، منذ بلوغه حتى يأتيه اليقين، فلا تسقط عنه التكاليف مهما بلغت به السن أو النسب، أو الجاه والمال، أو الرتب الدينية والدنيوية، لا فوق بين شريف ووضيع وحر وعبد، وذكر وأنثى، وأمير ومأمور (66).

وقد رد الله سبحانه على كل من يحاول أن يتخلى عن مسؤولية التكاليف ردًا بليغًا، قال سبحانه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ» (67).

ص: 231

3- القيم الخُلقية العامة:

تبني العلاقة بين الحاكم والمحكوم على قيم عليا. ومن أهم هذه القيم (68):

أ - العدل: وهو قيمة جليلة تحكم العلاقة بين الناس كافة، سواء بين الأفراد والدولة، أو بين الأفراد بعضهم مع بعضهم، منع المسلمين وغير المسلمين.

«والعدل - كما يقول الطرطوشي - میزان الله تعالى في الأرض، الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل، وليس موضع الميزان بين الرعية فقط، بل بين السلطان والرعية».

ب - النصح، أو النصيحة: ومن النصح الصدق والمصارحة والمكاشفة بين الحكام

والمحكومين، جاء في بعض الحكم: الكذب عدو الصدق، والجور مفسد للملك، فإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا أظهر الجور فسد سلطانه». وأبلغ من ذلك ما جاء في الحديث الشريف (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شیخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).

ج - الرفق واللطف: وهو خلق رفيع لا يستغني عنه مسلم، أيا كان مقامه، معلما کان،

أو داعيا، أو مسؤولا أو غير ذلك. والمقصود بالرفق، معالجة كل قضية بما يناسبها بأسهل الطرق وأيسرها، وليس يقصد من ذلك التلاين في مواقف الحزم والشدة.

4 - المبادئ الدستورية: ويقصد بها القواعد السياسية التي ينهض بها الحكم، بل

التي لا ينهض إلا بتحقيقها، وقد يختلف مفكرو السياسة وأربابها في تعداد هذه القواعد، وفي المصطلحات الخاصة بها والذي أراه أن أهم القواعد التي يقوم عليها الحكم، وتقوم عليها العلاقة بين الحكم والمحكوم هي (البيعة، الشوری، الطاعة، المسؤولية) (69).

ص: 232

الخاتمة:

يتضح من خلال الدراسة أنّ الإسلام جاء بمبادئ عامة تحكم التنظيم السياسي في كل زمان ومكان، مثل مبادئ العدل والمساواة، والشورى وضمان الحريات، وحقوق الانسان، وعلاقة الحاكم والمحكوم، ومسؤولية الحكام وتقييد سلطاتهم بتعزيز إرادة الأمة. وهذه المبادئ أقرتها النصوص القرآنية وما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام من أحاديث وأفعال،، کما دعا اليها وجسدها الامام علي (عليه السلام)، وتلك المبادئ بطبيعتها العامة صالحة لكل زمان ومكان وتتخذ صورًا مختلفة في التطبيق.

ويمكننا تسجيل جملة من الاستنتاجات منها:

أولاً: أنها ربانية. أي أن أساس تشريعها من لدن العزيز الحكيم، وآية ذلك ما قدمناه

من نصوص تشريعية كثيرة ذات صلة بالموضوع.

ثانيًا: أنها جزء من العبادة. فالمسلم وهو يتعامل مع السلطة الشرعية إنما يؤدي عبادة من العبادات، سواء في نصحه لأئمة المسلمين، أو في تنفيذه لأوامرهم وتعليماتهم، أو في توجيههم والأخذ بأيديهم إلى شاطئ السلامة.

كما أن الحاكم وهو يتعامل مع رعيته، فإنه يؤدي عبادة من أعظم العبادات، سواء في جلب المصالح لهم، أو درء المفاسد عنهم، وسواء في نصرة المظلوم والضعيف، أو في قهر الظالم والمعتدي، بل في كل تصرف يتصرفونه لمصلحة الرعية فهو عبادة محضة، ولذا يقول العز بن عبد السلام: «أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل

ص: 233

الطباعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجرا وأجل قدرا من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل».

ثالثًا: أنها علاقة تقوم على الاحترام المتبادل بين الحاكم والمحكوم، لأن كلأ منهما عرف ماله من حقوق، وما عليه من واجبات. وكل منهما يشعر أن الطرف لآخر أهل للاحترام والتقدير، لأنه يشاركه في المسؤولية، ويقوم بجزء منه، ولا يتأتى ذلك الأمر إلا بالتواضع.

رابعًا: أنها تقوم على الثقة بين الطرفين فكل منهما يأمن جانب الآخر، ولا يخشى منه غدراً أو ظلمًا أو تجاوزًا للحدود المشروعة والمنظمة. ولذلك لا يكون لسوء الظن أو تبادل الاتهام مجال، حيث إن كلأ منهما أعطى للآخر ثمرة فؤاده. والإسلام حسم كل أسباب الشحناء والبغضاء.

خامسًا: أن العلاقة بينهما مبنية على الأخوة الإسلامية، التي هي أقوى الروابط وأجلها، قلل الحق تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» [الحجرات: 10 ] وقال تعالى: «َاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» [آل عمران: 103].

سادسًا: الاعتدال والتوازن في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فلا إفراط ولا تفريط، ولا شطط.

سابعًا: أنها علاقة قائمة على نظرية (المساواة)، «فلا قيود ولا استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد، ومساواة تامة بين الجماعات، ومساواة تامة بين الأجناس، ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين، ومساواة تامة بين الرؤساء والمرؤوسين، لا فضل لرجل على رجل، ولا لأبيض على أسود، ولا لعربي على

ص: 234

أعجمي، وذلك قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» [الحجرات: 13].

عبر ما تطرقنا اليه سابقاً يمكننا التوصل إلى جملة من الاستنتاجات:

1. اتضح بكل جلاء أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعد تجسيداً حياً

للشريعة الإسلامية برافديها القران الكريم والسنة النبوية مضافاً إليهما ابداع الانسان المتميز في تطبيق النص على أرض الواقع ولاسيما في مجال حقوق الانسان حيث شملت رؤيته مساحة واسعة من تلك الحقوق دعا اليها وجسدها في ميدان التطبيق العملي.

2. تعد الحياة قيمة عليا في الرؤية العلوية ينبغي ان تصان عبر زيادة الوعي بخطورة

سلبها من الانسان وعظم هذه الجريمة وانعكاسها السلبي في الدنيا والآخرة من جهة وفرض العقوبة العادلة على منتهك حق الآخرين في الحياة من جهة أخرى، إلا أن احترم حياة الانسان لا يلغي تشريع القصاص العادل الذي قد يصل الى القتل إذا ما أقدم الفرد على هدم وجود الإنسان.

3. دعا الامام علي (عليه السلام) إلى أن ينعم الانسان بحق المساواة العادلة في ابعاده كافة سواء البعد الإنساني، أو الأجتماعي، او الاقتصادي، او السياسي، او القضائي. إلا أن الدعوة النظرية والممارسة العملية للأمام لترسيخ هذا الحق لم تكن على حساب المعايير الموضوعية للتفاضل بين الناس والتي عمل بموجبها استناداً إلى الشريعة الإسلامية وذلك لتحقيق العدالة بين البشر من جهة والسعي لتطوير المجتمع والارتقاء بالوجود الإنساني من جهة أخرى، إذ أن الايمان والتقوى والعلم والعمل المثمر هي من مقومات الإنسان الفاضل والمجتمع الصالح.

ص: 235

4. في اطار حقوق الانسان ذات البعد السياسي يبرز حق حرية الرأي والتعبير سواء في رؤية الإمام النظرية أو ممارسته العملية، مؤكداً (عليه السلام) جملة من الضمانات لهذا الحق بهدف تفعيله كونه مقصداً الهياً شرعياً وآلية مهمة لاطلاع الحكومة على سلبياتها وأخطائها، وإنشاء وترسيخ الوعي السياسي، والتخلص من سبات العقل والركود الفكري للوقوف بالضد من ظهور الاستبداد في الواقع السياسي الاسلامي والانساني على حد سواء.

5. امتازت الرؤية العلوية لحقوق الإنسان بابراز حق ضمانة ضبط الحكام وذلك لأهمية منصب الحاكم وتأثيره الواسع في المجتمع، لاسيما مع عظم المهمات الملقاة على عاتقه والمتمثلة بالواجبات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. لذا

دعا الامام الى ضرورة ان يشغل هذا المنصب الانسان الذي يتميز بجملة من الصفات لعل من ابرزها معرفة الاسلام وحسن تطبيقه، والعدالة، والوعي السياسي، والصفات الشخصية الحميدة.

6. في حالة المساس بالشريعة الاسلامية أو ظهور حالة الاستبداد والظلم من قبل الحكام أزاء الأمة وتبديد حقوقها نتيجة ضعف الوعي والأداء السياسي والإداري، فإن الامام يمنح الحق للامة بأفرادها ومجموعها بالتصدي للحكومة واخطائها تجسيداً لحق المعارضة وبصورة تدريجية حتى تصل الى الثورة المسلحة للقضاء على الظلم والطغيان وذلك استناداً الى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أولاه الامام أهمية متميزة على الصعيدين النظري والعملي.

7. إن اشاعة وتعميم تجربة الامام علي (عليه السلام) ورؤيته لحقوق الانسان ببعديها النظري والعملي، عبر نشرها والأخذ بها كمنهج عمل في المؤسسات الرسمية والدينية والاجتماعية في مجتمعنا ستسهم بلا شك في تطور الوعي والممارسة

ص: 236

لحقوق الانسان من اجل تقديم نموذج حضاري

متميز لا تنضوي تحت لوائه الامة الاسلامية فحسب وانما تنهل منه البشرية بأسرها.

ص: 237

الهوامش

1. احمد جمال ظاهر، حقوق الإنسان، مر کز النهضة للخدمات الفنية، عمان،

1988، ص 77.

2. نبيل احمد حلمي، "حقوق الانسان في التنمية"، مجلة السياسة الدولية، العدد 68، 1982، ص 88.

3. ينظر النص العالمي لحقوق الانسان، في صباح صادق جعفر، حقوق الانسان

(وثائق)، ط 1، المكتبة القانونية، 2003، ص 8.

4. كاظم دیر، الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (ع)، ج 1، مشهد، مؤسسة

الطبع. والنشر التابعة للاستانة الرضوية المقدسة، 1417 ه، ص 535.

5. الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي البغدادي (الجامع)، نهج البلاغة،

تعلیق وفهرسة: د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، (إيران، مؤسسة دار الهجرة، 1380 ه، ص 571. وكذلك ينظر؛ صادق الموسوي، نهج الانتصار) بهدی القرآن وسنة محمد واله الاطهار (، قم، مؤسسه انصاریان ،ص 331.

6. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الإمام، ط 2، القاهرة، دار المعلم، 1978، ص 8.

7. السيد محمد الحسيني الشيرازي، اثار الظلم في الدنيا والاخرة، مؤسسة المجتبی،

بیروت، 2001، ص 6.

8. ينظر : محمد رشيد رضا، حقوق النساء في الاسلام، ط 1، دار الاضواء، بیروت، 1989، ص 203.

9. ينظر محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد)، ج 3، ط 1، دار العلم للملايين، بيروت، 1973، ص 373.

10. محمد بن جرير الطبري الامامي، المسترشد في امامة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، تحقيق الشيخ: احمد المحمودي، مؤسسة الثقافة الاسلامية، قم،

ص: 238

1415، ص 381.

11. محيي الدين ابو زكريا يحيى النووي، شرح صحيح مسلم، ج 21، دار الكتاب، بيروت، 1987، ص 77.

12. محمود يوسف الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق: عادل احمد عبد الموجود، ج 3، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، ص 337.

13. محسن باقر الموسوي، الادارة والنظام الاداري عند الامام (ع)، ط 1، مرکز الغدير للدراسات الاسلامية، بيروت، 1998، ص 18.

14. باقر شريف القريشي، النظام السياسي في الاسلام، ط 4، دار التعارف، بيروت، 1987، ص 153.

15. المصدر اعلاه، ص 155.

16. الشريف الرضي، (الجامع)، نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، ص 96.

17. المصدر اعلاه، ص 96.

18. المصدر السابق، ص 169.

19. ابو القاسم سليمان بن محمد بن ايوب، المعجم الصغير، ج 1، دار الكتب

العلمية، بيروت، 1985،ص 201.

20. محمد بن جعفر بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والامم والملوك، دار الفكر، بيروت، 1987،ص 67.

21. محمد بحر العلوم، مصدر التشريع لنظام الحكم في الاسلام، ط 2، دار الزهراء،

بيروت، 1983، ص 45.

22. حامد جامع، علي بن ابي طالب (عليه السلام) حاكما وفقيها، القاهرة، دار المعلم، 2003، ص 187.

23. نوري جعفر، مصدر سبق ذكره، ص 95.

ص: 239

24. نفس المصدر اعلاه، ص 98.

25. محمد حسنين علي الصغير ، الامام علي (سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي)، مؤسسة المعارف، بيروت، 2002، ص 25.

26. نفس المصدر اعلاه، ص 35.

27. علي محمد محمد الصلابي، اسمى المطالب في سيرة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام) شخصيته وعصر، دار التوزيع والنشر الاسلامية، القاهرة، 2004 ص 75.

28. سورة الحج، الآية 41.

29. محمد طي، الامام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير للدراسات الاسلامية،

بيروت، 1997،ص 74

30. علي عبد الرزاق، الاسلام واصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972، ص 234

31. علي الانصاري، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر، ط

1، دار سروش للطباعة والنشر، طهران، 1983، ص 52.

32. حامد جامع، مصدر سبق ذكره، ص 76.

33. القاسم بن سلام ابو عبيدة، كتاب الاموال، تحقيق وتعليق: محمد خليل هراس، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ص 83.

34. سورة البقرة، الآية 188.

35. سورة النساء، الآية 10.

36. القاسم بن سلام ابو عبيدة، مصدر سبق ذكره، ص 78.

37. سورة الفتح، الآية 29.

38. سورة السجدة، الآية 18.

39. محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، تحرير: صادق اليعقوبي، دار الملاك،

ص: 240

بیروت، 2003، ص 91.

40. سورة التوبة، الاية 128.

41. سورة ال عمران، الاية 159.

42. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، ط 3، المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، 1990، ص 187.

43. توفيق الفكيكي، مصدر سبق ذكره، ص 196.

44. محمد حسين فضل الله، مصدر سبق ذكره، ص 67.

45. ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ط 6، دار النفائس،

بیروت، 1990، ص 60.

46. سورة التوبة، الاية 71.

47. محمد جواد مغنية، مصدر سيق ذكره، ص 87.

48. المصدر السابق، ص 90.

49. محمد باقر الناصري، من معالم الفكر السياسي في الاسلام، ط 1، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، 1988، ص 45،

50. سورة البقرة، الآية 258.

51. سورة النازعات، الاية 17 - 25.

52. اندرية ايمار وجانين او بوایه، تاريخ الحضارات العام، ترجمة: فرید داغر، دار

عويدات، بیروت، 2003، ص 567.

03. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الانسان - مصادره وتطبيقاته الوطنية والدولية، ط 3، منشأة المعارف والاسكندرية، 2004، ص 98.

54. محمد بحر العلوم، مصدر التشريع لنظام الحكم في الاسلام، ط 2، دار الزهراء، بیروت، 1983، ص 183.

55. سورة النساء، الاية 58 -59.

ص: 241

56. سورة النساء، الآية 65.

57. سورة الشورى، الاية 37 - 38.

58. سورة ال عمران، الاية 159.

59. ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الاسلامي، ط 6، دار النفائس،

بیروت، 1990، ص 30.

60. علي عبد الرزاق، مصدر سبق ذكره، ص 222.

61. محمد بن ابی بکر ابن قيم الجوزية، احکام اهل الذمة، دار ابن حزم، بیروت، 1997، ص 59.

62. نفس المصدر اعلاه، ص 61.

63. نوري جعفر، مصدر سبق ذكره، 102.

64. ابو بکر احمد بن علي الرازي، احکام القرآن، ط 1، دار الکتب العلمية، بيروت، 1994، ص 38.

65. سورة النساء، الاية 1.

66. صباح صادق جعفر، حقوق الانسان، ط 1، المكتبة القانونية، بغداد، 2003، ص 65.

67. سورة المائدة، اية 18.

68. نوري جعفر، مصدر سبق ذكره، ص 87.

69. علي محمد جعفر، تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بیروت، 1986، ص 96.

ص: 242

أسس الحكم الصالح ومهام الحاكم الوظيفية في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر - قراءة سياسية معاصرة في ضوء واقع العملية السياسية العراقية بعد العام 2003

اشارة

م.م: ميثاق مناحي دشر العيساوي

ص: 243

ص: 244

المقدمة

يقول الأستاذ «نصري سلهب» عن الإمام علي (عليه السلام)، «علي من أولئك البشر الذين كتب عليهم أن يموتوا لتحيا بموتهم شعوب وأمم، وأعداء علي من أولئك النفر الذين آثروا الحياة على الموت فأماتوا، بحياتهم، كل إباء وشمم». فكان الإمام علي (عليه السلام) يمثل «إنسانية التفكير وخيرية العمل وديمقراطية الحكم وإباحة الأرزاق للشعب وحده دون الوجهاء والزعماء والمتنفذين والمترهلين»، في حين كان الأمويون «أبرز من يمثلون الملوك في التاريخ وميلهم إلى الحكم الفردي الاستبدادي وخصائصهم في الاستئثار والاحتكار وجعل الأرض والناس منهبة لهم وعبیداً». هذا ما ينقله «أنور هيفا» في الفصل التاسع من كتابه المعنون ب علي (عليه السلام) ظاهره فوق إنسانية عن المفكر المسيحي المعاصر «جورج جرداق» من كتابه (علي وعصره). وتكتمل هذه الصورة التي يرسمها الأستاذ «نصري سلهب» مع رؤية السكرتير العام لكتلة نواب الوسط في مجلس الشيوخ الفرنسي ومدرس مادة «الاستراتيجية» في جامعة السوربون الاستاذ «فرانسوا توال» بقوله «إنّ الإسلام بمفاهيمه الرّوحية والعقائدية، بما في ذلك التوصيات العلمية التي يدعو إليها، لن يُفهم على حقيقته من قبل الغرب ما لم يقرأ الغربُ الإسلام الحقيقي وينهل من نبعه الأساسي المتمثّل بفكر أهل بيت النبوّة، ذلك الفكر المعروف في الغرب باسم الفكر الشيعي أو المذهب الشيعي. وعلاوة على ذلك، يرى السيد (توال) أيضاً أنّ ديناميكية الإسلام وقوّته الحركيّة في مواكبة الحياة والتفاعل مع التّيارات الروحية لأبنائها تمكن

ص: 245

بالدرجة الأولى في التيار (الفكري - الروحي) الذي يمثّله، بالطبع الإمام علي (عليه السلام).

نستشف من ذلك بأن الإمام علي (عليه السلام) إماماً لكل البشرية من خلال طروحاته الفكرية ونظرته الإنسانية سواء في خلافته وتوليه الحكم أو الفترة التي قضاها بعد الرسول كإمام للأمة وليس حاكماً مدبراً لأمورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الإمام (عليه السلام) كان لا يبخل عن نجدة الأمة ورفد ممن سبقوه في الحكم بالأمور السياسية وغيرها، فكان (علیه السلام) حاكماً عادلاً وسياسياً محنكاً واقتصاديا في تدبير أمور الأمة، وقاضياً حازماً في حل المنازعات، مسترشداً بالقرآن ونهج الرسول. ولهذا فأن الإمام (عليه السلام) أسس قواعد ثابته للحكم الإسلامي، لاسيما في عصر خلافته، على الرغم من كل التحديات السياسية التي واجهته في حكمة من الناكثين والقاسطين والنفعيين الباحثين عن منافعهم ومصالحهم الشخصية، وبالرغم من كل تلك التحديات، إلا أنه ارسی مبادئ الحكم في الإسلام بكل جوانبه (السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والاخلاقية) من خلال وثيقة العهد التي بعث بها إلى مالك الأشتر (رض) عندما ولاه على مصر. قواعد ثابتة للحكم الإسلامي وصالحة لكل مكان وزمان، ووثيقة متكاملة وشاملة تستطيع النظم السياسية الإسلامية المعاصرة الأخذ بها وتطبيقها کوثيقة سياسية معاصرة أرست مبادئ الحكم الصالح في الإسلام بعيداً عن النظرة الضيقة. ففي ظل التحديات السياسية التي تواجه عملية بناء الدولة العراقية بعد العام 2003، يمكن للحكومة العراقية والاحزاب المشاركة في العملية السياسية، لاسيما الاحزاب الشيعية الاستفادة من تلك الوثيقة، لاسيما وأن فكر الإمام ووثيقته لمالك تمثل إنسانية في التفكير وخيرية العمل وديمقراطية الحكم بنظرة متكاملة من

ص: 246

كل الجوانب، لاسيما جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية والنظرة إلى المجتمع بنظرة عامة جامعة للكل، بغض النظر عن الانتماء والتنوع والاختلاف الديني، فضلاً عن الحفاظ على أسس الحكم في الفكر الشيعي وبلورته في تنظيم أمور الدولة العراقية امام كل التحديات المعاصرة، والحفاظ على ديناميكية الإسلام وقوته الحركية من خلال بلورة فكر الإمام علي (عليه السلام) - كما يقول الاستاذ (توال).

أهمية البحث

تكمن اهمية البحث؛ لكونه يسلط الضوء على موضوع مهم وأساس في بناء المجتمعات الإسلامية المعاصرة «أسس الحكم الصالح في الإسلام» وفقاً للقرآن والنهج النبوي للرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بفکر سماوي تبلور إلى واقع عملي على يد الإمام علي (عليه السلام) خلال فترة حكمه للأمة الإسلامية، وكذلك لأنه يربط بين فكر الإمام الإنساني ووقعنا المعاصر؛ لاسيما في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي التي يعاني منها العراق بعد العام 2003.

فرضية البحث

تّعد وثيقة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر «منهجاً في السياسة الإسلامية والدولة الصالحة، وهي وثيقة سياسية شاملة ومتكاملة لعملية بناء الدولة بما يتناسب مع التحديات والمعوقات المعاصرة، وهي صالحة لكل زمانً ومکان؛ لاسيما مع المبادئ والأسس التي أرستها تلك الوثيقة في مأسسة الحكم الصالح بكل جوانبه». فلماذا لا يوظف الاطار العام لهذه الوثيقة في عملية بناء الدولة العراقية - على أقل تقدير -، لاسيما مع هذا الفشل المتوالي والمتكرر في عملية البناء، بالرغم من أن الاحزاب السياسية التي إدارة دفت الحكم في البلد بعد العام 2003، احزاباً اسلامية شيعية؟.

ص: 247

مشكلة البحث

تكمن مشكلة البحث في عملية الموائمة التاريخية بين عصر الإمام علي (عليه السلام) وبين ما نعيشه اليوم في ظل التطور التكنولوجي وتغّير مفهوم الدولة، وسيادة مفاهيم العولمة والعالمية وشمولية الدولة؛ لاسيما في ظل حالات عدم الاستقرار السياسي وحالات التطرف الديني والسياسي التي تشهدها المجتمعات الإسلامية التي تهدد عملية بناء الدولة القومية الحديثة. ولهذا ركز البحث في دراسة اسس الحكم الصالح ووظائف الحاكم السياسية طبقاً للعهد وموائمتها مع التغير السياسي المعاصر في العراق بعد العام 2003، لاسيما مع تصاعد حدة الخلافات السياسية بين الاحزاب العراقية وافتقادها بوصلة الطريق الصحيح في عملية بناء الدولة العراقية.

منهجية البحث

اعتمد البحث على بعض المناهج العلمية منها المنهج التاريخي والمنهج التحليلي.

هيكلية البحث

اقتضت الضرورة تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور:

تناول المحور الأول أسس الحكم الصالح عند الأمام علي (عليه السلام) في ضوء العهد.

أما المحور الثاني: فقد اختص بدراسة المهام الوظيفية للحاكم.

والمحور الثالث: خصص بدراسة الموائمة بين فكر الإمام علي (عليه السلام) وحالة العراق مابعد 2003، وقد جاء ذلك بعنوان عهد الإمام علي (عليه السلام) «قراءة سياسية معاصرة في ظل معوقات بناء الدولة العراقية». فضلاً عن الخاتمة والاستنتاجات التي خرج بها البحث.

ص: 248

المحور الأول: أسس الحكم الصالح عند الأمام علي (عليه السلام) في ضوء العهد

يعد عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر «مفخرة في المنهج السياسي والدولة الصالحة، وكتب الأمام علي عهداً إلى عامله على مصر مالك الأشتر النخعي، وفيه وصاياه التي تُعد منهجاً في السياسة الإسلامية والدولة الصالحة، ولذا فإنَّ التقرير الدولي لمنظمة الأمم المتحدة قد اقتبس من هذا العهد فقرات كثيرة، لحث الدول العربية على الاقتداء بسياسة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب العادلة، ومنهجه في الحكم، ومساواته للناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين. وإن الوقوف على أرضية لفهم ابعاد حكومة الإمام علي (عليه السلام) ورصد استراتيجيته وايديولوجيته وفق المعطيات التاريخية يوقفنا على حقيقة أن الحكومة في عهده کانت حكومة دينية متكاملة تعتمد على الرؤية الإلهية الشمولية لأبعاد الكون والإنسان والحياة، وانه لا مجال لحكم العقل النظري والعملي بدون الرجوع إلى النص القرآني والنص النبوي، وهذا لا يعني بالضرورة عدم إعمال الاستشارة والخبروية البشرية من قبل المتخصصين في تلك الدولة وخصوصاً في المجال العسكري والاداري» إذ تضمنت الوثيقة التي بعث بها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر (رض) والي مصر أهم الأفكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والإدارة بل من أهم الركائز الفكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة إلى أحد ولاته1. وقد تضمن هذا العهد «رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظیماً دقیقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة سواءً كان تعامل الحاكم مع الشعب أو مع رجال

ص: 249

السلطة وفق سياسة تكفل للجميع الاستقرار والتقدم، وكما يوضح أسس العلاقات الخارجية مع العدو والصديق بشكل يحفظ للأمة كرامتها وعزتها واستقلالها التام». والذي يمكن ملاحظته في الدولة التي تشكلت في عهد الإمام علي (عليه السلام) هي دولة قائمة على النظام المركزي وهو خضوع المرؤوس للرئيس وتلقي تعليماته وتنفيذها من جهة أخرى (2).

وبما أنَّ هذا العهد من النصوص المهمة في السياسة الإسلامية كان علينا التطرق إليه، إذ يقول فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): (هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه، وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها؛ وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات؛ فإنَّ النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده) (3).

ويُعرف عن الامام علي انه «يعمل بثنائية عجيبة لا تغادر منهجه، فهو المقاتل والعاشق لربه وهو الحاكم والفقير والمنظر ورجل التطبيق، وعندما طبق النظم الادارية في الدولة فانه نظرها في تصميم وتشكيل الدولة في رسالته لمالك الاشتر (رض) الوالي على مصر». ولاشك إن للحاکم حقوقا وعليه واجبات فمن حقوق الرعية على الحاكم هو ما أوصى به الإمام علي (عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر بقوله «أنك ممن أستظهر

ص: 250

به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم وأسُدُّ به لهاة الثغر المخوف. فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك»(4)، ويلصق الأمام إصلاح الرعية بإصلاح الولاة؛ وذلك لأن الرعية لم تصلح إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل. وفي أحد رسائل الأمام إلى ولاته يحذره فيها من الظلم والعدوان «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظيراً لك في الخلق»(5). وهذه النصوص تشير الى تحكيم روابط المودة والاخوة وليطمئن الناس برحمة حكومتهم ويخلصوا لها أيمانه بها ويقيموا العدل، ونستشف من خلال هذه الوصايا التي تضمنته وثيقة العهد، بأن هناك أسس جامعة في الحاكم السياسي الإسلامي، وهي كثيرة منها:

1 - الأمانة: إن يشعر الحاكم بان الحُكم أمانة لديه وتكليف الهي له، وليس منحة أو ملكا شخصيا له. وقد بين ذلك (عليه السلام) في رسائله الكثيرة ومنها لعامله «الأشعث بن قيس» على أذربيجان موضحاً له أن عملك ليس له بطعمة ولكنه أمانة في عنقه وانه مسترع لمن فوقه. وقد طبق الإمام ذلك على نفسه، فهو لم يكن لينافس على سلطان، بل لیرد معالم دين الله ويظهر الإصلاح في البلاد فيأمن المظلوم وتقام حدود الله المعطلة. ويقول الأمام علي في هذا الجانب «إلزم الصدق والأمانة فإنها سجية الأخيار» (6).

ص: 251

2 - المشاورة والتعاون: فالحاكم لا يستغني عن نصح ومشاورة الرعية، والمشاورة تعني اليوم في الفكر السياسي المعاصر (الاستشارة) «أي مستشاري السلطة التنفيذية أو التشريعية»، ويشترط الإمام كما في عهده للأشتر بأن لايدخل في مشورته البخيل الذي يعدل به عن الفضل، ويعده الفقر، ولا الجبان الذي يضعفه من الأمور ولا الحريص الذي يزين له الشره بالجور، بقولة (إن يراعي في اختيارهم المحتوى النفسي للمستشار وصفاته النفسية وعواطفه، فيجب أن لا يكون «بخيلاً ولا يكون جباناً لأنه سوف يرهب أن تغيير جوهري يفيد الأمة ويظل متردداً، وألا يكون حريصاً؛ لأنه سوف يحرص الحاكم على امتصاص خيرات الشعب»(7)، فهؤلاء من عوائق نمو الدولة وسبب في تحطيمها، وعلى الحاكم أيضا أن يتعاون مع رعيته، ويمثل الإمام ذلك بقوله «من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينهم» «ويقابل ذلك أن من حق الحاكم على الرعية الوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب.

3 - المحبة والتسامح: ويكون ذلك من جهتين: الأولى، «إن لا يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل... أو الجاهل أو الجافي فيقطعهم بجفائه. الثانية: إن يستشعر الوالي الرحمة والمحبة واللطف للرعية، لانهم صنفان «أما أخ له في الدين أو نظيراً له في الخلق»، وهؤلاء كما ينبه الإمام يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلة وقد يصيبوا ويخطئوا فيجب أن يعطى لهم العفو والصفح

مثلما يرجو الوالي من صفح الله وعفوه» (8).

4 - العدل: إن الباحث في التفكير الإسلامي يدرك أن «العدالة هي قمة الشروط اللازمة للخليفة أو الرئيس في الإسلام، وقد رأينا معها العلم والشجاعة وغيرهما، ولكن الخليفة يجد بين المسلمين علماء وشجعان.. يستطيع أن يعتمد عليهم وينتفع

ص: 252

بهم، ولكنه إذا كان جائراً ظلوماً لم يغنيه شيء ولم يغنيه أحد، ومن أجل هذا اهتم الفكر الإسلامي بشرط العدالة في الإمام»(9). وذلك بأن يكون عادلا ولا يحيد عن الحق، ولا تأخذه بالله لومة لائم، وفي النهج وصايا للحاكم بأن يلزم الحق من لزمه من القريب والبعيد من القرابة أو الخاصة، ويوضح الإمام دائما من أن قاعدة العدل يطبقها على نفسه وعلى أولاده، مشيراً إلى أن عدم عدل الوالي يأتي من اختلاف هواه فيمنعه ذلك كثير العدل، في حين يجب أن يكون أمر الناس في الحق سواء؛ لأنه ليس في الجور عوض عن العدل، ومن ضاق عليه الجور فالعدل عليه أضيق (1). وتناول أمير المؤمنين في الفصل الرابع من هذا العهد النواهي والأوامر التي تحقق المصلحة العامة، وترسي العدالة في المجتمع فقال، «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تُفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقعد عنهم جندك وأعوانك م-ن حراسك وشُرَطِكَ حتى يُكلمك متكلمهم غير مُتَتَعتِعٍ، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: (لن تُقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع) ثم احتمل الخرق منهم والعَي، ونحِّ عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار..» (11). ولهذا فأنَّ أساس الحكم في الإسلام هو «العدل بالرعية، فأول ما استهدفته الشريعة في أحكامها وحدانية الله سبحانه وتعالى، وتحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والجور. وإنَّ العدل هو هدف إسلامي في سائر الأحوال والأوقات، لأنه الغاية المقصودة من الشريعة الإسلامية، حيث أمر الله تعالى المسلمين أن يطبقوا العدل حتى مع العدو وغير المسلم، وأن يقوموا بالقسط ولو على أنفسهم»، فقال العزيز في محكم كتابه المجيد (يا أيّها الذِيْنَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامينَ بِالقِسْطِ شُهداءَ للهِ وَلوَ على أنفُسِكُم أو الوالِدَينِ وَالأقرَبينَ) (12). ويتلخص جوهر سياسة الإمام من الناحية السياسية في

ص: 253

إشاعة العدل بين الناس في شتى ضروب الحياة وفي مختلف المجالات الاجتماعية.

والعدل عند الإمام افضل من الشجاعة؛ لان الناس لو استعملوا العدل عموما في جميعهم لاستغنوا عن الشجاعة (13).

5 - عدم الاحتجاب عن الرعية: فان ذلك شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، وذلك الاحتجاب سوف يعظم الصغير ويصغر الكبير من الأمور عند الرعية، وهذا ما جاء في العهد بقوله (وأما بعد، فلا تُطولنَّ احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويُشاب الحق بالباطل) (14). وهذه الملاحظة تنم عن معرفة دقيقة بالسياسة والحالة الاجتماعية والنفسية للمجتمع والناس. أي إن «علاقة الحاكم بالشعب في حكومة الإمام علي (عليه السلام) كانت تنطلق من رؤية أن الحاكم هو أحد أفراد المجتمع واحد منتسبيه بل أحد اكثر المجتمع مسؤولية واجبيه لأنه مسؤول أمام الله وأمام المجتمع بأكمله وبذلك تلغى كل الحواجز والاعتبارات التي تحول دون الاتصال بالشعب وتفهم مشاكله ومسؤولياته ولم يكن منصبه في الدولة يمثل له شيئاً ما لم يحقق الهدف منه وهو العدالة بين المجتمع واقامة الحق بينهم، وهو بذلك يمثل الطراز الأعلى والأمثل من الحكام الذي نادى الحكماء والفلاسفة به» (15).

6 - أن يواسي بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية.

7 - ستر عيوب الرعية وإبعاد الطالب لمعايب الناس، وأن لا يعجل إلي تصديق الساعي فانه غاش وأن تشبه بالناصحين.

8 - التواضع: على الحاكم أن لا يكون متكبرا معجبا بنفسه، يحب الإطراء واستماع الثناء من رعيته، ففي النهج أن من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن

ص: 254

بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر، ويقدم الإمام علي نصيحة الى الولاة بالابتعاد عن الفخر والتكبر؛ لان ذلك أسلوب الشيطان ليمحي إحسان المحسنين.

9 - النزاهة: وذلك بأن لا يستأثر بشي من أموال المسلمين لنفسه وأن يساوي الناس بعيشه، وأن لا يسخط العامة برضى الخاصة، وقد ذكرنا شدة الإمام مع الولاة الذين لا يتمتعون بالنزاهة. إن الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور حيث ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمى، كما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله) (16). ويعقب أحد الكتاب على هذا المقطع فيقول: «ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر المساعدة، وكان موقفه عند ما أبلغ أهل الكوفة انه لن يأخذ حصته من العطاء» إذ قال: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن) (17). ويعد هذا الموضوع «النزاهة» أفة الدولة العراقية على مر التاريخ، ولاسيما بعد حالة التغيير السياسي في العام 2003.

10 - العلم: وهو ما يأتي من الطاعة لله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعلم بالقران والسنة والعمل بها وأن يكون الحاكم ذا تجربة في الحكم، وبتعبير الإمام أن أحق الناس بأمر الحكم أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه. وفي خطابه إلى أحد عماله أشار إليه بأن يرد إلى الله ورسوله والي الأمر ما يشتبه عليه من الأمور، والرد الى الله هو الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 255

الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

11 - الحلم: ومن ذلك «التروي في إصدار الأحكام فالنهج يحذر من العجلة بالأمور قبل أوانها وعلى الوالي أن يتمتع بالحلم فيملك حمية انفه ويملك سورة الغضب وسطوة اليد والسان، وعلاج غضب الوالي يكمن عند الإمام في كف البادرة وتأخير سطوة اليد حتى يسكن الغضب وعند ذلك يملك الاختيار، وهذا لا يكون حتى يذكر الوالي أو الحاكم نفسه بذكر المعاد إلى ربه». ومن الحلم أن يلبس الوالي للرعية جلبابا من اللين مشوبا بطرف من الشدة وأن يداول لهم بين الرأفة ويمزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء. الحلم هو سلطة لإرغام النفس على اتخاذ حالة الاعتدال، ويقول الأمام بذلك «إنما الحلم كظم الغيظ وملك النفس» وكذلك يقول بهذا الجانب «صاحب الحكماء وجالس الحلماء» (18). وذلك لأن فيه فائدة على سلوك الانسان، ويضعه في مكانة مرموقة داخل المجتمع.

12 - المسؤولية: إن من صفات الحاكم الإحساس بالمسؤولية فالإمام يقول اتقوا

الله في عباده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم.

13 - مشروعية الصلح والأمان مع الآخر (المصالحة): بقوله «ولا تدفعنَّ صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضاً؛ فإنَّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإنَّ العدو ربما قارب ليتغفل؛ فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن..». وتأتي مشروعية الصلح والأمان في الإسلام من قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (19). وقوله عز وجل: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل

ص: 256

الله لكم عليهم سبيلاً) (20). وقوله سبحانه وتعالى: (إلا الذينَ عَاهدتُم عِندَ المسْجِدِ الحَرامِ فَما استَقَامُوا لَكُم فَاسْتَقِيمُوا لَهُم إنّ اللهَ يُحِبُ المتّقينَ) (21). وقوله تعالى: (وإنْ أحدٌ مِنَ المشْرِكِينَ استَجارَكَ فأجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمّ أبلِغهُ مَأمَنَهُ ذلكَ بأنّهُم قَومٌ لايَعْلَمُونَ) (22). وقد بين الإمام عليّ بن أبي طالب في عهده إلى مالك الأشتر ذلك، وأورد أيضاً سلامة عقود الصلح التي تبرمها الدولة الإسلامية، بحيث لا يكون فيها إدغال ولا مدالسة ولا خداع، وليس فيها علل، أي الأحداث المفسدة لها، وهي كناية عن إحكام عقد المعاهدات وعقود الصلح، والابتعاد عن لحن القول والمواراة في الأمان والعهود، لكي يكون كل شيء واضحاً وصريحاً دون لبس وخداع وتدليس (23).

14 - الحرية: ولكي تستقيم الحياة السياسية أكد الإسلام على أنَّ (أفضل الجهاد كلمة حق عند أمام سلطان جائر)، وهذا يقتضي إشاعة جو من الاستقرار والأمان مشبع بالحريات السياسية والفكرية، التي لا تخرج عن الإطار الإسلامي العام، بل تعيش في جوه، وتتنفس داخله. فمن المؤكد أنَّ التنوع شيء إيجابي مطلوب، إذا حافظ والتزم بالمبادئ الأساسية الثابتة، وعمل ضمن آليات ووسائل متحركة ومتغيرة، تختلف باختلاف الأحزاب والفصائل والاتجاهات. بمعنى أوضح أنه تباين سياسي وفكري مرتبط وملتزم بالإسلام، ولا ينفك بالضرورة عن المبادئ والقواعد الإسلامية العامة. وإن ضمان الحريات في حكومة الإمام علي(عليه السلام) تعتبر من أهم الركائز التي بنيت عليها الدولة، إذ أن المواطن يعيش في دولة تضمن للفرد حرية التعبير، وحرية نقد السلطة والحكومة، ويذكر أن أحد الخوارج سب أمير المؤمنين بقوله (قاتله الله ما أفقهه) وهمّ أصحابه بقتله فردع أصحابه عن ذلك وأكد لهم القاعدة الشرعية التي تأمر بعقوبة متناسبة مع الجريمة حتى ولو كانت واقعة على

ص: 257

رئيس الدولة مع عدم نسيان الحث على العفو فقال: «رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب». إن الإمام علي كان واثقاً من أن إعطاء الحريات وضمانها للآخرين سوف يعزز الثقة المتبادلة بينه وبين الشعب أو بين الحاكم والسلطة بشكل عام، وهو بذلك يؤكد على أحقية الإنسان في حرية حركته السياسية وتعبيره الشخصي ولا يقف حائلاً دون ابداء ما يختلج في ضمائرهم وصدورهم ورغبة في تحقيق مجتمع مثالي تسوده الأخلاق والعدل والقانون (24).

ولذلك فأن هذا العهد السياسي الإداري يمثل منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إقامة دولة العدل الإلهية في الأرض، ذلك المنهج الذي استقاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن مبادئ القرآن الكريم. والحركة الإسلامية العالمية المعاصرة بكل أطيافها وتياراتها (سنة وشيعة) جدير بها أن تتخلق بهذا المنهج الإسلامي، وأن تتخذ من عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر ومن مضامين وثيقته الشاملة - وصايا سياسية - في عملها وتحركها من أجل الإسلام، وحوارها مع الآخر، ومن أجل إقامة الدولة وبنائها على أسس صحيحة بغض النظر عن الاختلاف الديني أو الأيديولوجي، والرد على من يدعي أنَّ السياسة الإسلامية هي سياسة استبدادية ظالمة لا تطيق الرأي الآخر. وقد وجدنا في هذا العهد الرائع مبادئ السياسة العادلة للإسلام الصحيح، إسلام الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته (عليه السلام)، وتلمسنا أموراً هي غرض الولاية وأساسها، وشروط الوالي الصالح الذي لا تفارقه تقوى الله، مع عدله بالرعية، والرفق بالمساكين وأهل الحاجة، ومجالستهم والاستماع إليهم، وكذلك شروط المستشارين والكتاب والقضاة والتجار، والاهتمام بالجند، وإصلاح الأرض بالعمران والمدنية، والانتصاف للمظلوم، والوفاء بالعهد مع الغير والصلح مع الأخرين وعدم دفع الصلح مع الاعداء». وهنا لا يمكن أن نتصور تطبيقاً حياً لمبادئ الإسلام إلا في ظل

ص: 258

سلطة منفذة للأحكام والمبادئ بصورة شاملة، ومنظمة للعلاقات بين الأفراد، ومطبقة

لسياسات داخلية وخارجية تخطط على ضوء وهدي السياسة الإسلامية العامة، وبهذا يتناسق ويتناغم سلوك الفرد المسلم مع القواعد والقوانين المطبقة، ولا يتناقض معها. وفي ظل هذه الدولة الإسلامية يصبح مفهوم العبادة شاملاً، لا يقتصر على الصلاة والصوم والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يتعداها ليشمل السلوك الاجتماعي بشكل عام «سلوك الناس ومعاملاتهم وارتباطاتهم»، فكل عمل في هذه الحياة يتقرب به المسلم لله (عز وجل). والسياسة بهذا الفهم الإسلامي تصبح عبادة شاملة «حراسة الدين وسياسة الدنيا»، إذا كانت معبّرة وصادقة مع مبادئ الإسلام وأحكامه، وكانت تهدف إشاعة العدل والمساواة والتسامح بين الجميع، مهما كانت انتماءاتهم واعتقاداتهم الدينية (25). وبهذا فقد وضع الإمام (عليه السلام) في هذه الوثيقة أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وتنظيم القانون، وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم والإدارة. وفيها أكد على التطلع من قبل الرعية لعدالة الولاة والرحمة بهم وأنصافهم، وإرضاء العامة الذي يشكلون الأكثرية من الشعب، وإقصاء الوزراء في الحكومات السابقة، والاتصال بالعلماء ومجالستهم، وتكريم المخلصين من الجند والعسكرين، وأكد كذلك الإمام على ضرورة الابتعاد عن المؤثرات التقليدية في اختيار الحكام، ولابد أن يكون اختيارهم يتم من خلال دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارياً ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة. وفيما يخص الخراج وعمران الأرض ووصيته للمزارعين والكتاب والتجار واصحاب الحرف والمصانع، فقد تدل وثيقة الإمام على عمق الدور الذي يقوم به هؤلاء في بناء الدولة، وهو الدور الذي ادركه الإمام منذ وقت مبكر، کما ادرك الإمام على رعاية الإيتام والمتقدمين في السن وتفرغ وقت لذوي الحاجات وعدم الاحتجاب عن الرعية لما له من تماسك اجتماعي

وإظهار الدولة بالمظهر الحسن اتجاه مواطنيها.

ص: 259

المحور الثاني: المهام الوظيفية للحاكم

الدولة عند الأمام علي (عليه السلام) «كيان تدبيري عام تنبثق فيه المسؤولية من الإرادة العامة للمجتمع (الرعية)، وتحدّد وظائف الدولة وسلطاتها، والتي يتولاها المسؤول العام (الراعي) طبقا لمبادئ الدستور (الشريعة)، وتكون العلاقة في ذلك تضامنية، وقد جسد الإمام علي (عليه السلام) في الفترة التي تولى فيها المسؤولية العامة في الدولة، الدور الاجتماعي العام، وفي معادلة تكافأت فيها الحقوق والواجبات مابين الدولة ومواطنيها، وتجسدت فيها آفاق ومعالم الفكر والنشاط التدبيري المثابر، وقد عبر الإمام عن ذلك الدور المسؤول للعلاقة ما بين الدولة ومواطنيها في تطبيق القوانين، واستقرار الدولة» بقوله «فإذا أدَّتْ الرَّعِيَّةُ إلى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إليها حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُم وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ» (26). وقد تولّى الإمام تحديد مؤهلات متولي الشأن العام ومسؤولية الأجهزة الرئيسة في الدولة وشمل ذلك

الجوانب التالية:

1 - الجانب السياسي والتنظيمي.

2 - الجانب القضائي.

3 - الجانب الاقتصادي.

4 - الجانب التعليمي التربوي.

وسيكون الجانب الأول «الجانب السياسي والتنظيمي» محور البحث في هذه الدراسة لما له من أهمية في عالمنا الإسلامي المعاصر، ولاسيما الواقع العراقي الحالي وضرورات المرحلة السياسية القائمة. وكذلك ليتسق ضمن محور البحث بشكل عام.

ص: 260

اهتمّ الإمام علي (عليه السلام) «وفي مبتدأ توليه لمسؤولية الخلافة بالجانب الاعتباري والتنظيمي للدولة، ونظام عملها موجها لما يقتضي للدور المتقدم من المسؤولية، منوّهاً بالقاعدة العامة التي ابتنى عليها تكليفه للمسؤولية العامة والقائمة على أساس المبايعة وفي مشهد عام ألحّ فيه الإمام على اعتماده مع كون إقراره لمنصب الخلافة قد تمّ عن طريق مجلس الشورى»، وجاء في ذلك قوله «أَما بعد، فقَد علمتما، وإِن كتمتما، أَني لم أُرد الناس حتى أَرادوني، ولَم أُبايِعهم حتى بايعوني، وَإِنكُما مِمن أَرادني وبايعني، وإِن العامةَ لم تبايعني لسلطان غاصب، ولا لعرض حاضر». معبراً عن كونه قد أراد الناس أن يكونوا في حكمه على شريعة الله لتحقيق ما اراد الله من جانب الحق في ذلك.

وبيّن الإمام ما يقتضي من المؤهلات لمتولي المسؤولية العامة: «أيها النَّاسُ، إن أَحق الناس بهذا الأمر أَقواهم عليه، وأعلمهم بأَمر الله فيه، فَإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل» (27). وفي عهده الشهير لمالك الأشتر» قدم الإمام التقسيم الوظيفي لسلطات الدولة والذي يجري اعتماده إلى اليوم مع خلاصة لوظائفها، وبيان ما يقتضي لمتوليها ولمواطنيهم من الواجبات والحقوق، مؤكداً فيها الثوابت المبدئية لقيم الحكم الديمقراطي المستند للإرادة الشعبية، والمرتهن لمطالبها وتطلعاتها العادلة، ويستفاد من مضامين ذلك العهد اعتماد النظام الفيدرالي اللامركزي الموجّه بالقرارات النافذة من السلطة المركزية، وقد تفصل الإمام في بيان التقسيمات التدبيرية لسلطات الحكم في الدولة وواجباتها، وما يقتضي لرئيس الاقليم (الوالي) في ذلك من المهام، وما يتوجب عليه تجاه السلطة المركزية، مقدماً الدور العسكري في ذلك لاعتبارات خاصة بطبيعة المرحلة التي كانت تمرّ بها الدولة آنذاك»، وبذلك فقد قسم الإمام فئات الحكم إلى خمسة فئات (العسكريون وسمّاهم (جنود الله)، وفئة الكتاب العموميون والخاصون،

ص: 261

وقضاة العدل، وعمال الخدمات القائمون على الأُمور المالية وسماهم بعمال الإنصاف والرفق، ومنهم أهل الجزية والخراج، وفئة التجار وأهل الصناعات، وما يخص العمل الوزاري فقد وجّه الإمام (عليه السلام) بعدم الاعتماد على الوزراء السابقين ممن عملوا مع الحكام الذين وضح فيهم الشر والبغي (أي عدم اعتماد الوزراء الذين اتهموا أو لم ينجحوا في مسؤولياتهم)، والاعتماد على أهل الورع والصدق واختبارهم، وتجنب ما يكون منهم من المديح والاطراء ما يحصل فيه الزهو والتعالي. وقدّم الإمام جملة وصايا وتعليمات منظمة وضابطة لعمل الولاة والأجهزة العاملة في الدولة انتظمها العهد التاريخي للإمام لمالك الأشتر، والذي يصح ان نسميه ب(عهد النظام التدبيري)، وقد اشتمل على جملة من التوجيهات والقرارات العامة التي تتصل بمجال التنظيم لعمل أجهزة الدولة والخدمة العامة، اضافة إلى ما اشتملته القرارات والوصايا الأُخرى للإمام في ذلك كان من أبرزها:

- التوجيه بمباشرة الأعمال التي تختصّ بالأُمور العامة والهامة التي ترد من الأقاليم (الولايات) ويقتضي اتخاذ الإجراءات اللازمة والسريعة بشأنها وبعيداً عن صيغ المكاتبات التي من شأنها أن تطيل من مجرى المعاملات وتعيق سبل الإنجاز، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، وفي ذلك جاء قوله (عليه السلام): «ثم أُمور من أُمورك لاَ بُد لك من مباشرتها: منها إِجابة عمالك بما يعياعنه كتابك، ومنها إِصدار حاجات النّاس عند ورودها علَيك مما تحرج به صدور أَعوانك»، وإنجاز الأعمال في ذات اليوم وفي وقت ورودها وبما يناسبها مع تقدير درجة اهميتها ووجوه المصلحة فيها.

- تخصيص قسم خاص لمقابلة ذوي الحاجات يتفرغ فيه المسؤول للنظر في أُمور الناس بمجتمعهم وعلى وفق ضوابط اعتبارية جاء الإمام (عليه السلام) على ذكرها

ص: 262

لتدعيم النهج الديمقراطي الأوفى في العمل الوظيفي: «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تُفرّغ لهم فيه شخصك وذهنك من كل شُغل، ثم تأذن لهم عليك، وتجلس لهم مجلساً تتواضع فيه لله الذي رفعك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، تُخفض لهم في مجلسك ذلك جناحك، وتلين لهم كنفك في مراجعتك ووجهك، حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: «لن تُقدس أُمة لا يُؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع».

وبنفس السياق حذر الإمام (عليه السلام) من المحسوبية والمنسوبية والاستئثار

بالمصالح الوظيفية؛ بسبب تقريب المسؤولين حاشيتهم ومن يختص بهم، ودعی (عليه السلام) لاجتثاث هذه الظاهرة المرضية والتي تعد احد عوامل الفساد النظمي وأكثرها خطراً على بنية الدولة «ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة» (28).

أما بخصوص ما يتعلق بمهام الحاكم الوظيفية ذات الأبعاد السياسية كما حددها الإمام علي (عليه السلام)، فقد تنقسم إلى قسمين: (الوظائف الفردية والوظائف الاجتماعية). ويقصد بالوظائف الفردية ما يمارسه الإمام من أعمال تجاه نفسه وذاته، أما الاجتماعية فهي الأعمال التي يقوم بها وتخص الأمة والمجتمع. وستركز الدراسة على المهام الاجتماعية أكثر من المهام الفردية؛ لكون الأخيرة تكون بين الحاكم ونفسه أي عملية تهذيب النفس أتجاه الرعية واتجاه الله سبحانه وتعالى. وتشمل (إصلاح

ص: 263

النفس)، إذ يوصي الإمام عماله وأمراءه وولاته بتقوى اللهّ وتهذيب أنفسهم، إلى جانب تذكيرهم برباطة الجأش، وكبح جماح النفس من طغيانها وغلبتها. وإن إصلاح النفس يشتمل على (ضبط النفس عند الوساوس وإصلاحها بذكر الموت). وهذا ما أمر به عبد اللهّ علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر... «أمره بتقوى اللهّ... وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإنّ النفس أمارة بالسوء، إلاّ ما رحم اللهّ... فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإنّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت» (29). كذلك يشتمل إصلاح النفس على (الابتعاد عن حب الرئاسة)؛ لأن حب التسلط والرئاسة يعد من الأهواء النفسانية، الأمر الذي يشكل خطراً جديا على الحاكم، ولذلك وردت تحذيراته لولاته من هذا المرض. فقد حذر مالك الأشتر من هذه الخصلة المقيتة بقوله «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللهّ من عفوه وصفحه... لا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإنّ ذلك أدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير». وأيضاً يعد (الكفاف في الدنيا) من وسائل إصلاح النفس، وكان الإمام يمثل منتهى التشدد والصرامة في هذا المجال، فقد بلغه بأن واليه على البصرة «عثمان بن حنيف» قد دعي لمأدبة فخمة، فبعث له بكتاب يدعوه فيه لتقوى اللهّ ويحذره من عذاب نار جهنم، ثم يأمره بالتزود من الدنيا على قدر الكفاف: «فاتق اللهّ يا ابن حنيف ولتكفف أقراصك ليكون من النار خلاصك»(30). كذلك يعد الإمام «الأخلاق الإسلامية» من الوظائف الفردية التي يتحلى بها الحاكم في التعامل مع الأمة. وقد ورد التأكيد والحث عليها في اغلب كتبه «لعمال البلاد وولاتها»، ومنها: (الرحمة والرأفة) بقوله «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم»، وكذلك منها (الاحتكاك بأوساط الأمة والبشر بوجه الناس) بقوله «فاخفض لهم جناحك والنلهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس

ص: 264

بينهم في اللحظة والنظرة». والتأكيد على (ستر عيوب الناس)؛ لأن الإمام علي (عليه السلام) يرى بأنّ وظيفة الحاكم تقتصر على إصلاح الظاهر من الأمور وأن يفوض ما خفي منها للهّ: «فإنّ في الناس عيوباً، ال-والي أحق من سترها، فلا تكشفن عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، واللهّ يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر اللهّ منك ما تحب ستره من رعيتك». وأخيراً فإنّ إدارة شؤون الأمة تتطلب إحاطة الحاكم وإلمامه بأغلب الأمور التي تجعله يقود المسيرة بكفاءة وحزم، ولذلك يرى الإمام علي (عليه السلام) قضية متابعة ومواصلة العلم والتعلم، بهدف إصلاح شؤون البلاد، تمثل إحدى وظائف الحاكم، الأمر الذي كان يؤكده على ولاته «أكثِر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك».

أما ما يخص الوظائف الاجتماعية «السياسية» للحاكم، فتعد من الوظائف الحساسة التي بأمن ومصلحة الدولة، ولعل أهم وظيفة ينهض بأعبائها الحاكم تتمثل في إدارة شؤون الحكومة. ويمكن خلاصة وظائفه في هذا الجانب بتصنيفها على ثلاثة مستويات (الأعمال المتعلقة بالأمة والتي تشمل أفراد المجتمع، والأعمال المتعلقة بأعضاء الحكومة مثل نصب وتعيين الولاة والعمال الذين يديرون شؤون الولايات والأمصار، وأخيراً الأعمال المرتبطة بالناس كافة أي الأعمال التي ينبغي أن تمارس بحق المجتمع ككل).

ومن بين الوظائف الاجتماعية للحاكم الإشراف على سير أعمال التجار وذوي الصناعات والحرف وكانت من بين الأمور التي أكدها الإمام (عليه السلام) ضمن وظائف الحاكم في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) حين ولاه مصر، هي العناية الخاصة التي ينبغي أن يوليها للأفراد الذين ينهمكون في توفير أسباب الرفاه والرخاء

ص: 265

الاقتصادي للمجتمع (التجار وأصحاب الصناعات والحرف)، ومعالجة مشاكلهم، والنظر في أمورهم. غير انه لا بد أن يحيط بأخبارهم ومتابعة شؤونهم، ليتسنى له الإشراف على نشاطاتهم الاقتصادية بالرغم من كونهم يمثلون شريحة مسالمة في المجتمع، وليسوا من أهل البلابل والقلاقل والاضطرابات وذلك لاحتمال أن يكون البعض منهم حاملا لبعض الخصال السيئة، من قبيل: البخل، وضيق الرؤية، وما إلى ذلك من الأمور التي تشكل خطرا جديا على سلامة وامن المجتمع. إلى جانب تهديدهم للعدالة الاقتصادية من خلال اعتبارهم يمتلكون زمام المبادرة، وإمكانية التأثير سلبياً على الأوضاع الاقتصادية القائمة من خلال احتكار الثروات والإمكانات الاقتصادية مثلا وجعلها متداولة بين فئة معينة من فئات المجتمع فيقول «ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصى بهم خيراً... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشا، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة». تقديم المصالح العامة يتضح مما مر معنا سابقا، أن الإمام علي (عليه السلام) يرى وظيفة الحكومة في القطاع الاقتصادي تتمثل بمراعاة أوضاع الأمة بأسرها، ولا تقتصر على طائفة معينة. مما يوجب على الحاكم سن القوانين والمقررات، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان الحقوق العامة والأخذ على يد مخالفي القانون فيما إذا طالت عامة الأمة بعض الأضرار والخسائر. ولذلك كان يوصي مالك الأشتر واليه على مصر بالعمل الجاد الذي يجلب رضى العامة، وأن استبطن سخط الخاصة؛ وذلك لان هذا المعنى اقرب للعدالة وابعد عن الظلم والجور «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فإنّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»، ويؤكد الإمام على إغاثة الفقراء، وعلى الحاكم أن يولي اهتماماً فائقاً لفقراء المجتمع، بهدف إجراء العدالة الاجتماعية في مجالها الاقتصادي؛ لأن عدم

ص: 266

الاكتراث لهذا الأمر يؤدي إلى شيوع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تفشي الجريمة في المجتمع. ولذلك يوصي (الولاة باستخدام أفراد يضطلعون بهذه الوظيفة، ليمدوه بالتقارير والمعلومات المفصلة التي تستعرض أوضاع الفقراء والمعوزين بغية تلبية حاجاتهم والقضاء على فقرهم) (31). فالحاكم مكلف بالنظر في أمرهم وإحقاق حقوقهم، والحذر من أي غفلة وإهمال بهذا الشأن، فيقول «ثم اللهّ اللهّ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى

والزمني... فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم»(32) ويقول الإمام بما يسميه مراعاة المستضعفين من الناس «ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ اْلحَاجَةِ وَاْلمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحقُّ رِفْدُهُم (مساعدتهم وصلتهم) وَمَعُوَنتُهُمْ» (33).

والمحور الآخر من محاور وظيفة الحاكم تجاه الأمة الرفق بالناس حين التعامل معهم، عليه ألا يكلف الأمة فوق طاقتها بما يرهقها ويثقل كاهلها، وأن أدنى ما يترتب على الرفق بالأمة كسب ودها وثقتها. الأمر الذي يجعل الحاكم يشعر بالدعم والإسناد الذي يتطلبه في مواقع الحاجة «واعلم انه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المئونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم». كذلك يرى أن إحدى وظائف الحاكم تتمظهر في سماعه مباشرة لشكاوى الناس والنظر فيها بدون واسطة «واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه للهّ الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع». الوظيفة الأخرى التي يمارسها الحاكم إنما تتمثل في تعليم الأمة وجعلها ملمة بأغلب الأمور، وهناك أسلوبان يمكن من خلالهما تحقيق هذا الأمر. احدهما «الأسلوب التعليمي» الذي يمكن ملاحظته من خلال تأكيدات الإمام (عليه السلام) لولاته بالاهتمام بهذا

ص: 267

الموضوع، فقد جاء في تأكيده لوالي مكة «أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام اللهّ، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها». الأسلوب الثاني: ويتجسد هذا الأسلوب بإيقاف واطلاع الأمة على الحقائق. فقد تسود المجتمع بعض حالات سوء الظن تجاه الحاكم أو الحكومة، الأمر الذي يتطلب منه ممارسة وظيفته في كشف النقاب عن الأمور الغامضة التي تساور أذهان الناس. فقد أوصى مالكاً بهذا الشأن قائلا «وأن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك». وقد كان هذا الأسلوب مشهوداً في سيرة الإمام علي (عليه السلام)، بحيث لم تطرأ أدنى شبهة لأي من الأفراد، إلا وانبرى لإزالتها والقضاء عليها من خلال التعرض لها بكلماته أو كتبه ورسائله التي كان يبعثها (34). وبنظر الإمام (عليه السلام) أن وظيفة الحاكم تجاه ولاته تكمن في ثلاثة أمور (النصب والاختيار، تفقد أحوالهم، والإشراف على سير أعمالهم). وقد اعتمد الإمام علي (عليه السلام) عض الملاكات في مسالة نصب الولاة واختيارهم، إلى جانب تميزهم واتصافهم ببعض المواصفات التي تؤهلهم لذلك، ونلمس ذلك بوضوح في عهده الذي عهده لمالك الأشتر حين قلده ولاية مصر. فكان مما أمره به في هذا الشأن «أن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الآثمة، وأخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم واوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك اخف عليك مئونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، واقل لغيرك إلفا، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم لكن آثر هم عندك أقولهم بمر الحق لك، واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره اللهّ لأوليائه، واقعا ذلك من هواك

ص: 268

حيث وقع. والصق باهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة» (35)، من جانب آخر فإنّ على الحاكم أن يتفقد أحوال ولاته، ويتابع أوضاعهم ويحل مشاكلهم، بحيث يشعرون بالعزة والسمو على الصعيد المعنوي، والغنى وعدم الفاقة على الصعيد المادي، لكي لا يتطاولوا على أموال الآخرين وممتلكاتهم «ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك». أما الوظيفة المهمة الثالثة للحاكم فهي إشرافه الدائم على سير أعمال الولاة، ولا بد له هنا من الاستفادة من العيون الأمنية للوقوف على حالات الخيانة أو الظلم، من ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها «ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم». البعد الآخر من أبعاد الوظائف الاجتماعية للحاكم، هو ما يرتبط بكل المجتمع الإسلامي. ويمكن تقسيمها إلى قسمين (36):

أ - الأحكام الشرعية التي سنها الشارع بهدف إصلاح المجتمع من قبيل: الجهاد،

وإقامة الحدود، وما افترض في الأموال، كالخمس والزكاة.

ب - الشؤون ذات الصلة بأوضاع المجتمع الإسلامي. وقد أشار الإمام (عليه السلام) في احد كتبه لهذين القسمين قائلا «إلا وأن لكم عندي... ولا اطوي دونكم أمرا إلا في حكم».

اعمار البلاد هو الوظيفة الأخرى التي ينهض بها الحاكم. وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) في عهده الذي عهده لمالك إلى هذه الوظائف، إذ منحها الأولوية قبل جباية الضرائب والخراج، على أن جباية الخراج قد تؤدي لخراب البلاد وهلاك العباد ما لم ترافقها عملية إعمار وبناء. الأمر الذي يؤدي في خاتمة المطاف إلى زوال

ص: 269

الدول والحكومات «وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، واهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً». والوظيفة الاجتماعية الأخرى التي يمارسها الحاكم تكمن في رعايته للنظام في أعماله وسلوكه. ويرى الإمام (عليه السلام) أن نظم سير أعمال الحاكم يتجسد في أمرين (37):

1 - انجاز الأعمال اليومية في مواعيدها، وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد، وذلك لان

لكل يوم عمله المختص به «وامض لكل يوم عمله، فإنّ لكل يوم ما فيه».

2 - عدم مباشرة الأعمال قبل حينها، وعدم تأخيرها عن وقتها «وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التسقط فيها عند أمكانها».

وقد وضع الإمام علي (عليه السلام) مقياساً للتوظيف لم يصل إليه أرقى القوانين في المجتمع الغربي الحديث، بما يتناسب مع معطيات العصر وتحديات بناء الدول «الداخلية والخارجية». فلم يكتف الإمام بأن تسند الوظائف الحكومية لذوي الكفاءة والاختصاص - دون غيرهم - بل أضاف إلى ذلك جانباً آخر لا يقل أهمية عن الكفاءة هو الأمانة ونزاهة النفس. فالموظف الكفؤ (غير الأمين) قد يتجاوز ضرره الاجتماعي ضرر الموظف غير الكفؤ، فيتخذ من كفاءته وسيلة لإتقان فن الخيانة، وإتقان فن التوازي عن الأنظار من جهة، واتقان فن التباكي على المصلحة العامة من جهة أخرى. أما الموظف الأمين غير الكفؤ فيكون ضرره الاجتماعي في حالة وقوعه - غير مقصود في العادة من جهة وغير موجه نحو الناس على حساب بعض آخر من جهة أخرى. فالموظفين - بعد أن يتم تعينهم على الشكل الذي وصفناه - يجب أن يخضعوا لرقابة حكومية شديدة وأن يتعرضوا بصورة مستمرة لتفتيش دقيق ليعرف الصالح منهم فيكافأ على صلاحه والطالح ليلقي جزاءه. وقد أشار إلى ذلك الإمام بقوله «ثم

ص: 270

تفقد أعمالهم وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية». أي أن المفتشين الحكوميين يجب أن يكونوا من أهل الصدق والوفاء لكي يزودوا الوالي والخليفة بأوثق الأخبار وأدق المعلومات عن الموظفين؛ لأن تقاريرهم وأخبارهم يتوقف مصير الموظف في حالتي الثواب والعقاب (38). وبهذا يضع الإمام (عليه السلام) نظاماً بيروقراطياً للدولة بما يتناسب مع حجم التحديات والمخاطر التي تترتب على الاخلال به، فليست الكفاءة والخبرة كافية لتولي الامور العامة في أجهزة الدولة، وإنما هناك امور أخرى يمكن أن يستغلها أصحاب الخبرة والكفاءة في العمل، الأمر الذي يهدد بنية الدولة بشكل عام.

المحور الثالث: عهد الإمام علي (عليه السلام) «قراءة سياسية معاصرة في ظل معوقات بناء الدولة العراقية»

إن من أهم الصعوبات أو التحديات التي تواجه الحاكم بعد توليه زمام الأمور «الحكم» هي مسألة تشكيل الحكومة وتوزيع الحقائب الوزارية في الدولة وتطعيم مؤسسات الدولة بالعناصر الكفؤة المختلفة والقادرة على تصريف الأمور؛ لذلك كان على الإمام علي (عليه السلام) أن يغير البناء السياسي والتشكيلة الوزارية التي كانت من قبله (أي في عصر عثمان بن عفان). فاعتمد على عزل العناصر الفاسدة واستبدل مكانها العناصر المؤمنة واصحاب السمعة الجيدة في الوسط الاجتماعي والسياسي، والذين كان لهم بعد ذلك دور كبير في دولته وحكومته أمثال (مالك الاشتر وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس) وغيرهم من الوجوه المعروفة بالورع والإيمان، الذين كانوا من ثقات المسلمين وأكثرهم نزاهة. ثم أنه من الركائز الأخرى التي انتهجها الإمام هو

ص: 271

عدم احتجابه عن الناس والمؤمنين والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة، فضلاً عن ذلك وضع شرطه سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على سياسة العزل والتنصيب وأيضا التأمين الاجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل، بحيث يصرف لهم من بيت المال راتباً شهرياً وانعاش الاقتصاد عبر نظام اقتصادي يتيح للفرد التملك ضمن سياسة إحياء الأراضي فكان الإمام (عليه السلام) يشجع على التنمية الاقتصادية والزراعية، فضلاً عن إلغاء المحسوبية والرشوة والطرق الملتوية في نظام الحكم الجديد واعتماده على المساواة وإلغاء الحواجز العنصرية في سبيل مجتمع متكامل (39). ويُمكن تلخيص أهداف الحكومة بنظر الإمام عليّ (عليه السلام) كما ذكرها هو في قوله «لابن عبّاس» عندما دخل عليه بذي قار وهو يخصف نعله فقال له عليه السلام: «ما قيمة هذه النعل؟ فقال: لا قيمة لها. فقال عليه السلام. والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلّا أنْ أُقيم حقا، أو أدفع باطلاً».

ويمكن التطرق ببساطة إلى إصلاحات الإمام السياسية والإدارية في عصره بالرغم من التحديات السياسية التي واجهها الإمام من بني أمية وبعض المنتفعين من تردي الأوضاع، فضلاً عن التركة الثقيلة التي خلفها مقتل (عثمان أبن عفان)، والفساد السياسي والمالي الذي أصاب كل مؤسسات الدولة أنذاك. استلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيام، ذلك في (25 ذي الحجة) عام (35 ه)، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة، ركّز فيها على شؤون الإدارة، والاقتصاد، والحكم، وقد ركز البرنامج الإصلاحي للإمام وبشكل مختصر على ما يأتي (40):

ص: 272

الأول: تطهير جهاز الدولة

أي أن الإمام (عليه السلام) التفت منذ تسنمه الحكم إلى جهاز الدولة الإداري والتنظيمي بشكل عام، حتى يتسنى له تطهيه من العناصر الفاسدة وغير الكفؤة والمتحزبة، وأول عمل قام به الإمام (عليه السلام) فور توليته لمنصب رئاسة الدولة عَزل وُلاة عثمان الذين سَخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصة، وأُثروا ثراءً فاحشاً مما اختلسوه من بيوت المال، ثم بادر الإمام إلى عزل (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان أيضاً. ويقول المؤرخون: إنه أشار عليه جماعة من المخلصين بإبقائه في منصبه ریثما تستقر الأوضاع السياسية ثم يعزله فأبى الإمام (عليه السلام)، وأعلن أن ذلك من المداهنة في دينه، وهو مما لا يُقرّه ضميره الحي، الذي لا يسلك أي طريق يبعده عن الحق ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له، وإقرارا بعدالته، وصلاحيته للحكم.

الثاني: تأميم الأموال المختلسة

الأمر الثاني الذي تابعه الإمام (عليه السلام) غاية في الأهمية وهو «أرجاع الأموال المختلسة ومحاكمة مختلسيها»، ولذلك أصدر الإمام (عليه السلام) قراره الحاسم بتأميم الأموال المختلسة التي نهبها الحكم المُباد. فبادرت السلطة التنفيذية بوضع اليد على القطائع التي أقطعها عثمان لذوي قُرباه، والأموال التي استأثر بها، وقد صودِرت أمواله حتى سيفه ودرعه، وأضافها الإمام (عليه السلام) إلى بيت المال. وقد فزع بنو أمية كأشد ما يكون الفزع، فهم يرون الإمام (عليه السلام) هو الذي قام بالحركة الانقلابية التي أطاحت بحكومة عثمان، وهم يطالبون الهاشميين برد سیف عثمان ودرعه وسائر ممتلكاته التي صادرتها حكومة الإمام. وفزعت القبائل القرشية وأصابها الذهول، فقد أيقنت أن الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حق، ولهذا امتعض الكثيرون ممن عاصروا الإمام من «المنتفعين»،

ص: 273

أمثال «عمرو بن العاص» الذي كتب رسالة بدوره إلى معاوية يخبره فيها ما قام به الإمام علي في محاسبة المفسدين وأصحاب المنافع الشخصية الذين لا يريدوا للإسلام النجاح، وجاء فيها «ما كنتُ صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها». وراح الحسد ينهش قلوب القرشيين، والأحقاد تنخر ضمائرهم، فاندفعوا إلى إعلان العصيان والتمرد على حكومة الإمام (عليه السلام). ولهاتين النقطتين «تطهير جهاز الدولة وتاميم الاموال المختلسة»، دور كبير في عملية بناء الدولة بناءً صحيحاً، وهما في غاية الأهمية في مرحلة بناء الدولة العراقية المعاصرة، لاسيما بعد أن استشرى الفساد المالي والسياسي في كل أجهزة الدولة، وحالة الصراع الحزبي التي تشهدها العملية السياسية العراقية بعد العام 2003 والصراع على الثروة والسلطة بدافع المال والتسلط وليس بدافع رفع الظلم والجور عن الرعية. إذ سُيست كل مؤسسات الدولة العراقية بين الأحزاب مناصفة وأصبحنا نتكلم عن مؤسسات تابعة لأحزاب معينة وليس مؤسسات دولة تعمل على خدمة المواطن، مما تسبب بانهيار سياسي واقتصادي واجتماعي للدولة بمجملها؛ وذلك بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية الجامعة بين الاحزاب السياسية العراقية وتشتتها داخلياً وخارجياً.

ونتيجة للتدهور السياسي والاقتصادي الذي حّل بالمجتمع الإسلامي في عهد الإمام (عليه السلام) أتبع الإمام سياسة إصلاحية من أجل النهوض بالواقع السياسي والاقتصادي الإسلامي، وفيما يلي عرضاً موجزاً للسياسة الإصلاحية التي اتبعها الإمام (عليه السلام) لإدارة الدولة الإسلامية وهي كما يلي

(41):

أولاً: السياسة المالية

كانت السياسة المالية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) امتداد لسياسة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عنى بتطوير الحياة الاقتصادية، وإنعاش

ص: 274

الحياة العامة في جميع أنحاء البلاد، بحيث لا يبقى فقير أو بائس أو محتاج، وذلك بتوزيع ثروات الأمة توزيعاً عادلاً على الجميع. ومن مظاهر هذه السياسة هي:

1 - المساواة في التوزيع والعطاء، فليس لأحد على أحد فضل أو امتياز، وإنما الجميع على حدٍّ سواء. فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأسرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره. وقد أثارت هذه العدالة في التوزيع غضب الرأسماليين من القرشيين وغيرهم، فأعلنوا سخطهم على الإمام (عليه السلام).

2 - الإنفاق على تطوير الحياة الاقتصادية، وإنشاء المشاريع الزراعية، والعمل على زيادة الإنتاج الزراعي الذي كان من أصول الاقتصاد العام في تلك العصور. وقد أكد الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر على رعاية إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها.

3 - عدم الاستئثار بأي شيء من أموال الدولة، فقد تحرج الإمام (عليه السلام) فيها كأشد ما يكون التحرّج. وقد أثبتت المصادر الإسلامية بوادر كثيرة من احتياط البالغ فيها، فقد وفد عليه أخوه عقيل طالباً منه أن يمنحه الصلة ويرفه عليه حياته المعاشية، فأخبره الإمام (عليه السلام) أن ما في بيت المال للمسلمين، وليس له أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً، وإذا منحه شيء فإنه يكون مختلساً. وعلى أي حال فإن السياسة الاقتصادية التي تَبنّاها الإمام (عليه السلام) قد ثقلت على القوى المنحرفة عن الإسلام، فانصرفوا عن الإمام وأهل بيته (عليه السلام)، والتحقوا بالمعسكر الأموي الذي يضمن لهم الاستغلال، والنهب، وسلب قوت الشعب، والتلاعب باقتصاد البلاد، ويضمن لهم الهروب من الحساب والعقاب.

ص: 275

ثانياً: السياسة الداخلية

عنى الإمام (عليه السلام) بإزالة جميع أسباب التخلف والانحطاط، وتحقيق حياة كريمة يجد فيها الإنسان جميع متطلبات حياته، من الأمن والرخاء والاستقرار، ونشير فيما يلي إلى بعض مظاهرها:

1 - المساواة: وتجسّدت في (المساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة في العطاء، والمساواة أمام القانون). وقد ألزم الإمام (عليه السلام) عُماله وولاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم. فيقول (عليه السلام) في بعض رسائله إلى عماله: (واخفضْ للرعيّة جناحك... والخ).

2 - الحرية: أما الحرية عند الإمام (عليه السلام) فهي من الحقوق الذاتية لكل إنسان، ويجب أن تتوفر للجميع، شريطة أن لا تستغل في الاعتداء والإضرار بالناس، وكان من أبرز معالمها هي الحرية السياسية. ونعني بها أن تتاح للناس الحرية التامة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه. وقد منح الإمام (عليه السلام) هذه الحرية بأرحب مفاهيمها للناس، وقد منحها لأعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته.

ص: 276

ثالثاً: الدعوة إلى وحدة الأمة

وجهد الإمام كأكثر ما يكون الجهد والعناء على العمل على توحيد صفوف الأمة ونشر الأُلفة والمحبة بين أبنائها. واعتبر (عليه السلام) الأُلفة الإسلامية من نعم الله الكبرى على هذه الأمة. فيقول «إنّ الله سبحانه قد امتَنّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن، وأجلُّ من كل خطر». فقد عنى الإمام (عليه السلام) بوحدة الأمة، وتبنّي جميع الأسباب التي تؤدي إلى تماسكها واجتماع كلمتها، وقد حافظ على هذه الوحدة في جميع أدوار حياته. فقد ترك (عليه السلام) حَقه وسالم الخلفاء صيانة للأمة من الفرقة والاختلاف.

رابعاً: تربية الأمة

لم يعهد عن أحد من الخلفاء أنه عنى بالناحية التربوية أو بشؤون التعليم كالإمام (عليه السلام)، وإنما عنوا بالشؤون العسكرية، وعمليات الحروب، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وبسط نفوذها على أنحاء العالم. وقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه بهذه الناحية، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية. وكان (عليه السلام) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله، وإظهار فلسفة التوحيد، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفا من ذلك نشر الوعي الديني، وخلق جيل يؤمن بالله إيمانا عقائدياً لا تقليدياً.

فقد كان الإمام (عليه السلام) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام، وقد بذل جميع جهوده على إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين، وكان دوماً يذيع بين أصحابه قوله «سَلوني قَبلَ أن تفقدوني، سَلوني عن طُرق السَّماء، فإني

ص: 277

أبصَرُ بها من طُرُق الأرض» (42).

فلسفة الحكم عند الإمام علي (عليه السلام) في جوانبها كافة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية تسير من الناحيتين النظرية والعلمية وفق كتاب الله. كما كان الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سائراً في سياسته العامة من الناحيتين النظرية والعلمية وفق مستلزمات القرآن. وقد استشهد الأمام قبل انجاز رسالته الخالدة (المستمدة من القرآن وسنة رسول الله). وهذا لا يعني بأن فكر الإمام السياسي والإداري في قيادته للحكومة الإسلامية أنذاك هو بعيد عن واقع المجتمعات البشرية (أي أن فكر الإمام كان فكر واقعي بما يتناسب مع متطلبات المجتمع الإسلامي وليس ذلك الفكر الطوبائي الذي يتحدث عنه بعض المنظرين)؛ لذلك كان الإمام يتبع مع الرعية سياسة بسيطة وحكيمة لا يترقى بها عن واقع المجتمعات الإسلامية في تلك المرحلة، إذ كان يجالس الرعية ويستمع لهم وما يحتاجونه من رعاية والاستماع لمطالبهم، وهذه من الركائز الأساسية التي اتبعها الإمام في إصلاح الرعية وتقليص الفجوة بين السلطة والمجتمع، وذلك بعدم انحجابه عن الناس والمؤمنين والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة.

وهذا ما يجعل فكر الإمام فكر قابل لكل زمانً ومكان؛ لأنه جامع بين الأمرين «الدنيوي والآخروي» وهو المستمد من القرآن ونهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وربما يكون هناك اجماع على أن فكر الإمام (عليه السلام) لم يلاقي الأرضية المناسبة طوال الفترة التي اعقبت استشهاده، كالفرصة السياسية التي حصلت عليها الأحزاب السياسية الشيعية بعد العام 2003 والإطاحة بنظام صدام حسين، في تطبيق فكر الإمام علي (فكره السياسي والإداري) بما عهد به مالك الأشتر حينما ولاه على مصر، لاسيما وأن هذه الوثيقة - وثيقة العهد - وثيقة متكاملة وشاملة لكل الجوانب

ص: 278

(السياسية والاقتصادية والعسكرية والمالية والقانونية والاجتماعية)؛ لتكون الأحزاب

العراقية ولاسيما الشيعية منها على قدر المسؤولية التاريخية في بلورة فكر الإمام إلى فكر سياسي واقعي بما يتناسب مع واقعنا السياسي المعاصر وتحديات بناء الدولة العراقية. فالأحزاب الشيعية ملقاة على عاتقها مسؤولية أخلاقية وسياسية في استنهاض فكر الإمام المغيب عن الواقع السياسي على مدار التاريخ السياسي للحكومات الإسلامية المتعاقبة، لاسيما وأن فكر الإمام صالح لكل زمان ومكان وجامع لكل البشرية باختلاف أديانها ومذاهبها وطوائفها انطلاقا من فلسفته العميقة (اما أخ لك في الدين أو نظيراً لك في الخلق)؛ لأن فقه الإمام وقاموسه السياسي لم يظلم أحد، ويتناسب مع التنوع الديني والمذهبي والقومي العراقي. فأجهزة الدولة ومؤسساتها كافة (السياسية والعسكرية والاقتصادية)، تحتاج إلى المشروع الإصلاحي الذي اتبعه الإمام علي (عليه السلام) بعد توليه الحكم، فهي بحاجة إلى التطهير من العناصر الفاسدة والمسيئة كتلك التي حاربها الإمام عندما أبعد المنتفعين من مؤسسات الدولة الإسلامية أنذاك. كذلك الحكومة العراقية اليوم بحاجة إلى مكافحة الفساد بشكل جدي وإرجاع الأموال المختلسة والمسروقة منذ العام 2003، لاسيما وأن العراق شهد حالات اختلاس كبيرة لم تشهدها الدولة العراقية من قبل، مما تسبب بانهيار الوضع الاقتصادية للبلد، وادخله في أزمة مالية حادة، تسببت بتهديم البنى التحتية وتوقف المشاريع الاستثمارية والخدمية.

إن معالجة وضع الدولة العراقية، وانجاح المشروع الإصلاحي بحاجة إلى أرضية صحيحة، وهذه الأرضية لا يمكن توفيرها في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي واستشراء الفساد، سواء في هرم السلطة أم في القاعدة «مؤسسات الدولة»؛ ولهذا فأن الخطوة الأولى تبدأ من عملية تطهير أجهزة الدولة ومكافحة الفساد (أي الفساد

ص: 279

السلطوي) المتعلق في هرم السلطة، كتلك التي بدئها الإمام علي (عليه السلام) في جهاز الدولة بعد توليه الحكم خلف مقتل عثمان أبن عفان عندما صادر أمواله «بما فيها سيفه ودرعه» وأضافها إلى بيت المال، فضلاً عن عزل ولاته «ولاة عثمان» من المنتفعين والمتسلطين؛ لأن الفساد المالي والسياسي من أكبر الآفات التي تهدد الدول، وقد تكون الآفات الأخرى ما هي إلا نتيجة طبيعية لذلك الفساد.

ولذلك فإن الخطوة الأولى في إصلاح الدولة وبنائها بشكل جدي يتطلب تفعيل الدور الرقابي ودور القضاء، والذي بدوره يمّكن أجهزة الدولة الأخرى من التفعيل في معالجة وإصلاح القطاعات الاخرى التي تنهض بالواقع الاقتصادي للبلد وانعاش الواقع العام للمجتمع كتلك الإصلاحات التي بادر بها الإمام بعد أن حارب الفساد وطهر أجهزة الدولة من العناصر الفاسدة، ليتجه بعدها إلى رسم السياسة المالية للدولة، سواء كان ذلك في التوزيع العادل بين طبقات المجتمع أو في إصلاح الواقع الزراعي أو الاقتصادي بشكل عام، وعدم الاستئثار بأموال الدولة، فضلاً عن المساواة بين كل طبقات المجتمع بعيداً عن أي انتهاء الأخرى، وكذلك المساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة في العطاء، والمساواة أمام القانون.

«فلا فضل للمهاجرين على الأنصار، ولا لأسرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه على غيرهم، ولا للعربي على غيره»،. وقد أعطى الإمام حرية للجميع ولم يحارب أحد برزقه أو يساومه في سبيل اعتناق دين معين او غير ذلك، واتَاح للناس الحرية التامة في اعتناق أي مذهب سياسي دون أن تفرض عليهم السلطة رأيا معاكساً لما يذهبون إليه. وقد حافظ على وحدة الأمة الإسلامية بنهجه القويم وصراطه المستقيم، وعمل جاهداً على تنوير الأمة والمجتمع الإسلامي بالعلم والدين والتعليم وحارب الجهل بكل جوانبه. وهذه الأمور بحد ذاتها كفيلة بمعالجة أي أخفاق تعاني

ص: 280

منه الدول أو الحكومات المعاصرة. فالإخفاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، فضلاً عن حالة عدم التوافق السياسي بين مكونات العملية السياسية، التي منيت بها الحكومة العراقية بعد العام 2003، بحاجة إلى وثيقة سياسية شاملة ويمكن الاستفادة من وثيقة العهد هذه - على أقل تقدير - في الوصول إلى رؤية سیاسية جامعة، يمكن للقوى السياسية أن تلتف حولها بهدف واحد، وهو بناء الدولة العراقية على أسس صحيحة بعيداً عن الولاءات الضيقة التي تحجم مفهوم الدولة المعاصرة.

ص: 281

الخاتمة

بالفعل تعد وثيقة العهد التي بعث بها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رض)، مفخرة للتاريخ السياسي الإسلامي القديم والحديث، والدليل على ذلك حثت الأمم المتحدة النظم السياسية العربية والإسلامية إلى الاستفادة من هذه الوثيقة في أرسى مبادئ الحكم الصالح في بلدانها. وقد تضمنت هذه الوثيقة رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة، لاسيما وأن بنود هذه الوثيقة ليست حكراً على زمنً معين، فهي صالحة لكل الأزمان؛ لأن الأمام علي (عليه السلام) أراد من هذه الوثيقة أن تكون أساس ثابت ومنطلق صحيح لكل من يتولى الحكم في الدولة الإسلامية على امتداد تاريخها. ولهذا فأن الأحزاب السياسية العراقية اليوم، لاسيما الأحزاب الشيعية منها، امامها مسؤولية تاريخية في احياء فكر الإمام علي (عليه السلام) بجوانبه المتعددة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والعسكرية) التي تضمنته وثيقة العهد هذه، بعدما غيب فكر الإمام (عليه السلام) على امتداد كل الحقب السابقة في الحكومات الإسلامية؛ لأن الدولة الأموية والعباسية والعثمانية التي حكمت الدول

الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي بعد الحكم الراشدي، كان حكمها عضوضا، ويحكم وفق المزاج الشخصي للحاكم ورغباته السياسية، واطماعه الاقتصادية وليس وفقاً للدستور أو القانون والشريعة، وقد ابتعدت عن حكم القرآن ونهج الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفكر الإمام علي، وبالتالي من المؤكد أن تشهد تلك الحكومات المتعاقبة الانتكاسات السياسية وحالات التشرذم والفساد وحالة التقلبات

ص: 282

الاقتصادية، وتكون عرضة للتدخلات السياسية الأجنبية. وقد خرج البحث ببعض الاستنتاجات لرفد صانع القرار العراقي واصحاب الشأن بالرؤية السياسية الجامعة في فكر الإمام علي (عليه السلام) وتوظيفها في إدارة الدولة العراقية الحالية منها:

1 - عدم الاعتماد على الوزراء السابقين ممن عملوا مع الحكام الذين وضح فيهم الشر

والبغي في الحكومات الجديدة أو المتشكلة بعد تلك الحكومات السابقة.

2 - الابتعاد عن الروتين الإداري، والتخلي قدر الإمكان عن مظاهر البيروقراطية

والمشكلات الإدارية والتنظيمية التي من شأنها أن تطيل من مجرى المعاملات وتعيق سبل الإنجاز، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.

3 - مراقبة وتفتیش عمل الموظفين بعد تعينهم واخضاعهم لمراقبة حكومية شديدة؛ لمكافحة حالة الترهل الإداري والوظيفي في مؤسسات الدولة، وانجاز الاعمال اليومية وقت ورودها دون تأجيلها إلى اليوم التالي، وبما يتناسب مع اهميتها.

4 - تطهير جهاز الدولة الإداري والوظيفي من الولاة والوكلاء والمدراء من الذين سخروا جهاز الدولة لمصالحهم، ومكافحة الفساد، ووضع اليد على المال

المختلس.

5 - استنهاض الدولة بأحياء حركتها الاقتصادية والتجارية وسياساتها المالية برؤية

استراتيجية طويلة الأمد.

6 - تبسيط السلطة السياسية وسد الفجوة بين المجتمع والسلطة من خلال مجالسة الرعية والتحدث إليهم وسماع مشاكلهم ومطالبهم وعدم انحجاب الحاكم عن الرعية.

ص: 283

ويمكن الخروج بتوصية عامة وشاملة للبحث وفق التحديات الحالية التي تواجه الدولة العراقية وبما يتناسب مع مطالب الإصلاح الشعبية كتلك التي اتبعها الإمام في برنامجه الإصلاحي في إصلاح الدولة الإسلامية بعد استلامه زمام الحكم ضمن الخطة الإصلاحية الشاملة التي وضعها الإمام (عليه السلام) في عهده، وذلك بالتركيز على شؤون الإدارة والاقتصاد والحكم من خلال تطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والولاة السابقين، الذين تبوؤا مناصبهم لمصالح خاصة، ومكافحة الفساد وإرجاع الأموال المختلسة، وتطوير الحياة الاقتصادية من خلال الاهتمام بالمشاريع الزراعية واحياء الحرف والمصانع من خلال خطة اقتصادية شاملة وإزالة جميع اسباب التخلف والانحطاط وتحقيق الحياة الكريمة للمجتمع من خلال توفير الأمن الداخلي والرخاء الاقتصادي، واحساس المواطن بهويته على اساس المواطنة واعطاءه الحرية السياسية والدينية في اعتناق أي مذهب سیاسي دون ان تفرض عليه السلطة رأيا معاكساً.

ص: 284

الهوامش

1. السعيدي، حامد، الامام علي ونظام الحكم، شبكة معلومات دولية: https://goo.gI/IT7YjQ

2. للمزيد عن شرح نهج البلاغة للبحراني، ج 5 ص 118. أنظر شبكة معلومات

دولية: https://goo.gl/pdn5wG

3. الرضي، الشريف، نهج البلاغة، ط 1، مركز الأبحاث العقائدية، النجف

الأشرف، 1998، ص 568.

4. شبكة معلومات دولية: https://goo.gl/ktjB11

5. سلوم، عبد الحكيم، حقوق الإنسان في وصايا الإمام علي (عليه السلام)، شبكة

معلومات دولية: https://goo.gl/jJL7pt .6. الساعدي، رحيم، صفات الحاكم عند الإمام علي (عليه السلام)... من كتاب الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي، مركز النور لدراسات، 2013، شبكة معلومات دولية: https://goo.gl/x4yqLY

7. عهد الأمام علي أبن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، وثيقة سياسية إسلامية ذات أبعاد قانونية - سياسية - اجتماعية - إدارية - اقتصادية - عسكرية، ص 9.

8. الساعدي، رحیم، مصدر سبق ذكره.

9. شلبي، أحمد، موسوعة النظم والحضارة الإسلامية (السياسة في الفكر

الإسلامي)، مكتبة النهضة المصرية، ط 5، 1983، ص 49.

10. المصدر نفسه.

11. السعيدي، حامد، مصدر سبق ذكره.

12. سورة النساء الآية 135.

13. جعفر، نوري، فلسفة الحكم عند الإمام، ط 2، دار المعلم للطباعة، القاهرة،

ص: 285

1978، ص 45.

14. عبده، محمد، نهج البلاغة، ج 2، المطبعة الأدبية، بیروت، 1885، ص 46. وأنظر أيضاً عهد الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، مصدر سبق ذكره، ص 50.

15. السعيدي، حامد، مصدر سبق ذكرة.

16. عمارة، محمد، الإسلام وفلسفة الحكم، ط 1، دار الشروق، القاهرة، 1977،

ص 96.

17. السعيدي، حامد، مصدر سبق ذكره.

18. القزويني، محسن باقر، خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه

السلام)، مجلة أهل البيت، العدد الأول، ص 75. شبكة معلومات دولية: https://goo.gl/pa61Xx

. وأنظر أيضاً: الساعدي، رحیم، مصدر سبق ذكره.

19. سورة الأنفال الآية 61.

20. سورة النساء الآية 90.

21. سورة التوبة الآية السابعة.

22. سورة التوبة الآية السادسة.

23. شبكة معلومات دولية: https://goo.gl/pdn5wG

.

24. أنظر: الساعدي، رحيم، والسعيدي، حامد، مصدر سبق ذكره.

25. شبكة معلومات دولية: 25.

https://goo.gl/pdn5wG

.

26. التميمي، مهدي حسين، الإمام علي (عليه السلام) التدبير القيادي للدولة،

العتبة العلوية المقدسة، ط 1، النجف الأشرف، 2015، ص 111.

27. المصدر نفسه، ص 12. 28. المصدر نفسه، ص 114 - 118.

ص: 286

29. سوادي، فليح، عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى وليه على

مصر مالك الإشتر (رض)، العتبة العلوية المقدسة، ط 1، النجف الأشرف، 2010، ص 15.

30. رستمیان، محمد علي، وظائف الحاكم ومسؤولياته في الفكر الإسلامي، شبكة

معلومات دولية:

https://goo.gl/zN642r

31. المصدر نفسه.

32. سوادي، فليح، مصدر سبق ذكره، ص 25.

33. المصدر نفسه، ص 20.

34. رستمیان، محمد علي، مصدر سبق ذكره.

30. الأمم المتحدة: عهد الإمام علي لمالك الأشتر مصدر لتشريع القانون الدولي،

العتبة الحسينية المقدسة، 13 / 2 / 2016، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/nWnsxg

36. رستمیان، محمد علي، مصدر سبق ذكره.

37. المصدر نفسه.

38. جعفر، نوري، مصدر سبق ذكره، ص 51 وص 55.

39. السعيدي، حامد، مصدر سبق ذكره.

40. عن إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) السياسية والإدارية، انظر مرکز آل

البيت العالمي، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/hHxfdW

.

41. المصدر نفسه.

42. المصدر نفسه.

ص: 287

المصادر

أولاً: القرآن الكريم

1 - سورة التوبة الآية السابعة.

2 - سورة التوبة الآية السادسة.

3 - سورة الأنفال الآية 61.

4 - سورة النساء الآية 90.

5 - سورة النساء الآية 135.

ثانياً: الكتب

1 - التميمي، مهدي حسين، الإمام علي (عليه السلام) التدبير القيادي للدولة، العتبة

العلوية المقدسة، ط 1، النجف الأشرف، 2015، ص 111.

2 - الرضي، الشريف، نهج البلاغة، ط 1، مركز الأبحاث العقائدية، النجف الأشرف،

1998، ص 568.

3 - جعفر، نوري، فلسفة الحكم عند الإمام، ط 2، دار المعلم للطباعة، القاهرة، 1978، ص 45.

4 - سوادي، فليح، عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى وليه على مصر مالك الأشتر (رض)، العتبة العلوية المقدسة، ط 1، النجف الأشرف، 2010، ص 15.

5 - شلبي، أحمد، موسوعة النظم والحضارة الإسلامية (السياسة في الفكر الإسلامي)، مكتبة النهضة المصرية، ط 5، 1983، ص 49.

ص: 288

6 - عبده، محمد، نهج البلاغة، ج 2، المطبعة الأدبية، بیروت، 1885، ص 46.

7 - عمارة، محمد، الإسلام وفلسفة الحكم، ط 1، دار الشروق، القاهرة، 1977،

ص 96.

8 - عهد الأمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، وثيقة سياسية إسلامية ذات أبعاد قانونية - سياسية - اجتماعية - إدارية - اقتصادية - عسكرية، ص 9.

ثالثاً: البحوث ومواقع الأنترنيت

1 - الأمم المتحدة: عهد الإمام علي لمالك الأشتر مصدر لتشريع القانون الدولي،

العتبة الحسينية المقدسة، 13 / 2 / 2016، شبكة معلومات دولية: .

https://goo.gl/nWnsxg

2 - رستمیان، محمد علي، وظائف الحاكم ومسؤولياته في الفكر الإسلامي، شبكة

معلومات دولية: https://goo.gl/zN642r

.

3 - الساعدي، رحیم، صفات الحاكم عند الإمام علي (عليه السلام)... من کتاب

الاتجاهات الفكرية عند الإمام علي، مركز النور لدراسات، 2013، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/x4yqLY

4 - سلوم، عبد الحكيم، حقوق الإنسان في وصايا الإمام علي (عليه السلام)، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/jJL 7pt.

5 - السعيدي، حامد، الامام علي ونظام الحكم، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/lT7YjQ

6 - القزويني، محسن باقر، خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه

السلام)، مجلة أهل البيت، العدد الأول، ص 75. شبكة معلومات دولية:

.https://goo.gl/pa61Xx

ص: 289

7 - عن إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) السياسية والإدارية، انظر مرکز آل

البيت العالمي، شبكة معلومات دولية:

https://goo.gl/hHxfdW.

8 - https://goo.gl/pdn5wG

: انظر شرح نهج البلاغة للبحراني، ج 5 ص 118.

https://goo.gl/ktjB11 - 9 https://goo.gl/pdn5wG - 10 https://goo.gl/pdn5wG - 11

ص: 290

السلطة المؤتمنة ومسؤوليتها في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

اشارة

أ. م. د. هاجر دوير

ص: 291

ص: 292

المقدمة

طبّق الإمام علي (عليه السلام) أبان فترة حكمه القصيرة مبادئ الإسلام السامية تطبيقاً صحيحاً وعادلاً وفريداً من نوعه، حيث لم يستطع مَنْ تقدّمه في حكم الأمة الإسلامية من الخلفاء بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحققوا ما حقّقه (عليه السلام) على الصعيد السياسي والإقتصادي في واقعهما النظري والتطبيقي، وكذلك على الصعيد العقائدي، حيث كانت هناك حرية التعبير والرأي من أجل خلق مجتمع تسوده قيم العدالة الإجتماعية والحس الإنساني، المشبّع بالرحمةِ والشعور بالمسؤولية، وهذا ضرورري لكونه الإمام المعصوم المنصوص على إمامته، الذي يكون وجوده لطف بهذه الأمة، وطمح (عليه السلام) أن يكون للأمة الإسلامية بعده دستوراً تنظيمياً يكفل لها السعادة في الدارين، وينظّم لهم الحياة السياسية مبيّناً فيه كيفية علاقة الحاكم بمحكوميه، وأيّ نوع من السلطة التي يجب أن تحكم المجتمع الإسلامي، ومن هو الذي يقوم على هذه السلطة، وما هي شروطه، وما مسؤولياته، فإختار من أصحابه أتقاهم وأخشاهم في الله، وأشجعهم، وهو مالك الأشتر لولاية مصر.

ولضرورة وجود الحاكم في حياة الناس وقيادته لهم وما له من دور في صلاح المجتمع أو فساده، وقد أكد (عليه السلام) على هذه الضرورة بقوله: (لا بدّ للناس من إمام برٍ كان أو فاجر)، كانت أهمية البحث.

ولتأكيد القرآن في أكثر من آية على خلافة الإنسان في الأرض هي خلافة إئتمانية

ص: 293

أي هو مؤتمن في الأرض ويتصرف فيها وكيلاً وليس أصيلاً، وعليه أن يتحمل

مسؤوليته، كان سبب إختيار الموضوع.

وقد أتبع البحث منهجاً وصفياً تحليلاً مقارناً، وذلك بعرض نصوص العهد بعد تجزئتها والإستئهاد بها حسب العنوانات المذكورة في البحث، وتحليلها بإعتماد شروح نهج البلاغة والكتب المتخصصة في العقائد والفكر السياسي الإسلامي مع مقارنة ما يتطلب مقارنته بخصوص شرط العدالة في الحاكم مع ما ورد في الآداب السلطانية، وكذلك مقارنة محدودة بين النظام الإسلامي والنظام العلماني من حيث المسؤوليات.

وكانت خطة البحث كالآتي:

المبحث الأول:

المرتكزات العقائدية للسلطة المؤتمنة: وفيه عرض لمرتكزين عقائديين كمنطلق أساس

لسلطة الحاكم المؤتمنة وذلك من خلال مطلبين:

المطلب الأول: مالكية الله، أساس عقائدي. وفيه الإعتقاد المطلق للحاكم المؤتمن،

إن الله هو الماك الحقيقي وما ملكيته للسلطة إلا ملكية بالتبعية.

المطلب الثاني: عدل الله، حقيقة عقلية ونصوص عقدية. وفيه الإعتقاد المطلق إن الله عادل لا يظلم أحداً قط، وعليه ضرورة تطبيق العدالة في الأرض لأقامة مجتمع فاضل.

المبحث الثاني:

شروط القائمين على أجهزة الدولة: وفيه تحديد لشروط كل من يتولى أمور المسلمين ويتسلط عليهم حسب ما نصّ عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في العهد، فكان

ص: 294

في مطلبين:

المطلب الأول: شروط الوالي والقاضي.

المطلب الثاني: شروط المستشارين والوزراء والعمال.

المبحث الثالث:

مسؤوليات السلطة الإئتمانية: وفيه ذكر لوظائف السلطة المؤتمنة التي تسعى تقديم الخدمات الإجتماعية، وحفظ الأمن وإستقرار البلاد، مع مراعاة تطبيق أوامر الله ونواهيه وتحقيق عدالته، فهي إلتزام ديني وأخلاقي وإجتماعي، حيث تكونّ من ثلاث مطالب:

المطلب الأول: الجانب الإقتصادي.

المطلب الثاني: الجانب الدفاعي.

المطلب الثالث: تقنين العقوبات.

ثم أهم ما توصلنا إليه من إستنتاجات.

وفي الختام لا يسعنا إلا شكر القائمين على هذا المؤتمر بإقتراحهم هذا العنوان المكتنز بالدلالات، مما يتيح للباحثين تنوع الموضوعات.

ص: 295

المبحث الأول المرتكزات العقائدية للسلطة المؤتمنة في نصوص العهد

أراد الإمام علي (عليه السلام) بعهده الى مالك الاشتر أنْ يجعل للمسلمين المعاصرين له وللأجيال الكائنة بعد وفاته، دستوراً تنظيمياً ينظم علاقة الحاكم

بمحكومية، يبين لهم فيه حقوق وواجبات كل منهما، لكي يكفل لهما السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، ولمثل هذه الوظيفة التنظيمية والغاية الدينية والدنيوية، لا بد ان يستند هذا العهد على مرتكزات عقائدية تمثل أسس الدين الإسلامي، بحيث أن أي مادة من مواد هذا الدستور لا يمكن فصلها أو عزلها عن هذه المرتكزات وهي:

1 - ان الله (عزّ وجل) هو المالك الحقيقي للوجود، والإنسان مؤتمن عليه.

2 - ان الله عادل ولا يظلم احداً قط.

المطلب الأول: مالكية الله، أساسٌ

من الثوابت الكلامية عند المسلمين أنَّ الله هو المالك الحقيقي للكون وكل تشريع لا ينطلق من هذا الثابت فهو باطل، وهذا لا ينفي وجود الملكية الخاصة لأن أي تصرف يقوم به الانسان لا بد ان يستند الى ملكية خاصة، لكنها مندرجة تحت الملكية المطلقة لله، وهو ما اسس له النص القرآني بقوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ»(1)، وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

ص: 296

»(2) والمقصود بكون الله له الملك او كون صفته (مالك الملك) بأنّ الله (ينفذ مشيئه في الله في مملكته كيف يشاء، وكما يشاء إيجاداً وإعداماً إبقاءاً وإفناءاً والملك هنا بمعنى المملكة والمالك بمعنى القادر التام القدرة، والموجودات كلها هو مالكها وقادر عليها) (3)، وإنّ لهذا التأسيس القرآني مايؤيده في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر منها قوله (عليه السلام): (فانظر الى عظيم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما تقدر عليه من نفسك) (4).

وفي موضع آخر من العهد بيّن فيه الترتيب الهرمي للوالي بين الرعية والمالك الحقيقي (فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاّكَ ...) (5).

وفي موضع آخر يحذر مالك (إياك ومساماة ٭ الله في عظمته، والتشبه به في

جبروته، فإنّ الله يُذّل كُلَّ جبِّار، ويُهين كُلَّ محتال) (6).

إن هذه النصوص أعلاه، والنصوص الاخرى التي تصب في ذات المضمار تشير الى عظمة ملك الله وقدرته على كل شيء، صغير الاشياء وكبيرها، وفوق كل شيء، وعندما يكون للإنسان سلطة ما، لا يعني أنّهُ لا توجد سلطة اعلى منها، بل أنَّ السلطة العليا الحقيقية الله وحده، وما الانسان الا مؤتمن عليها، وهي أمرٌ اعتباري خاضع لاعتبارات يتوافق عليها المجتمع، لأن الله هو (المالك الاصلي لكل ما يملكه الناس... وله وحده في الاصل الحق في منحه للإنسان) (7).

إذن وبعد أن عرفنا ان الله هو المالك الحقيقي، لنا أنْ نعرف ما موقع الانسان بالنسبة لله؟

الإنسان هو خليفة الله في الأرض والمؤتمن عليها، شرّفهُ بالخلافة وأمر الملائكة السجود له وهذه الخلافة، (ليست استخلاف لشخص آدم فحسب بل للجنس

ص: 297

البشري... قد أُعطيت للإنسانية على الارض) (8). وهذه حقيقة أيدتها النصوص

القرآنية منها قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ» (9). فالحاكم بوصفه خليفة الله في الارض في الإسلام غير مخول أن يحكم باجتهاده منفصلاً عن توجيه الله سبحانه وتعالى لأن هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف وقد بدى هذا واضحاً في عهد علي (عليه السلام) لمالك كما جاء فيه: (وأردد الى الله ورسوله ما يُضلعك في الخطوب، ويشتبه عليك من الامور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» فالرد الى الله: الأخذ بمحكم كتابه والرد الى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة) (10)، هذا بخلاف الأنظمة السياسية الغربية التي انطلقت في تشريعاتها من مبدأ سيادة واصالة الانسان، فأيَّ تشريع مرجعه الإنسان منقطعاً عن الله، حيث النزعة الإنسانية في الفلسفة الغربية التي اخذت تعطي (نظرية جديدة في الانسان يقنع بما يسمى الطبيعية ويستغني عما فوق الطبيعة، والعمل على سلخ الفلسفة عن الدين أو بعيارة أدق العمل على إقامة فلسفة خصيمة للدين) (11).

مما تقدم نصل الى ان الانسان بشكل عام والحاكم بشكل خاص هو خليفة الله في الارض أي مرتبط بتشريعاته وتقنياته بالله (عزّ وجل)، لأنه كائن تبعي لموجده ومتقيد به، وان الله في الإسلام هو المرجع الحقيقي والمصدر الوحيد، وان الدستور الذي خطه علي (عليه السلام) في عهده للأشتر هو خير مجسد لمالكية الله وخلافة الانسان.

ص: 298

المطلب الثاني: عدل الله، حقيقة عقلية ونصوص عقدية

يعد العدل الإلهي أصل من اصول الامامية والمعتزلة الثابتة حتى سمّوا بالعدلية لتبنيهم هذا الأصل بخلاف غيرهم من المذاهب الاخرى الذي إعتبرته مسألة من المسألة المرتبطة بصفة الكرم الإلهي وتابعة للمشيئة والإرادة الإلهية (12)، (وقد خلعوا عنه أية أهمية، ولعله كان امراً مقصوداً) (13).

وحقيقة هذا الخلاف حول مفهوم العدل ينطلق من القول بالتحسين والتقبيح العقليين عند العدلية وبالتحسين والتقبيح الشرعيين عند الأشاعرة، حيث يرى الامامية أنّ العدل حقيقة عقلية تعتمد على أساس التحسين والتقبيح الذاتيين بمعنى ان الشرع يحسن ما حسنه العقل، ويُقبّح ما قبّحه العقل عند عامة الناس، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» (14)، أي محال على الله ان يترك ما أمر به أو

يفعل ما نهى عنه، مما يثبت حسنه او قبحه بالضرورة العقلية والفطرة التي فطر الناس عليها، أما على رأي الأشاعرة أن الحسن ما حسنه الشرع وإنْ قبحه العقل، والقبيح ما قبّحه الشرع وإن حسنه العقل، ولازم كلامهم هذا أنه من الممكن أن يدخل الله المؤمن النار او يجبر عباده على فعل الطاعة او المعصية وغيرها وكلها انكاراً للعدل (15).

وهذا الخلاف النظري، وان لم يبتلور بهذه الصورة في زمن الامام علي (عليه السلام) لكن وردت مجموعة تساؤلات سواء من اتباع الامام او من الداخلين الجدد للإسلام تشكك بعدالة الله تعالى، فكانت الأسئلة العقائدية تدور حول الإيمان بالقضاء والقدر والجبر والاختيار، والإيمان والعمل كلها ترتبط بأصل العدل الإلهي، حيث كانت هذه الاشكالات تخدم معاوية بن أبي سفيان والبيت الاموي عموماً ووجد فيها تبريراً لمظالمهِ، حيث شجّع ثقافة الجبر والإرجاء، حتى يعيش الناس هذه المفاهيم

ص: 299

العقائدية الملتبسة ثم الاستسلام والخضوع التام لهم، فكانوا يقتلون الرجل ويقولون قتله (الله) لأنهم مجبرين على أفعالهم وليس لهم اختيار في قتله (16)، واما عن حقيقة الإيمان فبعضٌ قال: يكفي في الإيمان القول باللسان وان اعتقد الكفر بقلبه، وبعض آخر قال الإيمان عقد بالقلب، وان اعتقد الكفر بلسانه، وأرجئوا العمل الى يوم القيامة (17)، فكان للإمام علي (عليه السلام) دورٌ مهم في تصحيح هذا الفهم الملتبس عن عدالة الله من خلال إجابته على أسئلة السائلين أو من خلال خطبه ورسائله.

ما قدّمه علي (عليه السلام) في هذا العهد هو الأنموذج الاكمل للدولة التي يريد الله تحقيقها على الارض والتي تستند على دعائم الحق وأقامة العدل، والذي لم يتسنى له (عليه السلام) تطبيقها كاملة لقصر مدة استلامه للحكم وبسبب الحروب الأهلية التي زُجَّ فيها، حيث أراد لهذا العهد أن يكون معياراً ينطلق من خلاله في وضع قواعد للحكم ولتصحيح الافكار الخاطئة أو ترد على شبهات موجهة للعقيدة، وخصوصاً ان مصدر هذا العهد هو علي بن ابي طالب، المصدر التشريعي بعد رسول الله، حيث أنه كان قرآناً يمشى على الأرض.

وقد ورد في العهد عدة مضامين متعلقة بإقامة العدل نذكر منها: (ثم اعلم يا مالك اني وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك فيها عدل وجور) (18) أي ان البلاد التي تقصدها أي [مصر]، حكمتها دول وضعية، حيث ان قوانينها من وضع البشر ومثل هذه القوانين غير مرتبطة بالله، أي لم يراعى فيها مخافة الله وتقواه، بل شرعت بما ينسجم مع الواقع السياسي، قد تكون عادلة وقد تكون جائرة (19). أما أنت فانك ممثل علي بن ابي طالب، الامام المنصب من قبل الله تعالى لقيادة الأمة الدينية والدنيوية، أي عليك ان تحكم بين الناس بالعدل، بحيث لا يعرف الجور اليك طريقه.

ص: 300

وقوله: (انصف الله وانصف الناس من نفسك) (20).

ومراده بإنصاف الله، (العمل بأوامره والانتهاء عن زواجره مقابلاً بذلك نعمه. وانصاف الناس العدل فيهم والخروج اليهم من حقوقهم اللازمة لنفسه ولأهل خاصته) (21).

قوله: (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء) (22).

وفيه يبين أن على الحاكم العادل أنْ يميز بين الحق والباطل، والظالم والمظلوم لا يكونان متساويين، المسيء يجب أن يوجه اما بالنصح او بالعقوبة حسب إساءته، حتى يعاد تأهيله وقبوله في المجتمع الإسلامي، أما المحسن يجب أن يراعي ويحترم ويأخذ مكانه الصحيح في بناء المجتمع (فاذا رأى المحسن مساواة منزلته لمنزلة المسيء كان صارفاً له عن الإحسان وداعياً الى الراحة من تكلفه) (23). كما ان الله في الآخرة يجازي كل منهما حسب عمله.

وفي مقطع آخر يقول حول الرعية: (يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ) (24)، أي ان الرعية غير معصومین، وجميع أعمالهم ينظر فيها، والانسان هو الذي يصنع الشرور في العالم، فيكون مسؤولاً عن اعماله، حيث ثبت هذا المقطع حقيقة عقائدية هي أنّ الإيمان وحده لا يكفي، فالإيمان مقرون بالعمل الصالح، وقد توافق هذا المعنى مع نص آخر من العهد عندما قال:

(فليكن أحبّ الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح) (25) ولم يقل ذخيرة المال والجاه

والسلطان.

وفي مقطع آخر من العهد عن اقامة العدل يقول: (والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم) (26). وفيه إشارة الى ان العدل لا يقتصر على تطبيق

ص: 301

القوانين الشرعية وادارة شؤون الرعية فقط بل تتسع دائرته لتشمل الجوانب المعنوية بحيث يكون الحاكم عادلاً في توزيع الرفق والرحمة برعيته، وبهذا تقر عين الوالي او الحاكم اذا تمكن من اقامة العدل بين الناس (وافضل قرة عين الولاة العدل بين الناس) (27).

ولا بد من الاشارة الى ان العهد يزخر بمعاني العدل وتطبيقاته، وما ذكر جزءاً منها، تبنى الامام فيه تسليح القائم بأمر المسلمين تسليحاً عقائدياً صحيحاً ليؤمن على المحكومين إسلامهم من جهة، وتنظيم شؤونهم المتعلقة بالحكم والإدارة من جهة أخرى، فكل كلمة قالها الامام في هذا العهد تجسد عدل الله في الارض، واختار مالكاً للنهوض بأعباء الأمانة وممارسة دور الخلافة.

ص: 302

المبحث الثاني شروط القائمين على اجهزة السلطة في نصوص العهد

عندما اختار علي (عليه السلام) مالك الاشتر لولاية مصر لِحظ فيه مجموعة من

المؤهلات التي تؤهله لهذه المهمة، والتي اصبحت فيما بعد مصدراً لمنظري الآداب السلطانية وقد صيغت بصيغ عده تحت عنوان شروط الإمام.

المطلب الأول: شروط الوالي والقاضي

حدود المقطع الأول من العهد هذه الشروط حيث ورد فيه (امره بتقوى الله، وایثار طاعته، واتباع ما امر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد الا باتباعها، ولا يشقى الا مع جحودها...) (28). من هذا النص يمكننا أن نستخلص الشروط الآتية (29):

1 - تقوى الله وخشيته.

2 - العمل بتقوى الله وسنة رسوله.

3 - نصر الله باليد واللسان والقلب.

4 - کسر شهوات النفس ومقاومة الجمحان.

واضحٌ جداً أن الشخص المرشح لولاية أمير المؤمنين يتصف بكونه يخشى الله

ويأثر طاعته، مصدرهُ في التشريعات وحل المشكلات القرآن والسنة، آمر بالمعروف ناهياً عن المنكر، مؤيداً للحق، يروم نصر الإسلام ورفع رايتهِ عالياً، وغير مبالٍ

ص: 303

بملذات الحياة ومسراتها. ان هذه الصفات لا تجتمع في شخص الا رجل بلغ درجة عالية من الإيمان وعرف موقعه في كونه وكيلاً عن الله، ملتزماً بأوامر ونواهي موكله، ولازم ذلك أن يكون عادلاً، أي لا يظلم احد في مملكته، ولا تنحصر هذه الصفات بشخص مالك الاشتر، بل نجد أن مالكاً عندما كُلّف بإدارة هذه الولاية، بين له الإمام (عليه السلام) الصفات التي يجب أن يكون عليها كل من القضاة والوزراء والمستشارين والعمال والكتاب الذين يختارهم في مسك زمام الامور. يقول الامام علي (عليه السلام) في وصيته لمالك لإختيار القاضي: (ثم أختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور ولا تمحكهُ الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا تحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع...) (30).

نلحظ من هذا النص ان هناك سبعة شروط (31) لإختيار القاضي:

1 - ان يكون محيطاً بالقضايا مستوعباً لمداخلها ومخارجها.

2 - قوي الشخصية بحيث لا تدفعه الخصومات على تغيير سلوكه.

3 - لا يصرّ على الخطأ بعد اكتشافه.

4 - لا يضعف أمام المال والجاه، بل يبقى قوياً ملتزماً بالحق.

5 - أن يكون دقيقاً في معالجة القضايا والخصومات دون تسرع واضطراب.

6 - اذا اشتبهت عليه الامور يتوقف في الحكم.

7 - اذا اتضح الحق يلتزم به دون تردد.

مما تقدم نجد الإمام ركزّ على القاضي وجعل مجموعة شروط لإختياره، وذلك لأنه إذا كان الإختيار هذا المنصب صائباً إستتتب العدل وتعزز الامن والسلام، كونه يقوم بأعمال الفصل في النزاعات والخصومات.

ص: 304

المطلب الثاني: شروط المستشارين والوزراء والعمال

عندما ذكر الإمام صفات المستشارين قال: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشدة بالجور، فان البخل والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله) (32)، نهی في النص عن صفات ثلاث مذمومة وهي البخل والجبن والحرص، وقال إن مبدأها سوء الظن بالله وهو عدم معرفة الله (فالجاهل به لا يعرفه من جهة ما هو جواد فیاض بالخيرات، لمن استعد بطاعته فيسوء ظنه به) فيخاف البذل من جانبه وعدم التعويض من ربه، عندئذ يلزم البخل، ويجهله من جهة لطفه وعنايته بعباده، وبأنه يتصور هلاکه، وعدم حفظه من قبل الله، وعندئذ يلزم الجبن، ولجهله بجود الله ولطفه بعباده، يضل الى الحرص المذموم (33)، فيقول الحريص (ان لم اجد واجتهد فاتني ما أروم ولو احسن الظن بالله وكان يقينه صادقا لعلم أن الأجل مقدر وأن الرزق مقدر وان الغني والفقر مقدران وانه لا يكون من ذلك الا ما قضى الله تعالى) (34).

من النص المتقدم وشروحاته نلحظ أنّ الامام كان دقيقاً في وضع المعايير اللازمة للإختيار المستشارين لما لهؤلاء من دور هام في توجيه الحاكم، بعد امداده بالمعلومات والتحليلات، ولما كانوا بهذا التأثير، كان لا بد من التأني في اختيارهم، لأن السياسة ستنطبع بحدود معينة بطابعهم) (35). أي لا يكفي في احدهم الإيمان بالله وعدالته، كفاءة الشخص، بل ترقي في خطابه الى لزوم تشخیص هذه النفس الانسانية من جانب خلوها من الامراض الخلقية التي تتلبس بها النفس الأمارة بالسوء.

وكذلك عندما تطرق الى ذكر الوزراء قال: (ان شرّ وزرائك من كان قبلك وزیراً، ومن شركهم من الآثام) (36)، فلا يكونن لك بطانه، فانهم اعوان الائمة، واخوان الظلمة (أن حرمة التعاون مع الظالم من مسلمات الفقه السياسي) (37)، نهى الإمام

ص: 305

في النص عن الإستعانة بمثل هؤلاء في دولتك، والاشتراك معهم في الآثام والجور، ولم يكتف الإمام بالتحذير والنهي، بل قدم البديل حيث قال (وانت واجد منهم خير الخلق من له مثل آرائهم ونفاذهم) (38) أي يتمتع مع هؤلاء المرضيين في دولة عادلة، بان لهم مثل آراء وخبرة وكفاءة السابقين، الا انهم لم يعهد منهم التعاون مع الظلمة او الاشتراك معهم في الأثم. ثم بين في نهاية هذا المقطع من العهد من يكون اقرب هؤلاء الى الحاكم، ووصفه بأوصاف اخص (39):

أحدهما: ان يكون اقولهم بمر الحق له.

ثانيهما: ان يكون أقلهم مساعدة له فيما یکون منه ويقع من الامور التي يكرهها الله لأوليائه.

إن توخي الحذر والحيطة في إختيار الوزراء في خطاب الامام يعود الى اهمية الوظيفة التي يقومون بها، وهي قول الحق وان كان قاسياً، كذلك على الوالي ان (لا يبحث عن الاطراء والتزلف الكاذبين، لما لهما من الاثر السيء في النفس) (40)، كما يظهر من قوله (والصق بأهل الورع والتقوى...) (41).

ومن الجدير بالذكر أن الوزير المراد به بالنص هو المساعد للحاكم وليس الوزير

بخصوصياته المعروفة في النظم الهيكلية الإدارية الحكم الحديثة .

يؤكد الإمام (عليه السلام) في نص آخر عن العهد على اهمية انتخاب العمال الأمنيين، الذين همْ محط الثقة والإعتماد: (ثم انظر في امور عمالك، فاستعملهم إختياراً ولا تولهم محاباة وآثره...) (42)، على الحاكم ان يختار موظفي الدولة ورؤساء الدوائر على أساس الضوابط والأصول المرعية، ويجب أن يدعمَ هذ الاختيار بالإختبار والتجربة (43) والإبتعاد عن المحاباة، وصلة القرابة، فيكون الإختيار على أساس الإخلاص الديني والكفاءة المهنية، التي تتواجد عند شخص دون آخر، لأهميتها

ص: 306

في حفظ المجتمع السياسي الإسلامي وتنميته، وتلبية حاجاته الأمنية، والمعيشية، والتنظيمية الضرورية (44).

ومع كل هذا فان العامل لا يترك وشأنه، مهما كانت ميزاته، بل لا بد من مراقبته ومتابعته سراً وعلناً، حتى يشعر دائماً أن تصرفاته مکشوفة لمن فوقه) (45). ثم يقول الإمام: (تفقد اعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم...) (46) كذلك اشترط في هذا الجهاز الرقابي الذي يراقب أعمال العمال، الصدق والوفاء لخطورة وسرّية المهمة الموكولة اليهم، بکشف زلات وتهاون العمال في حال انحرافهم عن طريق الصواب.

أما كلام الامام علي (عليه السلام) عن الكتّاب - أي الذين يتلقون الرسائل للحاكم - وخصوصياتهم لا يقل شأناً عن الفئات التي ذكرت في العهد، وقد نبّه فيه الامام علي (عليه السلام) الأخذ بعين الاعتبار الخبرة السابقة التي قد يكون قد حصل عليها الكاتب مع توفر عناصر الإخلاص والأمانة، اما الإعتماد على حسن الظن والثقة لا يكون مجدياً في هذا المورد، وذلك لأن الكاتب عند كتابته يطلع على اسرار الدولة وخططها السرية العسكرية (47)، فالخطأ في الاختيار تكلف جهاز الدولة كثيراً مما قد يؤدي الى القضاء عليها، وهذا ما يعكسه النص بقوله (ثم أنظر في حال كتابك، قول على امورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق...) (48).

من جملة ما تقدم نجد أنّ الإمام کان دقیقاً في وضع الشروط اللازمة لكل العناصر المهنة والضرورية لتنظيم علاقة الدولة مع رعيتها، من قضاة ومستشارين ووزراء وعمّال وكتاب، وخصوصاً ان الامام (عليه السلام) معصوماً ومفترض الطاعة وما ينطق عن الهوى حسب معتقدات الامامية، فتكون الشروط التي وضعها في اختيار

ص: 307

الولاة ومن يكون تحت امرتهم ضرورية لتطبيق الدين الاسلامي وتحقيق مصالح الناس على خير وجه وانصاف المظلومين، خصوصاً أنّ الرسالات السماوية جاءت الصالح الانسان ولا تتحقق هذه الغاية الا بالتطبيقات الصحيحة التي تكون على ایدی رجال متممين لخط الانبیاء، آمنوا بالله وصدقوا به وحده، فكان أول أمر يأخذ بنظر الاعتبار في شروط هذه الفئات المسؤولة جميعاً، هي تقوى الله بعد الإيمان به، ثم يضيف من الشروط الاخرى بما ينسجم مع طبيعة الوظيفة التي تُؤدي، حيث مرة يركز على الإحاطة بالقضايا وإلتزام الحق کما في حالة القاضي، لفصلهِ في الخصومات، ومرة يركز على خلو وسلامة من يكون مستشاراً من مجموعة من الطبائع والصفات المذمومة، لتأثيره على رأي الحاكم، وأخرى يؤكد على إحراز عدم التعاون مع الظلمة من الحكومات السابقة كما في اختيار الوزير، وذلك لأنه قادر على إفساد كل ما ينظمه الحاكم ويديره، وأخرى أكد على الكفاءة المهنية والخبرات السابقة التي يكون قد حصل عليها كما في حالة العمال والكتاب وذلك لدورهم التنظيمي لشؤون المجتمع والإطلاع على اسرار الدولة.

ان هذا التأكيد والدقة من قبل الإمام (عليه السلام) مستمداً من المرتكزات العقائدية التي جعلها الله أساساً لأنبياءه وأوليائه في قيادة المجتمع وارادها الإمام منطلقاً للحاكم أو الوالي وغيرهم ممن تناط به مسؤولية اجتماعية أي يكون له سلطة یمارسها على الناس. وقد أسسنا في المبحث الأول لهذين المرتكزين:

الأول: ان الانسان عموماً والانسان المسؤول على الرعية خصوصاً هو خليفة الله في الارض، ومسؤولاً فيها وتتضاعف هذه المسؤولية على من يتسلط على رقاب الناس: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (49).

ص: 308

والثاني: هو إقامة العدل وإنصاف المظلومين، ووضع الأمور في مواضعها.

عندما تتجاهل السلطة هذين الاساسين تتحول الى سلطة ظالمة مستبدة ومنقطعة عن الله، حتى وان تجاهلت أحدهما دون الآخر، حيث أنّ اغلب النظم الغربية السياسية تدعوا الى المبادئ والافكار التي ارتكزت عليها الثورة الفرنسية آبان عصر النهضة، بخصوص مبدأ السيادة للشعب ومبدأ سلطان ارادة الفرد ومبدأ التكافؤ ومبدأ المسؤولية الاخلاقية (50) إلاّ إنها تخطط وتبني انطلاقاً من عقد اجتماعي بين الافراد يضمن حقوقهم، ولا يوجد أي صلة او امتداد بينهم وبين الله بخصوص

طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

حقيقة، ان ما جاء في هذا العهد - بصدد ما نحن فيه - شكّل قواعد وأطر عامة لمنظري الاحکام السلطانية، حيث نجد الشروط المختارة والموضوعة للحاكم من قبلهم مزيجاً من صفات الانبياء التي استنبطها المتكلون من النصوص الدينية والواقع التاريخي، ومن صفات إمام الجمعة كما مبين في كتب الفقه، مع ما ظهر في هذا العهد من شروط للفئات المذكورة فيه، فذكروا شروط الحاكم ومنها (الإسلام، الذكورة، العلم، الحرية، الكفاءة، العقل، العدالة، النسب القرشي، وسلامة الحواس) (51)، ومن هذه الشروط ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه، فشرط العدالة الذي وجدناه اساساً قامت عليه كل تفاصيل عهد الامام (عليه السلام) لمالك لإقامة حكومة الله في الارض، أهمله السلفية كشرط من شروط الحاكم، فعدم الإعتراف بهذا الشرط يعني الإعتراف بالوضع الموجود [أي وضع سياسي ومتعلقاته] (52) ويمهد الأرضية الفكرية والإعتقادية والنفسية اللازمة للرضا الشرعي والديني بأية ممارسة ظالمة وفاسقة، وبالتالي يسوغ للحكام وعلماء السوء أي عمل ظالم ومناقض للدين باسم الدين نفسه، والأهم من ذلك يجعل من الدين أداة للاستغلال السيء (53).

ص: 309

وعند قرائتنا لسيرة الحكّام في التاريخ الإسلامي نجده يزخر بالممارسات الظالمة والجائرة، وكذلك نجد لكل ظالم جائر مجموعة من فقهاء السلطة الذين يبرون تصرفات الحاكم ويشرعنونها، ويعمدون إلى إكمام أفواه الناس، ويشيعون ثقافة وجوب طاعة الحاكم وان كان فاسقاً لا يجوز الخروج عليه (54)، بينما لا نجدّ هذه الثقافة في الفكر الشيعي وذلك لإعتقادهم بأصل العدالة كمبدأ نظري وأساسي، مما انعكس على الواقع التطبيقي لديهم بالأخص الممارسة السياسية، كما يعد السبب وراء میل الشيعة الى التضحية والفداء وحالة الإثارة الذاتية التي يتصفون بها، وخير شاهد على مر الزمان هو واقعة الطف يوم عاشوراء، حيث شكلت مثالاً سامياً في طلب الحرية والعدالة والحياة الكريمة، الامر الذي يعزز تلك الصفات والمفاهيم الهادفة.

ص: 310

المبحث الثالث مسؤوليات السلطة المؤتمنة في نصوص العهد

إن الشروط التي أكد عليها الإمام علي (عليه السلام) في مَن يَتوّلى شؤون المسلمين ويرعى مصالحهم، تنتج ثمرتها عندما تتحمل السلطة ممثلة برئيسها مسؤولياتها فلا سلطة بدون مسؤولية، فان (السلطة بلا مسؤولية تشكل إستبداداً محققاً والمسؤولية بلا سلطة تشكل ظلماً محققاً) (55). وقد ضم العهد بين طياته ما يحدد مسؤوليات الحاكم وهو ما يصطلح عليه (وظائف السلطة) وهي:

1 - جبابة الخراج.

2 - عمارة الارض.

3 - جهاد الأعداء.

4 - استصلاح العباد.

المطلب الأول: الجانب الاقتصادي

وضع الامام علي (عليه السلام) خطوات مهمة لتحسين الوضع الاقتصادي، في حال اتباعها وتحقق ارباحاً كبيرة لبيت المال، فمن اهم المسائل الاقتصادية هي (الخراج) ومصاريفه والإهتمام بإستصلاح الارض.

ص: 311

1- الخراج:

ورد في عهد الإمام مالك عن الخراج: (وتفقد أمر الخراج بما يصلح اهله فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم الابهم، لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج واهله (56). ركّز الامام في هذا الجزء على طبقة اجتماعية مهمة، ألا وهي طبقة المكلفين بدفع زكاة الخراج أي المستثمرين الزراعيين وغيرهم من المنتجين في الاراضي التي عليها الخراج. وهي أراضي واسعة تتميز بخصوبتها وكثرة محاصيلها مثل العراق وبلاد الشام ومصر اضافة الى بلاد فارس وغيرها من الأراضي التي تحقق مورداً مالياً كبيراً مقارنة بالموارد الاخرى (57).

قد اشرنا في المبحث الاول الى ان مبدأ مالكية الله وعدالته من المرتكزات التي تبنی عليهما توجيهاته في تأسيسه نظام الحكم والحاكم ومسؤولياته في الدولة والإسلام، فهنا يأمر الامام (عليه السلام) عماله على الخراج باستعمال العدل والإبتعاد عن الظلم والجور، لأن ذلك يولد الكره والبغضاء، ثم التمرد وحمل السلاح والثورة ضد أصحاب الخراج، أي يعني خراب البلاد (58). ويوصي عمال الخراج بإنصاف الناس من أنفسهم.

ويشكل مورد الخراج من الموارد المالية الاخرى (السياسة المالية) التي تمثل اقتصاد الدولة الإسلامية الذي بقوته تستمر وتتوسع آنذاك، وهو ما عبر عنه في الآداب السلطانية كأحد واجبات الامير في وزارة التفويض أي تفويضه من قبل الخليفة (جباية الخراج وقبض الصدقات، وتقليد العمال، وتفريق ما يستحق منها) (59).

ص: 312

2- عمارة الأرض

من الأمور التي تعود على الدولة بالنفع والفائدة في عمارة الارض، إن وضع المساحات الواسعة من ارض الاسلام قبل استصلاحها تحت يدي الامام المعمّر لها ضماناً لوضع تلك في الموارد التي تنسجم مع ما تقتضيه مصلحة المسلمين ولم یکن المقصود منها زيادة ثروة الامام الشخصية (60)، قال الإمام علي (عليه السلام) في هذا الموطن (ولیکن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك الابالعارة، ومَنْ طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد، ولم يستقم امراً الا قليلاً) (61).

في هذا النص تأكيد على عمارة الارض حيث تعتبر الارض قسم من (مصادر الثروة الطبيعية، ومنها اراضي صالحة بطبيعتها للزراعة وأخرى غير مهيئة لذلك طبيعياً وتحتاج تهيئتها لذلك الى اعداد بشري، فضلاً عن الثروات المادية المتواجدة في الارض) (62).

وهذه جميعها تعد ملك للدولة وهي (النبي أو الامام باعتباره منصباً وينوب عنهما الحاكم الشرعي الذي يتمتع بصلاحياتهما القيادية شرعاً) (63).

فاذا اصبحت الارض منتجة (تكون في خدمة الإنسان، وليس الإنسان يخدم الإنتاج) (64)، وهذا (لأن الخراج لا يدرك الا بالعمارة)، أما ما يترتب على عدم العمارة.

1 - اخراب الارض.

2 - اهلاك العباد لتكليفهم ما ليس في وسعهم.

3 - عدم استقامة امر الطالب للخراج والوالي على اهله) (65).

ومن الأمور المتعلقة بازدهار اقتصاد الدولة الإسلامية التي أرسى اسسها علي

ص: 313

بن ابي طالب (عليه السلام) هو محاربة الإحتكار بعد أن استوصى واليه بالتجار خيراً بأصنافهم جميعاً، وذلك لمنفعتهم وأنه لا مضرة فيهم وأمر واليه بتفقد امورهم بحضرته ثم أمرهُ أنْ يعلم (أنْ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً وإحتكاراً للمنافع وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة) (66)، وذلك لأن قانون العدل بأيدي الولاة (فاذا اهملوا بترك ردّ هؤلاء عن طريق الجور توجهت اللائمة نحوهم والعيب عليهم) (67).

إن هذا المنع الحاسم من الإحتكار يعني حرص الاسلام على شجب الارباح التي تقوم على أثمان مصطنعة الاحتكار، ان الربح الذي يحصل عن طريق القيمة التبادلية الواقعية للبضاعة) (68).

3- مصارف الخراج

لقد سار الامام علي (عليه السلام) على نهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في انفاق اموال المسلمين حين وصولها الى بيت المال على مستحقيها، وعلى المصالح العامة، وعلى عملية الاستثمار والاعمار في البلاد علماً ان الخراج المورد الاساس لبيت المال، فمن هذه الموارد هي (الاعانات الادارية والمقصود بها الأموال التي تنفقها الدولة على المؤسسات العامة والهيئات المحلية والكوادر التي تعمل فيها، والمستلزمات الضرورية لها، لتقديم خدماتها للمجتمع (69) حيث ورد بعهد الامام نصوص توصي بإنفاق الدولة على الفئات الآتية:

- القضاة: ورد نص يأمر بالبذل عليهم (وإفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه

حاجته إلى الناس) (70).

- العمال: حيث أمر (عليه السلام) بالعطاء لهم بقوله: (ثم أسبغ عليهم الارزاق،

فان ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم، وغنىً لهم عن تناول ما تحت ایدیهم،

ص: 314

وحجة عليهم ان خالفوا امرك) (71).

- الجنود: حيث أوصى بهم: (وليكن آثر، رؤوس جنودك عندك من وأساهم وأفضل عليهم في ما يسعهم، ويسع من وراءهم من خلوف اهليهم) (72).

من هذه النصوص يفهم ان على الوالي، ان يخصص لموظفي الدولة والعاملين فيها، بما يُسيّر ويُيسّر أمور الناس مبلغاً من المال، يحفظ للرجل كرامته، ويمنعه من السؤال، ويعزز مكانته، ويكون دافعاً له على البذل والعطاء.

ومن مصاريف الدولة الاخرى التي تؤخذ من الخراج هي ما يصرف على مراعاة الطبقات المحرومة في المجتمع التي هي بحاجة دائمة الى الرعاية، ويتحمل الوالي المسؤولية الأكبر، فقد ورد في العهد انه (عليه السلام) يوصي بالطبقات المعدمة في المجتمع ويقول: (ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين واهل البؤس والزّمني..... واجعل لهم قسماً من بيت المال وقسماً من خلات صوافي الاسلام) (73) وكذلك باليتامى والمسنين (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن) (74).

حيث أمر الامام (عليه السلام) واليه بتشكيل هيئة أو لجنة خاصة لمتابعة احوال هؤلاء وتدبير أمر معيشتهم وجعل فيهم شروطاً تعكس الالتزام الديني والاجتماعي (ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فلترفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالإنحدار الى الله تعالى يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية أحوج الى الإنفاق من غيرهم) (75).

إن هذه الفئات المشمولة بعطاءات بیت المال كانت في مرحلة الامام علي (عليه السلام)، لكنها اتسعت فيما بعد حسب التطور في هيكلية الدولة، حيث تتنوع المسؤوليات بتعقد الحياة وإتساع مرافقها، وهو ما يقابل استحداث الوزارات في

ص: 315

الوقت الحالي التي ترتبط ميزانيتها بمالية الدولة. كما أن من مصارف الخراج الاخرى هي دعم المشاريع الإستثمارية التي تنمي اقتصاد الدولة، حيث جزء من العهد يستوصي بالتجار وذوي الصناعات (76) خيراً ويدعمهم، وكذلك بتشجيع الزراعة الامر الذي يعود بالنفع على الدولة.

إن هذا الإهتمام بالجانب الاقتصادي في دولة يلتمس فيها إرضاء الله تعالى والإستقامة في الارض وذلك بتطبيق عدله فيها، لا ينفصل فيها ما هو عبادي عما هو اجتماعي، وما هو اخلاقي عما هو عملي، حيث أن خراج الدولة هو من أموال فيها الزام شرعي على الافراد إخراجه، أي تعطى لبيت مال المسلمين وفيها نية القربة لله تعالى، وتوزع فيما بعد لإسعاد طبقات المجتمع التي فرض لها نصيباً منها، بخلاف الانظمة العلمانية التي تحكم المجتمعات والتي تفصل بين الدولة والدين، حيث ترى ان الازدهار الاقتصادي من الانسان والى الانسان (فالمجتمع الذي ينظر للإنسان كفرد حيواني يريد ان ينعم بالراحة والسعادة تختلف متطلباته عن المجتمع الذي ينظر للإنسان کموجود استخلفه الله العظيم لیعمر الارض ويتكامل بالتدريج فيصنع مجتمع الارض العادل العابد الذي لا يشرك بالله) (77).

ص: 316

المطلب الثاني: الجانب الدفاعي

يشكل الجند عصب الحياة السياسية والعسكرية في ذلك الوقت، لما له من دور في تقوية الدولة وتثبيتها، خصوصاً ان دولة الاسلام تعتبر دولة حديثة في زمن الامام علي (عليه السلام) ولها مساعي عظمى في نشر الإسلام في اقاصي الارض استكمالاً للخطوة التي بدأها عمر بن الخطاب في الفتوحات الإسلامية، مع علم الامام ان البلدان التي ستفتح لا بد وان يكون عندها جيش يدافع عنها، مما اضطر الامر الى التركيز على اعداد الجند بشكل صحيح لأجل المواجهة الخارجية، فضلاً عن الصراعات الداخلية التي حصلت في زمنه (عليه السلام) ممثلة بواقع صفين والنهروان، وانسحاب الخوارج من جيش الامام وانتشارهم في اطار عصابات مسلحة، مما دعاه الى تنظيم قواته وتحسين اوضاعها القتالية (78). ولتحقيق مبتغاه في نشر الاسلام وضع مجموعة شروط لإختيار أمراء الجيش ورئيس الجند حيث قال: (فوَلِّ من جنودك أنصحهم في نفسك ولله وللرسول ولإمامك واطهرهم جيشاً وافضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح الى العذر، ويرأف بالضعفاء...) ويمكن ترتيبها بشكل نقاط (79):

1 - ان يكون من عائلة حسنة.

2 - ان يكون معروفاً بالشجاعة والشهامة، وهناك مواقف مشهودة له.

3 - ان يكون معروفاً بهذه الصفة.

4 - ان يكون مسامحاً وله مواقف تسهر على ذلك.

5 - لا يتساهل مع الاقوياء عند اغراضهم.

6 - لا تستثيره اعمال العنف.

7 - ان يتحدى العنف ولا يصيبه العجز.

ص: 317

مما تقدم يفهم انه لا يلتحق بالجيش كل من هّب ودبّ، حيث اراد الامام (عليه السلام) ان يبني جيشه بناءً عقائدياً واخلاقياً بقوله يكون (أنصحهم لله ولرسوله ولإمامك) أي من الموالين الذي يعتقدون أن علي (عليه السلام) امام حق وأن أوامره ونواهيه، يجب أن تنفذً باعتبارها تطبيقاً للدين، فتعد سلطة الجند تنفيذية. صحيحٌ انّ الجند هم اليد الضاربة للامام بوجه من يكيدون للإسلام سوءاً، لكن الامام ايضاً کان یهمه راحة الجند فيقول: (ولا يدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك لله فيه رضا، فان في الصلح دَعَةً لجنودك وراحة من همومك، وآمناً لبلادك) (80).

دلالة هذا الكلام تتضمن نهي عن رفض الصلح اذا بادر به الاعداء شريطة أنْ يرضي الله وينبه على وجوه المصلحة فيه، وبالغ في التحذير من العدو بعد صلحة قد يخفي مآرب اخرى تعود بالأذى على الإسلام (81). هذا الموقف من الصلح يعكس روح السلام في الإسلام والميل الى التسامح وقبول الاخر، اذا كان صادقاً وحسن النية، وكذلك تجسد وسطية الاسلام، ونبذ العنف وروح الانتقام).

اذن البعد العلمي لهذه المواد المتعلقة بالجند والجيش في هذا العهد هو تعضيد لما ورد في النصوص القرآنية والسنة النبوية بخصوصها، والتي اصبحت فيما بعد منهلً ینهل منه کتاب الاحکام السلطانية فيما نظموا من شروط وحقوق وواجبات فيقول ابي يعلى الفراء: من اعمال الامير الذي قلده الخليفة النظر في سبعة يذكر اولها (النظر في تدبير الجيش وترتيبهم في النواحي، و تقدیر ارزاقهم، الاّ ان يكون الخليفة قدرها) (82). وهذا الإهتمام من قبل علماء السنة بالجند والجيش يعود الى ان الشرق الاسلامي كان يفتقد الى الثبات والإستقرار السياسي حيث كل شيء يتحقق في ظل الأمن، من حفظ الشعائر والحدود والاحكام الدينية الى الاموال، والانفس والاعراض، الذي يكون من مسؤوليات الدولة، اما الشيعة الإمامية لم يكن قلقهم اقل حساسية

ص: 318

من أهل السنة أزاء هذا الموضوع، لكن اعتقادهم بموضوع العدالة لم يتراجع اما اعتقادهم بموضوع الامن، بسبب إقتدائهم بسيرة الائمة (عليه السلام) والنصوص التي يؤمنون بها (83). كما ان الواقع العملي في العصور الإسلامية الشاهدة على ان السلطة كانت بيد السنة سوى فترات زمنية قصيرة. وكانت بعهدتهم حفظ المجتمع والثغور، فكان الشغل الشاغل لعلمائهم المصالح التي تترتب على الامن والاستقرار، اما علماء (الكلام والفقه) الإمامية، اعتمدوا على المبادئ والأسس النظرية اكثر من اعتمادهم على الحقائق والإلزامات العملية.

المطلب الثالث: تقيين العقوبات

لم يغفل هذا العهد من التحذير والتأكيد على الحفاظ على ارواح الناس وعدم

سفك الدماء دون حکم شرعي (اياك والدماء وسفكها بغير حلها، فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتبعه.... من سفك الدماء بغير حقها) لذلك نجد الفقهاء اعتبروا الانفس غاية قصوى، واحد الضرورات الخمس التي يجب الحفاظ عليها (الدين والنفوس والعقل والعرض والاموال) (84) حيث نجد الاحكام التي تعلقت بها مبينة على الإحتياط، حيث أُسقطت بعض الاحكام التي شرعت لحالات استثنائية كالحكم بوجوب التقية عند الخوف على النفس من القتل (فانه قد رفع، بل حرمت التقية اذا ترتب عليها قتل شخص آخر، وهذا ما عبّر عنه بالحديث المروي عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: (انما جعل التقية يحقن بها الدم، فاذا بلغت الدم فليست تقية) (85)، والذي (أعتُمد عليه كمستند لتحريم التقية) (86).

لذلك ورد في العهد ان الحاكم وغيره سواسية في احكام القتل، وإن منصب الحاكم لا يميزه عن غيره من الناس امام العدالة، فالنظرة الإسلامية اليه انه منصب تكليفي يكلف فيه احد القادرين على تحمل المسؤولية، والقيام بمصالح الناس، وهذا ما يظهر

ص: 319

من قوله (عليه السلام): (لا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، فلا يطمعن بك نحوة سلطانك عن ان تؤدي الى اولياء المقتول حقهم) (87)، وعند مراجعتنا للأحكام السلطانية نجد فيها ما يناظر هذه المسؤولية حيث ذكرت ولاية المظالم، ووظيفتها النظر في ظلامات الناس من الولاة والجباة والحكام، او من ابناء الخلفاء او الاحرار او القضاة (88)، وقدمها الماوردي بعشرة مظالم، ماينفع في المقام اولها: (تعدي الولاة على الافراد او الجماعات من الرعية) (89). ومن الطبيعي ان تستحدث مثل هذه الولاية وينظر لها في الفقه السني، نتيجة السلوكيات الجائرة والظالمة من قبل حكام بني امية وبني العباس، وقد ورد ان علياً (عليه السلام) حينما تأخرت إمامته واختلفوا الناس فيما احتاجوا الى صرامة في السياسة فنظر الى مظالم الناس وان كان لم يعني لذلك يوماً (90).

مما يعني ان الأمام (عليه السلام) في الواقع السياسي العملي أبان فترة حكمه کان ملتفتاً الى ما يمكن ان يصدر من ولاته وعماله، وكذلك في الواقع السياسي النظري كان ملتفتاً بعهده الى مالك الى التأكيد على المساواة بين الحاكم والرعية امام ثوابت الإسلام وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام الجنائية، وقد كان للإمام فضل السبق في تسريخ دعائم العدل واشاعة المناخ الإيجابي في ادارة الدولة وكل من تكلم بعده هم نهلوا منه ومن مستنده (القرآن الكريم). (ولا يكون المحسن والمسيء عندك سواء).

بعد ان تتبعنا اهم مسؤوليات الحاكم وولاته في هذه الوثيقة حسب اهميتها لا حصراً لها، نجد اقتران بين هذه المسؤوليات والقيم الاخلاقية التي يزخر بها العهد فضلاً عن التذكير بالصلاة والإهتمام بها على انها عمود الدين ولا يعذر التهاون بها لأي ظرف كان، وما يجب ان يكون عليه امام الصلاة من مراعاة احوال المصلين على اعتبار أنّ الحاكم السياسي يتولى مسؤولية امامة الناس في الصلاة في ذلك الوقت، وبالأخص صلاة الجمعة، لما تتضمنه من خطبة دينية سياسية (91)، ثم يختم العهد

ص: 320

بالتذكير بما عهد اليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصاياه (تحضيضاً على الصلاة والزكاة) (1)، أي لا انفصال بين الواجب الديني وتولي شؤون المسلمين، وكذلك مراعاة حفظ أمن الناس من جهة وتوفير الخدمات الإجتماعية من جهة اخرى. كما لاحظنا مسؤولية الامام من خلال التنمية الاقتصادية التي لازمها سعادة الناس وكل هذه المسؤوليات بجميع تفاصيلها يؤطرها العدل الإلهي نظرياً وعملياً.

وبمقارنة بسيطة مع مذهب الدولة الدولة الحارسة الذي هو (فلسفة سياسية رأس مالية تحررية، تكون وظيفتها الشرعية الوحيدة هي حماية الافراد من الاعتداء والسرقة، والإخلال بالعقود والتشريعات، وتكون المؤسسات الحكومية الشرعية الوحيدة هي المؤسسة العسكرية والشرطة) (93)، نجد أنها توفر ما هو امني دفاعي غير مقترن بما هو عبادي وتسعى الى اشاعة مبدأ المساواة وتحقیق حقوق الانسان بين الناس الا انها لا تحقق العدل الإلهي لكونها منفصلة عن الله، فهي تعمل من أجل حماية الحقوق الفردية، تعمل الحكومة كوكيل عن مواطنيها، ولا تمتلك أي حقوق باستثناء الحقوق الموكلة اليها من المواطنين ويجب عليها العمل بطريقة نزيهة وفقاً للقوانين الخاصة والمحددة بشكل موضوعي بخلاف الحكومة في الإسلام التي تكون وكيلة عن الله وعليها أنْ تعمل لإرضاء الله اصلاً.

وفي الختام نقول أن ما نظّر له أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده للأشتر هو اقامة دستور تنظیمي ينظم شؤون الدولة الإسلامية مبني على أساس العدل يتكامل فيه العبادي والاداري، الاخلاقي والعملي، المادي والروحي، السياسي والديني، لكون مصدره علي (عليه السلام) الذي يمثل الانسان الكامل بعد نبيه المصطفى في الارض بحسب العرفاء (94).

والحمد لله رب العالمين

ص: 321

الإستنتاجات

بعد تعرفنا على المرتكزات العقائدية للسلطة المؤتمنة وشروطها ومسؤوليتها في

عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، نستنتج الآتي:

1 - إن الله هو المالك الحقيقي للوجود، والانسان هو خليفة الله في الارض، ومسؤول فيها، وعليه لا يحق له ان يتصرف بما يخالف المالك الأصلي.

2 - إن سلطة الحاكم سلطة إئتمانية، أي مقيدة بالمؤتمن له، وعليه الحفاظ على الأمانة.

3 - إنْ يجعل الحاكم ومن يختاره للعمل في جهاز الدولة ومراكز القرار من العدل

الإلهي میزاناً ومرتكزاً عقائدياً لجميع اعماله وافعاله فيما يتعلق بمحكومية.

4 - إختيار الفئات العاملة في اجهزة الدولة يكون وفق معايير وشروط معينة منها ما هو مشترك لدى جميع الفئات وهو احراز تقوى الله وخشيته والعمل بكتاب الله وسنته، ومنها ما يتعين حسب المهمة المناطة به کالخبرات السابقة والكفاءة المهنية.

5 - تمتع هذه الفئات بالأخلاق النبيلة وخلوها من الطبائع المنفّرة للطباع والصفات المذمومة كالجبن والبخل والحرص والالتزام بالشجاعة والكرم وغيرها من

الصفات.

6 - إهتمام الحاكم بمورد الخراج لأنه المورد الاساسي الذي يمثل اقتصاد الدولة

الإسلامية الذي بقوته تستطيع الدولة تلبية حاجات مواطنيها وتتسع لنشر

الاسلام.

7 - الإهتمام بعمارة الارض، وذلك لما فيها من ثروات طبيعية كالزراعة او إستخراج

المعادن الموجودة فيها، او إستيطان مساحات منها بعد تأهيلها، وذلك لدعم بیت المال بعد ان تكون منتجة.

ص: 322

8 - تتحمل السلطة مسؤولياتها بتخصيص عطاءاتها لجميع العاملين في مرافق الدولة لجهودهم في خدمة المجتمع لتشکیل دافعاً لهم على مزيدا من البذل والعطاء كل حسب موقعه ولحفظ كرامتهم في السؤال.

9 - مراعاة الطبقات المحرومة واليتامى والمسنين وذلك بشمولهم بعطاءات الدولة.

10 - الخدمات الإجتماعية التي تقدم للإنسان في السلطة الإئتمانية غير منفصلة عن الله عز وجل، شرطها ان تكون في مرضاة الله لأنه المالك الأول والغاية الاولى واسعاد الإنسان وارضائه بالحق في الدنيا هو تحقيق لعدل الله.

11 - التركيز على إعداد الجند اعداداً صحیحاً وبناءه بناءً عقائدياً واخلاقياً وذلك لحفظ الأمن والنظام داخلياً وخارجياً.

12 - التورع في سفك الدماء، واقامة العقوبات على مرتكبيها بما يحقق العدل واخذ الحق للمظلوم من الظالم.

13 - الحاكم والمحكوم سيّان أمام القضاء، لا يكون المنصب السلطوي شفيعاً لصاحبه

في حال ارتكاب ما يستحق العقوبة.

14 - لم ينص العهد على شكل نظام محدد للحكم، وانما أكد على اقامة دولة اخلاقية ملتزمة بكتاب الله ورسوله وطاعة وليه.

15- كان للإمام (عليه السلام) فضل السبق على ما نظّر في الآداب السلطانية، فقد قدم المادة الاساس وصبت بقوالب وصنفت على شكل ابواب في كتب الماوردي والفراء وآخرين.

16 - عند المقارنة بين ما يروم الامام تحقيقه في المجال السياسي والاقتصادي والخدمي وبين مذهب الدولة الحاكمة نجد الأخيرة غايتها صيانة حقوق الافراد فقط بينما دولة الامام غایتها صيانة حقوق الله والافراد.

ص: 323

الهوامش

1. المائدة 120.

2. المائدة 17.

3. الكاشاني، محمد بن مرتضى: علم اليقين في أصول الدين، ط 2، تح: محسن

بیدار، قم، 1426، ج 1، ص 208.

4. الإمام علي بن ابي طالب: نهج البلاغة، تح: هاشم الميلاني، نشر العتبة العلوية المقدسة، 2010، ص 451.

5. نهج البلاغة: ص 451.

6. نهج البلاغة: ص 452.

7. ابو يحيي، د. محمد محسن، اقتصادنا في ضوء الكتاب والسنة، ط 1، دار عمار، عمان، 1989، ص 223.

8. زین الدین، حسین رضا: خليفة الارض، ط 1، مركز الرضوان، 2015، ص 18.

9. يونس: ص 14.

10. نهج البلاغة: ص 456.

11. کرم یوسف: تاريخ الفلسفة الحديثة، ط بلا، دار العلم، بیروت، د.ت، ص 706.

12. البهادلي، أحمد كاظم: صفات الله في عقيدة الصفاتية، مجلة كلية الفقه، الجامعة المستنصرية، عدد 1، 1979 م، ص 148 - 149.

13. جامعي، محمد مسجد، الفكر السياسي عند الشيعة والسنة، ط 1، المجمع

ص: 324

العالمي لأهل البيت، 2006، ص 228.

14. النحل: 90.

15. فرج الله عبد الرزاق، نظرات في عقيدة الانسان المسلم، ط 1، مركز الامير

لإحياء التراث، نجف، 1427، ص 36062.

16. )) الآلوسي: حسام، دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، ط 1، المؤسسة

العربية، بیروت، 198، ص 77.

17. )) ابو ريان، محمد علي: تاريخ الفكر الفلسفي، ط 2، دار المعرفة الجامعية،

مصر، 1990، ص

18. نهج البلاغة، ص 450.

19. عبد الكريم زيدان، مدخل لدراسة الشريعة، ط بلا، دار عمر بن الخطاب، القاهرة، 2001، ص 33.

20. نهج البلاغة، ص 452.

21. نهج البلاغة: ص 456.

22. نهج البلاغة، ص 454.

23. البحراني، میثم بن علي، شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، البحرين، 1430، ص 894.

24. نهج البلاغة، ص 451.

25. نهج البلاغة، ص 450.

26. نهج البلاغة، ص 458.

27. نهج البلاغة، ص 456.

28. نهج البلاغة، ص 450.

29. البحراني، شرح نهج البلاغة، ص 889.

ص: 325

30. نهج البلاغة، ص 456.

31. ظ: القزويني، د. محسن باقر: علي بن ابي طالب ؇ رجل المعارضة والدولة، ط 1،

دار العلوم، بیروت، ص 232.

32. البحراني: م. س، ص 893.

33. ظ: البحراني: م. س، ص 894.

34. ابي الحديد المعتزلي، عز الدين، شرح نهج البلاغة، ط 1، مطبعة انوار الهدى،

رقم (1429) ج 17، ص 48.

35. طي، د. محمد الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ط 2، مركز الغدير، بیروت،

1997، ص 177.

36. نهج البلاغة، ص 453.

37. محمدي، بن ابو الفضل: آفاق الفكر السياسي عند الخوانساري، ط 1، مؤسسة

دائرة معارف الفقه، رقم 2006، ص 90.

38. نهج البلاغة ، ص 453.

39. البحراني: م. س: ص 894.

40. طي: م. س، ص 178.

41. نهج البلاغة: ص 453.

42. نهج البلاغة: ص 457.

43. شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ط 2، المؤسسة

الجامعية، بيروت، 1991، ص 488.

44. القزويني / م. س، ص 224.

45. طي: م. س، ص 178.

46. نهج البلاغة: ص 458.

ص: 326

47. ظ: البستاني، احمد: الاستراتيجية العسكرية عند الامام علي، ط، مطبعة سید

الشهداء، قم 1313، ص 69.

48. نهج البلاغة: ص 459.

49. الأحزاب: 72.

50. ظ: فرحات، د. محمد: الثورة البورجوازية وقانونها، مجلة المنار، م.س، ص 64.

51. زیباري، شعبان فاضل: الفكر السياسي عند المعتزلة، ط 1، دار ابن الاثير،

الموصل، 2010، ص 212.

52. جامعي، م.س: ص 229.

53. حنفي، د. حسن: من العقيدة الى الثورة، ط 1، مکتبة مدبولي، مصر، بلات، ص 10 - 20.

54. ابن حنبل، احمد: أصول السنة، تح: احمد فرید المزيدي، دار الكتب العلمية،

بیروت، 2006، ص 10.

55. عصفور، د. سعد: النظام الدستوري المصري، دستور سنة 1971، منشأة

المعارف الإسكندرية، 1980، ص 87.

56. نهج البلاغة، ص 458.

57. ابو حمد، رضا صاحب، السياسة المالية في عهد الامام علي، ط 1، مركز الامير، نجف، 2006 م، ص 94.

58. ابو حمد م. س، ص 96.

59. الفرّاء، أبي يعلى: الأحكام السلطانية، ط 1، مكتب الإعلام الإسلامي،

1406 ه، ص 34.

60. الآصفي، محمد مهدي، ملكية الارض في الإسلام، ط 1، دار التوحيد، قم

1409، ص 36.

ص: 327

61. نهج البلاغة، ص 458.

62. الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، ط 2، مركز الابحاث والدراسات

التخصصية، قم، 1421، ص 77.

63. الصدر م.س، ص 68.

64. م.ن. ص 88.

65. م.ن، ص 88.

66. نهج البلاغة، ص 460.

67. البحراني، ص 898.

68. الصدر م. س، ص 52.

69. ابو حمد، السياسة المالية، م. س، ص 64.

70. نهج البلاغة، ص 457.

71. م.ن، 456.

72. م.ن، ص 456.

73. م.ن، ص 460.

74. م.ن، ص 461.

75. نهج البلاغة، ص 462.

76. ظ: نهج البلاغة، ص 455.

77. التسخيري، محمد علي، الدولة الاسلامية ووظائفها، ط 1، منظمة المكتب

الاسلامي، 1994، ص 19.

78. ظ: بیضون، د. ابراهيم: من دولة عمر الى دولة عبد الملك، ط، نشر شهاب

الدين، 2006، ص 134.

79. القزويني، م.س: ص 223 - 224.

ص: 328

80. نهج البلاغة، ص 462.

81. البحراني، م.س، ص 909؟

82. الفراء، م.س: ص 34.

83. جامعي، م.س، ص 252.

84. ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ط 1، الشركة التونسية للتوزيع، خانقين، 1978، ص 80.

85. العاملي، محمد حسن: وسائل الشيعة، ط 2، دار احیاء التراث العربي بیروت،

ج 1، ص 483.

86. الواعظي، شمس الدين: رسالة في التقية، ط 1، نشر مكتبة المرعشي، قم،

1418 ه، ص 84.

87. نهج البلاغة، ص 464.

88. مدكور، محمد سلام، المدخل للفقه الاسلامي، ط 2، النهضة العربية، مصر،

1963، ص 404.

89. الماوردي: الاحکام السلطانية، نقلاً عن مدخل مدكور لدراسة الشريعة،

م.س، ص 404.

90. مذکور، م.س، ص 405

91. ظ: جامعي، م.س، ص 246 - 247

92. نهج البلاغة، ص 466.

93. مذهب الدولة الحارسة، أنترنت، موقع ويكبيديا.

94. ظ: الأملي، حسن زاد، الانسان الكامل في نهج البلاغة، مؤسسة المعارف

الاسلامية، ط 1، ج 1، ص 136.

ص: 329

المصادر:

- القرآن الكريم

- الإمام علي بن ابي طالب: نهج البلاغة، تح: هاشم الميلاني، نشر العتبة العلوية

المقدسة، 2010.

1 - ابن حنبل، احمد: أصول السنة، تح: احمد فرید المزيدي، دار الكتب العلمية،

بیروت، 2006.

2 - ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ط 1، الشركة التونسية للتوزيع، خانقين، 1978.

3 - ابو حمد، رضا صاحب، السياسة المالية في عهد الامام علي، ط 1، مركز الامير، نجف، 2006 م.

4 - ابو ريان، محمد علي: تاريخ الفكر الفلسفي، ط 2، دار المعرفة الجامعية، مصر،

1990.

5 - ابو یحیی، د. محمد محسن، اقتصادنا في ضوء الكتاب والسنة، ط 1، دار عمار، عمان، 1989.

6 - ابي الحديد المعتزلي، عز الدين، شرح نهج البلاغة، ط 1، مطبعة انوار الهدى، رقم

(1429) ج 17.

7 - الآصفي، محمد مهدي، ملكية الارض في الإسلام، ط 1، دار التوحيد، قم 1409.

8 - الآلوسي: حسام، دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، ط 1، المؤسسة العربية، بیروت، 198.

9 - الأملي، حسن زاد، الانسان الكامل في نهج البلاغة، مؤسسة المعارف

ص: 330

الاسلامية، ط 1، ج 1، ص 136.

10 - البحراني، میثم بن علي، شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، البحرين، 1430، ص 894.

11 - البستاني، احمد: الاستراتيجية العسكرية عند الامام علي، ط، مطبعة سید

الشهداء، قم 1313.

12- البهادلي، أحمد كاظم: صفات الله في عقيدة الصفاتية، مجلة كلية الفقه، الجامعة المستنصرية، عدد 1، 1979 م.

13 - بیضون، د. ابراهیم: من دولة عمر الى دولة عبد الملك، ط، نشر شهاب الدين، 2006.

14 - التسخيري، محمد علي، الدولة الاسلامية ووظائفها، ط 1، منظمة المكتب الاسلامي، 1994.

15 - جامعي، محمد مسجد، الفكر السياسي عند الشيعة والسنة، ط 1، المجمع العالمي لأهل البيت، 2006.

16 - حنفي، د.حسن: من العقيدة الى الثورة، ط 1، مکتبة مدبولي، مصر، بلات.

17 - د. محمد الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ط 2، مركز الغدیر، بیروت، 1997.

18 - زیباري، شعبان فاضل: الفكر السياسي عند المعتزلة، ط 1، دار ابن الاثير،

الموصل، 2010.

19 - زين الدين، حسین رضا: خليفة الارض، ط 1، مركز الرضوان، 2015.

20- شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ط 2، المؤسسة

الجامعية، بیروت، 1991.

21 - الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، ط 2، مركز الابحاث والدراسات

التخصصية، قم، 1421.

22 - العاملي، محمد حسن: وسائل الشيعة، ط 2، دار احیاء التراث العربي بیروت،

ص: 331

ج 1، ص 483.

23 - عبد الكريم زيدان، مدخل لدراسة الشريعة، ط بلا، دار عمر بن الخطاب،

القاهرة، 2001.

24 - عصفور، د.سعد: النظام الدستوري المصري، دستور سنة 1971، منشأة

المعارف الإسكندرية، 1980.

25 - الفرّاء، أبي يعلى: الأحكام السلطانية، ط 1، مكتب الإعلام الإسلامي، 1406 ه.

26 - فرج الله عبد الرزاق، نظرات في عقيدة الانسان المسلم، ط 1، مركز الامير

لإحياء التراث، نجف، 1927.

27 - فرحات، د. محمد: الثورة البورجوازية وقانونها، مجلة المنار، م.س.

28 - القزويني، د. محسن باقر: علي بن ابي طالب (عليه السلام) رجل المعارضة

والدولة، ط 1، دار العلوم، بیروت.

29 - الكاشاني، محمد بن مرتضى: علم اليقين في أصول الدين، ط 2، تح: محسن

بیدار، قم، 1426، ج 1.

30 - کرم يوسف: تاريخ الفلسفة الحديثة، ط بلا، دار العلم، بیروت، د.ت، ص 706.

31 - الماوردي: الاحکام السلطانية، نقلاً عن مدخل مدكور لدراسة الشريعة، م.س.

32- محمدي، بن ابو الفضل: آفاق الفكر السياسي عند الخوانساري، ط 1، مؤسسة

دائرة معارف الفقه، رقم 2006.

33 - مدكور، محمد سلام، المدخل للفقه الاسلامي، ط 2، النهضة العربية، مصر، 1963.

34 - مذهب الدولة الحارسة، أنترنت، موقع ويكبيديا.

35 - الواعظي، شمس الدين: رسالة في التقية، ط 1، نشر مكتبة المرعشي، قم، 1418 ه.

ص: 332

مالك الأشتر رضوان الله عليه قاضياً وحاكماً - إطلالة تاريخية على الجانب القضائي -

اشارة

د. هدى علي حيدر

ص: 333

ص: 334

ملخص البحث:

هذه الدراسة هي صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، والتي تتناول سيرة أحد رجال الإسلام من القرن الأول الهجري وما قبله، هو (مالك بن الحارث الأشتر)، لإظهار صورة جلية لما غمض من شخصيته وما إلتبس على الكثير من الكتَاب.

أن الأمم المتقدمة تفتخر بأمجادها ورموزها التاريخية، وتطرز أسمائهم في أقباس من التمجيد، ليستمدوا من أفكارهم العظات والعبر نحو العُلى، ويبنون حضارتهم فوق التراكمات الأزلية، لما تبقى من أمجادهم.

وتاريخ الأمة الإسلامية حافل بسيَر العظماء والعلماء والأبطال، الذين يجب استحضارهم في محاولة جادة لإستذكار الماضي واستنباط العبر والدروس منه، وذلك من أجل فهم الحاضر على حقيقته وتجاوز الأخطاء استعداداً للمستقبل واللحاق بما سبق من الأمم من التقدم والحضارة.

وتحديداً، أن التاريخ العربي الإسلامي يمتاز بتراجم جمةّ من الرجال العظام، الذين ثبتوا دعائم الحضارة الإسلامية، وأرسوا أفكاراً نيَرة، وتجاوبوا مع الأمم الأخرى، وحاوروا حضارتها، وأخذوا ما ينمي حضارتهم مما يصلح منه، فنهضوا بحضارة واعدة على مرور الزمن وتعاقب الأجيال دون الالتفات إلى العرق أو اللون أو الجنس.

وأحد رجالات الإسلام هو (مالك بن الحارث الأشتر) کسياسي بارز، وشجاع

ص: 335

شهد له العدو قبل الصديق بذلك، وشاعراً فحلاً وخطيباً بليغاً، دخل التاريخ الإسلامي بكل عنفوان، فكان جبلاً شامخاً وصخراً صلداً، كما وصفه الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام).

وأن (مالك الأشتر) كان قد أدرك الجاهلية والإسلام فهو من المخضرمين، وأسلم

على حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسن إسلامه.

كانت هناك علاقة ودية تربط بين (مالك الأشتر) والإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام) عندما كان والياً على اليمن، وذلك في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن جملة إنجازاته السياسية، كان (مالك الأشتر) حكماً وقاضياً بين أهل العراق وأهل الشام، إذ رُشح لشغل القضاء من قبل الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام)، غير أن بعضاً من أهل العراق، والذين صاروا من الخوارج فيما بعد رفضوا ذلك.

- ولادته:

أن العرب في الجاهلية لم يكن يعنيهم تثبیت تواريخ لميلادهم أو وفياتهم، إذ لم يكن هناك تدوین، بل توجد مناسبات أو حوادث يشار إليها في هذا الصدد؛ ومالك الأشتر، لم يكن قد اشتهرت سمعته قبل الإسلام، حتی یذکر مولده في مناسبة معينة

کحرب البسوس أو عام الفيل أو غير ذلك.

ولكن هناك ومضات وإشارات للتحديد التقريبي لولادته، لقد كانت ولادته قبل الإسلام لأسباب عدة منها: في معركة الجمل يذكر ذلك في شعره على أنه شیخاً غير متماسك الأعضاء، فعندما قدم على عائشة بعد المعركة، عتبت عليه في مصارعته

ص: 336

لابن أختها، أسماء، عبد الله بن الزبير، فقال في شعر له:

فنجاه مني في أكله وشبابه ٭٭٭ وأني شيخ لم أكن متماسكاَ.

وبما أن عبد الله بن الزبير كان عمره آنذاك ست وعشرين سنة، لأنه ولد في سنة الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنورة، وحرب الجمل وقعت في سنة ستة وثلاثون للهجرة، فلابد من أن يكون مولد مالك الأشتر قبل البعثة النبوية بأكثر من عشرين سنة، حتى يبلغ من العمر ما يضاف إلى من سنة البعثة إلى حرب الجمل، فيكون ما يقارب السبعين حتى يكون غير متماسك.

وعليه، أن مالك الأشتر كانت ولادته قبل البعثة النبوية، وإنه ولد قبل عقدين من البعثة على أقل تقدير؛ علاوةً على ذلك، أنه كان معروفاً ومشهوراً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي عهد (أبي بكر)؛ وبالتالي فأن الأشتر كان مخضرم وأنه أدرك الجاهلية والإسلام.

- نسبه:

ينسب مالك الأشتر إلى جده النخع واسمه (جسر)؛ وكما جاء في الموارد التاريخية: «مالك بن الحارث ابن عبد يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحارث بن خزيمة بن سعد

ابن مالك بن النخع»2.

وورد أيضاً عن نسبه: نفس سلسلة النسب الواردة، غير أن (سلمة) صححه أحد

المؤرخين إلى (مسلمة) الجد الرابع وأسقط (الحارث الثاني)(3).

وابن سعد أورد في كتابه أيضاً عن سلسلة نسبه مع تسمية الجد الرابع (مسلمة)

بدلاً من (سلمة)(4).

ص: 337

- اسمه:

هو مالك بن الحارث بن يغوث بن مسلمة إلى جده النخع، وهذا الاسم مشهور عند العرب سواء أعدنانية كانت أم قحطانية، ومنهم مالك بن النضر، ومالك بن ربيعة، ومالك بن أدد وغيرهم. ولقد اشتهر مالك ب (الأشتر) حتى كاد أن يطغى على اسمه الحقيقي ولا يعرف إلا به5.

- كنيته:

لمالك الأشتر كنية واحدة، وهو أبو إبراهيم، وإبراهيم هذا هو إبراهيم ابن مالك الأشتر، والمشهور ب (ابن الأشتر)6.

ومن حق مالك أن يكنى بأبي إبراهيم، لما له من مواقف معروفة وشجاعة وبسالة منقطعة النظير، فقال في حقه ابن خلدون (7): "هو إبراهيم ابن الأشتر سيد النخع وفارسها وقتل مع مصعب بن الزبير سنة اثنين وسبعين". ويناديه البعض بأبي إبراهيم احتراماً وتبجيلاً له، كونه أميراً وقائداً.

- القابه:

أ) لقب الأشتر:

أما لقب الأشتر، فقد جاء: «الشتر انشقاق جفن العين، وبه سمي الأشتر النخعی»(8).

وعن رواية شتر عين مالك: الأولى: أن عينه شترت في حروب الردة في عهد أبي بكر، وفي جهاده عن الإسلام، عندما ضربه أبو مسيلمة على رأسه؛ والثانية: ذكر أن عینه شترت في وقعة اليرموك، عند مبارزته لرجل مشرك من الروم، وقتله، وقيل:

ص: 338

«ضربه رجل من أياد يوم اليرموك على رأسه فسالت الجراحة قيحاً إلى عينه فشترته...» (9).

وورد أيضاً: «الأشتر النخعي ذهبت عينه يوم اليرموك»(10).

ب) لقب بكبش العراق:

الكبش في اللغة: «الكبش واحد، والأكباش جمع وكبش القوم سیدهم»(11).

أما مناسبة لقب مالك بالكبش، فلقد جاء في وقعة صفين، حيث ورد أنه نادی

رجل من أهل الشام بشعر في سواد الليل سمعه الناس في قصيدة منها:

ثلاثة رهط هموا أهلها ٭٭٭ وأن يسكتوا تخمد الوقدة

سعيد بن قيس وكبش العرا ٭٭٭ ق وذاك المسود من كندة

وكبش العراق الأشتر، والمسود من كندة هو الأشعث بن قيس، وما قاله شاعر وقعة صفين النجاشي، وكان شاعر أهل العراق في حينها، عندما ردَ الأشتر أهل الشام على أعقابهم، يقول (12):

دعونا له الكبش كبش العراق ٭٭٭ وقد خالط العسكر العسكر

فرد اللواء على عقبه ٭٭٭ وحاز بحضوتها الأشتر

- شخصية مالك الأشتر والصفات التي تميز بها:

الرجل الشجاع الذي يفرض نفسه في كل موقف، وهو الذي لم ترد له راية أو ينكسر له جيش، ولقد أبدى في فتوحات الشام والعراق من بطولة فريدة، وفقد بسبب مبادئه النبيلة أعز ما يملك وهو عينه، والجود بالنفس أعلى غاية الجودة(13).

ص: 339

وكان مالك الأشتر من ذوي الصفات البدنية، التي هي من صفات الأبطال الشجعان، وكان يدخل الرهبة في صفوف الأعداء بحماسته وقامته المديدة؛ ومثل هذه الشخصية كانت الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق بحاجة إلى أمثالها، وذلك لتعزيز المواقف، ومواصلة الفتوحات، وإدخال الرهبة في صفوف الأعداء، الذين كانوا يتحاشون مبارزته، ويخافون من مجرد صوته (14).

وعن صفاته الشخصية، فلقد كان الأشتر مديد القامة، وهو من الجسامة والضخامة، بأنه يركب الفرس وقدماه تخطان الأرض لفرط طوله، مما يرهب الرجال والفرسان (15).

وكان مالك الأشتر فقئت عينه في حروب الردة أو اليرموك أو كلاهما وهو من العوران الأشراف؛ وعن صفات الأشتر في لباس الحرب، فقد أورد ذلك نصر ابن مزاحم في وقعة صفين بالقول: «عن الحر بن الصباح النخعي أن الأشتر كان يومئذ يقاتل على فرس له وفي يده صفيحة يمانية إذا طأطأها خلت فيها ماء منصباً فإذا رفعها كاد يغشى البصر شعاعها ويضرب بسيفه قدماً وهو يقول: الغمرات ثم ينجلينا» (16).

شجاعة الأشتر:

امتاز الأشتر بالشجاعة، والتي صارت من أساسيات شخصيته، وشهد له بها الأعداء قبل الأصدقاء؛ وقيل في ذلك: «لله در أم قامت عن الأشتر لو أن إنساناً يقسم أن الله ما خلق في العرب ولا في العجم أحداً أشجع منه إلا أستاذه علي بن أبي طالب لما خشيت عليه الإثم ...»(17).

وورد: «... واقتتل مالك الأشتر وعبد الله بن الزبير فاختلفا ضربتين ثن تعانقا حتى خرا إلى الأرض يعتر كان فحجز بينهما أصحابهما وكان عبد الله بن الزبير يقول حين اعتنقا: اقتلوني ومالكاً، وكان الأشتر يقول اقتلوني وعبد الله، فيقال: أن ابن

ص: 340

الزبير لو قال اقتلوني والأشتر، وأن الأشتر لو قال اقتلوني وابن الزبير لقتلا جميعاً وأن الأشتر يقول ما سرني بإمساكه على أن يقول الأشتر حمر النعم وسواها»(18).

ثم يضيف البلاذري بقوله: «قيل لعائشة هذا الأشتر يعارك عبد الله فقالت: والأثكل أسماء ووهبت لمن بشرها بسلامته مالاً»(19).

وشهد الأزدي بشجاعة الأشتر بقوله: «أن الأشتر كان من جلداء الرجال ومن أشدائهم وأهل القوة منهم والنخوة وأنه قتل في يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم وقتل منهم ثلاثة مبارزة»(20).

وقيل ايضاً: «... شهد (الأشتر) الجمل وصفين وأبدى يومئذ عن شجاعة

مفرطة...»(21).

وورد كذلك: «والأشتر هو الذي عائق عبد الله بن الزبير يوم الجمل فاصطرعا على ظهر فرسيهما حتى وقفا على الأرض فجعل عبد الله بن الزبير يصرخ من تحته اقتلوني ومالكاً فلم يعلم الذي يعنيه لشدة الاختلاط وثوران النقع ...»(22).

هذه هي شخصية الأشتر الفذة وشجاعته المفرطة كما أوردتها المصادر الأساسية

بكل حيادية وموضوعية.

الجانب القضائي:

القضاء:

القضاء في اللغة: «الحكم، والجمع: (الأقضية) والقضية مثله والجمع (القضايا)

وقضى بمعنى يقضي بالكسر قضاء أي حكم» (23).

ومنه قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» (24).

ص: 341

والقضاء في الاصطلاح: هو فصل الحكم بين الناس؛ وقال تعالى: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» (25).

وورد: «القضاء منصب الفعل في الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً

للتنازع» (26).

كان للقضاء نواة عند العرب قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام تولى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الفصل في الخصومات، ولقد تبين من الحلف الذي عقده بين المهاجرين والأنصار واليهود وغيرهم من المشركين، وجاء هذا الحلف كما ورد في الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فأن مرده إلى الله تعالى وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

اعتنى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتنظيم القضاء في الدولة، وقد صار لزاماً على المسلمين جميعاً الرجوع إليه والتسليم بحكمه، قال تعالى: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (27).

وأصبح رجوع المسلمين من منازعاتهم وشجاراتهم إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أولويات الإيمان مما أوجد عليه الصلاة والسلام فكرة القانون عن طريق التشريع الإسلامي إليهم، وأصبح جزء من حضارة الإسلام والتراث الفكري والتشريعي.

ولقد أرسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الإمام (علي بن أبي طالب)

(عليه السلام) قاضياً في اليمن، وكذلك معاذ بن جبل وجماعة من الصحابة.

ص: 342

وقد ذكر أحد المؤرخين: «ومن أهم الكتب في الإدارة والقضاء العهد الذي كتبه الإمام علي للأشتر النخعي عامله في مصر ولو صح هذا العهد لكان من أحسن ما كتب في العالم» (28).

لقد كان تعيين القضاة من قبل الخليفة مباشرةً، وأحياناً من قبل الوالي، إذا كانت

ولايته هامة تشمل الصلاة والخراج والحرب والقضاء، ففي هذا الحالة يقر الخليفة التعيين (29).

والعرب قبل الإسلام، اعتمدوا على مصادر في أحكامهم المختلفة، وهي (30):

أ) الأعراف والتقاليد المستمدة في تجارتهم.

ب) الاحتكام إلى العرافين والكهان.

ج) الاحتكام بالقرعة.

أن النظر بالمظالم ورد حقوق المظلومين، وقد شهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صغره مجلساً من هذا النوع، تحالف فيه القرشيون على نصرة من الظالم وهو ما يسمى بحلف الفضول (31).

وقد رشح الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام) مالك الأشتر قاضياً وحكماً (32) عن أهل العراق في وقعة حطين، وهو دليل على علم مالك الأشتر بأحكام القرآن والسنة النبوية والاجتهاد، وهو ثقة لديه، لأن هذا المنصب من الخطورة بحيث يفصل بين طرفي النزاع ويقرر مصير الأمة الإسلامية؛ وورد: «كان يتولى القضاء قضاة مدنيون يعينهم الخليفة وكان هؤلاء مستقلين عن الأمراء.

وفضلاً عن ذلك، يقول الماوردي في شروط القاضي: لا يجوز أن يقلد القضاء إلا

من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده وينفذ بها حكمه، وهي (33):

ص: 343

أ - أن يكون رجلاً ويجمع بين صفتين الذكورية والبلوغ.

ب - العقل: فلا يولي القضاء الصبي أو المجنون.

ج - الحرية: لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع انعقاد ولايته على غيره.

ء - الإسلام: لكونه شرطاً في جواز الشهادة؛ قال تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (34).

ه - السلامة في السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق ويفرق بين الطالب

والمطلوب، ويميز المعروف من المنكر، لتميز له الحق من الباطل، ويعرف المحق من المبطل.

وكان القضاة يجلسون في منازلهم ويفصلون بين الناس ويحكمون في الأقضية دون الخروج من ديارهم. ثم اتخذوا المسجد مكاناً للتقاض. ويذكر في هذا الصدد: «أن مصادر التشريع الإسلامي لدى القضاة تعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس عند أهل السنة»(35).

- المظالم:

في اللغة: «المظالم جمع ظلامة، وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، والظلامة ما

تظلمه وهي المظلمة اسم ما يأخذ منك»(36).

وورد في النظر في المظالم: «قود المتظالمين إلى التناصف، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيئة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأن يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وثبت القضاء فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين وأن يكون بجلالة القادر الأمر في الجهتين»(37).

ص: 344

أما ابن خلدون فقد عرف المظالم بقوله: «وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفه القضاء، ويحتاج إلى علو يد، وعظيم رهبة لقمع الظالم من الخصمين وتزجير المعتدي» (38).

وجاء في النظم الإسلامية: «والنظر في المظالم خطة قديمة كانت قريش في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلقاً بعد حلف الفجار في دار عبد الله بن الجدعان التميمي على رد المظالم وأنصاف المظلوم من الظالم...»(39).

ومما يبدو، أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حضر هذا الحلف وأعجبه ثم أنه أشار به واعتبره نموذجاً في رد المظالم، ومن الأنظمة المهمة في عصر ما قبل الإسلام والتي يمكن اعتمادها وتطويرها(40).

وفيما يخص الاختصاصات التي تتعلق في المظالم، فأنها تفوق اختصاصات القضاء في أمور جمة، ولقد نظر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ورجل من الأنصار(41).

ومن هذا نستشف أن أول من نظر في رد المظالم هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك عندما أرسل (علي بن أبي طالب) (عليه السلام) لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد بن الوليد من قبيلة بني حذيفة (42).

وبعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينتدب أحد في عهد أبي بكر وعمر وعثمان لرد المظالم إلا في عهد الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام)، وكان يفرد لسماع الشكاوي وقتاً معيناً أو نظاماً خاصاً، وورد في هذا الصدد: «إذا جاء متظلم أنصفه وإنما احتاج إلى النظر بنفسه في ظلامات الرعية، حين تأخرت إمامته

ص: 345

واختلطت الناس فيها ومالوا إلى الجو ومن أمثلة المظالم التي نظرها علي عليه السلام حادثة المرأتين في الولد، كل منهما تدعيه فدعا بسكين يشقه نصفين، فقالت إحداهما من هول المنظر: إنه ابني فكانت أمه حقاً»(43).

وفي واقع الأمر، أن الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام) أراد تبيان الحق وليس قصده إجراء العمل هذا، إنما هو إظهار من الأمومة عند الأم الحقيقية وعدم إظهارها فكان موقفاً فيها رد هذه المظلمة.

وما قاله الماوردي: «ولم ينتدب إلى المظالم من الخلفاء إلا القليل النادر لأن الناس في ذلك الوقت كانوا في الصدر الأول من الإسلام لذا كانوا إلى التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبه ومنها حكم القضاء فاقتصر الخلفاء السلف على فصل التشاجر بينهم بالحكم» (44).

ولعل الماوردي قد أشار إلى لفظة (إلا القليل النادر)، هو في عهد الإمام (علي بن

أبي طالب) (عليه السلام)، حيث نظر في المظالم.

ص: 346

- الحسبة:

في اللغة: «الحسبة مصدر احتسابك الأمر على الله وهي اسم من الاحتساب وهو

ادخار الأجر والثواب عند الله» (45).

والحسبة: هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مارسها ابو بكر وعمر وعثمان في عصر صدر الإسلام يباشرونها بأنفسهم، لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي أمر بالمعروف، إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر، إذا ظهر فعلة وإصلاح بين الناس، والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه في أحوال الرعية والكشف عن أمورهم ومصالحهم (46).

فضلاً عن ذلك، فأن الحسبة هي من توابع القضاء، وهي وظيفة يتم تعيين صاحبها من قبل القائم بأمر المسلمين، وذلك لمن يراه أهلاً لها وإن كان على غيره فهي من فروض الكفاية، والحسبة هي وسيطاً بين القضاء العام المظالم، فوظيفة القاضي فض المنازعات المتعلقة بالعقود والمعاملات بوجه عام، ووظيفة المحتسب النظر فيما يتعلق بالنظام العام، وفي الجنايات أحياناً، وأما صاحب المظالم فمن أهم ما يقوم به الفصل فيما استعصى من الأحكام على القاضي والمحتسب، وفي بعض الأحيان كان القضاء والحسبة يقوم بها رجل واحد مع مابين العملين من اختلاف، فعمل القاضي مبني على التحقيق والأنات في الحكم، أما عمل المحتسب فمبني على الشدة والسرعة في الفعل (47).

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول من باشر بأمر الحسبة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات على الرسل والأئمة، فلقد باشرها (صلى

الله عليه وآله وسلم) بنفسه، وقلدها واتبعها من بعده الخلفاء، ثم صارت نظاماً من

ص: 347

أنظمة الحكم في الإسلام.

وروي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرَ على من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: «يا صاحب الطعام ما هذا؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ثم قال (من غش فليس منا). وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، أنه ولي سعيد بن العاص على أسواق مكة (48).

وكان الإمام (علي بن أبي طالب) (عليه السلام) يمر في الأسواق وينهى عن الغش في الكيل والميزان، ويوصي أصحاب السلع بأخذ الحق وإعطاء الحق (49).

ومن شروط المحتسب: أن يكون مسلماً، حراً، بالغاً، عاقلاً، عادلاً وقادراً (50).

ومن شروط المحتسب كذلك ما قاله ابن بسام: «أن يكون المحتسب فقيهاً عارفاً بأحكام الشريعة الإسلامية ليعلم ما يأمر به وينه عنه وأن لا يكون قوله مخالفاً لعمله فقد قال تعالى في ذم علماء بني إسرائيل: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (51).

ومن واجبات المحتسب، واجبات دينية واقتصادية واجتماعية واسعة منها: منع المجاهرة بشرب الخمر، وعقد المعاملات التجارية المبنية على الربا، ومنع القسوة على الصبيان في الكتاتيب، ومراقبة الأسواق والغش والمكاييل، ومنع الحمالين وأهل السقا

من الإكثار في الحمل وغيرها (52).

ويقول ابن خلدون أيضاً: «لا يتوقف حكمه - أي المحتسب - على تنازع أو استدعاء بل له النظر والحكم في ما يصل إلى علمه من تلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدعاوي بل في ما يتعلق في الغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه

ص: 348

سماع بينة ولإنقاذ حكم»

(53).

ص: 349

النتائج

1 - إن أمر القضاء من خلال هذا العرض الموجز يظهر ثقله وأهميته في المنظومة

الفكرية الإسلامية والحيا الإنسانية بنحو عام.

2 - إن شخصية مالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان) كانت شخصية فريدة تجسدت فيها أبرز خصال القيادة سواء في المجال العسكري أو التشريعي بلحاظ ما للقضاء من إبراز للفقه الإسلامي ومقتضيات الاجتهاد في الحدود والتعزيرات والديات وغيرها.

3 - إن اختيار الإمام علي عليه السلام لهذه الشخصية في جوانب متعددة من الحياة الإسلامية وتعدد ادواره كقائد عام للجيش وقاضي ووالي يكشف عن صلابة ایمانه وذكائه وعدالته وهو قطب الفضائل والكمالات النفيسة.

ص: 350

الهوامش:

1 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 923 م): تاریخ الرسل والملوك، مط. الأميرة، (لبنان: 2005 م)، ج 2، ص ص 205 - 410.

2- ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (ت 456 ه): جمهرة أنساب العرب،

تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مط. دار المعارف، (القاهرة: 1962 م)، ص 415.

3 - المرزباني، أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسی (ت 374 ه): معجم الشعراء،

تحقيق: عبد الباري أحمد، مط. دار إحياء الكتاب العربي، ط 2، لبنان: 1960 م)، ص 266.

4 - ابن سعد، محمد بن سعيد: الطبقات الکبری، تحقيق: علي محمد عمر، مط. مكتبة الخانجي، (القاهرة: 2001 م)، ج 8، ص 332؛ وللتفصيل أكثر حول مواطن التشابه والاختلاف في سلسلة نسب مالك الأشتر. ينظر: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد (ت 655 ه / 1255 م): نهج البلاغة، مط. دار الفكر، (بیروت: د.ت)، ج 15، ص 74؛ ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 825 ه): الإصابة في تمييز الصحابة، مط. دار إحياء التراث، (بیروت: د.ت)، ص 482؛ ابن دريد الأزدي، أبو بكر بن الحسين: الاشتقاق، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مط. مكتبة المثنی، ط 2، (بغداد: 1979 م)، ص 404؛ ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 825 ه): تهذيب التهذيب، مط. دار إحياء التراث، (بيروت: 1993 م)، ج 5، ص 354.

5 - الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 3، ص ص 285 -300؛ ابن حزم، جمهرة

ص: 351

أنساب العرب، ص 415؛ المرزباني، معجم الشعراء، ص ص 165 - 270.

6 - حسون، نجاح عبيد: إبراهيم بن الأشتر دراسة في سيرته، د.مط، (د.م: 2006 م)، ص ص 8 - 15.

7 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه / 1405م): تاریخ ابن خلدون،

مط. دار الكتب اللبنانية، (بیروت: 1966 م)، ج 1، ص 81.

8 - ابن دريد الأزدي، الاشتقاق، ص 297.

9 - المرزباني، معجم الشعراء، ص 263.

10 - ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبد الله بن سلم (ت 289 ه / 901 م): المعارف،

تحقیق: ثروت عكاشة، د.مط، (طهران: 1415 ه)، ص 586.

11 - الرازي، محمد أبي بكر قادر (ت 666 ه / 1265 م): مختار الصحاح، مط. دار

الكتاب العربي، (د.م: 1981م)، ص 562.

12 - المنقري، نصر بن مزاحم: وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون،

مط. المؤسسة العربية الحديثة، ط 2، (القاهرة: 1382 ه)، ص 260؛ ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبد الله بن سلم (ت 289 ه / 901 م): الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر وجمال الدين الشيال، مط. دار نشر أقتاب، (طهران: د.ت)، ص 147.

13 - ابن أبي الحديد، نهج البلاغة، ج 1، ص ص 180 -200.

14- البلاذري، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر (ت 379 ه / 989 م): أنساب الأشراف، تحقیق: محمد عبد الله، مط. دار المعارف، (القاهرة: 1959 م)، ج 3،

ص: 352

ص ص 39 - 45.

15 - ابن حبیب، ابن جعفر بن عمرو: المحبر، رواية أبي سعيد السكري، مط. المكتب

التجاري للطباعة والنشر، (بیروت: د.ت)، ص 223.

16 - ابن حبیب، المحبر، ص 302؛ المنقري، وقعة صفين، ص 254.

17 - ابن أبي الحديد، نهج البلاغة، ج 1، ص 185.

18 - البلاذري، أنساب الأشراف، ج 3، ص 39.

19 - البلاذري، أنساب الأشراف، ج 3، ص ص 39 -45.

20 - الأزدي، محمد بن عبد الله البصري (ت 231 ه / 845م): تاریخ فتوح الشام،

تحقيق: عبد المنعم عامر، مط. مؤسسة سجل العرب، (القاهرة: 1969 م)، ص 210.

21 - ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 482.

22 - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 76.

23 - الرازي، مختار الصحاح، ص 250 ومابعدها.

24 - سورة الشورى، الآية: 14.

25 - ابن خلدون، المقدمة، ص 220.

26 - ابن خلدون، المقدمة، ص ص 220 - 222.

27 - سورة النساء، الآية: 65.

ص: 353

28 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص 111.

29 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص 112.

30 - الشطاط، علي حسين: المدخل إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، د.مط،

(عمان: د.ت)، ص ص 175 -176.

31 - ابن هشام، أبو محمد عبد الله الحميري (ت 213 ه / 828 م): السيرة النبوية،

تحقيق: همام عبد الرحمن ومحمد عبد الله، مط. مكتبة المنار، ط 3، (الأردن:

1988 م)، ج 2، ص 50.

32 - ابن عبد ربه، شهاب الدين أحمد الأندلسي (ت 327 ه / 938 م): العقد الفريد، مط. دار هلال، (بیروت: 1990 م)، ج 4، ص 145.

33 - الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 133؛ البدوي، إسماعيل إبراهيم، نظام

القضاء الإسلامي، ص 247.

34 - سورة النساء، الآية: 141.

35 - اليوزبكي، توفیق: دراسات في النظم العربية الإسلامية، مط. جامعة الموصل، (الموصل: 1975 م)، ص 183.

36 - ابن منظور، لسان العرب، ج 12، ص ص 373 - 379.

37 - الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 64.

38 - ابن خلدون، المقدمة، ص 222.

39 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص 132؛ ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية،

ج 1، ص ص 133 - 134.

ص: 354

40 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص 132.

41 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص ص 131 - 135.

42 - ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 134.

43 - الناطور، شحاذة، النظم الإسلامية، ص 132.

44 - الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 65.

45 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن علي (ت 711 ه / 1242 م): لسان العرب، مط. دار صادر، (بیروت: 1990 م)، ج 1، ص ص 314 - 315.

46 - ابن الأخوة، محمد بن محمد بن أحمد: القربة في أحكام الحسبة، مط. دار الحداثة، (بیروت: 1990 م)، ص 29.

47 - الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 268.

48 - شلبي، أبو زيد: تاريخ الحضارة الإسلامية، مط. مكتبة وهبي، (القاهرة:

1383 ه)، ص 130.

49 - لجنة وزارة التربية، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ص 69.

50 - الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 268.

51 - سورة البقرة، الآية: 44.

52 - ابن خلدون، المقدمة، ص 225؛ إبراهيم، حسن، النظم الإسلامية، ص 298.

53 - ابن خلدون، المقدمة، ص 225؛ شلبي، أبو زيد، تاريخ الحضارة الإسلامية،

ص 132.

ص: 355

ص: 356

أسس اختيار المسؤولين في الدولة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في ضوء عهده لمالك الأشتر

اشارة

الدكتور فوزي خيري كاظم

ص: 357

ص: 358

لا يمكن لصفحات هذا البحث وإن كَثُرتْ أن تستوعب القيم الوارد في عهد الإمام علي (عليه السلام) لواليه مالك بن الحارث المعروف بالأشتر حين بعثه والياً على مصر سنة، فهو دستور شامل ومتكامل للدولة، التي تعالج قضايا الحكم والإدارة وشؤون الدولة وعلاقتها مع الأمة والحقوق والوجبات المترتبة على الحاكم تجاه الأمة، وواجبات الأمة تجاه الحاكم، فقد حوى مختلف النظريات في مختلف جوانب الحياة، فلو أردنا الجانب الديني سنجد فيه القيم الروحية العالية التي جاء بها الإسلام وعمل على إشاعتها بين الناس، والمنظومة القيمية الأخلاقية للإسلام ترتسم بوضوح بين ثنايا سطوره، وترفل بروح التسامح وإشاعة ثقافة التسامح بين عناصر المجتمع كافة. وإن أردنا الجانب السياسي؛ فالعهد بحد ذاته منظومة سياسية متكاملة، تتوضح فيها العناصر الأساسية للإدارة الدولة وتنظيم عملها، وحين نبغي الجانب الاقتصادي؛ فالعهد يمثل اطروحة لنظرية اقتصادية مثالية تؤسس لمجتمع متآلف متراحم، طبقاً لما جاء به الإسلام الحنيف من مبادئ سامية. أما الجانب الإداري في هذا العهد؛ فهو منظمة متكاملة في كيفية إدارة الدولة وتنظيم العلاقة بين الحاكم ومحكومية.

وعليه فلا يمكن أن نتناول بالبحث والدراسة كل هذه الجوانب مجتمعة؛ لأن ذلك يستوجب جهداً ووقتاً ومجلدات لا تستطيع صفحات هذا البحث أن تحتويه. لذا فقد اقتصرنا على جزئية صغيرة من جانب من جوانبه يمكن أن نقف عندها ألا وهي أسس اختيار المسؤولين في الدولة وفق تعاليم الدين الإسلامي، فقد ورد فيه من الوصايا الشيء الكثير حول إدارة الدولة وما يجب أن يتصف به الحاكم من صفات، وما الذي ينبغي أن يتجنبه ليصل بالمجتمع إلى التكامل المطلوب في كل الجوانب.

ولأهمية موضوع اختيار المسؤولين لغرض تسنمهم المناصب العليا في الدولة،

ص: 359

ومراعاة الأسس الصحيحة في اختيارهم وفقاً لما جاء في الشريعة الإسلامية المقدسة، ولكون هذا الموضوع أصبح - في زمننا الحالي - أمراً في غاية الخطورة لما نراه من عملية تخط وعشوائية وانتقائية في اختيار المسؤول في الدولة وفقاً لنظام المحاصصة الحزبية، وعدم الأخذ بكفاءة من يتم اختياره، فقد رأينا أن نسلط الضوء على أهمية اختيار المسؤول في الدولة من وجهة نظر إمام المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما رسمه وحدده من أسس قويمة في اختياره، اتخذناه ليكون موضوعاً لبحثنا هذا الموسوم ((أسس اختيار المسؤولين في الدولة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في ضوء عهده لمالك الأشتر)). متناولين فيه أولاً: نبذة مختصرة عن مالك بن الحارث الأشتر، بعدها دخلنا في الموضوع الأساس من البحث وهو أسس اختيار المسؤولين في الدولة من خلال العهد.

سيرة مالك الأشتر

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن سعد مالك بن النخع1، وكنيتهُ: أبو إبراهيم نسبة الى ولده الأكبر (إبراهيم)2، وسبب تلقيبه بالأشتر لأنه قد شُتِرَت إحدى عينيه في معركة اليرموك التي شارك فيها، وقد ضربه رجل على رأسه فسالت الجراح قيحاً الى عينه، فشترتها(3).

وكان شديد الفخر بهذا اللقب، حتى أنه تفاخر به في معركة صفين حيث قال:

إني أنا الأشترُ معروفُ الشترْ ٭٭٭ إني أنا الأفعى العراقيّ الذّكرْ (4)

اتفقت أغلب المصادر على أنه ولد في الجاهلية (5)، وأدرك الإسلام فأسلم (6)، يؤيد ذلك قيام أغلب المترجمين له بترجمته مع الصحابة، وذكر الواقدي انه شارك في بعض المعارك في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(7).

ص: 360

وكان ولادته في إحدى قرى اليمن، ثم نزل الكوفة واتخذها مسكناً له وموطناً له ولأولاده من بعده(8). إلا أن المصادر لا تعطينا تاريخ محدد لولادته. وقد وثقه أصحاب الحديث وعدوه من ثقاتهم في الرواية(9).

صفاته:

إن الحديث عن شخصية مالك بن الحارث حديث لا يمكن أن تتسع له صفحات البحث القليلة التي نحن بصددها، كما أن الحياة التي عاشها - والمليئة بالأحداث والبطولات - لا يمكن أن يستطيع فيها كاتب مهما حاول الاختصار أن يعطي هذه الشخصية ما يغني عن تلك السيرة التي ملأت صفحات التاريخ بطولة وإقداماً. ولكننا ملزمون بعدد قليل من الصفحات لابد لنا من الالتزام بها، على الرغم من أننا لم نوفي حقّ من نحن بصدد الحديث عنه، ولكنها تكفي للتعريف به ولو ببساطة.

أولى الصفات التي عُرفت عن مالك الأشتر هي شجاعته التي قلّ نظيرها، فقد كان شجاعاً بكل ما لهذه الكلمة من معنی حتی کانت من أبرز خصائصه، وقد امتلأت كتب المؤرخين بالإشادة بتلك الشجاعة، ويكفيه شرفاً قول أمير المؤمنين فيه لما ولّاه مصر، حين بعث له کتاب توليته: «السلام عليك يا مالك، أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين وأقمع به نغوة الأليم، وأسد به الثغر المغوف» (10).

ومن أبلغ ما وجدناه في هذا الصدد قول الجاحظ فيه: «أن حياتهُ هزمت أهل الشام وموته هزم أهل العراق»(11). كما وصفه الأزدي (ت 231 ه) بأنه: «كان من جلداء الرجال ومن أشداءهم وأهل القوة منهم والنجدة»(12)، أما ابن الأثير (ت 630 ه) فذكر أنه: «أحد الفرسان المعروفين، له المقامات المشهودة في فتح العراق وغيره وفي الجمل وصفين»(13). في حين قدّم ابن أبي الحديد (ت 656 ه) وصفاً دقيقاً

ص: 361

لشجاعته حين قال: «كان شديد البأس جواداً رئيساً حليماً... وكان يجمع بين اللين والعنف، فيسطو في موضع السطوة ويرفق في موضع الرفق، وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف ولين في غير ضعف»(14)، وقال ابن خلکان (ت 681 ه) انه: «كان من الشجعان والإبطال المشهورين» (15). وذكره الذهبي (ت 748 ه) بقوله: «وكان شريفاً مطاعاً، وفارساً شجاعاً»(16)، أما القلشقندي (ت 821 ه) فقال: «كان من مشاهير شجعان العرب وكان رئیس قومه» (17). وقد عده ابن تغري بردي (ت 874 ه): «أحد الشجعان الإبطال المشهورين»(18).

ولعلنا نحتاج إلى صفحات كثيرة حتى نستطيع إيراد جميع ما وجدناه في كتب

المؤرخين من وصف لمالك وشجاعته، ولكننا سنكتفي بإيراد ما أوردناه.

وكل هذه الصفات جاءت متوافقة مع ما كان عليه من إيمان حمله بين جنبيه، واثق الخطى، يسير بثبات المؤمن، كيف لا وقد صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى صار کما يصفه بالقول: «رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(19). فأي إيمان يحمل هذا الرجل حتى يصفه أمير المؤمنين بهذا الوصف؟؟.

وفضلاً عن شجاعته، كان مالك خطيباً يشار إليه بالبنان، لتميزه بقوة خطابية،

فائقة وحجة واضحة، وهذه الصفة أكدها جمع من المؤرخين (20).

کما کان شاعراً شهدت له ساحات الحروب التي خاضها فنطقت بشعره فضلاً عن شجاعته، فكان شعره ورجزه يواكبان سيفه أينما حلّ، وقد أفاضت المصادر التاريخية والأدبية بالكثير منها(21).

كذلك كان مالك إدارياً كفوءاً يشهد له بذلك تقلده العديد من المناصب في زمن

ص: 362

أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان والياً للإمام علي (عليه السلام) أثناء خلافته على (الموصل ونصيبين ودارا وسنجار، وآمد وهيت وعانات وغيرها)(22)، كما كان والياً على الجزيرة (23).

وآخر ولاياته كانت على مصر، حيث أرسله أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن تناهى إلى سمعه قیام معاوية بن أبي سفيان (41 - 60 ه) بإرسال عمر بن العاص ومعاوية بن حُديج في أربعة آلاف رجل (24) لاحتلالها، قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين: صاحبنا الذي عزلناه - يعني قيس بن سعد بن عباده - أو الأشتر» (25)، وأستقر رأيه على الأشتر. فبعثه إليها إلا أنه توفي قبل أن يصل.

وفاته:

بعد أن علم معاوية بن أبي سفيان بتولية الإمام علي (عليه السلام) لمالك على مصر، علم أنه لا يستطيع الوصول إليها مادام مالك والياً عليها(26)، ولأن الغدر من شيم الجبناء، فقد احتال معاوية وعمل على قتله، فدس له سماً بواسطة رجل من أهل الخراج (27)، وقيل كان دهقان القلزم (28)، بعد أن وعده معاوية بعدم أخذ الخراج منه، فجعل السم في العسل وسقاه إياه فمات (رحمه الله)، وكانت شهادته عام (38 ه) (29) بالقلزم. غير أن ابن سعد والمسعودي (30) يذكران أنه توفي ب(العريش).

وقد نقلت المصادر التاريخية فرحة معاوية باستشهاد مالك، حين نقلت قوله حين بلغه الخبر: «كان لعلي يدان یمینان، قطعت أحداهما يوم صفين - يعني عمار بن یاسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني مالك الأشتر»(31)، وكذلك نقلوا قوله في هذه المناسبة: «إن لله جنوداً من عسل» (32).

ص: 363

أما الإمام علي (عليه السلام) فقد حزن حزناً شديداً حين بلغه هذا الخبر، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين. اللهم أني احتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر، ثم قال: رحم الله مالكاً فقد وفي بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع إنّا وطّنا أنفسنا على أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها أعظم المصائب» (33). كما قال (عليه السلام): «رحم الله مالكاً فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(34).

وهذا يدل على شدّة تأثر الإمام (عليه السلام) بوفاة هذا الإنسان المخلص في إيمانه وفي صحبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وللدين الإسلامي الحنيف.

أسس اختيار المسؤولين في الدولة

بعد التوسع الكبير الذي شهدته الدولة العربية الاسلامية في العصر الراشدي على أثر الفتوحات الإسلامية، وكذلك استحداث مدن جديدة و تمصيرها، ظهرت الحاجة للعديد من الوظائف الإدارية الجديدة لإدارة تلك الأقاليم وحفظ الأمن والنظام فيها، وتنظيم مواردها المالية، وشؤون الناس هناك، فالخلافة أصبحت غير قادرة على إدارة تلك الأقاليم بصورة مركزية لذا اقتضت الحاجة اغلى تعيين ولاة (مسؤولين) يديرون شؤون تلك الولايات، ولم تكن هذه المناصب مستحدثة بل كان امتداداً لإجراءات عمل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان يرسل من ينوب عنه - في بعض الأحيان - لإداء بعض الأعمال في تلك الأمصار منها الدعوة إلى الإسلام وتعليم الناس هناك تعاليمه وتحفيظهم کتاب الله وشرحها لهم، فضلاً عن تولي القضاء للفصل في النزاعات التي تحدث فيها، وكذلك تدبير الأمور

ص: 364

المالية وتنظيمها.

أما في عهد الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) ونتيجة لاتساع رقعة الدولة، وانتشار الإسلام فقد اتسع نطاق عمل هذا الوالي، وصار يحضى بالعديد من الصلاحيات في مختلف الجوانب الإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن الدينية.

ومن شروط التولية أن يكون الوالي مسلماً حراً بالغاً عاقلاً (35). كما يجب أن يكون عارفا بالسياسة. والخبرة في الحرب والإدارة، وفي هذا يقول الإمام علي (عليه السلام) لأهل مصر موضحاً لهم سبب اختياره مالك بن الحارث الأشتر بالقول: «أما مالك هذا أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فأسمعوا له واطيعوا أمره فيما طابق الحق فأنه سيف من سيوف الله ولا كليل الحد، ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم ولا يؤخر إلا عن أمري وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوکم»(36).

إذن علمه بالسياسة وخبرته كانت أحد أسباب اختياره لولاية مصر التي كان الإمام (عليه السلام) يخشى عليها من نفوذ معاوية.

ومن نظرة أولى للعهد يتبين أن الإمام علي (عليه السلام) أوضح أن المجتمع يتألف من فئات عدّة، وليس كله طبقة واحدة، ولكل طبقة - كما هو معروف - لها محدداتها ومتطلباتها الخاصة، فقال: «واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من

ص: 365

أهل الذمة ومسلمة الناس ومن التجار ومن أهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى وذوي الحاجة والمسكنة»(37).

وهذا يعني إن على الوالي أن يكون على دراية وفهم واسعين بمكونات المجتمع الذي يحكمه، فالناس ليست كلها على مستوٍ واحد ولا هم علي شأنٍ واحد، لذا على الوالي أن يفهم ذلك فهماً واعياً، ويراعي مثل هذا التفاوت، وأن يكون تصرفه حکیماً، ومبني على فهمه لطبيعة هذا المجتمع المتعدد الطبقات.

لذلك نراه (عليه السلام) يحثُّ عامله على إشاعة العدل والمساواة بين طبقات المجتمع، هذا العدل الذي هو أساس قيام الدولة ودستور وجودها، هذا الأساس الذي يعتمد على إعطاء كل ذي حقٍ حقه، من غير تعدٍ ولا تفريط، فتكون النتيجة تآلف المجتمع وتحابه، والتفافه حول قيادته تحت کل ظرف.

وحدد أمير المؤمنين (عليه السلام) صفات الولاة وخصالهم، التي يجب أن تكون خصال حميدة محمودة، فإنْ احتاج الوالي إلى بعض المساعدين أو إلى عمال للمناطق التي يحكمها، وجب عليه اختيارهم وفق أسس معينة وضحها أمير المؤمنين بالقول: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيرهُ العنف ولا يقعد به الضعف» (38).

ويفهم من هذا النص أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حدَّد أسس اختیار الولاة بالآتي:

1. الإيمان بالله ورسوله.

2. الزهد في الدنيا والتعفف عنها.

ص: 366

3. الصبر والقدرة على ضبط النفس في التعامل مع الأمور.

4. التسامح مع الناس والعفو عن الذنوب.

5. شديد في ذات الله لا تأخذه في الحق لومة لائم.

6. أن يتمتع بالحلم والأناة والشجاعة، وذو رأي حازم غير متهور.

واكد الإمام علي (عليه السلام) على مجالسة الوالي للعلماء وتقريبه الفقهاء ورعايتهم واکرامهم وتعظيم شأنهم، لأنهم وبما يملكون من علم ودراية وتجربة سيكونون خير عون للوالي في تقديم النصح له وإرشاده، وهو ما يوضحه قوله (عليه السلام): «وأكْثِر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صَلُحَ عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك» (39).

ومن الأمور التي يجب على الوالي الاهتمام بها هو جلساءه وبطانته الخاصة - وهم المستشارون - إذ أن هؤلاء يجب أن يكونوا من أهل الخير والصلاح لما لهم من دور كبير في تحسين بعض المواقف التي قد تستدعي الحاجة لتدخلهم على نحوٍ مناسب، تجنباً لاتخاذ قرار غير موفق من قبل الوالي أو الحاكم نتيجة التسرع أو عدم تقدير الأمر على الوجه الصحيح فيكون دورهم هنا هو تصحيح الأمور، لذا وجب أن يكون هؤلاء الجلساء من أهل الصلاح، لأن فيهم من يكون قليل الخير لا يحب إلا نفسه، ونتيجة لظلمه نفسه وتعديه على الله ورسوله، فقد يُحسّن للوالي أمور غير صحيحة يُظلم فيها الناس وتُصادر حقوقهم، وفي ذلك يقول (عليه السلام): «ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول وقلة أنصاف في معاملة، فأحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لاحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة، ولا يطمعنَّ منك في اعتقاد عقد تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فیکون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة»40.

ص: 367

ويحذر الإمام (عليه السلام) ولاته من الذين يسعون إلى ذكر عيوب الناس أمامهم، لأن ذلك مما نهى الله عنه في كتابه الكريم بقوله: (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلأَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً)(41). وقد جاء في كتابه الى مالك الأشتر موصياً: «ولیکن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوباً الوالي أحقُّ بسترها، فلا تكشف عما غاب عنك فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فأستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك» (42).

وأوجب (عليه السلام) على الولاة التزام الحق والعدل في القريب والبعيد على حد سواء حتى لو كانت العقوبة في أحد أفراد عائلته أو قرابته أو خاصته لأن تنفيذها وعدم تعطيلها فيه سيرة محمودة للوالي لدى الرعية فيقول (عليه السلام): «والزم الحق من لزمه القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وأبتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبّة ذلك محمودة»(43).

هذا فضلاً عما افصحت عنه رسائل الإمام (عليه السلام) الى ولاته من ضرورة الاهتمام بمصالح الرعية وتوخي العدل في الحكم والتزام المسؤولية بأمانة تجاه مصالح الناس المالية والاجتماعية.

كما أشار الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى موضوع في غاية الأهمية وهو اختيار الوالي لمستشارين أو وزراء يساعدوه في إدارة أمور الدولة والحكم، ولأهمية هذا المنصب فقد أكد أمير المؤمنين على اختيارهم بصورة دقيقة لأن لهم تأثير على الوالي بما يقدمونه من نصح وإرشاد في ما يستشارون به، لذا اشترط على واليه أن لا يكونوا ممن شغل المنصب للأشرار قبل ذلك؛ كونهم كانوا شركاء لولاتهم وحكامهم في آثامهم باعتبارهم مساعدين لهم ومعاونين على الظلم والآثام، فقال (عليه السلام):

ص: 368

«إن شرّ وزرائك من كان قبلك للأشرار وزیراً، من شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الآثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم وأوزارهم»(44).

ويتحتم لمن يتقلد هذا المنصب أن يكون ورعاً تقياً نقياً، لا يتوانى عن تقديم النصح والإرشاد عند الحاجة، وأن يكون ممن يقول الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم، ويؤكد أمير المؤمنين على اختيار الأفضل منهم والأطوع للحق، وهو ما نلمسه من قوله (عليه السلام): «ثم لیکن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع»(45).

كما يحذّر الإمام (عليه السلام) الولاة والحكام من مديح المستشارين والعمال والمقربين، لأن الهدف من المديح هو تحقيق غايات ومصالح خاصة لا تتلائم مع المصلحة العامة، فيقول (عليه السلام): «ثم رِضْهُمْ على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة»(46).

ومن الصفات الواجب توفرها في هؤلاء المستشارين - کما بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) - هي أن لا يكونوا بخلاء أو جبناء، لأن هؤلاء يسعون إلى منع الخير والفضل الذي ينوي الوالي فعله للرعية، فقال (عليه السلام): «ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الامور ولا حريصا يزين لك الشره بالجور فأن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله »(47).

وقد ورد النهي عن البخل والتحذير منه في القرآن الكريم في آيات عدة، منها قوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمرونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)(48)، أما الجبن فهو من الصفات التي تعوذ منها رسول

ص: 369

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أصحابها، کما ورد في قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر» (49).

کما ويوصي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولاته بالتمعن باختيارهم للقضاة، إذ يجب أن يتصفوا بالعلم وسعة الصدر، وهو ما أشار إليه بقوله: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحّکه (50) الخصوم، ولا يتمادى في الزلّة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل»(51)، فضلاً عن ذلك أشار (عليه السلام) إلى أنه من الضروري قيام الوالي بالإشراف على عمله ليس من باب التدخل في عمله، وإنما من أجل الوقوف على احتياجاته وتأمينها ومنها على وجه الخصوص تأمين مستلزمات معيشته من خلال فرض عطاء مناسب له يؤمن فيه عيش حرّ کریم له ولعائلته، حتى تقل حاجته للناس فلا يشغله عن عمله شغل آخر، ولتطمئن نفسه، وهو ما يتوضح من قوله (عليه السلام): «ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس» (52)، كما أن على الوالي أن يتعاهد القاضي بالمنزلة الرفيعة، ويقربه منه ليطمئن القاضي على نفسه - على أقل تقدير - من منافسة الرجال ووشايتهم عليه عند الوالي، وهو قوله (عليه السلام): «وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(53).

ومن المناصب الأخرى التي أولاها الإمام (عليه السلام) عنايته وأوصى الولاة

ص: 370

باختيارهم بصورة دقيقة، هو منصب الكاتب، وهذه الوظيفة الإدارية لها دورها في تنظيم أمور الدولة وحفظ الحقوق، وقد أوضح الإمام أهمية هذه الوظيفة بقوله: «لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها»(54). فأهمية منصب الكتابة تكمن في اطلاع الكتاب على أسرار الامور وعلانيتها ومعرفة أسرار الدولة، لذلك أوصى الولاة بضرورة العناية باختيار من يتولى هذا المنصب، وهو ما نلاحظه من قوله (عليه السلام): «ثم انظر في حال كتابك، فولِّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»(55).

أما أسس اختيارهم، فقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه لا يكون اختيارهم على أساس الفراسة المبنية على حسن الظن - من قبل الوالي -، لأن بعض الناس قد يحاولون التصنع وإظهار غير ما تبطن أنفسهم لغرض الفوز بالمنصب، فضلاً عن ذلك اختبار سيرتهم في الناس حين كانوا يتولون أعمالاً للولاة السابقين، فسيرتهم تلك هي خير مصداق لسلوكهم القادم، لذلك أشار الإمام (عليه السلام) إلى ذلك بالقول: «ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك استنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك

ص: 371

لله ولمن وليت أمره»(56).

وأشار الإمام (عليه السلام) الى رعاية الوالي لعمالهم وتعهده لهم، من خلال تحديد عطاء هم من بیت المال ومراعاة أن تكون هذا العطاء كافٍ لسد حاجاتهم وحاجات عوائلهم ليغنيهم ذلك عن الحاجة الى الناس، والنظر إلى ما في أيدي الغير، وفي ذلك سبب مهم وضحه أمير المؤمنين (عليه السلام) فحين تسد حوائجهم تكون الحجة للوالي على العمال إذا ما خانوا الامانة وخالفوا أمره: «ثم أسْبغْ عليهم الأرزاق، فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم أن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك» (57).

کما حذر أمير المؤمنين (عليه السلام) الولاة من نقض القوانين والسنن الصالحة التي عمل بها مصلحو هذه الأمة قبلهم، واجتمعت عليها الأمة وصلح أمرها؛ لأن نقضها وتغييرها فيه ضرر كبير عليه وعلى المجتمع، وقد يكون هذا الضرر ضرراً مادياً يلحق بالرعية، فضلاً عن الأثر الديني لمسألة التغيير هذه، عملاً بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من سنَّ سُنَّة حسنه فعمل بها كان له أجرها، ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً. ومن سنَّ سنَّة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً»(58). وهو ما عناه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «ولا تنقض سنَّة صالحه عمل بها صدر هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدثنَّ سنة تضرُّ بشيء مما في تلك فيكون الأجر لمن سنَّها والوزرُ عليك بما نقضتَ منها»(59).

ومن توجيهاته (عليه السلام) الأخرى للوالي، العمل على كسب ود الرعية وبث روح الرحمة والتآلف بين أفراد المجتمع من خلال نشر العدل والمساواة بينهم، وتخفيف الصعاب عليهم، فيقول (عليه السلام): «وأعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنِّ

ص: 372

والٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيف المؤونات عليهم، وترك استكراهه ایاهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك امر يجتمع لك فيه حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظنّ يقطع عنك نصباً طويلاً، وإنَّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤه عنده، وإن أحق من ساء ظنه بك لمن ساء بلاؤك عنده» (60).

وشدّد أمير المؤمنين (عليه السلام) على أن لا يكون هذا الإحسان من قبل الوالي نحو رعيته منَّاً منهم، وإنما واجب عليهم ذلك بحسب المسؤولية الملقاة على عاتقهم، فهم ولاة الأمر والمسؤولون عن إشاعة العدل والإحسان بين من يحكموهم، وهذا ذات ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَالأِّذَی)(61). فالوالي يعدُّ مسؤولاً عن رعيته، وتفقدها من قبله وإحسانه إليها من الواجبات التي لابد له من القيام بها، عملاً بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»(62). وسيحاسبه الله سبحانه وتعالى عن رعيته مثلما يحاسب رب العائلة عن عائلته، ويتضح ذلك في مفهوم حدیث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «ثم إن الله سأل كل راع عمّا استرعاه أحفظ أم ضيّع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»(63).

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) شرح ذلك ووضحه في قوله: «وإياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيها كان من فعلك - فإن المنّ يبطل الإحسان والتزيّد يذهب بنور الحق»(64).

كما أوصى (عليه السلام) ولاته بعدم إخلاف الوعود التي يعطونها للرعية، لأنّ ذلك يعدُّ من الصفات غير المرغوبة في الإنسان عموماً، فضلاً عن كونه والياً، وهي من صفات المنافقین کما صرّح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (65) بقوله: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» (66). فقال (صلى

ص: 373

الله عليه وآله وسلم): «وإيّاك - أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك - والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه: (کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (67)»(68).

ويحذر الإمام (عليه السلام) ولاته أيضاً من القتل والعدوان بغير حق وسفك الدماء كونه لا يُرضي الله سبحانه أولاً؛ فهو من الأمور التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ ثُمَّ أَقْرَرتُمْ

وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(69). وهو أول ما يقضي به يوم القيامة هو الدماء الحرام، وثانياً: إن ذلك يؤدي إلى زوال الملك، إذ أن سفك الولاة للدماء، إن كان بقصد تقوية سلطانهم وتثبيت أركان دولتهم، فإنه سوف يأتي بنتيجة عكسية، فيقول (عليه السلام): «إياك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شيء أدعى إلى النقمة، ولا أعظم لتبعه، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن» (70).

أما إذا حدث القتل عن طريق الخطأ أو دون قصد الوالي، فإن أمير المؤمنين شدّد على الوالي بأن يراجع ذوي المقتول بأن يؤدي حقه لأهله وهي ديّة القتل، حتى يسترضيهم، ولا يتوانى في ذلك مستغلاً منصبه وسلطانه، فيقول (عليه السلام) في ذلك: «وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة (71) وما فوقها مقتله، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم»(72).

وهذا عين ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا کُتِبَ

ص: 374

عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (73). فالله سبحانه لا يرتضي بالعدوان، وأن الشريعة السمحاء منعت التعدي بين الأفراد سواء كان ذلك عمداً أو بغير عمد، فحفظ الحقوق والعدالة والمساواة هي الأسس التي قام عليها الإسلام الحنيف، فضلاً عن إبداء التسامح والعفو عند المقدرة، وهو من شيم الكرام، ومما جاءت به الشريعة المقدسة وأكدت عليه.

ومن الأمور التي أكد عليها الإمام علي (عليه السلام) الابتعاد عن اعجاب المرء بنفسه، فإن ذلك سيكون سبباً في عدم النظر إلى الأمور بمنظارها الصحيح، وبالتالي يكون هذا سبب هلاكه فيقول (عليه السلام) محذراً: «إياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها» (74).

کما نهی (علیه السلام) عن التغافل عن أخطاء خاصته وعماله، وعدم نصرة المظلوم على الرغم من علمه بظلمه ومن ظلمه، لأن الله سبحانه وتعالى لن يدع ذلك دون عقاب، بل وسينتصر لذلك المظلوم منه أولاً كونه المسؤول عن الرعية، وعن الناس وأخذ الحقوق والانتصار للمظلومين، فهذا واجبه الذي أوصاه به الله تعالى، وهو أيضاً واجب المسؤولية الملقاة على عاتقه بحكم تصديه لها، وقد يعد شريكاً للظالم في ظلمه لأنه رأى الظلم فتركه، ولم ينصف المظلوم، قال (عليه السلام) : «إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعني به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك المظلوم»(75).

کما حذّر (عليه السلام) ولاته من الغضب وأمرهم بأن يملكوا أنفسهم، وأن يكونوا حذرين من الوقوع تحت سطوته، فقد يطلقوا أحكاماً على أشخاص أو في

ص: 375

القضايا التي بين أيديهم وهم في تلك الحالة من اللاشعور، وهذا ما تقود - بكل تأكيد - إلى أحكام ظالمة قد تودي بهم إلى التهلكة من خلال عدم رؤيتهم للحق بفعل وقوعهم تحت سيطرة الغضب، وهو ما أشار إليه (عليه السلام) بقوله: «املك حميّة انفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار» (76).

ودعاهم إلى اتباع السنن الصالحة لمن سبقهم من الحكام الأخيار العدول، ولاسيما ما نُقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من آثارٍ، والفرائض التي جاءت في كتاب الله عز وجل، وأن لا يتبعوا هوى أنفسهم سواء في الحكم أو في التعامل مع الناس، وجعل المضي على تلك السيرة الصالحة واجب وفرض محتّم عليهم وليس في الأمر اختیار، ولعل ذلك يعود إلى كون الإلزام نابع من المسؤولية الملقاة على عاتقهم والتي ارتضوا القيام بها، ولهذه المسؤولية واجب محدّد هو إشاعة العدل والمساواة والحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وهو ما نراه واضحاً من قوله (عليه السلام): «الواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة فاضلة، أو أثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، من فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك الى هواها» (77).

کما حذر الإمام (عليه السلام) ولاته من الاحتجاب عن الرعية، فهذا الأمر يجعلهم بعيدين عن المجتمع الذي يتوجب عليه مراعاته وحفظه، فضلاً عن أن مسؤوليته تجاه المجتمع تحتم عليه أن يكون قريباً من الناس لمعرفة احتياجاتهم ومشاكلهم والعمل على حلِّها، لأن ذلك يقع ضمن مسؤلياته التي ارتاضها لنفسه،

ص: 376

وقبل أن يكون بموضع القيادة في المجتمع، وهذا يوجب عليه الاطلاع على شؤون الناس ومراعاتها، وهو ما وضحه (عليه السلام) بقوله: «فلا تطولنّ احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتاجوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ویشاب الحق بالباطل، وانما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليس على الحق سات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب» (78).

فضلاً عن ذلك بيَّن الإمام (عليه السلام) أن حاجات الناس للوالي لا تتعدى

طلب الإنصاف في المعاملة أو رفع مظلمة وقعت عليه، وأغلب حاجات الناس مما لا يكلف الوالي شيئاً قد يخاف اعطاءه، مع أن إحدى صفاته والتي يجب أن يتصف بها هي الكرم والسخاء، وهذا ما نتلمسه من قوله (عليه السلام): «إن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة» (79).

فضلاً عن ذلك، يؤكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة عمارة الأرض وإصلاحها لما فيه من أهمية اقتصادية كبيرة تعود بالنفع على المسلمين عامة، ونتلمس ذلك بقوله: «... وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً» (80).

ويؤكد الإمام (عليه السلام) على عامله، أن ينظر إلى رعيته بعين الرأفة وأن يأخذ

ص: 377

حالهم وحال الأرض بعين الاعتبار، فإن ساءت الأحوال فعليه التخفيف عنهم بما

يصلح معه أمرهم، وفي هذا الصدد يقول: «... فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم...»(81).

نلاحظ من خلال هذا العهد، أن الإمام ربط صلاح الأرض بصلاح الدولة نفسها، إذ إن الاهتمام بعمارة الأرض وصيانتها مما قد يلحق بها من أضرار طبيعية وعدل العامل واستعماله الرأفة في استحصال الخراج يؤدي إلى إشاعة الثقة والمحبة وروح التعاون بين عامة الناس وولاة أمرهم، ويؤدي إلى صلاح المجتمع ككل.

يتبين بوضوح حرص الإمام (عليه السلام) على جباية الخراج والاهتمام بذلك، کونه (عليه السلام) إمام هذه الأمة والإمام مسؤول عن رعيته. كما أن الرفق مع الرعية من الإيمان، دلًّ على ذلك حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الله يحب الرفق ويعين عليه» (82)، وما روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) إنه قال: «إن لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق» (83).

ص: 378

الخاتمة

توصل البحث في نهايته إلى النتائج الآتية:

1. يعد مالك بن الحارث الأشتر من الشخصيات المهمة التي نالت ثقة الإمام علي (عليه السلام) وکان على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقها على طول تاريخه الحافل في الإسلام عموماً ومع أمير المؤمنين خاصة.

2. يعد عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الحارث من أهم العهود والوثائق التي رسمت خارطة طريق متكاملة لعملية تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ورسم سياسة الدولة تجاه رعيتها، فهو بحث يعد دستوراً شاملاً ومتكاملاً يؤسس لعدالة اجتماعية قلّ نظيرها لو طبقت بشكلها الصحيح، وتضمن حقوق الناس والدولة بالكامل.

3. شدد أمير المؤمنين - من خلال العهد - على ضرورة أن يكون اختيار المسؤولين في إدارة الدولة مؤسس وفق النظام الإسلامي الذي يضمن أن يكون هذا الاختيار من باب (الرجل المناسب في المكان المناسب).

4. إن الأسس التي رسمها الإمام علي (عليه السلام) لاختيار المسؤول نابعة من شريعة سمحاء يؤدي السير وفقها إلى ضمان إشاعة العدالة الاجتماعية بين عموم طبقات المجتمع، من خلال وجود حاكم عادل يطبق ذلك النظام وفقاً للشريعة ومقتضياتها.

5. إن العهد يؤسس لإدارة ناجحة على كل المقاييس والسبل، ولعل تطبيقها يحتاج بداية إلى أن يكون رأس الإدارة من عوامل نجاحها، وهذا يعني إن الاختيار الأمثل يجب أن يبدأ من اختيار المسؤول عن الإدارة، لأنه سيكون الأداة المنفذة للمسؤولية. فقد ضم العهد بين طياته أسس الإدارة الناجحة.

6. شدد أمير المؤمنين على وجوب أن يتحلى المسؤول بصفات عدة لعل أبرز تلك

الصفات: التحلي بالأمانة والنزاهة، والابتعاد عن مجالسة المنافقين وعديمي الضمير، والاكثار من مجالسة العلماء لأنهم الأنفع والأقدر على تقديم النصح والإرشاد حين يطلب المسؤول استشارتهم.

ص: 379

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

المصادر

- ابن الأثير، علي بن عبد الواحد الشيباني (ت 630 ه)،

1. الكامل في التاريخ، دار صادر، دار بيروت، (بیروت 1966).

2. اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر، (بیروت د.ت).

- أبن الأثير، ضياء الدين، (ت 637 ه)

3. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: د. احمد الحوفي، دار الرفاعي، ط 1، (الرياض 1982).

- أحمد بن حنبل، أبو عبدالله احمد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه)،

4. المسند، دار صادر، (بیروت د.ت).

- الآمدي، ابو عبد الله محمد بن عمران (ت 384 ه)

5. 12 - المؤتلف والمختلف، تحقیق: محمد بن محمد الشنوفي، مكتبة القدس (القاهرة 1935 م).

- الأندلسي، أبن سعيد علي بن موسي (ت 685 ه)

6. المغرب في حلى المغرب، تحقیق: زكي محمد حسن وآخرون، مطبعة فؤاد الأول (د.م، 1953 م)

- البخاري، محمد بن إسماعيل الجعفي (ت 256 ه)،

7. التاريخ الكبير، المكتبة الإسلامية - ديار بكر، (تركيا د.ت).

8. صحيح البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (بیروت 1981).

- البرقي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي (ت 274 ه)،

9. المحاسن، تصحیح وتعليق: جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، (طهران

1370 ه).

- البكري، أبو عبيد بن عبد العزيز الاويني (ت 487 ه)

ص: 380

10. سمط الألي في شرح امالي القالي، تحقيق: عبد العزيز الميمني، ط 1 (الهند، د، ت)

- البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه)،

11. انساب الأشراف تحقیق وتعليق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، (بیروت 1974 ه).

- ابن تغري بردي، جمال الدين يوسف الأتابكي (ت 874 ه)،

12. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، (مصر د.ت).

- أبو تمام، حبیب بن اوس الطائي (ت 231 ه)

13. ديوان الحماسة، شرح العلامة التبريزي، دار القلم، (بیروت د.ت).

- الثقفي، إبراهيم بن محمد (ت 283 ه)،

14. الغارات، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي، مطابع بهمن، د.ت.

- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه)

15. البيان والتبيين، تح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، ط 5 (القاهرة 1985).

- ابن حبان، محمد بن حبان بن احمد البستي (ت 354)،

16. الثقات، مجلس دائرة المعارف العثمانية بحیدر آباد الدكن، ط 1 (الهند 1973).

17. الصحيح، تحقیق: شعيب الأرنؤوط، ط 2، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1993).

- ابن حجر العسقلاني، احمد بن علي (ت 852 ه)،

18. الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، ط 1، دار الكتب العلمية، (بيروت 1415 ه).

19. تهذيب التهذيب، ط 1، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (بیروت 1984)

- ابن أبي الحديد، أبو حامد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)،

20. شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، دار إحياء الكتب العربية، 1959

- أبن حزم، أبو محمد علي بن احمد بن سعيد الأندلسي (ت 456 ه - 1063 م)

ص: 381

21. جمهرة انساب العرب، تحقق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف ط 3، (مصر، 1971)

- الحموي، یاقوت بن عبدالله (ت 626 ه)،

22. معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، (بیروت 1979).

- ابن خلکان، احمد بن محمد بن أبي بكر (ت 681 ه)،

23. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقیق: إحسان عباس، دار الثقافة، (بیروت

د.ت). خليفة بن خیاط، أبو عمرو خليفة العصفري (ت 240 ه)،

26. الطبقات، تحقيق: الدكتور سهیل زکار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (بیروت 1993).

- الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام (ت 255 ه)،

25. السنن، مطبعة الاعتدال، (دمشق 1349 ه).

- أبو داود، سلیمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 ه)،

26. السنن، تحقیق: سعيد محمد اللحام، ط 2، دار الفكر للطباعة، بیروت 1990.

- الذهبي، شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان (ت 748 ه)،

27. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والإعلام، تحقیق: عمر عبد السلام تدمري، ط 1، دار الكتاب العربی، (بیروت 1987).

28. دول الإسلام، ط 2 (بيروت، 1985).

29. العبر في خبر من غبر، تحقيق: صلاح الدين المنجد، ط 2، مطبعة حكومة الكويت،

(الكويت 1984).

- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع (ت 230 ه)،

30. الطبقات الکبری، دار صادر، (بيروت .د.ت).

- السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 ه)،

31. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، (بیروت د.ت).

ص: 382

- السمعاني، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور (ت 562 ه)،

32. الأنساب، تقديم وتعليق: عبد الله عمر البارودي، ط 1، دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع، (بيروت 1988).

- الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه)،

33. تاريخ الرسل والملوك، تحقيق ومراجعة: نخبة من العلماء، ط 4، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، (بيروت 1983).

- العجلي، احمد بن عبد الله بن صالح أبي الحسن (ت 261 ه)

34. تاريخ الثقات، تحقيق: د. عبد المعطي القلعجي، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1(لبنان 1984).

- أبن العماد، شهاب الدين أبي الفلاح عبد الحي بن احمد محمد (ت 1089 ه)

35. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: عبد القادر الارناؤوط بيروت، ط 1، (لبنان

1986).

- القالي، ابو علي اسماعيل بن القاسم (ت 356 ه)

36. الامالي، (د،م)، (د،ت)

- أبن قايماز، ابو عبد الله محمد بن احمد (ت 748 ه)

37. المشتبه في الرجال اسمائهم وانسابهم، تحقيق: محمد علي البجاوي، دار احياء الكتب العربية، ط 1 (بيروت، 1962)

- ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774 ه)،

83. البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، ط 1، دار إحياء التراث العربي، (بيروت 1988).

- أبن الكلبي، هشام بن محمد بن السائب (ت 204 ه)

39. نسب معد واليمن الكبير، تحقيق: د. ناجي حسن، مكتبة النهضة العربية، ط 1 (بيروت 1988).

- الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه)،

ص: 383

40. فروع الكافي، تحقيق: محمد جواد الفقيه ويوسف البقاعي، ط 3، دار الأضواء، (بیروت 1992).

- ابن ماجه، محمد بن یزید (ت 275 ه)،

41. السنن، تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط 2، دار الفكر للطباعة، (بیروت د.ت).

- المازندراني، مولي محمد صالح (ت 1081 ه)،

42. شرح أصول الكافي، ضبط وتصحيح: السيد علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي

للطباعة والنشر والتوزيع، (بيروت 2000).

- الماوردي، علي بن محمد البصري (ت 450 ه)،

43. الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق: احمد عبد السلام، ط 2، دار الكتب العلمية، (بیروت 2006).

- المرزباني، ابو عبد الله محمد بن عمران (384 ه)

44. معجم الشعراء، تحقیق: محمد بن محمد الشنوفي، مكتبة القدس (القاهرة 1935)

- المزي، جمال الدین یوسف (ت 742 ه)،

45. تهذيب الكمال، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، ط 4، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1985).

- المسعودي، علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه)،

46. مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: مصطفى السيد، المكتبة التوفيقية، (القاهرة د.ت).

- مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 ه)،

47. الصحيح، دار الفكر، (بیروت د.ت).

- ابن منظور، أبو الفضل بن مکرم (ت711 ه)،

84. لسان العرب، نشر أدب الحوزة، (قم 1405 ه).

- نصر بن مزاحم، المنقري (ت 212 ه)،

94. وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط 2، المؤسسة العربية الحديثة للطبع

ص: 384

النويري، شهاب الدین احمد بن عبد الوهاب (ت 733 ه)

50. نهاية الإرب في فنون الأدب، المؤسسة المصرية العامة ط 2 (القاهرة د، ت) والنشر والتوزيع، (القاهرة 1382 ه).

- الواقدي، محمد بن عمر (ت 207 ه)،

51. فتوح الشام، دار الجيل، (بیروت 1995).

- ياقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله یاقوت بن عبد الله (ت 626 ه)

52. معجم البلدان، منشورات مكتبة الاسدي (طهران 1965) - اليعقوبي، احمد بن اسحق بن جعفر (ت 292 ه)،

53. تاریخ، دار صادر، (بیروت د.ت).

المراجع

- آل یاسین، محمد حسن

54. مالك بن الحارث الاشتر، ط 1، (بیروت 2000 م)

- الأمين، محسن العاملي (ت 1371 ه)،

55. أعيان الشيعة، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف، (بیروت 1986).

- التستري، محمد تقي،

56. قاموس الرجال، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، (قم 1419 ه).

- الزركلي، خير الدين

57. الاعلام ، ط 3، (د. م 1969)

- صفوت، أحمد زکی

58. جمهرة خطب العرب (د، م)، (د، ت)

- قلعجي، محمد رواس،

59. معجم لغة الفقهاء، دار النفائس للطباعة والنشر، (بیروت 1988).

ص: 385

الهوامش

1. ينظر: ابن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، ج 1 / ص 291؛ ابن سعد، الطبقات الكبری، ج 6 / ص 213؛ ابن خیاط، الطبقات، ص 148؛ البلاذري، انساب الأشراف، ج 5 / ص30؛ ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص 415؛ السمعاني، الأنساب، ج 5 / ص 476؛ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج 2 / ص 121.

2. ابن الكلبي، نسب معد واليمن الكبير، ج 1 / ص 292؛ ابن حزم، جمهرة انساب العرب، ص 415؛ ابن قايماز، المشتبه في الرجال، ج 1 / ص 27.

3. المرزباني، معجم الشعراء، ص 262 - 263؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 7 / ص 15؛ ابن حجر، الإصابة، ص 3 / ص 482. والشتر: هو انقلاب جفن العين من أعلى وأسفل وتشنجه، وقيل هو أن ينشق الجفن حتى ينفصل وقيل هو قطع الجفن الأسفل والأصل انقلابه الى الأسفل. ينظر ابن منظور، لسان العرب، ص 60 - 61.

4. المنقري، وقعة صفين، ج 6 / ص 451.

5. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2 / ص 78؛ البكري، سمط اللالي، ج 1 / ص 277؛ ابن

حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج 10 / ص 10.

6. ابن حجر، الإصابة، ج 3 / ص 482.

7. الواقدي، فتوح الشام، ج 1 / ص 62.

8. ابن الأثير، اللباب، ج 3 / ص 304؛ الأندلسي، المغرب في حلى المغرب، القسم الخاص بمصر، ج 1 / ص 68.

9. العجلي، تاريخ الثقات، ص 417؛ ابن حبان، الثقات، ج 5 / ص 389؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 7 / ص 15؛ ابن الأثير، الكامل، ج 3 / ص 178؛ ابن حجر، تهذيب

ص: 386

التهذیب، ج 10 / ص 10.

10. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، ج 4 / ص 119؛ صفوت، جمهرة رسائل العرب،

ج 1 /ص 547.

11. البيان والتبيين، ج 3 / ص 257.

12. الواقدي، فتوح الشام، ص 233.

13. اللباب في تهذيب الأنساب، ج 3 / ص 304.

14. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3 / ص 417.

15. ابن خلکان، وفیات الأعيان، ج 7 / ص 195؛ الأندلسي، المغرب في حلى المغرب، ج 1 / ص 68.

16. الذهبي، دول الإسلام، ص 24.

17. نهاية الإرب، ص 194.

18. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 1 / ص 105.

19. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، ج 3 / ص 416.

20. الذهبي، العبر، ج 1 / ص 45؛ اعيان الشيعة، ج 9 / ص 38؛ الزركلي، الأعلام، ج 6 / ص 131؛ آل یاسین، مالك بن الحارث، ص 12.

21. أبو تمام، ديوان الحماسة، ج 1 / ص 39 - 40؛ أبو علي القالي، المالي، ج 1 / ص 85؛ الآمدي، المؤتلف والمختلف، ص 28؛ المرزباني، معجم الشعراء، ص 362؛ ابن الأثير، المثل السائر، ج 2 / ص 232؛ البكري، سمط اللالي ج 1 / ص 277.

22. الثقفي، الغارات، ج 2 / ص 526.

23. ابن الأثير، الکامل، ج 3 / ص 177؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 1 / ص 103.

24. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 169؛ المسعودی، مروج الذهب، ج 2 / ص 420.

25. الثقفي، الغارات، ج 2 / ص 526؛ ابن الأثير، الکامل، ج 3 / ص 177؛ ابن تغري

بردي، النجوم الزاهرة، ج 1 / ص 103.

ص: 387

26. ابن کثیر، البداية والنهاية، ج 7 / ص 324.

27. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 170.

28. القلزم: وهي مدينة مبنية على البحر ليس بها زرع ولا شجر ولا ماء، وتعتد على

الآبار في استخراج الماء، وتقع بين الحجاز ومصر بالقرب من مدينة السويس. یاقوت

الحموی، معجم البلدان، ج 7 / ص 645.

29. اليعقوبي، تاریخ، ج 2 / ص 170؛ الطبري، تاریخ، ج 4 / ص 585؛ المسعودي، مروج

الذهب، ج 2 / ص 420؛ الذهبي، العبر، ج 1 / ص 45؛ ابن حجر، الاصابة، ج 3 / ص 482؛ السيوطي، حسن المحاضرة، ج 1 / ص 583؛ ابن العماد، شذرات الذهب،

ج 1 / ص 218.

30. الطبقات الکبری، ج 6 / ص 213؛ مروج الذهب، ج 2 / ص 420.

31. الثقفي، الغارات، ج 2 / ص 257؛ ابن الأثير، الکامل، ج 3 / ص 178؛ ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 6 / ص 76.

32. البخاري، التاريخ الكبير، ج 7 / ص 188؛ البلاذري، انساب الأشراف، ج 5 / ص 110؛ المسعودی، مروج الذهب، ج 2 / ص 421.

33. الثقفي، الغارات، ج 1 / ص 264؛ التستري، قاموس الرجال، ج 8 ص 645 - 647.

34. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3 / ص 416.

35. ينظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 4.

36. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 194؛ الطبري، تاریخ، ج 3 / ص 127؛ ابن أبي الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 16 / ص 156.

37. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 48.

38. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 51.

39. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 47.

40. المصدر نفسه، ج 17 / ص 96.

ص: 388

41. سورة النساء: اية 148.

42. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 36.

43. المصدر نفسه، ج 1 / ص 97.

44. المصدر نفسه، ج 17 / ص 42.

45. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 42.

46. المصدر نفسه، ج 17 / ص 44.

47. المصدر نفسه، ج 17 / ص 36.

48. سورة النساء: آية 37.

49. البخاري، صحيح البخاري، ج 3 / ص 209.

50. المحك: اللجاج. ابن منظور، لسان العرب، ج 10 / ص 486.

51. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 58 - 59.

52. المصدر نفسه، ج 17 / ص 59.

53. المصدر نفسه والصفحة.

54. المصدر نفسه، ج 17 / ص 49.

55. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 76.

56. المصدر نفسه، ج 17 / ص 75 - 76.

57. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 69.

58. أحمد بن حنبل، المسند، ج 4 / ص 361؛ الدارمي، السنن، ج 1 / ص 130؛ ابن ماجة، السنن، ج 1 / ص 74.

59. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 47.

60. المصدر نفسه، ج 17 / ص 46.

61. سورة البقرة: اية 264.

62. البخاري، الصحيح، ج 1 / ص 215؛ مسلم، الصحيح، ج 6 / ص 8؛ أبو داود، السنن،

ص: 389

ج 2 / ص 13.

63. ابن حبان، صحيح ابن حبان، ج 1 / ص 345.

64. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 113.

65. البخاري، صحيح البخاري، ج 1 / ص 21.

66. المصدر نفسه، ج 3 / ص 163.

67. سورة الصف: اية 3.

68. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 113.

69. سورة البقرة: اية 84.

70. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، ج 17 / ص 110- 111.

71. الوكز: وكزه أي دفعه وضربه. الجوهري، الصحاح، ج 3 / ص 901. وقيل: هو الضرب بجمع الكف مع الدفع. قلعجي، معجم لغة الفقهاء، ص 509.

72. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 111.

73. سورة البقرة: اية 178.

74. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 113.

75. المصدر نفسه، ج 17 / ص 113.

76. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 113.

77. المصدر نفسه، ج 17 / ص 114.

78. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17 / ص 90 -91.

79. المصدر نفسه، ج 17 / ص 91.

80. المصدر نفسه، ج 17 /ص 70.

81. المصدر نفسه، ج 17 / ص 71.

82. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 361؛ الكليني، الكافي، ج 2 / ص 120.

83. الكليني، الكافي، ج 2 / ص 118؛ المازندراني، شرح اصول الكافي، ج 8 / ص 347.

ص: 390

فقه الدولة في العهد العلوي لمالك الأشتر دراسة معاصرة للبنى التحتية للدولة المدنية

اشارة

الدكتور حميد جاسم الغرابي

ص: 391

ص: 392

لقد اثبتت التجارب أن الدول القائمة على المؤسسات والأنشطة المدنية هي القادرة على تقديم افضل الخدمات لشعوبها وهي التي تكون عامرة ومستمرة يسودها الأمن والسلام والعدل والمساواة لأنها تقوم على أسس صحيحة غايتها وهدفها المواطن.

لذا دعا الإسلام الى بناء الدولة المدنية القائمة على المواطنة وتجد مصاديق ذلك في قيام دولة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) ففي المشهور قوله (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)(1)وفي دولة الإمام علي (عليه السلام)، الحادثة المعروفة أنه (عليه السلام) مر بشیخ مکفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟ فقيل له: يا أمير المؤمنين انه نصراني. فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!!. انفقوا عليه من بيت المال(2). وقد تجد ذلك واضحا في عهد الامام علي الى مالك الأشتر حين ولاه مصر. فعند تأمل هذا العهد المبارك الذي بعض بنوده عدت وثيقة رسمية من وثائق الامم المتحدة يتبين لنا أنه منظومة حقوقية متكاملة في ادارة الدولة ومؤسساتها. يمكن تصنيف عهد الامام علي (عليه السلام) على قسمين:

القسم الأول: المحاور العامة

القسم الثاني: المفاهيم الخاصة

فما يتعلق بالمحاور العامة فقد انتظم العهد في محاور عدة من شأنها بیان الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الحاكم وحكومته. ومن جملة تلك المحاور التي تضمنها العهد المبارك

ص: 393


1- مسند أحمد 5: 411. البحار 22: 348، ح 64
2- الوسائل ج 11، ص 49، الحدیث 19997

المبحث الأول: بیان مفاهيم البحث

اولاً: الفقه لغة واصطلاحاً

الفقه کا قد تتوافق على ذلك جميع المصادر لغويا: بأنه العلم بالشئ والفهم له. فقد ذكر الجوهري في الصحاح: الفقه: الفهم. قال أعرابي لعیسی ابن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل، بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه. وافقهتك الشي(1). وجاء في القاموس المحيط: الفقه (بالكسر): العلم بالشي والفهم له والفطنة، غلب على علم الدين لشرفه(2). وفي لسان العرب: الفقه: العلم بالشئ والفهم له، والفقه الفطنة(3). وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى في كتابه الكريم (قالوا یا شعیب ما نفقه كثيرا مما تقول)(4)(أي لا نعلم ولا نفهم حقيقة كثير مما تقول(5). يقول ابن القيم: والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، هذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم. ويقول الآمدي: الفهم عبارة عن جودة الذهن، من جهة تهيؤه لاقتناص كل مايرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف به عالما، کالعامي الفطن(6).

ص: 394


1- الصحاح - فقه 6: 2243
2- القاموس المحيط 4: 289
3- لسان العرب 13: 522
4- هود 11: 91
5- تفسير الطبري 12: 64
6- الأحكام في أصول الأحكام 1: 7

وأما اصطلاحا فإن كلمة الفقه في أول الأمر كانت تطليق على معارف الشريعة، حيث فسر بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "(1). وبهذا المعنى فسر قوله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(2). وكذلك قوله صلى الله عليه وآله: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "(3). إلا أن التمايز التدريجي للمعارف الدينية المختلفة، وتبلور الشكل المستقل لهذا العلم، واستقلاله بقواعد وأحكام حيث انحصر بحدود الأحكام الشرعية الخاصة بأفعال المكلفين أدى إلى خروج الفقه اصطلاحا عن حدود المعنى السابق ليدخل مرحلة أخرى من مراحل تطوره، وليصبح له مدلوله المقتصر على الأحكام العملية، أي ما يسمى بالعبادات والمعاملات، وحيث يستمر في التطور والترقي عندما يتوسع الفقهاء في مدلول كلمة الفقه هذه، وذلك الاجتهاد المختص، فأصبحت هذه الكلمة تطلق على العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية بطرقها المختلفة، أو المستمدة من الأدلة التفصيلية(4).

ص: 395


1- وسایل الشیعه، ج 18، باب 8 از ابواب صفات قاضی، حدیث 43
2- التوبة 9: 122
3- روى البخاري (1 / 164) ومسلم (2 / 718)، ورواه أحمد (1 / 306) وغيره بسند صحيح من حديث سیدنا ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أحمد (2 / 34) وابن ماجة (1 / 80) وغيرهما بسند صحيح عن أبي هريرة. وعند الطحاوي في «مشکل الآثار» (2 / 281) من حديث ابن عمر وهو حسن
4- في كتاب معالم الأصول ( ص 66): والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية
ثانياً: الدولة المدنية

الدولة: لغة واصطلاحا(1):

بفتح الدال وضمها يقال: الدَولة والدُولة هي بمعنى واحد يراد بها مادار وانقلب من حال الى حال. يقال: دالت له الدولة أي صارت اليه ومداولة الله الايام بين الناس بمعنی صرّفها بينهم، فصيّرها لهؤلاء تارة ولهؤلاء اخرى وتداولت الايدي أي تعاقبته، بمعنى أخذته هذه مرة وهذه مرة اخرى ومنه قولهم: تداولوا الشیيء بينهم أي تناقلوه وقلّبوه بين أيديهم وتناوبوه، والدولة هنا مصدر وجمعها دِول بكسر الدال وضمها، ويراد ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك، وعلى هذا المعنى تطلق على المال والغلبة کما تطلق على البلاد، فيقال: الدول الاسلامية أو الدول العربية والأوربية كما تطلق على الهيئة الحاكمة، يقال: لكل زمان دولة ورجال بلحاظ إن الجميع مما يتداول بينه لكونه بحاجة الى تدبير ونقل وانتقال أو بلحاظ التقلّب والتصرّف من جماعة الى اخرى، اذ لااستقرار للسلطة ولاثبات لجهة النقص والحيف والظلم کما في الدول المستبدة او الشوروية القاصرة، او لجهة الاختبار والامتحان الالهي للبشر في تقلب القدرة ومنه اشتهر: (الدهر دول) كناية عن الانتقال، ومن ذلك يظهر انها ليست حقيقة شرعية ولا متشرعية وانما هي مصداق من مصاديق المعنى اللغوي وعليه فهي عرفية خاصة او عامة وقد أمضاها الشارع بحسب ما تعارف عليه عند العقلاء نعم ورد استعمال الدولة في القرآن الكريم بالمعنى اللغوي وكذا في كلمات امير المؤمنين (عليه السلام)، اذ ورد في بعض ما ظاهره المعنى اللغوي وفي آخر ماظاهره الحكم

ص: 396


1- الراغب: المفردات، ص 322 (دول)، ابن منظور: لسان العرب، 11 / 252 (دول) الطريحي: مجمع البحرین، 5 / 373 - 377 (دول)

والسلطة، وهو لا يثبت حقيقة شرعية بناءً على عدم كون الإمام (عليه السلام) شارعا؛ لانحصار المشرع بالخالق تبارك وتعالى، او لشموله للرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) فقط دون شموله للامام (عليه السلام) على الخلاف بين الاصوليين في تحديد

الشارع.

وعليه فإن ما ورد من استعمالات في الكتاب والسنة ليس تأسياً جديداً حتى يحمل على الحقيقة الشرعية، وانما يحمل على المعنى اللغوي، وبحسب ما تعارف عليه عند العقلاء من الحقيقة العرفية الخاصة أو العرفية العامة.

ومما ورد بلفظ الدولة في القرآن الكريم قوله عز وجل: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(1)، فمفهوم الدولة هنا ورد بالمعنى اللغوي أي التقلّب من حال الى آخر وورد في الاحاديث الشريفة ما يحتمل الأثنين وبعظها ظاهر في المعنى اللغوي والآخر في المعنى الاصطلاحي فعن الامام الصادق (عليه السلام): (إن للحق دولة وللباطل دولة )(2)فالدولة هنا تحتمل الاثنين الا انها ظاهرة في المعنى اللغوي، وكذلك في قول الامام علي (عليه السلام): (الدولة كما تقبل تدبر)(3)، وفي قوله (عليه السلام): (دولة الاكابر من افضل المغانم)(4)، و(دولة اللئام مذلة الكرام)(5)، وهنا ظاهر في المعنى اللغوي بقرينة مابعده وهو قوله (عليه السلام):

ص: 397


1- آل عمران: 140
2- الكليني: الكافي 2 / 447 ح 12
3- الامدي: غرر الحكم 33، رقم 802
4- م.ن 205، رقم 51
5- م.ن 205، رقم 59

(دولة الكريم تظهر مناقبه)(1)، الا يقال بأن المتبادر من الدولة في مثل هذه الاحاديث هو الحكومة، فحينئذ تحمل على الحقيقة العرفية الخاصة.

ومما ورد ما ظاهره الحكومة حديثا الغرر عن امير المؤمنين (عليه السلام): (زوال الدول باصطناع السفل)(2)، و: (يستدل على أدبار الدول بأربع: تضييع الأصول، والتمسك بالفروع، وتقديم الاراذل، وتاخير الافاضل)(3)أي الحكومات، وفي نهج البلاغة عنه (عليه السلام): (واعظم ما افترض اللهَّ سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرّعيّة، وحقّ الرّعيّة على الوالي، فريضة فرضها اللهَّ سبحانه لكلّ على كلّ، فجعلها نظاما لألفتهم، وعزّا لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلَّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة، إلَّا باستقامة الرّعيّة؛ فإذا ادّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة، ويئست مطامع الاعداء)(4)، وهو ظاهر بل صريح في الحكومة بقرينة خارجية هي حديثه (عليه السلام) عن الولاة وحقوقهم وداخلية هي السياق، وقال (عليه السلام): (ماحصّن الدول مثل العدل)(5)، ويتبين أن للدولة معاني عدة منها:

الأول: الحكومة.

ص: 398


1- م.ن 205، رقم 58
2- م.ن 222، رقم 40
3- م.ن 441، رقم 2
4- نهج البلاغة: ص 333، خ 216
5- الامدي: غرر الحکم، 382، رقم 153. وللمزيد: (ظ): ص 183، رقم 6، وص 353، رقم 1062، وص 241، رقم 82، وص 372، رقم 59

الثاني: السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

الثالث: مايشمل الأمة ايضا(1). والمراد من الدولة في مفهوم البحث هو المعنى

الثاني.

رابعاً: العهد العلوي

يقول محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة: (ومن عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن)(2).

ثالثاً: المدنية

مدنية من الفعل مدن وفي لسان العرب مدن بالمكان يعني اقام به ومنه المدينة علي وزن فعيلة(3)، المدينة ايضا تعني الحصن. ومن الفعل مدن اشتقت مدينة، مدني، مدنية، تمدن ومتمدن.. المدينة هي مكان الاستقرار والعمران. والمدنية في اللغة اما اسم معرف مثل قول المدنية بمعني الحياة الحديثة أو الحضارة، أو صفة لوصف حياة المدينة في طورها المتقدم في شتي مجالات الحياة من العلوم والمعارف والاداب والثقافة والصنائع والحرف والخدمات والتجارة والمباني والملابس والاكل والشراب والترف والرفاهية. والمدنية لغة تعني ضد البداوة. وفي السياسة يستخدم مصطلح الدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية التي مازال البعض يدعو لها.. والدولة المدنية ليست ضد الدين انما هي ضد المشروع السياسي الذي يدعي اصحابه انه يحكم باسم الدين، وقد شهد القاصي والداني بأنه مشروعا عاريا تماما من مقاصد الدين واخلاق الدين.. وكذلك الدولة المدنية ضد اي مشروع سياسي يسعي اصحابه أو يظنوا انهم يمكنهم ان يقيموا مرة اخري سلطة بأسم الدين. مدني، متمدن ومدنية يقابلها في القاموس الانجليزي كلمة Civil، ومديني يقابلها Civic. اما كلمة Civics فهي تعني علم التربية المدنية وعلم

ص: 399


1- فاضل الصفار: فقه الدولة 1 / 16 - 20
2- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 571
3- ابن منظور، لسان العرب 13 / 402

حقوق المواطنين وواجباتهم.. Civilization تعني مدنية وحضارة.. Civil service تعني

خدمة مدنية.. Civil society تعنی مجتمع مدني.. Civil Demogratic State تعني دولة مدنية ديمقراطية. مما سبق ذكره من كلمة مدني ومدنية لا تشير الي العلمانية او اللادينية. والكلمة الانجليزية التي تعني العلمانية او اللادينية هي كلمة سیکیولار Secular. وفي القاموس الانجليزي تعني هذه الكلمة وصف شيئ ليس له علاقة بالدين. وسیکیولاریزم Secularism في القاموس تعني النظام الذي لا يلعب الدين فيه اي دور في التعليم أو تنظيم المجتمع.. بمعني فصل الدين عن الدولة، وهي العلمانية كما في اوروبا.. ومعظم الكلمات الانجليزبة التي تبدأ بالمقطع sec يفيد معناها الفصل، القطع، الحجز، الحماية(1).

خامساً: البنى التحتية

البني في اللغة: تعني هيئة البناء.

وفي الاصطلاح: هي الانشطة ذات السمة الاقتصادية والتي لها علاقة ببناء الدولة

ص: 400


1- net.alrakoba.www//:http / جمال ادريس الكنين: الدولة المدنية معناها ومغزاها

على كافة المستويات التعليمي والاداري والزراعي والصناعي والتنمية البشرية على وفق النظام المؤسساتي اللامركزي.

وفي الموسوعة الحرة (ويكبيديا):

البنية التحتية عبارة عن الهياكل المنظمية اللازمة لتشغيل المجتمع أو المشروع(1)أو الخدمات والمرافق اللازمة لكي يعمل الاقتصاد(2)ويمكن تعريفها بصفة عامة على أنها مجموعة من العناصر الهيكلية المترابطة التي توفر إطار عمل يدعم الهيكل الكلي للتطوير. وهي تمثل مصطلحًا هامًا للحكم على تنمية الدولة أو المنطقة.

وهذا المصطلح يشير في الغالب إلى الهياكل الفنية التي تدعم المجتمع، مثل الطرق والجسور وموارد المياه والصرف الصحي والشبكات الكهربائية والاتصالات عن بعد وما إلى ذلك، ويمكن أن يتم تعريفه على أنه «المكونات المادية للأنظمة المترابطة التي توفر السلع والخدمات الضرورية اللازمة لتمكين أو استدامة أو تحسين ظروف الحياة المجتمعية(3)وعند النظر إليها من الناحية الوظيفية، فإن البنية التحتية تسهل إنتاج البضائع والخدمات، بالإضافة إلى توزيع المنتجات المنتهية في الأسواق، بالإضافة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل المدارس والمستشفيات،

ص: 401


1- Infrastructure //:http , Dictionary English Oxford Compact Online infrastructure (accessed January/oed concise/com.askoxford.ww w 17,2009)
2- Steven M. Sheffrin (2003) Economics: Principles in action. Sullivan Arthur صفحة 474. ISBN 13
3- ^ Fulmer Jeffrey" (2009) What in the world is infrastructure."?PEI Infrastructure Investor (July/August): 32-300

فعلى سبيل المثال، تتيح الطرق القدرة على نقل المواد الخام إلى المصانع(1)وفي اللغة العسكرية، فإن هذا المصطلح يشير إلى المباني والمنشآت الدائمة اللازمة لدعم القوات العسكرية وإعادة انتشارها وتشغيلها(2). ولتبسيط الأمر، فإن البنية التحتية هي أي شيء يلزم للحياة اليومية، أي كل شيء يستخدم بشكل يومي.

المبحث الثاني: البنى التحتية للدولة المدنية

بعد بيان معنى البنى التحتية فإن المراد بها في البحث يقترب نوعا ما عن المعنى الحقيقي فالامام عليه السلام في عهده المبارك قد أستعرض مجموعة من القواعد والتعاليم التي بمجموعها تشكل قاعدة رصينة وبنى تحتية للدولة المدنية العادلة وتارة تكون هذه البني مبادىء معنوية وتارة تكون مؤسسات مجتمعية وتكنوقراط فمنها:

1 - البناء الديني (العبادي)

لقد تضمن عهد الامام علي (عليه السلام) نصوصا كثيرة تدعو الى بناء شخصية الحاكم الايمانية والالتزام بشرع الله والعمل بكتاب الله وسنة رسوله وطاعة الله وطاعة من أمر الله بطاعته وكذلك التقوى والورع ولزوم الحق واقامة الفرائض واتباع السنن

ص: 402


1- Infrastructure, American Heritage Dictionary of the English Language, http://education.yahoo.com/reference/dictionary/entry/ infrastructure (accessed January 2009 ,17)
2- Infrastructure, JP1-02, Department of Defense Dictionary of Mili- 32 tary and Associated Terms, p. 260, 12 April 2001 (rev. 31 August 2005) http://www.dtic.mil/cgi-bin/GetTRDoc?AD=ADA439918Loca (tion=U2doc=GetTRDoc.pdf(accessed January 17,

واجتناب المعاصي والبدع وهو بذلك يؤسس لمرجعية الكتاب والعترة في بناء الدولة المدنية ومن تلك النصوص

قوله (عليه السلام): (أَمَرَه بِتَقْوَى اللهَّ وإِيْثَارِ طَاعَتِه - واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِه فِي كِتَابِه مِنْ فَرَائِضِه وسُنَنِه....)(1).

(ولَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِه الأُمَّةِ - واجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ - ولَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ - فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا - والْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا)(2).

(وارْدُدْ إِلَى اللهَّ ورَسُولِه مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ - ويَشْتَبِه عَلَيْكَ مِنَ الأُمُورِ - فَقَدْ قَالَ اللهَّ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ - «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ - وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ - فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ٭ - فَالرَّدُّ إِلَى اللهَّ الأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِه - والرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الأَخْذُ بِسُنَّتِه الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ)(3).

(ولْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِه للهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِه - الَّتِي هِيَ لَه خَاصَّةً - فَأَعْطِ اللهَّ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ - ووَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِه إِلَى اللهَّ - مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ ولَا مَنْقُوصٍ - بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ - وإِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ - فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً ولَا مُضَيِّعاً - فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِه الْعِلَّةُ ولَه الْحَاجَةُ - وقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ - كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ - فَقَالَ صَلِّ

ص: 403


1- محمد عبده: نهج البلاغة، رقم 291 / 571
2- م.ن ص 577
3- م.ن، ص 581

بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ - وكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(1).

2 - البناء الأخلاقي (التربوي)

في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر منظومة اخلاقية متكاملة على الحاكم أن يتحلى بها وينهجها في سبيل الوصول الى المعنى القرآني والنبوي في مفهوم الحكم والقيادة فلم تغب الاخلاق عن ذهنية الامام (عليه السلام) وهو يوجه ولاته ومنهم الأشتر وكيفية التعامل مع النفس أولا والرعية، فهناك نصوص كثيرة تدعو الى محاسن الأخلاق وترك مساوئها وخصوصية الحاكم في التمسك بها من أولويات العمل القيادي وبناء حكومة مدنية قائمة على قيم خلقية نابعة من القرآن والسنة، ومن تلك النصوص:

كقوله (عليه السلام): (وأَمَرَه أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ - ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ - فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللهَّ)(2).

(فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ - فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ - فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ - والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ - ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أکْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(3)

ص: 404


1- م.ن ص 589
2- محمد عبده: نهج البلاغة، رقم 291، ص 572
3- م.ن

3 - البناء الارشادي (العظة والنصحية)

لانجاوب الصواب عندما نقول أن نصوص العهد كلها ارشادية أراد منها الأمام (عليه السلام) تنبيه عامله ونصحه وارشاده وهو مقبل على مهمة هو بأمس الحاجة الى النصح والارشاد لاسيما من قبل الامام المعصوم (عليه السلام) وهو الحاكم العادل ذو الحكمة تعلم مكارم الاخلاق من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي العهد نوعيم من الارشاد هما الترغيب والتحذير مثال الترغيب قوله (عليه السلام): (ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ - أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ - مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ - وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ - فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيه مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ - ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ - وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحينَ - بِمَا يُجْرِي اللهَّ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِه - فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ - فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ - فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ - والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ - ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(1).

ومثال التحذير قوله (عليه السلام): (إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللهَّ فِي عَظَمَتِه والتَّشَبُّه بِه فِي جَبَرُوتِه - فَإِنَّ اللهَّ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أَنْصِفِ اللهَّ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ - ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ - ومَنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ - فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ - ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهَّ كَانَ اللهَّ خَصْمَه دُونَ عِبَادِه - ومَنْ خَاصَمَه اللهَّ أَدْحَضَ حُجَّتَه)(2).

ص: 405


1- م.ن
2- () محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 573

4 - البناء السياسي

بناء سياسة الدولة من ضرورات الدولة المدنية وقد بين الامام (علیه السلام) ذلك في أكثر من عهده للاشتر النخعي وقد لخصها البحث في بيان مفاهيم العهد العامة ومن تلك السياسات مبدأ الشورى وأختيار الوزراء والولاة والعمال كما في قوله (عليه السلام): (ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الفَضْلِ - ويَعِدُكَ الْفَقْرَ - ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ - ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ - فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى - يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهَّ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً - ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً)(1)

5 - البناء العلمي (الثقافي)

فسح المجال للعلماء والمبدعين ووضع الخطط المدروسة والقائمة أسس علمية رصينة وتقريب الحكماء وذوي الخبرة من المشاركة في بناء الدولة منهج اتبعه الامام علي (عليه السلام) في حكومته لذا أراد من واليه ان يحذو حذوه في هذا المجال حتى يصل الى دولة المؤسسات والحكم المدني وقد تضمنت فقرات عديدة من العهد الى الاهتمام بالمؤسسات العلمية والعلماء والحكماء وذوي الخبرة ودورهم الفاعل في بناء الدولة المدنية فمن ذلك: قوله (عليه السلام): (وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ - فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلَادِكَ - وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ)(2).

ص: 406


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 575
2- م.ن، ص 577

6 - البناء الاجتماعي

الحفاظ على النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي بين طبقات المجتمع تعد من ضرورات الدولة المدنية فحري بالحاكم أن يكون عاملا مساعدا في ديمومة العلاقة الطيبة بين فئات الشعب ويعالج النزاعات القائمة بين العشائر والقبائل وطبقات المجتمع بالطرق الكفيلة بسيادة الأمن والأمان في الدول وأن ينتهج النهج الذي رسمه الامام علي (عليه السلام) لعامله على مصر في عهده اليه: قال الإمام (عليه لسلام): (وأَشعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعيَّةِ - والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ - ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ - يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ - ويُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَإِ - فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ - مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللهَّ مِنْ عَفْوِه وصَفْحِه - فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ ووَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ - واللهَّ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ - وقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وابْتَلَاكَ بِهِمْ)(1) (ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ - فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ

الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ - وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ)(2).

(ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ والأَحْسَابِ - وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ - ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ والسَّمَاحَةِ - فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا - ولَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِه - ولَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِه وإِنْ قَلَّ - فَإِنَّه

ص: 407


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم، 291، ص 572
2- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم، 291، ص 576

دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ - ولَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالًا عَلَى جَسِيمِهَا - فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِه - ولِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْه - ولْيَكُنْ آثَرُ رُءوُسِ جُنْدِكُ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِه - وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِه - بِمَا یَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ - حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ - فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ)(1). وتلحظ في النص توجيه من الامام (عليه السلام) الى واليه من التقرب الى ذوي الحسب والنسب وشرفاء الناس وساداتهم وهي سياسة ناجحة في كسب القبائل والعشائر وتوجيهها نحو أهداف الدولة المدنية.

(وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ - واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ - فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً - تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ)(2).

7 - البناء العسكري

حماية ثغور المسلمين وتطوير المؤسسة العسكرية والاهتمام بها واختيار ذوي الخبرة والشجاعة تعد من أهم البنى التحتية للدولة المدنية فهي التي تدفع الشر عن البلاد والعباد وهي التي تحمي الحاكم والمحكوم فكلما كانت على أهبة الاستعداد والامكانيات كانت الدولة بخير لذا ركزت بعض نصوص العهد العلوي على دور الجنود والقادة في حماية بيضة الاسلام والمسلمين ولابد من أختيار ذوي الكفاءات والخبرة في والشجاعة في هذا المجال ومن تلك النصوص، قول الامام (عليه السلام):

ص: 408


1- م.ن، ص 579
2- م.ن،ص 591

(فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهَّ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وزَيْنُ الْوُلَاةِ - وعِزُّ الدِّينِ وسُبُلُ الأَمْنِ - ولَیْسَ

تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ)(1).

(ولْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعونَتِه - وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِه - بِمَا يَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِم - حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ - فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ - وإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلَادِ وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ وإِنَّه لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ ولَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ الأُمُورِ - وقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهمْ - وتَرْكِ

اسْتِبطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ - فَافْسَحْ فِي آمَالِهمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ - وتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ - فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ - وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللهَّ)(2).

8 - البنى الاقتصادية

الاقتصاد هو شريان الحكومة ومتى ما كان الاقتصاد متينا ومنتعشا فإن جميع بني

الدولة ومؤسساتها تعيش رخاءا وقادرة على القيام بواجباتها تجاه الشعب وبعكس ذلك تكثر الازمات والاعتراضات والمظاهرات مما يؤدي الى تقويض العملية السياسية وفشلها لذا نبه الامام علي (عليه السلام) عامله مالك الاشتر الى ضرورة الاهتمام بالمصادر المالية للدولة ورعايتها وتطويرها وتحقيق العدالة في التوزيع مما يؤمن احتياجات السوق ومنع الاحتكار وتحقيق المستوى المعاشي العادل لجميع

ص: 409


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 578
2- م.ن، ص 580

افراد المجتمع وهذا لايتحقق الا بالحفاظ على ثروات الشعوب وتحقيق النظم المالية المتطورة واحترام المال العام وتطوير الخطط الاستتراجية لخدمة الشعب بجميع طبقاته وقد تنبه الامام عليه السلام الى ذلك سواء في حكومته أو في توصياته الى ولاته ومنهم الاشتر في عهده اليه اذ قال (عليه السلام): (إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللهَّ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ - الَّذِي يَقْوَوْنَ بِه عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ - ويَعْتَمِدُونَ عَلَيْه فِيمَا يُصْلِحُهُمْ - ويَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ) وقال (عليه السلام): (وتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَه - فَإِنَّ فِي صَلَاحِه وصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ - ولَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ - لأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وأَهْلهِ - ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ - أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ - لأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ - ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ - وأَهْلَكَ الْعِبَادَ ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُه إِلَّا قَلِيلًا - فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ - أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ - أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ - خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِه أَمْرُهُمْ - ولَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِه الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ - فَإِنَّه ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِه عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ - وتَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ - وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ - مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ - بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ - والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ بِهِمْ - فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأُمُورِ - مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيه عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوه -

- طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِه - فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَه - وإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا - وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ - وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وقِلَّةِ انْتِفاعِهِمْ بِالْعِبَرِ)(1)

ص: 410


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 583 - 584

9 - بناء القضاء

نزاهة القضاء واستقلاله من الأمور التي أكد عليها الامام (عليه السلام) في عهده الى الأشتر فضلا عن أختيار القضاة المهنيين المعروفين بتحقيق العدالة والنزاهة والتزام الشرع الحنيف والقضاء بقضاء الله ورسوله لا يحيد عنه ولا يجامل في الحق ولاتاخذه بالله لومة لائم ولا يخفى أهمية المؤسسة القضائية في ترسيخ الحق والعدل وحماية حقوق الرعية فلذا نبه الامام علي (عليه السلام) عامله لهذا الأمر وأن استقلال تلك

المؤسسات من أبجديات الديمقراطية والحكومة المدنية فقال (عليه السلام):

(ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ - مِنَ الْقُضَاةِ والْعُمَّالِ والْكُتَّابِ - لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ويَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ - ويُؤْتَمَنُونَ عَلَيْه مِنْ خَوَاصِّ الأُمُورِ وعَوَامِّهَا)(1).

وقال (عليه السلام): (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ - مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُه الْخُصُومُ - ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ - ولَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه - ولَا تُشْرِفُ نَفْسُه عَلَى طَمَعٍ - ولَا يَكْتَفِي بِأدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاه - وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ - وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ

الْخَصْمِ - وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ - وأَصْرَ مَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ - مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيه إِطْرَاءٌ ولَا يَسْتَمِيلُه إِغْرَاءٌ - وأُولَئِكَ قَلِيلٌ - ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِه - وافْسَحْ لَه فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَه - وتَقِلُّ مَعَه حَاجَتُه إِلَى النَّاسِ - وأَعْطِه مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا

لَا يَطْمَعُ فِيه غَيْرُه مِنْ خَاصَّتِكَ - لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَه عِنْدَكَ - فَانْظُرْ فِي

ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً - فَإِنَّ هَذَا الدِّين قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ - يُعْمَلُ فِيه بِالْهَوَى

ص: 411


1- م.ن، ص 578

وتُطْلَبُ بِه الدُّنْيَا)(1)

10 - البناء الاداري

ان العمل بنصوص العهد يعد حسن ادارة من قبل الحاكم لأن وظيفة الحاكم هي إدارة تلك المؤسسات بما يلائم ثوابت الشريعة وتعزيز بناء الدولة المدنية ينطلق من الادارة الصحيحة والتوظيف الصحيح واستثمار الفرص واحترام الوقت وتكامل البنى التحتية لها ويبدو لي أن أفضل عبارة تعبر عن البناء الاداري قول الامام (عليه السلام) لعامله مالك الأشتر : (فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعهَ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقعَه)(2)(3).

11 - البناء الصناعي (المهني)

بناء المصانع والمؤسسات الانتاجية والتجارية والزراعية وتشجيع القطاعات كافة العامة والخاصة والمختلطة من أولويات العمل المؤسساتي ومن ثوابت الدولة المدنية فازدهار تلك المؤسسات وتعزيز كفائتها يؤدي الى الاكتفاء الذاتي وتشجيع المنتج الوطني المحفز على استقرار الامن الغذائي الذي يؤدي الى نجاح مفاصل الدولة كافة وقد تنبه الامام (عليه السلام) في عهده الى مالك الأشتر فنصحه على الاهتمام بأهل الصناعات والتجار فقوام الحكومة بهم وبأعمالهم فقال (عليه السلام): (ولَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ - فِيمَا يَجْتَمِعوُنَ عَلَيْه مِنْ مَرَافِقِهِمْ - ويُقِيمُونَه

ص: 412


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 581 - 582
2- م.ن، ص 595
3- (ظ): فاضل الصفار، فقه الدولة، ص 115 - 118

مِنْ أَسْوَاقِهِمْ - ويَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ - مَا لَا يَبْلُغُه رِفْقُ غَيْرِهِمْ)(1)وقوله (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً - الْمُقِيمِ مِنْهُمْ والْمُضْطَرِبِ بِمَالِه والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِه - فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ - وجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ - فِي بَرِّكَ وبَحْرِكَ وسَهْلِكَ وجَبَلِكَ - وحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَواَضِعِهَا - ولَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا - فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُه - وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُه - وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ - واعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً - وشُحّاً قَبِيحاً - واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ - وذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ - وعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِكَارِ - فَإِنَّ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْه - ولْيَكُن الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَواَزِينِ عَدْلٍ - وأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ - فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاه فَنَكِّلْ بِه - وعَاقِبْه فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ)(2). ويلحظ هنا الدور الرقابي للحكومة في منع الاحتكار ومراقبة الاسواق و الاسعار بما يؤمن الحاجات الاستهلاكية لطبقات المجتمع كافة.

12 - البناء الخدمي

تتكاتف جميع مؤسسات الدولة وبناها التحتية من أجل تقديم أفضل خداماتها للمجتمع بكافة طبقاته على السواء الا أن هناك طبقات هي بأمس الحاجة للرعاية والأهتمام وقد أشار اليها الامام علي (عليه السلام) في عهده اذ قال (عليه السلام): (ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ - الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ ومَعونَتُهُمْ - وفِي اللهَّ لِكُلٍّ سَعَةٌ - ولِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُه - ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي - مِنْ

ص: 413


1- محمد عبده، نهج البلاغة، 295، ص 578
2- م.ن، ص 586

حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَه اللهَّ مِنْ ذَلِكَ - إِلَّا بِالاِهْتِمَامِ والاِسْتِعَانَةِ بِاللهَّ - وتَوْطِينِ نَفْسِه عَلَى

لُزُومِ الْحَقِّ - والصَّبْرِ عَلَيْه فِيمَا خَفَّ عَلَيْه أَوْ ثَقُلَ)(1).

وقال: (عليه السلام): (ثُمَّ اللهَّ اللهَّ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ - مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَي والزَّمْنَی - فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً - واحْفَظِ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ - واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ - وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ - فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثلَ الَّذِي لِلأَدْنَى - وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه - ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ - فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ - فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ - وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ - مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ - فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ - فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ - ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللهَّ يَوْمَ تَلْقَاه - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ - وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهَّ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه - وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیُتْمِ وذَوِي الرِّقَةِ فِي السِّنِّ - مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه - وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ - والْحَقُّ كُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللهَّ عَلَى أَقْوَامٍ - طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ - ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهَّ لَهُمْ: واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ - وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً - فَتَتَوَاضَعُ فِيه للهِ الَّذِي خَلَقَكَ - وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ - حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِع - فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ - لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ - غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ - ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ - ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأَنَفَ - يَبْسُطِ اللهَّ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِه - ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِه - وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ

ص: 414


1- محمد عبده، نهج البلاغة رقم 291، ص 578

هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ - ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا - مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْه كُتَّابُكَ - ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ - بِمَا تَحْرَجُ بِه صُدُورُ أَعْوَانِكَ - وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَه فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيه)(1).

المبحث الثالث: المبادىء والمفاهيم الدستورية المرتبطة بالدولة المدنية

عند استقراء عهد الامام علي (عليه السلام) نستنتج مجموعة من المفاهيم والنصائح والتوصيات والتحذيرات تتعلق بوظيفة وعلاقة الحاكم بالرعية والتي من شأنها أن ترتقي بالعمل الحكومي والمجتمعي الى أن تكون دولة مدنية ومؤسسات والمتأمل للعهد العلوي يجد أن الإمام علي (عليه السلام) قد استعمل كلمات معينة لها دلات معجمية خاصة وهي:

(هذا ما أمر به): دلالته الوجوب والطاعة

(ثم اعلم) العلم يعني المعرفة والفهم والتذكر

(واشعر قلبك) التلطف والتحنن

(اياك) تحذير عن فعل محرم

(ثم انظر) النظر يعني المراقبة والاختبار والفحص

(وتفقد امر الخراج) التفقد الحركة والمراقبة والزيارة والمسائلة والمتابعة

(ثم استوص) اراد خير وفعله

(واجعل لذوي الحاجات) وهذا الجعل شرعي لأمر الشرع به ومعناه التخصيص

(والزم الحق) اتبعه ولاتميل

ومن تلك المفاهیم:

ص: 415


1- م.ن، ص 588

1 - القرب من الرعية

(وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ - والْمُحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ - ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبعُاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ..) (58)

وليس في قواميس الأديان ومذاهب السياسة مثل ما سنه قائلاً: من الرفق بالرعية على اختلاف ميولها وأديانها، فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها، وأن لا يشمخ عليهم بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم، وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أوزلل، ويمنحهم العفو والرضا لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها(59

(وأَمَّا بَعدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احتِجَابَكَ عَن رَعِيَّتِكَ - فَإنَّ احتِجَابَ الوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعبَةٌ مِنَ الضِّيقِ - وقِلَّةُ عِلمٍ بِالأُمُورِ - والاِحتِجَابُ مِنهُم يَقطَعُ عَنهُم عِلمَ مَا احتَجَبُوا دُونَه - فَيَصغُرُ عِندَهُمُ الكَبِيرُ ويَعظُمُ الصَّغِيرُ - ويَقبُحُ الحَسَنُ ويَحسُنُ القَبِيحُ - ويُشَابُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ - وإِنَّمَا الوَالِي بَشَرٌ - لَا يَعرِفُ مَا تَوَارَى عَنه النَّاسُ بِه مِنَ الأُمُورِ - ولَيسَت عَلَى الحَقِّ سِمَاتٌ - تُعرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدقِ مِنَ الكَذِبِ - وإِنَّمَا أَنتَ أَحَدُ رَجُلَينِ - إِمَّا امرُؤٌ سَخَت نَفسُكَ بِالبَذلِ فِي الحَقِّ - فَفِيمَ احتِجَابُكَ مِنَ وَاجِبِ حَقٍّ تُعطِيه - أَو فِعلٍ كَرِيمٍ تُسدِيه أَو مُبتَلًى بِالمَنعِ - فَمَا أَسرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَن مَسأَلَتِكَ - إِذَا أَيِسُوا مِن بَذلِكَ - مَعَ أَنَّ أَكثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيكَ - مِمَّا لَا مَئُونَةَ

58 محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 572.

59 باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر.

ص: 416

فِيه عَلَيْكَ - مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ)(1).

حكى هذا الخطاب ضرورة الانفتاح مع الشعب وعدم الاحتجاب عنه فإن الوالي الذي يدافع عن شعبه ويكون بمعزل عنهم يعود بالأضرار البالغة عليه والتي منها فتح أبواب المعارضة عليه ونقمة المجتمع منه وكراهيتهم لحكمه وسلطانه(2).

2 - عدم التكبر

(إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللهَّ فِي عَظَمَتِه والتَّشَبُّه بِه فِي جَبَرُوتِه - فَإِنَّ اللهَّ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ)(3)

3 - الانصاف

وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له، فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته، وهذه كلماته (أَنصِفِ اللهَّ وأَنصِفِ النَّاسَ مِن نَفسِكَ - ومِن خَاصَّةِ أَهلِكَ - ومَن لَكَ فِيه هَوًى مِن رَعِيَّتِكَ - فَإِنَّكَ إِلَّا تَفعَل تَظلِم - ومَن ظَلَمَ عِبَادَ اللهَّ كَانَ اللهَّ خَصمَه دُونَ عِبَادِه - ومَن خَاصَمَه اللهَّ أَدحَضَ حُجَّتَه - وكَانَ للهِ حَرباً حَتَّى يَنزِعَ أَو يَتُوبَ)(4)حكى هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام التي تسعد بها الأمم

ص: 417


1- محمد عبده، نهج البلاغة، ص 590
2- اقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر
3- م.ن، ص 573
4- م.ن، 574

والشعوب وتكون آمنة من الظلم والاعتداء(1).

4 - العدل

(فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ - ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهَّ كَانَ اللهَّ خَصْمَه دُونَ عِبَادِه - ومَنْ خَاصَمَه اللهَّ أَدْحَضَ حُجَّتَه - وكَانَ للهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ - ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهَّ وتَعْجِيلِ نِقْمَتِه - مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ - فَإِنَّ اللهَّ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ - وهُوَ لِلظَّالِمينَ بِالْمِرْصَادِ - ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ - وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ)(2).

5 - الاستجابة لعامة الناس

وشيء بالغ الأهمية في سياسة الإمام والحق في رضاء العامة من المشروعة الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف وغيرهم فإن الحكومة مدعوة لإرضائهم وتنفيذ رغباتهم المشروعة، يقول الإمام عليه السلام:

((لْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ - وأَعمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ - فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ یُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ - وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ

رِضَی الْعَامَّةِ - ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ - وأَقَلَّ مَعُونَةً لَه فِي الْبَلَاءِ - وأَكْرَه لِلإِنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإِلْحَافِ - وأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ - وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ - مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ - وإِنَّمَا عِمَادُ

ص: 418


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر
2- م.ن، ص 574

الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ - والْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ - فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ

ومَيْلُكَ مَعَهُم.ْ..)). حكى هذا المقطع مدى أهمية العامة عند الإمام وأن رضاهم موجب لنجاح الحكومة وسخطهم موجب لدمارها، وأن العامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم أكره للإنصاف وأقل شكراً عند العطاء وإن عماد الدين وقوام السلطة إنما هو بالعامة دون الخاصة(66)

5. الحذر من الهاتكين لحرم الناس

وكان من رحمة الإمام بالناس إبعاد الساعين لذكر معائبهم، وطردهم، ولزوم

ستر معائب المواطنين، وهذا جزء من سياسته العامة، وهذا نص كلامه:

قال عليه السلام: ((وليَكُن أَبعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنكَ وأَشنَأَهُم عِندَكَ - أَطلَبُهُم لِمَعَايِبِ النَّاسِ - فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الوَالِي أَحَقُّ مَن سَتَرَهَا - فَلَا تَكشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنكَ مِنهَا - فَإِنَّمَا عَلَيكَ تَطهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ - واللهَّ يَحكُمُ عَلَى مشا غَابَ عَنكَ - فَاستُرِ العَورَةَ

مَا استَطَعتَ - يَستُرِ اللهَّ مِنكَ مَا تُحِبُّ سَترَه مِن رَعيَّتِكَ - أَطلِق عَنِ النَّاسِ عُقدَةَ كُلِّ حِقدٍ - واقطَع عَنكَ سَبَبَ كُلِّ وِترٍ - وتَغَابَ عَن كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ - ولَا تَعجَلَنَّ إِلَى تَصدِيقِ سَاعٍ - فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِن تَشَبَّه بِالنَّاصِحِينَ..))(1). إن من مناهج سياسة الإمام إبعاد السعادة في ذكر مثالب الناس الأمر الذي يؤدي إلى إسقاط كرامتهم، وتحطيم منزلتهم، وهذا مما يرفضه الإمام الذي جهد على تهذيب المجتمع

حسن سلوكه(2).

ص: 419


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر 67 م.ن ص 575
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

6 - الاستشارة

(ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ - ويَعِدُكَ الْفَقْرَ - ولَا

جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ - ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ - فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى - يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهَّ)(1)، منهج قويم يؤسسه الامام (عليه السلام) للحكام لكي يبتعدوا عن بعض سييء الخلق وأن لايكونوا جزءا من المستشارين لأنهم سيهلكوا الحرث والنسل باستشاراتهم الخاطئة.

7 - دور الوزراء وصفاتهم

(إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً - ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ

لَكَ بِطَانَةً - فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ - وأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ

- مِّمَنْ لَه مِثْلُ آرَائِهِمْ ونَفَاذِهِمْ - ولَيْسَ عَلَيْه مِثْلُ آصَارِهِمْ وأَوْزَارِهِمْ وآثَامِهِمْ -

مِّمَنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَی ظُلْمِه ولَا آثِماً عَلَی إِثْمِه - أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً - وأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً - فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لَخَلَوَاتِكَ وحَفَلَاتِكَ - ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ - وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَ يَكُونُمِنْكَ مِمَّا كَرِه اللهَّ لأَوْلِيَائِه)(2) وأمر الإمام في عهده بإقصاء الوزراء في الحكومات السابقة لأنهم كانوا أشراراً وخونة خصوصا في حكومة عثمان فحكى هذا المقطع أسمى ما تصل إليه الحكومة من التطور في خدمة الشعب، فقد عهد الإمام عليه السلام إلى مالك أن لا يتخذ وزيراً قد شارك في وزارة الحكومة السابقة التي جهدت في ظلم الشعب ونهب ثرواته كما كان في أيام حكومة عثمان بن عفان عميد الأمويين

ص: 420


1- محمد عبده، نهج البلاغة،رقم 291، ص 575
2- م.ن، ص 576

فقد وهب ثروات الأمة وما تملكه من قدرات اقتصادية لبني أمية وآل بني معيط، کما صحح المناصب المهمة في الدولة، وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بحكومته(1).

8 - الاحسان، وإقامة السنة

(فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ - ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ

عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ - فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ - وتَدْرِيباً

لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَی الإِسَاءَةِ - وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه واعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ

بِأَدْعَى - إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِه - مِنْ إِحْسَانِه إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِه الْمُئُونَاتِ عَلَيْهِمْ -

وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِه إِيَّاهُمْ عَلَی مَا لَيْسَ لَه قِبَلَهُمْ - فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ - يَجْتَمِعُ لَكَ بِه حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ - فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً - وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِه لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَه - وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِه لَمَنْ سَاءَ بَلَؤُكَ عِنْدَه - ولَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالَحِةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِه الأُمَّةِ - واجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ - ولَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُّرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِ تِلْكَ السُّنَنِ - فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا - والْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا)(2).

9 - دور العلماء

وأكد الإمام في عهده على ضرورة الاتصال بالعلماء والحكماء للتذاكر في شؤون

ص: 421


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر
2- م.ن، ص 577

البلاد وما يصلحها اقتصادياً وأمناً وغير ذلك قال عليه السلام:

(وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَماَءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَماَءِ - فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلاَدِكَ -

وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ)(1).

10 - العلاقة بين طبقات المجتمع

(واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ - لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ - ولَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ)(2). وهذا أنموذج من سياسة الإمام الهادفة لإصلاح المجتمع بجميع ما يحتاج إليه طبقات الشعب، ونظر الإمام بعمق إلى طبقات الشعب التي يرتبط بعضها ببعض وهي: الكتاب: ذي به قوام الدولة والشعب. الكتاب: وهم كتاب العامة والخاصة. قضاة العدل وهم من يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم من خلاف. عمال الإنصاف والرفق، وهم صنف من العمال يلاحظون أمور الناس. الذين يأخذون الجزية التي هي من مداد الاقتصاد في الإسلام. التجار وهم الذين يمثلون العصب الاقتصادي في البلاد. أهل الصناعات: وهم الذين يقومون بما يحتاج إليه المجتمع في شؤونه الاقتصادية(3).

التواصل مع الأشراف والصالحين

من بنود عهد الإمام أنه أمر مالك بالاتصال بالأشراف والصالحين الذين يمثلون القيم الكريمة ليستعين بهم في إصلاح البلاد وهذا قوله:

ص: 422


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 577
2- م.ن، ص 577
3- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

(ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ والأَحْسَابِ - وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوَابِقِ

الْحَسَنَةِ - ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ والسَّماَحَةِ - فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِهَا - ولَا

يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِه - ولَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِه وإِنْ قَلَّ - فَإِنَّه

دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَ بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ - ولَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ

اتِّكَالًا عَلَی جَسِيمِهَا - فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِه - ولِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْه)(1). حكى هذا المقطع أصالة ما ذهب إليه الإمام من إشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الاجتماعي بين الناس وهذه النقاط المهمة التي أدلى بها الإمام عليه السلام توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم معهم فيما يصلح أمر البلاد(2).

11 - دورقادة الجيوش والعلاقة بهم

(ولْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِه - وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ

جِدَتِه - بِماَ يَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ - حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً

وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ - فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ)(3). أرأيتم هذا العمق في سياسة الإمام ودراسته لنفوس الجيش، والوقوف على إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم ولم يحفل أي دستور عسكري وضعه قادة الجيوش بمثل هذه الدراسة الوثيقة لطبائع نفوس العسكر، وكيفية إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم وقد أوصى الإمام عليه

ص: 423


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 579
2- م.ن
3- م.ن، ص 580

السلام بإشاعة ذكر المخلصين من الجند فإن ذلك يهز عواطف الشجعان منهم ويحرض الناكل على الطاعة والإخلاص لدولته، فحكى هذا المقطع بعض الوصايا الذهبية في تكريم المخلصين من الجيش، وأنه ليس له أن يعظم الأشراف على ما صدر منهم من خدمات ما كان قليلاً ويستهين بالفقراء ما صدر منهم من خدمات جليلة وأن الواجب عليه الإشادة بهم وذكرهم بأطيب الذكر وأنداه(1).

12 - اختيار القضاة

ومن الامور المهمة في عهد الإمام (عليه السلام) وهو أن يكون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة وهذا حديث الإمام.

(ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ - مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ

ولَا تُمَحِّكُه الْخُصُومُ - ولَا يَتَماَدَى فِي الزَّلَّةِ - ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه- ولَا تُشْرِفُ نَفْسُه عَلَی طَمَعٍ - ولَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاه - وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ - وأَقَلَّهُمْ تَبَّرُماً بِمُرَاجَعَةِ)(2). حكى هذا المقطع شأن القضاة أموراً بالغة الأهمية، منها:

أولاً: أن يكون الحاكم أفضل الرعية في تقواه وورعه، وأن تتوفر فيه هذه الصفات: أ: أن يكون واسع الصدر لا تضيق به محكات الناس ويمل منها.

ص: 424


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لوالیه مالك الأشتر على مصر
2- م.ن، ص 581

ب: أن يمعن وينظر بجد في القضايا التي ترفع إليه ويتبع سبيل الحق فيها يحكم به.

ج: أن لا يتهادى في الزلل والخطأ فإنه يكون ضالاً عن الطريق إذا لم يعن بذلك. د: أن يتبع الحق فيها يحكم به.

ه: أن يكون شديداً في حكمه إذا اتضح له الحق.

ثانياً: أن يتعاهد الوالي قضاء الحاكم خشية الزلل فيها حكم به.

ثالثاً: أن يوفر له العطاء ولا يجعله محتاجاً لأحد حتى يخلص فيها يحكم به. رابعاً: أن تكون للحاكم منزلة كريمة عند الوالي لا يطمع بها غيره.. هذه بعض

النقاط في هذا المقطع(1).

13 - اختيار العمال والولاة

وشيء بالغ الأهمية في عهد الإمام وهو أن يكون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة وهذا حديث الإمام.

(ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّلِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً - ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً - فَإِنَّهُمَ جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ - وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ - مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ - فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَقاً وأَصَحُّ أَعْرَاضاً - وأَقَلُّفِ الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً - وأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً - ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأَرْزَاقَ - فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلَحِ أَنْفُسِهِمْ - وغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أيْدِيهِمْ - وحُجَّةٌ

ص: 425


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ - وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ

الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ - فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأُمُورِهِمْ - حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَلِ

الأَمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ - وتَحَفَّظْ مِنَ الأَعْوَانِ - فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَه إِلَی خِيَانَةٍ - اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْه عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ - اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً - فَبَسَطْتَ عَلَيْه الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِه - وأَخَذْتَه بِماَ أَصَابَ مِنْ عَمَلِه - ثُمَّ نَصَبْتَه بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَه بِالْخِيَانَةِ - وقَلَّدْتَه عَارَ التُّهَمَةِ)(1).

حكى هذا المقطع شأن القضاة أموراً بالغة الأهوورعه منها:

أولاً: أن يكون الحاكم أفضل الرعية في تقواه وورعه، وأن تتوفر فيه هذه الصفات:

أ - أن يكون واسع الصدر لا تضيق به محكات الناس ويمل منها.

ب - أن يمعن وينظر بجد في القضايا التي ترفع إليه ويتبع سبيل الحق فيها يحكم به.

ج - أن لا يتمادى في الزلل والخطأ فإنه يكون ضالاً عن الطريق إذا لم يعن بذلك. د - أن يتبع الحق فيها يحكم به.

ه - أن يكون شديداً في حكمه إذا اتضح له الحق.

ثانياً - أن يتعاهد الوالي قضاء الحاكم خشية الزلل فيها حكم به.

ثالثاً - أن يوفر له العطاء ولا يجعله محتاجاً لأحد حتى يخلص فيها يحكم به. رابعاً - أن تكون للحاكم منزلة كريمة عند الوالي لا يطمع بها غيره.. هذه بعض النقاط في هذا المقطع(2). ومايتعلق بالعمال في أجهزة الحكم فقد أولاهم المزید من الاهتمام لأنهم العصب في الدولة وكان مما أولاهم به.

ص: 426


1- محمد عبده، نهج البلاغة رقم 291، ص 583
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

أولاً: إن الوظيفة لا تمنح لأي شخص إلا بعد اختباره ومعرفة سلوكه وإدارته.

ثانياً: أن منح الوظيفة يجب أن لا يكون محاباة أواثرة، وإنما يكون عن استحقاق

ودراية.

ثالثاً: إن العمال في الحكومات السابقة كانوا شعباً من الجور وفي عهده يجب أن

يكونوا أمثلة للنزاهة والشرف.

خامساً: أن يكون العمال من ذوي البيوتات الشريفة فإنهم يكونون بعيدين من اقتراف الإثم وما يخل بالكرامة.

سادسا: أن يوفر لهم المال فإنه ضمان لهم من أخذ الرشوة.

سابعاً: أن يجعل عليهم العيون والرقباء خشية انحرافهم عن الحق.

ثامنا: إذا بدت منهم خيانة فعلى الوالي أن يأخذهم بالعقاب الصارم. الخراج:

الإجراءات مع العمال تضمن للأمة العدل، وتشيع فيها الإخلاص للحكم(1).

14 - الخراج ومالية الدولة

أما الخراج فهو شرايين اقتصاد الأمة حكومة وشعباً في عصورها الأولى أوقد أمر الإمام في عهده بمراقبته وتفقده والاهتمام به، وهذا كلامه.

(وتَفَقَّدْ أَمْرَ الَخَرَاجِ بِماَ يُصْلِحُ أَهْلَه - فَإِنَّ فِي صَلَحِه وصَلَحِهِمْ صَلَحاً لِمَنْ

سِوَاهُمْ - ولَا صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّ بِهِمْ - لأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَی الَخَرَاجِ وأَهْلِه

- ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِماَرَةِ الأَرْضِ - أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِ اسْتِجْلَبِ الَخَرَاجِ - لأَنَّ ذَلِكَ

ص: 427


1- م.ن

لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِماَرَةِ - ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِماَرَةٍ أَخْرَبَ الْبِلاَدَ - وأَهْلَكَ الْعِبَادَ

ولَمْ يَسْتَقِمْ أمْرُه إلِّا قَليِلاً - فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ - أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ - أَوْ أَجْحَفَ بِمَا عَطَشٌ - خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِماَ تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِه أَمْرُهُمْ - ولَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِه الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ - فَإِنَّه ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِه عَلَيْكَ فِي عِماَرَةِ بِلاَدِكَ - وتَزْيِينِ وِلَيَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ - وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ - مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ - بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ - والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِماَ عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ بِهِمْ - فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأُمُورِ - مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيه عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوه - طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِه - فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَه - وإِنَّماَ يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا - وإِنَّمَ يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَةِ عَلَی الْجَمْعِ - وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ)(1).

حكى هذا المقطع مدى اهتمام الإمام بعمارة الأرض وتوفير جميع الوسائل لإصلاحها لأنها مصدر الحياة الاقتصادية في الأمة. وكذلك اهتمامه بتنمية الاقتصاد القومي الذي يمثله قطاع الفلاحين فقد أوصى بعمارة الأرض، وتوفير ما تحتاجه من المياه، وإصلاحها فيما إذا غمرتها المياه وغير ذلك من وسائل الإصلاح، وقد فقد المسلمون هذه الرعاية أيام الحكم الأموي والعباسي، فقد شكا والي مصر إلى عاهل الشام سوء حالة المزارعين وتخفيف الخراج عنهم فكتب إليه بعد التأنيب ((احلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم)) وقد اضطر المزارعون إلى هجر مزارعهم فراراً من ظلم الولاة وجورهم كما حكى هذا المقطع البر بالمزارعين والإحسان إليهم ومراعاة حياتهم الاقتصادية بما لم يألفوا مثله في الحكومات السابقة(2).

ص: 428


1- م.ن ص 583 - 584
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

15 - الكتاب وأصحاب الديوان

وهم من أهم الموظفين في جهاز الدولة فهم يتولون كتابة ما يصدر من الوالي من قرارات وشؤون اقتصادية وعسكرية وغير ذلك مما يتعلق بأمور الدولة والمواطنين وقد أولاهم الإمام المزيد من الاهتمام وهذا نص حديثه.

(ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ - فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ - واخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي

تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وأَسْرَارَكَ - بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوه صَالِحِ الأَخْلاَقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُه

الْكَرَامَةُ - فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَفٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلإٍ - ولَا تَقْصُرُ بِه الْغَفْلَةُ عَنْ

إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّلِكَ عَلَيْكَ - وإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَی الصَّوَابِ عَنْكَ - فِيماَ يَأْخُذُ

لَكَ ويُعْطِي مِنْكَ - ولَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَه لَكَ - ولَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ

عَلَيْكَ - ولَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِه فِي الأُمُورِ - فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِه يَكُونُ بِقَدْرِغَيْرِه أَجْهَلَ - ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ - واسْتِنَامَتِكَ وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ - فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَةِ - بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ - ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والأَمَانَةِ شَيءٌ - ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِماَ وُلُّوا لِلصَّالِحينَ قَبْلَكَ - فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً - وأَعْرَفِهِمْ بِالأَمَانَةِ وَجْهاً - فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَی نَصِيحَتِكَ لله ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَه - واجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ - لَا يَقْهَرُه كَبِيرُهَا ولَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْه كَثِيرُهَا - ومَهْماَ كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْه

أُلْزِمْتَه)(1).

حكى هذا المقطع مدى أهمية الكتاب لأن قرارات الدولة، ومهام الأمور بأيديهم، ولابد أن تتوفر فيهم الصفات الفاضلة من الأمانة والضبط، وعدم التهاون في أعمالهم

ص: 429


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 858

وأن يكون اختبارهم وثيقاً، فلا يصح الاعتماد على الفراسة، وحسن الظن ولا على ما يبدونه من الخدمات لجلب مودة الوالي لأن ذلك ليس له أي وزن في ترشيحهم لهذه الوظيفة المهمة، فلا بد أن يكون الاختبار وثيقاً غير خاضع للرغبات الشخصية وتتمثل اليوم بمكاتب رئاسة الجمهورية والبرلمان والوزراء(1).

16 - تشجيع التجار ومنع الاحتكار

يشكل القطاع من التجار وذوي الصناعات دوراً مهماً في إدارة الشؤون الاقتصادية

في البلاد وقد أوصى الإمام برعايتهم والاهتمام بشؤونهم وهذا قوله:

(ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً – الْمُقِيمِ مِنْهُمْ والْمُضْطَرِبِ بِمَالِه والْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِه - فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ - وجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ - فِي بَرِّكَ وبَحْرِكَ وسَهْلِكَ وجَبَلِكَ - وحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَواضِعِهَا - ولَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا - فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُه - وصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُه - وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ - واعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً - وشُحّاً قَبِيحاً - واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ - وذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ - وعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِكَارِ - فَإِنَّ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْه - ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ - وأَسْعَارِ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ - فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاه فَنَكِّلْ بِه - وعَاقِبْه فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ)(2).

ص: 430


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر
2- م.ن، ص 586

عرض الإمام عليه السلام إلى دور التجار في جلب ما تحتاج إليه الناس من المناطق البعيدة والأماكن النائية ليوفروا لهم ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة والواجب على الوالي رعايتهم وتسهيل أمورهم وعرض الإمام إلى مراقبة السوق خشية من الاحتكار الذي يفر بالعامة وعلى الوالي أن يمنع المحتکر فإن أصر على احتكاره فيعاقبه من غير إسراف أ الاحتكار يودي إلى شل الحركة الاقتصادية في البلاد ويلقي الناس في ضائقة اقتصادية(1).

17 - الاهتمام بالفقراء

وليس في تأريخ الإسلام وغيره مثل الإمام أمير المؤمنين في اهتمامه بالفقراء فقد شاركهم في جشوبة العيش وخشونة اللباس، فهو أبو الفقراء، وصديق المحرومين وملاذ البائسين، وهذا نص حديثه في عهده: (ثُمَّ اللهَّ اللهَّ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ - مِنَ الْمَسَاکِینِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَی - فَإِنَّ فِي هَذِه الْطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً - واحْفَظِ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ - واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالكَ - وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ - فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَی - وکُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه - ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ - فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْکَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ - فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ - وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ - مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ - فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ - فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ - ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللهَّ يَوْمَ تَلْقَاه - فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ

ص: 431


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر علی مصر

غَيْرِهِمْ - وکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهَّ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه - وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ - مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسِه - وذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ - والْحَقُّ کُلُّه ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُه اللهَّ عَلَى أَقْوَامٍ - طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ - ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهَّ لَهُمْ)(1).

أرأيتم هذا العطف والحنان على الفقراء والضعفاء، فقد احتضنهم الإمام وجعلهم من أهم مسؤولياته وواجباته إن رعاية الفقراء والبر بهم والإحسان إليهم عند الإمام جزء من رسالة الإسلام التي أكدت على محو الفقر وإزالة شبحه ونشر السعة والرخاء بين المسلمين. كان الإمام أباً عطوفاً للأيتام، وكان يجمعهم فيطعبذلك. عسل، وكان شديد العناية بهم والرعاية لهم والعطف عليهم، وكان من ذاتیاته وعظيم أخلاقه، وأثرت عنه وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام كوكبة من الأحاديث تحث على رعاية اليتيم والبر به، وتذكر ما أعد الالحاجات من الأجر الجزيل للقائم بذلك(2).

18 - اصحاب الحاجات والمصالح

ومن بنود عهد الإمام عليه السلام أنه حث على أن يجعل لذوي الحاجات وقتاً

لينظر فيها وهذا قوله:

(واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ - وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً - فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ - وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ - حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ - فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله

ص: 432


1- محمد عبده، نهج البلاغة، ص 587 - 588
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر علی مصر

عليه وآله) يَقُولُ فِي غَیْرِ مَوْطِنٍ - لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ - غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ - ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ - ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأَنَفَ - یَبْسُطِ اللهَّ عَلَيْكَ بِذَلكَ أَکْنَافَ رَحْمَتِه - ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِه - وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ)(1).

وكان خائف أأعدل عدل الإمام عليه السلام في أيام حكومته أنه يحين وقتاً للنظر في قضايا ذوي الحاجات، فكان يأخذ بحق الضعيف من القوي وبحق المظلوم من الظالم، وكذلك عهد إلى ولاته مثل ذلك، وقد أمر عليه السلام في عهده بتنحية الشرطة والجنود حتى يتكلم ذوالحاجة غير متعتع ولا خائف وهذا منتهى العدل الذي أسسه رائد الحضارة والعدالة في الإسلام(2).

19 - واجبات الحاكم

(ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا - مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْه كُتَّابُكَ - ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ - بِمَا تَحْرَجُ بِه صُدُورُ أَعْوَانِكَ - وأَمْضِ لِکُلِّ يَوْمٍ عَمَلَه فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيه: واجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ اللهَّ - أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وأَجْزَلَ تِلْكَ الأَقْسَامِ - وإِنْ كَانَتْ کُلُّهَا لله إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّیَّةُ - وسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِیَّةُ)(3).

حکی هذا المقطع أموراً يتعين على الوالي القيام بنفسه في مباشرتها منها. إجابة

ص: 433


1- م.ن، ص 588 - 589
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشترعلی مصر
3- م.ن ص 589

العمال فيما إذا عجز الكتاب عن القيام بها وهي إما أنها ترجع إلى الشؤون العامة. إلى مصلحة العمال تنفيذ كل عمل من أعمال الدولة بنفس اليوم من دون تأخير لأن التأخير يضر بالمصلحة العامة. أن يخصص الوالي لنفسه وقتاً للاتصال بالله تعالى وعبادته باخلاص(1).

20 - أداء الفرائض

وعهد الإمام مالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص، وإذا أقيمت صلاة الجماعة فعليه أن يلاحظ المصلين فلا يطيل في صلاته وإنما يصلي کما يصلي أضعف الناس، وهذا حديث الإمام:

(ولْيَکُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِه لله دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضَه - الَّتِي هِيَ لَه خَاصَّةً - فَأَعْطِ اللهَّ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ - ووَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِه إِلَى اللهَّ - مِنْ ذَلِكَ کَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ ولَا مَنْقُوصٍ - بَالِغاً مِنْ بَدَنِك مَا بَلَغَ - وإِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ - فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً ولَا مُضَيِّعاً - فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِه الْعِلَّةُ ولَه الْحَاجَةُ - وقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهَّ (صلى الله عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ - كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ - فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ کَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ - وکُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)(2).

شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة الحث على الصلاة وكيفية أدائها جماعة، ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده(3).

ص: 434


1- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر
2- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 589 - 590
3- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

21 - عدم الاحتجاب عن الناس

(وأَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ - فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاۃِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ - وقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأُمُورِ - والاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَه - فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ ويَعْظُمُ الصَّغِیرُ - ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ - ویُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ - وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ - لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْه النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ - ولَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ - تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ - وإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ - إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ - فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيه - أَوْ فِعْلٍ کَرِیمٍ تُسْدِيه أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ - فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْألَتِكَ - إِذَا أَيِسُوا مِن بَذْلِكَ - مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ الَّناسِ إِلَيْكَ - مِمَّا لَا مَئُونَةَ فِيه عَلَيْكَ - مِنْ شَکَاۃِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ) (99).

22 - مراقبة الحاشية

حذر الإمام في عهده من إتباع بعض الذين يتخذهم الوالي خاصة له فإن فيهم تطاولاً وقلة انصاف، وعليه أن يحسم شرورهم وأطاعهم ولا يقطعهم قطيعة أرض فيكون المهنأ لهم والوزر عليه وهذا كلامه:

(ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً - فِيهِمُ استِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ - فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأَحْوَالِ - ولَا تُقْطِعَنَّ لأحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً - ولَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَۃٍ - تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ - فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكَ -يَحْمِلُونَ مَئُونَتَه عَلَى غَيْرِهِمْ - فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ -

99 م. ن، ص 590.

ص: 435

وعَيبُه عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ - وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَه مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ - وكُنْ فِي ذَلكَ صَابِراً مُحْتَسِباً - وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ - وابْتَغِ عَاقِبَتَه بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْه - فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ - وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَیْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ - واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ - فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً - تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ)(1).

لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم، فقد سد عليهم

جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة واتباع الحق من قبل الحكام فإن الحق هو المنهج الواضح في سياسة الإمام وسيرته وليس للباطل أي التقاء به(2).

23 - العلاقة بالأعداء والعهود معهم

(ولَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْه عَدُوُّكَ ولله فِيه رِضًا - فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ - ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِلَادِكَ - ولَكِنِ الْحَذَرِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِه - فَإِنَّ الْعَدُوَّ رَبُّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ - فَخُذْ بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ - وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً - أَوْ أَلْبَسْتَه مِنْكَ ذِمَّةً - فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ - واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ - فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهَّ شَيْءٌ - النَّاسُ أَشَدُّ عَلَیْه اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ - وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ - مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ - وقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِکُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ - لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ - فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ - ولَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ - فَإِنَّه لَا

ص: 436


1- م.ن، ص 591
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

يَجْتَرِئُ عَلَى اللهَّ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ - وقَدْ جَعَلَ اللهَّ عَهْدَه وذِمَّتَه أَمْناً أَفْضَاه بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِه - وحَرِیماً يَسْکُنُونَ إِلَى مَنَعَتِه ويَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِه - فَلَا إِدْغَالَ ولَا مُدَالَسَةَ ولَا خِدَاعَ فِيه - ولَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيه الْعِلَلَ)(1)، حكى هذا الخطاب المناهج العسكرية، وهذه شذرات منها:

أولاً: أن الإمام أكد على ضرورة قبول الصلح إذا دعا إليه العدوأ وذكر فوائده: إن فيه راحة للجيش لأنه يستريح من الجهد العسكري.

ثانياً: احة للوالي من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية. في الصلح أمناً

للبلاد وعدم تعرضها للأزمات.

ثانياً: على الوالي أن يراقب بيقظة العدو وبعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه للكيد من المسلمين.

ثالثاً: إذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بالإسلام بالوفاء والأمانة ولايخیس بأي شيء منه فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام والغدر ونكث العهد يتجافي مع الإسلام فقد جعل الله تعالى الوفاء بالعهد حصناً وثيقاً من حصونه ليس الأحد أن يقتحمه.. هذه بعض البنود في هذا المقطع(2).

24 - التحذير من سفك الدماء

يعد سفك الدماء من الموبقات والجنايات التي توجب الحدود الشرعية فحذر

ص: 437


1- محمد عبده، نهج البلاغة، 291، ص 591
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر علی مصر

الامام منها قائلا: (إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا - فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ - ولَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ - مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا - واللهَّ سُبْحَانَه مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ - فِيمَا تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - فَلَا تُقَوِّیَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ - فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُه ويُوهِنُه بَلْ يُزِيلُه ويَنْقُلُه - ولَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهَّ ولَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ - لأَنَّ فِيه قَوَدَ الْبَدَنِ - وإِنِ ابْتُلِیتَ بِخَطَإٍ - وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ - فَإِنَّ فِي الْوَکْزَۃِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً - فَلَا تَطْمَحَنَّ

بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ - عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)(1).

إن سفك الدماء وترك القاتل دون عقاب من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام، فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وإطلاق النفس شامل لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية وغيرهم، كما أعلن القرآن أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه نار جهنم خالداً فيها، وقد شدد الإمام في عهده على ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها، وحذر أن يقوى سلطان ولاته بإراقة الدماء، کما دية قتل العمد وهوقتل القاتل کما ذکر دية المقتول خطأ وهو الدية ولايته ما يكون التحذير من سفك الدماء(2).

25 - التحذير من العجب

وأوصى الإمام في عهده بأن لا يعجب الوالي بنفسه وولايته، وأن لا يحب الإطراء وهذا حديثه: (وإِيَّاكَ والإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ - والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ

ص: 438


1- م.ن ص 593
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

الإِطْرَاءِ - فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْث فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِه - لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ

إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ)(1)

26 - التحذير من المن على الرعية

(وإِيَّاكَ والْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ - أَوِ التَّزَیُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلكَ)(2)

27 - التحذير من خلف الوعد

أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ - فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلَ الإِحْسَانَ والتَّزَیُّدَ یَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ - والْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللهَّ والنَّاسِ - قَالَ اللهَّ تَعَالَى - * (کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(3). حکي هذا المقطع تحذير الإمام لواليه من أمرين، وهما - أولاً: أن يمن على رعيته بما يسديه من إحسان عليهم فإن ذلك واجب عليه ولا مجال للتبجح بأداء الواجب، وثانياً: أن يعدهم بالإحسان ثم يخالف ما وعده فإن ذلك مما يوجب مقت الله تعالى ومقت الناس(4)

28 - التحذير من العجلة بالامور

(وإِيَّاكَ والْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا - أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا - أَوِ اللَّجَاجَةَ

ص: 439


1- م.ن، ص 594
2- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 219، ص 594
3- م.ن 594
4- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

فِيهَا إِذَا تَنَکَّرَتْ - أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ - فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَه

وأَوْقِعْ کُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَه)(1).

29 - التحذير من الاستئثار

حذر أمير المؤمنين عليه السلام الوالي من الاستئثار بما فيه الناس سواء قائلا:

(وإِيَّاكَ والاِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيه أُسْوَةٌ - والتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَی بِه مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ - فَإِنَّه مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَیْرِكَ - وعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأُمُورِ - ویُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ - امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وسَوْرَةَ حَدِّكَ - وسَطْوَةَ يَدِكَ وغَرْبَ لِسَانِكَ - واحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِکَفِّ الْبَادِرَةِ وتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ - حَتَّى يَسْکُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاِخْتِيَارَ - ولَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ - حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِکْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ)(2).

لقد عهد الإمام عليه السلام إلى واليه التحلي بمكارم الأخلاق وليس له ادبياً أن يستأثر بما الناس فيه سواء وإنما عليه أن يتركه لهم لينظروا إلى نزاهة الحكم وشرف الوالي لقد أوصاه الإمام بكل فضيلة تخلد له الذكر الحسن وتكون له وسام شرف(3).

30 - التذكر والاقتداء

وآخر ما وصى به الإمام (عليه السلام) واليه على مصر تلك الوصية الجامعة

ص: 440


1- م.ن، ص 595
2- م.ن، ص 595
3- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

للمحاسن والكمال والورع والتقى والتأسي بما سبقه من تجارب على مستوى الأدارة والحكم قوله: (والْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ - مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ - أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللهَّ - فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِه فِيهَا - وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا - وَاسْتَوْثَقْتُ بِه مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ - لِکَیْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفسِكَ إِلَى هَوَاهَا: وأَنَا أَسْأَلُ اللهَّ بِسَعَةِ رَحْمَتِه - وعَظِيمِ قُدْرَتِه عَلَى إِعْطَاءِ کُلِّ رَغْبَةٍ - أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاكَ لِمَا فِيه رِضَاه - مِنَ الإقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْه وإِلَى خَلْقِه - مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ و جَمِيلِ الأَثَرِ فِي الْبِلَادِ - وتَمَامِ النِّعْمَةِ وتَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ - وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ - (إِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ) - والسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهَّ - صَلَّى اللهَّ عَلَيْه وآلِه وسَلَّمَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً والسَّلَامُ)(1).

وانتهى هذا العهد الذي يمثل العدل في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته وهو من أفضل ما خلفته الإنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والإدارة بمنتهی الحكمة والدقة، في وقت لم يكن فيه المسلمون وغيرهم يعرفوا هذه الأنظمة الحلاقة وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و عبقرياته التي لا تحد و حسبه علوا أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وباب مدينة علمه، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى(2).

ص: 441


1- محمد عبده، نهج البلاغة، رقم 291، ص 595 - 596
2- باقر شريف القرشي: شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر

الخاتمة والتوصيات والمقترحات

1 - يجسد العهد نظرية الحكم عند أهل البيت (عليه السلام).

2 - هناك كتاب أرسله الامام علي (عليه السلام) لأهل مصر حين ولى مالك الاشتر يخبرهم بشخصية مالك (رضي الله عنه).

3 - من الممكن صياغة بعض فقرات العهد كمواد دستورية للحكومات الاسلامية

4 - تشكل البنى التحتية التي تضمنها العهد قواعد مهمة في بناء الدولة المدنية.

5 - هناك مفاهيم تضمنها العهد تتوافق مع مفاهيم عصرية لها علاقة بالحكم المدني الديمقراطي، مثل دولة المؤسسات (واعلم ان الرعية طبقات) والتكنوقراط (ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك) والقطاع الخاص، (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات).

6 - أكد العهد على ضرورة الاهتمام بالبنى الاقتصادية والمالية للدولة فبصلاحه صلاح سواهم.

7 - كذلك اهتم العهد بالمؤسسة العسكرية جنودا وقادة كونها حصون الرعية

وزين الولاة ودعا الى الاهتمام بالجنود وبشؤونهم.

8 - اذا كانت البنى التحتية تتمثل اليوم بالقطاعات الخدمية والانتاجية فقد اشار الامام (عليه السلام) في عهده الى تلك البنى من حيث الاهتمام بالفقراء وذوي الحاجات وعمارة الارض وتزيين البلاد.

9 - البناء التعليمي والثقافي وتقريب العلماء من اولويات الدولة المدنية والحاكم

ص: 442

العادل لذا اشار الامام علي (عليه السلام) إلى ذلك في أكثر من موضع في العهد.

10 - اقامة الفرائض والسنن بناء ديني ضروري للحاکم ورعيته لاصلاح العباد

والبلاد.

11 - التأكيد على بناء المبادى الدستورية كالعدل والمساواة والحرية والشورى في

الحكم.

12 - التأكيد على البناء الاخلاقي للحاكم والتحلي بمكارم الاخلاق والابتعاد عن الخلق السيء كالتزام الرحمة والحب والعفو والاحسان والصفح والمسامحة والانصاف والامانة وحسن الظن والشجاعة والكرم والوفاء بالعهود والابتعاد عن العجب والتكبر وسفك الدماء والظلم ونقض العهود والمن على الرعية والعجلة في الامور والاسستئثار والطمع وغير ذلك.

13 - الدقة في بناء مؤسسات الحكم والدولة مثل حسن اختيار الوزراء والعمال والولاة والكتاب واصحاب الديوان والحاشية.

14 - بناء الحاكم معنويا وسلوكيا من حيث حسن الاقتداء بالنماذج الحسنة والسيرة العادلة وفرائض الكتاب العزيز. وسلوكيا من حيث عدم الاحتجاب عن الرعية ولزوم الحق وعدم الركون الى السعاة والوشاة.

15 - تنبيه العهد الى مجموعات واصناف ومهن واشخاص دلالة على الرؤية

الثاقبة والصحيحة لطبيعة المجتمعات وعمارتها والعلاقة فيما بينها والتركيز على أهل الخبرة والمهنية في الاعمال.

16 - هناك مجموعة من المفاهيم السياسية والادارية والاقتصادية ترتبط ارتباطا

ص: 443

وثيقا بعمل الحاكم وعمل الحكومة بما يؤسس الدولة المدنية.

17 - البنى التحتية التي ذكرها الامام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر (رض) وكذلك المفاهيم والمبادىء السياسية والدستورية هي ملخص تجربة الامام علي (عليه السلام) في الحكم وقد مارسها اذبان خلافته المباركة فحري بعماله وولاته أن يستفيدو من تلك التجربة الفريدة في تطبيق نظرية الامام علي (عليه السلام) في الحكم وبناء الدولة المدنية

التوصيات

يوصي البحث بما يأتي

1 - ان تكون هناك ورشة عمل من قبل الاساتذة والمتخصصين والباحثين في الجامعات والمعاهد ذات العلاقة والمؤسسات الحقوقية لدراسة بنود هذا العهد المبارك وجعلها كمواد دراسية في الكليات والمعاهد ذات العلاقة.

2 - صياغة العهد كبنود دستورية تلتزم بها الحكومات الاسلامية لاسيما الحكومة

العراقية.

3 - يتم مفاتحة البرلمان العراقي بأن يكون هذا العهد من جملة نظامه الداخلي لحث

الرئاسات الثلاث والوزراء واعظاء مجلس النواب لتطبيقه.

المقترحات

طبع هذا العهد مستقلا ويكون ملحقا بالدستور العراقي.

حث الطلبة بجميع مستوياتهم ليكون العهد المبارك مادة لعنوانات بحوثهم وفي جميع المستويات.

ص: 444

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

الإحكام في أصول الأحكام». لسيف الدين الآمدي علي بن سالم (551 - 631). إعداد سيّد الجميلي. الطبعة الثانية، 4 أجزاء في مجلَّدين، بيروت، دار الكتاب العربي، 1406 - 1986 م.

تفسير الطبري: محمد بن جرير الطبري (310 ه) - دار المعرفة - بيروت - 1403 ه.

سنن ابن ماجة: محمد بن يزيد القزويني (275 ه) - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي

- دار الفكر.

الصحاح: للجوهري (393 ه) - تحقيق أحمد عبد الغفور العطار - دار العلم للملايين - بيروت.

صحیح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري (256 ه) - عالم الكتب - ط 5 - 1406 ه.

صحيح مسلم: مسلم بن الحجاج النيسابوري (261 ه) - دار الفكر - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، مكتب الإعلام

الإسلامي، قم.

فقه الدولة: فاضل الصفار، دار الانصار، ط 1، 2005 م، مطبعة باقري، ايران.

القاموس المحيط، مجد الدین محمّد بن يعقوب الفيروز آبادي، دار الجيل، بيروت.

الكافي، ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن إسحاق الكليني الرازي (م 329 ه)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 ه.

لسان العرب، ابن منظور أبو الفضل محمّد بن مكرم (630 - 711 ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408 ه.

مجمع البحرين، ومطلع النيّرين، فخر الدين بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن طريح،

(979 - 1087 ه)، مكتبة الهلال، بيروت، 1985 م.

مسند أحمد، أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241 ه)، دار الفكر، بيروت.

مشكل الآثار: للطحاوي المصري الحنفي محمد بن سلامة المتوفی 321 ه ط. دار

الباز دائرة المعارف النظامية في الهند - حیدر آباد 1333 ه.

معالم الأصول (معالم الدين وملاذ المجتهدين) تأليف: جمال الدين الشيخ الحسن

ص: 445

بن زين الدين الشهيد الثاني العاملي (1011 - 959 ه)، نشر جماعة المدرسين، قم، سنة 1406 ه. ق.

مفردات ألفاظ القرآن: تأليف: أبي القاسم حسين بن محمّد المعروف ب: الراغب

الأصفهاني (.. - 502 ه)، نشر دار الفكر، بيروت.

نهج البلاغة، شرح محمد عبده، نشر لقاء، قم 1425 ه

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: تأليف: الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 110 ه)، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم، الطبعة الأولى، سنة 1409 ه. ق.

جمال

ومغزاها

معناها

المدنية

الدولة

الكنين:

ادريس

/net.alrakoba.www//:http

Dictionary English Oxford Compact Online • Infrastructure() infrastructure/oed concise/com.askoxford.www//:http

(2009,17 (accessed January action. in Principles :Economics (Fo.) Sheffrin .M Steven()

Sullivan

Arthur صفحة 474. ISBN 13-0

is world the in What» .(2009) Jeffrey ،Fulmer -

(August/July) Investor Infrastructure PEL.«?infrastructure

English the of Dictionary Heritage American Infrastructure^ /dictionary/reference/com.yahoo.education//:http , Language

(2009 ,17 infrastructure (accessed January/entry

Dictionary Defense of Department ,02-JP1 ,Infrastructure() 31 .rev) 2001 April 12 ,290.p ,Terms Associated and Military of ADA=AD?GetTRDoc/bin-cgi/mil.dtic.www//:http (2005 August ,17 accessed January)pdf. GetTRDoc=docU2 =Location39918

(2009

ص: 446

المحتويات

التأصيل الفقهي لدور الحاكم في الاسلام

قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...7

المبحث الأول: تأصيل العنوان...9

المطلب الأول: مقاربات مصطلحية...9

المطلب الثاني: صفات الحكم في عهد الامام علي عليه السلام...10

1 - المساواة في العطاء:...11

2 - المساواة أمام القضاء:...11

3 - المساواة في الحقوق والواجبات:...11

4 - انشاؤه بيتاً للمظالم...11

5 - أمرُهُ بكتابة الحوائج

سياسته المالية:...12

1 - مع عقیل:...13

2. مع الحسن والحسين:...13

المطلب الثالث: العهد قراءة تاريخية:...13

اولا: سند العهد تاريخيا:...13

رواه:...13

المطلب الرابع: اهمية نظام الحكم في الاسلام والتنظير الفقهي التاريخي:...14

المبحث الثاني: المفاهيم التي وردت في العهد لمالك الاشتر في دور الحاكم او الوالي الاسلامي...16

ص: 447

اولا: ولاه لغرض:...16

ثانيا: في التعامل مع الرعية / المواطنين:...17

المبحث الثالث: التنظير الفقهي لأدوار الحاكم في الاسلام...23

التنظیر الفقهي لأدوار الحاكم عند جمهور المسلمين:...24

التنظير الفقهي لأدوار الحاكم عند الامامية الاثني عشرية:...27

الخلاصة ونتائج البحث والتوصيات:...30

الهوامش...31

تأصيل فقه العمران عند الامام علي (عليه السلام) مقاربة في عهده لمالك الاشتر

المقدمة...37

المبحث الاول: المقاربة الاصطلاحية للعمران...39

المبحث الثاني: مرتكزات فقه العمران عند الامام علي...45

المرتكز الاول: وحدة العمران البشري والاقتصادي:...46

المرتكز الثاني: تحقيق النفع العام:...46

المرتكز الثالث: مرتكز الاستخلاف والتسخير:...50

أولاً - الاستخلاف:...50

ثانیاً: التسخیر:...54

المبحث الثالث: اجرائیات فقه العمران عند الامام:...57

اولا - اجراءات اولیة...57

ثانیا - بیت المال والخراج والعمران:...61

ثالثا - اولویة العمران علی جلب الخراج:...66

الخاتمة...70

الهوامش...72

المصادر والمراجع:...80

ص: 448

أسس النظام الجنائي الموضوعي الإسلامي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

المقدمة:...87

أهمية البحث:...88

مشكلة البحث:...88

أهداف البحث:...89

منهج البحث:...89

نطاق البحث:...89

المبحث الأول: مبدأ الشرعية الجنائية في فكر الأمام علي (عليه السلام)...90

المطلب الأول / مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية...90

الفرع الأول / تعريف مبدأ الشرعية الجنائية...91

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لمبدأ الشرعية الجنائية...91

أولا: الأساس الشرعي للمبدأ في القرآن الكريم...91

ثانيا: الأساس الشرعي للمبدأ في السنة النبوية الشريفة...92

الفرع الثالث / مبدأ الشرعية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام...92

المطلب الثاني / مبدأ عدم الرجعية في القانون الجنائي في فكر الأمام علي علیه السلام...92

الفرع الأول / مفهوم مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي - الموضوعي...93

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لمبدأ عدم الرجعية...94

أولا: الأساس الشرعي في القرآن الكريم:...94

ثانياً: الأساس الشرعي للمبدأ في السنة النبوية الشريفة...95

الفرع الثالث / مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي في فكر الإمام علي (عليه السلام)...96

المبحث الثاني: أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام...97

المطلب الأول / ماهية أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام...97

الفرع الأول / مفهوم أركان الجريمة...98

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لأركان الجريمة...99

أولا: الأساس الشرعي لأركان الجريمة في القرآن الكريم...99

ص: 449

ثانيا: الأساس الشرعي لأركان الجريمة في السنة النبوية الشريفة...100

الفرع الثالث / تطبيقات أركان الجريمة في فكر الإمام علي عليه السلام...100

المطلب الثاني / أسباب الإباحة في فكر الإمام علي عليه السلام...101

الفرع الأول / تعریف أسباب الإباحة...101

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لأسباب الإباحة...102

أولا: الأساس الشرعي لأسباب الإباحة في القرآن الكريم...102

ثانيا: الأساس الشرعي لأسباب الإباحة في السنة النبوية الشريفة...103

الفرع الثالث / تطبيقات أسباب الإباحة عند الإمام علي عليه السلام...103

أولاً: حق الدفاع الشرعي:...104

ثانيا: استعمال الحق...104

ثالثاً: أداء الواجب...104

المبحث الثالث: المسؤولية الجزائية في فكر الإمام علي عليه السلام...105

المطلب الأول / أساس المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام...105

الفرع الأول / تعريف المسؤولية الجزائية...105

الفرع الثاني / أساس المسؤولية الجنائية في الفكر الإسلامي...106

أولا: أنصار مذهب الجبر:...106

ثانيا: أنصار مذهب حرية الإرادة:...106

ثالثا: المذهب التوفيقي:...107

الفرع الثالث / أساس المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام...108

المطلب الثاني / موانع المسؤولية الجنائية في فكر الإمام علي عليه السلام...109

الفرع الأول / تعریف موانع المسؤولية الجنائية...109

الفرع الثاني / الأساس الشرعي لموانع المسؤولية الجنائية...110

أولا: الأساس الشرعي في القرآن الكريم:...110

ثانيا: الأساس الشرعي لموانع المسؤولية في السنة النبوية الشريفة...110

الفرع الثالث / تطبيقات موانع المسؤولية الجنائية عند الإمام علي عليه السلام...111

الهوامش...112

ص: 450

التنظيم القضائي في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)

الملخص...121

المقدمة...123

اولاً: القضاء لغة واصطلاحاً...123

القضاء في الاصطلاح:...124

المحور الثاني: التنظيم القضائي والاداري في عهد الامام علي (عليه السلام)...124

التنظيم الموضوعي للقضاء...128

قضاة الامام علي (عليه السلام)...130

نماذج من اقضية الامام علي (عليه السلام)...131

الخاتمة...133

الهوامش...134

المصادر والمراجع...137

الموازنة بين العدالة والرعاية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

المقدمة...143

المحور الأول: دولة العدالة والرعاية في العهد العلوي...144

المحور الثاني: نصوص مختارة من العهد...149

الخاتمة...154

الهوامش...156

مالك الاشتر ودوره السياسي في عهد الإمام علي (عليه السلام)

المقدمة...161

نبذة عن حياته:...162

وقائع مهمّة في حياة مالك الأشتر:...163

دوره في استنفار الناس لقتال الناكثين:...166

ص: 451

مواقفه الشامخة في حكومة الامام علي ابن طالب (عليه السلام):...170

المواقف والأدوار الفريدة لمالك الأشتر:...171

بلوغه الوفاة:...172

المصادر...174

المشروع السياسي للأمام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر

المقدمة...179

معنى السياسة...180

مفاهيم السياسة...181

سياسة الامام علي عليه السلام...182

اولا: طلحة والزبير...183

ثانيا: خدعة المصاحف...184

ثالثا: التحكيم...184

الامام عليه السلام والأحاديث...185

الوعي التاريخي عند الأمام عليه السلام...185

الامام عليه السلام ومالك الاشتر رضوان الله عليه...187

العهد العظيم...188

الهوامش...192

المصادر والمراجع:...194

العلاقة بين الحاكم والمحكومين

في ظل عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر

مقدمة...199

المبحث الأول: مضامين حقوق الإنسان في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه...201

اولا: الحقوق الاساسية:...202

المحور الأول:...203

ص: 452

المحور الثاني: الحقوق السياسية:...205

المحور الثالث: الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية:...207

المبحث الثاني: حقوق وواجبات الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام

علي عليه السلام لمالك الأشتر...214

أولاً - واجبات الحاكم:...214

ثانياً - واجبات المحكوم:...222

المبحث الثالث: تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين في ظل عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر...226

اولا: الأساس الشرعي والنظامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم:...227

1 - الأساس الشرعي:...227

أ: من القرآن الكريم:...228

ب: من السنة النبوية...229

ثانيا: الأساس النظامي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم:...230

ثالثا: القواعد التي تبني عليها العلاقة بين الحاكم والمحكوم:...231

1 - التزام العبودية لله تعالى:...231

2 - المساواة العامة بينهما في:...231

3 - القيم الخُلقية العامة :...232

الخاتمة:...233

الهوامش...238

أسس الحكم الصالح ومهام الحاكم الوظيفية

في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر - قراءة سياسية معاصرة في

ضوء واقع العملية السياسية العراقية بعد العام 2003

المقدمة...245

أهمية البحث...247

فرضية البحث...247

مشكلة البحث...248

ص: 453

منهجية البحث...248

هيكلية البحث...248

المحور الأول: أسس الحكم الصالح عند الأمام علي (عليه السلام) في ضوء العهد...249

المحور الثاني: المهام الوظيفية للحاكم...260

المحور الثالث: عهد الإمام علي (عليه السلام) «قراءة سياسية معاصرة في ظل معوقات بناء الدولة العراقية»...271

الأول: تطهير جهاز الدولة...273

الثاني: تأميم الأموال المختلسة...273

أولاً: السياسة المالية...274

ثانياً: السياسة الداخلية...276

ثالثاً: الدعوة إلى وحدة الأمة...277

رابعاً: تربية الأمة...277

الخاتمة...282

الهوامش...285

المصادر...288

السلطة المؤتمنة ومسؤوليتها

في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

المقدمة...293

المبحث الأول: المرتكزات العقائدية للسلطة المؤتمنة في نصوص العهد...296

المطلب الأول: مالكية الله، أساسٌ...296

المطلب الثاني: عدل الله، حقيقة عقلية ونصوص عقدية...299

المبحث الثاني: شروط القائمين على اجهزة السلطة في نصوص العهد...303

المطلب الأول: شروط الوالي والقاضي...303

المطلب الثاني: شروط المستشارين والوزراء والعمال...305

المبحث الثالث: مسؤوليات السلطة المؤتمنة في نصوص العهد...311

ص: 454

المطلب الاول: الجانب الاقتصادي...311

1 - الخراج:...312

2 - عمارة الأرض...313

3 - مصارف الخراج...314

المطلب الثاني: الجانب الدفاعي...317

المطلب الثالث: تقيين العقوبات...319

الإستنتاجات...322

الهوامش...324

المصادر:...330

مالك الأشتر (رضوان الله عليه) قاضياً وحاكماً

- إطلالة تاريخية على الجانب القضائي -

ملخص البحث:...335

- ولادته:...336

- نسبه:...337

- اسمه:...338

- کنیته:...338

- القابه:...338

أ) لقب الأشتر:...338

ب) لقب بكبش العراق:...339

- شخصية مالك الأشتر والصفات التي تميز بها:...339

شجاعة الأشتر:...340

الجانب القضائي:...341

- القضاء:...341

- المظالم:...344

- الحسبة:...347

ص: 455

النتائج:...350

الهوامش...351

أسس اختيار المسؤولين في الدولة عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

في ضوء عهده لمالك الأشتر

سيرة مالك الأشتر...360

صفاته:...361

وفاته:...363

أسس اختيار المسؤولين في الدولة...364

الخاتمة...417

المصادر والمراجع...380

الهوامش:...386

فقه الدولة في العهد العلوي لمالك الأشتر

دراسة معاصرة للبنى التحتية للدولة المدنية

المبحث الأول بیان مفاهیم البحث...394

اولاً: الفقه لغة واصطلاحاً...394

ثانياً: الدولة المدنية...396

ثالثاً: المدنية...399

رابعاً: العهد العلوي...400

خامساً: البنى التحتية...400

المبحث الثاني: البنى التحتية للدولة المدنية...402

المبحث الثالث: المبادئ والمفاهيم الدستورية المرتبطة بالدولة المدنية...415

الخاتمة والتوصيات والمقترحات...442

المصادر والمراجع:...445

ص: 456

المجلد 3

هوية الکتاب

نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

ISBN 9789933582395 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1208 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 N5 2018 LC المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق). العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1). تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي. تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات. موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات. مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة. اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق). عنوان اضافي: عهد مالك الاشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582395 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1208 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 N5 2018 LC المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق). العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم. سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1). تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي. تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات. موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات. موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات. مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة. اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق). عنوان اضافي: عهد مالك الاشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1) نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة لسنة 1438 ه - 2016 م (المحور الإداري والاقتصادي) الجزء الثالث اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الالكتروني: www.inahj.org الايميل:

Inahj.org@gmail.com تنويه: إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الحكم الرشيد في إدارة مؤسسات الدولة قراءة على هدي عهد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

اعداد د. مازن مهدي حبيب العقابي

ص: 5

ص: 6

المصطلحات والمختصرات

المصطلح أو المختصر المعني العهد عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) عامة الناس المواطنين UNDP برنامج الأمم المتحدة الأنمائي المؤسسة الوزارة أو الهيئة أو الشركة أو الدائرة.

E-G Electronic governance Governance- Governance G-G G-C Governance- Citizen G-B Governance -Business

ص: 7

ص: 8

المستخلص

يحاول الباحث أن يببيّن بأن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) عبارة عن منهجية متكاملة لأدارة شؤون الدولة سواء في ذلك العصر أو عصرنا اليوم عصر المعلوماتية وثورة الاتصالات ووسائل الاعلام المختلفة، ومن خلال اعتماد منهجية الحكم الرشيد في ادارة مؤسسات الدولة، وهذه المنهجية التي تتألف من عناصر ومستويات ومتطلبات أمنية، تعمل اليوم الدول جاهدة من اجل السير بخطى واسعة لتطرح نفسها بأسلوب مختلف الأعتماد وتطبيق منهجية تحاكي منهجية الحكم الرشيد التي أوصى بها أمير المؤمنين الأمام علي (عليه السلام).

ص: 9

الفصل الأول: المبحث الأول - المنهجية

المقدمة:

في العام الثالث عشر من البعثة النبوية الشريفة وفي شهر محرم كان الأيذان بهجرة المسلمين من مكة المكرمة الى يثرب، والموافق للعام 622 م، والذي اعتبر فيما بعد بداية لتقويم عُرِف بالتقويم الهجري، وكانت الغاية من هذه الهجرة هو لنشر الاسلام وتعالميه السمحاء في مجتمع من الممكن ان يتقبل انشاء دولة الحكم الرشيد (الدولة العادلة)، والتي تعتمد تشريعاتها وتطبيقاتها على منهجية واحكام السماء، والذي جسده الرسول الاعظم (صل الله عليه واله وسلم) من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، والشورى في الامر و نشر العدالة والمساواة بين المجتمع في المدينة المنورة فضلاً عن مساعدة الضعفاء، والمعاملات الانسانية حتى في وقت الحرب، ومحاربة الكفار والفاسدين حيث استمرت هذه المنهجية كما يرى العديد من الباحثين لغاية وفاة الرسول (صل الله عليه واله وسلم)، ثم تجددت ظهور هذه المنهجية في ايام حكم الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام).

عندما اتخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) من مدينة الكوفة عاصمة للدولة الاسلامية حيث سعى لتطبيق منهجية الحكم الرشيد التي جاءت برسالة الاسلام على لسان خاتم الانبياء الرسول الاعظم محمد (صل الله عليه واله وسلم)، ويتجلى هذا النهج في وصية أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر عندما ولاه مصر حيث اوصاه ب (استصلاح اهلها و جباية خراجها و عمارة بلادها و جهاد عدوها) حيث بيّن الإمام (عليه السلام) من خلال وصيته بضرورة وضع برنامج لادارة الحكم قائم على البناء المعرفي للفرد والمجتمع وايجاد بيئة معرفية فضلاً عن الجانب الاقتصادي والجوانب

ص: 10

الاجتماعية والخدمية ولاسيما الجانب العسكرية أو الامني.

ولكن الفاسدون استمروا في محاربة منهجية السماء وعملوا من اجل تشويهها وتحريفها وسرقة ما تحقق من بناء على المستوى الديني والاجتماعي والسياسي واتبعوا سياسة الترهيب والترغيب في الزيف والتحريف ولغاية عصرنا هذا ولكن السؤال الذي يتبادر الى اذهان الكثيرين ما هو دورنا اليوم وكيف يمكن أن نوجد أنموذجاً لمنهجية الاسلام الأصيل مطرزة بتطبيق حديث وهذا ما سيجري تناوله في هذا البحث.

أولاً / مشكلة الدراسة:

يمكن ايجاز مشكلة الدراسة أو البحث التي يحاول الباحث معالجتها ووضع حلول مناسبة لها من خلال النقاط الأتية:

1- انتشار حالات الفساد الإداري والمالية في المؤسسات العامة والتي امست ظواهر في المجتمع.

2- ازدیاد حالات الفقر والعوز في المجتمع وظهور الطبقية المجتمعية وزيادة الفجوة بين افراد المجتمع.

3- ضياع وهدر في ميزانية الدولة.

4- اهدار لكرامة المواطن واذلاله في الوقوف والانتظار طويلاً؛ لغرض الحصول على خدمة معينة.

5- التعصب في الرأي وعدم قبول الآخر بحجة الأفضلية والأحقية.

6- اختیار مسؤولين غير كفوئين مما يعود سلباً على تقديم الخدمات.

7- ضعف المنظومة الأمنية التي أوصلت البلد الى ما هو عليه اليوم.

ص: 11

ثانياً / هدف الدراسة:

يهدف الباحث من خلال دراسته الى التأكيد على أن منهجية الحكم الرشيد التي جاءت في العهد هي اصل قديم لمفهوم حديث يسمى اليوم بالحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات (الحوكمة الألكترونية)، وكيف يمكن تطوير المنهجية الحديثة من خلال تناول محاور العهد، والذي من الممكن أن يؤسس لمنهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) وبشكل متكامل من الممكن الاستفادة منها واعتمادها لأيجاد حكماً رشیداً لأدارة شؤون الدولة كافة.

ثالثاً / أهمية الدراسة:

تكمن أهمية الدراسة في معالجتها لمواضيع مهمة وخطيراً جداً تمس أمن الوطن والمواطن سواء كان هذا الأمن (غذائي أو سياسية أو بيئي أو اقتصادي أو اصحي أو شخصي فضلاً عن الأمن الأجتماعي)، ووفق منظمة تحرص على تقديم الأفضل وتسعى للوصل الى رضا المستفيدين وفق منهجية الحكم الرشيد.

ص: 12

المبحث الثاني: عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

أولاً / سند العهد:

هذا العهد رواهمحمّد بن الحسن الطوسي من أعلام القرن الخامس، فيذكر الشيخ الطوسي سنداً صحيحاً عند المشهور للعهد، وكذلك النجاشي الذي هو أحد رجالات العلم في الطائفة الإمامية أيضاً روى العهد بطريق آخر صحيح عند المشهور، ورواه الشريف الرضي أخو الشريف المرتضى في كتاب نهج البلاغة، ورواه أيضاً ابن أبي شعبة الحرّاني الذي كان يعيش في أواسط القرن الرابع المعاصر للشيخ الصدوق في کتابتحف العقول، ورواهالقاضي النعمان، وهو من علماء الإمامية، وكان قاضياً أيام حكمالفاطميينفيمصر في القرن الرابع والخامس، رواه في كتابهدعائم الإسلام، إذن عهد مالك الأشتر له العديد من المصادر (1).

ثانياً / نص العهد (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أميرُ المؤمنينَ مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسنه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله.

ص: 13

ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت.

وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته.

ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير.

وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطا من إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفي إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده.

ص: 14

ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضی العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغرك لهم وميلك معهم. (3)

وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عیوبا الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد. واقطع عنك سبب كل وتر. وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصدیق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله.

إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأئمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالم على ظلماً ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا،

ص: 15

وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك.

ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما کره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهُم على أن لا يطروك، ولا يَجَحُوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة، وتدني من الغِرَّرة. ولا يكون المحسن والمسيئ عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.

واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استکراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن فیکون الأجر لمن سنها. والوزر عليك بها نقضت منها. (4)

وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه، عهداً منه عندنا محفوظاً!

ص: 16

فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام الهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها. ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.

ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء. ومن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف.

ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به. ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو. فإن عطفك عليهم يعطف

ص: 17

قلوبهم عليك. (5)

وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية. وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلی ذوو البلاء منهم. فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله . ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلی، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً.

واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل.

ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه

ص: 18

بالهوى، وتُطلب به الدنيا!

ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا توهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك.

ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة (6)

وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحاً وصلاحهم صلاح لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من

ص: 19

الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. (7)

ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يُضعف عقداً اعتقده لك، ولا يَعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت عنه ألزمته.

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتکاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من

ص: 20

الإحتكار فإن رسول الله، منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف.

ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.

واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع». ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار. (8)

ص: 21

ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيى عنه كتابك. ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض عمله فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك، إقامة فرائضه التي هي له خاصة. فأعط من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ. وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، الله وكن بالمؤمنين رحيما.

وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطية، أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال. ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل

ص: 22

مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة.

وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك والله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن. (9)

وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحُط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر! فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره. فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه.

ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك.

ص: 23

إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.

وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ». وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه. وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.

املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك وغرب لسانك. واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الإختيار. ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا، أو فريضة في کتاب الله، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع

ص: 24

نفسك إلى هواها، فلن يعصم من السوء ولا يوفق للخير الا الله تعالى. (10)

وقد كان فيما عهد اليّ رسوله في وصايا «تحضيضاً على الصلاة والزكاة وما ملكت ایمانكم» فبذلك اختم لك ما عهد، ولا قوة الاّ بالله العظيم.

وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، وإنا إليه راغبون. والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيرا (11).

ثالثاً / دراسة العهد من قبل بعض الباحثين:

تناول دراسة العهد العديد من الباحثين والمفكرين سواء الاسلاميين منهم أو غير الاسلاميين وقد صنفوا في العهد الى أكثر من ثلاثين محوراً اساسياً تناوله العهد لتطبيق حكماً رشيداً جاءت به النظرية الاسلامية وكما يأتي:

1. السيرة الحسنة (الامر بالتقيد بالقانون وضبط النفس).

2. العلاقة مع الرعية (العمل الصالح والرحمة بالناس والعفو).

3. عدم التكبر (اطاعة القانون وعدم التكبر).

4. العدل والانصاف (الحذر من ظلم العباد و سخط الناس).

5. الوشاة (المخبر والواشي).

6. الاستشارة (الحذر من اختيار المستشار البخيل والجبان).

7. دور الوزراء وصفاتهم (عدم استخدام مسؤول سابق خائن لشعبه).

8. الاحسان، السنة (الاحسان وحسن الظن).

9. دور العلماء (مجالسة العلماء والخبراء).

ص: 25

10. العلاقة بين طبقات المجتمع (مراعاة المستضعفين من الناس).

11. دور قادة الجيوش والعلاقة بهم (صفاة قادة الجيش ورعايتهم للجنود).

12. اختيار القضاة (استخدام التقاة الصادقين).

13. الشبهات (نهي المسؤول عن التسرع والاستئثار).

14. اختيار العمال والولاة (اختيار المحافظين، اختيار المديرين والقضاة).

15. خيانة العمال (مراقبة اعمال المحافظين والمسؤولين المقربين).

16. الخراج ومالية الدولة (توفير الخدمات للناس أولاً ثم الضرائب)

17. الكتاب وأصحاب الديوان (اختيار السكرتير والجهاز الاداري والمالي).

18. التجار والاحتكار (منع الاحتكار ومعاقبة المحتكر).

19. الاهتمام بالفقراء (رعاية ذوية الدخل المحدود من الناس).

20. اصحاب الحاجات والمصالح (رعاية الايتام والمسنين).

21. واجبات الحاكم (لقاء المسؤول المباشر مع الناس وادابه).

22. أداء الفرائض (امامة الناس في الصلاة وبساطتها).

23. عدم الاحتجاب عن الناس (عدم اطالة الاحتجاب عن الناس).

24. دور الحاشية (الحذر من الحاشية ومراقبتهم).

25. العلاقة بالأعداء والعهود معهم(الحفاظ على العهد مع العدو).

26. اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم.

27. اجابة المسؤولين في درجة اقل.

28. جدولة العمل العمل اليومي وبذل الجهد.

29. الركون الى الصلح ومنع الحرب.

30. حفظ حرمة دم المواطن.

31. النهي عن المنة واعجاب المسؤول بنفسه.

ص: 26

32. التجارة والصناعة.

33. رعاية وجهاء الناس.

34. ادامة العمل الجيد السابق.

35. الدعاء لنفسه ولمالك بالتوفيق وعاقبة الشهادة.

نلحظ من خلال ما تقدم من هذا التنصيف الذي جاء به بعض الباحثين بأن العهد تناول مفاصل ادارة الدولة كافة؛ لاعتمادها كمنهجية الحكم الرشيد في ادارة شؤون الدولة ولتطبيق النظرية الاسلامية الصحيحة، فلم يترك العهد شاردة ولا واردة الاّ وتناولها بدأً من الحاكم وسيرته الخاصة ووعيه وارادته في اعتماد هذه المنهجية مروراً بعلاقته بعامة الناس (المواطنين) والعلاقة بين بعضهم البعض، والاهتمام ببعض الشرائح المهمة في المجتمع، وكيفية التواصل وبين المواطنين والحاكم، واختيار العاملين في ادارة الدولة، معززاً العهد بالاهتمام بالجانب الاقتصادي والقائمين عليه، فضلاً توظيف الموارد في عمارة الدولة، وكيفية حماية ارض الدولة من خلال الاختيار المناسب عن لقادة الجيش والجنود.

رابعاً / قالوا في العهد:

بعد ان اطلع العديد من الباحثين والمهتمين في الرسائل الحقوقية، وادارة شؤون المنظمات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، كانت لهم الكثير من الاقوال والتمجيد بوصف العهد وكما يأتي لبعض منهم:

- ميشيل هاملتون مورغان: جاء في كتاب los history الموجود حاليا في مكتبة الكونغرس الامريكي بواشنطن لمؤلفه الكاتب الامريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان الذي يذكر فيه اعجابه الفائق بالسياسة الحكيمة لشخص خليفة المسلمين

ص: 27

علي بن ابي طالب بعد ان اطلع على رسائله التي حررها الى ولاته في الامصار الاسلامية ومنهم مالك الاشتر مؤكدا عليهم ان يعاملوا المواطنين من غير المسلمين بروح العدل والمساواة في الحقوق والواجبات. فالكاتب الاجنبي اعتبر ذلك انعكاسا صادقا لسلوكيات الخليفة الحميدة المؤطرة بفضائل الاخلاق التي اهلته للدخول في تاريخ الانسانية من ابوابه العريضة. (13) (14)

- المؤرخ المصري «توفيق أبو العلم»: كان علي بن ابي طالب شخصية خصبة، انه كان مظهراً من مظاهر التكامل الانساني، بعد ان انتخبه المسلمون خليفة للمسلمين، بدأ بتطبيق برنامجه الاصلاحي في اشاعة العدل والمساواة بين ابناء الامة الاسلامية بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم ولغتهم ولون بشرتهم واتجاهاتهم السياسية والاجتماعية. لقد امر الولاة ان يكونوا رحماء مع رعاياهم كما تجلى ذلك في رسالة الامام عام 656 م الى والي مصر مالك الاشتر. (15)

- الكاتب المسيحيّجورج جرداققال: هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاته بمثل هذا القول في الناس: «فإنّهم إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، أعطِهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه.

ص: 28

الفصل الثاني: المبحث الأول: الحكم الرشيد

المقدمة:

سنتناول في هذا المبحث الحكم الرشيد لغة واصلاح، ومعنى الحكم الرشيد في القرآن الكريم فضلاً عن الحكم الرشيد في عن الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، وما هي المنهجية التي تتبعها اليوم الدول التي تدعي بأنها تسعى لتطبيق الحكم الرشيد، وما توصل اليه اخر الباحثين في هذا المجال.

أولاً / معنى الحكم الرشيد لغة واصطلاح:

الحكم الرشيد من صفات الله (عز وجل) الحكم والحاكم. بمعنى هو القاضي يحكم الأشياء ويتقنها. وقيل حكيم ذو الحكمة أي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وبمعنى قادر عليه. حكمت بمعنى منعت: قيل الحاكم بين الناس، لأنه يمنع الظالم عن الظلم. أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، والحكم: هو القضاء وجمعه أحكام، حكم: قضى، والحاكم منفذ الحكم». وحديثاً، الحكم هو ما تفعله الدولة، والحكم الرشيد هو ما يجب أن تفعله الدولة، ويعبر بعض الباحثين والكتاب عن الحكم الرشيد ب (الحاكمية، الحكم الراشد، الحكم السليم، والحكم الصالح) والتي لها نفس المضمون (16) (17)

ص: 29

ثانياً / الحكم الرشيد في القرآن الكريم:

ان الله (سبحانه وتعالى) أوهب الحكم لبعض الصالحين من عباده وعلى رأسهم الانبياء، ونلاحظ ان الله (عز وجل) يذكر كذلك هبته لهم العلم النافع والرشيد لحكمهم وتحكم الآيات برشد حکمھم کما جاء في قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا» - النمل (15)، وقوله تعالى: «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ» - البقرة (251)، وقوله تعالى عن ال ابراهيم: «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» - النساء (54)، وكذلك في الحديث عن نبي الله يوسف (عليه السلام) قوله تعالى: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» - يوسف (101)، وقوله تعالى عن ذي القرنين «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا» - الكهف (83-84)، بل ان الله سبحانه وتعالى أوضح انه سبحانه ارسل الرسل ومعهم الكتب اي المنهج الرشيد ليقوم الناس بالقسط فلا عدل، ولا سعادة ولا رشد بدون اتباع سبل الانبياء كما في قوله تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحديد (25).

ص: 30

ثالثاً / الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:

هو المستقبل الذي تسعى إليه البلدان جاهدة نحو تشكيل حكومة خالية من الفساد أو هو الاستخدام التكنولوجي الذي يساعد في ادارة الحكم وصولاً الى رضا المستفيد، بينما يعرف برنامج الامم المتحدة الانمائي (UNDP) «فهو ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والادارية؛ لإدارة شؤون الدولة على المستويات كافة، ويشمل الاليات والعمليات، والمؤسسات التي من خلالها يعبّر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم، ویمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل خلافاتهم (19)، وفي اعتقادي ان الحكم الرشيد «عبارة عن منهجية تستخدم في ادارة شؤون الدولة حاکماً و محکومین و تسعى للوصول الى رضا المستفيدين من خلال الاعتماد على مجموعة من العناصر (الشفافية، المشاركة، العدالة والمساواة، الموثوقية، الفاعلية، المساءلة، الاتقان الاداري، الخدمة التنظيمية، التكاملة، التنبوء) معززة بالمكونات الرئيسة لمنظومة التنيمية الموسعة، وقد يتنوع تطبيق هذه المنهجية من فترة الى اخرى وحسب التطورات التي تحدث» (20).

رابعاً / مكونات الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:

يتألف مخطط الحكم الرشيد من عناصر ومستويات ومتطلبات أمنية وكما موضح في الاشكال رقم (1، 2، 3). (21)

ص: 31

عناصر الحكم الرشيد الحوكمة الالكترونية

- الشفافية - المشاركة - الموثوقية - العدالة والمساواة - الفاعلية - المساءلة - الاتقان الاداري - الخدمة التنظيمية - التكاملية - التنبؤ8

الشكل رقم (1) يوضح عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance) مستويات الحكم الرشيد الحوكمة الالكترونية مستويات الحوكمة الالكترونية مستوی حکومي - اعمال (G-B) مستوي حکومي - مواطن (G-C) مستوى حکومي - حکومي (G-G)

الشكل رقم (2) يوضح مستويات الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance)

ص: 32

المتطلبات الأمینة المعلومات

- حفظ المعلومات - إدارة المعلومات - مخاطر المعلومات - أجهزة المعلومات - إدامة المعلومات - تحديات المعلومات - أنظمة المعلومات - إقتصادية المعلومات

الشكل رقم (3) يوضح المتطلبات الامنية للحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance)

الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية)

عناصر الحوكمة الالكترونية

- السفاقیه - المشارکة - الموثوقة - العدالة والمساواة - الفاعلیه - المساعله -الاتقان الاداری - الخدمة التنظیمية - التكاملية - التنسو

مستويات الحوكمة الالكترونية مستوی حکومي - اعمال (G-B) مستوي حکومي - مواطن (G-C) مستوى حکومي - حکومي (G-G)

متطلبات أية المعلومات

-حفظ المعلومات - أجهزة المعلومات - انظمة المعلومات - إدارة المعلومات - إدامة المعلومات - اقتصادية المعلومات - مخاطر المعلومات - تحدیات المعلومات

الشكل رقم (4) يوضح الهيكل الشامل لمنهجية الحكم الرشيد أو الحوكمة الالكترونية

ص: 33

يظهر من خلال الشكل رقم (4) الهيكل الشامل لمنهجية الحكم الرشيد التي تتألف من عشرة عناصر وثلاث مستويات وثمانية متطلبات أمنية مرتبطات مع بعضها البعض لتكون هیکلاً معايير اساسية لادارة الدولة وفيما يأتي تفاصيل لكل عنصر من هذه العناصر والمتطلبات الامنية فضلاً عن المستويات، حيث ان لكل عنصر من العناصر أو مطلب أمني له معايير وشروط يجب ان تتبعها الدولة لايجاد البيئة الداعمة لمفهوم الحكم الرشید.

ص: 34

المبحث الثاني: منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية)

تتألف منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) من عشرة عناصر وثلاثة مستويات وثمانية متطلبات أمنية والتي سيجري تناولها وبيان كل منها في الأشكال الأتية: (23)

1- عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance) (24)

تتألف عناصر الحكم الرشيد أو الحوكمة (Governance) من عشرة عناصر وهي کما موضحة في الأشكال الأتية في أدناه:

- عنصر الشفافية وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى الشفافية وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (5)

ص: 35

الشفافية تفصح ادارة المنظمة بوضوح تام عن النتائج التشغيلية والاستثمارية لجميع اعمالها. تعلن الحوافز والمكافأت التشجيعية التي تمنحها الادارة للموظفين داخل المنظمة. لا تتأخر المنظمة في توضيح السياسات الخاصة باجراءات العمل. تعد المنظمة مبدأ الشفافية اداة رئيسة في مواجهة الفساد بأنواعه المختلفة. الشكل رقم (5) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر الشفافية في منهجية الحكم الرشید

ص: 36

- عنصر المشاركة وماذا تعني؛

يمكن ان نبين معنى المشاركة وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (6) (25)

المشاركة تعقد الادارة المنظمة لقاءات واجتماعات دورية مع الموظفين لغرض تبادل وجهات النظر الخاصة بالعمل.

یتصف الهیکل التنظیمي للمنظمة بالمرونة ويعا يكفل حق مشاركة الجميع في عملية صنع القرارات التنظيمية المختلفة.

أن المناخ التنظيمي في المنظمة يعزز القرارات التشاركية في الجوانب الفنية والادارية.

تشيع القيادات العليا روح التعاون المتبادل بين الموظفين واداراتهم.

الشكل رقم (6) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر المشاركة في منهجية الحكم الرشيد

ص: 37

- عنصر الموثوقية وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى الموثوقية وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (7).

الموثوقية تحرص المنظمة على مشاركة المستفيدين في تقديم الأفكار الجديدة. لا تفتقر النظرة إلى الاليات المتحددة لتعمیق معرفتها بحاجات المستفيدين وتلبيتها. تخصص المنظمة ما يكفي من الوقت لتقييم جودة الخدمات التي تقدمها المنظمة. تعد المنظمة على مصادر متعددة من أجل الحصول على افكار مبتكرة لتحسين خدماتها.

الشكل رقم (7) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر الموثوقية في منهجية الحكم الرشيد

ص: 38

- عنصر العدالة والمساواة وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى العدالة والمساواة وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (8). (27)

يخضع جميع الموظفين للقواعد المحددة للسلوك الاداري و على اختلاف مستوياتهم الإدارية. تتسم قرارات العمل المتخذة من قبل المدير بعدم التحيز. تمنح المكافات التشجيعية بناءا على مستوى الأداء الفعلي. تقدم الادارة تفسيرات مقعة عند اتخاذها القرارات الخاصة بالتوظيف والنقل والترقية.

الشكل رقم (8) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر العدالة والمساواة في منهجية الحكم الرشید

ص: 39

- عنصر الفاعلية وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى الفاعلية وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (9). (28)

الفاعلية تمتلك المنظمة معرفة بطبيعة التغييرات التنظيمية المطلوب احداثها عند تنقية البرامج الجديدة. تحدد ستراتيجية المنظمة في المستويات العلیا للإدارة مع مشاركة بسيطة للادارات الوسطى. يلتزم المديرون والموظفون في جميع اجزاء المنظمة يتحقیق الاهداف العامة. تتميز العمليات الداخلية في المنظمة بالانسيابية العالية بسبب وضوح المسارات الوظيفية لكل من يعمل في المنظمة.

الشكل رقم (9) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر الفاعلية في منهجية الحكم الرشيد

ص: 40

- عنصر المساءلة وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى المساءلة وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (10). (29)

المساءلة تسم عملية التنظيم بالتحديد الواضح لانشطة ومسؤوليات كل مركز وظيفي. تنقذ الاجراءات التي تضمن تحقيق اعداد التقارير المالية النزيهة. تلتزم جميع الوحدات الادارية بعملية مراجعة اجراءات الشراء والتجهيز الخاصة بها. تتبنى ادارة المنظمة مبدأ الرقابة الذاتية وتحاول نشره في كل اجزاء المنظمة.

الشكل رقم (10) یوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر المساءلة في منهجية الحكم الرشید

ص: 41

- عنصر الأتقان الاداري وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى الأتقان الاداري وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (11). (30)

الأتقان الأداري تتوفر لدى المنظمة اجهزة ذات كفاءة وفاعلية عالية تستخدم في انجاز المهام. تقوم الادارة باجراء اصلاحات و تغییرات ادارية بشكل دوري ومتواصل. تسعى ادارة المنظمة للقضاء على الفساد الاداري والمالي وتقليل الاخطاء الفنية في الاداء. تتجه ادارة المنظمة نحو توزيع الصلاحيات بين المستويات الادارية المختلفة للوحدات التابعة تقوم الإدارة لها.

الشكل رقم (11) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر الاتقان الاداري في منهجية الحكم الرشید

ص: 42

- عنصر الخدمة التنظيمية وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى الخدمة التنظيمية وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (12). (31)

الخدمة التنظيمية تهدف المنظمة الى تعزيز وبناء قطاع عام يتسم بالكفاءة والفاعلية وقادر على خدمة المجتمع. يتسم الهيكل التنظيمي في وحدات الخدمة العامة التابعة للمنظمة بالتخصص الوظيفي ورصانة التأهيل والترشيق الاداري. تؤكد ادارة المنظمة على وجوب عملية تقييم البيئة المؤسسية التي تعمل فيها وتعرض نتائج التقييم على مجلس الادارة وتناقش بشكل تفصيلي. يشمل تقييم الأداء وتصحيحه جميع المستويات الادارية ولا يستثني اي موظف او مدیر من تقييم الاداء.

الشكل رقم (12) یوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر الخدمة التنظيمية في منهجية الحكم الرشيد

ص: 43

- عنصر التكاملية وماذا تعني:

يمكن ان نبين معنى التكاملية وكيفية اعتمادها من قبل المؤسسات من خلال الشكل رقم (13). (32)

التكاملية يتخذ المديبرون القرارات بشكل اقل عدائية واكثر قدرة على تحديد ما يمثل المصلحة العامة للمنظمة والمجتمع معا. يلتزم جميع من في المنظمة بقواعد المحاسبة عن مستويات أدائهم وهم متهینين دائما للمسائلة عن طبيعة مهامهم. تهتم ادارة المنظمة باراء ومقترحات التطوير لجميع الموظفين سواء الفنيين أو الأداريين. لا تتنازل المنظمة عن حقوق موظفيها في الحصول على المعلومات الجديدة المتعلقة بادائهم لاعمالهم. الشكل رقم (13) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد عنصر التكاملية في منهجية الحكم الرشید

ص: 44

- عنصر التنبوء وماذا يعني:

يمكن ان نبين معنى التنبوء من الاطلاع على التجربة المصرية الخاصة بأستمارة الحصر الحيازي وكما يأتي: (33)

التنبوء والحيازة الالكترونية مثالاً

* اعلنت جمهورية مصر العربية انه خلال عام 2016 سيجري اطلاق استمارة الحصر الحيازي في القطاع الزراعي ومن خلال هذه الاستمارة سيتم حصر مالكي قطع الاراضي الزراعي فضلاً عن مستاجريها.

* سيتم ربط استمارة الحصر الحيازي بالرقم القومي للشخص المعني.

* فوائدها (التنبوء باستهلاك المياه ونوع ومساحة المحاصيل الزراعية وتحسين سياسة تسعيرها والحد من التعديلات على الاراضي الزراعية الخصبة والخيارات الوهمية).

* ان تطبيق الحيازة الالكترونية سيشمل مساحةً تقدر ب (9) ملايين فدان يستفيد منها (6) ملايين مزارع.

* ان هذا التطبيق يمكن من (توفير الرؤية لمتخذي القرار في رسم الاستراتيجيات والسياسات الزراعية والسمادية على المستوى القومي واتخاذ القرارات المناسبة)

وهكذا يمكننا ان نتنبأ بكميات المياه التي تحتاجها فضلاً عن نوع المحاصيل التي ستزرع في اي مكان وحسب جاهزية الارض واحتياجات المواطنين بالاضافة الى الاماكن التي ستسوق لها.

ص: 45

2- مستويات الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance):

تتألف من ثلاثة مستويات: (34) (35)

أ- المستوى (حكومي - حكومي) ومختصره (G-G) وهو المستوى المتعلق ما بين الوزارات والمؤسسات الحكومية وكيفية التنسيق ما بينها من حيث الوثائق والمعلومات وطرح نفسها كوحدة واحدة.

ب- المستوى (حكومی - مواطن) ومختصره (C- G) وهذا المستوى متعلق بالعلاقة ما بين المواطن والحكومة من ناحية تقديم الخدمات للمواطنين بطريقة سهلة وذات جودة عالية وبما يحفظ كرامة وحقوق المواطنين وتكون وتكون من خلال الموقع الرسمي أو ما يسمى بوابة الحكومة الالكترونية.

ت- المستوى (حكومي - اعمال) ومختصره (G-B) ويختص هذا المستوى بالجانب المتعلق بالعقود والمناقصات فضلاً عن التسجيل والتعاملات مع الشركات سواء كانت شركات محلية أو دولية فضلاً عن التسهيلات التي تخص جانب الاستشمار.

وكما موضح في الشكل رقم (2).

ص: 46

3- المتطلبات الأمنية للحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance):

تتألف المتطلبات الأمنية للحكم الرشيد أو الحوكمة (Governance) من ثمان متطلبات وهي کما موضحة في الأشكال (3).

أ- حفظ المعلومات: ويمكن بيان معنی حفظ المعلومات من الشكل رقم (14) (36)

متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية حفظ المعلومات يمتلك المديرون وعياً كافياً وألماماً واضحاً بموضوع الحوكمة الالكترونية. توجد في المنظمة تشكيلات خاصة بالأمن الالكتروني ورسم سياسات الدفاع والهجوم الإلكتروني. تضع ادارة المنظمة مكافأت لمن يساعدها في كشف الخروقات الالكترونية التي قد تحدث خلال الداء الأعمال وتقديم الخدمات. تعمل الإدارة على تعزيز الثقة والامن لدى الموظفين في استعمال تكنولوجيا الاتصالات وبما يوفر أمن المعلومات والخصوصية والسرية في عمليات الاتصال. الشكل رقم (14) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن حفظ المعلومات في منهجية الحكم الرشید

ص: 47

ب. اجهزة المعلومات: ويمكن بيان معنى اجهزة المعلومات من الشكل رقم (15) (37) (38)

متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية

اجهزة المعلومات توقر ادارة المنظمة مواقع حكومية وأماكن تواجد رسمية تعمل على صيانة أنظمتها. ضرورة اجراء مسح راداري لاسلكي بين فترة واخرى للتأكد من عدم وجود أجهزة تنصت الكترونية. تحظى المنظمة بقوانين تعاقب المتسللين وقراصنة المعلومات وبما يوفر الحماية للانظمة المعتمدة فیها. تلجأ إدارة المنظمة الي استخدام برامج معالجة الفايروسات الحديثة (الأنتي فایروس) لحماية اجهزتها من الدخول لغير المصرح له ونشر الفايروس عبر الانترنت.

الشكل رقم (15) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن أجهزة المعلومات في منهجية الحكم الرشيد

ص: 48

ت. أنظمة المعلومات: ويمكن بيان معنى أنظمة المعلومات من الشكل رقم (16) (39) (40).

متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية انظمة المعلومات يجري تحويل الاشخاص الذين يدخلون مواقع نظام المعلومات (حجرة الكومبيوتر أو مركز المعلومات) بشكل دقيق وواضح. هناك شروط تؤكد عليها ادارة المنظمة وهي شروط محددة وواجية التنفيذ عند نقل وتخزين المعلومات في جميع اجزاء المنظمة. يجري اعداد نسخ اضافية مسائدة لكل البرمجيات وملفات البيانات حتى يمكن استعادتها في حالة الكوارث او حالة الفقدان. لا يمكن اختراق انظمة المعلومات وقواعد البيانات داخل المنظمة وذلك لتطبيق آليات تشفير عالية الجودة يجري صيانتها باستمرار.

الشكل رقم (16) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن أنظمة المعلومات في منهجية الحكم الرشید

ص: 49

ث. ادارة حفظ المعلومات: ويمكن بيان معنى ادارة المعلومات من الشكل رقم (17) (41) (42)

متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية ادارة المعلومات تلجأ المنظمة الي وضع مقاييس لامن وسلامة المعلومات التي تحتاجها الانجاز اعمالها. وجود تنسيق لاعمال الامن في المنظمة بكل قطاعاتها وادارائها واقسامها. تستخدم ادارة الاقسام والشعب الكلمات المفتاحية الخاصة بكل جهاز حاسوب مستخدم بحيث لا يستطيع اي موظف ان يستخدم حاسوب موظف اخر. يوجد تنسيق عالي لاعمال الامن في المنظمة بما يشمل جميع اداراتها واقسامها وشعبها التنظيمية. الشكل رقم (17) یوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن ادارة المعلومات في منهجية الحكم الرشيد

ص: 50

ج. ادامة المعلومات: ويمكن بیان معنی حفظ المعلومات من الشكل رقم (18) (43) (44) متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية ادامة المعلومات ترتبط جميع الحواسيب في المنظمة بحاسوب واحد رئيس يسيطر عليه المدير العام أو من یخوله. توکد ادارة المنظمة على تنفيذ حملات وبرامج للتوعية والتدريب على أمن المعلومات. تتوفر أنظمة مقومات طوارئ بديلة عن انظمة المعلومات الأصلية في المنظمة. تصدر الادارة تقارير مستمرة عن الاحداث التي تتعرض لها المنظمة فيما يخص أمن المعلومات.

الشكل رقم (18) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن أدامة المعلومات في منهجية الحكم الرشید

ص: 51

ح. اقتصادية المعلومات: ويمكن بیان معنی اقتصادية المعلومات من الشكل رقم (19) (45) (46) متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية اقتصادية المعلومات يحاول المديرون تقليل الاضرار المادية عن طريق التعلم من الازمات الماضية وضمان عدم تكرارها مستقبلاً. تؤكد ادارة المنظمة على حماية البنية الاساسية أو التحتية المسائدة. تحرص الإدارة على أن تكون التكاليف قليلة وواضحة بالنسبة للأفراد وبما يرتبط يحفظ و ادامة المعلومات. يجري الوصول الى البيانات التي يحتاجها المديرين والموظفين بشكل غير مكلف.

الشكل رقم (19) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن أقتصادية المعلومات في منهجية الحكم الرشيد

ص: 52

خ. مخاطر المعلومات: ويمكن بيان معنى مخاطر المعلومات من الشكل رقم (20) (47) (48) متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية مخاطر المعلومات ينبغي زيادة الوعي بالمخاطر التي تواجه نظم المعلومات واللجوء المستمر لطرائق التأمين والانقاد المتوافرة من اجل التغلب على تلك المخاطر. لا تعاني الادارات في اقسام المنظمة من ضياع المعلومات القيمة والمهمة بمرور الزمن. تمتلك المنظمة قانونا داخليا خاصا بها يؤكد فرض العقوبات على جواسيس المعلومات ويمنع الانتهاكات ولصوصية المعلومات التي ترتبط باعمال وتعاقدات المنظمة. تتميز اعمال المنظمة بعدم الارتباك والمصداقية في اعلان المعلومات الخاصة بصفقاتها أمام الرأي العام والأجهزة الرقابية المسؤولة.

الشكل رقم (20) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن مخاطر المعلومات في منهجية الحكم الرشيد

ص: 53

د. تحديات المعلومات: ویمکن بیان معنی تحديات المعلومات من الشكل رقم (21) (49) (50) متطلبات أمنية المعلومات في الحوكمة الالكترونية تحديات المعلومات يوجد اطار عام لمساعدة المسؤولين في المنظمات العامة والخاصة لتطوير وتنفيذ مقاييس واجراءات وتعاملات متناسقة مع أمن المعلومات ونظمها. تلقى المنظمة تعاون دولي متميز في تحقيق أمن نظم المعلومات التي تعتمدها في كافة اقسامها وشعبها التنظيمية. تقدم المنظمة في جميع اعمالها تسهیلات اتصال الإدارة بالموظفين من جهة وبالزبائن من جهة اخرى. تمتلك المنظمة دليل تعريفي رسمي يبين للمديرين والموظفين فيها طبيعة التطبيقات التي ترتبط بكل من يتعامل مع البيانات والمعلومات داخل المنظمة. الشكل رقم (21) يوضح المحاور الرئيسة لأعتماد أمن تحديات المعلومات في منهجية الحكم الرشيد

ص: 54

الفصل الثالث المبحث الأول عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) ومحاكاته لعصر ثورة المعلومات

المقدمة:

بعد ان بينّا في المبحث الثاني من الفصل الثاني معنى الحكم الرشيد، والتعريف الخاص بالامم المتحدة والذي مضمونه «ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والادارية؛ لإدارة شؤون الدولة على المستويات كافة، ويشمل االيات والعمليات، والمؤسسات التي من خلالها يعبّر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم، ویمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل خلافاتهم (51)، منظمة الأمم المتحدة والتي لا يخفي بأنها تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أن هذه المبتنيات التي تعتمدها اليوم لقياس ترتيب الدول في ممارسة تطبيق منهجية الحكم الرشيد من خلال تقاریریها التي تقوم بأعدادها ونشرها كل عامين، فقد شرعت بها بعد الألفية الثانية الميلادية، في حين نجد أن الأمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) قد تناول هذه المنهجية كلها في اجزاء من العهد و بتفصيلاً أكثر دقة ومحاكاة لواقع ادارة الدولة، ومما تقدم في العرض سنجري عملية محاكاة ما بين منهجية الحكم الرشيد بمفهوم اليوم (الحوكمة الالكترونية) وعهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) نبیّن کیف

ص: 55

ان العهد قبل اكثر من الف واربعمائة عام كان اكثر شمولية في مفهوم ادارة الدولة وفق منهجية الحكم الرشيد.

أولاً / توظيف العهد والأمم المتحدة:

اعتمدت الرسالة في الأمم المتحدة؛ كونها من أوائل الرسائل الحقوقية، والتي تحدد الحقوق الواجبات بين الدولة والشعب؛ هذا العهد وصل إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة عبر زوجته السويدية [5]، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة «إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم»، والعبارة هي: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق» [6]، وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام لمالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب المالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي [7]، وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة غير عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر کمصادر للقانون الدولي.

ص: 56

ثانياً / المحاور الرئيسية والفرعية للعهد والسعي لأقامة للحكم الرشيد:

يتألف العهد من اربعة محاور رئيسة لايجاد الحكم الرشيد وهي:

1. استصلاح أهلها.

2. جباية خراجها.

3. عمارة بلادها.

4. جهاد عدوها.

أما المحاور الفرعية فقد تناول العديد من الباحثين والكتّاب واشاروا الى ما يزيد عن الثلاثين محور فرعي يفترض على الحاكم ان يراعيها من اجل ايجاد بيئة مؤاتية لتطبيق الحكم الرشيد وهذه المحاور هي:

1- السيرة الحسنة (الامر بالتقيد بالقانون وضبط النفس).

2- العلاقة مع الرعية (العمل الصالح والرحمة بالناس والعفو).

3- عدم التكبر (اطاعة القانون وعدم التكبر).

4- العدل والإنصاف (الحذر من ظلم العباد و سخط الناس).

5- الوشاة (المخبر والواشي).

6- الاستشارة (الحذر من اختيار المستشار البخيل والجبان).

7- دور الوزراء وصفاتهم (عدم استخدام مسؤول سابق خائن لشعبه).

8- الاحسان، السنة (الاحسان وحسن الظن).

9- دور العلماء (مجالسة العلماء والخبراء).

10- العلاقة بين طبقات المجتمع (مراعاة المستضعفين من الناس).

ص: 57

11- دور قادة الجيوش والعلاقة بهم (صفاة قادة الجيش ورعايتهم للجنود).

12- اختيار القضاة (استخدام التقاة الصادقين).

13- الشبهات (نهي المسؤول عن التسرع والاستئثار).

14- اختبار العمال والولاة (اختيار المحافظين، اختيار المديرين والقضاة).

15- خيانة العمال (مراقبة اعمال المحافظين والمسؤولين المقربين).

16- الخراج ومالية الدولة (توفير الخدمات للناس أولاً ثم الضرائب)

17- الكتاب وأصحاب الديوان (اختيار السكرتير والجهاز الإداري والمالي).

18- التجار والاحتكار (منع الاحتكار ومعاقبة المحتكر).

19- الاهتمام بالفقراء (رعاية ذوية الدخل المحدود من الناس).

20- اصحاب الحاجات والمصالح (رعاية الايتام والمسنين).

21- واجبات الحاكم (لقاء المسؤول المباشر مع الناس وادابه).

22- أداء الفرائض (امامة الناس في الصلاة وبساطتها).

23- عدم الاحتجاب عن الناس (عدم اطالة الاحتجاب عن الناس).

24- دور الحاشية (الحذر من الحاشية ومراقبتهم).

25- العلاقة بالأعداء والعهود معهم (الحفاظ على العهد مع العدو).

26- اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم.

27- اجابة المسؤولين في درجة اقل.

28- جدولة العمل العمل اليومي وبذل الجهد.

29- الركون الى الصلح ومنع الحرب.

30- حفظ حرمة دم المواطن.

31- النهي عن المنة واعجاب المسؤول بنفسه.

32- التجارة والصناعة.

ص: 58

33- رعاية وجهاء الناس.

34- ادامة العمل الجيد السابق.

35- الدعاء لنفسه ولمالك بالتوفيق وعاقبة الشهادة.

يتبيّن لنا ومن خلال اطلاعنا على المحاور الرئيسة والفرعية ان العهد قد أسس منهجية لأدارة شؤون الدولة ووفق معايير حقوق الانسان وجعل السمات الانسانية الرفيعة هي المعيار الاساس في كل شأن تتناوله الدولة؛ ليعزز مفهوم ومنهجية الحكم الرشيد في ايجاد الدولة العادلة.

ثالثاً / العهد ومحاكاته لمنهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:

يتألف العهد من اربعة محاور رئيسة، وكما ان منهجية الحكم الرشید (- E-Gover nance) تتألف من ثلاثة محاور رئيسة، ولما فيهما من تشابه كبير بين أصل قدیم ومفهوم حدیث، يمكن محاكاتهما من خلال الأتي:

1) المحاور الرئيسة للعهد:

بينّا سلفاَ ان العهد حدد اربعة محاور رئيسية في منهجية ادارة الدولة، وهي

(أ. استصلاح أهلها، ب. جباية خراجها، ت. عمارة بلادها، ث. جهاد عدوها).

2) منهجية الحكم الرشيد (E-Governance) في عصر ثورة المعلومات:

وضحنا في الفصل الثاني ان منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) تتألف من (أ. عناصر الحكم الرشید، ب. مستويات الحكم الرشید، ت. المتطلبات الأمنية للحكم الرشید).

ص: 59

واذا اردنا عمل محاكاة ما بين المحاور الرئيسة للعهد ومنهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات فنلاحظ الأتي:

- محور (استصلاح اهلها) في العهد يحاكي عناصر الحكم الرشيد والمستوى (حكومي - حكومي) لمنهجية الحكم الرشيد (E-Governance) في عصر ثورة المعلومات.

- محوري (جباية خراجها، و عمارة بلادها) في العهد يحاكي مستويات الحكم الرشيد (E-Governance) في عصر ثورة المعلومات، وهي ثلاثة مستويات (حكومي حكومي) (G-G)، و (حكومي - مواطن) (G-C)، و (حكومي اعمال) (G-B).

- محور (جهاد عدوها) في العهد يحاكي المتطلبات الأمنية للحكم الرشید (- E-Gover nance) في عصر ثورة المعلومات.

وكما موضح في الشكل رقم (23)

ص: 60

مخطط لمنهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) في عصر ثورة المعلومات (52) الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) - الشفافية - المشاركة - العدالة والمساواة - الموثوقية - الفاعلية - المساءلة - الاتقان الاداري - الخدمة التنظيمية - التكاملية مستويات الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) مستوى حكومي - اعمال (G.-B.) مستوى حكومي - مواطن (G.-c.) مستوى حكومي - حكومي (G.-G.) المتطلبات الامنية للمعلومات - حفظ المعلومات - أجهزة المعلومات - أنظمة المعلومات - إدارة المعلومات - إدامة المعلومات - تحديات المعلومات الشكل رقم (22) مخطط لمنهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) في عصر ثورة المعلومات

ص: 61

ادناه مخطط يوضح محاكاة المحاور الرئيسة للعهد مع منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات. (53)

1. استصلاح أهلها 1. استصلاح أهلها الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) - الشفاهیة - المشاركة - العدالة والمساواة - الموثوقية - الفاعلية - المساءلة - الاتقان الاداري - الخدمة التنظيمية - التكاملية - التبوء مستويات الحكم الرشيد الحوكمة الإلكترونية مستوى حكومي - اعمال (G.-B.) مستوى حكومي - مواطن (G.-c.) مستوى حكومي - حكومي (G.-G.) متطلبات أمنية المعلومات للحكم الرشيد - حفظ المعلومات - أجهزة المعلومات - أنظمة المعلومات - إدارة المعلومات - إدامة المعلومات - اقتصادية المعلومات - مخاطر المعلومات - تحديات المعلومات العهد 2. جباية خراجها. 3. عمارة بلادها. 4. جهاد عدوها. الشكل رقم (23) يوضح محاكاة المحاور الرئيسة للعهد مع مخطط منهجية الحكم الرشید (الحوكمة الالكترونية (54)

ص: 62

المبحث الثاني المحاور الفرعية للعهد

أولاً / المحاور الفرعية للعهد والتنمية المستدامة:

تناولنا سلفاً بأن المحاور الفرعية للعهد قد زادت عن الثلاثين محور کما يرى الكثير من الباحثين، وفي اعتقادي أن الكثير من هذه المحاور قد تكون في محتوى تطبيق منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية)، ولكي نحاكي المحاور الفرعي للعهد مع عصر ثورة المعلومات نعتقد بأن هذه المحاور ولعل الكثير منها على وجه الخصوص يكون ضمن منظمة التنمية المستدامة والتي تشمل:

أ) الأمن الغذائي.

ب) الأمن السياسي.

ت) الأمن البيئي.

ث) الأمن الاقتصادي.

ج) الأمن الصحي.

ح) الأمن الشخص.

خ) الأمن الاجتماعي.

ولعل الشكل رقم (24) يوضح ذلك: (55)

ص: 63

الأمن الغذائي الأمن السياسي الأمن الاجتماعي منظومة التنمية الأمن الشخصی الأمن البيئي الأمن الاقتصادي الصحي الشكل رقم (24) يوضح منظومة التنمية المستدامة

أن مفهوم التنمية الموسع ينظر اليه «كعملية لتوسيع حريات البشر»، حيث ينصب الاهتمام على توسيع «قدرة» الناس ليحيوا حياة يثمنونها، أو يرغبون في تحقيقها، حيث يلعب مفهوم «القدرة» دورا محوريا في التحليل كبديل لمفهوم الدخل في تعريف رفاه الناس وفيما يسعون إلى تحقيقه وفي تقييم الأداء التنموي عموما.

وبذلك تم التركيز على خمسة جوانب اعتبرت ذات علاقة بعدد من قضايا السياسات التنموية التي تتطلب اهتماما خاصا، وتتميز هذه الجوانب بأن كلا منها يساهم في توسيع قدرة الفرد للعيش بحرية، وهي «الحريات السياسية، والتسهيلات الاقتصادية، والفرص

ص: 64

الاجتماعية، وضمانات الشفافية، والأمن الوقائي».

- الحريات السياسية

تعنى الحريات السياسية بمعناها العريض، بما في ذلك الحقوق المدنية، بالفرص المتاحة للناس ليقرروا من سيحكمهم وعلى أي مبادئ، وليراقبوا وينتقدوا ويحاسبوا السلطات، وليعبروا عن آرائهم من خلال صحافة حرة، وليقرروا الانضمام لمختلف الأحزاب السياسية. وتشتمل الحريات السياسية على الاستحقاقات المتوفرة في النظم الديموقراطية بمعناها الواسع بما في ذلك فرص السجال السياسي والمعارضة والنقد وحرية المشاركة السياسية.

- التسهيلات الاقتصادية

تهتم التسهيلات الاقتصادية بالفرص المتاحة للأفراد لاستغلال الموارد الاقتصادية لأغراض الاستهلاك والإنتاج والتبادل. وتعتمد الاستحقاقات الاقتصادية للفرد على ما يملكه من موارد أو ما هو متاح منها لاستخدامه وعلى ظروف التبادل مثل الأسعار النسبية وعمل الأسواق. وللمدى الذي يترتب فيه على عملية التنمية زيادة ثروات الأمم، تنعكس هذه الزيادة في تعزيز مقابل للاستحقاقات الاقتصادية للسكان.

- الفرص الاجتماعية:

تتعلق الفرص الاجتماعية بالترتيبات الاجتماعية في المجالات التي تؤثر في الحريات الحقيقية المتاحة للأفراد ليعيشوا حياة طيبة، كالترتيبات المتعلقة بالتعليم والصحة. ولا تقتصر أهمية مثل هذه الخدمات للحياة الخاصة للأفراد فحسب وإنما تمتد لتؤثر على تفعيل مشاركتهم في النشاطات الاقتصادية والسياسية.

ص: 65

نلاحظ ومن خلال بيان معنى التنمية الموسعة أن مفهوم التنمية بشكل عام قد استند الى المحاور الفرعية للعهد في اعتماد تطبيق منظومة التنمية، ويظهر جلياً في الأبواب السبعة التي تتناولتها التنمية من أمن (غذائي، وسياسي وصحي، وبيئي، واقتصادي، وشخصي، واجتماعي) وفي الواقع ان العهد قد خاض في تفاصيل اكثر شمولية ودقة من حيث مراعاة حتى الاحاسيس والمشاعر لعامة الناس (الموطنين) ومراعاتهم، فضلاً عن وضع منظومة اخلاقية وفكرية ومعرفية؛ لأختيار الأشخاص الذين يعملون في الخدمة العامة بدأً من الوزراء والقضاة والمستشارين، والمحافظين... الخ، وحتى كيف يمكن متابعتهم، والتواصل مع عامة الناس (المواطنين)، وبما يضمن حفظ کرامتهم دون تمييز باللون أو العرق أو الطائفة أو الدين، وجعل السمات الأنسانية هي المعيار الأساس في ادارة شؤون الدولة.

ثانياً / قراءة العهد في ظل الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية):

تناولنا فيما تقدم العهد وقراءة بعض الباحثين والكتاب له، وما أشاروا به من مميزات قد استفاد منها ووظفها أناس لا يدينون بالديانة الأسلامية، وجعلوا من العهد منهاج لأدارة شؤون بلادهم، وطرحوا هذا المنهاج بأسلوب معاصر يعتمدون فيه على ما توصلوا اليه من تكنولوجيا، ويسوقوه الينا على أنه منهاج التطور والادارة السليمة من خلال استثمار الوقت والطاقة والعمل وفق حقوق الأنسان ليطرحوا مفهوم لمنهجية الحكم الرشيد التي تناولها أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وطبقها في الكوفة ایام خلافته (36 ه - 40 ه)، وفصلها وأوصى بها لمالك الأشتر (رضي الله عنه) عام (37 ه)، لذا فأن هذا البحث المتواضع ارد به الباحث أن يوضح استناد منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) الى منهاج الحكم الرشيد في العهد، وكيف تمكّن الباحث من خلال قراءة العهد ومحاكاته مع منهجية الحوكمة الألكترونية من ان

ص: 66

يطوّر هذه المنهجية ووفق ما توصل اليه العلم لأعتماد منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) وبشكل اكثر دقة وواقعية لأعتمادها وتطبيقها في ادارة مؤسسات الدولة كافة، ويمكن بيان ذلك من خلال الشكل رقم (25) حيث نؤكد على ضرورة مراعاة تطبيق منظمومة التنمية المستدامة في كل محور من محاور منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات (الحوكمة الألكترونية).

ص: 67

(56) الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) - الشفافية - المشاركة - العدالة والمساواة - الموثوقية - الفاعلية - المساءلة - الاتقان الاداري - الخدمة التنظيمية - التكاملية - التنبوء مستويات الحكم الرشيد الحوكمة الالكترونية مستوى حكومي - اعمال (G.B.) مستوى حكومي - مواطن (G.-C.) مستوى حكومي - حكومي (G-G.) متطلبات أمنية المعلومات للحكم الرشيد - حفظ المعلومات - أجهزة المعلومات - أنظمة المعلومات - إدارة المعلومات - إدامة المعلومات - إقتصادية المعلومات - مخاطر المعلومات - تحديات المعلومات الأمن الغذائي الأمن السياسي الأمن اجتماعی الأمن الشخصي الأمن البيئي الأمن الأقتصادي الأمن الضحي منظومة التنسیة الشكل رقم (25) يوضح منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية) المعززة یالتنمیة المستدامة

ص: 68

الفصل الرابع: المبحث الأول الأستنتاجات

توصل الباحث الى مجموعة من الاستنتاجات التي يمكن ايجاز ابرزها كما يأتي:

1- أن منهجية الحكم الرشيد التي جاء بها الدين الأسلامی، قد ظهرت و تجلّت في عهد الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه).

2- أن منح أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) العهد لمالك الأشتر (رضي الله عنه) يدل على أن الأمير (عليه السلام) كان على يقين من وعي واردة مالك الأشتر في تطبيق العهد، وهذا ما يفسر تسأل البعض عن سبب اختيار مالك الأشتر (رضي الله عنه) عمن سواه.

3- أن اعتماد منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات؛ لأدارة شؤون البلاد يتطلب بالدرجة الأساس وجود وعياً وأرادةً سياسية لأعتماده وتطبيقه.

4- أن العهد قد تضمن أربعة محاور رئيسة لأعتماد منهجية الحكم الرشيد وهي تتطابق مع منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات (الحوكمة الألكترونية).

5- أن المنظمات الدولية قد وظفت واستثمرت العهد الى حد اعتبرته نبراساً تحتذي

ص: 69

بحذوه، وتستنير به، لتأسس منهجية الحكم الرشيد.

6- أن هذه المنهجية لم تطبق ولم ترى النور الاّ في فترة حكم الأمام علي (عليه السلام) (36 ه - 37 ه).

7- أن ما يسمى اليوم بالأنظمة الديمقراطية المتطورة في البلدان الغربية قد طبقت واعتمدت على مفاهیم قد تضمنها العهد لتُصبح کما نرى اليوم هي محطات لأمنيات الشباب للعيش فيها والتنعم بأنظمتها.

8- أن فقرات العهد كانت أكثر شمولية ودقةً وتفصيلاً مما وصلت اليه منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات (الحوكمة الألكترونية).

9- أن شمولية العهد جعلت الباحث يعتقد بضرورة تضمين منظمومة التنمية المستدامة في منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية) لتكوين منهجية أكثر دقة وواقعية سعياً لأقامة الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات.

10- أن العهد لم يترك شاردة ولا واردة تخص ادارة الدولة وشؤونها حاکماً و محکومین.

11- أن كل من يسعى لأدارة شؤون الدولة عليه أن يجعل من العهد منهجه في تطبيق برامجه ويراقب تطبيقها وفق مؤشرات ومحددات العهد؛ كي ينشأ أنموذجاً للحكم الرشید.

12- أن اعتماد منهجية العهد وتطبيقها في ادارة شؤون الدولة تمّكن من القضاء على كل ظواهر الفساد في المؤسسات كافة، وتوجد بيئة مؤاتية للتعايش السلمي وفق معايير السمات الأنسانية الرفيعة.

13- ضرورة حث طلبة الدراسات العليا لتناول الوثائق التأريخي في رسائلهم

ص: 70

وأطاريحهم مثل العهد وغيره ودراستها بشكل معاصر، من اجل فهم ومحاكاة هذه الوثائق للزمن الحاضر وما يستشرف به للمستقبل، لا ان يجرِ تناولها بشكل سرد تأريخي.

14- أن فهمنا لمضمون العهد يرتب علينا السعي من اجل ايجاد بيئة داعمة ومؤاتية لتطبيق منهجية الحكم الرشيد ووفق الحوكمة الألكترونية التي تتطابق مع منهجية العهد وتحاكي عصر ثورة المعلومات.

ص: 71

المبحث الثاني: التوصيات

يمكن ايجاز أبرز هذه التوصيات كما يأتي:

1- يوصي الباحث لأعتماد منهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات؛ لأدارة شؤون البلاد وفي جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.

2- ضرورة السعي لأيجاد عناصر قدرة تمكّن من نشر الوعي والأرادة السياسية لأعتماد منهجية الحكم الرشيد في ادارة شؤون الدولة.

3- ضرورة تناول ودراسة سياسة الرسول الأعظم (صل الله عليه واله وسلم) وأهل بيته الآطهار في ادارة شؤون البلاد والعباد، وبطرق تحاكي الواقع وتستشرف المستقبل.

4- توظيف العهد أو اجزاء منه للاستفادة في ادارة شؤون المؤسسات كافة.

5- السعي لأيجاد أنموذج يعتمد العهد كمنهاج في تطبيق الحكم الرشيد (الحکومة الألكترونية) ولعل أمانات العتبات المقدسة الأولى لتكن أنموذجاً.

6- السعي للابتعاد عن الشخصنة والعمل لطرح منهجية الحكم الرشيد للعهد كتطبيقات تدّل على معدن مؤسسيها والمطالبين بها.

7- ضرورة اعتماد مؤسسات الدولة لمنهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية)، والتي جرى التعديل عليها، وتكاملها من قبل الباحث بعد دراسة العهد.

8- يوصي الباحث بضرور التنسق مع الجامعات؛ لغرض حث طلبة الدراسات العليا

ص: 72

على تناول العهد أو اجزاء منه في رسائهم وأطاريحهم.

9- التنسق مع وزارة التربية لغرض تناول اجزاء من العهد في مناهجهم الدراسية.

10- جعل العهد معياراً للنزاهة ومعالج لظواهر الفساد في البلاد.

11- السعي بوسائل مختلف من اجل الأيمان بضرورة التعايش السلمي واحترام الأخر تمهيداً لبيئة الحكم الرشيد.

12- التواصل مع البلدان الأخرى على أساسس منهجية العهد في تقبل الأخر وايجاد أنموذج للحكم رشيد في التعاملات الدولية.

ص: 73

الهوامش

1- الشيخ محمد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، ص 363 - 364.

2- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

3- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

4- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

5- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

6- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)،العتبة العلوية المقدسة، 2012.

7- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية

ص: 74

المقدسة، 2012.

8- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

9- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

10- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

11- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

12-

13- ميشيل هاملتون، التاريخ الضائع، مكتبة الكنغرس واشطن، 2007.

14- اسلام بوك، لنتعرف على شخصية الامام علي عليه السلام، ----،

15- توفيق ابو العلم، في علي بن ابي طالب، اهل البيت، القاهرة، 2003.

16- العجلوني، د. محمد، أثر الحكم الرشيد على التنمية الاقتصادية

ص: 75

المستدامة في الدول العربية، جامعة اليرموك، الاردن 2010.

17- العقابي، د.مازن، "الحوكمة الالكترونية والحكومة الالكترونية"، مركز النور للدراسات، 2015.

18- -----،-----، "أركان الحكم الرشيد العادل من القرآن"، مجلة بدر، 2013.

19- العقابي، د.مازن، متطلبات أمنية المعلومات في ظل الحوكمة الالكترونية، أطروحة دكتوراه، العراق، 2014.

20- اعداد الباحث.

21- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

22- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

23- الصيرفي، محمد، اصلاح التطوير الأداري كمدخل للحكومة الألكترونية، ط (1)، دونلبد للنشر، مصر.

24- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

25- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

26- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

ص: 76

27- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

28- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

29- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

30- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

31- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

32- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

33- العقابي، د.مازن، "من اين نبدا بالحوكمة الألكترونية، مركز النور للدراسات، 2015.

34- العبود، فهد بن ناصر، الحكومة الألكترونية، ط (1)، عمان، 2005.

35- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

36- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

37- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية،

ص: 77

بغداد، 2014.

38- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية،بغداد، 2016.

39- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

40- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيا الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية، بغداد، 2016.

41- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

42- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية،بغداد، 2016.

43- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية،بغداد، 2016.

44- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

45- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية،

ص: 78

بغداد، 2014.

46- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية،بغداد، 2016.

47- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية، بغداد، 2016.

48- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

49- العقابي، د.مازن، "مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني"، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية،بغداد، 2016.

50- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

51- العقابي، د.مازن، متطلبات أمنية المعلومات في ظل الحوكمة الالكترونية، أطروحة دكتوراه، العراق، 2014.

52- اعداد الباحث، متطلبات أمنية المعلومات في ظل الحوكمة الالكترونية، 2014.

53 - اعداد الباحث

54- اعداد الباحث.

ص: 79

55- المناور، فيصل، "مؤتمر لبناء وتنمية القدرات المؤسسية "الكويت، 2014.

56- اعداد الباحث.

ص: 80

المصادر

1- الشيخ محمد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، ص 363-364.

2- المستشار فليح سوادي، عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، 2012.

3- ميشيل هاملتون، التاريخ الضائع، مكتبة الكنغرس واشطن، 2007.

4- اسلام بوك، لنتعرف على شخصية الامام علي عليه السلام، -----،

5- توفيق ابو العلم، في علي بن ابي طالب، اهل البيت، القاهرة، 2003.

6- العجلوني، د. محمد، أثر الحكم الرشيد على التنمية الاقتصادية المستدامة في الدول العربية، جامعة اليرموك، الاردن 2010.

7- العقابي، د.مازن، «الحوكمة الالكترونية والحكومة الالكترونية»، مركز النور للدراسات، 2015.

8- ----، ----، «أركان الحكم الرشيد العادل من القرآن»، مجلة بدر، 2013.

9- العقابي، د.مازن، متطلبات أمنية المعلومات في ظل الحوكمة الالكترونية، أطروحة دكتوراه، العراق، 2014.

10- العقابي، د.مازن، المتطلبات الأمنية في ظل الحوكمة الألكترونية، بغداد، 2014.

11- الصيرفي، محمد، اصلاح التطوير الأداري كمدخل للحكومة الألكترونية، ط (1)، دونلبد للنشر، مصر.

12- العقابي، د.مازن، «من اين نبدا بالحوكمة الألكترونية، مركز النور للدراسات، 2015.

ص: 81

13- العبود، فهد بن ناصر، الحكومة الألكترونية، ط (1)، عمان، 2005.

14- العقابي، د.مازن، «مؤتمر عن دور الحوكمة الألكترونية في رفع مستوى الاداء المؤسسي لاسيما الأمني»، مركز النهرين للدراسات الأستراتيجية، بغداد، 2016.

15- المناور، فيصل، «مؤتمر لبناء وتنمية القدرات المؤسسية» الكويت، 2014.

ص: 82

مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) نموذجاً ممثلاً برسالته لمالك الأشتر (رضي الله عنه) حين ولاه مصر

اشارة

د. علي فرحان عبدالله الفكيكي الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية - لندن

ص: 83

ص: 84

مقدمة:

أن مبادئ ومفاهيم الإدارة وفق المنهج القرآني مثلت ثقافة شؤون الحياة اليومية من خلال المسؤولية والمسائلة والمحاسبة والرقابة والتخطيط والتنظيم ودرجة أداء العمل وإتقانه قبل أن تنطلق الشعارات في العصر الحالي وهذا دليل على أن منهج القرآني منهج رباني جاء كاملاً شاملاً لكافة مجالات العمل دون تخصيص أو تحديد. حيث يتميز المنهج القرآني بخصائص لا تتميز بها المناهج الأخرى، مما جعله أفضل المناهج فهو منهج رباني يسعى إلى تكوين الإنسان الصالح. والإسلام هو دين الفطرة. فهو يهتم بجميع جوانب الإنسان الجسمية والروحية و العقلية ونشاطه الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و غير من الأنشطة، ويشمل دنيا الإنسان و آخرته، بل ويشمل النية بها ولو لم يفعل، ومن هنا فهو أشمل منهج عرفته البشرية.

لقد أكد الامام علي (عليه السلام) في عهده للأشتر على جملة من القواعد والقوانين التي تُدار وتُحكم من خلالها الدولة، وتُراعي شؤون الرعية، فحينما توجه مالك لادارة شؤون مصر كان مزوداً بدستور حكم ناضج ومكتمل القواعد والشروط، وبما يوفر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الانسان وحقوقه، ويؤكد على عمارة البلاد وإستصلاحها، والابتعاد عن الطمع وحب الشهوات، والالتزام بالذكر الحسن، والعمل الصالح. کما أكد العهد على الرحمة بالرعية واللطف بهم، وعدم ظلم الآخرين. وقد نال هذا العهد من الاهتمام والدراسة والتمحيص والتفسير والشرح والبيان ما لم ينله نص آخر مماثل له في التوجه على مر العصور، وقد تُرجم إلى كثير من لغات العالم، وفي بعض اللغات تُرجم وشرح مراراً وتكراراً، وهذا دليل على قيمة المعاني الانسانية العظيمة التي يحتويها هذا

ص: 85

العهد، وتناوله مختلف شؤون الحياة أولاً، وواجبات الحاكم والحكومة ثانياً. (1). فقد أراد أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أن يكون خطاباً موجهاً لجميع حكام المسلمين، وغير المسلمين من خلال شخص واحد أراده أن يكون حاكماً على مصر، وهو مالك الأشتر، الصديق الصدوق للإمام علي (عليه السلام).

وفي ضوء ما ء ما تقدم تكونت هيكلية البحث من مقدمة وأربعة مباحث وعلى النحو الاتي:-

المبحث الأول: المنهجية العلمية للبحث.

المبحث الثاني: مفهوم ومبادئ الإدارة من منظور الفكر الغربي.

المبحث الثالث: مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني.

المبحث الرابع: الاستنتاجات والتوصيات.

ص: 86

المبحث الأول: المنهجية العلمية للبحث

اولاً: - مشكلة وأهمية البحث:

إنَّ موضوع الإدارة الإسلامية من المواضيع الهامة وتكتسب أهميتها من كونها مرتبطة بحياة البشر وتنظيم شؤون حياتهم في الدنيا والآخرة. ومهما تطورت الأساليب الإدارية المعاصرة فهي لا تتجاوز إمكانات وقدرات البشر المحدودة. حيث اكدت العديد من الدراسات السابقة على ان دراسة الفكر الإداري وفق المنهج القرآني لم يحظ بعد بالاهتمام الكافي حسب علم الباحث في حين إن المتأمل يجد أن هذا المنهج متكامل وشامل، كما إن هذه الدراسة محاولة لتقديم ملامح المنهج القرآني لتحديد منهجيات العمل والإدارة في شتى المجالات، والذي يحفظ للأمة ثقتها بنفسها وبمنهجها في الحياة والعمل ويقطع الطريق على حملات التشكيك في قدرة الأمة على البقاء والريادة.

ثانياً: - الهدف من البحث:

يهدف هذا البحث إلى استعراض أحد الجوانب الإدارية المهمة وهو مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني - منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) نموذجاً ممثلاً برسالته لمالك الأشتر (رضي الله عنه) حين ولاه مصر.

ولتحقيق هذا الهدف الرئيس سيتم السعي لتحقيق الأهداف الفرعية الآتية:-

1- استثارة همم المسلمين بضرورة العودة لهذا الأصل العظيم في الإدارة الإسلامية وبيان

ص: 87

أن عطاءه متجدد.

2- نشر الوعي الإسلامي عن ذلك الجانب من الإدارة ومحاولة الاستفادة منه على جميع المستويات.

3- تقدیم بديل للإدارة ليحل محل المنهج الغربي، وذلك عن طريق بيان أهمية الجانب العقائدي في الإدارة الإسلامية.

4- الإسهام في إثراء المكتبات بدراسة علمية في مجال الإدارة.

رابعاً: - منهج البحث:

تقتضي سلامة الوصول إلى نتائج إيجابية للبحث، أن يتبع المنهج الوصفي، من خلال الاطلاع على الكتب والمقالات والدوريات والرسائل العلمية والدراسات العربية الإسلامية والأجنبية.

خامساً: - حدود البحث:

يلتزم الباحث بتوضيح أهم وابرز مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني - منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) نموذجاً ممثلاً برسالته لمالك الأشتر (رضي الله عنه) حين ولاه مصر.

ص: 88

المبحث الثاني: مفهوم ومبادئ الإدارة من منظور الفكر الغربي

منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ووهبهُ نعمة العقل والتفكير والتدبر والتحليل واكتشاف الحقائق كلفهُ بإدارة الأرض وعمارتها وخلافتها، ولا يخفى على أحد أن العمارة والإدارة والخلافة تحتاج إلى عوامل إنتاجية مكملة (الموارد الطبيعية، التقنيات، رأس المال، موارد بشرية) للوصول إلى مخرجات تلك الفعاليات وما يترتب عليها من أثار على مختلف الأزمنة والعصور. لقد تبين للإدارة الحديثة بعد دراسة معمقة حول أهمية عناصر الإنتاج وتحديد أولوياتها أن توفر موارد مادية، طبيعية، تقنية، معلوماتية... لا يمكن أن تصل إلى المصدر الحقيقي لتكوين القدرات التنافسية المستمرة أن لم يتوفر فيها عنصرين رئيسيين هما موارد بشرية مختارة بدقة ومعدة وفق أسس مهنية وعلمية، وقيادات مؤثرة مطلعة على أنماط وقوانين وأنظمة العمل. اذ أن مساهمة القيادات الإدارية في خلق أجواء العمل الجماعي بين العاملين ومختلف الإدارات والفروع، ونشر الوعي التنظيمي الداعي للمشاركة وتناقل الأفكار وإنشاء أنظمة للاتصال بين مختلف المستويات تتميز بالسهولة والأنسابية في حركتها تركت بصمة واضحة في التقدم الحاصل في مختلف المجالات التي نشهدها اليوم. (2).

- مفهوم الإدارة:

أصل كلمة إدارة (Administration) لاتيني بمعنى (To Serve) أي (لي يخدم) والإدارة بذلك تعني «الخدمة» على أساس أن من يعمل بالإدارة يقوم على خدمة الآخرين. وفي ظل الاهتمام الذي حظيت به الإدارة إلا أن تعريفاتها التي قدمها العلماء

ص: 89

والرواد قد تباينت، شأنها في ذلك شأن كثير من مصطلحات العلوم الإنسانية، فكل منهم قد تأثر بمدخل معين. وقد عرفها:-

1- النمر بأنها: «النشاط الموجه نحو التعاون المثمر والتنسيق الفعّال بين الجهود البشرية المختلفة العاملة من أجل تحقيق هدف معين بدرجة عالية من الكفاءة»(3).

2- الصباب بأنها: «عملية توجيه الجهود البشرية بشكل منظم لتحقيق أهداف معينة». (4).

3- مصطفى والنابة بأنها: عملية تنظيم تتكامل فيها الجهود لتنظيم الموارد البشرية والمادية نحو هدف مشترك.

4- الجضعي بانها: «عملية اجتماعية مستمرة تسعى إلى استثمار القوى البشرية والإمكانات المادية من أجل تحقيق أهداف مرسومة بدرجة عالية من الكفاءة، (6).

- الإدارة هل هي علم أم فن؟

الإدارة مزيج من العلم والفن، فهي علم لأن لها مبادئ وقواعد وأصولاً علمية متعارفاً عليها، وتقوم على توظيف مناهج البحث العلمي في استكشاف نظرياتها وفحصها، وفي الوقت ذاته هي فن لأنها تعتمد على القدرات الإبداعية والمهارات، فإن الفصل في هذا الموضوع هو القول إن الإدارة هي فن استخدام العلم. (7).

ومن هذا التعريف يمكن استخلاص العناصر التالية:-

- أن الإدارة عملية تتضمن وظائف عدة هي التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة.

- أنها اجتماعية فهي لا تنشأ من فراغ، بل تنشأ داخل مجموعة منتظمة من الأفراد وتأخذ في الحسبان مشاعرهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم.

ص: 90

- أنها وسيلة وليست غاية فهي وسيلة تنشد تحقيق أهداف مرسومة.

- أنها تعتمد على استثمار القوى البشرية والإمكانات المادية المتاحة.

- أنها تسعى إلى تحقيق الأهداف بدرجة عالية من الكفاءة.

- علاقة الإدارة بأخلاقيات المهنة

المهم في التعريفات الإدارية الوصول إلى الإنتاج المادي بغض النظر عن الوسائل، وهنا تتميز الإدارة الإسلامية حين تنظر إلى الإنتاج على أنه وسيلة لعبادة الله، يجب أن لا يتعارض مع الهدف والغاية ويكون منضبطاً بشروطها. لتوضيح العلاقة بين الإنتاجية الجيدة ووضع العمال أجرى عالم الاقتصاد الإنجليزي آدم سميث في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي دراسة عن أسباب ازدهار وتدهور ثروات الأمم، فلاحظ في كتابه (ثروة الأمم) الارتباط الوثيق بين جودة الإنتاج وغزارته، والارتباط بين عدم جودته وضآلته، وتوصل إلى أن سبب التفاوت يعود إلى وضع العاملين بين حالتي الإلزام والالتزام، فالذي يعمل بأخلاقيات المهنة بدافع الالتزام يكون دقيق الإنتاج وغزيره، أما الذي يعمل بدافع الإلزام فهو ركيك الإنتاج وضئيله. (8).

- مبادئ الإدارة الرئيسة عند تايلور:-

1- تحديد نوع وكمية العمل المطلوب أداؤه من كل فرد (وهو ما يطلق عليه اليوم تحديد الاختصاصات والمسؤوليات) بناء على دراسة علمية وليس على مجرد التخمين من جانب الإدارة.

2- الاختيار العلمي للشخص الذي يناسب الوظيفة المسنودة إليه.

3- اقتناع كل من هيئة الإدارة والعاملين بعدالة التنظيم الإداري واحترام مبادئه.

ص: 91

4- تقسيم الواجبات والمسؤوليات؛ فتختص الإدارة بمهمة التخطيط ويترك للعمال مهمة التنفيذ.

- مبادئ الإدارة الرئيسة عند هنري فايول:-

1- مبدأ روح الاتحاد او التعاون: إن روح الاتحاد والانسجام بين الأفراد العاملين في المنشأة تعتبر قوة لها، وبذلك وجب أن تبذل الجهود لتدعيمها. (إن بث الفرقة بين قوى الأعداء لإضعافهم يعتبر عملاً يتصف بالمهارة، بينما بث الفرقة بين نفس الفريق الذي ينتمى إليه الشخص يعبر إثماً كبيراً).

2- مبدأ خضوع المصالح الفردية للمصلحة العامة: أن الفرد يعمل لصالح المجتمع، إذ أن المجتمع أهم من الفرد. ويتطلب هذا المبدأ تغليب مصلحة المنشأة على مصلحة أحد موظفيها.

3- مبدأ المساواة: إن تشجيع القوى العاملة أو الموظفين على أداء وظائفهم بأعلى ما في طاقاتهم وقدراتهم وإحساسهم بالولاء والإخلاص لعملهم ورئيسهم يتطلب ضرورة اتباع مبدأ المساواة.

4- مبدأ مكافأة الأفراد: يقول هنري فايول في كتابة (الإدارة العامة والصناعية) إن دفع الأجور أو المرتبات بطريقة عادلة تؤثر تأثيراً ملحوظاً على تقدم المنشأة.

5- مبدأ المسؤولية والسلطة: السلطة هي ممارسة حق يخول لصاحبه إصدار أوامر ويكون على مرؤوسيه الطاعة.

6- مبدأ النظام والطاعة: ترجع أهمية النظام إلى قدرته على توفير حسن سير العمل في المنشأة، والنظام يعني إطاعة الأوامر وتنفيذها وتنفيذ ما اتخذ من قرارات.

7- مبدأ وحدة الأمر: يجب ألا يتلقى الموظف تعليماته إلا من رئيس واحد فقط، وهو

ص: 92

رئيسه المباشر، إذ أن عدم احترام هذا المبدأ ينتج عنه الاستهانة بالسلطة والإخلال بالنظام.

8- مبدأ وحدة التوجيه: يعني رئيساً واحداً وخطة واحدة لتحقيق هدف واحد، وهذا المبدأ لا يتعارض مع مبدأ وحدة الأمر؛ وذلك لأن وحدة الأمر تمارس على الأشخاص فقط.

9- مبدأ تدرج السلطة: ينبغي ضرورة توضيح تسلسل الرئاسات من أعلى المستويات إلى أدناها وتوضيح نطاق الإشراف.

10- مبدأ الترتيب: ترتيب الأشياء والأفراد، فهو يقول فيما يتعلق بترتيب الأشياء (إن كل شيء يجب أن يكون له مكان، وأن يوضع كل شيء في مكانه الخاص، ويستهدف ذلك أن يوضع كل موظف في المكان المناسب له).

11- مبدأ استقرار الموظفين: يتطلب الموظف الجديد بعض الوقت للاعتياد على عمله الجديد حتى يتمكن من أدائه بنجاح، وهذا يضمن استمرار الموظف في العمل فيه بعد التدريب.

ص: 93

المبحث الثالث: مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني

ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه {واله} وسلم) هو الذي وضع اللبنة الأولى للتنظيم الإداري في الدولة الإسلامية، بعد الهجرة من مكة الى المدينة، فقد كانت الفترة التي مكثها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة فترة لتأسيس العقيدة الإسلامية، ولما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، بدأ تأسيس الدولة، ووجدت الأحكام التي تنظم فوضى المجتمع فشرعت الأحكام التي تنظم علاقات أفراد المسلمين بعضهم ببعض، وعلاقتهم بغيرهم في حالة السلم وحالة الحرب، وبجانب الأحكام التي تبين العبادات، وجدت أحكام المعاملات من بيع وتجارة ورهن وغيرها، وأحكام الحرب، والعنائم والعقوبات، والمواريث، والوصايا، والقضاء، فالدولة الإسلامية تكونت بعد هجرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بجانب كونه رسولاً يبلغ عن ربه كان رئيساً للدولة، فقد كان للرسول سلطة التنفيذ، كما كان له ايضاً سلطة القضاء، فتولى القضاء بنفسه، وولى غيره (11).

إذ إن المنهج الإسلامي يقدم مفهوما للإدارة يتصف بالشمولية والإطلاق بعيدا عن الانحصار المعرفي في إزاء التعامل مع المفهوم المجرد للإدارة، إن كلمة الفكر الإداري الإسلامي كما عرفها د. حمدي عبد الهادي تعني «الآراء و المبادىء والنظريات التي سادت حقل الإدارة، ودراسة وممارسة عب العصور والأزمنة، ويعتب فكرا إسلاميا هذه الآراء والمبادىء والنظريات وذلك بالاستناد إلى توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة». (12).

ص: 94

- تعريف الإدارة لغة

وردت عدة تعريفات للإدارة في معاجم اللُّغة، إذ جاء تعريفها في "لسان العرب" في مادة (دوّر): من دار الشيء دورانا، وأداره عن الأمر. ويقال: أدرت فلاناً عن الأمر إذا حاولت إلزامه إياه وأدرته عن الأمر إذا طلب منه. (13). ويقال: «أدار الوزير العمل: أشرف عليه». (14).

- تعريف الإدارة في الإسلام:

1- عرفها المزجاجي (15) بأنها: نشاط جماعي مشروط يقوم به الراعي مع موظفي العاملين في جميع الأجهزة الحكومية من خلال تقديم سلعة مشروعة إلى الجمهور بلا تمييز، شعوراً منهم بأمانة الإدارة أثناء ممارساتهم الإدارية وفقاً لأنظمة وتعليمات مصدرها الشريعة الإسلامية، سعياً لتحقيق أهداف عامة مباحة من أجل توفير الأمن والرخاء والنماء للبلاد والعباد.

2- عرفها المطيري (16) بأنها: الإدارة التي يتحلى أفرادها بالسلوك الإسلامي عند أدائهم لأعمالهم، ويقومون بواجباتهم الوظيفية بجميع مستوياتها وفقاً للشريعة الإسلامية

- النظام الإداري في الإسلام:

أن النظام الإداري في الإسلام هو مجموعة الأحكام والتشريعات لتنظيم جهود البشر جماعيا وفرديا وتوجيههم وجهة هادفة لتحقيق مصالحهم، وسد حاجاتهم الدنيوية والأخروية وحفزهم بها إلى فعل الخير والبعد عن الشر ومنع الإفساد في الأرض. (17).

ص: 95

- النظرية الإسلامية:

أنها مجموعة من المفاهيم والأفكار والأحكام والقيم والأهداف المرتبطة بإعداد الإنسان المسلم حسب الأصول الإسلامية اعتبارا من أسسها ومناهجها وأساليب تحقيقها وتنفيذها. وترتكز النظرية الإسلامية على النقاط التالية (18):-

1- مستمدة في أساسها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

2- تتصف بالشمولية.

3- تشتمل على المعرفة والأساليب والوسائل والإدارة، وهي بهذا تختلف عن النظريات الأخرى.

4- تعمل على توجيه السلوك الإنساني وقيمه.

5- تعتمد على التفاعل ما بين النظرية والممارسة العملية، فالإسلام دين عمل وجهاد.

- مقارنة بين مفهوم الإدارة العامة المعاصرة والإدارة الإسلامية:

ان الناظر إلى مفهوم الإدارة العامة المعاصرة والإدارة العامة الإسلامية من خلال التعريفات السابقة يجدهما يتفقان في أنَّهما من الأساليب والنظم والمناشط الإدارية التي تؤديها منظمات وأجهزة الدولة، والتي تهدف بصفة أساسية إلى تحقيق الصالح العام والمنفعة العامة في المجتمع من خلال استغلال الموارد المتاحة في البيئة المعينة خلال فترة زمنية محددة. ولكن نجد أنَّ التمايز واضح والفرق بينها في بعض الجوانب الأساسية، فنجد أنَّ الإدارة العامة الإسلامية محورها الأساس العقيدة والإيمان وبهما يتجاوز الفرد المسلم المنافع الشخصية الدنيوية إلى سعة التكليف الرباني الذي يجعل الحياة كلها لله، وأنَّ غاية خلق الإنسان هو العبادة والخلافة في الأرض تحقيقاً لقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ

ص: 96

الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ». (19).

أمَّا الفكر الإداري الغربي فهو يعالج المشكلة الإدارية في إطار نظريات ذات نظرة جزئية غير شاملة لا تضع اعتباراً ولا حيزاً لما وراء المادة والمنفعة، بل تركِّز بصفة أساسية على المنافع الشخصية أو الجماعية أو المنافع المشتركة في إطار العلاقات بين الدول دون أدنى نظرة للدين والعقائد. (20). حيث أنَّ الإدارة العامة الإسلامية تتفوَّق على الإدارة العامة المعاصرة بالآتي (21):-

1- الإدارة العامة الإسلامية تسعى بصفة أساسية لخدمة الأهداف المشروعة من خلال مناشطها الخدمية والسلعية المباحة يحكمها في ذلك الإيمان والعقيدة الربانية.

2- يؤدِّي المكلَّف العمل في الإدارة الإسلامية عمله على أساس أنه على قيمة إيمانية يسعى من خلالها للعبادة. كما إن التعامل في الإدارة الإسلامية يتم على أساس الأخوة الإسلامية والمساواة واحترام إنسانية العامل ونوع العمل.

- المنهج الإداري الإسلامي:

1- استمدت الحضارة الإسلامية أسسها الإدارية من القرآن الكريم والسنة النبوية ونهج أهل البيت عليهم السلام.

2- تضمنت الكثير من الأفكار والمفاهيم الإدارية عالية المستوى للتطبيق في كل مكان وزمان.

3- ينظر إلى الإنسان على أنه كائن اجتماعي يحتاج للاحترام والتقدير والرضا كما يحتاج لأجرته.

4- عرفت الدولة الإسلامية نظامي المركزية واللامركزية في الإدارة، وتفويض السلطة والمسؤولية، وتقسيم العمل.

ص: 97

- المبادئ الإدارية التي أكد عليها اميرالمؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام ):

اشارة

استلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة في (25) ذي الحجة عام (35 ه)، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام، وعلى أثر ذلك وضع خطّة إصلاحية شاملة، ركّز فيها على شؤون الإدارة، والاقتصاد، والحكم، وفي ما يلي بعض المبادئ الإدارية التي أكد عليها (عليه السلام) في رسالته (22)* إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) عندما ولاه مصر:-

اولاً:- مبداء العلاقات الإنسانية: أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر، الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة. إذ قال (عليه السلام): «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ، یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ».

ثانياً: - مبدأ التواضع: ويقصد به الخضوع والإذعان للحق والابتعاد عن الزهو والإعجاب بالنفس وهذه صفة لازمة لكل إنسان يقدر نفسه حق قدرها ويريد لها الخير، وقيل في تعريف التواضع: (هو ضبط النفس عن الكبر والعجب والغرور ومعرفة النفس قدرها)، ويقول تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا». (23).

يقول الامام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه): «إیّاكَ والإعجابَ بِنَفسِكَ،

ص: 98

والثِّقَهَ بِما یُعجِبُكَ مِنها، وحُبَّ الإطراءِ؛ فإنَّ ذلِكَ مِن أوثَقِ فُرَصِ الشَّیطانِ فی نَفسِه، لِیَمحَقَ ما یَکونُ مِن إحسانِ المُحسِنینَ».

ويقول ايضاً (عليه السلام) في بعض رسائله إلى عمّاله: «واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وأَلِن لهم جنابك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك».

ثالثاً: - مبداء المساواة: قال تعالى في كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». (24). وقال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لأفرق بين عربي ولأ اعجمي ولأ ابيض ولأ اسود الأ بالتقوى». حيث حرصت السنة النبوية - باعتبارها أصلا من أصول الإسلام على المساواة بين الناس في القيمة البشرية، وعدها من الأمور الأساسية.

وقد ألزم الإمام (عليه السلام) عُمّاله وَوُلاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم. وتجسّدت فيما يأتي:-

أ- المساواة في الحقوق والواجبات.

ب- المساواة في العطاء.

ج- المساواة أمام القانون. وقدد حدد (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) شروط الحاكم العادل: «اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ، مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلّةِ، وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ، وَلَا یَکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ،

ص: 99

وَأَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لَا یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ، وَلَا یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ، وَأُولَئِكَ قَلِیلٌ».

رابعاً:- مبداء العدل: أنَّ الناس فيهم المحسن والمسيء، فلا تجوز المساواة بين الصنفين؛ لأنَّ في ذلك قطعاً لسُبُل الإحسان، وتقليلاً للفاعلين له، وتشجيعاً للمسيئين على الإساءة، وهذا خلاف المباني الإلهية والإسلامية؛ لأنَّ الله يأمرُ بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

وكي لا يتساوى المحسن والمسيء، فتتهرأ القيم وتتآكل المثل، ويصاب الناس بالخيبة من عدالة الدولة، دعا الإمام عليعليه السلام) إلى إثابة المحسن، وإشعاره بقيمة عمله، ومعاقبة المسيء، وتنبيهه على دناءة ما فعله، وهذا كله ليس بقصد الإثابة والعقاب فحسب، وإنّما للإثابة أهدافٌ ومعانٍ ساميةٌ، وكذا العقوبة فهي ليست عقوبة تنكيل بقدر عقوبة تأديب، لذا نراه (عليه السلام) قد أوصى الاشتر (رضي الله عنه) بقوله: «وَلَا یَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِی ذلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَی الْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ».

ومن أسمى المبادئ التي امتاز بها الإسلام عما عداه من النظم الوضعية، وقد حث الإسلام على التزام العدل في كل الأمور التي يزاولها وقد حذر الإسلام من أن تدخل مراكز الناس الاجتماعية وأنسابهم في خضوعهم لمقتضى العدل، فالقانون الإسلامي يطبق على كل أفراد الأمة، ولا فرق بين حاكم ومحكوم. (25)

خامساً:- مبدأ الشورى: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عله السلام) حريصاً على التزام منهج الشورى في تصرفاته وأعماله وقراراته، ومما أوصى به أمير المؤمنين علي(عليه السلام) لمالك الأشتر: «وَلَاتُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بَخِیلاً یعْدِلُ عَنِ الْفَضْلِ،

ص: 100

وَ یعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلَاجَبَاناً یضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلَاحَرِیصاً یزَینُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ».

إن المستشار منصب دقيق وحساس وذو تأثير بالغ على الحاكم وقراراته المهمة التي يتخذها، فكم من حاكم ورطته استشارة خاطئة، وكم من فتنة أشعلها مستشار أحمق، ولا يكفي أن تكون للمستشار خبرة إدارية سابقة بل يجب أن تتوفر فيه خصال خلقية ونفسية سامية، ويتجرد من صفات سلبية كالجبن والبخل والطمع ستؤثر حتماً على استشاراته، وهذا أحد معالم ارتباط السياسة بالأخلاق عند الإمام علي (عليه السلام). وبعد نهيه عن الاستعانة بمستشاري السوء يطالب الإمام الحاكم بمناقشة شؤون الحكم والبلد وتدارسها مع العلماء والحكماء لأنهم الأقدر على تشخيص مصالح البلاد والعباد وإعطاء الرأي السديد الذي ينشده الحاكم. (26).

أن الحاكم إذا لم يكن له مستشارون فلا يعلم محاسن دولته ولا عيوبها وسوف يغيب عنه الكثير في شؤون الدولة وقضايا الحكم، وكان يعلم أن الشورى تعرفه ما يجهله، وتضع أصابعه على مالا يعرفه، وتزيل شكوكه في كل الأمور التي يقدم عليه.

سادساً: - مبداء العمل الجماعي: عرَّض الامام (عليه السلام)، أقسام الرعية وأصنافها، وبيّن أن كل قسمٍ منها يحتاج للقسم الآخر ومرتبط به ارتباطاً عضوياً، حيث إنَّ كل تلك الأقسام تشكِّل نظاماً متكاملاً متماسكاً، فهي بمثابة الجسم الواحد، وعيّن لكل صنف مسؤوليته ومهمته حتى لا تتداخل الأمور وبالتالي تسود الفوضى. وفي حديثه عن كل صنفٍ من الأصناف. (27). يقول (عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه): «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ، وَ لاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ

ص: 101

وَ الْخَاصَّةِ، وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ، وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ، وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ وَ فَرِیضَةً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً».

سابعاً:- مبدأ اختيار الاصلح لاداء العمل: حينما باشر الإمام (عليه السلام) خلافته، كانت الدولة قد أصابها انحراف كبير من جراء ظلم الولاة وفساد بطانتهم ومعاونيهم، ولذا فإنها كانت تحتاج للتغيير والتصحيح، خاصة في مفاصلها الرئيسة المتمثلة في الولاة وكبار الموظفين. ولقد سارع الإمام لتغيير الولاة المفسدين الذين كانوا السبب المباشر في ثورة الناس على عثمان، واستبدلهم بولاة صالحين من خيار الصحابة المشهود لهم بالتقوى والورع كمحمد ابن أبي بكر وقيس بن سعد بن أبي عبادة وسهل بن حنيف الأنصاري وغيرهم. (28).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكِّد على ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويؤكِّد على اختيار أصحاب الكفاءات وأهل الورع والعفة والسياسة والحياء، وحذر من الاختيار القائم على المحاباة والذي تجرع الناس منه الغُصص والويلات.

يقول (عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه): «ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ. وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاْسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الاْمُورِ نَظَراً. ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاْرْزَاقَ، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ».

ص: 102

إذ كان اختيار الامام (عليه السلام) للموظفين بناءاً على شروط، فانه كان يضعهم تحت التجربة لمدة من الزمن. فيقول(عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه): «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ، [وَ أَنْقَاهُمْ] جَيْباً، وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِى الْأَحْسَابِ، وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ. ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ».

وكان الامام (عليه االسلام) يراقب أدائهم من خلال مجموعة من الطرق التي وضعها، فإذا لمس من هؤلاء أي خيانة لأمانتهم عزلهم وعاقبهم، وإذا لمس منهم تقصير في أداء أعمالهم، كتب إليهم من أجل تنبيههم الى الخلل، الذي ربما يكون غير مقصود. إذ يقول (عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه): «ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاِمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الاْعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ».

ثامناً:- مبداء محاسبة النفس: ان هذا المبداء هو لغرض المحافظة على النظام من الاهمال والتقصير في اداء الواجبات فمحاسبة النفس كل يوم عمّا عملته، من خلال ضبط النفس وصيانتها عن الاخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات وعن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر قيل: يا رسول الله وما الجهاد

ص: 103

الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثم قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه. (29).

أن أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عبر عنه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ب «الجهاد الأكبر» أي هو جهاد أعظم من جهاد العدو الذي عبر عنه بالجهاد الأصغر. وإذا لم يتوفر في الإنسان الجهاد الأكبر بالمعنى الواقعي أساسا فلن ينتصر في جهاده على أعدائه. (30).

تاسعاً: - مبداء الإشراف والرقابة: أنّ الرقابة في فلسفة الإمام علي (عليه السلام) لم تكن رقابة طائشة، أو مُستَفِزّة، أو رقابة تجريم أو تنكيل، بل كانت رقابة تحصين ووقاية ضد الآفات الاجتماعية التي تؤدي إلى ضياع حقوق الأفراد والمجتمع، ومن ثُمَّ تؤدي إلى ضعف الروابط الاجتماعية بين أفراد الأمة الواحدة، بعد ضعف الوازع الديني الذي هو - كما هو معلوم - من الأسباب الرئيسة للانحراف بالأمة عن مسارها الصحيح الذي أراده لها المشرع العظيم. نستطيع أن نتلمس ذلك كله من خلال النصوص التي وردت إلينا عن الإمام علي (عليه السلام)، وهو يوصي عامله على مصر بضرورة تعاهد عماله بالمراقبة، وتفقد شؤونهم، والسؤال عن أحوالهم؛ ليتضح لنا كم كان هدف الرقابة نبيلا، وكم كانت غايتها سامية جليلة، هدفها حفظ الدين والناس. وتبدأ الرقابة في فكر الإمام (عليه السلام) من أصغر الأمور، وتصحيح الأوضاع منذ بدايتها، وليس انتظار الأمور حتى تكبر، وتتفاقم، ثم يكون التنكيل والانتقام، وبالمحصلة فالرقابة في فكرِه (عليه السلام) إنّما هي تحصين العمال ضد الغش والخيانة، وبعبارة أخرى هي وقاية وليست علاجا، وقد قيل قديما: درهمُ وقاية خيرٌ من قنطار علاج. (31).

إذ أوصى الإمام علي (عليه السلام) الأشتر (رضي الله عنه): «ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ وَلاَ تَدَعْ

ص: 104

تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَا لاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ».

وكذلك يقول (عليه السلام) لأشتر (رضي الله عنه): وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.

ص: 105

الخاتمة:

«تكريماً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أصدرت الأمم المتحدة، في العام 2002، تقريراً باللغة الإنكليزية بمائة وستين صفحة، أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسین البيئة والمعيشة والتعليم، حيث تم فيه اتخاذ الإمام عليّ (عليه السلام)، من قبل المجتمع الدولي شخصيةً متميزة، ومثلاً أعلى في إشاعة العدالة، والرأي الآخر، واحترام حقوق الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين، وتطوير المعرفة والعلوم، وتأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية، وعدم خنق الحريات العامة. وقد تضمن التقرير مقتطفات من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام الموجودة في نهج البلاغة، التي يوصي بها عماله، وقادة جنده، حيث يذكر التقرير أنَّ هذه الوصايا الرائعة تعد مفخرة لنشر العدالة، وتطوير المعرفة، واحترام حقوق الإنسان. وشدد التقرير الدولي على أن تأخذ الدول العربية بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، لأنها (لا تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية، ومنع تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة في شؤون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة). والملاحظ أنَّ التقرير المذكور قد وزع على جميع دول الأمم المتحدة، حيث اشتمل على منهجية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في السياسة والحكم، وإدارة البلاد، والمشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وتحقيق مصالح الناس، وعدم الاعتداء على حقوقهم المشروعة. وتضمن التقرير الدولي أيضاً شروط الإمام عليّ (عليه السلام) للحاكم الصالح، التي وردت في نهج البلاغة، وفيها يقول (عليه السلام): (إنَّ من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فمعلم نفسه ومؤدبها أحق بالاجلال من معلم الناس). واقتبس التقرير الدولي مقاطع من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لعامله على مصر مالك الأشتر، التي

ص: 106

يؤكد فيها على استصلاح الأراضي والتنمية ويقول: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنَّ ذلك لايدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً). وورد في التقرير الدولي أيضاً أساليب الإمام عليّ (عليه السلام)، في محاربة الجهل والأمية، وتطوير المعرفة، ومجالسة العلماء، حيث يقول (عليه السلام): (وأكثر من مدارسة العلماء، ومنافسة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك). ومن شروط الحاكم العادل أخذ التقرير الدولي قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، الذي قال فيه: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه؛ وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم في الحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم؛ ممن لايزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليلون، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً). إنَّ هذا التقرير يبين أنَّ علياً بن أبي طالب (عليه السلام) يعد مفخرة يحار الإنسان إلى أي جانب منها يشير. وكيف لا؟ وهو قد تربى على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان مما أنعم الله عزوجل به على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه كان في حجر رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم)، وكان أول ذكر من الناس آمن برسول الله، وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى (32).

ص: 107

المبحث الرابع: الاستنتاجات والتوصيات

اولاً:- الاستنتاجات:

1- عرف المسلمون الإدارة ومارسوها في كافة شؤونهم ونشاطاتهم الدينية والدنيوية.

2- أنَّ مبادئ الإدارة في السنة النبوية الطاهرة محورها الأساس العقيدة والإيمان وبهما يتجاوز الفرد المسلم المنافع الشخصية الدنيوية إلى سعة التكليف الرباني الذي يجعل الحياة كلها لله، وأنَّ غاية خلق الإنسان هو العبادة والخلافة في الأرض.

3- أن منهج الامام علي (عليه السلام) يمتلك مفهوماً خاصاً للإدارة، يختلف عن ما هو في الفكر الغربي، فهي يسعى بصفة أساسية لخدمة الأهداف المشروعة يحكمها في ذلك الإيمان والعقيدة الربانية.

4- أصدرت الأمم المتحدة، في العام 2002، تقريراً باللغة الإنكليزية بمائة وستين صفحة، أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم، حيث تم فيه اتخاذ الإمام عليّ (عليه السلام) من قِبَل المجتمع الدولي شخصيةً متميزة، ومثلاً أعلى في إشاعة العدالة، والرأي الآخر، واحترام حقوق الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين، وتطوير المعرفة والعلوم، وتأسيس الدولة على أسس التسامح والخير والتعددية، وعدم خنق الحريات العامة.

5- المستشاريين القانونيين للأمم المتحدة قد إعتمدوا رسالة الإمام علي صلوات الله عليه لمالك الأشتر (13 صفحة تقريبا) و مقولة (الخلق صنفان، إما أخ لك في الدين او

ص: 108

نضير لك في الخلق) كمصادر للتشريع القانوني لهيئة الأمم المتحدة.

6- يؤدِّي المكلَّف العمل في الإدارة من المنظور الاسلامي عمله على أنه على قيمة إيمانية يسعى من خلالها للعبادة، وعلى أساس الأخوة ة والمساواة واحترام إنسانية العامل ونوع العمل.

7- أن النظام الإداري في الإسلام والسنة النبوية ومنهج أهل البيت (عليهم السلام)، هو «مجموعة الأحكام والتشريعات التي شرعها الإسلام لتنظيم جهود البشر جماعيا وفرديا وتوجيههم وجهة هادفة لتحقيق مصالحهم وسد حاجاتهم الدنيوية والأخروية وحفزهم بها إلى فعل الخير والبعد عن الشر ومنع الإفساد.

8- تتبنى الإدارة الغربية التخطيط والتركيز على الزبائن وهي ربحية دنيوية هدفها الاساسي هو ارضاء المستهلك لتحقيق اهدافها وفي مقدمة تلك الاهداف تحقيق الربحية.

ثانياً:- التوصيات:

1- العناية بتقوية الجوانب المعنوية المتصلة بإدارة من المصادر الاسلامية لدى جميع الافراد بدون استثناء وفي جميع القطاعات.

2- التخلق بأخلاقيات القيادة إلاسلامية الناجحة، وذلك من خلال تهيئة كوادر مؤهلة ذات قدرات ومهارات متميزة لما لذلك من دور كبير في تحقيق الاهداف.

3- الاهتمام بمبادئ الإدارة على وفق المنهج الإسلامي في جميع القطاعات، لما لها من قوة عقائدية وأخلاقية في تحقيق التطوير والإصلاح المنشود.

4- من الأهمية تطبيق منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) للإدارة في في جميع

ص: 109

المؤسسات الدولة ويفضل تدريسها في مرحلة الاعدادية والجامعة.

5- اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب، وتبادل الرأي والاحترام المتبادل والعلاقة الدافئة بين الرؤساء والمرؤوسين.

6- تنمية وتشجيع روح الإبداع والابتكار لدى العاملين ولقد كان الإسلام سباقاً إلى تنمية روح الابتكار والاجتهاد.

7- تهيئة المناخ الباعث على الإتقان بما يوفره من ضمانات الحرية والشورى والمشاركة والتفويض والعدل والحوافز الملائمة والتكريم والتكافل، ذلك المناخ الذي يشجع العاملين على الحوار الحر المبدع والذي ينمي قدرات الحوار والمشاركة في اتخاذ القرارات والموضوعية في معالجة وجهات النظر المختلفة.

8- تشکیل وحدة إدارية في كل مؤسسة تهتم بالقيم الإسلامية المحفزة على تجويد العمل، وإخلاص العمل لله عز وجل، والأمانة في أداء الأعمال، التعاون من أجل الصالح العام، لزيادة حماس الموظفين ووضعهم على الخط الصيحيح.

9- تشجيع الباحثين على النشر في المجلات العالمية، وذلك من خلال تغطية للنفقات المترتبة على الباحث والمرتبطة بعملية النشر.

ص: 110

الهوامش

1- المالكي، صبيح مزعل جابر والعباسي عماد الدين عبد الرزاق: التناص بين عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر والرسالة الخامسة (في نصيحة الملوك) لسعدي الشيرازي، مجلة جامعة بابل، المجلد 22، العدد 2، 2014. ص 301 (بتصرف).

2- الحسيني، صلاح هادي: القيادة الإدارية وأثرها في إدارة الموارد البشرية استراتيجي، دراسة ميدانية في المنظمات الحكومية في محافظة الناصرية - العراق، رسالة مقدمة إلى مجلس كلية الإدارة والاقتصاد في إلاأكاديمية العربية، في الدنمارك وهي جزء من متطلبات نيل شهادة الماجستير، في إدارة الأعمال، قسم الإدارة، كلية الإدارة والاقتصاد، الأكاديمية العربية في الدنمارك. 2009.

3- النمر، سعود وآخرون، الإدارة العامة - الأسس والوظائف، الطبعة الخامسة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 2001. ص 5.

4- الصباب، أحمد عبد الله، أصول الإدارة الحديثة، الطبعة الرابعة، 1992. ص 19.

5- مصطفی، عبد الحميد و النابة، نجاة عبد الله: الإدارة التربوية: مفهومها - نظرياته - وسائلها، الطبعة الاولى، الإمارات للنشر والتوزيع، دبي، الإمارات العربية المتحدة. 2005. ص 9.

6- الجضعي، خالد: الإدارة - النظريات والوظائف، الطبعة الاولى، الرياض، المملكة العربية السعودية، 2006. ص 18.

7- المصدر نفسه. ص 19.

8- الحميد، عبد الواحد بن خالد: ورقة مقدمة لندوة "أخلاقيات العمل في القطاعين الحكومي والأهلي" بعنوان "دور وزارة العمل في تنظيم وضبط أخلاقيات العمل في القطاع الخاص"، المنعقدة في معهد الإدارة العامة، الرياض، المملكة العربية

أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول ص: 111

السعودية. 2005، ص 4.

9- مطاوع، إبراهيم وأمينة أحمد: الأصول الإدارية للتربية، دار الشرق للطباعة والنشر، جدة، المملكة العربية السعودية، 1996..ص 35.

10- مطاوع، ابراهيم: الإدارة التربوية في الوطن العربي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، 2003. ص 35.

11- محمد، رأفت عثمان: الفكر الإداري في الإسلام، وقائع ندوة (31)، الإدارة في الإسلام، التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة بالتعاون مع جامعة الازهر بالقاهرة، المملكة العربية السعودية، للفترة 15 - 119 / 9 / 1990. ص 123.

12- الضحيان، عبد الرحمن إبراهيم: الإدارة في الإسلام: الفكر والتطبيق، الطبعة الاولى، دار الشرق، جدة، المملكة العربية السعودية. 1986. ص 59.

13- ابن منظور، محمد بن مکرم: لسان العرب، مادة - دور، الجزء الرابع، صحَّحها: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1995. ص 448.

14- الصيني، محمد وحيمور، حسن: معجم الطلاب، مادة (أدار)،مكتبة لبنان، بيروت. لبنان، 1991. ص 50.

15- المزجاجي، أحمد بن داود: مقدمة في الإدارة العامة الإسلامية، الطبعة الاولى، الشركة الخليجية للطباعة والتأليف، جدة، المملكة العربية السعودية، 2000.

16- المطيري، حزام بن ماطر: الإدارة الإسلامية - المنهج والممارسة، الطبعة الاولى، مطابع الفرزدق، توزيع دار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، المملكة

ص: 112

العربية السعودية، 1997. ص 36.

17- سارة، إحسان: الإدارة والقضاء الإداري في الإسلام، الطبعة الاولى، دار يافا العلمية، عمان، الأردن. 2000. ص 23.

18- الشلعوط، فريز محمود أحمد: نظريات في الإدارة التربوية، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، 2002. ص 73 - 74.

19- سورة الذاريات، الآية: 56.

20- الختم، خالد سر: علم الإدارة في الإسلام بين التنظيم والمنظور، شركة دار الحكمة للطباعة والنشر، الخرطوم بحري، السودان، 1998. ص 118.

21- احمد، سعيد سلمان: الادارة العامة العربية الاسلامية مفاهيم ونظرات تأصيلية، مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الاسلامية، السودان، العدد التاسع (عدد خاص)، 2004. ص 262.

22* الرسالة التي أرسالها الامام علي بن ابي طالب(عليه السلام) إلى مالك بن الاشتر النخعي (رضي الله عنه) عندما ولاه الحكم في مصر. فهي عهد في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة الأُمور العبادية والقضائية.

23- سورة القصص، الايه: 83.

24- سورة.الحجرات، الآية: 13.

25- محمد رافت عثمان: مصدر سابق، ص 135

26- العاتي، ابراهيم: الرؤية السياسية للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) - دراسة تحليلية في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ط 1، مطبعة الضياء للطباعة

ص: 113

والتصميم، النجف الأشرف، العراق. 2010. ص 62.

27- فايز، علي شكر: الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، //:http تاریخ ،www.haydarya.com/maktaba_moktasah/17/16.htm الزيارة: 2016/11/20.

28- العاتي، ابراهيم: مصدر سابق. ص 62.

29- الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: معاني الأخبار، المتوفي سنة 381 ه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مصادر الحديث الشيعية، القسم العام، المكتبة الشيعية الناشر انتشارات إسلامي الحوزة العلمية، قم المشرفة، ایران، جميع الحقوق محفوظة ل مؤسسة آية الله العظمى الميلاني لإحياء الفكر الشيعي. 1959. ص 160.

30- الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، طبعة جديدة منقحة، المجلد السابع، مصادر التفسير، المكتبة الشيعية، جميع الحقوق محفوظة ل مؤسسة آية الله العظمى الميلاني لإحياء الفكر الشيعي، ص 184.

31- صياح، رحيم علي، والشمري، عبد الحميد حمودي الشمري: الفكر الرقابي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة جامعة بابل، المجلد 22، العدد1، 2014، ص 42 - 43.

32- قاسم خضير عباس: الإمام علي وتكريمه من قبل الأمم المتحدة، موقع العتبة الباسية المقدسة، الرابط: .https://forums.alkafeel.net/showthread php?t=55487 تاريخ الزيارة: 2016/11/32.

ص: 114

المصادر

- القرآن الكريم.

- الاحاديث النبوية الشريفة.

- نهج البلاغة.

اولاً: المصادر العربية:

1- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، مادة - دور، الجزء الرابع، صحَّحها: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1995.

2- احمد، سعيد سلمان: الادارة العامة العربية الاسلامية مفاهيم ونظرات تأصيلية، مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الاسلامية، السودان، العدد التاسع (عدد خاص)، 2004.

3- الجضعي، خالد: الإدارة - النظريات والوظائف، الطبعة الاولى، الرياض، المملكة العربية السعودية، 2006.

4- الحسيني، صلاح هادي: القيادة الإدارية وأثرها في إدارة الموارد البشرية استراتيجي، دراسة ميدانية في المنظمات الحكومية في محافظة الناصرية - العراق، رسالة مقدمة إلى مجلس كلية الإدارة والاقتصاد في إلا أكاديمية العربية، في الدنمارك وهي جزء من متطلبات نيل شهادة الماجستير، في إدارة الأعمال، قسم الإدارة، كلية الإدارة والاقتصاد، الأكاديمية العربية في الدنمارك. 2009.

5- الحميد، عبد الواحد بن خالد: ورقة مقدمة لندوة «أخلاقيات العمل في القطاعين الحكومي والأهلي» بعنوان «دور وزارة العمل في تنظيم وضبط أخلاقيات العمل

ص: 115

في القطاع الخاص»، المنعقدة في معهد الإدارة العامة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 2005.

6- الختم، خالد سر: علم الإدارة في الإسلام بين التنظيم والمنظور، شركة دار الحكمة للطباعة والنشر، الخرطوم بحري، السودان، 1998.

7- سمارة، إحسان: الإدارة والقضاء الإداري في الإسلام، الطبعة الاولى، دار يافا العلمية، عمان، الأردن. 2000.

8- الشلعوط، فريز محمود أحمد: نظريات في الإدارة التربوية، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، 2002.

9- الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: معاني الأخبار، المتوفي سنة 381 ه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، الناشر انتشارات إسلامي الحوزة العلمية، قم المشرفة، ايران، جميع الحقوق محفوظة ل مؤسسة آية الله العظمى الميلاني لإحياء الفكر الشيعي. 1959.

10- الصباب، أحمد عبد الله، أصول الإدارة الحديثة، الطبعة الرابعة، 1992.

11- صياح، رحيم علي، والشمري، عبد الحميد حمودي الشمري: الفكر الرقابي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة جامعة بابل، المجلد 22، العدد 1، 2014.

12- الصيني، محمد وحيمور، حسن: معجم الطلاب، مادة (أدار)، مكتبة لبنان، 12 بيروت، لبنان، 1991.

13- الضحيان، عبد الرحمن إبراهيم: الإدارة في الإسلام: الفكر والتطبيق، الطبعة الاولى، دار الشرق، جدة، المملكة العربية السعودية. 1986.

ص: 116

14- العاتي، ابراهيم: الرؤية السياسية للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) - دراسة تحليلية في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ط 1، مطبعة الضياء للطباعة والتصميم، النجف الأشرف، العراق. 2010.

15- المالكي، صبيح مزعل جابر والعباسي عماد الدين عبد الرزاق: التناص بين عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر والرسالة الخامسة (في نصيحة الملوك) لسعدي الشيرازي، مجلة جامعة بابل، المجلد 22، العدد 2، 2014.

16- محمد، رأفت عثمان: الفكر الإداري في الإسلام، وقائع ندوة (31)، الإدارة في الإسلام، التي نظمها المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة بالتعاون مع جامعة الازهر بالقاهرة، المملكة العربية السعودية، للفترة من 15-1990/9/19.

17- المزجاجي، أحمد بن داود: مقدمة في الإدارة العامة الإسلامية، الطبعة الاولى، الشركة الخليجية للطباعة والتأليف، جدة، المملكة العربية السعودية، 2000.

18- مصطفی، عبد الحميد و النابة، نجاة عبد الله: الإدارة التربوية: مفهومها - نظرياته - وسائلها، الطبعة الاولى، الإمارات للنشر والتوزيع، دبي، الإمارات العربية المتحدة. 2005.

19- مطاوع، إبراهيم وأمينة أحمد: الأصول الإدارية للتربية، دار الشرق للطباعة والنشر، جدة، المملكة العربية السعودية، 1996.

20- مطاوع، ابراهيم: الإدارة التربوية في الوطن العربي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، مصر، 2003.

ص: 117

21- المطيري، حزام بن ماطر: الإدارة الإسلامية - المنهج والممارسة، الطبعة الاولى، مطابع الفرزدق، توزيع دار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1997.

22- النمر، سعود وآخرون: الإدارة العامة - الأسس والوظائف، الطبعة الخامسة، الرياض، المملكة العربية السعودية. 2001.

ثانياً: المصادر الالكترونية:

قاسم خضير عباس: الإمام علي وتكريمه من قبل الأمم المتحدة، موقع العتبة الباسية المقدسة، الرابط: https://forums.alkafeel.net/showthread.php?t=55487 الزيارة: 2016/11/32.

فايز، علي شكر: الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، ،http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/17/16.htm تاريخ الزيارة: 2016/11/20

ص: 118

مبادئ الإدارة والقيادة في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)

الشيخ سجاد الربيعي

ص: 119

ص: 120

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله المصطفی محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وعلى أصحابه المنتجبين الميامين

تعد الوثيقة الادارية التاريخية التي ضمنها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عهدا لمالك الأشتر النخعي (رضوان الله عليه)، من الوثائق الادارية الاسلامية التي ازدهرت بها كتب التاريخ والتراث الاسلامي والسيرة العلوية الشريفة. حيث تعتبر هذه الوثيقة من المستندات التي احتوت على أسس ومبادئ أستندت من كتاب الله الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتمثل نظاما إداريا متكاملا في جوانبه. والتي عكست الصورة الناصعة للحكم الإسلامي الحقيقي، من خلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بين الراعي والرعية، وكيفية توزيع وتصريف الاعمال وتقديم المصالح العامة على المصالح الشخصية، وليست فقط تتسم بالطابع الديني فحسب بل تعدت النظم العلمية في الادارة ونظام الحكم. فجاء بحثنا الموسوم في عنوانه «مبادئ الادارة والقيادة في عهد الامام امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله علیه) دراسة تحليلية»

ص: 121

أهداف البحث:

الهدف من الدراسة هو تحديد المعالم الاساسية للنظام الإداري في النظرية الاسلامية.

وتتركز أهداف البحث على النقاط التالية.

1- ابراز الفكر الاداري والقيادي للأمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من خلال رسالة العهد التي خطها لواليه على مصر الصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه).

2- تسليط الضوء على الاسس والمبادئ الادارية والقيادية في العهد.

3- التأكيد على المعايير الخلقية التي يتسم بها المسؤول الاداري في المنظومة الادارية والقيادية.

4- ابراز عنصر العدالة والمساواة في نظام الحكم.

5- التأكيد على عامل اللين والعطف والشفقة والتعامل الحسن في المنظومة الادارية.

ومن خلال هذا البحث نتعرف على المبادئ الادارية الاساسية في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر، المتمثلة بالخصائص والعناصر والواجبات والمهام الملقاة على عاتق المدير والتي يجب تحققها في المنظومة الادارية.

ص: 122

تتركز مبادئ الادارة في العهد على المطالب التالية:

اولا - الادارة من موقع العبودية (مبدأ الاعتقاد)

قوله (عليه السلام) (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ) (1)

يريد الامام ان يسلط الضوء على سلوكيات المدراء وانطباعاتهم وتصوراتهم وهما في موقع المسؤولية، هناك انطباعات وسلوكيات تدفع الانسان نحو التسلط وحب الدنيا وحب الجاه. ماذا تكون خلفية من يحمل هذه السلوكيات والانطباعات فيمن يكون في موقع السلطة، لاشك ولا ريب أنه حينما يصل الى موقع المسؤولية سيتخذ مجموعة من الاجراءات القاسية والقرارات الظالمة ويسير نحو الانحراف في تضيع الاهداف وخدمة الناس، ويعتقد بان من يعمل تحت أمرته هو عبد ويتعامل تعامل المولى مع عبده، وليس تعامل مسؤول مع مرؤوسين يستحقون الاهتمام والرعاية كما هو في فكر الإمام (عليه السلام)

وهناك من ينظر الى موقع المسؤولية على انها محطة لهداية الناس وخدمتهم ومحطة يؤتمن فيها على مصالح الناس يضمن من خلالها حقوق الاخرين. فالجانب السلوكي والمعتقد له أثر كبير في مسار أداء المدراء على كافة الاصعدة، ممكن ان يلعب المدير دورا بارزا وسلوكا مغايرا لمعتقداته، لكن على المستوى البعيد لا يستطيع المدير أن يخفي تأثير معتقداته. الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقدم مفتاحا سحريا من مفاتيح النجاح والتفوق في الادارة لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) وهو العبودية لله تعالى والاعتقاد بالمبدأ.

وهذه القضية ليست قضية من القضايا الثانوية أو قضية لا صلة لها بموضوع الادارة

ص: 123

والقيادة. العبودية لله استحضار العلاقة بين الانسان وربه لها الأثر العميق في مجمل السلوك الاداري في كافة المراتب، هذا الاستحضار يجعل الانسان المسؤول والقيادي یمارس علاقة الإنسانية وفق النظرية الاسلامية، وليست العلاقة السلطوية مع غيره من العاملين تحت امرته. من هنا يشير الأمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) واصفا حالة التعامل والانسجام في النظام الاداري وفق الرؤية الاسلامية.

(فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا یَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلَا غِنَی بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ..... أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ وَلَيْس شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ المضطَهَدِینَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ) (2)

فينبغي للإنسان المتصدي الارتباط بالمبدأ متوكلا عليه سبحانه وتعالى. قال (عليه السلام).

(وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعَظِیمِ قُدْرَتِهِ عَلَی إِعْطَاءِ کُلِّ رَغْبَة أَنْ یُوَفِّقَنِی وَإِیَّاكَ لِمَا فِیهِ رِضَاهُ مِنَ الاْقَامَةِ عَلَی الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَیْهِ وَإِلَی خَلْقِهِ مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِی الْعِبَادِ وَجَمِیلِ الاْثَرِ فِی الْبِلاَدِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ وَتَضْعِیفِ الْکَرَامَةِ وَأَنْ یَخْتِمَ لِی وَلَكَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ إِنّا إِلَیْهِ راجِعُونَ وَالسَّلاَمُ عَلَی رسول الله صلی الله علیه و آله الطَّیِّبِینَ الطَّاهِرِینَ وَسَلَّمَ تَسْلِیماً کَثِیراً وَالسَّلاَمُ.)

ص: 124

فيتحصل من ذلك: ان الرؤية الاسلامية التي يحملها المسؤول (العبودية لله والايمان بالمبدأ) هما الركنان الأساسيان في تحقيق الأهداف الادارية في مسارات صحيحة

ثانيا - وحدة الاوامر وسلسلة المراتب:

قوله (عليه السلام) (وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ وَ لاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْکَنَةِ وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَةً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلی الله علیه و آله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلاَةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الاَمْنِ وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَکُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَیْنِ الصِّنْفَیْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ لِمَا یُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَیَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَیُؤْتَمَنُونَ عَلَیْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِیعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ فِیمَا یَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَیُقِیمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَیَکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَیْدِیهِمْ مَا لَا یَبْلُغُهُ رِفْقُ غَیْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَهُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ الَّذِینَ یَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ وَفِی اللَّهِ لِکُلٍّ سَعَهٌ وَلِکُلٍّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یُصْلِحُهُ وَلَیْسَ یَخْرُجُ الْوَالِی مِنْ حَقِیقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَوْطِینِ نَفْسِهِ عَلَی لُزُومِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَیْهِ فِیمَا خَفَّ عَلَیْهِ أَوْ ثَقُلَ) (3)

يستعرض الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذ المقطع من العهد الشريف، موضحا فيه كل النشاطات والافعال ذات السياق الواحد التي تخضع لإدارة المدير الذي يكون مشرفا على كل الممارسات المطلوبة من قبل المرؤوسين في مبدأ توحید

ص: 125

الاوامر وسلسة المراتب، حتى لا يكون هناك خلل في العملية الاشرافية والرقابية التي يتولى أمرها المدراء في المنظومة الادارية.

ومقصودة (عليه السلام) من قوله (واعلم أن للرعية طبقات) ليس اثبات الطبقات بهذا المعنى بل بیان اختلاف الرعية في ما تتصداه من شؤون الحياة البشرية، حيث ان الانسان مدني الطبع يحتاج الى حوائج كثيرة في معاشه من المأكل والملبس والمسكن ولا يقدر فرد واحد بل افراد على إدارة كل هذه الامور فلابد وان ينقسم الرعية بحسب مشاغله إلى طبقات ويتصدى كل طبقة شأنا من الشؤون وشغلا من المشاغل، ثم يتبادل حاصل أعمالهم بعضهم مع بعض حتى يتم أمر معيشتهم ويكمل حوائج حياتهم (4).

كل واحد من هذه المستويات يمتلك صلاحية لما دونه من سلطة، وهذا يعد تنظيما للحياة البشرية في جميع جوانبها المختلفة على اساس تسلسل المراتب، فسلسلة المراتب عند الإمام (عليه السلام) تبدأ من المسؤول وتنتهي عند الامام ثم الله تعالى فوق الامام وعلى الجميع.

فسلسلة المراتب هي نوع من بسط النفوذ والرؤية السلطوية، ومن الظواهر التي نشاهدها كل يوم في حياتنا الاجتماعية، ينبغي للمدير ضمن الصلاحيات الممنوحة له في التسلسل الوظيفي ان يكون مرنا لكي يستشعر النتائج الإيجابية في التسلسل الرتبي لما دونه، فالرؤية الاسلامية في الادارة لها ابعاد واسعة في العمل ولم تكن نوعا من الطبقية والتميز بين الافراد وإنما هي حالة تنظيمية للعمل وادارة شؤون الناس

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالة بعثها الى الاشعث بن قیس عامله على اذربيجان (وان عملك ليس لك بطعمة لكنه في عنقك).. أنت موظف، والوظيفة أمانة في عنقك لله والمسلمين، وليست مزرعة لك ومتجرا (وأنت مسترعي لمن فوقك).

ص: 126

إن عليك لحسيبا ورقيبا، وهو الخليفة، يحصي عليك جميع أعمالك، ويأخذك بها ان خنت وخالفت (ليس لك ان تفتات في رعية) أي تستبد وتستغل الرعية التي أنت لها خادم وأجير. (5)

يعتبر الامام (عليه السلام) أن الوظيفة التي انيطت بالشخص ليست هي غنيمة وانما هي امانة، واداء الامانة على أحسن وجه من الامور الشرعية الواجبة في الشريعة المقدسة، فالمنصب عند امير المؤمنين (عليه السلام) انما هو امانة يؤتمن عليها في أي موقع من مواقع المسؤولية

قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، واستعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم إلى الشتات ونظامهم إلى البنات. وإذا اعتبرت القوة في العمّال فكيف بنفس الأئمة المفوض إليهم إدارة الأمّة (6)

فيتحصل: ان سلسة المراتب هي عملية توزيع الصلاحيات والعمل الجماعي، الذي هو سمة من سمات المنظومة الادارية في الاسلام، فان العمل المشترك الجماعي يمثل القاعدة المثلى للإدارة الصحيحة الناجحة التي تستنفر الطاقات والامكانيات

البشرية والمادية في خدمة الادارة الصالحة التي تعتمد على توزيع الصلاحيات من المسؤول الاعلى لمن هو دونه في سلسلة المراتب

ثالثا - تزكية النفس وكسر الشهوات:

قوله (عليه السلام) (وَأَمَرَهُ أَنْ یکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ یزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ... وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء فَإِنَّ ذَلِكَ مِن أَوثَقِ فُرَصِ الشَّيطَانِ فِي نَفسِهِ) (7)

ص: 127

الجمحات لغة: (جمع): فعل، جَمَح / جَمَح إلى يَجمَح، جُموحًا وجَمحًا وجِماحًا، فهو جامِح وجَموح، والمفعول مجموح إليه. وجمح الرجل أي ركب رأسه وهواه ولم يمكن رده، وجمح إلى الشيء: أسرع إليه، قال تعالى: (لَوْ یَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَیْهِ وَ هُمْ یَجْمَحُونَ (8)

الجمحات: منازعة النفس الى الشهوات ومآربها ونزعها بكفها وعدم تمكنها من الاسترسال في الشهوات، وان يكون اميرا عليها ومسيطرا وقامعا لها من التهور والانهماك (9)

الاطراء: لغة: مصدر أطرى، معتلًّا، وهو مجاوزة الحدّ في المدح و المبالغة فيه، يقال: أطرى فلانٌ فلاناً، إذا بالغ في المدح عليه، وأطر أو إطراء مهموزا مدحه بما ليس فيه. (10)

منه قوله (عليه السلام) في ذم الاطراء

(الصق بأهل الخير والورع ورضهم على أن لا يطروك فإن كثرة الاطراء مدن من الغرة والرضا بذلك يوجب من الله المقت. (11)

أقول: يأمر الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الاشتر

(رضوان الله عليه) أن يكسر نفسه من الشهوات وامام المغريات والطموحات والميول الشخصية، ويطلب الامام عليه السلام منه أن يمسك نفسه عند الجموح والتردد، فالنفس بطبعها أمارة وتبعث نحو السوء تتمرد وتنزع للوصول الى مآربها وشهواتها وتغري صاحبها وتحمله الى المهالك الامارحم الله. ويؤيد هذا المعنى ما ورد عن مولانا الامام زین العابدين (عليه السلام) بخصوص النفس الامارة، حيث يرسم الامام زین العابدین علی ابن الحسين (عليه السلام) في المناجاة الثانية من المناجاة الخمسة عشر المعرفة، النفس الامارة بكل وضوح ويشكو إلى الله تعالى منها بهذه الكلمات

ص: 128

(بوصفه قدوة لعموم الناس ويقول) (13) (إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، و بمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة) (13).

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام ورد في غرر الحكم إن هذه النفس لأمارة بالسوء، فمن أهملها جمحت به إلى المآثم) (14) وعنه (عليه السلام): إن نفسك لخدوع، إن تثق بها يقتدك الشيطان إلى ارتكاب المحارم) (15)، و عنه (عليه السلام): کن أوثق ما تكون بنفسك، أحذرما تكون من خداعها) (16)

والامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع يشير الى نقطة مهمة، يقول ان من أخطر المخاطر على الانسان هو التصدي لإدارة أمور الناس من دون وجود قدرة على التحكم بالنفس

الامام (عليه السلام) يعبر عن الموقع الاداري بانه السلطة والنفوذ و محطة اساسية لانطلاق الشهوات، فيكون ضعيفا أمام المغريات والملذات والشهوات

وهناك من يستطيع أن يميز بين المحطتين، محطة الانطلاق الى الخدمة وتقديم المصلحة العامة في تحقيق الاهداف والسعي لقضاء حوائج الناس، ومحطة يعبر عنها حكام الجور (فرصة لإشباع الرغبات والشهوات النفسية والتمتع بالملذات) (17)

يقول الإمام (عليه السلام) في أحد حكمه في تأیید ما نحن فيه (من ملك استأثر) (18) الاستئثار لغة (استأثر بالسُّلطة: استبدَّ بها) (19)، يعني الاستبداد فيقال هذا رجل مستبد برایه، وهذا مدير مستبد، وهذا رب أسرة مستبد، معناه كل من يصل الى

ص: 129

موقع المسؤولية ولم يكن محكما لنفسة يصاب بالاستئثار، فيتحول الى ملكة راسخة في النفس الانسانية

فاذا استطاع تحكيم النفس والسيطرة عليها فيتحول الاستئثار الى تواضع ومحبة وخدمة للناس، يقول (عليه السلام) (ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِی خَاصَّةً وَبِطَانَةً فِیهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ) (20)

نلاحظ كيف الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير الى مخاطر الاستبداد، بقوله (من استبد برأيه هلك) (ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم) (21). أي من اراد عقلا أكبر فلیشاور الرجال، لأنه في مشورتهم مشاركة في عقولهم، ينبغي للإنسان ان يستشير الاخرين ويسمع لهم (الحكمة ضالة المؤمن) (22)

ان الادارة في الرؤية الاسلامية وعهد الإمام (عليه السلام) يجب ان لا تكون خاضعة لتأثيرات النفس وجموحاتها، لابد ان تكون هناك تحکیم وسيطرة وتطبيع على ذلك في اداء الواجبات الادارية المتمثلة بالأشراف والتنظيم والرقابة والتخطيط واستثمار الطاقات وتحقيق الاهداف وخدمة الناس من اجل طرح ادارة ناجحة لها تأثيراتها في نمو الفكر البشري

رابعا - الراي العام ومبدأ التوقعات:

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ بِمَا یُجْرِی اللّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ فَلْیَکُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَیْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ) (23)

ص: 130

هذه المقطع من العهد على ايجازه يحمل معاني مهمة كثيرة في المنظومة الادارية من هذه المعاني ان الامام يستحضر في ذهن الاشتر (رضوان الله عليه) الابعاد التاريخية لمصر والحكومات التي حكمت بلاد مصر وطبيعة نظام الحكم فيها من الظلم والعدل والجور، ونظر الناس الى الوالي ونظر الوالي اليهم والاجراءات التي يتخذها بعد ما كان ينظر اليها من بعيد وهي تحت سلطة الحكومات العادلة والحكومات الظالمة (لابد من الفحص عن هذه الدول والفحص عن ما هي عادلة أو جائرة (24)

المقصود من هذه الدول هي العمال الاسلامين بعد فتح مصر، وهل يصح التعبير عنهم بانها دول ولو باعتبار شمول السلطة الاسلامية (25). يريد الامام (عليه السلام) ان يقول إن ذاكرة التاريخ ذاكرة قوية فالناس لا تنسى ما جرى عليها وعلى الامم الاخرى، لان الناس يعايشون الحكومات وتجاربهم ويحفظون كل ما جرى، لان الذاكرة التاريخية اقوى من الطغاة والظالمون، فلأتنسى الناس ما حدث عليها من ظلم وجور واضطهاد وعدل كل شيء محفوظ في ذاكرة الناس ويتحدثون به في اوساط المجتمع حتى اصبح بعض الاشخاص فيهم بمثاية تاريخ مكتوب ويرجع اليهم كمصدر أساسي عند الحاجة في تدوين الاحداث التاريخية

فمنهج الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو تنشيط الذاكرة فيذكر الناس دائما بما مضى، وهو المنهج المطابق للقران الكريم عندما يتحدث عن الامم الماضية وسب هلاكها، فعلينا دائما ان نتمتع بزخم تاريخي وحضاري وان ننطلق ونبدأ من حيث انتهى الاخرون.

يقول الامام أمير المؤمنين في خطبة له تأييدا لما نحن فيه.

(أُوصِیکُمْ عِبَادَ اَللَّهِ بِتَقْوَی اَللَّهِ اَلَّذِی أَلْبَسَکُمُ اَلرِّیَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَیْکُمُ اَلْمَعَاشَ فَلَوْ أَنَّ

ص: 131

أَحَداً یَجِدُ إِلَی اَلْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ اَلْمَوْتِ سَبِیلاً لَکَانَ ذَلِكَ سُلَیْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ اَلَّذِی سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ مَعَ اَلنُّبُوَّةِ وَ عَظِیمِ اَلزُّلْفَةِ فَلَمَّا اِسْتَوْفَی طُعْمَتَهُ وَ اِسْتَکْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِیُّ اَلْفَنَاءِ بِنِبَالِ اَلْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ اَلدِّیَارُ مِنْهُ خَالِیَةً وَ اَلْمَسَاکِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ وَ إِنَّ لَکُمْ فِی اَلْقُرُونِ اَلسَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَیْنَ اَلْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ اَلْعَمَالِقَةِ أَیْنَ اَلْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ اَلْفَرَاعِنَةِ أَیْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ اَلرَّسِّ اَلَّذِینَ قَتَلُوا اَلنَّبِیِّینَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ اَلْمُرْسَلِینَ وَ أَحْیَوْا سُنَنَ اَلْجَبَّارِینَ أَیْنَ اَلَّذِینَ سَارُوا بِالْجُیُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْکَرُوا اَلْعَسَاکِرَ وَ مَدَّنُوا اَلْمَدَائِنَ ومنها قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا وأَخَذَهَا بِجَمِیعِ أَدَبِهَا مِنَ الاْقْبَالِ عَلَیْهَا وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا وَالتَّفَرُّغِ لَهَا فَهِیَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِی یَطْلُبُهَا وحَاجَتُهُ الَّتِی یَسْأَلُ عَنْهَا فَهُو مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاْسْلاَمُ وضَرَبَ بِعَسِیبِ ذَنَبِهِ وأَلْصَقَ الأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِیَّةٌ مِنْ بَقَایَا حُجَّتِهِ خَلِیفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِیَائِهِ. (26)

الامام (عليه السلام) يستعرض في هذ المقطع من الخطبة المراحل التاريخية المهمة التي مرت على الامم وعاشوا الناس احداثها في ظلال حكوماتها. الامام (عليه السلام) يسلط الضوء على تاريخ البشرية السالفة فيتطرق الى ذو النفوذ والقدرة من غير الانبياء المرسلين، الفراعنة وابناء الفراعنة واصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين يتحدث عنهم القرآن الكريم «وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا» (27) «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ» (28)، وقد ذكرهم القرآن مرتين، مما يبين كم كان لهم من التأثير، وقد وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) عندهم وذكرهم وذكر بهم، هؤلاء كانوا معاندين وقفوا بوجه الحق «قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأَطفَئُوا سُنَنَ المُرسَلِينَ وَأَحيَوا سُنَنَ الجَبَّارِينَ أَينَ الَّذِينَ سَارُوا بِالجُيُوشِ وَهَزَمُوا بِالأُلُوفِ وَعَسكَرُوا العَسَاكِرَ وَمَدَّنُوا المَدَايِنَ» والحقيقة خلدوا لكي يكونوا

ص: 132

ملعنة للتاريخ

اَلَ: لمَّا دَخَلَ النَّاسُ مَعَ عَلِيٍّ (عليه السلام) المَدَائِنَ ووقف عند طاق کسری، تَمَثَّلَ رَجُلٌ مِن أَصحَابِهِ: يقال له الحر بن سهم بن الطريف فستشهد ببيتين من الشعر معروف للأسود بن يعفر* (29):

ماذا أؤمل بعد ال محرق *** تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخو رنق والسدير وبارق *** والقصر ذو الشرفات من سنداد

ارضا تخيرها لدار أبيهم *** كعب بن هامة وأبن أم دؤاد

جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَكَانِ دِيَارِهِم *** فَكَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادِ

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم *** ماء الفرات يجيئ من اطراد

وَإِذَا النَّعِيمُ وَكُلُّ مَا يُلهَي بِهِ يَوماً *** يَصِیرُ إِلَى بِلًى وَنَفَادِ

فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): لَا تَقُل هَكَذَا، وَلَكِن قُل كَمَا قَالَ الله: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ» (30)، إنَّ هَؤُلَاءِ القَومَ كَانُوا وَارِثِينَ فَأَصبَحُوا مَورُوثِينَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ القَومَ استَحَلُّوا الحُرُمَ فَحَلَّت بِهِمُ النِّقَمُ، فَلَا تَستَحِلُّوا الحُرُمَ فَتَحُلَّ بِكُمُ النِّقَمُ (31)

ينبغي للإنسان ان يعيش حياته بطريقة أذا مات بكى عليه الناس، ولاتبكيه الناس إلا حينما يفتقدونه فيذكرونه ويتأسفون على فقده بسبب اثارة الطيبة معهم.

عن ضرار بن ضمرة قال: أوصى أمير المؤمنين عليه السلام

بنيه فقال: يا بني عاشروا الناس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم

ص: 133

بكوا عليكم، ثم قال:

أريد بذاكم أن تهشوا لطلقتي *** وأن تكثروا بعدي الدعاء على قبري

وأن يمنحوني في المجالس ودهم *** وإن كنت عنهم غائبا أحسنوا ذكري (32)

وقال ابن عباس: سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أوصني فقال: لا تحدث نفسك بفقر، ولا بطول عمر (33)، يدل هذا الحديث على أن الناس تشخص في ذاكرتها الانسان العادل ذو الاخلاق الحسنة،

نحن بحاجة ماسة الى تعزيز هذه المفاهيم وترسيخها بشكل اكبر ليكون البناء الاجتماعي سليما في مجتمعنا في دائرة المسؤولين واصحاب المناصب، ونستطيع بناء دولة على اسس صحيحة وفق منهج الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في تنظيم وتكيف القانون نحو السلوك العادل.

ثم ينتقل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهدة لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) الى استعراض المعايير الاساسية في نجاح المنظومة الإدارية في تحقيق الاهداف لمن يتصدى لإدارة الامور.

ص: 134

خامسا: معايير نجاح المنظومة الإدارية

أولا - الاعمال الصالحة: يقول (عليه السلام) (فَلْیَکُنْ أحَبَّ الذَّخائرِ إلَیكَ ذَخیرَةُ العَمَلِ الصّالِحِ) (34)

هنا يذكر الامام (عليه السلام) أن واحدة من هذه المعايير التي يستدل بها على صلاح المسؤول والمتصدي هو تقيم الناس له من خلال الحديث عنه وبيان اعماله الصالحة.

انطباعات وتصورات الراي العام وتقيم اداء المسؤول تمثل واحدة من المداخل التي يستدل من خلالها على صلاح المسؤول ورشدة وحسن اداءه. لذا نلاحظ الامام (علیه السلام) يؤكد في هذا المقطع من العهد الشريف على العمل الصالح الذي يعد من الذخائر النفيسة للإنسان المتصدي وغيره، ونتيجة هذا العمل يتحقق الاحترام والتقدير والمحبة في قلوب الناس التي تحضي بتأييد من الله سبحانه وتعالى، ومن خلال حسن ظن الناس و تقيمها يكون قادرا على النفوذ الى قلوب الناس والسيطرة على عواطفهم من دون حاجة الى اظهار حالات التصنع والتظاهر بأمور معينه، ومن دون الحاجة الى المكر والخداع او التخويف والترهيب واستخدام الاساليب المغرية، وتضيع اموال بيت المال لأجل استمالة قلوب الأخرين وضمانة السمعة الجيدة. فمعيار الراي العام في تقيم المسؤول هو العمل الصالح الذي يقوم به المتصدي فالحديث عنه بخير واحترام ونعته بصفاته الواقعية يعد من العطايا الالهية لا يحتاج اليها استخدام الطرق الملتوية.

ص: 135

ثانيا - الشح بالنفس والبخل عليها:

قوله (علیه السلام) (وشُحَّ بِنَفسِكَ عَمّا لا یَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفسِ الإِنصافُ مِنها فیما أحَبَّت أو کَرِهَت) (35)

ثم ينتقل الامام (علیه السلام) بوصية الى مالك الاشتر (رضوان الله عليه) في كيفية التعامل مع آراء الناس بقوله (وشُحَّ بِنَفسِكَ عَمّا لا یَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفسِ الإِنصافُ مِنها فیما أحَبَّت أو کَرِهَت).

الشح في اللغة: البُخل مَع حِرصٍ. تقول: شَحَّ يَشُحُّ مِن باب قَتَل، وفي لُغة مِن بابَي ضَرَب وتَعِب، ورجل شحيح وقوم شِحاح وأشِحَّة وأشحاء، وتَشاحَّ القوم: إذا شَحَّ بعضهم على بعض) (36)

تتضمن هذه العبارة من العهد الشريف مضامين عالية في الادب القيادي والإداري في المنظومة الاسلامية، فهي تخاطب المسؤول الذي يتحمل المسؤولية تجاه الاخرين بان يسيطر على قواه النفسية وان يكبح جماح نزواته ورغباته ومشاعره وأنانية والذي يؤكد عليه الإمام (عليه السلام) هو أن يستطيع الإنسان عند فوران الشهوة وثورة الغريزة أن يضبطها ويجعلها تحت إرادته، وبعكس ذلك أذا سيطر هوى النفس على فكر الإنسان وعقله وقواه وملكاته الأخرى فإنه سيقود صاحبه إلى وادي الهلكة والخسران (37)، ويؤكد هذا المعنى الامام الصادق (عليه السلام) بقوله (احذروا اهوائکم کما تحذرون اعدائكم، فليس شيء اعدى للرجال من اتباع اهوائهم و حصائد السنتهم) (38)، وفي غرر الحكم عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) (أملكوا أنفسكم بدوام جهادها. (39) يريد الامام (علیه السلام) من المسؤول ان يكون بخيلا مع نفسه، وان يكون شديدا عليها في مالا يحل له في القضايا التي لا يسمح له كمسؤول أن يمارسها او يقوم بها،

ص: 136

فيتعامل بشح وبخل واقتصاد شديد ومراقبة وحزم كبير مع نفسه، وهذا يتحقق بعدم السماح لها بأن تنطلق لتحب کما تريد وتکرہ کما تريد (فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَجعَلَ الله فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا) (40) لعل النفس تحب اشياء تضر بها وهي لا تعلم، ولعلها تكره أشياء تنفعها وهي ايضا لا تعلم.

أذن هذه النفس تميل نحو أمور وتحجم عن أمور، وهي من الممكن أن تحجم عن الحق وتميل إلى الباطل، فمن حق النفس على صاحبها انصافها

ثالثا - التحكم بالنفس والسيطرة عليها:

ان السيطرة على النفس أحدى العوامل لنجاح المسؤول في مهمة المناطة به، باعتباره أنه ضمن دائرة السلطة والنفوذ والرغبات والامكانيات والامتيازات التي تمنح بعناوين متعددة، هذه يمكن أن توقع الانسان في المهالك وتحكيم الانا وعدم السيطرة عليه.

يعبر الأمام (عليه السلام) الى ذلك بقوله (فَاملِك هَوَاكَ) اشارة الى ان الانسان أو المسؤول في أطار مسؤولية لابد ان يكون مسلطا على كل ما يملكه من قوى نفسانية وتحكيم العقل في سلوكياته وانطباعاته، يشير الامام (عليه السلام) الى هذا المعنى في رسالة بعثها الى الاسود بن قطبه الذي كان قائدا للجيش في منطقة حلوان الواقعة غرب ايران الذي تسمه اليوم بمدينة سربل زهاب على ما يذكره المؤرخون.* (41)

(أما بعد فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك راجيا ثوابه ومتخوفا عقابه، واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها قط فيما ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة، وأنه لن يغنيك عن الحق شيء أبدا، ومن الحق عليك حفظ نفسك والاحتساب على الرعية بجهدك فإن الذي

ص: 137

يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك والسلام. (42)

المعنى: ان الوالي إذا اختلف هواه ونساق وراء رغباته ونزواته وميولاته فيكون الحاكم هنا الهوى والشهوات، فتكون سلوكياته وانطباعاته في مسؤولياته موافقة لحكم الهوى فلاينتصر عدلا لاحد، فيما لو كان الخصمان عنده سواء بل كان هواه وميله إلى أحدهما أكثر ظلم وجار.

ويؤكد هذ المعنى ايضا كلام الامام (عليه السلام) في معنى الفتن والبدع الذي يتعبر منشأهما هو هو طغيان الهوى على العقل.

يقول عليه السلام (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى) (43).

اساس الفتن والبدع أمرين:

1- اتباع اهواء النفس والاحكام الموضوعة المخالفة لكتاب الله والسنه النبوية الشريفة

2- تحريف القوانين لصالح الأطماع الشخصية وغياب العدل وتضيع الوظائف والاقبال على البدع (44)،

يقول (عليه السلام) إن المذاهب الباطلة و الآراء الفاسدة التي يفتتن الناس بها أصلها اتباع الأهواء و ابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب و تحمل العصبية و الهوى على تولي أقوام قالوا بها على غير وثيقة من الدين و مستند وقوع هذه الشبهات

ص: 138

امتزاج الحق بالباطل من قبل بعض الساسة بالشكل الذي يصعب تميزه على الناس، وادنى ذلك هو خداع الراي العام ببعض العناوين كحقوق الانسان والرفق بالحيوان ويوم العامل واطباء بلا حدود ومنظمة العفو الدولية.. الخ فالحكومات الاستكبارية تتشدق بالديمقراطية وضرورة الرجوع الى آراء الشعب فاذا تم ذلك وجرت الامور خلافا لمصالحها اللامشروعة عمدت الى الانقلاب أو أثارة الفتن وإظهار البدع. (45)

هكذا يربي الامام (عليه السلام) المسؤول في المنظومة الإدارية والقيادية على الاخلاق الحسنه والحميدة في كيفية التعامل في مثل هكذا ظرف، من هذا المنطلق اصبح مناهج حكومة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحتفل بها في المحافل الدولية والمؤتمرات العلمية، بالرغم من قصر مدة خلافة (سلام الله عليه) التي استغرقت سوى اربع سنوات ونيف، وتبقى كلماته (عليه السلام) تقرع اسماع العالم عندما اوصى ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) (والله الله في القرآن ولا يسبقنكم إلى العمل به غيركم).

منه اشار (علیه السلام) (كم من عقل أسير عند هوى أمير) (46)، الهوى هو الحاكم فيصبح العقل الذي هو أميرا اسيرا للهوى وللنزوات والرغبات.

وفي كلام آخر يصف فيه السعادة والشقاء. يقول (عليه السلام) (السعيد من وعظ بغيره فاتعظ، روضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة، فان العبد المسلم يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (47) وعنه (عليه السلام) (الشقي من انخدع لهواه وغروره) (48).

ص: 139

سادسا: ما يجب على المسؤول اجتنابه في المنظومة الإدارية:

قوله (عليه السلام) (وشُحَّ بِنَفسِكَ عَمّا لا یَحِلُّ لَكَ) (49)

يتضح من عبارة الامام (عليه السلام) ان على المسؤول ان يمسك نفسه عما لا يحل ان يصدر منها وان كان حلالا على غيرك وجائز منه، كونك متصديا للمسؤولية يجب ان يحملك المزيد من الالتزام.

وقد وردت في هذا الموضوع العديد من النصوص التي تمثل درسا عظيما لعلي (عليه السلام) في المنظومة القيادية، منها رسالة (علیه السلام) الى عثمان ابن حنيف والي البصرة، يوبخه فيها لستجابة لدعوة أحد الاعيان والاثرياء في البصرة لمأدبة طعام، تصلح الرسالة ان تكون درسا كبيرا للسالكين في طريق الحق والايمان ودرسا مها في الإدارة والقيادة.

(أَمّا بَعدُ يَا ابنَ حُنَيفٍ فَقَد بلَغَنَيِ أَنّ رَجُلًا مِن فِتيَةِ أَهلِ البَصرَةِ دَعَاكَ إِلَي مَأدُبَةٍ فَأَسرَعتَ إِلَيهَا تُستَطَابُ لَكَ الأَلوَانُ وَ تُنقَلُ إِلَيكَ الجِفَانُ وَ مَا ظَنَنتُ أَنّكَ تُجِيبُ إِلَي طَعَامِ قَومٍ عَائِلُهُم مَجفُوّ وَ غَنِيّهُم مَدعُوّ فَانظُر إِلَي مَا تَقضَمُهُ مِن هَذَا المَقضَمِ فَمَا اشتَبَهَ عَلَيكَ عِلمُهُ فَالفِظهُ وَ مَا أَيقَنتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَل مِنهُ أَلَا وَ إِنّ لِكُلّ مَأمُومٍ إِمَاماً يقَتدَيِ بِهِ وَ يسَتضَيِءُ بِنُورِ عِلمِهِ أَلَا وَ إِنّ إِمَامَكُم قَدِ اكتَفَي مِن دُنيَاهُ بِطِمرَيهِ وَ مِن طُعمِهِ بِقُرصَيهِ أَلَا وَ إِنّكُم لَا تَقدِرُونَ عَلَي ذَلِكَ وَ لَكِن أعَيِنوُنيِ بِوَرَعٍ وَ اجتِهَادٍ وَ عِفّةٍ وَ سَدَادٍ فَوَاللّهِ مَا كَنَزتُ مِن دُنيَاكُم تِبراً وَ لَا ادّخَرتُ مِن غَنَائِمِهَا وَفراً وَ لَا أَعدَدتُ لبِاَليِ ثوَبيِ طِمراً وَ لَا حُزتُ مِن أَرضِهَا شِبراً وَ لَا أَخَذتُ مِنهُ إِلّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لهَيِ َ فِي عيَنيِ أَوهَي وَ أَوهَنُ مِن عَفصَةٍ مَقِرَةٍ) (50)

ص: 140

يخاطب الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلماته المسؤولين ويحذرهم من ان يعرضوا ويضعوا انفسهم للشبهات مع الاثرياء فيتحسس الفقراء من فقرهم ولو على مستوى تلبية الدعوة تناول الطعام. الاسلام ليس لديه مشكله مع الغني ولامع من يمتلك المال، ولكن المشكلة مع من يطرد الفقراء ويقرب الاغنياء، فلا مانع من أن يستجيب المسؤول لمائدة طعام يجلس عليها الغني والفقير

وهناك ملاحظة آخري يطرحها الامام (عليه السلام) حول الدعوة الى المأدبة متمثلة من وجود اموال مشتبه فيها (فَانْظُر إلی مَا تَقْضِمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَیْكِ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أیْقَنْتَ بِطِیبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ) والملاحظة الأخرى أن الامام (عليه السلام) يؤكد على ان الولاة والمسؤولين في الحكومة الاسلامية يشكلون مبدأ القدوة (أَلاَ وَ إِنَّ لِکُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً یَقْتَدِی بِهِ وَ یَسْتَضِیءُ بِنُورِ عِلْمِهِ) الاقتداء هو ان يقفوا إالى جانب الناس وجمهور المستضعفين والمحرومين وان لا يعتنوا أبدا بالطبقة المترفة الذين تزداد توقعاتهم ونقل معونتهم، والتجارب تؤكد على أن المحرومين المستضعفين هم أول المدافعين عن الدين والبلاد الاسلامية في مواقع الخطر والظروف الصعبة (51)

ثم يطلب الامام (عليه السلام) من المتصديين الإعانة على إدارة الدولة وتسير امورها بالورع عن ارتكاب المحارم وتعني في الحقيقة حالة التقوى في حدودها العالية، وان يكون المسؤول مجتهدا يعني يبذل الجهد الكبير في تحقيق العدالة وحماية المستضعفين والمحرومين، ویرید ایضا الإمام (عليه السلام) من العاملين معه في حكومة الاعانة بعفة وسداد والعفة: بمعنی حفظ النفس في مقابل الشهوات والنوازع المختلفة، والسداد يعني انتخاب الطريق الصحيح والمستقيم في اجتناب الطرق المختلفة التي تقود الانسان إلى المتاهة والضلالة (52).

ص: 141

هذا هو منهج الإمام (عليه السلام) في تعامله مع المسؤولين والولاة في المنظومة القيادية في حفظ الاسلام وتقديم افضل ما تجود به النفس في خدمة الناس والمجتمع

سابعا - وسائل التحكم والسيطرة على النفس:

ان الشح بالنفس والبخل عليها وامساكها عن الهوى والانجرار وراء الانحرافات لها وسائل و مستلزمات ومعايير تحکیم وسيطرة: من هذه الوسائل

أولا - التقوى:

قوله (عليه السلام) (أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ) (53)

التقوى لغة:- قال الراغب الاصفهاني في المفردات (وقي: الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال: وقيت الشيء أقيه وقاية ووقاء. قال (فوقاهم الله، ووقاهم عذاب السعير، ومالهم من الله واق، مالك من الله من ولي ولا واق، قوا انفسكم وأهليكم نارا، والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه وصار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور ويتم ذلك بترك بعض المباحات، لما روي: الحلال بين والحرام بين، ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه) (54)

والتقوی اصطلاحا: (عبارة عن الاجتناب عن محارم الله تعالى، والقيام بما او جبه عليهم من التكاليف الشرعية، والمتقي هو الذي يتقي بصالح عمله عذاب الله، وهو مأخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله حاجزا بينه وبينه، كما يقال: اتقي السهم بالترس، أي

ص: 142

جعله حاجزا بينه وبين السهم) (55)

ويشير الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الى هذا المعنى بقوله (أوصیکم عباد الله بتقوى الله فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم. وأن تستعينوا عليها بالله وتستعينوا بها على الله. فإن التقوى في اليوم الخرز والجنة، وفي غد الطريق إلى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ. الم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد الله ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل ما أسدی)

ولذلك نجد ان أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما يتحدث عن المنظومة القيادية وعن النجاح في الدور القيادي، يقف عند خصيصة التقوى ويعتبرها مفتاح التسديد والنجاح وذخيرة يوم الآخر الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.

ثانيا - العقل:

من الامور المهمة والتي تساعد المسؤول والمتصدي للقيادة والإدارة هو التعقل والتدبير والنظر في الامور وضرورة وضع كل آمر موضعه بلا استبطاء أو عجلة وعدم الانجرار وراء الرغبات والاهواء.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفا ثمرات العقل وهو وضع الامور في مواضعها

قوله (عليه السلام) (وَإیّاكَ وَالعَجَلَةَ بِالاُمورِ قَبلَ أوانِها أوِ التَّسَقُّطَ فیها عِندَ إمکانِها أوِ اللَّجاجَةَ فیها إذا تَنَکَّرَت أوِ الوَهنَ عَنها إذا استَوضَحَت فضَع کُلَّ أمرٍ مَوضِعَهُ وَأوقِع کُلَّ أمرٍ مَوقِعَهُ) (56)

العقل لغة: العقل نقيض الجهل،، يقال عقل يعقل عقلا، إذا عرف ما كان يجهله قبل،

ص: 143

أو انزجر عما كان يفعله. وجمعه عقول. ورجل عاقل وقوم عقلاء. وعاقلون. ورجل عقول، إذا كان حسن الفهم وافر العقل (57).

العقل هو السور المانع والحصن، والعقل من العقال أي عقال من الجهل، هذه هي فائدة العقل للإنسان الذي يستعمل عقله دائما في اتخاذ قراراته الصائبة ويسور مواقفه واقواله وسلوكياته خشية الوقوع في الجهل.

فقد ورد التأكيد عليه في الكثير من النصوص الشرعية.

منها ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله في وصف العقل (إن العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب فعن لم تعقل حارت، فالعقل عقال من الجهل، وإن الله خلق العقل فقال له: أقبل، فأقبل وقال له: أدبر فأدبر، فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعظم منك ولا أطوع منك، بك أبدء وبك أعيد، لك الثواب وعليك العقاب) (58). فقد شبه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) النفس والهوى (بأخبث الدواب) أي الدابة التي لم تعقل، تهرب وتتيه كذلك النفس اذا لم تعقل فإنها تكون في تيه.

وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (العقل يوجب الحذر.) (59)، - الجهل يوجب الغرر) (60)

وعنه (عليه السلام) في وصيته لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) قال (وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وَلِلّهِّ فِيهِ رِضاً فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ وَلكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِی ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ) (61)

ص: 144

فالإنسان حينما يستعمل عقله يتعامل بحذر في أقواله وأفعاله. وعنه (عليه السلام) (العقل أقوى أساس) (62)، أقوى أساس يمكن أن يعتمده الانسان في تفجير طاقاته وفق الرؤية الاسلامية الصحيحة، فيكون تفكيره منسجم مع الفطرة والمنطق

وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) (للحازم من عقله عن كل دنية زاجر) (63) الحزم هو ثمرة العقل، فالإنسان الذي يحتاط في قراراته يعمل ضمن أطار العقل في تدبير الأمور، وله الارادة في اختيار تنفيذ القرارات المنسجمة وفق العقل والحكمة، فيكون محصنا لنفسه ويجد فيها مناعة من الوقوع في الخطأ وعدم الصواب والانحراف.

فيتحصل: ان استحضار العقل في السلوك والاداء والمواقف، يترك آثارا في مساحات الحياة، فالعاقل يرفض كل ما يتنفر منه العقل كظلم الاخرين والعمل بالباطل.

فينبغي للمسؤول والمتصدي ان يشح بنفسه و يقمع هواه بعقله ويمنع نفسه من الوقوع في المنزلقات كالشبهات والمواقف السيئة.

المداهنة: مداهنة: (اسم) مصدر دَاهَنَ (مُدَاهَنَةُ المَسؤُولِينَ: المَلاَيَنَةُ، المَدارَاةُ (64)

والمداهنة هي التغطية على الحقيقة كما في الدهن الذي يستعمله الانسان فیستر به البشرة ويغطيها. (65)

إن أخطر شيء على المتصدي للمسؤولية الإدارية هو حينما يعتبر المسؤول نفسه في حالة استثناء عن الآخرين، وهذا ما يسمى بالاستثناءات كل ما هو ممنوع على الرعية جائز على الوالي، ويعتبر هذا تجاوز على المحظورات والقوانين في إدارة الدولة، حيث يشير الامام (عليه السلام) في هذ المقطع محذرا الولاة بالالتزام بالمواثيق المطلوبة وعدم الانجرار مع الاهواء والرغبات النفسية بالمداهنة مع الاخرين، يريد الامام (عليه السلام) ان يقول لا تبرر المواقف والاخطاء لأجل مصلحتك الشخصية فتضيع حقوق

ص: 145

الرعية بالظلم والعدوان عليها من أجل مراعاة مشاعر الاخرين، يقول عليه السلام. (وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ) ألزمته أي حاسبة بحق وعدل من دون تملق وتزلف.

وقال صلى الله عليه وسلم محذرا من التملق (ليس من اخلاق المؤمن التملق) (66)، وفيها تضيع للمبادئ والمثل من أجل الدنيا. وقد وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الظاهرة موقفا متشددا، فلقد شجبها ومنع التعامل بها لأنها من الأساليب الملتوية في السلوك، والتي تعبر عن عدم استقامة الشخصية وخواء الضمير، وهي من الظواهر التي لا تليق مع أخلاقية المؤمن بتاتا لكونها تتجه نحو المخلوق وتهجر الخالق.

وفي وصية لكميل بن زیاد (رضوان الله عليه) (یا کمیل لست والله متملقا حتى أطاع ولا ممنيا حتى لا أعصي، ولا مائلا لطعام الاعراب حتى انحل، إمرة المؤمنين وادعى بها (67).

أذا في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في القيادة والإدارة عدم المداهنة وإظهار خلاف الواقع وخلاف ما يعتقدون، وعلة التحذير من المداهنة هي أنها تفتح الباب أمام الإنسان للهجوم على المعصية، فمجرد أن يبدأ بالمداهنة حتى ينزلق في طريق المعاصي والابتعاد عن السياقات الصحيحة

ثامنا: الانصاف والعدل مع الرعية:

قوله (عليه السلام) أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ،..... وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیَّةِ،.... ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ صَغِیراً

ص: 146

وَلَا ضَعَةُ امرِئٍ إِلَى أَن تَستَصغِرَ مِن بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيما (68)

هذا المقطع من العهد الشريف يشير إلى مبدأ آخر من مبادئ الإدارة في المنظومة الإسلامية يسمى (الانصاف)، حيث يشرف على مجموعة من السلوكيات والأفعال والأقوال العادلة، والذي يؤدي تطبيقه إلى زيادة روح الوفاء والولاء والإيثار والتضحية لدى الأفراد العاملين مما يحفزهم الى تقديم الافضل.

والانصاف: أن تعطي غيرك من الحق من نفسك مثل الذي تحب أن تأخذه منه لو كنت مكانه، ويكون ذلك بالأقوال والأفعال، في الرضا والغضب، مع من تحب ومع من تكره وهو لا يكون إلا بين اثنين، أو أمرين، أو أمر ذي طرفين (69) يؤكد الإسلام على أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها،. ولعل أروع تعبير عنه ما رواه صاحب البحار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب الأخيه ما يحب لنفسه) (لا يستكمل المرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (70)

الانصاف: يعني الوسطية والموضوعية والدقة في تقيم الامور، وألا يحكم المسؤول العواطف والمشاعر والانانيات فينتقم من كل ملا يظهر له الولاء والمحبة،: لأن الوجه في تمكين الظالم مع القدرة على منعه أنه سبحانه مکنه ليعدل فظلم، لأن القدرة على الانصاف قدرة على الظلم (71).

جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله علمني عملا ادخل به الجنة فقال: ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم وما كرهت ان يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم (72)

ص: 147

أهمية الانصاف والحث عليه في النظرية الاسلامية:

يؤكد الإمام (عليه السلام) على الدور الذي يلعبه المسؤول في المنظومة الادارية، من عدم استغلال المنصب للوصول الى الاهداف الشخصية. يقول (عليه السلام) في أحد حكمه تأییدا لهذا المعنى (الانصاف يستديم المحبة.) (73) عنه (عليه السلام): الإنصاف زين الإمرة (74) وقال (عليه السلام): الإنصاف يألف القلوب (75).

فيتحصل: إن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما يطلب من الوالي أن يكون منصفا، هذا معناه أن تقيمه من قبل الاخرين مرهون بعدم تعاطيه المطلق مع رغباته النفسية فيما يحب ويكره، هذا هو منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) و عدالة، فلقد كان منصفا في تعامله مع الناس، فيعطينا درسا في كيفية تعامل المسؤول إداريا أن يكون منصفا وعادلا مع الناس لكي يحقق الاهداف المطلوبة في المنظومة الإدارية.

تاسعا - الانضباط والمساواة:

قوله (عليه السلام) لَا یکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِی ذلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَی الْإِسَاءَةِ وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ.... فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیِكَ إِیَّاهُ فَنَکِّلْ وَ عَاقِبْ فِی غَیْرِ إِسْرَافٍ (76)

يوصي الامام (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد بعدة وصايا تعد أصلا من الاصول مهمة للإدارة الجيدة المنسجمة مع الرؤية الاسلامية القائمة على اساس العدل، والعدل هو وضع الشيء في موضعه، فيتعامل مع المحسن بما ينسجم مع إحسانه، ويتعامل مع المسيء بما ينسجم مع إساءته، وبناء على هذا المبدأ فإن الادارة الصحيحة المنسجمة مع الاسلام هي الإدارة التي تفرق في نظرتها بين العامل الخادم والعامل الخائن، فتکافی الخادم وتعاقب الخائن أولا، وثانيا أن يكون المعيار في تشجيع الافراد هو ما يقومون به

ص: 148

من أعمال وما يترتب عليها من نتائج، فلو غیب عنصر الترغيب والترهيب في النظام وتمتع المحسن بذات الحقوق والامتيازات التي يحظى بها المسيء. فالمسؤول الناجح هو من يميز بين الأفراد في التعامل بين المحسن والمسيء في مدى الالتزام بالضوابط الإدارية وإطاعة الأوامر وتنفيذها وجعل سلوكهم مطابقاً لها.، بما ينسجم مع الإحسان ولإساءته، ومن هنا تظهر أهمية العدالة في التعامل مع من هو تحت إدارته وقيادته.

عاشرا: معايير تقيم العاملين في المنظومة الإدارية:

من هنا ينبغي لنا الاشارة الى المعايير والأدوات الرئيسية لتقيم والتميز والفرز العاملين في المنظومة الإدارية في الفهم الاسلامي:

أولا - المعايير الأخلاقية:

من العوامل والادوات الاخلاقية التي من خلالها يتم تقيم وتميز العاملين هو عامل التقوى، والنزاهة، وعامل الحياء، والصدق، والورع، والإيثار الانتصار لله سبحانه وتعالى، الانسان الذي يمتلك هذه الادوات، يخاف الله ويتقيد بالضوابط الشرعية، وغيره اعني بذلك الانسان غير الملتزم الذي لا يمتلك من هذه الادوات أي شيء، ينظر الى العمل على انه فرصة للتلاعب والاستحواذ على المناصب، فينبغي للمسؤول ان يميز من خلال تقيمه بين كلا النوعين من الانسان، لكي يبقي العمل بيد أمينه لا تمتد الى الحرام.

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهدة لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) ضرورة التوخي والعمل بهذه الادوات في المنظومة الإدارية.

يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهدة لمالك الاشتر (رضوان الله عليه)

ص: 149

ضرورة التوخي والعمل بهذه الادوات في المنظومة الإدارية.

(أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ) يسلط الضوء على عامل التقوى والايثار، ثم يشدد على حسن الاختيار أصحاب الاخلاق والسمعة الحسنة والتجربة والحياء واصحاب معرفة فيما تؤول اليه الامور (فإنهم اكرم اخلاقا... وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ..... واصحاب سمعة حسنة في المجتمع (إِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ).

ثم أن الإمام (عليه السلام) يطلب من المسؤولين ان يكون هناك رقابة إدارية تستطيع التميز والتقييم العاملين في مورد النزاهة والقدرة وعدم الوشاية والتحلي بالأخلاق الفاضلة (وَأَنْقَاهُمْ جَیباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ یبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَیسْتَرِیحُ إِلَی الْعُذْرِ وَیرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَینْبُو عَلَی الْأَقْوِیاءِ وَمِمَّنْ لَایثِیرُهُ الْعُنْفُ، وَلَایقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ... وان يكون قادرا على الإعانة ومواساة الآخرين. مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَیهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا یسَعُهُمْ وَ یسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ حَتَّی یکُونَ هَمَّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَیهِمْ یعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیكَ.... وعدم الوشاية والنميمة .. وَلْیَکُنْ أَبْعَدَ رَعِیَّتِكَ مِنكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُم لِمَعایِبِ النّاسِ (77)

ثانيا - معيار الافضلية:

يؤكد الامام (عليه السلام) على عامل التفضيل بين الافراد في المنظومة الإدارية و في مساحات العمل اليومي للعاملين، يقول (عليه السلام)

(أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلَّةِ وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ وَلَا یَکْتَفِی بِأَدْنَی

ص: 150

فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَأَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ مِمَّنْ لَا یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ وَلَا یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ) (78)

ثالثا - معيار الكفاءة والامانة والعلم والابداع والتواضع وحب الصالحين وبغض الظالمين:

يشير الامام (عليه السلام) الى أدوات وعوامل آخر للتقيم الافراد العاملين في المنظومة الإدارية، والتأكيد عليها، يقول: (عليه السلام)

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ فِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُمُورِ فَإِنَّ...... الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ)..... وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَان فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ) (79)

رابعا - معيار المعرفة والاختيار وتوزيع الاعمال:

يوصي الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكا (رضوان الله علیه) بعدم الاعتماد على المعرفة الشخصية أثناء تقيم العاملين في المنظومة الإدارية، واعتمادها كعنصر أساسي في العمل.

ص: 151

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَمَانَةِ شَيْءٌ وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ..... ثم (عليه السلام) يستعرض طريقة تقيم توزيع الاعمال. يقول: وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ (80)

الحادي عشر - الرقابة والتحكيم والتقويم:

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَابْعَثِ الْعُیُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَیْهِمْ...... وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِی حَوَاشِی بِلَادِكَ وَاعْلَمْ مَعَ ذلِكَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً وَشُحّاً قَبِیحاً وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَتَحَکُّماً فِی الْبِیاعَاتِ وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَعَیبٌ عَلَی الْوُلَاةِ..... وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا یَصِلُ إِلَیْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیَةِ وَالتَّوَاضُعِ فَلْیَرْفَعْ إِلَیْكَ أُمُورَهُمْ...... ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ...... وَ تَفَقّد أَمرَ الخَرَاجِ بِمَا يُصلِحُ أَهلَهُ فَإِنّ فِي صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِم صَلَاحاً لِمَن سِوَاهُم وَ لَا صَلَاحَ لِمَن سِوَاهُم إِلّا بِهِم. (81)

توضیح: الرقابة لغة: رقب في أسماء الله تعالى: الرقيب: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وفي الحديث: ارقبوا محمدا في أهل بيته، أي أحفظوه فيهم. (82)

أما في الاصطلاح فتعني عملية التحقق من مدى انجاز الأهداف المرجوة، والكشف عن الصعوبات في تحقيق هذه الأهداف، والعمل على إزالتها في اقصر وقت ممكن (83)

التقويم: حكم العقلي والنظرة العميقة على الاشياء من خلال تقدير و تحکیم نتائج

ص: 152

الأمور وتفحصها.

يتناول الامام (عليه السلام) في هذه المقاطع من العهد الشريف لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) عناصر ثلاث أساسية في المنظومة الإدارية، ينبغي توفرها في كل من يتصدى للمسؤولية الإدارية، يتم من خلالها اکتشاف مواطن الاختلاف في نتائج العمل، ويجب الاستفادة من هذه النتائج لغرض تحسين أساليب الإدارة بشكل أفضل والاشراف على برامج وخطط العمل وتشخیص موارد الانحراف في أثناء ضهورها والعمل على إيجاد الطرق الكفيلة لإصلاحها

الثاني عشر - التحفيز:

قوله (عليه السلام) (وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِیبِ وَالْبَعِیدِ وَکُنْ فِی ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَیثُ وَقَعَ...... فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ (84)

يتناول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد الشريف لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) عنصرا آخر من عناصر مبادئ الادارة في المنظومة الإدارية: وهو عنصر التحفيز.

التحفيز لغة: نقول حفَّزَهُ حَفزاً، أي: حثَّهُ وحرَّكهُ، ومنه يتضح أن التحفيز يدل على تلك العوامل الخارجية التي تدفع الفرد إلى الحركة والقيام بعمل ما (تَحَفَّزَ تهيَأ للمُضِي فيه. (85)

التحفيز: هو العملية التي تسمح بدفع الأفراد وتحريكهم من خلال دوافع معينه نحو سلوك معين أو بذل مجهودات معينة قصد تحقيق هدف (86)

ومن الآيات القرآنية التي تستخدم اسلوب التحفيز ما ورد في قوله تعالى.

ص: 153

«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (87)

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا» (88)

ومن كلام له (عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الاخرة واستنهاض النفوس وتذكيرها بما ستؤول إليه (أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَ لا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ، وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ، وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ. إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ:

مَا تَرَكَ؟ وَ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ! فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ، وَ لا تُخَلِّفُوا كُلّاً فَيَكُونَ عَلَيْكُمْ) (89)

الثالث عشر:- تغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية (الأرستقراطية):

قوله (عليه السلام) (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ.... وَإِيَّاكَ وَالاِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَعَمَّا قَلِيل تَنْکَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الاُمُورِ وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ. (90)

يتحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد الشريف، عن محورية العلاقة بين الامة والقائد في المنظومة الادارية.

ص: 154

يجبان لا يكون الهدف هو ارضاء السلطة الحاكمة ومايسمى بالطبقة الارستقراطية اصحاب المصالح الخاصة، بل ينبغي ان يكون الهدف هو خدمة الناس وماتريده الامة

الأرستقراطية أرستقراطية: (اسم مصدر صِنَاعِيٌّ يَنتَمِي إلَى الطبقة الأرستقراطية: طَبَقَةٌ عُليَا فِي المُجتَمَعِ، يَملِكَ أَفرَادُهُا الشَّرَفَ والجَاهَ والسُّلطَةَ. (91)

يتحدث الامام (عليه السلام) عن هاتين الطبقتين من الناس في عهده لمالك (رضوان الله علیه) بقوله (وَلَیسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِیةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِی مَؤُونَةً فِی الرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِی الْبَلَاءِ وَ أَکْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ (92)

الرابع عشر: معايير نجاح المنظومة الادارية: لذا يشير الامام (عليه السلام) من خلال هذا المقطع الى معايير ثلاث ناجحة في المنظومة الادارية.

أولا - حالة الاعتدال والوسطية: ويتمثل بقوله (عليه السلام) (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ) (93) إشارة الى الدفاع عن الحق شرط أساسي وموقوف على الحق.

ليس المراد من مراعاة الحق والعدل هو قيام المدينة الفاضلة في عالم الاذهان، وهذا ما يؤدي بدوره إلى تحجيم القرارات العملية والدفع بالحاكم إلى المثالية.

ولذلك يحث الإمام (عليه السلام) الحاكم بقوله (أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ) إلى الأخذ بنظر الاعتبار الواقع والامكانيات المتاحة في المجتمع، وعليه فهو يوصي الوالي والحاكم بمراعاة كل ما من شأنه التقرب من الحق، وعدم التهرب من المسؤولية بذريعة تعذر

ص: 155

إقامة الحق بكل ما لهذه الكلمة من معنى (94). أن المهم هو تحقيق رضا الغالبية الساحقة من الناس لا الأقلية من أصحاب الثروة من الانتهازين الذين يعيشون في بلاط الحاكم أو السلطان، ويقول الإمام (عليه السلام) (فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ) (95)

كما حدث في زمان عثمان حيث إن سوء سياسته وعدم تأديته الحقوق العمومية صار سببا لنقمة عامة الجيش الإسلامي، فانحازوا من مصر والكوفة واجتمعوا في المدينة وحصروا عثمان ولم يقدر خاصته کمروان بن الحكم وسائر رجال بني أمية مع کمال نفوذهم ودهائهم أن يصدوا سيل الثائرين والمهاجمين حتى قتل عثمان في داره وألقي بجسده إلى البقيع وتبعه ما تبعه من الحوادث الهامة (96).

إذن ينبغي على المسؤول في المنظومة الإدارية الناجحة أن يتخذ أسلوب الوسطية في مجمل أدائه من خلال تقدير ظروف وقدرات الناس المسؤول عنهم، فعندما يريد أن يصدر أوامره لابد أن تكون هذه الأوامر منسجمة مع الحالة الوسطية وخالية من حالة الإفراط والمبالغة. وهذا هو منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في ترسيخ أسس الاعتدال والوسطية في قلوب وأذهان الناس.

ومن كلام له (عليه السلام) (الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله) (97)

ثانيا - العدالة والمساواة:

يطلب الإمام (عليه السلام) بوصية لمالك (رضوان الله عليه) التعامل بالعدل مع الجميع، فلا يكفي أن يكون عادلا مع البعض وغير عادلا مع البعض الآخر، عدم استثناء أحد في خصوص العدالة يقول (عليه السلام) (وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ). (98)

ص: 156

يعتبر العدل من الخصائص الاسلامية والقيم الانسانية العليا في المنظومة الإدارية المتمثلة بالإدارة المثلى للرسول الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام) بحكم القران الكريم (وَأُمِرتُ لِأَعدِلَ بَینَکُمُ) (99)

وسئل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) (أيما أفضل العدل أو الجود) فقال عليه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها. والعدل سائس عام، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما (100)

وعنه (عليه السلام) (من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور) (101)

فاذا أردنا ان نبني مجتمعا صالحا وفق النظرية الاسلامية ومنهج علي (عليه السلام) ان نشعر الجميع بحقوق المواطنة الصالحة ومن هذه الحقوق العدل.

ثالثا - رضا الناس:

يشير الإمام (عليه السلام) في المقطع الى مسألة أخرى في تغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة في المنظومة الإدارية. وهو رضا الناس.

لا يتحدث الامام (عليه السلام) عن رضا الناس بأجمعهم، لأن رضاهم غاية لا تدرك، ولا تتيسر لكل احد حتى الانبياء والاوصياء لم يستطيعوا أن يحققوا رضا عامة الناس، لكن يعتبر الامام (عليه السلام) إن إرادة الامه لها السبق على إرادة الحكومة، مما يدعوا ان تكون المالكية الشرعية للدولة هو الشعب (الأمه) وتكون الحكومة في خدمة الشعب وملبية لمطالبه و تحقيق طموحاته، من خلال معالجة مشاكله وأزماته.

وتأييدا لذلك في خصوص ما نحن فيه ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان كيفية معالجة آراء الناس و تحقیق رضاهم، قال (عليه السلام) في مورد رفضه

ص: 157

لبيعة

(دَعُونِی وَالَتمِسُوا غَیْرِی فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ وَ لَا تَثْبُتُ عَلَیْهِ الْعُقُولُ وَ إِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ الَمحَجَّةَ قَدْ تَنَکَّرَتْ. وَ اعْلَمُوا أَنِیّ إِنْ أَجَبْتُکُمْ رَکِبْتُ بِکُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَکْتُمُونِی فَأَنا کَأَحَدِکُمْ وَ لَعَلّی أَسْمَعُکُمْ وَ أَطْوَعُکُمْ لِمَنْ وَلَّیْتُمُوهُ أَمْرَکُمْ وَ أَنَا لَکُمْ وَزِیراً خَیْرٌ لَکُمْ مِنّی أَمِیراً) (102)

يقول (عليه السلام) للناس نحن في ميدان ومعترك فيه اختلافات والتباسات وبدع حادثة تخلفت من جراء غصب الخلافة من قبل الحكام الماضين، وسرتم بسيرتهم وتابعتم طرقهم وسلوكياتهم في الحكم في توزيع الاموال التي كانت خلاف السنه النبوية، فلا تستطيعون بهذه الصورة أن تنسجموا مع الرؤية الحقة.

يريد الإمام (عليه السلام) ان يقول للناس إن تحقيق العدالة أمر صعب في حد نفسها واجرائها فمن لم يذق طعمها أصعب واشكل فإن قلب المنافق بمعزل عن القيام بالحق وعقله بعيد عن درك الحقائق والفائل الانسانية (103)

إن الإمام (عليه السلام) كان ينتمي الى مدرسة تملي عليه القيام بالمسؤولية واحياء الدين ومفاهيمه السامية وتعاليمه الحقه ويسير في الناس بما يعلم وان تعارضت أهدافه مع أهداف الناس ولايأبه بعتب العاتب وان كلف ذلك حياته، لأن رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية لا تترك

ص: 158

الخامس عشر: المركزية في القرار:

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا یعْیا عَنْهُ کُتَّابُكَ وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ یوْمَ وُرُودِهَا عَلَیكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ) (104)

يتحدث الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع الشريف من العهد حول السلطة التنفيذية، المتمثلة بالمسؤولين والعاملين في المنظومة الإدارية الذين تفوض لهم الاعمال و مباشرتها بأنفسهم، يلزم على المسؤول فيما بينه وبين العاملين معه، أن يتصدى بنفسه على إجابات العمال، من الواضح أن كبار المسؤولين لا يتمكنون من القيام بكافة مهامهم، فيضطرون لتفويض البعض منها لمساعديهم ومستشارهم، ولكي يستطيع المسؤول من ممارسة إشرافه على سير مهام مساعديه، فإن عليه أن يفرق بين الاعمال ذات الأولوية عن تلك الثانوية غير الضرورية، فيباشر الأعمال ذات الأولوية على نحو يعين لها أوقاتها بالسرعة والدقة بالاستعانة بمساعديه في سائر الأعمال فلا يؤجل عمل اليوم الى غدا (105)

السادس عشر: ستر العيوب:

قوله (عليه السلام) (وَلْیکُنْ أَبْعَدَ رَعِیتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ فِی النَّاسِ عُیوباً الْوَالِی أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلَا تَکْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَیكَ تَطْهِیرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَاللَّهُ یحْکُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ یسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِیتِكَ أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْدٍ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ کُلِّ وِتْرٍ وَتَغَابَ عَنْ کُلِّ مَا لَایضِحُ لَكَ (106)

يتحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد الشريف لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) عن سمات الاشخاص الواجب إبعادهم عن المنظومة الادارية،

ص: 159

في مجملهم هؤلاء يشكلون خطرا على سمعة وقرار الذي يصدر من المسؤول الإداري، ويشير الإمام (عليه السلام) الى صنفين من هؤلاء الناس، الصنف الأول الانتهازين المتتبعون لعيوب الناس ونقاط الضعف والقصور فيهم ما يسمى (النمائم والوشاة)، والصنف الثاني ما يسمى بالسعاة في الناس عند السلاطين الامام (عليه السلام) يشير إلى صفة ورذيلة من الرذائل الخلقية والتي أعتبرها الاسلام من أقبح الرذائل وهو النميمة والوشاية.

ثم يبين الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) أولوية المسؤول أو الحاكم في المنظومة الإدارية، ستر عيوب الناس (فِی النّاسِ عُیُوبا الْوالی أَحَقُّ مَنْ سَتَرَها).

ثم ينهى الامام (عليه السلام) المسؤول من تتبع عثرات الناس وعيوبهم (فَلا تَکْشِفَنَّ عَمّا غابَ عَنكَ مِنها) أي لا ينبغي البحث عن العيوب الخفية للناس، کالتصنت عليهم أو الاطلاع على خفايا حياتهم الشخصية. كما ورد في القران الكريم بالنهي عن التجسس وَلا تَجَسَّسُوا) (107)

السابع عشر - حفظ الاسرار:

قوله (عليه السلام): (ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ) (108)

يتحدث الامام امير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد، حول مبدأ آخر من مبادئ الإدارة في الاسلام، وهو مبدأ حفظ الاسرار في المنظومة الادارية.

لان المدير في الإدارة بحاجة الى جمع المعلومات حول لياقة العاملين معه، وقدراتهم وإمكاناتهم وذكائهم وتجاربهم وسوابقهم الحسنة والسيئة وذلك بهدف اختيار الاصلح

ص: 160

من بينهم لتسلم المسؤوليات، وفي حال أنتشار هذه المعلومات في المؤسسة أونقلها الى الاشخاص أنفسهم فقد يؤدي ذلك الى اثار نفسية وردود فعل غير مناسبة، تؤدي الى أنهيار المنظومة الإدارية.

ما يسمى اليوم بالذاتية أي موظفي الدوائر المختصة بالملفات والاوراق السرية، أسماه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكتاب، فوصف الامام (عليه السلام) لمالك على أن يكونوا خير الكتاب (فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ)، لأنهم المكلفون بحفظ أسرار الدولة وصيانة خططها والوثائق الخاصة برجال معينين (109) التي يجب إخفاءها من الغير ممن لا يحتاطون بحفظها، وايداعها لدى الامناء ممن يمتلكون الاخلاق الفاضلة، فحفظ الاسرار في المجال الإداري يؤمن المنظومة الادارية من الوقوع في الاخطار، وتحفظ للإنسان كرامة ومكاسبه، وتحقق له الاهداف المستقبلية، وسد الابواب والطرق أمام المنافسين من الاعداء. وفي هذا المجال ورد عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره (110)

الثامن عشر - تأثيرالعلاقات القريبة للمدراء واهتما مهم بالعاملين معهم:

قوله (علیه اسلام) (ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ) (111)

يتحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المقطع من العهد الشريف في وصية لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) حول مبدأ آخر من مبادئ الادارة في الاسلام، تأثير العلاقات المتبادلة بين المدير والعاملين معه في المنظومة الادارية، والتي من خلالها تترتب القضايا المعنوية في تقوية الاطر الادارية وتحفيز العاملين نحو العمل، وهو

ص: 161

ما يسمى بالاصطلاح العلمي والمنطقي بعلم النفس التحليلي، وعنصر أختيار أفضل الرجال لقيادة الجيش في تولية المهام والوظائف ألإدارية.

الامام (عليه السلام) يشرح لمالك (رضوان الله عليه)، في كيفية اختيار الموظفين في دوائر الدولة كالجند ورؤساء الامراء وغيرهم، بعد مراعاة العناصر التالية:

1- المرؤة والنسب: ومن معاني المروءة أنها (آداب نفسانيَّة، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات من أصحاب الشخصيات المتميزة) (112) النسب: هو البعد الاجتماعي الذي يمتلكه الانسان الذي يتأثر بالعامل الوراثي، للأسرة والقبيلة،

2- البيوتات الصالحة: إشارة إلى الاسر والعوائل النظيفة والمرموقة في المجتمع (113)

3- السوابق الحسنة: إشارة الى السمعة الجيدة التي تمتلكها هذه البيوتات، والتي جعلت عموم الناس تتحدث بسجاياهم الحسنة.

4- النجدة: يريد الامام (عليه السلام) ان يشير الى نقطة مهمة، وهو لابد من التميز بين شخصيتين عند الناس، الشخصية الاولى التي تمتلك عنصر الروح العالية في التضحية والمكانة الاجتماعية. وبين الشخصيات الانتهازية أصحاب المطامع الشخصية، لم يكن لهم اهتمام بروح المحبة وخدمة الناس. فيقول الامام (علیه السلام) الصق باهل النجدة أصحاب الروح والهمة العالية، هؤلاء لم يتكاسلوا في أمر ما.

5- الشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ: من يتصف بالشجاعة يتحلى أيضا بالنجدة، وعظم الهمة، والثبات، والصبر، والحلم، والسَّخَاءِ: عبارة عن الجود والكرم، والسخي هو الجواد الكريم. السَّمَاحَةِ: هي المساهلة والسلاسة واللين في التعامل وسعة الصدر والاتصاف بالحلم

ص: 162

التاسع عشر - الإحسان والمرتب والمكافأة:

قوله (عليه السلام) (ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس، ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ (114)

يتحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه المقاطع في وصية لمالك (رضوان الله عليه) حول عناصر آخر في المنظومة الادارية، ويجب على المسؤول الاداري العمل بها، وهما عنصر الإحسان الى الناس، وتوزيع الحقوق والمكافأة الشهرية. يقول (عليه السلام) (تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا) أحد العناصر المهمة في نجاح المنظومة الادارية في المهمة المناطة بها، لابد من توفر عنصر الاحسان للأخرين

وقال (عليه السلام) في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) :العدل الانصاف، والاحسان: التفضل (115)

ثم ينتقل الامام (عليه السلام) الى عنصر آخر من مبادئ الادارة في الفهم الاسلامي، وهو مبدأ المكافأة والحقوق الشهرية، (وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس، ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ

ص: 163

العشرون - المشورة:

قوله (عليه السلام) (وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بِخِیلاً یَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَیَعِدُكَ الْفَقْرَ وَلاَ جَبَاناً یُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَلاَ حَرِیصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ) (116)

يتحدث الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) عن محور آخر من محاور العمل في المنظومة الادارية، وهو كيفية تمكين المسؤول من اختيار مستشاريه الاكفاء في شؤون الادارة، ليستطيع من خلال ذلك الاستفادة من أفكارهم وتجاربهم العملية وآراءهم المدروسة والمبنية على الاسس المنطقية.

المشورة: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر من قولهم: شرت العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه. (117)

إن مسألة المشورة والاستشارة تعد من أهم المسائل الاجتماعية في الحياة الانسانية، وهناك نصوص عديدة من السنة الشريفة تؤكد على مبدأ التشاور. منها ما ورد عن النبي: (صلى الله عليه واله وسلم) (من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور) (118)

وعن أمير المؤمنين: (عليه السلام) قال: سئل رسول الله: (صلى الله عليه واله وسلم) عن العزم فقال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) (119)

وعنه (عليه السلام): (حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء) (120)

وعنه (عليه السلام): (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ) (121)

لذا نرى تأكيد الامام (علیه السلام) في وصيته لمالك الاشتر: (رضوان الله عليه)، لكل

ص: 164

من يتصدى ويتحمل المسؤولية أن يختار مستشاريه بشكل دقيق، ويحذر الامام (عليه السلام) من ادخال اصناف ثلاثة من الناس في المشورة، ممن يحملون الصفات الاخلاقية المذمومة التي نهى عنها الاسلام، البخل، الجبن، الحرص.

فيتحصل: إن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يحذر المسؤولين من إدخال الاصناف الثلاثة في المنظومة الإدارية، بهدف الاستحواذ على كل شيء بغير حق

ثم يقول (عليه السلام) إن الاصل في هذه الخصال (البخل، الجبن، الحرص والطمع) هو سوء الظن بالله سبحانه وتعالى.

ويؤكد الامام (عليه السلام) أن هناك معايير ومواصفات إيجابية للمستشارين ينبغي للمسؤول النظر والتفحص فيها، وهي على سبيل الحصر، (الصدق، العقل، الاخلاص، الشجاعة، الدراية، التجربة والاختصاص، تغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية)، ويحذر (عليه السلام) اضافتا الى الصفات الثلاثة التي مر ذكرها من المواصفات السلبية الاخرى للمستشارين، وهي (الكذب، التهور، ضيق الافق، الجهل والجهال...)

وعنه (عليه السلام): (لا تستشير الكذاب فإنه كسراب، يقرب إليك البعيد ويبعد عليك القريب) (122)

ص: 165

الخاتمه والاستنتاجات

بالنظر لأهمية مفهوم مبادئ الإدارة والقيادة، فقد توصل الباحث الى ان دراسة هذه المبادئ وتحليلها نستطيع من خلالها ايجاد نظام إداري يكفل الاستقرار الوظيفي في إدارة البلاد، ويضمن سلامة الاهداف في المنظومة الادارية القيادية.

الباحث على التركيز الاعلامي في طرح موضوعات العهد في الجانب الاداري والقيادي في المراكز العلمية كالجامعات والمعاهد، ويوصي بالاهتمام العلمي به.

ص: 166

الهوامش

1- نهج البلاغة: رسالة 53

2- نهج البلاغة: رسالة 53

3- نهج البلاغة: 53

4- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: للعلامة المحقق ميرزا حبيب الله الخوئي: ج 20: ص 175

5- في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية الجزء: 3 ص 389

6- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: الشيخ المنتظر الجزء: 1 ص 327

7- نهج البلاغة: 53

8- معجم المعاني: للسيوطي: مادة جمح

9- شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: ج 17 ص 23

10- لسان العرب: ابن منظور: ج 8: ص 160: وينظر مجمع البحرین، ج 2، ص 1101. والصحاح : ج 1: ص 403

11- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 81

12- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 10 ص 294

13- الصحيفة السجادية لأمام زين العابدين (عليه السلام) مناجاة الشاكين ليوم السبت

14- غرر الحكم: 2106، 3491، 3489، 3490، 7170. وينظر ميزان الحكمة: محمد الري شهري الجزء : 4 ص 3325

15- غرر الحكم: 2106، 3491، 3489، 3490، 7170

16- غرر الحكم: 2106، 3491، 3489، 3490، 7170

ص: 167

17- اخلاقيات الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): هادي المدرسي: ص 334

18- نهج البلاغة: حكمة 160

19- معجم المعاني الجامع: للسيوطي: مادة (استأثر)

20- نهج البلاغة: 53

21- نهج البلاغة: حكمة 161

22- نهج البلاغة: حكمة 80

23- نهج البلاغة: 53

24- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: للخوئي: ج 20: ص 152

25- المصدر نفسه: ص 152

26- نهج البلاغة: خطبة 182

27- الفرقان: 38

28- ق: 12

29- ورد في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 13، ص 18، ط تراثنا الأسود بن يعفر (ويقال يُعفر، بضم الياء) ابن عبد الأسود بن جندل بن سهم بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن تميم. وأم الأسود بن يعفر رهم بنت العباب، من بني سهم بن عجل. شاعر متقدم فصيح، من شعراء الجاهلية، ليس بالمكثر. وجعله محمد بن سلام في الطبقة الثامنة مع خداش بن زهير، والمخبل السعدي، والنمر بن تولبٍ العكلي، وهو من العشي ويقال العشو بالواو المعدودين في الشعراء.

30- كان فصيحاً جواداً، نادم النعمان بن المنذر، ولما أسن كفّ بصره ويقال له أعشى بني نهشل

31- الدخان: الايات 27، 26، 25، 28

32- نهج السعادة: ج 2 ص 135، ط 1 وينظر بحار الانوار

ص: 168

33- بحار الأنوار: العلامة المجلسي الجزء: 75 ص 77

34- المصدر نفسة: ص 77

35- نهج البلاغة: 53

36- نهج البلاغة: رسالة 53

37- الصحاح للجوهري: ج 1: ص 378 وينظر: المصباح المنير: للفيومي: ج 1 ص 306، ومفردات القرآن: للراغب الاصفهاني: ص 446

38- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 10 ص 302

39- اصول الكافي ج 2 باب اتباع الهوى حديث 1 وينظر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي الجزء 21 ص 267

40- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 89

41- النساء: 19

42- أسد الغابة: ص 48 (انه الاسود بن زيد بن قطبة الانصاري: يقال انه ممن شهد بدرا)

43- نهج البلاغة: رسالة 59 وينظر: بحار الأنوار: العلامة المجلسي الجزء: 33 ص 511

44- نهج البلاغة خطبة 50

45- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 2 ص 357

46- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 2 ص 360 - 361

47- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 381

48- الخصال: الشيخ الصدوق ص 621

49- ميزان الحكمة: محمد الري شهري الجزء: 2 ص 1478 وينظر: نهج البلاغة: الخطبة 86، والكتاب 78.

ص: 169

50- نهج البلاغة: 53

51- نهج البلاغة: رسالة 45

52- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 10 ص 141

53- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي: ج 10 ص 145

54- نهج البلاغة: 53

55- المفردات في غريب القرآن: الراغب الاصفهاني: ص 530 مادة: (وقى)

56- نهج البلاغة: 53

57- معجم الأدباء: ياقوت الحموي (11/ 72 - 77) والسير) 7/ 429 - 431

58- تحف العقول عن آل الرسول (ص) ابن شعبة الحراني ص 15

59- عيون الحكم والمواعظ علي بن محمد الليثي الواسطي ص 24

60- المصدر نفسة: ص 24

61- نهج البلاغة: 53

62- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 35

63-يون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 403

64- معجم المعاني الجامع: للسيوطي (مادة: داهن)

65- لسان العرب: مادة دهن

66- جامع بيان العلم وفضله: ابن عبد البر الجزء 1 ص 131: وينظر ملامح القيادة الناجحة في ضوء منهجية الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مقارنات دراسية في سيكولوجية السلوك التنظيمي المعاصر: محمد عبد الرضا هادي الساعدي: ص 226

67- تحف العقول عن آل الرسول (ص): ابن شعبة الحراني ص 175

68- نهج البلاغة: 53

ص: 170

69- کنز العمال: للمنتقى الهندي ج 9 ص 335

70- بحار الأنوار: ج 69 ص 257 ب 114 ضمن ح 20، وينظر فقه العولمة: السيد محمد الحسيني الشيرازي ص 126

71- الكافي في الفقه: أبو الصلاح الحلبي ص 59

72- وسائل الشيعة (آل البيت): الحر العاملي الجزء: 15 ص 287

73- غرر الحكم: 269: 1

74- غرر الحكم: 805،

75- غرر الحکم: 805، 9983، 971

76- نهج البلاغة: 53

77- نهج البلاغة: 53

78- نهج البلاغة: 53

79- نهج البلاغة: 53

80- نهج البلاغة : 53

81- نهج البلاغة: 53

82- لسان العرب، ابن منظور ج 1، ص 424.

83- الرقابة على السلع والأسعار في الفقه الإسلامي: ظاهر فريدة حسين طه رسالة ماجستير (نابلس، جامعة النجاح، 2011 م)، ص 3.

84- نهج البلاغة: 53

85- تاج العروس: (مادة حفزه)

86- اسرار القيادة عند أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام): جمیل کمال: ص 69

87- الأعراف: 96

ص: 171

88- نوح: 10-11-12

89- نهج البلاغة: خطبة 203: وينظر أمالي الصدوق: مجلس 23

90- نهج البلاغة: 53

91- معجم المعاني: للسيوطي (ارستقراطية)

92- نهج البلاغة: 53

93- نهج البلاغة: 53

94- الدولة الاسلامية شرح لعهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر النخعي: محمد الفاضل اللنكراني: ص 86

95- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مکارم الشيرازي: ج 10، ص 320

96- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: میرزا حبیب الله الخوئي: ج 20: ص 164

97- نهج البلاغة: حكمة 90

98- نهج البلاغة: 53

99- الشوری: 15

100- نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام) الجزء: 4 ص 102 حكمة 437

101- عيون الحكم والمواعظ: علي بن محمد الليثي الواسطي ص 469: حكمة 30

102- نهج البلاغة: خطبة 92

103- مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة: محمد تقي النقوي: ج 8، ص 260

104- نهج البلاغة: 53

105- الدولة الاسلامية شرح لعهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر النخعي: محمد الفاضل اللنكراني: ص 146

106- نهج البلاغة: 53

107- الحجرات: 12

ص: 172

108- نهج البلاغة: 53

109- الحكم الإسلامي في مدرسة الامام علي (عليه السلام): محمد تقي المدرسي: ص 197

110- غرر الحكم

111- نهج البلاغة: 53

112- مصباح المنير: للفيومي: ج 8: ص 446

113- نفحات الولاية شرح نهج البلاغة: ناصر مکارم الشيرازي: ج 10: ص 371

114- نهج البلاغة: 53

115- نهج البلاغة: الحديث: 231

116- نهج البلاغة: 53

117- مفردات الفاظ القرآن الكريم: الراغب الاصفهاني ص 470

118- الدر المنثور: لجلال الدين السيوطي: ج 6: ص 10

119- تفسير ابن كثير القرشي: ج 1، ص 430

120- غرر الحكم: ح 496

121- نهج البلاغة: ج 4، ص 42، الحكمة 173

122- غرر الحكم: ج 6: 310

ص: 173

المصادر

أ

1- القران الكريم

2- الصحيفة السجادية: للأمام زین العابدین (عليه السلام)، تحقيق:: حاج عبد الرحيم أفشاري زنجاني: سنة الطبع: 1404 - 1363 ش المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة

3- الشرح الكبير: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي شمس الدين أبو الفرج، المحقق دار المنار

4- الصحاح: إسماعيل بن حماد الجوهري، المحقق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين سنة النشر: 1990

5- اخلاقیات الامام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): السيد هادي المدرسي، الطبعة الأولى، 1431 ه، 2010 م، مؤسسة الباقر للطباعة والنشر

6- الكافي: للشيخ محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه)

7- الاغاني: أبو الفرج علي بن الحسين القرشي الأصبهاني أو الأصفهاني (284 ه - 897 م، مطبعة دار صادر بیروت، سنة الطبع سنة 1952 - 1994 م

8- المعيار والموازنة: الشيخ الاقدم أبي جعفر الإسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي، دار محمودي للطبع والنشر، 1981 م

ص: 174

9- المستدرك على الصحيحين المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الظبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفي: 405 ه) تحقیق: مصطفى عبد القادر عطا الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1411 - 1990

10- الامثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مکارم الشيرازي الناشر: مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الطبعة: الأولى التصحيح الثالث 1426

11- اصول الكافي: ثقة الاسلام الكليني، الناشر: دار المرتضى للطباعة والنشر والتوزيع - بیروت لبنان الطبعة: الاولى 2005

12- أسد الغابة في معرفة الصحابة: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد، المعروف ابن الأثير، الناشر: دار ابن حزم، الطبعة: الأولى سنة النشر: 1415 ه - 1994 م

13- العقد الفريد (ط. العلمية): أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي المحقق: مفيد محمد قميحة، سنة النشر: 1404 - 1983

14- البدعة واثارها الموبقة: جعفر السبحاني

15- الخصال: الشيخ الصدوق ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي صححه وعلق عليه: علي اكبر الغفاري الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة الجماعة المدرسین بقم المشرفة، سنة الطبع: 18 ذي القعدة الحرام 1403 - 1362 ش

16- الصراط المستقيم: زين الدين أبي محمد علي بن يونس العاملي النباطي البياضي

ص: 175

تحقيق محمد الباقر البهبودي

17- الأمالي: شيخ الطائفة ابي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، تحقيق وتصحيح: بهراد الجعفري - الاستاذ علي اكبر الغفاري الناشر: دار الكتب الاسلامية قم 1414 هجريّة الطبعة: الاولى 1964 م

18- الدولة الاسلامية شرح لعهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر النخعي: الشيخ محمد الفاضل اللنكراني، تحقيق ونشر مرکز فقه الائمة الاطهار (عليهم السلام) 1425 ه

19- الرقابة على السلع والأسعار في الفقه الإسلامي: ظاهر فريدة حسين طه رسالة ماجستير (نابلس، جامعة النجاح، 2011 م)

20- اسرار القيادة عند أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام): جمیل کمال، الطبعة الأولى، إصدارات مبرة سيد الشهداء (عليه السلام) الكويت 2016

21- الحكم الإسلامي في مدرسة الامام علي (عليه السلام): السيد محمد تقي المدرسي، الطبعة الاولى، 1431 ه، 2010 م، مركز العصر للثقافة والنشر

22- المحجة البيضاء في تهذیب الاحياء: تأليف المولى محسن الفيض الكاشاني صححه وعلق عليه: علي اکبر الغفاري الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات الطبعة: الثانية 1983

23- الحرية السياسية دراسة مقارنة في المعالم والضمانات: فاضل الصفار، الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، 2006 م

24- الدر المنثور: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفي: 911 ه) دار

ص: 176

الفكر - بيروت، 2010 م

ب

25- بحار الانوار الجامع لدرر أخبار الأئمة الاطهار: الشيخ محمد باقر المجلسي، الناشر: دار احیاء التراث العربي - بيروت لبنان الطبعة: الثالثة المصححة 1983

ت

26- تفسير الميزان: للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائ. مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الثانية

27- تفسير المحيط الأعظم والبحر الخظم في تأويل كتاب الله العزيز المحكم: السيد حیدر الآملي، حققه وقدم له وعلق عليه: السيد محسن الموسوي التبريزي، الناشر: العهد الثقافي نور على نور الطبعة: الثانية

28- تحف العقول عن آل الرسول (ص): ابن شعبة الحراني، تحقيق: تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1404 - 1363 ش المطبعة: الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة

ج

29- جامع بیان العلم وفضله: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (المتوفي: 463 ه) تحقيق: أبي الأشبال الزهيري الناشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1414 ه - 1994 م

30- جامع السعادات: المولى محمد مهدي النراقي، دار النشر اسماعیلیان قم المقدسة، سنة الطبع 1428

ص: 177

د

31- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: الشيخ المنتظري، الناشر: الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: الثانية 1988

32- دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي، سنة النشر: 1971

ر

33- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: تأليف: المولى محمد تقي المجلسي الاول تحقيق: علي بناه الاشتهاردي - حسين الموسوي الكرماني الناشر: بنیاد فرهنك اسلامي حاج محمد حسین کوشانيور الطبعة: الاولى

س

34- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (السلسلة الصحيحة (المؤلف: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: مكتبة المعارف سنة النشر: 1415 ه - 1995

ص: 178

ش

35- شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد المعتزلي تحقيق: محمد ابراهيم الناشر: دار الكتاب العربي - دار الاميرة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: الاولى 2007

ص

36- صفوة شروح نهج البلاغة: جمعة اركان التميمي، الناشر: د.م. تاريخ الطبع: 2000

ع

37- عيون الحكم والمواعظ: فخر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الليثي الواسطي المحقق: الشيخ حسين حسني البيرجندي الناشر: دار الحديث، الطبعة: الأولى 1376 هجري شمسي

ف

38- فقه الرضا: علي ابن بابويه القمي، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم المشرفة الطبعة الأولى، سنة الطبع شوال 1406 المطبعة: الناشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام) مشهد المقدسة

39- فقه الدولة بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والانظمة الوضعية: فاضل الصفار: الناشر، دار الانصار مطبعة باقري، الطبعة الاولى 1426 ه - 2005 م

40- في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية: الناشر: دار العلم للملايين - بيروت لبنان الطبعة: الثالثة 1979

ص: 179

ك

41- کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين علي المتقی بن حسام الدين الهندي البرهان فوري والمشهور بالمتقي الهندي، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط دائرة المعارف العثمانية (النظامية) بحیدر آباد 1313

ل

42- لسان العرب: محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي. ولد في محرم سنة 630 ه / 1232 م

م

43- مفاتیح الجنان: للسيخ عباس القمي (رضوان الله عليه)

44- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: للعلامة المحقق میرزا حبیب الله الخوئي: الطبعة الأولى - 1422 ه، 2003 م، دار احیاء التراث العربي للطباعة والنشر بيروت

45- معجم المعاني: مروان العطية: الطبعة الأولى: 2012 م

46- معجم الفروق اللغوية: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه، المحقق: الشيخ بیت الله بیات، ومؤسسة النشر الإسلامي الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين با قم (الطبعة: الأولى، 1412 ه)

47- مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي المحقق: السيد احمد الحسيني الناشر: انتشارات مرتضوي المطبعة: طراوت طهران إيران الطبعة: الثانية - 1365 ه

ص: 180

48- مصباح البلاغة مستدرك نهج البلاغة الموسوم بمصباح البلاغة في مشكاة الصياغة من تأليفات حسن المير جهاني الطباطبائي المحمد آبادي الجرقويي الأصبهاني، طبع بتاریخ 1388 ه

49- میزان الحكمة: محمد الريشهري، الناشر: دار الحديث قم، الطبعة الأولى سنة النشر 1422 ه

50- مستدرك الوسائل: لميرزا حسين النوري الطبرسي المعروف ب المحدث النوري من (علماء الشيعة (المتوفي سنة 1320 ه - سنة الطبع 1245 ه، 1320 قم، مؤسسة آل البيت لأحياء التراث والنشر

51- مفردات القران: للراغب الاصفهاني: الناشر: دار القلم - الدار الشامية سنة النشر:

1430 - 2009

52- مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة: سید محمد تقي التقوي، الطبعة الاولى مؤسسة التاريخ العربي، سنة الطبع، 2015 م، 1436 ه

53- مختلف الشيعة في احكام الشريعة: العلامة الحلي ابي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم الشرفة الطبعة: الاولى 1372 ه

54- معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ياقوت الحموي، الناشر: دار الغرب الإسلامي سنة النشر: 1993.

55- ملامح القيادة الناجحة في ضوء منهجية الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مقارنات دراسية في سيكولوجية السلوك التنظيمي المعاصر: محمد عبد الرضا هادي

ص: 181

الساعدي: الطبعة الأولى 1435 ه 2014 م، مطبعة ذوي القربی

56- موسوعة الإمام العسكري (عليه السلام): مؤسسة ولي العصر (عجل الله فرجه الشريف) للدراسات الإسلامية، محل النشر قم المقدسة

57- مکارم الأخلاق: تأليف الشيخ الجليل رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي رحمه الله ، سنة الطبع: 1392 - 1972 م

ن

58- نهج البلاغة: خطب وكتب الامام علي بن ابي طالب، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية 1980.

59- نفحات الولاية شرح عصري جامع لنهج البلاغة: الشيخ ناصر مکارم الشيرازي: سنة الطبع الطبعة: الاولى 1426

60- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: الشيخ محمد باقر المحمودي الطبعة الأولى 1396 - 1976 دار التعارف للمطبوعات بيروت - شارع سوريا - بناية درویش

ص: 182

ه-

61- هداية الأمة إلى أحكام الأئمة (عليه السلام): محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين المعروف بالشيخ الحر العاملي

و

62- وسائل الشيعة: للشيخ المحدث محمد بن الحسن بن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لأحياء التراث - بیروت، الطبعة الاولى 1413 ه - 1993، دار إحياء التراث العربي - بيروت

ص: 183

ص: 184

الفكر الإداري في عهد مالك بين النظرية والتطبيق

اشارة

أ. د حسين علي الشرهاني م. م رزاق فزع جنجر

ص: 185

ص: 186

المقدمة

يعد عهد الإمام علي عليه السلام لمالك النخعي رضي الله عنه موسوعة متكاملة لجميع قضايا الحكم والإدارة، اشتمل على اعلى درجات التطور الانساني والتقدم الفكري، واختصر التجربة الإنسانية الايجابية على طول تاريخها، واسمى ما بلغته من رقي وابداع، ومهما وصلت أنظمة الحكم والادارة في التاريخ فإنها تبقى عاجزة عن ان تأتي بنظرية ادارية اقتصادية قانونية انسانية متكاملة كما جاء في هذا العهد، لذلك مهما حاولت الاقلام ان تكتب فيه فإنها تبقى قاصرة عن الوصول الى غاياته او ما جاء فيه من قيم عليا ونظریات عملية وعلمية.

لذلك حاولنا في بحثنا المختصر هذا ان نركز على جزئية بسيطة في هذا العهد، فتناولنا منهج الامام علي عليه السلام في ادارته للدولة، واستخلصنا مجموعة من المبادئ الرئيسة التي تضمنها العهد لتكون مرتكزات لبحثنا، ثم اردفنا ذلك بالممارسات العملية التي طبقها الإمام عندما مارس الحكم، في محاولة لربط النظرية بالتطبيق العملي الذي كان سابقا للنظرية. وهذا المنهج الذي اتبعناه وان كان لا يرقى الى مستوى العهد، لكنه يبقى محاولة لفهم بعض جوانبه، لاسيما ان ضيق مساحة البحث دفعنا الى انتقاء بعض النقاط وليس كل ما جاء في العهد، فأخذنا مبدأ الرقابة الذاتية ومبدأ الرقابة الشعبية على الموظف والتي ثبتها الإمام عليه السلام في عهده، والممارسات العملية المتعلقة بهما، ثم اخذنا المزايا الاخلاقية التي يجب ان يتحلى بها كبار الموظفين، والحفاظ على دماء الرعية.

ثم ناقشنا طبيعة اختيار الكادر الاداري ومواصفاته كما ورد في العهد مع التركيز على طبيعة اختيار الامام للموظفين (عمال، ولاة، کتاب) کمارسة عملية، واردفنا ذلك بالأساليب الوقائية التي حددها الامام في عهده لمالك، حتى لا يسمح للفساد الاداري والمالي بالتسلل الى مرافق الدولة.

ص: 187

البحث

طرح الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) للعالم في عهده لمالك الاشتر النظرية السياسية للإسلام، واسلوب الحكم والادارة وفق نسق علمي مترابط ومنسجم، فكان هذا العهد اهم وثيقة تاريخية تهدف الى ارساء قواعد العدل والمساواة، وهو اسمی صك لحقوق الانسان استله الامام علي (عليه السلام) من المنهج القرآني والنبوي.

لاريب ان العهد امتاز بالشمولية والاحاطة بظواهر الحكم وخفاياه، ذلك لان مؤسس العهد (عليه السلام) يعتبر منظومة شاملة لكل العلوم والمعارف الكونية والانسانية (1)، على هذا فقد اقتبسنا من العهد بعض الفقرات التي تناولت الجوانب الادارية في الحكم.

مفهوم الادارة:

الادارة هي فن قيادة وتوجيه أنشطة جماعة من الناس نحو تحقيق هدف مشترك (2)، وتعرف ايضاً بانها نشاط انساني تعاوني لتحقيق اهداف مشتركة في احسن وجه واقصر وقت وباقل التكاليف (3)، ويلاحظ ان التعريفين السابقين جمعا الصفة الانسانية والصفة الفنية للعمل الاداري، زيادة على انهما لم يحددا وظيفة بعينها بل کانا شمولیان وعامان (4).

ومن التعاريف النموذجية للادارة العامة هي تنظيم وادارة الافراد والموارد لتحقيق الاهداف الحكومية (5)، وتعرف ايضاً انها فن ادارة الاعمال في مجال شؤون الدولة، كما يمكن تعريف الادارة بانها عملية اجتماعية مستمرة تعمل على استغلال الموارد المتاحة استغلالا امثل، عن طريق التخطيط والقيادة والرقابة للوصول الى هدف محدد (6).

ص: 188

نخلص الى ان العملية الادارية لا تتوقف طالما ان حاجات الفرد والجماعة لا تنقطع ولا تقف عند حد معين، كما ان قوام تلك العملية الادارية المستمرة هو العنصر الانساني، والموارد المعنوية المتمثلة بالأفكار و النظريات والأساليب التي ترسم ملامح العملية الادارية وقدرتها على استخدام الموارد المتاحة وقيادة الناس، ومن قوامها ايضا الموارد المادية الذي تشمل الاموال والادوات والمعدات والالات التي يجب توافرها لكي تقوم الادارة بوظائفها من تخطيط وتنظيم وقيادة ورقابة (7).

أهمية العهد

ابطلت حكومة الامام علي (عليه السلام) النظرة الشائعة التي تقضي بان مفاهیم الادارة القديمة تبني على مجموعة من النصائح والارشادات التي توجه الى الحكام والاداريين، وانها تختلف عن الادارة الحديثة من حيث الموضوعية والتطبيق العلمي، ويمكن ان نرى ذلك بوضوح من خلال التطبيقات العملية في مؤسسات الدولة ابان خلافة الامام علي (عليه السلام) ومقارنتها مع فقرات العهد الذي دونه الإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر (8).

ولا شك بان الغاية الاساسية عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هي اقامة دولة الحق المستندة الى الحكم الإلهي ونشر العدل والفضيلة، وقد طبق المفاهيم التي طرحها على ارض الواقع ولم يكن كلامه مجرد تنظير لا مصداق له، لذلك كان عهده لمالك الاشتر منهجاً متكاملاً في السياسة والحكم والادارة، وليس هذا الحديث من باب التحيز للمنهج العلوي ولا من قبل المبالغة، وإنما کلام مبني على أساس البحث والدراسة. حيث توفرات في ذلك المنهج عناصر جعلته يفوق غيره من المناهج الأخرة، ومن تلك العناصر:

ص: 189

العنصر الاول:- إن ما يقدمه هذا المنهج ليس نتاج اجتهاد بشري وفرضيات وضعها إنسان فهي قابلة للصحة أو الخطأ، وإنما هي حدود وتعليمات وتشريعات صدرت عن الباري عز وجل (9).

العنصر الثاني:- إن ما يقدمه لنا هذا المنهج هو نظام تم تطبيقه على ارض الواقع، واثبت نجاعته ونجاحه، فقاد الدولة الإسلامية الى بناء حضارة امتدت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب (10).

العنصر الثالث:- ملائمته كل زمان ومكان (مرونة المنهج العلوي) (11).

العنصر الرابع :- إن الادارة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) لیست فعلاً میکانیکياً بل هي مجموعة صفات وخصال تمتزج فيما بينها للحصول على المدير الجيد والإدارة الجيدة، وهذه الصفات هي التنظيم، فلا إدارة بدون تنظیم و نظام، فإذا حلَّ نقص التنظيم حلّت محله الفوضى (12).

العنصر الخامس:- الانسانية وكمالها وتكاملها هدف اسمي في منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، بمعنى ان الذي يتحرك ويفعّل الادارة هو الانسان وليس الآلة، فكان لابُد من معرفة الانسان والتعريف على نقاط قوته ونقاط ضعفه، فالادارة الجيدة هي التي تحاول أن تستثمر نقاط القوة في أعضائها وتعالج نقاط الضعف فيهم (13).

العنصر السادس:- الحالة الاجتماعية في منهج امير المؤمنين (عليه السلام)، أي أن الادارة تشكل بمجموعها مجتمعاً منظماً تنشأ فيه العلاقات الانسانية وتنمو فيه الروح الجماعية. وعندما تتحرك هذه الادارة كأنما المجتمع بأسره قد تحرك وهذه النظرة تخالف أولئك الذين ينظرون إلى الادارة وكأنها متكونة من أجزاء بشرية متناثرة لا يربطها رابط سوی

ص: 190

القوانين الصارمة، كما هي البيروقراطية (14) وغيرها من نظريات الادارة العلمية (15).

العنصر السابع:- الهدفية في المنهج الاداري العلوي، فلابد أن يكون للإدارة هدفاً وأن يكون هذا الهدف منسجماً مع أهداف الانسان في الحياة، وبالتالي يجب أن تكون هذه الأهداف منصبة في بناء الإدارة القوية، وهنا نجد أنفسنا أمام دائرة متكاملة شاملة وهي المعبرة عن الفضائل الانسانية والساعية أيضا إلى تحقيقها في الحياة (16).

في السنة الثامنة والثلاثين للهجرة (658 م) بعث خليفة المسلمين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك بن الحارث النخعي الاشتر رضوان الله تعالى عليه بكتاب حين ولاه مصر (17) والتي عرف فيما بعد ب (عهد الاشتر) والذي اشتمل على قواعد نظام الإدارة الإسلامية وحقوق الراعي والرعية في المنهج الإسلامي، لذا جاءت عنایتنا تبحث في هذه الوثيقة الدستورية الراقية في محاولة لاستخلاص القواعد الأساسية للنظام الإداري في المنهج العلوي الإسلامي، ولا إثبات أسبقية ذلك النظام الإداري الإسلامي في وضع الأسس الإدارية وتوزيع المسؤوليات بالاعتماد على البناء الوظيفي للهيكل الإداري والتوزيع الأفقي للطبقات الإدارية والاجتماعية بدلا من التوزيع العمودي، الذي أتت به النظريات الإدارية الحديثة والممارسات الإدارية القديمة بما في ذلك الممارسات التاريخية، وتتجه النظريات الحديثة اليوم إلى إلغائه والاعتماد على التوزيع الأفقي بكونه بديلا أكثر فعالية عنه.

اهداف العهد العامة:

لخص الإمام (عليه السلام) المهمات السياسية والإدارية لمالك في عهد التولية بالمرتكزات الاربعة الآتية: جباية الخراج، وجهاد العدو، واستصلاح الناس، وعارة البلاد (18).

ص: 191

جباية الخراج:- وإنما بدأ بجباية الخراج لأنه مصدر التمويل الرئيس وعماد اقتصاد الدولة وإدامة أجهزتها. وثني بالدفاع عن الأرض وجهاد العدو، ثم أتم ذلك باستصلاح الناس، وأراد بذلك إدارة شؤونهم ورعاية مصالحهم وتحقيق العدالة بينهم، وختم مهماته بعمارة البلاد وتنمية الاقتصاد و توفير أسباب الطمأنينة للقوى المنتجة. وقبل تفصيل الحديث عن هذه المحاور الأربعة حرر الإمام فقرة أوجز فيها الإشارة إلى فئات المجتمع الذي وجه إليه مالكا، وسماهم طبقات (19) وفيها: جنود الله (العسكريون) ومنها كتاب العامة والخاصة (من يقوم بشبه مهام الوزراء) ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق (الإداريون والجباة) ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس (المزارعون ومربو الماشية والأنعام)، ومنها التجار، وأهل الصناعات (الحرفيون) ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة (فقراء المدن والريف).

جهاد العدو: حين شرع الإمام (عليه السلام) بتفصيل الحديث عن حقوق فئات المجتمع وواجباتها بدأ بالحديث عن الجنود الممثلين لتشكيلات الحرس النظامي والمقاتلين من المجاهدين المندوبين للدفاع أو الفتح. فامتدحهم بأنهم «حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم (20) ولا بد من تموينهم بما لدى الدولة من موارد مالية تتمثل في عائدات الخراج والجزية وأموال الزكاة، وتوفير مستلزماتهم حتى يمكنهم الدفاع عن عهدتهم، فضلا عن احتياجهم إلى طبقات المجتمع من إداريين وتجار وحرفيين يوفرون لهم مستلزماتهم وسلعهم وعددهم مما لا يقوم به غيرهم، ورسم (عليه السلام) بان يختار لقيادتهم والإمرة عليهم أقومهم سيرة وأكثرهم تحريا للعدل والإنصاف، وحدد لذلك شرائط و ضوابط لخصها بالقول: «فول من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأطهرهم جيبا وأفضلهم حلما، ممن يبطيء عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويراف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء (21) وفي

ص: 192

هذا النص حذر الإمام (عليه السلام) من خطرين: الأول: خطر الفساد، الذي شهد ما شهد منه في زمانه، قبل توليه الأمر، وانتهى بثورة أدت إلى مصرع عثمان بن عفان.

والثاني: خطر الاستبداد الذي يعطل أحكام الشريعة، فجعل الحلم والأناة والرأفة بالضعفاء والحزم مع الأقوياء المتنفذين شرطا في من يتولى المسؤولية ومیزانا لاختياره (22).

استصلاح أهلها:- ويعني بالاصلاح الاجتماعي، والاهتمام برعاية شؤون الأمة والمجتمع، وضرورة توعية المواطنين على مبادئ الحق والعدل، وارادة البناء، ومشاريع الخير والبر والاحسان، وتنمية مواهبهم، وصقل قدراتهم، وتحرير طاقات الافراد، وخلق التوازن الاجتماعي، واشاعة ثقافة الوحدة والاخاه، والتعاون والتكافل، وترسيخ مفاهیم المحبة والاخاء والتسامح والايثار، وتحقيق الانسجام بين المكونات الاجتماعية (23).

وعبارة بلادها:- إن اعمار البلاد والتنمية الاقتصادية في منهج الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لا يتوقف عند حدود توفير الخدمات، وتحقيق الرفاهية الاقتصادية، بل هو برنامج متكامل من حيث التخطيط والعمل لكي يحكم كل مناحي الحياة، وذلك من خلال فتح افاق تنموية رحبة في مجالات التعليم، والصحة، والثقافة، والادب، والتكنولوجيا، بهدف توجية الامة بكل قطاعاتها الى الاستثمار بالشكل الذي يخدم حياة الانسان الفردية والاجتماعية، ومراعاة الصالح العام في الحاضر والمستقبل (24).

كانت هذة الاركان الاربعة المهمة التي تقوم عليها الدولة، وتبنى عليها مؤسسات المجتمع المدني، فهي تغطي بشكل عام الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وافاق التنمية والاعمار، اذا ما تفاعلت بصورة وثيقة فيما بينها، حيث ان العلاقة بين تلك الجوانب تحتاج الى قيادة ادارية واعية تمتلك القدرة على التخطيط والموازنة، بشكل

ص: 193

لايطغى جانب على جانب اخر، كأن تنفرد السياسية على الجوانب الاخرى، او يكون الاقتصاد اهم من التمنية والمجتمع، وذلك تلافيا لتدهور النظام، وبالتالي فشل وانهيار الحكومة.

بيد ان هذه البرنامج الكامل لم يجد له مجالاً للتطبيق العمليّ في مصر نتيجة عمليّة الاغتيال الّتي جرت لمالك الأشتر، ولكنها طبقت في حكومة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، فقد جسدها امير المؤمنين (عليه السلام) باعتبارة رئيساً نموذجياً عادلاً للدولة الاسلامية، ورائداً عظيما من رواد الحضارة الانسانية.

السياسة الادارية في حكومة الامام علي (عليه السلام):

عندما تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة كانت الدولة الاسلامية تعيش ظروفاً غير طبيعية، لكنه (عليه السلام) كان على قدر المسؤولية ولم تهمه هذه الظروف بل اصر على اصلاح كل مرافق الدولة، فترك لنا ارثاً عظيماً سواء على مستوى النظرية او التطبيق الفعلي، واول ما بدأ به هو انه طرح برنامجاً اصلاحياً متكاملاً في الخطبة التي القاها في يوم توليه للخلافة، فقال فيها: ((أما بعد فإنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر، فعمل بطريقة ثم جعلها شوری بین ستة فأفضى الأمر إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم ثم حصر وقتل، ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي، وإنما أنا رجل منکم، لي ما لكم وعلي ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر، وأني حاملكم على نهج نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، ومنفذ فيكم ما أمرت به، إن استقمتم لي، والله المستعان، ألا ان موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته، فأمضوا لما تأمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر

ص: 194

حتى نبينه لكم، فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا، ألا وان الله عالم من فوق سمائه وعرشه، إني كنت کارها للولاية على أمة محمد، حتى أجتمع رأيكم على ذلك، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيما وال ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله، وان كان جائرا أنتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه، ولكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترککم) (25).

ثم ألتفت (عليه السلام) يميناً وشمالاً، فقال: ((إلا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة الحسان، فصار ذلك عليهم نارا وشنارا، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأمرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون، ويقولون حرمنا ابن أبي طالب من حقوقنا، إلا وایما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يرى الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله، وایما رجل استجاب الله وللرسول فصدق ملتنا، ودخل دیننا واستقبل قبلتنا، فقد أستوجب حقوق الإسلام وحدوده، فانتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاء، وما عند الله خير للأبرار))(26).

لقد لخص الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في هذه الخطبة الكثير من الأشياء، وأوضح للمسلمين انه عازم على تغيير اوضاع الدولة الإسلامية وارجاعها الى ما كانت عليه عهد رسول الله صلي الله عليه وآله، فبدأ بخطوات على الصعيد العملي فألغى نظام التفاوت الطبقي بين المسلمين الذي سنه عمر بن الخطاب، وغير الكادر الاداري الفاسد

ص: 195

بموظفين على درجة كبيرة من النزاهة والكفاءة والامانة مع اخضاعهم للتجربة وعدم السماح لهم باستغلال وظائفهم والتجاوز على الاموال او الرعية، وذلك عبر تأسيسه لنظام رقابي شامل يشرف عليهم، کما اصلح نظام الضرائب و نظام جبايتها، ورفع الحيف عن الرعايا وراعي اهل الذمة من غير المسلمين وضمن حقوقهم (27).

النظام الإداري للحكومة والولاية

لقد كان ابن أبي الحديد في منتهى الدقة والإنصاف حين وصف هذا (العهد) بأنه)): نسيج وحده، ومنه تعلّم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة ... وحقیق مثله أن يُقتني في خزائن الملوك)) (28).

يصطلح النظام الإداري الإسلامي على الأفراد المنتمين لذلك النظام بتسمية هي (الرعية)، فقد جاء في وصية الامام علي (عليه السلام) للاشتر: ((... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظيرُ لك في الخلقِ يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك امرهم وابتلاك بهم)) (29)، وان المسؤول الاول عن ادارة شؤون ومصالح الرعية هو الخليفة (الراعي)، الذي بدورة باختيار الطاقم الاداري و اسناد المهام الادارية اليهم، والغرض من هذا الاسناد هو الاعانه لعدم امكانية الفرد بطاقته البشرية المحدودة على القيام بذلك بمفرده، لذلك كان يستعين بالولاة لادارة الامصار البعيدة عن مركز الخلافة، ويامرهم باتخاذ النمط الاداري المعمول به في حكومة المركز، فقد جاء في عهده (عليه السلام) للاشتر حين ولاه على مصر: ((... ثم اعلم یا مالك اني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور وأن الناس

ص: 196

ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عبادهِ)) (30)

يعتمد النظام الاداري الإسلامي في توزيعه للعمل على تقسيم المجتمع (الرعية) الى ثماني طبقات وظيفية في خط افقي تكون الادارة العليا للمؤسسه طبقة واحدة من تلك الطبقات أي انها تتربع فوق هرم النظام الاداري، ويلغي هذا التوزيع الغاء کاملا للتوزيع العمودي لما يترتب عليه من تفاضل وتمايز بين الافراد في غير مواد التفاضل، کما هو الحال في التنظيمات الادارية الحديثة، اذ ليس في هذا النظام ما يمثل الهرم في التوزيع، وانما تمثل جزء منها وهي حالة فريدة لم تتكرر في أي نظام اداري بما في ذلك الانظمة الحديثة التي تدعو اعتماد الهيكلية الافقية بدلا من العمودية (31)، فقد جاء في عهد الامام للاشتر مایؤكد ذلك بقوله: ((... واعلم ان الرعية طبقات ولا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الانصاف والرفق ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار واهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابة اوسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهد منه عندنا محفوظاً)) (32)

وقد كان الامام حريصاً على تبيان كل توجيهاته لموظفيه حتى يعرفوا حدود مسؤولياتهم تجاه الرعية ويتجنبوا الاهمال والتقصير، وسنحاول ان نوجز ما جاء في میثاق عهد الدولة وفقاً للمبادئ الاتية:

ص: 197

أولاً: الرقابة الذاتية على النفس

ان النظام الاداري الإسلامي متداخل مع النظام الاجتماعي الاسلامي لدرجة يبدو معها النظام اجتماعيا لا اداريا ولعل هذا السبب هو ما حال دون اعتماد الباحثين في المجال الاداري لهذا النص لاستخلاص النظام الاداري الاسلامي، وفي مقابل ذلك، فان الانظمة الادارية الاخرى لم تكن تعر أي عناية تذكر للبعد الاجتماعي في النظام الاداري حتى العقد الثالث من القرن الماضي، اذ بدا المفكرون الاداريون يربط الادارة بالبعد الاجتماعي الذي تطور في ما بعد، ولا يزال قيد التطور في محاولة لمعالجة ما خلفته نظريات الادارة البحته - غير المعتمدة على البعد الاجتماعي - من نظرات و قصور (33).

اوضح الإمام (عليه السلام) ان للموظف الذي تخوله السلطة وتمنحه مجموعة من الصلاحيات يجب ان لا ينتظر الرقابة منها، بل يجب ان يكون لديه وازع داخلي يمنعه من الإخلال بعمله ((املك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك)) (34)، لان هذه الرقابة تمنعه من التجاوز على الرعية اذا تحققت شروطها ومنها: إنصاف الله والناس من نفسه وخاصة أهله والمقربين من أعوانه، فيؤدي ذلك الى ترويض النفس واجبارها على كسر الشهوات (38)، ينطلق الامام علي (عليه السلام) من القاعدة الالهية التي نصت عليها الاية الكريمة ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(35) وقد كان امير المؤمنين (عليه السلام) الانسان الكامل في تزكية النفس وترويضها فهو القائل: ((وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما)) (36)، وقوله: ((وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق)) (37).

ص: 198

فاللبنة الأولى التي وضعها أمير المؤمنين (عليه السلام) هنا في منهجة بناء الذات الإنسانية وصيرورتها صالحةً في حركتها البشرية حياتيا في معاملاتها مع الناس أو ربها سبحانه وتعالى، وهي رياضة النفس البشرية نظريا وعمليا بمعنی تمرینها وتدريبها وبصورة مستمرة عمليا على التقوى النفسية والسلوكية في تعاطيها الحياتي الخاص والعام، وتعطي عملية ترويض النفس قيماً انسانية وادارية لإقبال الدولة وقيامها عنده (عليه السلام) ويحددها بثلاث هي:

أولاً: العدل: حيث يقول (عليه السلام): ((ما حُصِّن الدولُ بمثل العدل)) (38)، حيث يكون العدل، قيمة سياسية أولى، بمثابة سور يحمي الدولة من السقوط أمام العدوان الخارجي.

ثانياً: الحِذقُ (المهارة): وبُعد النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور، حيث يقول (عليه السلام): ((أماراتُ الدول إنشاء الحِيلَ) (39).

ثالثاً: اليقظة والانتباه: حيث يقول (عليه السلام): ((من دلائل الدولة قلة الغفلة)) (40)، وقوله (عليه السلام): ((من أمارات الدولة التيقظ لحراسة الأمور))(41).

ويحذر (عليه السلام) منذ البداية من الإنسان الذي تسيطر عليه نفسه الامارة بالسوء من ان يتصدى لنشوء وتأسيس الدولة وادارتها، حيث يقول (عليه السلام): ((إحذر الشرير عند إقبال الدولة لِئلا يُزيلها عنك، وعند إدبارها لِئلا يُعين عليك)) (42).

ان مبدأ الرقابة الذاتية على النفس تقدم للمسؤول او الحاكم نموذج من اسلوب السلطة العليا في الاسلام، وتوضح تكليف إمام المسلمين. وما يجب على من يكون

ص: 199

إمام المسلمين وخليفة الله، وفي هذا الشأن يقول (عليه السلام): ((أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش...)) (43)

لذا نرى ان بعض من الحكام، انحرفوا عن القوانين الإسلامية، فأخذوا بجمع الأموال والانسياق وراء مشتهيات النفس وترك أحكام الله، فكان المسلمون يردون عليهم ويهددونهم ويقتلون بعضهم، ويثورون ضد آخرين منهم.

ثانياً: الرقابة الشعبية على عمل الموظف

يعد هذا المبدأ من المبادئ المهمة جداً لنجاح العمل الاداري، وقد خول الإمام (عليه السلام) الرعية بمراقبة الموظف وتشکیل رأي عام على تصرفاته فكان الكتاب بمثابة تخويل للرعية لمراقبة الموظف، ((إن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقوله فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده)) (44)، وهذا يعني ان الامام جعل معیار رضا الرعية (الرأي العام) شرطاً في نجاح الموظف. لان الرأي العام يعد مصدرا رئيسا في الضغط الايجابي على الكادر الاداري للتعامل بإيجابية مع الوظيفة.

وهذا الاجراء جعل من سكان تلك الولايات سواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة يراقبون تصرفات الولاة والعمال، ويشخّصون الأخطاء التي تحصل من هؤلاء، وأمرهم بإيصال أي سلبية يرونها في ولاياتهم إليه مباشرة، أما عن طريق الكتابة له، أو عن طريق المجيء الى العاصمة وتقديم الشكاوي (45)، لذلك اعتمد مجموعة من الوسائل، من أجل تفعيل الرقابة الإدارية على العمال والولاة، ومن هذه الوسائل التي اعتمدها المخاطبة المباشرة للناس عندما يعين أحد الأشخاص في عمل ما، وهذه المخاطبة على نوعين إما

ص: 200

إلقاء كلمة يجعل فيها الرعية رقيبة على الوالي أو العامل، أو إلزام هؤلاء بقراءة كتب التعيين على الناس عندما يتولوا أعمالهم، ويمكن التعرف على النوع الأول من الخطاب الموجه من الخليفة للناس، عندما ولى عبد الله بن عباس على البصرة بعد معركة الجمل، إذ خطب الناس في المسجد وقال لهم: ((يا معشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس، فأسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فأعلموني أعزله عنكم،...)) (46)، وهذا يعني أن أمر بقاء الوالي أو عزله مرتبط بطاعته لله والرسول (صلى الله عليه واله وسلم) أولا، والعمل بمبادئ الإسلام التي تقوم على العدل والمساواة، ثم جعل الناس مصدر الرقابة على الوالي، فهو باق في عمله مادام يعمل بالحق، فإذا زاغ عن هذا المنهج فإن الخليفة خول الناس بالكتابة له، وبالفعل فقد كتبت قبيلة تميم إحدى القبائل التي كانت تسكن البصرة للخليفة، ان الوالي عبد الله بن عباس كان يستعمل الشدة في معاملتهم، نتيجة لأنهم ساندوا المتمردين في معركة الجمل (47)، فأرسل الخليفة للولي كتابا يلومه فيه على هذا التصرف غير المقبول بحق الناس، لاسيما أن الخليفة أصدر عفوا عاما عن كل المشتركين بتلك المعركة، ولم يستخدم وسائل انتقامية مع أعدائه، فكتب له: ((وقد بلغني تنمرك لبني تميم، وغلظتك عليهم ...، فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على يدك ولسانك من خير أو شر، فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي فيك)) (48).

أما قراءة كتب تعيين الولاة والعمال على الناس، من أجل أن يكونوا مراقبين لأداء هذا الوالي أو العامل، ويمكن أن نأخذ مثلا على ذلك كتاب تعیین قیس بن سعد بن عبادة عندما ولاه على مصر، إذ كتب لأهل مصر: ((وقد بعثت إليكم قیس بن سعد الأنصاري أميراً فوازروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو من أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته، نسأل الله

ص: 201

لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) (49)، وهذا معناه أن الخليفة عرف الرعية بحقوقهم، بحيث لا يستطيع أي والي أن يتجاوز على حقوقهم، رغم ثقة الخليفة بقيس وبسيرته.

كذلك كتاب تعيين محمد بن ابي بكر الذي ولاه الخليفة على مصر بعد عزل قيس بن سعد، إذ قرأه الوالي الجديد على أهل مصر عندما وصل إليها، وفي هذا الكتاب توصيات وتشديد على الوالي في الحفاظ على حقوق الرعية، ونلمس تعريف الناس بحقوقهم وواجباتهم التي حددها الخليفة لهذا الوالي، والتي عرفها الناس من خلال قراءة هذا الكتاب عليهم، لذلك لا يستطيع أن يتلاعب بالأموال أو يظلم أحداً، وسنذكر جزءاً من هذا الكتاب: ((هذا ما عهد به أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر، أمره بتقوى الله والطاعة له في السر والعلانية، وخوف الله في المغيب والمشهد، وأمره باللين للمسلم وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين، ويعذب المجرمين، وأمره أن يدعو من قلبه الى الطاعة والجماعة، ..... وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل ولا ينتقص ولا يبتدع، ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمون عليه من قبل)) (50).

كذلك فإن الخليفة قد أعطى الحق للناس بالكتابة إليه مباشرة، في حال ظلمهم الوالي أو تجاوز على الأموال، لأن الوالي يعد أعلى سلطة في الولاية، فتكون الشكوى مقدمة الى من هو أعلى منه في هرم السلطة وهو الخليفة، وقد رأينا ذلك في كتابة قبيلة تميم للخليفة عن تجاوز الوالي عليهم، لكن هذا الأمر سبقه توجيهات للولاة وعمال الخراج، في تلقي الشكاوى المباشرة من الناس، سواء كانت هذه الشكاوى على العمال الذين يعينهم الوالي في الإدارة المالية، أو الذين يعملون في جباية الضرائب من الناس (51)، ويمكن أن نعرف

ص: 202

هذا الأمر عندما نقرأ بعض فقرات الكتاب الذي أعطاه الخليفة لمالك بن الحارث الاشتر لما ولاه على مصر: ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك ألا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله، كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته، من إقامة على ظالم فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد)) (52)، ويمكن القول إن مثل هذا التوصيات لم تكن موجهة لمالك الأشتر فقط، بل هي تعلیمات يعمل عليها جميع الولاة والعمال في أرجاء الدولة الإسلامية، وجميع أوامر التعيين التي أصدرها الخليفة لهؤلاء الموظفين كانت تتضمن تعلیمات قريبة من هذا النص، ولا يخفى أن الهدف من هذا النص، هو أن الوالي يجب أن يستشعر هموم الناس البسطاء، ويعالج أي ظلم يقع عليهم، وهذه هي المرحلة الأولى التي أرادها الخليفة من الولاة والعمال، لذلك أوصاهم بضرورة أن تكون أبوابهم مفتوحة لاستقبال الناس في ولاياتهم، دون أن يكون هناك حجاب يفصلهم عن رعيتهم، أو وجود مجموعة من الأشخاص يشكلون حاجزا بين الوالي أو العامل وبين الناس، فكتب بعض الكتب لهؤلاء في المعنى المتقدم، إذ تذكر الروايات أنه كتب المالك الاشتر: ((وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور)) (53)، وفي كتاب آخر وجهه الى قيس بن سعد: ((فألن حجابك، وافتح بابك، واعمد إلى الحق)) (54)، وفي بعض الحالات التي يقع الظلم على الرعية من الوالي نفسه، ولا يجدون في ولاياتهم من ينصفهم منه، يكتبون الى الخليفة مباشرة، وهذه الكتابة لم تقتصر على المسلمين فقط، بل تعدت ذلك الى غير المسلمين، لأن رعايا الدولة لم يكونوا من المسلمين فقط، بل كان هناك مجاميع كبيرة تعيش في ظل الدولة من الفلاحين والصناع والتجار من غير المسلمين، ففي رواية أن الدهاقين في ولاية أصفهان كتبوا الى الخليفة، إن عامل الخراج عمرو بن سلمة الارحبي

ص: 203

كان لا يعاملهم باحترام، ويقسو عليهم ويحتقرهم، لذلك كتب اليه الخليفة كتابا يأمره بتغيير هذا السلوك، مع هؤلاء الفلاحين الذين هم الركيزة الأساسية لاقتصاد الدولة، ونموذج التعايش بين المسلمين وغيرهم، وعليه فإن عدم دخولهم للإسلام يجب أن لا يكون مدعاة لاحتقارهم، ((أما بعد فإن دهاقین بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقارا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولا يقصوا ويجفوا لعهدهم)) (55).

وعندما تحدث خيانة من أحد العمال، كان الناس الذين يسكنون في تلك الولاية، أحد المصادر التي يعتمد عليها نظام الرقابة، من أجل تأكيد أو نفي التهمة عن شخص الوالي أو العامل، ومن الأمثلة على ذلك الشكوى التي قدمها بعض المسلمين، الذين كانوا يسكنون في إصطخر ضد عامل هذه المدينة المنذر بن الجارود العبدي، ومفاد هذه الشكوى إن هذا العامل سرق بعض الأموال من تلك المدينة، لذلك عندما وردت للخليفة نفس هذه المعلومات من جهاز العيون، أحضر هذا العامل وعاقبه وعزله عن تلك الولاية (56).

وفي بعض الحالات كان الناس يفدون الى الخليفة من أجل تقديم الشكاوى ضد الولاة والعمال، إذ تذكر الروايات أن سوده بنت عمارة ومجموعة من قومها، قدموا الى العاصمة لتقديم شكوى ضد عامل الصدقات في المنطقة التي يسكنون فيها، لأنه كان لا يلتزم بالأوامر التي أصدرها الخليفة، والمتعلقة في كيفية جباية هذه الصدقات، مما نتج عنه ظلم في الجباية والتوزيع، وكانت هذه المرأة هي التي تحدثت مع الخليفة عن الأمر لذلك عندما سمع الخليفة هذه الشكوى تأثر كثيرا نتيجة للإساة التي صدرت من هذا العامل، وبکی لأن الظلم وقع على رعايا دولته، ثم رفع يديه الى السماء وقال: ((اللهم أني لم أمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك))، ثم كتب كتابا الى العامل يأمره بحفظ الأموال التي بحوزته، لحين تعيين شخص آخر يتولى المهمة بدلا عنه: ((بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 204

: «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، فإذا قرأت كتابي هذا فأحتفظ بها في يدك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام)) (57) لكن هذا الإجراء الذي اتخذه الخليفة تبعه بالتأكيد تدقيق في صحة الشكوى المقدمة من الأهالي ضده، إذ ليس من المعقول أن يعاقبه بدون تدقيق، وربما الشخص الذي سيقبض الأموال منه كان هو الذي يدقق في هذه الشكوى (58).

ثالثاً: تجنب التكبر والشعور بالعظمة والاستبداد

كان منهج الإمام (عليه السلام) في ادارته للدولة عماله يقوم على قاعدة رئيسة مفادها ان الولاة والعمال ليسوا اكثر من موظفين لهم واجبات محددة، ولا يحق لهم ان يستغلوا الوظيفة باي شكل من الاشكال، او يتكبروا على الناس ويشعروا بالأبهة ويرتدوا رداء الكبرياء على عباد الله، لذلك كانت توجيهات العهد واضحة في هذا الباب: ((وإذا أعجبك ما أنت فيه من سلطانك فحدثت لك به أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على مالاتقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك ويفي إليك ما عزب من عقلك، وإياك ومساماته في عظمته، أو التشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال فخور)) (59)، وهذا القول يردع الوالي عن عن الطغيان ويضمن عدم تكبره، وضمان له من التجبر، وهما اشد ما يفسد الدول ويخرب المجتمعات وينقض العمران. وقديما قيل: من استبد برأيه هلك. وقيل: ما خاب من استشار. وقيل مشاورة العقلاء مشاركة لهم في عقولهم (60).

ص: 205

رابعاً: الحفاظ على الدماء

كان الانسان في دولة الامام علي (عليه السلام) يمثل اعلى قيمة، فسعى من خلال توجيهاته وممارساته العملية الى الحفاظ عليه وعلى كرامته، فحذر مالكاً. مع قربه الشديد منه - من التجاوز على الدماء، بل ذهب اكثر من ذلك عندما حذره من ان أي تجاوز على الدماء سيقابله الاقتصاص من شخص الوالي، ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، «فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها. والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة. فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام فإنذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولاعندي في قتل العمد لأن فيه قود البدن)) (61).

إن آفة الابتلاء بسفك الدماء بغير حلها، وهو أخطر ما امتحن الناس به، وشهدوا ما شهدوا منه من أهوال في عهود الطغاة من الذين استحوذوا على مقاليد الأمور بعد استشهاده (عليه السلام) وانقضاء عهده الشريف، فهذه الآفة المهلكة، كما يبصرها الإمام (عليه السلام) و كما شهدت به الوقائع التاريخية وما تزال تشهد به اليوم تستدعي عند الله النقمة، وزوال النعمة، وتعجيل الأجل، وتعظيم التبعة، وتتقدم - لشناعتها عند الله - غيرها من الخطايا في المساءلة يوم الحساب.

يعقد جورج جرداق (62) مبحثين مهمين في كتابه ((الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)) يشغل الأول منها خمسا وأربعين صفحة وعنوانه ((علي ومبادئ الثورة الفرنسية))، ويشغل الثاني منها عدة صفحات وعنوانه ((وثيقة حقوق الإنسان))، وفيه يربط بين مبادئ هذه الوثيقة وتعليمات الإمام (عليه السلام) ووصاياه إلى ولاته وعماله ومرؤوسيه، الأمر الذي يوحي بأن الإمام (عليه السلام) قد سبق في فكره ورؤياه فلاسفة الثورة الفرنسية والمشرعين العالميين في عصرنا هذا بعدة أجيال ومراحل.

ص: 206

خامساً: النهي عن الاحتجاب عن الرعية

من القواعد الهامة التي وضعها الإمام علي عليه السلام لموظفيه انه يجب ان يكون التواصل مع الرعية من دون حجاب، فيكون الوالي والعامل متابعاً لأحوال مواطنيه، ويكون المواطن على معرفة تامة بما يدور في الدولة، فيشعر انه جزء مهم وفاعل فيها، لذلك وجه مالكاً بعدم الاحتجاب فقال له في العهد: ((فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عنالرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوادونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليستعلى القول سمات يعرف بها الصدق من الكذب، فتحصن من الادخال في الحقوقبلين الحجاب فإنها أنت أحد رجلين: إما امرء سخت نفسك بالبذل في الحقففيم احتجابك؟ من واجب حق تعطيه؟ أو خلق کریم تسديه؟ وإما مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليكمالا مؤونة عليك فيه من شكاية مظلمة أو طلب إنصاف)) (63)، وهذذا يعني ان الوالي على مساس مباشر مع الناس حتى لا تكثر التكهنات وتسود الظنون، ويحرم اصحاب الحاجات من قضاء حاجاتهم، فيتعرف على شؤونهم مباشرة من دون وساطات قد تزيف الامور.

من يتصفح سيرة الامام علي (عليه السلام) يجده اكثر التصاقا بالناس وحضوراً معهم في السراء والضراء، وهذه الصفة الاخلاقية من اهم الاسباب التي رسخت محبة الإمام (عليه السلام) في قلوب الناس، وجعلته لايغيب عن ذاكرة الامة مع مرور الزمن، ويمكننا تلخيص السيرة العملية لامير المؤمنين (عليه السلام) ونهجه في التعامل مع الجماهير بما يلي:

ص: 207

1- مساواته (عليه السلام) لنفسه مع اضعف الناس حالاً.

2- البساطة في العيش، والابتعاد عن مظاهر البذخ التي يمارسها اكثر الحكام.

3- الاهتمام بتأمين حوائج الناس بنفسه (عليه السلام).

4- حفظ كرامة الجماهير، والتواضع امامهم، ومعاملتهم باحسان.

5- مواساة المستضعفين، والسعي الدؤوب في تأمين مستوي معيشي لائق بهم.

6- تطبيق العدل والمساواة في المجتمع، وازلة الفوارق الطبقية بين افراد المجتمع.

7- اعتبار نفسه (عليه السلام) وولاته خداماً للمجتمع، وحراساً لرعاية مصالح الناس.

8- رعاية حقوق آحاد المجتمع بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية.

9- عدم الحد من الحريات المشروعة للناس حتى بالنسبة للذين خالفوه ولم يبايعوه، وتحذيره لولاته بعد ايقاع العقوبة بأحد الا بعد ارتكابه جريمة تخالف الشرع.

10- الاقرار بدور الامة وانعقادها في امر القيادة السياسية والادارية والاجتماعية (64).

سادساً: الحذر من البطانة

سعى الامام علي (عليه السلام) الى تحقيق اعلى درجات العدالة في المجتمع الاسلامي، وان يتمتع الجميع بالحقوق نفسها بغض النظر عن القرابة مع الحاكم، وقد شهدت مدة حکم عثمان بن عفان استئثاراً بالسلطة والاموال والاقطاعات من قبل بطانته المتمثلة ببنی امية، فوضع الامر حدا لهذه الآفة التي فتكت بالمجتمع وشککت بعدالة الاسلام، والزم بقية الموظفين بالالتزام التام بنهج الخلافة، فكتب في عهده لمالك: ((ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف، فاحسم مؤونة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لاحد منخاصتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم،

ص: 208

فيكون مهنأذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة، والزم الحق من لزمه منالقريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خواصك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة ذلك محمودة، وان ظنتالرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك، واعدل عنهم ظنونهم باصحارك، فإنفي ذلك اعذارا تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحق)) (65)، وقد ارتبط هذا الإجراء ارتباطاً بنهج الاصلاح الذي اتبعه الإمام (عليه السلام) في خلافته، وهو في الوقت نفسه يراعي مبدأ حقوق الإنسان الذي نادت به المنظمات في العصر الحديث.

وقد كانت توجيهات الامام تحمل بين طياتها تشخیصاً دقيقاً لواقع هذه الطبقة فعدها طبقة نفعية غير مستعدة للتضحية عندما تتعرض الدولة لأزمة، وهي اثقل طبقة من حيث المؤونة في اوقات الرخاء، اي انها ليس لها الا ادوار سلبية في الدولة، وكان هذا التشخيص بناءً على تجارب شخصية مر بها الإمام (عليه السلام)، إذ تعامل مع هذه الطبقة في عهد عثمان بن عفان وكيف اسهمت في الثورة عليه وقتله من قبل المسلمين، وقد حجمها عندما تولى الخلافة وسحب امتیازاتها وصادر اموال الدولة التي استحوذوا عليها بحكم قربهم من عثمان بن عفان.

كما انه (عليه السلام) لم يسمح لأقربائه بتولي المسؤوليات في الدولة او استغلال قربهم منه، فجعل الإمام (عليه السلام) هذا الامر نظاماً عاما في الدولة، وفرض على الولاة الحذر من استغلال المقربين منهم لسلطاتهم: ((وأَلزِم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة)) (66)، ونظراً لقرب المستشارين والوزراء من الحاكم بطبيعة موقعهم ووظيفتهم، فان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يشركهم في بطانة الحاكم، غير انه لتميز مكانتهم فانه (عليه السلام) يفرد لهم فقرة تفعيلية توضح

ص: 209

للحاكم من يمكن ان يعتمدهم مستشارين ومن يجب عليه ان يبعدهم ويبتعد عنهم، فيبدأ باكثر الاخلاق دمامة التي تمتاز بها بطانة السوء وهي البخل، قال تعالى «وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» (67)، فيقول: ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل أي يمنعك ببخله عن البذل والإحسان والعطاء، ويعدك الفقر)) (68) أي يخوفك من الفقر إذا ما بادرت بالبذل والعطاء ف ((البخيل بعيد عن الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار)) (69) كما يقول الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم و ((جاهل سخي احب إلى الله من عابد بخيل)) (70).

وأما الصفة الأخرى الواجب تجنبها في المستشارين فهي الجبن فيقول (عليه السلام): ((ولا جباناً يضعفك عن الامور)) إذ كما يقول الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم ((لا ينبغي للمؤمن ان يكون بخيلاً ولا جباناً)) (71).

أما الصفة الثالثة المبغوضة في المستشار بحسب نص الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) فهي الحرص، قال (عليه السلام) ((ولا حريصاً يزين لك الشرة بالجور)) (72)

ويلخص الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعد ذلك السبب الجامع لذم هذه الصفات في الانسان عموما وفي المستشار بخاصة فيقول: ((فان البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله)) (83) أي أن هذه الصفات هي صفات مناقضة للايمان بالله عزه وجل، وبالتالي فان تواجدها في بطانة الحاكم وخاصته أو في أي جزء من أجزاء ادارة الدولة انما تترتب عليه المفاسد والمظلوميات وانتهاك الحقوق (73).

ص: 210

وعليه، فإن مواصفات البطانة السيئة والمستشارين التي يجب على الحاكم أو المدير ان يتجنبها ويتحاشاها حسب ما يفهم من النص هي من يتصف افرادها باي من الصفات الآتية: ((الحقد، الضغينة، الحسد، الوشاية، الانتقاص من الناس واظهار عيوبهم، السعي للمآرب والمكاسب الشخصية بدون وجه حق كالانتفاع من العطايا الخاصة أو المناصب أو الصلاحيات أو ما إلى ذلك من مكاسب دنيوية، الجشع، البخل، الجبن، الحرص، قلة المروءة، الكذب، قلة الغيرة، الانجرار وراء هوى النفس ورغباتها، التدليس والمخادعة واخفاء العيوب بقصد الغش) (74).

سابعاً: طبيعة اختيار العمال والولاة

وضع الإمام علي (عليه السلام) منهاجاً متكاملاً عند اختياره للعمال والولاة، فراعی فيهم الكفاءة والخبرة والسمعة الطيبة والانتساب الى البيوتات الصالحة والالتزام الديني والتربية العالية، وذلك حفاظاً على ادارة الدولة بصورة امثل، لاسيما بعد الاعتراضات التي واجهت الخليفة عثمان عندما حول الدولة الاسلامية الى ضيعة لبني امية بعد ان ولاهم على ولايات المسلمين وتغافل عن سوء تصرفهم، فبدأ الإمام بتصحيح الأوضاع في كل مفاصل الدولة الإسلامية فكان تغيير الكادر الاداري على رأس سلمه الإصلاحي، لذلك الزم ولاته باتباع النهج نفسه في ولاياتهم، لاسيما ان النظام الإداري للدولة الإسلامية كان يقوم على اللامركزية، إذ أن الولايات الإسلامية كانت تتمتع بنوع من الحكم اللامركزي مع ارتباطها بالمركز، أي ان الولاة كان عندهم حيز من الحرية في إدارة ولاياتهم، ويعود ذلك الى اتساع الدولة الإسلامية، وصعوبة الاتصالات بين الولايات والمركز، كذلك بعد المسافة ووعورة الطرق، الأمر الذي أدّى الى إعطاء الولاة مجموعة من الصلاحيات، لتسهيل حكم ولاياتهم، لكن على الرغم من مميزات هذا النظام، فإنه قد يعد خطرا إذا ما تَوّلى أشخاص غير مناسبين إدارة هذه الولايات، وهذا

ص: 211

ما لمسناه من خلال التأكيد الشديد للإمام (عليه السلام) لواليه على مصر اذ قال له: ((وتوخَّ منهم اهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فإنهم أكرم اخلاقاً وأصحُّ اعراضاً واقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً)) (75) ويحذر الامام مالكا ان يكون الاختیار بناءً على المحاباة والأثرة، ويحدد له بان يكون الاختیار بناءً على الاختبار والتجربة، وان يراعی بالاختيار اولئك الذين يتمتعون بحياء يمنعهم من استغلال وظائفهم، وهذا الحياء قرنه الامام عليه السلام بالتربية العالية في البيوت الصالحة التي تعلم ابنائها فضائل الاخلاق

وهذه النقاط الرئيسة لها انعكاسات ايجابية على الادارة، لان الاختیار بناءً على الشروط المتقدمة يعني اختيار عمال على درجة عالية من الاخلاق يعني انهم قادرين على صيانة انفسهم من الوقوع في الخيانة، واستغلال وظائفهم، لاسيما انه اوصاه بان يعطيهم رواتب تتناسب مع عملهم حتى لا ينظروا الى الاموال التي تحت ایدیهم، وهي في حجة على هؤلاء ان خانوا اماناتهم، عندما تولى الامام علي (عليه السلام) الخلافة سعى لتطبيق هذه السياسة على أرض الواقع، بعد أن شخص العلل وحاول أن يضع لها حلولا، وكان رأيه إن إحدى الآفات الرئيسية التي سببت الأزمة السياسية والاقتصادية، هي تعيين أشخاص غير مناسبين في المواقع الإدارية، لاسيما ماله مساس مباشر بأموال المسلمين، لذلك كان رأي الخليفة علي (عليه السلام) معالجة هذه المشكلة بالتحديد، وأول إجراء اتخذه هو تغيير الكادر الإداري في عهد عثمان بن عفان، وهذا التغيير لم يكن من أجل التغيير فقط، بل من أجل معالجة المشكلة السياسية والاقتصادية التي تعاني منها الدولة الإسلامية، وهذه المعالجة كانت ترتكز على إصلاح الإدارة المالية للدولة الإسلامية، وهذا الإصلاح يقوم على اختيار موظفين كفوئين قادرين على صيانة أموال المسلمين، وهؤلاء الموظفون هم الولاة وعمال الحراج والجزية والصدقات، واختيارهم

ص: 212

كان يعتمد على مجموعة من المعايير وضعها الخليفة علي بن ابي طالب، مع ارتباط هذا الاختيار للموظفين الكفوئين، بنظام رقابي شديد طبقه على ولايات الدولة الإسلامية، والقائمة التي اختارها الخليفة علي بن ابي طالب للعمل کولاة وعمال خراج تتوفر فيها الصفات المذكورة انفاً، فقسم كبير من هؤلاء الذين اختارهم لهذه الوظائف هم من الصحابة الأوائل الذين سبقوا الناس في دخول الإسلام، وهم من أهل الورع والتقوى وعاشوا مع الرسول فترة من الزمن تعلموا من خلالها الفقه الإسلامي، ولم يؤشر عليهم سلبيات في الفترة التي سبقت خلافة علي بن ابي طالب، لذلك فإنهم قادرون على تطبيق تعاليم الإسلام في الولايات والمدن التي تقع تحت سلطتهم، وهو أمر مهم في الإصلاح الاقتصادي الذي انتهجه الخليفة، لان هؤلاء يتحلون بصفات الإيمان والعلم بالأحكام الشرعية، والشجاعة والبذل والتضحية، وهذه هي صفات المسلمين الأوائل (76).

ومن هذه الأسماء عثمان بن حنيف الذي ولاة الخليفة على ولاية البصرة، وهو أحد الصحابة من الأنصار أسلم عند هجرة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الى المدينة، واشترك في معركة احد وجميع المعارك التي بعدها، وكذلك اخاه سهل بن حنيف الذي ولاه الخليفة علي بن ابي طالب على المدينة، كان من خيار الصحابة الأوائل أسلم عند هجرة الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وهو من الصحابة الذين اشتركوا في معركة بدر الكبرى وجميع المعارك التي بعدها، ومن الذين ثبتوا يدافعون عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم في معركة احد عندما حاصره المشركون وفر أغلب الصحابة، إذ بایعه على الموت في تلك المعركة. كما عين الخليفة أبا ایوب الأنصاري على المدينة، وهو من الصحابة الأوائل من الأنصار أسلم قبل هجرة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الى المدينة، وبايع بيعة العقبة عندما كان الرسول صلى الله عليه واله وسلم في مكة، وبعد وصول الرسول صلى الله عليه واله وسلم الى المدينة سكن في بيته، واشترك ابو ایوب في

ص: 213

معركة بدر وجميع المعارك التي بعدها، ومن الولاة الآخرين حذيفة بن اليمان الذي كان واليا على المدائن، وهو من الصحابة الأوائل من حلفاء الأنصار، اشترك في معركة احد وجميع المعارك التي بعدها، وكانت له مكانة كبيرة عند الرسول صلى الله عليه واله وسلم، واشترك في الفتوحات الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وكان أحد قادة الجيوش الإسلامية في هذه الفتوحات.

ومن الولاة الآخرين عبد الله بن عباس الذي ولاه الخليفة على البصرة، وهو من قدماء الصحابة، أسلم في مكة وهاجر مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى المدينة، وكان يسمى البحر لسعة علمه ويسمى حبر الأمة، وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه واله وسلم والخليفة علي بن ابي طالب، ومن المقربين من الخليفة وسيرته كانت محمودة في عهد الحكام بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وهو من الفقهاء المعروفين في عهدهم (77).

كان قیس بن سعد بن عبادة والي مصر من أوائل الصحابة، وهو ابن سعد بن عبادة أحد سادات الخزرج الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه واله وسلم قبل هجرته الى المدينة، وأحد النقباء الأثني عشر الذين أختارهم الرسول صلى الله عليه واله وسلم ليكونوا ممثلين عنه في المدينة، وقيس من شجعان العرب وكرمائهم المشهورين، وذو رأي صائب و من بیت سیادة، وكان صاحب شرطة رسول الله، وكان أبو قتادة الأنصاري والي المدينة من أوائل الصحابة من الأنصار، اشترك في معركة احد وجميع معارك المسلمين، وكان يسمى فارس رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وكان قرظة بن كعب الأنصاري من الصحابة الأوائل، اشترك في معركة احد مع الرسول والمعارك التي تلتها، وكان أحد إبطال المسلمين في الفتوحات الإسلامية (78).

ص: 214

ومن الولاة الآخرين الذين اعتمد عليهم الخليفة في إدارة الدولة الإسلامية عمر بن أبي سلمة الذي وليَ على البحرين و فارس قبل معركة صفين، وهو ابن الصحابي أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي أول من هاجر الى المدينة من المسلمين، ثم اشترك في معركة بدر وأحد، فجرح في معركة أحد ثم توفي بعد هذه المعركة متأثرا بهذا الجرح، وعندما استشهد تزوج الرسول صلى الله عليه واله وسلم أمه أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة، فكان عمر قد تربى في حجر الرسول، وكان يسمى ربيب الرسول، وكان مخنف بن سلیم والي الإمام على أصبهان، وهو من الصحابة أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه واله وسلم وسكن في الكوفة، وكذلك كان الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي أحد عمال الإمام على منطقة الجبل، وهو من الصحابة أسلم في عهد الرسول، وكان فاضلا خيرا له دين وعبادة سكن الكوفة بعد تأسيسها، وكان عبد الرحمن بن أبزي الذي ولاه الخليفة على خراسان، من الصحابة الأوائل وروي عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم بعض الأحاديث (79).

وسنكتفي بهذا الإيجاز السريع عن سيرة الولاة والعمال، الذين اختارهم الخليفة علي من أجل العمل في الولايات الإسلامية، وهؤلاء الذين ذكرناهم هم من الصحابة فقط، أما الآخرون فقد كانوا من التابعين الذين عاشوا مع الصحابة وتعلموا منهم، والهدف من هذا الإيجاز التعرف على دقة اختيار الخليفة لعماله، والذي يعني معالجة للمشاكل الاقتصادية والمالية التي خلفتها الفترة الماضية، فهؤلاء لم يكن من بينهم من أتهم بسرقة أموال المسلمين أو قصر في المهمة الموكلة إليه، إذ لم تسجل كتب التاريخ وغيرها أي تصرف سيء قام به هؤلاء الموظفون، سواء لأموال المسلمين أو لإدارة الدولة أو للرعايا الذين كانوا ولاة عليهم (80).

ص: 215

ثامناً: طبيعة اختيار الكادر الاداري

نهج الإمام (عليه السلام) في ادارته للدولة الاسلامية منهجاً دقیقاً مترابطاً لا توجد فيه ثغرات، فالتفت الى كل المفاصل وعالج سلبياتها ووضع حلول لكن مشکلات الدولة، ولم تكن حلوله مبنية على النتائج فقط، بل انه اوجد علاج استباقي وقائي، فرکز على حسن اختيار الموظف وضرورة تمتعه بمميزات تتناسب مع الوظيفة المكلف بها، حتى يضمن احسن اداء وظيفي، لذلك كان العهد فيه توجیهات دقيقة لمالك للالتزام بهذا المنهج، فحدد له الكيفية التي يختار ها کادره الاداري، - وقد قدمنا في النقطة السابقة توصياته في اختيار العمال، وكان من ضمن هذا الكادر الكتاب الذين يمثلون في الوقت الحاضر مدراء المكاتب او امناء السر او حتى الوزراء في الحكومات التي تعتمد النظام الفدرالي (11)، فكتب له: ((ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلافلك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك)) (82)، وهذا تفصيل دقيق لمواصفات الموظف الذي يشغل هذه الوظيفة المهمة، فكان معیار الاخلاق على رأس هذه المواصفات، زيادة على تمتعه بالحكمة والكياسة والحنكة والقدرة على الحفاظ على الاسرار، لاسيما انه يتعامل مکاتبات الوالي ومراسلاته مع عماله وقادة الجيش وغيرهم، كما اشترط فيه ان يكون خبيرا في المكاتبات متقناً لها، حتى لا تلتبس عليه الأمور ويكون ضابطاً لعمله (83).

ثم ينتقل الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في الفقرة الثالثة والخمسين من عهده لبيان الاسلوب الامثل لتوزيع المهام بين الكتاب، فيؤكد على مبدأ التخصصية

ص: 216

في العمل من جهة وتوزيع العمل في مجموعات من الجهة الاخرى، فيقول ((واجعل لرأس كل امر من امورك رأسا منهم)) أي انه لا يجب ان تستند المهام للكتاب بصورة عشوائية وانما يجب ان يختص كل كاتب بعمل ما من جملة الاعمال، والسبب في ذلك هو ان هذه المهام والاعمال کما سبقت الإشارة تمتاز بالحساسية من جانب وتحتاج الى الكفاءة العالية من جانب لآخر ولذلك كان من بين الاشتراطات حضور البديهية وعدم الغفلة، ولا يمكن تحصيل المستوى العالي من الكفاءة المهنية والقدرة على القيام بالعمل بوجهه الصحيح الا من خلال امرين:

1- المداومة على ممارسة نفس العمل، والذي يضمن تعزيز المهارة حتى تتحول الى مقدرة تلقائية لدى الفرد على القيام بالعمل.

2- التفرغ للقيام بالعمل وعدم التشتت بسبب الانشغال بالعديد من الاعمال، لان المطلوب بالدرجة الاولى هو ((الكيف)) وليس ((الكم)) في العمل (84).

ولم يقتصر تحديد مواصفات الموظف على الكتاب والعمال وغيرهم بل شمل القضاة الذين ترتكز عليهم العدالة وهم الوجه القانوني للدولة، فحدد له طبيعة اختيارهم، ووضع شروطاً عدة لذلك والزمه باتباعها، منها انه يجب ان يكون انبه الناس عقلاً واكثرهم وعياً بالأمور، لا يتعب من تحري الحق ولا يأنف من الرجوع عن الخطأ ومراجعة احكامه، ويكون صارما ان تبين له الحكم بعيدا عن الطمع والاغراء، كما اشترط عليه ان يجري على القضاة ارزاقاً كافية تكفل لهم حياة كريمة حتى لا يقعوا في مهاوي الاغراء، وفي الوقت نفسه اشترط عليه ان يعطيهم الدافع المعنوي فيرفع مكانتهم في المجتمع، ولا يسمح بالتجاوز عليهم، وبذلك يكون للقاضي منزلة خاصة في الدولة والمجتمع فيضمن بذلك استقلال القضاء وقوته، ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك، في نفسك ممن لاتضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا

ص: 217

يتمادى في الزلة، ولايحصر من الفي إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه، و افسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قدكان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا) (85).

ان الحديث عن كفاءة الامام علي (عليه السلام) لاتستوعبها وریفات هذا البحث لذلك سنكتفي بالقول بان علي بن ابي طالب (عليه السلام) كان قبل توليه الخلافة يمثل ما تمثله اليوم محاكم التمييز التي تملك الحق في ابرام الاحکام ونقضها، فقد عد الامام (عليه السلام) وجود اخطاء في القضاء دليل على سلبية الحكم لذلك حين كان بعض الحكام بعد الرسول (صلى الله علیه و آله) يصدر احکاماً في قضايا معينة وهو يظن انه فصل فيها وفقاً لكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله، فكان علي (عليه السلام) يملك سلطة التدخل ووقف تنفيذ الحكم الصادر عن الخليفة ثم تعاد القضية إلى المناقشة ليدلي فيها علي (عليه السلام) برأيه وقضائه، ويبدو ان ما كان يمارسه الامام (عليه السلام) هو تأكيد لحق المحكوم عليهم بتمييز الاحكام الصادرة ضدهم امام جهة ذات امكانية علمية وقدرة قضائية اسمى من الجهة المصدرة للاحکام، فيقول الامام علي (عليه السلام) ((لا عدل افضل من رد المظالم ((وان)) احسن العدل نصرة المظلوم)) (86).

اما في السيرة العملية للامام (عليه السلام) اثناء خلافته، فقد تطور القضاء في عهده اذ كان الامام المجدد الامثل لمفاهيم القضاء والمطور الأفضل للمجتمع الاسلامي والمفسر الاعظم لبواطن الشريعة ووضعها مواضعها مما يلائم الظروف على صعيد التطور

ص: 218

ومسايرة الزمن على مدى التقدم فهو (عليه السلام) اول من فرق بين الشهود، واثبت محاضر التسجيل، ناهيك عن وضع الامام (عليه السلام) بعض العلوم الاخرى مثل علم النفس والبايولوجي والرياضيات وغيرها من العلوم في خدمة العملية القضائية وتحقيقاً للعدالة في المجتمع، فضلاً عن ذلك كان الامام (عليه السلام) اول من اسس دیوان ((متابعة المظالم))، وكان هدفه النظر في الشكاوى التي يرفعها المواطنون ضد الولاة والحكام اذا انحرفوا عن طريق الحق وجاروا على الرعية، وسلبوهم حقوقهم المادية والمعنوية وفي ذلك كله تأكيد دعوة الامام ضرورة تطوير القضاء وتقديم أفضل اداء ممكن لازالة الظلم (87).

تاسعاً: السياسة الوقائية والقضاء على الفساد

وتبدأ الرقابة في فكر الإمام (عليه السلام) من أصغر الأمور، وتصحيح الأوضاع منذ بدايتها، وليس انتظار الأمور حتى تكبر، وتتفاقم، ثم يكون التنكيل والانتقام، وبالمحصلة فالرقابة في فكرِه (عليه السلام) إنّما هي تحصين العمال ضد الغش والخيانة وبعبارة أخرى هي وقاية وليست علاجا، وقد قيل قديما: ((درهمُ وقاية خيرٌ من قنطار علاج)) (88)، ونستطيع أن نتلمس ذلك كله من خلال النصوص التي وردت إلينا عن الإمام علي (عليه السلام)، وهو يوصي عامله على مصر بضرورة تعاهد عماله بالمراقبة، وتفقد شؤونهم، والسؤال عن أحوالهم؛ ليتضح لنا كم كان هدف الرقابة نبيلا، وكم كانت غايتها سامية جليلة، بقوله: ((ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ. وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَا لاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ (89).

فالرقابة عند الإمام علي (عليه السلام)) إنّما هي منع الانزلاق في مهاوي الخطأ

ص: 219

والظلم، وليس القبض على العامل متلبسا بجُرمِه، فالربح كل الربح في تحصين العمال والولاة من الخيانة للإمام والأمة، كما أن الرقابة في فلسفة الإمام علي (عليه السلام) كلها حُنوٌّ ومودة، وهي کتفقد الوالدين لشؤون ولدهما، والوقوف على احتياجاته؛ لتجنيبه ما يكره وما يكرهون من الأمور، فهي أذن رقابة الأب العطوف، وليست رقابة المتسلط الجبار (90).

لقد كان الخليفة علي بن ابي طالب (عليه السلام) يختار العمال وفق معايير خاصة منها الأمانة والدين والخبرة وغيرها، إلا أنه لم يكتف بهذا الإجراء بل تعداه الى وضع نظام متكامل يدقق على العمال أعمالهم، وجزء من هذا النظام كان العيون التي يستقي منها الخليفة معلوماته عن تصرفات هؤلاء الولاة والعمال في ولاياتهم البعيدة عن مرکز الدولة، ويمكن أن نقول إن هذه النظام يشبه نظام الاستخبارات في وقتنا الحالي، لأن هؤلاء العيون لا يعرفهم سوى الخليفة، ويكتبون إليه مباشرة عن السلبيات والإيجابيات التي يرونها في مناطق عملهم، لذلك نرى أن الخليفة علي بن ابي طالب (عليه السلام) كان يعلم بكل الأشياء التي تجري في الولايات الإسلامية، وقد أدَّى هذا النظام الرقابي فاعليته في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة الإسلامية، لأن الولاة كانوا حذرين في التعامل مع أموال المسلمين، وأصبحت لديهم قناعة أنهم لم يكونوا مطلقي اليد بهذه الأموال، وليس لديهم أي حصانة إذا خانوا الأمانة التي في أيديهم، لذلك كانوا حريصين على أداء أعمالهم بصورة جيدة (91).

ومن خلال وصية الامام علي لمالك الاشتر ندرك بان هناك جهازين للعيون، أحدهما تابع للخليفة يراقب الولاة والعمال، والآخر تابع للولاة يراقب عمال الخراج والجزية، لاسيما أن الدولة الإسلامية كانت مترامية الأطراف، وعلى الرغم من أن المصادر لا تذكر لنا أسماء العيون، الذين كان يضعهم الخليفة في الولايات والمدن التابعة لها، فإن وجودهم

ص: 220

كان أكيدا وغير قابل للشك، لأن الإجراءات التي اتخذها الخليفة علي بن ابي طالب بحق بعض الولاة والعمال، تبين أنه كان يعتمد على العيون في معرفة الأخبار، إذ جاء في أغلب الكتب التي وجهها لولاته وعماله الذين تجاوزوا على أموال المسلمين، كذلك في الأخطار التي تتعرض لها الولايات والمدن الإسلامية عبارة (قد بلغني)، وفي هذا دلالة على أن الذي أبلغ الخليفة علي بن ابي طالب هي العيون التي وضعها في كل أرجاء الدولة الإسلامية، وفي أحيان أخرى نراه يصرح أن مصدر معلوماته جاء عن طريق عيونه، کما في الكتاب الذي وجهه الى قثم بن عباس والي مكة، عندما وجَّه معاوية حملة على هذه المدينة، إذ قال له: ((فإن عيني بالمغرب كتب إلي يخبرني ...))، وتبين كتب الخليفة الى الولاة والعمال حجم المعلومات (الاستخبارية)، التي كانت تصل للخليفة عن تصرفات هؤلاء الولاة والعمال (92).

وقد وجَّه (عليه السلام) كتباً شديدة اللهجة الى مجموعة من الولاة بناءا على هذه المعلومات، مع العلم إن قسم منهم كان من كبار الصحابة مثل عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس، لأنه بالرغم من الثقة التي أعطاها لهؤلاء الولاة، كان يريد أن يحمي الناس من هؤلاء، إذا ما استعملوا صلاحياتهم بصورة غير شرعية، كذلك كان يريد أن يحميهم من أنفسهم أيضا، ومن الأمثلة على المعلومات التي وصلت للخليفة عن الولاة، إن والي البصرة عثمان بن حنیف قبل دعوة أحد أغنياء البصرة لتناول وجبة طعام في بيته، فكتب له الخليفة كتابا بهذا الشأن، وسوف نأخذ جزء من هذا الكتاب من أجل التعرف على رقابة الخليفة على ولاته وعماله: (أما بعد یا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة قد دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل لك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو........، ألا وان لكل مأموم إمامة يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنیاه بطمريه، ومن

ص: 221

طعامه بقرصيه، ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد...)) (93).

وعلى الرغم من أن المعلومات التي بلغت الخليفة جاءت عن طريق العيون، لكن ربما تكون هذه العيون التي أبلغت الخليفة غير معينة من قبله، بل تطوع من بعض المسلمين الذين يسكنون في هذه الولاية، مثل كتاب أبو الأسود الدؤلي (123) الى الخليفة يخبره عن تصرف والي البصرة عبد الله بن عباس، الذي أصبح واليا بعد عثمان بن حنیف، إذ كتب له أن الوالي أخذ عشرة آلاف درهم من بيت المال، فكتب الخليفة للوالي يأمره برد هذه الأموال، وبالفعل أرجعت هذه الأموال الى بيت المال، وكتب الى أبي الأسود الدؤلي (أما بعد فقد فهمت كتابك، ومثلك نصح الإمام والأمة، ووالى على الحق، وفارق الجور، وقد كتبت الى صاحبك، فيما كتبت فيه من أمره ولم أعلمه بكتابك فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك، مما النظر فيه للأمة صلاح)، ومن خلال قراءة هذا الرد نستنتج أنه عين أبا الأسود عينا للدولة بصورة رسمية في تلك الولاية (94).

وعلى الرغم من الشدة التي أتصف بها الخليفة مع العمال المقصرين، إلا أننا في الوقت نفسه نلمس منه حرصه على عدم تصديق كل المعلومات التي ترد إليه، فقد كان يرسل الى الولاة والعمال الذين ترد معلومات عنهم، ويتبع معهم مجموعة من الإجراءات لمعرفة حقيقة هذه الأعمال، ولا يعاقب أحداً منهم إلا عندما يقر على نفسه بارتكاب الجناية، وفي الحالات التي كانت فيها المعلومات الواردة صحيحة، فإن الخليفة كان يحاسب هؤلاء المقصرين، وأول هذه العقوبات هو عزلهم عن العمل في إدارة الدولة، واسترجاع ما أخذوه من أموال بالنسبة للمتجاوزين على أموال المسلمين (95).

ص: 222

ولابد من الإشارة الى نقطة مهمة جدا، وهي ظهور سلبيات على الولاة وعمال الخراج، مع أن الخليفة كان يدقق في اختيار هؤلاء، ولا يُعيَّن أحداً منهم إلا بعد توفر مجموعة من المميزات فيه كما ذكرنا سابقا، ونحن نعتقد أن هذه المسألة كانت للخليفة علي بن ابي طالب أكثر من كونها عليه، لأن هذه السلبيات كانت موجودة بكثرة في الفترة التي سبقت خلافته، والفترة التي تلتها، لكن لم تكن هناك محاسبة لهؤلاء، فلم يضطر أحد من الولاة أو العمال أن يهرب بأموال المسلمين، مادام يتصرف كيفما يشاء ودون حساب، أما في عهد علي بن ابي طالب فقد اختلفت الأمور، فهو لا يرضى بأي تصرف مهما كان بسيطا، إذا لمس فيه إساءة للمسلمين أو لأموالهم، كما أن هؤلاء الذين عينهم ممن توافرت فيهم الصفات المطلوبة لإشغال هذه الوظائف، ولم تسجل عليهم ملاحظات قبل قيامهم بالعمل، والسلبيات التي ظهرت كانت بعد مباشرتهم في أعمالهم، لذلك لا يتحمل الخليفة الإساءات التي ظهرت منهم، لاسيما أنه لم يسمح لهم بالاستمرار في الإساءة، فعزل قسم منهم وعاقب القسم الآخر (96).

ثم ان الخليفة علي بن ابي طالب (عليه السلام) اتخذ اسلوباً اخر من الرقابة الإدارية وهو التفتيش الاداري على الموظفين الذين يعملون بمعيتهم، وكان هذا النظام يستند على محورين مهمين، أولهما إرسال مفتشين الى المناطق، وثانيهما استدعاء الخليفة لهؤلاء الولاة ومراجعة حساباتهم المالية، والتدقيق عن تصرفاتهم (97).

وهؤلاء المفتشين لم يحدد لهم الخليفة وقت من أجل القيام بهذا العمل، بل يرسلهم حسب الحاجة الى هذا الإجراء، كما أنه لا يوجد موظفين خاصين للقيام بهذه المهمة، بل كان الخليفة يرسل من يثق به من أجل القيام بهذه المهمة، ومن النصوص الواردة لنا عن هذا الإجراء هو تكليف الخليفة لمالك بن کعب الأرحبي عامل عين التمر، بالقيام بمهمة التفتيش في أراضي السواد، أما الجانب الآخر من التفتيش فهو إرسال الخليفة للعمال

ص: 223

والولاة من أجل الحضور الى العاصمة وتدقيق حساباتهم وأعمالهم، وهذا الإجراء كان مكملاً لإرسال الموظفين الى الولايات، ويمكن أن نلمس من خلال الرواية التي تذكر إن الخليفة أرسل الى والي اذربيجان الأشعث بن قیس (129) من أجل الحضور الى العاصمة، بعد أن بلغه ان هذا الوالي أخذ بعض الأموال من ولايته، فلما حضر الى العاصمة ألزمه إرجاع الأموال إلى بيت المال (98).

ص: 224

الخاتمة

نحن اليوم بأمس الحاجة الى استلهام الدروس والعبر من تجربة الإمام علي (عليه السلام) في الحكم، لاسيما ونحن نعاني نكوصاً كبيراً في كل جوانب الحياة وعلى جميع المستويات سواء كانت السياسية او الادارية او الاجتماعية او الاقتصادية، وبعد ان فشلت القوى السياسية الاسلامية في تطبيق نظرية الامام علي (عليه السلام) في الحكم التي طالما نادت بها قبل ان تتسلم الحكم. فأصبنا بإحباط كبير نتيجة لهذه التجربة الفاشلة التي اساءت للنظرية الاسلامية في الحكم، فساد شعور اليأس من تحقيق الأهداف التي طالما نشدناها.

والذي نعيشه اليوم من انتكاسة هو نسخة قريبة من تجربة عثمان بن عفان في الحكم اذ استلم الحكم على اساس تطبيق النظرية الاسلامية، لكنه عندما تولى الخلافة لم يستطع كبح جماح اقاربه، الذين اعتبروا الخلافة ملكا لهم يستطيعون التصرف به كما يشاؤون، کما عبر ابو سفیان بن حرب بن امية عن هذا المعنى بقوله: ((اعندكم احد من غير كم، قالوا: لا، قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به ابو سفیان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة...))، وحسب المعنى المتقدم فإن خلافة المسلمين أصبحت ملكا لبني أمية، فأصبحت الدولة واموالها مغنما لهم، واعتبروا العباد خولا لهم، ولم ينته الامر الا عندما ثار المسلمون وقتل عثمان بن عفان.

ص: 225

الهوامش

1. جرداق، الامام علي صوت العداة الانسانية، ص 25.

2. عبد الوهاب، مقدمة في الادارة، ص 12.

3. المرجع نفسه، ص 12.

4. المرجع نفسه، ص 12.

5. الهواري، الادارة، ص 4.

6. حسن الشيخ، ملامح من الفكر الاداري في عند الامام علي (عليه السلام)، ص 14.

7. شنشل، نظام الحكم والادارة (عهد الامام علي بن ابي طالب لمالك الاشتر)، ص 44.

8. المرجع نفسه، ص 45.

9. المرجع نفسه، ص 45.

10. المرجع نفسه، ص 45.

11. المرجع نفسه، ص 45.

12. المرجع نفسه، س 45.

13. المرجع نفسه، ص 45.

14. البيروقراطية: وتعني باللغات الأوربية ((مکتب)) أي تنظيم وادارة الدولة ومؤسساتها عن طريق المكاتب. ينظر: كشك، اسس الادارة العلمية، ص 38.

15. حسن الشيخ، ملامح من الفكر الاداري في عند الامام علي (عليه السلام)، ص 15.

ص: 226

16. شنشل، نظام الحكم والادارة، ص 46.

17. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 74؛ الطبري، تاریخ، 5/ 95.

18. الشامي، البرنامج الامثل لادارة الدولة وقيادة المجتمع، ص 141.

19. المرجع نفسه، ص 142.

20. المرجع نفسه، ص 142.

21. المرجع نفسه، ص143.

22. المرجع نفسه، ص 143.

23. المرجع نفسه، ص 144.

24. المرجع نفسه، ص 145.

25. الشرهاني، التغيير في السياسية المالية، ص 122.

26. المرجع نفسه، ص 122.

27. المرجع نفسه، ص 122.

28. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 73.

29. المصدر نفسه، 6/ 73.

30. المصدر نفسه، 6/ 74.

31. شنشل، نظام الحكم، ص 50.

32. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 6/ 75.

33. شمس الدين، نظام الحكم والادارة في الاسلام، ص 68؛ شنشل، نظام الحكم، ص 50.

34. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 5/ 75.

ص: 227

35. سورة الشمس، الايات ((9 - 10).

36. المجلسي، بحار الانوار، 22/ 125.

37. المصدر نفسه، 22/ 125.

38. المصدر نفسه، 22 / 125.

39. المصدر نفسه، 22 / 125.

40. المصدر نفسه، 22/ 125.

41. المصدر نفسه، 22 / 125.

42. المصدر نفسه، 22/ 125.

43. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، من رسالة امير المؤمنين لواليه على البصرة

44. المصدر نفسه، 6/ 76.

45. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 155.

46. ابن ابی الحدید، شرح، 6/ 152.

47. المصدر نفسه، 6/ 264.

48. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 156.

49. المرجع نفسه، ص 157.

50. المرجع نفسه، ص 158.

51. المرجع نفسه، ص 158.

52. المرجع نفسه، ص 158.

53. المرجع نفسه، ص 159.

54. المرجع نفسه، ص 159.

ص: 228

55. المرجع نفسه، ص 159.

56. المرجع نفسه، ص 160.

57. المرجع نفسه، ص 160.

58. المرجع نفسه، ص 160.

59. ابن ابی الحدید، شرح، 5/ 25.

60. ابو جناج، قراءة في عهد التولیه، ص 6.

61. ابن ابي الحديد، الشرح 5/ 70.

62. الامام علي صوت العدالة الإنسانية 1/ 352.

63. ابن ابي الحديد، الشرح 5/ 70.

64. عبد الله، نظرية التنظيم والادارة في فكر الامام علي، ص 198.

65. ابن ابي الحديد، الشرح 5/ 70.

66. المصدر نفسه، 5/ 70.

67. سورة محمد، الآية 38.

68. المجلسي، بحار الانوار، 22/ 153

69. المصدر نفسه، 22/ 150.

70. المصدر نفسه، 22/ 156.

71. شنشل، نظام الحكم، ص 189؛ نادر، النظام الاداري الإسلامي، ص 163.

72. المرجع نفسه، ص 189.

73. المرجع نفسه، ص 189.

74. المرجع نفسه، ص 189.

ص: 229

75. ابن ابی الحدید، شرح، 5/ 50.

76. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 176.

77. المرجع نفسه، ص 167.

78. المرجع نفسه، ص 167.

79. المرجع نفسه، ص 167.

80. المرجع نفسه، ص 167.

81. شنشل، نظام الحكم، ص 190.

82. ابن ابی الحدید، شرح، 5/ 55.

83. شنشل، نظام الحكم، 190.

84. المرجع نفسه، ص 190.

85. ابن ابی الحدید، شرح، 5/ 60.

86. السعد، حقوق الانسان عند الامام علي، ص 96.

87. المرجع نفسه، ص 97.

88. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 210.

89. ابن ابی الحدید، شرح، 5 / 66.

90. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 210.

91. المرجع نفسه، ص 210.

92. المرجع نفسه، ص 211.

93. ابن ابی الحدید، شرح،

94. الشرهاني، التغيير في السياسة المالية، ص 210.

ص: 230

95. المرجع نفسه، ص 211.

96. المرجع نفسه، ص 211.

97. المرجع نفسه، ص 212.

98. المرجع نفسه، ص 213.

ص: 231

المصادر

- القران الكريم

- ابن أبي الحديد، ابو حامد عبد الحميد بن هبه الدين المدائني، شرح نهج البلاغة، ط 2، دار احياء الكتب العربية، بيروت، (1384 ه/ 1965 م).

- الطبري، محمد بن جریر، تاریخ الرسل والملوك، تحقیق: محمد ابو الفضل ابراهیم، طة، دار المعارف، القاهرة، (1428 ه/ 2006 م).

- المجلسي، محمد باقر بن محمد الاصفهاني، بحار الانوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، (1403 ه/ 1983 م)

المراجع

- ابو جناج، صاحب، السياسة الادارية عند الامام علي، قراءة في عهد التوليه لمالك الاشتر، (د. م).

- جرداق، جورج، الإمام علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية، الطبعة الأولى سنة 1958.

- حسن الشيخ، محمد، ملامح من الفكر الاداري في عند الامام علي (عليه السلام)، ط1، دار البيان العربي، بيروت، 1993.

- السعد، غسان، حقوق الانسان عند الامام علي، ط 2 ، بغداد، 2008 م.

- الشامي، حسين بركة، البرنامج الامثل لادارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الامام علي المالك الاشتر، ط 2، دار الاسلام، بغداد، 2008.

ص: 232

- الشرهاني، حسين، التغيير في السياسة المالية للدولة الاسلامية في خلافة علي بن ابي طالب، ط 1، تموز للطباعة والنشر، دمشق، 2013 م.

- شمس الدين، أية الله، محمد مهدي، نظام الحكم والإدارة في الإسلام، الطبعة الثالثة، 1412 ه - 1992 م، دار الثقافة للطباعة والنشر.

- شنشل، قلاح حسن، نظام الحكم والادارة في الاسلام عهد الامام علي بن ابي طالب المالك الأشتر، رسالة ماجستير منشورة على صفحات الانترنیت.

- كشك، محمد بهجت جاد الله، اسس الادارة العلمية، (د. م).

- عبد الله، عیسی مكي، نظرية التنظيم والادارة في فكر الامام علي، ط 1، مكتبة الروضة الحيدرية، النجف، 2009.

- عبد الوهاب، علي محمد، مقدمة في الادارة، معهد الإدارة العامة، 1982.

- الملاح، نادر، النظام الإداري الإسلامي، الطبعة الأولى، 1429 ه - 2008 م إدارة المكتبات العامة.

- الهواري، سید، الادارة، مكتبة عين شمس، القاهرة، 1982.

ص: 233

ص: 234

النشاط التجاري في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)

اشارة

المدرس الدكتور جمعه ثجيل الحمداني المدرس الدكتور حيدر عبد العالي جامعة ذي قار / كلية الاداب / قسم التاريخ

ص: 235

ص: 236

المقدمة

لعل اصعب مايواجه الباحث هو ان يضع خطاً حاسماً يفصل بين مرحلتين تأريخيتين لمجتمع ما، لأن تحول المجتمع من حالة الى حالة اخرى بطيء وتدريجي، ولذلك فمن العسير تعيين وحدة زمنية والقول بأنها خاتمة عهد وبداية عهد جديد.

وهذه الصعوبة التي نواجهها هنا حين نبغي وضع تحديد زماني دقيق للمرحلة التأريخية التي بدأت الامة المسلمة تشهد فيها الانحراف الصريح عن مبادئ الاسلام، ولكننا نستطيع ان نشهد هذا التحول واضحا منذ بداية النصف الثاني من عهد عثمان.

ولكي يستوفي الباحث شروط البحث الموضوعي، الا يكتفي بالظواهر فقط، بل نمضي في البحث عن جذور هذه الظواهر في تصرفات الجماعات والرجال الذين صاغوا تاریخ لهذ الفترة، منبهين الى اننا هنا انما نبحث عن طبيعة الاحداث واليتها، ومدی مساهمتها في التعجيل بظهور هذا التيار الجديد في الحياة الاسلامية، لاعتقادنا بان هذه الاحداث كغيره في الاحداث الاجتماعية الهامة لم تكن وليدة اندفاعات وقتية، وانما كانت نتيجة للظروف الاجتماعية التي سبقتها.

ومن الناحية الاقتصادية تحديدا فأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) سوی بين المسلمين في العطاء، فلم يفضل احداً منهم على احد، وجرى على مبدأ التسوية في العطاء ابو بکر مدة حكمه، اما عمر فقد جرى حين فرض العطاء في سنة عشرين للهجرة على مبدأ التفضيل عندما دون الدواوين وفرض العطاء سنة عشرين للهجرة. ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الانصار كافة، وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على المولى (1).

ص: 237

وقد ولد هذا المبدأ فيما بعد اسوأ الاثار في الحياة الاسلامية، حيث انه وضع اساس تكون الطبقات في المجتمع الاسلامي، وجعل المزية الدينية من سبل التفوق المادي، وزود الاستقراطية القريشية التي مكنت لنفسها من جديد بتمكن ابي بكر من الحكم بمبرر جديد الاستعلاء والتحكم بمقدرات المسلمين، فجميع امتیازات الفضيل تجعل القريشيين افضل في العطاء من غير القرشيين (2). وهذا يعني ان قريشا افضل الناس، لانها قريش، وكفى بهذا مبررا للتحكيم والاستعلاء.

وقد كون هذا المبدأ سببا جديدا من اسباب الصراع القبلي بين ربیعه ومضر، وبين الأوس والخزرج بما تضمن من تفضیل ئر مضر على سائر ربيعة، وتفضيل الأوس على الخزرج. وقد ارسي هذا المبدأ اول اساس من اسس الصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم من المسلمين بما جرى عليه عمر من تفضيل العرب على العجم والصريح على المولى (3).

وعندما جاء عثمان سار على نفس المبدأ الذي سار عليه عمر في التمييز بين في العطاء، فظهرت الاثار الضارة لهذا الترسيخ في الحياة الاسلامية. وكانت من اهم العوامل التي مهدت للفتنة بين المسلمين.

أدت سياسة عثمان التي ارتكزت على محاباة بني أميه، وسوء توزيع الثروة في الدولة، ورفع أسوا الناس على رقاب المؤمنين، وتركيز السلطة في يد عائله بعينها دون اعتبار للأهلية، والكفاءة الى تمرد عامة الشعب، وتذمر الصحابه حتى انتهى الأمر بمقتله (4).

ان التاريخ علمنا ان وراء كل ثوره تحدث اسبابا سياسية واخرى اجتماعية أو ثقافية، وأسبابا اقتصادية، والذي يهمنا في هذا البحث هو الاسباب الاقتصادية التي أدت الى اندلاع الثورة والتي لم يركز عليها المؤرخون والكتاب ولم يعطوها اهميتها التي تستحقها

ص: 238

في مقتل عثمان بن عفان تحديداً.

أن المشكلة التي سببت الثورة على عثمان و مقتله كان أساسها أنحرافاً اقتصادياً مادياً بالدرجة الاولى وهو ما يظهر من عبارة الامام علي عليه السلام التي قالها للمهاجرين والانصار بعد مقتل عثمان، و حينما آتوه وقالوا له: «هلم نبايعك، فقال:... أني قد كنت کارها لأمركم فأبيتم الا أن أكون علیکم. ألا وانه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم، رضيتم؟ قالو نعم، قال اللهم أشهد ثم بايعهم على ذلك (5).

وهذا يدل على أن الامام علي عليه السلام قد شخص العله التي قامت من أجلها الثورة، وهو الانحراف الاقتصادي الذي بدا واضحا للعيان من خلال تأثيره الكبير على المجتمع الاسلامي أنذاك، ولو لم يكن هذا الانحراف علاقة باجری، ما كان الامام علي عليه السلام قد خصه بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.

واستناداً لكل ما تقدم نستطيع القول: ان الفكر الاقتصادي عند الامام علي (عليه السلام) يحتل مساحة واسعة في كيفية ادارة الدولة من خلال نشاطها الاقتصادي، وكانت التجارة وحركة الاسواق وسبل السيطرة عليها وتحريكها من الامور التي لم تغب عنه (عليه السلام) في تلك المرحلة. وسيتضح ذلك من خلال المباحث القادمة.

ص: 239

تمهید

أول شيء أوصى امير المؤمنين (عليه السلام) به مالك الاشتر، الذي عينه والياً على مصر، ان يكون محبا للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من اهل الاديان الاخرى، ولا يخفى ان في ذلك تثبيتاً لانسانية الاسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة.

قال (عليه السلام): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً، فأنهم صنفان: أما أخ لك في الدين، واما نظير لك في الخلق).

ثم دعاه أن لا يميز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بیت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء اثناء العهد السابق، فكان ذلك من الاسباب التي دعتهم الى الثورة على الخليفة الثالث.

ثم تعرض (عليه السلام) لاقسام الرعية واصنافها وبين ان كل قسم منها يحتاج للقسم الاخر ومرتبط به ارتباطا عضوياً، حيث ان كل تلك الاقسام تشكل نظاما متكاملا ومتماسكاً، فهي بمثابة الجسم الواحد، وعين لكل صنف مسؤوليته ومهمته حتى لا تتداخل الامور وبالتالي تسود الفوضى.

وفي حديثه عن كل صنف من الاصناف كان امير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد على ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويؤكد على اختيار اصحاب الكفاءات وحذر من الاختيار القائم على المحاباة والذي تجرع الناس منه الغصص والويلات. قال (عليه السلام): (واعلم ان الرعية طبقات، لايصلح بعضها الا ببعض، ولاغنى ببعضها

ص: 240

عن بعض، فمنها: جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل، ومنها: عمال الانصاف والرفق، ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها: التجار واهل الصناعات، ومنها: الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سم الله سمه ووضعه على حده فريضة في كتابه او سنة نبيه (صلى الله عليه واله وسلم).

واكثر ما تحدث امير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه للأشتر (رضوان الله عليه) عن الطبقة السفلى اي

الفقيرة، وهذه الطبقة تشكل القسم الاكبر في المجتمع في كل زمان ومكان، ولهذا جعل كل تلك الطبقات لحماية ومساعدة هذه الطبقة، حتى تنهض مما هي فيه وتنعم بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولو يصار الى تأدية حقوقها كاملة في كل زمان لنهضت، ولكن هيهات!! في ان ينتهي عهد، حتى يأتي عهد جديد يعمق هوة الفقر والمسكنة، وهكذا تتوسع هذه القشرة وتكبر وتتأصل جذورها اكثر فأكثر.

وقد سطر امير المؤمنين (عليه السلام) جاهداً لرفع الغبن والحيف عن هذه الطبقة خلال الفترة القصيرة التي حكمها، وقد نجح الى حد بعيد في هذا الاتجاه، وان كانت المدة التي حكم فيها غير كافية لقلع جذور الفقر والاستضعاف.

يقول جورج جرداق في كتابه: ((علي وحقوق الانسان)))): ان لعلي بن ابي طالب في حقوق الانسان اصولا واراء، تمتد لها في الارض جذور وتعلوها فروع)) وقال في حكاية اخرى من الكتاب: ((له شأن اي شأن، وآراؤه فيها (حقوق الانسان) تتصل اتصالاً كثيراً بالاسلام يومذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي.

ص: 241

قال عليه السلام: ((ثم الله الله في الطبقي السفلى، من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين واهل البؤس والزمن؛ فأن هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ الله ما استحفظك من حق فيهم)).

وقد ذكر هذه الطبقة حقوقاً مفصلة كحقوق العامة، الا انها اكثر الحاحً هنا. والملاحظ ان الامير (عليه السلام) طلب من واليه على مصر ان يشرف بنفسه على اوضاع هذه الفئة، مضافاً الى الاشراف العام وحذره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم، واداء حقوقهم المالية والقانونية والشرعية.

قال عليه السلام: ((واجعل لهم قسما من اهل بیت مالك، وقسماً من غلات صوافي الاسلام في كل بلد))، ثم قال عليه السلام في موضع اخر: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تقرع لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك)).

ص: 242

المبحث الأول: النشاط التجاري وحركة الأسواق

التجارة والأسواق عند العرب

يتفق المؤرخون على ان العرب كانوا أقدم تجار في العالم، وان جزيرتهم كانت أول المواضع التي شهدت أقدم حركة للتجارة بين الدول، إذ تمتعت هذه الجزيرة بموقع استراتيجي مهم، فهي وسط العالم القديم وعلى طريق التجارة العالمية ولاسيما الطرق التي تصل الشرق الأقصى والهند ببقية أنحاء العالم، وان الرأي القائل بان العرب وخاصة في جاهليتها كانت أمة منعزلة عن العالم لا تتصل بغيرها أي اتصال، وان الصحراء من جانب والبحر من جانب حصراها وجعلاها منطقة معزولة عمن حولها. هو رأي خاطئ (6).

وقد كانت جزيرة العرب طريقاً عظيماً للتجارة، فطوراً تنقل غلاتها إلى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر في الجنوب ولاسيما ظفار، وطوراً تنقل غلات بعض الممالك إلى بعضهم الآخر. لذا صارت التجارة عصب الحياة الاقتصادية لأكثر الدول التي تكونت في هذه الربوع وغلبت الصفة التجارية على المجتمعات الحضرية، واتسع المجال للتبادل الثقافي بين مراكزها التجارية والثقافات الأجنبية في بعض الفترات (7).

وعندما جاء الإسلام أباح كل وسيلة شرعية وكريمة للكسب، ومن هذه الوسائل

ص: 243

التجارة، فقد كان سيد الكائنات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في هذه المهنة الشريفة، إذ خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) تاجراً إلى الشام في مال خديجة بنت خويلد التي عرضت عليه ان يخرج في مالها تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره لما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه. فخرج (صلى الله عليه و آله وسلم) في مالها حتى قدم الشام (8).

ويبدو ان النشاط التجاري كان كبيراً إلى درجة ان بعض الصحابة (رضی الله عنه) قد مارسوا التجارة مثل عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وامتلك هؤلاء ثروات طائلة وكبيرة ليس أدل على ذلك من ان سعید بن المسيب ذکر ان زید بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسّر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. وهو الأقل ثروة من بين هؤلاء (9).

وقد ذكر الشيخ الكليني (10) العديد من الأحاديث الصادرة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) بين فيها آداب التجارة وضوابطها وأحكامها وأهميتها في النهج الاقتصادي الإسلامي. وأوضح ان الإمام علي (عليه السلام) كان يحث الناس على مزاولتها وعدم تركها، حيث يقول (عليه السلام): (تعرضوا للتجارة فان فيها غنی لكم عما في ايدي الناس) (11) وقال عليه السلام: (اتجروا بارك الله فيكم، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: ان الرزق عشرة اجزاء، تسعة في التجارة وواحد في غيرها) (12)، ونقل الشيخ الصدوق (13) قول امير المؤمنين عليه السلام: (تسعة اعشار الرزق في التجارة، والخير الباقي في السابياء، يعني الغنم)، ولم يقتصر الامر في ذكر الاحاديث التي تحث على مزاولة التجارة على الامام علي عليه السلام فقط، بل ان الائمة الاطهار الاخرون حذوا حذوهم في حثهم المسلمين على مزاولة التجارة وبيان محاسنها، وفي هذا قال الامام الصادق عليه السلام: (ان التجارة تزيد في العقل) (14)،

ص: 244

وقال أيضاً: (ترك التجارة ينقص العقل) (15)، وأكد أيضاً: (ان من طلب التجارة استغني عن الناس وان كان معيلاً لان تسعة أعشار الرزق في التجارة) (16)، وهذا يؤكد أفضلية العمل التجاري عند الإمام علي وباقي الائمة الاطهار (عليه السلام) على الأعمال والمهن الأخرى على الرغم من ان كل عمل، وكل تخصص له دوره المعروف في إدامة ونجاح عجلة الحياة الاقتصادية.

وهكذا شجع الإسلام التجارة بعدّها وسيلة مهمة لتلبية ما تحتاجه متطلبات الحياة اليومية. إلا ان ما ورثه العرب من تمسكهم بالعادات القبلية والأفكار الجاهلية، كانت من العوامل التي تعرقل حركة النشاط التجاري منها ان التوفير كان ينظر اليه بازدراء، كما ان الاقتصاد كان يُعدّ بخلاً (17). فكان الناس يستهزئون بالتجار لان خطة التاجر الناجح كانت تقوم على الاعتماد على فضول الأموال الصغيرة من القراريط والدوانق والأرباع والإنصاف. فالتجار كانوا يجمعون ثرواتهم من صغائر الأموال لتصبح بعد ذلك ادخارات أي أموالاً مؤهلة للاستثمار (18)، وهذا ما لا يقره الفكر القبلي في بداية نشوء الدولة الإسلامية.

أما من الناحية الاجتماعية فكان ينظر إلى التجار على أنهم أقل مكانة اجتماعية من الأشراف والملوك، وتتفاوت هذه النظرة على التجار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم (19). إلا ان هذا لا يعني أن التجار كانوا لا يحظون بالاحترام، وابرز مثال على ذلك ما روي عن امیر

المؤمنين عليه السلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال لزينب العطارة: (إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا بعتِ فأحسني ولا تغشي فانه اتقى الله وأبقى للمال) (20). ونستفيد من هذا الحديث الشريف ان هذه التاجرة كانت تحظى بالاحترام

ص: 245

الكبير من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمزاولتها هذه المهنة الشريفة. وقد كان رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحثها على مزاولة عملها وفي الوقت نفسه على الالتزام بضوابط العمل التجاري. وهناك العديد من الأحاديث التي تؤكد المكانة المحترمة التي يحظى بها التاجر في الإسلام. فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (لا تدعوا التجارة فتهونوا، اتجروا بارك الله لكم) (21).

وقد رافق هذا النشاط نشاط الحركة في الأسواق التي أخذت تتطور حتى أصبحت لها أهمية خاصة في حياة العرب قبل الإسلام وبعده. وقد كان لهذه الأسواق أهمية كبيرة. فقد أفادت البدو الذين كانوا يأخذون مبالغ مالية نظير الحماية والخدمة في القوافل الوافدة إلى الأسواق (22).

وقد كانت هذه الأسواق في عصر ما قبل الإسلام معروفة ومحددة العدد. الا ان المؤرخين اختلفوا في عددها فمنهم من ذكر انها عشرة أسواق، ومنهم من قال انها أكثر من ذلك (23).

وكان نشاط هذه الأسواق يقتصر في الأعم الأغلب على ما كان يجاوره من الأحياء والقرى، وما ينزل بساحته من القبائل کسوق هجر وحجر اليمامة (24)، ومنها ما كان عاماً تفد اليه الناس من أطراف شبه جزيرة العرب مثل سوق دومة الجندل وسوق صنعاء وسوق عكاظ وسوق عدن وغيره (25).

أما أسواق العرب في الإسلام فقد أصبحت تحتوي على كل أنواع البضائع المعروفة لهم، وأهم هذه الأسواق هو سوق المربد في البصرة (26).

ومن خلال الروايات التي نقلها الشيخ الكليني (27) يتضح لنا ان العمل في الأسواق يحظى بأهمية بالغة في النهج الاقتصادي الإسلامي لهذا كان الإمام الصادق (عليه السلام)

ص: 246

يبحث معاذ

بياع الأكسية على مزاولة العمل في السوق فيقول له: (يا معاذ أضعفت عن التجارة أو زهدت فيها؟ ثم يقول له لا تتركها فان ترکها مذهبة للعقل اسع على عيالك وإياك ان يكونوا هم السعاة عليك). أما الإمام الكاظم (عليه السلام) فكان يقول للسائل: (إعد إلى عزِّك - وكان يعني السوق-) (28).

وقد كانت الرقابة على الاسواق في عهد امير المؤمنين (عليه السلام)، تحظى بأهمية بالغة منه (عليه السلام) مباشرة، وهذا يدل على الحنكة والخبرة الاقتصادية الكبيرة التي كان (عليه السلام) يتمتع بها، لان ترك الاسواق دون مراقبة سيؤدي الى نتائج وخيمة نتيجة تلاعب الباعة والمضاربين في الاسواق، والتي تؤدي في النهاية الى استغلال الطبقات الفقيرة التي دائما ما تكون هي المتضرر الاكبر من هذه المخالفات الحاصلة في الاسواق. لهذا نرى ان الإمام (عليه السلام) يراقب هذه الاسواق ليس عن كثب فقط، بل مباشرة من قبله شخصيا. فقد ورد عنه (عليه السلام) انه وقف على خیاط، فقال: یا خیاط ثكلتك الثواكل، صلب بالخيوط ودققَ الدروز، وقارب الغرز، فأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول: يحشر الخياط الخائن وعليه قميصا ورداء مما خاط وخان فيه، واحذروا السقطات فصاحب الثوب احق بها ولاتتخذ بها الايادي تطلب بها المكافئات (29).

وقال (عليه السلام) في ضوء متابعاته وتوجيهاته لنشاط الاسواق: ((لايقعدن في السوق الا من يعقل الشراء والبيع)) (30).

وكان (عليه السلام) يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار خذوا الحق واعطوا الحق تسلموا، ولاتردوا قليل الربح فتحرموا كثيره (31)، وعن الامام الباقر

ص: 247

(عليه السلام) قال: ((كان امير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر فيطوف في اسواق الكوفة سوقا سوقا ومعه الدرة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمى السبيبة فيقف على اهل كل سوق فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل فاذا سمعوا صوته (عليه السلام) القوا ما بأيديهم وارعوا اليه بقلوبهم وسمعوا باذانهم فيقول (عليه السلام): قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة واقتربوا من المقتاعين وتزينوا بالحلم وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب وتجافوا عن الظلم وانصفوا

المظلومين ولاتقربوا الربی واوفوا الكيل والميزان ولاتبخسوا الناس اشيائهم ولا تعثوا في الارض

مفسدين. فيطوف الإمام (عليه السلام) في جميع اسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس.)) (32)

وفي اثناء جولاته عليه السلام في سوق الكوفة جاءه يوما الاصبغ بن نباته وقال له: ((انا اكفيك هذا يا امير المؤمنين واجلس في بيتك فقال له عليه السلام: مانصحتني يا اصبغ، وكان يركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهباء ويطوف في الاسواق سوقا سوقا، فأتي يوما طاق اللحامين فقال: يا معشر القصابين لاتعجلوا الانفس قبل ان تزهق، وایاکم والنفخ في اللحم، ثم اتى الى التمارين فقال: اظهروا من رديء بیعکم ماتظهرون جيده، ثم اتى السماكين، فقال: لاتبيعوا الا طيبا، وایكم وماطفا، ثم اتى الكناسة وفيها انواع التجارة من نحاس وقماط وبائع ابل وصيرفي وبزاز وخياط، فنادى باعلى صوت: يا معشر التجار ان اسواقكم هذه يحضرها الايمان فشوبو ایمانکم بالصدقة وكفوا عن الخلف، فان الله تبارك وتعالى لا يقدس من حلف باسمه كاذبا)) (33).

ص: 248

المبحث الثاني: السلوكيات والمظاهر المنهي عنها شرعاً في الأسواق في عهد الامام علي (عليه السلام)

أولاً: الاحتكار:

ومن السلوكيات والمظاهر اليومية في الأسواق والتي كان الامام عليه السلام يراقبها عن كثب: الاحتكار: والاحتكار يعني حبس السلعة والامتناع عن بيعها بقصد أغلاء السعر (34)، وهو مأخوذ من الحكر وهو الظلم (35)، والالتواء، والعسر، وسوء المعاشرة (37). واحتكار الطعام يعني احتباسه تربصاً وانتظاراً للغلاء. وأصل الاحتكار الجمع والإمساك (37). والحكرة اسم من الاحتكار (38).

وقد حصر الشيعة الامامية الطعام الذي يتحقق فيه الاحتكار في سبعة أشياء هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب والزيت والملح (39)، وقد ذكر الشيخ الكليني خمسة من هذه المواد لقول الإمام علي (عليه السلام): (ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن) (40).

وقد أولى النهج الاقتصادي الإسلامي هذه المشكلة كغيرها من المشاكل اهتمامه البالغ ووضع لها الاحتياطات الوقائية والعلاجية كافة. ذلك ان غايته إصلاح الفرد والمجتمع معاً.

وحين يقول الفقهاء ان الاحتكار هو الحبس لم يكونوا يقصدون ان كل حبس هو احتكار محرم بل لا بد من توفر شروطه وهو الإضرار بالناس. لذلك نقل الشيخ

ص: 249

الكليني (41) قول الإمام علي (عليه السلام) بهذا الخصوص: (الحكرة ان يشتري طعاماً ليس في المصر غيره فيحتكره فان كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس ان يلتمس بسلعته الفضل)، وقال (عليه السلام) حين سئل عن حبس الزيت: (ان كان عند غيرك فلا بأس بإمساکه).

ويرى الشيخ الكليني (42) ان الاحتكار في الطعام لا يتحقق إلا إذا كانت هناك حاجة شديدة لهذا الطعام وأصنافه. أي شحتها أو نفاذها من السوق حيث لا يوجد منها في البلد، وهنا يصبح الاحتكار محرماً. فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: (الحكرة في الخصب أربعون يوماً وفي الشدة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوماً في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون)، وفي قول آخر له (عليه السلام): (ان كان الطعام كثيراً يسع الناس فلا بأس به وان كان قليلاً لا يسع الناس فانه يكره ان يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام).

وعند التدقيق في الحديثين السابقين للإمام علي (عليه السلام) نجد دقة الحسابات العلمية والموضوعية للفكر الاقتصادي الإسلامي الذي لا يقيد حركة الأسواق وحرية التجار في التصرف بما لديهم من البضائع المطلوب تداولها في الأسواق بمجردان التاجر تصرف في بضاعته وحجبها عن الأنظار، فما دامت السلع معروضة في الأسواق من قبل تجار آخرین وأوضاع البلد في حالة استقرار فلا يوجد تأثير سلبي على السوق في حالة حجبها، أما اذا كانت الأوضاع في حالة غير اعتيادية كأن تكون السلع شحيحة او يكون البلد في ظروف استثنائية كظروف الحرب مثلاً فالاحتكار هنا يجب محاربته بكل الطرق التي شرعها الإسلام لحماية المجتمع من جشع المستغلين.

وقد أشار الامام علي وفي إطار المعالجات التي ينبغي اتخاذها لمواجهة الآثار السلبية للاحتكار إلى الفكر الاقتصادي الثاقب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ذكر

ص: 250

ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

أمر أحد المحتكرين ببيع سلعته بأي سعر يشاء وذلك عندما نفذ الطعام على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتاه المسلمون وقالوا له: (یا رسول الله قد نفذ الطعام ولم يبق شيء إلا عند فلان فمره ببيعه للناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان ان المسلمين ذكروا ان الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه) (43)، وعن الامام علي (عليه السلام) انه قال: (ان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم ان تخرج الى بطون الاسواق وحيث تنظر الابصار اليها، فقيل لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لو قومَت عليهم، فغضب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حتى عرف الغضب في وجهه، انا اقوم عليهم؟! انما السعر الى الله يرفعه اذا شاء ويخفضه اذا شاء) (44). وهذا يعني ان الفكر الاقتصادي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو إلى وفرة المواد الغذائية وبيعها مع غلاء سعرها لان هذا أفضل بكثير من حبسها أو عدم وجودها وذلك لتجنب الآثار السلبية السيئة الناتجة من الاحتكار لان هذه الآثار قد تتعدى الجانب الاقتصادي إلى التأثير على الجوانب الاجتماعية والأخلاقية، بل وحتى السياسية أحياناً. وقد يكون الاحتكار في أحيان كثيرة سبباً من أسباب قلة فرص العمل وازدياد البطالة، لان حجب السلع عن التبادل يؤدي إلى قلة عمليات البيع والشراء وتحريك الأسواق.

والاحتكار حرمه الشارع ونهی عنه لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق، والتضييق على الناس، فقد ورد عن الامام علي (عليه السلام) انه كتب للاشتر حين ولاه مصر بخصوص الاحتكار: ((... ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات الى ان قال: واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فأمنع الاحتكار، فأن رسول الله

ص: 251

(صلى الله عليه واله وسلم) منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا، في موازين عدل، واسعارا لاتجحف بالفريقين البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه، فنكل به وعاقبه من غیر اسراف (45) ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين واهل البؤس والزمني، فأن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ الله ما استحفضك من صفة فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الاسلام في كل بلد، فأن للاقصى فيها مثل الذي للادنی...)).

وقال (عليه السلام): (المحتكر محروم نعمته)، وقال: (الاحتكار شيمة الفجار)، وقال: (المحتکر بخیل جامع لمن لا يشكره وقادم على من يعذره) (46) وقال: (المحتكر اثم عاص) (47).

ولم يكتف (عليه السلام) بالاقوال بل ترجمها الى اجراءات وافعال فقد نقل عنه انه مر بشط الفرات فأذا كدس الطعام لرجل من التجار حبسه ليغلي به، فأمر به فأحرق. ونقل عنه (عليه السلام) انه كتب الى رفاعه: انه عن الحكره، فمن ركب النهي فأوجعه، ثم عاقبه بأظهار ما احتكر (49).

ثانياً: الربا

الربا في اللغة: الزيادة (50)، وربا الشيء: إذا زاد على ما كان عليه فعَظمَ فهو يربو ربواً (51). أي يأخذ أكثر مما يعطي. وإنما قيل للرابية لارتفاعها ولزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها (52). ويعني الربا أيضاً الفائدة الفاحشة (53).

وفي الاصطلاح يعني الربا: فضل أحد المالين المتجانسين على الآخر بلا عوض، شرط لأحد العاقدين. ويعني أيضاً الزيادة على رأس المال قلت أو كثرت

ص: 252

في أشياء مخصوصة (54).

والربا في الجاهلية هو ان يكون على الرجل دين لرجل، فيحل الدين فيقول له صاحب الدين: تقضي أو تربي، فأن أخره زاد عليه وأخره (55).

والربا محرم في جميع الأديان السماوية، ومحظور في اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

وقد حارب الإسلام الربا و تشدد بشكل حازم مع المرابين، لان الكسب عن طريقه خروج على الأساس الشرعي للاكتساب. قال تعالى في كتابه العزيز: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» (56) أي يذهب ببركته ويهلك المال الذي دخل فيه، (ويربي الصدقات) أي يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره، (والله لا يحب كل كفار أثيم) فالكفار عظیم الكفران والأثيم عظيم الإثم (57).

وقد حرص الامام علي (عليه السلام) على ذكر الأحاديث التي تحث الناس على عدم التعامل بالربا في الحياة اليومية والابتعاد عنه، فقد أكد ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في توصياته

للناس كان ينهاهم عن التعامل بالربا بعدّه سلوكية سيئة تضر بالفرد والمجتمع. ففي حديث له (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من باع واشتري فليحفظ خمس خصال وإلا فلا يشترين ولا يبيعن الربا والحلف وكتمان العيب والحمد إذا باع والذم إذا اشتری) (58). وفي باب التشديد في حرمة أكل الربا لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آكل الربا ومؤكله.

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتجول في أسواق الكوفة، ويقول مخاطباً أهل

ص: 253

السوق: (قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين وتزينوا بالحلم وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب وتجافوا عن الظلم وأنصفوا المظلومين ولا تقربوا الربا) (59). فيطوف (عليه السلام) في جميع أسواق الكوفة ليوضح للناس الضوابط الأخلاقية التي يفرضها الشرع على المسلم في تعاملات السوق اليومية، ومنها الابتعاد عن الربا.

ولكي يعزز الامام علي (عليه السلام) محاربة النهج الاقتصادي الإسلامي لظاهرة الربا في المجتمع، ويوضح أيضاً عدم ابتعاد هذا النهج عن الجانب التعبدي والأخلاقي. ينقل لنا قول أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنبر مخاطباً التجار: (يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا إيمانكم بالصدق، التاجر فاجر والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق) (60).

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شديداً في الترهيب والتحذير من مخاطر التعامل بالربا. فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: (لدرهم ربا أشد عند الله - تعالى - من ست وثلاثين زنية في الخطيئة) (61)، وفي قول آخر له (صلى الله عليه وآله وسلم) : (الربا سبعون باباً أيسرها ان ينكح الرجل أمه) (62). ولهذا عد الإمام علي (عليه السلام) (کسب الربا أخبث المكاسب) (63).

الآثار السلبية للتعامل بالربا

ان المجتمع المكي الذي ولد فيه الإسلام كان مركزاً للتجارة الرأسمالية، فسكان مكة كانوا يستثمرون أموالهم بالتجارة وبالقرض بفائدة، ويهدفون من وراء ذلك إلى تنمية رؤوس أموالهم (64). فسعر الفائدة ثمن يجيء دون أن يقابله أي عمل أو مخاطرة، وفي

ص: 254

هذا التعامل خروج بالنقود عن وظيفتها الأصلية مما يستتبع أضراراً اقتصادية واجتماعية جسيمة (65). ومع تعاظم المال والاستثمار الربوي كان الأغنياء يزدادون ثراءً، في حين ان المعدمون والفقراء من أحرار القبيلة يزدادون ضنكاً وفقراً، وتتوضح معالم التفاوت الاقتصادي والتمايز الاجتماعي إلى درجة انقسم فيها المجتمع المكي إلى طبقتين غير متناسبتي العدد والعدة هما طبقة التجار والمرابين وطبقة الفقراء والمستضعفين والأرقاء (66).

وكان طبيعياً ان يتدخل الإسلام في هذا الوضع من المعاملات وان يفضح هذا الاستغلال الذي يقطع صلات المودة والرحمة بين الناس ويؤدي بهم إلى الابتعاد عن عمل الخير.

وقد اشار الامام علي (عليه السلام) في تحذيراته عن التعامل بالربا الى امر مهم جدا تجسد بقوله (عليه السلام): (إنما حرم الله عز وجل الربا لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف) (67)، فإباحة الربا واتخاذ النقود متجراً يجعل معظم رأس المال في أكثر الأحيان مدخراً ومرتكزاً في موضع واحد دون ان يتقلب في الشؤون النافعة المثمرة، وذلك لا الشيء إلا لان الرأسمالي يرجو ارتفاع سعر الربا في السوق فيحول دون جریان النقود إلى تجارة البلاد وصناعتها وزراعتها ولا يسمح له بالجريان إلا إذا وافق ذلك مصلحته الشخصية (68).

ان خطورة التعامل بالربا دفعت النهج الاقتصادي الإسلامي ان يكون شديداً في التحذير من مخاطر هذه الآفة الكبيرة والمضرة بالمجتمع في حالة الاستمرار بها أو تعاطيها. فقد شمل الترهيب والتحذير كل من كان وسيلة يسهل ترویج هذه المعاملة، ولم يقتصر الترهيب على المرابي فقط. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (آكل الربا ومؤکله وكاتبه وشاهديه فيه سواء) (69).

ص: 255

ومن الآثار السلبية الأخرى للربا هو إضعافه لروح التعاون بين الناس، وكثيراً ما يؤدي إلى نشوء العداوة بين الأفراد، لان من عادة المرابي ان يكون جشعاً نهماً، قاسي القلب، غلیظ الطبع، لا يتورع أن يسفك دم مَدِينِه الفقير إذا اقتضى الأمر، ومهما رأى من فقر مدينه وحاجته فان ذلك لا يعنيه في شيء إنما الذي يعنيه بالدرجة الأولى ان يضيف إلى دراهمه درهماً، ولو مات الفقير جوعاً وهماً.

أما من الناحية الاجتماعية فانه يؤدي إلى خلق طبقة مترفة لا تعمل شيئاً، كما يؤدي إلى تضخيم الأموال في أيديها دون جهد مبذول، فتكون النباتات الطفيلية تنمو على حساب غيرها.

ويعد الربا عاملاً مهماً من عوامل تشجيع المتعاملين به على الكسل والابتعاد عن العمل. وفي هذا الإطار قال الإمام الصادق (عليه السلام): (عدو العمل الكسل) (70). والإسلام يمجد العمل ويكرم العاملين، ويجعله أفضل وسيلة من وسائل الكسب، وقد أشار الشيخ الكليني (71) في هذا الأمر إلى قول الإمام الصادق (عليه السلام): (إياك والكسل والضجر فأنهما يمنعناك من حظك من الدنيا والآخرة). كما يؤدي الربا أيضاً إلى ضعف الشعور الديني في نفس الفرد المسلم عندما يرى ان ما يطبق في الأرض غير ما ينزل من السماء.

وهكذا أعلنها الإسلام حرباً شعواء على الربا وعلى المرابين الذين يسلبون أموال الناس ويأكلونها ظلماً وعدواناً. ويستغلون ضعف الفقراء وحاجتهم إلى المال.

ومع كل هذا فالإسلام لا يقف أبداً في طريق التائبين العائدين لطريق الحق. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ

ص: 256

وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (72)، وهذا يعني ان الإسلام جاء بالحكم القاطع في تحريم الربا وهو محاربة من كان مصراً على التعاطي به. أما في حالة التوبة والرجوع إلى طريق الهداية فلكم رؤوس أموالكم. أي إبطال الزيادة وجعل أصل المال ملكاً لذويه (73).

ومن نافلة القول ان نبين هنا ان بعض الكتاب العرب المعاصرين وبعض المستشرقين من المتحاملين على الدين الإسلامي الحنيف يؤكدون ان الربا هو مفتاح الرخاء الاقتصادي، ولذا فاضت كتاباتهم بالقول ان الإسلام بتحريمه للربا جعل

تجارة المال في العالم الإسلامي حكرة في أيدي المسيحيين واليهود، وان منع الربا يعد عاملاً من عوامل عرقلة نمو الصيرفة والائتمان، وان الإسلام بتحريم الربا بدائي ومتخلف يمنع تابعيه من سلوك الطريق إلى الرخاء الاقتصادي.

يقول رودنسون (74): ان الدليل على ان تحريم الربا لم يؤدِ إلى كثير من الآثار العملية، هو ان فقهاء الشريعة بذلوا الكثير من الجهد لاكتشاف أساليب يدورون بها من حول التحريم النظري، أساليب عرفت في العربية باسم ((الحِيَل)). وذكر رودنسون على سبيل المثال واحدة من هذه الحيل هي: (أبيع هذا الكتاب الذي أمامي بمئة وعشرين قرشاً على ان يدفعها لي بعد سنة، ثم أشتريه منه على الفور بمئة قرش أدفعها له نقداً. وإذ ذاك لا أكون قد أقرضت بفائدة بل أكون بعت واشتريت!).

ويبدو ان هؤلاء يقتبسون هذه الحيل المبتذلة وينسبونها إلى الفقهاء لتشويه صورة الإسلام، نعم ان هذه القصص موجودة في الكتب العربية ولكنها ليس بالصورة التي يصورها هؤلاء، فكتب الجاحظ (75) مثلاً مليئة بالقصص والحكايات الظريفة التي لم يقصد بها الإساءة للفقه الإسلامي، وإنما هي قصص تحدث في كل زمان و مکان، استطاع

ص: 257

الجاحظ من خلالها ان يتحف المكتبة العربية بالمزيد من المؤلفات الأدبية الثمينة. كما ان هذه الحيل لو حصلت فعلاً وهي على الأرجح حاصلة على مر العصور فأنها لا تمثل إلا فئة قليلة لا تحسب على الإسلام وأهله.

ومن الجدير بالذكر ان الإسلام لم يكن أول من حارب الربا، فقد وجد في المجتمعات القديمة فلاسفة نادوا بتحريم الربا وشنعوا على من يتعامل به، ومن هؤلاء أرسطو فیلسوف اليونان الشهير. فقد نادي بتحريم الربا لانه طريق غير طبيعي وغير معقول لاستثمار الأموال وقال: (الأرض يمكن ان تخرج نباتاً والدابة يمكن ان تلد دابة مثلها، ولكن كيف يتصور ان يلد الدرهم، أو الدينار درهماً آخر أو دینار آخر. لقد خلقته الطبيعة عقيماً، ويجب ان يبقى كذلك) (76).

ص: 258

ثالثا: الحلف في الشراء والبيع

ومن الظواهر السيئة التي نهی عنها النهج الاقتصادي الإسلامي ظاهرة الحلف في الشراء والبيع.

فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: (إياكم والحلف فانه ينفق السلعة ويمحق البركة) (77)، وفي قول آخر له: (يا معشر السماسرة اقلوا الأيمان فأنها منفقة للسلعة محقة للبركة) (78).

نستشف مما تقدم ان وصايا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) في التشديد على الإنسان المسلم للالتزام بضوابط وتعاليم النهج الاقتصادي الإسلامي، انما تعود بالمنفعة على جميع المسلمين وفي جميع المجالات الدينية منها والأخلاقية والاجتماعية إضافة إلى جانبها الاقتصادي الكبير الواضح للعيان، فلو دققنا في معنى الأحاديث وتطبيقها من الناحية العملية لوجدنا دقة حسابات الفكر الاقتصادي الإسلامي. فالغش والتدليس والاحتكار والربا كلها عوامل تؤدي إلى شحة السلع عن السوق، وتقليل فرص العمل في المجتمع إضافة إلى العوامل السلبية الأخرى المضرة بالناس وهذا يعني ان الالتزام بتعاليم الإسلام والابتعاد عن الطرق غير المشروعة في تعاملات الأسواق اليومية انما تعود بالفائدة الاقتصادية الكبيرة للمجتمع.

ص: 259

الهوامش

1. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 152

2. شمس الدين، ثورة الحسين (عليه السلام) ص 37

3. المصدر نفسه، ص 138

4. للمزيد ينظر: ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 6، ص 24، ج 7، ص 396. ترجمة عبدالله بن سعد بن أبي سرح؛ خليفة ابن خياط العصفري، تاریخ خليفة بن الخياط، ص 115

5. الطبري، تاريخ الطبري، ج 3، ص 450؛ ابن الأثير، الکامل، ج 3، ص 139

6. الدوري، مقدمة تاريخ صدر الاسلام، ص 38؛ دلو، جزيرة العرب، ص 135

7. الهمذاني، صفة جزيرة العرب، ص 219

8. ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 121

9. المسعودی، مروج الذهب، ج 2، ص 352؛ ابن خلدون، المقدمة، ص 214

10. فروع الكافي، ج 5، ص 156 وما بعدها

11. المصدر نفسه، ص 149

12. الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 192

13. الصدوق، الخصال، ص 446

14. الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 191

15. الصدوق، من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 192

16. المصدر نفسه والصفحه

17. الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي، ص 138

18. الجاحظ، البخلاء، ص 15، 31، 56

ص: 260

19. ابن خلدون، المقدمة، ص 400

20. الكليني، فروع الكافي، ج 5، ص 151

21. المصدر نفسه، ص 153

22. شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ص 76؛ ياسين، تطور الاوضاع الاقتصادية، ص 56

23. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 230؛ التوحيدي، الأمناع والمؤانسة، ج 1، ض 64

24. الافغاني، اسواق العرب، ص 217 - 224

25. المصدر نفسه والصفحة

26. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 230

27. الكافي، ج 5، ص 156

28. المصدر نفسه والصفحة

29. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 295

30. الكليني، الكافي، ج 5، ص 154؛ من لایحضره الفقيه؛ ج 3، 193

31. حسن القبانجي، مسند الامام علي (عليه السلام)، ج 6، ص 16

32. الكليني، الكافي، ج 5، ص 151

33. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، جج، ص 235

34. فتح الله، معجم الفاظ الفقه الجعفري، ص 31

35. الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص 404

36. الزمخشري، اساس البلاغة، ص 136

37. الزمخشري، الفائق، ج 3، ص 44

38. ابو حبيب، القاموس الفهي

ص: 261

39. مجموعة مؤلفين، موسوعة جمال عبد الناصر، ج 3، ص 196

40. الكافي، ج 5، ص 165

41. المصدر نفسه والصفحة

42. الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 267

43. الكليني، فروع الكافي، ج 5، ص 164

44. الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 265

45. نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده، ج 3، ص 99

46. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 276

47. القاضي النعمان، دعائم الاسلام، ج 2، ص 35

48. المتقي الهندي، کنز العمال، ج 4، ص 182

49. القاضي النعمان، دعائم الاسلام، ج 2، ص 36

50. الرازي، مختار الصحاح، ص 178

51. القرطبي، الجامع الاحکام القران، ج 3، ص 235

52. الفراهيدي، العین، ج 2، ص 94

53. فتح الله، معجم الفاظ الفقه الجعفري، ص 203

54. الجرجاني، التعريفات، ص 146

55. ابو حبيب، القاموس الفقهي، ص 143

56. البقرة، الآية 276

57. البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج 1، ص 162

58. الكافي، ج 5، ص 151

59. الطوسي، النهاية، ص 371

60. الكافي، ج 5، ص 150

ص: 262

61. الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 4، ص 117

62. ابن ماجة، سنة ابن ماجة، ج 2، ص 764

63. الكليني، فروع الكافي، ج 2، ص 153

64. رودنسون، الاسلام والرأسمالية، ص 43

65. الكبيسي، الحاجات الاقتصادية، ص 191

66. دلو، جزيرة العرب، ص 180

67. سبط ابن الجوزی، تذکرة الخواص، ص 43

68. الكبيسي، الحاجات الاقتصادية

69. الكافي، ج 5، ص 153

70. الكليني، فروع الكافي، ج 5، ص 154

71. المصدر نفسه والصفحة

72. البقرة الايات 278 - 280

73. الطبري، جامع البیان، ج 3، ص 148؛ الطوسي، التبیان، ج 2، ص 366

74. الاسلام والرأسمالية، ص 50

75. البخلاء، ص 50

76. خروفة، نظرات في الاسلام، ص 180

77. الكافي، ج 5، ص 154

78. المصدر نفسه والصفحة

ص: 263

قائمة المصادر والمراجع

اولاً: القران الكريم

ثانياً: المصادر الاولية:

- ابن الاثير، ابو الحسن عز الدين بن أبي الكرم بن عبد الكريم الشيباني (ت 630 ه / 1232 م)

1- الكامل في التاريخ، (دار صادر، بیروت، د.ت)

- الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه / 869 م)

2- البخلاء، تحقيق: عباس عبد الستار، (دار ومكتبة الهلال، بیروت، 1408 ه/ 1988 م).

- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الخضري (ت 808 ه/ 1404 م)

3- المقدمة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1428 ه/ 2007 م).

ابن خیاط، ابو عمر خليفة بن خياط العصفري (ت 240 ه/ 854 م)

4- طبقات خليفة، تحقیق: سهیل زکار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414 ه/ 1993 م)

- الزمخشري، جار الله محمد بن عمر (ت 538 ه/ 1144 م)

5- الفائق في غريب الحديث، ط1، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1417 ه/ 1996

ص: 264

- الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت 721 ه / 1320 م)

6- مختار الصحاح، تحقیق: احمد شمس الدين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 ه/ 1994 م).

- سبط ابن الجوزي، ابو المظفر شمس الدين بن فرغلي (ت 654 ه / 1256 م)

7- تذكرة الخواص، (مطبعة مصر، قم، 1427 ه/ 2006 م)

- ابن سعد، محمد بن سعد بن منبع الزهري البصري، (ت 230 ه / 845 م)

8- الطبقات الکبری، (دار صادر، بیروت، د.ت)

الصدوق، ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه/ 991 م)

9- من لا يحضره الفقیه، تحقيق: علي اکبر غفاري، ط 1، (مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين، قم، د.ت)

- الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير (ت 310 ه / 922 م)

10- تاریخ الامم والملوك، ط 4، (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1403 ه/ 1983 م)

11- جامع البيان عن تأويل القرآن، تحقیق: خليل الميس، (دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 ه/ 1995 م).

- الفيروز آبادي، محب الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه/ 1415 م)

12- القاموس المحيط، تحقیق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، ط 2، (دار احیاء التراث العربي، بیروت، 1424 ه/ 2003 م).

ص: 265

- القاضي النعمان، ابو حنيفة بن محمد بن منصور التميمي المغربي (ت 363 ه/ 973 م)

13- دعائم الاسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والاحكام عند اهل بيت الرسول عليه افضل السلام، تحقیق: آصف بن علي اصغر فيضي، ط 1، دار المعارف، القاهرة، 1383 ه/ 1963 م).

- القرطبي، ابو عبدالله محمد بن احمد الانصاري (ت 671 ه/ 1273 م)

18- الجامع لاحکام القرآن، ط 2، (دار احیاء التراث العربي، بیروت، 1405 ه/ 1985 م).

- الكليني، ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق (ت 329 ه / 941 م)

15- الكافي، تحقيق: علي اكبر الغفاري،، ط 3، (مطبعة حيدري، طهران، 1388 ه/ 1978 م).

- المتقي الهندي، علاء الدين علي بن حسام (ت 975 ه/ 1567 م)

16- کنز العمال في سنن الاقوال والافعال، تحقیق: الشيخ بكري حياني، (مؤسسة الرسالة، بیروت، 1409 ه/ 1989 م)

- المسعودي، ابو الحسن بن علي بن الحسين بن علي (ت 345 ه / 956 م)

17- مروج الذهب ومعادن الجواهر، ط 1، (شركة ابناء شريف الانصاري للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1428 ه/ 2007 م)

- الميرزا نوري، حسين الطبرسي (ت 1320 ه/ 1903 م)

18- مسترك الوسائل و مستنبط المسائل، ط 1، (مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)

ص: 266

لأحياء التراث، بیروت، 1408 ه/ 1987 م).

- الهمذاني، الحسن بن احمد بن يعقوب (ت 334 ه/ 945 م)

19- صفة جزيرة العرب، تحقیق: محمد بن علي الاكوع، (دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1409 ه/ 1989 م).

- أبن هشام عبد الملك الحميري (ت 218 ه/ 833 م)

20 - السيرة النبوية، تحقیق: محيي الدين عبد الحميد، ط 1، (مطبعة المدني القاهرة، 1383 ه/ 1963 م).

21- تاريخ اليعقوبي، (دار صادر، بیروت، د.ت).

- اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن واضح الكاتب (ت 292 ه/ 918 م)

ثالثا: المراجع الحديثة

1- الافغاني، سعید

2- اسواق العرب في الجاهلية والاسلام، (دار الافاق العربية، بیروت، 1413 ه / 1993 م).

3- امین، احمد

4- فجر الاسلام، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1425 ه/ 2004 م).

5- دلو، برهان الدين

6- جزيرة العرب قبل الاسلام التاريخ الاقتصادي - الاجتماعي - السياسي، ط 2، (دار الفارابي، بیروت، 1425 ه/ 2004 م).

ص: 267

7- الدوري، عبد العزيز

8- مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، ط 1، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1425 ه/ 2005 م)

9- تاريخ الطرق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، ط 4، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1419 ه/ 1999 م).

10- رودنسون، مکسیم

11- الاسلام والرأسمالية، تقريب: نزيه الحكيم، ط 4، دار الطليعة للطباعة والنشر، بیروت، 1402 ه/ 1982 م).

12- شمس الدين، الشيخ محمد مهدي

13- ثورة الحسين (عليه السلام) ظروفها الاجتماعية واثارها النفسية، تحقيق: سامي الغريري الغراوي، (مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، قم، د.ت)

14- القبانجي، حسن

15- مسند الامام علي (عليه السلام)، ط 1، (مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت، 1421 ه/ 2000 م).

16- الكبسي، حمدان عبد المجيد

17- الحاجات الاقتصادية في المذهب الاقتصادي والايلامي، ط 1، (مطبعة العاني، بغداد، 1407 ه/ 1987 م).

ص: 268

التنمية الاقتصادية في فكر اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) دراسة في ضوء عهده لعاملة على مصر مالك الاشتر رضوان الله عليه

اشارة

أ. د. زمان عبيد وناس

ص: 269

ص: 270

((وإن افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد))

أمير المؤمنين علي عليه السلام

على الرغم من ان لفظ التنمية ومصطلحاتها مفهوم معاصر، إلا ان السير على خطاها عمليا لم يكن غائبا في عصر النبوة، لان النبي وعلي بن ابي طالب عليهم افضل الصلاة والسلام كانوا ينهجون بمقتضى امر الحكم المطلق، الله عز وجل، فالنظرية الاقتصادية الاسلامية متكاملة بكل جوانبها، ومنها التنموية، وان لم تسمها بألفاظها، فلم تشأ هذه القاعدة الاقتصادية أو النظرية ان تجعل الانسان يعيش عبثا، من غير قوانين تحكم ديمومة استمرار نوعه، التي من اهم شرائطها: حفظ امنه، و تامین معاشه، وتطور نوعه، وکمال عقله وصحته، وكيف ان يتركه العقل المطلق - خالقه سبحانه - ويعمل فيها العقل الناقص - البشر - لذا فان هذا لا يعني ان الفكر الاقتصادي الاسلامي لا يعی مدلولاته التي كانت تعني اتخاذ مجموعة تدابير أو سياسات اقتصادية تؤدي الى زيادة معدلات النمو الاقتصاد المجتمع الاسلامي بالاعتماد على قواه الذاتية - قوة العمل واستغلال الموارد الاولية الامثل - لديمومة استمرار التنمية والنمو وتوازنه تحقيقا لحاجات المجتمع المادية، وصولا الى اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، وإن الالفاظ الدالة على هذا المفهوم، كانت تطلق بمصطلحات مغايرة بلفظها لكنها مشابهة لفلسفة المعنى والتطبيق، مثل الاعمار، والغراس، والنماء، والمنافع، والاحياء. (1)

=ثم ان ذلك النظام قد جعل الانسان محور تلك العملية، فقال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (2) وان اختلفت التفاسير والآراء في مقصد القران الكريم من لفظ خليفة، هل هو المعنى العام المطلق ام الخاص الذي يراد

ص: 271

به معشر الانبياء والاولياء، فكل ذلك مرجعه ان الانسان هو محور الاستخلاف، قال تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» (3)، وهؤلاء من تقع على عاتقهم مسؤولية السعي لوضع السياسات والادوات للظواهر الاقتصادية المختلفة للنهوض بواقع الامة أو المجتمع، سيما واننا نتحدث عن وصيةٍ لولي من اولياء الله سبحانه، كتبها لاحد عماله يضع فيها قواعد تنموية غاية في الدقة والاهمية الاقتصادية التي كانت ملحة آنذاك، بل يجوز لنا القول - بعد البحث فيها - يمكن ان تكون دستور اساسي للعاملين في وضع رؤى تطور الانظمة الاقتصادية الموصلة الى رقي المجتمعات ورفاهها المعيشي، لان ما فيها من افکار تنموية يحاكي وبصورة اعمق احدث النظريات الموضوعة اليوم عن الية النهوض الاقتصادي وديمومة نموه.

علي بن ابي طالب عليه السلام منهجا للنبوة:

ان سياسة التنمية بعيدة الغور، قد يتصورها البعض هي مجرد الحث على العمل واتقانه لحدوث التغيير، لكن في واقع حالها هي اعمق من ذلك، ومدلولاتها العملية في الفكر الاقتصادي الاسلامي موجودة، وان دولة الاسلام طبقتها بأروع ما يمكن ان تحققه من حركة نهضوية اقتصادية زمن النبي صلى الله عليه واله، حتى يجدونا الامر للقول: انها مفخرة انسانية، فهي أنموذج يمكن تطبيق فلسفتها في كل زمان ومكان لبناء اقتصاد مزدهر، مع علمنا بالفارق الزمني الذي نحن نتحدث فيه، لكن اذا ما اتخذنا دلیل او دلیلين على قولنا نجده نافع لبيان الحجة وايصال الفكرة، والبرهنة على ان خطط النبي صلى الله عليه واله التنموية هي مدرسة متكاملة يمكن العمل وفق منهاجها في وقت نشاء.

ص: 272

ومن هذه الشواهد التي اخترناها كيفما اتفق - لان الشواهد في عهد النبي صلى الله عليه واله كثيرة جدا - وثيقة المدينة (4)، فلم نأتي تأويلا في حدثها أو نحملها ما لا تطيق، وللناقد الخبير ان يجد صحة ما ندعيه فيها، فالوثيقة هذه الم تعن فقط في وضع الية الكم الناس في المدينة او سیاستها ورسم صلة الناس ببعضهم البعض وقيام التكافل بينهم حسب، بل هي اعمق في دلائلها من ذاك، فمنظور الحكم لمن آمن بالله وحده لا شريك له بيد النبي صلى الله عليه واله، وهو المعني الاول بسياسة الدنيا و تنظیم امور الدين، وهو المرجع الوحيد لهم في بيان امر الله جل علاه، وهذا لا يحتاج الى توثيق، وإن قلنا: ان هناك من لا يؤمن بالنبوة في المدينة، مثل اليهود او حتى المنافقين، لكن هذا امر محسوم لا جدال فيه، إذن السؤال «ما المغزى من وراء ذلك؟ والجواب هو ان الدافع من بناء نظام عام يحكم المدينة عاصمة الدولة المرتقبة يهدف بأصله الى اقامة تنمية حقيقة شاملة، اذ من دونها لا يمكن ان تكون دولة، فلا امة من غير مجتمع متماسك ولا دولة من غير ارض مصانة معروفة حدودها، وكل هذا يبني بعنصر المواطنة وبناء النفس على الولاء للوطن والامة والدين، ومن ذا تكون بواكير التنمية ومنها الاقتصادية، فأقام النبي صلى الله عليه واله مجتمع متماسك موحد، فبدل أن يقيم افراد الامة ولاءاتهم للعشيرة والقبيلة أقامها للمجتمع، ثم عرفهم ان المجتمع لا يمكن ان يقوم الا اذا كانت له ارض يعمرها، وبهذا بنی صلى الله عليه واله عنصر المواطنة، والصق الفرد بالوطن، ليقيم بعد ذلك الركن الثالث (الدولة) التي حكمها بحكم الله عز وجل وفق ايديولوجية شرحها القران الكريم واضحة، فصارت هذه الدولة وذاك المجتمع محكوم بقانون يسير فيه التنظيم شؤون حياته وتطورها ورفاهية العيش في حياة آمنة، وهذه من اهم انماط التنمية واعظمها، لان التنمية الاقتصادية تبدأ أولا بالفرد والمجتمع - العامل البشري - وهذا برای علماء الاقتصاد المعاصرين (5).

ص: 273

ثم وضع سياسة اقتصادية وفق ايديولوجية مدروسة تمثل روح الدولة والمجتمع الاسلامي، وبعد لجأ الى النهوض المعرفي والامني والمستوى المعاشي للامة، وبنى فرضية المساواة والعدالة بين أفراد الأمة، وكان هذا مغزى الوثيقة المدنية التي تضاف الى اهدافها المشهورة.

والمثال الثاني فتح خيبر (6): ففي الجزء الذي فتح عنوة منها، ترك الارض لليهود حتى يقوموا بواجب الارض وابقى المسلمين خارج حدود العمل المباشر بها، مقابل ان لهم خراجها على القسمة بينهم واليهود، وقد علل بعضهم ان سبب ابعاد المسلمين عن الضرب في الارض هو لدواعي الحاجة الماسة للمقاتلة من جهة وان المسلمين ليسوا اهل دراية بمزاولة الزراعة من جهة اخرى، لكن الامر لا يتعلق بهذا الراي ابدا، فمن باب الجهاد فكل مؤمن مکلف بواجبه عند الحاجة وان كان يزاول مهن او حرف تطلبتها ضروریات الحياة، فالتخلف عن الجهاد بفتوى النبي صلى الله عليه واله ادخله بإشکال شرعي، لذا العمل لم يكن عائق ابدا امام جهاد المسلمين، والادلة هي كثيرة، فضلا عن دعوته صلى الله عليه واله للمسلمين بضرورة مزاولة الاعمال بمختلف اشكالها تحقيقا للتكامل الاقتصادي في الدينة، ثم الم يكن اهل المدينة اهل زرع وحرث حتى انه صلى الله عليه واله جعل الوزن وزن مكة والكيل كيل المدينة لانهم اهل زرع وهم اخبر الناس به. (7)

لكن مرد ذلك انه صلى الله عليه واله كان يصبوا الى تمتين اقتصاده وتطويره بما يحقق التنمية الفعلية وتحسين مستوى العيش لكل سكان دولته، بما في ذلك اليهود انفسهم - اهل خیبر - اي معالجة متوسط مستوى دخل الفرد في المجتمع في مفهومنا الحالي، وارتفاعه بنسب مذكورة تصاعدية عما كان سائدا قبل الفتح، فدخول خیبر ضمن معادلة ارض الدولة حقق امرين؟ الاول: هو دخول اصل نماء جديد، اي مورد اولي

ص: 274

يساعد على قيام نشاط اقتصادي مستمر محقق لقيم انتاجية نافعة للامة والمجتمع، تزيد من طاقاتها الانتاجية، التي تنعكس بدورها على تحسين مستوى الدخل في المدينة أو على اقل تقدير توفير مستلزمات الحياة الرئيسة - الغذاء - وان هذه القيم المنفعية، هي التي تشكل الزيادة في الانتاج بالمقارنة مع نسبة السكان، أي مسلمي المدينة المنورة، ثانيا: دخول قوة بشرية عاملة الى حدود الدولة، بمعنى ولادة قوة عمل منتجة صانعة للقيم الانتاجية والمنافع، وهم هؤلاء اليهود الذين شاركتهم الدولة الاسلامية في ناتج قوة عملهم مناصفةً لقاء بقائهم عاملين في ارض الدولة، والمناصفة في انتاج ارض خيبر من قوة عمل اليهود هو الفائض المتحقق لسكان المدينة، الذي حقق فعليا تنمية اقتصادية اسهم بشكل كبير في تطوير اقتصاد دولة المدينة وتدفع فيما بعد بحركة السوق وتنشيط الصنائع المختلفة فيه.

وبما ان الارض صارت بعد الفتح من فيء المسلمين، إلا انه ابقاها بید اهل الذمة لیستحصل على نافع ناتجهم، ثم لتكون سبب في معاشهم فلا يجوز تركهم بعد ان صاروا في ذمة الاسلام من غير مأوى يأويهم أو سبب يعيلهم، هذا الى جانب الرحمة في مفهوم النبوة «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (8)، وان ترك جمع کثيف من البشر من غير اسباب الكسب وطلب الرزق سيثقل كاهل الدولة، فكيف لها ان تعيل جموع البطالة والعاطلين عن العمل وهم قوة عاملة نافعة، القوة البشرية الفاعلة الجديد المسافة الى الدولة.

باختصار كان هذا البناء البشري والتغيير الحقيقي في الانظمة الاقتصادية التي اتبعها النبي صلى الله عليه واله على قاعدة للأيديولوجية الاسلامية التي فرضها الله سبحانه في محكم كتابه الكريم - مع تحقيق عدالة اجتماعية - هي التي حسنت جودة الانتاج وزادة قيمه المنفعية، ورفعت مستويات دخل الافراد بشكل ملحوظ عصر النبوة، ابتداءً من

ص: 275

توفير مستلزمات الحياة الملحة - الغذاء - وصولا الى السير نحو بناء اقتصاد متکامل بانت فيه بواكير النهوض والانتعاش نهاية مدة حياته الشريفة، التي رافقتها تنمية صحية ومعرفية ملموسة بين افراد الامة، فكانت دوافع الاستدامة في التنمية موجودة، ولو قُدر للأمور ان تسير وفق نصابها لكان وضع دولة الاسلام على نهجه السليم قد مضى حتى يومنا.

ومن هذا المنهل شرب علي بن ابي طالب عليه السلام، واعيا مدركا لكل جزئياته، فعمل على نهجه ولم يغير قيد انملة، ومصداق قولنا كم النصوص الواردة عنه قولا او فعلا بين طي الكتب، ولولا اننا معنيون فقط بوصيته لعامله على مصر مالك الاشتر رضي الله عنه لقيدنا منها ما يظهر انماط اوامره وافعاله في السير بالبلاد نحو التنمية الاقتصادية، في كل بقعة من الارض دانت لسلطان حكمه ونفاذ رأيه وأمره، لكن قبل ان نمضي قدما في فرضية بحثنا التي هي التنمية الاقتصادية في فكر علي بن ابي طالب عليه السلام دراسة في نصوص وصيته وعهده التي هي بمثابة دستور حکم اعطاها لعامله مالك وأمره الاخذ بها، نجد من الواجب والمفيد ان نتعرض لمفهوم التنمية الاقتصادية وفلسفتها إجمالا، ليتمكن القارئ او الباحث من فهم ما نكتبه وان امير المؤمنين عليه السلام قد وصل في فلسفته لإدارة الدولة إلى هذا المضمون الاقتصادي وحث عليه وأمر، كما اننا جعلناها معيارية وضابطة تحكم بحثنا، والشواهد التي تأتي بها من نص العهد المالك الاشتر، لثبات فكرة التنمية الاقتصادية عند أمير المؤمنين قولا وفعلا من عهده ذلك، علما ان عصر أمير المؤمنين علي عليه السلام کان ازهى عصور الاسلام اقتصاديا بعد النبي صلى الله عليه واله، ولو لا اننا في بحث مقتضب ومعني بالتنمية الاقتصادية في العهد فحسب لبينا بالأدلة المحاكية لواقعية ما جرى فعله اصلا على الارض أبان مدة حكمه للامة الاسلامية التي دامة اربعة سنوات، وعلى هذا فان منهاجه كان منهاجا مطابقاً لمنهاج النبوة.

ص: 276

مفهوم التنمية الاقتصادية وضوابطها:

ان الدافع وراء عرض مفهوم التنمية الاقتصادية باسلوب مبسط مقتضب هو لوضع معیارية وضابطة في شرح فرضية بحثنا، وقد سبق التنويه عن ذلك، فربما قال قائل: ان النصوص الواردة لأمير المؤمنين علي عليه السلام في متن هذا البحث قد اقحمت في غير محلها، وانها في بعدها الفلسفي لا تمثل هذا المفهوم - التنمية الاقتصادية - بل حتى في معناها اذا لم يكن باللفظ، فلا اثر لهذه الفكرة آنذاك، لذا نبين ان المعنى المؤدي هو نفسه لان الرؤية الاقتصادية كانت حاضرة في استدامة رخاء الاقتصاد ونماء انتاجه - خراجه - لتحقيق رفاهية الامة والناس، والاخذ بيدها، ووضع التدابير نحو التسارع في ازدياد قيم الانتاج لسد الحاجات واقامة الحياة الكريمة حتى للطبقة السفلى على حد وصفه عليه السلام التي كان يريد بها اقتصاديا المعوزين والفقراء، فامر عامله ان يراعي فيهم حقهم من الحاصل المتحقق من منافع الانتاج.

وقبل وضع المعايير والضوابط لابد من ايجاد تعریف مناسب نختصر فيه نقل آراء المختصين من فقهاء الاقتصاد في عصرنا الحديث وتعريفاتهم أو تعليلاتهم لهذا المفهوم موضوع البحث، والخوض فيها طويلا، الا انه يمكننا اجمال فكرتها بانها مجموعة اجراءات وتدابير اقتصادية هادفة الى تحقيق تغيير هيكلي في المنظومة الاقتصادية لبناء آلية اقتصادية تتضمن تحسين مستويات المعيشة بمقتضيات الزيادة الحقيقية في الناتج الاقتصادي للامة، والمؤدية الى رفاهية الفرد والمجتمع في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، على ان يكون التوزيع العادل لمنافع الانتاج والعمل هو الحاكم الاساس المعمول به في الدولة (9)، علما ان التغيير الهيكلي في الاسلام قد تحقق بالتحول من المضاربة على قاعدة الربا أو راس المال الحاكم الى قاعدة المساواة في حق العيش والعمل، واصل أيديولوجيته قد بينها القران الكريم تفصيلياً، اما عصر خلافة

ص: 277

امير المؤمنين فصار الحال العود به الى هذا النهج بدل العمل بالراي قبالة هذا أو الايثار على حساب الامة، أو لنقل: الاستمرار بإدامة هيكلية ذلك الاقتصاد، مع مراعاة عامل الزمان والمكان وطبيعة السوق السائدة وحاجات الناس الملحة، فلكل زمان شروطه اللازمة.

اي ان المفهوم المقصود - سواء في حال لفظه الحالي أو هيكلية الانظمة الاقتصادية الاسلامية وعملها في حينها - يسعى الى تحسين جودة الحياة التي تجري دفتها برفع مستوى الإنتاج، ليفي بتلية الحاجات الاساسية للأفراد، في الامة او المجتمع وتوزيعه بشكل عادل. (10)

اما ضوابط تحقيق التنمية فيمكن اجمالها بنقاط هي:

1- تخصيص القوانين والروابط التي تحكم العلاقات الاقتصادية المختلفة.

2- السياسة الاقتصادية.

3- العمل وفق فکر اقتصادي - أيدولوجية - وفي الاسلام الفكر الاسلامي. (11)

وتنفيذ أو يجاد هذه الضوابط ستقود بالضرورة إلى تحقق العوامل الاتية:

أ. رفع مستوى المعيشة بشكل يضمن توفير فرص عمل أكبر، وتعليما أفضل، واهتماما اوسع بقيم المجتمع الثقافية والانسانية - البشرية - التي تؤدي في نهايتها الى توفير الرفاهية المادية للأفراد والامة.

ب- زيادة في قيم الانتاج وتوسيع توزيع السلع الأساسية المساعدة والمقومة للحياة، مثل الغذاء والسكن والامن، على ان تكون هذه الزيادة بمستوى أعلى من مستوى النمو السكاني، فتباين الفرق بين نمو الاقتصاد ونمو السكان يولد الاستدامة في التنمية الاقتصاد.

ص: 278

ج- توسيع نطاق الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، لخلق فضاءات عمل، أو تطوير قطاعات الاقتصاد المختلفة وفق الفكر الاقتصادي المتاح في الامة، الذي سيخلص افرادها من العبودية والمحسوبية ويحررهم من الجهل والمعاناة الانسانية.

د- التوزيع العادل الناتج الامة واشباع الحاجات.

ه- ترشيد الاستثمار، اي استثمار الارض والموارد الاولية المتاحة وطاقة افراد الامة ومنهجتها، وفق تحديد المعايير الخاصة بتقييم الاستثمار، وتحديد أولويات الانتاج وضمان توافره، وتحديد منفعة الفرد الى جانب منفعة الامة. (12)

و- احترام عنصر العمل بوصفه الاساس لتحقيق المكاسب، لأنه من اهم عناصر الانتاج.

وهذه هي جملة الضوابط والعوامل ان وجدت في اي اقتصاد كانت التنمية الاقتصادية، سواء اطلقنا عليها هذا المفهوم بلفظه الحالي المعاصر ام بلفظ آخر، فالحاكم هو ايجاد السبل السالفة الذكر والاخذ بها وتفعيلها في اقتصاد البلدان في اي زمان ومكان.

التنمية الاقتصادية في ضوء العهد لمالك الاشتر:

مثل عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام لعامله الاشتر منهاجا عاما لسياسة دولته الاقتصادية، اذ كانت ضوابطها قاعدة نافذة في جميع المدن والاقاليم التي خضعت الإدارته عليه السلام.

ومن اولى تلك الضوابط التي وجدت في نص العهد وهي تطابق في عملها تلك التي بينها في مبحث تعریف مفهوم التنمية، تخصيص القوانين والروابط التي تحكم العلاقات الاقتصادية في جميع مظاهر انشطتها، سواء بين الانسان والالة - أو اصل النماء - وفق أمر العمل الصالح بمقتضى الامر الشرعي لتحقيق المنفعة الاجتماعية، أو الانسان وأخيه

ص: 279

الانسان في حقل النشاط أو الحرفة ذاتها، وبعبارة اخرى ان يحكم الدين والشريعة الاسلامية العلاقة بين الإنسان وعمله - العمل الصالح - لان العمل منعزلا عن روح الشريعة قد لا يصل به الى متوخي الاسلام من تحقيق المنافع المشتركة للامة من غير ان تترك اي ضرر سواء على الصعيد الاقتصادي او الانساني والاجتماعي.

إذاً وفق هذه القاعدة فان الرابط والقوانين التي أوصى بها امير المؤمنين عليه السلام، حد الله عز وجل في سياسة الاقتصاد و تحکیم قانونه في ممارسة الانشطة الاقتصادية، أذ امر عامله بضرورة مراعاة الله في اتباع ((فرائضه وسننه التي لا يسعد إلا باتباعها))(13) فقال له: ((وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الزمه الله من ذلك الا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه وثقل)) (14) والحق في هذا مجموع الاوامر الشرعية، ثم قال عليه السلام: ((واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور ... فالرد على الله، الاخذ بمحكم كتابه، والرد الى الرسول والاخذ بسنته الجامعة غير المفرقة)) (15)، فلزوم الطاعة لا تكون إلا بتحکیم قانون الله سبحانه، الجامع لكل معاملات المسلمين في العبادات واسباب الحياة الاخرى التي منها المعاملات الاقتصادية بوصفها من اهم الصلات الجامعة بين افراد الامة، المسببة الطلب الارزاق والمكاسب في الحياة الدنيا، إذ من غيرها لا يمكن للإنسان الاستمرار على البسيطة، وبهذا فالقوانين القرآنية هي الاساس الذي جرت عليه المظاهر الاقتصاد في الدولة الاسلامية تبعا لأيديولوجيتها.

اما سياسة الدولة في قيام مشروعها التنموي الاقتصادي في هذا العهد، فيتمثل بمجموعة الاجراءات والادوات والوسائل المعدة مسبقا لتسمح بتحقيق مجموعة من الاهداف المحددة للوصول الى استدامة تطور ناتج العمل بكيفية تتناسب و تطور المجتمع او الامة بشريا - منها زيادة نسبة السكان - وحضاريا، على أن هذه السياسة بأدواتها لم

ص: 280

تترك الرأي المطلق للعاملين في أي مجال كان، سواء في التشريع او الاقتصاد، وإنما نابعة من روح الفكر الاسلامية، فالنظرية الاقتصادية الاسلامية موردها الله عز وجل وقد حد حدودها في كتابه العزيز، لذا كان لازما لأولي الامر الاخذ في حدودها واتباع سياستها في وضع الادوات والوسائل المحقق للمنافع المستدامة وأخذ الاجراءات الموائمة لروح العصر الذي هو فيه بالنهج على فلسفتها، لان فيها رقي دولة الاسلام، و من هذا كانت سیاسة أمير المؤمنين عليه السلام في العمل، ووضع الاجراءات والوسائل المناسبة لرفع مستوى الانتاج والمكاسب للمجتمع، وقد تمثلت بالحفاظ على تنوع المكاسب واصناف الحرف والعمل الاقتصادي، وتسهيل مهمة كل منها في ممارسة نشاطها بحرية وفق معيارية السوق السائدة المتفقة مع الشريعة وصولا الى تحقيق اعلى مستويات الانتاج، وفرض مراقبة السوق ومنع الربا والاحتكار مع حرية العمل، وان للأفراد كافة حق في اسواقهم، وما الوالي في مكان عمله إلا مراعيا أمينا على مصالح الناس، ملتزما في تفعيل أدواته ووسائله في مراقبة انشطة العمل والمضاربة في السوق، فقال عليه السلام لمالك: ((وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل وعاقب من غير اسراف)) (16) ثم اوجب عليه السلام الاهتمام باهل المكاسب لانهم عماد السوق واصل التنوع في النشاط الاقتصادي وديمومته ومنعته، فقال لمالك: ((ولا قوام لهم جميعا [اي الامة] إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من اسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم [اي العمل] مما لا يبلغه رزق غيرهم)) (17) فالإشارة للتجار واصحاب المكاسب في هذا النص دالة على أهمية التنوع في المكاسب.

ثم بعد ذاك لابد من استدامة المرافق الانتاجية وعمارتها، واصل النماء والكسب في البلاد قبل النظر الى ناتجها، فكثرة الاستنزاف لموارد البلاد من غير اصلاح يضعف من

ص: 281

طاقتها في قادم الايام، واولها الارض، فكثير من نتاجها يشكل موردا هاما للصناعة وسبب لنقل البضاعة والتجارة من بلد الى آخر، فقال عليه السلام: ((وليكن نظرك [اي مالك] في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة، أخرب البلاد واهلك العباد، ولم يستقم مره الا قليلا)) (18)، وفضلا عن وسائل العمارة كان لابد لوالي مصر من ادراك ترابط المصالح بين افراد الامة كل بحسب فئته الحرفية والاجتماعية، وكل واحدة قائمة على الاخرى في معاشها وكسب قوتها، وسياستهم لا تكون الا بمراعاة تنوعهم، والفرض لهم من خراجهم الذي فرضه هم ممن تقع ارزاقهم عليه او المحتاجين من فاقة أو لسوء الم بتجارته او عمله، فقال عليه السلام: ((وأعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، منها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها الاصناف والرفق، ومنها اهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى وذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنته، تنبیه عهدا منه عندنا محفوظاً)) (19)، ومن جملة هذه النصوص تُبين ما أمر به أمير المؤمنين علي عليه السلام مالك رضي الله عنه وما عليه ان ينهج من سياسة، يسوس فيها اقتصاد البلاد والعباد، وما يتخذ من ادوات واجراءات ووسائل لتحقيقها.

أما ضابطة القانون القاضي تطبيقه في السياسة الاقتصادية، فالذي ظهر في كل ما قدمناه ان الشريعة الاسلامية هي الأيديولوجية الاسلامية المركزية للفقه الاقتصادي الواجب الحكم بها، إذ قال عليه السلام لمالك: ((فالرد على الله، الاخذ بمحكم كتابه، والرد الى الرسول، الاخذ بسته الجامعة غير المفرقة)) (20) وهذا ما قد سقناه سابقاً.

وبعد الضوابط، كان لابد لمالك الاشتر رضي الله عنه من عوامل لازم الاخذ بها

ص: 282

للوصول الى بناء تنمية اقتصادية حقيقة، وفي ذلك العصر تعني نمو الانتاج المحلي وزيادة وارداته، التي تضفي الى رفع المستوى المعيشي للأفراد وتكافؤ الفرص، وهذا من أول عوامل التنمية الاقتصادية، فقال أمير المؤمنين له: ((وتفقد امر الخراج بما يصلح أهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)) (21) وصلاح الناس من الخراج رفع لمستواهم المعاشي وتامين الحاجات الاساسية من الغذاء، سيما الطبقة التي وصفها عليه السلام بانها السفلى - اي انها تقع في اسفل اناس اقتصادياً لعوزهم وفقرهم، والا في غيرها فكل الناس سواء عند الله سبحانه - فقال: ((الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين واهل البؤسي، والزمني، فان في هذه الطبقة قانعا ومعترا، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد)) (22) فالرفع عن كاهل هؤلاء تدفع بنشاط الاقتصادي للبلد نحو الاتزان، وان تجعل منهم قوة عاملة لها القدرة على الإسهام في اصناف العمل بعد ان تأمن على قوتها وتصح ابدانها لوفرة الطعام، سيما اذا ما أتيحت لهم فرصة العمل.

ويلي ذلك عامل العدل والمساواة بين الناس ورضا الرعية، وان ما اتينا به أنفا فيه اشارات العدل والمساواة، واستزادةً من ذلك أمره عليه السلام القاضي باتباع الحق والعدل بين الناس، فقال: ((وليكن أحب الامور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية)) (23) وقال عليه السلام ايضا: ((واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، والطف بهم)) (24) وايضا ((انصف الله وانصف الناس من نفسك... ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عبادة)) (25)، وان ابلغ معنى في مفهوم هذا العامل قوله عليه السلام وهو يوصي مالك رضي الله عنه: ((وإن افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد)) (26).

ص: 283

ومن مظاهر المساواة في العهد لمالك، قول أمير المؤمنين عليه السلام له وهو يوصیه بالناس: ((فانهم صنفان اما اخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق)) (27)، ثم بیَّن له ان تمام الاستقامة باستشارة العلماء واستصلاح الناس ((واستصلاح اهلها)) (28)، اي احوالهم جميعها ومنها المعرفية، فقال في الاستشارة: ((واکثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكاء في تثبیت ما صلح عليه امر بلادك)) (29).

وكذا لابد للوالي من زيادة منافع الناس، ففي ذلك جلبة لخير البلاد، لان زيادة التي نقصدها هي زيادة في مستويات الانتاج، سواء كان ذلك برفع قابلية الارض على الانتاج بعد عمارتها، او بتسهيل السوق لأهل الصناعات والتجار، فمن هذه المنافع الواردة لبيت المال - الخراج - يقتات جند الامة فهم ((حصون الرعية ... وليس تقوم الرعية لا بهم)) (30) فقال الامام علي عليه السلام: ((ولا قوام للجند الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم)) (31) - والامن كذا من عوامل التنمية الاقتصادية - وهو ايضا عائد للصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ارباب الوظائف ((لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع)) (32) ناهيك عن الطبقة السفلى الذي قال عليه السلام فيهم: ((واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الاسلام)) (33).

ولا غرو ان عامل الزيادة في قيم الانتاج للمظاهر الاقتصادية كافة في البلد لا يمكنها ان تنشأ إلا بمراعاة ديمومتها وعمارتها ((فان العمران محتمل ما حملته)) (34)، وقبلها استصلاح الناس، ووضع استراتيجيات العمل بمقتضاها، فعهِد عليه السلام لمالك قائلا: ((وجاهد عدوها، واستصلح اهلها، وعمارة بلادها)) (35) وقال ايضاً: ((وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة)) (36) وهذا نص سبق ان سقناه، اما الناس واستصلاحهم واحوالهم فأمره عليه

ص: 284

السلام إن عانوا ضائقة فعليه العون والرفق، وقال: وان ((شكوا ثقلا أو علة او انقطاع شرب أو بالة او احالة ارض اغتمرها غرق، أو اجحف بها عطش، خفف عنهم بما ترجوا ان يصلح به امرهم، ولا يثقلك عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك... فان العمران محتمل ما حملته، وانما یؤتی خراب الارض من اعواز اهلها)) (37) والنص بيّن، سيما في القول: ان العمران محتمل ما حملته، اي انك بقدر عمر انك تأتي منافعك الى بيت مالك.

كما شدد عليه السلام على حرية حركة السوق والمضاربة فيه على نمطية قوانين الاسلام التي سبق وان بیناها، وذلك لزيادة ريع البلد وكثرة ودائع بيت ماله، وان يكون البيع ((سمحا بموازین عدل واسعار لا تجحف بالفريقين)) (38) اي على اساس السعر العادل الموافق لعملية العرض والطلب الموافقة لطبيعة السوق السائدة في البلد، بما يحفظ حق التجار والصناع والناس اجمع، وان يا من السوق من عوالق الخطر والركود والانهيار، فقل موصياً: ((فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه فنكل وعاقب من غير اسراف)) (39).

ومن العوامل الاخرى الهامة، توسيع نطاق الخيارات الاقتصادية، بمعنى تعدد أوجه ومظاهر النشاط الاقتصادي في الامة والبلد، والاتجاه به نحو الشمولية في الانتاج، بين زراعية وصناعية وتجارية، فإحداها تكمل الاخرى او تقومها، وما سقناه سابقا من نصوص يعوضنا عن الاطالة، اذ سبق وان قلنا ان امير المؤمنين قد استوصی مالك خيرا بالتجار والعمال من اهل الحرف والصناع ووصف بانهم ((موارد المنافع)) (40)، والزراعة ايضا، فقال عليه السلام لمالك: ((وليكن نظرك في عمارة الارض...)) (41) الى اخر الكلام الذي شرح فيه سبل الارتقاء بواقع الزراعة والعاملين فيها لجلب المنافع.

وبعد فان من العوامل التوزيع العادل لناتج الامة بين افرادها، واشباع الحاجات المختلفة، ونحن في خضم بحثنا أوردنا نصوص بینت وصية أمير المؤمنين المالك الاشتر

ص: 285

يحثه فيها على اشراك افراد الامة - مصر - بمواردها، فقال على سبيل المثال: ((وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله... لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)) (42) وقال عليه السلام ايضا: ((ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم)) (43) أو انه قال لمالك واجعل لهم قسما من بيت مالك وصوافي الاسلام في كل بلد، وبهذا نصل من العهد لمالك الى الانسجام بين مصلحة الفرد والامة، سيما في الجزء الذي جاء فيه ربط ارزاق الناس بعضها ببعض، فالجميع يعمل في منظومة اقتصادية تأتي نفعها للأفراد في الامة.

ومن النظرة العميقة للعهد الذي بين ايدينا نلحظ فكرة ترشيد الاستثمار، اي السياسة الموضوعة لتطبيق كيفية استغلال الموارد المتاحة للدولة، وتحديد کميتها ونوعيتها واصنافها، وكانت معياريتها الحديث في العهد عن تأمين العيش الآمن للسكان وتوفير كمية الانتاج الملائمة لحاجاتهم، فضلا عن اتساع نطاق عمارة الارض واستثمارها، وفتح المجال للتجار والصناع في العمل السمح وحمايتهم، وتحديد العائد المباشر منهم بوصف نشاطهم ومكاسبهم ((موارد المنافع)) (44) وهذا اصلا من محددات الاتجاه بحسب الاهمية في النشاط الاقتصادي، علما ان العائد المباشر كان يرافقه العائد الاجتماعي - المنفعة الاجتماعية - اذ سبق وقلنا ان في الوصية أو العهد ما يشير الى دفع افراد الامة نحو تعدد انشطتهم الاقتصادية التي فيها منفعتهم - منفعة الفرد - الى جانب منفعة الامة، كما انها لا تهمل عنصر العمل بوصفه الاساس في ايجاد المكاسب، فقال عليه السلام: ((وامض لكل يوم عمله)) (45)، وهذا في المطلق يدل على ان العمل هو الركيزة الاصل في نشوء الفوائد.

وختام بحثنا نكرر القول على الرغم من خلو العهد من لفظ تنمية إلا ان الضابط والمعيار الذي جعلناه شرطا لتقييم وجود فعل التنمية الاقتصادية من عدمه، قد دل يقينا انها تحاكي بالفعل مفهوم التنمية الاقتصادية وبأبعد صورها، اذ هدفت الى تحسين

ص: 286

مستوى الحياة للأفراد ورفع مستواهم المعاشي مع مراعاة مصلحة الفرد والامة على حد سواء، وبما ان العهد بقی آنذاك، بعد استشهاد مالك رضي الله عنه، بعيدا عن التطبيق في مصر، إلا أنه مثل سياسة امير المؤمنين اقتصاديا، والكوفة خير دليل على ذلك، ومن السهل لكل باحث ان يقيم له معیارية يقيس منها انماط الاقتصاد و مستوى التنمية اذا ما رجع الى المصادر التي تعنى بذلك.

ص: 287

ثبت الهوامش:

- راجع بن سلام، ابي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه)، کتاب الاموال، تحقیق، محمد عمارة، دار الشروق (بيروت: 1989 م) ص 376 - 379؛ الترمذي، محمد بن عیسی (ت 279 ه)، السنن، تحقيق بشار عواد، دار الغرب الاسلامي (بيروت: 1998 م) ج 3، 59؛ النسائي، ابو عبد الرحمن احمد بن شعیب (ت 303 ه)، السنن الكبرى، تحقیق حسن عبد المنعم، مؤسسة الرسالة (بيروت: 2001 م) ج 5، ص 323.

2- سورة البقرة، آية 30.

3- سورة النجم، اية 39.

4- ابن هشام، ابو محمد عبد الملك بن هشام (183 ه)، السيرة النبوية، تحقيق مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث (طنطا: 1990م) ج 2، ص 126 - 129.

5- ومن هؤلاء العلماء میر وکنید لیبرج، راجع احمد، كبداني سيدي، اثر النمو الاقتصادي على عدالة توزيع الدخل في الجزائر مقارنة بالدول العربية، اطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية العلوم الاقتصادية، جامعة ابي بكر بلقيد - تلمسان، الجزائر 2013، ص 20.

6- ابن اسحاق، محمد بن اسحاق بن يسار (ت 151 ه)، السيرة النبوية، قطاع الثقافة القاهرة: د/ ت) مجلد 2، ج 4، ص 146 - 156؛ مجلد 2، ج 5، ص 157 - 158؛ ابن هشام، السيرة النبوية، ج 3، ص 331 - 347.

7- ابو داود، سلیمان بن الاشعث بن اسحاق (ت 275 ه)، السنن، تحقیق محمد محي الدين عبد الحميد (بیروت: د /ت) ج 3، ص 246.

ص: 288

8- سورة الأنبياء، اية 107.

9- راجع الادهن، فرهاد محمد علي، التنمية الاقتصادية الشاملة من منظور اسلامي، مؤسسة دار التعاون للطباعة والنشر (القاهرة: 1994 م) ص 64 - 65، احمد، اثر النمو الاقتصادي على عدالة توزيع الدخل، ص 20.

10- راجع الادهن، التنمية الاقتصاد الشاملة من منظور اسلامي، ص 64.

11- راجع م. ن، ص 76 - 78.

12- راجع الادهن، التنمية الاقتصادية الشاملة، ص 82 - 100.

13- سوادي، فليح، عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الاشتر، نشر قسم الشؤون الفكرية بالعتبة العلوية (النجف:2010) ص 15.

14- م. ن، ص 20.

15- م. ن، ص 21.

16- م. ن، ص 25.

17- م. ن، ص 20.

18- م. ن، ص 23.

19- م. ن، ص 19.

20- م. ن، ص 21.

21. م. ن، ص 23.

22- م. ن، ص 25.

23- م. ن، ص 17.

ص: 289

24- م. ن، ص 15.

25- م. ن، ص 16.

26- م. ن، ص 21.

27- م. ن، ص 15 - 16.

28- م. ن، ص 15.

29- م. ن، ص 19.

30- م.ن، ص 19.

31- م. ن، ص 19.

32- م. ن، ص 19.

33- م. ن، ص 25.

34- م. ن، ص 24.

35- م. ن، ص 15.

36- م. ن، ص 23.

37- م. ن، ص 23 - 24.

38- م. ن، ص 25.

39- م. ن، ص 25.

40- م. ن، ص 25.

41- م. ن، ص 23.

42- م. ن، ص 23.

ص: 290

43- م. ن، ص 23.

44- م. ن، ص 25.

45- م. ن، ص 27.

ص: 291

ص: 292

الفكر الإداري عند الإمام علي (عليه السلام) وصيته لمالك الاشتر أنموذجا

اعداد ا. م. د أنمار عبد الجبار جاسم

ا. م. د ضرغام سامي عبد الأمير

ص: 293

ص: 294

ملخص البحث:

إن العهد العلوي يعد من أروع التشريعات التي سنَت للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، من هنا قررت الأمم المتحدة في بداية الألفية الجديدة توصية عالمية من قبل (كوفي عنان) للأنظمة في العالم بالأخذ به لما ورد فيه من قيم ومثل تؤسس للعدالة الإنسانية، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، والرأفة بالمجتمع، وتنظيم العلاقات الحكومية فالنظرية الإدارية التي شرعها، وقننها أمير المؤمنين، في الحكم. من حيث العدالة والمساواة والإخلاص بالعمل تعد من أروع وأعظم التشريعات والتعليمات والوصايا والعهود في التأريخ البشري، وقد أستقي منها الغرب والشرق دروس وعِبر في الكيفية التي يتولى فيها الحاكم وشرعيته وتعامله مع شعبه والإنسانية. فالإمام علي بن ابي طالب النموذج الإنساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامه، والفروسيه، والشجاعة ورجل الانسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سید الانبياء والمرسلين الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين اعجمي وعربي الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، لقد تربى سيد الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عمليا في أفعاله وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدى بها، لذلك اهتم البحث بالفكر الإداري للإمام علي واختار الباحثان وصيته (عليه السلام) الى عامله على مصر مالك بن الاشتر النخعي أنموذجا لهذا الفكر وتناولوها بمجموعة من المحاور وتوصلا إلى مجموعة من التوصيات في نهاية البحث.

ص: 295

المقدمة:

کتاب نهج البلاغة واحد من الكتب المهمة في التراث العربي الإسلامي، وكان له من الشهرة بحيث ذاع صيته في الآفاق الإسلامية، واهتم به العلماء من حيث شرحه والتعليق عليه، وهذا الكتاب جمعه السيد الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي العلوي (ت 406 ه) من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأصبح للكتاب أهمية كبيرة في مجال العلم والمعرفة فكان مادة غنية في المجالس العلمية.

وقد احتوى على مادة مهمة ورد فيها ذكر لبعض الشخصيات المهمة منها مالك الأشتر رضي الله عنه، فقد عهد إليه أمير المؤمنين عليه السلام بولاية مصر، ويعد هذا العهد جزء من كتاب نهج البلاغة، فقد ورد فيه وصية الإمام عليه السلام لمالك الأشتر بالترفق وحسن المعاملة مع أهل مصر، فكان هذا العهد كان نظام یُهتدى به، وشريعة يُجری عليها، وسنة يُأخذ بها، وفيه كنز ثمين لحسن السياسة وأدب الحكام. كما إن هذا الصحابي دور مهم في حياة الإمام علي عليه السلام حتى إنه لما سمع بخبر موت الأشتر قال: «لله در مالك، وما مالك لو كان من جبل لكان فندا، ولو كان من حجر لكان صلدا، أما والله ليهدن موته عالماً وليفرحن عالماً على مثل مالك فلتبكي البواكي»، فالحاكم يمثل الجموع بلا إستئثار أو فردانية أو إستغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها و تحقیق العدالة. لا كما تقوله الميكافيلية من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتية (الغاية تبرر الوسيلة) تخص الحاكم وكيفية قيادته وكأنما الناس قطيع وليس ببشر. أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي كما شرعها فلاسفة اللبرالية بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين الى الامام و خطوة الى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب إكذب حتى يصدقك الناس،

ص: 296

أو بديماغوجية الاعلام المضلل والمصالح الاستعمارية والاستعبادية التي جلبت مئات الحروب في تأريخنا الانساني وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرأى ومسمع الامم المتحدة والجمعية العامة والمنظمات الدولية، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الانسان، والفقراء بالارضلا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الالمم المتكسرة بصدورهم، فيما يجسد العهد العلوي أرقى التقنينات والاطر الانسانية لحياة يسودها الرخاء وينعم بها الانسان بالسعادة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي دون حروب أو عنف أو تسلط، فالفكر الإداري عند الإمام علي عليه السلام يمتاز بمتانته وتماسكه واستناده إلى قواعد منطقية رصينة، فجاء هذا الفكر متميزاً بخصائص قد لا يظفر بها أيُّ مفكر إداري غربي. فهو فكرٌ إنساني لأنه ينظر إلى الادارة بنظرة إنسانية، فالذي يتحرك في أُفق الادارة هو الإنسان ولیس الآلة، كما وأنّ نظرة الإمام إلى المؤسسة الإدارية، إنّها مجتمع مصغّر تتضامن فيه جميع المقومات الاجتماعية، كما وأن نظرته إلى الأداة أنها جهاز منظم وليس خليطاً مِن الفوضى، وأنّ هذا الجهاز هدفاً سامياً فالتنظيم لم يوجد عبثاً، بل مِن أجل تحقيق أهداف كبيرة في الحياة.

وسيتناول البحث شخصية مالك الأشتر ودوره في حياة الإمام علي عليه السلام، مع التركيز على عهد الإمام علي عليه السلام له من خلال نهج البلاغة، فضلاً عن الروايات التاريخية، متبعين المنهج العلمي التاريخي في تقصي الحقائق.

ص: 297

اسمه ونسبه وولادته:

هو مالك بن الحارث بن عبد يَغوث بن مسَلِمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن سعد بن مالك بن النخع بن مذحج بن يَعرُب بن قحطان. ولد في اليمن في بني نخع، الذين انتقلوا إلى الكوفة بعد امتداد الإسلام، ثم توزّع أفراد نخع على مدن العراق. لذلك تعد الكوفة موطنه. ولم تذكر لنا المصادر التاريخية تاريخاً محدّداً لولادته، والثابت إنه ولد في عهد ما قبل الإسلام. ويرى الشيخ عبد الواحد المظفر: أن ولادته كانت قبل البعثة، معتمداً في هذا الاستنتاج على قول مالك الأشتر لعائشة لما عاتبته في شأن ابن أختها عبد الله بن الزبير لما صرعه يوم الجمل (1):

فنجاه مني أكله وشبابه *** وإني شيخ لم أكن متماسكاً

وعمر عبد الله بن الزبير كان حينذاك (36) سنة لأنه ولد عام الهجرة، ومعركة الجمل كانت سنة (36 ه)، والشيخ الذي لم يتماسك لابد أن يكون عمره أكبر على أقل تقدير بالضعف، فيقدر عمره آنذاك بسبعين سنة، لذلك يكون قد ولد قبل البعثة، لأن المدة من البعثة إلى معركة الجمل (59) سنة. ويضيف المظفر: إنه ربما تجاوز هذا السن، لأن الإنسان عندما يبلغ السبعين سنة يكون شیخاً، لكنه لا يكون غير متماسك، فلا بد أن يكون حينها قد تجاوز السبعين (2).

إسلامه ومواقفه في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

أسلم على عهد الرسول وثبت على إسلامه ووصل في إيمانه درجة شهد بها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن هل كانت له صحبة ودور في عصر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)؟

هناك رأي يعتقد أن مالك الأشتر عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم

ص: 298

يره ولم يسمع حديثه، وذُكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنه المؤمن حقاً».

أما أبن حجر فذكر: أن مالك الأشتر سمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعل له صحبة، وكان ممن شهد بايع تحت الشجرة. ويبدو أن قول أبن حجر ومن أخذ برأيه هو الأقرب للحقيقة، لأن مواقفه تدل على تمسك وقوة وصلبة، كما أن مكانته بين الصحابة ودوره يثبت ذلك (3).

لقبه:

لُقِّب ب (الأشتر) لأن إحدى عينيه شُتِرَت - أي شُقّت - في معركة اليرموك. والتصق به هذا اللقب (الأشتر) حتى كاد لا يعرف إلا به، ولذا عندما صرخ ابن الزبير من تحت الأشتر: «اقتلوني ومالكا» لم يعلم أحد من الناس من يقصد ولو قال: اقتلوني والأشتر لقتلا جميعاً (4).

ولقب بألقاب أخرى، غير الأشتر، منها كبش العراق، وهي استعارة، لأن قطيع الضان يتبع الكبش، كذلك الجنود يتبعون الرئيس أو القائد. وقد تلقب مالك الأشتر بهذا اللقب بصفين. فعندما أقبل عمرو بن العاص في خيل من بعده، أقبل الناس على الأشتر، وقالوا يوم من أيام الأول، قد بلغ لواء معاوية حيث ترى، فأخذ الأشتر لواءه وحارب القوم حتى أجبرهم على العودة على أعقابهم. ولما كان مالك حامل راية الإمام علي عليه السلام وقائد قواته لذا لقب بكبش العراق (5).

وقال النجاشي في هذه الحادثة شعراً جاء فيه (6):

دعونا لها الكبش كبش العراق *** وقد خالد العسكر العسكر

ص: 299

فضلاً عن ذلك فقد ورد هذا اللقب في أبيات أخرى قالها مقاتل من أهل الشام في سواد الليل، جاء فيها (7):

ثلاث رهط هموا أهلها *** وإن يسكنوا تخمد الوقده

سعيد بن قيس وكبش العراق *** وذاك المسود من كندة

وهناك لقب آخر هو الأفعى العراقية، وجاء ذلك في شعر قاله مالك في نفسه، في معركة صفين (8):

إني أنا الأشتر معروف شتر *** إني أنا الأفعى العراقي الذكر

لست من الحي ربيعة أو مضر *** لكنني من مذحج الغر الغرر

صفاته:

وقد كان مالك رضي الله عنه يجمع بين اللين والعنف فيسطوا في موضع السطوة ويرفق في موضع الرفق.

كان طويل القامة، مهيب الطلعة، وقد كان فارساً مغواراً متمرساً على فنون القتال، واتصف بالشجاعة والشهامة، فلم يكن أحد يتجرأ على مبارزته وكان عالماً، شاعراً، وكان سيد قومه بلا منازع (9).

استشهاده:

بعد حياة حافلة بالعز والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوة والإمامة، كتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرِّفة، هي الشهادة. فكان لمعاوية طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، فبادر معاوية بإرسال الجيوش إليها، وعلى رأسها

ص: 300

عمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج ليحتلَّها. فكان من الخليفة الشرعي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن أرسل مالكَ الأشتر (رضوان الله عليه) والياً له على مصر. فاحتال معاوية في قتله (رضوان الله عليه) داشاً إليه سُمّاً، واختلفت الروايات فيمن نفذ أمر معاوية، فالبعض يرى أنه رجل من أهل الخراج يثق به، وهو الجايستار. وقيل: كان دهقان القُلزُم، وكان معاوية قد وعد هذا ألا يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفذ مهمته الخبيثة تلك. فسقاه السم وهو في الطريق إلى مصر. وقيل إن من نفذ المؤامرة نافع مولى عثمان بن عفان. فقضى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) شهيداً عام (38 ه). بينما ذكر البعض أنه استشهد سنة (37 ه). وهناك من ذكر أنه استشهد سنة (39 ه) (10).

موقف الإمام علي عليه السلام من خبر أستشهاد الأشتر:

ذكرت الرواية التاريخية، أن الإمام لما بلغه خبر استشهاد مالك الأشتر، حزن الإمام علیه حزنا شديدا. فجعل يتلهّف ويتأسف على فقدان الأشتر ويقول: «لله دُرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِندا، ولو كان حجَراً لكان صَلدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما، ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلتَبكِ البواكي «.وقال عليه السّلام بعد استشهاد مالك: «رحم الله مالك فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «.وكانت فرحة معاوية أشد، فقال عمرو بن العاص مُعرِباً عن شماتته: إنّ لله جنوداً من عسل وقال معاوية: إنّه لكان لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان: قُطِعت إحداهما بصِفِّين. يعني عمّار بن ياسر وقُطعت الأُخرى اليوم - يعني مالك الأشتر [بعد أن امتدّ العمر به فنال ما كان يتمنّاه أن يقضي مظلوماً على أيدي أعداء الله وقد حاربهم جهده، فاستجاب الله دعوته وأمنيته، إذ كان يقول: يا ربِّ جنّبني سبيلَ الفجرة ولا تُخيّبني ثواَب البررة واجعَل وفاتي بأكفِّ الكفرة (11).

ومن كتاب للإمام علي (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر لما بلغه توجّده من عزله

ص: 301

بالاشتر عن مصر، ثم توفي الاشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها: «وَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الاْشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ، وَإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الجَهْدِ، وَلاَ ازدِياداً لَكَ فِي الْجِدِّ، وَلَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ، لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلاَيَةً. إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً، وَعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً، فَرَحِمَهُ اللهُ! فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، وَلاَقَى حِمَامَهُ، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضونَ، أَوْلاَهُ اللهُ رِضْوَانَهُ، وَضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ. فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ، وَامْضِ عَلَى بَصيرَتِكَ، وَشَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ، وَادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ، وَأَكْثِرِ الاِسْتِعَانَةَ بِاللهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ، وَيُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ» (12).

أما عن قبره، فذكر أنه دفن في العريش، وقيل بالقلزم، وقیل نقل إلى المدينة فدفن بها، وقيل أنه ببعلبك، ويرجح الشيخ عبد الواحد المظفر أنه نقل إلى المدينة ودفن بها، لأن أصحابه يخافون أن يدفنوه في موضع يصل إليه معاوية، فيمثل به لشدة عداوته له (13).

مواقفه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان:

يعُدَّ مالك من بين المجاهدين الذين أبلَوا بلاءً حسناً في حروب الردَّة. فضلاً عن أنه ذُكر في جملة المحاربين الشُّجعان الذين خاضوا معركة اليرموك، وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم سنة (13 ه). وثمَّة إشارات تدل على أن مالكاً كان قبل اليرموك يشارك في فتوح الشام، ويدافع عن مبادئ الإسلام. وحينما كان المسلمون في الشام يقاتلون الروم، كان إخوانهم يقاتلون الفرس في جهة العراق، لذا احتاجوا إلى المَدد لمجابهة كسرى، فكان المدد الذي توجه إلى الشام ألفَ فارس. فيهم هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص، وقيس بن هُبيرة المُراديّ، ومالك الأشتر، فالتحقوا بجيش اليرموك الذي خفّ عبؤه بعد فتح دمشق، فتوجه إلى العراق ليحسم معركة القادسيّة هناك (14).

ص: 302

كما ذكر أن أبو عبيدة بن الجرّاح سَيَّر جيشاً مع مَيسَرة بن مَسروق العَبسيّ، فسلكوا درب (بغراس) من أعمال أنطاكية إلى بلاد الروم.. فلقي جمعاً للروم معهم عربٌ من قبائل غسّان وتَنُوخ وإياد يريدون اللَّحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثمّ لحق به مالك الأشتر النّخَعيّ؛ مدداً من قِبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية. فيما نقل ابن أعثَم في (الفتوح) أنّ الأشتر تزعّم جيشاً قوامُه ألف فارس ليفتح (آمُد) و (مِيافارقين)، فلمّا رأى مالك حصانةَ حصنِ آمُد أمر جيشَه بالتكبير وتعالت أصواتهم بالتكبير، فظنّ العدوّ أنّهم عشرة آلاف، فأرسلوا إلى الأشتر في طلب الصلح، وكذلك فعل أهل ميافارقين حيث صالحوه وانتهى الأمر بنصر المسلمين. وشهد فتح مصر واختط بها، وكان من الفرسان. وكان فيمن سار من مصر إلى المدينة المنورة في عهد الخليفة الثالث،. فحين دَبَّ الخلاف والاختلاف بين المسلمين، بسبب المخالفة للتعاليم القرآن الكريم وسنة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لم يَسَع الأشترَ السكوتُ، فجاهد في سبيل الله (15).

دوره في عهد أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام):

وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحكومته، كانت مواقف الأشتر واضحة جَليَّة المعالم، فهذا الرجل الشجاع أصبح جُندياً مخلصاً لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلم يفارق الإمام (عليه السلام) قطٌّ، كما كان من قَبلِ تَسَلُّمِ الإمام لخلافَتِهِ. فلم يَرِد ولم يصدُر إلا عن أمر الإمام علي (كرم الله وجهه) حتى جاء المدح الجليل على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان أن كتب (رضي الله عنه) في عهده له إلى أهل مصر، حين جعله والياً على هذا الإقليم (16):

«أما بعد، فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ

ص: 303

الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنفِروا فانفِروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري.»

وكتب عليه السلام له يوماً: وأنت مِن آمَنِ أصحابي، وأوثقهم في نفسي، وأنصحِهم وأراهُم عندي. كما أن الأمام علي (عليه السلام) ذكره بقول يبين رأيه فيه، وهي شهادة على ما كان يتصف به من صفات حيث جاء في كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى أميرين من أُمراء جيشه: «وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَعَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعَا، وَاجْعَلاَهُ دِرْعاً وَمِجَنّاً؛ فَإِنَّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ، وَلاَ سَقْطَتُهُ، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ» (17).

وهذه الأقوال الشريفة أنما هي أمثلة جاءت من مواقف مالك الأشتر المهمة في عصر الأمام علي (عليه السلام)، ومن أبرازها:

أولاً: كان من أوائل الذين بايَعَ الإمامَ علياً (عليه السلام) على خلافته لحقة، ويعرف عن مالك شدته في الحق وتعصبه للإمام علي ومن مظاهر هذه الشدة أنه كان يهدد المترددين والمتوقفين عن بيعة الإمام ويجبرهم على بيعته، لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمره بتركهم ورأيَهُم (18).

ثانياً: زَوَّد أميرَ المؤمنين (عليه السلام) بالمقاتلين والإمدادات من المحاربين في معركة الجمل، مستثمراً زعامته على قبيلة مِذحج خاصة، والنَّخَع عامة، فحشَّد منهم قواتٍ مهمة. فضلاً عن إنه وقف على ميمنة الإمام (عليه السلام) في تلك المعركة.

ثالثاً: وفي مقدمات معركة صفين عمل مالك الأشتر على إنشاء جسر على نهر الفرات ليعبر عليه جيش الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيقاتل جيش معاوية بن أبي سفيان. وكان له بَلاء حَسَن يوم السابع من صفر عام (37 ه) حين أوقع الهزيمة في جيش معاوية.

ص: 304

ولمّا رفع أهل الشام المصاحف، يخدعون بذلك أهل العراق، ويستدركون انكسارهم وهلاكهم المحتوم، انخدع الكثير، بَيد أن مالكاً لم ينخدع ولم يتراجع حتى اضطَرَّهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الرجوع. کما اضطُرَّ إلى قبول صحيفة التحكيم - وكان لها رافضاً - خضوعاً إلى رضى إمامه (عليه السلام). كما كان من المعارضين لوقف القتال في صفين واختاره الإمام حکما بينه وبين معاوية إلا أن الخوارج رفضوا هذا الاختيار الخوفهم من أن يتسبب الأشتر في تفجر الصراع من جديد بعد أن توقف بسبب طلب التحكيم (19).

مصر في عهد الإمام علي عليه السلام:

أثناء الصراع بين الإمام ومعاوية كانت أبصار الإمام تتجه نحو مصر التي بدأ يحرك فيها معاوية أنصاره بدعم من عمرو بن العاص الذي كان قد اتفق مع معاوية على أن يعطيه ولاية مصر مقابل الوقوف إلى جواره ضد الإمام علي (عليه السلام). وكان الإمام قد عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر وأقام مكانه محمد بن أبي بكر (20). إلا أن الواضح من سير الأحداث أن محمد بن أبي بكر لم تكن لديه القدرة التي تعينه على مواجهة مثيري الفتن والمتآمرين لحساب معاوية. وهنا قرر الإمام أن يرسل مالك الأشتر إلى مصر لحسم الصراع الدائر هناك وتسلم زمام القيادة من محمد بن أبي بكر. وقد أحدث هذا القرار هزة كبيرة لمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص اللذان كانا يخشیان مالك الأشتر أشد الخشية واضعين في حسابهم الآثار المترتبة على وصوله إلى مصر وتسلمه زمام القيادة في حكمها. لقد كان معاوية يدرك تماما أن وصول مالك إلى مصر يعني ضياعها وخروجها عن دائرة نفوذه، ومن ثم سعی عمرو بن العاص إلى تحريضه للعمل على الحيلولة دون وصول مالك الأشتر لمصر (21).

ص: 305

ومن عهد للأمير المؤمنين (عليه السلام) كتبه للأشتر النَّخَعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمّد بن أبي بكر رحمه الله، وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن (22). كما في النص الكامل للوصية.

وذكر ابن أبي الحديد أن معاوية بن أبي سفيان كان قد أخذ هذا العهد بعد قتل مالك الأشتر، وكان «ينظر فيه، ويعجب منه، ويفتي به، ويقضي بقضاياه وأحكامه. وهذا العهد صار إلى معاوية لما سم الأشتر ومات قبل وصوله مصر، فلما بلغ علياً عليه السلام أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزناً» (23).

خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):

يمتاز الفكر الإداري عند الإمام علي (عليه السلام) بمتانته وتماسكه واستناده إلى قواعد منطقية رصينة، فجاء هذا الفكر متميزاً بخصائص قد لا يظفر بها أيُّ مفكر إداري غربي. فهو فكرٌ إنساني لأنه ينظر إلى الادارة بنظرة إنسانية، فالذي يتحرّك في أُفق الادارة لا هو الإنسان وليس الآلة، كما وأنّ نظرة الإمام إلى المؤسسة الإدارية إنّها مجتمع مصغّر تتضامن فيه جميع المقومات الاجتماعية، كما وأن نظرته إلى الاداة أنها جهاز منظم وليس خليطاً مِن الفوضى، وأنّ لهذا الجهاز هدفاً سامياً فالتنظيم لم يوجد عبثاً، بل من أجل تحقيق أهداف كبيرة في الحياة. إستناداً إلى هذه الرؤية الشمولية عند أميرالمؤمنين (عليه السلام) فانّ الادارة هي كيانٌ حيّ ينبض بالحياة فهي متصفة بالصفة الانسانية والصفة التنظيمية والصفة الجماعية والصفة الهدفية. فهي إذن كيانٌ إجتماعي حي يعيش في وسط المجتمع يسعى مِن أجل أهداف كبيرة في الحياة. وسنأتي على توضيح أهم تلك الصفات فيما يأتي: (24)

ص: 306

أولاً: الصفة الإنسانية:

يمتاز فكر الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتناسق والتعاضد لأنّ رؤيته للحياة رؤية شاملة لكل أبعادها وأركانها وأجزائها. فالاقتصاد متداخل مع السياسة وهما يعتمدان على الادارة، فإذا ما تتبعنا حلقات فكر الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) لوجدنا أنها تستمد مِن رؤيته الثابتة عن الإنسان، طبيعته، وأساليب رقيه، مشاكله وكيفية مواجهته لها، فكان لابُدَّ مِن عرض رؤية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الإنسان قبل أن نستعرض نظريته في الادارة. ذلك لأنّ الادارة في المنظور الإسلامي ليست أدوات صماء، بل هي تقوم على أكتاف البشر، والبشر فيهم عوامل قوة وعوامل ضعف. وبقدر تفعيل عوامل الخير وتحريك الطاقات الكامنة في البشر تتقدم المؤسسات والمشاريع وهي بأجمعها رهن الادارة الجيدة.

فالمدير الجيد هو الذي يعرف طبيعة الناس الذين يتعامل معهم، ويعلم ما الذي يُحركهم وماذا يثبّط عزائمهم يعرف متى يتقدمون ومتى يتأخرون وما مِن نظرية إدارية قائمة عَلى رؤية أصحاب هذه النظرية إلى الإنسان، فالرأسمالية الاحتكارية التي تنظر إلى الانسان ككتلة مُن اللحم الصماء تتعامل معه بطريقة خاصة تقوم على هذه الرؤية، فهي لا تُعير أهمية للمحفزات المعنوية التي تدفع بالإنسان إلى الأمام عشرة أضعاف المحفزات المادية. إذن النظرية الإدارية المتكاملة هي التي تبدأ أولاً بالإنسان. ماهيته، وممّ يتكون، وكيف يتعامل مع الحياة وماهي مشاكله وكيف يتقدم وماهو السبيل إلى توجيهه الوجهة الصحيحة. (25)

ص: 307

ثانياً: الصفة التنظيمية:

يبتدأ الفكر الإداري في الإسلام بالتركيز على النظم والنظام، فأكبر مصداقٍ للنظم هو تنظيم شؤون الدولة وأُمور المجتمع، وقد جاء الاسلام بهذه الفكرة يوم كانت الفوضى هي الحالة السائدة في البلاد العربية، وتقدّم المسلمون لأنهم كانوا أكثر تنظيماً من غيرهم، إنتصروا في الحرب لأنهم أوجدوا نظاماً للقتال. وانهالت عليهم الثروات لأنهم وضعوا نظاماً للاقتصاد يقوم على تحريك الموارد المجمدة التي كانت بيد الأغنياء واستطاعوا أن يوجدوا دولتهم لأنهم أقاموها على أساس مِن التنظيم ونشروا العلم لأنهم وضعوا نظاماً للتعليم. وهكذا سادت الادارة المنضبطة سائر أرجاء البلاد الاسلامية بفضل الحث المتواصل على التنظيم والنظام. ويمكننا القول بكل ثقة: بفضل التنظيم إستطاع المسلمون أن يكتسحوا العالم ويوصلوا الإسلام إلى آخر بقعةٍ مُن بقاع الأرض. وعلى هذا النسق أعار أمير المؤمنين (عليه السلام) إهتماماً كبيراً لنظم الأُمور و تنظیم الشؤون حتى أنه لم ينس أن يوصي أولاده وأصحابه وجميع المسلمين في آخر كلمة له قبل أن يرحل إلى الرفيق الأعلى بنظم أمرهم. (26)

ثالثاً: الصفة الجماعية:

لا تنشأ الإدارة إلاّ بين جمع مِن الناس، ولابُدّ لهذا الجمع مِن روابط تربطهم، وكلما قوي هذا الرابط قويت الجماعة وأصبحت الادارة متيسرة على المدير. فالجماعة هي البيئة التي تنشأ فيها الإدارة، وبدون مراعاة هذا الجانب تصبح الادارة أشبه ما تكون بمعادلة حسابية، وقد وُجّهت إنتقادات إلى المفكر الألماني (ماكس فيبر) عندما لم يهتم بالبيئة الاجتماعية التي تنشأ فيها الإدارة فجاء نموذجه في البيروقراطية. تُنقصه الروابط الانسانية. كذلك يؤخذ على (تیلر) إتجاهه إلى مكننة الانسان في المعمل. وقد زخرَ فکر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بنصوص كثيرة في مجال المجتمع والجماعة، وهي بحدّ

ص: 308

ذاتها تكوّن لدينا دراسة متكاملة عن المجتمع ودور الفرد في الجماعة، لكن سنقتصر على النصوص التي نحتاجها في تأكيد الصفة الاجتماعية في الادارة. فالادارة التي نستقي أبعادها من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هي التي تنشأ في رحم المجتمع والجماعة. وقد أشرنا سلفاً أن المفردة الاجتماعية تحتل مساحة كبيرة من فكر الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان علينا أن نقتطف ما ينفع دراستنا وهو الاشارة إلى ضرورة وجود المجتمع للحياة، وعوامل تكوين الجماعة، وتصنيف المجتمع وما إلى ذلك من الموضوعات التي سنأتي على ذكرها: (27)

رابعاً: الصفة الهدفية:

الحياة لم تُخلق عبثاً، فهي لم تخلق بالصدفة - كما يذهب البعض - ولا خلقتها الطبيعة العمياء - كما يقول آخرون - ولم تخلق الدنيا نفسها - كما هو رأي البعض - بل خلقها خالق قدیر متعال، عالم قادر رازق حكيم عادل، فمن الخطأ أن يعتقد المرء بأنّ لهذا الوجود خالق ثم يقول باللاهدفية، فأينما رميت ببصرك فثمة دليل قاطع على هدفية الكون والحياة، هذا ما يؤكده لنا في كلماته الرائعة. ومن خلال هذا العهد المبارك وما ورد فيه من فقرات تتضح لنا الرؤيا الادارية للامام علي (عليه السلام) فيما ياتي (28):

الرأفة بالرعية:

يقنن الامام للعالم في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) إسلوب الحكم والرأفة بالرعيه في نسق علمي ومعرفي وحضاري، تنهل جميع الشعوب من عهده المبارك الذي يعد اهم وثيقة تأريخيه في اقامه العدل والمساواة، إستقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي صك لحقوق الانسان المستل من الشرع المقدس. كما ورد في القرآن الكريم (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى

ص: 309

وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).

يذكر الشيخ المفيد: فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:

بسم االله الرحمن الرحيم

سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لاينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لانابي الضرس ولاكليل الحد، حليمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لايقدم ولا يحجم إلا بأمري، فقد أثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (29)

التجارة والحياة الاقتصادية:

بالطبع سايكولوجيه النفس البشريه مجبولة على حب المال، والسلطه؛ لذلك يقع المحذور دوما من خلال الانجراف وراء المغريات الماديه عند الحاكم او سواه الا الانبياء والمعصومون ومن ينهج وفق الجادة المستقيمه ويتصف بالنزاهة والاخلاص، من هنا وثيقة العهد العلوي هي محاولة تأسيسيه معرفيه وفكريه واخلاقيه وروحيه لتجنيب الحاكم الهفوات في ادارته، وهي وصايا بالرفق بالتجار، والاغنياء، والفقراء، وادارة

ص: 310

الشؤون الاقتصاديه بحنكة ودرايه دون التفريط بأي حقوق. فالعامل الاقتصادي له الدور الاساس في تلبية حاجات الناس وإشباع رغباتهم وتوفير المواد والمستلزمات الضرورية لأدامة الحياة، وقد أكد على منع الاحتكار والتلاعب بالاسعار واللهاث وراء الجشع وكان الامام يقول: لو كان الفقر رجلا لقتلته!!. وماجاع فقير الا بما مُتع غني فما ورد بالعهد الشريف مثالا على ما اقوله (30).

سترضي بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا والمقيم بهم والمضطرب بماله والمترفق بيديه فإنهم سواد المناخ أسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك ويحرك شهبك وجيلك وحيث لايلتم الناس لمواضعها ولايحترثون عليها فإنهم سلم لالتحاق یا ثقة وصلح لا تخشى عائلته وتقصد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك أن كثير منهم ضيقاً فاحشا وشحاً قبيحاً احتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب معزه إنعامه و بحيث على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه واله) منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين البذل ولا يحيف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فشكل به وعاقبته في غير إسراف ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين وأهل البؤس والزمن فان هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ لله ما ستحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من نحلات صواني الاسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للادني وكلاً قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر فانك لاتعذر بتضيعيك التامة لاحكامك الكثير المهم فلاتشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد امور من لا يصل أليك منهم ممن تقتحمه. العيون وتحقره الرجال من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية احوج إلى الانصاف من غيرهم وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه اليه وتعهد اهل اليتم وذوي

ص: 311

الرقة في السن ممن لا حيلة لهه ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على اقوام طلبوا العافية فصيروا انفسهم ووثقوا بصدق موعد الله لهم واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفزع لهم بيه محصر وتجاس لهم مجلسا عاما، فتواضع فيه لله الذي خلقك وتقصد عنهم جندك واعوانك احراسك وشرطك متى يكلمك متکلم غير متمتع فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متمع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونج عنهم الفرق والانفة يبسط الله عليك بذلك اکتاف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته واعط ماعطيت هنيئاً وامتع في اجمال واعذار. ثم امور من امورك لابد لك من مباشرتهم منها اجابة عمالك منها يعيا عنه كتابك ومنها: اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك فيما تخرج به صدور اعدائك لكل يوم عمله فان لكل مافيهثم انظر في حال كتابك امورك خيرهم، واخصصت رسائلتك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق فمن لاتبطره الكرامة فيجتري بها عليك في خلافلك بحضرة ملاء ولاتقصر به الغفلة عن ایراد امکانیات عمالك عليك، واصدار جواباتها عل الصواب عنك فيما يأخذلك ويعطي منك، ولاتضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن اطلاق ماعقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور فان الجاهل بقدر تقره يكون بقدر غيره اجهل. بالنفس فيقول الوالي مالي وللبلاد وعمراتها اليوم هنا وغداً لاعلم اين المقر فلابد من جمع المال على عجل اما جشعا وحباً في المال او طلباً لارضاء من قوته بالتملق والتظاهر بالاخلاص في اداء الواجب اوليذل الرشاد والهدايا لحواشي الملوك والحكام ليدفعوا عنه طائلة الحساب، او يكفوا عنه اذي الوشاة ويؤكد عليها ان ذلك سبيل معوج وسیاسة فاشلة ويستكثر على الولاة للسالكين هذا السبيل عدم اتعاطتم بمن كان قبلهم واعتبارهم بها تالوه من الفشل وسوء المنقلب (31).

ص: 312

الكاتب والمفكر بنظر الامام علي (عليه السلام):

للفكر والعلم والثقافة والادب حيز في العهد العلوي الشريف، فالكاتب الورع والعالم الناصح صوت للشعب والرعية، أما أديب السلطان وبوقه فهو مضلل ومنتفع من الفتات الذي يغدق عليه وبالتالي تغيب الحقيقة ويضل الحاكم بغيه ويمارس الاستبداد لتتورم عقدة الذات وبالتالي يصبح دكتاتورا ماردا. فلابد من وجود کاتب بارع بمختلف وسائل المعارف خبير بأحوال الرجال، محيط بما يجد من الاحداث والامور ورتبة الكاتب اليوم في مكتب رئاسة الوزراء وزير الدولة والمستشار الشخصي أو الاعلامي ولهذا تجد امير المؤمنين يؤكد اهتمامه في ان يكون كتاب ولاته حاوین لافضل الصفات، والملكات الثقافية، والمعرفية، يرى ضرورة توفرها فيمن يشغل هذا المنصب، بأن لاتیطره الكرامة والمركز الذي يحصل عليه من الوالي فيجاهر بالعصيان والمخالفة والتشدق والتباهي بل التواضع يسمو بالكاتب والعالم والمفكر، وان لا يكون من العقل إلى درجة التهاون باداء واجباته اليومية، كما يوصي عليه الوالي امتهان كاتبه واظهار احتقاره يملأ من الناس في نقض تصرفاته وانتقاصها ويرى (عليه السلام) اهم صفة في الكاتب والموظف القريب من الحاكم ان يكون عاقلا متزناً لايجهل قدر نفسه، فمن يجهل قدر نفسه فهو بقدر الغير اجهل. يذكر المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم (حين تتنوع مسؤوليات الوالي، وتتعدد فإنه يعمد في علاقاته بالناس إلى استخدام أدواته السياسية والوظيفية، فتنشأ شبكة من الاداريين والمسؤولين الثانويين، الذين يكونون البيروقراطية الجديدة المحيطة بالوالي، فتحلّ مراكز جديدة بالمعنى السياسي والاقتصادي تؤثر على التوجه السياسي العام للوالي، فتحرفه كما تشاء إرادتها ومصالحها فالبيروقراطية المصلحية، المنتفعة بلا مشروعية، هي آفة السلطة) (32).

ص: 313

ويحذر العهد العلوي من:

الخيانة وقلدته عار التهمة وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله فان في صلاحه وصلاحاً لمن سواهم لمن سواهم الابهم لا بالناس كلهم عيال على الخراج واهله وليكون لمنظرك في العمارة و من طلب الخراج بغیر عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا فان شکوی ثقلا او علة اوانقطاع شرب او حالة ارض اغتمرتها غرق او جحف بها عطش خفقت عنها بما نرجو ان يصلح بها امرهم ولايثقل عليك شيء خفقت به المؤنة فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزين ولايتك ماحملته وانما یؤتی خراب الارض من اعواز اهلها وانما يعوز اهلها لاشرف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر وتحديد مابل ذو البلاء منهم، فان كثرة الذكر في افعالهم تهز الشجاع وتحرض التاكل ان شاء الله ثم اعرف لكل امرىء الى غيره ولاتقتصرن به دون غاية بلائه ماكان صغيراً ولاضيعة امري الى ان تستصغر بلائه مان عظيما. واردد الى الله ورسوله مايخلعك من الخطوب ويشتمل عليك من الامور فقد قال الله تعالى لقوم احب ارشادهم (يا أيها الذين آمنوا اطیعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منکم فان تنازعتم في شي فردوه الى الله والرسول) فالرد الى الله الاخذ بحكم كتابه والرد الى الرسول الاخذ بسنته الجامعة غير المقرقة ثم اخذ اختر للحكم بين الناس. (33)

الضرائب وإثقال كاهل الرعية:

أكد الامام على الرفق بالمجتمع بجميع النواحي الاقتصادية، والاجتماعية، والتشريعية. ومنها الضرائب الباهضة الاتاوات نظام الاكراه کما تفعله النظم الفاشية والدكتاتورية والتوليتارية التي تستعبد البشر. فالرحمة واللين والصفح من سمات الحاكم الرؤوف. يقول: د. جورج جرداق في كتابة - الامام علي صوت العدالة الانسانية (أيها الدهر، ليتك كنت تجمع كل ما أوتيت من قوة. وأنت أيتها الطبيعة ليتك تجمعين كل

ص: 314

قواك ومواهبك لخلق إنسان عظیم. نبوغ عظیم. بطل عظيم. ومن ثم ليمنح الوجود مرة ثانية رجلاَ كعلي). (34)

لذلك بقول: عذر المعتذر والكف عن ارهاق المواطنين بالضرائب والرسوم الثقيلة خاصة اذا تعرضت معاملهم الى العطل والافات من انقطاع شرب: أي ماتشرب منه وتسقى به الانهار والابار أي مايبل الارض من ندی ومطر في الارض افضل رعيتك في نفسك ممن لاتضيق به الامور ولا تمكنه الخصوم ولايتمادى ولايحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بادعاء فهم دون اقصاه وقفهم في الشبهات واخذهم بالحجج واقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم على تكشف الامور واحرمهم عند اتضاح الحكم محده لايزد ه اطراء ولا يستميل إغراء وأولئك قليل ثم اكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل مایزیل علته وتقل معه حاجته الى الناس، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك لياس بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان اسيرا في ايدي الاشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا. ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختیارا، ولا تولهم محاياة وإثره قاتهم جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منهم اهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فانهم اكرم اخلاقا واضح اعراضاً واقل في المطامع اشراقا وابلغ في عواقب الامور نظيرا فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعزالدين ورجال الامن وليس تقوم الرعية الاهم ثم لاقوام الجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه خيما يصلح ويكون من وراء حاجتهم ثم الاقوام لهذين الصنفين الا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكموا من المعاقب ويجمعون المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوام الاقوام لهم وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من اسوامهم ويكفونهم

ص: 315

من الترفق بأيديهم مالا يبلغه رفقا غيرهم. (35)

ثم الطبقة السفلي من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من ذلك الاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه او ثقل قول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولا مامك واتقاهم حسيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطیعن العفيف ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقصد به الضعف. ثم الصق بذوي الاحساب واهل البيوتات الصالحه والسوابق الحسنه ثم اهل النجده والشجاعه والسخاء والسماحه فأنهم جماع من الكرم وشعب من العرف. ثم تفقد من امورهم ما يتفقد الولدان من ولدهما ولا يتفاقم في نفسك شي قويتهم به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتم به وإن قل فأنه داعية لهم الى بذل النصيحه لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطیف امورهم إتکالاً على جسيمها فأن لليسير من لطفك موظعاً ينتفعون به و للجسيم موقعاً لايستغنون عنه وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وافضل عليهم من جندك فيما يسعهم وما يسع من ورائهم من خلق اهليهم حتى يكون همهم هماً وأخذاً في جهاد العدو فأن عطف عليهم يعطف قلوبهم عليك وإن أفضل قوة عين الولاة أستقامة الورك في البلاد وظهور مودة الرعية وانهم لاتظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصبح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الامور وقلة أستثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم فافسح في امالهم واوصل في حسن الثناء عليهم مثل ارائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم واوزارهم ممن لم يعادون ظالماً على ظلمه ولااثما على اثمه أولئك اخف عليك موؤنة واحسن لك معونة واحنى عليك عطفاً واقل لغيرك الغاً فاتخذ اولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك يقول: الشيخ ايه الله محمد باقر الناصري في كتابه عن العهد العلوي (ينهى (عليه السلام) عن استيراز

ص: 316

من كان للأشرار قبلك وزيراً خاصة منهم من شارك في إثم أو عان في الظلم فإياك واتخاذهم بطانة فإنهم قلما يصلحوا وعلى فرض صلاحهم فان الناس لا يركنون أليهم ویرون فيهم مثل الانتهازي المتلون وذلك يجر الطعن على الدولة ويشجع الخصوم على التشهير بالحكم وانك بمقياس الفضيلة والتقوی ستجد حينما تطلب خيراً منهم ممن لم يعادون ظالماً على ظلمه). (36)

المال العام وسرقته:

يقول الشهيد الدكتور علي شريعتي: الامام علي بمحنه الثلاث كتب الى بعض عماله يهدده بالقتل لما بلغه من انه اختلس من بیت المال (فاتق الله وارده إلى هؤلاء القوم اموالهم فأنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لاعذرن إلى الله فيك ولاضربنك بسيفي الذي ماضربت به أحداَ الا دخل النار) الخيانة الاقتصادية في الاموال العامة حكمها القتل عند علي إنها مسألة فقهية، اقتصادية، حقوقية وإجتماعية. (37)

في عهد علي عليه السلام كان التساوي في الاستهلاك كما كان التساوي في العطاء، والجميع شركاء في بيت المال. يذكر العلامة هادي المدرسي (ومن هنا كان قرار الامام علي عليه السلام العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة إلى نظام المساواة قراراَ هامّاَ، لأَنه كان يعني انقلاباَ اجتماعيّاَ بكل ماتعنيه الكلمة. كما كان ردّ فعل ملأ قریش وأبنائهم ضد الإمام وقراره هذا بداية الثورة المضاده ضدّ حكمه، والّتي قادها ابن أبي سفیان (معاوية) من موقعه، وفعل مع الإمام مافعله أبوه مع رسول الله، ومافعله ابنه فيما بعد مع الإمام الحسين عليه السلام إن الحاكم، والمسؤول، والوزير، والموظف الذي يسرق من المال العام هو يسرق شعب بأكمله لان المال الجميع شرکاء به، فكثرة السراق اليوم تدمي القلب. وتحزن الشريف. وتدعو الى الوقوف بوجهها من قبل جميع المؤسسات الحكومية والشعبية. يذكرأ - محمد دكير: في مناقشته لكتاب الحكومة لمحمد

ص: 317

جواد لاريجاني ص (642) (38) (مسألة كفاءة الحكومة مرتبطة بالأركان الأساسية لعمل الحكومة أي:

1- فهم الوضع الحقيقي.

2- اختيار الوضع المنشود.

3- كيفية التخطيط لبرنامج العمل وتنفيذه.

وقد عالج المؤلف قضايا مرتبطة بهذه المفاهيم لأنها تتعلق بالبحث العام في أسس فاعلية أي نظام، مثل دور الخبرة والتَخصص، البرمجة، صناعة القرار فإنتشار الفساد المالي، والاداري، والتزوير، والتحريف، في عالمنا المعاصر دلیل انحراف عن المثل والقيم الانسانية التي شرعنها الله وأرساها الرسل والأئمة من أجل حفظ الحقوق وعدم التعدي على العباد والبلاد.

ص: 318

الخلاصة:

ان العهد العلوي يعد من أروع التشريعات التي سنت للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، من هنا قررت الامم المتحدة في بداية الالفية الجديدة توصية عالمية من قبل (كوفي عنان) للأنظمة في العالم بالاخذ به لما ورد فيه من قيم ومثل تؤسس للعدالة الانسانية، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، والرأفة بالمجتمع، وتنظيم العلاقات الحكومية.

التوصيات:

1- على كل حاکم يدعي بأنه مسلم الالتزام بتحقيق العدالة بين جميع افراد المجتمع وفق القيم والمثل التي أسس لها القرآن الكريم وعدم الاستئثار بالسلطة ومنافعها الزائلة.

2- على الحكومات تدريس العهد العلوي لمالك الاشتر بجميع المراحل الدراسية ليتعلم الابناء ماهية الواجبات و ماهية الحقوق.

ص: 319

الهوامش

(1) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بیروت 2008، ص 12.

(2) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بیروت 2008، ص 22.

(3) أبن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 ه). الإصابة في معرفة الصحابة، دار العلوم الحديثة، القاهرة، 1328 ه، 3/ 482، ص 234.

(4) ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (ت 630 ه). الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، ص 125.

(5) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، إيران، د.ت، ص 21.

(6) المرزباني، ابو عبد الله محمد بن عمران بن موسي (ت 384 ه/ 944 م)، معجم الشعراء، تحقیق عبد الستار احمد فراج، عيسى البابي وشركاه، القاهرة، 1960، ص 29.

(7) ان عبد ربه، شهاب الدين احمد بن محمد الأندلسي (ت 328 ه/ 939 م) العقد الفريد، دار ومكتبة الهلال، بیروت 1986، ص 43.

(8) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، إيران، د.ت، ص 20.

(9) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بیروت 2008، ص 44.

(10) الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه)، تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو

ص: 320

الفضل إبراهيم، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 4/ 308، ص 56، الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بيروت 2008، ص 127.

(11) ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبي الفضل احمد بن علي (ت 852 ه). فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الكتب العلمية، بيروت، 1989، 2/ 159، ص 127.

(12) ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبي الفضل احمد بن علي (ت 852 ه).

التقريب، بيروت، 1989، ص 34.

(13) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بيروت 2008، ص 39.

(14) البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه). فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983.

(15) ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي (ت 314 ه/ 927 م). الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند د.ت، ص 65.

(16) البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه). فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت 1983، ص 87.

(17) ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي (ت 314 ه/ 927 م). الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند د.ت، ص 69.

(18) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، 18/ 95.

ص: 321

(19) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، إيران، د.ت، ص 65.

(20) ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي ت 314 ه/ 927 م الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، د.ت.، ص 35.

(21) ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (ت 630 ه). الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، ص 14.

(22) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بيروت 2008، ص 31.

(23) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، 18/ 95.

(24) أبن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 ه)، الانباه على قبائل الرواة، المكتبة الحيدرية، النجف 1966، ص 87.

(25) المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه/ 957 م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 4، مطبعة السعادة مصر 1964، ص 96.

(26) ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي ت 314 ه/ 927 م الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، د.ت، ص 65.

(27) أبن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 ه)، الانباه على قبائل الرواة، المكتبة الحيدرية، النجف 1966، ص 95.

(28) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني

ص: 322

(ت 656 ه/ 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، 18/ 95، ص 95. (29) ابن عبد ربه، شهاب الدین احمد بن محمد الأندلسي (ت 328 ه/ 939 م). العقد الفريد، دار ومكتبة الهلال، بیروت 1989، ص 123.

(30) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1909، 18/ 95، ص 99.

(31) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بیروت 2008، ص 65.

(32) المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه/ 957 م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقیق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 4، مطبعة السعادة مصر 1964، ص 65.

(33) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمی للطباعة، بیروت 2008، 87.

(34) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، 18/ 95، ص 119.

(35) الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بیروت 2008، ص 75.

(36) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار

ص: 323

إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، 18/ 95، ص 92.

(37) علي شريعتي، الامام علي بمحنه الثلاث، دار الاعلمين، بيروت 2000، ص 54.

(38) محمد دكير، الحكومة لمحمد جواد لاريجاني، دار التراث، بيروت 1999، ص 77.

ص: 324

المصادر:

1- ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي ت 314ه/ 927 م الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، د.ت.

2- ابن حجر، شهاب الدين أبي الفضل احمد بن علي العسقلاني (ت 852 ه/ 144 م)، التقريب د.م، د.ت.

3- ابن عبد ربه، شهاب الدین احمد بن محمد الأندلسي (ت 328 ه/ 939 م). العقد الفريد، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1986.

4- المرزباني، ابو عبد الله محمد بن عمران بن موسى (ت 384 ه/ 944 م)، معجم الشعراء، تحقيق عبد الستار احمد فراج، عيسى البابي وشركاه، القاهرة،1960.

5- المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه/ 957 م)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط 4، مطبعة السعادة مصر 1964.

6- نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، إيران 1989.

7- الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه)، تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 4/ 308.

8- أبن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 ه). الإصابة في معرفة الصحابة، دار العلوم الحديثة، القاهرة، 1328 ه، 3/ 482.

9- الشيخ عبد الواحد المظفر، قائد القوات العلوية مالك الأشتر النخعي، مؤسسة الأعلمي للطباعة، بيروت 2008.

10- أبن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 ه)، الانباه على قبائل

ص: 325

الرواة، المكتبة الحيدرية، النجف 1966.

11- ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (ت 630 ه). الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.

12- ابن اعثم، ابو محمد احمد الكوفي (ت 314 ه/ 927 م). الفتوح، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، د.ت.

13- ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبي الفضل احمد بن علي (ت 852 ه). فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الكتب العلمية، بيروت، 1989، 2/ 159.

14- ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه/ 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م 1959.

15- البلاذری، احمد بن یحیی بن جابر (ت 279 ه)، فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بیروت، 1983.

16- الحموي، شهاب الدين ابو عبد الله یاقوت بن عبد الله الرومي البغدادي (ت 626 ه/ 1228 م). معجم البلدان، دار صادر، بیروت 1955.

17- المرزباني، ابو عبد الله محمد بن عمران بن موسي (ت 384 ه). معجم الشعراء، تحقیق عبد الستار احمد فراج، عيسى البابي وشركاه، القاهرة، 1960، ص 363.

18- محمد دكير، الحكومة لمحمد جواد لاريجاني، دار التراث، بیروت 1999.

19- علي شريعتي، الامام علي بمحنه الثلاث، دار الاعلمين، بیروت 2000.

ص: 326

القيادة والإدارة الناجحة في فكر الامام علي (عليه السلام )

اشارة

حنان عباس خيرالله

ص: 327

ص: 328

المقدمة

ان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سعى إلى وضع أسس ودعائم الدولة المتحضرة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان واحترام إنسانية الإنسان، وقد سعى الإمام عليه السلام سعياً حثيثاً في سبيل تحقيق ذلك، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة، إذ عاداه مجتمعه الذي تعود على نظام الطبقية.

انّ الإمام عليه السلام، قد سبق العصور والأزمنة بفكرة الثاقب ورؤاه العظيمة، إلاّ ان المجتمع آنذاك لم يكن متفهماً وواعياً بما فيه الكفاية لما كان يريده الإمام عليه السلام، وبالنتيجة لم يستفد ذلك المجتمع من تلك الوصايا النورانية التي تعد بحق لبنات بناء الدولة المتحضرة.

وتعدّ العدالة المحور الأكثر بروزا في منهج حكمه عليه السلام، وقد بلغ من اقتران اسم الامام أمير المؤمنين عليه السلام بالعدالة، وامتزاجه بها، قدراً كبيراً، إذ صار اسم على عنواناً للعدالة، وصارت مفردة العدالة توحي باسم (علي) صلوات الله عليه.

لا تزال الفرصة سانحة، وبإمكان عالم اليوم المليء بالحروب والدمار والأزمات، أن يعود إلى ذلك النهج النير، نهج الإمام علي عليه السلام، فهو يكفينا لإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وكذا العودة إلى كتابه إلى واليه على مصر، الشهيد مالك الأشتر رضوان الله عليه، لننهل من ذلك المعين العذب، وهو يوصي عامله على مصر بأدق الأمور، وفي شتی میادین إدارة الدولة.

ص: 329

مفهوم القيادة

تعددت وتنوعت واختلفت تعاريف مفهوم «القيادة» وذلك حسب اختلاف الزمان والمكان ولكن في مجمل التعاريف نجد أنها تركز على عدة عناصر أبرزها: فن إدارة الأفراد، تحقيق الهدف باستخدام الكفاءة العالية، تحمل اقل التكاليف أو الخسائر.

التعريف اللغوي للقيادة:

هي كلمة يونانية الأصل مشتقة من الفعل «يفعل» او يقوم بمهمة ما «والقيادة حسب رأي (ارندت) تقوم على علاقة اعتمادية تبادلية بين من يبدءا الفعل وبين من ينجزه، اما معناها في اللغة العربية» فالقود هو نقيض السوق، يقود الدابة من أمامها ويسوق من خلفها، إن القود من أمام والسوق من خلف، والانقياد معناه الخضوع، وجمع قائد قادة وقواد». (1)

تعريف القيادة اصطلاحا

القيادة: هي منصب ذو سلطه قانونية والتي من خلالها يمارس القائد سلطته على مرؤوسيه بفضل رتبته ومنصبه، وأيضا القدرة على التأثير على الآخرين،، والقائد لا يمكن ان يكون قائد اذا قام بجهود قليلة لإدارة مرؤوسيه وإلهامهم، بل عليه ان يبذل الجهود المضنية لكي يصبح قائدا (2).

وهي أيضا «الأخذ بالزمام والسير نحو غاية مرسومة» والقائد عند العرب الأقدمين هو «المرشد، الدليل، الهادي» (3).

ويبدو أن أبسط تعريف للقيادة هو أن نقول: "هي عملية تحريك الناس نحو الهدف". (4)

ص: 330

وقالوا في القيادة أيضا: «ليست القيادة خلق شيء بقدر ما هي خلق رجال أو السيطرة عليهم وحبهم والحول على محبتهم وعظمه هذه المهمة ناشئة عن توحيد الصفوف في سبیل واجب مقدس» (5)

يحمل معنى القيادة في الفكر الإسلامي بعضا من المعاني المتعلقة بهداية الناس وإرشادهم وتولي أمورهم، ومن معانيها ما يلي:

الإمامة:

ويؤخذ منها (الإمام)، وتعني: «من يأتم الناس به من رئيس أو غيرة، ومنه إمام الصلاة»، ويعني أيضا: الخليفة. (والامامة) تعني: "ریاسة المسلمون" (6).

وتعني (الإمامة) أيضا: «التقدم والقصد إلى جهة معينة» وكذلك «الهداية والإرشاد» وكذلك «الأهلية لان يكون المرء قدوه».

(7) والإمام يعني هنا: من يؤم الناس ويقتدي به في أمور الدين والدنيا وهو أيضا قائد المسلمين وهاديهم ومرشدهم وزعيمهم ورئيسهم الأعلى وحاكمهم، والدليل على أن منصب الإمام في الإسلام أمر لا غنى عنة ويستحيل انتفائه، هو أن صلاتهم لا تصح بدون (إمام)، فلا بد من شخص يتولى إمامتهم في الصلاة وعليهم أن يطيعوه ويقتدوا بة ولا يجوز مخالفته وعصيانه.

قال تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وقال أيضا: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ».

قال تعالى: مخاطبا إبراهيم علية السلام: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا». (8)

ص: 331

الولاية:

وتعني في اللغة «السلطان» ومنها الولي وهو كل من ولي أمرا أو قام به، وكذلك الوالي أي الذي يتولى أمر البلاد والعباد ويرعى شؤونهم.

والوالي هو القائد والمتصرف بشؤون الناس والقائم على رعايتهم وإرشادهم، وفي ذلك يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «كلكم راع ومسئول عن رعيته،...» رواة البخاري.

مما سبق يبدو لنا أن القيادة في الإسلام تعني في جملتها: كل من يتولى شيئا من أمر المسلمين العامة، فالإمام قائد، والأمير قائد، والمرأة في بيتها قائدة لأسرتها، والعبد الذي يرعی مال سيدة قائد، والموظف العام قائد في إدارته ومكتبة، ورب الأسرة قائد لأسرته، وقائد الجيش والشرطة قائد، ... الخ، فالقيادة هنا المسؤولية التي توجب على من يحملها ان يقوم بها بأمانة وإخلاص ويرعاها حق رعايتها، وصولا بهذه المجموعة التي يتولى شانها الى الأهداف التي تطمح الوصول إليها.

هذا وقد ارتبطت القيادة في الإسلام بالجندية ارتباطا وثيقا لان أمر الجيش يحتاج إلى قائد بارع، محنك، حازم، كفؤ، قوي، ولذلك فان قائد الجند في الإسلام هو صاحب مدرسة ورسالة، ولنا في رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القدوة الحسنة، فلقد كان الرسول الكريم هو المعلم الذي تنزل علية الوحي برسالة الإسلام ليبلغها للناس وصاحب المدرسة التي تخرج فيها قادة أمم وأبطال حرب ورجال إصلاح وعلماء وفلاسفة ورواد حضارة» (9)

ص: 332

الفكر القيادي عند الامام علي (عليه السلام)

لقد تأكد للجميع ان الامام امير المؤمنين علي عليه السلام وفق السنة المطهرة خير البرية وهو وصيه ووراث علمه وهو الذي يتمتع بكل صفات القيادة الناجحة، وهو القائد الشرعي المفترض الطاعة.

اعتمد الامام امير المؤمنين عليه السلام في منهجه للحكم اختياره لعناصر الدولة الناجحة ومنها النظرية الاسلامية المستمدة من القران الكريم لما يتضمنه القران من مؤشرات واضحة في السياسة والحكم والقضاء والقانون والاخلاق وما يتضمنه من المبادئ العامة التي تصون المجتمع وتحفظه من الازمات.

وقال الامام علي (عليه السلام): «يا أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الامر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله» (10).

فالعمل السياسي والفكري النهضوي الذي يستهدف في تحرکه اقامة الدولة والمجتمع الصالح يتطلّب قيادة اسلامية عالمة بالاحكام والقوانين التشريعية ومصادرها الاساسية، لأن الأحكام والتشريع هو العمود الفقري لجسم الدولة وهو يحدد مسيرتها وأطارها الفكري العام. والفقيه، العالم هو صام الأمان لتنفيذ مبادئ الشريعة على أساس قدراته الفقهية التشريعية الفذة حتى لا تتخبط مسيرة الدولة في متاهات القوانين الوضعية..

ص: 333

الشروط التي يجب ان تتوفر في الحاكم

ان الامام علي (عليه السلام) وضع شروطا في نهج البلاغة يجب ان تتوافر في الحاكم الصالح وهي:

1- ان يكون کریم النفس لئلا يدفعه الطمع وشدة الحرص على العدوان على اموال المسلمين.

2- ان يكون عالما لأنه قائد المسلمين الاعلى لذا يجب ان يهديهم ولو كان جاهلا لأضلهم.

3- يجب ان يكون رحب الصدر لين العريكة.

4- ان يكون عادلا في اعطاء الاوامر فيساوي بين الناس في العطاء ولا يفضل قوما على اخر على حساب اخرین استجابة لشهوات نفسه وميول قلبه.

5- ان يكون نزيها في القضاء فلا يرتشي لان ذلك يؤذن بذهاب العدل في الاحكام.

6- ان يكون عالما بالسنة فيجري الحدود ولو على اقرب الناس اليه ويعطي الحق من نفسه كما يطلبه من غيره وفي هذا قال الامام عليه السلام:

7- ((وقد علمتم انه لا ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل فتكون في اموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوم. ولا المرتشي بالحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الامة)) (11).

ص: 334

وظائف الحاكم عند الامام علي (عليه السلام)

تقديم المصالح العامة

مما يوجب على الحاكم سن القوانين والمقررات، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان الحقوق العامة والأخذ على يد مخالفي القانون فيما إذا طالت عامة الأمة بعض الأضرار والخسائر .

ولذلك كان يوصي مالك الأشتر واليه على مصر بالعمل الجاد الذي يجلب رضی العامة، وإن استبطن سخط الخاصة، وذلك لأن هذا المعنى أقرب للعدالة وأبعد عن الظلم والجور: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها الرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة) (12).

ويطالب الحاكم في موضع آخر بالحيلولة دون تدخل خاصته وبطانته من الذين يتصفون بالأنانية وعدم مراعاة الإنصاف في المجالات الاقتصادية، ولا يهمهم سوى ضمان مصالحهم الشخصية في الشؤون الاقتصادية للبلاد. وكذلك اجتثاث جذور الظلم المتأصلة فيهم من خلال إغلاق كافة السبل التي تمهد لتحقيق أطماعهم وجشعهم: (ثم أن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال) (13).

إعانة الفقراء

يؤكد الإمام (عليه السلام) على الحاكم أن يولي اهتماما فائقا لفقراء المجتمع، بهدف إجراء العدالة الاجتماعية في مجالها الاقتصادي. في حين يقود عدم الاكتراث لهذا الأمر

ص: 335

وعدم الاهتمام بالفقراء وإيجاد السبل التي تكفل رفع حالة الفقر عنهم بالتدريج، الى شیوع المفاسد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تفشي الجريمة في المجتمع. ولذلك يوصي الولاة باستخدام أفراد يضطلعون بهذه الوظيفة، ليمدوه بالتقارير والمعلومات المفصلة التي تستعرض أوضاع الفقراء والمعوزين بغية تلبية حاجاتهم والقضاء على فقرهم.

مما لا شك فيه أن هذه الطبقة إنما استحقت هذه العناية الخاصة بفعل ضعفها وعدم قدرتها على المطالبة بحقوقها، وعليه فالحاكم مكلف بالنظر في أمرهم وإحقاق حقوقهم، والحذر من أي غفلة وإهمال بهذا الشأن: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنی... فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك الا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم) (14).

التساهل والرفق

المحور الآخر من محاور وظيفة الحاكم تجاه الأمة الرفق بالناس حين التعامل معهم، عليه ألا يكلف الأمة فوق طاقتها بما يرهقها ويثقل كاهلها، وإن أدني ما يترتب على الرفق بالأمة كسب ودها و ثقتها. الأمر الذي يجعل الحاكم يشعر بالدعم والإسناد الذي يتطلبه في مواقع الحاجة: (واعلم أنه ليس شي بادعى الى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المكونات وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم) (15).

وقال (عليه السلام) بشان الضرائب وضرورة التخفيف من عبئها على الأمة: (فان شکوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب... خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شي خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك... فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به) (16).

ص: 336

إن الرفق والتخفيف عن الأعباء لا يختص بالأمور المادية فقط، بل يشمل حتى الأمور العبادية ومراعاة أحوال الناس، وهذا ما أكده وطالب به ولاته حيث قال: (وإذا قمت في صلاتك للناس، فلا تكونن منفرا، ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سالت رسول الله حين وجهني الى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما) (17).

المباشرة بالنظر في أمور الناس ومعالجة مشاكلهم:

یری إن إحدى وظائف الحاكم تتمظهر في سماعه مباشرة لشكاوى الناس والنظر فيها بدون واسطة: (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع) (18).

تعليم الناس وإيقافهم على الحقائق:

الوظيفة الأخرى التي يمارسها الحاكم إنما تتمثل في تعليم الأمة وجعلها ملمة بأغلب الأمور، وهناك أسلوبان يمكن من خلالها تحقيق هذا الأمر. احدهما: الأسلوب التعليمي الذي يمكن ملاحظته من خلال تأكيدات الإمام (عليه السلام) لولاته بالاهتمام بهذا الموضوع. فقد جاء في تأكيده لوالي مكة: (أما بعد، فأقم للناس الحج وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك الى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها (19).

كما يجب إيقاف واطلاع الأمة على الحقائق. فقد تسود المجتمع بعض حالات سوء الظن تجاه الحاكم أو الحكومة، الأمر الذي يتطلب منه ممارسة وظيفته في كشف النقاب

ص: 337

عن الأمور الغامضة التي تساور أذهان الناس.

فقد أوصى مالكا بهذا الشأن قائلا: (وإن ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك و اعدل عنك ظنونهم باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك) (20). وقد كان هذا الأسلوب مشهودا في سيرة الإمام علي (عليه السلام)، بحيث لم تطرأ أدنی شبهة لأي من الأفراد، إلا وانبرى لإزالتها والقضاء عليها من خلال التعرض لها بكلماته أو كتبه ورسائله التي كان يبعثها.

اساسيات القيادة الادارية

الرقابة:

أما الرقابة وصيانة الحقوق و الواجبات الاجتماعية تُعدُّ من أساسيات النظام السياسي الإسلامي، وقد بذل الاسلام جهوداً حثيثةً في سبيل ضمان الحقوق الفردية والاجتماعية للمجتمع، وعلى سبيل المثال، اننا عندما ندرس النصوص النبوية. فان هناك اهتماماً واضحاًمن قبل الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لتنظيم الاقتصاد الاسلامي وتطبيقه في مجالات متعددة حتى لا يتم استغلال و احتكار البضائع من قبل المتلاعبين بالسوق.

وفي رسالة الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر، لما أراد توليته على مصر أمره (عليه السلام) أن يردع المحتكرين، و يقف أمام تصرفاتهم بحزم و قوة. إذ قال (عليه السلام): «.. فامنع من الاحتكار، فان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازین عدل، و أسعاره لا تجحف بالفريقين، من البائع و المبتاع، فمن قارف کره، بعد نهيك إياه، فنكل به، و عاقبه من غير اسراف..» (21).

ص: 338

هذه النصوص التاريخية، تدلل على الذهنية الاجتماعية التي تتحرك من خلالها القيادة الاسلامية، المتجسدة بشخص الامام علي (عليه السلام) لتنظيم الحياة الاقتصادية في المجتمع على أساس المتابعة الميدانية اليومية لوضع حداً للتلاعب بالشؤون الاقتصادية العامة التي تحرك اقتصاد المسلمين آنذاك، وهذا ما يمكن فهمه من خلال بعض اللقطات الفكرية للقرآن الكريم كما في حركة نبي الله شعیب (عليه السلام) قال تعالى: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» (22).

وقوله تعالى: «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ..» (23).

فقد كان أصحاب الأموال و التجار يستغلون المستضعفين، و يتعدون على حقوقهم من خلال التطفيف كحالة لها ترويج لا يستند الى أي قاعدة و منطلق صحيح لهذا أراد شعيب أن يكون و يحقق معنى العدالة الاجتماعية في الجانب الاقتصادي الذي هو عصب حياة الناس والذي تستوفي منه الدقة في المتابعة والصيانة الذي يتحرك من خلالها القائد الرسالي لتثبيت أواصر الاخوة و تحقيق العدالة..

کما رفض الامام بشدة سلبية المجتمع تجاه الخطأ اياً كان مصدره او التردي من أي جهة يأتي، إذ يقول مخاطباً ابناء الامة: «وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تغضبون... [ويحملهم المسؤولية قائلاً] وكانت امور الله عليكم ترد و منكم تصدر واليكم ترجع، فمکنتم الظلمة من منزلتكم او القيتم اليهم از متكم وسلمتم امور الله في ايديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات" (24) وقال الامام: «ايها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم» (25).

ص: 339

ان تحميل الامام ابناء الامة مسؤولية الانحراف او الخطأ في المجتمع بشكل عام وقياداته بشكل خاص، ليس بعيداً عن منح الامام للامة الحق في تقييم العمل والاداء السياسي بموضوعية وعقلانية قبل اتخاذ موقف ما، إذ قال (عليه السلام) «اذا رأيتم الخير فأعينوا عليه. واذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه» (26) و «رحم الله رجلاً رای حقاً فأعان علیه او رأي جوراً فرده» (27)، ويبلغ الامام درجة في انصاف الامة تاركاً لها حق تقييم ادائه ففي احدى خطبه (عليه السلام) يقول: "اما بعد فاني خرجت من حيي هذا اما ظالماً او مظلوماً واما باغياً او مبغياً عليه، وانا اذكر الله من بلغه کتابي هذا لما نفر الي، فان کنت محسناً اعانني وان كنت مسيئاً استعتبني» (28).

ان الامام لم ينظر إلى مسألة المراقبة الدقيقة من الامة للحاكم وسياسته على انها حق فحسب، ولكنها واجب كذلك. وترافقت هذه النصوص القانونية مع سيرة عملية مميزة للامام فقد كان يطالب الأمة بمراقبته قائلاً: «یا اهل الكوفة ان خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فانا خائن» (29).

فالاسراف والتعدي الخطير لهذا المرض الاجتماعي يتطلب من القيادة العقائدية الموقف الرسالي الحازم لفرض صيانة عقائد الناس وتنظيم حياتهم الاخلاقية والاجتماعية، لأنها قد تتعرض في بعض الظروف لحالات الانهيار بعدما تداخلت فيها بعض الثقافات المادية المنحرفة وأننا عندما ندرس حالة المجتمعات الغربية التي أطلقت الحريات سواء كان في جانبها الاقتصادي أو الجنسي، فان مجتمعاتها لا زالت تعيش مشاكل مادية و نفسية جسيمة، والتي تثير حولها المشاكل الاجتماعية الفكرية نتيجة لهذه الانحلالية والاباحية المطلقة والتي تستدعي الى الصيانة وتنظيم العلاقات على ضوء الاسس الصحيحة والسليمة لضمان حياة مجتمع أفضل.

ص: 340

المساواة والعدالة:

عانت البشرية منذ فجر تاريخها الطويل الكثير من ألوان الظلم و الطغيان نتيجة الممارسات الحكام الظلمة عبر هذا التاريخ، لهذا كانت البشرية بحاجة ماسة الى العدل والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد، وهذا ما يتطلب وجود حاکم عادل لقيادة البشرية نحو شاطيء الامان. ومن أهم الشروط لتولي منصب القيادة العامة للمسلمين أن يكون الحاكم عادل في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية، و خلق جوّ المساواة بين أفراده.. قال القلقشندي الشافعي من ضمن ما ذكر من شروط في صفاة الحاكم: «العاشر العدالة: فلا تنعقد امامة الفاسق، وهو التابع لشهوته، المؤثر لهواه من ارتكاب المحظورات والاقدام على المسكرات، لأن المراد من الامام مراعاة النظر للمسلمين، والفاسق لم ينظر لنفسه في أمر دينه، فكيف ينظر في مصلحة غيره!» (30).

وقال عبد القادر البغدادي والثاني - العدالة والورع و أقل ما يجب له من هذه الخصلة أن يكون ممن يجوز قبول شهادته تحملاً و أداءاً» و «كما يستفاد من روايات اشتراط العدالة فيما امامة الجماعة فلئن كانت العدالة شرطاً في الامامة لصلاة الجماعة فما ظنك بإمامة الامة في حلها و ترحالها و التصرف في مقدّراتها، و تؤيد هذا الشرط رواية سدير» (31).

والرواية مروية عن أبي جعفر (عليه السلام) إذ قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح الامامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، و حلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم» (32).

من الاولويات و المهام الاساسية التي تكون مورد اهتمام القيادة الاسلامية هي اقامة العدل، وتحقيق المساواة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، وهذه الخصوصية تعد من

ص: 341

اساسيات وجود الدولة الاسلامية قال تعالى: ﴿إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما﴾ (33)

وهذه هي القاعدة والمنطلق لأصول الحكم وأخلاقيته في المفهوم الاسلامي فلا يحق للقائد التجاوز على الحدود الشرعية والقواعد الاساسية في الفكر الاسلامي، لانّ هناك رقابة الهية مستمرة ترقب تحركات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو الامام (عليه السلام)، أو القائد الفقيه، وتسدده في خطواته ما دامت تنسجم مع الخط الاسلامي الصحيح.

ففي حديث للامام الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إذ قال لعمر بن الخطاب: «ثلاث أن حفظتهن و عملت بهن كفتك ما سواهن وان تركتهن ينفعك شيء سواهن قال: وما هن يا أبا الحسن؟ قال: «اقامة الحدود على القريب و البعيد و الحكم بكتاب الله في الرضا و السخط والقسم بالعدل بين الاحمر والاسود» قال عمر: لعمري لقد أوجزت و أبلغت» (34).

فإقامة العدل ركيزة من ركائز الاسلام. لانها تعزز وحدة الأمة، و تذوب شخصيتها في الكيان الاسلامي الذي تجسد القيادة الاسلامية الواعية وجوده من خلال الخصائص الاساسية لقيام الدولة الاسلامية، و تحقيق معنى المجتمع الاسلامي الصالح.

ص: 342

العلاقة الإنسانية ومودة الأُمة

هناك ترابطٌ قوي بين اهتمام الوالي بالعدل والإحسان وبين ظهور مودة الرعية للوالي ونصحهم في ذلك، وقد قال علي (عليه السلام):

(وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیَّةِ، وَإِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، وَلَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ) (35).

وينفكّ عن هذا الارتباط الجندي الذي لا يمكنه التضحية في ساحة الوغى أو النصح لولاته إذا كان لا يرغب بهم ولا يميل إلى ودهم، حيث يستثقل وجودهم مع دولهم ويتمنّى زوالها لّما عاناه منهم.

أما إذا كان الأمر عكس ذلك، فإنهم (لا يستبطوا انقطاع مدتهم، بل يعدون زمنهم قصيراً يطلبون طوله) (36).

حيث ربط الإمام علي (عليه السلام) بين ما سبقَ وما لَحق من تبادل النصح والمحبة بين الجند والوالي، وبين ما يتبع ذلك من واجبات وحقوق، فالقائد الذي له صفاتٌ جيدةٌ له أثرٌ كبيرٌ على المعنويات والمجتمع بصورة عامّة.

التعاون بين الحاكم والشعب

يقول الامام علي (عليه السلام): ((واعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقوق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاما لا لغتهم وعزا لدينهم فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية فاذا ادت الرعية الى الوالي حقه وادى الوالي اليها حقها

ص: 343

عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت واعتدلت معالم العدل وجرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الاعداء واذا غلبت الرعية واليها او اجحف الوالي برعيته اختلفت هناك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثرة الادغال في الدين وترکت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الاحکام وكثرت على النفوس)) إلى أن يقول: "فعليكم بالتناسخ في ذلك وحسن التعاون عليه ثم يقول ولكن من واجب حقوق الله على عباده النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على اقامة الحق بينهم" (37).

فعلى الرعية ان تعطي الوالي ما عليها من حقوق فتطيعه اذا امر و تجيبه اذا دعا وتنصحه اذا استنصحها وعلى الوالي اذا حصل على ذلك ان يستغله في اصلاح شؤون رعيته ولكن حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها لا تلبي دعوته اذا دعاها فان الوالي سيكون مضطرا لان يمضي وقته في رعاية مصالح نفسه ويهمل مصالح رعيته وينتج عن ذلك شيوع الظلم وسيطرة الظلمة وانحراف وفساد الدولة.

ص: 344

الخاتمة

مما سبق تبين لنا أن الادارة عند أمير المؤمنين(عليه السلام) ليست فعلاً ميكانيكياً بل هي مجموعة صفات وخصال تمتزج فيما بينها للحصول على المدير الجيد والإدارة الجيدة، وهذه الصفات هي التنظيم، فلا إدارة بدون تنظيم ونظام، فإذا حل نقص التنظيم حلّت محله الفوضى.

وكذلك الانسانية بمعنى ان الذي يتحرك ويفعّل الادارة هو الانسان وليس الآلة، فكان لابُد من معرفة الانسان والتعريف على نقاط قوته ونقاط ضعفه، فالإدارة الجيدة التي تحاول أن تستثمر نقاط القوة في أعضائها وتعالج نقاط الضعف فيهم.

أن الادارة تشكل بمجموعها مجتمعاً منظماً تنشأ فيه العلاقات الانسانية وتنمو فيه الروح الجماعية. وعندما تتحرك هذه الادارة كأنها المجتمع بأسره قد تحرك وهذه النظرة تخالف أولئك الذين ينظرون إلى الادارة وكأنها متكونة مِن أجزاء بشرية متناثرة لا يربطها رابط سوى القوانين الصارمة، كما هي البيروقراطية.

لابد أن يكون للإدارة هدفاً وأن يكون هذا الهدف منسجماً مع أهداف الانسان في الحياة، وبالتالي يجب أن تكون هذه الأهداف منصبة في بناء الإدارة القوية، وهنا نجد أنفسنا أمام دائرة متكاملة شاملة وهي المعبرة عن الفضائل الانسانية والساعية أيضاً إلى تحقيقها في الحياة.

ص: 345

الهوامش

1- عبيدات، زهاء الدين، القيادة والإدارة التربوية في الإسلام، دار البيارق، عمان، 2001، ص ص 41، 40.

2- هيز، صامويل، وليم توماس، تولي القيادة، فن القيادة العسكرية، ترجمه سامي هاشم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1984. ص 18 - 20.

3- المناف، جميل كاظم، القيادة والأزمة الحضارية، دار الرشيد، بغداد، 1980، ص 40.

4- انظر الموقع الالكتروني www.islammemo.cc

5- ج. كورتوا، لمحات في فن القيادة، تعريب هيثم الأيوبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986، ص 11.

6- إبراهيم مدكور، المعجم الوجيز، منشورات مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1989، ص 25.

7- عبيدات، القيادة والإدارة التربوية، ص 46.

8- البقرة، آية: 124.

9- محفوظ، محمد جمال الدين، المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية، الدار المصرية للكتاب، القاهرة، 1976، ص 308.

10- نهج البلاغة.

11- نهج البلاغة رقم النص 131 / شرح الدكتور صبحي الصالح ص 188.

12- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 86.

13- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 104.

ص: 346

14- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 88.

15- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص ص 88 - 89.

16- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص ص 96 - 97.

17- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 103.

18- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 102.

19- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 128.

20- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 105.

21- عبدة، نهج البلاغة، ج 3، ص 100.

22- هود : اية 84

23- الأعراف: اية 85.

24- الرضي، الشريف، (الجامع)، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي، خطبة 105، 187.

25- الرضي، خطبة 166، ص 297.

26- الرضي، خطبة 176، ص 313.

27- الرضي، الخطبة 205، ص 405.

28- الرضي، کتاب 57، ص ص 575 - 576.

29- العاملي، الحر، وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة ال البيت لاحياء التراث، (د.م، د.ت)، ج 11، ص 81.

30- القلقشندي، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري، مآثر الاناقة في معالم الخلافة، ط 2، الكويت، 1985، ج 1 ص 36.

ص: 347

31- الحائري، كاظم، أساس الحكومة الاسلامية، ص 60.

32- المصدر نفسه، ص 159.

33- النساء: 105.

34- العاملي، وسائل الشيعة، ج 18 ص 156.

35- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 53.

36- عبده، نهج البلاغة، ج 3، ص 93.

37- الرضي، نهج البلاغة، رقم النص 216، ص 232.

ص: 348

لمحة عن المبادئ الاقتصادية الاجتماعية من خلال عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك بن الاشتر

اشارة

م.د. رغد جمال مناف مركز إحياء التراث العلمي العربي/ جامعه بغداد

ص: 349

ص: 350

إن نظرة سريعة عن واحدة من أهم اللوائح والقوانين التي تحدثت بها كتب التاريخ والقانون، لأنها نظمت حقوق الانسان الاجتماعية والاقتصادية والانسانية، وماله وعليه من حقوق وواجبات، ليضمن له حياة كريمة حرة سعيدة كما ارادها الله تعالى، وطبقها الامام علي (عليه السلام) عندما تولى الخلافة، عمد الى تحقيق العدالة الاجتماعية بكل مقوماتها، ليعيش الانسان حرا کریما، وهي من اهم سمات حكمه التي امتاز به، وهذا مسطر في كتب التاريخ وفي وصاياه التي ذكرها في كتابه نهج البلاغة، ومنها وصيته لعامله مالك بن الاشتر، وكيف يطلب منه معاملة الرعية والإحسان اليهم، فقد شرع الامام علي في اتخاذ جملة من الاصلاحات الاجتماعية الاقتصادية، اثناء حكمه في مدينة الكوفة، وهذا ما سنتحدث عنه تفصيلا في ثنايا بحثنا. وهذا ما جسده في كتابه العهد الذي عهد به الى واليه على مصر مالك بن الاشتر، وضمّنه الخطوط العامّة والأمور المفصليّة للحكم وإدارة البلد بما يرضي الله تعالى، ويحفظ حقوق الرعية بمختلف طبقاتها، وخاصة الطبقة التي عانت الكثير من الظلم والماسي في زمن الخليفة عثمان بن عفان، فالأمام علي (عليه السلام) بفكره الثاقب وروحه المحبة والتواقة للعدالة وضع دستور رصين، وقانون متكامل يقضي على الحاكم ان يجعل رعيته نصب عينيه، حتى لا تغرق سفينة حكمه ويؤول امره الى الضياع، كما ان الامام قد فصل في كتاب العهد الدين عن السياسة، وهذا ما تناوله الامام علي (عليه السلام) في رسالةً مفصّلةً بهذا الخصوص في كتابه نهج البلاغة، وألزم الوالي مالك بن الاشتر بتطبيق مضامینها، قائلا: «هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ، حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا»، وسنتطرق ايضا الى الاعمال الاقتصادية ثم

ص: 351

نعرج على الأعمال الاجتماعية التي قام بها الامام علي (عليه السلام)، اثناء توليه الحكم الاسلامي، مع اعطاء لمحة تعريفية عن واليه مالك بن الاشتر، فاصبح عهد الامام علي (عليه السلام) وثيقة اقتصادية اجتماعية ودستورا لحماية الأفراد

1- مضامين عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه مالك بن الاشتر:

من كتاب له (عليه السلام) كتبه للاشتر النخعي لما ولاه على مصر و اعمالها حين اضطرب امر اميرها محمد بن أبي بكر، و هو اطول (عهد) كتبه و جمع فيه كل ما يضمن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والانسانية فقال الامام (سلام الله علیه): بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ، حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللّهِ وَإِیْثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِی لَایَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَلَا یَشْقَی إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا وَأَنْ یَنْصُرَ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَیَدِهِ وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَکَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ یَکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَیَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللّهُ....... إلى آخر العهد الطويل». (1) ذكرنا ما طوى عليه عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه مالك بن الاشتر، وبناءا عليه استخرجنا من المبادئ وسياسية الامام الاقتصادية والاجتماعية لتوفير الرفاهية لابناء أمته بمختلف الطوائف والفئات وهذا ما سناتي للحديث عنه في السطور القادمة.

ص: 352

2- لمحة عن الأعمال الاقتصادية للإمام علي (عليه السلام):

كان ولا يزال الامام علي (عليه السلام) الرائد الأول والمصلح الاجتماعي الذي عني بالعدالة الاقتصادية والاجتماعية، حتى اصبحت قوانينه مصدرا للتشريع واساسا لتحقيق العدل الاجتماعي، ليضمن للفرد حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، فقد تبنی فكرا اجتماعيا ليغطي احتياجات الانسان في حياته، وهذا ما اكد عليه في خطبه ورسائله وأوامره فهي زاخرة بإرشاداته فكان اول عمل بدا به هو تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية وسنبدأ بالحديث عن الجانب الاقتصادي لأنه عصب الحياة والدولة.

كانت اولى مهام الامام (عليه السلام) ان يجسد العدالة الاقتصادية بين جميع الناس، وفق الشريعة الاسلامية، فبدا اول خططه الاقتصادية بجملة من الامور وهي منها: الغي السياسة المالية و الاجتماعية و الادارية التي كان معمولا بها قبله، فقام باسترجاع الاموال التي تصرف بها بنو امية من بيت مال المسلمين، ومن ثم ابعد الولاة الذين أساؤوا التصرف و خالفوا أمر الله تعالى، و تخطوا منهجه الذي وضعه لعباده، طبق سياسة المساواة في توزيع المال، والغي دور الطبقية والتمييز و الاثرة، كما قال: «أن المال مال الله، ألا و إن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف» (2).

وله ايضا قول اخر يحث على تحقيق العدالة الاقتصادية لكل فرد :«ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار، و فجروا الأنهار، و ركبوا الخيل، و اتخذوا الوصائف المرققة، إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا» (3).

کما عامل الامام (عليه السلام) افراد الامة الاسلامية بعدالة لا فرق لديه بين غني او فقير، كلهم متساوون لديه، فبدا بتوزيع الحقوق والمسؤوليات بين الافراد وهذا ما

ص: 353

اکده في احدى خطبه قائلا: «و الله لأن أبيت على حسك (4) السعدان (5) مسهدا، أو اجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، و غاصبا لشيء من الحطام، و الله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، و إن دنیاکم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي و لنعيم يفنی و لذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين» (6).

3- بعض من ملامح افكار الامام علي (عليه السلام)، والتي تتضمن سياسته الاقتصادية:

تبنى الإمام (عليه السلام) نظاما اقتصاديا عادلا، ليضمن لا بنائه الحياة المترفة، فقسم المال بالتساوي، فساوي في العطاء كما فعل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من قبله، ليحقق التوازن والعيش المرفه للإنسان، كما الغي اشكال التمييز في توزيع المال على الناس، موكدا ان التقوى والسابقية في الاسلام والجهاد، والصحبة للرسول (صلی الله عليه واله) امور لا تمنح اصحابها مراتب او مميزات في الدنيا، وانما لتلك المزايا ثوابها عند الله في الآخرة، ومن كان له قدم في ذلك، فالله تعالى يتولى جزاءه، أما في هذه الدنيا فإن الناس سواسية في الواجبات الحقوق المالية. (7)

ويلحظ من النص ان الإمام (عليه السلام) طبق سياسية المساواة الاقتصادية موكدا ذلك في احدى خطبه قائلا: «ألا وایما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يرى أن الفضل له على سواه لصحبته فإن الفضل النيّر غداً عند الله وثوابه وأجره على الله.»، وله قول آخر: «وأيما رجل استجاب له وللرسول فصدق ملتناً ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده. فأنتم عباد

ص: 354

الله، والمال مال الله يقسم بینکم بالسوية لا فضل فيه لاحد على احد، وللمتقين عند الله غدا احسن الجزاء وافضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين اجرا ولا ثوابا، وما عند الله خير للابرار..» (8).

وذكرت الروايات التاريخية ان عقيل اخو الامام (عليه السلام) من المعترضين على سياسة التسوية في العطاء، عن ابي عبدالله (عليه السلام) قال: لما ولي علي (عليه السلام) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «اما اني والله ما ارزؤكم من فيئكم هذا درهماً ما قام عذق بيثرب، فلتصدقكم انفسكم افتروني مانعا نفسي ومعطيكم قال: فقام اليه اخوه عقيل فقال: فتجعلني واسود في هذه المدينة سواء، فقال: اجلس، ما كان ههنا احد يتكلم غيرك وما فضلك عليه الا بسابقة او تقوى». (9)

ويبدو من خلال قرائتنا للنصوص التاريخية التي اشادت بعدالة الامام (سلام الله عليه) الاقتصادية، ليقيم مجتمعا عادلا ومتوازنا لا يوجد مكان فيه للإقطاعية او الرأسمالية، او التسليط على رقاب الناس ولا يوجد فيه فقير و محروم و بائس، وينطبق هذا الامر حتى مع اولاده واخوته وما حادثة اخيه عقيل المشهورة في كتب التاريخ الا دلیل ساطع على عدالته، وبموقفه هذا ترك لنا دروسا وعبر تدل على عدالته الاقتصادية بين الرعية.

وجاء ما يوكد ما ذكرناه عن عدالة الامام (عليه السلام) الاقتصادية فقد قال في احدى خطبه بعد بیعته بالخلافة قائلا: «خطب امير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ايها الناس ان ادم لم يلد عبداً ولا امة، وان الناس كلهم احرار، ولكن الله خول بعضكم بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمنّ به على الله عز وجل، الا وقد حضر شيء ونحن مسوون فيه بين الاسود والاحمر فقال مروان لطلحة والزبير:

ص: 355

ما اراد بهذا غیرکما، قال فأعطي كل واحد من المسلمين ثلاثة دنانير، واعطى رجلا من الانصار ثلاثة دنانير، وجاء بعد غلام اسود، فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا امير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس تجعلني واياه سواء؟ فقال (عليه السلام): اني نظرت في كتاب الله فلم اجد لولد اسماعيل على ولد اسحاق فضلا».(10)

كان طلحة والزبير اول المعترضين على سياسة التسوية في العطاء، واخذ يعدان العدة النقض البيعة والتجهز للحرب فتكلما مع الإمام (عليه السلام) و حاولا ان يفضلهما في العطاء لانهم هم الأسبقية في الاسلام وصرحا بان الخليفة عمر كان يفضّلهما في العطاء، ولكن هذا التفضيل لم يكن ليجد مكانه في حكومته (عليه السلام): «روينا عن امير المؤمنين علي (عليه السلام) انه امر عمار بن یاسر وعبيد الله بن ابي رافع وابا الهيثم بن التيهان أن يقسموا فينا بين المسلمين، وقال لهم: اعدلوا فيه ولا تفضلوا احدا على احد، فحسبوا فوجدوا الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير، فأعطوا الناس فاقبل اليهم طلحة والزبير، ومع كل واحد منهما ابنه، فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير فقال طلحة والزبير: ليس هكذا يعطينا عمر، فهذا منكم او عن امر صاحبكم؟ قالوا: بل هكذا امرنا امير المؤمنين (عليه السلام) فمضيا اليه فوجداه في بعض امواله قائما في الشمس على اجير له يعمل بين يديه، فقالا له: ترى ان ترتفع معنا الى الظل؟ قال: نعم. فقالا له: انا اتينا الى عمالك على قسمة هذا الفيء فأعطوا كل واحد منا مثل ما اعطوا سائر الناس قال: وما تريدان؟ قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر، قال: فما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطيكما؟ فسكتا، فقال: اليس كان رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) يقسم بالسوية بين المسلمين من غير زيادة؟ قالا نعم، قال: فسنة رسول الله (صلى الله عليه واله) اولى بالاتباع ام سنة عمر؟ قالا: بل سنة رسول الله، ولكن یا امیر المؤمنين لنا سابقة وعناء وقرابة، فان رأيت أن لا تسوينا بالناس فافعل، قال: سابقتكما

ص: 356

اسبق ام سابقتي؟ قالا: سابقتك، قال: فقرابتكا أقرب أم قرابتي؟ قالا: قرابتك، قال: فعناؤکما اعظم ام عنائي؟ قالا: بل انت يا امير المؤمنين اعظم عناءا، قال: فو الله ما انا واجيري هذا واوما بيده الى الاجير الذي بين يديه في هذا المال الا بمنزلة واحدة، قالا: جئنا لهذا وغيره، قال: وما غير؟ قالا: اردنا العمرة فأذن لنا، قال : انطلقا فمت العمرة تریدان، ولقد أنبئت بأمرکما ورأيت مضاجعکما، فمضيا وهو يتلو وهما يسمعان» فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّمَا یَنْکُثُ عَلَی نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَی بِمَا عَاهَدَ عَلَیْهُ اللَّهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْرًا عَظِیمًا. (11) سعى الإمام (عليه السلام) الى تأسيس نظام مالي له اسس وقواعد مغايرة عما عمل بها في زمن الخليفة عثمان بن عفان، فكان من ضمن الاعمال التي قام بها الامام (سلام الله عليه) محاسبة المفسدين الذين نهبوا اموال المسلمين بغير حق، فاصدر اوامره بجمع الاموال المسروقة والمختلسة من بيت المال واعادتها الى خزينة الدولة، فقد تميزت سياسة امير المؤمنين بالعدالة والصرامة وعدم المداهنة مع اي طرف مهما علا شانه او قرب نسبه، فقد كان جل اهتمامه بشريحة الفقراء والمساكين واهل الحاجة، مما جعل منهجه في السياسة الاقتصادية يعتمد مبدا توزيع الاموال بصورة عادلة وسريعة على مستحقيها فوجه اهتمامه الى اعمار الاراضي لاستيعاب العاطلين عن العمل وزيادة الانتاجية الغذائية لسد حاجة المجتمع، وهذا هو ما اكد أمير المؤمنين المالك الاشتر ضرورة اصلاح الارض قبل اخذ الخراج منها حيث قال له: «ليَكُن نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرضِ أَبلَغَ مِن نَظَرِكَ فِي استِجلَابِ الخَرَاجِ، لِأَنّ ذَلِكَ لَا يُدرَكُ إِلّا بِالعِمَارَةِ وَ مَن طَلَبَ الخَرَاجَ بِغَيرِ عِمَارَةٍ أَخرَبَ البِلَادَ، وَ أَهلَكَ العِبَادَ». (12)

نلحظ من خلال النصوص المذكورة اعلاه ان سياسة الامام علي (عليه السلام) الاقتصادية عادلة في توزيع المال خلقت له مشاکلا سياسية واجتماعية واقتصادية مع جيشه الذي تخاذل جيشه وتوجهه صوب معاوية وتنكر له الاعيان من البلاد وقاطعته

ص: 357

قبائل قريش الاقطاعية، مما دعا ابن عباس الى توجيه النصح الى الامام وعرض عليه حالة جيشه فقال: يا أمير المؤمنين، فضل العرب على العجم، وفضل قريشا على سائر العرب، فنظر له الامام بطرف عينه فقال: «اتأمروني ان اطلب النصر بالجور، لا والله ما افعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسیت بينهم، فكيف وانما من اموالهم.» (13)

ويبدو من النص ان الإمام (سلام الله عليه) يهدف الى تطبيق مبدا العدالة الاقتصادية، وضمان حقوق الافراد بغض النظر عن دينه فهم جميعا لديه متساوون في الحقوق والواجبات.

وعرف الامام (عليه السلام) بشدة زهده و حرصه الشديد على توفير الرفاه الاقتصادي للأمة التي اضطلع بقيادتها، فكان يقسم الذهب و الفضة بين الناس، ويطعمهم اللحم و الخبز (14). و يعمل كل ما في وسعه لرفع غائلة الفقر عنهم، و كان بیت المال لا يكاد ترد إليه الأموال حتى يبادر الإمام (عليه السلام)، إلى توزيعها على الناس بالتساوي، لإعطاء كل ذي حق حقه، متبعا منهجا عادلا في توزيع الاموال، فها هو يخاطب الزبير و طلحة حينما كبر عليهما منهاج المساواة في العطاء، حيث قال: «فو الله ما أنا و أجيري هذا إلا بمنزلة واحدة» (15).

وفي حادثة اخرى فقد جاءه عاصم بن میثم، و كان الإمام (عليه السلام) يقسم اموالا فقال:

«يا أمير المؤمنين في شيخ مثقل فقال الإمام (عليه السلام): «و الله ما هو بكد يدي ولا بتراثي عن والدي، و لكنها أمانة أوعيتها». (16)

نستنتج من النص ان الامام (سلام الله عليه) يرى هذه الاموال، امانة في رقبته لا

ص: 358

يمكنه التصرف بها، الا حسب ما جاء به الاسلام، لينال رضا الله تعالى، وليرفع المستوى المعاشي للإنسان، فيكون مجتمعا متكاملا يكفل العيش للجميع، وهذه المسال فيها بعد نظر كبير، لان الامام اتراد تحقيق عدالة اجتماعية للجميع في ظل حكومته.

وفي احدى الروايات التي تبرز عدالة الامام وسعيه الدؤب لتحقيق العدالة بين ابناء رعيته، بغض النظر عن صلة القرابه، «فقد جاءه عبد الله بن زمعة وهو من شيعته يطلب منه مالا فقال له الإمام (عليه السلام): «إن هذا المال ليس لي ولا لك، وانما فيء للمسلمين وجلب أسيافهم فان شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، الا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم» (17)

ويلحظ اصرار الامام (سلام الله عليه) على تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ايا كان الشخص فقد ذكرت احدى الروايات «انه قد جاءه عمرو بن العاص ليلة و هو في بيت المال يتولى بعض شؤون المسلمين، «فأطفا الإمام (عليه السلام) السراج و جلس في ضوء القمر، فالسراج ملك الامة، فلا يصح أن يستضيء به ابن العاص، و هو في زيارة خاصة للإمام (عليه السلام)». (18)

ونستدل من هذه الحادثة حرص الامام على أموال الامة، و عمله الدائب من اجل مصلحتها مصلحتها، وإسعادها و هدایتها و اصلاح شأنها، فهو يعلمنا كيفية الحفاظ على الحق العام دون الخاص، ويهدينا الى فكر اقتصادي عادل.

ولم يكتف الامام (سلام الله عليه) بتعديل النظام الاقتصادي فبدا باسترداد الاموال التي تدفقت على فئة من الناس من غير حق، ومراقبة طرق جبايتها، وكيفية توزيعها فئات الامة، كما شدد على مراقبة ولاته في الامصار، ويحيط علما بتصرفاتهم وممارساتهم، ومن هنا تجد الكثير من النصوص التي يوجه فيها الإمام (عليه السلام)، واليا او جابيا للمال

ص: 359

باستعمال الطريقة المثلى في عمله المناط به، في حين نلاحظ نصوصا يوبخ فيها الإمام (عليه السلام)، ذلك الوالي او يستدعيه للحساب او يعزله عن منصبه لخيانة الأمانة التي انيطت به (19).

وتستمر عدالة الامام الاقتصادية فيتفقد بنفسه الاسواق من ناحية المكاييل و المعروض من السلع و طبيعة المعاملات فيها، ويرشد الضال، ويهدي المقصر الى طريق الحق، و یامر بكل معروف، وينهى عن كل منكر (20)، ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك ألا تفعل تظلم، و من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده (21).

وبالنظر للأهمية البالغة التي تمثلها جباية الاموال في الدولة الاسلامية، باعتبارها عنصرا هاما من عناصر الاقتصاد الاسلامي، ليضمن حقوق الافراد في املاك الدولة، فأولى عناية فائقة بطرق جباية الاموال، وحرص على أن يلتزم موظفوها بأقصى درجات العدل والفضيلة والنبل، والشعور بالمسؤولية فليست مهمتهم فقط جمع المال من اجل المال، وإنما ينبغي عليهم أن يلتزموا الحق في تعاملهم مع الافراد، ليعكسوا عدالة الإسلام، فلا ينبغي ان يغضبوا احدا من الناس، ولا يسيؤوا معاملة احد، ولا يضربوا انسانا من اجل درهمً، ولا يجوز ان يعتدوا على مال امرئ من المسلمين او من غيرهم ممن يتمتع بحق التابعية للدولة الاسلامية. (22)

عمد الإمام (عليه السلام) الى تنظيم الحياة الاقتصادية للافراد، وذلك عن طريق تنظيم مستوى معاشي جيد، فعزم على التزام خطة لمراقبة السوق، من ناحية البيع والشراء، وطبيعة ما يعرض للبيع، للحيلولة دون التطفيف في المكاييل والتلاعب بالأسعار أو الغش، فعن الامام الباقر (عليه السلام) قال: كان امير المؤمنين (عليه السلام) كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة، فيقف على سوق فينادي: يا معشر التجار قدموا الاستخارة،

ص: 360

وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن الكذب، واليمين، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين ولا تقربوا الربا (29)،مستندا في عمله هذا الى الآية القرآنية «وأوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين» (23)

كان الامام (عليه السلام) يحرص بشدة لرفع غائلة الفقر والظلم عن الامة، فاتبع منهجا معينا اثناء فترة خلافته كالاتي: «.. ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطاناً، وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى؟ أأقنع من نفسي بأن يقال هذا: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟» (24).

4- الجانب الاجتماعي:

إذا كانت جميع جوانب الدولة الإسلامية قد تناولتها يد الاصلاح لتحقيق الرفاهية والسعادة، للإنسان، فإن الإمام (عليه السلام) قد خطا في سبيل تحقيق أفضل صورة للعدالة الاجتماعية وفقاً للتصورات الإسلامية، فقد شهد المجتمع الإسلامي بجميع قطاعاته وقواه عدالة رائدة كالتي شهدها أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منطلقاتها وأبعادها. وفيما يلي شواهد من تلك التجربة التاريخية المشعة التي تفيأت الأمة ظلالها، فقد شهدت قطاعات الأمة الاسلامية في عهد الامام صورا رائعة في كيفية التعامل مع الرعية بالرفق واللين، مع رعاية شؤونها، والمساواة في العطاء بين جميع افرادها من خلال النصوص ذكرها الامام في كتابه نهج البلاغة: «المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل لأحد على أحد»، وقال ايضا: «وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودان

ص: 361

الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً» (25).

ويبدو من النص ان الامام قاد الامة الاسلامية الى تدبير شوؤنها، ورعاية امورها، ليحقق لها السعادة، في رواية تاريخية عن الحكم حيث قال: «شهدت علياً، وأتى له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى وقال: ذوقوا، والعقوا، حتى تمنيت أني يتيم، فقسمه بين الناس وبقي منه زق، فأمر أن يسقاه أهل المسجد» (26)

وفي رواية اخرى قال: انطلقت مع غلام علي (عليه السلام)، اسمه قنبر فإذا هو يقول: قم يا أمير المؤمنين فقد خبات لك خبيئا قال (عليه السلام): وما هو، ويحك!! قال: قم معي قم معي.، فقام فانطلق به الى بيته، واذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا وفضة، فقال: يا أمير المؤمنين، رايتك لا تترك شيئا الا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال، فقال علي (عليه السلام): ويحك يا قنبر، لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة ثم سلَّ سيفه، وضربها ضربات كثيرة، فانتثرت.. ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام الى بيت المال، فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت ابرا ومسال فقال: ولتقسموا هذا.. » (27).

ويلحظ من النص ان الامام يدعو الى العدالة الاجتماعية بين افرادها، بالتساوي في الحقوق والواجبات، وكان يهدف الى ايجاد قوانين اجتماعية تهدف الى حرية الفرد ليعيش حرا كريما.

وفي رواية اخرى عن الحكَم قال: إن عليا قسم فيهم الرمّان حتى أصاب مسجدهم رمانات، وقال: أيها الناس أنه يأتينا أشياء نستكثرها إذا رأيناها، ونستقلها إذا سبع قسمناها، وإنا قد قسمنا كل شيء أتانا، قال: وأتته صفائح فضة فكسرها، وقسمها بيننا، كما عين الامام (علیه السلام) عامر بن النباح مؤذنه امينا لبيت المال في الكوفة، فجاءه

ص: 362

الى علي بن ابي طالب (عليه السلام) فقال: يا امير المؤمنين امتلا بيت المال من صفراء وبيضاء، فقال علي: الله أكبر، ثم قام متوكئا على يد ابن التياح، فدخل بيت المال وهو يقول:» هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده الى فيه، ثم نودي في الناس، فأعطى علي، جميع ما في بيت المال وهو يقول: «يا بيضاء، ويا صفراء، غري غيري حتى لم يبق فيه درهم ولا دينار، ثم أمر بتنظيفه، فصلى فيه ركعتين (عليه السلام)» (28).

ويدل النص على الشدة في الزهد، والرغبة الشديدة في تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين افراد الامة جميعا.

في احدى الروابات عن ابي النوار ذكر ان: رأيت عليا (عليه السلام) وقف على خياط فقال له: «یا خیاط صلب الخيط، ودقق الدرز، وقارب الغرز، فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول «يؤتى يوم القيامة بالخياط الخائن وعليه قميص ورداء مما خاطه، وخان فيه، فيفتضح على رؤوس الأشهاد»، ثم قال: «يا خياط إياك والفضلات والسقطات فإن صاحب الثوب أحق بها..» (29).

ذكرت الرويات التاريخية حادثة عن عدالة الامام (سلام الله عليه) الاجتماعية، ورد انه (علیه السلام) مر بشيخ نصراني كبير مكفوف البصر يسال الناس الصدقة فقال امير المؤمنين (عليه السلام): ما هذا؟ قالوا: نصراني، فقال (عليه السلام): استعملتموه حتى اذا كبر وعجز منعتموه؟ انفقوا عليه من بيت المال. (30)

نلحظ من لهجة الامام (عليه السلام) (ما هذا)، تدلنا على شدّة امتعاض الامام وغضبه من تلك الصورة التي راى بها ذلك الشيخ النصراني، فامر الامام بان يخصّصوا له مرتبا ثابتا من بيت مال المسلمين، ليصونوا كرامة الشيخ النصراني، فلم ينظر (عليه السلام) الى دين ذلك الرجل، او معتقده، او مذهبه، او بل نظر الى انسانيته، فهو انسان

ص: 363

يعيش في دولة الاسلام يحق له ان تصان كرامته وتحفظ حرمته وهو في اخر ايامه.

حتى ان الامين العام للامم المتحدة اقتبس في تقريره الدولي مقاطع من وصايا امير المؤمنين (عليه السلام) لعامله على مصر مالك الاشتر، التي يوكد فيها على استصلاح والتنمية ويقول: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب لأنَّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً. (31)

ولابد من الاشارة الى ان عهد الامام (عليه السلام) الى واليه مالك ابن الاشتر قد انطوى على أفكار اجتماعية غاية في الاهمية، فقد تناول الامام (عليه السلام) تركيبة المجتمع، والقوى المؤثرة، فقد ركز الامام (عليه السلام) على اهمية الزراعة والتجارة، ودور والقضاة والولاة والجنود في بناء المجتمع، مع تحديد كيفية التعامل مع تلك الفئة الهامة في المجتمع، وحدد مسؤوليات الدولة تجاه كل واحدة من تلك الفئة الفاعلة في الحياة العامة، ولم ينس حتى فئة اليتامى وكبار السن، ليضمن لهم كل المستلزمات الحياتية. (32)

ص: 364

الهوامش

1- ابن ابو طالب، علي، نهج البلاغة، شرح وضبط نصوصه، محمد عبده، تبويب صبحي الصالح، الدار الاسلامية، بيروت، (دت)، ج 1، ص 247.

2- ابن ابو طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 126.

3- ابن ابو طالب، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مكتبة المثنى، بغداد، (دت)، ج 1، ص 126.

4- الحسك: نبات له ثمرة خشنة تعلق باصواف الغنم، ينظر: ابن منظور، ابو الفضل جمال الدين بن محمد بن مکرم الافريقي المصري، (ت 711 ه)، لسان العرب، دار صادر، بیروت، 2000، ج 10، ص 411.

5- السعدان: الشجر الشائك، ينظر: ابن منظور، لسان العرب، ج 12، ص 145.

6- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 125.

7- الانصاري، محمد علي، اهل البيت امامتهم، حياتهم، ط 1، مجمع الفكر الاسلامي، قم، 1424 ه، ص 235 - 238.

8- الحليلي، جواد جعفر، امير المومنين علي ابن ابي طالب، ط 2، مطبعة الارشاد، بيروت، 2001، ق 1، ص 12 - 19.

9- للمزيد من التفاصيل ينظر: البلاذري، احمد بن يحيى بن جابربن داود الطائي، (ت 279 ه)، انساب الاشراف، تح: احسان عباس، جمعية المستشرقين الالمانية، بيروت، 1979، ج 2، ص 136. الانصاري، اهل البيت،ص 238 - 240.

10- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 198 - 199.

11- سورة الفتح، آية 48.

ص: 365

12- جرادق، جورج، روائع نهج البلاغة، ط 2، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، (د-م)، 1997، ص 163.

13- الحليلي، امير المومنين، ق 1،ص 14 - 19.

14- ابن شهر آشوب، محمد المازندراني، مناقب ال ابن ابي طالب، تح: يوسف البقاعي، دار الاضواء، لبنان، (د-م)، ج 2، ص 97.

15- ابن شهر آشوب، نفس المصدر، ج 2، ص 97 - 98.

16- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 269.

17- المجلسي، حسين بن محمد تقي، بحار الانوار، دار المحصوصة، الهند، 1297 ه، ج 4، ص 330.

18- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 136؛ ابن شهر شوب، المناقب، ج 2، ص 111.

19- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 232؛ المجلسي، بحار الانوار، ج 1، ص 115.

20- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 131 وص 200؛ ابن شهر اشوب، المناقب، ج 2، ص 110.

21- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 412.

22- جرداق، روائع نهج، ص 163.

23- سورة هود، آية 84 - 86.

24- الانصاري، اهل البيت، ص 238 - 240.

25- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 198 - 199.

26- سبط ابن الجوزي، شمس الدين ابو المظفر بن فرغلي بن عبد الله البغدادي ابي عبد الرحمن، ت (654 ه)، تذكرة خواص الامة، ط 1، دار العلوم، بيروت،

ص: 366

2004، ص 117 - 118.

27- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 418؛ القمي، ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية، ت (381 ه)، امالي الصدوق، تقديم: حسين الاعلي، منشورات موسسة الاعلمي، بيروت، 28 - القمي، المصدر نفسه، ص 135 - 136؛ المجلسي، بحار الانوار، ج 1، ص 104. د-ت)، ص 134.

29- الانصاري، اهل البيت، 214 - 215.

30- الاديب، عادل، دورائمة اهل البيت في الحياة السياسية، دار المعارف، لبنان، (د-ت)، ص 45.

31- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 1، ص 291.

32- ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 2، ص 36 - 37.

ص: 367

قائمة المصادر

1- القرآن الكريم.

2- البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر بن داود الطائي،(ت 279 ه)، انساب الاشراف، تح: احسان عباس، جمعية المستشرقين الالمانية، بيروت، 1979.

3- سبط ابن الجوزي، شمس الدين ابو المظفر بن فرغلي بن عبد الله البغدادي ابي الفرج عبد الرحمن،ت (654 ه)، تذكرة خواص الامة، ط 1، دار العلوم، بيروت، 2004.

4- ابن شهر آشوب، محمد المازندراني، مناقب آل ابن ابي طالب، تح: يوسف البقاعي، دار الاضواء، لبنان، (د-م).

5- ابن ابو طالب، علي، نهج البلاغة، شرح وضبط نصوصه، محمد عبده، تبويب صبحي الصالح، الدار الاسلامية، بيروت، (د=ت).

ابن ابو طالب، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مكتبة المثنى، بغداد، (دت).

6- القمي، ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابوية، ت (381 ه)، امالي الصدوق، تقديم: حسين الاعلي، منشورات موسسة الاعلمي، بيروت، (دت).

7- المجلسي، حسين بن محمد تقي، بحار الانوار، دار المحصوصة، الهند، 1297 ه.

8- ابن منظور، ابو الفضل جمال الدين بن محمد بن مكرم الافريقي المصري، (ت 711 ه)، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 2000.

9- النسائي، ابو عبد الرحمن بن شعیب، ت (303)، خصائص امير المومنين علي بن ابي طالب، تح: احمد ميرين البلوشي، ط 1،مطبعة الفيصل، مكتبة المعلا، الكويت، 1986.

ص: 368

المراجع

1- الاديب، عادل، دور ائمة اهل البيت في الحياة السياسية، دار المعارف، لبنان، (د-ت).

2- جرادق، جورج، روائع نهج البلاغة، ط 2، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، (د-م)، 1997.

3- الانصاري، محمد علي، اهل البيت امامتهم، حياتهم، ط 1، مجمع الفكر الاسلامي، قم، 1424 ه.

4- الحليلي، جواد جعفر، امير المومنين علي ابن ابي طالب، ط 2، مطبعة الارشاد، بيروت، (د-ت).

ص: 369

ص: 370

مفردات بناء الدولة في فكر أمير المؤمنين علي عليه السلام عهده الى مالك الأشتر (رضي الله عنه) انموذجا

اشارة

أ. م. د عبد الحسين العَمري كلية الآداب / جامعة ذي قار

أ. م. د إحسان التميمي كلية التربية ابن رشد / جامعة بغداد

ص: 371

ص: 372

ملخص

في تاريخ الأمم والشعوب، يبرز قادة عظام يضعون لها أساسات بنائها بشكل علمي صحيح، دون النظر إلى مصالحهم الخاصة، أو ما يمكن أن يحصلوا عليه من منافع ومغانم، هم وأتباعهم، مستنيرين بفلسفة التخطيط الاستراتيجي التي يؤمنون بها، ناظرين إلى الأهداف البعيدة التي يمكن أن تنتج عن هذا التخطيط؛ لأن التأسيس بشكل علمي سيشكل ركناً هاماً من أركان التطور الحضاري وإقامة العدالة في الأرض، بل هو الركن الأهم في ذلك.

ويأتي هذا البحث لاستقراء ذلك في فكر أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه واضعاً أسس الدولة الحديثة وقد سبق زمنه في هذا المضمار، حتى غدت آراؤه تتماشى مع أحدث النظم السياسية والادارية التي وصل اليها العالم المتقدم.

ص: 373

توطئة

مفهوم الدولة المتحضرة أو ما يُصطلح عليه بالدولة الحديثة في وقتنا الحاضر، يعد من المفاهيم ذات الابعاد المختلفة؛ لأن ذلك ينبني في وجوده على أكثر من رکن هام، يتجاوز في ذلك الأطر العامة إلى المفصليات الدقيقة في حياة المجتمعات البشرية التي تقوم عليها، منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ... الخ؛ إذ إن ذلك من شأنه تقويض وجودها، إذا ما حصلت أية انتكاسة في طبيعة بناء الدولة من جهة تلك المفصليات في وجود الدولة، بل ربما تسحبها تلك الانتكاسة أو الانتكاسات في تنفيذ تلك المفردات إلى التدمير الذاتي، إذا ما حصلت من دون فهم لحركية بناء الدولة وديمومة وجودها على وفق المفهوم القرآني «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ» (1).

ولابد هنا من تعريف للدولة التي يرى بعض الباحثين أنها (منظمة الجماعة التي تعتبر وظيفتها الاحتفاظ بالإمكانيات الخارجية الضرورية لحياة أفضل يمكن للإنسان أن يحياها)(2)، وبالمقابل (نحن مدينون لها بالولاء على أساس أنه عندما نطيع أوامرها فنحن في الواقع نطيع هيأة من الهيئات وظيفتها نشر الرخاء الذي ينطوي عليه رخاؤنا الشخصي) (3)، لذلك تعد الدولة هي (قمة الوعي المعرفي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع... فهي بنية فوقية لبنية تحتية)(4) تستمد شرعية وجودها من وجود تلك البنية التحتية التي تمثل أساس وجودها وكينونتها.

ومن هنا تتصف فكرة بناء الدولة بأنها من العمق بدرجة تحتاج إلى عقود متطاولة للوصول إلى الشكل المثالي الممكن للدولة، ولعل خير مثال على ذلك، الدول الغربية التي احتاجت إلى عشرات القرون من حيث الزمن، وإلى أنهار من الدماء لكي تستقر على

ص: 374

وضعها الحالي من حيث السياسة والاقتصاد والثقافة والفكر والتحضر العلمي والتطور التقني؛ لأن استقرار النظام السياسي الذي يتسم بالعدالة والإنصاف، ينعكس ايجاباً على حالة المجتمع علمياً وثقافياً واقتصادياً.

ولعل المستقرئ لحياة الدولة الاسلامية الأولى، وتحديداً منذ بدء نشوئها وحتى خلافة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يجد أنها لم تكن بتلك السمات التي من الممكن توافرها في دولة أصبحت تسيطر على أجزاء واسعة من الكرة الأرضية، بل إنها كانت تسيّر أمورها بشكل قريب من الدولة القبلية منها إلى الدولة المدنية؛ إذ إنها لم تكن قد هضمت تصورات الدين الجديد عن مفهوم الدولة المدنية التي يريدها الإسلام من حيث حفظ الحقوق والحريات العامة والخاصة والعدالة والاعتماد على مبدأ الكفاءة بالإضافة إلى شيوع المساواة بين أفرادها، لتعيد انتاجها بشكل يتوائم و تحولات عصرها، أي لتجعل القوانين والتعليمات وسواها إلى مؤسسات تقود الدولة بما يجعلها دولة حقيقية، دون النظر إلى من هو الحاكم أو الشخص الذي يقود السلطة.

إلا أن عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) يعكس رؤية جديدة عن مفهوم الدولة وطبيعتها وكيفية بنائها، تماثل أحدث النظريات الفكرية في بناء الدولة الحقيقية القائمة على المرتكزات المعنوية المتمثلة بالعلاقة الإنسانية التي يجب توافرها بين الحاكم والمحكوم، فضلاً عن مرتكزاتها المادية التي تعدّ هي قوام الدولة بطبيعة الحال، ولبيان ذلك؛ لابد من تقسيم ذلك إلى جزأين هما:

- المقومات الروحية والمعنوية.

- المقومات الفنية والمادية.

ص: 375

أولا - المقومات الروحية والمعنوية الذاتية

يختزل عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر تلك العلاقة إلى مجموعة هامة من المقومات ذات البعد العقلي والروحي والنفسي هي:

1- التقوى والايثار والاتباع: حدد ذلك بقوله (عليه السلام) (أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ).

يبني الإمام (عليه السلام) فكرته بصيغة الفعل الطلبي الحازم، لتنطلق من الذات إلى الفضاء الأخلاقي المهيمن على كينونة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فأول ما يأمر به عامله مالك الأشتر (رضي الله عنه) هو (التقوى والايثار والاتباع)؛ لأن ذلك سيكون أساساً مکيناً يمكن البناء عليه فيما بعد، فالتقوی ابتداءً هي التي تعطي دافعاً للسلوك الايثاري، والايثار هو الذي يدفع بالفرد إلى اتباع الفكرة الصحيحة وشخوصها الفاعلة، وهي بالنتيجة تؤدي إلى فناء الذات من أجل الآخر (المثال) الذي يكون ترجمة لمفهوم العشق الرباني أو الحب الذي قالت به الآية الكريمة «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...» (5)، مما يعني أن اتباع المثال أو القدوة سيكون سبباً في الوصول إلى الرضا والحب، وهي فضيلة نفسانية تصدر عن تلك الهيأة (6)، وبذلك يؤسس الإمام (عليه السلام) لمفهوم الترفع عن الصغائر الدنيوية الناتجة عن السلطة من خلال اتصاف الحاكم بالتقوى والايثار واتباع قدوته المثال التي يعني بها نفسه؛ إذ لا يمكن أن تكون التقوى تالية للفعل السلطوي، فشهوة السلطة ومفاتنها ومعطياتها ستكون دافعاً قوياً إلى الظلم والعصيان وسلب الناس حقوقهم.

ص: 376

وبذلك حدد الإمام (عليه السلام) فيما بعد نتيجة التقوى الذاتية التي تنفتح باتجاه المجتمع سلوكياً لاسيما أنها ستعطي الانطباع الحقيقي لدى أفراد المجتمع تجاه الحاكم ومدى صدقيته في التعامل معهم، وهذه النتيجة هي السعادة والرضا عن الذات من خلال اتباع الفرائض والسنن الالهية التي تتجسد في المثال والقدوة، فالرضا عن الذات لن يكون حقيقياً ما لم يكن نابعاً عن الضمير الحي والاستشعار الحقيقي لمعاناة الآخر (المحكوم) والسعي في قضاء حوائجه وتلبية متطلباته، ومراودة المثال في سلوكه الناصع حينما يحدده الإمام (عليه السلام) بقوله (أَلَا وَإِنَّ لِکُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، یَقْتَدِی بِهِ، وَیَسْتَضِیءُ بِنُورِ عِلْمِهِ. أَلَا وَإِنَّ إِمَامَکُمْ قَدِ اکْتَفَی مِنْ دُنْیَاهُ بِطِمْرَیْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَیْهِ، أَلَا وَإِنَّکُمْ لَاتَقْدِرُونَ عَلَی ذَلِكَ، وَلَکِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّهٍ وَسَدَادٍ)، وهذا المثال أو القدوة هو نقطة الهدف السلوكي إلى مرضاة الله والسعادة التي حددها النص آنفاً.

ثم يردف بجملة طلبية أخرى، كأنما فيها تتمة المعن الذي بدأ به النص/ العهد، هو قوله (...وَأَمَرَهُ أَنْ یکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَ یزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ....)، وهو يأمره بالرياضة النفسية التي تفضي إلى فهم حركة الحياة بشكلها الحقيقي، من خلال استعماله للفعل (یکسر) الذي يعني هنا القطيعة التامة مع غرائز النفس وشهواتها، وأعقب ذلك بمنعها لحظة جماحها.

2- قراءة التاريخ واستنطاقه: تعد مهمة قراءة التاريخ السياسي للدولة من قبل الحاكم الجديد مهمة غاية في الدقة التشخيصية لعلل الفساد والانهيار الذي ينتاب المجتمعات؛ لأن فهم التاريخ وحركته بشكل صحيح سيحوّل بوصلة الفكرة السياسية من الظلم إلى العدالة ومن القسوة إلى الرحمة و من الاستبداد إلى الحرية، بما يجعل وظيفة التاريخ حاضرة بكل تفاصيله أمام قيادة الدولة لتجعل منها دروساً في سياسة المجتمع؛ إذ إن (التاريخ علم حركة الانسان من خلال محيطه في الزمان)

ص: 377

(7) أو هو (حركة الكائن في الزمان والمكان) (8)، فالتاريخ مليء بالعبر والعظات التي تنبئ عن ما جرى سابقاً، وهو ما أراده بقوله (ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ، أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاهِ قَبْلَكَ، وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ، وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْیَکُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَیْكَ ذَخِیرَهُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ یَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِیمَا أَحَبَّتْ أَوْ کَرِهَتْ)، في هذه الجزئية من العهد، أراد الإمام (عليه السلام) أن يتخذ من حركة التاريخ ليس فقط جانباً وعظياً بل اتخذ أيضاً منه منهجاً للنقد السياسي المبطن والموجه، والتربية السياسية والتوجيه الحضاري للفرد / الوالي، وللمجتمع / الرعية، وعلى هذا الأساس جرى التشخيص من قبل الإمام على (عليه السلام) للذين سلفوا من الحاكمين و السلاطين والولاة والأمراء الذين مرّوا على البلاد؛ لأنهم لم يكونوا على مقاس واحد أو على نمط محدد.

3- الرحمة والمحبة للرعية واللطف بهم: لأن الدولة تتجسد في شخص أو مجموعة أشخاص فهي تتزامن بين الفرد والمجتمع؛ إذ تتداخل هذه المفاهيم فيما بينها الفرد - المجتمع الدولة، فهذا يعني تساؤلاً عن الوظائف غير المادية التي تمارسها الدولة مع أفرادها، ولعل الرحمة لهم و بهم والعطف عليهم واللطف بهم وعليهم من تلك الوظائف التي من الواجب ممارستها مع الأفراد، وعليه أمر الإمام علي (عليه السلام) عامله مالكاً بذلك حينما قال له (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ، یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ

ص: 378

أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ بِهِمْ)، فاستشعار الرحمة من قبل الوالي للرعية وإظهار اللطف بهم يجعلهم يجدون الأمن والأمان من قبل هذا الوالي، وبالنتيجة من قبل الدولة التي يمثله الوالي بشخصه المعنوي.

إن البعد الأخلاقي في كلمات الإمام (عليه السلام) واضح للعيان، فالأخلاق هي التي يجب أن تحكم الوعي والسلوك لدى الوالي، فالدولة ممثلة بشخص الوالي لا يمكن أن تتخذ العنف وسيلة تجاه المواطنين، بل عليها أن تمارس معهم أقصى درجات المحبة واللطف بهم.

4- تواضع الوالي ووعيه بذلك: كثيراً ما يحدث للوالي أو السلطان أن يشمخ على المجتمع، وأن يمارس سلطته بتكبر عارم حينما يستغل سلطته وقوته في سبيل ذلك، وهو بهذا السلوك الفج يؤسس لهوة واسعة بينه وبين المجتمع، وقد راعى الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) موضوع البحث، ما سماه بعض البحاثين الغربيين المعاصرين بثلاثية سياسة الدولة التي تقوم على الفردانية، المساواتية، وما بعد المادية) (9) التي تترابط فيما بينها لتؤسس مجتمعاً منسجماً مع ذاته، ففي حين تكون الرحمة واللطف بالرعية هي من القيم ما بعد المادية، تكون المساواة والانصاف للمجتمع تقع تحت مفهوم المساواتية، كذلك يقع التواضع والنظر إلى الذات على أنها جزء من منظومة كونية يهيمن عليها الله تعالى، كل ذلك يقع تحت مفهوم الفردانية التي لا يقصد منها السلطوية بقدر ما يقصد منها اقامة القانون واجراء العدالة بين الأفراد، وهو ما قصده الإمام علي (عليه السلام) بقوله في عهده إلى مالك (وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَهً أَوْ مَخِیلَةً، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَی مَا لَا تَقْدِرُ عَلَیْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ یُطَامِنُ

ص: 379

إِلَیْکَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَیَکُفُّ عَنْکَ مِنْ غَرْبِكَ، وَیَفِیءُ إِلَیْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ! إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال.

أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ... (،لأن الأخلاق لابد لها من عمل تطبيقي يجعلها منظورة للمجتمع، ولا بد أن تكون الأخلاق مقرونة بالمعرفة، وهو ما أراده الإمام (عليه السلام) بقوله (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)، لأن عمومية العدل والبحث عن رضا الرعية الجمعي، ينتمي إلى دائرة الأخلاق التي يتم من خلالها ترجمة مفهوم الإرادة الإلهية والإيمان به بعيداً عن الصورة الاسلامية الدينية التقليدية، وهو ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) في مكان آخر حينما قال في عهد لمالك (وَلَا تَکُونَنَّ عَلَیْهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ)؛ ولأن (الإيمان هو عبارة عن التصديق اليقيني بالوجود الغيبي للإله عن طريق القلب) (10)، فهذا يعني أن الأخلاق هي عملية رسم طريق الحياة الطيبة للبشر بغض النظر عن مرجعياتهم أو منطلقاتهم الفكرية أو الدينية، وهو ما أوضحه أمير المؤمنين (عليه السلام) بصراحة عالية.

ص: 380

ثانياً - المقومات الفنية والمادية

تعد المقومات المادية والفنية أحد أركان بناء الدولة الهامة التي لا تقوم ديمومة الدولة الا بها، وهي على قسمين:

1- المقومات الفنية: تتكون المقومات الفنية من جهاز الدولة الإداري والقوانين التي تنظم عمل الدولة، ويعد الجهاز الإداري للدولة هو المنفذ الفعلي لكل القوانين والأنظمة والتعليمات التي تتخذها الدولة،

أما الجهاز الإداري كما يراه أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى الأشتر فهو الآتي:

أ- المستشارون: وهؤلاء الأفراد هم الذين يقدمون المشورة للوالي في أمور الدولة والناس، وقد حدد أمير المؤمنين (عليه السلام) مواصفات هؤلاء بقوله (وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بِخِیلاً یَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَیَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً یُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ، وَلاَ حَرِیصاً یُزَیِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ)، وقد وضع تلك المواصفات بناء على تعادلية الفعل والفعل المضاد الناتج عنه، ومن خلال مراعاة ذلك يتم بناء الدولة بطريقة صحيحة لكي ينشأ مجتمعاً صالحاً واعياً لمهماته.

ب- الوزراء: وهم الدائرة القريبة من الوالي، وهم طريق الناس إليه، وطريقه إليهم، وهو يحدد مواصفات هؤلاء وطبيعتهم وتاريخهم وحياتهم، كل ذلك ذكره في قوله (شَرّ وُزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلَكَ وَزِيراً، وَ مَن شَرِكَهُم فِي الآثَامِ، فَلَا يَكُونَنّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنّهُم أَعوَانُ الأَثَمَةِ، وَ إِخوَانُ الظّلَمَةِ)، وهي إشارات تحمل في طياتها تشخيصاً دقيقاً للطبيعة النفسية التي نشأ عليها هؤلاء في ظل الطغاة، كونهم باعوا ضمائرهم ونشأوا على سلوك غير متزن مع الطغاة ؛ لذلك من غير المعقول أن يكونوا وزراء أو مستشارين في

ص: 381

حكومة تروم العدل والانصاف بين أفراد الرعية، كما أن هؤلاء لن يصلحوا لأن يكونوا بطانة للوالي؛ لأنهم كانوا أعواناً للظلمة والآثمين، وبذلك يشير إلى المضامين النفسية التي تربّى عليها هؤلاء وافرازات تلك المضامين سلوكياً سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوا.

ج- الجند: قال عنهم في العهد (بِإِذنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَينُ الوُلَاةِ، وَعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمنِ، وَلَيسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِم)، وفي الوقت ذاته أوضح أسلوب اختيار قيادات الجند وماهي المواصفات التي يجب أن يتحلى بها هؤلاء القادة الذين سيكون لهم الأثر الكبير في ديمومة وجود الدولة، وقوله في هذا المضمار واضح جدا، هو (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ، وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ)، وهذه المواصفات تجمع بين المواصفات النفسية والعقلية والروحية.

د- عمال الخراج: وقد وصفهم بأنهم سند الجند، فقال ( اَلَّذِي يَقْوُونَ بِهِ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ، وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ)؛ لأنهم هم الذين يوفرون المال من خلال جبايته من الأفراد، فالدولة لا تقوم من دون اقتصاد قوي يكفل لها مقومات استمراريتها في تأدية واجباتها تجاه المجتمع.

ه- القضاة والعمال والكتاب: وهم قوام للصنفين السابقين كما وصفهم بقوله (ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ اَلصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ اَلثَّالِثِ مِنَ اَلْقُضَاةِ وَ اَلْعُمَّالِ وَ اَلْكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ اَلْمَعَاقِدِ، وَ يَجْمَعُونَ مِنَ اَلْمَنَافِعِ، وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ اَلْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا). فهذا الصنف هو من يقوم بإدارة الدولة بكافة مرافقها الإدارية الداخلية.

ص: 382

أما الشق الآخر من المقومات الفنية فهو يقوم على جملة من القوانين والتعليمات التي تنظم الحياة اليومية للمجتمع والعلاقة بينه وبين الدولة بوصفها راعية المجتمع والمسؤولة المباشرة عن توفير الأمن والعدل والمساواة والانصاف بين الأفراد، دون تمييز عرقي أو ديني أو حزبي أو أي شيء آخر، وعليه قال الإمام علي (عليه السلام) لواليه الأشتر في تنظيم تلك العلاقة بين الدولة ممثلة بشخص الوالي، والمجتمع بوصفه الطرف الأضعف في معادلة العلاقة بين هذين الركنين، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ المضطَهَدِینَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)، ويستمر أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا المنوال الداعي إلى الإنصاف والعفو وعدم الظلم وإشاعة روح التسامح، وأن تتحمل الدولة عبء الأفراد، وأن لا تكون قاسية معهم وأن تتعامل معهم معاملة الأب الحاني على ولده وهو قوله (واعْلَمْ أَنَّه لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِه مِنْ إِحْسَانِه إِلَيْهِمْ، وتَخْفِيفِه الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ، وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِه إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَه قِبَلَهُمْ)، كما رسم سياسة الأمن في البلاد من خلال تفصيل الكلام بشكل دقيق في هذا المضمار، وهو قوله (أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ کُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)، وبيّن طبيعة متابعة الولاة والعمال لأجل مراقبتهم بشكل دقيق، قوله (ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُیُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَیْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِی السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الْأَمَانةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِیَّةِ)، ثم بيّن كيفية التعامل

ص: 383

مع الناس من حيث الاساءة والاحسان، بقوله (وَلَا یَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَهٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِی ذلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَهِ عَلَی الْإِسَاءَهِ، وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ)، كما بيّن أهمية السيرة الصالحة من الذين سبقوا من المسلمين، وحضّه على اتباعها فهي مما درجت عليه الأمة، قائلاً: (وَلَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالَحِةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، وَلَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا)، وفي مقابل ذلك كله، يؤكد أمير المؤمنين (عليه السلام) على مسألة غاية في الأهمية وهي مدارسة العلماء والحكماء بغية الوصول إلى أفضل السبل لكي تكون هناك دولة مستقرة صالحة بصلاح أمرائها وأفرادها؛ لأن الاستنارة بآراء العلماء والحكماء تعدّ سبيلاً مستقيماً للبحث في أفضل السبل الناجعة لوضع الحلول لمشكلات المجتمع والدولة، قائلاً (وَأَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَهَ الْحُکَمَاءِ، فِی تَثْبِیتِ مَا صَلَحَ عَلَیْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)؛ لأن في مدارسة العلماء والحكماء أسلوباً في الحكم يؤدي إلى نجاحه.

كما أن وضع قوانين تحفظ حقوق الضعفاء والأيتام والمساكين، تعدّ هي الأخرى في صلب عملية بناء الدولة داخلياً، قائلاً (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ وَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی، فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِی الْإِسْلَامِ فِی کُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی، وَ کُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ، فَلَایشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَاتُعْذَرُ بِتَضْییعِكَ التَّافِهَ لِأَحْکَامِكَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ فَلَاتُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَاتُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَایصِلُ إِلَیكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُلئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیةِ وَ التَّوَاضُعِ،

ص: 384

فَلْیرْفَعْ إِلَیكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ تَعَالَی یوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَینِ الرَّعِیةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیرِهِمْ، وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیةِ حَقِّهِ إِلَیهِ وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ مِمَّنْ لَاحِیلَةَ لَهُ، وَلَا ینْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَی الْوُلَاةِ ثَقِیلٌ، وَ الْحَقٌّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ؛ وَقَدْ یخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ).

ومن المقومات الفنية الأخرى، وضع سياسة أمنية تقوم على جملة من الإجراءات الفنية التي تعمل الدولة من خلالها على حفظ أسرارها وأن تختار الذين يتصفون بالإخلاص والأمانة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تلك المسألة (ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ، فِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ)، بعد ذلك بيّن أسلوب اختيار هؤلاء من خلال جملة من الوصايا التي تعدّ منهاج عمل للوالي في اختيار الأشخاص، قائلاً (ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالاَمَانَةِ شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَان فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ، وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ)، ومن هذه المعايير عدم حسن الظن بهم الا بعد الاختبار، الأمانة التي تعدّ خصيصة هامة

ص: 385

في اختيارهم، تاريخ الأشخاص وسيرة حياتهم، السمعة الحسنة لدى الناس عنهم.

2- المقومات المادية: تتلخص المقومات المادية في الموارد المالية والاقتصادية بكل أشكالها من زراعة وصناعة ونشاط تجاري تقوم به الدولة ممثلة بجهازها الإداري، أو الأفراد بشكل شخصي، وقد حدد ذلك الإمام علي (عليه السلام) في عهده على الشكل الآتي:

أ- التجار وذوو الصناعات: وهؤلاء هم القوة الاقتصادية المحركة للبلاد داخلياً؛ لأنهم هم الذين يحركون اقتصاد الدولة، وهم الذين جرت تسميتهم بالقطاع الخاص في عصرنا الحاضر، وقد ذكرهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله (وَلاَ قِوَامَ لَهمْ جَميعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَام يَجتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهمْ مِنَ التَّرفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرهِمْ)، بما يعني أن هؤلاء هم عصب اقتصاد الدولة، ولابد من الاهتمام بهم لذلك السبب.

ب- الخراج: لأن قوة اقتصاد الدولة يقوم على طبيعة الخراج ومستوى تحصيله؛ لذلك وصفه الإمام علي (عليه السلام) بقوله (وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ).

ج- الزراعة وعمارة الارض: تعد الزراعة مورداً هاماً للدولة، ومصدراً يغذي المجتمع بالغلات والأموال، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله (وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً. فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوْ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ، أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ

ص: 386

أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ یَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ).

د. نزاهة الولاة والأمراء والكتّاب: تعدّ نزاهة الولاة والامراء والكتّاب من المهمات التي تتسب ربما في هدر المال العام، أو تتسبب في نشوء طبقة من المعتاشين الطفيليين على الأموال العامة؛ لذلك نبّه أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه على مصر إلى تلك المسألة وما لها من أهمية قصوى في حفظ المال العام، وجاء ذلك في قوله (عليه السلام) في عهده إلى الأشتر (ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ.

وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اکْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ)؛ لأن متابعة العمّال والولاة والأمراء بطريقة سرية يجعلهم في غير مأمن من وقوع العقاب عليهم في حالة خيانتهم.

ص: 387

خلاصة البحث

يعدّ البحث في مفردات بناء الدولة في فكر أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، من خلال عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه)، يعدّ محاولة في فهم طبيعة الدولة في فكر الإمام (عليه السلام) وكيف يرى الدولة؟ وماهي طبيعتها؟ وأدواتها الإجرائية؟.

وقد حاول البحث - بشيء موجز - الإجابة عن تلك التساؤلات، من خلال بيان مفردات بناء الدولة وماهية تلك المفردات!، وقد بين البحث توصيف تلك المقومات التي تقوم بها، من مقومات مادية وفنية وروحية ومعنوية.. الخ.

کما حاول البحث استنطاق النصوص بشكل مختصر عن مسألة بناء الجانب الانساني والقانوني والأمني والمالي، وأثر ذلك في عملية بناء الدولة الحقيقية التي تقوم على أساس الانصاف والعدالة والأمن.

ص: 388

الهوامش

1- سورة الحشر الآية (2).

2- الدولة نظرياً وعملياً 44، هارولد لاسكي، اعداد وتنفيذ سعيد شحاته، الهيأة العامة لقصور الثقافة، بيروت - لبنان، ط 2 - 2012 م.

3- المصدر نفسه والصفحة.

4- الدولة والمجتمع 179، د. محمد شحرور، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، د. ط، د.ت.

5- سورة آل عمران الآية (31).

6- ونحن هنا قلبنا فكرة ابن مسكويه الذي يقول في كتابه تهذيب الأخلاق (هيأة نفسانية تصدر عنها هذه الفضيلة) 125

7- حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) دراسة في نهج البلاغة 7، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط 1 - 1405 ه - 1985 م.

8- المصدر نفسه 15.

9- علم النفس السياسي رؤى نقدية 43، كريستيان تيليغا، ترجمة أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة العدد 2016، 436 م.

10- سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية - 31، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 1 - 2000 م.

ص: 389

المصادر والمراجع

- تهذيب الأخلاق، ابو علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، دراسة وتحقيق: عماد الهلالي، منشورات الجمل، بغداد - بيروت، ط 1 - 2011 م.

- الدولة نظرياً وعملياً، هارولد لاسكي، اعداد وتنفيذ سعيد شحاته، الهيأة العامة لقصور الثقافة، بيروت - لبنان، ط 2 - 2012 م.

- الدولة والمجتمع، د. محمد شحرور، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق سوريا، د. ط، د.ت.

- حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) دراسة في نهج البلاغة 7، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط 1 - 1405 ه - 1985 م.

- سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية-، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 1 - 2000 م.

- علم النفس السياسي رؤى نقدية، كريستيان تيليغا، ترجمة أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة العدد 436، 2016 م.

ص: 390

البناء الاداري الرصين للدولة العربية الاسلامية عهد الإمام علي (علیه السلام) الى مالك الأشتر (رحمه الله) أنموذجاً

اشارة

أ. د. عباس جبير سلطان التميمي

أ. د. انتصار لطيف حسن السبتي

ص: 391

ص: 392

المقدمة

سعى الاسلام منذ أن تم تبليغ الرسول محمد ص بهذه الرسالة الى وضع أساس رصين للدولة الاسلامية التي سوف تنشأ حتى هذا المسمى النقي المختوم، متخذةً من تجارب الأمم التي طمرت والتي سبقتها عبرة، في تجاوز ما تم الوقوع به من مخالفات أو الخروج عن النهج الذي رسمه الله جلَّ علاه لعباده في الارض، من خلال إرسال أنبيائه الكرام.

فوضع الله جلَّ علاه كل ما يريد قوله في دستور متجدد والمتمثل بالقرآن الكريم، فتم البناء ضمن هذه الخريطة الصحية التي كانت غايتها سمو ورفعة مكانة العباد في أرض الله جلَّ علاه، ولكي يبن من خلال هذا الدستور الالهي حقوق وواجبات عباده، فمن عمل عملاً صالح تم جزاءه ومن فعل العكس تمت عقوبته، و بهذا الإطار تم التعامل مع الرعية.

ولم يكتفِ الله سبحانه وتعالى بهذا الامر، وإنما أوعز الى رسوله محمد ص بما وهبه الله من صفات بشرية كرجاحة عقل وسعة الافق، أن ينظم لرعاياه دستور بشري أخر ينظم فعاليات الحياة اليومية والمتمثل بوثيقة المدينة، التي بينت خارطة العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين سواء بالحقوق أو الواجبات، وكانت بمثابة دستور عالمي استفادت منه حضارات الماضي والحاضر في أخذ مضامين كثيرة منه، وبهذا فقد تم الاحكام في وضع أساس متين لهذه الدولة التي ختم الله بها أديان السماوية.

ولكن النفس البشري وما يوسوس لها الشيطان من الخروج على ما تم وضعه من اسس صحيحة وصحية من قبل الرحمن، ولهذا فقد تم الانحراف على رسم لهم من منهج، ولذلك جاء دور أهل البيت عليهم السلام في تصحيح هذا الانحراف والذي كان ثمنه

ص: 393

كبير من قبلهم عليهم السلام بأن دفعوا ثمن ذلك حياتهم عندما وقف شياطين الارض وقفوا بكل ما يملكون من قوة ضد هذا التصحيح. وقد أكد الرسول محمد بنص صریح بأتباع أهل البيت عليهم السلام من بعده بقوله ص «يا أيها الناس إني تركت فيكم أن اخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ...»(1)

وما وصية الامام علي عليه السلام لمالك الأشتر، إلا استلهام و فهم حقيقي للمبادئ التي أكد عليها القرآن المجيد والإسلام الحنيف والتي تم تبليغها عن رسوله محمد (صلی الله عليه وآله) الى عباده، وهي تأكيد على إنسانية الاسلام وقدسية البشر، فلا يمكن لأي منا استعباد الآخر أو ظلمه أو الاستيلاء على ما يملكه، وكل ما في الارض هو ملك الله وحده لا شريك أخر فيه، وأن الحكام الذي يحكمون في الارض هم منظمون لسير الانسان، وأن حكمهم هو تطبيق ما جاء في دستور الله (القرآن) وما تركه النبي (صلى الله عليه وآله) لهم وما وجاء به أقرب الناس للرسول وهم اهل بیته.

وقد تضمن العهد عدة محاوروعنوانات وصلت إلى أربعين فقرة منها، السيرة الحسنة، العلاقة مع الرعية، عدم التكبر، الانصاف، العدل، الوشاة، الاستشارة، دور الوزراء وصفاتهم، الاحسان، السنة الصالحة، دور العلماء، العلاقة بين طبقات المجتمع، دور قادة الجيوش والعلاقة بهم، اختيار القضاة، الشبهات، اختيار العمال والولاة، خيانة العمال، الخراج ومالية الدولة، الكتاب وأصحاب الديوان، فنون الكتاب، التجار والاحتكار، الاهتمام بالفقراء، اصحاب الحاجات والمصالح، واجبات الحاكم، أداء الفرائض، عدم الاحتجاب عن الناس، دور الحاشية، الاستفادة من العلماء، العلاقة بالأعداء والعهود معهم.

الباحثان.

ص: 394

نبذة مختصرة عن الوالي مالك الأشتر

وهو ومالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفي، المعروف بالأشتر، من أصحابة أمير المؤمنين عليه السلام ومن أثبتهم. (2)

أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهو من ثقاة التابعين. وكان رئیس قومه، وكان الإمام عليّ عليه السلام يثق به ويعتمد عليه، وطالما كان يُثني على وعيه وخبرته وبطولته وبصيرته وعظمته، ويفتخر بذلك، أوّل حضور فاعل له كان في فتح دمشق و حرب اليرموك، وفيها أُصيبت عينه فاشتُهر بالأشتر، عاش مالك في الكوفة، وكان طويل القامة، عريض الصدر، عدیم المثيل في الفروسيّة. وكان لمزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته وأُبُهته وحياته، تأثير عجيب في نفوس الكوفيّين، نُفي مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيّام عثمان بسبب اصطدامه بسعید بن العاص والي عثمان، ولمّا اشتدّت نبرة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة، ومنع والي عثمان - الّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك - من دخولها. واشترك في ثورة المسلمين على عثمان، وتولى قيادة الكوفيّين الّذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة، وكان له دور حاسم في التصدي والوقوف بوجه الخليفة عثمان بن عفان. (3)

توفي سنة 39 ه وهو في طريقه إلى مصر لأداء مهامه الموكلة إليه، فتأثر الإمام لوفاته كثيراً حتى ظن بعض النخعيين أن الإمام فقط هو صاحب المصيبة. وجاء عن هذا الأمر «شهادته قلد الإمام (عليه السلام) مالك ولاية مصر فخرج إليها، وسارت قافلته لا تلوي على شيء فلما انتهت إلى إبلة (البصرة) التقى به نافع مولى عثمان بن عفان، وقد أرسله معاوية لاغتياله، وكان لبقاً فقال له مالك: ممن أنت؟ من أهل المدينة من أيهم؟ فأخفى نسبه وموضعه وقال: مولى لعمر بن الخطاب أين تريد؟ مصر ما حاجتك؟ أشبع من الخبز، فرق له مالك وقال له: سأصيبك من الخبز، وسار مالك ومعه عميل معاوية حتى انتهى إلى القلزم فنزل ضيفاً عند امرأة، جهينة فرحبت به، وسألته أي الطعام أحب إليك

ص: 395

فقال الحيتان، فقدمت له ما اشتهى فلما تناول الطعام أصابه عطش شديد فأخذ يكثر من شرب الماء، فقال له نافع مولى عثمان لا يقتل سمه إلاّ العسل، فدعا الأشتر بإحضاره من ثقلهِ فلم يكن فيه فبادر نافع قائلاً هو عندي علي به، فأحضره وكان قد دس فيه سماً قاتلا فتناوله، ولم يكن حسرات، من أن تقطعت أمعاؤه وأخذ الموت يدنو إليه وطلب إحضار نافع فوجده منهزماً، وعرف مالك ما دبره له هذا العميل، ولم يلبث إلا قليلاً حتى طويت حياته التي كانت صفحة من الشرف والكرامة والجهاد في سبيل الله، وقد جعل الخبيث يردد (إنّ لله تعالى جنوداً من عسل) (4).

ولما انتهى النبأ المفجع بشهادة مالك ذابت نفسه أسي وحسرات، وأخذ يذرف الدموع قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله رب العالمين اللهم إني احتسبته عندك فإن موته من مصائب الدهر، وأضاف قائلاً: رحم الله تعالى مالكاً فقد وفي بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، وإنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فغنها من أعظم المصائب، واخذ الإمام يتلهف على فقده ويقول بحرارة: لله در مالك لوكان من جبل لكان فنداً ولو كان من حجر لكان صلداً أما والله ليهدني موتك، وأضاف: على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجود کمالك لقد عرض شهادة مالك حياة الإمام، فقد خسر أعظم شخصية تساعده على محن الدنيا وكوارث الأيام، وسر معاوية بسمة لمالك، وخطب الناس قائلاً: أما بعد: فإنه کانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفين وهو عمار بن یاسر، وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر. (5)

البِناءُ لغة

تأتي كلمة بناء عند أهل اللغة بعدد معاني، فتأتي بمعنى الحائطُ، والبيوتات التي تسكنها العرب في الصحراء، وسبب تسميته بالبِناءُ «من حيث كان البناء لازماً موضعاً

ص: 396

لا يزول من مكان الى غيره، وليس كذلك سائر الآلات المنقولة المبتذلة كالخيمة والمظلة والفسطاط والسرادق ونحو ذلك، وعلى أنه مذ أوقع على هذا الضرب من الاستعمالات المزولة من مكان إلى مكان لفظ بناء تشبيهاً بذلك من حيث كان مسکوناً وحاجز أو مظلاًّ بالبناء من الأجر والطين والجص. (6)

من هنا نستدل على أن البناء يجب أن يكون ثابت، ولا يمكن أن نطلق على المتحرك بناء، لان من صفات البناء السكون والثبات.

وتأتي بمعنى الانسان، لان الانسان مجموعة من المكونات ولا يقتصر على جزء معين، فكل الاجزاء والاجهزة التي خلق فيه والتي خصص لكل جهاز من أجهزته وظيفة معين تتكامل من غيرها من الاجهزة يشكل وحدة متكاملة من البناء، ومن هنا جاءت قدسية الانسان لأنه من بناء الله وحده، فالاعتداء عليه يمثل الاعتداء على الله جلَّ علاه، فقد جاء عن سليمان عليه السلام «من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون؛ يعني من قتل نفساً بغير حق، لان الجسم بنیان خلقه الله وركبه (7).

البناء في القرآن

وردت كلمة بناء في عدد من الايات الكريمة لتعطي معنى واحد وهو الثبات.

كقوله تعالى: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (8)

وقوله تعالى: «لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (9)

و قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ

ص: 397

السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ» (10)

وقوله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» (11)

وقوله تعالى: «قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» (12)

وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» (13)

وقوله تعالى: «وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا» (14)

وقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ» (15)

وقوله تعالى: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ» (16) وقوله تعالى: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (17)

وقوله تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ» (18)

وقوله تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ» (19) وقوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (20)

وقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (21)

ص: 398

وقوله تعالى: «وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ» (22)

«لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ» (23)

الرصانة لغة

جاءت هذه الكلمة عند أهل اللغة بمعنى المحكم الذي ولا يمكن النفاذ من خلاله لقوته وتماسکه کما ورد عند أبن منظور بتفاصيلها بقوله:» رصن: رَصُنَ الشيءُ، ورَصانَةُ، فهو رَصين: ثبت، وأَرصنَه: أَثبته وأَحكمه، ورَصنَ: أكمله، والرَّصِ: المحكم الثابت، ورَصَنتُ الشيء معرفةً؛ أي علمته، ورجل رصين: کرَزِينِ، وقد رَصُنَ...»(24)

النظم الادارية من خلال عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

النظم الادارية: نشأت النظم الادارية للدولة الاسلامية مع قيامها، فكانت حاجتها لبعض هذه النظم من أجل سيرها وتنظيمها، وكانت بشكل مبسط لبساطة القائمين عليها، وبعد توسع الدولة العربية الاسلامية وكثرة من دخل الاسلام من كافة الامم استحدثت مؤسسات ادارية أخرى لمتطلبات أدارة الدولة، وهكذا تدرجت النظم الادارية في الظهور من سعت الدولة وقد تكاملت هذه المؤسسات في العهد العباسي، فأصبحت أنموذج يصدر لكثير من البلدان الاسلامية وغير الاسلامية والتي مازالت مستمر الى يومنا هذا وأن تغيرت بعض أسمائها ولكن مضمون عملها بقية كما هو يدار من قبل القائمين عليها، فأصبحت هذه النظم قوانين تحكمها، ومعايير في متوليها فلا يمكن أن يتولاها إلا اذا توفرت به مجموعة من الصفات تؤهله لنيل رئاسة المؤسسة الادارية وينطبق الأمر على العاملين فيها، وهذا ما دونته كتب الاحکام السلطانية التي تعد بمثابة دساتير أدارية يمكن الرجوع اليها للوقوف على التفاصيل مما يدلل على

ص: 399

الرصانة التي أوجبتها الدولة العربية الاسلامية في هيكلها الاداري. (25)

ومن ما جاء في عهد الامام علي الى واليه مالك بن حارث الاشتر عندما ولاه مصر يكشف لنا دقة ما استرسلنا به وما أكدنا عليه وهذا ما سوف نبینه من خلال الوقوف على هذا العهد وهذه الوثيقة المهمة التي وضعت الاساس للتعامل السليم مع الرعية والبناء الصحيح والصحي لمقومات الدولة التي لا يمكن أن تسقط لو اتبعت ما جاء في هذا العهد وطبقته، والذي استلهمت مبادئه من القرآن الكريم وما أكد عليه الاسلام الصحيح.

المهنية في ادارة الدولة

ولا جل رصانة الدولة وبنائها بناء صحيح وماجاء في عهد الامام عليه السلام لواليه مالك الاشتر يؤكد ذلك بقوله: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا..» (26)

فهو يؤكد على صفات من توكل له المسؤولية التي يجب أن تتوفر به، فلا يمكن أن تكون هناك رصانة أذا أعتمد الوالي أو ولي الامر على أقاربه أو معارفه في أدارة الرعية والدوله وهم لا يفقهون من الأمر شيء، أكد (عليه السلام) على المهنية في إدارة الدولة، وهذا الامر تم استلهامه من القرآن الكريم بقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ» (27)

وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ» (28)

ص: 400

عدالة الحاكم او الوالي

وهي من المهمات التي اكد عليها الدين الاسلامي بأن من يتولى رئاسة الرعية يجب أن يتصف بالعدالة، لانه خليفة الله في أرضه كما جاء في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (29)

وقوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» (30)

وأما العدالة فتكون في مقدمة ما يسعى اليه في تسير أمور الرعية، فبدون العدالة لاتستمر الدولة بل ويعجل هذا الأمر من سقوطها كما جاء في كتاب الله المجيد كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (31)

وقوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (32) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (33)

وقوله تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (34)

وجاء رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) « إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة،

ص: 401

وأناهم مجلساً، إمام عادل، وإبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر» (35)

وجاء عن أبن الازرق «لا عمارة بدون عدل» (36)

وهذا أول شيء أوصى الإمام (عليه السلام) به واليه مالك الأشتر، أن يكون محبَّاً للرعيتة، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة.

«أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطا، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم، و ابتلاك بهم» (37).

وهذا مأكده الرسول محمد ص (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالامير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته...» (38)

ومن واجباته الوالي أن لا يكون بينه وبين شعبه أو رعاياه حاجب يفصله عنهم أو هو جاء لخدمتهم وتنظيم حياتهم وتلبية حاجاتهم وهو بمثابة الاب في عائلته وهذا ما جاء في عهد الامام عليه السلام بقوله: «وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ویشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت

ص: 402

أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطية، أو فعل کریم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة.» (39)

وكان من ضمن واجبات الخليفة أو السلطان أو رئيس الدولة عند تعينه لاحد ثقاته أن يوصیه بجملة من الامور التي تعد بمثابة منهاج يجب أن يتبعه هو معرفة تاريخ المصر أو الولاية والوقوف على خلجات أو نفوس لما لتاثير الطقس والموقع في سلوكياتهم وهذا ما أوردته الوثيقة وأكد عليه الامام على لواليه الاشتر بقوله «هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أميرُ المؤمنينَ مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله، ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت (40)

ومن واجبات الوالي، اذا اعطى عفو لمسيء، هذا لا يعني ضعف الوالي أو حكومته وأنما ليعطي فرصة أخرى له، لعله يستفاد منها، فليس هناك أنسان معصوم من الخطأ،

ص: 403

وهذا مما میز اصالة الدين الاسلامي والدولة التي يطمح لها وهي دولة العدل والسلوك وهذا ما أكده الامام علي في عهده للمالك بقوله: «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. (41)

وقد أوصاه أن يكون عادلا فإذا ما تخذ قرار خطأ فلا بأس أن يظهر لهم ويعتذر عن فعلته فهو إنسان يخطأ ويصيب ولكن العيب أن يصر على خطئه ويستمر «وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقاً برعيتك، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق»(42)

وما أوصاه في هذا المجال جملة من الامور لتكون له خارطة طريق لحكم عادل يرضاه الله ونبيه (صلى الله عليه وآله) والمؤمنون وهي «وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين» (43)

«وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: كَبُرَ مَقتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ.» (44)

«وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه.» (45)

«وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما یعنی به مما قد وضح للعيون، فإنه

ص: 404

مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.» (46)

«املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك وغرب لسانك. واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الإختيار. ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.» (47)

وقوله تعالى أبلغ في هذا الامر بقوله تعالى: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (48)

وقوله تعالى في أية أخرى: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» (49)، وبهذا فأن الامام علي (عليه السلام) لم يخرج في عهده لواليه عن صميم الاسلام الساعي للعدالة وكرامة الانسان وقدسيته ومسؤولية الحاكم في استلهامه روح هذه القيم وتطبيقها.

ومن أجمل ما أوصى به الامام علي (عليه السلام) وهذا اليوم مفقود و سبب بلاء أمتنا في هذا البند، فعندما يتبدل الحاكم أو تنتهي ولايته ويجي حاكم أخر يبدأ بتسقيط من قبله من الحكام ليظهر أنه الأفضل منه «والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.» (50)

الترف والفساد

جاء الدعوة الى الاسلام من خلال الفقراء ولله جل علاه أرادة في هذا الأمر فلم ينزله على المترفين من أهل قريش بل أنزله على أفقر فقرائهم، وكانت مادة الاسلام من هؤلاء، وكان الرسول محمد (صلى الله علیه و آله) يرعى الغنم لاغنياء قريش بقيراط (51)، وانطبق

ص: 405

الامر حتى على الانبياء الذين سبقوا الرسول محمد ص، واكد الله هذا الامر بقوله تعالى «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى» (52)، وأن أحد أسباب سقوط الدول أنغاس حکامها بالترف وترك الرعية وشؤونهم ومعاشهم، وهذا مأكد عليه ابن خلدون بقوله:» الاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك، فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة ...» (53)

وفي موضع أخر لابن خلدون قوله «وذلل أن الامة إذا غلبت وملکت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر ریاشها ونعمتها فتكثر عوائدهم، ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته الى نوافله ورقته وزينته، ويذهبون الى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها، وينزعون مع ذلك الى رقة الاحوال في المطاعم والملابس والفرش ولآنية، ويتفاخرون في ذلك فيه من الامم...» (54)

وهذا ما أكد عليه عهد الامام الى مالك الاشتر «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطا من إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفي إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حرباً حتى ينزع ويتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.» (55)

ومن واجبات الحاكم أن يكون على مسافة متساوية مع رعيته من خلال تعامله، وقد أكد الله سبحانه وتعالى على هذا الامر بقوله تعالى: وكذلك جعلناك«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا

ص: 406

شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» (56)

«وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضی العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم..» (57).

من الامور التي أكد عليها الامام علي في عهده لواليه أن لا يظهر عيوب رعاياه، فأن ذلك يظهر حقد الاخر ويتربص بالدولة ليساعد على سقوطها، فأحترام الموطن والإنسان سيجعله أكثر وطنية، وأن لا يصدق كل ما توتي له من عيونه أو ساعاته ولا يتخذ أي حكم إلا بعد التأكد من مصادر معلومات أخرى. فقال الله تعالى عن النهام «وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ» (58)

فلنمام أكثر كفراً من الالحاد والتثليث والفسق والظلم (59)

«وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد. واقطع عنك سبب كل وتر. وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصدیق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه

ص: 407

بالناصحين..» (60)

ومن واجبات الوالي الأمور المسلمين متابعة راعياه وخاصة الفقراء منهم والموعزين فهؤلاء حق الحاكم في متابعتهم والسؤال عنهم وتوفر ما يحتاجون اليه من المعيشة لان كرامة الانسان مكفولة في الدين الاسلامي حتى لا يتحول المحتاج الى التجاوز على الآخر مما يؤدي الى عدم الاستقرار والفوضى، وقد جاء في كتابالله العزيز ما يؤكد هذا بقوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (61)

وقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا» (62).

وقوله تعالى «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (63).

وقوله تعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (64).

وهذا مأكد عليه الامام علي (عليه السلام) في عهده المالك الاشتر حينما يوصیه به الطبة من المجتمع «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين،

ص: 408

وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمة العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم.» (65)

المشورة

جاءت الكلمة استشار عند أهل اللغة تعني، الفَحلُ الناقَةَ، والمتشير: من يعرف الحائل من غيرها. (66)

وجاء في تعريفها: «اجتماع على أمر ليشير كل واحد برأيه» (67).

المشورة من أهم الأمور التنظمية التي يسعى من خلالها الى اتخاذ الرأي الصائب، من أجل بناء صحيح، فكما نعلم أن العقل الإنساني لا يدرك كل ما يحيط به الى درجة الكمال، وعدم الاستداد بالرأي لان الاستبداد يعني التهلكة وسرعة الخراب الى الدولة ومن هنا أكد الله جلَّ علاه على هذا الامر بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (68).

وجاء في فائدة المشورة «أعلموا أن المستشير وإن كان أفضل رأياً من المشير فإنه يزداد

ص: 409

برأيه رأياً - کما تزداد النار بالسليط ضوأً...» (69)

والنصيحة والمشورة من سنن المرسلين عليهم السلام (70)، كما جاء في قوله تعالى وهو ينصح نبيه نوح عليه السلام

بقوله تعالى: «وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (71).

إضافة الى ما ذكر فيجب أن تكون هناك صفات في يجب أن تتوفر في المراد استشارتهُ، وأول هذه الصفات يجب أن يكون صادق مع المشير وقد وضع الفقهاء اثنی عشر صفة للمستشار يجب أن يتحلى بها. (72)

وهذا ما أكد عليه الامام علي عليه السلام في عهده لمالك الذي سبق كل ما ورد باستثناء القرآن الكريم الذي استهم الامام فكره وفلسفته منه، «ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله ..» (73)

وقد طلب الامام علي من واليه أن يضيف في الاستشارة من العلماء وأن يشركهم في الامر من خلال الارسال اليهم او حضوره عندهم، حتى لو لم يكونوا من ضمن النظومة الحكومية بقوله له «وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.» (74).

وطلب من واليه أن يعطي أهتمامه إلى علية القوم في مصر أو ولايته ولا يقلل من شأنهم بقوله (عليه السلام): «ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن

ص: 410

في نفسك شي قويتهم به. ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه» (75).

ثم نبهه الى أمر هام وهو أن لا يمنح عماله ويهبهم ما لا يملكه أو أملاك عامة تعود فائدتها الى الدولة أو أنها تعود ملك خاص الى الافراد فيقوم بنزعها وهبتها الى حاشيته وبطانته، أو أنها تشكل لرعاياه مصدر حياتهم كالنهار أو الآبار فلا يجوز ذلك منه» ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة» (76).

ومن صلاحيات الوالي اعلان الحرب إذا رأى ذلك ضرورة، ولكن العدو اذا طلب الصلح، فعلى الوالي أن يرضخ لهذا الامر خوفا على المسلمين وعوائلهم ولان الحرب تكلف أموال وهي الخيار الاخير في حالة عدم التوصل الى حل، ولكن الصلح أحياناً هو استعداد العدو لتكملة عدته بشكل نهائي للهجوم بشكل أقوى مستغل ما تم اعطائه من وقت أضافي، مما يدلل على عقلية الامام علي (عليه السلام) العسكرية الفذة وهو يوصي واليه أن يتوخي الحذر بقوله له: «ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحُط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد علیه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود.

ص: 411

وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر! فلا تغدرن بذمتك، ولا تخیسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره. فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك، إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم التبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم» (77).

وبهذا فأن الامام علي كان أسبق الفقهاء في أرساء هذه الوظيفة الادارية وهي الباب الذي أعتمده الفقهاء في ما بعد في علومهم.

مؤسسة الوزارة

الوزارة: وهي ام الخطط السلطانية والرتب الملوكي (78)، لأن صاحبها يتقاسم المسؤولية مع رئيس الدولة، وقد اشتقت من كلمة الوزارة لتعطي المعاني الآتية الوزر؛ تعني الثقل (79)، لانه يحمل اثقال المسؤولية، وذلك تاتي من الازر وهو (الظهر) الذي يسند عليه البدن، ومن الوزر وهو الملجا (80)، ومنه قوله تعالى «کَلا لَا وَزَر» (81) أي

ص: 412

ملجا لان الحاكم يلجا إلى رايه ومعونته.

والدال من كلمة الوزير واشتقاقاتها بأنها عربية صرفه و قد اوردها القران الريم في أحدى اياته، قال تعالى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» (82).

فقد أكد الامام علي (عليه السلام) على واليه أن يتخذ بطانة تامر بالعروف وتنهى عن المنكر،، وقد وضع الفقهاء صفات لهولاء البطانة والمقربين لأولي الامر (83)

وبهذا فإن ما جاء به عهد الامام علي يؤكد أن منصب الوزارة موجود في العهد الراشدي،

«إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأئمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك و حفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهُم على أن لا يطروك، ولا يَبجَحُوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة، وتدني من الغِرَّة» (84).

- الدواوين

ظهرت الدواوين مع ظهور الدولة العربية الاسلامية لحاجة الدولة لها لكونها تساد في تنظيم سير الرعية، فالقضاء کان مؤسسة مهمة في حياة المجتمع، وكذلك ديوان الجند في تسجيل اسماء المقتلة ورواتبهم، وكذلك من يساعد اولي الامر في ادارة الدولة أن الخليفة

ص: 413

أو الوالي لا يستطيع ادارة جميع مرفقات الدولة لوحده، لان الانسان محدود بطاقة فلا بد من أن يشاركه في هذا العمل، ويؤكد هذا الأمر الله جلَّ علاه بقوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» (85)

«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا» (86)

«وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (87)

أما أبن خلدون فيقول في المشاركة أولي الأمر «أعلمة أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أم ثقيل، فلا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه، وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده، وهو محتاج الى حماية الكافة من عدوهم بالمدافعة عنهم، والى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بأمضاء الاحکام الوازعة فيهم، وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم - والى حملهم على مصالحهم، وما تعمهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقد المعاش والكاييل والموازين، حذراً من التطفيف، والى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعامل بها من الغش، والى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرضاء بمقاصده منهم وأنفراده بالمجد دونهم فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب...» (88) ويختم قوله بحكمة: «لمعاناة نقل الجبال من مكانها أهون عليَّ من معاناة قلوب الرجال» (89) مما يؤكد ثقل المسولية في تسير الرعية لاختلاف الاهواء بينهم، وهذا ما أكده الامام علي عليه السلام في عهده لمالك جاء فيه

«واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا بعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل

ص: 414

الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه، عهداً منه عندنا محفوظاً!...» (90)

وهنا يفصل عليه السلام وظيفة كل مؤسسة.

مؤسسة القضاء

يعد منصب القضاء من أهم المناصب في الدولة العربية الإسلامية لمكانته المقدسة بالإضافة إلى ذلك يشكل المؤشر على عدالة الحاكم وحكومته في المجتمع وهو من أهم المؤسسات الإدارية التي يتحقق بها القسط وتحفظ بها الحقوق وصيانة الاعراض والاموال فقد عد العدل جزء من تعاليم الإسلام وركيزة من ركائزه التي لابد منها لا غنى عنها، وكان أول من تولى القضاء في الدول العربية الإسلامية الرسول (صلى الله عليه وآله). (91)

تعريف القضاء

لفظ القضاء ياتي في اللغة على انحاء مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه يقال قضي الحكم اذا فصل في الحكم وقضى دين أي قطع والغريمة فبله في الاداء وقضيت الشيء احکمت عمله (92) وفيه قوله تعالى «إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (93) أي احكمه وانفذه.

وأصبح القضاء علم قائم بذاته من خلال الشروط والصفات التي يجب أن تتوفر في متوليها وهي: الإسلام، العقل، الذكورية، الحرية، البلوغ. (94) العدالة، العلم سلامة الحواس (السمع، البصر واللسان) (95).

وهذا مأكده الامام علي (عليه السلام) في متولي القضاء في عهده الى مالك الاشتر بقوله: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه

ص: 415

الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء. وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا» (96)

أكد على مؤسسة القضاء وأهميتها في فصل النزاعات بين الخصوم واستقرار المجتمع، وكذلك عمال القصبات والولايات التي تبعد عن العاصمة او المصر، وكذلك حاجة الدولة الى الكتاب في تسجيل الصادر والوارد من أموال الدولة أو الكتاب الرسائل أو نحوهم، وهي من وظائف الدولة ومقوماتها، وقد وضعت قوانين لمتولي هذه الوظائف، ولا يمكن أن يتولاها اي شخص إلا اذا توفرت به الصفات التي تؤهله لرئاسة أو العمل فيها وهذا ما أكده العهد الامام مالك جاء فيه «ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.» (97)

ديوان الجند

فواجب هؤلاء الحماية الرعية والدولة ولا يمكن أي دولة أن تقوم بدون جيش يحميها ويحمي مؤسساتها وشعبها وإلا تكون لقمة سهلة لمن يريد افتراسها» فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم» (98)

وفضل الامام علي عليه السلام أن يكون رؤساء الجند من القبيل الذي أخذ من الجند

ص: 416

لان هولاء له سطوة على ابناء عشيرتهم «وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو. فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.» (99)

وأكد عليه (عليه السلام) أن مؤسسة الجيش من أهم المؤسسات ويجب أن يتعامل معها بالعدل والإنصاف، أضافة الى زرع الثقة بأنفسهم، ولا يستصغر العمل البطولي أذا صدر من صغير العمر، ولا تصغر عمل الكبير، فأن ذلك يؤدي إلى انهيار الحالة المعنوية عند أفراد الجيش

«وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية. وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلی ذوو البلاء منهم. فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع و تحرض الناكل إن شاء الله. ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلی، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..» فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.» (100)

رواتب الجيش

حدد عليه السلام لواليه الاشتر عطاء الجد وعدالة العطاء بدون تميز بقوله عليه

ص: 417

السلام «ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.» (101)

العيون

لابد للخليفة أو الوالي من متابعة سير الرعية دون علمهم ليقف على صدق التعامل معه أو مع غيره، ولان أدارة الدولة من مسؤوليته فيجب أن يعرف ويعلم بكل صغيرة وكبيرة عن طريق أعوان له، وهو لا تجسس عليهم من أجل الضرر أو الاساءة اليهم بقدر متابعة أعمالهم ومكافئتهم وهم يعلمون ذلك أنهم مراقبون، فيجب عليهم الاخلاص في ما أوكلَّ إليهم من مسؤوليات، وهذا الامر معمول به الى يومنا هذا والذي يعرف هيئة الرقابة المالية کما موجود في العراق، واستحدثت رقابة جديدة التي تعرف اليوم في بلادنا بالنزاهة، ووضع الامام علي (عليه السلام) صفات هؤلاء العيون مما يدلل على خطورة عمل هؤلاء في ما ينقل الى الخليفة أو الوالي وما جاء عنه في عهده الى مالك الاشتر يؤكد ذلك بقوله: ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة» (102)

مؤسسة الحسبة

الحسبة هي الامر بالعروف إذا ظهر ترکه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. (103)

ومتوليها مسؤول عن حالة الاسواق واستقرارها ووجد هذه المؤسسة منذ وجود الدولة العربية الاسلامية وكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بها (104)

ص: 418

وأوجب الفقهاء في متوليها جملة من الشروط، لانها أصبحت علم قائم بد ذاته له قوانينه (105) ومن هذه الشروط الواجب «...ان يكون حرا، عادلا، فقيها، عارفا بالاحكام الشرعية، ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، ذكرا، مسلما، ذا أناة وحلم وتيقظ وفهم عارفا بجزئيات الأمور وسياسات الجمهور، لا يستنفره طمع ولا تلحقه اهواء، ولا تاخذه في الله لومة لائم مع مهابة تمنح من الادلال عليه وترهب الجاني لديه». (106)

أما الشروط الواجب توفرها في متوليها فمنها «...ان يكون حرا، عادلا، فقيها، عارفا بالاحكام الشرعية، ليعلم ما يأمر به وينهى عنه، ذكرا، مسلما، ذا أناة وحلم وتيقظ وفهم عارفا بجزئيات الأمور وسياسات الجمهور، لا يستنفره طمع ولا تلحقه اهواء، ولا تاخذه في الله لومة لائم مع مهابة تمنح من الادلال عليه وترهب الجاني لديه». (107)

أما موقعها فهي «... ما بين خطة القضاء وخطة الشرطة، جامعة بين نظر شرعي وديني وزجر سیاسي سلطاني، فلعموم مصلحتها وعظيم منفعتها...» (108)

ويلخص ابن خلدون هذه الشروط بقوله «... يعين لذلك من يراه اهلا له...» (109) ولهذه الاهمية فهي من اعظم الخطط إذ أن صاحبها «... يحتاج إلى كثير من القوانين وليس بعد خطة القضاء اشرف من خطة الحسبة». (110)

تتركز واجبات صاحب السوق على الأمور التالية «...کالبحث عن المنكرات... ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الاكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وازالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على ايدي المعلمين...» (111) والى جانب ذلك منع من «...تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق... ذلك لما فيه من تغرير البائع، فانه لا يعرف السعر فيشتري منه بدون قيمة... منع الاحتكار لما يحتاج الناس إليه...» (112)

ص: 419

«... فإذا راى المحتسب احدا قد احتكر من سائر الاقوات، وهو أن يشتري ذلك في وقت الغلاء، ويتربص ليزداد ثمنه الزمه بیعه اجبارا...» (113).

«وبمنع من اختلاط الرجال بالنساء في مواقف البيع... وينهى من التعامل بالربا» (114)

وقد تتداخل وظيفة المحتسب مع وظيفة القاضي ولكن حددت صلاحياته في أمور تخص عمله فقط فهو «... لا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى عمله من ذلك ويرفع إليه وليس له امضاء الحكم في الدعاوي مطلقا، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الانصاف وامثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا انفاذ حکم وكانه احکام بنزه عنها القاضي لعمومها وسهولة اغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء...» (115)

وهذا ما أكدت عليه وثيقة الامام علي لواليه مالك الاشتر جاء فيها

«ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. اعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. فامنع من الإحتكار فإن رسول الله - منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً، بموازین عدل و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف..» (116)

ص: 420

ردَّ المظالم

تعد ولاية النظر في المظالم نوعا من القضاء العالي، وسلطة الناظر في المظالم اعلى من سلطة القاضي، وهي تنظر في المنازعات ما لا ينظر القاضي بل هي تنظر ظلامة الناس منه وتمنع الظالم من الرعية، ويقول الماوردي في تعريفه لهذه الخطة والصفات التي يجب أن يحملها صاحبها بقوله «... ونظر المظالم هو قود المتظلمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر أن يكون جلیل القدر نافذ الأمر عظیم الهيبة ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لانه يحتاج في نظره إلى الحماة وثبت القضاة ... فإن اقتصر به على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه وامضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه ... لا تاخذه في الحق لومة لائم...» (117)

ويؤكد ابن خلدون ذلك بقوله «... والنظر في المظالم هي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظیم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكانه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن امضائه ...» (118). وبهذا فأن متولي ردَّ المظالم يكون أعلى من كل مؤسسات الدولة وهو رقيب على أعمالهم، وبهذا فيفضل أحياناً أن يجلس الوالي أو الخليفة للنظر بشکاوى الرعية حتى لو كانت على الخليفة أو الوالي، فربما ظلم أحدهم دون قصد وهو لا يعلم، وقد أكد عهد الامام علي (عليه السلام) على ذلك لواليه بقوله:

«ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعي عنه كتابك. ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك، إقامة فرائضه التي هي له خاصة. فأعط

ص: 421

الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ. وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله، حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما.» (119)

وحذره من أن يستغل أقاربه منصبه ويتحدثون للناس بأسمه وهو لايعلم ذلك فيستغل هولاء الرعية، فعليه معاقبتهم بقوله (عليه السلام): « وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة» (120)

رواتب موظفون في الدولة

أكد الامام علي (عليه السلام) في عهده الى واليه على مسألة مهمة وخطيرة وهي أرزاق الموظفين أو رواتبهم، لان الموظف العامل في الدولة يقضي جلَّ وقته في العمل في مؤسسته فلا يستطيع أن يعمل عمل ثاني، لكي يستعد ليوم أخر كله نشاط لاجل خدمة الرعية ومؤسسته واكمال اعماله على وجه الصحيح والدقة، والاكتفاء الذاتي للموظف مهم جدا فيما يخص راتبه بحث يتساوي مع متطلباته المعيشية، فأي خلل في راتبه بالنقصان يؤدي الى نقص كفاءته وكفاءة عمله، مما سيؤدي الى الخلل في سير الدولة الاداري، مما يطر البعض الى الرشوة لتعويض هذا الخلل أو النقصان والرشوة تعني مرض سرطاني يسري في جسم الدولة الى أن يسقطها، ومن هنا أكد الامام علي (عليه السلام) على هذا الامر بعهده «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن

ص: 422

ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك.» (121)

الخراج

أن النظام المالي في الاسلام واضح المعالم، مستقل كل الاستقلال، وأكثر مبادئ هذا النظام وقواعده أقرها القرآن الكريم، وفصلها الرسول محمد ص واوضحها للمسلمين، فالزكاة أو العشر (122) يفرض على الاغنياء من مالهم للفقراء وهي أول ضريبة فرضت في الاسلام على الميسورین کما جاء في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (133) وقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (124)، وتم تحديدها 5/ 2 ٪ (اثنان ونصف بالمائة) (125)

أما الخراج: فهو يفرض على الارض وحسب سقايتها، وقد وردت هذه اللفظة بالقرآن الكريم بقوله تعالى: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (126)، كان الخراج أما عيني أم نقدي (مقدار من الحاصلات الزاعية أو غلال أو أموال نقدية) (127)، لذا يتوجب العدالة في أخذها لان أزاق الناس تعتمد على ما تنتجه الارض طوال السنة، وما يعانية الفلاح من صعوبات وآلالام من الانتظار، أضافة الى ما يتعرض له المحصول من أفات زراعية أو قلة المياه أو الامطار فيجب أخذ كل ذلك بالحسبان عند فرض الخراج وعلى الوالي أن يشرف ويتابع بنفسه هذا الامر وهذا ما أكد عليه الامام في عهده «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن

ص: 423

شکوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شي خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر..» (128)

ديوان الكتابة

الكتابة هي لفظ مشتق من كتب ومعناها الجمع، ويقال تكتب القوم اذا اجتمعوا» ولهذا سمي «الكتاب كتابا لانه يجمع بين الحروف ويضم بعضها بعضا». (129)

لقد ورد هذا اللفظ في عدد من الآيات القرآنية كقوله تعالى: «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» (130) وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» (131) و (اعظم شاهد لجلیل قدرها، واقوى دليل على رفع شانها أن الله تعالی نسب تعليمها إلى نفسه، واعتده من وافر کرمه وأفضاله وقال عز اسمه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (132) مع ما يروى أن هذه الآية مفتتح الوحي وأول التنزيل على اشرف نبي وأكرم مرسل (صلى الله عليه وآله) وفي ذلك من اهتمام بشأنها ورفعة محلها ما لا خفاء فيه» (133).

ص: 424

لقد بدات هذه الوظيفة مع بداية الدولة العربية الاسلامية، ففي عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان هناك نوعان من الكتاب هما (كاتب الوحي، وكاتب الرسائل) وفي عهد الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ونتيجة لتوسع الدولة العربية الاسلامية اصبح الكتاب موظفين يقومون باعمال ثابتة يتقاضون عليها راتبا، ولهذا فان هذه الوظيفة كانت تعهد الى اناس من ارفع الطبقات في المجتمع. (134)

ثم تطورت هذه الوظيفة بتطور الحياة السياسية وتوسع الدولة العربية الاسلامية في العصر الاموي، فاصبح هناك كتاب للوظائف عديدة منها (كتاب الرسائل، كتاب للجند، كتاب لعمال الجبايات، كتاب الشرطة، اما في العصر العباسي فكانت كتابة الرسائل من اختصاصات الوزير في بداية دولتهم، ولكثرة مسؤوليات الوزير انفصلت وأصبحت مستقلة لها موظفوها، وكان كبيرهم يدعى (برئيس الانشا)، (135) مما يدلل على أهميتها وخطورتها لانه يطلع على كل اخبار الدولة وتفاصيلها، لذا وجبت عليه أن تتوفر صفات في متوليها، منها الحلم، الفهم، كتوما للأسرار، قد نظر في كل علم فأحكمه، يعرف بغزارة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعدلكل أمر عدته وعتاده، ويهئ لكل وجه هيئته وعادته. (136)

وهذا مأكد ليه الامام في عهده الى واليه مالك الاشتر بقوله: «ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يُضعف عقداً اعتقده لك، ولا يَعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن

ص: 425

الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك الله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت عنه ألزمته.» (137)

الاستنتاجات

أكد عهد الامام علي بن أبي طالب الى واليه مالك الأشتر على جملة من الامور الاتية

1- أن يكون محبَّاً للرعية، لكافة أديانهم ومذاهبهم.

2- أن يكون مسامحاً وأن يعفو ويصفح عمَّن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته.

3- أن لا يكون هناك تميّز في عطاءاته من بیت المال بين المسلمين سواء كانوا قرباء أو غيرهم، فهم سواسية عنده.

4- أقامة العدل بين الرعية ومن أجله ارسل الانبياء الى الناس، لان بدون العدل تتحول الحياة إلى طبقتين هما عبيد ومتسلطون. فبالعدل فقط تقوم الأنظمة وتستمر، ويصير للحياة مفهومها ومعناها.

5- أن تكون هناك علاقة طيبة بين الوالي والرعية، لأنَّ رضا العامة يعني ثبات النظام، وكذلك يكونوا له سند من كل من تسول له نفسه.

6- أختيار الافضل ومن تتوفر به الخصال والصفات لتولى مؤسسات الدولة وأبعاد الميل والمحاباة على حساب مصلحة الرعية أو الدولة ومسيرتها أي ما تسمى بالمهنية.

7- أن يختار مساعدية من الوزراء من تختارهم الناس ولم يكون عليهم مؤشر سابق

ص: 426

من ظلم أو فساد.

8- أن لايساوي بين محسن ومسيء لأنَّ في ذلك قطعاً لسُبُل الإحسان، وتقليلاً للفاعلين له، وتشجيعاً للمسيئين على الإساءة.

9- التأكيد على الأعمال الصالحة والسنن التي خلفها السلف الصالح ولا يحق له تغيرها،

10- أكد عليه عليه السلام، أن تكون نظرته لرعيته نظرية رياضية من خلال أقسام المجتمع فلكل قسم منها أحتياجاته الخاصة به، ولا يمكن التساوي في الحاجات، ولكن هذه الاقسام تشكل نظام واحد عنده من خلال نظرته وعدالته و سیاسته اتجاه كل قسم من هذه الأقسام، لهذا فيتطلب منه وضع مسؤول لكل قسم من أقسام المجتمع لتبية ما يحتاجونه أو تنظیم ما يقومون به.

11- متابعة الطبقات الفقيرة من المجتمع، وتوفير السبل من عيش أو أدوات للنهوض بها فالنهوض بها أقتصاديا يعني النهوض بالدولة ولا يصبح هؤلاء فقط للاستهلال بدون أنتاج،

أضافة الى نشر العدل بين أبنائها.

12- أكد عليه ( عليه السلام) أن يهتم بالجيش اهتمام كبير کاهتمام بأولاده، لما لجيش من أهمية كبيرة في الدفاع عن الوطن وحماية مؤسسات الدولة، وأن يهتم برواتبهم، وأن يولي شرفائهم وكبارهم لقيادة الجيش لما لهؤلاء من سطوة واحترام لدى أفراد قبائلهم.

13- أكد عليه (عليه السلام) على الصلح أذا طلب منه العدو ذلك، ولكنه حذره أن يكون يقضاً لربما كان الصلح هو وقت ليتقوى به العدو للهجوم.

ص: 427

14- أكد عليه أن لا يكون همه كيف يأخذ الخراج من الناس، وأنما أخذ هذه الاموال ليصرفها على تطوير الدولة من شق الانهار وتقوية اسوار المدينة وشراء أدوات للجيش، وليس صرفها على الملذات والخلان.

15- أعتمد هذا العهد في الامم المتحدة كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي، لما فيه من مبادئ انسانية، علاوة على ذلك لكونها من أوائل الرسائل الحقوقية والتي تحدد الحقوق الواجبات بين الدولة والشعب.

ص: 428

الهوامش

1، مسلم، صحیح مسلم، رقم الحديث، 2408، ص 1043.

الترمذي، سنن الترمذي، رقم الحديث 3792، ص 858.

2، أبن سعد، الطبقات، مج 6، ص 213

- الكندي، الولاة والقضاة، ص 21 - 23

- الزركلي، الاعلام، ج 5، 259.

3، أبن قتيبة، المعارف، ص 113

- الطبري، تاريخ الطبري، ج 4، ص 224.

- أبن الاعثم، الفتوح، ج 2، 173 - 175.

4، البلاذري، أنساب الاشراف، ج 2، ص 218.

- أبن حبان، الثقات، مج 1، ص 229.

- البلخي، البدأ والتاريخ، ج 2، ص 229.

5، أبن الاثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 303 - 305.

- أبن حجر، تهذيب التهذيب، ج 10، ص 11 - 12.

6، ابن منظور، لسان العرب، مج 2، ص 160 - 161

7، المصدر نفسه، مج 2، ص 140 - 141.

8، التوبة، آية 109

9، التوبة، آية 110

10، النحل، آية 26

11، الكهف 21

12، الصافات، آية 97

13، الصف، آية 4

14، النبأ، آية 12

15، سورة ق، آية 6

16، الشعراء، آية 128

17، الذاریات، آية 47

18، القصص، آية 38

19، غافر، آية 36

ص: 429

20، البقرة، آية 22

21، غافر، آية 64

22، سورة ص، آية 37.

23، الزمر، آية 20.

24، ابن منظور، لسان العرب، مج 6، ص 163.

25، لمزيد من الاطلاع ينظر، الماوردي، الاحکام السلطانية، ص 17 - 48.

- ابو يعلى الفراء، الاحکام السلطانية، ص 3 - 48.

26، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 95.

27، الأنعام، آية 50.

- فاطر، آية 19.

- الرعد، آية 16.

- غافر، آية 58.

28، الزمر، آية 9.

29، البقرة، آية 30

30، ص، آية 26

31، النساء، آية 58

32، النحل، آية 76

33، النحل، آية 90

34، الحجرات، آية 9

35، الترمذي، سنن الترمذي، رقم الحديث 1329، ص 343.

36، أبن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 232.

37، الامام علي ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 3، ص 82 - 83.

38، مسلم، صحیح مسلم، رقم الحديث 1829، ص 825.

39، الامام علي ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 3، ص 103 - 104.

40، الامام علي ابن ابي طالب، نهج البلاغة، ج 3، ص 83.

41، المصدر نفسه، ج 3، ص 83.

42، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 105.

43، المصدر نفسه، ج 3، ص 108.

ص: 430

44، المصدر نفسه، ج 3، ص 108.

45، المصدر نفسه، ج3 ، ص 109.

46، المصدر نفسه، ج 3، ص 109.

47، المصدر نفسه، ج 3، ص 110.

48، لقمان، آیة 18.

49، الحديد، آية 23

50، الامام علي، نهج البلاغة ج 3، ص 110.

51، ابن سعد، محمد، الطبقات الکبری، ج 1، ص 125 - 126

- البخاري، صحيح البخاري، رقم الحيث 2262

- ابن الجوزي، صفوة الصفوة، ج 1، ص 218

52، الضحى، آية 8

53، ابن خلدون، تاريخ أبن خلدون، مج 1، 149.

54، المصدر نفسه، مج 1، ص 177.

55، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 84.

56، البقرة، آية 143

57، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 54.

58، القلم، آية 13

59، أبن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك،، ج 2، ص 546 - 547.

60، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 86.

61، البقرة، آية 177

62، النساء، آية 36.

63، التوبة، آیة 60.

64، الحشر، آیة 7.

65، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 100.

66، الفيروز آبادي، القاموس المحيط، كلمة شار، ص 392.

67، ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 294.

68، الشورى، آية 38.

69، الطرطوشي، سراج الملوك، ص 185.

ص: 431

70، المصدر نفسه، ص 189.

71، هود، آية 34.

72، ابن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 297، 306.

73، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 87.

74، المصدر نفسه، ج 3، ص 89.

75، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 91.

76، المصدر نفسه، ج 3، ص 104.

77، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 108.

78، ابن خلدون، المقدمة، مج 1، ص186 - 187.

79، الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 39 - 40.

- المرادي، الاشارة إلى أدب الوزارة، ص 77.

- النبراوي، النظم الإسلامية والحضارة الإسلامية، ص 66.

- الرفاعي، الإسلام في حضارته ونظمه الادارية والسياسية والادبية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والفنية، ص 101.

80، أبو يعلى الفراء، الاحكام السلطانية، ص 13.

81، سورة القيامة، 11.

82، سورة طه، 29 - 32.

83، ابن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك، ج 1، ص 335 - 340.

84، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 87.

85، طه، آیة 32

86، الفرقان، آية 35

87، الأعراف، آية 142.

88، ابن خلدون، المقدمة، مج 1، ص 247.

89، المصدر نفسه، مج 1، ص 247.

90، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 89.

91، الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 110 - 127.

- ابن العربي، إنشاء الدوائر، ص 156.

- العلي، قضاة بغداد في العصر العباسي، ص 45.

ص: 432

- طانية، القضاة في الإسلام، ص 196.

92، النباهي، المرقية العليا، ص 2.

93، عمران، آية 47.

- سورة مريم، آية 35.

- غافر، آية 68.

94، القرآن الكريم، النساء سورة، آية: 141.

ابن الربيع، سلوك المالك فس تعبير المالك، ص 161.

- الماوردي، أدب القاضي، ج 1، ص 626.

- الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 59.

- ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج 1، ص 17 - 18.

95، ابن حزم، أبي محمد علي، المحلى، ج 9، ص 393.

- النباهي، نزهة البصائر والابصار، ص 138.

- السيد السابق، فقه السنة، ج 3، ص 395 - 396.

- زيدان، النظام القضائي، ص 31.

96، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 90.

97، المصدر نفسه، ج 3، ص 90.

98، المصدر نفسه، ج 3، ص 90

99، المصدر نفسه، ج 3، ص 90.

100، المصدر نفسه، ج 3، ص 92 - 93

101، المصدر نفسه، ج 3، ص 90.

- أبن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك،، ج 1، ص 185 - 195.

- الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 297 - 306.

102، المصدر نفسه، ج 3، ص 90.

103، ابو يعلى الفراء، الاحكام السلطانية، 268.

104، الكتاني، عبد الحي، التراتيب الادارية، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان،(د-ت)، ج 1، 284 - 290.

105، ابو يعلى الفراء، الاحكام السلطانية، 268.

106، الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 231.

ص: 433

- ابو يعلى الفراء، الاحكام السلطانية، 268.

- السقطى، في اداب الحسبة، ص 5.

- محمد بن احمد، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص 10 - 13.

107، الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 231.

- السقطي، في اداب الحسبة، تحقيق، ص 5

- محمد بن احمد، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، ص 10 - 13.

108، المجليدي، التسير في احكام التسعير، ص 42 - 45

- هوبكنز، النظم الإسلامية، ص 227 - 228

109، ابن خلدون، المقدمة، ص 225

- ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1، ص 262.

110، الجرسقي، رسالة في ادي الحسبة، ص 119 - 120.

111، ابن خلدون، المقدمة، ص226 .

112، ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، ص 111.

113، ابن الاخوة، معالم القرابة، ص 65

114، الاسدي، التيسر والاعتبار والتخرير فيما يجب من حسن التدبير والتصرف والاختبار، ص 116

- الفاسي، خطة الحسبة، ص 57 - 72.

115، ابن خلدون، المقدمة، ص 225.

116، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 99 - 101

117، ابن جعفر، الخراج وصناعة الكتابة، ص 63.

- الماوردي، الاحكام السلطانية، ص 73.

118، ابن خلدون، المقدمة، ص 222.

- صالح، النظم الإسلامية، ص 325.

- هوبكنز، النظم الإسلامية، ص 231 - 240. 119، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 102.

120، المصدر نفسه، ج 3، ص 104 - 105.

121، المصدر نفسه، ج 3، ص 95.

122، القريشي، الخراج، ص 112.

ص: 434

123، المعارج، آیة 25

124، التوبة، آیة 103

، الصالح، النظم الاسلامية، ص 355 - 358.

، المؤمنون، آية 72.

125

126

127، الصالح، النظم الاسلامية، ص 359 - 362.

، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 97.

128

129، ابن منظور، لسان العرب (مادة كتب) ج 1، ص 192 - 196.

- النويري، نهاية الارب، ج 7، ص 1.

- باشا، الفنون الاسلامية، ج 2، ص 195.

130، سورة البقرة، آية 282

131 * لقد جاءت هذه اللفظة باوجه عدة. لمزيد من الاطلاع انظر: عبد الباقي، المعجم المفهرس لالفاض القران الكريم، ص 591 - 595.

، سورة البقرة، آية 283.

132، سورة العلق، الآية 1 - 5 .

133، القلقشندي، صبحي الاعشى، ج 1، ص 35.

134، ابن خلدون، المقدمة، ص 195.

- شلبي، السياسة والاقتصاد، ص 146 - 151.

- أحميد، كتاب الدواوين حتى نهاية العصر الاموي في كتاب تجارب الأمم وتعاقب الهمم عند، ص 221

135، ابن عبد البر، ابو یوسف عبد الله، القرطبي، بهجة المجالس وانس المجالس وشحن الذهن والهاجس، ق 1، ص 357.

- الخطيب، مدخل الى الحضارة، ص 80 - 81.

- الصالح، النظم الاسلامية، ص 304.

136، أبن خلدون، تاريخ أبن خلدون، مج 1، 261.

137، الامام علي، نهج البلاغة، ج 3، ص 98 - 99.

ص: 435

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- أبن الاثير، عز الدين أبي الحسن علي بن أبي مكرم ت 630 هجرية، الكامل في التاريخ، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط 2، دار المرفة، بيروت، لبنان، 2007 م.

- أحميد، عبد الله صباح، کتاب الدواوين حتى نهاية العصر الاموي في كتاب تجارب الامم وتعاقب الامم عند مسكويه (ت 421 هجرية)، ط 1، العراق، 2014.

- ابن الاخوة، محمد بن احمد القريشي، ت 729 هجرية، معالم القرابة في أحكام الحسبة، تحقيق: روبن ليوي، دار الفنون، کمبرج، 1937.

- أبن الازرق، ابو عبد الله محمد بن الازرق، بدائع السلك في طبائع الملك، دراسة وتحقيق: د. محمد بن عبد الكريم، دار العربية للكتاب،، لیبیا – تونس، د. ت.

- الاسدي، محمد بن محمد بن خليل، التيسر والاعتبار والتخرير فيما يجب من حسن التدبير والتصرف والاختبار، تحقيق د. عبد القادر احمد طليات، ط 1، مطبعة دار الفكر العربي، القاهرة.

- أبن الاعثم، أبي محمد أحمد الكوفي (ت 314 هجرية)، الفتوح، تحقيق: د. محمد عبد المعید خان، ط 1، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان، (د، ت).

- البخاري، ابي عبد الله، ت 256 هجرية. صحيح البخاري، ط 1، دار الصادر، بيروت، 2004.

- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، (ت 279 هجرية) أنساب الاشراف، تحقیق: محمد محمد تامر، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2011 م.

- البلخي، أحمد بن سهل (ت 322 هجرية)، البدأ والتاريخ، تحقيق: خليل عمران المنصور، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1997.

- الترمذي، أبي عيسى بن سورة، ت 297 هجرية، سنن الترمذي، ضبط وتصحيح: خالد عبد الغني محفوظ، ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2008.

- ابن تيمية، تقي الدين (728)، الحسبة في الإسلام، دار الفكر، بيروت - لبنان، د. ت.

- الثعالبي، ابو المنصور عبد الملك بن محمد (ت 429 هجرية)، تحفة الوزراء، تحقيق: حبيب علي الراوي وآخرون، ط 2، الخنساء، بغداد، 2002.

- الجرسقي، عمر بن عثمان، رسالة في ادي الحسبة، تحقيق ليفي بروفنسال، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للاثار الشرقية، القاهرة، 1955.

- ابن جعفر، قدامة، الخراج وصناعة الكتابة، تحقيق حسين الزبيدي، مطبعة الحرية، بغداد، 1981 م.

- ابن الجوزي، جمال الدين ابي الفرج، ت 597، صفوة الصفوة، تحقيق: عبد الرحمن اللادقي وآخرون، ط 2، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1417 هجرية - 1996 ميلادية، ج 1، ص 218

- أبن حجر، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني، (ت 852 هجرية)، تهذيب التهذيب، دار

ص: 436

صادر، بيروت، لبنان، (د. ت).

- أبن حبان، أبي حاتم محمد التميمي السبتي (ت 354 هجرية)، الثقات، تحقيق: إبراهيم شمس الدين وآخرون، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1998.

- ابن حزم، علي احمد بن سعيد (ت 456 هجرية)، المحلى، تصحيح أحمد محمد شاكر، تحقيق: لجنة أحياء التراث العربي، دار الجليل، بيروت، د، ت.

- ابن خلدون، عبد الرحمن، ت 808 هجرية، تاريخ أبن خلدون، ط 3، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 2006، مج 1، 149.

- أدب القاضي، تحقيق: د. محي هلال سرحان، الرشاد، بغداد، 1929.

- الرفاعي، انور، الإسلام في حضارته ونظمه الادارية والسياسية والادبية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والفنية، دار الفكر، بيروت، 1973 م.

- ابن الربيع، شهاب الدين أحمد بن محمد، سلوك الملوك في تدبير المالك، تحقيق: ناجي التكريتي، ط 3، دار الاندلس، بغداد، 1980.

- الزركلي، خير الدين، الاعلام، ط 16، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 2005.

- زيدان، بد الكريم، النظام القضائي النظام القضاء في الشريعة الاسلامية، ط 1، العاني، بغداد، 1984.

- السابق، السيد، فقه السنة، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1971.

- ابن سعد، محمد، ت 230 هجرية، الطبقات الکبری، دار صادر، بيروت، لبنان، (د-ت).

- السقطي، أبو عبد الله محمد، في اداب الحسبة، تحقيق ج.س كولان وليفي بروفنسال، مطبعة الدولية، باريس، 1931.

- شلبي، د. أحمد، السياسة والاقتصاد في التفكير الاسلامي، لجنة التأليف، القاهرة، 1964.

- صالح، د. صبحي، النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1969.

- الطبري، محمد بن جرير (ت 310 هجرية)، تاريخ الطبري، ط 1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

- الطرطوشي، ابو بكر، سراج الملوك، ط 1، دار صادر، بيروت، 1995.

- ابن عبد البر، ابو يوسف عبد الله، القرطبي ت 463 هجرية، بهجة المجالس وانس المجالس وشحن الذهن الهاجس، تحقيق: محمد مرسي الخولي، مراجعة د: عبد القادر قط، دار المصرية للتأليف ترجمة، القاهرة، 1967 م.

- ابن العربي، محي الدين، انشاء الدوائر، ليدن، 1339.

- العلي، د. صالح، قضاة بغداد في العصر العباسي، دراسة في الادارة الاسلامية، مجلة المجمع العراقي، مجلد 18، سنة 1979.

- الامام علي ابن ابي طالب، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مكتبة النهضة العربية، (د-ت).

ص: 437

- الفاسي، عبد الرحمن، خطة الحسبة، مجلة المناهل، ع 8، س 7، الرباط، 1980.

- ابن فرحون، برهان الدين بن ابراهيم بن علي، ت 799 هجرية، تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الاحكام، مراجعة: د. عبد الرؤوف سعد، ط 1، القاهرة الحديثة، مصر، 1986.

- الفيروز آبادي، ت 817 هجرية، مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، أعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعشي، ط 2، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1424 هجرية، 2003 ميلادية.

- أبن قتيبة، عبد الله بن مسلم (ت 276 هجرية)، المعارف، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2002 م.

- القريشي، يحيى ابن أدم، الخراج، تحقيق: أحمد شاكر، دار المعرفة للطباعة، بيروت، 1979.

- القلقشندي، أحمد بن علي، 821 هجرية، صبح الاعشا في صناعة الانشا، الاميرية، القاهرة، 1917.

- الكتاني، عبد الحي، التراتيب الادارية، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، (د-ت).

- الكندي، محمد بن يوسف بن يعقوب (353 هجرية) الولاة والقضاة، تحقيق: محمد حسن أسماعيل وآخرون، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

- الماوردي، ابي الحسن علي بن محمد ابن حبيب البصري (ت 450 هجرية)، الاحكام السلطانية، تحقيق أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، 1427 هجرية - 2006 ميلادية.

- محمد بن احمد، نهاية الرتبة في طلب الحسبة، مطبعة المعارف، بغداد، 1968.

37- المجليدي، احمد سعيد، التسير في احكام التسعير، تحقيق موسى لقبال، مطبعة الشركة الوطنية، الجزائر، د.ت.

- المرادي، ابو بكر محمد بن الحسن، الاشارة إلى أدب الوزارة، تحقيق: د. رضوان السيد، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 1981.

- مسلم، ابي الحسن مسلم بن الحجاج ت 206 - 261 هجرية، صحيح مسلم، ط 1، دار أحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، رقم الحديث، 2408.

- ابن منظور، ابي الفضل جمال الدين محمد بن مکرم، لسان العرب، ط 6، دار صادر، بيروت، لبنان، 2008.

- النباهي، علي بن عبد الله (ت 793 هجرية)، المرقبة العليا فمن يستحق القضاء والفتيا، المكتبة التجارية، بيروت، لبنان، د،ت.

- النبراوي، د. فتحية، النظم الإسلامية والحضارة الإسلامية، دار السعودية للنشر، الرياض، 1985.

- هوبكنز، ج، ف، ب، النظم الإسلامية في المغرب في القرون الوسطى، ترجمة: أمين توفيق الطبي، دار العربية للكتاب، لیبیا، تونس، 1980.

- ابو يعلى الفراء، محمد بن الحسين (ت 458 هجرية)، الاحكام السلطانية، تحقيق: حامد الفقي، ط 3، مط: البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1938.

ص: 438

المحتويات

الحكم الرشيد في ادارة مؤسسات الدولة قراءة على هدي عهد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

المستخلص...9

المصطلحات والمختصرات...7

الفصل الأول: المبحث الأول - المنهجية...10

المقدمة:...10

أولاً / مشكلة الدراسة:...11

ثانيا / هدف الدراسة:...12

ثالثاً / أهمية الدراسة:...12

المبحث الثاني: عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)...13

أولاً / سند العهد...13

ثانياً / نص العهد...13

ثالثاً / دراسة العهد من قبل بعض الباحثين...25

رابعاً / قالوا في العهد...27

الفصل الثاني: المبحث الأول: الحكم الرشيد...29

المقدمة:...29

أولاً / معنى الحكم الرشيد لغة واصطلاح...29

ثانياً / الحكم الرشيد في القرآن الكريم...29

ثالثاً / الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:...31

رابعاً / مكونات الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:...31

المبحث الثاني: منهجية الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية)...35

1- عناصر الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية E-Governance)...35

- عنصر الشفافية وماذا تعني:...35

ص: 439

- عنصر المشاركة وماذا تعني:...37

- عنصر الموثوقية وماذا تعني:...38

- عنصر العدالة واالمساواة وماذا تعني:...39

- عنصر الفاعلية وماذا تعني:...40

- عنصر المساءلة وماذا تعني:...41

- عنصر الأتقان الاداري وماذا تعني:...42

- عنصر الخدمة التنظيمية وماذا تعني:...43

- عنصر التكاملية وماذا تعني:...44

- عنصر التنبوء وماذا يعني:...45

2- مستويات الحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية)...46

3- المتطلبات الآمنية للحكم الرشيد (الحوكمة الالكترونية):...47

الفصل الفصل الثالث المبحث الأول: عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) ومحاكاته لعصر ثورة المعلومات...55

المقدمة:...5

أولاً / توظيف العهد والأمم المتحدة:...56

ثانياً / المحاور الرئيسية والفرعية للعهد والسعي لأقامة للحكم الرشيد:...57

ثالثاً / العهد ومحاكاته لمنهجية الحكم الرشيد في عصر ثورة المعلومات:...59

1) المحاور الرئيسة للعهد:...62

2) منهجية الحكم الرشيد (E-Governance) في عصر ثورة المعلومات:...62

المبحث الثاني: المحاور الفرعية للعهد...63

أولاً / المحاور الفرعية للعهد والتنمية المستدامة:...63

- الحريات السياسية...65

- التسهيلات الاقتصادية...65

- الفرص الاجتماعية:...65

ثانياً / قراءة العهد في ظل الحكم الرشيد (الحوكمة الألكترونية):...66

الفصل الرابع: المبحث الأول: الأستنتاجات...69

المبحث الثاني: التوصيات...72

ص: 440

الهوامش...74

المصادر...81

مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني منهج الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) نموذجاً ممثلاً برسالته لمالك الأشتر (رضي الله عنه) حين ولاه مصر

مقدمة:...85

المبحث الأول: المنهجية العلمية للبحث...87

اولاً:- مشكلة وأهمية البحث:...87

ثانياً:- الهدف من البحث:...87

رابعاً:- منهج البحث:...88

خامساً:- حدود البحث:...88

المبحث الثاني: مفهوم ومبادئ الإدارة من منظور الفكر الغربي...89

- مفهوم الإدارة:...89

- الإدارة هل هي علم أم فن؟...90

- علاقة الإدارة بأخلاقيات المهنة...91

- مبادئ الإدارة الرئيسة عند تايلور...91

- مبادئ الإدارة الرئيسة عند هنري فايول...92

المبحث الثالث: مبادئ الإدارة وفق المنهج القرآني...94

- تعريف الإدارة لغة...95

- تعريف الإدارة في الإسلام:...95

- النظام الإداري في الإسلام:...95

- النظرية الإسلامية:...96

- مقارنة بين مفهوم الإدارة العامة المعاصرة والإدارة الإسلامية:...96

- المنهج الإداري الإسلامي:...94

- المبادئ الإدارية التي أكد عليها امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب...98

الخاتمة:...106

المبحث الرابع: الاستنتاجات والتوصيات...108

ص: 441

الهوامش...111

المصادر...115

مبادئ الادارة والقيادة في عهد الامام امير المؤمنين (عليه السلام)

أهداف البحث:...122

تتركز مبادئ الادارة في العهد على المطالب التالية...123

اولا - الادارة من موقع العبودية (مبدأ الاعتقاد)...123

ثانيا - وحدة الاوامر وسلسلة المراتب:...125

ثالثا - تزكية النفس وكسر الشهوات:...127

رابعا - الراي العام ومبدأ التوقعات:...130

خامسا: معايير نجاح المنظومة الإدارية...135

سادسا: ما يجب على المسؤول اجتنابه في المنظومة الإدارية:...140

سابعا - وسائل التحكم و السيطرة على النفس:...142

ثامنا: الانصاف والعدل مع الرعية:...146

تاسعا - الانضباط والمساواة:...148

عاشرا: معايير تقيم العاملين في المنظومة الإدارية:...149

الحادي عشر - الرقابة والتحكيم والتقويم:...152

الثاني عشر - التحفيز:...153

الثالث عشر:- تغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية(الأرستقراطية):...154

الرابع عشر: معايير نجاح المنظومة الادارية:...155

الخامس عشر: المركزية في القرار:...159

السادس عشر: ستر العيوب:...159

السابع عشر - حفظ الاسرار:...160

الثامن عشر - تأثير العلاقات القريبة للمدراء واهتها مهم بالعاملين معهم:...161

التاسع عشر - الإحسان والمرتب والمكافأة:...163

العشرون - المشورة:...164

الخاتمه والاستنتاجات...166

ص: 442

الهوامش...167

المصادر...174

الفكر الإداري في عهد مالك بين النظرية والتطبيق

المقدمة...187

البحث...188

مفهوم الادارة...188

أهمية العهد...189

اهداف العهد العامة:...191

السياسة الادارية في حكومة الامام علي (عليه السلام)...194

النظام الإداري للحكومة والولاية...196

أولاً: الرقابة الذاتية على النفس...198

ثانياً: الرقابة الشعبية على عمل الموظف...200

ثالثاً: تجنب التكبر والشعور بالعظمة والاستبداد...205

رابعاً: الحفاظ على الدماء...206

خامساً: النهي عن الاحتجاب عن الرعية...207

سادساً: الحذر من البطانة...208

سابعاً: طبيعة اختيار العمال والولاة...211

ثامناً: طبيعة اختيار الكادر الاداري...216

تاسعا: السياسة الوقائية والقضاء على الفساد...219

الخاتمة...225

الهوامش...226

المصادر...232

المراجع...232

167 .....

IVE....

187 ....

188 .....

232 ....

232 .....

443 444 أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول 4

ص: 443

النشاط التجاري في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)

المقدمة...237

تمهید...240

المبحث الأول: النشاط التجاري وحركة الأسواق...243

التجارة والأسواق عند العرب...243

المبحث الثاني: السلوكيات والمظاهر المنهي عنها شرعاً في الأسواق في عهد الامام علي (عليه السلام)...249

أولاً: الاحتكار:...249

ثانيا: الربا...252

الآثار السلبية للتعامل بالربا...254

ثالثا: الحلف في الشراء والبيع...259

الهوامش...260

قائمة المصادر والمراجع...264

التنمية الاقتصادية في فكر امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) دراسة في ضوء عهده لعامله على مصر مالك الاشتر رضوان الله عليه

أمير المؤمنين علي عليه السلام...271

علي بن ابي طالب عليه السلام منهجا للنبوة:...272

مفهوم التنمية الاقتصادية وضوابطها:...277

التنمية الاقتصادية في ضوء العهد لمالك الاشتر:...279

ثبت الهوامش:...288

الفكر الإداري عند الإمام علي (عليه السلام) وصيته لمالك ابن الاشتر أنموذجا

ملخص البحث...295

المقدمة...296

اسمه ونسبه وولادته:...298

ص: 444

إسلامه ومواقفه في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):...298

لقبه...299

صفاته...300

استشهاده...30

موقف الإمام علي من خبر أستشهاد الأشتر:...301

مواقفه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان:...302

دوره في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)...303

مصر في عهد الإمام علي عليه السلام:...305

خصائص الإدارة عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):...306

أولاً: الصفة الإنسانية...307

ثانياً: الصفة التنظيمية...308

ثالثاً: الصفة الجماعية...308

رابعاً: الصفة الهدفية...309

الرأفة بالرعية...309

التجارة والحياة الاقتصادية...310

الكاتب والمفكر بنظر الامام علي (عليه السلام)...313

ويحذر العهد العلوي من...314

الضرائب واثقال كاهل الرعية...314

المال العام وسرقته...317

الخلاصة:...319

التوصيات:...139

الهوامش...320

المصادر:...325

القيادة والإدارة الناجحة في فكر الامام علي (عليه السلام )

المقدمة...329

مفهوم القيادة...330

ص: 445

التعريف اللغوي للقيادة:...330

تعريف القيادة اصطلاحا...330

الإمامة:...331

الولاية:...332

الفكر القيادي عند الامام علي (عليه السلام)...33

الشروط التي يجب ان تتوفر في الحاكم...334

وظائف الحاكم عند الامام علي (عليه السلام)...335

تقديم المصالح العامة...335

إعانة الفقراء...335

التساهل والرفق...336

المباشرة بالنظر في أمور الناس ومعالجة مشاكلهم:...337

تعليم الناس وإيقافهم على الحقائق:...337

اساسيات القيادة الادارية...338

الرقابة:...338

المساواة و العدالة:...341

العلاقة الإنسانية ومودة الأُمة...343

التعاون بين الحاكم والشعب...343

الخاتمة...345

الهوامش...346

لمحة عن المبادئ الاقتصادية الاجتماعية من خلال عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك بن الاشتر

1- مضامين عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه مالك بن الاشتر:...352

2- لمحة عن الأعمال الاقتصادية للإمام علي (عليه السلام)...353

الهوامش...377

3- بعض من ملامح أفكار الإمام علي والتي تتضمن سياسته الاقتصادية...354

4- الجانب الاجتماعي...361

الهوامش...365

ص: 446

قائمة المصادر...368

المراجع...369

مفردات بناء الدولة في فكر أمير المؤمنين علي عليه السلام عهده الى مالك الأشتر (رضي الله عنه) انموذجا

ملخص...373

توطئة...374

أولا - المقومات الروحية والمعنوية الذاتية...376

ثانياً - المقومات الفنية والمادية...381

خلاصة البحث...388

الهوامش...389

المصادر والمراجع...390

البناء الاداري الرصين للدولة العربية الاسلامية عهد الإمام علي (علیه السلام) الى مالك الأشتر (رحمه الله) أنموذجاً

المقدمة...393

نبذة مختصرة عن الوالي مالك الأشتر...395

البناء لغة...396

البناء في القرآن...397

الرصانة لغة...399

النظم الإدارية من خلال عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر...399

المهنية في الدولة...400

عدالة الحاكم أو الوالي...401

الترف والفساد...405

المشورة...409

مؤسسة الوزارة...412

الدواوين...413

مؤسسة القضاء...415

ص: 447

تعريف القضاء...415

ديوان الجند...416

رواتب الجيش...417

العيون...418

مؤسسة الحسبة...418

رد المظالم...421

رواتب موظفون في الدولة...422

الخراج...423

ديوان الكتابة...424

الاستنتاجات...426

الهوامش...429

المصادر والمراجع...436

ص: 448

المجلد 4

هوية الکتاب

أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

ISBN 978-9933-582-39-5 789933582395 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1209 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018 المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة. الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة، عهد مالك الاشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الاشتر.

تمت الفهرسة قبل النشرة مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1) أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة لسنة 1438 ه - 2016 م (المحور الإداري والاقتصادي) الجزء الرابع إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر(عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الالكتروني: www.inahj.org الايميل: Inahj.org@gmail.com الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشر (رحمه الله).

الجهة الراعية للمؤتمر: الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 23 - 24 من شهر ربيع الأول من العام 1438 ه.

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1209 لسنة 2018 م الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات: 10 مجلد عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً الإشراف والمتابعة: مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الثوابت والإصلاحات الإدارية لنظام الحكم في عهد أميرالمؤمنين علي عليه السلام مالك بن الأشتر أنموذجا أ. م . د. عبد الرحمن إبراهيم حمد الغنطوسي م.م احمد محمد علي

اشارة

ص: 5

ص: 6

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله الذي جعل أهل بيت النبوة من أسراره وخاصتَه، وسمّاهم أهل العلم، واستودع صدورهم كلامه و له الحمد الذي بنعمته تتم الصالحات، هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُواً أحد، واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وصلاةً و... سلاماً دائمين على رسول الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه ومن اهتدى بهداه، وترسم خطاه أما بعد: لقد أذن الله سبحانه وتعالى، بعد أن أطبقت الجهالة على الأرض و خيمت الظلمات على البلاد، وانتشر الشرك والضلال والابتداع في الدين، وانطمس نور الإسلام، و خفي منار الحق والهدى، وذهب الصالحون من أهل العلم فلم يبق سوى قلة قليلة لا يملكون من الأمر شيئاً، واختفت السنة وظهرت البدعة، وترأس أهل الضلال والأهواء، وأضحى الدين غريباً والباطل قريباً، حتى الناظر إلى تلك الحقبة السوداء المدلهمة ليقطع الأمل في الإصلاح، ولكن الله عز وجل قضى بحفظ دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من رحمته تبارك وتعالى بهذه الأمة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.. أن يكون للإمام علي عليه السلام ش-أنا في هذه الأمة ومنارا للحق، هذا بحث جمعت أصوله من مصادر الشريعة والأدب يتعلق ببيان من أراد أن يتبع نهج الإمام علي عليه السلام المنبثقة من هدي التنزيل العزيز، وهدي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -

ص: 7

وبيان فضله على أوليائه وفضائلهم، والكشف عن أسرار حكمه وأثرها على أتباعه، وقد قمت بهذا العمل رغبة في تبصير الناس بحقائق ربما يجهلها كثير من الناس، .فالشكر الله سبحان الذي أنعم على الإمام عليه السلام بهذا الموروث م-ن بيت النبوة وه-ذا البحث نبين فيه ثوابت من الشؤون الإدارية من نظام الحكم بيان الآثار و التي تساعد لحل المشاكل، لدى الفرد والمجتمع والمستوحاة من نهج وخصال الإمام علي عليه السلام.

ولا بد من الوقوف على روافد الإدارة الشرعية والتربوية المستمدة من ملامح البيئة التي عاش فيها وهي مكان مهبط الو مكان مهبط الوحي عليه السلام. وسيؤول البحث في شكله الأخير إن شاء الله إلى ثلاثة مباحث سنبين في الأول منها حياته ومناقبه من أسرار الوجود. أما الثاني فحرصنا أن نخصصه للكشف عن لوازم نظام الحكم والوظائف الإدارية عند الإمام علي عليه السلام، وكان الثالث لبيان صور ونماذج من أسرار وصفات مالك بن الاشتر صاحب الإمام عليه السلام، فإن الأمم العظيمة والشعوب العريقة.. تعرف بعقيدتها ورجالها.. وتحيا بذاكرتها. والذاكرة.. هي الروح التي تسري في جسد الأمة فيطول بقاؤها.. وهي الدماء التي تتدفق في عروقها فتشتد عافيتها. وبالمذاكرة. للأولياء. تتذكر الشعوب أحداث ماضيها.. وتتفهمها وتتدبر معانيها.. وتستخلص العبر منها.. والدروس التي فيها. وبالذاكرة.. تتذكر الأمم عناصر قوتها وأسباب رفعتها فيما مضي من تاريخها فتبني حاضرها ومستقبلها علي نهجها. والحمد لله الذي جعل صحيفة الإمام علي عليه السلام مكان ومرآة لمشاهدة الآثار الملكوتية لأنه تربى على أكمل وأفضل النفوس القدسية أبي القاسم محمد قاسم موائد المواهب الربانية، ومنبع رحيق الفيوض السبحانية وآله الوارثين لمقامات العلية المكرمين بكراماته الخفية والجلية. والخلاصة: هو ما اجتمع فيه الصحاح والحسان

ص: 8

عند مالك بن الاشتر رضي الله عنه جليل القدر عظيم المنزلة وبيان اختصاصه بعلي (عليه السلام) اظهر من ان يخفى. وقد تأسف أمير المؤمنين عليه السلام لموته وقال:لقد كان لي مثل ما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان فارسا شجاعا رئيسا التحقق بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ونصره، وفي الخاتمة سنذكر أهم النتائج والوصايا التي توصلنا إليها. والحمد الله في البدء والختام.

الباحثان

ص: 9

ص: 10

المبحث الأول: السيرة الشخصية للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):

لقد أيد الله تعالى رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) برجال أمنوا بالله ورسوله فكانوا جنوده الميامين بحماية الدين ورسله الذين نقلوا الإسلام إلى الناس أجمعين، واستحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس كما أخبرنا الله تعالى عنهم. فقد تجلت فيهم كفایات متميزة في مختلف المجالات، ومن هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، صاحب المواقف العظيمة في خدمة الإسلام والمسلمين. فقد تربی (عليه السلام) في كنف الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحظي برعايته واهتمامه منذ سني نشأته الأولى فكان له من الفضائل التي أشار إليها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الحد الذي جعله فيه وصيه وأخاه استناداً الى قوله الشريف (أنت منی بمنزلة هارون من موسی غير أنه لا نبي بعدي)(1)، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنت أخي في الدنيا والآخرة)(2)، وغيرها من الأحاديث الشريفة التي تؤكد هذه المنزلة الخاصة بالإمام علي (عليه السلام) وعندما نتلمس السيرة العطرة والمناقب الحميدة التي تمثل القدوة، والمثل الأعلى لمن سار على درب الأيمان الحقيقي نجدها مجسدة، بسلوك شخص الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كيف لا، وهو الذي تربى في أحضان الرسول منذ نعومة أظفاره وتأدب وتخلق بأدب وخلق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان حقاً كل ما عمله يمثل ثمرة يانعة لمدرسة

ص: 11

الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). فما أحوجنا اليوم إلى معرفة مناقب و سیر الشخصيات الإسلامية الرائدة لتكون لنا المنار للسير على خطاهم وسيرهم. وبما أن الكلام عن آثار الإمام أبي الحسن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) تضيق بها الأسفار الكبيرة، وفضلاً عن كوني في هذا المقام أركز في بحثي على إبراز جانب محدد من سيرة الإمام علي (عليه السلام)، آلا وهو الجانب الإداري من خلافته، تلك الفترة التي شهدت اضطرابات ومنازعات عديدة ومتواصلة إلى الحد الذي طغت فيه على مجريات الإصلاح والتنظيم الإداري للدولة لذا كان جل ما تناوله الباحثون في هذا الجانب يمثل حيزاً موجزاً قياساً إلى ما سلط على تناول الحروب والفتن التي جابهت الإمام علي في خلافته. لذا أدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقني في توضيح معالم إدارة الإمام علي للدولة في هيكليتها المالية والحربية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي المبحث الأول تناولت دراسة ملامح السيرة الشخصية للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من حیث اسمه وكنيته ومولده ونشأته وإسلامه وفضائله وشجاعته، ولسنا هنا بصدد الكتابة عن تفصيلات الحياة الخاصة بالخليفة على بن أبی طالب (عليه السلام)، فهو أمر لا تستوعبه مجلدات عديدة، وإنما ما يهمنا هنا هو إظهار أسس نظام الإدارة في خلافته من خلال رسائله إلى الولاة والعمال، ومن ثمً فان شخص الخليفة علي (عليه السلام) غني عن التعريف، غير أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى شخصيته وسيرته ولو باليسير منها. أولاً - اسمهُ وكنيته: هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرہ بن کعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة القرشي الهاشمي(3) أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف(4) وهي أول هاشمية ولدت هاشميا، أسلمت بمكة وهاجرت إلى المدينة المنورة و توفيت بها(5) وذكر ابن اعثم الكوفي(6) ((انه قد ولد وأبوه غائب فسمته أمه حيدره ولما عاد أبو طالب سماه

ص: 12

علياً))، ومن هنا يسمى الأمام علي حيدر، وحيدر من أسماء الأسد وقد أكد الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هذا الاسم أثناء لقائه بطل المشركين عمرو بن عبد ود العامري في معركة الخندق عام 5 ه / 626 م، بقوله:

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** کليث غابات کریه النظره اکیلکم بالسيف کيل السندرة(7) * مما يشير إلى صحة التسمية. أما کنیته فقد كناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأبي تراب(8) أما سبب تكنيته بأبي تراب فقد روي انه غاضب فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوماً، فخرج واضطجع في المسجد، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام): أين ابن عمك؟ فقالت: في المسجد. فخرج اليه ووجده في المسجد، مستلقيا وقد امتلئ ظهره، تراباً فجعل (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح التراب عن ظهره وهو يقول: قم يا أبا تراب. وقد کنی هو نفسه ب (أبي الحسن وأبي الحسين)(9)، وكذلك یكنی ب (أبا الريحانتين)، فيروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: سلام عليك أبا الريحانتين أوصيك بريحانتي فعن قليل يذهب رکناك والله خليفتي عليك فلما قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال علي: هذا احد الركنين، فلما ماتت فاطمة قال هذا الركن الاخر(10) ولد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمكة في يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنه ثلاثين من عام الفيل، وكان مولده في بيت الله الحرام وفي جوف الكعبة ولم يولد قبله مولود في بيت الله الحرام سواه، إكراما وتعظيما من الله تعالى له(11). ومما لا يخفى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نشأ وتربى في رعاية عمه أبي طالب بعد وفاة والده عبد الله بن عبد المطلب. وكان من نعمة الله على علي بن أبي طالب وما صنع الله له واراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم

ص: 13

أزمة قحط شديدة قبل الإسلام، وكان أبو طالب کثير الأولاد فاقترح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على عمه العباس بن عبد المطلب وكان ایسر بني هاشم فقال له: أن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ماترى من هذه الأزمة فانطلق بنا لنخفف عنه من عياله، أخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً، فنكفلهما عنه، قال العباس: نعم، فانطلقا حتی أتیا أبا طالب فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ماهم فيه، وروي أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: ((أنا أول من صلى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)))، وذكر أن أول من اسلم من الرجال أبو بكر ومن الغلمان علي ابن أبي طالب ومن النساء خديجه ومن الموالي زید بن حارثه. ولم يسجد لصنم قط لذا قیل کرم الله وجهة.

ص: 14

المبحث الثاني: الثوابت الإدارية للخليقة علي (عليه السلام) اتجاه الولاة والعمال

عني هذا المبحث بالمضمون الإداري في رسائل الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الولاة والعمال وقد احتوى على مبحثين الأول منهما تناول الوظائف الإدارية في الأمصار العربية الإسلامية من خلال رسائل الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) و تشمل المستشارون والقضاة والكتاب فيما تناول المبحث الثاني السياسة الإدارية للخليفة علي (عليه السلام) تجاه الولاة والعمال من حيث دراسة عهود التولية وسياسة الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عزل الولاة واستبدالهم ثم المضمون الإداري في رسائل الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الولاة والعمال وذلك بهدف بيان الخطوط العريضة لسياسة الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشروطه فيمن يتولى أمور الرعية فضلاً عن بيان أهمية الوظائف التي تخدم المجتمع الإسلامي وتلبي احتياجاتهم(13). كان الأشتر النخعي المتوفی 37 ه مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالاشتر: أمير، من كبار الشجعان. كان رئیس قومه. أدرك الجاهلية. وأول ما عرف عنه أنه حضر خطبة «عمر «في الجابية. وسكن الكوفة. وكان له نسل فيها. وشهد اليرموك وذهبت عينه فيها.. وشهد يوم الجمل، وأيام صفين مع علي، وولاه علي «مصر «فقصدها، فيات في الطريق، فقال علي: رحم الله مالكا فلقد كان لي كما كنت لرسول الله.(13) وله شعر جيد، ويعد من الشجعان الاجواد العلماء الفصحاء، جمع الامام عليه السلام كل الأمور في اربعة وهي: 1 - الامور المالية والاقتصادية التي ترتكز في ذلك العصر بجمع الخراج. الامور العسكرية فأثبت له القيادة العامة على القوى المسلح والجامع

ص: 15

لها جهاد الأعداء. الامور الاجتماعية والسياسية والنظم الحقوقية الراجعة إلى كل فرد فعبر عنها واستصلاح اهلها. - عمران البلاد بالزراعة والغرس وسائر ما يثمر للناس في معاشهم بقوله وعمارة بلادها. يعطي الامام عليه السلام القوانين العامة في ادارة البلاد بما تحتاجه ثم بعد ذلك يبدأ في عهده عليه السلام بما يلزم. على مالك في نفسه من التأديب وبعد ذلك... نراه عليه السلام يوصيه بالرعية ويذكر له ان الرعية لا تكون من المسلمين فقط بل حتى غير المسلم عند وجوده لابد من احترامه. وقد قال له عليه السلام: (ان لم يكن اخ لك في الدين فهو نظير لك في الخلق).

الإدارة الأبوية: الوالي هو أب قبل أن يكون صاحب سلطة، وهو يتعامل مع موظفيه على أنهم أبناؤه، فمثلما يحتمل الأب تربية أبنائه، كذلك يتحمل مسئولية إعداد كبار موظفي الدولة، وهذا ما أخذت به التجربة اليابانية، والذي نجد له مصداقًا في قول أمير المؤمنين على إلى مالك بن الأشتر فيوصيه بموظفيه: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما (2253)، فيجب أن يتعامل المسئول مع أفراده معاملة الوالد لولده يرعاه، ويعفو عنه عندما يسيع، وعندما يعاقبه فعقوبته هي تربية له(14). هذه بعض المفاهيم الإدارية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (15).

مالك بن الأشتر النخعي كوفي تابعي ثقة أن يكون على مستوى أخلاقي عال يصده عن الافساد، ويمسكه على الجادة، ويأخذ بعنقه إلى الهدى. قال له عليه السلام: (.. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عند الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف). عهد الاشتر * * * وبعد أن نهج الامام القواعد التي يجب أن تتبع في اختيار أفراد هذه الطبقة أخذ في بیان الاسلوب الذي يجب أن تعامل به. يرى الامام أنه لا يجوز للحاكم أن يعتمد على

ص: 16

التربية وحدها، وعلى الخلق الشخصي وحده فيما يرجع إلى ضمان اخلاص هذه الطبقة. فهو بقدر ما يحرص على أن يكون القادة العسكريون ذوي تربية عالية وخلق متين يحرص كذلك على توفير ما يتوقون إليه من الناحيتين: المادية والمعنوية. فهولاء القادة يتوقون إلى أن يروا أعمالهم التي يقومون بها تلاقي التقدير الذي تستحقه عند الحاكم، ويتوقون إلى أن يروا أن عين من فوقهم ترعاهم وتتعاهد أعمالهم وتوفيها ما تستحق من جزاء. وهؤلاء القادة، كغيرهم من الناس، خاضعون للضرورات الاقتصادية، وربما كانت حاجتهم إلى المال أكثر من حاجة غيرهم إليه، وإذ كانوا كذلك فلا بد للحاكم من مراعاة حالتهم الاقتصادية. ولا يجوز له أن يعتمد على الخلق والتربية في ضمان اخلاصهم وتمسكهم. فان الوجدان الطبقي لهؤلاء ينزع بهم نحو التسلط وإظهار القوة، وحين يجري هذا الوجدان في غير أقنيته يصير خطرا على الرعية، لانه يدفع صاحبه حينئذ إلى الانحراف والزيغ. لاجل هذا يقرر الامام ان على الحاكم ألا يغفل عن تعقب هذه الطبقة ومراقبتها، فيلزمه بانتخاب رقباء من أهل الدين والمعرفة والامانة يثهم في أطراف البلاد، ويجعلهم عيونا له على عماله، يراقبونهم في أعمالهم، ويرصدون مبلغ ما يتمتع به هؤلاء الولادة من خبرة في الادارة، وقدرة على التنظيم، ومعرفة بوجوه الإصلاح، ثم يرفعون ذلك كله إلى الحاكم فينكل بالمنحرف الذي خان أمانته، ويستأديه ما حاز لنفسه من أموال المسلمين، ويجعله عبرة لغيره. ويشجع الصالح في نفسه، الصالح في عمله. ويرشد المخطئ إلى وجه الصواب. إن هذا التدبير يمسك الوالي عن الاسراف، ويحمله على العدل في الرعية، لانه حين يعلم أن ثمة عينا ترقب أفعاله يحذر من الخروج عن الجادة، ويحرص على اتباع ما يصلح بلاده. وهذا التدبير الذي نهجه الإمام هو نظام التفتيش المعمول به الآن في الدول المعاصرة. قال عليه السلام: (.. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والأمانة عليهم، فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة،

ص: 17

ولرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فان أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا. فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة)(16). كتاب أمير المؤمنين علي عليه السلام لمالك الأشتر - الذي يعد دستورا وقانونا في الادارة والحكومة والسياسة الاسلامية المعروف بعهد مالك الاشتر -

ص: 18

المبحث الثالث: الوظائف الإدارية في الأمصار العربية الإسلامية من خلال رسائل الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام)

لابد لنا قبل الولوج في حيثيات الإدارة العربية إعطاء تعريف يوضح مفهومها، فالإدارة بمنهاجها العام هي القدرة على استخدام الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة بأقصى كفاية بغية تحقيق أهداف معينة(17). وعرفها ابن خلدون(18): ((بانها سلطة الدولة التي يجب أن تستند الى شرع منزل من عند الله والى سياسة عقلية تراعي المصلحة العامة)). ولما كانت أسس الإدارة العربية تستمد أصولها من أحكام الشريعة الاسلامية، وهذا يعني إنها لا تستند إلى قوانين وضعية بل أساسها القرآن الكريم والسنة النبوية، وهدفها المصلحة العامة للمجتمع، الأمر الذي يبعد السلطة الإدارية عن اتسامها بالاستبداد لكونها ليست سلطة مطلقة بل هي مقيدة بالاسس الشرعية، وذلك حسب ما جاء في كتاب الله سبحانه: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون»(19)، فقد ابتدع الفكر الاداري الاسلامي وسائل عديدة لمواكبة حركة التطور کالاجتهاد والقياس والاستحسان في المسائل التي لا يوجد لها حكما في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن الطبيعي أن يشترط في من يتولى هذه المسائل شروطاً تؤهله الى التمكن من التفقه والاجتهاد(20). لكي يتمكن من اعطاء الراي السليم والصحيح واذا ما تتبعنا مجريات الأحوال في بداية نشوء الدولة العربية الاسلامية حيث كانت حدود هذه الدولة الفتية لا تتعدى شبه جزيرة العرب وكان هدفها نشر الدين الإسلامي الجديد وجمع شتات العرب ص: 19

في دولة واحدة، وكانت الادارة في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تنسجم ومتطلبات تلك المرحلة فقد مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكم(21). يساعده في ذلك بعض العمال. وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) الفئات التي يتكون منها المجتمع في رسالة إلى واليه مالك الأشتر حينما ولاه مصر حيث جاء فيها: ((واعلم ان الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولا غنى لبعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الانصاف والرفق ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس ومن التجار ومن اهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى وذوي الحاجة والمسكنة)). فنجد الإمام علي (عليه السلام) قد اوضح الفئات الموجودة في المجتمع المصري وهذا يساعد على توضيح الوظائف الادارية التي تتطلبها طبيعة التغيرات والاحتياجات التابعة لسلطة الخليفة وهذه الوظائف الاتي:

1 - الولاية وهي الامارة على البلاد فيقوم الملك او السلطان بتوليه من يقوم مقامه في ادارة الولاية والاقالیم وتصريف شؤونها(23).

وهذا يعني أن الوالي هو الشخص الذي يقوم بمباشرة واعمال ومهام الخليفة نيابة عنه في الأقاليم البعيدة عن حاضرة الخلافة(24). كما أكد الخليفة على ضرورة التزام الوالي بالعدل وعد من اسس قيام الحكم الالتزام بتحقيق مبادئ الاسلام حيث اكد القرآن في عدة مواضع على العدل منها قوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ»(20). وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: ((ثلاث من كن فيه من الولاه... اضطلع بأمانته وأمره... إذا عدل في حكمه ولم يحتجب دون غيره... وأقام كتاب الله في البعيد والقريب))(26). ومن

ص: 20

وصايا الخليفة علي (عليه السلام) الى ولاته بالعدل ما جاء بكتابه إلى عامله الأسود ابن قطبه صاحب حلوان: ((اما بعد فان الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثير من العدل، فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فانه ليس في الجور عوض من العدل))(27). وبذلك نراه يحث (عليه السلام) عامله على اقامة العدل الذي هو اساس قيام الدولة ودستور وجودها، فبإعطاء كل صاحب حق حقه من غير ظلم او جور في الحقوق تتألف الرعية وتلتف حول أميرها، ويحذره من الاتيان بعمل نكر امثاله عندما ذكرت له اعمال الغير، وان يتقي الله فيما فرض عليه من الطاعة طالبا مغفرته ورضوانه خائفا من عقاب الله له اذا ظلم وجار على الآخرين.

واورد الجاحظ(28)، ان العدل من الصفات الواجب توفرها في الشخص الذي يتولى الامارة في حين اكد الماوردي(29) بقوله: ((والعدالة ان يكون ظاهر الامانة عفيفا عن المحارم... متوقيامن المأثم بعيدا عن الريب مأمونا في الرضا والغضب لمرؤة مثله في دينه ودنياه)). وحرص الخليفة علي (عليه السلام) ان يكون ولاته من الفقهاء بالدين ليكونوا على بينة بالاحكام الشرعية، فراى ان يكون احدهم حافظا للقرآن الكريم عالما باسباب نزول الآيات ونسخها ومقاصد كل آية منها لبيانها للناس عند ارشادهم فواجب الوالي نشر الاسلام وتعاليمه وارشاد الرعية، ومن ادلة ذلك توليته لشريح ابو امية قضاء الكوفة(30) وفي هذا المجال يقول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) عندما بويع بالخلافة: ((سلوني عن كتاب الله فانه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار في سهل أم في جبل))(31). لذا ارتأى الخليفة ان يكون ولاته على مستوى العلم بالأحكام. وحرص الإمام ان يكون الوالي من أهل الثقة لدى الناس صاحب المنزلة الرفيعة في اصحابه حتى اذا ماطلب أمراً سارع الجميع الى تنفيذه وسمعوا واطاعوا له ولذا قال (عليه السلام) في عهده الى

ص: 21

مالك الأشتر في اختيار الولاة: ((فول... من أهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فأنهم جماع من الكرم وشعبٌ من العرف))(32). ومن شروط التولية ان يكون الوالي مسلما حرا بالغا عاقلا(33).

کما يجب ان يكون عارفا بالسياسة. والخبرة في الحرب والادارة، وفي هذا يقول الإمام علي (عليه السلام) لاهل مصر موضحا لهم سبب اختياره مالك بن الحارث الأشتر لولايتهم فيقول: ((اما مالك هذا اشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث اخو مذحج، فأسمعوا له واطيعوا أمره فيما طابق الحق فأنه سيف من سيوف الله ولا كليل الحد، ولا نابي الضريبة فان أمركم ان تنفروا فانفروا وان أمركم ان تقيموا فأقيموا، فانه لا يقدم ولا يحجم ولا يوخر الا عن أمري وقد أثر تكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم))(34). اذن علمه بالسياسة وخبرته كانت أحد أسباب اختياره لولاية مصر التي كان الإمام (علیه السلام) يخشى عليها من نفوذ معاوية.

ولقد اكد الشيباني(35) ضرورة معرفة الوالي بالادارة والحرب فيرى: ((ان يكون جريئا على اقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها، كفيلا بجعل الناس عليها، عارفاً بالعصبية وأحوال الدهاء قوياً على معاناة السياسة ليصبح بذلك ما جعل اليه من حماية الدين وجهاد العدو واقامة الاحكام وتدبير المصالح)). ومن اركان الولاية الاساسية هي الامانة والقوة بشرط ان يكون امينا على ما ولي عليه، غير مفرط فيه خاشيا الله في تلك الامانة المسترعى لها سرا وعلانية، وقد جاء ذلك في قوله تعالى «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»(36).فقد أوصى الإمام علي (عليه السلام) والي اذربيجان(37) * الاشعث بن قيس(38) ** قائلا له: ((وأن عملك ليس بطعمه لك ولكنه في عنقك امانة وانك مسترعى لما فوقك وليس لك ان تفتات في رعية أو تخاطر بوثيقة في يديك مال من مال

ص: 22

الله عز وجل وانت من خزانه حتى تسلمه الي))(39). وقد جاء في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذكر الامانة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((ما من عبد يسترعيه رعيته يموت يوم يموت وهو غاش الا حرم الله عليه الجنة)) الله عليه الجنة))(40). اما القوة فتتمثل بالقدرة على تحمل الصعاب في اتخاذ القرارات الصائبة لان الوالي تقع عليه مسؤولية مواجهة التحديات والاخطار فعليه ان يكون شجاعا ليتمكن من قيادة الرعية، متبعا بذلك قوله تعالى: «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ»(41). وان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بعث عبد الله بن جحش(42) * سرية قال: ((لابعثن عليكم رجلا اصبركم على الجوع والعطش))(43). وفي ذلك يقول الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر : ((فأنك ممن استظهر به على اقامة الدين واقمع به نخوة الاثيم وأسد به الثغر المخوف))(44).

اما واجبات الوالي التي توضحت من خلال رسائل الخليفة علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى ولاته فهي ضبط الامن ونشر الاستقرار في حدود الدولة والحفاظ على امنها من الخارجين عليها والفتن الداخلية التي يقوم بها المتمردون ويتضح هذا في رسالة الإمام (علیه السلام) الى جميع عماله يسألهم عن مرور الخريت بن راشد(45) ** وجموعه فيقول: ((اما بعد، فأن رجالا خرجوا هرابا ونظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة فسل عنهم اهل بلادك واجعل عليهم العيون في ناحية من أرضك واكتب إلي با ينتهي إليك))(46). وقد جاء الرد على تلك الرسالة من قبل عامل البصرة قرظة بن كعب وقد حدث الأمر(47) * نفسه مع زياد بن ابيه عامل البصرة عندما ارسل الإمام (عليه السلام) اليه رسالة يلفت انتباهه فيها الى النظر الى ما يفعله ابن الحضرمي واتخاذ التدابير اللازمة لردعه فيقول (عليه السلام) : ((فأنظر ما يكون منه فأن فرق جمع ابن الحضرمي فذلك ما نريد، وان الامور الى التادي والعصيان فأنهض اليهم وجاهدهم))(48). کما اوضح ان

ص: 23

جباية الخراج والجزية من صميم واجبات الوالي وهذا ما جاء في رسالته الى مالك الأشتر اذ جاء فيها: ((قد وليتك مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها))(49). واكد على مجالسة الولاة العلماء وتقريب الفقهاء ورعايتهم واكرامهم وتعظيم شأنهم، لانهم وجهاء مجلسه ووسيلة الاتصال مع الرعية(50)، فيقول الإمام علي (عليه السلام) موصيا لاحد الولاة بذلك: ((واكثر من مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك واقامة ما استقام به الناس قبلك))(51). ولم يغب عن بال الخليفة علي (عليه السلام) أمر الاهتمام بالبطانة * وجلساء أولياء الامور وخاصتهم وكيفية اختيارهم من أهل الخير والعفاف والصلاح لما لهم من دور كبير في إدارة الدولة وتحسين بعض المواقف لاولياء الأمر وبالعكس، ففي الحديث الشريف عن الجلساء يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((ان مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافح القير، فحامل المسك اما ان يحذيك واما ان تبتاع منه واما ان تجد منه ريحا طيبا، ونافح القير اما ان يحرق ثيابك واما ان تجد منه ريحا خبيثة))(52). فقد أشار الإمام علي (عليه السلام) على ولاته بالحذر من تسلط البطانة والخاصة على الرعية، وأخذهم الحقوق من غير وجه حق لقرابة الصلة التي تربطهم بالوالي فيقول (علیه السلام): ((ثم ان للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول وقلة أنصاف في معاملة، فأحسم ماده أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولاتقطعن لاحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة، ولا يطمعن منك في أعتقاد عقد تضر بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والاخرة))(53) ثم يبين (عليه السلام) انه ليس من احد اكثر استفادة واقل فائدة من الخاصة، فهم قليلوا الشكر عند العطاء كارهي العدل والانصاف قليلوا النصرة والمنفعة على العكس من العامة التي يكون بها المنفعة والنصرة وقت الحاجة لذا يجب ان يكون ميل الوالي اليها وتحقيق مصالحها على مصالح الخاصة، فيقول (عليه السلام) :

ص: 24

((وليس أحد أثقل على الوالي معونة في الرخاء وأقل مئونة في البلاء وأكره في للانصاف واسأل بالالحاف وأقل شكر عند الأعطاء وأبطأ عذر عند المنع واضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وانما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم))(54). ويحذر الإمام (عليه السلام) ولاته من الذين يسعون الى ذكر عيوب الناس امامهم، فقد نهى الله عن ذلك في قوله تعالى «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا»(55). وكذلك جاء في الحديث الشريف: ((لايستر الله عبدا في الدنيا الاستره في يوم القيامة))(56). اما الإمام علي (عليه السلام) فقد جاء في كتابه الى مالك الأشتر موصيا: ((وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فان في الناس عيوبا الوالي أحق بسترها، فلا تكشف عما غاب عنك فانما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فأستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك))(57). کما حذر من الحقود الذي يتحين الفرص للانتقام من الناس، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محذرا: ((ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا))(58). ويقول الإمام علي (عليه السلام) في ذلك: ((اطلق على الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل مالا سبب كل وتر وتغاب عن كل مالا يتضح لك))(59). كذلك السعاة بين الناس بالشر فقد قال الله في محكم كتابه عنهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(60). ونبه الإمام ولاته منهم في قوله: ((ولا تعجلن الى تصديق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين))(61). ويقول الاعشى في السعاية والوشاية:

فمن يطع الواشين لا يتركون له *** صديقا وان كان الحبيب المقرب(62) وأوجب (عليه السلام) على الولاة التزام الحق والعدل في القريب والبعيد على

ص: 25

حد سواء حتى لو كانت العقوبة في أحد أفراد عائلته او قرابته او خاصته لان تنفيذها وعدم تعطيلها فيه سيرة محمودة للوالي لدى الرعية فيقول (عليه السلام): ((والزم الحق من لزمه القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك مر وخاصتك حيث وقع، وأبتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فاءن مغبة ذلك محمودة))(63). کما حذر من جعل المحسن والمسيْ بنفس المنزلة، لان في ذلك تشجيعا للمسيء على الاستمرار في الاساءه والطغيان متبعا قوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلأَّ الأْحْسَانُ)(64). ويقول الإمام محذرا من ذلك: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فأن في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان وتدريبا لاهل الاساءه، والزم كلا منهم ما لزم نفسه))(65).

واما الوظائف التي استحدثتها الضرورة في المجتمع العربي الاسلامي آنذاك هي: وقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الأشتر الوزراء، في حين لم يظهر نظام الوزارة بشكل منظم الا في العصر العباسي الاول(66) حيث لم يكن معروفاً قبل ذلك، وقد ورد هذا المصطلح في العديد من الآيات القرآنية كما ذكرنا سابقاً وقد أستعمل هذا المصطلح في عه-د أبي بكر وعمر وعثمان، فعندما توفى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أجتمع الانصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة فبلغ ذلك أبو بكر فأتاهم ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيده بن الجراح، فقال: ما هذا. فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منا الامراء ومنكم الوزراء(67). في حين كان من واجبهم منع الظلم ونصح الحكام واظهار الحق ولو كان فيه مضار لمصالحهم الخاصة فيقول الإمام (عليه السلام) في رسالته الى مالك الاشتر حينما ولاه مصر: ((ان شر وزرائك من كان قبلك للاشرار وزيراً من شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فأنهم أعوان الآثمة وأخوان الظلمة، وانت واجد منهم خير الخلف ممن له

ص: 26

مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم وأوزارهم))(68). السياسة الإدارية للخليقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) تجاه الولاة والعمال شهدت الفترة التي أعقبت مقتل عثمان بن عفان صراعات وأضطرابات وفتن فهي فترة كما وصفها الأمام (عليه السلام) ((أنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت وأستنارت))(69). فكان لابد له من اتباع سياسة حكيمة تهدف الى تهدئة النفوس ونشر الأمن والعدل وكان الأمام حريصا على قيادة الأمة وفق المبادئ والقيم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والتي آمن بها ودافع عنها والتزم بها واتخذها مسارا في سياسته، وهكذا وجد الإمام (عليه السلام) نفسه أمام موقف صعب جدا إذ يجب عليه أن يوازن بين القيم والمبادئ التي اتخذها مسارا لسياسته وبين الظروف الجديدة التي فرضت عليه واصبحت تتحكم في الأحداث وأفقدت منصب الخلافة هيبته بعد مقتل عثمان بن عفان وقد ذكرنا سابقا مطالبة طلحة و الزبير وعدد من الصحابة بالقصاص من قتلة عثمان ومن حواره معهم نطلع على أسلوب سياسته الهادف الى تهدئه النفوس وأعادة الأمن، فقد طلب من الخارجين على عثمان ترك المدينة والعودة الى أمصارهم، فقد خاطبهم (عليه السلام) قائلا: ((يا أيها الناس اخرجوا عنكم الأعراب))(70) وقال: ((يا معشر الأعراب الحقوا بمياهكم))(71).

ففي هذا الطلب نجد الخليفة (عليه السلام) أراد إعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي واعادة سيطرة الخلافة على الدولة ليتسنى له ادارة شؤونها بشكل سليم.

عهد التولية إشارة رسمية بتوليه الأمر لحامله(72). فهو وثيقة رسمية توضح واجبات الوالي وحقوق الرعية وصلاحياته، وترسم له السياسة التي يجب السير عليها لتحقيق الاهداف المرجوة من توليته ويتوضح هذا بصورة جلية في عهد الإمام الى واليه مالك الأشتر عندما ولاه مصر، جاء فيه: ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير

ص: 27

المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه حينما ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، وأمره بتقوى الله وأيثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد الا بأتباعها..))(73). فمن خلال النص اوضح الإمام علي (عليه السلام) صلاحيات واليه مالك الأشتر في مصر، وهي جهاد العدو وجباية الخراج وعمارة الارض والبلاد وتقوى الله وطاعته فيما أمر به في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فلا يتجاوز الحدود المرسومة له، وكذلك نجد نفس خطوات السياسة المرسومة لمالك رسمها الإمام علي (عليه السلام)، في نص عهد توليته محمد بن ابي بكر لمصر حيث جاء فيه: ((هذا عهد عبد الله علي أمير المؤمنين الى محمد بن ابي بكر حين ولاه مصر، أمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد، وأمره باللين على المسلم والغلظ على الفاجر وبالعدل على اهل الذمة وبانصاف المظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس وبالاحسان الى ما استطاع والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين وأمره ان يدعو من قبله الى الطاعة والجماعة فان لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه وأمره ان يجبى خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينتقص منه ولا يبتدع فيه ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل وان يلين لهم جناحه وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه وليكن القريب والبعيد في الحق سواء، وأمره أن يحكم بين الناس بالحق وان يقوم بالقسط، ولا يتبع الهوى ولا يخاف في الله عز وجل لومة لائم، فان الله جل ثناؤه مع من أتقى وأثر طاعته وامره على سواه))(74).

ومثلما ذکرت عن عهود التولية فان من قراءة نصي هذين العهدين توضحت السياسة الاقتصادية والاجتماعية وطرق تحقيقها ونشر الامن والعدل، فضلاً عن

ص: 28

الوصايا الخاصة بشخص الولاة انفسهم وتحذيرهم من اتباع الهوى وترك طاعة الله سبحانه وتعالى، متبعا قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»(75). و الشروط العامة التي سبق ان وردت لاختيار الولاة هي نفس شروط أختيار العمال، غير أن هناك شروط خاصة بكل عامل تنسجم وطبيعة المهام التي يضطلع بها. ولاهمية منزلة العمال وضع الإمام علي (عليه السلام) شروطاً لا بد من توفرها فيمن يتولى هذا العمل وهذه الشروط كالأتي:

1 - ان يكون اختيار العمال مبنياً على اساس القدرة والكفاءة على القيام بمهام المنصب المناط بهم، عن ميول واستعطاف وصلة قربى ومودة، إلمام وفي الحديث الشريف يوصي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاة أمر المسلمين ان يختاروا من هو كفؤ للمهام المناطة به فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): ((اذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة، قال: كيف اضاعتها يا رسول الله؟ قال: اذا اسند الأمر الى غير اهله فانتظر الساعة))(76). ففي هذا الحديث ينبه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الى ضرورة وضع أهل الاختصاص في اختصاصهم كالفقيه في الافتاء، والعادل في القضاء... الخ.

إذن من يتم اختيارهم من العمال على اساس المحبة والولاء لن يكونوا قادرين على الحفاظ على مصالح الامة بسبب عدم توفر القدرة والكفاءة فضلاً عن سعيهم الى تحقيق مصالحهم الخاصة التي لا بد ان تواجه معارضة من المصالح العامة، وهذا بسبب غياب العين الساهرة والحريصة على مصالح الامة فنجد الإمام (عليه السلام) يوصيً مالك الاشتر حينما ولاه مصر قائلاً: ((ثم انظر أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وإثره، فانهم جماع من

ص: 29

شعب الجور والخیانة))(77).

2 - ان يكون اختيار العمال من البيوتات الصالحة من السابقين في الاسلام وذلك في قوله (عليه السلام) لمالك في نفس الرساله: ((وتوخ من أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فانهم اكرم أخلاقاً وأصحهم اعراضاً واقل في المطامع أشرافاً، وابلغ في عواقب الأمور نظراً))(78).

ثم أكد الإمام (عليه السلام) على الولاة في مراقبة إعمالهم ووضع العيون عليهم سراً وعلانية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان تكون هذه العيون من أهل الصدق والوفاء ليقوموا بواجبهم على افضل وجه في نقل افعال واخبار العمال في كيفية استعمال السلطة المعطاة لهم ومعاملتهم للرعية فيقول الامام (عليه السلام) لمالك: ((ثم تفقد اعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لامور هم قوهُ لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية))(79).

واشار الإمام (عليه السلام) الى رعاية الوالي للعمال وتحديد الارزاق لهم من بيت المال ومراعاة ان تكون هذه الارزاق كافية لسد احتياجاتهم وعوائلهم ليغنيهم عن الحاجة الى الناس وعن النظر الى ما في ايدي الغير بسبب الحاجة، فبسد حوائجهم تكون الحجة للوالي على العمال اذا ما خانوا الامانة و خالفوا أمره فيقول الامام (عليه السلام) لمالك الاشتر: ((ثم اسبغ عليهم الارزاق، فان في ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم وحجة عليهم ان خالفوا أمرك او ثلموا امانتك))(80). وقد كان الإمام علي (عليه السلام) دائم المراقبة لسلوك عماله وذلك من خلال تكليف من يسأل عن سيرتهم مع الرعية وينقل أخبارهم اليه ومما جاء بهذا الصدد كتابه الى كعب بن مالك(81) * الذي يطلب فيه من كعب ان يستخلف على عمله من يثق به ويخرج مع طائفة من أصحابه الى السواد بين دجلة

ص: 30

والفرات ويمر بالمدن والكور(82) ** هناك فيسأل الرعية عن العمال وينقل أخبارهم له إذ يقول (عليه السلام): ((اما بعد، فاستخلف على عملك واخرج مع طائفة من أصحابك حتى تمر بالسواد كورة كورة فتسألهم عن أعمالهم وتنظر في سيرتهم حتى تمر بمن كان فيما بين دجلة والفرات))(83).

الحقيقة أن توجيهات ووصايا الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووصاياه تمثل الخطوط العريضة التي ترسم مسار سياسته الادارية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في المجتمع الإسلامي، والتي باتباعها وتنفيذها من قبل الولاة والعمال يتحقق العدل والامن للرعية وهو الهدف الذي من اجله يسعى الخليفة علي (عليه السلام). كما حذر الولاة من نقض السنن الصالحة التي عمل بها مصلحو هذه الامة قبلهم، واجتمعت عليها ألفة الرعية وصلح أمرها فاذا انقضها أو احدث بها تغييراً، أضر الرعية كان الإثم والوزر عليه والأجر لمن أسنها وعمل بها ولعل المقصود بالسنن الصالحة التي اجتمعت عليها إلفة الرعية هي الأموال المفروضة على المسلمين وغير المسلمين من زكاة وجزية وخراج وغيرها، والتي قبلوا بها عندما فرضت عليهم، فإذا تعرضت هذه السنن الى تغيير لم يلق قبولا لدى الرعية من الممكن أن يؤثر عكسيا على سياسة الدولة و بهذا الصدد يقول (عليه السلام) برسالتة إلى مالك الأشتر عندما ولاه مصر: ((ولا تنقض سنة صالحه عمل بها صدر هذه الامة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء مما في تلك فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها))(84). ويقول الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر: ((وان ابتليت بخطأ، وافرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة، فان في الوكزة وما فوقها مقتله، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي الى اولياء المقتول حقهم))(85). وهو بذلك يتبع قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ

ص: 31

وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(86).

1 - عدم الاعجاب بنفسه، فان اعجاب المرء بنفسه قد يكون سببا في عدم النظر الى الأمور بالمنظار الصحيح وبالتالي يكون هذا سبب هلاكه فيقول الامام (عليه السلام) محذرا مالك الأشتر: ((اياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها)). و نهی (علیه السلام) عن التغافل والتغابي بما يصل اليه من الامور خصوصا بما يتعلق بخاصته وعماله وجلساءه، فحذر من التغافل عن اخطائهم، لانه سيعاقب يوم القيامة معهم لانه علم بحدوث الظلم ولم يرفعه لينصف المظلوم ويزجر الظالم، فهو شريك لهم في ظلامتهم، فيقول (عليه السلام): ((اياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة، والتغابي عما تعني به مما قد وضح للعيون، فانه ماخوذ منك لغيرك وعما قليل تنكشف عنك اغطية الأمور وينتصف منك المظلوم))(88).

وفي الحديث الشريف حذر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الظلم قائلا: ((مامن امیر عشرة الا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفك عنه العدل او یوبقه الجور))(89). وقد اوضح الامام (عليه السلام) آن سبب توافد الناس على الوالي، هو سؤاله عن اعمال لا تكلفه مالاً وانما انصاف من ظلم خصم قوي، ورد الظلامات وهي أمور على الوالي تحقيقها، فيكمل (عليه السلام) نص الرساله قائلاً: ((مع ان اكثر حاجات الناس اليك، المؤونة فيه عليك من شکاه مظلمة او طلب انصاف في معاملته))(90). كما كان يحاسب المسيئين في استعمال السلطة المعطاة لهم، فاذا ثبت امر خيانتهم تكون عقوبتهم باعلان امر خيانتهم الامانة امام الناس ليتحملوا عار التهمة ويكونوا عبرة لمن تسول له نفسه القيام باعمال مماثلة فيقول (عليه

ص: 32

السلام) موصياً مالك الأشتر: ((وتحفظ من الاعوان فأن أحد منهم يبسط يده خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه واخذته بما أصاب في عمله ثم نصبته بمقام الذلة ووسمته بالخيانه وقلدته عار التهمة))(91). وقد ذكر الأمام هذه الصفات في نص رسالته إلى مالك الأشتر: ((ويرأف بالضعفاء ولا يقعد به الضعف ثم الصق بذوي المرؤات والاحساب و أهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة، والسماحة فانهم جماع من الكرم، وشعب من العرف))(92). وقد تجلت تلك الصفات مجتمعة في شخص مالك الاشتر وقد أكد الخليفة (عليه السلام) على وجودها في رسالته إلى أميرين من أمراء الجيش هما زیاد بن النضر وشريح بن هانئ يأمره بالطاعة للاشتر جاء فيها: ((فانه ممن لا يخاف رهقه ولا سقطته، ولا بطؤه عما الإسراع إليه احزم ولا إسراعه إلى ما البطء عنه امثل))(93) فیذكر هنا الصفات التي أهلت مالك و جعلته مثالاً للقيادة العسكرية الفذة وهي شجاعته وعدم خوفه من ملاقاة الموت. وخبرته في معرفة الأمور التي تحتاج إلى سرعة وعدم تسرعه بالأمور التي تحتاج إلى تأني وهذه هي صفات القائد الفذ للجيش وقد جاء في كتاب المنهاج (94) انه إذا انفذ الأمام جیشا أو سرية فينبغي أن يؤمر عليهم صالحاً محتسب لان القوم ينظرون إليه وإذا لم يكن خيرا في نفسه كانت أعماله بحسب سريرته وكانت أعمال القوم بحسب مضاهية بها وان رأوا منه فشلاً فشلوا وان ثبت ثبتوا وان رجع رجعوا وان جنح للسلم جنحوا وان جد جدوا)).

كذلك يوضح الإمام (عليه السلام) إلى واليه على البصرة سهل ابن حنيف الانصاري، في قوم لحقوا بمعاوية فارسل له قائلاً: ((اما بعد، فقد بلغني أن رجالاً من قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك

ص: 33

من مددهم فكفراً لهم غيا ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق وأيضاعهم الى العمى والجهل، وأنما هم أهل دنیا مقبلون عليها ومهطعون اليها وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا ان الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً))(95) فهنا يوضح لعامله عدم التأسف على هؤلاء الهاربين من صفوفه مع علمهم انه على حق، ومعرفته انه عنده الناس بالحق سواء لا فرق بينهم في نسب او جاه فهربوا الى المكان الذي يرجوا أن يجدوا فيه الاثرة على غيرهم، فلا فائدة ترجی في مثل هذه النماذج.

الرجوع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى والى سنة نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الامور التي يصعب عليه حلها ليسلم من الخطأ. فيقول (عليه السلام): ((واردد الى الله ورسوله ما يضطلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه القوم احب ارشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(96) فالرد الى الله والأخذ بمحكم كتابه والرد الى رسول الله والاخذ بسنته الجامعة غير المفرقة))(97) وكذلك يرى الماوردي انه من واجب الامير ان يشاور ذوي الرأي ايهما افضل ويرجع الى اهل الحزم فيما اشكل ليأمن من الخطأ ويسلم من الزلل فيكون إلى الظفر اقرب(98). الوعظ والإرشاد الديني يدعو الامام علي (عليه السلام) ولاته إلى التمسك بمبادئ الاسلام وتطبيقها وذلك باأتباع حکم القرآن واتخاذه دستوراً واحلال حلاله واحرام حرامه والسير بالمسلمين سيره والأولياء فيقول في رسالته إلى الحارث الهمداني(99) *: ((وتمسك بحبل القران وانتصحه وأحل حلاله وحرم حرامه وصدق بما سلف من الحق))(100).

ويعض الامام (عليه السلام) ولاته والناس ويرشدهم وذلك بتحذيرهم من الدنيا

ص: 34

والاغترار بها ويدعوهم إلى الاعتبار منها بما مضى فهي قصيرة فانية اولها لاحق بآخرها فيدعوه إلى ذكر الموت لانهم بذكره يعضون أنفسهم بأنهم سيواجهون هادم اللذات يوما ما فلا بد لهم من الاستعداد لمواجهته فلا يبقى لبني آدم سوى العمل الصالح به فليعملوا على السيطرة على غرائزهم وشهواتهم فيقول (عليه السلام) لحارث الهمداني: ((واعتبر بما مضى من الدنيا ما بقي منها فان بعضها يشبه بعضا واخرها لاحق باولها وكلها حائل مفارق وعظم اسم الله، ان تذكره الأعلى حق واكثر ذكر الموت وما بعد الموت ولا تتمنى الموت الا بشرط وثيق))(101). لقد كانت منزلة الإنسان في المجتمع العربي قبل الإسلام كانت مرهونة بمقدار ما يملك من الأموال، فلما جاء الإسلام، بدء بالعمل على هدم تلك التقاليد الموروثة وايجاد طرق جديده لبناء مجتمع إسلامي متكامل من خلال إعانة الفقراء والعمل على توفير الحياة الملائمة لهم ولجميع أفراد المجتمع الإسلامي، وأيضاح مفهوم الفقر بأنه لا ينقص من كرامة الإنسان في المجتمع، فمنزلته تقاس على قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(102). وقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الشريف ((يا أيها الناس ألا وان ربكم واحد وان أباكم واحد لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على اسود ولا اسود على احمر إلا بالتقوى))(103). إذن منزلة الإنسان مرهونة بالأيمان بالله والعمل الصالح والأخلاق الحسنه فتلك هي أساسيات قياس منزلة الفرد في الإسلام وقد فرض الله سبحانه وتعالى على المجتمع الإسلامي التكافل بين أفراده کسمة من سماته البارزة، وقد بلغ التكافل في عهد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الى ذروة درجاته، من خلال تجسيد النهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم والذي ورد في العديد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»(104). وقوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ»(105). كما وردت الآيات التي ترغب وتحبب هذا التكافل بين المسلمين ومنها قوله تعالى: «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا

ص: 35

لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(106).

وبذلك يتضح أن التشريع الإسلامي أوجد للفقراء والمحتاجين حقا في أموال الأغنياء من خلال فرض الزكاة التي تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء اتباعا القوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ»(107). والزكاة هي أول تشريع منظم يهدف إلى تحقيق الضمان الاجتماعي لا يعتمد على الصدقات الفردية او التطوعية بل يقوم على تنظيم دوري منتظم في توزيع الأموال بغية تحقيق الكفاية لكل محتاج من غير إسراف ولا تقتير ولم يكن ذلك خاصا بالمسلمين وحدهم بل شمل كل من يعيش في ظل دولتهم بما في ذلك اليهود والنصاری(108). وتعني الزكاة في اللغة النماء والطهر والصلاح وسميت بذلك لأنها سبب تنمية المال وتطهيره واصلاحه(109). أما معناها في الشرع فهي أسم لأخذ الشيء مخصوص من مال مخصوص(110). ومن أسباب تحقيق المنافع للدولة وذلك بجلب ما يحتاج اليه الناس من حاجات غير موجودة في بلدهم وذلك عن طريق البر والبحر والجبال والسهول فيقول (عليه السلام) لمالك الأشتر: ((واستوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً المقيم منهم، والمضطرب بما له والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها ابها من المباعد والمطارح في برِّك وبحركَ وسهلكَ وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترءون عليها، فإنهم سِلمُ لاتخاف بائقته، وصلح لا تخشى عائلته،(111) *))(112). وقد أوضح (عليه السلام) واجبات الولاة تجاه التجارة والتجار من خلال تأكيده على تفقد أمور التجار في حاضر البلد وأطرافه لانهم أسباب جلب المنافع وتحقيق الرقي الاقتصادي فيقول (عليه السلام): ((وتفقد أمورهم بحضرتك وحواشي بلادك))(113).

ص: 36

ومراقبة الأسواق لمنعهم وتحذيرهم من الغش في البيع والميزان فيقول (عليه السلام) موصياً مالك: ((وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل))(114). وقد حذر الله سبحانه وتعالى من الغش في المكيال والميزان في قوله: «وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(115). وكذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا الا من اتقى الله وبر وصدق))(116). ويكمل مؤكداً (عليه السلام) على مراقبة الأسعار ومنع ارتفاعها لان ذلك يسبب الضرر لعامة الناس فيقول (عليه السلام): ((وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع))(117). وفي الحديث الشريف يوصي الرسول ((صلى الله عليه وآله وسلم) التجار عند البيع إذ يقول: ((یا معشر التجار إن الشيطان والاثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة))(118). وتوافقا مع ذلك أكد على منع الاحتكار لما يحدثه من مضار على العامة واختلال الاقتصاد ولقد حذر الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) من الاحتكار في قوله أحاديث عديدة (صلی الله عليه وآله وسلم) منها: ((لا يحتكر الا خاطئ))(119). اما الأمام ((عليه السلام) فيحذر مالك قائلاً: ((واحتكارا في المنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة))(120). والاحتكار هو جمع السلع في السوق وخزنها حتى يشتد الطلب عليها فيصبح التاجر متحكما في الأسعار، فمن واجب الوالي هنا منع الاحتكار لما يحدثه من أضرار في الاقتصاد وقد بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عقوبة المحتكر في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه))(121) ففي هذا الحديث تصوير لعظمة الآثم الذي يتحمله التاجر المحتكر فعظمة جرمه توصله الى تبرئ الله سبحانه وتعالى منه، فلماذا يترجى الانسان من الدنيا والاخره اذا ماطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى؟ وقد عد الأمام (عليه السلام) وجود

ص: 37

الاحتكار في السوق عيب على الولاة بصورة عامة لانه يحدث بسبب تقصيرهم في مهامهم ومسؤلياتهم داخل السوق فيقول الإمام (عليه السلام) لمالك: ((وعيب على الولاة، فأمنع الاحتكار فأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه))(132). ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه): یرید آخرة عمله الذي فرط به في الحسنات المعلية للدرجات عن اللحاق بمنازل المتقين والإبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة لم ترفعه رفعة نسبه ومكانته في الدنيا، ولا جبر هذا النقص الذي ثلم حاله. وخلاصة القول في هذا البحث المبارك نقول، اللهم احشرنا في زمرة سيدنا علي وأحبابه.. اللهم آمين

ص: 38

الخاتمة والنتائج:

بعد هذه الجولة في رحاب سمات وصفات الإمام علي عليه السلام نستطيع أن تلخص أهم النتائج، وهي: ظهر لنا من دراسة حياته وآثاره، فهو مدرسة الشرع والأدب واللغة لقد كان من العلماء البارزين في الرواية والدراية وعلوم اللغة وله ملكة لغوية تأثر في المتلقي، إن نشأته الأولى في بيت النبوة عاملا أساسيا ورافدا مهما لبناء شخصيته، ليظهر بعلمه وخلقه وسمته النبوي وليُعلِّم الطلاب والسائلين لقد كان عالماً وإماماً كبيراً وله آراءٌ متميزة في التوجيهات الإدارية والتربوية 1 - إن الألفاظ والعبارات والآراء التفسيرية التي أطلقها الإمام وجدناها مشحونة بألوان من الحكم والمواعظ والتوجيهات، وجدنا الأمام اجتمعت فيه من الخصال ما تفرقت في غيره من العلماء 2 - تُعدُّ شخصية الإمام علي عليه السلام إحدى الشخصيات المهمة والفريدة والفاعلة على المستوى البشري، ولها من الأهمية ما يدعو إلى الاعتناء بكافة الجوانب المتعلقة بها على الدوام. من جانب الدراسات الشرعية المتعلقة بشخصيته أو تسخيرها للدراسات التربوية، والعلمية والنفسية واللغوية. ليُعدُّ تطويرا مستمرا في جميع جوانب المعرفة الإنسانية0 3 - إن الإمام عليه السلام كان موسوعيا في تدبر آيات القرآن الكريم في حكمه ونظامه الإداري أثناء خلافته للمسلمين، متفرداً في استنباطاته و فهمه له، وقد حظاه الله سبحانه بعمق في النظرة البيانية البلاغية والدلالية في القرآن، مما يجعله مقدما على غيره من المبرزين في هذا الباب. وكذلك نجده من جانب آخر يهتم بالتأديب التربوي لتصبح ضرورة شرعية في واقعنا المعاصر حتى تتحقق الأهداف التربوية ويبدو أن من نافلة القول، التأكيد على المكانة الرفيعة التي حظي بها الإمام علي

ص: 39

عليه السلام وثناء العلماء عليه شرقًا وغربًا، وفي اغلب العلوم الشرعية لقد كان الإمام صاحب رواية ودراية بالحديث النبوي الشريف وله مسند في ذلك 4 - تمكنت الدراسة من تحديد معايير وضوابط الصورة الحقيقية لولاته ومنهم مالك بن الأشتر التي وقف عندها الأمام، كشفت الدراسة عن جهوده في هذا الميدان وغيره، مع أنه لم يكن همه الأول، إلا أننا وجدنا له حضورا.* ومن ذلك كلّه نستطيع القول إنّ الأمام ضرب أروع الأمثلة في الاستدلال على آراءه من النقل والعقل والقياس. فهم واستنبط الإمام في تكريم الإسلام لحقوق الرعية، وهو يبن الحقوق الإدارية والدينية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية لهم، وعنايته بهذه الجوانب إسهام في بناء الأسرة وحل جميع المشاكل المعاصرة والمتعلقة بالفرد والمجتمع 5 - وخلاصة القول أن ثقافته الفكرية تمتاز بغزارة المعلومات، ويعتز بتاريخه الأبناء والآباء والأجداد، لقد كان زوج البتول فقيهاً غاص في معرفة حقائق النفوس البشرية، وله منهجاً تربوياً متكامل، ولمن تحري آثاره كلها يجده اتصف علیه السلام بصفات الدعاة الربانيين المخلصين؛ من الصدق، والإخلاص، والدعوة على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة، والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد والورع، والاستقامة... وفي نهاية المطاف يوصي الباحث أن تدرس شخصية الإمام عليه السلام من غير الدرس والجهة التي نظرنا فيها كأن تدرس عنده العلوم البلاغية وتوجيه القراءات القرآنية عنده - وأن يختص بتفسير للآيات التي وقف عندها. لأنه أثرى المكتبة العربية بتراثه الفكري المتنوع والحمدُ لله أولاً وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعين.

ص: 40

الهوامش

(1) مسلم، صحيح مسام، ج 4، ص 1870.

(2) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحیحین، ج 3، ص 138.

(3) ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن منيع (ت 230 ه / 845 م)، الطبقات الکبری، دار صادر / بيروت - 1985)، ج 3، ص 19؛ الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (ت310 ه / 923 م)، تاریخ الرسل والملوك، تحقیق: إبراهيم أبو الفضل، ط 4، مطبعة دار المعارف، (القاهرة 1400 ه / 1962 م)، ج 7، ص 152؛ ابن عبد ربه، أبو عمر احمد بن محمد الأندلسي (ت 349 ه / 939 م)، العقد الفريد، تحقیق احمد امين، (القاهرة، 1997 م)، ج 5، ص 57 - 58؛ ابن الأثير، علي بن أبي مكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم (ت 630 ه / 1232 م)، أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق: محمد بن إبراهيم البنا واخرون، ط 2، دار الشعب، (لا.م - لا.ت)، ج 4، ص 91؛ (4) ابن سعد، الطبقات، ج 3، ص 19؛ الأصفهاني، أبو نعیم احمد بن عبد الله (ت 430 ه / 1038 م)، حلية الأولياء وطبقات الأصفیاء، ط 1، مطبعة السعادة، (لا. م، 1935 م)، ج 3، ص 121؛ ابن الأثير، أسد الغابة، ج 4، ص 917؛ ابن الوردي، زين الدين عمر بن مظفر (ت 749 ه / 1348 م)، تاریخ ابن الوردي، ط 2، النجف - 1969 م)، ج 1، ص 155؛ الهيثمي، علي بن أبي بكر (ت 807 ه / 1404 م)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي، القاهرة / بيروت - 1407 ه)، ج 9، ص 100؛ العاملي، السيد محسن عبد الكريم (ت 1372 ه / 3194 م)، أعيان الشيعة، دار التعارف للمطبوعات، (بیروت - 1407 ه)، ح 1، ص 325.

ص: 41

(5) المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346 ه / 957 م)، التنبيه والأشراف، تحقیق، يوسف أسعد مظفر، دار الأندلس للطباعة والنشر، (بیروت - 1989 م)، ص 295؛ ابن الأثير، أسد الغابة، ج 4، ص 917.

(6) أبن اعثم، أبو محمد احمد بن اعثم (ت 314 ه / 926 م) الفتوح، ط 1، تحقیق: محمد عبد المنعم، مطبعة دار المعارف العثمانية، (الهند - 1975 م)، ج 2، ص 19؛ العاملي، أعيان الشيعة، ج 1، ص 324.

(7) (8) ابن هشام، محمد بن عبد الملك (ت 218 ه/ 833 م)، السيرة النبوية، ط 2، تحقیق: مصطفى السقا، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، (لا.م - 1955 م)، ج 2، ص 250؛ ابن عنبة، عمدة الطالب، ص 59؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 911 ه / 1505 م)، تاریخ الخلفاء، تحقیق: محمد ابو الفضل، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، (القاهرة - لا.ت)، ص 1692؛ العاملي، اعیان الشيعة، ج 1، ص 325.

(9) أبن هشام، السيرة النبویه، ج 2، ص 250؛ أبن عنبه، عمدة الطالب، ص 59؛ السيوطي، تاریخ الخلفاء، ص 162؛ العاملي، أعیان الشیعه، ج 1، ص 325.

(10) ابن حنبل، احمد بن حنبل ابو عبد الله الشيباني (ت 241 ه / 855 م)، فضائل الصحابة، ط 1، تحقيق: وصي الله محمود عباس، مؤسسة الرساله، (بيروت - 1983)، ج 2، ص 623. (11) الطبری، تاریخ، طبعة بیروت، ج 2، ص 409؛ القرشي، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد القرشي، كفاية الطالب في مناقب علي ابن أبي طالب، مخطوط محفوظ في دار المخطوطات العراقية تحت الرقم (38،11)، ورقة 28؛ ابن کثیر، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر (ت 774 ه / 1372 م)، البداية والنهاية، ط 2،

ص: 42

تحقيق: مصطفى عبد الواحد، مطبعة دار المعارف،(بیروت -1971 م)، ج 5، ص 7؛ ابن عنبة، جمال الدين بن علي بن الحسين (ت 828 ه/ 1424 م)، عمدة الطالب في انساب أبی طالب، ط 2، (النجف - 1988 م)، ص 58 - 59؛ العاملي، أعيان الشيعة، ج 1، ص 323. (12) حقوق آل البيت عليهم السلام (ص: 138) الأعلام لخير الدين الزركلي (5 / 259) (13) والاكليل 10: 2 وجمهرة الانساب 392 - 394 (2) السبائك 51 واللباب 3: 88. (3) الاصابة: ت 8343 وتهذیب 10: 11 والولاة والقضاة 23 - 26 وسمط اللآلي 277 والمؤتلف والمختلف 28 والمزرباني 362 والتبريزي 1: 75 ودائرة المعارف الاسلامية 2: 210 والمغرب في حلى المغرب، الجزء الاول من القسم الخاص بمصر 68 والمحبر 233 في باب "من كان يركب الفرس الجسام، فتخط إبهاماه في الارض" ووفاته في الاصابة: سنة 38 ه.

(14) الذهب والأديان. وسيرة الأئمة عليهم السلام السياسية والاجتماعية سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2 / 11) (15) دراسات في نهج البلاغة (ص: 59) الثقات للعجلي (2 / 259) (16) دراسات في نهج البلاغة (ص: 156) الامام علي (عليه السلام) في آراء الخلفاء - الشيخ مهدي فقیه ایماني (ص: 263) (17) خميس، عبد المنعم، الادارة في صدر الاسلام، مطبعة الأهرام، القاهرة، 1974، ص 18.

(18) عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه / 1405 م)، المقدمة، دار احیاء التراث العربي، بيروت - لا. ت)، ص 302 - 303

ص: 43

(19) سورة الجاثية، آية 18.

(20) العلي، محمد مهنا، الادارة في صدر الاسلام، ط 1، دار السعودية للنشر، (لا. م / 1405 ه - 1985 م)، ص 107.

(21) العلي، الادارة في صدر الاسلام، ص 80 (22) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 48.

(23) الماوردي، الاحکام السلطانية، ط 3، قدم له، علي ابو ملحم، منشورات مكتبة دار الهلال، (بيروت - 19995 م)، ص 51.

(24) ينظر تفصيل ذلك: الفاضلي، خولة عيسى صالح، الفكر الاداري العربي الاسلامي عند الماوردي من خلال كتابه الاحكام السلطانية - تقليد الامارة - بحث منشور في مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2002 م، ص 41 - 45.

(25) سورة ص، اية 26.

(26) الجاحظ رسائل الجاحظ، ج 2، ص 300.

(27) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 5، ص 105؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 169.

(28) رسائل الجاحظ، ج 2، ص 30.

(29) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت 450 ه / 1014 م) الاحکام السلطانية والولايات الدينية، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة - 1966 م)، ج 2، ص 112.

(30) ابن خیاط، تاریخ ابن خیاط، ج 1، ص 203 (31) ابن سعد، الطبقات، ج 2، ص 338؛ العاملي، اعیان الشيعة، ج 1، ص 326.

ص: 44

(32) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 51.

(33) ينظر: الماوردي، الاحکام السلطانية، ص 4. علماً أن الشروط المعتبرة في الولاية تعتمد على نوع الامارة، فالامارة الخاصة تقصر عن شروط الامارة العامة (الحرية والاسلام) بشرط العلم لان لمن عمت امارته ان يحكم وليس ذلك لمن خصت امارته. ينظر: الماوردي، الاحکام السلطانية، ص 33.

(34) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 194. الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 3، ص 127؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 16، طبعة قم، ص 156.

(35) محمد بن الحسن (ت 189 ه / 806 م)، السير الكبير، تحقيق: صلاح المنجد، مطبعة مصر، (القاهرة - 1958 م)، ج 1، ص 61.

(36) سورة المائدة، آية 44.

(37) * اذربيجان: وهي اقليم واسع وحدها من برذعة مشرقاً الى اذربيجان مغرباً ويتصل حدها من جهة الشمال ببلاد الديلم والجبل والطرم من اشهر مدائنها تبریز، فتحت ایام عمر بن الخطاب، وهي جميلة ومملكة عظيمة الغالب عليها الجبال فيها قلاع وخيرات كثيرة. الحموي، ابو عبد الله یاقوت بن عبد الله (ت 626 ه / 1228 م)، معجم البلدان، دار الفكر، (بيروت - لا. ت)، ج 1، ص 128 - 129 (38) ** الاشعث بن قیس: بن معد بن كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة، كان اشعث الرأس من كبار أمراء الخليفة علي (عليه السلام) يوم صفين.

ابن حجر العسقلاني، الاصابة، ج 1، ص 66.

(39) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 14، ص 33.

(40) الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن ابو محمد (ت 255 ه / 868 م)، سنن الدارمي،

ص: 45

ط 1، تحقیق: فواز احمد زمرلي، خالد السبع، دار الكتاب اللبناني، (بیروت - 1407 ه)، ج 2، ص 417.

(41) سورة البلد، اية 17.

(42)* عبد الله بن جحش: هو محمد بن عبد الله بن جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن داودان بن اسد بن خزيمة بن مدركة، وهو ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أميمة بنت عبد المطلب، وهو من اول من عقد له اللواء في الاسلام، وصاحب أول مغنم قسم في الاسلام. ابن قانع، معجم الصحابة، ج 2، ص 108؛ الاصفهاني، حلية الأولياء، ج 1، ص 108.

(43) الشيباني، السير الكبير، ج 1 ص 601.

(44) الجاحظ، البيان والتبيين، ط 1، تحقيق: عبد السلام هارون، مطبعة لجنة التأليف والنشر، (القاهرة - 1948 م)، ج 2، ص 42؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 3؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 118.

(45) ** الخريت: هو سيف بن القاسم بن محمد كان على بني ناجية في حروب الردة، كان احد الأمراء حينئذ، كان مع علي حتى حكم الحكمين ففارقه الى بلاد فارس مخالفاً وأمر بمنع الصدقة والنصاری بمنع الجزية وارتد معه الكثير، ثم أرسل اليه معقل الرياحي أحد بني يربوع فأوقع بهم. أبن اعثم، الفتوح، ج 2، ص 78 - 79.

ابن حجر العسقلاني، الاصابة، ج 2، ص 273.

(46) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4، ص 112؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، طبعة قم، ص 47.

(47) * قرظة بن کعب بن عمرو بن کعب بن عمرو بن عائذ بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن کعب بن الخزرج بن الحارث الخزرجي ويکنی ابو عمرو حليف لبني

ص: 46

عبد الأشهل من الاوس، وهو اخو عبد الله بن انیس، شهد أُحد وما بعدها، وهو أحد الأنصار العشرة الذين وجههم عمر بن الخطاب إلى الكوفه وابتنی دار ونزل بها وأفتتحح الري في عهد عمر بن الخطاب ولاه الامام علي (عليه السلام) البصرة، مات في خلافة الامام علي (عليه السلام). ينظر: أبن سعد، الطبقات، ج 6، ص 17. الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 5، ص 11. ابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج 5، ص 432.

(48) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4، ص 612.

(49) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 30.

(40) ابو یوسف، الخراج، ص 36؛ الماوردي، الاحکام السلطانية، ص 51.

(51) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 47.

(52) البخاري، صحيح البخاري، ج 5، ص 2104. مسلم، صحیح مسلم، طبعة دار احياء التراث العربي، ج 4، ص 2026؛ ابن حبان البستي، ابو الحاتم محمد بن حبان بن احمد التميمي (ت 354 ه / 9965 م)، صحیح ابن حبان، ط 2، تحقیق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، (بیروت 1993 م)، ج 4، ص 321.؛ القرطبي، ابو عبد الله محمد بن احمد بن أبي بكر بن فرج (ت 671 ه / 1285 م)، تفسير القرطبي، ط 2، تحقیق: احمد عبد العليم البرقوقي، دار الشعب، القاهرة - 1372 ه)، ج 13، ص 27.

(53) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ص 96 - 97.

(54) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 35.

(55) سورة النساء، اية 148.

(56) مسلم، صحیح مسلم، ج 4، ص 2002.

ص: 47

(57) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 36.

(58) مسلم، صحیح مسلم، ج 4، ص 1985.

(59) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 36.

(60) سورة الحجرات، اية 6.

(61) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 36.

(62) ابن قتيبة، عيون الاخبار، ج 4، ص 20.

(63) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 97.

(64) سورة الرحمن، اية 60.

(65) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 44.

(66) الجهشياري، نصوص ضائعه من كتاب الوزراء والكتاب، تحقیق میخائیل عواد، دار الكتاب اللبناني، (بیروت - 1964 م)، ص 16.

(67) الطبري، تاریخ، طبعة بیروت، ج 2، ص 233 - 234.

(68) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج17، ص 42.

(69) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4، ص 450.

(70) نفس المصدر، طبعة القاهرة، ج 4، ص 450.

(71) نفس المصدر، طبعة القاهرة، ج 4، ص 450.

(72) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4 ص 556؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، مج 5، ص 134 (73) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت مج 5، ص 34؛ كاشف الغطاء، المستدرك على نهج البلاغة، ص 106 - 107.

ص: 48

(74) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4، ص 556؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 2، ص 34.

(75) سورة الأنعام، اية 57.

(76) البخاري، صحيح البخاري، ج 5، ص 232.

(77) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 58.

(78) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 58.

(79) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 69.

(80) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 69.

(81)* کعب بن مالك: بن ابي كعب بن القين بن کعب بن سواد بن غنم بن کعب بن سلمه الانصاري، صحابي من كبار شعراء أهل المدينة في الجاهليه وكان في الاسلام من شعراء النبي()، مؤاخي لطلحه بن عبد الله وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، شهد أكثر الوقائع وتوفي سنة خمسين هجريه. ابن قانع، ابو الحسين عبد الباقي (ت 351 ه / 962 م)، معجم الصحابة، ط 1، تحقیق: صلاح بن سالم المصراني، مكتبة الغرباء الأثرية، (المدينة المنورة - 1418 ه)، ج 2، ص 374. أبن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج 1، ص 56.

(82) ** الكور: مفردها كورة وهي المدينة والصقع، وجمعها كور. ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 156.

(83) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 204.

(84) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 47.

(85) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعه قم، ج 17، ص 111.

ص: 49

(86) سورة البقرة، آية 178.

(87) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 113.

(88) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 113.

(89 البيهيقي، ابو بکر احمد بن الحسن بن علي بن موسي (ت 458 ه / 1065 م) سنن البيهيقي الكبری، تحقیق محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، (مكه المكرمه - 1994 م)، ج 3، ص 129.

(90) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 90.

(91) المصدر نفسه، طبعة قم، ج 17، ص 69.

(92) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 38.

(93) الطبري، تاریخ، طبعة القاهرة، ج 4، ص 567؛ ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، مج 4، ص 538؛ البحراني؛ شرح نهج البلاغة ج 5، ص 105 - 106.

(94) الحليمي، الشيخ الامام الحافظ أبي عبد الله الحسين بن الحسن (ت 403 ه / 1012 م)، المنهاج في شعب الایمان، ط 1، تحقیق : حلمي محمد فوده، دار الفكر للطباعة والنشر، (لا.م - 1978 م)، ج 2، ص 479.

(95) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 234؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 131.

(96) سورة النساء، آية 59.

(97) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 39.

(98) الاحکام السلطانية، ص 48 - 49.

(99)* الحارث الهمداني : الحارث بن عبد الله بن کعب بن أسد بن نخلة بن حرث

ص: 50

بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني وهو الحارث الاعور صاحب أمير المؤمنين وله قول في الفتيا. ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 18، ص 42.

(100) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 18، ص 41.

(101) ابن ابي الحديد، طبعة بيروت، ج 5، ص 226؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 220.

(102) سورة الحجرات، آية 113.

(103) ابن حنبل، مسند احمد، ج 5، ص 411؛ الطبراني، المعجم الاوسط، ج 5، ص 86؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 8، ص 84.

(104) سورة الذاريات، آية 19.

(105) سورة البقرة، آية 83.

(106) سورة المزمل، آية 20.

(107) سورة التوبة، آية 103.

(108) القرضاوي، مشكلة الفقر، ص 17 - 18.

(109) عقلة، محمد، احكام الزكاة والصدقة، ط 1، مكتبة الرسالة الحديثة، (عمان - 1402 ه / 1982 م)، ص 8.

(110) عقلة، احكام الزكاة، ص 8.

(111)* غائلة: الجمع اغوال وغيلات وكل ما اغتال الانسان فاهلكه فهو غول أي منكراً داهياً والغوائل الدواهي. ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 507.

(112) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17، طبعة قم، ص 83.

(113) المصدر نفسه،طبعه قم، ج 17، ص 83.

ص: 51

(114) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 83.

(115) سورة هود، الآيات 84 - 85.

(116) الترمذي، سنن الترمذي، ج 3، ص 115.

(117) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17،ص 83.

(118) الترمذي، سنن الترمذي، ج 3، ص 514.

(119) الترمذي، ج 3، ص 567.

(120) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 83.

(121) مسلم، صحیح مسلم ج 3، ص 1228؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج 3، ص 67؛ ابن حبان البستي، صحيح ابن حبان، ج 11، ص 308؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 2، ص 14.

(122) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 83.

ص: 52

ثبت المصادر والمراجع

1 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، ط 2، تحقيق: محمد ابراهيم البنا واخرون، دار الشعب، لا. م، لا. ت. (8 اجزاء) 2 - حلية الاولياء وطبقات الاصفياء، ط 1، مطبعة السعادة لا. م، 1935 م.

3 - الاصطخري، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد الفارسي المعروف بالكرخي (ت 340 ه / 951 م).

4 - المسالك والمالك، تحقيق: محمد الحسيني، القاهرة، 1961 م.

5 - ابن اعثم، ابو محمد احمد بن اعثم الكوفي (ت 314 ه / 926 م).

6 - الفتوح، ط 1، تحقيق: محمد عبد المنعم، مطبعة دار المعارف العثمانية، الهند، 1975.

7 - الانباري، محمد بن القاسم (ت 328 ه / 940 م).

8 - نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الادارية، دار الكتاب العربي، لا. م، لا. ت.

9 - لوبون، غوستاف.

10 - حضارة العرب، ط 4، نقله الى العربية: عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي لحلبي وشركاه، لا. م، 1964 م.

11 - ماهر، سعاد.

12 - مشهد الامام علي في النجف الاشرف وما فيه من الهدايا والتحف، مطابع دار المعارف، مصر، 1969 م.

13 - محمود، عبد الحلیم.

ص: 53

14 - الصلاة ومقاصدها، تحقيق: حسن نصر زيدان، مطابع دار الكتاب العربي، مصر، 1965 م.

15 - الملا، فاضل عباس.

16 - الامام علي ومنهجه في القضاء، ط 1، مطبعة الغدير، بيروت، 1419 ه / 1999 م.

17 - الملاح، هاشم يحيى.

18 - الامام علي رجل المثل والمبادئ، ط 1، لا. م، 1988 م.

19 - الموسوي، عبد الرزاق عباس حسن.

20 - نشأة المدن وتطورها، مطبعة الارشاد، بغداد، 1977 م.

21 - نظام الدین، عبد الحميد 22 - مفهوم الفقه الاسلامي وتطوره واصالته ومصادره العقلية والنقلية،طبعة 1، بيروت - 1984.

23 - الهادي، كاشف الغطا.

24 - مستدرك نهج البلاغة، ط 2، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، لا. م، 1980 م.

ص: 54

النظرية الاقتصادية بين رؤية الامام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر وبين فيزوقراطيي عصر الانوار دراسة مقاربة مقارنة أ.م.د. محمد حسين السيوطي أ.م.د. علي خيري مطرود

اشارة

ص: 55

ص: 56

تقديم

لطالما مثل الاقتصاد أحد اهم المحركات الاساسية لاعتقاد الانسان وسلوكياته، بل في احيان كثيرة مثل المحرك الوحيد، ولم يأت ذلك من فراغ بل جاء من اهمية الاقتصاد في حياة الانسان ووجوده، ومن هذا المنطلق سعى الكثيرون لتحويل هذه الجزئية من حياة الانسان الى علم قائم بذاته، متحكم بمصائر البلاد والعباد، وذهب بعضهم في كل جهد لا يجاد أجوبة وحلول لكل الاشكاليات والمشاكل والازمات التي تعاني منها الاقتصاديات البشرية، لاسيما في العصر الحديث، وراحوا يضعون الفرضيات الواحدة تلو الاخرى، وكلاً تتأثر او تنطلق من بيئة وفهم اجتماعي وسياسي محدد، فتكون انعكاساً لواقع تاريخي في المدة التي ظهرت فيه بكل ما يحمله من سمات سياسية واجتماعية وثقافية كانت سائدة حينذاك.

ومع كل ذلك فإن معظم النظريات التي سبقت ما عرف «بعصر الانوار» (التنوير (Enlightenment) وهو العصر الذي سائد في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وحاول فيه متبنيه أبعاد الدين واعتاد العلم والعقل المجرد ليحل بديلاً عنه، لم تتمكن من طرح رؤية متكاملة للكيفية التي يجب أن تدار بها اقتصاديات البلدان، مع لحاظ تباين مواردها وثرواتها نوعاً وكماً، وفي مقابل ذلك برزت لدينا عدد من الفرضيات والنظريات الاقتصادية التي اعتمدت على أسس دينية ومن بينها اسلامية في رؤيتها ونجحت كثيراً في تحقيق غاياتها في المدد القصيرة التي طبقت فيها، ومن تلك النظريات واهمها نظرية الامام علي عليه السلام، لمفهوم الاقتصاد التكاملي التي طرحها وشرح الخطوط العامة لها في عهده لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه حين ولاه مصر، ومع أن البعض اشار لتلك الملامح غير انها تبقى صورة غير ناطقة وغير مفهومة لأنها جاءت ضمن سياق عام من التعليمات التي وجهها المسؤول الاعلى في

ص: 57

البلاد لعامله، وبغية أن نبرز القيمة العلمية لتلك الطروحات والتي شكلت نظرية اقتصادية متكاملة، فإننا عمدنا الى أجراء نوع من المقارنة بين تلك الرؤى التي تنطلق من أسس دينية وبين نظرية شهيرة جداً تعرف بالنظرية الفيزوقراطية (Physiocrats) (المذهب الطبيعي)، حاولت بناء اقتصاد «طبيعي» بعيد عن الروح والاسس الدينية «، بلحاظ ان تلك المقارنة لا تقوم على أساس مقارنة شخصية أو فكرية بين الامام علي عليه السلام، واصحاب المدرسة الفيز وقراطية، فلا يوجد منطق في ذلك لاختلافات دينية وقدسية وعقلية كثيرة، وانما مقارنة في الاسس العلمية للنظريتين، بوصفهما تطبيقاً آليا لمبادئ اقتصادية بحتة.

ولتسهيل تتبع المقصد حاولنا ما استطعنا لذلك سبيلاً عرض الموضوع بالغة مبسطة جداً بعيدة عن المصطلحات والمفاهيم الاقتصادية صعبة الفهم، بل عالجنا تلك المفاهيم بالغة تاريخية مبسطة، وعرضنا البحث بعدة محاور من بينها التعرض لمفهوم اصطلاح عصر الانوار، ثم التعرف على جذور المدرسة الطبيعية «الفيزوقراطية»، ومن بعد ذلك قمنا بتحديد بعض مبادئ تلك النظرية وعرضها على رؤيا أمير المؤمنين عليه السلام في عهد لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه ليتضح لنا مدى الفرق بين الرؤيتين، وأخيرنا ادرجنا بعض القناعات التي تولدت لدينا من المقارنة في قائمة من الاستنتاجات.

ص: 58

أولا: الدلالة الاصطلاحية لمفهوم عصر الأنوار

شكل القرنين السادس عشر والسابع عشر البدايات الاولى لظهور مفهوم مصطلح الأنوار أو التنوير (Enlightenment)، في أوربا، الذي جاء تعبيراً نزعة فكرية جديدة قدمت العقل والعلم على التأويلات والمتبنيات الدينية، وتضمن هذا الفکر نزعة مادية واضحة بعد إقصاء اللاهوت، واعتماد العلم والعقل مصدراً رئيساً للتأويل والفهم بعيداً عن البعد الماورائي بمفهومه الديني، وليس العلمي، الذي غالباً ما يظهر مرتبطاً بالبعد الميثولوجي، وبلغ هذا التيار الفكري ذروته في القرن الثامن عشر على يد مجموعة من المثقفين، الذين دعوا صراحة للتمرد على المفاهيم القديمة واعتاد العقل أساساً في كل شيء واحلاله محل الدين في كثير من مفاصل الحياة، حتى أطلق على هذا العصر «عصر العقل» (The age of reason)، أو دين العقلانية(2)، وان لم يكن ذلك العصر هو التنوير بحد ذاته فان التنوير وبدون شك أحد نتاجاته الفكرية(3).

لم يقتصر مفهوم التنوير على نمط دون أخر في أوربا، بل أمتد ليعبر عن حالة فكرية عامة شملت كل القطاعات المعرفية فيها، ووجد البعض ان ذروته الحقيقية تمتد بين عامي (1685 و1815)، وهي المدة التي ركز فيها فلاسفته واتباعه على اعادة صياغة المفاهيم الدينية الكنسية، بل ومحاربة سطوتها على العقل البشري، ووصل الحد ان انتج هذا الفكر التنويري فلسفة جديدة تقوم في غالب الاحيان على ما عرف بين مفكريه "معاداة الاكليروسية" التي تحولت عند بعضهم أساسا لعصر الانوار، ومن أشهر العبارات التي أُطلقت آنذاك، ووصفت عصر الأنوار وموقفه من الدين أو قل الكنيسة، ما قاله الأديب الفرنسي إميل زول (Émile Édouard Charles Antoine Zola)(1840-1904): «إن الحضارة لن تصل إلى كمالها حتى يسقط

ص: 59

آخر حجر من آخر كنيسة على آخر قسيس»(4).

وعلى الرغم من ان ذلك المفهوم قد يعطي انطباعاً عاماً على ان كل العلماء يومذاك حتى التنويرين منهم كانوا ضد الدين، غير ان ذلك ليس صحيح فالكثير منهم انحاز للدين، لاسيما علماء القرن السابع عشر، لكنهم ركزوا على ما اسموه، «الدين الطبيعي»، حين حاولوا ان يبرهنوا على وجود الله عبر توظيف قوانين الطبيعة ونواميسها العجيبة التي توصلوا اليها في نطاق العلوم الطبيعية(5). فكان غاليليو (Galileo Galilei) (16564 - 1642)، على سبيل المثال، كاثوليكياً، ولم يكن يرى أي تعارض بين قناعاته العلمية ومعتقده الديني، ولم يقلل من الاهمية العامة للكتب المقدسة، لكنه أعتقد ان الكتب المقدسة لا تقدم بالعادة اجوبة علمية صريحة لتفسير وتأويل الظواهر الطبيعية، لان ذلك وبحسب تصوره ليس من اختصاصه، فهو كتاب روحي يعمل على تنظيم العلاقة بين الفرد وخالقه، لذلك يركز على الجنبة الروحية اكثر من تركيزه على الجنبة المادية بمفهومها العلمي، لاسيما أن معظم الحقائق العلمية يصعب معها ان تكشف او تفسر بمفهوم الحس فقط دون الاعتماد على وسائل وطرق أخرى، لذلك رأى انهما اي العلم والدين مصدران للمعرفة لا يمكن ان يتقاطعا، لأن الله هو صاحب كتاب التكوين (الطبيعة)، وهو الذي أوحى كتاب التدوين وفي ذلك يقول: «إن الطبيعة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية، كما في وسعها ان تكون مصدراً لبحوث اللاهوت وطريقاً إلى معرفة الله»(6)، وكان نيوتن (Isaac Newton) (1642 - 1727) يعتقد بأن: «عالم الكون يدلّ على وجود خالق قادر مطلق. وهو ألا تدل آيات الطبيعة وآثارها على وجود كائن غير مادي يتمتع بالحياة والحكمة؟»(7).

ص: 60

في حين ذهب بعضهم للقول ان العلوم عبارة عن اداة يمكن من خلالها الاستدلال على قدرة الله تعالى وبدائع خلقه، وللتدليل على ذلك التصور نقتبس هنا ما ذكره روبرت بويل (Robert William Boyle) (1627 - 1691) وهو احد العلماء المرموقين الايرلنديين إذ يقول:» إن العلم رسالة دينية تتمثل باكتشاف أسرار الخلق البديع الذي أوجده الله»(8).

ومهما يكن من أمر، فإن مصطلح التنوير راح يتخلص تدريجياً من الهالة الدينية المسيحية لكي يدل على عصر بأسره هو عصر التحرر العقلي والفكري في القرن الثامن عشر. وعندئذ راح يتخذ شكل المشروع الفكري بما فيه الاقتصادي الذي يريد تخليص البشرية الأوروبية وغير الأوروبية، من ظلمات العصور الوسطى وهيمنة رجال الكنيسة، بالطبع فإن المشروع كان ضمنياً لا علنياً، بسبب خوف الفلاسفة من السلطة والكنيسة المرتبطة بها عضوياً(9).

ثانياً: الدلالة الاصطلاحية لمفهوم الفيزوقراطيون [المذهب الطبيعي

كان الوضع الاقتصادي المتردي وما ينتج عنه من واقع اجتماعي متخلف، من أهم العوامل التي دفعت علماء ومفكري عصر الانوار ببحث عن حلول «علمية»، ونظريات لا تتسم بالدينية لحل تلك المشاكل، على أمل اثبات قدرة العلم على تنظيم حياة الانسان وحل مشاكله بعيداً عن الدين، لذلك فأن المتتبع لأغلب النظريات الاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت في تلك الحقبة حاولت ما استطاعت لذلك سبيلاً أن تحييد الدين وكل النظريات والحلول التي يطرحها، وسعت لإحلال العلم ومناهجه الحديثة بدلاً عنه.

ص: 61

لقد كانت أولى المجالات التي حاول فيها ومن خلالها فلاسفة عصر الانوار احلال العلم بديلاً عن الدين وليس مكملاً له، المجال الاقتصادي، لما له مكن أثر واضح وعميق في جميع سلوك البشر واعتقاداته الفكرية بما فيها الدينية، ولذلك ظهرت لدينا مجموعة من المدراس والنظريات العلمية، ومع تعددها غير ان أشهرا في ذلك الوقت، ما عرف بالمدرسة الطبيعية «الفيزوقراطية».

تأسست هذه المدرسة قبل الثورة الفرنسية، وتمركزت بالخصوص في فرنسا، وكان ديكناي (De Quesnay) من أشهر مؤسسيها وكان طبيبًا للملك لويس الخامس عشر، ومشتغلًا بالزراعة والأدب والاقتصاد الزراعي، وقد كتب هذا العالم مقالة في دائرة المعارف الفرنسية في باب الاقتصاد السياسي، قال فيها جملة كانت هي أساس مبدأ الفيز وقراطيين «إن البشر محكومون بقوانين وسنن،» وبذلك أصبح مؤسسًا لمدرسة الفيز وقراطيين فهو أول من قال: بوجود قواعد طبيعية ينبغي فهمها والعمل بمقتضاها، وأن مجرد فهمها يقضي بالعمل عليها وبها، ومجموع هذه القوانين سماه هؤلاء العلماء، بالنظام الطبيعي (Order Naturel) وجعلوا هذا النظام علمًا قائمًا بذاته له قواعد ومبادئ، فكانوا يقولون بأن الفيز وقراطية هي علم النظام الطبيعي کما نقول إن الجغرافيا هي علم سطح الأرض، وهم يريدون بذلك أن الفيزوقراطية ليست الحال الطبيعية بذاتها، التي كان يدعو روسو إلى العودة إليها بدون قيد أو نظام. وقد ساهمت لحدً كبيراً في تأسيس الاقتصاد السياسي، فهي أول مدرسة حثت على تدخل السلطة في الشؤون الاقتصادية، لتمثل بذلك فلسفة مضادة لأفكار التجار الذين يرجع لهم الفضل الاول في وضع عملية الانتاج في المركز الرئيس للتحليل الاقتصادي النظري والمهني(11).

ص: 62

ان الفكرة الأساسية التي يقوم عليها نظامهم هي:

1 - القانون الطبيعي للأشياء حيث أن الحياة تسير بموجب قوانين طبيعية منطقية عقلانية وخيرة واكتشاف هذا القانون هو هدف علم الاقتصاد وهذا القانون يمكن التعرف عليه بالاستدلال.

2 - و لأن هذا النظام هو خير نظام ويحقق المصلحة العامة لذلك يجب أن تترك له الحرية المطلقة للتحرك وبذلك تزدهر الحياة وإبرازهم للقانون بوصفه عفوي خالد يمكن الاستدلال عليه وبأنه ضرورة حتمية تقتضيه الطبيعة وصلوا إلى: اعتبار الملكية الفردية حق أساسي لا بد منه لإنتاج الثروة وضمان الملكية هو النظام الاقتصادي.

4 - ربط الحرية بحق الملكية لأن الحرية جوهر النظام الطبيعي وهم الذين صاغوا مقولة «دعه يعمل دعه يمر "وهذه الكلمات التي عد أعظم تراث للفيزيوقراطيين فسرت بطرق مختلفة في المراحل اللاحقة فقد تم الربط بينها وبين السوق التنافسية فيما بعد ولكن أبسط ما تعنيه هو دع الأمور تمشي لوحدها دون أي تدخل من الدولة وسيكون كل شيء على ما يرام فالفيزيوقراطيون كانوا ضد تدخل الدولة إلا في مجال الدفاع الوطني والقضاء والمحافظة على القانون الطبيعي وهذه الكلمات تدل على أن هناك سلطة عليا سوف تضمن تحقيق أفضل النتائج دون تدخل من أحد(12).

ص: 63

ثالثاً: النظام الاقتصادي بين رؤية الامام علي عليه السلام وبين المدرسة الطبيعية.

أ - الارض هي المصدر الوحيد للثروة.

إن النظام الطبيعي الذي سبق ذكره في نظر الفيز وقراطية، نظام غير شامل لكل شؤون الحياة الاجتماعية، إنما الذي يهمهم ويلفت أنظارهم هو نصيب الأرض في الخراج، فكان الفيزوقراطيون يمنحون الزراعة منزلة خاصة تقارب منزلة المسائل الروحية واكدوا ان كل القيم نشأت من الارض ومن ثم ينبغي أن تقع جميع الضرائب على هذا الاساس الاقتصادي.

لقد وصل الفيزوقراطيون إلى هذا الرأي بالفكرة الآتية: قالوا إن المحصول الخالص هو الفرق بين النفقات التي يتكلفها المحصول وبين الثروة التي تنتج عن الانتفاع بالمحصول، وقد ظن الفيز وقراطيون أن هذا المحصول الخالص لا يوجد إلا في الزراعة؛ وبناءً على هذا الرأي كان الفيز وقراطيون يعتقدون أن الصُّنَّاع والعمال إنما هم فريق جدب لا يخرج للناس شيئًا، ولا يخلق للمجموع ثروة جديدة(14).

إن الصناع والتجار يربحون أكثر من الزُّرَّاع، ولكن هذا الربح ليس مما يحصلونه هم بأعمالهم، إنما يكسبونه، والفضل في رجوع هذه الثروة إليهم راجع إلى همة المزارعين، بل الصناع هم الخدم الذين يأخذون أجرهم بعد مروره بأيدي المزارعين المخرِجين الأول، ولذلك طالبوا بنظام ملكي يعمل على اصلاح القطاع الزراعي في البلاد عبر تحويل الاستثمارات من القطاعيين الصناعي والتجاري الى قطاع الزراعة(15).

هذا الخلاف الأساسي بين الزراعة والصناعة هو النقطة الكبرى التي دار الجدل عليها، بل هو أصل الفرق بين المبادئ الاقتصادية؛ لأن محصول الأرض هو من صنع

ص: 64

لله القادر على أن يخلق، ومحصول الصنائع والفنون من صنع البشر العاجزين. وحقيقة الأمر أنه ليس في العالم ما يُخلق وما يُفقد، وكل شيء هو كائن في الطبيعة وعائد إليها. إن في الحياة الاقتصادية قانونًا عامًا هو قانون المزاحمة وبقاء الأفضل، وكما أن هناك فرقًا بين نفقة المحصول الزراعي وبين الثمن الذي يُباع به، كذلك يوجد فرق بين نفقة المحصول الصناعي، وبين الثمن الذي يباع به، وقد تكون صناعة أربح من زراعة في هذا الباب والعكس بالعكس.

ومهما كان من أمر هذه الرؤية ومدى واقعيتها بالنسبة لمتبنيها فأنها لا تتفق مع الرؤية الاسلامية لمفهوم الثروة ومواردها والتي كشف عنها أمير المنين علي بن ابي طالب عليه السلام في وصيته لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه، إذ كانت رؤيته عليه السلام على العكس من ذلك تماماً، فهو يرى ان الاقتصاد عملية تكاملية تكمل فيها كل فئة دور الاخرى ولا يقتصر الأمر على الارض او قيمتها بل يشمل القطاعات الانتاجية الأخرى ولذلك نراه يقول عليه السلام: «ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم»(17)، فمن دون شك يرى أمير المؤمنين أن الزراعة لا قوام لها من دون التجارة والصناعات ولا يقوم هذا الراي بالضرورة على اساس الفصل والعزل، وبالتالي اختفاء قيمة الزراعة بغياب التجارة والصناعة، كما يمكن للبعض ان يفهمه بصورة خاطئة، بل المراد منه ان هذه القطاعات تشكل نوعا من التكامل الاقتصادي فربما يزدهر احداها لكنه لن يكون بالضرورة ذا قوام اذا تم التعامل معه كنتاج مجرد دون بقية القطاعات، ويتضح ذلك جلياً من قوله عليه السلام «فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم» (18)، اذ يشير عليه السلام ان الزراعة

ص: 65

وكل ما ينتج عنها من منتجات زراعية او حيوانية تحتاج فيما تحتاج اليه من معامل ومصانع ونحوهما لتحويل تلك المنتجات الى سلعة تحويلة أخرى، وبدونها تفقد تلك المنتجات في الغالب قيمتها، فلو لا الصناعة ما امكن تصنيع وتوفير الادوات الازمة لتحويل المنتجات الزراعية الى سلع انتاجية «أخرى كالزيوت ونحوها، أضف لذلك ان هذين القطاعين ما كان لهما ان يثمرا لولا وجود الاسواق والتجارة التي تباع فيها منتجات الارض وتشترى، ولولا ذلك لتلفت البضائع والسلع الزراعية.

وهنا مكمن اختلاف الرؤية عن الامام علي عليه السلام فهو لم ينظر للأرض على انها مجرد وسيلة لإنتاج الحبوب او الفواكه ونحوهما والتي يمكن ان تستعمل بمجرد خروجها من الارض دون الحاجة الى تحويلها الى سلع وبضائع اخرى، وهو ما أمن به اتباع المدرسة الفيزوقراطية.

ب - دور الفئات الاجتماعية في النشاط الاقتصادي.

ولعل من اهم المبادئ التي اختلفت فيها رؤية أمير المؤمنين الاقتصادية عن تلك التي تبناها اصحاب المدرسة الطبيعة، هي دور الفئات والقطاعات الاجتماعية في النشاط الاقتصادي والناتج القومي، ومدى قدرة وأهمية كل طبقة في ذلك، ففي الوقت الذي كانت المدرسة الطبيعية والمقصد الأساسي للطبيعيين أن يصونوا عن طريق الإصلاح المجتمع القديم الذي كان الجميع ملتزمين به وأساسه أسبقية وتميز أصحاب الأراضي و يردوا عن هذا المجتمع طموحات وتطلعات الرأسمالية التجارية والقوى الصناعية الصاعدة التي كانت توصف بأنها صعبة المراس وغير ناضجة وفظة وبذلك فان الفكرة الأساسية التي يقوم عليها نظامهم هي: والقانون الطبيعي هو الذي يبرز الخلاف مع التجاريين فكل الامتيازات التي منحت للتجار وحماية المنتجات والتجارة الوطنية كلها تتعارض مع القانون الطبيعي وبذلك تحركوا

ص: 66

ضد الامتيازات التي كانت الرأسمالية التجارية تتمتع بها فالقانون الطبيعي أفضل لمصالح التجار طويلة الأجل.

فأن رؤية أمير المؤمنين التي ضمنها في عهده لعامله على مصر مالك الاشتر (رضي الله عنه)، تختلف تماماً ويتضح ذلك من قوله عليه السلام «واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى بعضها عن بعض»(19)، وذلك الامر يعبر عن فهم عميق وفريد لبنية المجتمع ومدى تأثيرها وتأثرها في النظام الاقتصادي القائم، فعلى عكس ما ذهب اليه الفيز وقراطيون فان الامام علي عليه السلام أقر ان النظام الاقتصادي في اي بلد هو نظام تكاملي يكمل فيه نشاط كل فئة وطبقة الفئة والطبقة الاخرى ليصل حد الترابط والاعتماد ما يضيف قوة في النهاية لوحدة المجتمع وقوله عليه السلام لا يصلح بعضها عن البعض ان اي خلل في احدها سيضر بمجمل النشاط الاقتصادي القائم، واعتبر عليه السلام كل العاملين في الدولة جزء منها حتى القوات المسلحة عدها جزء من البنية الاقتصادية للبلاد فقال عليه السلام ومنهم «جنود الله»، الذين سواهم في الحديث والتأثير ببقية الفئات فقال عليه السلام «ومنهم جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة(20)». واوضح عليه السلام ان لكل فئة منهم دور معين في النشاط الاقتصادي فقال «وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عه-دا منه محفوظا»(21)، فأوضح عليه السلام في رؤية غاية في الفه-م الاقتصادي مدى الترابط بين تلك الفئات فقال عليه السلام «الجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم»(22)، فمما لاشك فيه بغياب الجيش والقوات

ص: 67

المسلحة لن يكون هناك دولة او مجتمع ولن ينعم العباد بالأمن والامان كي يمارسوا اعمالهم ويضاعفوا نتاجهم وبالتالي هي علاقة تبادلية تكاملية فوظيفة الجيش توفير الاجواء الملائمة للعمل والانتاج مما يعني ان الجيش أصحاب من ادوات الانتاج او مقدماته بصورة او أخرى، وفي مقابل ذلك فان الجيش وكما عبر عن ذلك أمير المؤمنين ليس له قوام من دون من الطبقات العاملة فقال عليه السلام: ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم و يعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم»(23)، ثم ربط عليه السلام بين تلك الفئتين وبقية اصناف وطبقات المجتمع، واوضح أن العلاقة تكاملية وجودية فقال عليه السلام «ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاء والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويأتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها»(24)، ويمثل كل اولئك الطبقة الادارية في المجتمع التي عدها امير المؤمنين وكأنها الواسطة الرابط بين الجميع غير انه عليه السلام ربط كل ذلك بطبقة غاية في الاهمية هي طبقة التجار والصناع فقال عليه السلام «ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم و يقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم»(25)، وأكمل عليه السلام رؤيته للمجتمع المتكامل اقتصادياً بان ربط بين كل الفئات وفئة المحرومين فقال عليه السلام» ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم و في الله لكل سعة و لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه،،(26).

ص: 68

ج - جباية الضرائب الخراج.

مما لاشك فيه ان المدرسة الطبيعة اعتبرت ان الدولة يجب ان تفرض ضريبة واحدة فقط، هي ضريبة الارض، التي هي لديهم الثروة الحقيقية الوحيدة للأمم، غير ان ذلك يتنافى تماماً مع النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، اذ لا يمكن - بأية حال من الاحوال - حصر الضريبة التي هي من المصادر الرئيسة لتمويل الدولة بضريبة واحدة، تفرض على مجال واحد من مجالات العمل والانتاج، ففي ذلك غياب للفهم الاقتصادي الحقيقي، وما يترتب عليه من ظلم اجتماعي وغياب للعدالة الاجتماعية، وهذا ما ادركه الامام علي عليه السلام حينما عبر عن رؤيته الاقتصادية وفق المبادئ الشرعية الاسلامية، التي يجب ان تسود البلاد والعباد، لذلك حين أفتتح عهده لمالك الاشتر (رضي الله عنه) قال «وجباية خراجها»(27)، فجاءة لفظة الخراج عامة مطلقة ولم يحصرها عليها السلام بخراج الارض كما فع اصحاب المدرسة الطبيعية، وذلك لان الاقتصاد وفق رؤيته عليه السلام عملية إجرائية تكاملية وليست ممارسة جزئية على قطاع دون آخر، وان الضرائب [الخراج] حين يفرض يجب ان يفرض بصورة عادلة وبما يتلاءم مع المصلحة العليا للامة، دون ان يقود لحالة من الظلم الاجتماعي والاستنزاف الاقتصادي، ولذلك اتم عليه السلام نصيحته لعامله مالك بالقول »لاتكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم آكلهم»(28)، وفي ذلك دلالة واضحة بمنع الحاكم من اعتماد القوة لاغتنام «آكلهم» التي هي هنا بالتأكيد لفظة عامة تعبر عن كل ما يملكه الانسان بما في ذلك سلبه واستنزافه عن طريق فرض الضرائب الجائرة التي تنتهي باستنزاف العباد اقتصادياً وظلمهم اجتماعياً، فمن المعروف تاريخياً بل وطبيعياً، ان سير الحكام الطغاة والجبابرة، كانت مليئة بالظلم الاقتصادي والاجتماعي الذي كان سببه كثرة الضرائب الفادحة التي كانت تفرض عليهم، ولاسيما الطبقات

ص: 69

الدنيا من الشعب ومن بينها طبقة الفلاحين التي كانت اكثر فئات الشعوب تعرض للاضطهاد الضريبي، الامر الذي قادها في أحيان كثيرة للتمرد والثورة(29).

وادراكاً منه عليه السلام لهذه الحقيقة وتلك النتيجة المتوقعة عليها، فقد عارضها عليه السلام بقوة ونصح عامله على مصر بضرورة تجنبها، فقوله عليه السلام «تغتنم آكلهم»، مفهوم عام يشتمل على الكثير من المضامين، ولا يقتصر على انتزاع حقوقهم بالقوة وبصورة مباشرة، بل يشمل كذلك سلب جهودهم عبر وسائل غير مباشرة كالضرائب المجحفة، التي أن وزعت بحسب رؤية الفيزوقراطيون على الارض فقط، فإنها ستولد الظلم وغياب العدالة الاجتماعية.

وينصح أمير المؤمنين عامله بان يقاس فاعلية وقيمة الخراج [الضرائب] لا بمقدار ما تجمع الدولة من أموال بصور مختلفة، بل المعيار الحقيقي لقيمة تلك الضرائب بان تكون صالحة ومطورة للمجتمع والامة، وقال في ذلك «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج و أهله». وربط عليه السلام بين قيمة تلك الضرائب ومدى افادة جميع طبقات الشعب منها، لان الجميع له فيها نصيب، وليس کما تدعوا اليه بعض النظريات الاقتصادية ومنها المدرسة الطبيعة في أن الضرائب يجب ان توجه الى دعم القطاع الزراعي فقط.

وعزز عليه السلام تلك الرؤية بنصيحته للحاكم بان لا يجعل جمع الضرائب همه الاكبر فان ذلك خطا اقتصادي كبير بل عليه ان يربط بين قيمتها وقيمة ما يمكن أن تحقق من عمارة للبلاد ولذلك قال عليه السلام «وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا»(30)، ثم طالب

ص: 70

عليه السلام الحاكم أن يقدم تقديم الخدمات للامة على جمع الضرائب منهم فقال عليه السلام «فان شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحالة ارض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك(31)، ومما لاشك فيه ان ربط الامام عليه السلام بين حجم الضرائب والية انفاقها من اجل ان لا يتحول هم الحاكم الى جعل جمع المال هو الغاية كما يدعي ذلك اصحاب المدرسة الفيزوقراطية، الذين فضلوا الزراعة على غيرها بناء على فكرة ان ناتج الارض ناتج خالص لا يكفل رؤوس اموال كما في حالات التجارة والصناعة وغيرهما.

بل ذهب أمير المؤمنين ابعد من ذلك فلم يطالب الحاكم باستيفاء عادل للضرائب [الخراج]، فحسب، بل طالبه ان يعطهم من عفوه وصفحه فخاطب عامله مالك (رضي الله عنه) قائلاً «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه»(32)، وليس العفو والصفح هنا تجاوز عن سلوك خاطئ فقط، بل العفو بالمعنى الاعم والاشمل، ومن ذلك مسامحتهم والعفو عنهم في بعض الالتزامات الاقتصادية تجاه الحاكم والسلطة، كإلغاء او تأجيل بعض الالتزامات المالية ومن بينها الضرائب عمن لا يتمكن من دفعها، بما لا يضر بالمصلحة العامة للمسلمين، لاسيما أيام القحط والجفاف، فان ذلك من مستحسن الامور، وحتى يعظم عليه السلام ذلك الفعل في نفس الحاكم، فانه عليه السلام ذکر الحاكم ان يعطي الناس ما يجب ان يناله هو من الله تعالى، لذلك قال عليه السلام «مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه»(33)، ولمعرفته عليه السلام أن هناك من حاشية السلطان من حاشية السلطان من سيسعى ليكون عائقاً بين الوالي وصفحه

ص: 71

عن الناس، وما اكثرهم، فانه حذر الحاكم قائلاً» ولا تندم على عفو»(34)، وبما ان الكلام شامل مطلق، فمن دون تردد يمكن القول انه عنى فيما عنى، ان لا تندم على عفوك وصفحك عن الناس الذي من الممكن ان يظهره لك البعض ان فيه ضرر اقتصادي، وان عليك ان تجبر الناس على التزاماتها حتى لو قاد ذلك الى ظلم اقتصادي واجتماعي وعدم تبرير ذلك وفق منطق حق بل، الاعتماد على السلطة والحكم فقط لذلك قال عليه السلام «ولا تقل اني مؤمر»، فلم يجز عليه السلام اعتماد صفة الحكم كحق لفرض الامور بالقوة على طريقة لويس الرابع عشر حينها قال «الدولة آنا»، وهذا على العكس تماماً مما طرحه اصحاب المدرسة الفيز وقراطية من ضرورة عدم التغاضي عن الواجبات المالية للفئات الاقتصادية، ولم يقبلوا الاستثناء الا في القطاع الزراعي دون سواه.

واما قوله عليه السلام «أنصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى»(30)، فمن المعلوم ان الانصاف الوارد في كلامه عليه السلام شامل وعام ومطلق، ومن ذلك عدم ظلم الناس عبر محاباة الاهل والمعارف، في اي نشاط اجتماعي او اقتصادي، ومن ذلك تفضيلهم في المكاسب الاقتصادية بما لا يستحقون وعلى حساب من يستحقون، ما سيخلق ظلماً اجتماعياً وخسائر اقتصادية هائلة.

ولعل من اهم الامور المبادئ التي تبنها أمير المؤمنين (عليه السلام)، في رؤيته الاقتصادية في عهده لعامله مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، هو الرابط وحالة التكامل بين السياسة الاقتصادية للحكومة ومدى تأثيرها في البنية الاجتماعية واستقرار المجتمعات في البلاد، فقد أبرز عليه السلام لمالك أثر النظام والسياسة الاقتصادية على تفتيت طبقات الامة وتمزيق المجتمع نتيجة استيائه من حالات الظلم

ص: 72

الاقتصادي وغياب العدالة الاجتماعية، وبالتالي دفعه للسير في طريق التمرد والثورة، وذلك خاطبه عليه السلام قائلاً» وأعلم انه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن وال برعيته من أحسانه اليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه اياهم على ما ليس له قبلهم [عندهم]، فليكن منك ذلك امر يجمع لك به حسن الظن برعيتك»"، والنص أوضح من ان يشرح فكما اسلفنا فان التخفيف عن الناس وترك ما لا يتمكنون تحمله بما في ذلك اخضاعهم لنظام اقتصادي وضريبي يرهقهم من مستحسنات الامور، وجزم الامام عليه السلام بان اتباع ذلك الاسلوب سيجنب الحاكم إرهاق وتعب الحكم والخشية من الناس ومكائدهم بما في ذلك سعيهم للثورة والتمرد وغيرهما، وهذا التصور يعاكس تماماً ما ذهب اليه اصحاب المدرسة الطبيعية الفيزوقراطية من ضرورة تركيز الامتيازات على اصحاب القطاع الزراعي اكثر من غيرهم بل وصل الأمر ان لم يساووا بينهم وبين بقية القطاعات الانتاجية الاخرى، وفي ذلك خطا اقتصادي واجتماعي كبير من دون شك نتيجته خلق حالة من عدم العدالة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.

د - الانفاق على الطبقات الدنيا من المجتمع.

ومن مكامن الاختلاف الاخرى بين الرؤية الاقتصادية للمدرسة الطبيعية وبين الرؤية الاسلامية وفق ما ورد من نصائح للإمام علي عليه السلام لعامله على مالك الاشتر (رضي الله عنه)، مسألة التعامل مع الطبقات الدنيا من المجتمع والانفاق عليهم لحاجتهم الخاصة والعامة، فالمدرسة الطبيعية تنصح بعدم صرف الاموال على الطبقات الدنيا ان لم تكن جزء من حركة الانتاج لان ذلك في تصورهم اضعاف للاقتصاد، وان ذلك الصرف اذا ما اضطرت الحكومة له فعليه ان تركزه على القطاع الزراعي دون سواه ليتمكن من التعافي والانتاج، اما الامام علي عليه السلام،

ص: 73

فنصح عامله بعكس ذلك تماماً وطلب منه شمل كل من يحتاج ذلك بغض النظر عن مكانته من الانتاج فقال عليه السلام: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين و أهل البؤسى والزمنى فان في هذه الطبقة قانعا ومعترا واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسما من بيت مالك و قسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد»(38)، وحديث الامام عليه السلام اوضح من اي تبيان فهو عليه السلام شمل بالمعونات كل من يستحقها بغض النظر عن مكانته من الانتاج او المجتمع ما دام بحاجة لتلك المعونة على اعتبار ان العديد منهم قد يكون محتاج لكنه لا يظهر ذلك قناعة او كفاف، ولذلك امره عليه السلام ان يخصص لهم من بيت المال او من صوافي المسلمين في اي بلد من بلاد المسلمين وفي ذلك آلية مهمة للغاية من التكافل الاجتماعي الذي بالتأكيد سيسهم بصورة او بأخرى في الحفاظ على توزيع عادل للأموال بين المسلمين وبذلك لن تكون دولة بيد قلة من الناس.

ه - التباين في المعاملة بين العامة والخاصة في المسائل المالية.

ومن المسائل الأخرى التي اختلفت فيها رؤية الامام علي عليه السلام الاقتصادية مع أصحاب المدرسة الفيزوقراطية هي مسألة السعي لإرضاء الخاصة على حساب العامة لاسيما في المسائل المالية والاقتصادية وتقديمهم على غيرهم من دون استحقاق، واوضح ان في ذلك خراب البلاد والاقتصاد ولذلك قال عليه السلام «ان سقوط العامة يجحف برضا الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»(39)، وذلك تماماً عكس ما طالب به الفيز وقراطيون أصحاب المدرسة الطبيعية الذي طالبوا بتقديم الخاصة على العامة، وأوضح عليه السلام أن توافق الخاصة مع الحاكم قائم مادامت مصالحهم قائمة معه، وسرعة انقلابهم عليه في حالة معارضته لتلك المصالح، واشار لذلك قائلاً» ليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرضا، وأقل معونة

ص: 74

له في البلاء واكره للأنفاق وأسال بالإلحاف واقل شكر عند العطاء، وابطاء عذراً عن المنع واضعف اجر عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وانما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الامة فليكن صفوك لهم وقلبك معهم»(40) ومع كل ذلك فان الامام عليه السلام، طلب من عامله ان لا يتمسك عن عناد وتكبر برؤيته الاقتصادية تلك مهما كان يعتقد بجدواها، بل أوجب عليه مجالسة العلماء ومخالطة ذو الشأن والاختصاص قائلاً» واكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك، واقامة ما استقام به الناس قبلك»، وفي ذلك والله العالم دعوة صريحة للحاكم ومع ضرورة تمكسه بالنظرية الاسلامية في اي مجال من مجالات الحكم بما في ذلك المجال الاقتصادي، فلا يوجد مانع من مدارسة تجارب الآخرين ومشاورتهم واتباع ما كان قائماً من سنن وتجارب وفق منطق الحق والافادة منه في تقدم الامة وصلاح العباد، وبالتالي فان امير المؤمنين عليه السلام ورغم رسمه لعامله مالك الاشتر الخطوط العامة للسياسة الاقتصادية التي وجب عليه اتباعها، غير انه ترك له المجال مفتوحاً في مدارسة المختصين واصحاب الشأن والافادة من تجارب الماضي ونظرياته الاقتصادية للوصول الى النظام الاقتصادي الاشمل.

ز - مفهوم الملكية الفردية.

دافع الفيزوقراطيون عن حق الملكية دفاعا شديدًا، وأبدَوْا أدلة استفاد بها المحافظون من الاقتصاديين قرنًا كاملًا، والملكية الشخصية: هي حق الشخص في استغلال ملكاته الذهنية والعضلية والحصول على مقابل إنتاجه، أي الحق في الحرية(42). وبناءً على مفهوم الحرية التي يكفلها النظام الطبيعي للأفراد، فمن حق الإنسان حسب الطبيعيين أن يملك ما يشاء ويختار المهنة التي يشاء، باعتبار أن المصلحة الذاتية لا تتعارض مع

ص: 75

المصلحة العامة، لاسيما وأن جماعة من فقهاء الاقتصاد لاسيما في المدرسة الالمانية ذهبوا للقول ان الملكية الفردية، تقوم على القانون الطبيعيفقد عدو حق الملكية الخاصة، بانها من حقوق الشخص الطبيعية التي تثبت للإنسان بمجرد مولده، ولا تسلب منه، وعلى اساس ذلك فأن حق المالك في ملكه حق مطلق في ممارسة سلطاته الثلاث، الاستعمال والاستغلال والتصرف، ولا يجوز التعرض له واستناداً لذلك لا يجوز ومما لا شك فيه أن التصور الاقتصادي لمفهوم الملكية الذي يتبناه أمير المؤمنين انما ينبع من الخطوط العامة التي رسمها الشارع المقدس لمفهوم الملكية الفردية، فقد حفظ أمير المنين عليه السلام للأفراد ملكيتهم الخاصة ولم يصادرها لحساب الدولة على غرار ما فعلته بعض الانظمة الاقتصادية الشمولية كالنظام الاشتراكي مثلاً، اذ عد امير المؤمنين ان من اولى حقوق الفرد على الدولة ضمان ملكيته الخاصة وعدم التجاوز عليها من دون وجه حق، ولذلك خاطب عليه السلام عامله على مصر قائلاً: «لا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم آكلهم»(43)،، ويتفق الجميع على ان المعنى الوارد لكملة مآكلهم معنى عام شامل بدليل قوله عليه السلام تغتنم وغالب الظن ان الاغتنام غالباً ما يقع على البضائع والسلع والممتلكات المادية وليس على مواد بسيطة كالأكل والشرب وغيرهما، لكن بشرط ان لا تكون تلك الملكية فيها ضرر عام على مصلحة البلاد والعباد، وكأنه عليه السلام في هذا المفهوم سار على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»(44).

ح - الموقف من الصناعة والتجارة وبقية القطاعات الانتاجية.

أولى أمير المؤمنين عليه السلام قطاعات الصناعة والتجارة وبقية القطاعات أهمية خاصة لإيمانه بانها الجزء الاهم المحرك للاقتصاد، ورفض عليه السلام التقليل من اهمية بل عدها عماد الاقتصاد، فقال عليه السلام «ثم استوص بالتجار وذوي

ص: 76

الصناعات وأوص بهم خيرا»(45)، ومعنى ذلك ان على الدولة تقديم التسهيلات المطلوبة لتسهيل عملها من منافع عامة وخدمات، وفي ذلك غايات ومصالح كثيرة، فان الاهتمام بالتجار ومنحهم مميزات خاصة لا على حساب البقية يسمح لهم بالشعور بالأمان والاطمئنان على رؤوس اموالهم فيعمدون لتعزيز انتاجهم، كما ان فيه هدف اخر اذ ان التوصية بأصحاب الصناعات يسمح لها بالديمومة والبقاء، لاسيما في اوقات تعرض البلاد لنكبات وازمات اقتصادية، قد تسهم في اندثارها كما يحدث اليوم اذ ان الكثير من الصناعات، التقليدية على الاقل، اندثرت بفعل عدم رعاية الدولة لها ومساعدتها، واروع ما في رؤية الامام علي عليه السلام في هذا الجانب انه لم يفرق بين أصحاب رؤوس الاموال والتجار ولم يعط احدهم ميزات على حساب الآخر، ليشعر الجميع بنوع من المنافسة العادلة، ولذلك قال عليه السلام ف بیان انواعهم «المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فانهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح فيبرك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فانهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك»(46).

ومنع الاحتكار في التجارة فقال عليه السلام» واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيفا فاحشا و شحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه وليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير إسراف»(47).

ص: 77

الخاتمة

اتضح جلياً مما تقدم أن رؤية الامام علي عليه السلام التي طرحها على صورة افكار عامة في عهده لعامله على مصر مالك الاشتر (رضي الله عنه)، وعلى الرغم من انها تنبع من أسس ومنطلقات دينية غير ان الكثير من تفاصيلها وآليات تطبيقها انما تعود الى فكر اقتصادي متكامل، ورؤية شاملة خاصة بالإمام عليه السلام بوصفه حاكماً وملماً بفكرة الاقتصاد، لذلك نراه في الكثير من تلك النصائح، ينطلق من فكرة ضرورة تكييف تلك النصائح مع الحالة العامة لكل بلد.

على الرغم من ان تلك التعليمات او النصائح جاءت بصورة عامة وشملت قطاعات مختلفة من الدولة، غير ان الجانب الاقتصادي منها اخذ الحيز الاكبر، وذلك لأدراك الامام علي عليه، ان الاقتصاد هو المحرك الاساس لأغلب فعاليات وسلوكيات الانسان، لاسيما بالنسبة للطبقات الفقيرة من المجتمع.

أن الاختلاف بين رؤية الامام علي عليه السلام الاقتصادية وأصحاب المدرسة الفيزوقراطية، ليس مجرد اختلاف في الوسائل او آليات فقط، وفي مجال دون اخر، بل يمكن القول ان الاختلاف كلي شامل من حيث الاسس البنيوية التي صاغ على اساسها اصحاب المذهب الطبيعي نظريتهم، ومن حيث آليات التطبيق، وذلك لا يعود لسبب ان اصحاب المدرسة الطبيعة ينطلقون من اسس لا دينية والامام علي عليه السلام ينطلق من اسس دينية في الغالب، بل يعود الى طبيعة فهم وخلفيات الرؤية الاقتصادية لكل طرف دون آخر، فكما اشرنا فان البيئة العامة والظروف التاريخية التي مر بها اصحاب المدرسة الطبيعية كانت سبباً رئيساً في تبنيهم لهذه النظرية، الامر الذي تسبب في قصر النظر في الفهم او التطبيق لدى أصحاب المدرسة الطبيعية.

ص: 78

وفي الوقت الذي أظهر تفضيل اصحاب المدرسة الطبيعة للقطاع الزراعي، على حساب بقية القطاعات، قصراً في الرؤية والفهم الاقتصادي، أظهرت رؤية الامام علي عليه السلام تصور واضح وشامل لما يجب ان يكون عليه الاقتصاد في أي بلد بغض النظر عن طبيعة النظرية الاقتصادية التي تحكمه، فتركيز امير المؤمنين عليه السلام، على ما عرفناها» بالاقتصادي التكاملي»، لم يهدف فقط لتحقيق ارباح مالية فقط، بل اراد عليه السلام توظيف الاقتصاد لزيادة الوحدة بين افراد المجتمع عن طريق تعزيز حاجة احدهم للآخر.

ولعل من اهم ما اثبته البحث قمة الابداع الاقتصادي للأمام علي عليه السلام فيما يتعلق بقضية طبيعة جمع الخراج والية صرفه، وان لا يكون جمع الخراج اهم من طريقة صرفه.

ومع كل ما تقدم فان الفرق في مفهوم الملكية بين الطرفين، لا يرجع بالضرورة لتصور ديني او غير ديني، بل يعود لفهم ذاتي لمفهوم الملكية ومدى مكانتها بالنسبة للفرد او المجتمع.

ص: 79

الهوامش

(1) روبرت بالمر، الثورة الفرنسية وامتداداتها، ت. هنري عبودي، دار الطليعة، بيروت 1982، ص 56.

(2) مجموعة مؤلفين، إشكاليات التعارض وآليات التوحيد: العلم والدين من الصراع إلى الاسلمة، ط 1، بيروت، 2008، ص 30.

(3) جاء التنوير بمعاني مختلفة فهو مثلاً في المانيا يعني "التوضيح".

(4) Quoted in: Joseph. Wheless, Forgery in Christianity, ed. Health Research, 1930,P.406 (5) مجموعة مؤلفين، إشكاليات التعارض...، ص 28.

(6) مقتبس في: المصدر نفسه، ص 28.

(7) Quoted in: Knud Haakonssen. The emergence of Rational Dissent. Enlightenment and Religion: Rational Dissent in eighteenth-century Britain. Cambridge University Press, Cam-bridge: 1996. PP.17-22 (8) Quoted in: Edward B. Davis, Robert Boyles Religious Life, Attitudes, and Vocational, Science Christian Belief, Vol 19, No. 2,P. 117 (9) هاشم صالح، المصدر نفسه؛ روزنتال ويدوين، الموسوعة الفلسفية، ت. سمير کمر، دار الطليعة، بيروت، 1987، ص 145 - 146.

(10) محمد لطفي جمعة، محاضرات في تاريخ المبادئ الاقتصادية والنظامات الاوربية، دار هنداوي للطباعة والنشر، القاهرة، 2012، ص 97.

ص: 80

(11) المصدر نفسه.

(12) المصدر نفسه.

(13) جوسي أبلبي، الرسالية "تورة لا تهدأ"، ت. رحاب صلاح الدين، م. محمد فتحي خضر، ط 1، مصر 2014، ص 133.

(14) المصدر نفسه، ص 134.

(15) المصدر نفسه.

(16) جوسي أبلبي، الرسمالية"...، ص 134.

(17) المصدر نفسه.

(18) المصدر نفسه.

(19) العهد، ص (20) العهد، ص (21) العهد، ص 19.

(22) العهد، ص 19.

(23) العهد، ص 19.

(24) العهد، ص 19.

(25) (26) (27) العهد، ص (28) العهد، ص (29) العهد، ص

ص: 81

(30) العهد، ص (31) العهد، ص 23.

(32) العهد، ص 16.

(33) العهد، ص 17.

(34) العهد، ص 17.

(35) العهد، ص 20.

(36) العهد، ص 19.

(37) العهد، ص 25.

(38) العهد، ص 44.

(39) العهد، ص 20.

(40) العهد، ص 22.

(41) العهد، ص 22.

(42) حازم الببلاوي، مرجع السابق، ص 49.

(43) العهد، ص 16.

(44) العهد، ص 42.

(45) العهد، ص 43.

(46) العهد، ص 43 - 44.

(47) العهد، ص 44.

ص: 82

معايير بناء الدولة بالاستناد الى عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر الدكتور ماهر جبار الخليلي استاذ التاريخ الحديث والمعاصر رئيس قسم ضمان الجودة والاداء الجامعي

اشارة

ص: 83

هدف البحث

هدف البحث الأساسي هو تقديم رؤية منهجية واضحة المعالم والاسس في بناء دولة عصرية في العراق من خلال الافادة من بعض المعايير او المقاييس العلمية والقيمية الناجعة والتي يقاس عليها المسؤول الناجح من غيره، والتي يجب ان يسير عليها المتصدي للمسؤولية كبر او صغر منصبه في الدولة للاتجاه نحو الحلول الصحيحة في بناء الدولة.

بمعنى اخر ان المعايير تؤخذ من التجارب المطبقة فعليا والناجحة في تطوير بلدانها وشعوبها، كما انها تستنبط من تراث الحكماء والفلاسفة والاولياء والأنبياء والمؤمنين، وما رسالة الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام إلى مالك الاشتر الا واحدة من أهم الحكم في التاريخ الانساني وفيها من الأسس والثوابت الكثير وما علينا الا دراستها واستخراج الكنوز منها والسير وفقا لمضمونهالا جعلها شعارات وواجهات براقة بعيدا عن التطبيق الفعلي والتنفيذ العملي.

أهمية البحث

تبرز أهمية هذه الدراسة من خلال الحاجة الماسة إلى الارتقاء بمستوى الأداء السياسي الاغلب الاشخاص المتصدين للعمل الحكومي لاسيما القيادات منهم.

اضافة الى ذلك هناك حاجة ماسة إلى دراسة معايير بناء الدولة على ضوء انظمة الجودة الشاملة واساليب تطبيقها والمعوقات التي تواجهها مع مقارنتها بعهد الامام، مع كيفية التخلص من الافات والامراض والعادات السيئة والتي اصبحت ثوابت وتمكنت من ذهنية وطبيعة الموظف في العراق الصغير منهم والكبير بحيث صارت منظومة متجذرة ومتشعبة وراسخة في المجتمع.

ص: 84

مشكلة الدراسة

تعاني الدولة العراقية من مشاكل كثيرة ومتعددة انعكست بمجموعها على الجوانب الاخرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل تعدى ذلك إلى نوعية القادة من اصغر مسؤول في الوظيفة الى راس الهرم في المسؤولية من مدير ووزير ورئيس وزراء ورئيس الجمهورية والقائد العام وغيرها من الألقاب الفخمة، والاسوء من ذلك هو نوعيات الاساتيد في الجامعات والمعلمين والمدرسين والمشرفين فاصبح الانهيار شبه شامل في المنظومة القيمية والخلقية.

من اجل ذلك بادر الباحث في هذه الدراسة إلى دراسة الواقع السياسي ومباديء تشکیل الدولة، متخذا من عهد الامام علي لمالك الأشتر وسيلة واداة في استنباط مباديء ومعايير تستحق أن تكون مقياسا مهما لجودة الأداء السياسي والاقتصادي من اجل تحسين جودة المخرجات والمنتجات.

بناءا على ذلك يمكن تحديد الاشكالية الاساسية التي سعى الباحث الى الاجابة عليها وطرح الحلول المناسبة لها هي: «ما هي الرؤية المنهجية لاعادة بناء الدولة في العراق وفقا لمباديء ومعايير عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الأشتر، والتي يمكن أن تكون مناسبة للتطبيق في الدولة العراقية الجديدة من اجل تجاوز المعوقات والمشاكل بافضل الطرق واقصرها واقلها كلفة«.

ومن خلال هذه الإشكالية المركزية تتفرع اسئلة عدة:

1 - ما هي مشاكل ومعوقات بناء الدولة في العراق؟ 2 - ما هي المعايير التي جاء بها عهد الامام يمكنها أن تسهم في تطوير الأداء؟ 3 - ماهي الرؤية المنهجية لمواجهة التحديات واعادة بناء الدولة وفقا لتلك المعايير؟

ص: 85

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علی سید المرسلين وخاتم النبيين محمد الطاهر الامين وال بيته الطيبين الطاهرين واصحابه الغر الميامين.

ان الغاية من هذه الدراسة هو تقديم بعض الأفكار بشان المسار المستقبلي للدولة العراقية، وكيف يمكن المضي في تحقيق آمال وتطلعات الشعب العراقي في الحرية والعدل والمساواة والتعايش من اجل استقرار البلد اولا ثم تطويره وتحويله الى دولة متحكمة في قرارها وراعية لشعبها ثانيا، بخطوات واضحة وثابتة.

ولتحديد بعض الاساسيات او المباديء او المعايير لابد من دراسة تجارب الأمم الناهضة، ثم المضي في استنباط نظام ومعايير من تجاربنا المحلية سواء كانت اسلامية او عربية او عراقية، من أجل قيادة دولة المؤسسات الى رحلة طويلة تجاه الهدف الاسمى وهو تاسیس دولة اتحادية ديمقراطية تعددية متقدمة في جميع المجالات.

يقول عز من قائل بسم الله الرحمن الرحيم «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ» البقرة (11 - 12)، تخوض الاية الكريمة في مسالة الاصلاح ومن يكون مؤهل للاصلاح، وتهدف إلى معرفة الشخصيات التي يجب ان تكون مهيئة للقيام بهذا الدور بطريقة ایمانية وعلمية.

ان عهد الإمام علي ابن ابي طالب عليه السلام الى مالك الأشتر عندما ولّاه على مصر يعد بحق منهاج عمل متكامل لكل والي او حاکم يرغب في حكم الرعية حكما اخلاقيا وانسانيا، اذ تناول هذا العهد أدق التفاصيل في الإدارة.

ص: 86

مالك الاشتر الذي قال عنه أمير المؤمنين عليه السلام ((مالك لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله)) يعد من القادة القلائل الذين يتصفون بصفات نادرة تستحق الاشادة وتستحق الدراسة والتمحيص.

بين شخصية الحاكم ومنهجية الحكم يغوص الامام في اعماق النفس البشرية، وما على الباحثين الا الجري وراء الدرر والسير الحثيث نحو الزوايا الخفية في تلك الكلمات النورانية للخروج بافضل طبق علمي يقدم بابهى صورة حاملا افضل بضاعة إلى المتلقي الكريم.

على ضوء هذه الحقائق تم تحديد عنوان البحث ((معاییر بناء الدولة بالاستناد إلى عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر)) والذي سيكون على ثلاثة محاور الأول سيكون بعنوان التراجع السياسي في العراق اسباب ونتائج، في حين سيناقش الثاني المعايير التي جاء بها عهد الامام والتي من الممكن أن تسهم في تطوير الأداء، اما المحور الاخير سيخصص للرؤية المنهجية الحقة في مواجهة التحديات واعتماد المعايير العلوية في بناء الدولة.

ص: 87

المحور الأول: التراجع السياسي في العراق - الاسباب والنتائج

قبل التوسع في الاسباب التي ادت الى الانهيار شبه الكامل في المنظومة الادارية للدولة العراقية الجديدة، لابد من دراسة طبيعة التحديات التي تواجه مسيرة البناء السياسي في العراق مع دراسة اولويات الاصلاح السياسي والسؤال الابرز الذي يقفز إلى الأذهان: من این تبدأ المسيرة الاصلاحية؟ ثم سؤال اخر من هو الانسان المؤهل للقيام بهذا الدور الصعب والكبير؟ او بالاحرى ماهي صفاته ومقوماته ومبادئه؟ وماهي المؤسسات التي ستسهم في عملية الاصلاح؟ وهل هذه المؤسسات موجودة فعلا ولكنها تحتاج الى اعادة هيكلة وتفعيل نشاطها؟ ام لابد من استحداث مؤسسات جديدة مبنية على اسس صحيحة؟ ويمكن تحديد أبرز التحديات التي واجهت مسيرة بناء العملية السياسية كما تسمى او عملية بناء الدولة ومؤسساتها، منذ لحظة ولادة العراق الجديد بعد عام 2003 م:

اولا: بناء المجتمع الواحد الرصين المتماسك، المؤمن بالمصير المشترك، دون تمييز او تعنصر لقومية او مذهب او دین او عرق.

ثانيا: ترسيخ مبدأ المشاركة في السلطة وهو الامر الذي افتقدته العملية السياسية في المرحلة السابقة اذ اصرت اطراف على مبدأ الحكم بالاغلبية متذرعة بالديمقراطية، واصرت اطراف اخرى على التمسك بمدأ التوافق السياسي استنادا على التقسيم العرقي، واصرت فئة ثالثة على مبدأ المعارضة لكل مشاريع بناء الدولة دون

ص: 88

اشراكها وبالتالي فشل المشروع برمته.

ثالثا: تعزيز وترسيخ القيم الديمقراطية في المجتمع، بمعنى خلق مجتمع ناضج ديمقراطيا يمارس نوعا من الديمقراطية المناسبة للطابع المحلي وليست الديمقراطية المستوردة الجاهزة الجامدة المغلفة بقيم وعادات غريبة وغير مناسبة.

رابعا: الانحدار القيمي في المجتمع العراقي لاسباب متعددة منها كثرة الحروب واساليب الطغيان وفقدان الكثير من العوائل لشبابها واربابها، والحصار الاقتصادي وضعف التوعية الدينية وغيرها من الأسباب، مما يتطلب اعادة بناء المنظومة الاخلاقية التي كان يتمتع بها المجتمع العراقي سابقا من خلال انشاء مجتمع اخلاقي وقيمي وملتزم، يتالف من مواطنين لهم قيم دينية ومعنوية قوية ومتشبع باعلى القيم الانسانية والأخلاقية.

خامسا: المعايير العلمية في التعيين والاختيار والترفيع، اذ ان من الضرورة بمكان ان يتم بناء المجتمع على اسس علمية ومتطورة، بمعنى ان يكون المجتمع مبدعا ويتطلع الى الامام وفي هذا السياق لابد من منهجية وخطوات مدروسة، لان الفرد العادي يميل للراحة والسكون، وبالتالي سيكون المجتمع مستهلك للتكنولوجيا فقط لذا لابد أن نخلق مجتمعا جادا عمليا يساهم في الحضارة العلمية والتكنولوجية المستقبلية.

سادسا: عدالة التوزيع الثروة البلد اذ لابد من انشاء منظومة تتسم بالعدالة الاقتصادية، يجري فيها توزیع عادل ومتكافئ لثروة البلد، بمشاركة جميع الفئات والاطياف في الانتاج والتوزيع والارباح وقبل ذلك في صنع القرار الاقتصادي المناسب لمصالح العراق العليا والعابر للمصالح الطائفية والحزبية والذاتية.

ص: 89

سابعا: الجيش الوطني الموحد المدافع عن البلد ككل اذ لابد من أن تكون المنظومة الامنية والعسكرية والوطنية المشتركة تحظى بثقة جميع العراقيين وتؤمن بالعراق الواحد القوي العزيز الخالي من الاستقواء على ابنائه، وليس فصائل متفرقة قائمة على اساس المذاهب والقوميات ومدعومة وممولة من خارج الحدود.

هذه ابرز التحديات التي تواجه مسيرة الاصلاح والتي فشلت فيها القوى السياسية بجميع اصنافها وركنت الى مصالحها الخاصة وبناء كيانها السياسي مدعوما باموال الدولة لضمان بقائها على قيد الحياة السياسية في العراق لاطول فترة ممكنة.

ثم ان جميع الأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة غير مؤمنة بالنظام الديمقراطي داخل احزابها فكيف تستطيع تطبيق الاصلاح السياسي على البلاد في ظل غياب منهج الديمقراطية والمشورة في نظامها الداخلي.

وفي هذا الاطار لابد من توصيف لاسباب فشل بناء الدولة في المرحلة السابقة:

1 - ایمان السياسيين المطلق بانهم الافضل لقيادة البلد وان العملية السياسية الحالية هي الافضل للعراق وبديلها التقسيم او الحرب والرغبة الشديدة في البقاء على دفة القيادة.

2 - الرؤية السياية الخاطئة وغير الصحيحة بشأن بناء الدولة، وقد يعتقد البعض انه ليس هناك رؤية ولكن واقع السلوك والافعال تؤكد ان هناك مجموعة من الثوابت عند السياسيين تمثل وجود رؤية مع غياب التخطيط والاستراتيجية على المستوى القريب والمتوسط والبعيد المدى.

3 - عدم السماح بتعديل مسار العملية السياسية غير المنضبطة.

4 - التشريعات الخاطئة بدءا من الدستور والقوانين الفرعية والتعليمات الادارية غير

ص: 90

المهنية.

5 - الرغبة القوية في الانتقام من النظام السابق والمنتمين اليه حتى ولو بالاسم وتأصيل ذلك في الدستور والتشريعات الاخرى وانعكس ذلك في السلوك اليومي لافراد السلطة ومن ثم انتقل ذلك السلوك الى الموظفين وكادر الدولة الوسطي والصغير لانها اصبحت وسيلة للصعود الى مراتب اعلى والاسترزاق مما تسبب في ظلم الكثير من العوائل ليس لها ذنب. 6 - اعتماد مبادئ الولاء على حساب الكفاءة والمذهب على حساب الوطن والقومية على حساب الوطنية والحزب على حساب العراق.

7 - التشرذم السياسي الواسع للاحزاب في تجمعات صغيرة ثم الاندماج في تكتل طائفي كبير قبل الانتخابات ثم الصراع على المصالح والجاه والسلطة والمال بعد الانتخابات ثم استخدام مصطلح الاستحقاق الانتخابي كبديل للمحاصصة الطائفية المرفوضة شعبيا والثابتة سياسيا، ويتم توزيع كل الدرجات الوظيفية من اصغرها إلى اكبرها وفقا لهذا المبدأ، وكل ذلك على حساب البناء و خدمة الناس ومصالح البلد العليا التي غابت عن منظور اغلب السياسيين وماعادو يعرفون ماهي فعلا المصالح العليا.

ومن هذه المنطلقات وبعد التشخيص الدقيق والمناسب للاسباب، ننتقل في محورنا الثاني إلى وضع معايير مهمة لبناء الدولة مستقاة من فكر وبلاغة يعسوب الدين ووصي رسول رب العالمين وامام المتقين امير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام، من الوثيقة الأكثر شهرة والافضل بلاغة والاقوى حكمة وهي رسالته الشهير والمدعاة بالعهد المرسل الى مالك الاشتر (رضي الله عنه) عندما ولاه على مصر وهي تحتوي من الكنوز والعبر والمباديء والدرر مايفوق الوصف، ولذلك ليس

ص: 91

هناك من تراث غني بالمعرفة افضل من هذا التراث.

وفقا لما تقدم يمكن الخروج بجملة من المعايير والمباديء المناسبة للحكم بشكل عام ولحكم العراق بشكل خاص ماينطبق منها على الحالة العراقية، بالاستناد إلى ماذكر سابقا في هذا المحور، من اجل وضع العراق ثابتا بقدمين راسختين على سكة التنمية والتطور، اذ لابد من مراجعة الذات ومواجهة الاخطاء والسلبيات والعودة إلى تلك الأسس والمبادي التي نصت عليها التشريعات السماوية والقيم الانسانية فضلا عن تراث العلماء الصالحين والائمة المعصومين وعلماء الفكر الانسانيين.

ص: 92

المحور الثاني: معايير من عهد الامام

عندما نتأمل في كلمات عهد الامام نجدها دقيقة ومفصلة ومناسبة لطبيعة الحكم والإدارة، وخصوصية هذه الوصايا للقائد الشجاع والفارس الهمام مالك الأشتر تشير بشكل واضح الى الرابط بين منهج الحكم وشخصية الحاكم.

لقد قنن أمير المؤمنين نظرية سياسية في الحكم فيها (العدالة.. المساواة.. الاخلاص بالعمل.... الخ)، لذلك عُدّتْ من أروع وأعظم التشريعات والتعليمات والوصايا والعهود في التأريخ البشري، وقد إستقى منها الغرب والشرق دروس وعِبر في الكيفية التي يتولى فيها الحاكم وشرعيته وتعامله مع شعبه والانسانية(1).

تحدث الإمام عليه السلام عن سمو شخصية مالك و عظيم شأنه في رسالته التي بعثها لأهل مصر حينها ولاه عليهم جاء فيها:

«أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله تعالى لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله تعالى لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخر، ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم».

ولما وصل إلى أمير المؤمنين وفاة الأشتر جعل يتلهّف ويتأسّف عليه، ويقول

ص: 93

(رضي الله عنه): «لله درّ مالك، لو كان من جبلٍ لكان أعظم أركانه، ولو كان من حجرٍ كان صلداً، أما والله ليهدّنّ موتك، فعلى مثلك فلتبكِ البواكي، ثم قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين، إنّي أحتسبه عندك، فإنّ موته من مصائب الدهر، فرحم الله مالكاً قد وفي بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنّا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبةٍ بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها أعظم المصيبة»(3).

بشكل عام فان شخصية مالك كان لها الأثر الكبير في طبيعة الرسالة أو العهد، وجاءت تلك الوصايا متوالفة ومتناسقة مع ما يملكه الاشتر من مباديء وقيم وحسن التدبير.

في العهد الكثير من المباديء والقيم تطفوا مع صاحبها عندما يمتلكها وتغوص معه عندما يفقدها وبالتالي لابد من الوقوف على مجموعة من المعايير المستخرجة من بلاغة الأمام في عهده لنستطيع التمييز بين الفاقد و الطافي اولا ومن ثم بين من يريد ان يحكم علويا واخر يردها میكیافیلیا.

المعيار الاول / اختيار الحكام

من اولويات اي حاکم او والي هو اختيار الحاشية او الكادر الذين يعملون معه، ثم اختيار من ينوب عنه في الأماكن البعيدة، فما هي الصفات والسمات التي حددها الامام للاختيار الصحيح؟؟ وهو أمر بالغ الأهمية اذ قال الامام عليه السلام:

«ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الذلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع»(4)، وهنا يسجل الامام الجانب النفسي في شخصية الوالي

ص: 94

وشخصية من يختاره ان لا يكون متواضعا لدرجة الذلة، وان لا يتسامح في الحق اذا بان له ولا تميل نفسه الطمع فياخذ من حقوق الناس وان لايخضع للضغوط.

واستمر الامام في ذلك الوصف «ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم ، و أصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل»، وهنا يسجل الامام مواصفات القاضي في شخصية الوالي او الحاكم بان يكون صابرا وطويل البال والنفس حتى تتكشف الأمور وتتضح الصورة، وان يكون متفهما بشكل شامل وليس جزئيا بعد اعطی وقته للفهم الصحيح، مع العناية بالأدلة والحجج.

یکون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية، وإنما يكون عن دراسة جادة للحاکم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة(5).

بهذه المواصفات كيف يمكن لاختيار الحكام أن يكون معيارا للحكم والادارة؟ في واقع الأمر أن الأمور تبدأ من هنا اذان حسن الاختيار للاشخاص وحده معیارا للتقيم وطبيعة الناس لاسيما في العراق تتحدث عن الحاشية دائما كلما نظفت حکمت الناس على المسؤول بالنظافة والعكس صحيح وبالتالي فان معيار الاختيار هو البداية الصحيحة للاصلاح الناجح.

وقبل الانتقال الى المعيار الثاني لابد من الاشارة الى فقرة مهمة وردت في كلمة الامام عن العمال والولاة عند اختيارهم اذ قال «ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم

ص: 95

إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوث لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية»(6).

ان الامام يوصي بالراتب الجيد لاصحاب المسؤولية الكبرى حتى لا يطمعوا بما تحت ایدیهم من أموال الدولة ولكن الأكثر أهمية هو وصيته بان يبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، وليس الجواسيس اهل الخسة والخيانة وبياعة الضمير، بطريقة رقابية تحفظ لهم أمانتهم وتمنع عنهم الانزلاق نحو النفس الأمارة بالسوء.

المعيار الثاني / الاتصال بالأشراف والصالحين

من بنود عهد الإمام أنه أمر مالك بالاتصال بالأشراف والصالحين الذين يمثلون القيم الكريمة ليستعين بهم في إصلاح البلاد، وهذا قوله:

«ثم ألصق بذوي المروءات، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالاً على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه»(7).

يقول المثل ان الطيور على اشكاله تقع، بمعنى أن المتفاهمين والمنسجمين بالرؤى والافكار يتصحابون ويترافقون، وعندما يكون الحاكم مرافقا لاشخاص دليل على توافقه الى حد كبير معهم، وهنا التقييم والميزة بان هؤلاء مرآة للشخص أن حسنوا حسن وان وهنوا وهن، والامام هنا يوصي بمرافقة الصالحين، وأهل البيوتات

ص: 96

الصالحة واهل الغيرة والكرم والسماحة والسخاء، ويؤكد على رعايتهم من الحاكم لانهم ينصحون ويساندون ويراعون.

ان الإمام يوجه بإشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الاجتماعي بين الناس، وهذه النقاط المهمة التي أدلى بها الإمام عليه السلام توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم معهم فيما يصلح أمر البلاد(8).

المعيار الثالث / التواضع الودود مع القاعدة

صفات الحاكم او الوالي المعتادة هي الانفة والتكبر والتسلط والاعجاب بالنفس واكثر الاحيان يرى نفسه دائما على حق، ورایه افضل الاراء، ولا يجوز مناقشته او مجادلته او الاعتراض عليه، ولكن الامام علي عليه السلام في هذا المجال قد وضع للتواضع كصفة مهمة للوالي مميزات وايجابيات عديدة، فقال:

«وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم - أي ساعد الجند - في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم، ويسع من وراءهم من خلوف أهلهم حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفك يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد و ظهور مودة الرعية، وأنه لاتظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم فأفسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم وتحديد ما أبلی ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع و تحرّض الناكل إن شاء الله»(9).

المقصود من الخطاب هم الجند ولكن الواقع يشمل عموم القاعدة الاجتماعية وان كان هناك خصوصية للجند، الوصايا تسهم بشكل كبير في ضبط ايقاع الجند

ص: 97

في الميدان، وتعبر سياسة الإمام عن مضمون انساني كبير مستند الى التعمق في النفس البشرية، فدراسته النفسية الجندي وعاداته ومشاكله وطبيعة علاقته بالمراتب الاعلى هي في حد ذاتها التفاتة سابقة لزمانها وعالية الدقة والتفصيل في الولاء والالتزام والانضباط.

ان التواضع والتقرب الودود من الجندي او الفقير ليس معيبا ولاتنزیل من قدر، او نزول الى مستوى بسيط ولكنه دواء سحري لخلق اجواء حميمة بين الرئيس والمرؤوس بين المدير والموظفين بين القائد والجنود، وهي السبيل للانتاج والانجاز.

المعيار الرابع / النظر الى ماسبق

التفاتة نادرة اخرى من الامام علي عليه السلام تتعلق بنظرة الناس الى مبدأ العدل عند الحاكم او الحكام وكيف أن مجرد سن قانون قد ينفع ناس ويضر اخرين، فقال:

((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور وأن الناس ينظرون من أمرك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم: وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله تعالى على ألسن عباده، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت))(10).

بمعنى أن الأمام يرى في طريقة التعامل بين الحاكم الجديد وبين من سبقه مسالة في غاية الأهمية و تترتب عليها الكثير من النتائج في المرحلة القادمة، ولذا فهو يوجه بضرورة أن تختلف الاجراءات باتجاه احقاق الحقوق ورد المظالم ودفع الضرر عن الناس ثم يوجه الحاكم بضبط النفس الأمارة بالسوء فيما احبت وكرهت ولاتتجه بالقرارات حسب الأهواء.

ص: 98

المعيار الخامس / النظرة الانسانية

ان الامام علي عليه السلام بعظمته کامام ورقیه کانسان وبراعته كحاكم وحنكته كقائد وصف طبيعة الرعية بالتعدد والتنوع على عدة مستويات، فكيف يمكن أن يكون التعدد عنصرا ايجابيا؟ و كيف يمكن توظيفه ايجابيا؟ قال عليه السلام: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط بینهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤثر على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله تعالى فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله تعالى، فإنه لابد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته))(11).

(السبع الضاري) مصطلح واضح نابع من صميم افعال الغابة ومجتمع الحيوان، وهو اشارة واضحة إلى مستوى القوة التي يمتلكها الحاكم او الوالي وكيف يمكن ان يستخدم تلك القوة؟ فالوالي عليه أن لا يحاسب الناس بقوة بطش على ما صدر منهم من اخطاء وعلل وزلل بسيطة بمعنى أن يتناسب العقاب مع مستوى الخطأ او الجرم وان يمنح دائما الصفح والعفو على ان يستمر في الافراط في العقوبة، من اجل ان تنعم البلاد بالأمن والامان، مذكرا بقدرة الله فوق الجميع وان من يظلم الناس فقد اعلن الحرب على الله ومابالك بمن حارب الله ورسوله فكيف ينجو من عظيم نقمته جل وعلا.

والاوضح في هذا المجال ماذكره الامام من وصايا اخرى للحاکم تتعلق بطبيعة تفكير الوالي بعد اتخاذه القرارات المهمة او المصيرية فقال:

ص: 99

((ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن: اني مؤمرٍأُ امرُ فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير، وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبيهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطا من إليك من طماحك ويكن عنك من غربك، ويفي إليك بما عزب عنك من عقلك))(12).

في الواقع انها وصايا نفسية ومنهجية في طبيعة تفكير الشخص المسؤول بان لا يندم على قرار العفو والصفح مهما كانت نتائجه سلبية ام ايجابية، وان لايفرط ولا يتباهی بقرار العقوبة، وان لايبرر افعاله بانه يمتلك الامر والملك وعلى الاخرين الطاعة.

والعظيم في هذه الوصية الاخيرة انه ربطها بصدأ القلب عند الانسان ومهلكة الدين كله، ثم جعل ذلك ايذانا بالتقرب من الخصوم للدين او هو اشارة الى التقرب من الشيطان، محذرا من هذا التصرف ومنذرا بحجم النتائج السلبية وموجها للمسؤول كيفية التخلص من هذا التفكير من خلال تذكير النفس بشكل دائم بقدرة الله وعظيم سلطانه على المسؤول وعلى الجميع وفي ذلك تقويها لشرود العقل وتعديلا لانحرافه.

المعيار السادس / مواكبة العلماء والحكماء

أكد الإمام في عهده على ضرورة التواصل مع فئة العلماء والحكماء والادباء والمفكرين واهل الراي للمشاورة في شؤون البلاد وما ينفعها اقتصادياً وسياسيا واجتماعيا، قال عليه السلام:

((و أكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ماصلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك))(13).

ص: 100

ان العلماء مرآة الامة وواجهتها أمام الأمم الأخرى رموز ونجوم وشموس سواطع تتباهى بهم وترتقي بعلمهم وفكرهم الى مستويات اعلى، وان تهاونت في ذلك فلا خير ولا بركة فيها، اذ سيكون للجهلة موقع السمو، يقول أرسطو: (الفرق بين المتعلم والجاهل كالفرق بين الحي والميت) ويقول الفيلسوف ديريك بوك (إذا كنت تعتقد أن التعليم مكلفاً، فجّرب الجهل) اما المفكر الفرنسي جان جاك روسو فيقول (الناس الذين يعرفون القليل يتحدثون كثيراً، أما الذين يعرفون الكثير فلا يتحدثون إلا قليلا)، اذ أن التعليم من أهم عناصر الحياة في التطور والرقي، ولا خلاف على أن التعليم مسؤولية مجتمع بأكمله تبدأ من الاسرة وصولا إلى وجهاء المجتمع ومراجع الدين وطبقة السياسيين فضلا عن القضاة واهل القانون(14).

المعيار الثامن / توزيع الثروة

الخراج او ثروة البلاد او مصادر عيشه فهو عصب الاقتصاد للدولة ومصدر قوتها وتقديرا لحجمها دوليا، ولذلك لم يغب هذا الامر عن فكر الامام فقال:

((وتفقد أمر الخراج با يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله))(15).

وهذه الالتفاتة هي معيار قوي المضمون والمحتوى بمعنى انه مقياس لنجاح تنمية البلاد او فشلها، اذ ان العناية والرعاية بالاشخاص العاملين على الخارج او الموظفين المنوط بهم مسؤولية العمل في المال العام هي من الأولويات عند الحاكم لانه صلاحهم يعني صلاح الدولة والناس والتنمية ثم التطور وعدم صلاحهم يعني دمار وتراجع وانهيار للدولة وللناس، وربط الأمام ذلك بعلاقة توليفية غاية في الدقة، وقال (ان الناس عيال على الخراج وأهله) بمعنى ان هناك ارتباط وثيق بين اهل

ص: 101

الخراج وهم العاملين في بنية راس مال الدولة، وبين حياة الناس او الشعب، وبذلك قد اوجد الامام هذا المعيار ليكون بداية مهمة لاي اصلاح.

لم يكتف الامام بهذا وانها اوجد مصطلح عمران الأرض عندما قال:

((ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً))(16).

وهذا الكلام فيه تفصيلات كثيرة وعميقة ودقيقة ولكن معيار هذا الحديث واضح وجلي للحاذق والمؤمن، اذ ان الاشارة الاولى للامام في كيفية توجيه النظر الى موضوع اموال الدولة وثروتها وخراجها ابتداءاً، بمعنى أن تكون هناك فلسفة واضحة لكيفية ادارة هذه الأموال والهدف الأساس من واقع جمعها في بيت المال وبذلك هو يطرح سؤالا مهما: هل ان الحاكم ينظر الى ادارة الدولة من خلال كمية الأموال واخراج الذي يتم جمعه منها؟؟؟ ام انه ينظر الى كيفية صرف هذه الأموال في عمران الأرض وتنمية البلاد؟ وهو ما نصح به الحاكم بان يكون معياره الاسا هو عمران الأرض وخدمة الناس وبناء الدولة وزيادة الواردات منها، ثم حذر الامام من أن من يطلب الخراج وزيادة الأموال دون التفكير في عمارة الارض فقد خرب البلاد وأهلك العباد.

ص: 102

المعيار التاسع / الانضباط الوظيفي

الموظفين في جهاز الدولة هم الفئة الاهم في عملية بناء الدولة لانهم الاقرب الى صنع القرار وبالتالي الاهتمام بمستوى قدراتهم واخلاقهم وامكانياتهم امر ضروري جدا، فهم الحلقة الوسط بين الحاكم والمحكومين ويتولون عملية نقل القرارات المهمة والمؤثرة والمتعلقة بأمور الدولة والمواطنين وهذا يتطلب الأمانة والنزاهة والثقافة والالتزام، وهذا ما قاله الإمام:

((ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، وأخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجزئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذلك، ويعطي منك، ولا يضعف عقداً اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل))(17).

قرارات الدولة او قرارات الحاكم منوطة بالموظفين الاقرب الى دائرة صنع القرار الضيقة، وهؤلاء يمتلكون القدرة على التغيير والتلاعب، ولذلك لابد من توفر قدر عالي من الصفات الفاضلة من الأمانة والكفاءة والضبط والالتزام، والامام يؤكد على الحاكم بخيار القوم وخيار الصفات فيهم لضمان كتم الأسرار وعدم التغيير والتلاعب والانتماء الى الخصوم.

ويستمر الامام في توصيف معیاره في الانضباط الوظيفي من خلال طريقة الاختيار: ((ثم لا يكون اختيارك إياهم على فراستك واستنافتك - أي ثقتك - وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء

ص: 103

ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بها ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله تعالى، ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها، يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت عنه ألزمته)).

وهنا قد اوجد الامام الية اختيار فيها معايير محددة واليات مهمة دون الاعتماد على الراي الشخصي والفراسة الذاتية للحاكم التي يشوبها الكثير من العواطف وقصر الافق، وعادة مايختار الحاكم على الية المقربين والاخرين ممن يؤدون الخدمات الشخصية والمتملقين من اجل المناصب والامتيازات.

وأهم معايير الامام في اختيار الموظفين:

1 - ذكر الله في الاختيار.

2 - بان يكون هناك اختبار موثق.

3 - وان يكون هناك له سيرة حسنة في خدمته السابقة وتكون موثقة وموثوقة.

4 - له نشاط واضح في خدمة الناس.

5 - المراقبة في الاداء.

المعيار العاشر / حماية الملكية الفردية التجارة والصناعة في البلدان من أهم القطاعات المسهمة في تنمية وتطوير البلاد ولهذين القطاعين دوراً مهماً في إدارة الشؤون الاقتصادية في البلاد وقد أوصى الإمام برعايتهم والاهتمام بشؤونهم اذ قال:

((ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، وأوصي بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فغنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها

ص: 104

من المباعد والمطارح في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم شكم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك))(18).

ان هذا المعيار يتعلق بالملكية الفردية وحق التملك الذي نصت عليه الكتب السماوية وبالتالي فان اهتمام الامام لقطاعي التجارة والصناعة لم يات من فراغ وانما جاء عن عمق في النصوص الربانية، فالملكية الفردية اساس النمو والتطور والا لايمكن للدولة ان تقود جميع القطاعات مرکزيا، ولذلك فقد اوصى الامام بان يكون الحاكم مساند لعملهم وليس موجها، بان يكون مصدر اصلاح لعقبات اعمالهم، وان يقوم بتسهيل الإجراءات وازالة المعوقات والتعقيدات ووضع جميع المنافع التي تسهل اعمالهم لانهم سند وقوة للدولة

المعيار الحادي عشر / انظمة الحماية الاجتماعية

مايصفه الامام في المقطع الاتي هو في واقعه نظام حماية اجتماعية واسع الافق، فالحديث عن الفقراء امر يبدأ ولا ينتهي، ولكن كيف نصح الامام الوالي في التعامل مع هذا الملف:

قال الامام ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله تعالى ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه))(19).

ص: 105

هذا الحديث يمتد بشكل واسع ليشمل كل فئات المجتمع، اذ ان الامام يطلب رعاية الفقراء والمساكين بان يخصص لهم راتب من بيت المال وارباح من ثروة البلاد وان يكون للبعيد منهم مثل القريب، بمعنى ان يكون هناك تساو و في العطاء، وبذلك فان الامام لم يشترط في ذلك رعاية الموظفين فقط ولا طالب بان يراعي المنتجين فقط ولم يطالب بان يرعى الحاكم العاملين فقط وانما توسع الى فئات الشعب الاخرى وهذا امر واضح يوافق ما جاء في انظمة الرعاية الاجتماعية المطبقة في البلدان المتقدمة، وهو بعيد عن قوانين وانظمة الحكم الإسلامي.

ثم يعود الامام ليحذر الحاكم من عدم تطبيقه هذا النظام ونتائجه السلبية وامور اخرى فقال:

((فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لاحكامك الكثير المهم فلا تشخص طعمك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن لا تقتحمة العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فاعذر إلى الله تعالى في تأدية حقه إليه))(20).

يوجه الامام الحاكم بان لا ينشغل عن هؤلاء ابدا مهما كانت حجم المسؤوليات، ولابد من متابعة البعيد عن العيون ممن لا تستطيع ماكنة الاليات الحكومية الوصول اليهم فعليه أن يفرغ من وقته لهؤلاء لانهم سبيله لدخوله الجنة واذا ماقصر في حقهم او في تأدية الخدمات يكونا سببا لدخوله جهنم لانهم الأولى والاحوج من كل مسؤولياتك الأخرى.

ص: 106

ولم يكتف الامام بهؤلاء بل وسع دائرتهم ليشمل لذوي الحاجات الخاصة وان يوفر لهم وقتاً لينظر في امورهم: قال عليه السلام:

((وأجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس مجلساً عاماً فتتواضع فيه الله تعالى الذي خلقك، وتبعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غیر متعتع» ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والإنصاف يبسط الله تعالى عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في إجمال وأعذار))(21).

المعيار الثاني عشر / القيادة المباشرة منضبطة الزمن

من اهم الأمور في تقوية الادارة والقيادة هي التولي المباشر للامور ثم المتابعة في تطبيق التوجيهات وهذا ما أكد عليه الامام وجعله معيارا مهيا لنجاح ادارة الحاكم، قال الامام: ((ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعدائك، وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله تعالى إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية))(22).

لقد وضع الامام في هذه الكلمات القصيرة منظومة زمنية لانجاز الاعمال وليس فقط معيارا للقيادة المباشرة والمتابعة، فقوله (یوم ورودها) دليل على عدم تاخیر البريد بين المسؤولين ودوائر الدولة لانها تتعلق بحقوق الناس واحوالهم واموالهم

ص: 107

وحياتهم والتاخير قدیاتي بالضرر عليهم، ثم يستمر ليقول (وامض لكل يوم عمله) بما يعني أن يخصص الأعمال على الايام حتى لا تختلط الامور اولا ولسرعة الانجاز وعدم التاجيل ثانيا.

في واقع الأمر هناك الكثير والكثير من المعايير الاخرى التي من الممكن استخراجها من هذا الكنز الأدبي والبلاغي لامير المؤمنين ولكن اكتف بهذا المقدار، لانتقال إلى المحور الثالث المتعلق بضرورة الاستفادة من هذه المعايير في تنضيج رؤية واضحة نحو منهجية الإصلاح في الدولة العراقية في المرحلة القادمة.

ص: 108

المحور الثالث: الرؤية المنهجية لمواجهة التحديات

لابد من اساليب علمية ممنهجة وسائرة على خطوات ثابتة ورصينة لمواجهة التحديات اولا ومن ثم المراهنة والبدء بعملية اصلاح جذرية مسنودة ومقومة من الشعب بجميع فئاته واطيافه ومرجعياته وقياداته، ومن يقف أمام هذه المسيرة بالضد يستنتج بانه غير خاضع للقرار الوطني ومعرقل لعملية الاصلاح المنشودة ولابد من ابعاده عن دائرة القرار والاجماع الوطني المؤمل.

لقد تم سبع تحديد التحديات في المحور الأول ثم حددنا اثنا عشر معيارا في المحور الثاني نستمر في تشخيص الواقع ومواجهة كل تحدي باساليب علمية لغرض تحديد المسارات الواجب اتباعها في عملية الاصلاح.

لا يختلف اثنان أن العراق منذ الأزل يتمتع بالتنوع الاجتماعي وعاشت فيه اقوام متعددة وادیان مختلفة وهذه ليست ميزته المنفرد بها وانما الكثير من البلدان لازالت تتمتع بالتنوع العرقي والاجتماعي والقومي ولكنها استطاعت أن تتجاوز تلك الجزيئيات الصغيرة وتنتقل إلى بناء البلاد بشكل اكثر قوة واسرع وتيرة.

في مقولة مهمة لامير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام ((لايعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف رجاله)) بمعنى ان هناك مقاییس ومبادئ من الواجب اتباعها لغرض معرفة الرجال الذين يسيرون على هذه المبادئ وليس العكس، وبناءا على المفاهيم اعلاه يمكن تلخيص أهم المبادئ الواجب اتباعها في المرحلة المقبلة:

ص: 109

اولا: مبدأ التسامح والعفو ابتداءاً:

يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (23) وال(جدال) معناه فتل الحبل وإحكامه وتستخدم هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبههُ، وفي النقاشِ والحوار المحتدم بين فريقين افراداً او جماعاتٍ يحاولُ كلُ فریقٍ ثنيَ الاخرِ عن افکارهِ و ارائهِ ومعتقداتهِ باستخدامِ قوة المنطق(24).

ويقول العزيزُ القدير ايضا «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(25)، تناولت هذه الاية موضوع التعامل مع الخصم وفيها نهيٌ قويٌ قاطعٌ عن سبِ آلهة الكفار والمشركينَ وكلِ مایُعبدُ خارجَ الذاتِ الإلهيةِ لانّ هذا سوف يدعوهم إلى أن يعمدوا بالجهل والعدوان إلى توجيه السب الى ذات الله المقدسة وفي ذلك مساواة المؤمن بالكافر بالتعامل(26).

ان التسامح لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل التسامح هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا، لا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية، والتسامح ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول(27).

في عصرنا الحاضر ناذج من الشخصيات الفذة التي استطاعت أن تبني اوطانها بسرعة كبيرة وارادة مذهلة اثارت اعجاب العالم أجمع، وكانت انطلاقتهم الاولى بعد الاضطهاد والحروب والظلم هو مبدأ التسامح، وفي مقدمتهم محرر الهند المهاتما غاندي الهندوسي، السياسيُ البارزُ الذي قاوم الاستبدادِ بالعصيانِ المدني الشامل المستند إلى السلم وعدم العنف وأدتْ سياسته في نهاية المطاف إلى استقلالِ الهند(28).

ص: 110

ذكر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد ان فلسفة غاندي تنبع من ایمانه العميق بالسلام والمحبة وجسد ذلك بمبادئ صاغها في كلمات خالدة:

- اذا قابلت الاساءة بالاساءه فمتى تنتهي الاساءه.

- اننا علينا ان نحارب العدو بالسلاح الذي يخشاه هو، لا بالسلاح الذي نخشاه نحن.

- علينا احترام الديانات الاخری کاحترامنا لديننا فالتسامح المجرد لا يكفي(29).

ثانيا: اختيار الحاشية

ان أهم الأمور التي تسهم بشكل كبير في نجاح الدولة واجراءات الحكم هو حسن اختيار الاشخاص للمناصب، وقد سبق وان سجلنا معیارا خاصا (وهو الخامس)(30) للامام يتعلق بالجانب النفسي في شخصية الوالي وشخصية من يختاره ان لا يكون متواضعا لدرجة الذلة، وان لايتسامح في الحق وان لا يكون طماعا عندما قال «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الذلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع»(31).

في موضع آخر من نهج البلاغة قال امير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام: ((علمتم انه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة)).

ص: 111

ما اروعك ياوريث الأنبياء، نعم فالعراق يحتاج اليوم رجلا بهذه المواصفات ليس ملاكا ولكن منصفا ليس نبيا ولكن رحيما ليس معصوما ولكن عزيز النفس وهذا طلب ليس خياليا ابدا فالعراق يفيض بالعلماء والزهاد والكفاءات ولكنهم عزلوا وغيبوا سهوا او عمدا.

ثالثا: المرونة في التعامل السياسي وعدم الانغلاق:

الانظمة الساياسية الحديثة تعتمد على كفاءة الاشخاص الذين يتولون حقيبة الخارجية لانهم واجهة البلاد امام العالم، فضلا عن اسهامهم الكبير في دفع الأخطار وكسب الحلفاء والاصدقاء، وهذا الأمر يتطلب المرونة والكفاءة والحذاقة وسرعة البديهة، فضلا عن النظرة المتساوية للبشر وهذا ما اكد عليه امير المؤمنين في مقولته الشهيرة ((ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)) وبذلك فقد ارسى الأمام هذا المباديء ليكون منهجا عاما في سياسة الحاكم.

قال حکیم الادباء جبران خليل جبران ((لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمز للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزاً للحق والحرية)).

من هذه المفاهيم والمنطلقات للاولياء والحكماء على حد سواء، يمكننا اختیار إنموذجاً مهما لسياسي ناجح استطاع بفكره الناضج وتشخيصه الدقيق آن يصنع السلام والتصالح ومن ثم التحديث والتنمية والتطور وهو الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الاسبق.

من هذه المفاهيم والمطلقات للاولياء والحكماء على حد سواء، يمكننا اختیار إنموذجاً مهما لسياسي ناجح استطاع بفكره الناضج وتشخيصه الدقيق ان يصنع

ص: 112

السلام والتصالح ومن ثم التحديث والتنمية والتطور وهو الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق(32).

كان اسلوب مهاتير محمد ومرونته في التعامل السياسي والاداري مثل معاملة الشخصيات السياسية الداخلة ضمن ائتلافه أو المعارضة مميزاً جدا، ولعل رده للانتقادات التي وجهت اليه في مراحل مختلفة من حكمه تؤكد بعد النظر والثقة بالنفس والقدرة على ادارة الخلاف.

ثالثا: الاستثمار والخصخصة اساس اصلاح الاقتصاد

منذ ثمانينيات القرن العشرين والعراق يمر بماسي بل كوارث اقتصادية، من عدم التخطيط الى اقتصاد الحروب والمجهود الحربي الى توقف عملية انشاء البنى التحتية إلى حصار التسعينيات ثم دمار البلاد مع الاحتلال في 2003 م.

ان الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الحر يتطلب الكثير من الاجراءات المهمة وفي مقدمتها اعادة صياغة القوانين الاقتصادية بشكل يتلائم مع الواقع الجديد، وبالتالي فان الامور جرت عکس هذا الاتجاه مما تسبب بمشاكل كثيرة.

القطاع الخاص اهم محور من محاور التنمية في البلاد اذ يجب الاعتماد عليه كمحرك ابتدائي لنمو الاقتصاد، و بطريقة علمية ومساندة من باقي دول العالم، لاسيما الدول المتقدمة، لضمان نمو اقتصادی مفید و مرتبط مع کارتلات دولية ضامنة للنجاح.

الاقتصاد العراقي متهاوي وغير قادر على الاستجابة للتحديات وقد اصابه الركود والتباطؤ والانهيار وعدم وضوح الرؤية.

من اجل ذلك وفي سبيل الاصلاح لابد ان تستمر الحكومة في تقليص دورها

ص: 113

في مجال الانتاج الاقتصادي والاعمال الاخرى، وضرورة اتباع نظرية الاوز الطائرة التي تعود صياغاتها الأولى إلى النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي صاغها الاقتصادي الياباني اكاماتزو باعتباره نموذجا تاريخيا لمراحل النمو الاقتصادي.

يتحدث آکاماتزو في نموذجه النظري على ثلاث منحنيات رئيسية تحدد المرحلة التي يمر بها البلد الآخذ في النمو:

منحني الاستيراد: تحدد تركيبة الواردات نوعية مرحلة النمو والتنمية التي يمر بها اقتصاد البلد المعني.

منحنى الإنتاج: حيث يوضح هذا المنحنى مستوى تطور القوى الإنتاجية وتركيبة المنتجات في اقتصاد البلد المعني.

منحنى الصادرات: يوضح هذا المنحنی نوعية ومدى ديناميكية سلة الصادرات بحسب ارتقاء نوع المنتجات التي يتم تصديرها للخارج: كثيفة العمالة / كثيفة رأس المال / كثيفة التقنية / كثيفة المهارة وتعد هذه المنحنيات الثلاثة بمثابة الإحداثيات التي تحدد موقع كل بلد جاء متأخرا في مضار النمو والتقدم في إطار نموذج الإوز الطائر من حيث الارتفاع المسافة(33).

رابعا: التشريع اساس الاصلاح

لابد من عملية تقليص الضوابط، ولا مجال للشك في أن الانظمة (الضوابط) تؤدي دورا أساسيا في ادارة المجتمع، فأية دولة بدون انظمة وقوانين هي دولة تغرق في فوضى، وبدون النظام سيكون هناك ضياع للجهود والأموال ولن يكون هناك تطور، الا انه من غير المرغوب فيه هو ان يكون هناك افراط في الأنظمة.

ص: 114

تكمن الحكمة بالتاكيد في القدرة على التمييز فيما بين الأنظمة والقوانين المثمرة والمساندة في تحقيق اهداف المجتمع وتلك التي تعد غير مثمرة، وهي تكمن في اتخاذ القرارات الصائبة في التبادلات التجارية، لذا لن تكون الحكومة غير مسؤولة وستلبي احتياجات المجتمع الأوسع فضلا عن متطلبات النمو السريع والاقتصاد المنافس والمتين.

سُئِلَ الدكتور مهاتير عن الفساد الاداري والمالي في ماليزيا وكيف جرت معالجته والخطوات التي اتخذت للتخلص منه فأجاب:

«يجب أن يكون لديك إدارة جيدة، وأن تواجه الفساد، وحتى تمنع الفساد يمكن أن تضع بعض القوانين الصارمة.. ولكن الأهم من ذلك هو تطوير نظام إداري يكون واضحاً جداً، إذا عملت بسرعة وضمن سقف زمني محدد لكل إجراء، فلن يكون هناك فرصة للفساد، ولكن إذا سمحت للموظفين بتأخير المعاملات فإنهم سیؤخرون الإجراءات حتى يدفع لهم صاحب المعاملة المال، إن الوقت هو المال بالنسبة للعمل والاقتصاد، فإذا أخرت المعاملات فسترتفع التكاليف ويتضرر الناس والاقتصاد، ولذلك يُحدّد المطلوب من الموظف بوضوح تام، فإذا لم يفعل، فسيستنتج أنه فاسد، و بالتالي سيحاسب ويتخذ الإجراء اللازم بحقه، من الصعب التخلص من الفساد، بمجرّد وجود قانون، لا بد من آليات تعمل لتسريع العمل ومنع الفساد، لدينا في ماليزيا مؤسسة ضد الفساد Anti Corruption Agency، ولكن أهم شيء هو الإجراءات Procedures، ولذلك لدينا في الحكومة دليل الإجراءات Manual of Procedures، كل عمل له إجراءاته وخطواته المحددة»(34).

ص: 115

خامسا: الاهتمام بالتنمية البشرية

التنمية البشرية مصطلح يدل على علم حدیث التداول منذ بداية العقد التسعيني للقرن العشرين حسب بعض المصادر ولكن واقع الحال أن هذا العلم قد وجد مع القران الكريم وولادته الحقيقية من الشريعة المحمدية حتى باتت اسسه ومناهجه وغاياته واضحة ملموسة على ارض الواقع، بسبب الهدف المشترك والاساس للقران الكريم ولمن اوجد علم التنمية البشرية وهو الانسان غاية رسالة السماء تشخيصا وتحديدا(35).

التعليم حجر الأساس في بناء المجتمع وقد كان لدى العراق احد افضل الانظمة التعليمية في العالم في سبعينيات القرن الماضي، ولكنه تراجع في التسعينيات نتيجة الحصار ويعاني اليوم النظام التعليمي من مشاكل عميقة، غير انه من اجل الرحلة التي يجب ان يمضي عليها جيلنا الثاني، يجب ان تسن معايير جديدة وان تتحقق نتائج جديدة.

مع الاية القرانية «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»(36) أول آيات القرآن الكريم نزلت على الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم، وكلمة (اقرأ) اي (تعلّم) هي سر نجاح الكثير من تجارب النهضة في العالم ومنها ماليزيا، اذ أصبحت شعاراً لبدء عملية الإصلاح بمعنى أن الرؤية تقول بان الله سبحانه وتعالى بدأ المشروع الاصلاحي للمجتمع الجاهلي من خلال التعلم والتفكر والتعقل و ترجمها وحورها إلى مفاهیم وأفکار ناضجة تتعلق بالتعليم والمعرفة وحولها إلى سياسة تعليمية عامة ذات ابعاد واسس ثابتة وواضحة(37).

ص: 116

الخاتمة والتوصيات لابد من توفير الأرضية المناسبة والمناخ الملائم عندما يكون القرار النهائي والحقيقي باعادة بناء الدولة وهذا لا يتم الا من خلال مجموعة من المتطلبات الاساسية:

1 - القرار السياسي: الخطوة الأساسية وقبل اي شيء آخر هو العمل على خلق استقرارا سياسيا في العراق والا كل حديثنا عن الاصلاح هباءا منثورا، لابد من قرارات جريئة وشجاعة تتخذ من رؤساء الكتل والشخصيات المتنفذة القادرة والمتحكمة بالقرار السياسي في العراق على اجراء تعديلات في ثوابتها وافکارها ومنهاجها الذي تأسس بعد عام 2003.

2 - التوافق بين الثوابت السياسية ومعايير امير المؤمنين: بمعنى أن تتوافق الثوابت السياسية مع مع شعارات الدين المرفوعة من الكتل والاحزاب الدينية، واولويات هذا التوافق هو السير على تلك المعايير وجعلها ثوابت سياسية حقيقية لاشعارات براقة لاطعم ولا لون ولا رائحة ولا نتائج، ومنها تكوين رؤية فكرية ناضجة تنبني عليها العملية السياسية، واليوم نحن بحاجة الى مراجعة وفحص واعادة النظر في بعض هذه الثوابت والاراء والرؤية ومحاولة ايجاد قواسم مشتركة ومستويات وسطى يقف عليها الجميع بثبات وقوة ويتمسكون بها لتكون ارضية قوية تنبني عليها اسس جديدة واضحة ورصينة للمرحلة المقبلة 3 - تشريع القوانين الصحيحة: من اولويات الاصلاح ايضا هو تشريع قوانين المؤسسات الدستورية الكاملة منها المحكمة الدستورية العليا والمحكمة العسكرية العليا، واعطاء صلاحيات واسعة لمنظومة الادعاء العام في الدفاع عن المال العام وسمعة البلد الخارجية والحفاظ على اراضيه ومكانته، فضلا

ص: 117

عن تحديد اليات انتخاب ديمقراطية في مجلس القضاء الاعلى والمحاكم الاخرى ليكون التغيير منهاجا مؤسسيا وليس ارتجاليا وعاطفيا ومصلحيا.

4 - ضبط قانوني الاحزاب والانتخابات: البداية الصحيحة تؤدي إلى نتائج جيدة والاصلاح يبدأ مع قانوني الاحزاب والانتخابات وضبطهما بالاتجاه الصحيح للبناء السياسي، بحيث يكون قانون الاحزاب موحد ووطني وشامل لكل العراقيين دون تمييز او تهميش او اقصاء وان يكون عراقيا وطنيا بحتا بمعنی ان الاتكون هناك احزابا دينية أو عرقية او قومية وانما هناك احزابا عراقية شاملة لكل العراق يكون عندها فروع في كل المحافظات وممثلين لها من كل الاطياف وتكون الديمقراطية موجودة في نظامها الداخلي وتكون برامجها موحدة ومتفق عليها على اساس وطني وليس مناطقي او مذهبي او قومي، ولذلك لابد من تعديل القانون الذي اقره البرلمان منذ مدة قصيرة والذي هو عبارة عن ثوب مفصل تفصيل ليكون على مقياس الاحزاب الحاكمة.

والامر ينطبق مع قانون الانتخابات اذ لابد من تعديله بما يلائم النظام الديمقراطي الحقيقي من خلال اعتماد نظام الدوائر المتعددة على اساس ان كل دائرة مقعد يتنافس عليه عدد من المرشحين يفوز به من يحصل على اعلى الاصوات في تلك الدائرة دون ان يكون هناك تدخل من أي جهة كانت ولا من الأحزاب الكبيرة ولا من رؤساء الكتل وغيرها وننتهي من ظاهرة صعود مرشح فشل في الانتخابات ولم يحصل الاعلى اصوات قليلة ثم نجده عضوا في البرلمان او منصب مرموق في الدولة بترشيح من رئيس الكتلة وعلى اساس المقاعد التعويضية وهي طريقة تلاعب واضحة بالديمقراطية واصوات الناخبين.

ص: 118

5 - حسن اختيار الأشخاص: لابد من ايجاد آليات ثابتة في اختيار الشخصيات السياسية التي تتولى المسؤوليات في جميع مفاصل الدولة لاسيما المراكز الحساسة تعد من أهم الاجراءات الاصلاحية، وتكون هذه الاليات علمية ومهنية بالدرجة الاساس وبعيدة عن مبدأ الاستحقاق الانتخابي وهو الوجه الثاني للمحاصصة.

6 - حماية الابداع والفكر: ان التميز والابداع والرقي في العمل والمخرجات الجيدة من ناحية النوعية تتطلب قاعدة معرفية كبيرة، وتشخيص جوانب القوة والضعف في كل عنصر من عناصر الأداء، والعمل على تعزيز عوامل القوة بكل الاجراءات الممكنة ومعالجة جذرية لمواطن الضعف وتصحيحها، ولا يتم ذلك الا من خلال تطبيق نظام تقويمي شامل لكل مؤسسات الدولة بما يسمى نظام الجودة الشاملة المطبق اليوم في كل العالم ويتطور بشكل سريع ويتحدث بشكل اسرع ولذلك لابد من مواكبة الانظمة العالمية في هذا الاطار واعتماده کمنظومة تقييمية وتقويمية تساعد على اكتشاف السلبيات والأخطاء والعلل وتصحيحها باسرع وقت قبل أن تترتب عليها خسائر مادية ومعنوية كبيرة تهدم البناء وتؤخر التقدم.

7 - اعتماد المبادئ والقيم الاقتصادية العالمية الثوابت الاقتصادية في عالم الاقتصاد العالمي كثيرة ومؤثرة وناجحة واذا ما كان القرار بالاصلاح الاقتصادي موجود في اروقة السياسيين فلابد من قيم ومباديء واسس لبناء منظومة هذا الاصلاح واهمها وأهم هذه المبادئ:

1) احترام الوقت / 2) تنويع مصادر الدخل القومي / 3) نظام مصرفي فعال/ 4) التركيز على البنى التحتية 5) مبدأ تكافؤ الفرص / 6) الاعتماد على الذات.

ص: 119

وهناك قيم اقتصادية ايضا مطبقة في كل الشركات والمؤسسات الناجحة منها:

((الالتزام بمواعيد الدوام / الجودة العالية / الالتزام بمواعيد التسليم للبضائع / التفرقة بين الخاص والعام / استعمال التقنية الحديثة / الاخلاص في العمل والحرص على سمعة المؤسسة / المرتب على قدر الجهد المبذول فكلما زاد الجهد زاد المرتب / السعي إلى تطوير الذات وتحسين المستوى المعيشي / الانضباط الشديد والالتزام بالتعليمات / الحرص على اختيار المديرين ليكونوا قدوة لموظفيهم... وغيرها كثير)).

ص: 120

الهوامش

(1) صباح محسن کاظم، الراعي والرعية والحاكم والمحكوم في عهد الامام علي - عليه السلام لمالك الأشتر، مقالة، مركز النور، 08 / 08 / 2010الموقع الالكتروني:

۔ See more at: http://alnoor.se/article.asp?id=86355.sthash.NJt G42DX.dpuf (2) اية الله الشيخ باقر شريف القرشي، شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام لواليه مالك الأشتر على مصر، الموقع الالكتروني.

http://arabic.balaghah net/content /؛ زین العابدین قرباني، ميثاق إدارة الدولة، تعريب: قاسم البيضاني، منشورات المحبين - مطبعة کوثر، ط 1، 1433 ه - 2012 م.

(3) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الشتر (رضي الله عنه)، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، 1931 ه - 2010 م.

(4) المصدر نفسه، ص.

(5) اية الله الشيخ باقر شريف القرشي، المصدر السابق.

(6) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(7) المصدر نفسه.

(8) اية الله الشيخ باقر شريف القرشي، المصدر السابق.

(9) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(10) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

ص: 121

(11) المصدر نفسه.

(12) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(13) المصدر نفسه.

(14) د. ماهر الخليلي، انصاف العلماء واجب وطني، مقالة، 5 / 9 / 2015، مؤسسة النور للثقافة والاعلام، الموقع الالكتروني:

http://www.alnoor.se/article asp?id=284511.sthash.uhsmrP3o.dpuf (15) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(16) المصدر نفسه.

(17) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(18) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(19) المصدر نفسه.

(20) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(21) المصدر نفسه.

(22) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(23) سورة العنكبوت / 46.

(24) الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، الجزء العاشر، بيروت - لبنان، 2007 م، سورة العنكبوت، ص 74.

(25) سورة الأنعام / 108

ص: 122

(26) الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، الأمثل، الجزء الرابع، ص 185.

(27) إعلان مبادئ بشأن التسامح، المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995 م، المادة الأولى، الفقرة الأولى والثانية.

(28) الاسم الحقيقي لغاندي هو (موهنداس کرمشاند غاندي). للمزيد عن حياة غاندي ينظر: موهنداس کرمشاند (المهاتما) غاندي، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1986، صص 315 32؛ الموقع الالكتروني: http://www.marefa.org/index.php/%D (29) عباس محمود العقاد، روح عظیم المهاتما غاندي، شركة فن الطباعة، مصر، 1999 م.

(30) انظر ص 9.

(31) عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، المصدر السابق.

(32) الدكتور مهاتير محمد: ولد في كانون الأول عام 1925 ودرس الطب بسنغافورة واصبح طبيبا ثم ولج عالم السياسة منذ عام 1964 عندما اصبح عضوا في مجلس النواب، ودرس الشؤون الدولية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967، وفصل من الحزب بعد أن ألف كتاب (معضلة الملايو) عام 1970 م، وهو الكتاب الذي أثار ضجة، انتقد فيه شعب الملايو واتهمه بالكسل ودعا فيه الشعب لثورة صناعية تنقل ماليزيا من إطار الدول الزراعية المتخلفة إلى دولة ذات نهضة اقتصادية عالية، وبعدها عاد للعمل الحكومي عام 1972 وتدرج من وزیر تعلیم وصناعة ثم نائب لرئيس الوزراء ثم اصبح رئيسا للوزراء عام 1981 وبدأ مسيرة اصلاح شاملة للدولة. للمزيد انظر: ماهر جبار محمد علي

ص: 123

الخليلي، مهاتير محمد ودوره في تحديث ماليزيا 1969 - 1991، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم التاريخ، بغداد، 2014 م.

(33) محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الاسيوية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012 م، ص 14.

(34) ماهر جبار محمد علي الخليلي، المصدر السابق، ص 256.

(35) طلال فائق الكمالي، التنمية البشرية في القران الكريم - دراسة موضوعية، مرکز کربلاء للدراسات والبحوث، کربلاء 1435 ه، ص 29.

(36) القران الكريم، سورة العلق، آية 1. (37) محسن محمد صالح، النهوض الماليزي قراءة في الخلفيات ومعالم التطور الاقتصادي، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابو ظبي، 2008 م، ص 38.

ص: 124

المصادر

1 - القران الكريم، سورة العلق، آية 1.

2 - إعلان مبادئ بشأن التسامح، المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995 م، المادة الأولى، الفقرة الأولى والثانية.

3- اية الله الشيخ باقر شريف القرشي، شرح العهد الدولي للإمام علي عليه السلام الواليه مالك الأشتر على مصر، الموقع الالكتروني .

http://arabic.balaghah ./net/content 4 - زین العابدین قرباني، میثاق إدارة الدولة، تعريب: قاسم البيضاني، منشورات المحبين - مطبعة کوثر، ط 1، 1433 ه - 2012 م.

5 - الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الجزء العاشر، بيروت - لبنان، 2007 م 6 - صباح محسن کاظم، الراعي والرعية والحاكم والمحكوم في عهد الامام علي - عليه السلام لمالك الأشتر، مقالة، مركز النور، 08 / 08 / 2010 الموقع الالكتروني:

See more at: http://alnoor.se/article.asp?id=86355.sthash.N.Jt. G42DX.dpuf.

7 - طلال فائق الكمالي، التنمية البشرية في القران الكريم - دراسة موضوعية، مرکز کربلاء للدراسات والبحوث، کربلاء 1435 ه.

8 - عباس محمود العقاد، روح عظیم المهاتما غاندي، شركة فن الطباعة، مصر، 1999 م.

ص: 125

9 - عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الشتر (رضي الله عنه)، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، 1431 ه - 2010 م. 10 - ماهر الخليلی، انصاف العلماء واجب وطني، مقالة، 5 / 9 / 2015، مؤسسة النور للثقافة والاعلام الموقع الالكتروني: - http://www.alnoor.se/arti cle.asp?id=284511.sthash.uhsmrP3o.dpuf 11 - ماهر جبار محمد علي الخليلي، مهاتير محمد ودوره في تحديث ماليزيا 1969 - 1991، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم التاريخ، بغداد، 2014 م.

12 - محسن محمد صالح، النهوض الماليزي قراءة في الخلفيات ومعالم التطور الاقتصادي، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2008 م.

13 - محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الاسيوية، مركز دراسات الوحدة العربية بیروت 2012 م.

14 - موهنداس کرمشاند (المهاتما) غاندي، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1986، صص 315 - 32؛ الموقع الالكتروني: http://www.marefa.org/index.php/%D

ص: 126

ص: 127

ص: 128

الفكر الاقتصادي الإصلاحي للإمام علي (عليه السلام) وإمكانية تطبيقه في الاقتصاد العراقي الأستاذ المساعد دكتور يحيى حمود حسن كلية الإدارة والاقتصاد جامعة البصرة

اشارة

ص: 129

ص: 130

من المعروف أن الوضع الاقتصادي السيئ لأي دولة ينعكس سلبا على حياة معظم أفراد الشعب في تلك الدولة، ويؤدي إلى ظهور الاختلالات الاقتصادية التي من أبرزها انتشار الفساد الاقتصادي والأخلاقي وضعف الدولة وانتشار الفقر وضعف قوتها العسكري ومن ثم تصبح الدولة عاجزة عن القيام بأي نشاط اقتصادي ومؤسسي وغير قادرة على الصمود امام اي تهديد خارجي او فتنة داخلية ومن ثم تؤدي إلى انهيارها. او سهولة احتلالها من القوات الأجنبية.

لقد ورث الإمام علي ابن ابي طالب (علية السلام)(1) وضعاً اقتصادياً سيئاً من تمایز طبقي وفساد إداري يتطلب العلاج والإصلاح من خلال الإدارة الجيدة والقيادة الناجحة في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية وتنمية ميزانية الدولة والتصرف فيها، فقد وضع خطوات للإصلاح وعمل على تطبيقها بكل حزم وجدية جنت الأمة ثمار هذه الإصلاحات. تتمثل أسس السياسة الشرعية التي انتهجها الإمام علي (عليه السلام) و طريقة الحكم التي جسدها خلال فترة السنوات الخمس (35 - 40 هجرية) التي تولى فيها مسؤولية الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية.

لم يحابي الإمام علي عليه السلام يوماً مع أقرب الناس إليه، وكانت سياسته في معالجة الفساد الإداري واحدة من أروع وادق وأشد السياسات التي اتبعها حاکم في عصر من العصور، أن فلسفة إصلاحات الإمام ليست بتطبيق الشريعة الإسلامية مثل (تحريم الربا و شرب الخمر والقتل والسرقة...............) فهذه الأمور كانت مطبقة حتى ولو شكليا، وإنما ركز الإمام على إصلاحات في أساس النظام الإسلامي

ص: 131

مثل (تنصيب الولاة والمسؤولين والتعامل مع الفقراء..........) وهذا ما أكده العديد من الكتب والتقارير الدولية ومن أهمها التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP (United Nations Development Programmer) عام 2002 والخاص بتنمية البلدان العربية في الفصل السابع. ذکر حكومة أمير المؤمنين كنموذج لتنمية القدرات البشرية.

أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث من:

1 - التركيز على الخطوات الإصلاحية التي اتبعها الإمام علي في مدة حكمة وكيف عمل على تطبيقها.

2 - محاولة الإفادة من الخطوات الإصلاحية للامام في معالجة وإصلاح الاقتصاد العراقي.

مشكلة البحث:

تأتي مشكلة البحث من: يعاني الاقتصاد العراقي من مشكلات خطيرة وجوهرية تتطلب العلاج، ويطرح هذا البحث الفكر والسياسة الاقتصادية التي اتبعها الإمام المعالجة هذا الوضع.

ص: 132

خطة البحث:

يركز البحث على:

أولا: الخطوات الاصلاحية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام) لمعالجة الوضع الاقتصادي والتي تتلخص بالاتي:

1 - مكافحة الفساد محاسبة الفاسدين وخاصة من الولاة والقضاء والاعتماد على اهل الخبرة والثقة كمستشارين لحل مشاكل الناس وحفظ حقوقهم. الذين يعتمد عليهم في صلاح الدولة.

2 - التنمية البشرية: إطلاق الحريات للإنسان.

3 - إدارة خيرات الدولة (الإيرادات وفرض الضرائب. والنفقات) الاهتمام باستثمار خيرات الأرض بدلا من التفكير في جمع الضرائب فقط. واستصلاح الأراضي، وضرورة التنمية.

4 - الترشيد بالاستهلاك وعدم الإسراف والتبذير.

5 - بناء القوة العسكرية لمواجهة أي تهديد خارجي.

6 - تشجيع التعليم 7 - محاربة وتسكين الفقر وتوزيع الخدمات الاجتماعية 8 - تحديد مفهوم الدولة ووظائفها وصفات رئيس الدولة و ان يكون الحاكم قدوة صالحة بان يبدأ باصلاح نفسه قبل غيره.

9 - ادارة الازمات 10 - العقوبات الاجتماعية ثانيا: محاولة تطبيق الإصلاحات في الاقتصاد العراقي وفق الفكر الاقتصادي للامام علي (عليه السلام).

ثالثا: استنتاجات وتوصيات

ص: 133

الحركة الإصلاحية في دولة الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

مفهوم الإصلاح الاقتصادي

يرد بمصطلح الإصلاح الاقتصادي (Economic Reform) تعديل مسار اقتصاد ما او سلوك أفراد المجتمع نحو الاتجاه المرغوب فيه، من خلال اتخاذ توليفة من الإجراءات في السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية والتجارية) تقوم بها الدولة، بهدف توفير الحاجات الأساسية من السلع والخدمات بسعر مناسب لمختلف فئات المجتمع وخلق فرص تستوعب الأشخاص في سوق العمل، فضلاً عن تحقيق التوازن بين نفقات الدولة و إيراداتها وتحفيز قطاعات الإنتاج فضلاً عن تحسين الكفاءة في استخدام الموارد من خلال إزالة تشوهات الأسعار وتعزيز المنافسة وتحقيق السيطرة الإدارية(2). مما يؤدي إلى قدرة الاقتصاد على النمو وتحقيق التوازن والاستقرار الاقتصادي.

وهناك مجموعة أسباب تدفع إلى انتهاج الإصلاح الاقتصادي أهمها وجود مشاكل متعددة في الاقتصاد مثل قلة الدخل النقدي وعدم وجود فرص عمل و عدم القدرة على إشباع الحاجات الأساسية وانخفاض مستوى التعليم، مما تتطلب وضع ستراتيجية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تستهدف إشباع الحاجات الأساسية للسكان، وتغير موقع اقتصاد الدول إلى الأفضل.

تبنى الامام علي (عليه السلام) تنفيذ مشروع إصلاح من خلال خطوات طبقت في الحياة العملية ويمكن الاستشهاد بهذا المشروع من خلال سيرة وتاريخ الامام وشرح نهج البلاغة: والوقائع والأحداث التي سجّلتها مصادر التاريخ تحكي علاقة الإمام بحركة التغيير، حيث أعلن الثورة الشاملة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية

ص: 134

التي كانت محل نقده و معارضته. وتتركز في:

أولاً - الإصلاح في النظام الإداري:

حاول أمير المؤمنين اعادة الأمور الى ما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد خطی خطوات واسعة في هذا الطريق منها اصلاح الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي، اذ أقام الإمام (عليه السلام) نظاماً إدارياً محكماً، حدّد فيه الوظائف وأوضح طرق تعيين الموظفين، وبيَّن واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتيشاً دقيقاً، ووضع أسس الثواب والعقاب، والمسؤولية الإدارية بشكل عام. فكانت الخطوة الأولى للإصلاح: مكافحة الفساد و محاسبة الفاسدين وخاصة من الولاة والقضاء والاعتماد على اهل الخبرة والثقة كمستشارين لحل مشاكل الناس وحفظ حقوقهم الذين يعتمد عليهم في صلاح الدولة، وضع الإمام (عليه السلام) آليات للوقاية من الفساد هي:

1 - تغير الشخصيات الفاسدة: من اول الاعمال التي قام بها الامام علي بعد توليه الخلافة وقبل كل شيء هي اختيار وانتقاء الشخصيات التي تضم إلى الكفاءة، الإخلاص والضمير. فمن رأي علي (عليه السلام) الإصلاح في المجتمعات يبدأ بتغير واصلاح القيادات، فبادر قدماً إلى تغيير الأمراء والولاة، متوخياً في ذلك مجاراة الحق والعدل والمصلحة العليا للإسلام والأمة، وتعد هذه من اهم الإصلاحات السياسة: فقد أعلن عن عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ولم يتراجع عن ذلك عندما حاول البعض الحؤول دون ذلك، وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ(3). حيث قام بعزل معظم الولاة عن الأمصار ومسئولي الجهاز التنفيذي الإداري من الدولة، وإقصاء أولئك النفعيين الذين لم يكن لهم هم في الحياة سوى السلب والنهب وکنز الذهب والفضة والتسلّط المرير

ص: 135

على رقاب المسلمين، وقال (عليه السلام) في ذلك: (والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري). وبعد تسلمة الخلافة وزّعَ الحُكّامَ إلى المناطقِ التاليةِ (4):

1 - عثمان بن حنیف ولى البصرة.

2 - عمارة بن شهاب والي الكوفة.

3 - عبيد الله بن عباس والي اليمن.

4 - عزل قیس بن سعد و تعيين مالك الأشتر النخعي والي مصر، وبعد موته ولی محمد بن أبي بكر.

5 - سهل بن حنیف والي الشام ثم بعد ذلك جعله على المدينة، ثم ولاه على فارس. زباد بن ابية والي فارس 2 - الاختيار الصحيح للمسؤول: يجب أن يتم اختيار المسؤول على وفق الأسس هي(5):

أ - السمعة الجيدة: يجب ان يكون الشخص الذي يراد اعطاءه منصب معين ذات سمعة وتاريخ نزيه، اذ يوصي الإمام (عليه السلام) الى لمالك الأشتر باختيار المسؤولين وفقاً للاسس التالية: (اختياره من شريحة اجتماعية ذات تاریخ مشرّف). لان تاريخ الإنسان هو أفضل سيرة الاعمالة فالشخص السيئ خلال مسيرة حياته لا يمكن أن يصل للمسؤولية مطلقا.

إن فالوالي يقوم مقام الخليفة إذا كان معيناً من قبله، أو يقوم مقام أعلى إذا كان هذا العامل هو الذي عينه. ويشترط الإمام في العامل شروطاً مشددة، لخطورة مركزه والسلطة التي يتمتع بها، يقول الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: «ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختیارا، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب

ص: 136

الجور والخيانة، وتوخّ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة».

ب - تشخيص الصفات القيادية: والذي يصلح لتولي الامور الادارية اذ يقول علية السلام (فوّل من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممّن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممّن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثمّ أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنّهم جماع من الكرم، وشعب من العرف)(6) ت - الخبرة والتجربة: اختيار اصحاب الخبرة لان الخبرة هي مفتاح نجاح العمل وشرط أساسي للتقدم، ومن دونها يعني الحكم على فشل أي مشروع وخاصة اذا كان المسؤول لا يمتلك خبرة في المؤسسة التي يديرها. فاتخاذ القرارات تحتاج الى الخبرة مع المشورة وخاصة اذا كانت القرارات مؤثره، يقول الإمام (عليه السلام) (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) ويقول عليه السلام (خاطر بنفسه من استغنی برأية) والخبرة والمشورة هي تجارب سابقة.

والمشورة هي مفتاح هام للاستفادة من تجارب الاخرين.(7) ث - الاخلاق العالية والحياء: اختيار الشخص ذي الأخلاق لان الاخلاق هي الرقيب الداخلي الاول والرئيس على المسوول وبدونها يمكن أن يتجه الانسان نو الفساد، فالقانون الوضعي ليس الرقيب الاساسي لانه يمكن التحايل عليه وتفسيرة بمعاني مختلفة ويمكن الاستثناء وغيرها.

ص: 137

ج - الإيمان: اختيار الشخص المؤمن ومخافة الله هي شرط أساسي لاختيار أي مسؤؤل. توضح هذه الشروط في قول الإمام (عليه السلام): ((وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والْقَدَمِ فِي الإسلام الْمُتَقَدِّمَةِ)).

ح - عدم المحاباة والمحسوبية: فلا يجوز إعطاء المسؤولية إلى شخص كمكافأة أو أكرام للأشخاص آخرين، اذ يقول عليه السلام: ((ولا تُوَلِهِّمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ))، فالمسؤولية أمانة ولا يجوز تقديمها كهدية إلى الأقارب أو الأصدقاء او للحزب أو أبناء المدينة(8).

خ - الاختبار والتجربة: يجب أن يوضع المسوؤل او المكلف بعمل ما في وظيفة معينة فاذا اثبت عملياً أهليته في ادارة هذا المنصب، فيتم تثبيته، واذا لم يثبت كفاءتة فيستبدل بشخص اخر، وتختلف التجربة باختلاف الوظيفة والشخص في الكيفية والمدَّة. اذ يقول (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً)). فعلى وفق منهج الإمام بعد تعيين المسؤول و ترکه بلا إشراف ولا اختبار تقصيراً من المسؤول الأعلى الذي عيّنه ومساهمة في ترويج الفساد بتهيئة أرضية ظهوره.

3 - صرف راتب للمسول يتناسب مع العمل المكلف به: وذلك للصرف على احتياجاته الأساسية ولعائلته، والكفاف عن الناس، وتمنعه من قبول الرشوة والتصرف بالمال العام، اذ يقول يقول (عليه السلام): ((ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ، وغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ)).

4 - الرقابة المستمرة: يجب أن يكون المسوؤل الاعلى مراقب جيد ومستمر لاعمال رعيته من مسولين وموظفين و محیطاً بسيرته الإدارية، والرقابة على نوعين السرية

ص: 138

وذلك بوضع أشخاص يراقبون عمل المسؤول دون علم هذا المسوؤل، على شرط توفر الإخلاص والنزاهة والدقة في نقل الوقائع في اختيار المراقبين السريين، فقد كان الامام متابع لأمور الأقاليم، اذ يقول (عليه السلام): ((وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ، حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ)). فضلاً عن الرقابة العلنية وذلك بالاطلاع العلني المباشر على السجلات الإدارية والمالية وربما الزيارات الميدانية، ففي عهده إلى مالك الأشتريقول (عليه السلام): ((ثم تفقَّد أعمالهم)). وفي سيرته مع ولاته كان أحياناً يطلب منهم إرسال الكشوفات الرسمية إليه ليطَّلع عليها بنفسه. يقول (عليه السلام) في أحد كتبه إلى بعض ولاته: ))فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ واعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ الله أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ))، فهو في الوقت الذي يطلب فيه قوائم الحسابات يخوِّفه من حساب الله الذي هو أعظم من حساب الناس والحاكم. وكتابه إلى واليه على مكة الذي يقول فيه: ((إِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أنه….))، فيه اشارة مقصودة إلى وضعه عيونا على ولاته لكي يجعلهم في حذر دائم کی لا يصدر منهم ما ينقلة أولئك العيون إليه عليه السلام. وهي حالة مكِنت الإمام علياً (عليه السلام) منذ ذلك الزمن البعيد من أن يكون على علم تام بما يجري في الولايات البعيدة حيث لم تكن هناك مواصلات أو اتصالات أو کامرات مراقبة تتكفل بتلك المهمة(9).

5 - التوجيه والتنبيه: ان الرقابة لوحدة غير كفيلة بمكافحة الفساد والاصلاح فمن الضرورة التوجيه، ويمكن أن ندرج امثلة ونماذج في كتبه مثل:

أ - قوله لعامله على البصرة عبد الله بن عباس : ((وَ قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وغِلْظَتُك عَلَيْهِمْ....))؛ وهو يوجه للمسول بعدم الشدة في معاملة مع بعض الرعاية.

ص: 139

ب - وقوله لبعض عماله: ((أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وقَسْوَةً واحْتِقَاراً وجَفْوَةً….))؛ كذلك التوجيه باحترام الرعية.

ت - وقوله لعثمان بن حنيف وهو يومئذ عامله على البصرة: ((فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ....))؛ التوجيه لعدم التقرب من الفاسدين والنفعيين.

ث - وقوله إلى بعض عماله: ((بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وعَصَيْتَ إِمَامَكَ وأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ....)). التوجيه بضرورة مراعاة إحكام الله في العمل والامانة.

ج - يحذر الإمام (عليه السلام) عاملة من الأخذ من الفيء الذي يحصل عليه من غنيمة أو خراج مهما كان صغيرا او كبيرا، وسيعاقبه بان يجعله قليل المال و ضعيف لا تقدر على مؤونة عيالك. وقد اشار في كتابه إلى زياد بن أبيه: (وإِنِّي أُقْسم بِالله قَسمًا صادقًا، لئِن بَلغني أنَّك خنْت من فيء الْمسلمين شَيئًا صغيرًا أَو كِبيرًا، لا شدن عَليك شدةً تدعك قليلَ الْوفْر، ثقيلَ الظَّهر، ضئِيلَ الاْمرِ، والسلام(10) إن هذه الأمثلة تشير بكل وضوح إلى أنه عليه السلام كان يتابع ويوجه باستمرار وبدقة تصرفات ولاته.

6 - الإنذار المبكر: وهو آلية كان (عليه السلام) يستخدمها مع ولاته عندما يلاحظ بوادر فساد أو انحراف، او الميل إلى المصالحة الخاصة، فإنه يسارع إلى تحذير ذلك الوالي بتنبيه أو توبيخ ليوقفه عند الحد المطلوب کي لا تزلَّ قدمه فيتعدى حدَّه؛ ومن أمثلة ذلك(11):

أ - في حالات كثيرة يتقرب المفسدين من أصحاب القرار بمختلف الطرق والوسائل،

ص: 140

ومن أهمها تقديم الهدايا والولائم الفاخرة، فقد كتب الأمام إلى والٍ له دُعي إلى مأدبة فاخرة فلبَّى تلك الدعوة في ظروف لا يجد فيها عامة الناس ما يسدُّون به رمقهم.

ب - تكون جميع النظار موجه إلى المسولين وتصرفاتهم وبخاصة في جانب الأنفاق والصرف الزائد عن الحاجة، فقد كتب الأمام إلى والٍ آخر قام بشراء دار له من ماله الحلال في وقت لم يكن بحاجة إلى دار بتلك السعة، فكتب اليه (عليه السلام) يحذره ويزهِّده.

إن رصده لهذه الحالات تعني الإسراع إلى تطويق بوادر الفساد وهي في مهدها ليعالجها على مستوى الوقاية قبل أن تستكمل مقدمات وجودها فتصبح فساداً ماثلاً للعيان.

7 - الدقة والحذر من الحاشية المحيطة بالمسولين: بالرغم من أهمية هذه الطبقة الا انه لها دور كبير في افساد المسوول او عدم نقل الحقائق بشكل صحيح، فهذه الطبقة جدا خطيرة فهم واجه المسول والاتصال الأول يتم من خلالهم، كذلك هم الأداة الأولى في تنفيذ أوامر المسولين، ومن ثم يمكن حجب وتضليل المسول عن ما يجري في الخارج، او عرقلة الإعمال والمشاريع وفي بعض الأحيان حتی دون علم المسوول، ويمكن أن يكونوا مشجعين لفساد المسولين بما يمتلكونه من خبرة وتحايل على القانون والتعليمات. ويزداد الأمر سوء في حال كون المسؤول ضعیف و منقاد بشكل كبير للحاشية المحيطة به. لذا يجب التحقق من صحة المعلومات المنقولة من مصدر اخر، ويشير الإمام هنا إلى خطورة الأعوان الذين هم المساعدون المقربون والمستشارون ومدراء المكاتب(12)، اذ يوصي مالك الشتر (ولا تدخلَن في مشورتك بخيلا يعدلُ بك عن الفَضْلِ، ويعدك اْلَفْقر، ولا جبانًا يضعُفك عن اُلامور، ولا حريصا يزين لك الشَّره باْلجور، فَإِن اْلبخل واْلجبن والْحرص غَرائِز شتَّی يجمعها سوء الظَّن بِاللهِ.

ص: 141

شَر وزرائِك من كَان لِلاْشْرار قبَلك وزيرًا، ومن شرِكهم في الاَثاِم، فلا يكُونَن لك بطَاَنةً (حاشية او مستشارين)، فإِنَّهم أَعوان الاْثمة، وإِخوان الظَّلمة، وأَنْت واجِد مْنهم خير الْخَلف ممن لَه مثْل آرائِهم وَنَفاذهم، وَليس عَليه مثْلُآ صارهم (مثل ذنبهم وأَوزارهم وآَثامهم، ممن لم يعاون ظالِماً عَلى ظْلمه، ولا آثمًا عَلى إِثمه، أُولئِك أَخفُّ عَليك مؤُوَنة، وأَحسن لك معوَنة، وأَحَنى عَليك عطفًا، وأَقلُّلِ غيرِك إِلْفًا، فاتَّخذ أُولئِك خَاصًة لِخَلَواتك وحَفلاتك، ثم ليكن آثرهم عنْدك أَقوَلهم بِمر الْحقّ لك، وأَقلَّهم مساعدًة فيما يكون منْك ما كرِه اللهُ لاَولِيائِه، واقعً ذلِك من هواك حيث وَقع).(13) خصائص المستشارون و صفاتهم لا غنى للحاكم عن المستشارين، وأهم صفات المستشار هي:

أ - ألا يكون بخيلاً يعدل بالحاكم عن الفضل، ويعده الفقر.

ب - ألا يكون جباناً يضعفه عن الأمور.

ت - ألا يكون حريصاً يزين الشره بالجور.

ث - تعويد المقربين والإعلاميين على عدم المدح، أو کسب رضا الحاكم وفرحه بباطل لم يفعله.

8 - عدم المساواة بين المحسن والمسيء، فإن ذلك تشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم، وتزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم، وإلزام كل منهم ما ألزم به نفسه، من شکر أو عقاب.

اذ يقول علية السلام لمالك الاشتر (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على

ص: 142

الإساءة! وألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه)(14).

9 - حسن الظن بالرعية، دليله إحسانه إليهم، وعدم استكراههم على ما ليس عندهم، وتخفيف الأثقال (المؤونات) عنهم(15).

10 - ثبات حالات الفساد: تعد حالة ثبات حالات الفساد من الامور الصعبة جدا كون الفساد يتم في الخفاء والسر ودائما يخفي المفسدين جرائمهم، كما أن هناك حالات اتهام كثيرة، لذا يجب التحقق من حالات الفساد، واثبات وقوعه من خلال جمع الأدلة والشهادات المتعددة المستوفية للشروط الشرعية (الذي يشترط شاهدين عادلين فقط في أغلب الجرائم والجنح)؛ ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن هؤلاء الشهود تمَّ اختيارهم والتحقق مسبقاً من توفر الشروط القانونية فيهم لكونهم ((مِن أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ)) کما عبر عنهم الإمام، فإن شهادتهم كافية الإثبات الجريمة. يقول عليه السلام في وصف طريقته: ((فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ (أي من المسؤولين) بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ)).

11 - عقوبات علاج الفساد: في كثير من الحالات تكون عمليات الرقابة و التوجيه غير كافية لمحاربة الفساد، لذا من الضروري وجود العقوبات المختلفة وبما يتناسب مع الحاجة والذنب، وقد تكون هناك عقوبة استباقية (مادية او معنوية) لمنع حصول الأخطاء، فكان الامام عندما يرصد أموراً مهما كانت صغيرة لكنها لو مرت بسلام أو عوملت بتساهل فإنها قد تنمو وتشكل خروقات كبيرة.

وقد تكون عقوبات على فعل الفساد اذ بعد أن يتم تشخيص جريمة الفساد يأتي دور الإجراءات التي تتخذ بحق المسؤول الفاسد

ص: 143

وهي أربعة أمور يتناولها قول الإمام عليه السلام: ((وتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إلى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وأَخَذْتَهُ بِماَ أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ)).

وهذه الاجراءات هي(16):

الأول: الفصل من الوظيفة:

لم يشر الإمام صراحة إلى هذه النقطة لكنها من أوضح الواضحات في منهجه عليه السلام، فالإمام لا يقوم بها يقوم به البعض من نقل المسؤول الفاسد من ((الوظيفة الحساسة)) إلى ((وظيفة غير حساسة)). أو من موقع إلى موقع آخر. فهذا النقل هو في حد ذاته مساهمة في تكريس الفساد، لأنه يعطي لجميع الفاسدين رسالة تطمين عالية المضامين أقل ما فيها أن أقصى ما يُعرَّض له الفاسد هو تغيير مكان عمله.

ثم إن الفساد - مهما صغر - جريمة ينبغي العقاب عليها ولا يجوز ترك العقاب الصغر الذنب، بل يجب إنزال العقاب بما يتناسب مع حجم الذنب، أما عدم العقاب فهو تشجيع بصورة غير مباشرة على الفساد.

نستطيع أن نفهم الفصل من الوظيفة من خلال النصوص الكثيرة من كتاب نهج البلاغة التي تشترط النزاهة في الوظائف الحكومية، لذا فإن صدور الفساد من الموظف يعني انتفاء أحد الشروط الضرورية في التوظيف، وهو يعني الفصل بلا أدنى شك، ولا يعني النقل بكل تأكيد. والفصل من الوظيفة هو فصل دائمي وليس مؤقتاَ، ويمكن استنباط الدائمية في الفصل من الكلمات الأخيرة له عليه السلام: ((ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة وقلَّدته عارَ التهمة))، فأي وظيفة تُسند بعدها إلى مَن

ص: 144

نُصب بمقام الذلة ووُسم بالخيانة وقُلِّد عار التهمة؟.

الثاني: استعادة المبالغ المختلَسة:

ضرورة استعادة الأموال المأخوذة بطريقة غير شرعية من بيت المال، وتعاقبها حتى بعد دخولها في عمليات دورات اقتصادية متعددة، فقد قام الامام بمتابعة الأموالَ التي أُعطيت بغير وجه حق لبعض المتنفذين زمن حكم عثمان بن عفان وواصل المطالبة بها، قال أمير المؤمنين ((وَالله لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ ومُلِكَ بِهِ الإمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً؛ ومَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ)، أي أنه مستعد - في طريق استعادة الأموال المغتصبة - لتعريض الكيان الأسري للخطر إذا كانت الأسرة قد بنيت على المال الحرام. ولذا تجد من إجراءاته عند ثبوت فساد المسؤول استعادة المال المختلس حتى آخر درهم، يقول عليه السلام: ((وأخذته بما أصاب من عمله))، أي استرجاع كامل المبلغ المغصوب دون مراعاة لأي قضية أخرى ولا أعتبار لأي شروط تخفيفية، إذ لا تخفيف مع الخيانة. ولا يرى الإمام علي (عليه السلام) لنفسه أو لمنصبه اية صلاحية في التنازل عن حقوق الآخرين في المال العام، وهو القائل: (لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وإِنَّماَ الْمَالُ مَالُ الله)

الثالث: العقوبة الجزائية:

وهي عقوبة تأديبية ذات طابع بدني، أي أنها ليست السجن، فالسجن لا يعني شيئاً لكثيرين، ومنطلقاً لأنواع أخرى من الجريمة للمستجدِّين، بل إن بعض الفاسدين يواصل عمليات فساده حتى وهو داخل السجن. لكن العقوبة التي يفرضها الإمام هي عقوبة تأديبية مؤلمه كالضرب والجلد وما اليها. وقد أعطى الإمام صلاحيات واسعة في العقوبة البدنية بقوله: ((بسطت عليه العقوبة))، فترك شكل

ص: 145

العقوبة ومداها وسعتها مفتوحة على مصراعيها لكي تشمل كل مايراه المسؤول الأعلى مناسباً ورادعاً، ولم يقيّدها بكم أو كيف، لكنه اشترط أن تكون عقوبة علنية أمام الملأ ليكون للرأي العام دور في إطلاع الشعب على تنفيذ القانون وعدم الاكتفاء بإخفاء الشخص عن الأنظار تارکين أصحاب الحق (وهم كل المواطنين) يجهلون ما الذي حل بالمعتدي على حقوقهم(17).

الرابع: التشهير برموز الفساد:

يؤدي هذا الاجراء في كثير من الحالات الى هروب المجرمين واختفاهم عن اعين الناس، فبالرغم من بقاهم الا ان الناس تنظر اليهم كمجرمين، إن القتل المعنوي يستهدف تقوية إجراءات الوقاية من الفساد، وقتل الأفكار الفاسدة في مهدها: في أذهان المسؤولين وعقولهم وقلوبهم. وهو أسلوب مقصود في قانون العقوبات الاسلامي نجده ماثلاً في عقوبة السارق الذي تقطع يده ويبقى حياَ يتجول بين الناس بید مقطوعة تذكّر كل من يفكر في الإقدام على سرقة. وتتجلى في عقوبة الزاني والزانية اللذين ينبغي أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وما يؤدي إليه ذلك الشهود العلني من القتل المعنوي وبقاء العبرة ماثلة كلما ظهر شخص المذنب أمام الناس، وكلما ورد ذكره في وسائل الإعلام. عبر عنه عليه السلام بقوله: ((نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلَّدته عار التهمة)) وهي جميعاً تهدف إلى هتك حرمته وإسقاطه في أعين الناس وتعني القتل المعنوي الكامل.

12 - التقاء بالمراجعين وعامة الناس: فقد ثبّت الإمام علي عليه السلام ذلك في عهده إلى مالك الأشتر حين أمره بفتح أبوابه للعامة لسماع شكاواهم، كما أمره أن يبين للناس عذره فيما لم يتمكن من تحقيقه من طلباتهم . فحول فتح الابواب للعامة قال عليه السلام: ((واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ

ص: 146

وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ)). المشكلة لا تنشأ أحياناً من عدم رغبة المسؤول بسماع الشكاوى، بل لعجزه عن وضع قالب تنظيمي للتعامل مع هذه الشكاوى على مستوى تسلّمها ودراستها والتحقق من صحة وقانونية ما فيها ثم تحقیق طلب المشتكي أو إبلاغه بسبب عدم تحقيقه. فكثير من المسؤولين يشعر أن فتح باب الشكاوى يؤدي إلى مضيعة الوقت واستهلاك الزمن في قضايا معروفة النتيجة، ولذلك يكف عن التفكير في هذا الموضوع. وهذا خطأ فاحش له عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة.

13 - قضاء حوائج الناس وتقديم الخدمات: فمن أكثر حالات النقمة بحقٍّ المسولين هي أثر عرقلة غير قانونية يقوم بها الموظف عمداً أو سهو. وسواء كان انزعاج المراجع بحق أو بغير حق، فإن المسؤول المسلم مكلف بإرضاء المراجع إما بقضاء حاجته، وإما بتوضيح سبب عدم قضائها لكي يُعذر المراجِعُ المسؤولَ ولا يعود ناقماً أو متوهماً تقصير المسؤول بحقه. وليس في توضيح عذر المسؤول للمواطن أي انتقاص من قدر المسؤول، ولا تقليلٌ من شأنه، فالتفاهم مع المراجع وتوضيح سبب عدم إنجاز معاملته - فضلاً عن كونه ممارسة أخلاقية راقية - هو واجب المسؤول في الدولة العصرية وفي الدولة الإسلامية، وحول ضرورة توضیح أسباب عدم قضاء بعض حوائجهم قال: ((وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ)) ويعلل الإمام عليه السلام أمره ذلك بقوله: ((واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ)). أي أن الإعذار وتوضيح الأسباب يحقق هدفين: الأول: منع السخط الشعبي الذي يتولد تدريجياً وبصورة تراكمية من عدم قضاء حوائج بعض الناس. الثاني: التربية الأخلاقية للمسؤول نفسه لوقايته من التكبر

ص: 147

والغرور الناشئ من المنصب ومن الاحتجاب عن الناس (18).

14 - التعامل بلعطف مع الرعية: اذ يقول علية السلام: (ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالاً على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك من واساهم في معونته، و أفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّی یکون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدو، فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية)(19)

ثانياً - الإصلاح الاقتصادي:

سعى الامام علي علية السلام إلى تأسيس دولة على مبادئ العدالة واحترام الإنسان واجراء مجموعة من الاصلاحات الاقتصادية تمثلت في:

1 - المساواة أمام القانون: منع الامام شرعية الامتيازات التي يحصل عليها أقرباء المسولين لا لشيء إلا لكونهم أقرباء المسؤول. ويمكن الاستشهاد بحادثة حصلت مع عقیل ابن أبي طالب اخو الامام عندما طلب منه زيادة حصة في بيت المال أكثر مما أخذسائر الناس، فلما وعظه وردّه لم يتعظ ولم يكفّ عن الطلب فقام علية السلام بإحماء حدیده وتقريبها من يده تذكيراً له بالعقاب الأخروي الذي سيطاله لو أخذ من بيت المال ما لا يستحقه. فلا ينبغي لأقرباء المسؤول أن يتم تميزهم عن على باقي المواطنين في الحقوق.

ص: 148

2 - إلغاء التمايز الطبقي: لقد عالج الامام مشكلة تكدس الثروات بيد فئة معينة يثرون على حساب العامة، وإيقاف المزيد من اللامسئولية والانحراف، ساد في العهد الذي سبق حكم الإمام تمایز طبقي في توزيع الثروة من بيت المال، ففي عهد عمر بن الخطاب نشأت في الإسلام طبقية، مبنية على أساس القرب والسابقة، والصحبة مثل بين المهاجرين والأنصار والدخول في الإسلام وغيرها، وقد أعطيت امتیازات (مادية ومعنوية)، وكان هناك تفاوت في العطاء، ما بين 12 ألف درهم وهي حصة اعلى طبقاتها و 200 درهم وهي حصة ادنی الطبقات، ومن نتائج هذا التصرف تكدس المال لدى فئة خاصة، بينما كانت عامة الناس فقراء، وفي عهد عثمان بن عفان زادت تلك الطبقات على أساس القرب من ولاه الحكم(20)، فقد كانت هناك الأرض التي جعلها عمر بن الخطاب ملکا خاصاً لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته، حتى أصبح الناس قسمين، قسم في عداد الأثرياء وما فوق ذلك، وآخرون لا يرتفعون عن مستوى الفقر كثيراً، حتى تسبَّبت هذه السياسة في استثراء وتفاوت طبقي خطير.

ولما جاء الامام علي (عليه السلام) إلى الحكم كان موقفه حازماً بالغاء على هذه العقود، حيث أحدث الامام علي (عليه السلام) تغييراً ثورياً لعله كان أخطر التغييرات الثورية التي قررها، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى على عهد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك أن النظام الذي كان معمولاً به من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بالعطاء (هو نظام قسمة الأموال العامة بين الناس بالمساواة، سواء أكانوا جنودام عامة الناس) وهذا كان قد ألغاه عمر بن الخطاب واستبدله بنظام التفضيل. وتزايد

ص: 149

التمايز في العطاء كثيرا في عهد عثمان بن عفان، مما ادى الى زيادة التفاوت، وعندما تولى الامام علي الخلافة قرر التوزيع بنظام العطاء بالتساوي، فقد قام بمصادرة كل ما اعطاء الحكام السابقين الى المقربين والاقارب من اراضي واموال اخذ من بیت المال على اساس التفضيل بغير حق، ثم اعاد و توزیع تلك الثروة بشكل عادل، وإلغاء التصنيف الطبقي للناس، ورفض أن يعترف أو يقر التغييرات «التصرفات العقارية» التي حدثت في هذه الأرض والعودة إلى نظام المساواة(21). كان الامام صريح في الغاء الامتيازات، اذ فقال عليه أفضل الصلاة والسلام:

(ایها الناس ألا لا يقولنَّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتَّخذوا الوصائف المرققة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينتقمون ذلك ویستنکرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا)(1).

ركز الامام في اصلاحاته على لغاء الطبقية والتفاوت بين ابناء المجتمع التي تعد احد اسباب ضعف المجتمع.

3 - تغير في السوسيولوجيا السياسية: والتي تعني العلاقة بين السياسة والمجتمع، وذلك من خلال تحديد الفاعلين في المجتمع سواء أكانوا افراد او مجموعات مثل الشخصيات المؤثرة عشائرية او مالية أو قومية او احزاب او اختيار الأقارب، ومن ثم يشكلون البنى الاجتماعية في تثبيت السلطة، وتحقيق اهدافهم المشتركة،(22) فالدولة تمتلك السلطة والقرار والقوانين، وتحتاج الى طبقة معينة من المجتمع يتم اختيارها على اساس فکر وقناعة ومصالح مسؤولين الدولة، وهذه الطبقة الاجتماعية ترغب وتسعى الى التقرب من السلطة لتحقيق مصالحها. وبالتالي هناك تفاعل مشترك بين الجانبين. ويشكلون مركز قوة الدولة ومصالحها. وعادة

ص: 150

ما يكون هذه الطبقة المنتفعة المختارة قلة في المجتمع اذ تجني فائدة من الدولة والسلطة، وبقية أفراد المجتمع مهمشين في فقر مدقع.

لقد غير الامام علي في اصلاحاته جميع امتیازات الطبقة المقربة من السلطة وصادر اموالهم و ارضهم التي اعطيت بغير وجه حق، ونتيجة لهذا الاجراءات واجه الإمام معارضة شديدة من أصحاب الامتيازات والمنحرفون والطامعون بالسلطة الذين كانوا يحصلون على نظام التفضيل مدة طويلة بحدود 25 سنة، مما ركز في نفوس هذه الطبقة سيطرتها في المجتمع، فما كان من هؤلاء إلا ان شكلوا خطا معارض الإصلاحات الامام، تمثلت في الامتناع عن مبايعته، والذهاب الى الشام والانظمام الى جیش معاوية. يثيرون المشاكل والفتن والحروب (صفين و النهروان والجمل) خلال اربع سنوات وتسع اشهر التي حكمها الامام، ان فلسفة الامام هي ان المهاجرين والأنصار دخل والى الاسلام ليس على اساس العطاء وانما طلب ثواب الله سبحانه وهذا سيكون في الآخرة وليس في الدنيا، فالجميع عباد الله والمال مال الله يقسم بالتسوي ولا فضل لاحد على احد.

رفض الامام الكسب بالسلطة على حساب افراد المجتمع الأخرى، فافراد المجتمع جميعهم سواء.

وعندما طلب منه بعض اصحابه أن يميز في العطاء ويعطي الأموال إلى الذين يخشى منهم العداء، لكسب ولائهم ومودتهم، ومنعهم من الفرار الى معاوية، رفض الامام ان يطلب النصر بالظلم او ياخذ من المال او يقترب منه، مدى الدهر (ما سمر سمير). فقال علية السلام: (أَتَأْمرونِّي أَن أَطْلب النَّصر بِالْجور، فيمن ولِّيت عَليه، واللهِ لا أَطور به ما سمر سمير، وما أَم نَجم في السماء نَجمًا، لو كَان الْمالُ لي لَسويت بيَنهم، فكيف وإِنَّما الْمالُ مالُ اللهِ لهم.

ص: 151

ثم قال (عليه السلام): (أَلا وإِن إِعطَاء الْمالِ في غيرِ حقِّه تَبذير و إِسراف، وهو يرفَع صاحبه في الدْنيا ويضعه في الاخرة، ويكْرِمه في النَّاس ويهيُنه عنْد اللهِ، وَلم يضع امرؤٌ ماله في غير حق هو عنْد غيرِ أَهله إِلاَّ حرمه اللهُ شكرهم وكَانِ لِغيرِه ودهم)(23).

3 - العدالة في صرف الانفقات الاجتماعي: كانت سياسة الامام لا يفضل شریف على مشروف ولا عربي على اعجمي، فلما ظفر امير المؤمنين يوم الجمل دخل بیت المال بالبصرة، فلما رأى ما فيها من اموال قال غري غيري، فامر بتقسيمها بالعدل بين اصحابه خمسمائة خمسمائة، وكانت ستة الاف درهم والناس اثنی عشر الفا. واخذ الامام خمسمائة درهم کواد منهم، وثم اعطاء لشخص اخر طلب منه ذلك. وهنا يساوي خليفة المسلمين نفسه مع جندي من جنوده(24).

وقد جاءت سيدة قريشية الى المسجد الكوفة ماسکه بامرأة أعجمية تساوي مرتبها مع مرتب هذه السيدة، واخذت تصيح امن العدل یا بن ابي طالب تساوي بيني وبين هذه الأعجمية، فاخذ الامام قبضة من التراب، وجعل يقلبها بيدة ويقول: لم يكن بعض هذا التراب افضل من بعض(25).

ولمَّا نودي لقبض الحقوق، قال الإمام عليٌّ عليه السلام لعبيد الله بن أبي رافع کاتبه -: «إبدأ بالمهاجرين فناديهم، وأعطِ كلَّ رجلٍ ممَّن حضر ثلاثة دنانير، ثُمَّ ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن حضر من الناس كلُّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك»! و تخلَّف يومذاك رجال منهم: طلحة، والزبير، وعبدالله بن عمر، وسعد بن العاص، ومروان بن الحكم، قد عزَّ عليهم أن يكونوا كغيرهم من الموالي والعبيد! هناك خطب الإمام عليٌّ عليه السلام مرَّةً أُخرى قال فيه: «هذا كتاب الله بين

ص: 152

أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلك الا جاهل عانَدَ عن الحقِّ، منکر، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» ثُمَّ صاح بأعلى صوته ««أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ» و أتمنُّون على الله ورسوله بإسلامكم؟! (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(2).

ومن مواقف عدله عليه السلام: حرصه على تقسيم المال فور وروده إليه على الناس بالتساوي بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يأخذ للمرافق العامة، ولم يكن يستبيح لنفسه أن يأخذ من هذا المال إلا مثلما يعطي غيره من الناس، كما أنه كان يعطي معارضيه من الخوارج من العطاء مثلما يعطي غيرهم، وهذا قبل سفكهم للدماء، واعتدائهم على الناس.

4 - منع الاحتكار والتلاعب في الاسواق: وهي من الوسائل التي تضر بالاقتصاد وذات مردود سلبي على الناس، هي الاحتكار ولم تبي الشرعية الاسلامية الاحتكار، اذ يقوم بعض التجار المستغليين بسلوك خاطئ بخزن الطعام ونحوه عن الناس ولا يبيعونه إلا بأثمان عالية، مما يؤدي الى ثرى طبقة على حساب بقية الطبقات، فقد جاء في عهد الامام علي لمالك الأشتر (رضي الله عنه) (واعَلم مع ذلِك أَن في كثير مْنهم ضيقًا فاحشًا، و شحًا قِبيحًا، واحتكاراً لِلْمَنافع، وتحکُّمًا في اْلبِياعات، وذلِك باب مضرة لِلْعامة، وعيب عَلى اْلولاة، فامَنع من الاحتكار، فإِن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنع منْه)(26).

5 - مراقبة الأسعار: امر امير المؤمنين بمراقبة الأسعار والحد من التلاعب فيها و بمحاسبة المحتكرين فبعد عدم أخذهم النصيحة والجشع في رفع الأسعار على ان لا تتجاوز العقوبة حد العدل. وذلك قوله:) ولْيكن اْلبيع بيعًا سمحًا: بموازِين

ص: 153

عدل، وأَسعار لا تجحف بِالْفَريَقينِ من الْبائِع واْلمبَتاع، فمن قَارف (أي خالط) حكْرًة )الاحتکار) بعد نهيك إِياه فَنکِّلْ، وعاقب في غيرِ إِسراف)(27).

حرص أمير المؤمنين علي عليه السلام على تفقد أحوال المتعاملين في السوق وحملهم على التعامل بالشرع الحنيف، وقد ثبت أن عليًا عليه السلام كان شديد العناية بالاحتساب في مجال السوق، فعن الحر بن جرموز المرادي عن أبيه قال: رأيت عليّ بن أبي طالب عليه السلام يخرج من القصر وعليه قطريتان، إزاره إلى نصف الساق، ورادؤه مشمر قريبًا منه، ومعه الدرة يمشي في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان. وكان عليّ عليه السلام يدخل السوق وبيده الدرة، وعليه عباء ويقول: يا أيها التجار، خذوا الحق، وأعطوا الحق تَسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره. وقال عليه السلام: من اتجر قبل أن يتفقه في الدين فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم، ثم ارتطم(28).

6 - تنظيم إيرادات الدولة: تعتمد الدولة على فرض الضرائب الثابتة (الخمس والزكاة) تفقد أمر الخراج (الضرائب) مما يصلح أهله، لأنه مهم لحياة الناس. ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عماله على الخراج (الضرائب): أما بعد، فإِن من لم يحذر ماهو صائر إِليه لم يقدم لِنفْسه ما يحرزها. واعلموا أن ما كلِّفُتم يسير، وأن ثوابه كثير، ولو لم يكن فيما نهى اللهُ عنْه من الْبغْي والْعدوان عقاب يخاف الكان في ثواب اجتنابه ما لا عذْر في ترك طلبِه. فأنْصُفوا النّاس من أنفُسكم، واصبِروا لحِوائِجِهِم، فإِنّكم خزان(يخزنون الأموال) الرعية، و وكلاء الامة، وسفَراء الاْئِمة.

7 - رفع الضرائب عن كواهل الطبقة الفقيرة الضعيفة، ممن لا تملك ضرورة ما تحتاج الية من زاد او کساء او ادادة عمل(29)، ومن ذلك ما جاء في كتابه (و لا

ص: 154

تحسموا أَحدًا عن حاجته، ولاَ تحِبسوه عن طلبته، و لا تِبيعن لِلنَّاس في اْلخراج كسوَة شَتاء ولا صيف، ولا دابة يعَتمُلون عَليها، ولا عبدًا، و لا تَضرِبن أحدًا سوطًا لمِكان درهم، ولا تَمسن مالَ أَحد من النَّاس، مصلٍّ ولا معاهد، إلاَّ أَنت جدوا فرسًا أو سلاَحًا يعدی به عَلى أَهلِ الإسلام، فَإِنَّه لا يْنبغي لِلْمسلِم أَن يدع ذلِك في أَيدي أَعداء الإسلام، فَي كون شوكةً عَليه).(30) يؤكد الامام على جامعين الضرائب (الخراج) عدم منع الناس من احتياجاتهم الأساسية وكسوتهم في فصول السنة أو الدابة التي يعتمد عليها في الزراعة وحمل الأثقال، ومنع ضرب الناس من اجل الأموال، كذلك منع اخذ أموال الناس بالغصب سواء كانوا مسلمين او ذمين اذ لا بد من احترام عهدة.

8 - العدل في فرض الضرائب: واوصى عليه السلام زیاد بن أبيه عندما ولاه على فارس، بالعدل وعدم زيادة الخراج ورفع الضرائب وحذره من الشدة في غير حق (اْلعسف) لانها تؤدي الى العداوة والكرة و الميل عن العدل إلى الظلم (واْلحيف) يؤدي إلى التمرد وحمل السلاح. اذ يوصي عليه السلام): اسَتعملِ اْلعدلَ، واحَذرِ اْلعسف واْلحيف، فَإِن اْلعسف يعود بالجلاء، واْلحيف يدعو إِلى السيف).(31) 9 - سك النقود: وهو ما يسمى بالاصدار النقدي الجديد ويعد من وسائل التمويل المهمة، والقوة المالية للدولة كونها تعطي صفة الاستقلالية للدولة، وقد قام الامام علي لاول مرة في تاريخ الاسلام بسك النقود وجعل للمسلمين نقودا خاصة بهم، فقد كان في زمن الرسول يتداولون الدنانير الذهبية و الدراهم الفضية التي كانت تاتي من الدولتين البيزنطية والساسانية، ولم يحدث تغيير على النقود في عهد أبي بكر، وعند استلام عمر بن الخطاب اضاف الى النقود الفضة الساسانية العبارات العربية منها (بسم الله)، ولم يحدث تغير في عثمان بن عفان(32)

ص: 155

10 - استصلاح الأراضي وتوفير العمل بتهيئة وسائلة: فقد ورد في نصائح الإمام في النهج: (وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِماَرَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الَخَرَاجِ،لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِماَرَةِ، وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِماَرَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ، ولم يستقم امره الا قليلا، وانما يؤتي خراب الأرض من اعواز اهلها) فقد كانت طبقة الفلاحين تحتل مكانة خاصة لدى الإمام ع لأنها تشكل الغالبية المطلقة من السكان. وقد فضل اعمارة الأرض على جباية الضرائب وفرض المكوس.

11 - تنمية مصادر الإنتاج: لقد ركز الامام على تطوير المصدر الاساسي للانتاج وهي الموارد الطبيعة بما تمتلكه من ارض ومياه و موارد اخرى، فمصادر الانتاج في الاقتصاد هي (الارض وراس المال والعمل والتنظيم)، ويعد الكثير من المفكرين ومنهم السيد محمد باقر الصدر، ان الطبيعة (الارض بما تملكه من غابات وارض زراعية ومعادن و مياة) هي المصدر الاول والاساسي لكل انتاج، وذلك لان التنظيم يدرج ضمن العمل، وان راس المال يمثل ثروة سبق انتاجها، والعمل هو عنصر معنوي وليس ثروة(33). ومن ثم تعد الأرض عنصر أساسي للإنتاج.

فقد ركز أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على مبدأ تنمية الإنتاج واستغلال الطبيعة إلى أقصى حد، مع التأكيد على العدالة في التوزيع، على ان تمارس الدولة تنفيذها ضمن تلك الحدود. وقد حدد الإمام علي (عليه السلام) أسس تطبيق مبدأ تنمية الإنتاج في ظل الدولة الإسلامية في كتابه الى واليه على مصر محمد بن أبي بكر، وأمره أن يقرأه على أهل مصر، والعمل بمحتواه والسير على تطبيقه. وقد كتب الإمام:

(یا عباد الله إن المتقين حازوا عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز

ص: 156

وجل: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون سكنوا الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبان ما یشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسکنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، وهم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق. (من كان له عقل ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)(34) وضح الامام علي (عليه السلام) في هذا الكتاب التاريخي، نظرية المتقين في نشاط الانسان وحياته والعمل وللاستثمار في الأرض، ولذا أمر بتطبيق ما في الكتاب، ورسم سياسته في ضوء ما جاء فيه من وصايا وتعلیمات، وان تستغل الموارد المادية وتحقق نمو الإنتاج واستثمار الطبيعة إلى أقصى حد، وتنمية الثروة بوصفها هدفا من أهداف مجتمع المتقين، تنمية الثروة ليست هدفا إلا بمقدار ما تنعكس في حياة الناس ومعيشتهم. وأما حين تنمو الثروة بشكل منفصل عن حياة الناس، ويكون الجمهور في خدمة هذه التنمية لا التنمية في خدمة الجمهور، فسوف تكتسب الثروة نوعا من الصنمية.

12 - المالكية الخاصة: بالرغم من محاربته للطبقية الا انه لم يلغي الملكية الخاصة وان مصدر الملكية الخاصة هو العمل والنشاط واعطاء حرية في العمل، واستثمار الثروات الطبيعية مثل حفر الآبار واحياء الأرض، وان يكون مجال التملك متناسبا مع الجهد المبذول، وان لا يؤدي التملك الخاص الى أضرار عامة. ولم يترك الامام التصرف بالاموال الخاصة دون توجيه بل حدد اوجه الأنفاق، کون الملكية ملكية مقيدة ومن هذه الأوجه: يقول عليه السلام (فَمَنْ آتَاهُ اللهَّ مَالا

ص: 157

فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ فِيهِ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ فِيهِ الْعَانِيَ وَالأَسِيرَ وليعط منه اَلْفُقَرَاءَ وَالْغارمَ، وَلْيَصْبِرْ نفسه عَلىَ الحقوق والنَّوائِبَ بتغاء الثواب، فَإِنَّ بِهَذِهِ الْخِصَالِ يَنَالُ كَرَمَ الدُّنْيَا وَشَرَفَ الآخِرَةِ(35). وعليه فان اوجه التصرف في المال هي(36):

أ - انفاق المال على العائلة: انفاق على الحاجات الأساسية الضرورية مثل الماكل والملبس والمسكن.

ب - انفاق المال على الاقارب والجيران لزيادة التراحم والمحبة بينهم.

ت - الانفاق المال على الضيافة واکرام الضيف.

ث - الانفاق المال من اجل فك الاسير والعاني، وعتق العبيد.

ج - انفاق المال على الفقير.

ح - انفاق المال على الغارم أي المدين الذي لا يستطيع أن يسدد ما عليه من ديون، وهنا أوجب الامام مساعدته حتى لا تهان كرامة الانسان.

خ - اعطاء حق الله في ماله من الخمس والزكاة وكفارات وغيرها.

13 - الملكية العامة: تعد الملكية العامة وخاصة ملكية الارض كونها المصدر الاساسي للثروة من اهم موارد الدولة، وهناك تطبيقاتها واضحة في تقرير مبدأ الملكية العامة لهذا النوع من الأرض، ففي عهد عمر بن الخطاب طولب بتقسيم الأرض المفتوحة بين المحاربين من الجيش الإسلامي، على أساس مبدأ الملكية الخاصة، فاستشار الصحابة، فأشار عليه علي عليه السلام بعدم التقسيم، وقال له معاذ بن جبل: (إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فقضى عمر بتطبيق

ص: 158

مبدأ الملكية العامة(37)، وقد أسلم دهقان في عهد حكم علي (عليه السلام)، فقام الإمام (عليه الصلاة والسلام: (أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا(38)، فالممتلكات العامة وخاصة الأرض تكون ملكا عاما للدولة، ولا يباح لأي فرد تملكها والاختصاص بها، وبالتالي يعد لكل مسلم حق في الأرض، بوصفه جزءا من الأمة، ولا يتلقى نصيب أقربائه بالوراثة، كما تنقطع صلة المستأجر بالأرض عند انتهاء مدة الإجارة، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك، و يعد ولي الأمر هو المسؤول عن رعاية الأرض واستثارها، وفرض الخارج عليها عند تسليمها للمزارعين(39) 14 - الاهتمام بقطاع التجارة والصناعة: فمن النصوص التي تعكس هذا المفهوم، ما جاء في كتاب علي عليه السلام إلى واليه على مصر، مالك الأشتر، وهو يضع له برنامج العمل، ويحدد له مفاهيم الإسلام (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله (المتردد به بين البلدان.) والمترفق) المكتسب) ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق (ما ينتفع به من الادوات والانية)، وجلابها من المباعد والمطارح (الأماكن البعيدة)، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها (تلك المرافق من تلك الاماكن) ولا يجترون عليها، فإِنَّه مسلْم (أي أنهم مسالمون)، لا تُخَاف بائِقَتُه (الداهية)، وصلْح لا تخشى غائِلُته، وَتَفقَّد أُمورهم بحضرتك وفي حواشي بِلادك(40).

وواضح من هذا النص أن فئة التجار جعلت في صف واحد مع ذوي الصناعات، أي المنتجين، وأطلق عليهم جميعا أنهم مواد المنافع، فالتاجر يخلق منفعة كما يخلق

ص: 159

الصانع وعقب ذلك بشرح المنافع التي يخلقها التجار، والعمليات التي يمارسونها في جلب المال من المباعد والمطارح، ومن حيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها. فالتجارة في نظر الإسلام نوع من الإنتاج والعمل المثمر، ومكاسبها إنما هي في الأصل نتيجة لذلك.

15 - محاربة الفقر: ويمكن توضيح مفهوم الفقر(poverty) عند الإسلام بشكل عام فالفقير هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة، يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية وحاجاته الکمالية، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد أو المستوى المعيشي في المجتمع الإسلامي(41). ويعرف الفقر بحالة الحرمان المادي الذي تتجلى أهم مظاهرة في انخفاض مستوى الدخل والاحتياجات الأساسية من الغذاء وما يرتبط بها من تدني الحالة الصحية، والمستوى التعليمي ومستوى السكن الملائم(42) أن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، يشير الامام علي أن الفقر والحرمان ليس نابعا من الطبيعة نفسها، وإنما هو نتيجة سوء التوزيع والانحراف عن العلاقات الصالحة التي يجب أن تربط الأغنياء بالفقراء، فيقول علية السلام (فما جاع فقير ألا بما متع به غني) والله تعالى سائلهم عن ذلك، يعالج الفقر من خلال اعادة توزيع الضرائب الثابتة (الزكاة، والخمس) التي تؤدي إلى التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة. ولها آثار ايجابية كبيرة في القضاء على الفقر، فقد كانت صفة الالتزام هي سر نجاح الامام علي في هذا الجانب، وتوزيع اموال المسلمين عليهم، ففي خلافة امير المؤمنين: كان يوزع جميع اموال بیت المال على اصحابها، ثم يمتلئ هذا البيت مجددا ويصرفه في مجالاته ايضا، فلا يبقى محتاج في بلا المسلمين، فقد روي ان الامام علي (عليه السلام) عندما ينتهي من تقسيم ما في بيت المال بين المسلمين، یامر بكنسه،

ص: 160

وينضحة بالماء، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يقول: اشهدلي يوم القيامة)(43) وكانت نظرية الامام بتوزيع جميع الاموال على المحتاجين، بحيث لا يبقی در هما وحدا ولا دينارا واحدا في بيت المال، فقد حصلت الدولة الاسلامية على اموال كثيرة في عهد عمر بن الخطاب، فأشار الإمام علي فقال(قسم كل سنة ما اجتمع اليك من المال و لا تمسك منه شيئا)(44) وهذه قاعدة مالية تؤكد ضرورة توزيع اموال المسلمين عليهم ولا يبقى منها شي.

16 - عدم الاسراف والتبذير: بعد تسليم الامام الخلافة بدأ منهجه ضد الاسراف، ومن كتابه الى واليه في البصرة، يدعوه الى الاقتصاد في المال فيقول (فدع الاسراف مقتصدا، واذكر في اليوم غدا، وامسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل اليوم حاجتك)(45) 17 - تنظيم الخراج: يعني الخراج اجر الارض وما يسمى ريع الارض او ايجارها وهو مبلغ تتقاضاه الدولة ممن يستثمرون الأرض ويزرعونها ومن ثم يصرف في مصالح المسلمين كافة، فقد كانت اجراءات الامام عليه السلام في تنظيم الخراج بان يتم الحصول عليها مع مراعات والاهتمام بمشاكل المنتجين مثل الآفات الزراعية او قلة المياه او فساد البذور او غرق الأرض، فيامر الامام بان يكون الخراج متناسبا مع ظروف الانتاج، فيقلل عليهم الريع (الخراج) في اوقات الازمات حتى يحققوا أرباح واصلاح لانهم مصدر تعمير البلاد، مما يؤدي الى فرحهم وسعادتهم، لنظرتهم أن مالك الارض انصفهم وكان عادل معهم في تحمل جزء من الخسارة، مما يؤدي الى زيادة حافزهم للعمل وزيادة الانتاج، ويحدث العكس فعدم دعم المزارعين يؤدي إلى خسارتهم ومن ثم تركهم الارض و خرابها، فيقول عليه السلام: (فإِن شكوا ثقلاً أو علّة، أو اْنقطاع شرب أو بالّة، أو إِحالة

ص: 161

أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خفّفْت عْنهم بما ترجو أن يصُلح به أمرهم، ولا يثْقلن عليك شيء خفّفْت به المْؤُونة عْنهم، فإِنّه ذُخْر یعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابِك حسن ثنائِهم، وتبجحك باستفاضة الْعدلِ فيهم، معتمدً افضل قوتهم، بما ذخرت عْندهم من إِجمامك لهم، والثِّقة مْنهم بما عودتهم من عدلِك عليهم في رفْقك بهم، فربما حدث من الاُمور ما إِذا عولْت فيه عليهم من بعد احتمُلوه طيبةً أنْفُسهم به، فإِن اْلعمران محتمل ما حمْلته، وإِنّما يؤْتی خراب الارضِ من إِعواز أهلها، إِنّما يعوِز أهُلها لاشْراف أنْفسِ الْولاة على الْجمع، وسوء ظنِّهم باْلبقاء، وقلّة انْتفاعهم بِالْعبر)(46) يمكن ان نستفيد من هذه النظرية في الوقت الحالي بان نراعي الجانب النفسي والانساني للمنتجين، وعدم التركيز على الجانب المادي، كما يمكن ان تكون ایرادات الدولة حافر لزيادة الانتاج والانتعاش الاقتصادي او فشل المشاريع وغلقها من خلال خسارة المنتجين، فضلا عن جانب المرونة في فرض الضرائب او الريع بما يتناسب مع ظروف الانتاج واهداف الدولة الاقتصادية، فحالة التسامح والرفق بالناس حالة جيدة تنعكس بشكل ايجابي على المنتجين، على العكس من حالة الشدة والضرب والتهديد والتخويف التي تؤدي الى الاساءة الى كرامة الانسان.

نستنتج مما تقدم ان الامام وضع نظام اقتصادي قائم على الشريعة الاسلامية فلا اقطاع من الاموال الشعب لفئة معينة، ولا تلاعب بالاسواق عن طريق الاحتکار والاستغلال والغش........

ص: 162

ثالثاً - الإصلاح الاجتماعي:

حدد الامام علي علية السلام الأسس التي يقوم عليه المجتمع في دولته وفقا لما كان في زمن الرسول وهو المجتمع الإسلامي المبني على القران وسنة الرسول، ومن ابرز الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع هي:

1 - تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية: وهي من المبدأ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، بمعنى المساواة بين أفراد المجتمع وعدم التفريق بينهم بسبب الجنس واللغة او اللون او الثروة(47)، قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقکم من نفس واحدة...(48) وهذا تجلى في أولى خطواته (عليه السلام) بإلغاء القيم العشائرية والقضاء على النزعة القبلية السائدة في المجتمع، والعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة القائمة على أساس المساواة العامة الشاملة، فلا تفاضل بين قوم وقوم وجنس وجنس، ولا شأن أبداً للعرق أو اللون أو العمر أو أي امتیاز آخر من الامتيازات العرقية التي كان يتميز بها الناس، ولا تصنيف للطبقات والفئات الاجتماعية، ولا تنابز بالألقاب، ولا تفاخر بالزينة والأموال والأولاد.

2 - الضمان او التكافل الاجتماعي: ويعني ان الاسلام يكفل لكل فرد في المجتمع سد حاجاته الاساسية، اذ لا يجوز ان يبقى محتاج في المجتمع عندئذ يتحقق مبدأ التوازن الاجتماعي والقضاء على الطبقية في المجتمع، ورعاية الطبقة السفلى من المجتمع، وتضم المساكين والمحتاجين وشديدو الفقر، وذوي العاهات أو الأمراض التي تمنعهم من الكسب، ويوصي الإمام (عليه السلام) بهذه الطبقة، ففيهم السائل، والمتعرض للعطاء بلا سؤال.

ص: 163

وهناك الكثير من النصوص التشريعية التي تدل على المسؤولية المباشرة للدولة في الضمان الاجتماعي، وقد اكد الإمام علي على هذه المسؤولية، وعلى ان الضمان هنا ضمان إعالة، أي ضمان مستوى الكفاية من المعيشة، وجاء في كتابه إلى واليه على مصر: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس (شدة الفقر) والزمني (أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب) فإن في هذه الطبقة قانعا (السائل) ومعترا (المتعرض للعطاء بلا سؤال): واحتفظ لله ما استحفظك) طلب منك حفظه) من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات (ثمرات) صوافي (أرض الغنيمة.) الإسلام في كل بلد. فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر (طغيان بالنعمة)، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون (تكره أن تنظر اليه احتقارًا وازدرا (و تحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك) (أي اجعل للبحث عنهم أشخاصا يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه. فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم. وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه اليه. وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه (49)) فهذه النصوص تقرر بكل وضوح مبدأ الضمان الاجتماعي، وتشرح المسؤولية المباشرة للدولة في إعالة الفرد وتوفير حد الكفاية له. هذا هو مبدأ الضمان الاجتماعي، الذي تعد الدولة مسؤولة بصورة مباشرة عن تطبيقه، وممارسته في المجتمع الإسلامي. فمن مسوؤلية الدولة أن تهئ له فرصة العمل في حدود صلاحيتها. ومن لم تتح له

ص: 164

فرصة العمل، أو كان عاجزا عنه.. فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثروات الطبيعة، بتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم.(50) 3 - احترام شخصية الانسان وتكريم الرعية ورحمتهم، فشخصية الانسان محترمة وكرامته مضمونه في المجتمع الاسلامي، اذ جاءت في الآية الكريمة «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»، اذ يوصي الامام مالك الاشتر (وأَشعر قلْبك الرحمة لِلرعية، والْمحبة لهم، واللُّطف بهم، ولا تَكُونَن عَليهم سبعًا ضارِیًا تغْتنم أَكَلهم، فإِنَّهم صنْفَان: إِما أَخلك في الدين، وإما نَظير لك في اْلخْلق، يفْرطُ منْهم الزلَلُ، وتعرِض لَهم اْلعَللُ، يؤْتى على أَيدي هم في اَلعمد والخطأ، فأَعطهِم من عفْوك وصفْحك مثْلَ الَّذي تحب أَن يعطيك اللهُ من عفْوه وصْفحه، فإِنَّك فوَقهم، ووالِي الامرِ عَليك فوَقك، واللهُ فوق من ولاَّك! وَقد استَکْفَاك أَمرهم، وابَتلاك بهم.(52).

4 - عدم التكبر والعلو على الناس: اذ يوصي مالك الاشتر (إِياك و مساماَة اللهِ في عظمته، والتَّشَبه به في جبروته، فَإِن اللهَ يذلُّ كلَّ جبار، ويهين كلَّ مختال).(54) 5 - عدم الظلم، اذ يقول عليه السلام (ومن ظَلم عباد اللهِ كَان اللهُ خَصمه دون عباده) وليس شيء أدعى إِلى تغيير نعمة اللهِ وتعجيلِ نقْمته من إِقامة على ظْلم، فإِن الله سميع دعوة اْلمظُلومين، وهو لِلظّالِمين بالْمرصاد.

6 - العدالة في التعامل مع الناس: اذ يقول عليه السلام وْليكن أحب الاُمور إِليك أوسطها في اْلحقِّ، وأعمها في اْلعدلِ، وأجمعها لِرضى الرعية، فإن سخْط الْعامة يجحفُ برضى اْلخاصة، وإِن سخْط الْخاصة يغْتفر مع رضى الْعامة. وليس أحد من الرعية، أثقل على اْلوالي مؤُونة في الرخاء، وأقل معونةً له في اْلبلاء، وأکْره

ص: 165

لِلاْنْصاف، وأسأل بالإلحاف (الشدة في السؤال)، وأقلّ شكْرًا عنْد اِلاعطاء، وأبطأ عذْرًا عنْد اْلْمنع، وأَضعف صبرًا عنْد ملمات الدهر من أَهلِ اْلخاصة، وإنَّما عمود الدين، و جماع الْمسلمين، والعدُةِ لِلاعداء، الْعامة من الأمة، فْليكن صغْوك (الميل) لهم، ومیُلك معهم(54).

7 - التعامل مع غير المسلمين في دولة الاسلام: لم يقلل الامام من شان القليات والذمي (الكافر الذي يدفع الجزية ويدخل في ذمة الاسلام) في دولته بل امر في كتابه الى مالك الاشتر (و لا تَمسن مالَ أَحد من النَّاس، مصلٍّ ولا معاهد) وقد ساوی علية السلام بين المصلي والذمي الذي عائد بمعاهدة مع الدولة والتي اوجب الأمام بالوفاء بعهده(55).

8 - ستر عيوب الناس: (وْليكن أَبعد رعيتك مْنك، وأشْنأَهم عْندك، أَطْلَبهم لمِعائِب النَّاس، فإن في النَّاس عیوبًا، اْلوالِي أَحقّ من سَترها، فلا تكْشَفن عما غَاب عنْك منْها، فإنَّما عَليك تَطْهِير ما ظهر لك، واللهُ يحكُم عَلى ما غَاب عْنك، فَاسُتر الْعورَة ما اسَتطعت يسُتر اللهُ منك ما تحب ستْره من رعیتك).(56) 9 - نهی عن الأحقاد وحل جميع عقدها فلا يناسب المسول العمل بالحقد، او بالعداوة أو سماع النمام والمنافق، اذ يقول (عليه السلام) أَطلق عن النَّاس عقْدَة كلِّ حْقد، واْقطع عنْك سبب كلّ وْتر (العداوة)، و تَغَاب (التغافل) عنك لمَّا لا يضح (الماضي) لك، ولا تعجَلن إِلى تَصدیق ساع، فَإِن الساعي (هو النمام بمعائب الناس) غاش، وإِن تشبه بالنَّاصحين.(57)

ص: 166

الإصلاحات السياسية

1 - نقل العاصمة: قام الامام بنقل عاصمة الدولة الاسلامية من الجزيرة العربية إلى الكوفة، وهي حالة من التجديد في حياة الأمة، وفي امكان القيادة: فتغير عاصمة أي دولة يعد من الأمور الثابتة وهذا ما يعكس شجاعة في التغير، ونقل العاصمة الى المكان الافضل من ناية الموارد والأنصار، فقد وصفها بانه ما قصدها جبار بسوء الا انتقم منه بشر انتقام، ومن كلام له (عليه السلام) في ذكر الكوفة: (كأَنَّي بك یا کُوفَة تمدين من الاْديِم) الجلد المدبوغ (، اْلعكاظي (نسبة إلى سوق عكاظ (، تعرکين بِالنَّوازلِ (الشدائد)، وُتركِبين بالزلازلِ، وإِنَّي لاعَلم أَنَّه ما أَراد بك جبار سوءًا إِلاَّ ابَتلاه اللهُ بشاغل، ورماه بَقاتل)(58) 2 - محاربة استغلال النفوذ: من المفيد التعرف معنى استغلال النفوذ، التي تتكون من كلمتين هما: الاستغلال (exploitation) وتعني اخذ غلة الشي او فائدته، والنفوذ (influence) أي نفذ واخترق او المطاع او السلطة، وعليه يكون معني استغلال النفوذ (of influence exploitation) اخذ فائدة السلطة (59) ومن الأمثلة لاستغلال المنصب الرشوة و استغلال الوظيفة العامة وتعيين الأقارب. وقد ذم الإمام (عليه السلام) من يتصدى الى المنصب و الحكم وليس بأهل لذلك المنصب وقد وصفه ببعض الخصال، اذ يقول إِن أَبغض الخَلائِق إلى اللهِ تعالى رجلان وقسمهم الى قسمين هما:

1 - (رجلٌ و کَله اللهُ إِلى نفْسه، فهو جائر عن قصد السِبيلِ، مشْغُوف بِكلام بدعة، ودعاء ضلاَلة، فهو فتْنَة لمنِ افْتَتن به، ضالٌّ عن هدي من كَان قبله، مضلُّ لمِن اْقَتدى به في حياته وبعد وَفاته، حمالٌ خطايا غيره، رهن بخَطيئَته)(60) ص: 167

هذا النموذج من اصحاب المناصب الذي وصفه الامام بانه رجل قد ترکه الله ونفسه فهو منحرف عن الحق، يحب المدح وكلام البدعة حتى بلغ حبه شغاف قلبه، و کلام البِدعة: ما اخترعته الاهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين، فهذا الشخص فتنة في حياته وبعد وَفاته، ويحمل خطاياه و خطایا غيره لا مخرج له منها.

2 - (ورجلٌ قمش جهلا، موضع في جهالِ الأمة، غادر في أَغْباش الفْتَنة، عم بما فيعقْد الهدَنة، قد سماه أَشْباه النَّاس عالمًا وَليس به، بکَّر فَاسَتكْثر من جمع، ما قَلَّ منْه خَير مما كُثر، حتَّى إِذا ارَتوى من ماء آجن، وأكَثر من غيرِ طائِل، جَلس بين النَّاس قاضياً ضامنًا لِتَخْليص ما الَتبس على غيره)(11) اما النموذج الثاني الذي وصفة الإمام فهو يتمسك بالمناصب والسلطة ومتجاهل حكم الله مغرور، ويتصف هذا النموذج بأنه مسارع بالغش والتغرير بجهال الأمة، ولا يتوانى عن الغدر في أي مناسبة وقد وصفه الإمام في) أَغْباش) وهو بقایا ظلمته، حتى لو عقد الاتفاق على الصلح والمسالمة بين الناس، والمشكلة أن هذا الشخص غیر منبوذ في المجتمع لان الشخص الذي يغش ويخدع ويغدر لا يحترمه الناس ويحتقره، إلا ان هذا الشخص على العكس يصفه الجهال من الناس أطلق عليه الإمام (أَشْباه النَّاس) عالما، فهو يتصف بأحسن الصفات وهي العلم، فبعد أن يخادع الناس ويغشهم ويكون عنصر الفساد في الدولة وكأنه يرتوي من الماء الفاسد المتغير اللون والطعم، يجلس بين النَّاس قاضياً ضامنًا يبين ما الَتبس عَلى غيره. واستغلال النفوذ يلحق ضررا بالمصلحة العامة ويخل بمصالح الأفراد في الحصول على الخدمات العامة.

ص: 168

3 - تقسيم الدولة المجتمع إلى طبقات، وهو ما يمثل في الحكومات المعاصرة وزارات أساسية هي:

أ - وزارة الدفاع والداخلية وما يرتبط بهما، ومسؤولتها الدفاع عن مصالح الأمة والوطن الاسلامية والاقتصادية والسياسية، وهي مسؤولية اجتماعية عامة يسال عنها الجميع وهم مكلفون بها تكليفا كفائيا، لذا فرض الله سبحانة فريضة الجهاد وتتحمل الدولة بشكل اساسي هذه المسوؤلية وعلى أفراد الأمة أن يؤازر وها على القيام بهذا الواجب(62) ب - وزارة العدل: وحول القضاء، يذكر (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحکه الخصوم ولا يتادي في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه). وهنا يذكر السمات التي ينبغي لأن يتصف بها الحاكم أو القاضي. فيذكر صفة من بين تلك السمات: أن يتسم الحكم (وكذلك القاضي بالأفضلية، وألا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا يتمادی بالزلة، ولا تشرف نفسه على طمع، الخ.. سیاسته (عليه السلام) في مجال القضاء ومواصفات القضاة(63) حدد(عليه السلام) صفات القاضي بما يلي:

1 - أن يكون ممن لا تضيق به الأمور، ولا تغضبه الخصوم.

2 - أن لا يتادي في الزلّة.

3 - أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا أخطأ.

4 - أن لا تشرف نفسه على طمع.

5 - أن يكون عميق النظر، لا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه.

6- أن يكون حازماً عند اتضاح الحكم.

7 - أن يكون طويل الأناة، لا يضيق بمراجعة الخصم، وصبوراً حتى تتكشف الأمور له.

ص: 169

8 - أن لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، ولا يستميله إغراء.

ت - وزارة المالية ث - وزارة الصناعة ج - وزارة التجارة والزراعة ح - الشؤون الاجتماعية وهي تهدف إلى استصلاح شؤون المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، (واعلم أنّ الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنی ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله له سهمه، ووضع على حدّه فريضة في كتابه أو سنّة نبيه (صلى الله عليه و آله) عهداً منه عندنا محفوظاً.

فالجنود، بإذن الله ، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدّوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.

ثمّ لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمّال والكتّاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.

ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله

ص: 170

لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل)(64)

بناء الجيش:

يعد بناء الجيش والقوات المسّلحة من الأمور الأساسية للحفاظ على الكيان السياسي للدولة والمجتمع بصورةٍ عامةٍ، وقد ركز الإمام علي (عليه السلام (في إصلاحاته على هذا الجانب وانعكاسه وترابطه المهم مع الجانب الاقتصادي. ويمكن توضيح إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) في الجانب العسكري بما يأتي:

1 - حدد المهمة الأساسية للجيش في نظر الإمام في:

أ - الدفاع عن الدولة من خطر الأعداء، فالأُمة تتسّتّر بالجيش في المواقع الخطيرة التي يتعرض فيها الوطن إلى الغزو أو الاعتداء أو السلب والنهب، أو حفظ الأمن العام، وقد وصفة الأمام بالدرع الحصين. فوظيفة الجيش بحسب فکر امير المؤمنين (عليه السلام):) فَالجنُود بِإِذنِ الله حصون الرعِيةِ وزين الولاة وعِز الدينِ وسبلُ الأَمنِ، وَليس تَقُوم الرعِيةُ إِلاَّ بِهِم).

ب - يعد الجيش (زين الولاةِ) أي إن الجيش للوالي أو الحاكم زين وما يزدان به بحيث يشعر الوالي بالمهابة والافتخار وعلو الهامة، فالرؤساء الآن يستعرضون قواتهم دائماً في الساحات العامة وأمام الجماهير، ويبرزون ذلك إعلامياً ليفتخروا وتزداد قوتهم وصلابتهم من خلال الدفع المعنوي الذي يحصلون عليه.

ت - الجيش هو (عِز الدينِ): فما من دولة تقوم وتقوى إلا بقوة جيشها، فقد قامت الدولة الإسلامية في عهد رسول الله (صَلى الله عليه وآله وسّلم) و قویت شوكتها

ص: 171

بذلك النفر المجاهد من أهل بدر، ولولا تلك القوة البسيطة العدد القوية بالإيمان لَما استقام الأمر، فبالجيش يدافع عن مبادئ الدين(65).

ث - ويحدد الإمام وضيفة اخرى للجيش بأنه )سبلُ الأَمنِ (الجيش هو القوة الصائنة التي يكون فيها حِفظ الأمن والنظام في البلد، و تكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الأخطار والأهوال والاستغلال، والمجتمع لا يقوم إلا بهؤلاء المدافعين عن كيان الأُمة (وَليس تَقُوم الرعِيةُ إِلاَّ بِهِم).

2 - أُسلوب تعبئة القوات: ضرورة القيام بالتعبئة العسكرية للجيش في أيام الحرب، يؤكد أن يتقدم لابسين الدروع، وان يتاخر من لا درع له، ويعض الاضراس و اْن عطفوا وأميلوا جانبكم لِتزَلق الرماح ولا تنفذ فيكم أسّنتها. حيث يقول (عليه السلام): (فَقدموا الدارع وأَخِّروا الحاسِر وعضوا على الأَضراسِ؛ فَإِنَّه أَنبي لِلسيوفِ عنِ الهامِ، والَتووا فِي أَطرافِ الرماحِ؛ فَإِنَّه أَمور لِلأَسِنَّةِ، و غُضوا الأَبصار؛ فَإِنَّه أربطُ لِلجأشِ وأَسكن لِلقُلُوبِ، وأَمِيتُوا الأَصوات؛ فَإِنَّه أَطرد لِلَفشلِ، ورایَتکُم فَلا تُمِيلُوها ولا تُخِلُّوها ولا تَجعلُوها إِلاَّ بِأَيدِي شُجعانِکُم).(66) 3 - التجهيز: يأمر الإمام علي بإكمال آلات الحرب والدفاع (اللامة) وتحريك السيوف، والنظرة بغضب للأعداء، والطعن في الجوانب يميناً وشمالاً) الشَّزر)، وفي اطراف السيف) بِالظُّبی (واجعلوا سيوفكم متصلةً بخُطأ أعدائكم (السيوف بِالخُطا)، ويشجعهم على الكر في القتال وعدم الفر، لانها عار ليس على الشخص فقط وانما حتى على أولاده، اذ يقول علية السلام (عليه السلام) : (كمِلُوا اللامة، وَقلقِلُوا السيوف فِي أَغمادِها قَبلَ سلِّها، والحظُوا الخَزر، واطعنُوا الشَّزر، وَنافِحوا بِالظُّبى، وصِلُوا السيوف بِالخُطا، واعَلموا أَنَّکُم بِعينِ الله ومع ابنِ عم رسولِ الله، فَعاوِدوا الكر، واسَتحيوا مِن الَفر، فَإِنَّه عار فِي الأَعَقابِ)(67)

ص: 172

4 - تمويل الجيش: يؤكد الإمام على الميزانية العامة للجيش، وتخصيص المبالغ الكافية لكي يكون الجيش جاهزاً و كاملاً ومسّلحاً تسليحاً قوياً، وبدون المال لا يكون هناك جيشٌ قوي ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه وتُجاهد عدوه و تُصلح به ما فسد من أمرِ الأُمة، (ثُم لا قِوام لِلجنُودِ إِلاَّ بِما يخرِج اللهَّ لَهم مِن الخراجِ الَّذِي يقوون بِهِ عَلى جِهادِ عدوهِم، ويعَتمِدون عَليهِ فِيما يصلِحهم.( ضرورة توفير المال للجنود لصرفه عليهم وعلى أهليهم الذين خّلفوهم في مساكنهم من أولادٍ ونساء، والذين لا يوجد أحد لديهم يعيلهم أو يمدهم بالمال والغذاء، وهذه مسألةٌ لها آثار اجتماعيةٌ ونفسيةٌ عظيمةٌ وضحها الإمام عليه السلام حيث قال: (حتَّى يکُون همهم هماً واحِداً فِي جِهادِ العدو)، فالجندي إذا ما ضمِن المعيشة أو الاستقرار المادي والأمني لأهله من بعده، وعدم وقوعهم في حالة العوز والفاقة، فإِنه لا يلتفت إلى وراءه، وتكون جهته هي جبهته، و همه هو قتال عدوه، وهو معتقد حّتى وإن استشهد فإّنه مطمئن البال، فلا يمكن أن يكون الجندي في ساحة المعركة فكره مشغولٌ بأمورِ عائلته، وقد يترافق مع تلك الأموال سوء معاملة القائد العسكري لجنده، حيث يترك ذلك الآثار السلبية الذي ينتج عنه الفرار وانکسار الجيش وهزيمته أمام العدو(68).

5 - اختيار القائد العسكري: ضرورة وضع المثُلُ العليا في القيادةُ العسكرِية، ويجب أن يتصف من يوّلي أمر الجيش بصفات من أهمها: الشجاع، والأخلاقية العالية، والإيمان العالي بالله، و تكون صورته وأعماله الحافز الأول والرئيسي لإقدام الجندي وبروز شجاعته وتضحيته في سوح القتال، وقد وصفها الإمام علي (عليه السلام) تلك الخصال الطيبة في كلامه: (فَولِّ من جنُودِك أَنصحهم فِي نَفسِك الله ولِرسولِهِ ولإِمامِك وأَنَقاهم جيباً و أَفضَلهم حِلماً، ممِن يبطِئُ عنِ الغضبِ

ص: 173

ويسَترِيح إلى العذرِ ويرأَفُ بِالضعَفاءِ وينبو عَلى الأَقوِياءِ)(69) شعورٍ بالمسؤولية تفرض أن يكون قائد الجيش حاملاً للخصال الحميدة، من الشجاعة المتناهية والصلابة اتجاه الأعداء واللين والرأفة مع جنده في الأوقات التي تحتاج إلى ذلك، و والأنقاء قلباً. فبعد أن يعطي المعالم الشخصية الأخلاقية للقائد يستمر في كلامه، فيطلب أن يكون قادة الجند من المعروفين بأنسابهم الطيبة و أحسابهم المعروفة وكان يقال: (عليكم بذوي الأحساب، فإنهم لم يتكرموا استحيوا(70) 6 - التأكيد على الجانب النفسي للجنود: وضح الإمام علي (عليه السلام (أهمية الجانب النفسي في التعامل مع الجند، و أعطى الجوانب الايجابية للمعاملة الحسنة والآثار السلبية للمواقف السيئة، وأكّد أن عطف القائد ورعايته للجند يبعث الراحة والطمأنينة لديهم، وبالتالي يعود ذلك عليه خيراً حيث يقدم الجند أنفسهم وأرواحهم على أكّفهم، حيث يقول (عليه السلام): (فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك)، وبالتالي فإن الجند سوف يبادلون القائد نفس الحب والحنان والمودة. كذلك حسن الثناء ورفع معنويات الجند، وقد لما لها من أثر فاعلٌ في وضع و نفسية الجند وقادتهم (وواصِل فِي حسنِ الثَّناءِ عَليهِم، وَتعدِیدِ ما أَبَلی ذَوو البلاءِ مِنهم، فَإِن كَثرة الذِّكرِ لحِسنِ أَفعالهِم تَهز الشُّجاع و تُحرض النَّاكِلَ إِن شَاء اللهَّ، ثُم اعرِف لِكُلِّ امرِئٍ مِنهم ما أَبَلی، ولا تَضمن بلاء امرِئٍ إلى غَيرِهِ، ولا تُقصرن بِهِ دون غَايةِ بلائِهِ، ولا يدعونَّك شَرفُ امرِئٍ إلى أَن تُعظِم مِن بلائِهِ ما کَان صغِيراً، ولا ضعةُ امرِئٍ إلى أَن تَستَصغِر مِن بلائِهِ ما کَان عظِیماً)(71) فعد المفاخر والمآثر لمن هم أبلوا بلاء حسناً، وحسن الثناء عليهم وإبراز بطولاتهم، تعداد ذلك يهز الشجاع منهم ويزيده بسالةً وبطولة وإقداماً وجرأةً، وتحرك المتأخر القاعد من الناس (النَّاکِلَ) ويشير الإمام الى أي أذكر كلّ من أبلى منهم مفرداً غير

ص: 174

مضموم ذکر بلائه إلى غيره، كي لا يكون مغموراً في جنب ذكر غيره، ثُم قال له: لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا تُحّقر بلاء ذَوي الضعة لضعة أنسابهم، بل اذكر الأُمور على حقائقها، وهذا الجانب له اثر نفسي كبير على الجنود.

ان للقوة العسكرية تاثير مباشر على الجانب الاقتصادي لانه يمنع الاعتداء الخارجي على الدولة وكذلك يفرض القانون وهيبة الدولة من المخربين والمجرمين في الداخل، ويحقق الاستقرار والأمن ومن ثم يزيد النشاط الاقتصادي.

ص: 175

التوصيات

يمكن الافادة من اصلاحات الامام في اصلاح الاقتصاد العراقي، 1 - في الجانب الإداري: تنجح الحكومة في خططها باختيار الافضل بين الناس لتحقيق العدالة ممن لا يحمل الياس في روحة ويملك المرونة في مواجهة الصعوبات ولا يصر على الخطأ و لا يتردد في احقاق الحق أن ظهر له و لا يتصف بالجشع و الا يبني قراراته على معلومات بسيطة بدل الوصول الى الحقائق وفهم الأوضاع حوله والذي يكون صبورا وصامدا في مواضع الشك والشبهة ويصمد امام اغراءات الدنيا.

2 - الوضع الاقتصادي: تحسين الوضع المعاشي للناس، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، والقضاء على التفاوت في توزيع الدخل، تحقيق العدالة لجميع الناس، ودعم الفقراء وتحقيق الإصلاحات الداخلية. والنهي عن الإسراف في صرف الموارد، و يجب ان يهتم بصياغة القوانين والنظم الضريبية بحيث يجعلها تخدم عملية الاستثمار والانتاج و القيام باصلاح السياسة المالية من خلال العدالة في فرض الضرائب وكيفيه توزيعها. ويلاحظ أن نقص الحريات مقترن مباشرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية والحصول على حاجاتهم الأساسية، وفي أحيان أخرى يكون افتقاد الحريات مقترنا بضعف المرافق العامة والرعاية الاجتماعية، مثل برامج مكافحة الأوبئة، أو الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية.

3 - الوضع السياسي: ضرورة الإفصاح عن قول الحق وعدم السكوت عن الباطل:

لا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ،كَماَ أَنَّهُ لا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ، ضرورة المشورة

ص: 176

بين الحاكم والمحكوم، مع العدل في منظوره الإسلامي و ترسيخ عقيدة الدولة الإسلامية: تعد من أهم مراكز القوة في الدولة، وتبني على أساس الإيمان بالله.

4 - فرض الأمن ويتم من خلال تقوية الجيش، والعدة للأعداء العامة من الأمة.

5 - التأكيد على التنمية البشرية، الإنسان هو الموضوع الرئيسي للتنمية وينبغي أن يكون المستفيد منه. ويتم من خلال العدل بين الناس جميعاً، والتحذير من سفك الدماء بغير حق، النهي عن المن على الرعية بالإحسان و النهي عن الإخلاف في الوعد، والحلم وتأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، و أَمرُ الحرس والشرطة والأعوان بعدم التعرّض لذوي الحاجات، حتى يعرض واحدهم حاجته للحاکم، دون تردد. و ألا يطيل احتجابه عن رعيته. و تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية. و إجابة من يستعملهم (السلطة التنفيذية بعدها) عما يعجز عنه الإداريون وتعقيداتهم. و منع خاصته (عليه السلام) من التدخّل في شؤون الحكم. و إلزام الحق من لزمه، قريباً كان أو بعيداً. و إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.

ص: 177

الهوامش

(1) عاش الامام علي 61 سنة (كانت ولادته في بمكة رجب سنة 23 قبل الهجرة ووفاته في الكوفة 21 رمضان سنة 40 للهجرة، المصادف ((600 - 661 بعد الميلاد.)) مزيد من للاطلاع ارجع الى د.فارس عبد الحسين، الامام على بين عبوديته لله وامامتة للمخلوق، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشوؤن الفكرية والثقافية ، النجف الاشرف، 2012، ص 8 - ص 14.

(2) Ferdinand Bakoup، Promoting Economic Reforms in Devel- oping Countries Rethinking Budgetary Aid? Working Paper Series (WPS)، African Development Bank، No 167 - January 2013« p.9 http://www.afdb.org/fileadmin/uploads/afdb/Doc uments/Publications/Working%20Paper%20167%20- %20 .%20Promoting%20Economic%%20Aid.pdf (3) (علي الشمري، دولة الإمام علي (عليه السلام)، مجلة النبا، العدد 34، http://annabaa.org/nba34/emamali.htm (4) ص63 (5) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية وإسلامية، فبراير 15، 2014، http://isp-iraq.com/%D9%85%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8 %A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9% (6) نهج البلاغة، الشريف الرضي، تحقيق: الشيخ فارس الحسون، 1419 ه، ص 576 (7) نعيم قاسم، حقوق الناس رسالة الحقوق للامام زین العابدین، دار الهادي، الطبعة الأولی، بیروت، 2004، ص 55 - 56.

ص: 178

(8) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية وإسلامية، فبراير 15، 2014، (9) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية وإسلامية، فبراير 15، 2014، (10) نهج البلاغة ص 498 (11) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية واسلامية فبراير 15، 2014، (12) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية واسلامية، فبراير 15، 2014، (13) نهج البلاغة ص 573 (14) نهج البلاغة ص 574 (15) نهج البلاغة ص 574 (16) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية و اسلامية، فبراير 15، 2014، (17) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية واسلامية فبراير 15، 2014، (18) د. فخري مشکور، منهج الإمام علي في مكافحة الفساد، شؤون عربية واسلامية، فبراير 15، 2014، (19) نهج البلاغة ص 576 (20) محمد تقي الحكيم، الاسلام وحرية التملك والمفارقات الناشئة عن هذه الحرية، الطبعة الأولى، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، 2001، ص 78 - 79

ص: 179

(21) د. رضا صاحب ابو حمد، السياسة المالية في عهد الإمام علي علية السلام، مرکز الأمير لإحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 2006، ص 38 - 39.

(22) کیت ناش، السوسيولوجيا السياسية العولمة والسياسة والسلطة، ترجمة حیدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت، 2013، ص 13 - 14.

(23) نهج البلاغة ص 241 (24) رضا صاحب، مصدر سابق، ص 42 (25) رضا صاحب، مصدر سابق، ص 42 (26) نهج البلاغة ص 585 (27) نهج البلاغة ص 585 (28) د. ناصر بن محمد الأحمد، علي بن أبي طالب، ص 6.

(29) محمد تقي الحكيم، مصدر سابق، ص 89 (30) نهج البلاغة، ص 565 - 566 (31) نهج البلاغة ص 733 (32) د. رضا صاحب ابو احمد، مصدر سابق، ص 12 - 13.

(33) محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، سلسلة كتب دورية تصدر عن مجمع الثقلين العلمي، الطبعة الثانية، 2003، ص 105 - 106.

(34) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، تحقیق، الطبعة الثانية، مكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان، 1425 ص 616 (35) رضا صاحب، مصدر سابق، ص 45 (36) رضا صاحب مصدر سابق، ص 46 (37) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 422

ص: 180

(38) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 423 (39) محمد باقر الصدر ، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 432 (40) نهج البلاغة، ص 584 (41) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 679 (42) د. سالم توفيق النجفي، د. احمد فتحي، السياسات الاقتصادية الكلية والفقر مع اشارة خاصة إلى الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بیروت 2008، ص 39.

(43) نعیم قاسم، مصدر سابق، ص 26 - 27.

(44) د.رضا صاحب، مصدر سابق، ص 24.

(45) نهج البلاغة ص 497 (46) نهج البلاغة ص 582 (47) هاشم الموسوي، النظام الاجتماعي في الاسلام، منظمة الاعلام الاسلامي، الطبعة الثانية، طهران، 1993، ص 30.

(48) القران الكريم، سورة النساء 1 (49) نهج البلاغة ص 586 (50) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص 667.

(51) الاسراء 70 (52) نهج البلاغة ص 569 (53) نهج البلاغة ص 571 (54) نهج البلاغة ص 572 (55) نهج البلاغة ص 566 (56) نهج البلاغة ص 572

ص: 181

(57) نهج البلاغة ص 573 (58) نهج البلاغة ص 94 (59) د. مدني عبد الرحمن، جريمة استغلال النفوذ في القانون المقارن والنظام السعودي، مجلة الادارة العامة، تصدر عن معهد الادارة العامة، الرياض، العدد 3، 2005، ص 454 (60) نهج البلاغة ص 54 (61) نهج البلاغة ص 54 (62) هاشم الموسوي، مصدر سابق، ص 43.

(63) علي الشمري، مصدر سابق، ص 43 (64) نهج البلاغة ص 576 (65) عبد الرضا الزبيدي، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام)، شبكة الإمامين الحسنين) عليهما السلام (للتراث والفكر الإسلام، ص 214 (66) نهج البلاغة ص 237 (67) نهج البلاغة ص 109 (68) عبد الرضا الزبيدي، مصدر سابق، ص 220 (69) نهج البلاغة ص 576 (70) عبد الرضا الزبيدي، مصدر سابق، ص 219 (71) نهج البلاغة ص 578

ص: 182

نظرية الاستدامة اللانهائية وأبعادها في فكر الامام علي (عليه السلام) لبناء الدولة المستدامة دراسة تحليلية لعهد مالك الاشتر البروفسور الدكتور يوسف حجيم سلطان الطائي عميد كلية الإدارة والاقتصاد - جامعة الكوفة

اشارة

ص: 183

ص: 184

المستخلص

في دراستنا هذه تم تسليط الضوء على أهم نظرية للاستدامة والتي تم استنباطها من عهد الامام علي عليه السلام لمالك الأشتر حين ولاه على مصر و اسميتها بنظرية الاستدامة اللانهائية، وهذه النظرية تعد من النظريات المهمة في بناء الدولة العادلة والقوية ذات الاستدامة والقادرة على البقاء والنمو لأجيال متعددة وتكونت هذه النظرية من عدة أبعاد رئيسة وهي (البعد الاقتصادي، البعد التنافسي، البعد الاجتماعي، البعد البيئي، البعد المعرفي) وحددت هذه الابعاد بدقة متناهية من لدن الامام عليه السلام واوصى بها بعهد مکتوب الى مالك الأشتر من خلال النص الاتي ((هذا ما أمر به عبد الله امير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده اليه: حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح اهلها وعمارة بلادها)) فإذا توافرت هذه الابعاد وطبقت بالشكل المثالي ووفق اليات ممنهجة فأنها ستقود الى تشکیل الدولة المستدامة.

ولكن يد الغدر اغتالت هذه النظرية باغتيالها لقائدها ومطبقها الذي تم اختياره من قبل أمير المؤمنين وهو مالك الأشتر.

ركزت دراستنا على مشكلة رئيسة وهي،هل عند تطبيق نظرية الاستدامة اللانهائية ستقود الى بناء دولة مستدامة من خلال الأبعاد الأساسية التي حددت لها، في حين هدفت دراستنا الى توضيح ابعاد و مضامین نظرية الاستدامة اللانهائية وحصر ابعادها بالاقتصادية والتنافسية والاجتماعية والبيئية والمعرفية وكيف يمكن أن تسهم هذه الأبعاد في الوصول الى بناء الدولة المستدامة و توصلت الدراسة الى مجموعة من الاستنتاجات، اهمها هو تسليط الضوء على كيفية بناء دولة تبقى لأجيال

ص: 185

وتتسم بالاستدامة اللانهائية من التطبيق العملي لابعاد نظرية الاستدامة اللانهائية والتي جاءت ضمن العهد ولم تسجل باسم الامام علي عليه السلام بل سجلت بأسماء باحثين جدد لم يعلموا بان هذه النظرية موجودة قبل اكثر من 1400 عام وعدت هذه النظرية فلسفة حديثة في بناء الدول المستدامة اما اهم توصية ركزت عليها الدراسة هي لابد من الاعتماد على نظرية الاستدامة اللانهائية كمنهج عمل تطبيقي وفلسفة لإنشاء وتكوين الدولة المستدامة بالاستناد على الابعاد الرئيسة التي تم تحديدها من قبل الامام علي عليه السلام. لذا وجب على الباحثين والاكاديميين البحث وبتعمق عن هذه النظرية لإرساء الاسس الفلسفية و النظرية لها من اجل تطبيقها عند ظهور الدولة الاسلامية الحقه.

ص: 186

المنهجية العلمية للدراسة

اولا: مشكلة الدراسة

اي دراسة علمية لابد ان تعالج مشكلة معينة والخروج بنتائج وحلول لهذه المشكلة وغالباً ما تكون المشكلة على شكل تساؤلات يتم الإجابة عليها من خلال منهجية البحث وطرائق معالجتها للمشكلة والوصول الى حقيقية الشيء. في دراستنا هذه تكمن مشكلتنا الرئيسة بالاتي (هل عند تطبيق نظرية الاستدامة اللانهائية ستقود الى بناء دولة مستدامة) وانبثقت من هذه المشكلة العديد من التساؤلات الفرعية وهي:

1 - ما المقصود بالبعد الاقتصادي (جباية خراجها) وكيف يحقق الاستدامة اللانهائية.

2 - ماذا يعني بالبعد التنافسي (جهاد عدوها) وكيف سيسهم في تحقيق الاستدامة اللانهائية.

3 - هل للبعد الاجتماعي (استصلاح اهلها) دور في تحقيق الاستدامة اللانهائية.

4 - ما المقصود بالبعد البيئي (عمارة بلادها) وما علاقته بتحقيق الاستدامة اللانهائية.

5 - هل للمعرفة المستدامة التي حملها العهد بين طياته دور في بناء الدولة المستدامة.

ص: 187

اهمية الدراسة:

لدراستنا هذه العديد من النقاط المهمة ومنها:

1 - تسليط الضوء على أهم نظرية في تاريخ البشرية وهي نظرية الاستدامة اللانهائية والتي لم يتطرق اليها أي عالم قبل الامام علي عليه السلام، نعم وجدت كتابات حديثة تؤكد ذلك ولكنها اخذت مفاهيمها من عهد الامام علي عليه السلام ودحضت هذه النظرية النظريات في القرن الثامن عشر مثل نظرية العالم الانكليزي توماس مالتوس وغيره.

2 - توضيح اركان هذه النظرية وأسسها ودورها في بناء دولة مستدامة قادرة على تحقيق العدل الاجتماعي والقضاء على الفقر والبطالة.

3 - تهدف هذه النظرية الى بيان اهمية الفرد في بناء الدولة المستدامة بناءاً امثل وفق المعايير الأخلاقية والدينية والعادات والتقاليد المستنبطة من الكتب السماوية وكما قال الامام علي عليه السلام (اتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر).

4 - ابراز المضامين الفكرية والتطبيقية لهذه النظرية (الاقتصادية والتنافسية والاجتماعية والبيئية) للباحثين والمفكرين في هذا المجال للبحث والتقصي المعمق لاستنتاج اسس نظرية اخرى ورفد المكتبة العراقية والعربية والاسلامية والعالمية بأهم اسس الاستدامة اللانهائية المستنبطة من فكر الامام علي عليه السلام.

5 - تصحیح و تقييم الانحرافات التي انتابت بناء الدولة الاسلامية المستدامة وان تتوائم مع مبادئ هذه النظرية.

ص: 188

هدف الدراسة:

تهدف هذه الدراسة بصورة عامة الى توضيح مضامين نظرية الاستدامة اللانهائية وحصر ابعادها الاقتصادية والتنافسية والاجتماعية وغيرها ضمن عهد الامام عليه السلام لذا وجب علينا كباحثين واكاديميين اخراج هذه النظرية لترى النور، لذا تهدف در استنا الى تحقيق الاتي:

1 - من الممكن ان تبنى الدولة المستدامة من خلال القوى الاقتصادية التي تمتلكها هذه الدولة ومحاولة توظيف الجوانب الاقتصادية لصالحها وتطوير ذاتها وصولا الى التكامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والتوزيع العادل للثروة.

2 - العامل التنافسي له الدور البارز في بقاء الدولة اطول فترة ممكنة وعليها ان تستبصر البيئ-ة الخارجي-ة وتحليل استراتيجيات المنافسين لدرء المخاطر المحتملة واقتناص الفرص الخارجية لصالح الدولة.

3 - عملية بناء المجتمع الامثل والقادر على تدبير شؤونه بكل يسر وسهولة يمكن من خلال تهذيبه على العادات والتقاليد الحميدة، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الوعي الاجتماعي والامان والسلم الاجتماعي وتنمية راس المال الفكري وهذه تعد من الاهداف الاساسية لبناء الدولة المستدامة.

4 - التركيز على البعد البيئي والتكامل فيها بين البيئة وراس المال الفكري الموجود لإيجاد الطرق السليمة للتعامل مع البيئة لتحقيق هدف التوازن البيئي والحفاظ على البيئة وتقليل الخروقات البيئية والتلوث وهذا سيقود الى بناء دولة مستدامة.

5 - توضيح العملية المعرفية المستدامة عن طريق امتلاك انظمة المعلومات المتطورة ع-ن المتغيرات الداخلية والخارجية واستخدام هذه المعارف في تنمية وتطوير الاعمال الريادية ضمن نطاق الدولة المستدامة.

ص: 189

فرضيات الدراسة:

لدراستنا هذه فرضية رئيسة وهي (هل توجد علاقة بين ابعاد نظرية الاستدامة اللانهائية وبناء الدولة المستدامة) وتنبثق من هذه الفرضية العديد من الفرضيات الفرعية وهي:

1 - هل توجد علاقة بين البعد الاقتصادي (جباية خراجها) لنظرية الاستدامة اللانهائية في بناء دولة مستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام.

2 - هل توجد علاقة بين البعد التنافسي (جهاد عدوها) لنظرية الاستدامة اللانهائية في بناء دولة مستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام.

3 - هل توجد علاقة بين البعد الاجتماعي (استصلاح اهلها) لنظرية الاستدامة اللانهائية في بناء دولة مستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام.

4 - هل توجد علاقة بين البعد البيئي (عمارة بلادها) لنظرية الاستدامة اللانهائية في بناء دولة مستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام.

5 - هل توجد علاقة بين البعد المعرفي لنظرية الاستدامة اللانهائية في بناء دولة مستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام.

ص: 190

ابعاد نظرية الاستدامة اللانهائية البعد الإقتصادي البعد التنافسي بناء الدولة المستدامة وفق فكر الامام علي عليه السلام البعد الاجتماعي البعد البيئي البعد المعرفي شكل (1) انموذج الدراسة الفرضي

اسلوب الدراسة:

تم الاعتماد على اسلوب التحليل العهد الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر واستخرج من بعض نصوص هذا العهد نظرية متكاملة للاستدامة اللانهائية والتي لم يسلط الضوء عليها.

ص: 191

الجانب التحليلي

اغلب المفكرين الاداريين وغيرهم يحاولون جاهدين تحديد اهم الابعاد التي من الممكن استخدامها لضمان الاستدامة لمنظماتهم وبالتالي عند نجاح نظام معین ممکن تطبيقه على المنظومة الاكبر وهو الدولة لذا اغلب علماء الادارة حددوا في القرن الماضي ثلاثة ابعاد فقط للاستدامة وهذه الابعاد ستكون خارطة الطريق للتنمية المستدامة والتي تحاول ان تبقي النظم في تفاعل وبقاء دائم قادرة على التغلب للمشاكل التي تواجهها ومن هؤلاء الباحثين 5;2005:Fichter)) ركز هذا الباحث على الابعاد الاتية (رأس المال البيئي، وراس المال الاجتماعي، ورأس المال الاقتصادي) واعتبر هذه الابعاد هي التي تقود للاستدامة بينما الباحثين - Davidia Gwen 2007:dolyn;)) ايضا ركزا على البعد الاقتصادي والبعد البيئي والبعد الاجتماعي في حين 315;2009:Galbreath)) سمى هذه الأبعاد بالقضايا المهمة لاستدامة المنظمات القضايا الاقتصادية والقضايا الاجتماعية والقضايا البيئية اما الباحث -Mi 2010:59 :trabinda)) اطلق تسمية خط الاساس الثلاثي الابعاد والتي تكون على شكل حلقات متكاملة مع بعضها البعض لتحقيق الاستدامة وتكون خط الاساس من البعد البيئي والبعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي اما الباحثين Ebner 77;2010 :Baumgartner )) حيث استند نموذجهما ايضا على ثلاثة ابعاد وهي البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي والبعد البيئي اما الباحث (205;2011:Elliot) حدد الأبعاد بالبيئة والمجتمع والحكومة والاقتصاد من خلال الصناعة والمنظمات في حين ركز الباحث(131;2012:Jochem) حيث ركز على المحور البيئي والاجتماعي والاقتصادي.

ص: 192

وهنالك العديد من الباحثين الذين تطرقوا لهذه الأبعاد والتي اتفق عليها الاعم الاغلب منهم وعلى مختلف المدارس الاقتصادية والادارية وهذه الابعاد هي التي تحقق الاستدامة وبقاء أي تنظيم يعيش اطول فترة ممكنة وتم الترويج اليها في العصر الحديث في بداية القرن العشرين، علماً بان اغلب الباحثين اغفلوا حقيقية دامغة بان هذه الابعاد هي موجودة ضمن الفكر الاستراتيجي للامام علي عليه السلام قبل اكثر من 1400 عام مضت وحددها الامام بدقة متناهية وزاد عليها بعدين وهما البعد التنافسي والبعد المعرفي واللذان اخذا حيزا من التنظير والتطبيق ولكن بشكل منفرد ضمن ادبيات الادارة وفيما لو استخدمت هذه الابعاد بصورة صحيحة الكان هنالك العديد من الدول قائمة ولا تفنى ومثال على الاستدامة اللانهائية مثل الاخلاق الدينية المنبثقة من اقدم الديانات والتصاميم المعمارية التي وصلت الينا مثل الاهرامات وهنالك شواخص لا يمكن الغائها من فكر التاريخ وذاكرته السابقة والحاضرة والمستقبلية مثل بيت الله الحرام ومراقد الأئمة عليهم السلام كل هذه شواخص مقنعة للاستدامة اللانهائية.

ولو تم التدقيق في عهد الامام عليه السلام لمالك الأشتر ركز على نقطة اساسية عند بناء الدولة وهي ان تكون هنالك معرفة تامة بالمجتمع المراد حكمه اذ قال له (اعلم يا مالك أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك) اوصاه بأن مصر توالت عليها الحكام والملوك ومازالت آثارهم باقية وهذه الدولة ليس كل الدول لان رعيتها قد خبروا الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وجربوا الدولة المدنية فاذا اردت النجاح بتأسيس دولة اقوى مما كانت عليه مصر ذات الارث الحضاري والتاريخي وحکمت لآلاف السنين من حكام كان فيهم العادل والظالم ونظمها اقتصاديا واداریا نبي الله يوسف عليه السلام وشواخص حضارتهم واضحة ومازالت

ص: 193

موجودة و مستدامة ما عليك الا ان تطبق الأبعاد الاتية والتي هي موجودة ضمن نص العهد ((هذا ما أمر به عبد الله امير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده اليه :حين ولاه مصر:

1 - جباية خراجها (البعد الاقتصادي) 2 - جهاد عدوها البعد التنافسي) 3 - استصلاح اهلها (البعد الاجتماعي) 4 - عمارة بلادها (البعد البيئي) 5 - فضلا عن البعد المعرفي والمتضمن معرفة تفاصيل ودقائق الدولة المستدامة والتي ظهرت ضمن فقرات العهد على شكل توجيه وتحذير وتدابير ومبادئ ادارية وقيادية مهمة لتكوين الدولة.

ص: 194

البعد الاقتصادي البعد الاجتماعي البعد المعرفي بناء دولة مستدامة وفق نظرية الاستدامة اللانهائية البعد البيئي البعد التنافسي شکل (2) ابعاد نظرية الاستدامة اللانهائية ومن خلال الشكل في اعلاه تتضح عملية التكامل فيما بين الابعاد لتحقيق الدولة المستدامة وفي الفقرة اللاحقة سيتم التطرق لكل بعد منفرد.

ص: 195

اولاً: تحليل البعد الاقتصادي (جباية خراجها)

عد البعد الاقتصادي الأساس لأي دولة ترغب بان تبني لها مجد وتأريخ مستدام فلابد من تنظيم القوى الاقتصادية التي يمتلكها هذا البلد والتركيز على هذا البعد مهم من منطلق تنشيط كافة القطاعات الاقتصادية، واصبحت القوة الاقتصادية مقياس لتطور الدول وتقاس هذه الدول على هذا المعيار وتسمى متقدمة على اساس العامل الاقتصادي وعند التطرق لموضوعة القوى الاقتصادية فأنها كثيرة ومتعددة الاشكال وهذه الأنشطة الاقتصادية تسعى للحصول على التمويل اللازم لإدارة شؤون الدولة وقدرتها على دفع رواتب جميع الموظفين لديها سواء كانوا مدنيين ام عسکرين الذين يحافظون على سلامة الدولة من الاعتداءات الخارجية والعاملين على بناء هذه الدولة بمختلف التخصصات وهنا لابد الاعتماد على الاتي:

1 - العمل على تأسيس نظام اقتصادي وفلسفة واضحة المعالم تقود الدولة وهذا النظام يبني على النظم المعرفية القادرة على ادارة التمويل الامثل.

2 - تنظيم جباية الضرائب بشكل عادل ومنصف ولجميع الشرائح والعمل على ايجاد الية واضحة ومفهومة من المجتمع في كيفية فرض الضريبة وتحديد الشرائح المعفاة.

3 - امكانية تطبيق الفلسفة الاسلامية في النظم الاقتصادية والذي لم يرى النور لحد الوقت الحالي والذي سيكون الضمانة الحقيقية للاستدامة وتحقيق العدالة الاقتصادية 4 - تنشيط جميع القطاعات الاقتصادية وخلق حالة من التنافس فيما بينها والتي تسهم في دعم الدولة مثل القطاع الصناعي والزراعي وغيره وتنظيم التبادل التجاري.

ص: 196

5 - تحديد انظمة الرواتب والاجور بصورة عادلة.

6 - المحافظة على الموارد الطبيعية والموارد المصنعة والمورد البشري وحسن استخدام هذه الموارد للحصول على القوة الاقتصادية المطلوبة التركيز على القوة الصناعية وبكافة اشكالها التركيز على القوة الزراعية البعد الاقتصادي التركيز على المورد البشري المبدع التركيز على الموارد الطبیعیة شکل (3) متغيرات البعد الاقتصادي

ص: 197

خلاصة البعد الاقتصادي في فكر الامام عليه السلام هو دحض جميع النظریات الاقتصادية الحديثة والتي لم تحقق للآن العدالة الاقتصادية والتنوع الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والتكامل الاقتصادي فيما اذا طبق هذا البعد حسب المفهوم الامامي ستدحض النظريات الوضعية ومنها نظرية توماس مالتوس وغيرها.

من خلال ما تقدم يتضح صحة الافتراض القائل بوجود علاقة بين البعد الاقتصادي واقامة الدولة المستدامة وفق فلسفة وفكر الإمام علي عليه السلام وحسب ما جاء في عهده لمالك الاشتر.

ثانياً: تحليل البعد التنافسي (جهاد عدوها)

ان هذه التسمية او المصطلح يشير الى عدة معاني والمقصود بالعدو ليس فقط العدو الذي يتم مواجهة في سوح القتال بل يتضمن العديد من المفردات ومنها:

1 - العدو او التحدي العسكري 2 - العدو او التحدي السياسي 3 - العدو او التحدي الديني 4 - العدو او التحدي التكنولوجي 5 - العدو او التحدي الاقتصادي 6 - العدو او التحدي الاعلامي 7 - تحديات الاشاعة المغرضة 8 - أي عدو او تحدي اخر

ص: 198

اذا اريد تطبيق الاستدامة لأي دولة فلابد من جهاد اعدائها وان الامام عليه السلام اراد دولة عادلة و قوية قادرة على مواجهة كل التحديات وخصوصا اذا اريد تطبيق الاستدامة اللانهائية للدولة المثالية وفق كل المعايير والمقاييس الدنيوية والاخروية والتي يريدها الامام وهي دولة العدل الاهي ففي الواقع الميداني والتطبيقي هذه الدولة لا يمكن تأسيسها الا بوجود امام عادل، لذا وجه الامام علي عليه السلام مالك الاشتر لإقامة هذه الدولة وتكون تحت رقابته المباشرة ونبهه لأخذ الحيطة والحذر من العدو وجهادة بكل الطرق لان هذا العدو يريد افشال الفلسفة الاسلامية في اقامة دولة مستدامة تبنى على اساس التقوى والعمل وتكون باكورة للدول المتقدمة والمدنية وتسع للجميع.

ص: 199

التنافس الاعلامي التنافس الاقتصادي الاشاعة البعد التنافسي التنافس السياسي التنافس الداخلي التنافس العسكري التنافس الديني التنافس التكنولوجي شكل (4) متغيرات البعد التنافسي لذا لابد من اعداد العدة لمواجهة العدو الاقتصادي والعسكري والسياسي وغيره وقد يستخدموا هؤلاء العديد من الادوات مثل الاحتكار والغش الصناعي ورفع الاسعار هذا اذا كان العدو اقتصاديا اما اذا كان العدو عسکریا اعداد القوة العسكرية القادرة للدفاع عن اراضيها واستخدام الجنود والضباط والخطط العسكرية والاسلحة وبناء نظام استخباراتي متطور وغيرها لمواجه العدو وهكذا لباقي التحديات. من خلال ما تقدم يتضح صحة الافتراض القائل بوجود علاقة بين البعد التنافسي

ص: 200

واقامة الدولة المستدامة وفق فلسفة وفكر الامام علي عليه السلام وحسب ما جاء في عهده لمالك الاشتر

ثالثاً: البعد الاجتماعي (استصلاح اهلها)

عد البعد الاجتماعي من الركائز الاساسية ومن اهم موارد رأس المال الفكري والذي يعتمد عليه عند بناء الدولة المستدامة وهذا البعد يقسم الى رأس المال البشري وراس المال الزبائني وراس المال الهيكلي وعدت الاسرة اصغر خلية اجتماعية وتعد اللبنة الاولى لبناء دولة قوية فيما اذا تم بناء هذه الأسرة بناءاً متكاملا وهذا البعد كان واضحاً ضمن عهد الامام علي عليه السلام وعبر عنه (است صلاح اهلها) وهذه العملية تتم من خلال الاتي:

1 - بناء الفرد بناءاً اسلامياً مبني على الأسس الفلسفية والفكرية للمنظومة الاسلامية.

2 - انشاء مراكز للتعليم والتعلم والعمل على محاربة الأمية بكافة اشكالها وخلق افراد متعلمين قادرين على ادارة شؤون الدولة المستدامة، وجعل الفرد منتج بدلاً من ان يكون استهلاكي.

3 - تنظيم الحياة اليومية للمجتمع وهذا التنظيم سيضع الركائز الحقيقية والمستدامة الدول العدل التي يريدها الامام عليه السلام.

4 - بناء الأسرة باعتبارها نواة المجتمع وتهذيبها وفق المنهج الاسلامي ومحاربة التفكك الاسري.

5 - الاعتماد على الاعمال ذات الابعاد المجتمعية لزيادة انتاجية المجتمع في العملية الصناعية والتي يحتاج اليها البعد الاقتصادي.

ص: 201

6 - التركيز على نشر السلام والامن الاجتماعي والتعايش بروح الفريق والانسجام ونبذ التمايز الطبقي ومعاملة المجتمع معاملة عادلة.

7 - تحقيق العدالة الاجتماعية التي مازالت مفقودة الى يومنا هذا في اغلب ال-دول المتقدمة وهذه العدالة لا ترى النور الا بولادة دولة عادلة ومستدامة.

8 - ايجاد الية متطورة لحل المشاكل المجتمعية وجميع الظواهر السلبية في المجتمع وتكيف المجتمع على عملية التصحيح الذاتي الاجتماعي.

ص: 202

حل المشاكل الاجتماعية الامان والسلم الاجتماعي تنظیم حیاة الفرد العدالة الاجتماعیة البعد الاجتماعي بناء الاسرة وفق الاخلاق الدينية انشاء مراكز التعليم البعد الاجتماعي لزيادة الانتاجية شكل (5) متغيرات البعد الاجتماعي خلاصة لما تقدم ان عملية استصلاح الناس في الدولة تحتاج الى جهد مضني ولفترات طويلة الامد لتحسين وتقويم الانحرافات المجتمعية وهذه العملية الاصلاحية تبنى على اسس العدالة الاجتماعية والتعلم الاجتماعي لإيجاد قاعدة جماهيرية قادرة على ادارة نفسها بنفسها وصولاً الى الادارة الذاتية للمجتمع وهذا ما شار اليه ضمنا الامام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر. من خلال ما تقدم يتضح صحة الافتراض القائل بوجود علاقة بين البعد الاجتماعي واقامة الدولة المستدامة وفق فلسفة وفكر الامام علي عليه السلام وحسب ما جاء في عهده لمالك الاشتر.

ص: 203

رابعاً: البعد البيئي (عمارة بلادها)

عند توافر العامل الاقتصادي وقدرة الدولة على تحييد العامل التنافسي والسيطرة عليه بعد ان اصبح المجتمع واعي ويعرف واجباته ومهامه الرئيسة المكلف بها واصبح هذا المجتمع يعمل وفق المنظومة الاجتماعية المثلى المستندة على الفلسفة الاسلامية الحقيقية سيكون هنالك التكاتف الاجتماعي أي ستكون عملية اتحاد بین القوى الاقتصادية والقوى البشرية وهذه القوى ستكون قادرة على اعمار واعادة اعمار البلاد وفق الأسس العلمية الصحيحة والدولة التي استطاعت بناء الفرد ستكون قادرة حتماً على بناء عمارة البلاد فيها والتي تحاول ان تكون عمارتها مستدامة ذات بعد لامتناهي وخير دليل على استدامة العمارة بناء الاهرامات في مصر وغيرها من الامثلة العديدة.

وهذه العملية لا يمكن فصلها عن البيئة حيث هنالك ارتباط وثيق بين العمارة والبيئة وهنا يقع على متخذ القرار في ايجاد السبل لتطويع البيئة لصالح المجتمع وبكافة متغيراتها ويقصد هنا بعمارة بلادها ان تكون المدن والمجمعات السكنية مصممة وفقاً للبيئة وان لا يؤثر هذا التصميم على حقوق الأجيال القادمة وهنالك العديد من الاعمال المعمارية التي ناغمت البيئة وبقت لآلاف السنين شاخصة وذكر التصميم والبناء في القران الكريم قال الله سبحانه وتعالى (الم تر كيف فعل ربك بعاد أرم ذات العماد) وعند تصميم أي مدينة لابد ان تأخذ بنظر الاعتبار حركة الرياح والامطار وكل الظواهر الطبيعية كما في قوله تعالى (تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض) (الركابي: 2007: 2 - 11) هذا من جانب عمليات التصميم والمكان الملائم لاقامة دولة مستدامة.

ص: 204

اما الجانب الاخر وهو مهم ايضاً وهو كيفية الحفاظ على البيئة والوصول الى انشاء مباني تكون صديق للبيئة وهذه العمارة تسمى بالعمارة الخضراء والمنتج الاخضر والمصنع الاخضر والتسويق الاخضر وم-واد البناء الخضراء وغيرها لان عملية الانبعاث وغيره-ا م-ن الملوثات التي تؤثر على البيئة والبنية التحتية لاي دولة وقد تهدد مستقبل هذه الدولة،وهنا لابد من التركيز على الاتي:

1 - التركيز على الجهد الهندسي والمعماري عند تصميم المدن مع توفير كافة الخدمات والبنى التحتية التي يحتاج اليها المجتمع وكيفية القضاء على النفايات وغيرها.

2 - الاخذ بنظر الاعتبار مناخ المنطقة المراد اقامة الدولة عليها من حيث حركة الرياح والامطار وخطوط الزلزال والبراكين وحرارة باطن الارض وغيرها.

3 - توفير الطاقة الضرورية التي تحتاج اليها المدينة والاعتماد على الطاقة النظيفة قدر المستطاع.

4 - التصميم المعماري المستدام والمميز مع التركيز على جودة البناء ومواد البناء المستخدمة وهذه الفقرة ركز عليها قانون حمورابي واوجد نصاً قانونيا ينظم اعمال البناء وان يكون مطابق لمواصفات الجودة.

5 - العمل على ايجاد التصميم المستدام الاخضر والذي يكون صديقاً للبيئة وذلك عن طريق البناء المستدام أي ايجاد التوافق بين الادارة المدنية في الدولة المستدامة في كيفية استخدام الموارد و ادارتها.

6 - التركيز على الموارد الطبيعية وحسن استغلالها والاهتمام بالنظافة البيئية وتقليل عمليات التلوث البيئي

ص: 205

العمارة الخضراء البناء المستدام البعد البيئي (عمارة بلادها) العمارة والبيئة بكل تصنيفها البعد البیئي (عمارة بلادها) التصميم المستدام الجودة الشاملة دراسة المناخ شكل (6) متغيرات البعد البيئي دراسة المناخ خلاصة القول ان الاهتمام بالتصميم المستدام والذي يمكن الحفاظ على بقائه اطول فترة ممكنة من خلال التجانس بين العمارة والاستخدامات الهندسية والانشائية في ضوء البيئة الموجودة، اذ حدد معهد روكي مارتن خمسة عناصر للتصميم المستدام وهي (شمولية التخطيط، واعتبار التصميم المستدام فلسفة، والتركيز على خفض كلفة البناء المستدام قياسا بالبناء التقليدي، وتكامل التصميم بين مكوناته واستهلاك

ص: 206

الطاقة، والحفاظ على صحة المجتمع) (www.nots. Edit.https:idocs ) وهذا البعد ركز عليه الامام عليه السلام ضمن العهد باعتبار العمارة من الركائز الاساسية الهيبة الدولة واستدامتها وان تتوافق هذه العمارة مع البيئة وفق الاساليب العلمية والنضوج الهندسي للدولة. من خلال ما تقدم يتضح صحة الافتراض القائل بوجود علاقة بين البعد البيئي واقامة الدولة المستدامة وفق فلسفة وفكر الامام علي عليه السلام وحسب ما جاء في عهده لمالك الاشتر.

خامسا: البعد المعرفي المستدام

يركز هذا البعد على جمع المعرف الأساسية عن الابعاد الاربعة السابقة الذكر وهنا لابد ان يكون البعد الاقتصادي مدعوم بالمعرفة الاقتصادي المتكاملة عن هذا البعد والذي سمي في الوقت الحالي بالاقتصاد المعرفي، اما المعرفة التنافسية فانها تتطلب من القائمين لبناء دولة مستدامة المعرفة التامة بكب المنافسين وجمع البيانات والمعلومات عنهم وبأدق التفاصيل، وان تكون هنالك معالجات حقيقي لاي تحدي ممكن ان يوثر على بناء الدولة المستدامة، اما المعرفة الاجتماعية هي قدرة الدولة على جمع البيانات والمعلومات الدقيقة عن المجتمع المعرفي بأسره ولكافة الشرائح لغرض معالجة المشاكل الاجتماعية التي يمكن أن توثر على النسيج الاجتماعي، اما المعرفة البيئية والتي تعنى بتطويع العوامل التكنولوجية وغيرها للحفاظ على البيئة والعمل على أن تكون المنتجات والاعمال والانتاجية خضراء والتركيز على التصميم والعمارة الخضراء وعدم الاسراف بمدخرات الاجيال للحفاظ عليها المواجهة الأزمات الناشئة نتيجة الندرة. ويمكن توضيح ذلك كما في الشكل الاتي:

ص: 207

المعرفة الاقتصادیة المعرفة التنافسية المعرفة المستدامة المعرفة البيئية المعرفة الاجتماعية

ص: 208

الاستنتاجات والتوصيات

اولاً: الاستنتاجات

من خلال التحليل لعهد الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر وبعد ان تم تحديد اهم الابعاد الاساسية لنظرية الاستدامة اللانهائية لبناء الدولة المستدامة تم التوصل الى مجموعة من الاستنتاجات ومنها:

1 - سلط العهد الضوء على اهم نظرية للاستدامة اللانهائية والتي لم تسجل باسم الامام علي عليه السلام بل سجلت بأسماء باحثين جدد لم يعلموا بان هذه النظرية موجودة قبل اكثر من 1400 عام وهي فلسفة حديثة في بناء الدول المستدامة وابعاد هذه النظرية تم استنباطها من عهده لمالك الاشتر.

2 - ركز العهد على البعد الاقتصادي والذي يعد احد اهم الابعاد الاساسية والتي يمكن ان يسهم في بناء النظرية المستدامة اللانهائية عن طريق بناء دولة قوية اقتصادياً من خلال استثمار المورد الطبيعي والبشري لخلق حالة متطورة من الصناعات المختلفة للحصول على التمويل اللازم لبناء الدولة المستدامة.

3 - التركيز على الجانب المعرفي ومعرفة جميع التحديات التنافسية وتقليل حدتها وخطرها على الدولة من خلال بناء شبكة متطورة من المعلومات والبيانات اللازمة عن أي تحدي ممكن ان يخل بهيكل الدولة،و دراسة جميع القوى التنافسية بدون استثناء لمعرفة قدراتهم التنافسية.

4 - ركز العهد على الافراد وعد الافراد داخل أي دولة هم المكون الاساس لخلق القيمة الاقتصادية والتجارية وتمتعهم بالقدرات البشرية التي تؤمن مواجهة

ص: 209

الاخطار المنافسين اتجاه دولتهم، وان صلاح المجتمع سيقود الى دولة صالحة قادرة على بناء نفسها بما تمتلكه من راس مال فكري.

5 - تم التركيز في العهد على اهمية البيئة وان تكون الدولة المستدامة قادرة على ان تحافظ على البيئة وان تكون لها المساهمة الجادة في تعزيز العوامل البيئة وان تهتم بالتصميم والبناء الاخضر الذي يتوافق مع المحيط البيئي وان الاعمال المدنية لا تؤثر في المحيط الذي يعيش فيه الانسان ووصولاً إلى البناء المستدام الاخضر.

6 - من خلال العهد تضح فيما اذا اريد بناء دولة قوية ومتماسكة لابد من تأسيس نظام شمولي قادر على جمع البيانات والمعلومات الضرورية واللازمة لكل بعد من الابعاد السابقة الذكر وان تكون لديها معرفة شاملة عن جميع المتغيرات والاحداث عن طريق انسيابية المعلومات وجمعها عن اركان الدولة المستدامة وصولا إلى تحقيق الدولة المستدامة الحكيمة.

ثانياً: التوصيات

بناءاً على الاستنتاجات في اعلاه سیتم صياغة مجموعة من التوصيات وهي:

1 - لابد من الاعتماد على نظرية الاستدامة اللانهائية كمنهج عمل و فلسفة لإنشاء وتكوين الدولة المستدامة بالاستناد على الابعاد الرئيسة التي تم تحديدها من قبل الامام علي عليه السلام.

2 - التركيز على تنشيط وتنمية العوامل الاقتصادية لبناء دولة اقتصادية ذات تنوع وتكامل اقتصادياً قادرة على ادارة نفسها اقتصادية وتلبي طموح جمهورها عن طريق القضاء على الفقر والجهل والبطالة.

ص: 210

3- بناء انموذج العدالة الاجتماعية للدولة المستدامة من خلال الفلسفة الاجتماعية التي جاء بها الامام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر وسيادة العدل الاجتماعي في مجتمع يكون منتج وليس استهلاكي قادر على التطوير الذاتي.

4 - دراسة سلوك المنافسين من اجل معرفة خططهم وبما ذا يفكرون ومعرفة موقفهم اتجاه الدولة المستدامة عن طريق جمع البيانات والمعلومات عنهم بواسطة الادارة الاستراتيجية وتحديد اهم نقاط التهديد التي تواجهه الدولة ومعالجتها والفرص التي من الممكن اقتناصها لتحسين موقفها التنافسي.

5 - اذا ارادت أي دولة ان تطمح لان تكون مستدامة عليها أن تهتم بالعمارة والتصميم والاخذ بنظر الاعتبار البيئة المحيطة بها والحفاظ عليها، والعمل على انتهاج الاستراتيجية الخضراء ضمن عملها.

6 - تأسیس نظام معرفي شمولي قادر على ادارة اموال الناس والدولة وتوجيهه حسب الشريعة الاسلامية.

ص: 211

المصادر:

1 - قرباني، ايه الله زين العابدین، میثاق ادارة الدولة في عهد امير المؤمنين عليه السلام المالك الاشتر. ترجمة وتحقيق الهدف للدراسات تعريب قاسم البيضاني: 2012 مطبعة الكوثر 2 - الناصر، عبد المنعم، فن ادارة الدولة في الاسلام، دراسة في عهد الامام علي لمالك الاشتر حين عينه واليا على مصر، 2010 دار الكتب العلمية بيروت 3 - الركابي، فلیح کريم خضير، العمارة والبيئة في القران الكريم، مجلة كلية الآداب.

96،2007 العدد I 4 - Galbreath« jóaddressing(2009)“ sustainability ;a strategy devel opment framework” international journal of sustainable strate gic management vol.1ino.3، p.315 5 - Mitrabinda، singh،(2010)’’ Indian Business sustainability in the era of globalization - cas study; advance in management”.vol.

(3) no.(5)،p59 6 - Elliots steven-(2011) “trans disciplinary perspectives on envi ronmental sustainability; a resource base and framework for it enabled business quarterly transformation vol.35•no. 1•p205 7 - Jochem. Roland (2012)» sustainability modeling as an enter prise quality requirement“ institute for machine tools and facto ry management.berlin university of technology pascalstr«p131 8 - Fichter، K،(2005) entrepreneurship.innovation،Germany ;me tropolis.p5 I

ص: 212

أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الاقتصادي العام في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) الأستاذ الدكتور سعد خضير عباس الرهيمي كلية القانون - جامعة بابل

اشارة

ص: 213

ص: 214

أسباب اختيار البحث

لقد كان سبب اختيارنا لهذا البحث هو إيماننا العميق بوجود مذهب اقتصادي إسلامي متكامل. يمكن الاستنارة به في حل كثير من المشاكل الاقتصادية التي تمثل تحديات حقيقية ومتلازمة مع الأوضاع المعاصرة. فبالرغم مما جاد به الفكر الانساني من النماذج والنظريات الكثيرة التي ابتكرت حتى الآن، لم يتسنًّ التخلص من الاختلالات المستديمة في المنظومات الاقتصادية الراهنة.

فرضيات البحث

الفرضية الأولى:

إن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي ورد في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) احتوى على اسس «لنموذج مرن للتوازن الاقتصادي العام. ويمكن اشتقاق فرضيتين جزئيتين من الفرضية الاولى وهما: الفرضية المشتقة الأولى: أن هناك تأثيراً إيجابيا مباشراً لتطبيق هذا النموذج في علاج الخلل في التوازن الاقتصادي العام (عملية إعادة التوازن الاقتصادي العام). ولأية منظومة اقتصادية.

الفرضية المشتقة الثانية: ان هناك علاقة مباشرة بين وجود ذوي الكفايات والخبرات العلمية العالية والمؤمنة في مراكز القرارات وبين إمكانية تطبيق هذا الأنموذج لصنع القرارات التي من شأنها إحداث تغيير جوهري في الظواهر الاقتصادية من أجل معالجة الخلل في التوازن الاقتصادي العام.

ص: 215

الفرضية الثانية:

إنّ هذا الأنموذج ذو استشراف مستقبلي مستمر، و ذو مرونة عالية وغير جامد. ويتمكن من استيعاب المستحدثات التي تنبثق أمام الأمة في تطورها ومعالجة المشاكل التي تفرزها التطورات في الظواهر الاقتصادية للمجتمعات المختلفة.

مفهوم الاقتصاد عند الإمام علي (عليه السلام)

إن الإمام علي (عليه السلام) قد سبق المدارس الفكرية بأكثر من ألف سنة في تحديد الفعاليات المنتجة. أذ تُعد، كما جاء في العهد المبارك، جميع القطاعات الاقتصادية منتجة دون استثناء. وأن هذه حقيقة مهمة جداً دارت حولها مناقشات طويلة من اجل تحديد الفعاليات المنتجة وغير المنتجة.

الموازين الأعدل أساس أُنموذج التوازن الاقتصادي

يُعدُّ هذا سبقاً علمياً لما ورد في عهد الإمام (عليه السلام). حيث ان تأكيد ذلك يتضح من المقارنةً، بين ما يُستنتج من فكرة «الموازين الأعدل» التي تحدد بأن حالة التوازن تكون غير مستقرة في السوق، وبين ما ورد في النظرية الاقتصادية الحديثة التي تؤكد أنّ حالة التوازن في سوق السلع المختلفة تكون عرضة للتقلبات المستمرة، وأن السعر لا يكون مستقراً دائماً.

يتضح مما سبق أن هناك أنموذجاً اقتصاديا للتوازن طرح في عهد الإمام (عليه السلام) يمكن الاستفادة منه في المراحل اللاحقة. حيث ستكون له تطبيقاته العملية لمعالجة الاختلالات التي تنتجها التغيرات في الظواهر الاقتصادية المحيطة بالمجتمعات الانسانية عبر الأزمنة المختلفة. كذلك سيكون بالإمكان أن يشتق من

ص: 216

هذا الأنموذج الحلول الملائمة، وسيكون مرناً بحيث يستوعب ما تستجد من ظواهر وبكل متغيراتها.

يتضح مماسبق ايضا، أن العهد يُظهر وجود فکر تدخلي من قبل الدولة وتوجيه اقتصادي مبرمج يستند إلى تخطيط دقيق يستهدف تحقيق التوازن الشامل في المنظومات الاقتصادية. ان هذه الحقيقة تضمّنها عهد الإمام علي (عليه السلام) أيضاً، وسبق إلى إقرارها بأكثر من الف سنة فقهاء المالية العامة وعلماء الاقتصاد. لقد أنتظر هؤلاء حتى سنة 1929 بداية الكساد الاعظم، وحدوث الأزمة الاقتصادية و المالية العالمية، ليعلنوا ضرورة تدخل الدولة للحيلولة دون انهيار النظام الرأسمالي القائم على النظرية الكلاسيكية.

مدى إمكانية تطبيق الأنموذج المستنتج في إصلاح الخلل في التوازن الاقتصادي العام.

* أذن من كل ما سبق يمكن أن نستنتج بأن الأنموذج البديل لنماذج التوازن الاقتصادي العام، هو النموذج المستخلص من عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر(رضي الله عنه) والذي يمكن وصفه بأنه:

أولاً: أنموذج مرن للتوازن الاقتصادي العام.

ثانياً: يستهدف تنظيم كافة الأنشطة والفعاليات الاقتصادية.

أما تنفيذه فيتطلب توفر الشروط الأساسية الآتية:

أولاً: تدخل حكومي في اقتصاد موجه و مبرمج.

ثانياً: إسناد مراكز القرارات الحكومية الى كوادر متخصصة، وذات كفاية عالية، ومؤمنة ببرنامج السياسة الاقتصادية المستهدفة.

ثالثاً: تفعيل منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي.

ص: 217

والسؤال الذي يمكن طرحه: هل يمكن بناء مخطط افتراضي لمنظومة اقتصادية متكاملة يمكن تطبيقه على أرض الواقع وفقاً للأنموذج المكتشف؟ الاجابة، نعم يمكن ذلك من الناحية العملية، اذا افترضنا توفر جميع الشروط السابقة التي تحددت في الانموذج المكتشف. فسيكون ممکناً بناء مخطط عام لمنظومة اقتصادية متكاملة، يتضح فيها كيفية حدوث التفاعل الديناميكي بين مكوناتها الفكرية والتشريعية، وهيكلها التنظيمي العام في كافة المجالات (التنظيمية والاقتصادية والاجتماعية). كذلك سيتبين أهمية اختيار استراتيجيات التدخل الحكومي في تحديد الأولويات في أي اقتصاد موجّه يستهدف كافة الانشطة والفعاليات، وعلى النحو الآتي:

مكونات المنظومة: استراتيجيات (0) التدخل الحكومي في الاقتصاد الموجه الفكرية والتشريعية (الانشطة والفعايات المستهدفة) القوانين والتشريعات في المجال:

- الثقافي - الإجتماعي - الإقتصادي والمالي - السیاسي - العمل والکفایات العلمیة صياغة الاستراتيجية في ضوء الأسس المحددة و الأهداف المشودة.

تخطيط استراتيجي:

- الخطط و البرامج طويلة الأجل.

- الخطط و البرامج متوسطة الأجل.

- الخطط و البرامج قصيرة الأجل.

تنفيذ الاستراتيجية:

- الخطط والأهداف - الرقابة و التقويم.

في المجال الإجتماعي:

- المؤسسات الحكومية.

- المؤسسات غير الحكومية. (القطاع الخاص) - مؤسسات المجتمع المدني.(**) في المجال الإقتصادي:

- السياستين المالية والنقدية.

- السياسات السعرية.

- سياسات الموارد البشرية.

- سياسات الموارد غیر البشرية.

- سياسات إستيعاب التطور التكنولوجي.

في المجال الإجتماعي:

- القيم و الأخلاق العامة.

- شبكة الحماية الإجتماعية.

- تنظيم الاسرة و الفرد.

- خطط الصحة.

- خطط التربية والتعليم.

- خطط الرفاهية والسعادة الإجتماعية.

ص: 218

والسؤال الذي يطرح هنا، هل تمكن الامام عليه السلام من تطبيق كامل للنموذج على أرض الواقع لكي تظهر نتائجه كاملة في تلك الفترة الزمنية؟ ستكون الإجابة، حتما، کلا، فقد تم تطبيق جزءٍ منه فقط. حيث لم تكن الظروف مؤاتيه لعملية التطبيق بشكل كامل. حيث يعود سبب ذلك إلى فترة حكمه القصيرة جداً، والمضطربة سياسياً أيضا.

أن تصدي الإمام (عليه السلام) لمعالجة المشاكل التي أفرزتها هذه الظواهر الاقتصادية لم يكن مقتصراً على الزمن الذي كتب فيه العهد فحسب، وانما تطلع ايضا نحو الأزمان اللاحقة. وهذا يعني احتواء العهد على المبادئ الاقتصادية التي من شأنها الاستجابة لما تقضي به تغیرات الحياة وتبدلاتها وبها تقضي به حاجة الأمة في تطورها.

التفعيل المبكر لمنطقة الفراغ التشريعي لمعالجة الحالات القائمة واستيعاب المستجدات المستقبلية

لقد اتضح لنا مما سبق بأن عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن المرحلة محددة، بل كان رسالة لاستشراف المستقبل، بعث فيها برنامجاً اصلاحياً شاملاً. إن القراءة الدقيقة لعهده المبارك تبين أنّ هناك خطابا موجهاّ للأجيال القادمة. فقد كتب الإمام (عليه السلام) فيه: «ثمّ أمضِ لكلّ يوم عمله; فإنّ لكلّ يوم ما فيه».

المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين:

أحدهما قد مُلئ من قبل الإسلام بصورة مُنجزة لا تقبل التغيير و التبديل.

والآخر يشكل الفراغ في المذهب قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة (أو ولي الأمر) يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي و مُقتضياتها في كل زمان.

ص: 219

ويمكن اقتراح المخطط البياني الآتي لتبسيط التصور حول كيفية تواجد منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي. كذلك لبيان درجة مرونة هذه المنطقة وامكانية تمددها الاستيعاب المستجدات لا سيما في المجال الاقتصادي:

منطقة الثوابت منطقة في التشريع الإسلامي منطقة الواقع العملي منطقة الثوابت والتي مُلأت من قِبل الإسلام بصورة مُنجزة لا تقبل التغيير و التبديل منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي منطقة الواقع المُعاش الذي ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة (أو ولي الأمر) يملأها وفقأ المتطلبات الأهداف العامة للإقتصاد الإسلامي و مُقتضياتها في كل زمان.

ص: 220

تطبيق النموذج المستنتج في اصلاح الاقتصاد العراقي

- لقد أصبحت عملية الإصلاح الاقتصادي وإعادة التوازن الى الاقتصاد العراقي أمراً حتمياً و يدعو إلى التفتيش الدقيق عن نموذجٍ اقتصادي مناسبٍ يمكن تطبيقه على أرض الواقع.

- إن تطبيق نموذج التوازن العام المستخلص من عهد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، يمكن ان يؤدي الى تحقيق عملية الإصلاح الاقتصادية الشاملة في العراق. حيث أنه يمثل الاستراتيجية البديلة التي تستهدف تنظيم كافة الأنشطة والفعاليات الاقتصادیة من أجل بناء قاعدة صلبة لإجراء وتطبيق سياسات الإصلاح. ومن أجل تطبيق هذا النموذج لا بد من توفر جميع شروطه التي ذكرناها في المبحث الرابع، والمتعلقة بالجوانب الاقتصادية والإدارية و التشريعية. وكذلك فيما يتعلق بالاستراتيجية المطلوبة لتنفيذه وبكل التفاصيل التي ذكرناها.

ص: 221

الاستنتاجات:

إن القراءة الدقيقة و المعمقة للعهد المبارك أوصلتنا إلى الاستنتاجات الاتية:

1 - اكتشاف اسس نموذج للتوازن الاقتصادي العام تنبثق من الفكر الإسلامي الحنيف. حيث يمكن أن يكون بديلا للنماذج التي اقترحت وتم تطبيقها ولم تنجح كلياً في تفادي الأزمات الاقتصادية أو الاختلالات.

2 - أنه نموذج مرن ويمتاز بالاستمرار وعدم الجمود في مرحلة معينة من التنفيذ.

3 - هناك تفعيل مٌبكر لمنطقة الفراغ التشريعي الإسلامي بحيث تستوعب جميع التطورات الاقتصادية عبر المراحل الزمنية المختلفة.

4 - تستوجب شروط تطبيق النموذج وجود قيادة مؤمنة، واعية، ومؤهلة تأهيلاً عاليا مثل شخصية مالك الأشتر (رضي الله عنه). حيث كان العهد موجهاً اليه مباشرةً ليتحمل مسؤولية تنفيذه.

5 - يمكن تطبيق النموذج للوصول الى الحلول المناسبة لكل واقع جديد، كواقع الاقتصاد العراقي مثلاً.

ص: 222

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر الدستور الاداري للدولة الرائدة أ. م. د. مهدي حسين التميمي

اشارة

ص: 223

ص: 224

المقدمة:

استوفي العهد التاريخي الخالد للإمام علي (عليه السلام) لواليه الكفوء مالك الاشتر قيّم وإعتبارات التأدية الرشيدة للمهام العامة والخاصة للدولة، وعلي هديّ المبادئ المثلى للشريعة الاسلامية، مشتملاً على توصيف الاعمال والمهام الرئيسية في الدولة، وبالأخص منها الجيش، والقضاء،والزراعة، والتجارة، والصناعة، وولاية الاقاليم، وما يختص بالرقابة على الاداء وقد إغتنيت مواردها بالفيض من المبادئ والتوجيهات القيّمة القدر للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ليكون العهد بالحق الدستور الاداري للدولة الرائدة وقد وافينا في هذا البحث ما يختص بما قد ذكر، وخلصنا الى التوصيات والمقترحات المتعلقة بالبحث، متمنين أن نكون قد استوفينا القدر المأمول من غايته، وبالله التوفيق

أولاً: الاعتبارات المبدئية في تولي المسؤولية:

إشتملت ديباجة العهد على الإعتبارات المبدئية الخاصة بالسلوك الرشيد لتولي الشؤون العامة وعلى هديّ المبادئ المثلى للشريعة الاسلامية مجسدة ب:

«تقوى الله وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنتّه» «أن تكون أحب الذخائر اليه ذخيرة العمل الصالح» «أن يشعر قلبه بالرحمة للرعية، والمحبة لهم،واللّطف بهم» ونّوّه (عليه السلام) بالقيم الاعتبارية الخاصة بالعدل الاجتماعي بملافاة الفوارق العرقية والدينية بين الناس: «فأنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلقِ، وفي هذا الجانب الاعتباري الهام في سلوك الدولة مع مواطنيها، فإن الامم

ص: 225

المتحدة، وفي تقييمها لذلك العهد: «أقرّت الدعوة لإتخاذ القائد الإسلامي الإمام علي (عليه السلام) مثالاً لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة واحترام الانسان»، وقد جاء التقرير الخاص بذلك والذي اشتمل على اكثر من (160 صفحة)، والصادر عن «برنامج الامم المتحدة الانمائي الخاص بحقوق الانسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم» (UNDP) على ذكر مقتطفات من الوصايا الواردة في ذلك العهد وبشكل خاص ما يتعلق بالمشورة ما بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الاداري والمالي، والعدالة لجميع الناس، وتحقيق الاصلاحات الداخلية، وما ورد في نهج البلاغة من وصايا الامام (عليه السلام) والخاصة برئيس الدولة»(1) وقد تضنمت توجيهات الامام (عليه السلام)، وفي الجانب الاعتباري من المسؤولية جوانباً هامة من علم النفس السلوكي في القيادة الانسانية الرائدة:

- «ولا تقولّن إني مؤمّرُ آًمر فأطاع، فان ذلك إدغال (إفساد) في القلب ومنهكة في الدين» - «أعطهم من عفوّك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم، ووالي الامر عليك من فوقك... وقد استكفاك أمرهم».

- «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهّة أو مخيّلة فانظر الى عظم ملك الله فوقك، وقدرته على ما لا تقدر عليه من نفسك، واياك ومساماة الله في عظمته، والتشبّه به في جبروته، فان الله يذّل كل جبارٍ ويهين كلَ مختال» - «وليكن أحبّ الامور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل، واجمعها لرضى الرعيّة، فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وان سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامة«.

- «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم (أبغضهم) عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن

ص: 226

في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها.. وإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك« - «أطلق عن الناس عُقدة كل حقدٍ، واقطع عنهم سبب كل وترٍ، وتغاّب عن كل ما لا يُضح (يظهر) لك ولا تعجلن في تصديق ساعٍ..» وحذر الامام (عليه السلام) من آفة المحسوبية في توجيهه الاعتباري لواليه الاشتر:

- "أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك...» - " وتحفظ من الاعوان «، و «إلزم الحق من لزّمه القريب والبعيد، وكُن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصّتك حيث وقع« وقدّم الامام (عليه السلام) بأزاء ما قد ذكر قائمة بالسلوكيات (الغرائز) السلبية في مجال العمل الاداري،وبالأخص منها ما يتصل بالعمل الاستشاري، موضحاً ازاء كل غريزة منها النتائج المترتبة عليها:

- «ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعّدك الفقر» - « ولا جباناً يضعفك عن الامور» - «ولا حريصاً يزين لك الشرّه بالجور، فان البخل، والجبن و الحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله» - وفي تلك التوجيهات الاعتبارية دلالات حيوية للتنبيه عن موارد الفساد الاداري - - الفردي والنظمي - والتي تشير اليها الدراسات الحديثة الخاصة بالإصلاح الاداري.

ص: 227

توصيف الاعمال والمهام:

جاء الامام علي (عليه السلام) على ذكر فئات الاعمال الرئيسية في الدولة ومهامهم وبما اسماها ب «الطبقات» وصنف العاملين بمقتضاها،وادوارهم، وتعاضدهم في المسؤولية، وحيث: «لا يصلح بعضها إلا ببعضٍ، ولا غنى ببعضها عن بعضٍ«، واشتمل ذلك التوصيف الوظيفي على الآتي:

الجيش: وأسمى (عليه السلام) منتسبيه ب «جنود الله« وانهم كما وصف: «حصون الرعية، وزيّن الولاة، وعزّ الدين، وسبل الامان، وليس تقوم الرعية إلا بهم»، وأنه: «لابد للجيش من ميزانية خاصة به».

وذكر (عليه السلام) لواليه الاشتر مواصفات من يوليهم المسؤولية في هذا القطاع الحيوي:

- «انصحهم في نفسك الله ولرسوله ولأمامك» - «أنقاهم جيباً».

- أفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن العضب، ويستريح إلى العُذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على (يتجافى) الاقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به العنف«.

- وأن تسّند المسؤولية في هذا القطاع الحيوي ل«ذوي المروءات والاحساب» و «أهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النخوة والشجاعة،والسخاء والسماحة».

ص: 228

ثانياً: القضاء:

وأشاد الامام (عليه السلام) بالقضاة أنهم: «قرّة عين الولاة في استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرعية، وانه لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم الا على ولاة أمورهم، وقلّة استثقال دولهم، وترك إستبطاء مدتهم«.

موصياً وإليه بأن يوسّع لهم في المجال الاعتباري - المادي والمعنوي:

«فأفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوي البلاد منهم، فأن كثرة الذكر لحُسن أفعالهم تهز الشجاع، وتُحرّض الناكل (المتأخر)... ثم اعرف لكل إمرءٍ منهم ما أبلى، ولا تضمّن بلاء إمرءٍ الى غيره».

ويفيد الحاكم توفيق الفكيكي بصدد ما ذكر: «أنه يفيد زيادة الافضلية التي يجب أن يختار القاضي أو الحاكم من بين الحائزين عليها، والمتصفّين بها من أفراد الرعية المثقفين الافاضل، وكان الامام (عليه السلام) بعد أن أوجب على عامله أن ينتخب للقضاء أفضل رعيته علماً وتهذيباً أراد أن يلفت نظره الى جهة مهمة هي فوق العلم والثقافة الواسعة، وهي خاصية نفسية بحتة، وان كلمته: «أوقفّهم في الشبهات «يكشف بوضوح عن مقصده الشريف، فهو قد اشترط أن يكون القاضي أو الحاكم زيادة على ما هو عليه من الفضل من ذوي النفوس الحساسة والذكاء المتّقد والنباهة الشديدة الذين يبددون بنور اليقين ظلمات الشك لئلا يلتبس عليهم الامر «ذلك لأن الشبهات هي ما لا يتضح الحكم فيها بالبعض، فينبغي الوقوف عند القضاء إذا إستبهم وجود الحل حتى يرد الحادثة الى أصل صحيح، وقد تعترض الحكام هذه الشبهات في القضايا الجزائية أكثر منها في القضايا الحقوقية «فوضعوا قاعدة عامة أصبحت مثلاً سائراً وهي: «أن براءة ألف مجرم خير من تجريم بريء واحد«، وقد

ص: 229

أرادوا بها تنبيه الحكام بأن يحذروا الشبهات التي تدفعهم إلى انزال الحد والعقاب بحق الابرياء من جراء ما يحصل في التحقيق من تضليل وقد قال (عليه السلام):» ادرؤوا الحدود بالشبهات «وقد سار علماء الجزاء كافة والمشرعون للقوانين العقابية على هذا الاساس فوضعوا قاعدة عامة ومتبعة وهي: «إن حصل شك في مفهوم مواد القانون الجنائي فيجب تفسيرها وتأويلها لصالح المتهم«، ولهذا الغرض أوصى الامام (عليه السلام) عاملة الاشتر أن يختار قضاته من أفضل رعيته ومن أوقفهم على الشبهات وأخذهم بالحج، وأقلهم تبرماً في الثناء والاطراء، وقد أخذت حكومات العالم في هذا العصر بهذه النظرية الحكيمة فوضعت نظاماً للتفتيش العدلي وهذا يدل على أن أمير المؤمنين علياً قد وضع دستوراً من أرقى الدساتير لتنظيم دولته في ذلك العصر»(2) وقال العشماوي - أستاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة - عن كلام الامام (عليه السلام) للأشتر بشأن القضاة «أنه لم يرد كلاماً غيره وفي أي دستور من دساتير العالم يفصّل مهمة القضاة وطرق اختيارهم مثل ما فعل»(3).

الزراعة عمارة الارض:

وجّه الامام (عليه السلام) بشأنها بأن:» يكون النظر بعمارة الارض أبلغ من النظر باستجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، وأن من طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً"، منوهاً الى ضرورة الاعتناء بالعاملين بقطاع الزراعة بتأمين كامل احتياجاتهم:

«فإن شكوا ثقلاً أو علة، أو انقطاع شرب أو بالة(4) أو إحالة أرض إغتمرها غرق، أو أحجفها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به مرهم، ولا يثقلّن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم».

ص: 230

مشيداً بالمزارعين بأنهم :«ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك «منوهاً (عليه السلام) بأن: خراب الأرض - انما تؤتي من إعواز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع وقلة انتفاعهم بالعبّر».

التجارة: نبه الإمام (عليه السلام) لما يكون من شأن الكثير من العاملين فيها من «الضيق الفاحش (عسر المعاملة)، والاحتكار للمنافع، والتحكم في البياعات، وذلك كما وصف (عليه السلام): «مضرّة للعامة، وعيب على الولاة «، موصياً واليه بشأن ذلك:» أن يمنع من الاحتكار، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه، وأن يكون البيع سمحاً، بموازین عدل،، و اسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع».

وأوصى (عليه السلام) بأن يُعاقب المحتكر:

«فمن فارق بعد نهيّك أياه فنکّل، وعاقب من غير إسراف»، وإستوصی (عليه السلام) فيمّن أسماهم با «الطبقة السفلى»، من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس، والزُمنی (ذوي العاهات)،.. وأن يجعل لهم قسماً من بیت المال، ومن غلاّت صوافي الاسلام في كل بلد«.

الكادر الوظيفي:

وجّه الإمام (عليه السلام) باعتماد جملة من الاعتبارات المبدئية التي تخص بمهامهم ومنها:

- «أن يتولى على الأمور: خيرهم، ممن لا تبطره الكرامة فيتحرى بها في الخلاف».

- «أن يكون اختيارك إياهم على فراستك وإستنامتك(5)، وحُسن الظن منك».

- «أختبرهم بما ولّوا للصالحين من قبلك، فإعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرّفهم بالأمانة وجهاً».

ص: 231

وان تسند المسؤولية ل«ذوي المروءات والاحساب وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النخوة والشجاعة، والسخاء والسماحة..، وان يكون ممن لا تبطره الكرامة فيتحرى بها في الخلاف في إيراد مکاتبات العال، ولا يجهل قدر نفسه في الامور.

وكانت من المبادرات الخلاّقة في الحكم الرائد ما أشار به الإمام (عليه السلام) لإعتماد قسم عام يختص بالنظر في مظالم الناس يتولاه المسؤول نفسه:

«وإجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم منه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه الله الذي خلقك، وتُقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشراطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع (متردد)، فأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: «لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع، ثم احتمل الخُرق (العنف) منهم والعي، ونحّي عنك الضيق والانفّ..».

وعلى وفق تلك الاعتبارات المبدئية في السلوك الإداري، والتحديد لصفات الموظف في موقع المسؤولية، فإن الإمام (عليه السلام) وعند توليه المسؤولية قد عمد الى الاستغناء عن خدمات بعض موظفي الدولة حرصاً على تطبيق الشريعة الاسلامية: «وإن كان ذلك سيضعف بكرسي الخلافة.. وبالرغم من نصح الناصحين بإبقائهم في مراكزهم الادارية خوفاً من مشاغبتهم»(6)

ص: 232

التنظيم اللامركزي للسلطة الادارية:

وأن التفويض الذي منحه الإمام (عليه السلام) لواليه الاشتر يندرج ضمن ما يسمى ب«اللامركزية في الادارة، واتخاذ القرارات «والذي يُعد اليوم من أكثر أشكال الحكم المحلي تطوراً، ويشار إلى: أن النظر في جملة التوجيهات التي أوردها أمير المؤمنين (عليه السلام) لواليه الأشتر فيما يختص ب«جباية خراج مصر، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها»: تعطي دليلاً على المقدرة الادارية الكبيرة التي كان يتمتع بها الامام علي (عليه السلام)، وهو يدرك بالتمام خاصية العوامل المحلية، إضافة إلى مقدرات ولاتّه، وهو ما يُعد مؤشراً ذا دلالة على المستوى الاداري المتقدم الذي بلغه المسلمون في العهد الأول من الاسلام، وهو يوازي ما يطلق عليه اليوم في علم الادارة ب «الاستراتيجيةٍ Strategic Management»، وأن الترتيب الذي جاء عليه الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر: «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها» - کما مر - يفيد بالتمام بأن الامام علي (عليه السلام): كان يتمتع بقدرة فائقة على ترتيب الاولويات، وذلك لأن الخراج كان يمثل أكبر مصدر اقتصادي من مصادر الدولة الاسلامية في ذلك الوقت، ومالم تؤمن جبايته فلن تفلح الدولة في قتالها العدو، ولا في استصلاح الأرض، ولا في عمارة البلاد، ولذلك كان يجب تأمين النفقات المتعلقة بالجهاد، وأن عمارة البلاد واستصلاح الناس الذين يقومون بتعمير الأرض لا يمكن القيام به بدون الحصول على اموال الخراج«.

وقد اشير الى أن العهد بأكمله - وعلى وفق ذلك -: «مليئ بها يطلق عليه علماء الادارة في العهد الحاضر ب(القيم الصميمية أو الجوهرية Core Value)، والتي الخصها الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر با «تقوى الله، وایثار طاعته واتباع ما

ص: 233

أمر به في كتابه وسنته، وبسط القسط والعدل بين الرعية، وحل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم.. وقطع سبب کل عداوة..» وأن جميع تلك القيّم الصميمية تتساوق وتنسجم مع رسالة الإمام (عليه السلام)، وبالتالي فانها تؤدي إلى انجاز الرؤيا المستقبلية المشتركة، وهذا ما ينادي به أساطين الادارة الحاليين، وان قائمة أي شركة ربما تحتوي على: «الاستقامة، الانفتاح، الامانة، الحرية، تساوي الفرص، الجدارة، والولاء «، وان العهد قد احتوى على جميع تلك القيم التي ذكرها «Senge» من اساطين الادارة الحاليين، والتي اسماها «قيّماً جوهرية، أو صميمية»، وان هذه القيم کما ذُکر: «لا تساوي شيئاً إذا ما قُورنت بالقيم التي احتوى عليها العهد»(7)

الرقابة الفعالة:

واشتمل العهد على الجانب الذي يختص بمراقبة السلوك الوظيفي وتوجيهة الوجهة السليمة، وقد كان الامام علي (عليه السلام) سبّاقاً لمعرفة وظيفة الرقابة وممارستها والابداع فيها، وتسخيرها في مجال الاختبار لكفاءة العاملين، ويبرز ذلك في المقطع التالي من عهده للأشتر:

«ثم انظر الى أمور عمالك، فإستعملهم إختباراً، ولا توهم محاباةً «، وقد إستنتج بصدد ذلك بشمول الرقابة التي وجّه الإمام (عليه السلام) بإستخدامها لأنواع الرقابة الثلاث المعروفة في عالم الادارة اليوم، وهي: «الرقابة الناظرة، Foreward Looking»، والرقابة المتزامنة مع القيام بالأعمال ” Concurrent Control، والرقابة الناظرة للخلف ” Backward - Looking ،.(8) وكان الإمام (عليه السلام) يُتبع الدور الرقابي بالتوجيه بحسُن التقييم للإنجاز الوظيفي ليضمن في ذلك فعالية وأهلية الدور الرقابي و تحقيقه للغاية المنشودة منه،

ص: 234

وكان في ذلك توجيهه الريادي:

«ولا يكونّن المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الاحسان وتدريباً لأهل الاساءة على الاساءة، وإلزم کلاً منهم ما ألزم نفسه»

البعد الاجتماعي للأدارة:

وتخّطت مفاهيم الادارة عند الإمام (عليه السلام) الجانب الوظيفي الى الاعتبار الاجتماعي العام للوظيفة الادارية، ومن خلال التوجيه بالاهتمام بشؤون الفرد وطموحاته، وتنظيم علاقاته مع نفسه، ومع الآخرين، وقد توخي الإمام (عليه السلام) هذا البعد الاجتماعي في الادارة في قوله للأشتر:

«واشعر قلبك بالرحمةِ للرّعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخُ لك في الدين، وإما نظيرُ لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلّل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطاء، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تُحب أن يُعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولّاك، وقد استكفاك أمرهم، وإبتلاك بهم» «أطلق عن الناس عقدة كل حقدٍ، وإقطع عنهم سبب كل وترٍ، وتغّابَ عن كل ما لا يضح (يظهر) لك» «وإعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حُسن ظن والٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك إستکراهه إياهم علي ما ليس له قبله، فليكن منك في ذلك أمرُ يجتمع لك به حُسن الظن برعيتك»

ص: 235

واختتم الإمام (عليه السلام) عهده للأشتر بتذكيره بواجبه الشرعي في المسؤولية:

«والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدّمك: من حكومة عادلة، أو سُنّة فاضلة، وأثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله)، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا».

وسأل الإمام (عليه السلام) الله تعالى أن يوفقه مع واليه الاشتر: «لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح اليه والى خلقه، مع حُسن الثناء في العباد، وجميل الاثر في البلاد » وقد نال الامام علي (عليه السلام) بالحق حُسن الثناء في العباد وعلى الاتم من ذلك، وجميل الاثر على مر الاجيال التي ظلت تستذكر مأثرات ومآثر حكمه الرشید، المستهدي بقيم الرسالة السمحاء التي حمل الامام (عليه السلام) لواءها بالجهدِ والجهاد، ثم بالشهادة.

ص: 236

التوصيات والمقترحات:

(1) - أن المبادئ وقيم السلوك الاداري (التدبيري) الرشيد والتي وردت في العهد جديرةً بأن تُعتمد منهاج عمل في اوجه النشاط الاداري والاقتصادي، وبما یُرشّد مسارات النشاط ويرتقي بها الى المستوى الأمثل في الاداء كوظيفة اجتماعية مقدسة.

(2) - أن العهد بقيمه الاعتبارية المُثلى - وفي الشأنين الاداري والاقتصادي، والتي أشاد بها التقرير الأممي - جديرةٌ بأن يحظى بما يليق به من الاهتمام في الدراسات الادارية والاقتصادية في الجامعات والمعاهد المتخصصة بشكل عام، وفي الاطاريح الجامعية على وجه الخصوص.

(3) - ضرورة الاستخدام للعبارة الأكفأ في الدلالة على مجالات التأدية الرشيدة للمهام وهي "التدبير"، والتي وردت ضمن خطب و تقریرات الامام علي (عليه السلام) والتي انتظمها «نهج البلاغة»، وكمثل ما وردت في آيات عدة من القرآن الكريم عوض عبارة «الادارة والتي وردت في الآية «283 من سورة البقرة"، وهي لا تفيد المعنى المقصود، وقد وافينا في كتابينا «الفرق بين الادارة والتدبير «، و» الامام علي (عليه السلام) - التدبير القيادي للدولة - «ببیانات وافية عن ذلك، مؤملين أن يُصار إلى مؤتمر أو ندوة متخصصة بشأن ذلك.

ص: 237

مصادر البحث:

1 - نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، مؤسسة المختار، القاهرة، الطبعة الاولى، 2006.

2 - المعجم المفهرست لألفاظ نهج البلاغة، دار التعارف، بیروت، الطبعة الأولى، 1990.

3 - الراعي والرعية، توفيق الفكيكي، دار الغدير، الطبعة الأولى، 1429 ه.

4 - ملامح الفكر الاداري عند الامام علي (عليه السلام)، د. حسن الشيخ، دار مؤسسة أرسلان، دمشق، 2010.

5 - نظرية التنظيم والادارة في فكر الامام علي (عليه السلام)، د. عیسی مكي عبد الله، مکتبة فخراوي، المنامة، البحرين، 2009.

6 - الامام علي (عليه السلام) - التدبير القيادي للدولة - د. مهدي حسين التميمي، العتبة العلوية المقدسة، الشؤون الفكرية والثقافية (127)، الطبعة الأولى، 2015.

7 - الفرق بين الادارة والتدبير، د. مهدي حسين التميمي، بیت الأفكار الدولية، عمان، الطبعة الأولى، 2005. 8 - کراس خاص بندوة «عهد الامام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر «، رئاسة ديوان الوقف الشيعي، جامعة بغداد، 2012.

ص: 238

الهوامش

1 - کراس خاص لندوة "حول عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر، ص 31 - 41.

2 - الراعي والرعّية، ص 08 - 28.

3 - الاغراض الاجتماعية في نهج البلاغة وتمهيد لمعظم الفاظ نهج البلاغة.

4 - ما يبل الأرض من ندی ومطر.

5 - الاستنامة: السكون والثقة.

6 - ملامح الفكر الاداري عند الامام علي (عليه السلام)، ص 74.

7 - نظرية التنظيم والادارة في فكر الامام علي (عليه السلام)، ص 42 - 62.

8 - نظرية التنظيم والادارة في فكر الامام علي (عليه السلام)، ص 513 - 613.

ص: 239

ص: 240

عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بين وجهة النظر الاقتصادية والدروس المستفادة منها على واقع الاقتصاد العراقي الأستاذ الدكتور هيثم عبدالله سلمان رئيس قسم الدراسات الاقتصادية مركز دراسات البصرة والخليج العربي - جامعة البصرة

اشارة

ص: 241

ص: 242

المقدمة:

يُعد العهد الذي كتبه علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر من أرقى الكتب التي عهدها خليفة لولاته وعماله، فقد جمعت الترتيب المتوالي بين علم السياسة، وعلم الإدارة، وعلم الاقتصاد، وبين مدى التلازم ما بين العلوم الثلاثة بشكل تسلسلي هرمي. فبدأ عليه السلام «هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(1)، فالأمر سياسةً، والعهد إدارةً، ولجباية وغيرها اقتصاداً؛ وبذلك وضع عليه السلام الأسس العلمية لإدارة البلاد والعباد من خلال كلام شاف وكاف جامعً ومانعً، فلا مختصر محل ولا اسهاب ممل.

وقد ضم العهد بعض المضامين الاقتصادية التي من الأحرى بنا في العراق الآن ونحن نعاني من مشکلات اقتصادية واجتماعية وسياسية الالتفات لها وعلاجها من خلال اتباع توجيهات أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر؛ وذلك لا لعلاجها فقط، ولكن للحفاظ على وحدة العراق أولاً ولتحقيق التنمية المستدامة التي عجزت عن تحقيقها معظم الدول العربية.

مشكلة البحث:

تنبع المشكلة في إن عدم اتباع وصايا أمير المؤمنين في إدارة حكم البلاد سيخلق أزمات اقتصادية كثيرة لا حل لها، وهو كما قال الإمام زین العابدین (عليه السلام)... «فالمتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق»(2).

ص: 243

أهمية البحث:

إن الارث العلمي لباب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد من استثماره بشكل دقيق و كفوء من خبراء فعليين قادرين على استنباط الحلول كافة لمجمل الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، إذ قال عليه السلام... «أمرنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا ملك مقرب أو نبی مرسل او مؤمن امتحن الله قلبه للإیمان»(3).

فرضية البحث:

استند البحث إلى فرضية مفادها إن الابتعاد عن تطبيق الاقتصاد الاسلامي في الاقتصاد العراقي سيفاقم المشكلات الاقتصادية والإدارية إلى درجة الوقوع في شرك دوامة الحلقة المفرغة، وما عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر إلا صورة مبسطة لإدارة الحكم والاقتصاد الاسلامي.

هدف البحث:

يهدف البحث إلى ما يأتي:

1 - توضيح المضامين الاقتصادية لعهد أمير المؤمنين لكيفية إدارة الحكم في ولاية مصر.

2 - بيان أيها له الأولوية في إدارة الحكم الرشيد علم الاقتصاد أو علم الإدارة أو علم السياسة.

3 - بیان أيهما له الأولوية في إدارة الحكم الرشيد العدالة أو المساواة.

4 - تلخيص فلسفة أمير المؤمنين في كيفية إدارة الحكم، وما هي إمكانية استنباط الحكم الملائم في إدارة حكم العراق وإدارة موارده الاقتصادية؟

ص: 244

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي لعهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر في ولاية مصر

أولاً: نبذة مختصرة لشخصية أمير المؤمنين (عليه السلام)

مما لا ريب فيه إن من الصعب جداً الإحاطة بشخصية أمير المؤمنين (عليه السلام) ويرضى عنها الجميع من مراجع و علماء دین ورجالاته وغيرهم من علماء أجلاء، فكل ما قيل وكل ما يقال هو غيض من فيض، ومثله مثل قطرة في بحر لجي فما بال بضعة سطور يكتبها باحث على عجل، ولكن من سهل الأمر في وصفه، هو نفسه الذي يصعب وصفه وهو عليه السلام عندما قال «رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك، فترك ما لا يدرك وأدرك ما لا يترك»(4)، فضلاً عن ما ذكرته الحكمة المشهورة «ما لا يدرك كله لا يترك جله».

ولذلك لا يمكن التطرق إلى شخصيته المقدسة (عليه السلام) لتجنب القصور والتقصير، وإنما التطرق إلى محيط شخصية (عليه السلام) من خلال الاستعانة ببعض ما وصفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال «أنا مدينة العلم وعليً بابها»، وقال «أنت مني بمنزلة هارون من موسی ولكن لا نبي بعدي»، وقال ايضاً «أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة»، وقال كذلك «لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا»(5).

ويظهر من ذلك كله، أنه (عليه السلام) باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحد أبوي ص: 245

الأمة، فضلاً عن أول من عرف الله (عَز وجل) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ثم أصبح بذلك إمام الورى والتقى، وأبا الأئمة (عليهم السلام)، وبالتالي جعله الله (عز وجل) قسيم الجنة والنار بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «حب علي إيران وبغضة كفر»(6). هذه هي لمحة من محيط شخصية علي أمير المؤمنين وسيد الوصيين ويعسوب الدين وإمام المتقين.

ثانياً: شخصية مالك الأشتر

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمه بن ربيعة النخعي، ولقب بالأشتر لأن أحدى عينيه (شترت) أي شقت في معركة اليرموك(7)، وكان رئیس قومه وقد روي عن أبي ذر وعلي بن أبي طالب وصحبه، وشهد معه الجمل وله فيها آثار وكذلك في صفين، ولاه الخليفة علي (عليه السلام) مصر بعدما صرف عنها قيس بن عبادة عنها، ومعه شهادة من الإمام علي (عليه السلام) «أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف...»(8)، وهو لما وصل إلى القلزم وقيل العريش شرب شربة عسل مسموم، فتوفي متأثراً بالسم عام 37 ه، ويعزى هذا التدبير لمعاوية بن أبي سفيان فهو القائل وأشياعه: وإن لله جنوداً من عسل(9)، وقال عليه السلام عندما جاءه نعي مالك الأشتر (رحمه الله): مالك وما مالك! والله لو كان جبلاً لكان فندا، ولو كان حجراً لكان صلدا، لا يرتقيه الحافر ولا يوفي عليه الطائر(10).

مما يدل على أن شخصيته من الشخصيات البارزة في الإسلام، وكان من الرعيل الأول الصحابة أمير المؤمنين ومن المقربين لديه؛ لذلك اختاره لتولي هذه المهمة الكبيرة التي وضح الإطار الإسلامي الذي يتكفل بإرساء حكومة العدل الإلهي في ظل القوانين والنظم الإسلامية(11)، ولا تقتصر مفاهيم العهد على ولاية مصر وزمانها فقط ولكن تتعداه إلى كل مكان وفي أي زمان، لذلك جاءت شخصية مالك

ص: 246

الأشتر منسجمة تماما مع أهمية العهد وما يترتب عليه من مقاصد إسلامية سعی التوضيحها الإمام (عليه السلام).

ثالثاً: أوضاع ولاية مصر وسماتها للمدة (24 - 35) ه

لقد عانت ولاية مصر من أوضاع اقتصادية وإدارية واجتماعية وسياسية قاسية جداً؛ وذلك لكسب ولاءها للحكام، فضلاً عن أطماع الروم البيزنطيين والنوبيين، إذ ولى عثمان بن عفان ولاية مصر إلى عبدالله بن سعد بن أبي سرح عام 24 ه، إذ اختلفت سیاسة عبدالله عن سياسة عمرو بن العاص الذي حكم قبله، فقد تشدد في جمع الضرائب وعامل المصريين بقسوة، واستمرت ولاية عبدالله بن سعد حوالي عشر سنوات حتى قتل عثمان بن عفان عام 35 ه(12). ثم تولى الخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قام بعزل عبدالله وولى قیس بن سعد بن عبادة الذي استلم ولاية مصر بأوضاع مضطربة، ففئة انحازت إلى معاوية بن أبي سفيان تطالب بدم عثمان، وفئة انحازت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولما علم معاوية أنه لم يستطع أن يستولي على مصر فحاول أن يستميل قيس إلى صفه، ولكن فطنة قيس وذكائه أدى به إلى كتابة رسالة إلى معاوية برد قاس وإرسالها إلى دمشق وذكر فيها ما نصه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بي يا معاوية وطمعك في، تسو مني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقربهم للخلافة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم إلى رسوله وسيلة، وأوفرهم فضيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلا، وأبعدهم من الله ورسوله وسيلة، ولا ضالين مضلين طاغوت من طواغيت ابلیس، وإما قولك : معك أعنة الخيل وأعداد الرجال، لتشغلن بنفسك حتى العدم»(13)، فلما وصلت رسالته إلى معاوية واطلع عليها يئس من قيس وعاود حيلته مرة أخرى، فزور رسالة نسبها إلى قيس، ثم أعلن

ص: 247

أمام الملأ من الشام أن قيساً قد انصرف عن مولاه وبايعني، وعندما بلغ الخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يصدق الأمر لعلمه بوفاء قيس، إلا أنه أبدله * ونصب محمد بن أبي بكر ولم يدم حكمه إلا مدة قصيرة حتى بعث معاوية بمستشارة الماكر عمرو بن العاص إلى مصر لإثارة الفتن والقلاقل، ثم انتهى الأمر بقتله، الأمر الذي أدى بأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى اختيار مالك الأشتر لولاية مصر التي اتسمت بکبر مساحتها، وازدحام سكانها، وبعدها عن مركز الخلافة، ويقطنها مختلف الأقوام والقبائل ذات الثقافات المختلفة(14).

رابعاً: بعض المضامين الاقتصادية لعهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر

لقد أكد أمير المؤمنين (عليه السلام) في مضمون عهده لمالك الأشتر على وحدة الدولة الإسلامية من الضياع والتفكك، والحفاظ على أمنها وسيادتها، وللحيلولة دون ضياع ولاية مصر کما ضاعت ولاية الشام علي يد معاوية. وقد استهل عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر بشهادة له من عنده (عليه السلام) بقوله «إما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل من الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار»(15)، وهو بذلك أوكل أمر وإدارة شؤون ولاية مصر بأكملها من دون تردد وقلق، فقد أسندها إلى عبدً من عباد الله المخلصين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم؛ وذلك لأهمية ولاية مصر عن الأمصار.

وقد ركز عليه السلام في مضمون عهده إلى جملة من القضايا والأمور كان من أهمها الناحية الاقتصادية، وفيه أكد على القطاع الزراعي وما يتعلق به من شؤون دون القطاعات الاقتصادية الأخرى؛ وذلك لأن القطاع الزراعي في ذلك الوقت هو القطاع الإنتاجي الرئيس الذي يمول بیت المال (خزينة الدولة) من خلال ما پدره من أرباح وضرائب وخراج وغيره، وتوفيره لفرص العمل الكثيرة، فضلاً عن

ص: 248

ارتباطه الشديد بقطاع التجارة الداخلية والخارجية، ويمكن تحليل بعض المضامين الاقتصادية التي برزت ضمن عهده لمالك الأشتر بالآتي:

1 - نظام السوق

أشار أمير المؤمنين إلى أتباع نظام السوق بعنوان محل تلاقي إرادة البائع والمشتري (قانون العرض والطلب) بقوله: «ليكن البيع بيعاً سمحاً: بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»(16).

أي بمعنى أنه أقر آلية السوق وتحرير الأسواق، ولكن بشرط إن لا تكون تلك الآلية تظلم البائع من خلال بخس سعر سلعته عند زيادة الإنتاج أو عند ظروف معينة كما في بروز ظاهرة الإغراق التجاري أو السلعي المسمى في الوقت الحاضر، ولا تظلم المشتري من خلال رفع سعر السلعة عليه عند احتكار السلع في أوقات معينة أو في حالة اندلاع حروب أو كوارث أو وقوع أزمات.

2 - الإدارة الكفء وحُسن التدبير

لقد اختار عليه السلام الصحابي الجليل مالك الأشتر من بين باقي أصحابه (عليه السلام) وعهدله ولاية كبيرة ومهمة وهي ولاية مصر؛ وذلك بناءً على أسس علمية ومعايير موضوعية وبحسب ما أقرته الشريعة الإسلامية السمحاء في كيفية تدبير أمور المسلمين وإدارة شؤونهم الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، إذ قال (عليه السلام) «ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختیاراً، ولا توهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة»(17)، وذلك لتولي المهام الإدارية، وللحفاظ على موارد الولاية سواءً أكانت موارد بشرية أم موارد طبيعية، ولاسيما الموارد المالية

ص: 249

المستحصلة من جباية الخراج آنذاك الذي يمثل المورد الرئيس للإيرادات العامة وتمويل بيت مال المسلمين، بوصفه الأموال التي يحصل عليها من الأراضي التي يتم فتحها عنوة بالسيف أو لا، فضلاً عن جمع الضرائب وفرض الرسوم.

وقد أشار الإمام (عليه السلام) بضرورة أن يتحلى العامل على أمور المسلمين بحُسن التدبير من خلال الاهتمام بنظام الأولوية في التنفيذ، بقوله «ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»(18)، فقد أشار الإمام إلى ضرورة الاهتمام بالأراضي الزراعية واستثمارها من خلال استصلاحها وزراعتها، وعُد النفقات التي تنفق في عمارة الأرض استشاراً مها لزيادة إنتاجية الأرض الزراعية(19)؛ وذلك لأنه القطاع الزراعي في ذلك الوقت كان هو القطاع القائد الذي يمول القطاعات الاقتصادية الأخرى، فضلاً عن أنه يحقق الاكتفاء الذاتي بالمنتجات الزراعية، فضلاً عن ضرورة الاهتمام بإنشاء البني الارتكازية للدول من خلال عمارة الأرض، ولا يقصد بها هنا استصلاحها وزراعتها فقط، ولكن أعمارها بما يخدم المجتمع سواءً للزراعة أم للصناعة أم لتقديم الخدمات الأخرى، فالمشاريع الصناعية والتجارية والزراعة وغيرها جميعاً لا تتم إلا إذا توفرت لها الأرض الملائمة للإنشاء أو للتشييد أو للزراعة أو لغيرها. وينبغي أن تكون الضريبة أو الخراج يتناسبان مع قيمة الاستثمار أو الربح المتوقع، فلا يمكن فرض ضرائب أو خراج برسوم كبيرة يمكن أن تثقل المستثمر وتعيق عمله.

ص: 250

3 - الأزمة أو الدورات الاقتصادية

لقد أشار العهد إلى تعرض النشاط الاقتصادي إلى الدورات الاقتصادية، أما أن تكون كساداً أو انتعاشاً أو رواجاً أو انكماشاً، ولاسيما في القطاع الزراعي (الخراج) من خلال ما ذكره عليه السلام بقوله(20)، «فأن شكوا ثقلاً أو علة، أو انقطاع شرب أو بالة، أو احالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجوا إن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم»(21)، ولا تقتصر الدورات الاقتصادية في القطاع الزراعي فقط لكن يشمل القطاعات الاقتصادية كافة، لذا يجب أن يكون بيت مال المسلمين هو الكافل بتعويض خسائر الرعية بسبب اندلاع الأزمات اقتصادية، وتخفيف عبء الخراج والضرائب والرسوم عليه في حال حدوثها.

4 - مبدأ الشفافية

لقد أكد أمير المؤمنين (عليه السلام) في معظم مضمون عهده لمالك الأشتر على توخي الحذر والتعامل مع الناس، فأنهم في رأي الإمام صنفان «أما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق»، فلا ينبغي المساس بحقهم، فضلاً عن الابتعاد عن ظلم الرعية من خلال تطبيق القانون بشكل تعسفي، وقال (عليه السلام) في محاربة الفساد «والله لو وجدته قد تزوج النساء وملك به الإماء لرددته فأن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»(23)، وقد أورد الإمام (عليه السلام) في عهده موارد كثيرة تخص محاربة الفساد وظلم الناس، ومنها قوله «وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية»(24)، وقوله كذلك «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه»(25).

ص: 251

5 - الحكم الرشيد

لقد أمر عليه السلام مالك الأشتر «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(26)، هذه هي فلسفة الحكم الرشيد الذي رسمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمن خلال الشكل رقم(1) يتبين أن هرم إدارة الحكم الرشيد لأمير المؤمنين (عليه السلام) قد ركز في أول مهام الحكم الرشيد على بناء القاعدة الأساسية وهي كيفية الجباية لتقوية أركان الدولة مادياً لتهيئة المستلزمات الضرورية لتسليح جيشها لحمايتها ودفع الأعداء عنها، ثم تنمية الموارد البشرية لتحقيق التنمية الاقتصادية.

ولأجل تطبيق فلسفة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحكم الرشيد يستلزم اختيار شخصية متميزة قادرة على تنفيذ المتطلبات جميعهاً وفق رؤية الإمام ولا يمكن الاجتهاد أمامها لأنه إمام معصوم واجب الطاعة، وعلى هذا الأساس جرى اختيار مالك الأشتر لهذه المهمة الكبيرة.

ص: 252

الشكل رقم (1) هرم إدارة الحكم الرشيد لأمير المؤمنين (عليه السلام) عمارة البلاد (التنمية الاقتصادية) صلاح الأهل (التنمية البشرية) جهاد الأعداء (حماية البلاد) جباية الخراج (الإيرادات المالية) المصدر: من إعداد الباحث

ص: 253

المبحث الثاني: التحليل الاقتصادي لمضمون عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر

أولاً: بعض المفاهيم الاقتصادية في عهد أمير المؤمنين

1 - نظام السوق

وهو لقد أشار أمير المؤمنين في عهده إلى قضية ابتلائية أبتلي به المجتمع آنذاك ظاهرة الاحتكار، وما ينتج عنها من سلوك اقتصادي غير رشيد يؤثر سلباً على استغلال البائع لمتطلبات المشتري، فضلاً عن أنه يشوه آلية السوق ونظامه. وقد أشارت النظرية الاقتصادية في النظم الرأسمالية والاشتراكية الحالية للاحتكار وآثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع.

ويعتقد أن أمير المؤمنين قد أشار ضمناً إلى مفهوم لم يجر ذكره في العهد آلا وهو ظاهرة الإغراق التجاري أو السلعي، الذي يُعد مفهوماً مضاداً للاحتكار، وغير مبتلى به المجتمع آنذاك؛ وذلك لمحدودية التجارة، وتخلف الصناعة، واعتماد الاقتصاد على الإنتاج الزراعي بشكل رئيس، فطالما ذكر أمير المؤمنين الاحتكار الذي يمثل بخس قيمة النقود للمشتري، فقد ذكر الإغراق الذي يمثل بخس سلعة البائع (المنتج). فالاحتكار يؤثر سلباً على المشتري، أما الإغراق فيؤثر سلباً على البائع.

ويمكن تعريف الإغراق بحسب ما توصلت إليه جولة طوكيو (1979 - 1973) على أنه الفعل الذي يتم به إدخال منتجات إحدى الدولتين في تجارة الدولة الأخرى بأقل من سعر البيع الداخلي (الكلفة) لمنتج معين في الدولة المصدرة(27)، وقد يحدث

ص: 254

إغراق الأسواق أما استجابة قصيرة الأمد لانكماش اقتصادي محلي من خلال بيع فائض الإنتاج في الخارج بسعر منخفض للتخلص منه وهو ما يطلق عليه بالإغراق الروسي، أو كوسيلة إستراتيجية لاختراق أسواق التصدير في المدى الطويل من خلال إحراز موطئ قدم في الدولة المصدر إليها، ومن ثم ترفع الأسعار لتعظيم الأرباح. وفي كلتا الحالتين يُعد إغراق الأسواق سلوكاً تجارياً غير عادل وربما يرقى لأن يكون عملاً تخريبياً لاقتصاد الدولة المصدر إليها السلع للهيمنة على أسواقها، ومنع نمو صناعاتها المحلية(28).

لذلك يمكن القول أن الاقتصاد العراقي حالياً قد وقع في شرك الإغراق ومصيدته؛ ومن لأجل التخلص منه لابد أولاً التمييز بين الآثار الناجمة عن الاحتكار والإغراق في الاقتصاد العراقي:

- الاحتكار هو حبس السلعة أو الخدمة بهدف ارتفاع سعرها وتحقيق الأرباح، أما الإغراق فهو إطلاق السلعة أو الخدمة بهدف خفض سعرها والقضاء على الصناعة المحلية.

- الاحتكار يؤثر سلباً على قيمة النقود مما يؤدي إلى زيادة معدل التضخم بالاقتصاد، أما الإغراق فيؤثر على سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار مما يؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار، ومن ثم يؤدي إلى انخفاض قيمة الدينار.

- الاحتكار يمكن أن يشمل السلع الاستهلاكية والوسيطة (المواد الأولية) والرأسمالية، بينما الإغراق يتحدد بالسلع الاستهلاكية فقط، كي لا يجرى استثماره بإنتاج السلع محلياً فيما لو كانت السلع المغرقة وسيطة أو رأسمالية.

- يمكن أن يقوم بالاحتكار الشركات الأجنبية أو المحلية، بينما الإغراق فتقوم به

ص: 255

الشركات الأجنبية حصرا، عدا في العراق فأن الشركات التجارية هي التي تقوم بالإغراق بهدف تحقيق أقصى الأرباح.

- انتفت الحاجة إلى اعتماد حالة الاحتكار في الاقتصاد العراقي، بينما توسعت حالة الإغراق؛ وذلك بسبب الانفتاح التجاري.

- تميز العراق بتفشي ظاهرة الإغراق بشكل كبير وبصورة دائمة، بيد أنه لم ترفع الشركات الأجنبية من أسعارها في الوقت اللاحق لتعويض خسائرها السابقة، وإنما اقتصرت على خفض جودة منتجاتها المصدرة والمغرقة ولاسيما المنتجات الصينية.

- تميز الاقتصاد العراقي بتعامله التجاري مع الشركات الصينية والتركية والإيرانية وبعض الشركات الخليجية، ويمكن أن نحلل كل شركة أجنبية على حده وكالآتي:

أ - الشركات الصينية: تميزت المنتجات الصينية المغرقة بأنها منتجات تفتقد لمقاييس الجودة والاعتمادية، وغير جيده ومنخفضة الكفاءة، ومنخفضة الأسعار جداً مقارنة بمثيلاتها اليابانية والألمانية وغيرها، مما حول الهيكل السلعي التجاري في الاقتصاد العراقي من هيكل متنوع التصنيع إلى هيكل صيني بامتياز، إذ بلغت قيمة المنتجات الصينية المستوردة حوالي 8 مليار دولار، وبنسبة 3. 24 ٪ من إجمالي الاستيرادات السلعية العراقية البالغة 6، 32 مليار دولار عام(29) 2015.

ب - الشركات التركية: تميزت المنتجات التركية المغرقة بأنها ذات جودة عالية ونوعية ممتازة، وأسعار تنافسية، وعندما تحقق هدف الشركات التركية في تحقيق موطئ قدم في السوق العراقية، وبعد أن علمت أن الشركات التجارية العراقية تحقق أرباحاً كبيرة من ممارسة ظاهرة الإغراق في بيع منتجاتها في العراق، فقد لجأت

ص: 256

تلك الشركات إلى فتح مقار وفروع لها في العراق، فضلاً عن رفع أسعار منتجاتها إلى السعر الذي جرى تحديده من التجار العراقيين في السوق المحلية؛ وبذلك تحولت الإرباح التي كانت يجنيها التجار العراقيون عند بيعهم للسلع في السابق إلى تلك الفروع والمقار التجارية لشركات الأم التركية ومن بين أهم تلك الشركات التركية هي شركة ماكس مول، إذ بلغت قيمة المنتجات التركية المستوردة حوالي 8.5 مليار دولار، وبنسبة 26,2 ٪ من إجمالي الاستيرادات السلعية العراقية عام(30) 2015.

ت - الشركات الإيرانية: تميزت المنتجات الإيرانية المغرقة بالأسواق العراقية بأنها ذات جودة عالية وبنوعية ممتازة، وسلع مخصصة للتصدير، وأسعار منافسة جداً، بيد أن الإغراق الإيراني لمنتجاتها ليس ناتجاً عن خفض أسعارها عن أسعار التكلفة، وإنما ناتج عن انخفاض قيمة العملة الإيرانية (التومان) أمام الدولار، ومن ثم الدينار العراقي، وبالتالي انعكس في زيادة صادرات المنتجات الإيرانية داخل الأسواق العراقية.

ث - الشركات الخليجية: تميزت المنتجات الخليجية ولاسيا السعودية والإماراتية والكويتية بأنها ذات جودة عالية جداً وبنوعية ممتازة، وهي منتجات موجه للتصدير، ويعتقد إنها منتجات لا تهدف إلى إغراق الأسواق العراقية ولكن هدفها الرئيس تصريف إنتاجها والمحافظة على قدرتها التنافسية الخارجية، وبلغت قيمة المنتجات الخليجية المستوردة حوالي 1.5 مليار دولار، وبنسبة 5٪ من إجمالي الاستيرادات السلعية العراقية عام 2015(31).

ص: 257

وتأسيساً على ذلك يتبين أن ظاهرة الإغراق في العراق أكثر خطراً وأكثر تأثيراً على الاقتصاد من ظاهرة الاحتكار؛ وذلك للأسباب الآتية:

1 - أن ظاهرة الإغراق تقضي على الصناعات المنافسة الوطنية بشكل تام، فضلاً عن إضعاف قدرة الدولة على خلق سلع قد تكون منافسة للسلع المغرقة(32).

2 - تؤدي إلى عجز دائم في الميزان التجاري.

3 - تؤدي إلى خفض قيمة الدينار العراقي إمام الدولار.

4 - تؤدي إلى القضاء على القطاع الزراعي لاسيما إذا كانت المنتجات زراعية.

5 - يؤدي إلى انخفاض أسعار المواد الأولية ومن ثم تصديرها إلى الخارج بأسعار بخسة؛ وذلك لعدم استثمارها في التصنيع المحلي الذي جرى القضاء عليه سابقاً.

6 - بناء الاقتصاد على سلع ومنتجات مغرقة تتميز بانخفاض جودنها وكفاءتها وإنتاجيتها وقصر طول عمرها.

7 - تسرب العملة الأجنبية خارج الدورة الاقتصادية مما ينعكس على اتساع فجوة الموارد * بين الإمكانات الاقتصادية والاستثمار الفعلي، ومن ثم يكون الإنتاج تحت خط منحنى إمكانات الإنتاج **، وبالتالي وجود موارد اقتصادية معطلة.

8 - ارتفاع معدل البطالة لوجود موارد اقتصادية معطلة (غير مستثمرة).

ص: 258

2 - الإدارة الكفء وحُسن التدبير

مما لا ريب فيه أن من أهم عناصر العملية الإنتاجية في النشاطات الاقتصادية كافة سواء أكانت نشاطاً إنتاجياً أم خدميا هو الإدارة والتنظيم، فهي المحرك الرئيس لعملية تنظيم بقية عناصر الإنتاج الأخرى (العمل، ورأس المال، والأرض) بحيث تعمل وفق نظم واطر علمية متماسكة.

وتبعاً لهذه الحقيقة فقد أولى أمير المؤمنين أهمية خاصة لكيفية اختيار ولاته، وبالفعل جرى اختيار شخصية بارزة في الإسلام تنطبق عليه معظم صفات الإداري الأمثل وهو مالك الأشتر، وعند التمييز بين مضمون إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر وإدارة الدولة العراقية يتبين أن اعتماد ولاية مصر في عهد أمير المؤمنين على ثقافة الجباية من خلال جمع جباية الخراج وفرض الضرائب والرسوم، بينما اعتمدت الدولة العراقية على ثقافة الريع من خلال جمع الإيرادات النفطية فقط، ولهذا يمكن التمييز بين السياستين لإدارة الموارد المالية وعلى النحو الآتي:

1 - اعتمدت السياسة المالية في عهد أمير المؤمنين على جباية الخراج وفرض الضرائب والرسوم التي تدخل ضمن فقرة الإيرادات الأخرى في الميزانية العامة***، بينما اعتمدت السياسة المالية العراقية على الريع النفطي الذي يدخل ضمن فقرة الإيرادات النفطية.

2 - أن السياسة المالية في عهد أمير المؤمنين تعتمد على مصدر مالي داخلي ناتج عن النشاطات الإنتاجية المحلية، بينما السياسة المالية العراقية تعتمد على مصدر مالي خارجي ناتج ع-ن عوائد الصادرات النفطية.

3 - أن إتباع إحدى السياستين الماليتين الانكماشية أو التوسعية في عهد أمير المؤمنين يجرى عن طريق تغيير مقدار الإيرادات الأخرى المتمثلة في جباية الخراج و / أو

ص: 259

الضرائب و/ أو الرسوم، بينما يجرى ذلك في الاقتصاد العراقي عن طريق تغيير مقدار الإنفاق الحكومي بشقيه الاستثماري والتشغيلي (الجاري).

4 - أن تكوين الثروة عند أمير المؤمنين ناتج عن تراكم رأسمال معبرً عنه بالإنتاج، بينما تكوين الثروة في الاقتصاد العراقي ناتج عن تراكم رأسمال معبرً عنه باستغلال الموارد الطبيعية وتحويلها إلى سلع و / أو خدمات تعود على المبادرة في الإنتاج بالفائدة والربح(33).

5 - أن الإيرادات المالية في عهد أمير المؤمنين تتأثر بالأزمات الاقتصادية الداخلية، بينما العوائد المالية في الاقتصاد العراقي تتأثر بالأزمات الاقتصادية الخارجية، ولاسيما التغيرات في أسعار النفط في أسواق النفط الدولية.

6 - أن السياستين الماليتين الانكماشية والتوسعية تختلفان من حيث الشكل والمضمون ما بين سياسة أمير المؤمنين وسياسة الاقتصاد العراقي، وهو ما سنلحظه لاحقاً.

ويعتقد أن سياسة الجبایة هي من أصعب السياسات التي يجرى تطبيقها من خلال جباية الخراج واستقطاع الضرائب وفرض الرسوم؛ وذلك لاتساع حجمها، واستمرارها على مدى الزمن، وتحتاج إلى كوادر وظيفية كثيرة ومتخصصة، فضلاً عن صعوبة الكشف عن حالات التزوير والتهرب الضريبي والفساد الإداري والهدر المالي، بينما تُعد سياسة الإنفاق سياسة سهلة التنفيذ يمكن إجرائها بجهود قليلة، ووقت قصير، وكوادر وظيفية معينة ومحددة المهام، فضلاً عن سهولة الكشف عن حالات الفساد الإداري والهدر المالي فيها لتميزها بمبدأ الشفافية. وعلى الرغم من ذلك كله لم تنجح السياسة المالية الإنفاقية في العراق، وظلت السياسة تراوح في مكانها بتتبع تنفيذ المشاريع المحالة للتعاقد من عدمه، فضلاً عن البحث عن نسبة التنفيذ، وأهملت الالتزام بمعايير تنفيذ العقد، ومن ثم كفاءة المشروع وجودته.

ص: 260

3 - الأزمة أو الدورات الاقتصادية

لقد عالج عهد أمير المؤمنين حدوث الأزمات الاقتصادية من خلال السياسة المالية عن طريق تخفيض بعض أو كل موارد الإيرادات المالية. أما علاجها في الوقت الحالي فيجرى من خلال آلية السياسة المالية بالتحكم في حجم الإنفاق الحكومي والضرائب والدين العام؛ وذلك من أجل محاربة التضخم والانكماش(34)، وتحقيق حالة التوازن، ولمعالجة حالات الاختلال في الاقتصاد الكلي والمتمثلتين:

أ - الفجوة الانكماشية: وهي قصور الطلب الكلي عن العرض الكلي.

ب - الفجوة التضخمية: وهي زيادة الطلب الكلي عن العرض الكلي.

يجرى إتباع إحدى الآليتين وهما السياسة المالية التوسعية أو السياسة المالية الانكماشية، ويمكن التمييز ما بين السياستين الماليتين بالآتي:

- عند بروز الفجوة الانكماشية؛ نتيجة وقوع أزمة اقتصادية، أو كما عبر عنها عليه السلام «فأن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحالة أرض اغتمرها غرق...»، فيجرى اللجوء إلى سياسة مالية توسعية، أما زيادة الإنفاق الحكومي أو تخفيض الضرائب، بيد أن هناك اختلافاً بين السياستين من منظور العهد، ومن منظور وزارة المالية العراقية على نحو أن اللجوء إلى السياسة المالية التوسعية في عهده لمالك الأشتر ناجمة عن أزمة داخلية فقط، فيجرى تخفيض جباية الخراج و / أو الضرائب و/ أو الرسوم؛ وذلك لتجاوز الأزمة، وهذا يُعد بمثابة سياسة لإعادة توزيع الدخل لإعادة الطلب الكلي إلى مستواه السابق من دون وقوع آثار اقتصادية سلبية. أما لجوء السياسة المالية التوسعية في وزارة المالية العراقية ليس بالضرورة ناجمة عن أزمة داخلية ولكن قد تكون ناجمة عن انتعاش في الإيرادات

ص: 261

النفطية، ومن ثم يجرى زيادة الإنفاق الحكومي؛ وذلك لتجاوز الأزمة أو لتنشيط الاقتصاد، وهذا يُعد بمثابة ضخ سيولة نقدية للاقتصاد لإعادة الطلب الكلي إلى مستواه السابق مع ملاحظة بعض الآثار الاقتصادية السلبية مثل ارتفاع الأسعار.

- عند بروز الفجوة التضخمية، نتيجة قصور العرض الكلي عن الطلب الكلي، فلم يشر عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحالة لا من بعيد ولا من قريب؛ وذلك كما يعتقد إنها نادرة الحدوث ويمكن تجاوزها من دون تدخل حكومي من خلال آلية السوق في تحديد الأسعار، أما في حالة حدوث الفجوة في الاقتصاد العراقي فيجرى علاجها من خلال إتباع السياسة المالية الانكماشية عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي.

4 - مبدأ الشفافية

لقد شدد أمير المؤمنين (عليه السلام) على مبدأ الشفافية في الحكم من خلال محاربة الفساد والمفسدين وينأى النفس عن الهوى، فبدأ بنفسه قبل سواها، فمع أهل الكوفة تحدث الإمام (عليه السلام) فقال «يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن»، وقال في موردً آخر «أني والله ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي «أو قال من المدينة»(35)، ويبتعد الإمام بعيداً عن مبدأ الشفافية في الحكم ويرى ضرورة الاهتمام الشديد بسد حاجة المحرومين والمعوزين بعدها مسؤولية إنسانية ودينية كبيرة فيقول عليه السلام «ولو شئت لا هتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقيدني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو باليامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أن أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى»(36)، هذه هي نفس إمامكم فهي نفس محمد (صلى الله عليه

ص: 262

وآله وسلم) ولا يرضى إلا أن يكون عبدا شكورا، وقد لخص عليه السلام ما يرغب به في الحياة بقوله «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»(37).

أما مبدأ الشفافية في الحكم في العراق فيقصد به مبدأ خلق بيئة تكون فيها المعلومات المتعلقة بالظروف والقرارات والأعمال الحالية متاحة ومنظورة ومفهومة، بيد أن تطبيق ذلك على الواقع اكتنفه الغموض والجدل الحاد؛ وذلك لاتساع الهوة ما بين المصلحة الخاصة (الشخصية) والمصلحة العامة (الحكومية)، وقد أشار إدموند فيليبس حول السبب الرئيس لاندلاع الثورة في مصر، فأجاب لم يكن ذلك بسبب «سوء عدالة توزيع الدخل والثروة»، كم ترى النظرية الاقتصادية سابقاً، ولكنها بسبب «سوء عدالة توزيع الفرص، والدخول في سوق العمل بصورة عادلة»(38)، وبذلك أشار فيليبس بشكل واضح على تفشي ظاهرة الفساد الإداري والهدر المالي في معظم حكومات البلاد العربية، والعراق حاله حال باقي الدول العربية في ذلك.

ونظراً لتفشي الفساد وبمشاركة بعض السياسيين بقصد أو بدون قصد في ترسيخه. وهو أمر جعل من النظام السياسي الديمقراطي في العراق في حالة عدم استقرار وتعثر أمام ممارسة الفساد بأنواعه المختلفة في جميع الوزارات والهيئات الحكومية، وهو أمر يستلزم تفعيل روح المواطنة بين الناس للوقاية منه؛ لا بهدف المحافظة على الثروة فقط، وإنما لحفظ هيبة الدولة والنظام السياسي الذي هو أقدس. بيد أن جميع تلك العبارات النرجسية يمكن أن تذهب مع الريح، إذا ما طبقنا شعار الثورة الأمريكية القائل «لا ضرائب من دون تمثيل برلماني» وتعُلمنا سياسة الريع أن العكس صحيح أيضاً أحياناً(39). وهو أمر يدل على أن في الدولة الريعية مفسدة، وأن فرض الضرائب إصلاح من خلال تحويل دور الحكومة من موزعة للريع إلى

ص: 263

جابيةً للضرائب، وينبغي المضي قدماً في هذا الاتجاه إلا أنه سيلزم كثير من الوقت تی «تسبق سلاحف العدالة أرانب الفساد «على حد قول القاضية السابقة إيفا جولي(40)، فثقافة الريع والثقافة الفئوية مصدرا الفساد إن لم نقل إنهما الفساد نفسه، بالاقتصاد الريعي يولد الفساد في الاقتصاد؛ والاتكال على الريع لإنتاج الثروة يغيب المجهود وتحمل المخاطر، ومن ثم تغيب المساءلة والمحاسبة(41).

5 - الحكم الرشيد

أن طرح مصطلح الحكم الرشيد يعني الطريقة التي تباشر بها السلطة إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية(42)، وهذا يدل بالتأكيد على وجوب توفر الثلاثية التراتبية: السلطة (الرأس) التي تستمدها الحكومة من علم السياسة، والإدارة (اليد) التي تستمدها الحكومة من علم الإدارة، والموارد الاقتصادية والاجتماعية (الأداة) التي تستمدها الحكومة من علم الاقتصاد، بهدف نشر مفاهيم: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، والشفافية ومحاربة الفساد، بيد إن فقدان أي عنصر من عناصر هذه الثلاثية سيولد اختلالاً في إدارة الحكم الرشيد، ومن ثم ستتفكك العلاقة الترابطية بين الرأس واليد والأداة.

ولهذا يمكن تشخيص حالة الدولة العراقية من خلال تطبيق إدارة الحكم الرشيد عليه، فنجد أن الدولة العراقية قد وقعت في شرك الحلقة المفرغة؛ وذلك لانفصام العلاقة التراتبية ما بين العناصر الثلاثة أعلاه، فالسلطة منتخبة بشكل ديمقراطي على الرغم من ما يشوبها بعض الممارسات غير مناسبة، بيد أن الإدارة التي تمثل يد السلطة انتابها خلل كبير من خلال المحاصصة السياسية والمذهبية، ومن ثم فقد أدارت السلطة الموارد الاقتصادية في العراق بشكل مباشر من دون استخدام اليد التي تمثلها الإدارة، وبالتالي تفشي الفساد الإداري والهدر المالي واحتل مراتب متقدمة جداً في نقاط مدركات الفساد بحسب مؤشر الشفافية لمنظمة الشفافية العالمية.

ص: 264

ثانياً: السياسة الاقتصادية في عهد أمير المؤمنين

السياسة بشكل عام هي فن إدارة الواقع، أي بمعنى هي أداة تحقيق الأهداف والمصالح الاقتصادية، ومن ثم يمكن تعريف السياسة الاقتصادية على أنها مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تتخذها الإدارة الحكومية بهدف تحقيق المصلحة العامة للدولة من خلال إدارة الموارد الاقتصادية(43). وقد استند أمير المؤمنين في سياسته الاقتصادية على إدارة الموارد الاقتصادية البشرية منها والطبيعية وفق العدالة الإلهية، وعندما سئل عليه السلام أيهما أفضل العدل أو الجود فقال عليه السلام «العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل اشرفهما وأفضلهما»(44).

وبذلك أسس عليه السلام مبدأ الشفافية في كل تجلياتها في إدارة الحكم من حُسن اختيار عماله وولاته إلى ابسط الخدمات ومنها الحفاظ على البيئة الطبيعية (الماء، والهواء، والنبات، والحيوان)، ووفق رؤية أسلامية، ومذهب اقتصادي أسلامي، ومؤكداً على تعزيز الملكية العامة لأنها تحقق الإيرادات العامة، التي لا يستفيد منها الجيل الحالي فقط، ولكن الأجيال القادمة، فضلاً عن ضمان استثمار الموارد بصورة جيدة(45)، لزيادة الإنتاج المحلي؛ وهو بذلك وضع الأسس الموضوعية لتحقيق التنمية المستدامة في سياسته الاقتصادية مستفيداً من الأسس الذاتية المستندة إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لا ضرر ولا ضرار»، ومن ثم وضع عليه السلام سياسة اقتصادي-ة إسلامية متكاملة لا ينتابها الظلم والجور ومستندة على عدالة توزيع الفرص في عموم المجتمع وهو ما توصل إليه مؤخراً العالم الاقتصادي أدموند فيليبس كما أشرنا سابقاً.

ص: 265

المبحث الثالث: الدروس المستفادة لكتاب أمير المؤمنين

لتحقيق التنمية المستدامة في العراق

أولاً: الدروس التنموية

لقد أکد أمير المؤمنين (عليه السلام) بحسب رؤيته على أن الوظيفة الرئيسة في الدولة آنذاك سواءً في ولاية مصر أم غيرها من الأمصار، تتمثل بشقين هما: جباية الخراج، وجمع الضرائب من الصناع والرسوم من التجارة، ولكن وفق شروط بعدم التحايل والغش والاحتكار والتطفيف بالميزان، بمعنى أن الوظيفة الرئيسة لعماله الولاة بشكل عام تعتمد على جباية الإيرادات الضريبية لتمويل بيت مال المسلمين (خزينة الدولة)، وان حجم التجارة الخارجية لا تعمل وفق نظريات التجارة الخارجية المعمول بها حالياً مثل نظرية الميزة المطلقة، ونظرية الميزة النسبية، ونظرية هكشر - أولين وغيرها، وإنما تعتمد على تبادل السلع بنظام المقايضة في كثير من الأحيان، ومن ثم فأن التجارة تعمل على سد نواقص السوق وليس لخلق السوق.

وإذا ما أسقطنا الوظيفة الرئيسة في الدولة وفق رؤية الإمام على الوظيفة الرئيسة في العراق، يتبين أن الفجوة بينهما كبيرة جداً ولا يمكن ردمها بأي شكل من الأشكال، فالوظيفة الرئيسة في العراق هي في كيفية صرف النفقات الاستثمارية بدلاً من جباية الضرائب، وتدمير الصناعة الوطنية من خلال إغراق الأسواق بالمنتجات والسلع المستوردة، وبدلاً من أن تكون التجارة محفزة للنمو أصبحت مثبطة للنمو؛ وذلك لتحول الاقتصاد العراقي المتنوع إلى اقتصاد طفيلي تنتشر فيه محلات بيع المفرد،

ص: 266

بحيث أصبحت هذه الظاهرة منتشرة في المناطق السكنية والأزقة، ومن ثم أصبح العراق أكبر سوق استهلاكي بالعالم بحسب معيار حجم السكان.

ثانياً: الدروس الإصلاحية

لقد أخفقت معظم السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومة العراقية المنتخبة في معالجة المشكلات التي تعرض لها الاقتصاد العراقي، ولاسيما تلك التي تناولتها الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة. ولعل السبب في ذلك يكمن في:

1 - عدم توخي الحذر من المخاطر الناجمة من عدم توظيف الأدوات الاقتصادية التحليلية المتمثلة بالسياسات الاقتصادية الملائمة، واقتصار الأمر في ذلك على اختيار السياسة التي تخدم طبقة أو فئة اجتماعية معينة دون سواها، وهو أمر جعل من السياسة أداة لتحقيق المصالح الطبقية أو الفئوية.

2 - كثرة عدد المستشارين في الحكومة العراقية بعد عام 2003 للرؤساء والنائبين والمحافظين بهدف الارتقاء بالرأي السديد والناجع، فمعظمهم يلجئون إلى زيادة عدد المستشارين لاعتقادهم بأن زيادة المستشارين سيؤدي إلى الرأي السديد، ولم يعلموا بأنه ما دام صاحب القرار غير متخصص بالشأن الذي يريد أن يقرره فينبغي عليهم تقليل آراء عدد المستشارين إلى حوالي ثلاثة فقط لاختيار الرأي السديد والناجع، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بقوله «إذا ازدحم الجواب خفي لصواب»(46)، أما إذا كان صاحب القرار متخصصاً بالشأن الذي يتولاه، فلا مانع من كثرة المستشارين له؛ وذلك لقدرته على اختيار الرأي السديد والناجع.

3 - أن الإدارة العليا للمؤسسة العامة اختارت إداريين وفنيين يسعون في الغالب إلى تحقيق مصلحة الإدارة (المدير) أكثر مما يحققون المصلحة المؤسسة العامة. بل

ص: 267

وكثيراً ما يجتمع حول هذه الإدارة انتهازيون يجيدون التملق والنفاق أكثر مما يُحسنون عملهم، فضلاً عن بعض القيادات البعثية.

4 - البحث عن القدوة يستلزم إيجاد قادة ووزراء يتسمون بالورع عن محارم الله والصدق والشجاعة والأمانة والإيثار والعلم وغيرها. وقد أشار المهاتما غاندي (Mahatma Gandhi) ذات مرة عن الفساد عندما سأل: «كيف يستطيع راسمو السياسات أن يحكموا على مزايا أي أجراء»، أجاب: « تذكروا وجه أفقر شخص رأيتموه واسألوا أنفسكم إذا كانت الخطوة التي تفكرون فيها ستعود بالنفع عليه»(47)، أي أن مكافحة الفساد تبدأ بالنفس الإنسانية أولاً وتنتهي بعموم المجتمع وذلك لضمان تطبيق جميع التشريعات والقوانين النافذة بعدالة وبدون تمييز.

5 - أن تفشي ظاهرة الفساد في العراق هي مسؤولية مشتركة تشترك فيها الحكومة والمجتمع في آن واحد. ولطالما أنتشر الفساد في أحدهما، فُعل الآخر للتفاعل معه. بيد أن العامل الأول في تفشي الفساد هو الحكومة لأنها صاحبة تقديم الخدمات، بينها المجتمع يمثل مستلم الخدمات(48) 6 - عدم الاهتمام بمراكز التفكير (مراكز البحوث الأكاديمية وغير الأكاديمية) وعدم استشارتهم، ينعكس على تدهور عملية صنع القرار ومراحله، ومن ثم اتخاذ القرار الناجع.

7 - تفاقم ظاهرة البطالة المقنعة بعد عام 2003 بشكل كبيرة؛ وذلك بسبب فتح باب إعادة التعيين، وعودة المفصولين غير السياسيين، فضلاً عن فتح باب التعيينات الجدد وبشكل مفرط ومن دون تخطيط استراتيجي.

ص: 268

8 - إجراء تغييرات هيكلية في فلسفة التعليم العالي من خلال البحث على العلماء والكفاءات، وقد كان محقاً الصحفي توماس فريدمان في جريدة النيوريوك تايمز الأمريكية عندما قال إن النظم في الدول النفطية لن تنقب عن العقول المحلية طالما إنه بإمكانها التنقيب عن النفط واستخدام إيراداته لشراء الولاءات(49).

ثالثاً: الدروس المؤسساتية

لقد اختلفت وجهات نظر المجتمعات نحو الإدارة، وتسنم المهام الإدارية ولاسيما المناصب العليا منذ تلك العصور وحتى عصرنا الحالي، فالبعض عد المنصب غنيمة يستغله لتحقيق مصلحته الشخصية، والبعض الآخر عده تكليفاً وليس تشريفاً بهدف تحقيق المصلحة العامة؛ وهذا الاختلاف ناتج من ثقافة المجتمعات ووجهة نظر هم اتجاه أيهما أهم، هل المصلحة الخاصة أو المصلحة العامة؟ فمن وجهة نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) أكد لعماله أنهم مجرد خدام للرعية، والولاية ليست تشريفاً له، وإنما خدمة عامة يأخذون عليها أجراً، ويبتغون الفضل والثواب من الله (عز وجل) إذا أحسنوا عملهم(50)، فضلاً عن أنها مسؤولية يمكن أن يثاب ويجزى عنها أو يعاقب عليها، وقد عبر الإمام (عليه السلام) عن ذلك عندما عرضت عليه الخلافة، فالمنطلقات السياسية لمفهوم الإمامة تختلف عن المنطلقات السياسية لمفهوم الخلافة، وأن التطبيق السياسي الواقعي لمفهوم الإمامة حتها سيصطدم بما آل إليه المجتمع من تغييرات وهذا ما أشار إليه الإمام (عليه السلام) بقوله «دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن الآفاق قد اغامت، والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول قائل، وعتب العائب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا

ص: 269

لكم وزير خير لكم مني أميراً»(51)، ويستدل من ذلك أن إدارة المناصب العليا في الدولة تفرض عليك مهاماً لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال ولو على نفسك، لتجنب الوقوع في المحذور.

أما وجهة نظر الحكومة العراقية، فقد نظرت إلى إدارة الحكم والمناصب العليا على أنها استحقاق انتخابي، بدليل أن بعض النواب قد تسنموا مناصب وزارية في أكثر من دورة انتخابية لوزارات مختلفة، وقد انسحب الأمر إلى الوظائف الحكومية الأخرى؛ بذريعة المحاصصة الحزبية، والطائفية المقيتة، والمحسوبية والمنسوبية، وقد أشار تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية المتخصص إلى أن الحكومة العراقية بعد عام 2003 لم تدعم الجهود الرامية لمشروع إصلاح نظام الوظائف في الدولة، وأن أحد الأهداف الرئيسة للمشروع كان تحويل الوظائف الحكومية إلى نظام يعتمد الكفاءة والمهنية، فضلاً عن صياغة لائحة قانون عصري للوظائف الحكومية كي يقدم إلى مجلس النواب(52).

وتأسيساً على ذلك فقد فقدت السلطة الحكومية في العراقية يدها القوية المتمثلة بالإدارة السديدة لإدارة الموارد الاقتصادية بالشكل الذي يحافظ عليها من جهة وينميها من جهة أخرى.

ص: 270

الخاتمة

أن الاستنتاج الرئيس الذي جرى التوصل إليه هو تطابق فرضية البحث مع الواقع الاقتصادي في العراق، وهو إن الابتعاد عن تطبيق الاقتصاد الإسلامي في الاقتصاد العراقي سيفاقم المشكلات الاقتصادية والإدارية إلى درجة الوقوع في شرك دوامة الحلقة المفرغة، وما عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر إلا صورة مبسطة لإدارة الحكم والاقتصاد الإسلامي.

وللتغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية لابد من الرجوع إلى تحليل عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر ودراسته دراسة مستفيضة نابعة لا لغاية له، وإنما بعده وسيلة ووثيقة دستورية واجبة النفاذ لتحقيق التنمية الإلهية المستندة إلى كتاب الله (عز وجل) وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته الطاهرة (عليهم السلام). وأول ما نبتدئ به من قمة الهرم وهو وجوب انتخاب شخصية قادرة على فهم واستنباط الأحكام الاقتصادية والإدارية والسياسية من خطب و روایات وعهود أمير المؤمنين (عليه السلام) لعماله وولاته، لجعله قدوة لإدارة حكم العراق، وفق السياقات القانونية النافذة، ومن ثم اختيار وزراء ومحافظين لهم قدرات إدارية متميزة، وليس كما هو حال اليوم وهو اعتماد أشخاص تعلموا الإدارة بالممارسة وهنا كمن الخطر في إدارة شؤون العراق السياسية والإدارية والاقتصادية، وبالتالي انتشرت ظاهرة الفساد الإداري، وظاهر الهدر المالي، وظاهرة البطالة، وظاهرة فقدان الهوية الوطنية، وظاهرة المحاصصة الحزبية، وظاهرة الطائفية المقيتة، وظاهرة المحسوبية والمنسوبية، وغيرها من الظواهر الدخيلة على المجتمع العراقي؛ بحيث أصبح المجتمع كله يتمنى الرجوع إلى أيام زمان - فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ويُعدها أكثر تطوراً وازدهاراً من أيام

ص: 271

القرن الحادي والعشرين، عدا بعض الطبقات أو الفئات المستفيدة التي تُعد هذه الأيام هي العصر الذهبي لها وبامتياز، وترى لا ضرورة لإجراءات الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية لا وفق خطب وروايات وعهود أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا لغيره، وإنما يقتصر رأيها في إجراء الانتخابات الشكلية المعتادة، كأن المجتمع العراقي يعيش في دولة العدل لصاحب العصر والزمان (عجل).

ص: 272

الهوامش

1 - فليح سوادي، عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى والي مصر الصحابي مالك الأشتر رضوان الله عليه، الطبعة الأولى، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010، ص 15.

2 - إقبال الأعمال، السيد أبن طاووس، ج 3، ص 300.

3 - بصائر الدرجات، محمد الصفار، ج 4، ص 41.

4 - https:// formus.alkafeel.net/ showthread. php? t= 61944 5 - مركز الأبحاث العقائدية. 6247/ http://www.aqaed.com/faq | 6 - http://www.al-milani.com/library/lib-pg. php?booid=18mid=208pgid=2331 7 - فليح سوادي، مصدر سابق، ص 7.

8 - المصدر نفسه، ص 7.

9 - د. خضر عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي ابن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، العدد (1)، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2010، ص 39.

10 - نهج البلاغة، ص 443.

11 - محمد الفضل اللنكراني، الدولة الإسلامية: شرح لعهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي، الطبعة الأولى، مرکز فقه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، قم، 2009، ص 9.

ص: 273

12- ولاية الفتنة الكبرى من تاريخ مصر. http://egypthistory.net/0646/%D988%%D984%%D8%A7% D8%A9 13 - مصدر سابق.

* ونصبه على ولاية أذربيجان 14 - محمد الفاضل اللنكراني، مصدر سابق، ص. ص 29 - 31.

15 - فليح سوادي، مصدر سابق، ص 7.

16 - المصدر نفسه، ص 25.

17 - المصدر نفسه، ص 22.

18 - المصدر نفسه، ص 23.

19 - د. خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، العدد (2)، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 2014، ص 55.

20 - د. علي زعيتر، الاقتصاد والدين: أوراق في الاقتصاد والتنمية الزراعية، الطبعة الأولى، دار الولاء لصناعة النشر، بيروت، 2016، ص. ص 93 - 94.

21 - فليح سوادي، مصدر سابق، ص 23.

22 - فليح سوادي، مصدر سابق، ص. ص 15 - 16.

23 - خطاب المرحلة (211)... يوم النزاهة والعدالة والنظام الأمثل للحكم. http://www.alfadhela.org.iq/ArticlePrint.aspx?ID=2036 24 - فليح سوادي، مصدر سابق، ص 21.

ص: 274

25 - المصدر نفسه، ص 22.

26 - المصدر نفسه، ص 15.

27 - د. حمید الجميلي، دراسات في اقتصادات الغات في ضوء نتائج جولة أورغواي اللمفاوضات التجارية المتعددة الأطراف، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى، بغداد، 1998، ص 35.

28 - د. سمير محمد عبد العزيز، التجارة العالمية بين الجات 1994 ومنظمة التجارة العالمية، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الإسكندرية، 2001، ص 201.

29 - مناخ الاستثمار في الدول العربية 2016: مؤشر ضمان لجاذبية الاستثمار، المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، الكويت، 2016، ص 145.

30 - المصدر نفسه، ص 145.

31 - مناخ الاستثمار في الدول العربية 2016: مؤشر ضمان لجاذبية الاستثمار، مصدر سابق، ص 145.

32 - د. محمد صالح الشيخ، الإغراق و أثره على التنمية الاقتصادية في الدول النامية، وقائع المؤتمر العلمي السنوي الثالث عشر للمدة (11 - 9) مايو 2004، الجوانب القانونية والاقتصادية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية، كلية الشريعة والقانون/ جامعة الإمارات العربية المتحدة، غرفة تجارة وصناعة دبي، وآخرون، الطبعة الأولى، دبي، 2004، ص 1330.

* لمزيد من المعلومات راجع:

- د. هيثم عبدالله سلمان، علاقة النمو بالإصلاح الاقتصادي في العراق بعد عام 2003، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية، العدد (81)، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد، شباط 2015، ص 291.

ص: 275

** ويقصد به أقصى كمية من الإنتاج يمكن لاقتصاد ما الحصول عليها مع أخذ معارفه التكنولوجية وكمية المدخلات المتاحة له في الاعتبار.

*** في الميزانية العامة الختامية يجري تقسيم الإيرادات العامة إلى قسمين رئيسين هما: الإيرادات النفطية (تشمل عوائد الصادرات النفطية + إيرادات بيع المنتجات أو المشتقات النفطية المحلية) والإيرادات الأخرى (تشمل ضريبة الدخل وضريبة الشركات والرسوم والجباية وغيرها) 33 - د. زياد حافظ، البنية الاقتصادية والنظام السياسي والفساد في الوطن العربي، في البنية الاقتصادية والأقطار العربية وأخلاقيات المجتمع، تحریر: د. زياد حافظ، وآخرون، الحلقة النقاشية التي أقامتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، الطبعة الأولى، المنظمة العربية لمكافحة الفساد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نیسان 2009، ص 67.

34 - عبد المنعم راضي، النقود والبنوك، الطبعة الأولى، مکتبة عين شمس، القاهرة، 1998، ص 297.

35 - رضا الحسيني، السيرة الاقتصادية للإمام علي (علية السلام)، ترجمة: علاء رضائي، الطبعة الأولى، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت 2014، ص 49 36 - بحار الأنوار.

http:// www.haydarya.com/ maktaba _ moktasah/ 03/ book _ 42/ 40/ a35.html 37 - نهج البلاغة. http://www.islamology.com/Resources/Nahj_Imam/Letters/

ص: 276

book/45.htm 38 - ثناء فؤاد عبدالله، حول النمو الاقتصادي وسياسات التنمية في الوطن العربي، في النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية في الدول العربية: الأبعاد الاقتصادية، مجموعة مؤلفين، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بیروت، كانون الثاني 2013، ص 398.

39 - ألان نويل، النفط والديمقراطية: عندما يكون الريع إعاقة، تحریر: برتران بادي، دومينيك فيدال، في سلسلة أوضاع العالم 2011، الطبعة الأولى، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2011، ص 184.

40 - د. هيثم عبدالله سلمان، دور المرض الهولندي ولعنة الموارد في تفشي ظاهرة الفساد في العراق، مجلة الاقتصادي الخليجي، العدد (25)، مركز دراسات البصرة والخليج العربي، جامعة البصرة، 2015، ص 20.

41 - د. زياد حافظ، مصدر سابق، ص 97.

42 - د. عبد اللطيف مصطیفی، د. عبد الرحمن سانية، دراسات في التنمية الاقتصادية، الطبعة الأولى، مکتبة حسن العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 2014، ص. ص 205 - 206.

43 - د. هيثم عبدا لله سلمان، أثر سياسات الطاقة العالمية على اقتصادات بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مجلة التعاون، العدد (84)، الأمانة العامة المجلس التعاون لدول الخليج العربية، الرياض، تموز 2014، ص 31.

44 - نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 591.

45 - د. رضا صاحب أبو حمد، السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، الطبعة الأولى، مركز الأمير لإحياء التراث الإسلامي، النجف الأشرف، 2006،

ص: 277

ص 26.

46 - نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 550.

47 - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية 2005 التعاون الدولي على مفترق طرق: المعونة والتجارة والأمن في عالم غير متساو، الأمم المتحدة، نيويورك، 2005، ص 77.

48 - د. هيثم عبدالله سلیمان، دور المرض الهولندي ولعنة الموارد في تفشي ظاهرة الفساد في العراق، مصدر سابق، ص 16.

49 - Thomas L. Friedman, The World is Fiat: A Brief History of the Twenty - First Century, New York, 2005, p 460.

50 - د. حسين علي الشرهان، منهج أمير المؤمنين عليه السلام في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، العدد (1)، الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، كربلاء المقدسة، 2016، ص 76.

51 - د. نغم حسن الكنعاني، المواقف السياسية للأئمة الأثني عشر (عليهم السلام)، الطبعة الأولى، دار المحبين للطباعة والنشر، ق م، 2015، ص 125.

52 - د. کاظم جواد شبر، أوضاع الإدارة العامة في العراق: الصعوبات القائمة والعلاجات المقترحة، سلسلة إصدارات مركز البيان للدراسات والتخطيط 11، مركز البيان للدراسات والتخطيط، بغداد، تموز 2016، ص 11.

ص: 278

قائمة المصادر

أولاً: المصادر العربية الكتب 1 - ألان نويل، النفط والديمقراطية: عندما يكون الريع إعاقة، تحریر: برتران بادي، دومينيك فيدال، في سلسلة أوضاع العالم 2011، الطبعة الأولى، مؤسسة الفكر العربي، بيروت، 2011.

2 - إقبال الأعمال، السيد أبن طاووس، ج 3.

3 - بصائر الدرجات، محمد الصفار، ج 4.

4 - ثناء فؤاد عبدالله، حول النمو الاقتصادي و سياسات التنمية في الوطن العربي، في النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية في الدول العربية: الأبعاد الاقتصادية، مجموعة مؤلفين، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بیروت، كانون الثاني 2013.

5 - حمید الجميلي، دراسات في اقتصادات الغات في ضوء نتائج جولة أورغواي للمفاوضات التجارية المتعددة الأطراف، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة الأولى، بغداد، 1998.

6 - رضا الحسيني، السيرة الاقتصادية للإمام علي (علية السلام)، ترجمة: علاء

ص: 279

رضائي، الطبعة الأولى، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2014.

7 - رضا صاحب أبو حمد، السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، الطبعة الأولى، مركز الأمير لإحياء التراث الإسلامي، النجف الأشرف، 2006.

8 - سمير محمد عبد العزيز، التجارة العالمية بين الجات 1994 ومنظمة التجارة العالمية، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية، الإسكندرية، 2001.

9 - عبد اللطيف مصطیفی، د. عبد الرحمن سانية، دراسات في التنمية الاقتصادية، الطبعة الأولى، مکتبة حسن العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 2014.

10 - عبد المنعم راضي، النقود والبنوك، الطبعة الأولى، مکتبة عين شمس، القاهرة، 1998.

11 - علي زعيتر، الاقتصاد والدين: أوراق في الاقتصاد والتنمية الزراعية، الطبعة الأولى، دار الولاء لصناعة النشر، بيروت، 2016.

12 - فليح سوادي، عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى والي مصر الصحابي مالك الأشتر رضوان الله عليه، الطبعة الأولى، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010.

13 - کاظم جواد شبر، أوضاع الإدارة العامة في العراق: الصعوبات القائمة والعلاجات المقترحة، سلسلة إصدارات مركز البيان للدراسات والتخطيط 11، مركز البيان للدراسات والتخطيط، بغداد، تموز 2016.

14 - محمد الفضل اللنكراني، الدولة الإسلامية: شرح لعهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي، الطبعة الأولى، مرکز فقه الأئمة الأطهار (عليهم ص: 280

السلام)، قم، 2004.

15 - مناخ الاستثمار في الدول العربية 2016: مؤشر ضمان لجاذبية الاستثمار، المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، الكويت، 2016.

16 - نغم حسن الكنعاني، المواقف السياسية للأئمة الأثني عشر (عليهم السلام)، - الطبعة الأولى، دار المحبين للطباعة والنشر، قم، 2015.

17 - نهج البلاغة.

الدوريات 1 - حسين علي الشرهان، منهج أمير المؤمنين عليه السلام في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، العدد (1)، الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، كربلاء المقدسة، 2016.

2 - خضر عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي ابن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، العدد (1)، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 2010.

3 - خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، العدد (2)، مركز إحياء التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، 2014.

4 - هيثم عبدالله سلمان، أثر سياسات الطاقة العالمية على اقتصادات بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مجلة التعاون، العدد (84)، الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الرياض، تموز 2014.

ص: 281

5 - هيثم عبدالله سلمان، دور المرض الهولندي ولعنة الموارد في تفشي ظاهرة الفساد في العراق، مجلة الاقتصادي الخليجي، العدد (25)، مركز دراسات البصرة والخليج العربي، جامعة البصرة، 2015.

6 - هيثم عبدالله سلمان، علاقة النمو بالإصلاح الاقتصادي في العراق بعد عام 2003، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية، العدد (81)، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد، شباط 2015.

المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية 1 - زیاد حافظ، البنية الاقتصادية والنظام السياسي والفساد في الوطن العربي، في البنية الاقتصادية والأقطار العربية وأخلاقيات المجتمع، تحریر: د. زياد حافظ، وآخرون، الحلقة النقاشية التي أقامتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد، الطبعة الأولى، المنظمة العربية لمكافحة الفساد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نیسان 2009.

2 - محمد صالح الشيخ، الإغراق وأثره على التنمية الاقتصادية في الدول النامية، وقائع المؤتمر العلمي السنوي الثالث عشر للمدة (11 - 9) مايو 2004، الجوانب القانونية والاقتصادية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية، كلية الشريعة والقانون / جامعة الإمارات العربية المتحدة، غرفة تجارة وصناعة دبي، وآخرون، الطبعة الأولى، دبي، 2004.

ص: 282

التقاریر الدولیة 1 - برناج الأمم المتحدة الإنمائي، تقریر التنمیة البشریة 2005 التعاون الدولي علی مفترق طرق: المعونة والتجارة والأمن في عالم غیر متساو، الأمم المتحدة، نیویورك، 2005.

المواقع الإلكترونية 1. بحار الأنوار a35.html http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/03/book_42/40 a35 html 2. خطاب المرحلة (211)... يوم النزاهة والعدالة والنظام الأمثل للحكم.http://www.alfadhela.org.iq/ArticlePrint.aspx?ID=2036 3. مركز الأبحاث العقائدية. 6247/http://www.aqaed.com/faq.

4. نهج البلاغة book/45.htm http://www.islamology.com/Resources/Nahj_Imam/Letters/ 5. ولاية الفتنة الكبرى من تاريخ مصر.

http://egypthistory.net/0646/%D9%88%D9%84%D8%A7%D8 6. https://forums.alkafeel.net/showthread.php?t=61944 7. http://www.almilani.com/library/lib-pg.php? booid=18mid=208pgid ثانیاً: المصادر الأجنبیة 1. Thomas L. Friedman The World is Fiat: A Brief History of the Twenty – First Century New York،2005،p 460.

ص: 283

ص: 284

إدارة الدولة في ضوء عهد الإمام علي(عليه السلام) إلى مالك الأشتر النائب أحمد الاسدي الناطق الرسمي بأسم هيئة الحشد الشعبي م. فراس تركي عبد العزيزالمسلماوي ص: 285

اشارة

ص: 286

المقدمة

يمثل النظام الإداري في الإسلام وسمو آدابه جانباً مهماً من عظمة وعبقرية التراث الإسلامي الحضاري، الذي يتعيّن أن يكون محطّ الأنظار والتقدير. ففي مبادئ ومآثر و آداب دولة الإسلام أغنى الكنوز القانونية والإدارية والفكرية، و أرقى النظم السياسية، وأروع الأحداث التاريخية، وأسمى المواقف الإنسانية.

فالنظام الإداري لدولة الإسلام وأدبه في التعامل مع الأفراد والجماعات، والمؤسس على مبادئ الشريعة السمحاء، هو أكثر ما نحتاج إليه في زماننا الحاضر، عالم المادة والابتعاد عن المُثُل، والتخلي عن الأخلاق والفضيلة، والتهرّب من إنسانية الإنسان ومبرر وجوده.

الإسلام ليس ديناً وعبادات فحسب، وإنما هو ايضاً نظام شامل وكامل للحياة البشرية، وقد اهتم بنظام الدولة وعلاقاتها بالأفراد والجماعات وتنظيم أمورهم. والنظام الإداري في الإسلام وآدابه في التعامل، وما يشمل من مبادئ وسلوكيات لا يقل في الرّقي والتمدن عن أحدث النظم الحديثة للدولة العصرية.

فنظام الدولة في الإسلام وأدبياته نموذج مثالي حضاري لأرقى النظم المنشودة، وهو يستحق الاهتمام والدراسة، لأنه بحق مفخرة من المفاخر الجديرة بالتقدير.

وقد قامت النظرة الإسلامية للدولة وآدابها على أساس أن تكون الدولة فاضلة، وتتفق مبادؤها مع الضمير الإنساني في أرقى طموحاته، بحيث يتساوى مع الآخرين في الحقوق والواجبات، ويقوم مجتمعه على الأخلاق والفضيلة.

ص: 287

لقد أخذ النظام الإسلامي بمبدأ خضوع الحكام لسيادة القانون، ووضع الضمانات الكفيلة بتحقيق هذا الغرض على أفضل وجه، بحيث تكون سلطات الحاكم مقيدة بأحكام الشريعة، ويُراعى مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إذ إن الإسلام سبق الأنظمة الحديثة، في فصل السلطات وتنظيمها، وسنشير إليها خلال البحث، مع بيان الأدلة على ذلك من وثيقة الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر. وتقوم رقابة قضائية على تصرفات الحكام والمحكومين على حد سواء، فكانت دولة الإسلام بذلك أول دولة قانونية تسلك هذا الطريق.

والأدب الإسلامي للدولة لم يكتف باحترام الحقوق الإنسانية للمسلمين فقط، بل أفرد معاملة راقية لغير المسلمين من أتباع الديانات السماوية.

وأمام قدسية هذه الشريعة وخلودها، وغنى كنوزها، وعظمة تراثها، ورقي أنظمتها، لا يكون بمقدار الباحث - وهو في رحاب هذا الصرح الحضاري الكبير - إلا أن يغرف من كنوز الشريعة وكتبها، هذه الجواهر الثمينة، التي تزين بحثه.

ومن هذه الكنوز العظيمة (نهج البلاغة) للإمام علي (عليه السلام) الذي تضمّن شتى العلوم والمعارف، والأنظمة التي تُسيّر حياة البشرية، وتنظّم عملها، والتي فيها تتحقق السعادة والرفاهية للمجتمع، في حال تطبيقها.

تناولنا في هذا البحث الجانب التطبيقي لإدارة الدولة عند الإمام علي (عليه السلام)، بدراسة تحليلية لعهد الإمام إلى مالك الأشتر، إذ إن هذا العهد يمثل من أروع الوثائق الإسلامية الحضارية في التنظيم الإداري.

وقد تضمن البحث تمهيد ومبحثين، وخاتمة، بينا في التمهيد، المحاور الرئيسية في هذا العهد، موضحين التقسيم الرئيسي للمجتمع في الإسلام، تمهيداً للدخول في

ص: 288

التقسيم الثانوي للمجتمع.

وتناولنا في المبحث الاول، نظام الطبقات الوظيفية في الدولة وتوزيع الأدوار، مشيرين إلى علاقة التفاعل والارتباط الوثيق بين الطبقات الاجتماعية، موضحين الأدلة على التلاحم والترابط بين الطبقات كافة. أما المبحث الثاني فتناول الوصف التفصيلي للطبقات الوظيفية (الجند، القضاة، العمّال، الوزراء، المستشارين)، مفصّلين الحديث عن كل طبقة على شكل نقاط، توخياً للسهولة، وطلباً للفائدة.

وتوج البحث بالخاتمة، التي تضمنت الاستنتاجات التي توصل إليها الباحثيَن من خلال الدراسة آملين أن يكون هذا البحث، خطوة في تقدم العلم، وخدمة الإنسانية.

الباحثيَن

ص: 289

ص: 290

تمهيد

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلمُؤمِنِينَ مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَاِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلاَدِهَا»(1) ابتدأ الإمام علي (عليه السلام) هذا العهد بتحديد السلطة التي أسندها لمالك الأشتر (وهو مالك بن الحارث النّخعي - ت 37 ه / 657 م - أمير وقائد شجاع)(2) وهي أربعة أمور:

الأمر الأول: (جباية الأموال) وهي الوظائف المالية، بالمصطلح المعاصر (وزارة المالية).

الأمر الثاني: (جهاد العدو) وهي الشؤون الحربية، بالمصطلح المعاصر (وزارة الدفاع).

الأمر الثالث: (استصلاح أهلها) وتشمل الأمن والثقافة والصحة ووظائف الدولة والخدمات وما إلى ذلك من الشؤون الاجتماعية.

الأمر الرابع: (عمارة البلاد) وتعم الزراعة والصناعة والتجارة والإسكان والمواصلات(3).

بهذه الأمور الأربعة يتقوم صلب العدل الاجتماعي والرفاهية الإنسانية والسعادة البشرية، وبقيام الحاكم بها يكون قد أدى دورا إسلامياً رائداً في بناء المجتمع الصالح الذي ينشده الأنبياء ويدعو إليه المصلحون(4).

ونستوضح من هذا النص دقة التنظيم الادراي عند الإمام علي (عليه السلام) فهي نظرة شاملة لتنظيم البلاد والعباد، وبالتعبير المعاصر (برنامج كامل لتشکیل

ص: 291

الحكومة). كما انه في هذه الوثيقة المهمة ينظم علاقة الرعية بالحاكم، فيبين حق الطاعة على الرعية للحاكم في حدود مصالحهم وما يعود عليهم بالنفع والخير ويبيّن ايضاً حق الرعية على الحاكم أن يستجيب لمطالب الرعية. يقول الإمام (عليه السلام):

«وَلْیَکُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي اَلْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَى اَلرَّعِیَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی اَلْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ یُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا اَلْعَامَّةِ»(5).

يبيّن الإمام في هذا النص أن على الحاكم قبل كل شيء أن يعمل لمصلحة الجميع بلا استثناء، فأن تعذر عليه، أخذهم بالأهم الأعم، وهو مصلحة الأكثرية، أما إذا طلبت الأقلية من الحاكم أن يغدق عليها الامتيازات التي تمكنها من رقاب الأكثرية واستغلالهم فعليه أن يرفض ولا يستجيب، من الجهة الدينية فواضح الحرام لأنه ظلم وجور، أما من الوجهة السياسية التنظيمية، فأن سخط العامة یهزُّ کیان الدولة بالإضرابات والمظاهرات، وربما بالثورة المسلحة، أما سخط الأقلية فلا يترتب عليه أي محذور، ومن اجل هذا فهو مغفور برضا العامة، وهذا ما أراده بقوله: (وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة).

يعلّق ابن أبي الحديد في شرحه عن هذا النص قائلاً: (ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة)(6).

وقد نصت عليها في المادة الأولى الدساتير التي وضعتها المجالس النيابية في الشرق والغرب(7). وهي بالذات عناها الإمام بقوله هذا، ومعناه إن الحاكم وکیل عن الجماعة لتأمين غاياتها وأهدافها، وممثل للسلطة لا مالك لها، وانه يبقى في الحكم

ص: 292

ما كان أميناً و مخلصاً.

وهذه هي الحكومة التي تنشدها جميع الشعوب ويؤمن بها كل فیلسوف و مشرّع يهدف إلى الخير والصالح العام، ويتغنى بها الأدباء والشعراء الأحرار.

لقد اعتنى الإمام (عليه السلام) في مدة حكمه، بحماية مبدأ الكرامة، ونبّه عماله على رعاية هذه المسألة، ففي عهده إلى مالك الأشتر يقول: (و أشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة و المحبّة لهم و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدّين و إمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ فأعطهم من عفوك و صفحك)(8).

هذا الكلام، وان كان في ظاهره دستوراً أخلاقياً، لكنه يمكن أن يؤسّس لمباني التعامل بين الحكومة والشعب(9) والإسلام يعترف بوجود طبقتين رئيسيتين في المجتمع:

1 - طبقة الحكام.

2 - طبقة الرعية.

وبين هاتين الطبقتين انسجام رائع ووفاق تام، فنرى الطبقة الحاكمة تنظر إلى الرعية نظرة ملؤها الحب و الإشفاق، وتضع نصب عينها هدفاً واحداً، وهو تحقيق السعادة لهذه الطبقة، بل أن هذا هو الداعي لها لتولي منصب الحكم، وليس تبغي وراء ذلك تحقيق إي مکسب شخصي أو مصلحة ذاتية(10). ووجود هاتين الطبقتين أمر ضروري في المجتمع، وكل طبقة تشتمل على تقسم آخر (ثانوي)، فطبقة الحكام تتألف من (الخليفة العام) ويكون في المركز الرئيس للدولة الإسلامية، و(الولاة) وهم اليد اليمنى للخليفة يستعين بهم على تسيير أمور البلاد الإسلامية، فيعين والياً على كل مصر ليكون بمثابة الإمام فيه، وهو يحكم باسم الخليفة. ومن هؤلاء مالك الأشتر

ص: 293

الذي ولاه الإمام (عليه السلام) مصر. أما الطبقة الرئيسة الثانية (طبقة الرعية) تحتوي على سبع طبقات نتناولها تفصيليا في هذا البحث.

السلطات التي أسندت إلى مالك الأشتر (جباية الأموال) » بالمصطلح المعاصر (وزارة المالیة) (جهاد العدو) » بالمصطلح المعاصر (وزراة الدفاع) (استصلاح أهلها) » بالمصطلح المعاصر (تشمل الأمن و الثقافة و الصحة و وظائف الدولة و الخدمات و الشؤون الاجتماعية) (عمارة البلاد) » تعمّ الزراعة و الصناعة و التجارة و الأصناف و المواصلات

ص: 294

المبحث الاول: نظام الطبقات الوظيفية في الدولة وتوزيع الأدوار

من وصية الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر:

(و أعلم أنّ الرّعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، و لا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود اللهّ. و منها كتّاب العامّة والخاصّة. و منها قضاة العدل. و منها عمّال الإنصاف و الرّفق. و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذّمّة و مسلمة النّاس. و منها التّجّار و أهل الصّناعات. و منها الطّبقة السّفلى من ذوي الحاجة و المسكنة و کلاّ قد سمّى اللهّ سهمه)(11) عهد الإمام إلى مالك الأشتر هو الموضع الوحيد في نهج البلاغة، الذي يتعرض فيه الإمام للتقسيم الطبقي للرعية، فهو يقسمها إلى سبع طبقات هي:

الطبقة الأولى: الجند.

الطبقة الثانية: كتاب العامة والخاصة.

الطبقة الثالثة: القضاة.

الطبقة الرابعة: عمال الإنصاف والرفق، وهم موظفو الدولة.

الطبقة الخامسة: أهل الجزية والخراج.

أهل الخراج: هم الذين يدفعون الضريبة، على الأرض، وهم من المسلمين.

أهل الجزية: هم من غير المسلمين الذين يقبلون بشروط المسلمين و عهودهم ويدفعون الجزية..

ص: 295

الطبقة السادسة: التجار وأهل الصناعات.

الطبقة السابعة: الطبقة السفلة من ذوي الحاجات والمسكن.

إن تشكيل المجتمع من هذه الطبقات، أمر ضروري وهام فلا يصلح بدون ذلك، فكل طبقة ضرورية للمجتمع وتحتاج من اجل بقاءها إلى بقية الطبقات، إذ انه عليه السلام بعد أن يقسم الطبقات الاجتماعية يبيّن التفاعل والارتباط الوثيق بين الطبقات والحاجة إليها، فأنه يحصرها ضمن خمس طبقات، حيث يدرج القضاة والعمال والكتّاب في طبقة واحدة، ويمكن تسميتها بطبقة (الإداريين). وفيما يلي الحديث عن احتياجات المجتمع إلى كل طبقة.

أولاً: طبقة الجند:

يقول عليه السلام في بيان الحاجة إلى هذه الطبقة «فالجنود بإذن اللهّ حصون الرّعيّة، و زين الولاة، و عزّ الدّين، و سُبل الأمن، و ليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم.»(12) نستوضح من كلامه عليه السلام أن كيان المجتمع سوف يهتز و ينهار بدون الجنود، و ذلك للمهامّ الكثيرة و الخطيرة التي تعتمد عليهم. فهم:

1 - الحصن المنيع في وجه الأعداء فيحرسون الحدود و يحمون الثغور.

2 - إن الحاكم يستمد قوته و هیبته و طاعة الرعية له من الجند.

3 - إن الدين الإسلامي يشكّل مجموعة من الأنظمة والتعاليم التي تضمن للإنسان السعادة والاستقرار، بشرط أن يلتزم به الناس، و طبقة الجند تشكّل القوّة التي تلزم الناس بإتباع تلك الأنظمة والتعاليم و احترامها، و هذا هو عزّ الدين.

4 - الجند يحفظ الأمن داخل البلاد، فيمنع القوي من الإعتداء على الضعيف و يردع المجرمين عن العبث بحياة الآخرين و ممتلكاتهم. فالجنود، حصون الرعية يمنعون

ص: 296

التعدّي، فيأمن كل فرد لحمايتهم، وهم عزّ الدين حيث يقمعون المنحرف الأثيم و الخارج عن القانون.

إن الانحرافات تموت بوجودهم لأنّ بقوّتهم يصدّون المتطاول على الشريعة و المنتهك لهذا الدين، و لا تسعد الرّعية و لا تقوم إلاّ بوجودهم، و كيف تسعد الرعية إذا كانت مهدّدة في مصالحها و منافعها، وهل يعطي الأمان و الدعة إلاّ القوّة التي يشكّلها الجند و حزمه المتين.(13)

ثانياً: طبقة أهل الخراج

أهل الخراج هم الفلاحون الذين يدفعون الضرائب عن الأرض و في بيان أهميّتهم للمجتمع يقول عليه السلام: «ثمّ لا قوام للجنود إلا بما يخرج اللهّ لهم من الخراج الّذي يقوون به في جهاد عدوّهم، و يعتمدون عليه فيما يصلحهم، و يكون من وراء حاجتهم.».(14) لا حياة للدولة، لا للجنود فقط، أو لأية هيئة أو فرد إلا بالنفقة الكافية لسدّ الحاجات، و من البداهة أنّه لا مورد للدولة إلا فرض الضرائب و جبايتها.(15) فالخراج المورد الأهم الذي تعتمد عليه الدولة في سدّ احتياجاتها المادية، و أولى تلك الاحتياجات و أهمّها هي الحفاظ على الجند، بأن يدفع لهم ما يقوم بحالهم و يصلح شأنهم. إذن فطبقة أهل الخراج تعتبر ضرورية بالنسبة لطبقة الجند، وحيث أنّ طبقة الجند ضرورية لطبقات المجتمع كلّها كما سبق فهذا يعني أنّ طبقة أهل الخراج ضرورية للمجتمع بأسره.

ص: 297

ثالثاً: طبقة الإداريين:

الإداريون هم الكتّاب و القضاة و الموظّفون حيث جمعهم الإمام في طبقة واحدة حينما تكلم عن الحاجة إلى الطبقات الاجتماعية. يقول الإمام عليه السلام في بيان أهمية هذه الطبقة «ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلا بالصّنف الثّالث من القضاة و العمّال و الكتّاب لما يحكمون من المعاقد، و يجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور و عوامّها».(16) القضاة معرفون وهم الذين يحكمون بين الناس في النزاعات و الاختلافات في الحقوق. أما الكتّاب فهم على صنفين:

1 - کتاب العامة: وهم الذين يحررون الشؤون العامة كالضرائب وغيرها.

2- کتاب الخاصة: وهم الذين يحررون للوالي، والقاضي، وأمير الجيش، ومن إليهم.

و العمّال هم الموظفون الذين يعيّنهم الوالي من أجل تسيير أمور البلاد. وهؤلاء الثلاثة يشكّلون الهيئة الإدارية الضرورية للمجتمع.

رابعاً: التجّار و الصنّاع:

أما التجّار و الصنّاع فيقول عليه السلام فيهم في معرض بیان احتیاج طبقات المجتمع لهم:

«و لا قوام لهم جميعا إلاّ بالتّجّار و ذوي الصّناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، و يقيمونه من أسواقهم، و يكفونهم من التّرفّق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم.».(17) فالتّاجر والصانع يتولّى كلّ واحد منهما مهمّة تعتبر متمّمة للآخر، فالتّاجر يوفّر

ص: 298

للصانع المواد التي يحتاجها في عمله، و الصانع يأخذ هذه المواد فيصنعها و يعيدها للتاجر کي يتولّى توزيعها. و بذلك تتأمّن متطلّبات بقية الطبقات التي تحتاجها من أجل معيشتها، و تتمكّن من أن تنصرف إلى أعمالها.

خامساً: الطبقة السفلى:

و يقول عليه السلام في هذه الطبقة:

«ثمّ الطّبقة السّفلى من أهل الحاجة و المسكنة الّذين يحقّ رفدهم و معونتهم. و في اللهّ لكلّ سعة، و لكلّ على الوالي حقّ بقدر ما يصلحه، و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللهّ من ذلك إلاّ بالاهتمام و الاستعانة باللهّ، و توطين نفسه على لزوم الحقّ، و الصّبر عليه فيما خفّ عليه أو ثقل.».(18) الطبقة السفلى، هم أولئك الذين لا يستطيعون العمل للقيام بسدّ احتياجاتهم، الكبر أو علّة، أو إنهم يستطيعون العمل ولكن ما ينتجونه لا يكفيهم. فهؤلاء يجب على سائر الطبقات الأخرى المتمكّنة أن تمدّ لهم يد العون، على أنّهم مسؤولية الحاكم بشكل خاصّ. فعليه بنفسه أن يبحث عنهم و يحدد حاجاتهم ثم يقدّم لهم العون.

و بعد إن بيّن عليه السلام طبيعة احتياجات طبقات المجتمع إلى بعضها البعض، انتقل إلى تفصيل أحوال كلّ طبقة على حده، والهدف من ذلك هو التوصل إلى طبيعة العلاقات التي يفترض أن تنشأ بينها و بين الحاكم، و أحياناً من أجل الدلالة على كيفية إنشاء تلك الطبقات من أساسها كما في الجند و القضاة، و في المبحث الثاني سنتحدّث عن كلّ طبقة من هذه الطبقات و ذلك بما تحدّث به الإمام عليه السلام.

ص: 299

المبحث الثاني: الوصف التفصيلي للطبقات الوظيفية

الطبقة الأولى: الجند

الحديث عن الجند في عهد مالك الأشتر يتناول النقاط الخمس التالية:

أولاً: المواصفات التي يجب تحققها في قادة الجند.

ثانياً: في كيفية إختيار القادة.

ثالثاً: في طريقة تعامل الحاكم معهم. رابعاً: في ضرورة التقريب بين القائد و جنوده.

و فيما يلي نتناول بالبحث كلّ واحدة من هذه النقاط على حدة، و ذلك بما نستفيده من كلمات الإمام علي (عليه السلام) في نهجه العظيم.

أولاً: الشروط و المواصفات التي يجب أن يتصف بها قادة الجند.

يقول الإمام (عليه السلام): «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للهّ و لرسوله والإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما ممّن يبطیء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضّعفاء و ينبو على الأقوياء. و ممّن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضّعف.».(19)

ص: 300

بمعنى أن يكون ناصح لأمّته و مهمته، و المخلص لدينه و ضميره، و الحليم الذي يملك نفسه، و يكظم غيظهُ، و يقبل العذر، و يرحم الضعيف، و يشتد على القوي كي لا يطمع في جوره و تحيزه، (و ممن لا يثيرهُ العنف) أي يصبر على الكلمة القاسية و الحركة النابية، و يتمهّل حتى يتدبر العواقب، فيعمل بموجبها، شأن العاقل الحكيم.

(ولا يقعد به الضعف) إذا سكت لا يسكت عن عجز بل لحكمة و رويّة، و بكلمة ثانية، يلين من غير ضعف، و يقوي من غير عنف.(20) فالضمان الأكيد لعدم طغیان قادة الجيش، و انحرافهم هو في كونهم واجدين لهذه الصفات التي يذكرها الإمام (عليه السلام) فإن قيادة الجيش عبء ثقيل و خطير للغاية، لأن مصير الأمة بكيانها، و جميع مقدراتها منوط بالجيش و قائده، و بالتالي فإن أعظم القادة على الإطلاق هو الذي يعرف متى يحجم و متی یُقدم، و لا يثير حرباً إلاّ لضرورة قاهرة، ولا يستعمل العنف إلاّ مرغماً، للقضاء على الجريمة، لأن الحرب و القسوة شرٌّ بطبيعتها تماماً كالكيّ بالنار، و هو أخر الدواء.

(هذه المزايا وحدها هي التي تتمكن من بعث روح الاعتماد والمطالبة بها. ولا يمكن التفكير بقائد عام أو قائد في ساحة القتال تجرد عن هذه الصفات)(21)

ص: 301

ثانياً: كيفية اختيار قادة الجند:

بعد أن أوضح عليه السلام الصفات التي يجب توفّرها في قادة الجند، بَيَّنَ المواطن التي يتوافر فيها المتصفون بالصفات التي اشترطها و ذلك ليسهل الإختيار و التعيين على الحاكم، فقال عليه السلام: «ثمّ ألصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصّالحة و السّوابق الحسنة. ثمّ أهل النّجدة و الشّجاعة و الخاء و السّماحة، فإنّهم جماع من الكرم، و شعب من العرف.»(22).

ففي مجتمع الإمام كانت البيوتات الصالحة تهتمّ بتربية أبنائها على ما در جت هي عليه، من الجود و الشجاعة والكرم، فيرشد الإمام عليه السلام إلى أفضلية اختيار قادة الجند من هذه البيوتات ذات الحسب و النسب إذ غالباً ما تتواجد الصفات المطلوبة للقائد في هذه البيوتات، و الاّ فمجرّد النسب دون التحلّي بهذه الصفات لا يجدي شيئاً و لا يمنح أيّة ميزة.

ذكر الأستاذ عبد الوهّاب في مقال بعنوان «الآراء الاجتماعية في نهج البلاغة» و نقل الكاتب قول الإمام: «ثم ألصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات» و علّق عليه قائلا: «إن نغمة البيوتات و الأحساب قد تبدو شاذة، و لكن ينبغي أن لا نرتاع لها و لنكمل استماعنا بأنشودة الإمام الحبيبة، فإن وصيته بذوي الأحساب لا تنافي الديمقراطية فهو لم يدعُ إلى تمييزهم، و انّما دعا إلى الانتفاع بما عندهم، و كثيراً ما يتّسق نبل الأخلاق مع نبل الدم، ثم أنّ الإمام أتبع قوله ذلك بقوله: و السوابق الحسنة ثم أهل النجدة و السماحة. وهؤلاء يكونون من هذه الطبقة كما يكونون من تلك دون تمييز».(23) و علیه یکون ذكر البيوتات و الأحساب وسيلة، و العدل هو الهدف و الغاية.

ص: 302

ثالثاً: طريقة تعامل الحاكم مع القادة:

إن الجند خطر و ضرورة في آن واحد، هم خطر. «لأن الطبقة التي ينتمون إليها هي أقوى طبقات الأمة كلّها، فالجيش طوع أمرهم، و السلاح تحت أيديهم، و لا قوّة تمنعهم من الثورة، إذا ما أرادوا... و هم ضرورة لأنّ وجودهم يحفظ الأمن و يصون الدولة، و يردع السفيه، و يضرب على يد المعتدي».(24) وقد تحرّز الإمام من هذا الخطر بأن تشدّد في كيفية اختيارهم، و فرض مواصفات معيّنة يجب أن تكون متوفّرة فيهم. و لكن هذا وحدهُ ليس كافياً لضمان عدم الإنحراف و العصيان، فإن هؤلاء هم مطالب و احتیاجات كسائر الناس، فإذا لم يستطيعوا الحصول على متطلّباتهم بالطرق المشروعة، فربّما اضطروا للجوء إلى طرق أخرى، لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح المجتمع و الناس. ومن هنا يرى الإمام بأنّ على الحاكم أن يواصل تفقّدهُ لأحوال القادة، من أجل أن يتعرَّف عن كثب على طبيعة احتياجاتهم و يقوم بتلبيتها، و بهذا يقول عليه السلام: «ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنّ(20) في نفسك شيء قوّيتهم به. ولا تحقرنّ لطفا تعاهدتهم به و إن قلّ فإنّه داعية لهم إلى بذل النّصيحة لك و حسن الظّنّ بك. ولا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها فإنّ لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به. و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه.»(26).

على الحاكم أن يضع نفسهُ منزلة الوالد بالنسبة لقادة الجند، و انطلاقاً من ذلك عليه أن يعمل على تقويتهم بشتّى الطرق الممكنة، دون أن يجعل للخوف موضعاً في نفسه من أن يصبح بعض هؤلاء القادة من القوة بحيث ينافسونه على منصبه، فهو کالوالد لهم، و كما أنّ الوالد يعمل جاهداً من أجل أولاده و تأمين مستقبل مشرق لهم دون أن يقلق من أن يصبحوا ذات يوم في مركز أفضل من مركزه، فكذلك يجب أن

ص: 303

يكون الحاكم مع قادة جنده، عليه أن يفتخر بهم إذا ما أصبحوا أقوياء منيعين، لا أن يعظم عليه هذا الأمر و يقلقهُ.

ثمّ ينبّه الإمام إلى أمرٍ هامٍ يجب على الحاكم ملاحظته، و هو أن عليه أن يبذل أقصى جهده من أجل كسب ثقة قادة جنده و حسن ظنّهم، لأنّه لو تمّ لهُ ذلك فإنّهم بعد هذا لا يدّخرون جهداً في سبيله و يكونون لهُ نعم الناصح الغيور. و أما كيف يكسب الحاكم ثقة هؤلاء القادة؟ فهو أن يقف عند كلّ ما يعاهدهم به ولا يعدوهُ أبداً حتى لو كان أمراً ليس بشديد الأهمية، فهم عندما يلاحظون اهتمامهُ من أجل الوفاء بأقل الأمور فإنهم حينئذ تزداد ثقتهم به و يزداد تسليمهم و نصحهم له(27).

ومن فوائد تفقّد الحاكم لقادة جنده هو أنه يستطيع التعرّف عن كثب على ذوي البلاء الحسن فيشجّعهم على ذلك ليكونوا قدوة لغيرهم، يقول الإمام (عليه السلام):

«فانسخ في آمالهم، و واصل في حسن الثّناء عليهم، و تعدید ما أبلی ذوو البلاء منهم. فإنّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم تهزّ الشّجاع و تحرض النّاكل إن شاء اللهّ.».(28) هذه الفقرة من كلام الإمام «تدلّ على مدى خبرته بالنفس البشرية و كيفية التعامل مع مختلف أنواع البشر، فنرى أنّه يهتم كثيراً بالكلمة الحسنة».(29) إذ إنّ الإمام يوصي الحاكم بأن ينظر في أفعال قادة جنده فإذا ما وجد من أحدهم بلاءاً حسناً، فعليه أن لا يبخل عليه بحسن الثناء و الإطراء فإن ذلك يفتح باب المنافسة على مصراعيه حيث يرى بقية القادة أن العمل الحسن معترف به من قبل الحاكم و يُقابَل بالثناء والشكر، و هذا ما يدفعهم إلى المزيد من النشاط والإخلاص في العمل.

ص: 304

كما أن حسن الثناء على ذوي البلاء الحسن يدفع الناكل إلى أنّ يعيد النظر في موقفه، حيث يرى أن نتيجة نكوله لا تنقلب إلاّ عليه، فيحاول حينئذٍ تصحیح سلوكه. و هذا بخلاف ما لو إنهال الحاكم على الناكل باللؤم و التقريع، فإنّ ذلك يعطي نتائج عكسية تماماً، إذ يشعر الناكل حينئذ بالحقد و الضغينة فيزيد في نكوله و جحوده.

رابعاً: ضرورة التقريب بين القائد و جنوده

إن الانسجام و التفاهم بين القائد و جنوده يعطي ثمرات عملية، ظاهرة، فعطف القائد على الجندي يعطي هذا الأخير شعوراً بالمحبة و وجوب التفاني في سبيل قائده، كما يشعر بأن الانتصار على العدو هو إنتصار لهُ بالذات، يقطف ثمراتهُ بنفسه لا أنّه مجرَّد أداة في يد القائد يوجّهه كيف يشاء.

و للإمام علي عليه السلام طريقة لبقة و فريدة من نوعها، من أجل تحقيق التقارب والانسجام بين القائد و جنوده، و هو يوضّحها في عهده للأشتر بقوله: «و لیكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، و أفضل عليهم من جدته بما يسعهم و يسع وراءهم من خلوف أهلهم حتّى يكون همّهم هما واحدا في جهاد العدوّ.».(30) فالإمام يوصي الحاكم بأن يقرِّب إليه أولئك القادة الذين يسيرون بالحسنى في جنودهم، وهذا يعني إعطاء ميزة لهم على غيرهم، مما يفتح باب المنافسة بين القادة جميعاً ليحظوا بمنزلة القرب من الحاكم.

«كما أنّ المحبّة و العطف و الخلق الحسن شروط لازمة في حصول هذا الشعور عند الجنود فإنّ تأمين الناحية الاقتصادية شرط لازم أيضاً».(31) وقد أدرك الإمام عليه السلام أهمية التقارب و الإنسجام بين القادة و الجنود، فعلى القائد أن يتحلّى بالأخلاق الحسنة و يسير بها بين جنوده، فيعطف عليهم و يشفق

ص: 305

على ما يصيبهم، ثم عليه أن يولي اهتمامهُ عائلة الجندي فترة غيابه فيقوم باحتياجاتها حتّى ينصرف الجنديّ إلى جهاد عدوِّه وقد اطمأنّ على عائلته التي خلّفها وراءه.

الطبقة الثانية: القضاة

إن منصب القضاء من المناصب الحسّاسة و شديدة الأهمية في الدولة، و مردّ ذلك إلى المهام الخطيرة الموكولة لمن يتولّى هذا المنصب، أي القاضي، فهو يفصل بين المتخاصمين، فيحكم بالأموال و الممتلكات لشخص و ينزعها عن آخر، إذ إنّ مهمّتهم تطبيق القانون في المجتمع(32). و حدیث الإمام في نهج البلاغة عن طبقة القضاة ينحصر فيما يلي:

أولاً: اختيار القضاة و مواصفاتهم.

ثانياً: حقوق القضاة على الحاكم.

ثالثاً: استقلال القضاء.

رابعاً: وجوب مراقبة القضاة.

أولاً: اختيار القضاة و مواصفاتهم:

قال عليه السلام «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه(33) الخصوم، ولا يتمادى في الزّلّة، و لايحصر(34) من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، و أوقفهم في الشّبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصر مهم عند اتّضاح الحكم. ممّن لا يزدهيه إطراء و لا يستميله إغراء. و أولئك قليل.»(35).

ص: 306

نستوضح من هذا النص أن الإمام عليه السلام أشار إلى أن القاضي يختار بالتعيين الا بالإنتخابات، حيث قال عليه السلام (ثم أختر للحكم)، و على هذا المبدأ معظم الدول.

«و لا يتنافي التعيين مع استقلال القضاة عن الحاكم الذي يختارهم، حيث ينصرف كلّ فريق بعد التعيين إلى مهمّته و اختصاصه».(36) كما أنّه عليه السلام يشير إلى مواصفات مهمّة ينبغي أن تكون في القاضي و يمكن لنا أن نتناولها على شكل نقاط هي:

1 - أن يكون القاضي (ممّن لا تضيق به الأمور) أي يجب أن يكون عالماً مجتهداً يستخرج الأحكام من مصادرها، و يطبّقها على مواردها.

2 - (لا تمحکه الخصوم). و في تفسيره أقوال أرجحها أن يكون القاضي واسع الصدر، يتحمّل ما يجري ويحدث عادة بين الخصوم من المهاترات، شريطة أن لا تمس هيبة القاضي و القضاء.

3 - (لا يتهادى في الزَّلة _أي الخطأ_ ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه) إذا أخطأ، ثم عرف الصواب فعليه أن يرجع إليه، ولا يصرّ على خطأه، فإن الرجوع عن الخطأ فضيلة.

4 - (لا تشرف نفسه على الطمع) أن يكون عفيفاً لا يقضي بالهوى، ولا يقبل الرشی، يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد: (أن يكون صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه).

5 - (لا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه). لا يُعلن الحكم النهائي إلا بعد التحرّي و الوقوف على جهات الدعوى بأكملها، و البحث عمّا يتّصل بالحادثة حكماً و موضوعاً. وهذه هي طريقة العلماء، فإنّهم لا يبتون بشيء إلا بعد الاستقراء

ص: 307

التام، و الملاحظات الدقيقة و الوثوق بما يقولون.

6 - (أوقفهم في الشبهات). ليس المراد بالوقوف هنا الإحجام عن الحكم، لأن القاضي ملزم بفصل الخصومات، و أيضاً ليس المراد به العمل بالاحتياط، و إنما المراد بالوقوف هنا الرجوع إلى أصل صحيح مع النص.

7 - (آخذهم بالحجج) كالإقرار و الشهود و اليمين و القرائن القطعية التي تنشأ من السير في الدعوى و ملابساتها.

8 - (أقلهم تبرماً بمراجعة الخصم) أي يفسح المجال للخصم ليدلي بكلّ ما لديه، و يستمع إليه القاضي بصدر رحب، و خلق کریم.

9 - (أصبرهم على تكشف الأمور) دؤوب في البحث و التتبع لا يعرف الكسل و الملل.

10 - (أصر مهم عند اتضاح الحكم). متى اتضح الحقّ فلا أمل في غيره، و لا قضاء إلا به، ولا مضيّ إلا عليه مهما تكن الظروف و العواقب حتى ولو كانت قصاً اللسان، و قطعاً للرأس.

11 - (لا يزدهيه الإطراء) لا يطرب للمديح إلا جاهل كفيف، و أحمق سخيف لا كبير ولا صغير إلا بعد العرض على الله.

12 - (لا يستميله إغراء) أبداً، لا يكون ولن يكون مع القوى على الضعيف، ومع الغني على الفقير، بل يأخذ هذا من ذاك، ليستقیم میزان الحق و العدل.

(أولئك) الذين تكاملت فيهم هذه الصفات (قلیل) بلا ريب، ومع هذا فعلی الحاكم أن يتحرى و يبحث عنهم، و يقدم من هو أعرف بالشريعة و أصول المحاكمات، و أصلب في الحق، و أكثر تفطناً لأهداف الخصوم و خداعهم.(37)

ص: 308

ثانياً: حقوق القضاة على الحاكم:

لقد أدرك الإمام (عليه السلام) أن طبائع البشر ليست واحدة ولا متشابهة، و أن المركز الذي يشغله كلّ فرد في المجتمع يؤثّر على طباعه و سلوکه، و بالتالي تختلف طريقة التعامل معهُ عن بقية الأفراد الذين يشغلون مراکز مختلفة، فالناس لا يساسون جميعاً بعصاً واحدة.(38) ومن هنا فقد وضح الإمام (عليه السلام) برنامجاً خاصّاً في كيفية التعامل مع كلّ طبقة من طبقات المجتمع.

و السلطة القضائية من أعظم سلطات الدولة، بها يفرق بين الحقّ و الباطل، و بها ينتصف للمظلوم من الظالم. و حين تجنح الظروف بهذه السلطة إلى الإسفاف فإنّها لا تنزل إلى الحضيض وحدها و إنّما تجرّ معها المجتمع كلّه أو بعضهُ.(39) ومن هنا وجب أن يكون القاضي مأموناً من الإنحراف و الزيغ، و هذا الإنحراف منشؤه أحد أمرين:

أحدهما: الخضوع للإغراءات المادية، فيحكم بغير الحقّ طمعاً في الرشوة، تدفع إليه.

ثانيهما: الخضوع للتهديد و التخويف، بأن يكون أحد المتخاصَمين يشغل منصباً هامّاً في المجتمع مما يجعل القاضي يتحرّز عن الحكم في غير مصلحته.

وقد عالج الإمام (عليه السلام) كلاً من الأمرين بما يناسبهُ. أما الأمر الأول فإنه (عليه السلام) قد أدرك أن القاضي لم يكن ليخون ما يمليه عليه ضميرهُ لولا حاجته إلى المال، فإذا قضيت جميع متطلّباته الحياتية بحيث لا يشغل فكرهُ في القضايا المادية، فإنه لن يكون من السهل بعد ذلك قبوله الرشوة، لذلك أمر عليه السلام أن يدفع إلى القاضي ما يقوم بجميع متطلّباته و یزید عنها، فيقول: «و أفسح لهُ في البذل ما يزيل

ص: 309

علتهُ، و تقل معه حاجته إلى الناس»(40) و أما بالنسبة إلى الأمر الثاني الذي قد ينحرف القاضي بسببه، و هو خوفه على مركزه أو حياته، فإن علياً (عليه السلام) يضع حدّاً لهذا الخوف و يقتلعه من جذوره، و ذلك بتقديم الضمانات إلى القاضي بحيث يطمئن من خلالها على أنّ أحداً لن يمسه بسوء فيما لو حکم بعلمه و قناعاته. فنراهُ عليه السلام يوصي بمنح القاضي مكانة قريبة من الحاكم بحيث يطمئن على أنّ أحداً لن يستطيع الدسَّ عليه أو تشوية سمعته.

فيقول عليه السلام:

«و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك».(41)

ثالثاً: استقلال القضاء:

قال (عليه السلام): (فمنها جنود اللهّ. و منها كتّاب العامة و الخاصّة. و منها قضاة العدل. و منها عمّال الإنصاف و الرّفق.)(42) قسم الإمام علي (عليه السلام) الطبقات الوظيفية إلى فئات، منها الجنود والولاة والقضاة و الكتّاب، وهو بهذا التقسيم يومئ إلى فصل السلطة القضائية عن غيرها، واستقلالها بذاتها، لتفعيل دور القضاء وتحقيق العدل بين الرعية.

فكيف يمكن تصور أن تكون السلطة التنفيذية خصماً وحكماً في نفس الوقت. فكان لابد من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية واستقلالها، بتعبير أصحاب القانون المعاصرين (لا حصانة بلا استقلال، ولا استقلال بلا حصانة).

ومن المعلوم أن التشريع في الإسلام لله وحده و أن الطريق إلى معرفته (القرآن

ص: 310

والسنة). ويمكن لنا إعطاء دليل عملي على استقلال القضاء عند الإمام علي عليه السلام، عندما تولى الحكم، فقد خضع عليه السلام لصلاحية القضاء، فلم يكن له أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له أن يشهد لنفسه.(43) فقد روي أن الإمام علياً (عليه السلام) لمّا رجع من قتال معاوية، وجد درعه المفقود بید رجل يهودي كان يسعى لبيعها، ولمّا أصرّ هذا على أن الدرع له، اختصم الاثنان أمام القاضي شُريح. فطلب القاضي من الإمام أن يثبت دعواه. فأتی بخادمه قنبر وابنه الحسن شاهدين. فرفض القاضي شهادة الابن لوالده، فقال علي (عليه السلام): (سبحان الله، رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته. سمعت رسول الله يقول: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة). ولمّا أصرّ القاضي على موقفه، طلب الإمام علي عليه السلام من اليهودي أن يأخذ الدرع، لأنه لم يكن له شهود غير من ذُکر. فما كان من اليهودي إلاّ أن تأثر بهذا العدل، وباحترام الإمام علي لاستقلال القضاء. فقال: (أشهد أن الدرع لك، وان دینکم هو الحق. قاضي المسلمين يحكم على أمير المؤمنين ويرضى. أشهد أن لا اله إلاّ الله، وأشهد أن محمد رسول الله). فسرّ الإمام علي بإسلام اليهودي، ودفع إليه الدرع تبرعاً.(44) ومما تقدم يتبيّن لنا، أن الإمام علي (عليه السلام) هو أول من أشار إلى استقلال القضاء، وأعطاه أهمية كبرى، من أجل تحقيق العدل في المجتمع. وليس كما يذهب إليه الباحثون في القانون، بأن مبدأ فصل السلطات مرتبط باسم (مونتسکیو) في كتابه (روح الشرائع) المنشور سنة 1748 م، الذي قال فيه بوجود ثلاث سلطات في الدولة (تشريعية، تنفيذية، قضائية).(45)

ص: 311

رابعاً: وجوب مراقبة القضاة:

لقد وضع الإمام (عليه السلام) كافة الاحتياطات اللازمة من أجل الإطمئنان على صلاح مركز القضاء، فقد رأينا كيف يشترط في القاضي أن تتحقق فيه مواصفات خاصة لا تتواجد إلا في القلّة من الناس. ثمّ يمنح القاضي من الأموال و الإمكانات المادية ما يتيح له حياة كريمة لا يضطر معها إلى قبول الرشوة، و بعد ذلك يوصي بتقريبه من الحاكم كي يأمن على نفسه و ماله.

و لكنه عليه السلام مع كلّ هذه الاحتياطات يرى وجوب مراقبة القاضي و مراجعته أحكامه فمن عهده للأشتر: «ثمّ أكثر تعاهد قضائه».(46) أي يتعاهد الحاكم قضاء قاضيه، و ينظر فيما أصدرهُ من الأحكام، فإن ذلك كفيل بأن يمسك القاضي عن الإنحراف، و يستقیم به على السنن الواضحة لأنّه حينئذ يعلم أن المراقبة ستكشف أمر الحكم الجائر.(47) ومن الجدير بالذكر أن الإمام عليه السلام قد سجل بما شرعه في طبقة القضاة سبقاً عظيماً على إنسان اليوم، و ذلك لأن استقلال مركز القضاء و عدم تأثره بأي سلطة أخرى، و تأمين الناحية الاقتصادية للقاضي، و نظام التفتيش القضائي، جهات تنبه لها الإمام و جعلها واقعاً يخلّف في حياة المجتمع آثارهُ الخيرة.

ص: 312

الطبقة الثالثة: العمّال

العمّال، هم موظفوا الدولة الإسلامية، وهم أداة الحاكم في تنفيذ أوامره و الوجه الذي يعرف به بين الناس، فإذا كانت طبقة العمّال فاسدة فإن هذا يكشف عن فساد الحاكم و عدم أهليته، بينما صلاح هذه الطبقة و استقامتها يعني صلاح الحاكم، و استقامتهُ. لذا كانت هذه الطبقة موضع اهتمام الإمام و حديثه عنها يتعلّق بعدّة نقاط:

أولاً: صفات طبقة العمال و معايير التعيين و الاختبار.

ثانياً: حقوق العمال على الحاكم.

ثالثاً: عدم إغفال مراقبتهم للتأكد من استقامتهم.

و فيما يلي نستعرض كلمات الإمام فيما يتعلّق بكلّ واحدة من هذه النقاط:

أولاً: صفات طبقة العمّال و معايير التعيين و الاختبار:

يوضح عليه السلام هذا الأمر في عهده للأشتر حين يوصيه بقوله:

«ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهما جماع من شعب الجور و الخيانة، و توخّ(48) منهم أهل التّجربة و الحياء من أهل البيوتات الصّالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقلّ في المطامع إشراقا(49)، و أبلغ في عواقب الأمور نظرا.».(50) فأهمّ ما يجب ملاحظته في العمّال هو الكفاءة هذا المنصب، و هذه الكفاءة لا تعرف إلاّ بالامتحان و الاختبار، فالذي يفوز بهذا الاختبار يكون مؤهّلاً لهذا المنصب و الاّ فلا. فتعيين العمّال يجب أن يخضع لهذا الأمر لا أن يكون عن محاباة و آثرة، لأن المحاباة و الآثرة تجمعان تحت لوائهما الجور و الخيانة.(51)

ص: 313

من خلال هذا النص نستوضح أن الامام عليه السلام وضع آلية لتعيين العمال تتمثل بثلاثة أمور:

أولها: أن يكون من أهل الخبرة في مجال عمله، ولا يجوز أن تتدخل المحبة و الميل لإنسان في تعيينه في غير مجاله الذي يستطيع أن يعمله ضمنه.

ثانيهما: أن يكون من أهل الحياء و أصحاب البيوتات الصالحة فإن من كان من أهل الحياء يخجل أن يقصّر في أعماله و كذلك أصحاب البيوتات الصالحة يمنعها صلاحها من تعمّد التقصير فإنّ الصلاح قرين الإخلاص و الإتقان.

ثالثهما: أن يكون من أصحاب القدم في الإسلام، فإنه يكون على علمٍ بدقائق الأحكام، وأثبت عقيدة من الداخل.(53)

ثانياً: حقوق العمّال على الحاكم

يعلَّق الإمام علي عليه السلام أهمية كبيرة على العامل الاقتصادي في حياة البشر، لذلك نراه يؤكّد دائماً على وجوب تأمين الوفرة المادية للجميع، و خاصة لأصحاب المراكز الحسّاسة و الهامّة في المجتمع، و ذلك ليس لأفضليتهم على سائر الناس، بل من أجل ضمان عدم خيانتهم لما تحت أيديهم كما هو الحال بالنسبة للعمّال، فمن عهده للأشتر في تتمة حديثه عن العمّال: «ثمّ أسبغ(53) عليهم الأرزاق فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا(54) أمانتك.».(55) فعلى الحاكم أن ينظر في احتياجات عمّاله فيقوم بها، لأنه بذلك يصلح أمرهم فيتمكّنوا من التفرّغ لأعمالهم الموكولة إليهم دون الحاجة إلى عمل آخر يرتزقون منه، هذا فيما لو كانوا أمناء، أما لو كانوا من الذين تضعف أنفسهم أمام الإغراءات المادية و يصبرون على الشدّة، فإنّ إسباغ الأرزاق عليهم رادع لهم عن الخيانة في الأموال

ص: 314

التي تحت أيديهم.(56) فإذا خان العامل بالرغم من الضمانات المادية المقدمة لهُ، فإن الحجة تكون قائمة عليه، فيتمكن الحاكم من معاقبته، و أخذه بذنبه، إذ لا عذر لهُ على الاختلاس ليتمسَّك به.

ثالثاً: عدم إغفال مراقبة العمّال:

انطلاقاً من أهمية و خطورة الدور الذي يقوم به العمّال، فإنّ الإمام يشير إلى أن الضمانات السابقة كلّها ليست كافية وحدها للإطمئنان إليهم والوثوق بهم. فبالرغم من الدقة في اختيارهم، و بالرغم من الضمانات المادية المقدمة لهم، فإنّ الإمام یری وجوب مراقبتهم و تتبّع أعمالهم. كتب في عهده: «ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصّدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السّرّ لأمورهم حدوة(57) لهم على استعمال الأمانة و الرّفق بالرّعّية.».(58) نستوضح من هذا النص دقة التنظيم الإداري عند الإمام عليه السلام، حيث يأمر الحاكم بإنشاء جهاز رقابي سري، من أجل مصلحة الرعية، في أن يؤدّي العمّال واجباتهم بصورة جيدة و أمينة، مع الرفق بالرعية، «فإنهم إذا عرفوا أن هناك مراقباً لهم و متفقد لأعمالهم يجيدون العمل و يتقنوه».(59) ويجب أن يكون للحاکم عدة أشخاص من أهل الدين و الأمانة الموثوق بهم، تكون مهمّتهم مراقبة العمّال، فإذا أحسّوا منهم أي خيانة أو انحراف كتبوا بذلك على الفور

ص: 315

إلى الحاكم. «و لا بدّ من التزام السريّة التامة في شخصية هؤلاء الرقباء»(60). فمعرفة العامل بوجود رقیب مجهول عليه يدفعهُ إلى التزام الحذر من جميع الناس، و بذلك لا تتاح له فرصة للخيانة، أما لو عرف الرقيب بعينه فيكفيه حينئذٍ الاحتراز منه شخصياً و بالذات.

ثم لو تبيّن للحاكم بواسطة رقبائه أن بعض العمّال قد خان أمانتهُ، فإن واجبهُ أن يتصرَّف على الفور، و يقرر عليه السلام ما يجب عليه فعلهُ بقوله:

«فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التّهمة».(61) فطالما أن العيون و الرقباء الذين اختارهم الحاكم لمراقبة العمّال هم من أهل الثقة و الأمانة، فإن شهادتهم عليه بالخيانة تكفي في قيام الحجة على الحاكم من أجل معاقبته . و أول ما يعاقب به هو عزله عن عمله، و استرداد ما نهبهُ من الأموال، و تعذيبه جسدياً بالجلد. و فوق هذا كلّهُ يوضع في مقام المذلة فيشهّر به ليكون عبرة لغيره.

ص: 316

الطبقة الرابعة: الوزراء

الوزراء هم الجهاز الأعلى للدولة، إليهم يرجع تصريف الأعمال، و بهم تحدد سياسة الدولة، و منهم يصدر القرار بالحرب والسلم. فبقدر صلاحهم ووعيهم يكون صلاح الدولة و استقرارها، بينما فسادهم يعني خراب الدولة بلا شك.

و حديث الإمام عن هذه الطبقة يتعلق بأربعة أمور:

أولاً: مواصفات الوزراء.

ثانياً: آليات و معايير اختيار الوزراء.

ثالثاً: التخصص في توزيع المهام على الوزراء.

رابعاً: في كيفية التعامل معهم.

و فيما يلي تفصيل الكلام عن كلّ ذلك.

أولاً: مواصفات الوزراء:

لقد حدّد الإمام هذه المواصفات في عهده للأشتر حيث يقول:

«إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا و من شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة و إخوان الظّلمة، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم(62) و أوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثا على إثمه. أولئك أخفّ عليك مؤونة، و أحسن لك معونة، و أحنى عليك عطفا، و أقلّ لغيرك إلفا(63) فاتّخذ أولئك خاصة لخلواتك و حفلاتك».(64) الوزير يجب أن يكون من أخير الناس، وهذا أمر يعود لجسامة المهمة الموكولة إليه، فإليه يعود أمر تصريف أعمال الدولة، و الرعية تتخذهُ مثلاً أعلى لها فينبغي أن

ص: 317

يكون نِعمَ القدوة.

ثم يجب أن يكون الوزير ذا خبرة في أحوال مجتمعه حتى يتمكن من القيام بمهمّته على أكمل وجه، و بعد هذا يجب أن يكون لديه سجل عدلي نظيف فلا يكون ممّن سبق له العمل مع الحكّام الظالمين، لأنّه بمعونته لهم و تأييد أعمالهم قد تعوّد على الظلم، ولا ضمانة في أنه يغير منهجه فيما لو عيّن وزيراً للحاكم العادل، كما أنّ الصورة التي تعرفها الرعية عن هذا الوزير لا يمكن محوها بسهولة، فهو عنوان الظلم والفساد بنظرها، ولا يمكن أن تغيّر فكرتها بسرعة.(65) ويشير الإمام عليه السلام لعامله: دع أهل السوابق في المثالب و الجرائم حتى و لو بلغوا الغاية من الوعي و الذكاء، فإنّهم يخادعون و يضلّلون، و عليك بأهل الدين و الصلاح، فإنهم لا يغشون من استنصحهم، و لا يرون لهم فضلاً عليه، و فيهم الكثير من أهل الرأي السليم و العقل الحكيم.(66) أي اختيار الإنسان الطاهر الذي لم يتدنس، و يندفع بإخلاص و يعاون برغبة و يسعى بعطف و حنان كي يثبت الحقّ و يدفع الباطل و يعمل بمقتضى باطنه و طهارة ضميره.

ثانياً: آليات و معايير اختيار الوزراء.

فيما لو وجدت هذه الصفات المتقدمة في شخص ما، فهل هذا كافٍ من أجل تعيينه في منصب الوزير، أم أن هناك أموراً أخرى يجب ملاحظتها؟ يجيب الإمام عليه السلام عن ذلك بقوله:

«ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك و استنامتك(67) و حسن الظّنّ منك،

ص: 318

فإنّ الرّجال يتعرّفون(68) لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النّصيحة والأمانة شيء، و لكن اختبرهم بما ولوا للصّالحين قبلك فاعمد الأحسنهم كان في العامّة أثرا، و أعرفهم بالأمانة وجهاً، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للهّ ولمن و ليت أمره»(69).

إن الاستقامة و الصلاح و الأمانة، صفات حميدة يَدّعيها كلّ إنسان و يحاول إثباتها لنفسه، و قد ينجح أحياناً في كسب ثقة الناس و الاعتراف له بكلّ ذلك، و لكنّه في الواقع يكون بريئاً من هذه الصفات بعيداً عنها.

و هذه الصفات مطلوبة بشكل أكيد وضرورية في الذي يتولّى منصب الوزير، فالحاكم عندما يريد اختيار وزرائه عليه أن يبحث عن مواطن هذه الصفات، و لكن عليه أن لا يؤخذ بالظواهر، و الطريقة الصحيحة لمعرفة الحال هي بالاختبار. فعلى الحاكم أن يختبر حال المرشّحين لمنصب الوزير، و أسهل طريقة توصلهُ إلى غايته هي أن يبحث عن الوزراء الذين كانوا في معونة الحكام الصالحين قبلهُ فينظر إلى كيفية سلوكهم معهم و إلى أثرهم في الناس.

ثالثاً: التخصص في توزيع المهام على الوزراء.

الوزراء يرجع إليهم أمر تصريف شؤون الدولة بالكامل، و بالطبع فإنّ المهام كثيرة و متنوعة، لذا كان من الصعب إيجاد شخص واحد له خبرة بجميع هذه الأمور، ولو وجد هذا العبقريّ فإنه يصعب عليه القيام بها جميعاً، بل إنّ بعضها یرهقهُ و يتبعهُ.

ومن هنا يقرَّر الإمام (عليه السلام): «و اجعل لرأس كلّ أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتّت عليه كثيرها».(70)

ص: 319

فالطريقة الصحيحة لضمان قيام الوزراء بشؤون الدولة على أكمل وجه، هي توزيع المهام عليهم، و بذلك يتفرَّغ كل وزير لمهمتّهُ و يصبح مسؤولاً عنها. و بذلك أيضاً يتمّ القضاء على التواكل، إذ لو أصبحت بجملتها واجبة على الوزراء جميعاً دون تحديد مهمة كل واحد منهم، فإن ذلك يؤدّي بلا شك إلى اضطراب الأعمال و عدم تصريفها على الوجه الصحيح.

وقال الباحثون: «إن هذا المبدأ لم تهتد إليه المدنية الاّ حديثاً».(71) في حين أننا نجد أنّ الإمام عليه السلام أشار إلى هذا المبدأ «توزيع المهام أو التخصص» قبل أربعة عشر قرن.

رابعاً: تعامل الحاكم مع الوزراء:

إن الوزراء حيث كانوا محيطين بالحاکم و مطّلعين على أكثر أموره، فإن مهامهم توجيه النصح والإرشاد عليه بما فيه صلاح المجتمع، فإذا رأوا من الحاكم أي خطأ أو غفلة فعليهم تنبيهه على ذلك، و أرشادهُ إليه، ثم يظهرون معارضتهم لهُ، و بهذا يقول الإمام (عليه السلام):

«ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك، و أقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللهّ لأوليائه واقعا ذلك من هواك، حيث وقع، و الصق بأهل الورع و الصّدق، ثمّ رضهم(72) على أن لا يطروك(73) ولا يبجّحوك(74) بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو و تدني من العزّة.».(75) فصراحة الموقف أمر مطلوب من الوزير، فإذا رأى من الحاكم أي خطأ فعليه مصارحتهُ به حتى ولو كانت الصراحة مرة أحياناً، و على الوزير أن لا يمدح الحاكم بشيء لم يفعلهُ ولا يزيد في كثرة الإطراء على ما يفعله، فإنّ ذلك يحدث

ص: 320

الزهو في نفس الحاكم.

«مهمة الوزراء قول الحق مهما كان قاسياً، و على الوالي أن يتقبّل ذلك مهما يكن تأثيرهُ عليه».(76) و من واجبات الحاكم أن يظهر رغبتهُ لمثل هذه الأمور في وزرائه، و عليه تشجيهم على الصراحة معه، و أفضل طريق لذلك هو أن يقرّب إليه أولئك الذين يتمتّعون بهذه الصراحة في الموقف، فذلك وحده يكون حافزاً للآخرين على الإقتداء بهم.

ص: 321

الطبقة الخامسة: طبقة المستشارين

المستشارون يلعبون دوراً هاماً في توجيه رأي الحاكم، بعد إمداده بالمعلومات و التحليلات. ولما كانوا بهذا التأثير، كان لابدّ من التأني في اختيارهم لأنّ السياسة ستنطبع، بحدود معينة بطابعهم، لذلك يوصي الإمام مالك الأشتر عندما ولاهُ مصر، فيقول له:

«و لا تُدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يَعدلُ بك عن الفضلِ(77) ويَعدُك(78) الفقر، ولا جباناً يضعفُكَ عن الأمورِ، ولا حريصاً يزیِّنُ لك الشّرَه بالجور فإن البخلَ و الجبنَ و الحرصَ غرائز شتى(79) يجمعها سوءُ الظن باللهِ».(80) نستوضح من هذا النص أن الإمام يشير إلى عدم الأخذ برأي (الجبان و البخيل والحريص) لأنّهم سواء في القبض و الإمساك، و لكن الحريص أكثر جشعاً و شرهاً، يكدح ليل نهار في السعي لدنياه، أما البخيل فقد يكون كسولاً.

فالبخيل يأمرك بالإمساك و يخوفك الفقر، و الجبان يأمرك بالاستسلام حرصاً على الحياة، و يأمرك الحريص بالكدح لمجرد الجمع و الإدخار.(81) و الجبن و البخل و الحرص، يتولد من الوهم و الخيال أو كما قال الإمام عليه السلام يجمعها سوء الظن بالله الذي كتب على نفسه الرحمة، قال تعالي: «وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» [يوسف: 87] أما عن كيفية تعاطي الحاكم مع الاستشارة، فقد حدّدها الإمام علي عليه السلام بوضوح، إذ أعتبر أن على المستشار إسداء المشورة للحاكم. و للحاكم أن يأخذ برأيه أو يخالفه، فإذا خالفه، كما إذا وافقه، فعلى المشير أن يطيع الحاكم.

ص: 322

فقد قال لإبن عباس: «لك أن تشير عليّ و أرى فإذا عصيتك فأطعني»(82).

و النص واضح الدلالة في أنّ على المستشار إعطاء الرأي فقط و عليه طاعة الحاكم إن أخذ برأيه أو خالفه.

الطبقات الوظيفية طبقة الجند طبقة القضاة طبقة العمّال طبقة الوزراء طبقة المستشارين 1- مواصفات قائد الجند.

2 - کیفیة اختیار قائد الجند.

3 - تعامل الحاکم مع القادة.

4 - ضرورة تقریب بین القائد وجنوده.

1 - اختیار القضاة وصفاتهم.

2 - حقوق القضاة علی الحاکم.

3 - استقلال القضاء.

4 - وجوب مراقبة القضاة.

1 - صفات طبقة العمال ومعاییر التعیین والإختبار.

2 - حقوق العمال علی الحاکم.

3 - مراقبة العمال.

1 - مواصفات الوزراء.

2 - آلیات و معاییر اختیار الوزراء.

3 - التخصص في توزیع المهام علی الوزراء.

4 - تعامل الحاکم مع الوزراء.

1 - صفات المستشارین.

2 - أهمیة هذه الطبقة.

ص: 323

الخاتمة

من خلال البحث و الدراسة في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، توصل البحث إلى جملة من الإستنتاجات، نعرضها على شكل نقاط كما يأتي:

اولاً: إن الإمام علي (عليه السلام) أقام نظاماً إدارياً محكياً، حدّد فيه الوظائف، و أوضح طرق تعيين الموظفين، و بيّن واجباتهم و حقوقهم، و وضع أسس الثواب و العقاب، و المسؤولية الإدارية بشكل عام.

ثانياً: إن النظام الإداري عند الإمام (عليه السلام) يمسي بكل سهولة ويسر نظاماً متجاوزاً للحقب التاريخية، صالحاً لكل زمان و مکان، على أن ينظر إلى المضامين لا إلى الأشكال التي يمكن أن تتغير مع تغير الأحوال من زمان إلى زمان.

ثالثاً: إن الأساس عند الإمام علي (عليه السلام) هو مبدأ فصل السلطات التنفيذية، التشريعية، القضائية) و هي من المبادئ العصرية المهمة في المجال القانوني، تنتزع سلطة التشريع من الحاكم، أي السلطة التنفيذية، خوفاً من أن يأتي بالقوانين التي تمنحهُ حرية التصرف، فتصبح صلاحياته مطلقة تحددها مصلحته و رغباته، و هذا الأمر ركّز عليه الإمام كثيراً.

رابعاً: يتضح من خلال هذا البحث، إن الدين الإسلامي ليس احکاماً خاصة بالعلاقات المباشرة بين الإنسان و الخالق متمثلة بالصلاة و الصيام فقط، كما يفهم العدد الأكبر من المفكريين العصريين في العالم، بل أنه نظام لكل نواحي الحياة الإنسانية، سواء في جانبها الفردي أو في جانبها الاجتماعي.

خامساً: الحديث عن إدارة الدولة من خلال كلمات الإمام علي (عليه السلام) في نهج

ص: 324

البلاغة، إنما يكون في الواقع وجهة نظر الإسلام، و ما دور نهج البلاغة إلا دور الناطق عما جاء به الإسلام.

سادساً: يتبيّن من خلال هذه الدراسة، إن الإسلام يقيم العلاقات بين الناس و ينظمها لصالح الجميع بلا إستثناء، إن أمكن و إلاّ قدم مصلحة الغالبية على الأقلية، و هذا واضح الدلالة من خلال النصوص التي عرضناها في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر.

سابعاً: إن أول من أشار إلى نظام الطبقات الاجتماعية هو الإمام علي (عليه السلام)، و الموضع الوحيد الذي ذكره هو عهد مالك الأشتر حين ولاهُ مصر. و ليس کما ذهب البعض بأن أول من أشار إلى الطبقات الاجتماعية هو ابن خلدون في مقدّمته. و أول من نظّر ها (أوغست کونت).

ثامناً: نجد في كلام الإمام (عليه السلام) تشریعاً عمالياً ناضجاً إلى أبعد الحدود، و مستوعباً تمام الإستیعاب، و هو على نضجه الكامل و إستيعابه التام، سبق التشريعات العمالية الحديثة بأكثر من ألف و أربعمائة عام.

تاسعاً: كما إننا لاحظنا أن الإمام (عليه السلام) يستعمل جملة من المصطلحات التي يستعملها اليوم النظام الإداري منها (نظام، وزیر، مستشار، طبقات العامة، الخاصة) و غيرها.

عاشراً: برهن الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر، أنه على وعي تام في توزيع المهام و الأعمال، بالمصطلح المعاصر، نظام التخصص الوظيفي.

أحد عشر: إن الإمام (عليه السلام) ركّز على مبدأ الثواب والعقاب) و ما يترتّب عليه من منافع للمجتمع، و أقام نظاماً رقابياً سرياً، من أجل أن يؤدي الموظفون

ص: 325

أعمالهم بصورة جيدة، مع الرفق بالرعية.

اثنا عشر: يتضح من خلال البحث دقة تحديد صلاحية الحاكم وفق نظام محدد، و هذا يكشف الوعي الكامل في التنظيم الإداري عند الإمام علي (عليه السلام).

ثلاثة عشر: تقسيم الطبقات الوظيفية، و بیان واجباتها تجاه الحاكم و حقوقها عليه، و بیان كيفية تعامل الحاكم معها، كلّ هذا يبين التنظيم الدقيق و الإدارة الجيدة.

أربعة عشر: إن هذه الأنظمة التي يطرحها الإمام (عليه السلام) قابلة للإستمرار و البقاء، لأنها مستمدة من دين الحياة، و خاتم الأديان جميعاً. (الإسلام العظيم) خمسة عشر: إن الأنظمة التي أكتشفها العصر الحديث، بعد قرون من الزمن، و مسيرة من التضحيات البشرية، تبيّنَ لنا من خلال هذه الدراسة أن أكملها موجود في نهج البلاغة منها على سبيل المثال نظام الضمان الاجتماعية، وهو أخر ما توصلت إليه حضارة القرن العشرين، و تعتبر من مفاخر الإنسانية الحديثة. ولكن هذه الفكرة قد أدركها الإمام علي (عليه السلام) قبل قرون من الزمن، مع فارق هام بين الضمان الاجتماعي في العصر الحديث و بين ما قرره علي (عليه السلام)، إذ أن ضمان معيشة الفرد بمفهوم المجتمعات الحديثة إنما هو من باب (الشفقة و الإحسان)، بينما يعتبرهُ علي (عليه السلام) حقاً ثابتاً له، و يعطى من دون أي تمنُّنٍ أو افتخارٍ.

وفي الختام نُعرب عن اللذة التي حصل عليها الباحثيَن من خلال دراسة هذا الموضوع و في هذا النهج العظيم الذي قيل عنه (کلام فوق المخلوق و دون الخالق). آملين أن يكون هذا البحث خطوة في تقدّم المسيرة العلمية، و إثراء المكتبة العربية.

ص: 326

الهوامش

1 - الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 83.

2 - لويس عجيل ومجموعة من المؤلفين، المنجد في الأعلام، ص 50.

3 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج 4، دار العلم للملايين، ص 47.

4 - السيد عباس علي الموسوي، شرح نهج البلاغة، ج 5، دار الرسول الأكرم، ص 32.

5- الشيخ محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 86.

6 - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء السابع عشر، ص 36.

7 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج 4، ص 54.

8 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 84.

9 - د. السيد مصطفی محقق، حقوق الإنسان وإشكاليات النظرية والتطبيق عند الإمام علي (عليه السلام)، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ص 141.

10 - علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، منشورات الدار العالمية، ص 47.

11 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 89.

12 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 90.

13 - السيد عباس على الموسوي، شرح نهج البلاغة، الجزء الخامس، ص 49. 14 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 90.

15 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 67.

16 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 90.

17 - م.ن.، ص 90.

18 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 91.

ص: 327

19 - نهج البلاغة، ج 2، ص 91.

20 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 71.

21 - توفيق الفكیكي، الرّاعي والرّعية، مؤسسة الوفاء، ص 90.

22 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 91.

23 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 71 - 72.

24- محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 38 - 39.

25 - يتفاقم: يعظم، و تفاقم الأمر: صار عظيماً.

26 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 91 - 92.

27 - علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، منشورات الدار العالمية، ص 75 76.

28 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 92.

29 - علي سُليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 77.

30 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 92.

31 - محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 45.

32 - على سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 81.

33 - تحمکه الخصوم: أي تجعله عسر الخلق.

34 - يحصر: أي يضيق صدره.

35 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 94.

36 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 70.

37 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ص 76 - 77.

ص: 328

38 - علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 85 - 86.

39 - محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 46.

40 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 95.

41 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 95.

42 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 89 - 90.

43 - سمير عالية، نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ص 71.

44 - د. سمير عالية، م. ن، ص 72.

45 - د. عصام سليمان، الأنظمة البرلمانية بين النظرية والتطبيق، ص 25.

46 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، 94.

47 - محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 51.

48 - توخ: أي اطلب و تحرَّ.

49 - اشراقاً: تطلعاً.

50 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 95.

51 - علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 90.

52 - السيد عباس علي الموسوي، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 57 - 58.

53 - اسبغ عليهم الأرزاق: أي أوسع لهم فيها و أكملها.

54 - ثلموا: أي خانوا و نقصوا في أداء الأمانة.

55 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 95.

56 - علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 92.

ص: 329

57 - حدوة: أي حثّ و دفع لهم.

58 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 96.

59 - السيد عباس علي الموسوي، شرح نهج البلاغة، الجزء الخامس، ص 59.

60 - علي سليان محفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 92.

61 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 96.

62 - أصارهم: أي الآثام.

63 - إلفاً: أي محبة.

64 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 87 - 88.

65 - علي سليان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، ص 97.

66 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 59 - 60.

67 - الاستنامة: الثقة و الركون.

68 - يتعرفون: يتوسلون.

69 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 98.

70 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 99.

71 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 92.

72 - رضهم: أي عوّدهم.

73 - يطروك: أي يزيدوا في مدحك.

74 - يبجحوك: يفرحوك.

75 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 88.

76 - د. محمد طي، الامام على و مشكلة نظام الحكم، ص 178.

ص: 330

77 - الفضل: هنا الإحسان بالبذل.

78 - يعدك: يخوفك من الفقر.

79 - غرائز شتی: طبائع متفرقة تجتمع في سوء الظن بكرم الله و فضله.

80 - نهج البلاغة، الجزء الثالث، ص 87.

81 - محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، الجزء الرابع، ص 59.

82 - شرح بن أبي الحديد، ج 19، ص 291.

ص: 331

فهرس المصادر والمراجع

القرآن الكريم - أحمد الزيدي، القائد العلم مالك الأشتر النخعي، دار الهادي، ط.1، 1998.

- توفيق الفكيكي، الرّاعي والرّعية، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط.3، 1983.

- د. سمير عالية، نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط.1، 1997.

- عباس علي الموسوي، شرح نهج البلاغة، ج 5، دار الرسول الأكرم، ط.1، 1998 م.

- د. عصام سليمان، الأنظمة البرلمانية بين النظرية والتطبيق، الحلبي، بيروت، ط. 1، 2009.

- علي سليمان يحفوفي، الطبقات الاجتماعية، منشورات الدار العالمية، بيروت، ط.1، 1981.

- لويس عجيل ومجموعة من المؤلفين، المنجد في الأعلام، دار المشرق، بيروت، ط 24، لا.ت.

- محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 2، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط.1، 1976.

- محمد عبده، شرح نهج البلاغة، ج 3، دار الهدى الوطنية، بيروت، لا. ت.

- د. محمد طي، الإمام ومشكلة نظام الحكم، الغدير للطباعة، بيروت، ط.1، 1997 م.

ص: 332

- د. مصطفى محقق، حقوق الإنسان وإشكاليات النظرية والتطبيق عند الامام علي (عليه السلام)، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، ط. 2008،1.

- محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، المطبعة العلمية في النجف الأشراف، 1965.

- محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، ج 4، دار العلم للملايين، بيروت، لا.ت - نوري حاتم، النظام السياسي في عهد الإمام علي لمالك الأشتر، مؤسسة المرتضى العالمية، بيروت، ط.1،1994

ص: 333

ص: 334

إدارة الدولة دراسة مقارنة بين النظام الاداري الاسلامي والنظم الادارية المعاصرة (حكومة الإمام علي عليه السلام إنموذجا) م. م. محسن وهيب عبد

اشارة

ص: 335

ص: 336

الفصل الاول: التمهید

بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله وصلى الله على خير خلق الله محمد واله ومن ولاهم لا سيما بقية الله واللعن الدائم على الظالمين اعداء الله.

هناك مواضيع فيها تخليط كبير لها مساس في محور بحثنا لابد من التفاهم فيها قبل ولوج موضوع محورنا البحثي هذا وهي:

1 - الاسلام مفهوم يعرف من خلال مصاديقه:

حين اخترت هذا المحور من محاور المؤتمر للكتابة فيه اعتبرت انه يعني: (ادارة الدولة في النظام الاسلامي من خلال طاعة المعصوم) فلا اسلام بطاعة الخطاء الظالم، فلفظ الاسلام اليوم لا يدل في الواقع على معناه الحق بما اراد الله ان يكون، وكل ما موجود من الاسلام من عناوين: التاريخ والدين والعقائد والتراث بل وتصرفات لما يزعمون انهم قادة الاسلام، انما تحكي الانحراف والكذب والتأطير المحرم بما اخرج الاسلام عن كونه الفطرة.

قال الله تعالى: «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهَم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(*) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(1).

ص: 337

ولنسم الاسماء بمسمياتها ذلك ليكون بحثنا مدار دراسة معيارية مقارنة مع بقية نماذج ادارات الدول في العالم بما فيها الادارات التي تدعي الاسلام قديما وحاضرا.

فإدارة الدول؛ هي فن السياسة في تاريخ البشر، وهي في الواقع ما تحكيه اخلاق الحاكمين وسيرتهم ولا شيء غير هذا، ولا وجود في التاريخ البشري لنظام اداري حاكم قائم وفق عقيدة وضعية او سماوية اوفلسفة ثابتة على الاطلاق.

ولذا فان الله تعالى عندما الزم البشر بطاعة المعصوم انما اسس لنظام الملة، حيث تتطابق توجهات قوة السلطة التي تمنح بديهيا للحاكم مع العدل؛ فادارة الدولة في نظام الملة؛ انما هو استحقاق الاعتقاد الصادق بالحق، بل الاعتقاد عند المعصوم هو العمل بالعدل، وكلاهما يتطابقان مع الحق.

فما لم يلتفت اليه الكثير من الاكاديميين حتى من اصحاب الاختصاص في السياسة ومن اعلى مستوياتها هو؛ ان ادارة الدول تنحصر بسلوك واخلاق الحاكمين وسيرتهم، فتفصح عن معادنهم وعقدهم النفسية ولا شيء غير هذا.

فلا وجود في التاريخ البشري لنظام اداري حاكم كان يستند لعقيدة سياسية حاكمة وينبثق عنها او يستنبط ادارته من نظرية سياسية وضعية او سماوية غير المعصوم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ غرباتشوف(2) زعيم الاتحاد السوفيتي انطلق من الشيوعية لتحطيمها، ورودلف هتلر انطلق من الجمهورية الفاضلة لهتكها(3)... وصدام انطلق من (امة واحدة ذات رسالة خالدة) فجعلها جذاذا...الخ الم تكن السياسة وحيث ما حلت السياسة حكاية لمصائب كل العالم وويلاته وحروبه في التأريخ وكلها انطلقت من عقائد تز تزعم العدل والرحمة وغايات سامية؟؟؟!!!

ص: 338

واليوم عندنا في العراق بلغ الفساد اعلى مستوياته في التاريخ انطلاقا من سياسيين يؤمنون بعقائد توكد الورع والتقى والزهد والانتساب الى امير المؤمنين عليه السلام وحسب ما اوصى به ال محمد صلوات الله عليه!!! اذن: ادارات الدول تتعين من خلال مديريها ولا تتعين بنظمها وعقائدها المعلنة لانها تنجز وتتشخص بمؤهلات وشخصية القائم عليها، لسبب بديهي هو؛ لان من حتم الادارة تمتع المدير بالمال و بالقوة والسلطة والحاكمية (وهذه متوافرات الترف) كضرورة لنفاذ النظام، فاذا امتلك غير المعصوم السلطة والقوة والحاكمية فلا ضمان ضد الانحراف لانه سيكون مترفا، قال الله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى(*) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى»(4).

وقد وجدنا في الاسلام ان مجرد استلام الحاكمية من قبل غير المعصوم لم يتورع عن التأطير المحرم، ليسد ثلمة صنعها في كمال التشريع.

فانقلاب السقيفة بذاته هو تأطير للاسلام الحق في مصدريه الكتاب والسنة، فقد طُعن الرسول صلى الله عليه واله باطار: (مات ولم يوص). والطعن بيّن واضح من معنی؛ ترك النبي امته للعبث تواجه مصيرها، ومن ثم تعمد الانقلابيون المؤطرون نكث ميثاقهم في البيعة لعلي عليه السلام يوم غدير خم، فكان في ذلك هدم جوهر الدين القائم على الاختيار والاصطفاء، باطار الفلتة العبثية(5).

فالوصية المؤكدة لعلي عليه السلام واليا واماما بعد الرسول في حجة الوداع وفي غدير خم، الغيت بالحاكمية والقوة والسلطة اللازمة لادارة الدولة، والوصية بالعترة مع الكتاب عاصمين من الضلال صارت في اطار الجرح والتعديل والتشكيك. بالرغم من تحذير الرسول صلى الله عليه واله من التأطير(6).

ص: 339

ولذا فان الله تعالى عندما الزم البشر بطاعة المعصوم بما اسمته سيدتنا الزهراء عليها السلام(نظام الملة)؛ انما اسس لادارة الدول بما يتطابق خيارت الحاكم في القول والفعل والقوة والسلطة مع العدل ويتطابق العمل مع الاعتقاد بل الاعتقاد عند المعصوم هو العمل وكلاهما يتطابقان مع العدل والحق.

نعم في نظام الملة تبقى نظم ادارة الدول هي سيرة المدير ايضا، لكنها هنا سيرة يحتج بها ويلزم بها الرعية لانها لا تخرج عن الحق ولا تجانب العدل، وتسهم في سلوك ادارة الدولة الجمعي.

فعندما تمنح السلطة والقوة للحاكم حتما لضروات تنفيذ النظام، فلا ضمان في غير المعص-وم من الظلم والقبح.

ويكفي دليلا على صحة ما ندعي ان السياسة كما عرفناها واقعا من تاريخ البشر والى الان؛ هي الاداء السلطوي في ادارة الدولة وشؤون الناس، وفي الاعم الاغلب حيازة للحاكمين لموفرات الترف: الجاه والمال والسلطان والوقت على حساب الكادحين المحرومين والفقراء من ابناء جلدتهم، وان القرف وسوء الظ-ن والتندر عند الناس في تلازم مع السياسة والسياسيين في كل دول العالم وعلى مر العصور والاسوء ما في السياسة انها شر لابد منه، وهكذا قال الامام علي (عليه السلام): (أسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتن تدوم)(7) وهو تشبيه ملفت جدا لضرورة الحاكم مهما كان، لبقاء وقيام المجتمعات الانسانية واستمرارها، ونحن نجد بالمقارنة مع السائد من نظم السياسة على تعددها وما برز عنها من الادارات الحكمية في المجتمعات الانسانية على مر التاريخ صنفان:

اولا - ادارة الدولة في ضوء ان الحكم والسلطة الله وملاك النظام في هذا العدل

ص: 340

الكوني البديهي. والنظام الوحيد في العالم من هذا النموذج هو حكم الانبياء والمعصومين. وسيكون موضوع بحثنا هذا انشاء الله تعالى، عبارة عن رؤية لنظام حكم وإدارة دولة وفقا لوصايا وعهود الامام علي عليه السلام والمعصومين عليهم السلام) کنموذج معياري للمقارنة مع واقع الأدرات الاخرى المعروفة.

ثانيا - ادارة الدولة في ضوء اصل الحكم والسلطة للبشر وملاك النظام هو عقد نفسية الحاكم(8) وفهمه لعقيدته الشخصية في تحصيل العدل او الامن والاستقرار الاجتماعي.

وكل ادارات الدول في العالم من غير النموذج الاول هي من هذا النوع ولذا فهي الغالبة والمعرّفة لمفاهيم السياسة والتي تضع الخطوط الحمراء واللخضراء في سياسات الدول، ولهذا السبب نجد أن معظم اصحاب الذوق الرفيع والإنسانية فضلا عن الورعين في عقائد السماء يترفعون عن السياسة والسياسيين، باعتبارهما عنوان الترف والمترفين، وسبب الحروب والضلال في هذا العالم. ومن يلج السياسة من أصحاب الدين يجد نفسه في اطاراتها كبيدق لايتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له شاء ام ابی.

2 - العقيدة الكاملة للاسلام تتجسد في نظام الملة:

(العقيدة): هي الحكم الذي لا يُقبل الشك فيه لدى معتقده(9).

بمعنى أن كل علم انعقد عليه قلب الانسان او انطوت عليه نفسه فهو عقيدة.

لكن كما هو واضح من واقع الانسان والعقيدة أن العلم او الحكم العقلي لا يصبح عقيدة إلا إذا كان جوابا لسؤال مهم في وجود الانسان و حياته وعقله، او انه استجابة الحاجة من حاجات الانسانية.

ص: 341

والعقيدة؛ مصطلح حديث جاء من لفظ لا وجود له لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله(10).

ولكن بما أن العقيدة في معناها تشمل الدين، صارت تطلق على الدين وذلك واضح من قول امير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد رضوان الله عليه.

(یا کمیل بن زیاد، معرفة العلم دین یدان به)(11).

او كما قال عليه السلام: (یا کمیل محبة العالم دین یدان به)(13).

اذن نستطيع أن نقول أن العقيدة الكاملة: هي العلم الذي يجيب على كل تساؤلات الانسان عن كونه ومآله والمعرفة المقنعة التي تستجيب لكل حاجاته.

والاسلام عقيدة كاملة لانها قررت ان؛ کتاب الله تبيانا لكل شيء(13). وان في تشريعات الاسلام - بقراءته الصحيحة - استجابة لكل حاجات الانسان من قبل أن يولد الى ما بعد ان يموت کا يعرف المؤمنون به.

فالعقيدة الاسلامية الحق باتفاق كل المؤمنين بها؛ ادارة كاملة متكاملة لكل ما يتعلق بالانسان.

فما معنى الكمال في الاسلام؟ وما مصدر ذلك الكمال في الاسلام؟ وما هي الادلة العلمية لذلك الكمال؟ وهل في الواقع ثم وجود لنظام اداري اسلامي لدولته؟ وهل من الكال أن يترك امر الامانة على الرسالة وخلافة الرسول للعبث والصدفة؟

ص: 342

الإجابة:

اذا كانت العقيدة؛ هي معرفة تنعقد عليها نفس المعتقد فيها اجابات لتساؤلاته ومنها استجابات لحاجاته؛ لذا فالكمال يعني اجابة العقيدة على كل التساؤلات واستجابتها لكل الحاجات الانسانية.

وبما أن القرآن الكريم هو المرجع الاَوّل للمسلمين في الشريعة والعقيدة، وقد عرّف نفسه بأنّ فيه تبياناً لكلّ شيء، قال: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ»(14) (15). لذا فان اي عقيدة تخالف القران ليس من الكمال بل ليس من الدين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه واله انه قال: (إذا أتاكم عني حديث فأعرضوه على کتاب الله وحجة عقولكم فإن وافقهما فأقبلوه وإلا فاضربوا به عرض الجدار)(16)، ونقل الحديث الشيخ أبو الفتوح في تفسيره)(17).

وكمال الاسلام من المسلمات عند المسلمين، فقد قال الله تعالى في صریح آیاته: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(18).

وقال رسول الله صلى الله عليه واله في وصف دقة معاني الكمال: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت مثلها من السنة)(19) فانما الكمال ينتقص بالوضع والتأطير، لأنه يرفع السنة بالبدعة فيا ليس من الكمال بدعة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله (إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار)(20).

ص: 343

ثم ان الاسلام دين الفطرة فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(21). فهناك تطابق تام بين الدين في اصوله العقائدية وبين الفطرة.

اذن؛ من کمال العقيدة أن تختار قادتها وليس أن يُختارون لها.

من كمال العقيدة؛ نجد الضمان الالهي الرسالي العاصم من الضلال(23):

ان الضمان الوحيد لتفادي السياسة ومساوئها جاء فقط و فقط في القراءة الصحية للاسلام، حیث یکون مدير ادارة الدولة والامين على رسالتها هو المعصوم وبطاعته يتحقق نظام ملتها.

الا ان المجتمعات الانسانية برمتها لم ترتقَ إلى فهم هذا الضمان فلا تعتقد به بالرغم مما تعانيه من عسف من واقع السياسة على طول تاريخ البشرية وبكل مزاعمها والوانها.

ولان نظام طاعة المعصوم (نظام الملة) غير معرّف اجتماعيا حتى من الذين يؤمنون به (حيث قام في فترة محدودة في دولة النبي صلى الله عليه واله وفي خلافة الامام علي عليه السلام). لذا فان المعرّف من السياسة اليوم (فن معرفة ادارة الدول)؛ نجده في احسن احواله هو:

معرفة ادارة السلطة بما يكفل احکام القبضة على مقاليد الحكم وإدارة الدولة وسياسة الناس بأقل الكلف وأيسر الجهود واقل المشاكل. أي ادارة السلطة بتوفير الامن الوقت والجهد والمال.

ص: 344

وهذا ما أفلحت فيه الى حد ما ادارات الدول الغربية اخيرا، ولكنها بقيت بعيدة جدا عن تحقيق العدل، ومعظم مفكريهم يتوقعون ثورة لمجتمعاتهم لما تعانيه من ظلم وعسف تطيح برؤوس السلطات السياسية عندهم(23) ولذا فان سكوتهم الى الان ياتي بسبب عدم توفر البديل. ((ويتنبأ البعض بثورة واسعة النطاق ضد هذا الوضع))(24).

3 - اطروحة تطابق السلطة في ادارة الدول مع العدل:

منذ فجر تاريخ البشرية والناس يفكرون بكل شيء، ولكن هناك ما يمنعهم ان يفكروا في احوال تطابق السلطة مع ألعدل: متى؟ وأين؟ وكيف؟ حتى في دراساتهم العليا التي لم تترك مساحة من الفكر الا ودخلتها!!! فهذه الأطروحة الانسانية مهملة مع انها الاهم في تاريخ البشر، باعتبارها الحالة الأشد مساسا في حياة الناس دمائهم وأوطانهم واعراضهم وأرزاقهم. او كما وصف الامام علي عليه السلام السياسة فقال:

((وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتُركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش لعظیم حقّ عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعِل!))(25).

ص: 345

(فهنالك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار، وتعظم تبعات اللهَّ سبحانه عند العباد، فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد - وإن اشتدّ على رضى اللهَّ حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللهَّ سبحانه أهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق اللهَّ على عباده: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحقّ بينهم، وليس امرؤٌ - وإن عظمت في الحقّ منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - بفوقِ أن يعان على ما حمّله اللهَّ من حقّه. ولا امرؤ - وإن صغّرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه)(26).

اذن الاطروحة الأهم في تاريخ البشر وحاضرهم ومستقبلهم مهملة!!!

الظواهر والسنن الكونية الدافعة لقيام ادارات الدول:

على اساس من اصل الحاكمية كان في تاريخ البشرية ظاهرتان مؤسستين للنظم الادارية للحكم؛ الأولى ظاهرة سماوية الهية، والأخرى ارضية وضعية.

1 - ظاهرة ارسال الرسل عليهم السلام من اقوى الظواهر في تاريخ البشر فلا يسع المنكر ان ينكرها ولو كان ملحد لانها واقع، وهي تأتي دوما بحاكميه الهية مفوضة إلى رسول او وصي مختار ومكلف من قبل الله تعالى ينشد محاربة الظلم ومنابذة الظالمين في المجتمعات ويؤسس لادارة حاكمة تشيع القيم الانسانية وفضائل الرقي البشري وفق نموذج انساني ميداني معصوم على رأس تلك الادارة، وعلى هذا تقوم ادارة المجتمع وللدولة، وتلك الادارة مسجلة معروفة ولكنها غير موجودة.

2 - ظاهرة قيام الادارات الحاكمة بسلطة وحاكمية الملك او السلطان او الامبراطور او رئيس الجمهورية او نوع من انواع المترفين وفق عقد اجتماعي مفّعل او صوري

ص: 346

يعتبر جوهر النظام الاداري الحاكم او ربما بدون ذلك العقد، ولكن هذا النوع من النظم الحاكمة بدون عقد اجتماعي في طريقها إلى الانقراض او لم تعد موجودة اليوم الا في اداراة الجزيرة العربية المتخلفة.

فإذن؛ هناك نظامان اداریان لقيام الدول في تاريخ البشر: الاول المنبثق عن ظاهرة الرسل عليهم السلام ولا وجود له الا بما يمثله نظام الملة وسنفصل فيه في لاحق البحث.

والثاني بأشكاله المتعددة هو السائد الآن، والقائم بظاهرة الترف وقيادة المترفين، ويظن الناس وكثير من الأكاديميين انه منبثق من فلسفات الحكم والسياسة في العالم، ولكن اداء السياسيين يطغى على تلك الفلسفات مهما كانت الرقابة دقيقة وقوية.

اننا نعلم بالمتابعة التاريخية والتدقيق الميداني؛ ان ادارة الدولة والنظم الادارية الحاكمة في العالم وعلى طول التاريخ - کما مرّ معنا -؛ هي سلوك عملي للحاکم المترف في سياسة وإدارة شؤون الدولة و الناس وكيفية ممارسة السلطة عليهم من خلال مؤسسات الدولة؟ ولذا فان هناك فرق شاسع بين السياسة في ميدانها باعتبارها ادارة لحكم الدولة وشؤون الناس من جهة، وعلم وفلسفة السياسة ونظرياتها ونظمها المسجلة في ادارة الحكم من جهة أخرى، وهذا مما يقع التخليط فيه كثيرا ان السياسة في واقعها هي حيز كبير جدا من التغيرات في ادارة الحكم من خلال تلاعب السياسيين بالمسلّمات الدينية بالنسبة للنوع الأول من الادارات الدينية من خلال التأطير والتجاهل والتجهيل.

او هي التلاعب بالدساتير الوضعية للنظام الإداري بالتذييل والحذف او التجاهل علنا للمسلّمات التي تقوم عليها تلك النظم بما يخدم الحاكم.

ص: 347

ولذا فان الاسلام (الحق) في ادارته للحكم يشترط العصمة في الحاكم لتحقيق هدفه في العدل، ففي غير المعصوم يستحيل أن يبلغ النظام الاداري للحكم غايته في العدل.

فالإمام او راس الدولة المسؤول عن تنفيذ ادارة الدولة لبلوغ العدل الالهي هو منصوص مصطفی مختار مسدد و مکلف، وهو اما ان يباشر الوحي ومسدد به کالنبي او هو مطهر تطهيرا تكوینیا بإرادة الله تعالى ولاجل إرادته من الرجس فلا يأتي منه الظلم، او هو من يندبه المعصوم وكيلا عنه وفق النظام الذي اسس له المعصوم وبالأصول المنطقية والمرتكزات العقلية وتحت رقابة المعصوم وعهده وفق (نظام الملة) التي عرفته لنا سيدتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها.

مفارقات بين النظم الادارية للدول تبرز في سياساتها

ما عرفناه على طول التاريخ الإنساني، وما نراه اليوم من افعال السياسيين هو مصداق لحقيقة عدم تطابق خيارات السياسي مع خيارات عقيدته التي أعتنقها وصار الى المنصب بموجبها، بل ليس هناك تطابقا في نمط الاداء حتى لمعتنقي العقيدة السياسية الواحدة، بل الواقع لا يوجد في التاريخ نمط ثابت لسياسة سياسي واحد في وظيفته، ما عدا المعصوم والذي كان الامام علي عليه السلام نموذجا اوحداله بعد الرسول صلى الله عليه واله.

ان نفور الناس عموما والمتميزين بقدر من العلم والانسانية خصوصا من السياسة والسياسيين والتندر عليهم في كل زمان ومكان، سببه هذا التناشز في الاداء الاداري المجاني حتى لنظام وفلسفة الحكم التي تشكل جزء من عقيدة السياسي الحاكم الذي يتلازم كثيرا مع التفريط في أعراض الناس ودمائهم وأوطانهم.

ص: 348

اما ادارة الدولة عند المعصوم؛ فهو أداء ينجز بالحق ويهدف إلى العدل ويبدأ من الرحمة ويهدف للكمال، ولذا فقوله وفعله حجة يحتج بها على سائر الناس.

ومثل ما لدينا كم لا يحصى من انماط الأداء السياسي مستقرأً لبني البشر على مر التاريخ، فلا يوجد لدينا الانمط تاريخي واحد للأداء الاداري للمععصوم هو اداء الامام علي عليه السلام في خلافته الراشدة الحكيمة.

والسبب - کما اسلفنا هو ان السياسة تتحتم من خلال امرين هما:

الامر الاول: حتم تمتع مدير الدولة السياسي بالسلطة لكي يتمكن من ادارة الدولة وشؤون الناس وهذا الحتم له اصلان:

الاصل الاول في السلطة ولاية الله تعالى وحاکمیته المطلقة مفوضة إلى المختار من خلقه.

الاصل الثاني - ولاية الانسان وسلطته على ذاته ومنها فرض حاکمیته على غيره.

الامر الثاني: الملاك المعتمد في السلطة وتنفيذ تلك الحاكمية والغاية منها وهو العدل.

والمقصود بالملاك؛ هو الاساس الكوني والتكويني الذي يستند اليه الحاكم في سلطته ويسعى إلى تحقيقه في المجتمع؛ وهو العدل، والمقصود بالعدل معرفة الحق واجراء الامور وفقه، والعدل سنة كونية بدهية ولبداهتها يصعب توضيحها، فالعدل يعرّف بعدم الظلم، والظلم معرف بنشوزه عن المعروف و بالصفة الجامعة للقبائح، فهو نشاز بمخالفته العدل السنة البديهية الكونية فكل منکر نشاز ومقرف ومرفوض ليس من العدل. والحق؛ هو الصدق الثابت في واقع الكون والكائنات وتقوم به وعليه، وهو ما يُبرز في انجازات من يتولى السلطة.

ص: 349

والغالب في ملاك السياسة وفي الادارة الحكمية لجميع الحاكمين في العالم؛ هو العدل وتحقيق العدالة، فليس هناك سياسي واحد يحترم نفسه في تاريخ العالم يعلن ان غايته من ادارة الدولة وسياسة الناس العسف والظلم الاماندر کما هي الحال عند ملوك بني امية(27).

وعلى العموم فان الغاية المعلنة في الاصلين هي تحقيق العدل. لكنه عند المعصوم ملاك للفعل وعند غيره مبرر للفعل.

وبالرغم من محدودية الاصلين ووحدة الملاك تعددت النظريات السياسية ومناهج ادارات الدول..لماذا؟ لاننا عرفّنا ادارة الدولة بانها السياسة، وعرفنا السياسة هي سيرة الحاكم، والسيرة في كل الاحوال هي حكم عقلي عملي لا يصيب العدل الا اذا كان حقا فاذا وقعت كل سلوكات الساسة على الحق تقاربت، لان الحق واحد لا يتعدد، واما اذا ابتعدت عن الحق؛ تفرقت وتباينت تلك السلوكات وهكذا هي النظريات السياسية ومنهاج الادارات الحكمية للدول والناس متكثرة.

4 - نظام الملة لادارة الدولة في الاسلام:

من معاني الكال في العقيدة الاسلامية الحق، أن الأمناء عليها وعلى صيانة كمالها مختارون مصطفون من قبل الله تعالى مطهرون بارادته جل وعلا ولارادته حجة على الناس، ولا يتحقق الكمال في النظام الاداري للحكم في الاسلام الا بوجود هؤلاء المعصومين على راس السلطة في الامة بما سمته سيدتنا الزهراء بنظام الملة، وهو يعني طاعة المعصومين. فما نظام الملة؟ وما اهميته في موضوع النضج السياسي للامة؟

ص: 350

قالت سیدتنا الزهراء عليها السلام في خطبتها المشهورة في المسجد النبوي بُعيد وفاة ابيها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، لتبين لنا ماهيات الروابط الدينية وامهات المعاني الجامعة في الاسلام العظيم، ومنها نظام الملة(28):

(... فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملة. وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزَّاً للإسلام، والصبر معونة على إستيجاب الأجر، والأمر...)).

وقول المعصومة فاطمة عليها السلام حجة على الجميع(29)، فانما الامام علي عليه السلام موصى من قبل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بان ينفذ ما املی رسول الله صلى الله عليه واله على فاطمة، ولذا نراها صلوات الله عليها تؤكد تلك الحجة فتقول لمن يعي القول:

(أيّها الناس،، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد صلّى الله عليه وآله أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاء کم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي من دون نسائکم، وأخا ابن عمي دون رجالکم، ولنعم المعزّى إليه صلّى الله عليه وآله، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة. مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة يجفّ الأصنام وینکث الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشیظ النفاق، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص، في نفر من البيض الخماص. وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب.... الخطبة).

ص: 351

5 - دعامتا النظم الادارية للحكم في الدول:

1 - دعامة قوة السلطة لتحقيق حاکمية النظام الإداري في الدولة ولإمكان سياسة الناس وادارة شؤونهم.

2 - سلطة وقوة فرض العدل كوسيلة لبلوغه كغاية لادارة الحكم في الناس سواء حق ام مدعی.

فالاديان كلها عقائد تفترض أن السلطة والحاكمية لله فقط جعلها للانسان كخليفة في الأرض واختار واصطفى من ابناء الانسان الصالحين فانتدب منهم ائمة طهرهم بارادته وعصمهم لحجته ومنع غيرهم منعا باتا من تولي الامامة في الناس قال تعالى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» وكان ذلك منه جل وعلا ضمانا لشيوع العدل وسيلة وغاية في نظام ملته.

لذا يتقرر ان النظام الاداري الوحيد في معاني الكمال ومن اصل الكمال هو نظام يستند الى حاكمية الله تعالى ويعتمد سلطة المعصوم المختار من قبل الله تعالى ليتحقق به العدل وسيلة وغاية اذا لاشطط، و كل العقائد التي تستند الى سلطة وحاكمية غير حاکمية الله تعالى والامين فيها على النظام غير معصوم ولا يطيع المعصوم فلا ضمان منه ان يكون ظالما.

يشير الإمام زين العابدین (عليه السلام) في جواب له، عندما قيل له:

(یا بن رسول الله فما معنى المعصوم؟.

فقال (عليه السلام): (هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن، والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله عز وجل: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(30).

ص: 352

6 - الرقابة والمحاسبة روح ادارة الدولة الاسلامية:

الدنيا دار بلاء وممر الى مستقر والعقاب والثواب مبدأ يستدعي عدم الغفلة وهو اساس لضمان الفوز بالرضا والقبول من الله تعالى وعدم الاخذ بهذا المبدأ والتحسب يعني الخسران في كل مشاريع الانسان وآماله في الدنيا والاخرة ومن اهمها ادارات الدول.

ان المحاسبة والمراقبة جوهر نظام الملة؛ فطاعة المعصوم في اوامره ونواهيه، تصدق في التأسي بسيرته وهي محض المراقبة للذات ولمن يؤمنه على الناس من عماله:

فقد جاء في ظلال نهج البلاغة: (كان الإمام يضع العيون على عماله يراقبون تصرفاتهم، و يتتبع بنفسه اخبارهم)(31)، و في الخطبة (44) اشارة الى احد عمال الامام وهو مصقلة بن هبيرة وقد هرب الى معاوية لأن الإمام طالبه بحق المسلمين، و كان عاملا له على بلدة من بلاد العجم تسمی اردشیر خرة، و كان قد بلغ الإمام ان مصقلة قبل هروبه الى معاوية كان يحرم المسلمين من أموالهم، ويؤثر بها أرحامه، و أبناء قبيلته، فكتب اليه بذلك، وقال له من جملة ما قال عليه السلام: ان هذه الأموال حق للمسلمين اكتسبوها بالجد و الجهاد، و أنت أجير لهم، و قائم على ما فيه حياتهم، و عليك ان لا تستهين بشيء منه... الكتاب(32).

عنه (عليه السلام) - في عهده إلى مالك الأشتر (اعلمْ أنّ الرعيّة طبقات... ثمّ الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رِفدهم ومعونتهم. وفي اللهَّ لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حقّ بقدر ما يُصلحه(33).

وكان علي السلام مبصر العماله فيما يعهد اليهم؛ فعنه (عليه السلام) - من كتابه إلى بعض عمّاله، وقد بعثه على الصدقة : (إنّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً،

ص: 353

وحقّاً معلوماً، وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة، وإنّا موفّوك حقّك، فوفِّقهم حقوقهم، وإلّا تفعل فإنّك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبُؤسی لمِن خصمُه عند اللهَّ الفقراء والمساكين، والسائلون، والمدفوعون، والغارمون، وابن السبیل!(34) ولاهمية الرقابة على العمال والمكلفين من موظفي الدولة يفرض على العمال ايضا ضمان من يكلفهم بالعمل في ادارة الدولة أن يضعوا عليهم عيونا لكي لا ينحرفوا عن خط نظام الملة فنرى في كتاب من الإمام عليّ (عليه السلام) إلى عمّاله: (بسم اللهَّ الرحمن الرحیم. من عبد اللهَّ عليّ أمير المؤمنين إلى من قرأكتابي هذا من العمّال: أمّا بعد فانّ رجالاً لنا عندهم بيعةٌ خرجوا هرّاباً فنظنّهم وجّهوا نحو بلاد البصرة، فاسأل عنهم أهل بلادك، واجعل عليهم العيون في كلّ ناحيةٍ من أرضك، ثمّ اكتب اليّ بما ينتهي اليك عنهم، والسلام)(35).

فالامام عليه السلام لا يعالج الأمور بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الامة من اللصوص والمستغلين، بالرقابة والمحاسبة، ووضع العيون على موظفي الدولة، وبصرفه في موارده المرضية عند الله.

(فكان عينا لا تنام عن مراقبة ولاته على الامصار: وعن التعرف على أموال الامة وطرق جبايتها وطرق توزيعها. وكم من وال عزل وحوسب حسابا عسيرا لانه خان أو ظلم أو استغل. وكم من كتاب كتبه عليه السلام إلى ولاته يأمرهم أن يلزموا جادة العدل فيمن ولوا عليهم من الناس)(36).

يقرر الامام آن على الحاكم ألا يغفل عن تعقب الحاشية والعال ومن يكلفهم بشؤون ادارة الدولة ومراقبتها، فيلزمه بانتخاب رقباء من أهل الدين والمعرفة والامانة يبثهم في أطراف البلاد، ويجعلهم عيونا له على عماله، يراقبونهم في أعمالهم،

ص: 354

المحور الاداري والاقتصادي الجزء الرابع ويرصدون مبلغ ما يتمتع به هؤلاء الولاة من خبرة في الادارة، وقدرة على التنظيم، ومعرفة بوجوه الاصلاح، ثم يرفعون ذلك كله إليه باعتباره راس الدولة ومديرها؛ فينكل بالمنحرف الذي خان أمانته، ويستأدیه ما حاز لنفسه من أموال المسلمين، ويجعله عبرة لغيره. ويشجع الصالح في نفسه، الصالح في عمله. ويرشد المخطى إلى وجه الصواب. بهذا التدبير الرقابي الحسابي يمسك الوالي عن الاسراف، ويحمله على العدل في الرعية، لأن المسؤول حين يعلم أن ثمة عينا ترقب أفعاله يحذر من الخروج عن الجادة الصالحة الى الى جادة المترفين اعداء الله. وهذا التدبير الذي نهجه الامام هو ارقى بكثير من نظام التفتيش المعمول به الآن في ادارات الدول.

قال عليه السلامه المالك الاشتر رضوان الله عليه: (.. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والأمانة عليهم، فان تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، ولرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فان أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا. فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة)(37).

فلم نعلم في ادارات الدول الا ان یکون المخبر السري للدولة على الرعية وليس على الراعي.. ومن اجل ادارة اسلامية بالمعنى الدقيق يجب ان يكون راس النظام في الملة رقيبا حسیبا قبل أن يكون حاكما والا فان النفوس ميالة إلى الترف المردي ثم النزوع إلى الجدل مع غايات الرسل واهداف السماء.

ص: 355

الفصل الثاني: غياب مصداق ادارة الدولة العادلة في الاسلام

ليس من الانصاف ان نطلق صفة الاسلام علی ای ماکان، اذا كان فاقدا لعناصر الكمال الكوني والتكويني، نعم نجد كثيرا من الناس وحتى اكاديميين يطلقوا صفة الاسلام على الهيئات والنظم والتنظيمات بل وعلى الدول والاحزاب وهذا ليس من الانصاف، لماذا؟ لأن الناقص في ذاته لايضفي الكمال على غيره فيكون طعنا بالاسلام.. ونحن انما نجد من الاسلام حالين:

- اسلام مؤطر، وهو بقية انقلاب السقيفة (الفلتة العبثية) وتراثه وتاريخه الملطخ بالدم والعمار، فالاسلام المؤطر هو بقية مملكات وراثية اتخذت من الاسلام غطاءً، وتسلطت باسمه وتحت عناوینه والاسلام منها براء.

- اسلام محفوظ في ملة كامنة في ثلة يتهمها المؤطرون بالرفض لانهم رفضوا الانقلاب على الرسالة الكاملة الخاتمة منذ وفاة نبي الاسلام صلی الله عليه واله.

والاسلام المحفوظ يمثل خصما قويا للاسلام المؤطر يرون فيه الوريث الحقيقي والقادم للاسلام لا مخال ولذا فانهم يستعدون بالفتنة وكل ما يؤخر هذا الحتم بالمؤمرات والتعاون حتى مع الشيطان.

ص: 356

1 - السعي للكمال سنة كونية والانقلاب عليه طاريء وهو الى زوال:

ان اقصاء المطهرین بارادة الله و المختارين لامامة الناس المعصومين؛ هي مخالفة بينة جدا لمحكم كتاب الله و مخالفة لوصايا رسوله صلى الله عليه واله، ومجافية للعقل والسنن الكونية، بل هو خروج على ابسط معاني الوفاء للنبي في عترته صلوات الله عليهم وهو يقول: (... فانظروا كيف تخلفوني فيهم؟)(38). وقد حذرت سیدتنا الزهراء تحذيرا شديدا من عواقب تلك المخالفة التي اعقبت وفاة رسول الاسلام صلى الله عليه وآله، في نفس الخطبة التي مرّ ذكرها؛ حيث وصفت الانقلاب على الاسلام في تلك المخالفة بقولها صلوات الله عليها:

(زعمتم خوف الفتنة!!! «أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ»(39)، فهيهات منكم! وكيف بكم؟! وأنى تؤفكون؟! وكتاب الله بين أظهركم أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة وقد خلفتموه وراء ظهوركم.. أرغبة عنه تریدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(40)، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ويسلس قيادها، ثم أخذتم تورون وقدتها وتهيجون جمرتها وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهمال سنن النبي الصفي تشربون حسوا في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء، ويصير منكم على مثل حز المدى ووخز السنان في الحشا وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(41).

ص: 357

ولم يكن قولها عليها السلام هذا الا الحق والصدق والعدل وهي تعلن للملأ:

(أيها الناس اعلموا أني فاطمة و أبي محمد (صلى الله عليه واله) أقول عودا وبدوا ولا أقول ما أقول غلطا ولا أفعل ما أفعل شططا) «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(42) (43).

ان طوفان الفتنة وظلامها وجدل ظواهر الأرض مع ظواهر السماء، طاعة العدو المضل المبين؛ جعل الناس ينسون قول الرسول الأعظم صلى الله عليه واله: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) او من مات وليس في عنقه بيعة الإمام مات ميتة جاهلية)(44)، بل أطّروه ووظفوه ليكون الطلقاء (وابناء فتيات قريش ذوات الرايات الحمر) ائمة وقادة والمطهرون بارادة الله وبنص الكتاب خوارجا!!!؟؟؟ وفي القران الكريم توكيد لضرورة وجود و فعالية المعصوم في قيادة الأمة ففي كثير من الايات نجد هذا المعنى حيث تقترن طاعة هؤلاء الأئمة النذر، أو الهداة الذين ولّاهم الله تعالى أمور عباده، وأمر عباده بطاعتهم وبالإقتداء بهم، قال تعالى: «أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ..»(45).

وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا»(46).

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(47).

ص: 358

ومثل ذلك الحث على طاعة المعصوم كثير جداً في القرآن..

وفي هذا بیان قراني واضح محكم لتلازم الضرورتين، ضرورة وجوب وجود الإمام المعصوم؛ الرسول النبي؛ أو النذير الهادي، في كل زمان ومكان، وضرورة وجوب طاعته امتثالاً لأمر الله تعالى.

إن هناك تساؤلات تتبادر في نفس كل إنسان باحث عن الحقيقة، من أي جنس او أي لون او قوم؛ نجد في إجابتها، وجوب وجود المعصوم، ووجوب طاعته، بما يعني لزوم تحقيق الضرورتين معاً، لتحقيق معاني إرادة الله تعالى في خلق الإنسان كخليفة يدير دولته في الأرض؛ كما قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(48).

من هذه التساؤلات:

لاتترك ظاهرة ارسال الرسل الى البشر تترا حجة؛ بان الله تبارك وتعالى قد اختار افضل خلقه لقيادتهم ورفدهم بوحيه فرفع القصور عن عقولهم ليعلموا الناس الفضائل ويزرعوا القيم الانسانية الراقية فيعز على الله تعالى أن يختار النطف النجسة المحرمة بل کما یقول امام التفسير الألوسي في تفسيره؛ يجل الله تعالى ان يصطفي ابناء الزنا لامره(49).

فهل تصح الإمامة بمعناها الكوني لغير المعصوم؟. او هل تصح الا مع الاعلم و الافضل من البشر؟ والجواب واضح لكل ذي بصيرة.

ص: 359

فإن الولاية على الناس تبلغ غاية صحتها في الاعلم الورع وكمالها في المعصوم، فلا يشك احد في انه؛ لو توفر - على فرض - رجلين؛ احدهما معصوم، والثاني لا تتحرز عصمته؛ عندها نتساءل: مع من منهما يتحقق العدل؟ مثلا؛ کما توفر نبي الرحمة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، وابو سفيان.. او في الزمن الذي تلاه، کما توفر معاوية وعلي عليه السلام.. او کما لوتوفر الحسين عليه السلام السبط سيد شباب اهل الجنة عليه السلام، ویزید بن معاوية، وهكذا تستمر السلسة في التساؤل الى الان... أيهما یکون أصلح للولاية على أموال الناس واعراضهم وحرياتهم وحقوقهم ودينهم...؟ لا احد يشك في الجواب؛ ان الافضل هو الرسول محمد صلى الله عليه واله لا ابا سفيان والامام علي عليه السلام لا معاوية والسبط الحسين عليه السلام لا یزید.... وهكذا تستمر الحال في صحتها.

2 - هل تلازم السلطة والقوة في ادارة الدول القائمة حق ام باطل؟

ان ادارة الدولة: تعني قيمومة مقننة للسلطة او القوة من قبل مؤسسة الدولة ورجالها لبسط العدل في الرعية كما هو مفروض.

فمن المعروف؛ ان من ابسط مباديء الفيزياء ان لا يمكن انجاز فعل بدون قوة وان ادارة الكون كله يتم بالاساس بقوة مقننة بصرامة وبدقة لتحرکه باتجاه الكمال ولديمومته و لحفظ سريانه في حيز مرسوم بحكمة وتدبير..

ولولا هذه القوة لا يمكن أن ينجز اي فعل او اي كائن او اي ظاهرة. ومن صفات القوى الكونية البديهية المنجزة للكائنات والظواهر انها:

- رحيمة ولو كانت قاسية متنافرة فلا كون ولا كائنات. وهكذا يجب ان تكون في

ص: 360

ادارة الدولة - ومتلازمة مع الحق والعدل، ولولا هذا التلازم فلا كون. وهكذا يجب ان تكون في ادارة الدولة.

- سارية وقائمة بالزمان والمكان فلا فراغ، وهكذا يجب ان تكون في ادارة الدولة - وكل القوى الكونية المنجزة للكون من سنخ واحد. ولذا فالخروج عن سنخ القوى الكونية بصفاتها خروج على العدل والرحمة.

ولذا لا سبيل لنظام اداري ينشد العدل والرحمة إلا بالقوة والسلطة المنطبقة مع الحق والعدل التي تتصف بتلك الصفات الكونية ولا تتحقق تلك المطابقة الا مع الشخص الذي لايصدر منه الباطل والقبح وهو المدعوم المختار المكلف للقيام بالمهمة من قبل الله تعالى.

والامامية هم الوحیدون في الكون الذين ينشدون انطباق القوة والعدل في ادارة دولتهم؟ اما في النظم الادارية للحكم المعروفة في التاريخ وحاليا نجد ان؛ الحاكمية والسلطة صلاحية وميزة يمنحها المجتمع بموجب عقد اجتماعي للحاكم مسوغا للحاكمية التي لايمكن ان تتم بدون القوة التي لاضمان بعدلها.

3 - مسوغات قيام إدارات الدول:

هناك مسوغات عقلية اساسها مسوغات ذاتية لنشوء النظام كحاجة بيولوجية بديهية لان الدولة وكما هو مفروض توفر للرعية القدرة والوقت والجهد والأمان والضمان لمستقبل مستقر.. وهذا الدافع الذاتي لضرورة قيام الدولة يأتي من:

اولا - الامامة سنة كونية بديهية تصير مع العقل سنة تكوينية وارادة دافعة لقيام الامام على راس ادارة الدولة في المجتمعات:

ص: 361

فما ان يفتح الانسان عينيه على الواقع وفي وقت مبكر جدا من عمره؛ يجد بديهيا؛ انه يولد في عائلة لها رب، وفي عشيرة لها شيخ، وفي اسرة لها عميد، وفي دولة لها زعيم او رئيس وفي امة لها امام بر او فاجر، وان كان في جيش فلابد له قائد، وان كان في مديرية فلابد له مدير... الخ، ويجد من نفسه وفي ذاته يجد لجوارحه اماما يوجهها هو العقل، فمن منطلق بديهي سواء شعر ام لم يشعر يجد نفسه منتظما في منظومة كونية تكوينية بديهية يحكمها الامام مهما تكن تسميته، ولأن الكون كله بتفاصيله قائم على منهج الاختيار والاصطفاء فإذن لابد ان يختار الانسان ما اختار خالق الكون وبارئه ومصوره نظاما لملته وسياسة لمقاليد الحكم وإدارة الدوله حاكما فليس له ان يشذ عن هذا النسق الكوني البديهي المعبر عن مشيئة الله تعالى.

ثانيا - الاصطفاء والاختيار منهج الفطرة والدين وجوهرهما:

الدين هو عينة من الاحكام المختارة المصطفاة، قال الله تعالى في ذلك: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(50) ويتحقق منهج الاختيار هذا في واقع الدين ومعانيه من الحقائق القرآنية التالية:

أ - ان الله تعالى في دينه اختار الخير ودل عليه، وشخص الشر ونهى عنه. فدين الله تعالى هو الخضوع للعمل بما اختاره الله على انه حق وخير وإحسان، والانتهاء عما نهى عنه على انه باطل وشر وقبح، فهو اختيار محض لا خيار للانسان فيها يجب عليه او فيما هو محرم عليه، الا اذا اختار ان يخرج عن هذا النسق الكوني اللطيف ويكذب على نفسه.. قال الله تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ»(51).

ص: 362

فلله الامر من قبل ومن بعد «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(52).

ب - الله تعالى يختار الائمة والرسل ليكونوا حججا على بريته:

لان المسؤول عن ادارة الدولة والنظام الاسلامي القائم على اختيار الله تعالى يتحتم عليه ان ينفذ خيارات الله تعالى في كونه وكائناته دون خطأ وسهو، وهذا لا يصح ولا يصدق الا اذا كان هذا الشخص المكلف من قبل الله معصوما ومسنودا، ولذا يتأكد مبدأ الاصطفاء والاختيار من قبل الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (*) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(53).

فالله تعالى وحده هو من يصطفي: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ»(54).

وليس لاحد غيره جل شانه الاختيار في الدين «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(55) وقد تعين بموجب الاية الشرك على مخالفي اختيار الله تعالى.

وفي اية اخرى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(56) وهنا تعين الفساد والضلال عى مخالفي خيار الله.

فالامامة المرضية عند الله لا تعتبر الا وفق شرط مهم يؤكد ما نذهب اليه وهو العدل التكويني في الشخص المختار: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ص: 363

قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (57).

4 - الانقلاب على جوهر الدين ونظام ملته:

عندما يتعين بديهيا وعقلا، وبتوكيد قرآني محكم لا لبس فيه ان الاختيار والاصطفاء هو جوهر الدين؛ فان انقلاب السقيفة العبثي (اوفلتة السقيفة كما يسميها عمر بن الخطاب)(58)، قد افرغ الدين من جوهره ومنهجه في الاختيار عندما فتح الباب لمن هب ودب؛ ان يكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه واله وامينا على رسالة الاسلام الخاتمة الكاملة واميرا للمؤمنين من غير المختارين المنصوص عليهم المكلفين بادارة المنهج الاسلامي ونظام الملة.

ودليل افراغ الدين من محتواه؛ هو ان وصل ابناء الزانيات واللوطيون من امثال الوليد بن يزيد وغيره الى منصب خلافة رسول الله صلى الله عليه واله وكانت له امانة الرسالة الالهية الكبرى، وحشي الله ان يرضى بذلك فهو اعز واجل من ان يامر بطاعة ظالم او يجعل حججه من النطف الحرام كما يقول الالوسي في تفسيره.

5 - القوة والسلطة من اجل العدل:

ما ينشده العقل ويتطلبه الدين في سعيهما للكمال سنة كونية بديهية وحيازة القوة والسلطة في ادارات الدول للحاكم او للامام، انما يأتي بقصد العدل غاية ووسيلة، لكن تاريخ العالم كله لم يحدثنا عن حالة واحدة على مرّ التاريخ تحقق فيها العدل بعناصره الكونية والتكوينية في ادارة دولة ما.

ذلك لان مسوغات السلطة وصلاحياتها للحاكم والحاكمية في ادارة الدول ومن اجلها تتحدد في مصدرين: المصدر الرسالي السماوي والمصدر الانساني الارضي وهما:

ص: 364

اولا - في حاكمية الله تعالى؛ فان السلطة المطلقة في الكون والتكوين هي للمكون الخالق البارئ المصور جل وعلا يفوضها سبحانه ويمنح صلاحيات سلطتها الى من يختار ويصطفي من رسله او ممن يطهرهم بارادته ولارادته، فيرفع عن عقلهم القصور، ولذا فلن تخطئ القوة محالها فيهم ولن يصدر من المكلف الرباني بادارة الدولة الظلم اوالقبح. لكنه نموذج محدود لانه معتم عليه وغير معرّف.

ثانيا - في حاكمية الانسان لذاته: يرفض المترفون وعلى مرّ التاريخ البشري ان تكون الحاكمية للسماء ويزعمون ان العدل اذا كان مسوغا لحيازة القوة والسلطة فهم الاقدر على اقامة العدل وليس ان نترك الامر لمجهول ليتحقق العدل على يديه.

ان ظلم الانقلابيين في الاسلام المدعين انهم يمثلون الدين، وظلم الكنيسة في المسيحية لا وامر المسيح سلام الله عليه، وظلم الحخامات اليهود في اليهودية لانبياء الله في واقع الناس قد اعطى مسوغا لحاكمية الانسان وتفوقا لتخليصهم من حاكمية السماء المدعاة التي انقلب عليها المدعون على أمانتها.

ولكن في كل الاحوال لازال العدل مبررا للحاكمية في الناس وفي قيام النظم الادارية للدول مهما كان نوعها. ولان محورنا في البحث هو بالأصل: ادارة للدولة في النظام الاسلامي لنقارن به النظم الاخرى فسيكون مطلوبا ان نبحث في الفصل التالي الحلقة المفقودة بين ادرات الدول كنظام وبين العدل كغاية سامية.

ص: 365

الفصل الثالث: الحلقة المفقودة بين اداراة الدولة كسلطة وبين العدل كغاية

على مرّ التاريخ؛ لم يفكر العالم بعلمائه وعباقرته وبفلاسفته ومثقفيه وجامعاته بأطروحة عنوانها (كيف ومتى واين يتحقق ضمان العدل في ادارات الدول؟)، لان المؤمنين قطعا يثقون بان الله تعالى عادل ويطلب العدل وهو تعالى منزه عن العبث والظلم ولن يخلق العالم لشيء من العبث، واننا لا نشك بان غير المؤمنين ينشدون العدل ايضا فالظلم نشاز، وحتى الظالم نفسه لو ظلم لجار من الظلم..

اذن؛ من وراء هذا التواطوء على الظلم على طول التأريخ؟ ولصالح من تجري الامور على ماهي عليه من قبول السياسة على انها شر لابد منه؟ الجواب باختصار يكمن في حالة الجدل الكوني بين ظواهر كونية انسانية ثلاث؛ ظاهرة الرسل عليهم السلام، وظاهرة الترف والمترفين، وظاهرة الاستلاب.

فما تعنى هذه الجدلية بين الظواهر الانسانية الثلاث في قيام ادارات الدول؟

1 - جدلية الظواهر الكونية التاريخية الثلاث وتعثر النظام الاداري الرباني:

ظواهر الرسل، والترف(59)، والاستلاب(60) الرسل عليهم السلام؛ هم أطروحة السماء، وحتم التكوين، فهم فيض لطف الله وعدله الذي لا ينقطع عن مخلوقاته، تَجَسَدَ في ظاهرة كونية دائمة؛ رسل الله، يحملون العدل والرحمة رسالة في عقيدة الى الناس تترا، فيجسدون العدل والرحمة في

ص: 366

الفعل والقول ضمن منهج رباني موجه ضد الظلم، باعتبار الظلم هو المعنى الجامع لكل ماهيات القبح، ابتداءً بالشرك فانه ظلم عظيم، قال تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(61)، مع شعور عظيم بالمسؤولية اتجاه البشرية المعذبة.

فالإنسانية اليوم وبسبب اهمالها لظاهرة الرسل عليهم السلام ومعانيها العظيمة، صارت تعاني وتتعذب بسبب عاملين؛ احدهما خارج على الذات الانسانية، هو الترف والمترفين، والثاني ذاتي؛ هو الاستلاب، حيث الغالبية من البشر يعانون من الاستلاب الذي يفقدهم قدرتهم على التفكير الصحيح واتخاذ القرار الصائب حيث تكمن مصلحتهم.

اما المترفون، وإقصاءً لأهداف الرسل؛ يستغلون اخوتهم من البشر وبدون ادنى شعور بالمسؤولية، فيسخرونهم لحيازة المزي-د م-ن مصالح القوة والسلطان والاثراء الفاحش على حساب تضييع حقوقهم.

واما الاستلاب، فهو عارض نفسي ينشأ من اللاوعي شعور باطن، اما بالدونية حيث يظن الانسان ان الآخرين افضل منه، او الفوقية حيث يظن الفوقي انه افضل من الآخرين، او النفعية حيث تتحد منفعته الشخصية بعقيدته فلا يرى غيرها، او النفاق، حيث يظهر المرء الايمان ويبطن الكفر، وهذا الشعور بالاستلاب يمنع المصاب به في الغالب من الخيار الصحيح الذي يوافق نظام الملة، لان خياراته بالحتم تتبع لدافع ما استلب به، فيستغله المترف لمصالحه، بل وحتى ضد مصالح المستلب ذاته، فلا المستلب يعلم ما ستتمخض عنه نتائج فعله، ولا المترف له شعور بالمسؤولية اتجاه هذا المستلب المسكين.

والاستلاب، من الظواهر التي تستطيل في الامم والشعوب وبصعب تمييزها لانها تحيى وتنشط في اللاوعي ويستغلها المترفون ايها استغلال في قهر الشعوب.

ص: 367

وعلى ضوء هذا الصراع بين الرسل ورسالاتهم والمترفين وتدخلاتهم والمستلبين وغفلتهم يضيع الانسان وميزاته الراقية وينظر الى المعصوم والعصمة على انه مغالاة في الاعتقاد وليس وسيلة لتجسيد مشيئته جل وعلا في كونه وكائناته.

وقد يصدق - كما نرى - ان يبتلي كلا من المنتظر المعصوم والمبتلي بالانتظار حتى يعرف المستلب نتائج خيارات فعله الخطل ضد الحق واللطف والكمال ولو متاخرا فيصحح مسيرته، او يكسب المظلومية التي هي بحد ذاتها غاية في نفسها تنغص على المترف الظالم ترفه وتحطم تكبره واستكباره.

لأن هناك عاملان يساعدان المترف في كسب الجدل(الصراع) ضد المعصوم والانسانية، هما:

اولا - امتلاك المترف وسائل الاستلاب القوة والسلطان والمال والوقت؛ التي هي دوافع للفعل ضد المستلبين. والمستلبون بحاجة ماسة للمال والقوة والوقت والجاه، فيضطرون لاتباع المترف ضد المعصوم وهو بالواقع ولاية المستلب ضد نفسه.

ثانيا - هو عدم شعورالمترف باي قدر من المسؤولية اتجاه ابناء جلدته البشر او اتجاه ربه وخالقه المنعم عليه، ولا يستحق من الله تعالى الرحمة واللطف فيبوء اما بالاملاء(62)، او يخسر بالاستدراج(63).

تحصل حالة الترف عند الغنى وغياب الرقابة والمحاسبة التي تحدثنا عنها في الفصل الاول كضمان من ضمانات عدم الترف، ويأتي من وافرات المال والوقت والقوة وهي نعمُ تستحق الشكر وتوجب الزكاة، فان لم تشكر صرفت في معصية طبقا للقاعدة المعروفة عن المعصوم:

ان (ما لم يصرف في طاعة يصرف في معاصي) وعندها يترتب غضب الجبار على العصاة والعادون ويبتلعهم ناموس الاملاء او الاستدراج، فيكونوا خدما لإبليس

ص: 368

واعداء الله وللإنسان.

ويحصل الدور في الجدل عندما ينزلق مسؤولو ادارات الدول الى الترف بامتلاك المال والوقت والقوة والجاه وعندها يصبح محاربا الله ورسالته حتى ولو كان يدعي انه من المؤمنين كما هو قارون وكان من قوم موسى. وهكذا يستمر الجدل.

ومن يفتقد لتلك الوافرات يبتلى بالاستلاب. ولذا فان المترفين اكثر علما بأحوال الاستلاب وحاجات المستلبين فتكون سبيلا لاستغلال المستلبين وتوجيههم لصالح المترفين ضد الانبياء واتباعهم.

عن ابي عبدالله «عليه السلام» قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم نبعث لجمع المال ولكن بعثنا لإنفاقه (. عنه) قال: انفق بالخلف واعلم انه من لم ينفق في طاعة الله ابتلى بأن ينفق في معصية الله...)(64).

عن الصادق عليه السلام: واعلم أنَّه من لم ينفق في طاعة الله أبتلي بأن ينفق في معصية الله عزً وجلّ، ومن لم يمش في حاجة ولي اللهّ أبتلي بأن يمشي في حاجة عدو الله عزَّ وجلّ)(65).

ومن كلمات مولانا الكاظم (عليه السلام): إيّاك أن تمنع في طاعة الله فتنفق مثليه في معصية الله - الخ(66).

فالترف والاستلاب هما سبب الحلقة المفقودة بين العدل كهدف والسلطة كوسيلة كما هو بالضبط ما يحصل على مر التاريخ البشري، حيث يستغل المترفون الطغاة الناس المستلبين ضد الانبياء والرسل والائمة من المعصومين. وكلهم كما يحكي القرآن الكريم ضحايا لهذه الجدلية المربكة في تاريخ البشر يتوضح في تخاصم

ص: 369

اهل النار(67).

ان هذه الجدلیة لا زالت وستستمر سارية، لتوافر مشخصاتها في المجتمع ولكي تتغير فلابد ان تتغير النفوس.. فقد قال الله تعالى:

(...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)(68).

انه فعل العدو العتيد للانسانية؛ (ابليس)، وشركه (ابنائه)؛ ابناء فتيات قريش من ذوات الرايات الحمر الذين تصدوا للأمامة وخلافة الرسالة، والذين يرفعون شعار(انا خير منه) ويجسدونه ضد المطهرين بارادة الله المختارين للولاية على الامة، وهم المنقلبون على الرسالة فقد ابطنوا الكفر واظهروا الايمان ليجتازوا الى نيل قوة سلطة النبوة، فان الانقلاب على الكتاب والسنة مهمته الاجهاز على امتدادها الطبيعي والمتمثل بالأمام المعصوم المنصوص عليه والمكلف من قبل الله تعالى بامتداد ظاهرة الرسل، وهم عترة النبي الخاتم المطهرين بارادة الله تعالى ولإرادته.

فخلال الفترة الممتدة بين الانقلاب على الرسالة (في السقيفة) وامتداداتها، الى خلافة معاوية؛ تحقق لمعاوية ان يحوز مختصات الترف، فاستغل الاستلاب باشاكله المختلفة و دوافع الاستلاب في الامة ضد الامام المنصوص المختار من قبل الله تعالى واسس للمملكة الاموية الوراثية العضوض بديلا للاسلام الحق بما حذر منه النبي صلى الله عليه واله.

ص: 370

2 - واقع جدل الظواهر الثلاث يغلب تحذيرات الرسالة:

صدرت عن النبي صلى الله عليه واله تحذيرات رسالية من استمرار جدلية الظواهر الثلاث في الأمة كما في الأمم السابقة:

بامر من الله تعالى وبمسؤولية الرسالة الخاتمة حذر الرسول الاكرم صلى الله عليه واله الأمة من أن تتردى إلى ما تردت له الأمم السابقة؛ فدأب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله؛ يؤشر الخلل في الامة والانحراف الذي سيصيب الناس من بعده، وكان صلى الله عليه و آله، يرى مما يوحى اليه ان امته لا تختلف عن بقية الأمم، تسري عليها سنن ما قبلها، سنن التاريخ و جدلیاته وحتمياته، وقد خبرهم مرارا وتكرارا؛ لكي يوطن الصالحون أنفسهم فيتهيئوا للفتن بعده، صونا للدين وحفظا لنظام الملة، ولكي تكون حجة على المارقين والناكثين لعهده صلى الله عليه وآله، الا أن الأمة في غالبيتها الساحقة - مع الأسف - لن تعبأ لتحذيراته، ولو لا تضحيات اهل البيت عليهم السلام والثلة المرابطة معهم من المؤمنين الصالحين الذين وطنوا انفسهم التحذيرات من لا ينطق عن الهوى، لكنابل والعالم كله يرى في حثالات البشر وابناء الزانيات من الأمويين و العباسيين والتكفريين هم مثلوا الاسلام وهم حاملوا رسالة الله تعالى التي وطدها النبي محمد صلى الله عليه واله. فقد روي عنه صلى الله عليه وآله انه قال كما في الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن؟)(69).

ومن صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ قال: قال رسول الله: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مآخذ القرون قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قيل له: يا رسول الله كفارس والروم ؟ قال من الناس إلا أولئك(70).

ص: 371

ولم يمض على وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أكثر من ثلاثين سنة وإذا بنا نشاهد أن حزب الشيطان (حزب ابناء فتيات قريش ذوات الرايات الحمر) الذي وقف معارضا في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدة واحد وعشرين عاما قد تربع على عرش الخلافة، ليغيرها إلى ملك وراثي عضوض کان حذر رسول الله منه، يتداوله بنو امية فيما بينهم حتی توارثه یزید و بنو مروان وبعد ذلك آل الأمر إلى بني العباس الذين استمروا على نهج بني امية؟! فهل هناك انحراف أكبر من هذا الانحراف عن مسار الرسالة الرحمة.

والغريب ان تحذيرات الرسول وتنبيهاته لم تكن عامة وغير مشخصة بل كانت دقيقة ومشخصة بالاسماء والعناوين اللذين سينقلبون وللذين يرتدون وللذين سیؤذون اهله وحاملي مشيئة الله تعالى في رسالة الاسلام (عليهم السلام) من بعده.

قال الرسول صلى الله عليه وآله لاصحابه:

(ان اهل بیتی سيلقون من بعدي من امتی قتلا وتشريدا، وان اشد قومنا لنا بغضا بنو امیه و بنو المغيره وبنو مخزوم)(71).

وقال الرسول لأصحابه:

(اذا بلغت بنو امیه اربعين اتخذوا عباد اللهّ خولا، ومال الله نحلا، وكتاب اللهّ دغلا)(72).

وقال الرسول يوما امام اصحابه:

(ويل لبنی امیه، ويل لبنی امیه، ويل لبنی امیه)(73).

وقال الرسول يوما لاصحابه:

ص: 372

(شر العرب بنو امیه).. قال ابن حجر صح وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال أمير المومنين علي عليه السلام: (لكل امه آفه و آفه هذه الامه بنو امیه)(74).

ولقد نازع معاوية الحسن عليه السلام خلافة الاسلام وهو يعلم انه اجدر بها ومكلف بارتحالها ثم قتله بالسم، وقتل یزید الحسين عليه السلام وسبا عيال النبي وبناته واستمرت مملكة الأمويين حتى اخذها منهم العباسيون، وكان ذلك على مرآی من الامة وعلى مسافة زمنية قريبة من تحذيرات الرسول صلى الله عليه وآله.

فاذا كانت الامة مستلبة فما بال علمائها الى الان يتبعون النهج الأموي المتمثل بنهج الفتنة نهج التكفير والابادة واكل الاكباد والتمثيل بالضحايا، وتبعيتهم هذه على علم من تحذيرات رسول الاسلام صلی الله عليه وآله التي تنقلها لهم صحاحهم؟!

3 - تحذيرات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تغيرنظام الاختيار الرباني لادارة الدولة الى ملك عضوض:

تقبلت الامة الاسلامية تاريخها المزيف الاسود الملطخ بالعار كمسلمات، وبدون تمحيص او تحقيق او تدقیق، هذا لانها مستلبة بالفوقية والدونية وبالنفعية والنفاق الذي حذر منه الرسول الاكرم، بالاضافة الى انها متخلفة ثقافيا وحضاريا قريبة من الجاهلية في جانب، ثم انها ضحية مناهج اعداء عقيدتها في الجانب الآخر منذ اول يوم والى يومنا هذا.

ومن المسلمات، التي يعتمدها الغالب ممن يدّعون الاسلام؛ هي المسالة التاريخية المخجلة؛ والمتجسدة في الانحراف بالاسلام ورسالة الرحمة، وتحويلها إلى ملك عضوض على يد أعداء الإسلام، الطلقاء الادعياء الامويين.

ص: 373

الا اننا للأنصاف لابد ان نذكر النابهين منهم، فمثلا؛ قد أدرك الكاتب العصري المصري خالد محمّد خالد في كتابه: (أبناء الرسول في كربلاء) البُعد الحقيقي لهدف معاوية حين قال في كتابه هذا: «فها هو ذا معاوية لا يكتفي باغتصابه الخلافة، ثمّ لا يرغب وهو على وشك لقاء ربه في التكفير عن خطئه، تاركاً أمر المسلمين للمسلمين... بل يمعن في تحويل الإسلام إلى مُلك عضوض وإلى مزرعة أموية، فيأخذ البيعة ليزيد کوليّ عهد له. يأخذها بالذهب وبالسيف»(75).

والمصيبة ان هذا الانحراف كان مصدر قلق للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وحذر كثيرا منه لكن دون جدوى:

ففي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكاً عضوضاً ثم كائن عتواً وجبرية، وفساداً في الأمة، يستحلون الحرير والخمور، یرزقون على ذلك وينصرون، حتى يلقوا الله عز وجل)(76).

والانكى من هذا ان علماء الامة الذي يفترض انهم يظهروا علمهم اذا ظهرت الفتن، هؤلاء العلماء يدلسون على تحذيرات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، لصالح الانحراف فيحرفوا الكلم عن مواضعه لغيروا معنى الحديث لعن الله الافاكين: ففي رواية أبي داود بسنده عن سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك - أو ملکه - من يشاء)(77).

یعنی ان الله تعالى اعطى الملك بماشاء وكما شاء لبني امية الطلقاء وكأن الله قد تخلا - والعياذ بالله - عن الرسالة والرسول!!!

ص: 374

الا ان الواقع يؤيده كل الرواة، حيث رووا عن رسول الله صلى الله عليه واله: (أنّ ما بعد الثلاثين سنة مُلْكٌ عضوض لا خلافة)(78).

وفي واقع التاريخ ایضا؛ كان بني امية راس حربة المشركين والكفار في حرب نبي الاسلام؛ فكانوا على رأس الحملات المضادة للنبي صلى الله عليه وآله ولرسالته السمحاء. سيَّما وأنهم يعتبرون أنفسهم غرماء مجد للهاشميين.

قال ابن الأثير في النهاية: 3 / 253: وفيه “ثم يكون ملك عضوض” أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعضون فيه عضا، والعضوض من أبنية المبالغة في اللغة. وقال ايضا في ج 1 / 236:) ثم يكون ملك وجبروت ”أي عتو وقهر.

هكذا انتهى النظام الاداري الإسلامي لإدارة الدولة بعد انقلاب السقيفة مباشرة وفيما تبعه من القراءة الخاطئة للإسلام في تشعبات المذاهب التي تنهل من السقيفة، فلا يمكنه العودة الى وضعه الحق مع احتدام عناصر الجدل الثلاث وغياب المعصوم لحكمة يبتغيها الحكيم جل وعلا.

ص: 375

الفصل الرابع ادارة الدولة وفق (نظام الملة)

اذا كانت الحجة للتخلي من مسؤوليات تشخیص و تعیین کیفیات قیام ادارة دولة ترضي الله ورسولة في الناس وفي المجتمع الامامي خصوصا زمن الغيبة وهم يعلمون الاسلام الحق اولا، ولان نظام الملة بلاء نغرق فيه جميعا اذا اما ابرزناه ببيانه وتفاصيله الصحيحة.. اي اذا كانت الحجة هي القهر والظلم والاستهداف من قبل اعداء الله ورسوله كما كان في سابق الزمان اسباب حقيقية تمنع الامامية من ادارة انفسهم او دولتهم حسب نظامهم الذي يعتقدون فيه وهو نظام الملة، فما من سبب يمنعهم اليوم من اقامة نظام ملتهم اليوم مع الاعتراف بصعوبة ذلك في بعض الاصقاع، فالمعصومون عليهم السلام مهدوا في الامة لشكل نظام الملة استعدادا لفترة غياب الامام المنصوص ابتداء من الامام علي عليه السلام في رسائله وعهوده الى عماله في الامصار ثم توکد اکثر في زمان الامام الصادق والى الهادي عليها السلام بما سیاه بعض الكتاب بنظام الوكلاء.

1 - تخلف الامامية عن حكم انفسهم:

بالرغم من أن الأمامية يملكون افضل احسن العقائد السياسية لحكم البشر في العالم على الاطلاق الا انهم تخلفوا عن حكم انفسهم وفق تلك العقائد لاسباب منها:

1 - ان عقيدتهم السياسية (ادارة الحكم عندهم) اعمق بكثير من وعيهم من مستواهم الفكري ومحتواهم الثقافي الجمعي، ذلك الذي اصطلحت عليه او سمته الزهراء

ص: 376

سلام الله عليها بنظام الملة.

فعقيدتهم في ادارة نظام الحكم تعتمد عقيدة الاختيار والاصطفاء التي هي اساس الدين، بل اساس الكون كله حيث ان امر الولاية والسلطة والحكم اصلا لله تعالى يختار له ويكلف من يشاء من عباده قال تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(79). وبشكل ادق يقول تعالى: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ»(80).

والاصطفاء والاختيار مبدأ كوني وسنة بديهية يتحقق بها ليس فقط الدين بل النسق الكوني حيث تجسد ارادة الله تعالى في كائناته. وهذا الفهم لايتيسر لجميع الامامية.

2 - ان الحكم عند الامامية يرتبط بالعصمة؛ لأن ملاك السياسة العدل وليس غير العدل بديلا. واي احد غير المعصوم يزعم انه يسير في الناس وفق ارادة الله تعالى في العدل فهو كاذب ما دام يحتمل منه الخطاء فالظلم، في حين ان عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.

ومع ان الأرض لا تخلوا في زمانها و مکانها من المعصوم - حسب العقيدة الامامية - الا انهم تشعبوا في نظرياتهم المرجعية خلال زمن الغيبة وفق خمسة اجتهادات لم تحقق لهم الحكم المباشر عدا واحدة هي: (ولاية الفقيه في ايران) وهي الان في سبيل التجربة الا انها اثبتت مقاومة ناجحة في جدلیات الصراع مع المترفين.

وللانصاف نقول ان المرجعية تحقق جزء من نظام الملة فهي على مر التاريخ ادارة داخل ادارات الدول الظالمة تقوى وتضعف حسب الظروف وقوة قيادية المرجع.

ونحن نرى ان نظام الملة يمكن ان يتحقق في جزء كبير منه من خلال توصيات

ص: 377

المعصوم في نموذج مرجعي سنفصله انشاء الله تعالى بعد ذكر النماذج الخمسة المعرفة في الفصل الأخير من هذا البحث.

2 - معاني القيادة والادارة تتشخص في حدود الولاية المرجع:

شاهدنا على مر تاريخ المرجعيات الشيعية، أن آليات اقتران معنى القيادة تتشخص في المرجع ضمن نطاق حدود الولاية التي يؤمن بها المرجع على الناس، ثم نرى انه هو الذي يحدد نموذج تلك القيادة لمرجعيته.

وعلى اساس من هذا، رأينا في واقع تاريخ المرجعية صوراً لهذا المعنى في النماذج القيادية للمراجع منذ الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد فقيه الطائفة وشيخها (قدس الله سره)، ولحد الآن، من خلال استقراء منطقي لواقع المرجعية في قيادة الأمة زمن الغيبة.

3 - الائمة يمهدون لنظام الملة في زمن الغيبة بنظام الوكلاء

اكد ائمتنا المعصومون من العترة الهادية؛ صلوات الله عليهم دورهم القيادي الديني في أوساط الجماعة الصالحة، وأوضحوا أهمية الولاء لهم، وأخذت تتسع الرقعة الجغرافية لأتباع أهل البيت ((عليهم السلام)) مع توسع جغرافيا الاسلام، واحتاجت الامة الى من يستجيب الى حاجاتها ويجيب على تساؤلاتها ويكون حلقة وصل بينهم وبين أئمتهم ((عليهم السلام)).

بادر الأئمة ((عليهم السلام)) الى تعيين الثقاة من الوكلاء معتمدين لهم في مختلف المناطق، وأرجعوا إليهم الأتباع... وذلك في اطار بناء ادارة نظام الملة النظام الذي يحفظ في تركيبته الحق والعدل؛ صونا لدين الله تعالى بالرغم من وجود الإدارات الظالمة في زمن الغيبة التي يحتجب بها امام الزمان عن الناس، فلا ينفرط النظام الذي

ص: 378

به کمال الدین وتمام النعمة.

ولقد اهتم الأئمة عليهم السلام بالتحضير لهذا النظام لحين الغيبة اعتبارا من الامام الصادق عليه السلام.

4 - شروط معتبرة في الوكيل المعتمد:

كان ائمتنا عليهم السلام يعتبرون الوثاقة و العدالة شرطين أساسيين في الوكيل فضلاً عن إيمانه ومعرفته بأحكام الشريعة وشؤونها، ولباقته السياسية وقدرته على حفظ أسرار الإمام وأتباعه من الحكّام وعيونهم.

نظام الوكلاء فنيا؛ يشبه التنظيم الهرمي في الحركات الحديثة المنظمة، فالوكلاء منهم من يرتبط بالإمام ((عليه السلام)) بشكل مباشر ومنهم من يرتبط به بواسطة وکیل آخر يعتبر محوراً لمجموعة من الوكلاء في مناطق متقاربة. ويعود تاريخ تأسيس هذا النظام إلى عصر الإمام الصادق ((عليه السلام)) أو من سبقه من الأئمة ((عليهم السلام)) غير أنه قد اتّسع نطاقه وبدأ يتكامل بعد عصر الإمام الصادق ((عليه السلام)) نظراً للتطورات السياسية والمشاكل الأمنية التي أخذت تحيط بالجماعة الصالحة وتهدد وجودهم وكيانهم.

ومنذ عصر الإمام الجواد ((عليه السلام)) و حتی ابتداء الغيبة الصغری کان لهذا النظام دور فاعل وكبير جداً في حفظ کیان الجماعة الصالحة ووقايته من التفتت والانهيار، اتّباعا بالواقع لوصية الزهراء عليها السلام باعتبار طاعة المعصوم هي جوهر النظام في حفظ ملة الاسلام.

وايضا بفضل هذا النظام والعناصر الفاعلة فيه أصبح الانتقال إلى عصر غيبة الإمام المهدي ((عليه السلام)) میسوراً، وقلت المخاطر الناشئة من ظاهرة الغيبة

ص: 379

للإمام المعصوم الى حدّ كان نظام الوكلاء بكل خصائصه قد تطوّر الى نظام المرجعية الحالية، فالمرجع يقوم اليوم بدور الإمام الموجّه لمجموعة الوكلاء... وهو الذي يقوم بدور النيبابة بين الإمام والوكلاء وبين الإمام واتباع الإمام عبر هؤلاء الوكلاء الذين قاموا بدور همزة الوصل المهمة وحقّقوا بذلك جملة من مهامّ الأئمة ((عليهم السلام)).

ان نظام الملة بني باختيار الله تعالى للمعصومين، منذ خلق آدم الى الحجة المهدي عليهما السلام، وان تعدد الأئمة عليهم السلام وتباعدهم في الأزمان والأماكن؛ كان واحدا من الضمانات الإلهية ضد انحراف البشر، ولذا مارس الأئمة نفس الاسلوب في الوكلاء ان بعض الوكلاء انحرف عن نظام الملة، بالاستلاب، لكن تعدد الوكلاء وتباعدهم الجغرافي يضمن بقاء نظام الملة، لانه يصون دين الأمة في ثلتها الصالحة ويحصنها ضد الانحراف العقائدي وبهذا يحمي ثقافة الشريعة وعقيدة الملة في نظامها.

وعليه فلولا نظام الملة السماوي لما بقي بعد تولى الأمويين والعباسيين والعثمانيين من الملة شيء على الاطلاق، فقد كان نظام الملة خير وسيلة لإعداد الجماعة الصالحة للدخول في عصر الغيبة والحيلولة دون تأثير صدمة الغيبة والانقطاع عن الإمام المعصوم ((عليه السلام)) على أتباع أهل البيت ((عليهم السلام)) الذين ألفوا رؤية الإمام واللقاء به خلال قرنين ونصف قرن من الزمن.

ص: 380

5 - لكي يكون النظام المرجعي ادارة لنظام الملة(81):

في خطبة سيدة الاسلام جوامع المفاهيم اذ قالت: (...فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة. وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على إستيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة... الخطبة)*.

ان كثير من تلك المفاهيم لا تجد تفاعلا منا معها بل ولا يدرك احدنا معانيها؛ ففي دعاء الافتتاح مثلا؛ نطلب من الله تعالى الدولة الكريمة لكننا ليس بمستوى الطلب لا من ناحية الاستعدادت اللوجستية ولا ثقافيا ولا ايديولوجيا ولا حتى بصدق النية، بل وحتى على مستويات معروفة قد لا يكونون بمستوى الوعي السياسي لنظام الملة، الذي وجدناه جاهزا مؤسسا من قبل اهل البيت عليهم السلام في كل ما فصلوا لنا بقراءة معصومة من دين الله تعالى بدمائهم وتضحياتهم الجسام.

فمثلا؛ نجد في التاريخ مثلا من يروي؛ ان من المعترضين على الحسن عليه السلام في صلحه مع معاوية، حجر بن عدي؛ وحجر هذا بدرجة عظيمة من الايمان والتشيع، وليس لمن مثلي ان يقيم حجر على عظمة قدره وتصاغري، ولكن اعتراضه على الامام عليه السلام والنص المنقول عنه بما يوصف تصرف المعصوم لا يفسر الا بفقدانه لنظام الملة ولو ظرفيا - من خلال الفتنة - لانها كانت فتنة كبرى.

هذا المثال وغيره في التاريخ كثير، بل التاريخ كله يحكي ما خسرته الانسانية عموما والامة الاسلامية خصوصا، وما عانته بسبب فقدانها لنظام الملة؛ والذي كان نتيجة لتعمد الأمة عدم الاعتبار بالمعصوم ومعاني العصمة في مخالفة صريحة لكتاب

ص: 381

الله تعالى، ووصية رسوله المصطفى صلى الله عليه واله وسلم، فما المعصوم الا الهادي بكتاب الله تعالى وما كتاب الله الا سبيل العصمة المنزلة من الله الى البشر.

6 - استشعار العجز ازاء المعصوم:

الذي يجب أن نعمل به هو ان نستشعر العجز ازاء المعصوم کما نستشعره ازاء القران الكريم على الاقل لنكون دوما في حال يقضة من أن لا تكون بمستوى الاستجابة لما يريده المعصوم، وهذا مما يجعلنا نتفحص دوما کمال نشاطاتنا في الدين طبقا لمبدأ الرقابة وعدم الغفلة.

وان النماذج التي استقر أنها للمرجعيات الشيعية في التاريخ بمقدار ما تحقق من نظام الملة تحتاج إلى البحث فيها من مقدار ما تستوعبه من توصيات الائمة وما فعلوه لحفظ الدين والملة.

ان حكم الله في خلقه واحد(82) وان مخالفة المعصوم؛ هي مخالفة كتاب الله و مخالفة رسوله، بل هو خروج على الاسلام.

فغاية الولاية؛ تتحقق في المعصوم دون غيره، لان به يتحقق المعنى الكوني للإمامة ولا يتحقق معنى الخلافة في الأرض، ولا نجد له مصداقا، إلا في المعصوم.

وفي القرآن الكريم، حيث يأمر الله تعالى بطاعة أولي الأمر، ويقرن طاعتهم بطاعته، فإنه - جل وعلا - يقصد بهم، المعصومين دون غيرهم.

وفي ذلك معيار لصحة الاعتقاد لا يعدمه أولي الألباب، لكن الذين في قلوبهم زيغ، يرون أن الله يأمر بطاعة الظالمين إذا كانوا أمراء! أو متسلطين من خلال دست الحكم!

ص: 382

فقوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(83).

هو من المحكم؛ فالله جل شأنه وتعالى اسمه، معروف ليس نكرة، والرسول (صلى الله عليه وآله) كذلك مشخّص و معروف وليس نكرة أيضا، فهل ضمن هذا السياق، يصح أن يكون أولو الأمر نكرات مجهولين وظالمين؟؟؟؟ إن الله تعالى لا يأمر بطاعة مجهولين نكرات؛ ولا يجعل طاعة مجهولين نكرات، قرينة لطاعته جل وعلا، لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وقد كتب على نفسه الرحمة، ولا يكون سبحانه سبباً في ظلم أحد، فلا يظلم ربك أحداً، فهو سبحانه يأمر بالقسط.

يحقق النظام المرجعي بصورة ما قدرا من نظام الملة لكنه لا يمكن ان يكون بوضعه الحالي نظاما اداريا لدولة عصرية مقتدرة الا مع التعديلات المطلوبة شرعا والمنصوص عليها من قبل أئمتنا باعتبار أن نظام الملة يتلخص بطاعة الامة للإمام المعصوم.

اذن النظام المرجعي يمكن ان يمثل نظام الملة مع تحقق وصایا وعهود المعصومين عليهم السلام في ادارة الدولة.

ص: 383

الفصل الخامس: نماذج من النظام المرجعي وامكان تمثيله لنظام الملة في الادارة:

1 - تقارب النماذج المرجعية مع نظام الملة وتباعدها:

2 - استقرأنا تاريخيا نماذج المرجعيات الدينية على اساس امکان قيادتها للامة وادارتها للنظام المرجعي داخل نظام الدول فوجدنا النماذج التالية:

أ -: نموذج المرجعية التي تمثل قيادة مباشرة للناس بدون وجود دستور إسلامي حاكم.

هذا النموذج للقيادة المباشرة للأمة، كانت في أحيان كثيرة تبرزه في المراجع ظروف تحكم الأمة فينبري بعض المراجع بالتقدم لاحتلال مواقعهم القيادية في أوقات المحنة القيادة الأمة إلى حيث الخلاص ورضا الله سبحانه وتعالى.

مثلما كان قد حدث للإمام المجدد السيد محمد حسن الشيرازي «قدس سره» (1230 - 1312 ه) الذي قاد الأمة من سامراء في ثورة التنباك في إيران ودحر قوات بريطانيا! آنذاك.

ومثله ما حصل للإمام الشيخ محمد کاظم الخرساني في ثورة الدستور، ومثله ما حصل للإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي في قيادة الأمة في ثورة العشرين في العراق.

ونحن إذنبرز هذه الأمثلة لنماذج القيادة المباشرة للمرجعية فلا يعني بالضرورة أن المرجع لا تكون له القيادة المباشرة إلا من خلال فراغ سياسي في واقع الأمة يتقدم

ص: 384

له المرجع ليتولاه، إنما نجد أن المرجع الذي يعيّ مهام موقعه في الأمة يكون دوماً نبه يقظ واع فهو المبادر لاستلام القيادة المباشرة، والساعي إليها عزاً للمؤمنين ونصراً للدين، مع كون الدستور المتحكم غير إسلامي، فلابد من الاعتقاد بان مجرد وجود المرجع الواعي لمهامه اليقظ المشاريع اعداء الأمة هو ضمان لأمن الامة وصمام امانها.

والسبب هو أن التركيبة الواقعية الهرمية للتقليد والمرجعية؛ إنما هي أسلوب فني حکيم ودقيق في توفير إمكانات القيادة المباشرة للمرجع على الأمة من خلال القاعدة العقلية الرصينة: (ان عمل العامي باطل بدون تقليد). وهو نظام؛ يهدف لربط الرجل ابتداءً من سن البلوغ، والنساء ابتداءً من تجاوز عمرها السنة القمرية التاسعة بالمرجع.

وقد اتخذ كثير من مراجعنا العظام، أساليب تنظيمية دقيقة في جميع وعاة الأمة لبلوغ إمكانات القيادة المباشرة للأمة بهم.. فقد احكم المرجع الاعلى انذاك السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره) - خلال عقد الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي - صلته بالأمة من خلال وكلائه، ونشر الوعي من خلال مكتباته في كل .

إن مجرد تطبيق هذا الأسلوب بأبعاده الواعية لمعاني نظام الملة في الدين عند الناس ومعاني الإمامة عند المرجع، يحقق القيادة المباشرة للمرجع في الأمة سواء كان الدستور المتحكم علمانياً أو إسلامياً شكلاً.

وبسبب عدم وعي الأمة لتمام نظام الملة، وذلك - ربما - بسبب قوته الروحية وعمقه الفكري وعمليته باعتباره نظاما کونیا ربانیا، مما يبخس حق الامام وكذا يبخس حق المرجع، ونجد ان التقصير واضح جدا من لدن الامة اتجاه ائمتها

ص: 385

ومراجعها مع الاسف.

ليس من الصعب ان يكون هناك منهجا ثقافيا للتوعية بأهمية المرجع يصاحب عمليات التبليغ التي يقوم بها الخطباء الحسينيون في الامة الا ان الخشية أن يتخذ ذلك للتمجيد بأشخاص بعينهم وليس لمبدأ نظام الملة الكوني.

ب: نموذج القيادة غير المباشرة للمرجع من خلال دستور إسلامي حاكم.

وهو نموذج محدود جداً كان يمثله السيد شريعة مداري «قدس سره»، وكان يرى هذا النفر من المراجع أن في الدستور ضمانا لحقوق الأمة في زمن الغيبة، وإن دور المرجع في هذه الحالة دور المستشار الذي يصنع التوجيه ويراقب تطبيق الدستور، ويرون أن الولاية تتحقق للمرجع القائد غير المباشر من خلال ممارسة دستورية في حدود النص الشرعي في غيبة الإمام (عج).

ولكن المرجع الكبير الميرزا النائيني (قدس سره) يعيب على هذا النموذج رأيه، ولقد جاء في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) ما قاله الإمام الحجة (عج) في الرؤيا للميرزا النائيني (قدس سره).

والذي يظهر منه؛ هو أن الذي يتولى الحكم بغير ما تأهل له من الله تعالى، واحتل المنصب في حكم الناس، هو بالأصل غاصب سود الله تعالى وجهه بالغصبية، وقد تلوثت يداه بهذه الجريمة، والدستور الذي يسمونه اسلامي؛ هو بمثابة ما يغسل به الغاصب يديه الملوثتين بالغصب.

وطلب الدستورية والاكتفاء بها، هو كإجبار الأمة (الامرأة السوداء المسترقة) التي تلوثت يدها على غسلها، أي الدستورية محاولة لتغطية واقع سيئ، وهو فعل لا يعني شيئاً أمام واقع الغصب والعبودية لغير الله تعالى.

ص: 386

ج: نماذج المراجع من يرى أن حدود ولايته العامة تحقق له في مقلدیه فقط.

ومن خلال الرابطة الدينية التي تجمع الناس على رسالته العملية وعلى وكلائه الذين ينقلون للناس فتاواه؛ فولايته لا تتجاوز الحسبة(84).

وكثير من المراجع الكرام رحمهم الله وأغلب المراجع في زمن الغيبة هم من هذا النوع، لا قيادة مباشرة ولا طمع لهم في دستور إسلامي يتحكم في الأمة، بل قيادة غير مباشرة بعيدة عن السياسة بمعناها الليبرالي الذرائعي المقيت، بل ويرى بعضهم القليل أن التدخل في هذا النوع من السياسة الفاجرة خروج عن الدين، فهم نموذج لقيادة غير مباشرة وبدون دستور، فهم يرون السياسة الحق في انطوائهم جميعاً على عداوة الظلم ورفضه من أي كان.. ورفض الظالمين وبغضهم، وهو بحد ذاته هو جوهر السياسة في الاسلام واساس نظام الملة الذي تمثل المرجعية امتدادا له.

بمعنى ان نظام الملة (الذي هو طاعة المعصوم وبغض الظلم والظالمين)، وفي ادنی الاحوال لم يفرض ولم يوجه الى الابتعاد عن السياسة. فان رفض الظالمين هو الاساس الحقيقي الذي تبناه ائمتنا عليهم السلام بدمائهم لتصح معه عقيدتنا ولولاه فقد ضاع الدين.

د: نموذج المراجع من يرى أن الولاية لا تتحقق للمرجع ومهما كانت حدودها إلا من خلال قيادة مباشرة للامة ودستور إسلامي.

فيكون له بذلك ما يقترب مما يكون للإمام المعصوم، سواء كانت المرجعية شخصية اعتبارية لمجلس قيادي من الفقهاء أو مجتهد ولي فقيه.

وقد تحقق هذا النموذج للقيادة والولاية المطلقة في أطروحات الجمهورية الإسلامية للإمام الخميني «قدس سره»، في اجتهاد ولاية الفقيه مع أنه ليس صاحب

ص: 387

النظرية الأسبق، بل قد يكون المجلسي صاحب البحار «قدس سره»، قد حظى بمثل هذا النموذج مع فارق في البيئة والمحيط؛ وكان للإمام محمد باقر الصدر «قدس سره» رسالة في طروحات الجمهورية الإسلامية بلغها إلى الإمام الخميني إبان الثورة الاسلامية الايرانية.

ه: ومن المراجع من يرى أن الولاية لا تتحقق للمرجع ومهما كانت حدودها إلا من خلال أجهزة مؤسساتية:

فقد تعدى هذا النموذج من المراجع توقیفات ارتباط المرجع على الوكلاء والرسالة العملية إلى بناء جسور أخرى لربطه بالأمة وربط الأمة به.

فكان له مجتهدون مستشارون في مكتبه، وكان له وكلاء في كل الأصقاع الإسلامية، وكان له مبلغون ورسل، وكان له مؤسسات ثقافية وإعلامية، وكان له تنظیمات ومنظمات للوعي والتوعية والعمل والنظم وكان له مكتبات وفروع لها في سائر البلاد الإسلامية، واما اليوم فلكثير من المراجع فضائيات تبث لمدة 24 ساعة.

إن هذه الروابط تمكن المرجع ان احسن السياسة الاعلامية إلى شرائح الامة المختلفة؛ أن يحكم السيطرة في الأمة من أجل قيادة مباشرة وإلى وعي وصحوة تطالب بدستور إسلامي في أوساط الأمة الإسلامية.

ويمكن بيان أمثلة لنماذج من هذه المرجعيات، كان ينشدها الشهيد الصدر الأول «قدس سره» في مشروعه (المرجعية الرشيدة..) والسيد الإمام الشيرازي (محمد الحسيني «قدس سره» (في مشروعه شورى الفقهاء). كعناوين لكتب تحتوي نظریات لكننا نحتاج إلى آليات مدروسة لإمكان التطبيق لبناء ادارة نظام الملة داخل ادارات الدول الظالمة لنستطيع تقيم قدرتها في قيادة الناس والمجتمع وادارة الصراع

ص: 388

مع المترفين.

ونحن عندما نستعرض التاريخ السياسي لمرجعيات الامامية؛ قد لا نذكر فترات من التاريخ تتداخل فيها هذه النماذج كلها أو بعضها، ولكن ما لا يتفق في تاريخ مرجعيات الامامية أن تخلو فترة من فترات هذا التاريخ من واحدة من هذه النماذج.

3 - وصايا معصومة تحتاجها النماذج المستقرأة للمراجع لكمال نظام الملة:

هناك ملاحظة مهمة جدا أن جميع تلك النماذج تنطوي على اهداف ظاهرة الرسل وهي انها جميعا (تنبذ الظلم وتبغض الظالمين وتسعى لبناء المجتمع على القيم الراقية والفضائل وفق نموذج انساني معصوم يجدونه مكتوبا في سيرة أئمتهم من اهل بیت الطهر عليهم السلام الا ان المطلوب في هذا النموذج هو ما طلبه المعصوم ممن اختارهم للعمل معه في ادارة المجتمع او الدولة خارج العمل الحوزوي العالمي ويمكن ن نلخصه بما يلي:

أ - جهاز للرقابة والمحاسبة يشرف عليه مجتهد منتخب بمواصفات الامام في عهده المالك الأشتر المار ذکرها، يراقب بسرية العاملين مع المرجع سواء في مكتبه او الوكلاء في الامصار.

ب - جهاز للاعلام والتوعية يحارب الترف والمترفين ويسعف المستلبين وفق سياسة استراتجية تقيه من الانزلاق للبروباجندا لتكون حصرا في خدمة اهداف نظام الملة.

ت - ان يكون المرجع بمثابة عامل الامام عليه السلام على الامة بزمانه ومكانه فيتطلب منه ان يقوم بها طلبه اللامام من عماله.

ص: 389

فقد امر الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام من عماله:

1 - معيار الكفاءة والامانة:

(لا تقبلن في استعمال عمالك وأمرائك شفاعة إلا شفاعة الكفاية والأمانة). وهكذا فان کون المرجع، فنحن لم نر في تاريخ المرجعية من اخضع جاشیته ووكلائه والعاملين معه الى هذا الضابط.

2 - معيار النجاح في الاختبار:

وقال عليه السلام لمالك الاشتر (رضوان الله عليه) حين ولاه مصر:

(ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا توهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الارزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك.

3 - المراقبة والتقييم:

(ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله

ص: 390

فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)(85).

فاذا كان لابد من دور للاستشارة عند المرجع ووكلائه كما هو حال المستشارين الذين هم اليوم امتیاز وخصيصة الحاكم، ليرضيهم اويسترضي بهم؛ فان الامام عليه السلام يدقق في مواصفات اختيارهم، فلنطلع، وليكن النموذج المقترح للمرجعية ذي صلة:

4 - الاعلاميون:

(ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الاخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك استنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لاحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالامانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت(86) عنه ألزمته)(87). وهذا ضابط ومعيار لم نعهده في مرجعياتنا ولا حتى في دولة ولاية الفقيه التي احد نماذجا لادارات التي تمثل نظام الملكة في زمن الغيبة.

ص: 391

ولعظم المهمة وخطر سياسة الناس وولايتهم يقول الامام علي عليه السلام:

(إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به)(88).

ومعناه: أن الله تعالى العاصم من الضلال، منح الحاكم نبياً أو إماماً أو غيرهما ممن تتوفر فيه شروط الحاكم المسلم حق الحكم بين الناس بمضامين الوحي، قال تعالى: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»(89).

فالتشريع الإسلامي يوجب على الحاكم المراقبة التامة لنفسه ولحاشيته وللعاملين معه، و محاسبته المحاسبة الشديدة، وعزله حين المخالفة والإصرار عليها، فلابد ان يفهم بذلك بوضوح. والتاريخ الإسلامي مملوء بوفرة من شواهد محاسبة الأمام علي عليه السلام لمن عينهم من الحكام المسلمين(90). وهذا ما نود ان نراه في نماذج المرجعيات العتيدة التي لم تخذل الناس على مر التاريخ.

هذا وان نظام الملة نظام سیاسی کوني لايختص بالشيعة، لانه يعطي القيادة العلم والاتقی والارقي في ميزات الانسانية، التي يكون معها قادرا على ان لا يظلم بل ويطهر السياسة من الظلم.

بقي علينا أن نؤكد العلاقة التلازمية بين المرجعية الحالية ونظام الملة الكوني:

ص: 392

4 - استيعاب النظام المرجعي لنظام الملة الكوني، او الاساس الشرعي للنظام المرجعي عند الامامية:

تتحقق القراءة الصحيحة للإسلام في اطروحة العصمة، لأنها تتبنى نظام الملة الذي عرّفته سیدتنا الزهراء عليها السلام، بأنه يتجسد في طاعة الناس للمعصوم، وكل ما جاء فيما قدمنا إلى الآن انما هو تعريف لمفهوم نظام الملة، وكل التفاصيل التي تلت انما جاءت بقصد استيفاء معاني ذلك النظام باعتباره النظرية السياسية الربانية لنظم امور الامة، بل ولسياسة الناس جميعا، ولأن المرجعية الدينية في مذهب الامامية القائمة على نظام الاجتهاد والتقليد، هو استيعاب تام لنظام الملة في زمن الغيبة؛ فقد اوضحنا أن بروز مفهوم المرجعية كان استجابة لأمر الله تعالى في كتابه المجيد:

«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(91).

على اساس هذه الاية كان الاجتهاد واجب کفائي. وعملا بوصايا المعصومين عليهم السلام لحال غيبة المعصوم؛ جاء تقرير الرجوع الى الحجة من بعدهم؛ فعن الإمام الحجة عليه السلام:

((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم. وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل فانه ثقتي وكتابه كتابي. وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله قلبه، ويزيل عنه شکه. وأما ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر، وثمن المغنية حرام. وأما محمد بن شاذان بن نعيم فانه رجل من شيعتنا أهل البيت. وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع فانه ملعون وأصحابه ملعونون فلا تجالس أهل مقالتهم فاني منهم برئ وآبائي عليهم السلام منهم براء. وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل

ص: 393

شيئا منها فأكله فانما يأكل النيران. وأما الخمس فقد ابيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث. وأما ندامة قوم شكوا في دين الله على ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال ولا حاجة لنا إلى صلة الشاكين. وأما علة ما وقع من الغيبة فان الله عزوجل يقول: «يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلکم تسؤكم، إنه لم يكن أحد من آبائي إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي. وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فأغلقوا أبواب السؤال عما لا يعنيكم ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فان ذلك فرجكم، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدی)(92)) (93) وفي توصيف ادق لمن تتحقق به المرجعية الرشيدة من الفقهاء، جاء عن الإمام زین العابدين؛ علي بن الحسين عليه السلام:

(فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا لبعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فانه من ركب من القبائح والفواحش مواكب فقهاء العامة، فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا کرامة. وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عن أهل البيت لذلك، لان الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بحملهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا، ليدخروا من الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم)(94).

وزيادة في الايضاح لمعنى الافضل في التصدي للمرجعية جاء عن الإمام الهادي عليه السلام:

ص: 394

(...لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الدالين عليه، والداعين إليه، والذابين عن دينه بحجج الله... ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، کما یمسك صاحب السفينة سكانها، اؤلئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)(95).

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام، وصية واضحة لمعنى المرجع الذي يجب على الناس التمسك به:

(الرجل كل الرجل؛ نعم الرجل هو الذي جعل هواه لأمر الله، وقواه مبذولة في رضا الله، يرى الذل مع الحق، اقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم إن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدية إلى دوام النعيم.. فذلكم الرجل نعم الرجل، فيه تمسكوا، وبسنته فاقتدوا أو إلى ربکم فيه فتوسلوا، فانه لا ترد دعوته ولا تخيب له طلبة)(96).

وكما نری من اوامر ووصايا المعصومين عليهم السلام لنا؛ كان الفقهاء ورواة حديث أهل البيت (عليه السلام) هم ترجمة واقعية من لدن الإمام لمعنى المرجعية، والتي كما هي الحال ليس في شخص واحد بل هي مجموعة مراجع نذروا أنفسهم لله تعالى كما يصفهم القران بالطائفة النافرة. وكأنهم عليهم السلام، يقولون: الأجدر بالقيادة والحكم بين الإنسانيين؛ هو الأكمل فيهم، فان كان للكمال قياس الميزات الانسانية للرقي، فليس غير الأعلم الورع جديرا بهذه المهمة الأقرب للإمام المعصوم في صفاته واخلاقه.

ص: 395

مستخلص البحث

لم يتسن للاسلام في قراءته الصحية ان يشكل دولته بعد استشهاد الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، التي اشرنا إلى أنها تتحدد بالضبط في قيام نظام الملة والذي بدوره يتحدد بطاعة المعصوم ولكن الثلة المؤمنة بنظام الملة شكلت على الدوام ادارة اسلامية داخل الدول الظالمة على مر التاريخ تمثل بالنظام المرجعي، وقد بيّنا من خلال هذا البحث نماذج تاريخية من النظام المرجعي، کادرات اسلامية تنظم امور الامة خلال زمن الغيبة وتستجيب لحاجاتها وتجيب على اسئلتها.

تتعين ادارة الدول بمديريها، وان السياسات في طول التاريخ وعرضه ترسمها سيرة السياسيين لا علاقة لها بمنهجهم ولا عقيدتهم ولا الفلسفة التي ينتمون اليها ومع هذا فالحاجة لهم لابد منها، وادارات الدول ضرورة لا يمكن الاستغناء عنا، ولذا قلنا: (ان السياسة شر لابد منه).

وعن اطروحة تطابق نظام ادارة الدولة مع العدل المهلة، قلنا أن السبب فياستبعادها هي؛ حالة جدل ازلي بين ظواهر ثلاثة هي ظاهرة رسل الله الى الناس تترا، بحيث لا يخلو منهم زمان ولا مكان، وظاهرة الترف والمترفين اعداء الله ورسله المتواجدون دوما تواجد ابليس، وظاهرة الاستلاب التي يعاني منه الانسان اما وشعوبا الموجود وجود الجهل.

فالترف: هو وافرات المال والوقت والقوة والسلطان، وما لم يصرف من هذه الوافرات في طاعة الله يصرف معصيته وطاعة الشيطان.

وعندما يكون الانسان مستلبا لا رادة له، والمترفون يدعونه لوافراتهم ويستغلونه بها، يقف الرسل واوصياؤهم واتباعهم عاجزون في مهامهم لدحر مشاريع الظلم

ص: 396

وبسط العدل ولا زال الجدل محتدما على هذه الشاكلة لا ينقذ البشرية منه الا طاعة المعصوم.

وكان هذا هو السبب لا غيره ليكون المعصوم على راس الدولة لبسط العدل وتحقيق اطروحة السماء في ادرات الدول، ولولا البلاء الراتب للحسين عليه السلام واهل البيت صلوات الله عليهم لما كان هناك اثر لمعاني ادارة الله تعالى في الأرض، كما تراه في النظام المرجعي على تلون نماذجه.

فالحسين عليه السلام بنی بدمه نظام الملة وبمظلومیته حفظ الثلة المؤمنة وبنهضته اسس للملة الصادقة واقعا رسالیا ممتدا، ثم أن اجتهادات علماء ال محمد في نماذج مرجعياتهم التي شرحناه في البحث متوافقة مع الممكن انتروبولوجيا من الأدرات الصادقة زمن الغيبة.

فنوذج ولاية الفقيه تليق بايران لاغلبية الثلة الصادقة هناك ولا يليق في مكان اخر، ونحن في البلدان الاخرى نرى لطفا في قيام النماذج المتوافقة لحفظ الدين وصون ثلته الصادقة.

فائمتنا عليهم السلام کانوا مرجعا للامة حتى المتسلطون انفسهم كانوا يرجعون لهم عند المشاكل الكبرى ويديرون الناس بما اراد الله تعالى وكأنهم دولة من داخل دولة الظالمين، وكذلك مراجعنا حفظهم الله تعالى كانوا يديرون الناس وكأنهم دولة داخل دولة وانهم ليعلمون ان لمراجعنا سلطة على الأمة اقوى واكبر مما لهم، ولذا فان كل الحكام الظالمين على مر التاريخ كانوا يحاولون كسب ود مراجعنا ويتحاشون الاحتكاك بهم.

ولكي تكون ادارات نظام الملة في مؤسساتنا المرجعية اقدر واوفي واقرب لنظام

ص: 397

الملة لابد لهم من الاخذ بوصايا الامام المانعة من الترف والانزلاق مع المترفين من خلال اجهزة المراقبة والمحاسبة والعيون التي جعلها الامام على الولاة والموظفين والعمال لديه ولم يجعلها على الناس كما يفعل الطغاة. ثم لم يلبس نفسه عليه السلام التنزيه وهو المعصوم علیه السلام فقال: (فلا تكفّوا عنّي مقالة بحقّ، أو مشورة بعدل؛ فإنّي لست في نفسي بفوق ما أن أُخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلّا أن يكفي اللهَّ من نفسي ما هو أملك به منّي، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوکون لربّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى)(97).

ولم يحط ذاته عليه السلام بهالة الحكم وقدسية السلطة وهو المفوض من السماء والمختار بنص الكتاب والسنة ذلك ليضرب المثل لمن يكون على راس ادارة دولة الاسلام او نظام ملته ان لايحيط نفسه وحاشيته بالقدسية فانما نحن جميعا خطاءون.

وعلى هذا الأساس تجرأنا وقلنا مانريد من اجل ادارة اصدق في الاسلام واقرب لنظام الملة في زمن الغيبة؛ من اجل ادارة اسلامية بالمعنى الدقيق يجب ان يكون راس النظام في الملة سواء كان والیا او مرجعا أن يكون رقيبا حسیبا قبل ان يكون مرجعا او حاکما والا فان النفوس ميالة الى الترف المردي ثم النزوع إلى الجدل مع غايات الرسل واهان السماء لصالح الشيطان.

ص: 398

الهوامش

1 - الروم: 29، 30 2 - ميخائيل سيرغي فيتش غورباتشوف: كان يشغل منصب رئيس الدولة في الاتحاد السوفييتي السابق بين عامي 1988 و1991 فهو رئيس الحزب الشيوعي السوفيتي بين عامي 1985 و1991. كان يدعو إلى إعادة البناء أو البريسترويكا. شارك رونالد ريغان في إنهاء الحرب الباردة وحصل على جائزة نوبل للسلام عام 1990. آتت البريسترویکا ثمارها في 26 ديسمبر 1991 عندما توارى الإتحاد السوفيتي في صفحات التأريخ بعد توقيع بوريس يلتسن على اتفاقية حل إتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية 3 - كان هتلر ينطلق من تيار عرقي ضارب الجذور في الفلسفة الاوربية بدأ مع ابيقور وطوره نیتشه واكمله هيجل؛ يعتبر العرق الابيض او الرجل لاصهب الذي يسميه توينبي (NORDYMAN)، هو الذي يجب أن يقود العالم فقط، وهو الأصل في فقرة من جمهورية افلاطون الفاضلة تعتبر الرجل الاشقر منبع التفكير والقيادة والاخرون جنود وعبيد.

4 - العلق - 6 - 7.

5 - سمى عمر بن الخطاب بيعة أبي بكر يوم السقيفة بانها فلتة (صحيح البخاري - (ج 6 / ص 2503). و جامع الأحاديث - (ج 26 / ص 227)، و الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (ج 1 / ص 28.

6 - قال رسول الله صلى الله عليه واله: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك

ص: 399

ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنکم کما لعنهم). أخرجه أبو داود، والبيهقي عن ابن مسعود) وللحديث أطراف أخرى منها: "إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص"، "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي". ومن غريب الحديث: "ولتأطرنه على الحق أطرأ": أي لتردنه إلى الحق. "ولتقصرنه على الحق قصرًا": أي لتحبسنه عليه وتلزمنه إياه (جامع الأحاديث (8 / 441)، و أخرجه أبو داود (4 / 121، رقم 4336)، والبيهقي (10 / 93، رقم 19983). أبي يعلى في مسنده ج 8 / ص 449 ح 5035، وأخرجه الطبرانی کما في مجمع الزوائد (7 / 269) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضًا: الشجرى في أماليه (2 / 230). ويقول جامع الأصول من أحاديث الرسول (أحاديث فقط) (1 / 109): ورواية الترمذي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وقَعَتْ بنو إسرائيل في المعاصي، نَهتْهُم علماؤهم، فلم ينتَهُوا، فجالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهِم، وآکَلُوهم وشَاربوهم، فضربَ اللهُ قُلُوبَ بعضهِم ببعض، ولعنهم على لسان داود و عیسی بن مریم، ذلك بما عَصَوْا وكانوا يعتدون» فجَلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مُتَّكئًا، فقال: «لا، والذي نفسي بيده، حتى تأطِروهم على الحق أطرًا». وفي المعجم الكبير (10 / 146) قال: تأطرونه تقهرونه). ولذا فان التاطير الايديولوجي بدعة اتي بها الانقلابيون في السقيفة وكانت سبب الانحراف عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله مباشرة مع ان الرسول صلى الله عليه واله حذر من التأطير ومنعه منعا باتا کما مرّ توثيقه.

7 - البحار: 75 / 359 / 74. و أعلام الدين في صفات المؤمنين - (ج 12 / ص 12)، و میزان الحكمة - (ج 4 / ص 17) (724)، و بحار الأنوار - العلامة

ص: 400

المجلسي - (ج 72 / ص 359)، وشرح نهج البلاغه (جعفری) - (ج 6 ص 322)، شرح نهج البلاغة - ابن ابی الحدید - (ج 6 / ص: 323).

8 - مثلا في خلافته؛ نفی عمر بن الخطاب أبو ذؤيب وهو رجل من بني سليم، الانه أجمل الناس وأملحهم، إلى البصرة خوف من ان تفتتن به نساء المدينة (ذكر الحادثة ابن أبي الحديد في شرح النهج، وفي طبقات ابن سعد 3 / 285، وفي تاريخ الطبري 4 / 557، وفي بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (ج 31 / ص 24).

9 - المعجم الوسيط (2 / 136) 10 - يقول معجم المناهي اللفظية ومعه فوائد في الألفاظ للشيخ بكر أبو زيد (31 / 56)، في (مجلة مجمع اللغة العربية بمصر) بحثٌ للأستاذ عبدالصبور شاهين بعنوان: ((حول كلمة عقيدة)) استقرأ فيه عدم وجود هذه اللفظة في: الكتاب أو السنة، ولا في أُمهات معاجم اللغة، وأن أول من تم الوقوف على ذكره لجمعها (عقائد) هو القشيري (م سنة 437 ه) في ((الرسالة)) كما في أولها، ومن بعده أبو حامد الغزالي م سنة 505 ه، جاء بمفردها (عقيدة)، وهي: على وزن فِعيلة جمعها: فعائل، مثل: صحيفة وصحائف.

11 - أعلام الدين في صفات المؤمنين (7 / 22) 12 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي (1 / 188) 13 - اشارة لقوله تعالى في سورة النحل: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْیاناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

14 - النحل - 89 15 - الحديث النبوي (6 / 5) 16 - تفسير الرازي (5 / 149، و (5 / 253)، و(5 / 489) وتفسير اللباب لابن عادل (5 / 214)، وفي جامع لطائف التفسير (21 / 347)، و ایضا جامع

ص: 401

الطائف التفسير (24 / 128) 17 تفسيره ابي الفتوح: ج 3، ص 392، وعن شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني (4 / 65) 18 - المائدة - 3.

19 - الإبانة الكبرى لابن بطة العكبري: (1 / 12) 20 - السنن الكبرى للنسائي (1 / 550) 21 - الروم: 30 22 - قول رسول الله صلى الله عليه واله في حديث الثقلين المتواتر: (خلفت فیکم الثقلين؛ كتب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي... الحيث 23 - يقول شيللير: ((على أن تضليل الجماهير لا يمثل أول أداة تتبناها النخب الحاكمة من اجل الحفاظ على السيطرة الاجتماعية فالحكام لا يلجئون الى التضليل الإعلامي - کما يوضح فرير - إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور ولو بصورة فجة؛ كإرادة اجتماعية، في مسار العملية التاريخية"، "إما قبل ذلك؛ فلا وجود للتضليل بالمعنى الدقيق للكلمة، بل نجد بالأحرى قمعا شاملا، ذا لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين، عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع)). يراجع النص في شيللير، أ، هربرت، "المتلاعبون بالعقول"، سلسلة عالم المعرفة، العدد)106)، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، تشرین الأول 1986، ص 5.

24 - John Curley,”The Future of the America Capitalism”, Quarter ly Review of Economics and Business.

25 - تصنيف نهج البلاغة : ج: 1، ص: 661، لبيب بیضون. وشرح نهج البلاغة -

ص: 402

ابن ابي الحديد (236 / 4)، نهج البلاغه - خطبه (31 / 10) الخطبة التي خطبها عليه السلام بصفين.

26 - نهج البلاغة: الخطبة: 216. وايضا راجع الكافي: 8 / 352 / 550.

27 - يتباهى معاوية واحفاده بملاك سياستهم الظلم: جاء في سير أعلام النبلاء: 3 / 146 / 25، البداية والنهاية: 8 / 131؛ کشف الغمّة: 2 / 167. و مقاتل الطالبيين (ص 70) وإرشاد المفيد (ص 191) وشرح ابن أبي الحديد (16 / 46) وبلفظ آخر في النصائح الكافية (ص 149)، وفي دراسات في الكافي للكليني والصحيح للبخاري - (ج 12 / ص 11): قال معاوية في النخيلة بعد صلحه مع الحسن مباشرة: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك. وانما قاتلتكم لاتأمر عليکم وقد اعطاني الله ذلك وانتم کارهون) فقتاله للحسن عليه السلام وازهاق الآلاف الارواح لم يكن من اجل العدل بل الامرة والتامر. وهذا الخليفة الأموي الوليد بن يزيد وفي نفس الملاك يتباهی بغايته الظلم ایضا:

ينشد الوليد بن يزيد:

فدع عنك ادکارك آل سعدی *** فنحن الأكثرون حصى ومالا ونحن المالكون الناس قسرا *** نسومهم المذلة والنكالا ونوردهم حياض الخسف ذلا *** وما نألوهم إلا خبالا (انظر: ابن أبي الحديد عز الدين عبد الحميد المعتزلي (شرح نهج البلاغة) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، بیروت - 1990 م، ج 2، ص 85 - 86).

28 - انظر مصادر حديث سيدتنا فاطمة هذا في:

1 - كتاب البيع للإمام الخميني، ج 2، ص 110 - طبعة النجف عام 1385.

ص: 403

2 - الموسوعة الفقهية الميسرة ج 1 - الشيخ محمد علي الأنصاري.

3 - دلائل الإمامة - محمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 113، 4 - السقيفة وفدك - الجوهري: ص 141، 5 - الاحتجاج ج 1 - الشيخ الطبرسي: ص 134، 6 - بحار الأنوار ج 29 - العلامة المجلسي: ص 223، 7 - مواقف الشيعة ج 1 - الأحمدي الميانجي: ص 460 7 - کشف الغمة ج 2 - ابن أبي الفتح الإربلي: ص 110، 8 - اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري: ص 527، 9 - الأنوار العلوية - الشيخ جعفر النقدي: ص 295، 10 - مجمع النورين - الشيخ أبو الحسن المرندي: ص 128، 11 - صحيفة الزهراء (عليه السلام) - جمع الشيخ جواد القيومي: ص 222، 12 - مجمع البحرین ج 4 - الشيخ الطريحي: ص 232، * (خطبة الزهراء عليها السلام)، نقلا عن عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه، قال: أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا و بلغها ذلك الاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها وأقبلت في لمةٍ من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص (حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنت أنَةً أجهش القوم لها بالبكاء فأرتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم. افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه والصلاة على رسوله فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها:

29 - عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: «نَحْنُ حُجج الله على خلقه،

ص: 404

وجّدتنا فاطمة عليها السلام حُجّة الله علينا».

30 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (معاني الأخبار)، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط1 (1361 ه). ص: 132.

31 - في ظلال نهج البلاغة - ج: 1: ص: 197.

32 - نهج البلاغة : الخطبة: 44.

33 - نهج البلاغة: الكتاب 53، تحف العقول: 132) وفيه «في في ء اللهَّ» بدل «في اللهَّ» وراجع دعائم الإسلام: 3571.

34 - نهج البلاغة: الكتاب 26.

35 - الغارات: 1 / 337، بحارالأنوار: 33 / 607 / 628.

36 - لنظر في نهج البلاغة - رقم الخطبة : 127 37 - عهد الامام عليه السلام لمالك الأشتر رضوان الله عليه.

38 - المستدرك على الصحيحين للحاكم (10 / 377)، المسند الجامع (5 / 200)، أخرجه عَبْدِ الله بن أحمد 1 / 118 (952)، و أخرجه أحمد 4 / 371 (19528)، وأخرجه ابن أبي شيبة (6 / 133، رقم 30081)، وابن سعد (2 / 194)، وأحمد (3 / 17، رقم 11147)، وأبو يعلى: (2 / 297، رقم 1021). و أخرجه الترمذی (5 / 663، رقم 3788)، وقال : حسن غريب. و أخرجه الطبرانی (5 / 166، رقم 4971).

39 - التوبة - 49.

40 - آل عمران - 85.

41 - المائدة - 50.

42 - التوبة - 128.

ص: 405

43 - وردت مصادر حديث سيدتنا الزهراء هذا في الصفحات السابقة.

44 - عن سلمان، ومن أبي ذر، ومن المقداد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من مات وليس له امام، مات ميتة جاهلية. ثم عرضه على جابر وابن عباس، فقالا: صدقوا وبروا، وقد شهدنا ذلك وسمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله، وان سلمان قال: يا رسول الله انك قلت: من مات وليس له إمام، مات ميتة جاهلية، من هذا الامام یا رسول الله؟ قال: من أوصيائي، یا سلمان، فمن مات من امتي وليس له إمام منهم يعرفه فهي ميتة جاهلية، فان جهله وعاداه، فهو مشترك، وان جهله ولم يعاده ولم يوال له عدوا فهو جاهل وليس بمشرك ((رواه الصدوق في الاکمال (ص 431). السنن الكبرى للبيهقي (8 / 157)، الإبانة الكبرى لابن بطة (1 / 149)، والجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (2 / 219)،، أخرجه مسلم (3 / 1478، رقم 1851). وأخرجه أيضًا: أبو عوانة (4 / 415، رقم 7153)، والبيهقي (8 / 156، رقم 16389).

45 - الأنعام - 90.

46 - النساء - 64.

47 - النساء - 59.

48 - البقرة: 30 49 - تفسير الألوسي (ج: 11 ص: 484).

50 - البقرة: 132 51 - النحل: 116 52 - القصص: 68 53 - آل عمران: 33، 34

ص: 406

54 - الحج: 75 55 - القصص: 68 56 - الأحزاب: 36 57 - البقرة: 124 58 - سمى عمر بن الخطاب بيعة أبي بكر يوم السقيفة بانها فلتة (صحيح البخاري - (ج 6 / ص 2003). و جامع الأحاديث - (ج 26 / ص 227)، والجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم - (ج 1 / ص 28.

59 - الترف، هو الاستكبار في النفوس ورفع شعار ابلیس ضد ادم عليه السلام من قبل المترفين على ابناء جلدتهم البشر (انا خير منه)، ويتجسد معنى الترف؛ بالتمتع بوافر الوقت والمال والقوة والسلطان دون الشعور بأي قدر من المسؤولية اتجاه الناس المحتاجين من هذه الوافرات، لذا فالله تعالى يسمي الترف جريمة والمترفين مجرمين.. قال تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم اولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض الا قليلا من انجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمین) (هود - 116) ولقد كان الترف والاستكبار سببا في تدمير کثیر من القرى من المجرمين على مر التاريخ، قال تعالى: واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (الإسراء - 16) وكان المترفون اخبث والد اعداء الانبياء والرسل والائمة المعصومين عليهم السلام، فهم كفرة او منافقون يسفهون الرسل والانبياء والأئمة عليهم السلام ويصدون الناس عن الهدى.. قال الله تعالى: (وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة واترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا الا بشر مثلكم ياكل مما تاكلون منه ويشرب مما تشربون) (المؤمنون - 33) في الواقع؛ المترفون كفار الا ان يضطروا

ص: 407

للنفاق کما هي حال معاوية مع الحسن عليه السلام قال الله تعالى: وما ارسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به کافرون (سورة سبأ - 34) ويشخصهم تعالى انهم يمجدون القومية ويتعنصرون لقومهم ليس لشيء، الا لأن فيها عودة الى عناصر متوافراتهم القوة والمال والسلطة والجاه.. قال تعالى مخاطبا نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله: (وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا آباءنا على امة وانا على اثارهم مقتدون (الزخرف - 23).

60 - الاستلاب؛ هو شعور من اللاوعي يسيطر على المرء ويشكل عاملا في توجيه احكامه العقلية.

61 - لقمان - 13.

62 - قال الله تعالى في الإملاء للمترفين: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّماَ نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(*) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلىَ الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهُ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران / 178، 179] 63 - قال تعالى في الاملاء والاستدراج: وَالَّذِینَ کَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِ جُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف/ 182، 183] 64 - مشكاة الأنوار - (ج 1 / ص 141)، 65 - جامع الأخبار - (ج 23 / ص 12) 66 - تحف العقول - (ج : 1: ص: 95)، و سفينة البحار: ج 78 / 320.

67 - (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (*) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا

ص: 408

مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (*) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (*) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (*) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (*) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(*)) [ص: 59 - 64] 68 - سورة الرعد - 11 69 - جامع الاصول ج 10 ص 409 وتراه في مشكاة المصابیح ص / 320. العَضوض: البِئْر البعيدة القعر (المجلسي: 8 / 323).

70 - أخرجه الطيالسي (ص 289، رقم 2178)، وأحمد (3 / 84، رقم 11817)، والبخاری (3 / 1274، رقم 3269)، ومسلم (4 / 2054، رقم 2669)، وابن حبان (15 / 95، رقم 6703).

71 - المستدرك للحاکم 4 / 478 وصححه.

72 - المستدرك للحاكم، 4 / 479 وکنز العمال، 9 / 39 واخرجه ابن عساکر کما روی صاحب الكنز 73 - الاصابه لابن حجر، 1 / 353 و السيوطي في الجامع الكبير 6 / 39، 1354 ,91 74 - کنز العمال 6 / 91.

75 - خالد محمد خالد، (ابناء الرسول في كربلاء) المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة - 1995: ص: 36.

76 - الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: دلائل النبوة ص 481 (دار الباز - مكة المكرمة 1977 م).

77 - سنن أبي داود 2 / 515 (ط الحلبي - القاهرة 1371 ه / 1952 م). 78 - انظر: سنن أبي داود 4 / 210 ح 4646 و 4647، سنن الترمذي 4 / 436

ص: 409

ح 2226، السنن الکبری للنسائي - 5 / 47 ح 8155، مسند أحمد 5 / 221، مسند أبي يعلى 2 / 177 ح 873، المعجم الكبير 1 / 55 ح 13 و ص 89 ح 136 وج 7 / 83 - 84 ح 6442 - 6444، مشکل الآثار 4 / 215 ح 3657، المستدرك على الصحيحين 3 / 75 ح 4438 و ص 156 ح 4697، تخریج أحاديث العقائد النسفية - للسيوطي -: 231.

79 - القصص: 68 80 - الحج: 75 81 - انظر مصادر حديث سيدتنا فاطمة هذا في:

1 - كتاب البيع للإمام الخميني، ج 2، ص 110 - طبعة النجف عام 1385.

2 - الموسوعة الفقهية الميسرة ج 1 - الشيخ محمد علي الأنصاري.

3 - دلائل الإمامة - محمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 113، 4 - السقيفة وفدك - الجوهري: ص 141، 5 - الاحتجاج ج 1 - الشيخ الطبرسي: ص 134، 6 - بحار الأنوار ج 29 - العلامة ألمجلسي: ص 223، 7 - مواقف الشيعة ج 1 - الأحمدي الميانجي: ص 460، 7 - کشف الغمة ج 2 - ابن أبي الفتح الإربلي: ص 110، 8 - اللمعة البيضاء - التبريزي الأنصاري: ص 527، 9 - الأنوار العلوية - الشيخ جعفر النقدي: ص 295، 10 - مجمع النورين - الشيخ أبو الحسن المرندي: ص 128، 11 - صحيفة الزهراء (عليه السلام) - جمع الشيخ جواد القيومي: ص 222،

ص: 410

12- مجمع البحرین ج 4 - الشيخ الطريحي: ص 232، * (خطبة الزهراء عليها السلام)، نقلا عن عبد الله بن الحسن باسناده عن آبائه، قال: أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا و بلغها ذلك الاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها وأقبلت في المني من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص (حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنَت أنةً أجهش القوم لها بالبكاء فأرتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم. افتتحت الكلام بحمد الله و الثناء عليه والصلاة على رسوله فعاد القوم في بكائهم فلما أمسكوا عادت في كلامها: 82 - (الخطبة 181، 330) وقال (عليه السلام) في معرض حديثه عن معصية ابلیس: کلاّ ما كان اللهّ سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا. إنّ حكمه في أهل السّماء و أهل الأرض لواحد.

83 - النساء - 59.

84 - الحسبة في اللغة: هي من العد والحساب، وتأتي بمعنى طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل. أما في الإصطلاح فقد عرفها جمهور الفقهاء بأنها: ولاية دينية حماية للدين من الضياع، و تحقيقا لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقا لشرع الله تعالى.

85 - نهج البلاغة ج 3، ص: 98.

86 - تغابیت أي تغافلت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك 87 - نهج البلاغة ج 3 ص: 98 - 99.

88 - نهج البلاغة، ج 4 ص: 283.

ص: 411

89 - النساء - 105.

90 - يقرأ المزيد من الاطلاع على هذه الشواهد: الميرزا النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة.

91 - التوبة - 122.

92 - بحار الأنوار - العلامة المجلسي قدس سره (53 / 181) 93 - الاحتجاج للطبرسي ج 2 / ص: 543.

94 - الاحتجاج للطبرسي: ج 2 / ص/ 510 - 512 / ح 337 95 - الصراط المستقيم للبيضاني: ج 3: ص: 56 99 - الاحتجاج للطبرسي: ج 2: ص: 159: ح: 192 97 - الكافي: 8 / 355 / 550 عن جابر عن الإمام الباقر (علیه السلام)، نهج البلاغة: الخطبة 216 وفيه «التقيّة» بدل «البقيّة».

ص: 412

المصادر:

1 - القران الكريم.

2 - نهج البلاغة.

3 - الرازي؛ منتجب الدين علي بن عبيد الله بن بابویه (الاربعون حدیثا عن أربعين شیخا، من أربعين صحابیا)، مؤسسة الامام المهدي عليه السلام؛ الطبعة الأولى؛ مطبعة: أمير، قم المقدسة. 1408 ه. ق.

4 - الخوارزمي؛ محمّد بن أحمد المؤيّد، (مقتل الحسين (عليه السلام))، ط 1. انوار الهدی - قم المقدسة، ایران.

5 - الطبراني؛ سليمان بن أحمد الطبراني أبو القاسم، (معجم الطبراني الكبير)، تحقيق؛ حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، مصر.

6 - النَّبهانيِّ؛ یوسف بن إسماعيل (الشَّرف المؤبَّد لآل محمَّد صلى الله عليه)، (ط 1. مصر).

7 - الحضرمي؛ ابی بکر شهاب الدين العلوي، (رشفة الصادی من بحر فضائل بنی النبي الهادی) تحقیق علي عاشور (ط 1. القاهرة دار الكتب العلمية - 1998.

8 - الزرندي؛ محمد بن يوسف الحنفي، (نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين)، ط 1، دار احیاء التراث، بیروت - 2004 - م.

9 - الجاحظ: عمرو بن بحر (البيان والتبيين) تحقيق؛ عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، ط 7، مصر- 1998 م - 1414 ه، 10 - ابن حسنویه، جمال الدين؛ (در بحر المناقب) (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري).

ص: 413

11 - ألتستري؛ نور الله الحسيني المرعشي (إحقاق الحق وإزهاق الباطل)، نشر مكتبة اية الله المرعشي ألنجفي، قم المقدسة - إيران.

12 - الذهبي، شمس الدين ابو عبد الله محمد بن احمد بن عثمان بن قایماز (میزان الإعتدال في نقد الرجال)، ط 1. دار الفکر، بیروت.

13 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (علل الشرائع) دار التراث - بیروت، ط 1 (1408 ه).

14 - السيوطي؛ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (تاریخ الخلفاء)، (ط. الشريف الرضي. قم المقدسة).

15 - المعجم الكبير للطبراني، ط 2. دار احیاء التراث العربي.

16 - المناقب المرتضوية للحنفي الترمذي، (ط. بمبئي)، (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري).

17 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (الخصال) تحقيق علي أكبر غفاري، مؤسسة الأعلمي - بيروت، ط 1، (1410 ه).

18 - الديلمي؛ شیرویه بن شهردار بن شیرویه بن فناخسرو، أبو شجاع الديلميّ الهمذاني (فردوس الاخبار)، (على ما في مناهج الفاضلين للحمويني: (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري):

19 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال)، تحقیق علي اكبر الغفاري، مكتبة الصدوق - طهران.

20 - ابن أبي شيبة؛ أبي بكر عبد الله بن محمد العبسي، (المصنف في الأحاديث والاخبار)، ط. دار الفكر، بیروت لبنان.

21 - الدمشقي؛ احمد بن يوسف (اخبار الدول وآثار الاول) (ط. بغداد)، (عنه

ص: 414

احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري).

22 - المالكي؛ المكي المشهور بابن الصباغ بن محمد بن احمد (الفصول المهمة في معرفة احوال الأئمة)، ط 2، طبع دار الأضواء بيروت - 1988م.

23 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (أمالي الصدوق)، مؤسسة الأعلمي - بيروت، طه، (1400 ه) 24 - ابن الأثير؛ أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم (أسد الغابة في معرفة الصحابة) تحقیق على محمد معوض وعادل احمد، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى (1415 ه).

25 - التميمي، عبد الواحد لامدي (غرر الحکم و درر الكلم) تحقیق، میر سید جلال الدين محدث الأرجوي - جامعة طهران، ط 3 (1360 ه).

26- كفاية الطلب للگنجي الشافعي: 318 (ط 3. دار احياء تراث اهل البيت (عليه السلام)).

27 - الكشف والبيان للثعلبي (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري ) 9 / 137 28 - اسد الغابة للجزري: 4 / 101 (ط. دار احیاء التراث العربي).

29 - مجمع الزوائد للهيثمي: 9 / 137 ح 14640 (ط. دار الفكر - بيروت).

30 - الشجري؛ الجرجاني، يحيى (المرشد بالله) بن الحسين (الموفق) بن إسماعیل بن زيد الحسني) ترتيب الأمالي الخميسية، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - 1422 ه - 2001 م.

31 - الطوسي؛ أبو جعفر محمد بن الحسن (أمالي الطوسي) تحقیق مؤسسو البعثة، دار الثقافة - قم، ط 1 (1414 ه).

ص: 415

32 - ارجح المطالب للامرتسري، (ط. لاهور) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري: 6 / 251).

34 - نشر العلمين للسيوطي، ط. حیدر آباد الدكن، (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري: 13 / 266).

35 - الشهيد الأول، أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي الجزيني (الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة) تحقیق داود الصابري مشهد ط 1، (1365 ه).

36 - البيان والتبيين: 2 / 30 (ط 2. دار ومكتبة الهلال، بیروت) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري): 9 / 476.

37 - الشامي، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (الترغيب والترهيب من الحديث الشریف) تحقيق مصطفی محمد عمارة، دار إحياء التراث - بيروت، ط 3، (1388 ه).

38 - التذكرة لابن الجوزي: 374 (ط. الغري) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري: 12 / 454).

39 - اهل البيت لتوفيق أبو علم: ص 115 (ط. السعادة بالقاهرة) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري):

19 / 4.

40 - مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: ص 101 ح 25 (ط 1. انوار الهدى قم المقدسة).

41 - الشافعي، کمال الدین محمد بن طلحة، (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) النسخة المخطوطة في مكتبة آية الله المرعشي - قم.

42 - ابن کثیر الدمشقي؛ اسماعیل بن عمر القرشي، (البداية والنهاية)، ط. دار عالم الكتب، بیروت - 1424 ه - 2003 م.

ص: 416

43 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل (مشكاة الأنوار في غرر الأخيار)، دار الكتب الإسلامية - طهران ط 1 (1385 ه).

44 - الشريف الرضي، أبو الحسن محمد أبو الحسين بن موسى الموسوي (نهج البلاغة) تحقيق كاظم المحمدي و محمد الدمشقي - انتشارات الإمام علي (عليه السلام) - قم، الطبعة الثانية (1369 ه).

45 - جوامع السياسة الالهية لابن تيمية، (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري: 8 / )546).

46 - الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي (المجازات النبوية) تحقيق طه محمد الزيني - مكتبة بصيرتي - قم.

47 - السيوطي؛ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (الدر المنثور في التفسير المأثور)، دار الفكر - بيروت ط 1 / 1414 ه).

48 - السبزواري؛ محمد بن محمد الشعيري (جامع الأخبار) أو معارج اليقين في أصول الدين، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم ط 1 (1413 ه).

49 - البيهقي؛ أبو بکر احمد بن الحسين بن علي (السنن الكبرى) تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1414 ه).

50 - الرضا؛ علي بن موسی (علیه السلام)، (فقه الرضا، المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام))، تحقيق مؤسسة أهل البيت (عليه السلام) المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام) - مشهد ط 1، (1406 ه).

51 - الطوسي؛ أبو جعفر محمد بن الحين (اختیار معرفة الرجال - رجال الكشي)، تحقيق السيد مهدي الرجائي، مؤسسة أهل البيت (عليه السلام) - قم، ط 1،

ص: 417

(1404 ه).

52 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل بن الحسن (مجمع البيان في تفسير القرآن)، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، وفضل الله اليزدي الطبطبائي، دار المعرفة - بيروت، ط 2، (1908 ه).

53 - الراوندي؛ قطب الدين، أبو الحسين عيد بن عبد الله (قصص الأنبياء) تحقیق غلام رضا عرفانیان - مشهد، (1309 ه).

54 - الراوندي؛ قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبد الله (الدعوات)، تحقيق و نشر مؤسسة المهدي (عج) ط 1 (1407 ه).

55 - الراوندي، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبد الله (الخرائج والجرائح) تحقیق ونشر، مؤسسة الإمام المهدي (عج) - قم ط 1 (1409 ه).

56 - الراوندي، فضل الله بن علي الحسيني (نوادر الرواندي)، المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف، ط 1، (1370 ه).

57 - الثعلبي؛ أحمد أبو إسحاق الثعلبي، (الكشف والبيان (تفسير الثعلبي))، دار إحياء التراث العربي سنة النشر: 1422 - 2002.

58 - الديلمي، أبو محمد الحسن بن أبي الحسن (أعلام الدين في صفات المؤمنين) تحقيق ونشر، مؤسسة ل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم ط 2 (1414 59 - الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي (ط. مصطفى محمد بمصر) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري):

60 - ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، (سنن ابن ماجة) تحقیق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث - بیروت، ط 1 (1414 ه).

61 - الحويزي، عبد علي بن جمعة العروسي، (تفسیر نور الثقلين) تحقيق السيد هاشم

ص: 418

الرسولي المحلاتي، المطبعة العلمية، قم.

62 - الحلي؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس (النوادر مستطرفات السرائر)، تحقیق نشر، مؤسسة الإمام المهدي (عج) - قم ط 1 (1908 ه).

63 - الحلي؛ أبو جعفر محمد بن منصور بن احمد بن إدريس (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي) تحقيق نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 2 (1410 ه).

64 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل بن الحسن (أعلام الوری بأعلام الهدی) تحقیق علي أكبر الغفاري، دار المعرفة - بيروت، ط 1 (1399 ه).

65 - الطريحي؛ فخر الدين (مجمع البحرین) تحقیق احمد الحسيني، مكتبة نشر الثقافة الإسلامية - طهران، ط 2، (1408 ه).

66 - الحر العاملي؛ محمد بن الحسن، (وسائل الشيعة) طبع بیروت - 1391 ه 67 - ابن قتيبة؛ أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري، (عيون الأخبار)، ط. دار الكتب المصرية، (تصویر: دار الكتاب العربي (سنة النشر - 1363 ه.

68 - التميمي، عبد الواحد لامدي (غرر الحکم و درر الكلم) تحقیق، میر سید جلال الدين محدث الأرجوي - جامعة طهران، ط 3 (1360 ه).

69 - البيهقي؛ أبو بکر احمد بن الحسين (شعب الإيمان) تحقيق أبو هاجر محمد العبد ابن بسيني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1410 ه).

70 - البيهقي؛ أبو بکر احمد بن الحسين بن علي (السنن الکبری) تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1414 ه).

71 - النسائي ؛ ابو عبد الرحمن احمد بن شعيب، (خصائص امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه) طُبع بمطبعة التقدّم بجوار القطب الدردير - بمصر - سنة 1319 ه. الناشر في إيران؛ (منشورات مكتبة الصدر - طهران (أُوفسيت)).

ص: 419

72 - البرقي، أبو جعفر احمد بن محمد بن خالد (المحاسن) تحقيق مهدي الرجائي، المجمع أبو بكر أحمد بن علي (تاریخ بغدادا مدينة السلام) المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

73 - الانطاكي، محمد مرعي امين، (لماذا اخترت مذهب اهل البيت عليهم السلام)، ط، مؤسسة تحقيقات و نشر معارف اهل البيت عليهم السلام، ایران.

74 - الأبشيهي؛ شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح، (المستطرف في كل فن مستظرف دار، ط 2، الكتب العلمية، بيروت - 1986.

75 - ابن حجر العسقلاني، (لسان الميزان)، طبع. حیدر آباد (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري) 76 - ابن عساكر الدمشقي، أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله (تاریخ دمشق) تحقیق علي البشري، دارا لفكر - بيروت ط 1 (1415 ه).

77 - أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح (تاريخ اليعقوبي) دار صادر - بيروت - ب.ت.

78 - الخوارزمي؛ الموفق بن احمد بن محمد المكي (المناقب) تحقیق: مالك المحمودي الناشر: مؤسسة النشر الاسلامية الطبعة: الثانية، قم المقدسة - 1411 ه.

79 - أبو حنيفة، النعمان بن محمد بن منصور بن احمد بن حيون التميمي المغربي (دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام القضايا والأحكام) دار المعارف - مصر، ط 2، (1389 ه).

80 - الطبرسي؛ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب (الاحتجاج على أصل اللجاج)، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمد هادي، دار الأسوة - طهران، الطبعة الأولى (1413 ه).

ص: 420

81 - ابن هلال الثقفي، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد (الغارات) تحقیق جلال الدین المحدث - طهران ط 1 (1395).

82 - ابن منظور؛ أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم، (لسان العرب) دار صادر، سنة النشر: 2003 م.

83 - ابن همام، أبو علي محمد بن همام الإسكافي (التمحيص) تحقيق نشر مدرسة الإمام المهدي (عج) - قم، ط 1 (1404 ه).

84 - ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (سيرة ابن هشام (السيرة النبوية))، تحقيق مصطفی سقا إبراهيم الأنباري، مكتبة المصطفى - قم ط 1 (1355 ه).

85 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم (لسان العرب) دار صادر - بيروت - ط 1 (1410 ه).

86 - الدهلوي أمان الله . (تجهيز الجيش) (مخطوط)، (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري: 5 / 56.).

87 - ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن یزید القزويني، (سنن ابن ماجة) تحقیق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث - بيروت، ط 1 (1414 ه).

88 - ابن کثیر، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر البصري الدمشقي (نهاية البداية والنهاية في الفتن والملاحم) تحقيق الشيخ محمد فهيم أبو عبيه، مكتب النصر الحديث، الرياض، ط 1 (1998 م).

89 - السيوطي؛ ابو الفضل جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر، (الخصائص الكبری)، نشر وتوزيع دار الکتب العلمية، بيروت، لبنان - 1405 ه - 1985 م.

90 - ابن المغازلي؛ علي بن محمد بن الطيب بن أبي يعلى، (مناقب امير المؤمنين علي بن

ص: 421

ابي طالب)، طبع دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.

91 - ابن عساكر الدمشقي، علي بن الحسين بن هبة الله (تاریخ دمشق) ترجمة الإمام علي) تحقیق محمد باقر المحمودي، دار التعارف - بيروت ط 1 (1395 ه).

92 - ابن عساكر الدمشقي، أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله (تاریخ دمشق) تحقیق علي البشري، دارالفکر - بیروت ط 1 (1415 ه).

93 - ابن طاووس، أبو القاسم علي بن موسى الحلي (مهج الدعوات ومنهج العبادات)، دائرة الذخائر - قم، ط 1 (1406 ه).

94 - ابن الرازي؛ أبو محمد جعفر بن احمد بن علي القمي (جامع الأحاديث) تحقیق السيد محمد الحسيني النيسابوري، الحضرة الرضوية المقدسة - مشهد، ط 1 (1413 ه).

95 - الطرابلسي؛ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (کنز الفوائد) إعداد عبد الله نعمة، دار الذخائر - قم ط1، (1410 ه).

96 - ابن طاووس، أبو القاسم علي بن موسی الحلي (الملاحم والفتن)، مؤسسة الأعلمي- بيروت، ط 1، (1408 ه).

97 - إبن حمویه؛ إبراهيم بن محمد بن أبي بكر (درر السمطين) (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري:

4 / 93).

98 - ابن طاووس الحسيني، أبو القاسم رضي الدين علي (کشف المحجة لثمرة المهجة) تحقيق محمد الحوت - مكتبة الإعلام الإسلامي - قم - ط 1 (1412 ه).

99 - ابن طاووس، أبو القاسم علي بن موسی الحلي (فتح الأبواب) تحقیق حامد الخفاف مؤسسة أهل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم، ط 1 (1409 ه).

100 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسى الحلي (سعد السعود)، مكتبة

ص: 422

الرضي - قم، ط 1 (1363 ه).

101 - البغدادي؛ الحافظ ابو بکر، (تاریخ بغداد)؛ (ط. دار الكتب العلمية بیروت)، 102 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسی الحلي (الدروع الواقية) تحقیق نشر مؤسسة آل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم ط 1 (1414 ه) 103 - الخلوتي؛ الجراحي المردي حسام الدين، (آل محمد) نسخة من مكتبة السيد الاشكوري بقم. (آل محمّد کتاب جمع فيه المؤلف (2337) حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وفي آله عليهم السلام، وهناك نسخة مصوّرة عن نسخة الأصل بخط المؤلّف، وهو كتاب كبير. طبعته مكتبة المفيد في بيروت سنة 1415).

104 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسی الحلي (إقبال الأعمال) تحقیق جواد القيومي مكتب الإعلام الإسلامي - قم، ط 1 (1414 ه).

105- ابن عساکر؛ ابو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، (تاريخ مدينة دمشق) تحقیق عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر - 1415 ه.

106 - الاهوازي؛ أبو محمد الحسين بن سعيد الكوفي (الزهد)، تحقيق غلام رضا عرفانیان - قم، ط 2 (1402 ه).

107 - الشافعي؛ المقدسي شهاب الدين ابو محمد عبد الرحمن بن اسماعیل بن ابراهيم، (عقد الدرر في اخبار المنتظر)، ط 1. انتشارات مسجد جمکران، قم المقدسة، ایران.

108 - الأميني؛ أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه التبريزي (کامل الزیارات) المطبعة الرضوية، النجف الأشرف، ط 1 (1359 ه).

109 - الأصبهاني، محمد باقر الخوانساري (روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات) إعداد أسد الله إسماعیلیان - قم، ط 1 (1390).

ص: 423

110 - الأصبهاني؛ أبو نعيم، أحمد بن عبد الله (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) دار الكتاب العربي - بيروت، ط 2 (1387 ه).

111 - الطباطبائي؛ محمد حسين (الميزان في تفسير القرآن) إسماعیلیان - قم - ط 2 (1393 ه).

112- ابن أبي الحديد عز الدين عبد الحميد بن محمد المعتزلي (شرح نهج البلاغة) تحقیق؛ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث - بيروت - ط 2 (1387 ه).

113 - الأسدي؛ أبو العباس أحمد بن محمد بن فهد الحلي (عدة الداعي ونجاة الساعي)، أحمد موحدي، مكتبة وحداني - طهران.

114 - ابن شهر آشوب؛ المازندراني، رشيد الدين محمد بن علي (مناقب آل أبي طالب) المطبعة العلمية - قم.

115 - ابن شعبة؛ أبو محمد الحسن بن علي الحراني (تحف العقول عن آل الرسول)، تحقیق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 2 (1909 ه).

116 - ابن فرخ؛ أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار القمي، (بصائر الدرجات)، مكتبة آية الله المرعشي - قم، ط 1 / (1404 ه).

117 - ابن الرازي؛ أبو محمد جعفر بن احمد بن علي القمي (جامع الأحادیث) تحقيق السيد محمد الحسيني النيسابوري، الحضرة الرضوية المقدسة - مشهد، ط 1 (1413 ه).

118 - ابن الأشعث؛ أبو الحسن محمد بن محمد الكوفي (الجعفريات) أو (الأشعثيات)، مكتبة نینوی - طهران - طبع في ضمن قرب الإسناد.

119 - الهيثمی؛ ابو الحسن علي بن أبي بكر بن سلیمان نور الدين (مجمع الفوائد ومنبع الزوائد)، طبع دار المامون للتراث

ص: 424

120 - ابن أبي فراس، ورام أبو الحسين (تنبيه الخواطر ونزهة النواظر)، دار التعارف ودار صعب، بيروت.

121 - احمد بن حنبل، (فضائل الصحابة)، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، طبع جامعة أم القرى، السعودية - 1402 ه - 1983 م.

122 - الجزري؛ مجد الدين الشيباني الموصلي، (المختار من مناقب الاخیار)، دار زايد للنشر والتوزيع.

124 - المختار لمجد الدين الجزري، (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري).

124 - ابن أبي الحديد عز الدين عبد الحميد بن محمد المعتزلي (شرح نهج البلاغة) تحقیق، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث - بيروت - ط 2 (1387 ه).

125 - المناقب المرتضوية للمولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي: (ط. بمبئي) عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري): 5 / 7.

126 - ابن أبي جمهور؛ محمد بن علي إبراهيم الإحسائي (عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية)، تحقيق مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء (عليه السلام) - قم - ط 1 (1403 ه) 127 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (معاني الأخبار) تحقیق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 1 (1361 ه).

128 - ابنا بسطام النيسابوريان (طب الأئمة (عليه السلام)) تحقیق محسن عقيل، دار المحجة البيضاء - بيروت ط 1 (1414 ه) 129 - حمادي؛ عمار: (الأسس الثقافية للغرب؛ جولة في مراحل تكون الثقافة الغربية) ط 1، دار الهادي، بيروت - 1425 ه، 1 - الآلوسي، أبو الفضل 130 شهاب

ص: 425

الدين السيد محمود (روح المعاني في تفسير القرآن) دار إحياء التراث - بيروت - ط (1405 ه).

130 - النعماني؛ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم (الغيبة) تحقیق، علي أكبر الغفاري مكتبة الصدوق -طهران.

131 - النسائي؛ أبو عبد الله أحمد بن شعیب (سنن النسائي) دار المعرفة - بيروت - ط 3، (1414 ه).

132 - الذّهبي؛ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (سير أعلام النبلاء)، بیروت - مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة - 1413 ه 133 - الأصفهاني؛ الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله، (حلية الاولياء وطبقات الاصفیاء)، بيروت - دار الكتب العلمية.

134 - الحسكاني؛ عبد الله بن عبد الله بن أحمد المعروف (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) مجمع إحياء الثقافة الاسلامية الطبعة الأولى 1411 ه 135 - الحرّاني؛ أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحلبي (تحف العقول عن آل الرسول)، طبع إيران 1379 ه.

136 - البخدشي؛ الميرزا محمد بن رستم بن قباد الحارثي (مفتاح النجا في مناقب آل العبا) (مخطوط) (عنه احقاق الحق وازهاق الباطل للتستري) (النسخة الاصلية مصنفة في لاهور عام 1124 ه).

137 - النووي؛ يحي بن شرف محي الدين أبو زکریا (حلية الأبرار وشعار الأخيار)، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مطبعة الملاح - دمشق - 1391 ه - 1971 م.

138 - الاربلي؛ ابو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح، (کشف الغمة في معرفة الأئمة)،، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان الطبعة: الثانية

ص: 426

- 1985 م.

139 - المتقي؛ الهندي علي بن حسام الدين، (کنز العمال في الأقوال والأفعال) / ط 1، الرسالة، بيروت - 1989 م. 140 - مسلم؛ ابي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (صحیح مسلم) دار الكتب العلمية - بيروت لبنان.

141 - ابن ماجة: أبي عبد الله محمد بن یزید القوزيني: سنن ابن ماجه دار السلام للتوزيع والنشر - الرياض 142 - ابو داوود، سلیمان بن الاشعث السجستاني؛ (سنن أبي داود) دار الكتب العلمية - لبنان بيروت 143 - النسائي؛ ابو عبد الرحمن احمد بنشعيب بن علي النسائيدار السلام للنشر والتوزيع - الرياض.

144 - احمد بن حنبل ؛ (المسند)، دار الحديث - القاهرة 145 - البخاري؛ ابي عبد الله محمد بن اسماعیل بنابراهيم الجعفي (صحيح البخاري) وهو المسند الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه واله وسنته وايامه - مؤسسة الرسالة ناشرون - الموسوعة الحديثية.

146 - الدار قطني؛ علي بن عمر (سنن الدار قطني) تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة.

147 - خالد محمد خالد، ابناء الرسول في كربلاء) دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة - 1995.

148 - الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: (دلائل النبوة)، دار الباز - مكة المكرمة 1977 م).

ص: 427

ص: 428

ملامح المذهب الاقتصادي الاسلامي في عهد الامام علي (علیه السلام) الى مالك بن الحارث الاشتر (رحمه الله) واليه على مصر أ.م.د. طالب حسین فارس جامعة كربلاء كلية الادارة والاقتصاد / قسم الاقتصاد

اشارة

ص: 429

ص: 430

المقدمة:

تتزايد الحاجة في كل يوم إلى معرفة أدق وأعمق و أصدق للصورة النظرية الكاملة للمذهب الاقتصادي الاسلامي ومن منابعه الاصيلة و الاساسية والمتمثلة بالنصوص الاسلامية ألأم (الكتاب و السنة) ثم النصوص الصادرة في ضوئهما مثل النصوص الواردة عن الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، ومن أشمل النصوص للصورة الاسلامية عن المذهب الاقتصادي الاسلامي التي وردت في نهج البلاغة هو؛ عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر، فقد أحتوى العهد على ملامح لصورة متكاملة للمذهبية الاسلامية في ابعادها الاقتصادية و السياسية والاجتماعية و الاخلاقية و العقائدية وغيرها، وقد صبت في قالب واحد متکامل يعبر عن المخطط الاسلامي العام لبناء المجتمع الصالح، على أسس الرؤية الكونية الاسلامية والغايات العليا تعبر عنها و نظرية العدالة المتولدة منها، ومن أهم ميزات صورة المذهب الاقتصادي الاسلامي التي تضمنها العهد هي أولا: حالة الترابط بين البعد النظري و العملي في صورة واحدة مما يجعل العهد عينة مثالية للنصوص التي تصلح أن تكون مادة متكاملة لأستخلاص المفردات النظرية التي تبني منها عناصر المذهب الاقتصادي الاسلامي، ثانياً: كما أن هنالك ميزة أخرى هي السياق الترابطي بين البعد الاقتصادي مع الابعاد الأخرى مما يسمح لعملية البحث العلمي ممارسة استخلاص الصورة النظرية في عملية تجريد نظري غنية بالجذور المرتبطة بالموضوع قيد البحث و في ذات الوقت تعطي مرونة التعامل حلقات الترابط الضرورية بحكم طبيعة الموضوع وغايات البحث و أهدافه.

ص: 431

مشكلة البحث:

يمكن صياغة مشكلة البحث بالتساؤل العلمي التالي: ما هي ملامح المذهب الاقتصادي الاسلامي في عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر ذلك النص الاسلامي الذي تميز بخصائص المادة العلمية الغنية بالمفردات النظرية اللازمة لتوصيف الملامح الاساسية للمذهب الاقتصادي الاسلامي.

فرضية البحث:

ينطلق البحث من فرضية أساسية تتمثل؛ عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر هو مادة علمية غنية بالمفردات النظرية اللازمة لتوصيف الملامح الاساسية للمذهب الاقتصادي الاسلامي لما تميز به من شمول و تکامل في بناء أستراتيجية المذهبية الاسلامية الشاملة في بناء المجتمع الصالح.

هدف البحث:

يهدف البحث إلى أستخلاص توصيف نظري لملامح المذهب الاقتصادي الاسلامي کما يقدمها عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر بوصفه نص أسلامي غني بملامح هذه الصورة، للوصول أفضل صياغة علمية في توظيف النص قيد البحث في أغناء الرصيد العلمي المتنامي في مجال المذهب الاقتصادي الاسلامي.

منهجية البحث:

يعتمد البحث المنهج التكاملي في البحث العلمي الذي يجمع بين الاستنباط و الاستقراء من خلال تحليل موضوعي للنص في سياق أستقراء المفردات النظرية المستهدفة و توحيدها في دائرة الموضوع قيد البحث ثم نظم المفردات المستخلصة في قالب نظري واحد يمثل الصورة النظرية المستهدفة للمذهب الاقتصادي الاسلامي.

ص: 432

هيكل البحث:

وفقا لمتطلبات الاجابة عن الأسئلة التي تطرحها مشكلة البحث و البرهنة على فرضية البحث تم تقسيم هيكل البحث إلى ثلاثة مباحث؛ أختص الأول بالاطار المنهجي لتوظيف النصوص في البحث العلمي في الفكر الاقتصادي الاسلامي فيما تناول الثاني متضمنات العهد من المفردات البنائية لنظرية العدالة و الفلسفة العامة للمذهب الاقتصادي الاسلامي ثم بحث الثالث متضمنات العهد من مفردات الهيكل النظري للمذهب الاقتصادي الاسلامي.

المبحث الأول: الإطار المنهجي لتوظيف النصوص في البحث العلمي في الفكر الاقتصادي الاسلامي

تمهيد:

في هذا المبحث سنتناول منهجية توظيف النصوص في البحث العلمي في الفكر الاقتصادي الاسلامي من زاوية استكشاف أطار التحليل الملائم لتوظيف مضامين النص قيد البحث في التوصل إلى استخلاص توصيف نظري لملامح المذهب الاقتصادي الاسلامي کما يقدمها عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر بوصفه نص إسلامي غني بملامح هذه الصورة، للوصول أفضل صياغة علمية في توظيف النص قيد البحث في إغناء الرصيد العلمي المتنامي في مجال المذهب الاقتصادي الاسلامي.

ص: 433

أولا: الأهمية العلمية لنصوص عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر:

عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر هو العنوان الذي اشتهر لرسالة الامام علي (عليه السلام) الى الصحابي مالك الاشتر «رض» عندما ولاه حكم مصر عام ه، وقد حضيت هذه الرسالة بأهتمام الرواة واهل التواريخ و السير الى الحد الذي يجعلها غنية عن ذكر السند(1) وبحث قوته او ضعفه، وقد استمر الاهتمام بها في كل مراحل تطور الفكر الاسلامي وصولا الى الفكر الحديث و المعاصر فقد تناولتها اقلام العلماء والباحثين بالشرح و التحليل حتى تكون في الرصيد المعرفي الاسلامي المقدار الكبير والمتنامي من الفهم العلمي لمضامين نصوص العهد ومحاولات توظيف دلالات هذا الفهم في تقديم مقاربات متجدده لحقائق الاسلام و رؤيته في الموضوعات المختلفة وخصوصا في الموضوعات المتعلقة بالدولة ووظائفها الاجتماعية والاقتصادية، وتزداد أهمية العهد مع تزايد الحاجة إلى النصوص التي تخدم تجديد الفكر الاسلامي في هذه الابعاد المختلفة.

في ضوء ذلك جاءت القيمة العلمية الكبيرة التي يحظى بعا عهد الامام علي ع إلى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر بوصفه نص إسلامي غني بملامح الصورة النظرية الكاملة للمذهبية ا الاسلامية ومن منابعها الأصيلة و الاساسية والمتمثلة بالنصوص الاسلامية ألأم (الكتاب و السنة) ثم النصوص الصادرة في ضوئهما مثل النصوص الواردة عن الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، ومن أشمل النصوص للصورة الاسلامية عن المذهب الاقتصادي الاسلامي التي وردت في نهج البلاغة هو؛ عهد الامام علي ع الى مالك بن الحارث الاشتر واليه على مصر، فقد أحتوى العهد على ملامح الصورة المتكاملة للمذهبية الاسلامية في ابعادها

ص: 434

الاقتصادية و السياسية والاجتماعية والاخلاقية و العقائدية وغيرها، وقد صبت في قالب واحد متكامل يعبر عن المخطط الاسلامي العام لبناء المجتمع الصالح، على أسس الرؤية الكونية الاسلامية والغايات العليا تعبر عنها و نظرية العدالة المتولدة منها، ومن أهم ميزات صورة المذهب الاقتصادي الاسلامي التي تضمنها العهد هي أولا: حالة الترابط بين البعد النظري والعملي في صورة واحدة مما يجعل العهد عينة مثالية للنصوص التي تصلح أن تكون مادة متكاملة لاستخلاص المفردات النظرية التي تبني منها عناصر المذهب الاقتصادي الاسلامي، ثانياً: كما أن هنالك ميزة أخرى هي السياق الترابطي بين البعد الاقتصادي مع الأبعاد الأخرى مما يسمح لعملية البحث العلمي ممارسة استخلاص الصورة النظرية في عملية تجريد نظري غنية بالجذور المرتبطة بالموضوع قيد البحث و في ذات الوقت تعطي مرونة التعامل حلقات الترابط الضرورية بحكم طبيعة الموضوع وغايات البحث و أهدافه.

ثانيا: مؤشرات صورة الاقتصاد الاسلامي في النصوص الاسلامية.

تتضمن النصوص الاسلامية مجموعة من المؤشرات الأساسية الدالة على ملامح الصورة الكاملة للاقتصاد الاسلامي وهي تمثل مداخل لتصنيف مضامين النص المدروس وتبویب دلالاتها بما يخدم عملية توظيف متضمنات النص لاستكشاف ما يكتنزه من مفردات الصورة النظرية لحقائق الفكر الاقتصادي الاسلامي.

ومن أهم هذه المؤشرات التالي(1):

(1) اتجاه روح التشريع: يمثل أتجاه روح التشريع المؤشر المهم من بين المؤشرات الاساسية الدالة على ملامح الصورة الكاملة للاقتصاد الاسلامي وهو يعني: أن يقدم لنا النص ما تتضمنه الشريعة من أحكام تتجة بطبيعتها نحو هدف مشترك،

ص: 435

يؤكد عليه الشارع كونه يعبر عن فلسفة التشريع التي تنعكس في فلسفة المذهب الاقتصادي الإسلامي، وان هذا الهدف يعد مؤشرا ثابتا، لأجل الحفاظ عليه لابد من صياغة جملة من العناصر المتحركة وفي حدود صلاحيات سلطة التشريع، وبما يحقق هذا الهدف التشريعي، و من الشواهد على ذلك النصوص التي تناولت حرمة الربا التي تعد من العناصر الثابتة في الاقتصاد الإسلامي التي تضمنت هدف مشترك تمثل بعدم سماح الإسلام لراس المال النقدي، بالحصول على العائد المضمون في النشاط الاستثماري.

ومن أمثلة ذلك أيضا النصوص التي عبرت عن موقف الإسلام السلبي من ظاهرة (الحمي) أي اكتساب الحق في مصدر طبيعي على أساس الحيازة ومجرد السيطرة - بدون أحياء - استنادا إلى قوله (صلى الله عليه واله وسلم) ((لا حمي إلا الله ولرسوله ))(3)، فلا يكتسب حق خاص في مصادر الثروة بدون عمل، أي ما فيه (منفعة بلا نفقة)(4).

ومثال آخر، هو أتجاه النصوص في مسألة رفع اليد عن المصدر الطبيعي (مثل الأرض) بعد تعطل النشاط الاستثماري و ضرورة أعادة استثماره بشكل امثل كما في قوله (صلى الله عليه واله وسلم) ((عادي الأرض لله و لرسوله ثم لكم من بعد فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس المحتجز حق بعد ثلاث))(5) ذلك لأن ((التحجير لا يفضي للملكية إنما الإحياء الفعلي هو الذي يمنح الشخص هذا الحق))(6).

(2) الهدف المنصوص لحكم ثابت: يقصد بهذا المؤشر ان النص قد يكشف عن الهدف المحدد لحكم معين في التشريع الإسلامي لذلك يكون هذا الهدف بمثابة دالة في ملئ الجانب المتحرك في المذهب الاقتصادي الإسلامي، ووفق صيغ تشريعيه ملائمة، وهو من وظائف الدولة، بقيد الظروف والشروط الموضوعية للمرحلة

ص: 436

الاقتصادية. ومثال ذلك النص القرآني الآتي «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»(7) والنص القرآني يكتنز إشارة إلى هدف أساس، يجب أن توجه الدولة مصارف الفي لتحقيقه والمتمثل بالتوازن الإجتماعي أي عدم تركز المال بيد طبقة محدودة (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(8) لذا؛ يعتبر هذا الهدف مؤشرا ثابتا للعناصر المتحركة، وخصوصا ما يتعلق بإشباع الحاجات المشروعة للمجتمع، وبما يكفل التوازن الإجتماعي فيه(9).

(3) القيم الإجتماعية التي أكد الإسلام على الاهتمام بها: تعد القيم من عناصر المذهبية الاسلامية الاصيلة بحكم طبيعة الرؤية الكونية الاسلامية لذلك تقدم النصوص الإسلامية منظومة القيم التي يريد الإسلام تشييد بنائه الإجتماعي على أساسها، مثل المساواة والاخوة والعدالة والقسط وغيرها، وهي مصدرا أساساً للاستنباط صيغ تشريعية، تفي بمتطلبات تطور الحياة الاقتصادية والإجتماعية، وتمكن الدولة من ملئ منطقة الفراغ في المذهب الاقتصادي الإسلامي ووفق الأهداف العامة له.

(4) اتجاه العناصر المتحركة في عصر الرسالة: في ضوء الحالة الاقتصادية لمجتمع الرسالة أو العصر الإسلامي الأول، تعد الإجراءات والمواقف من مفردات الحياة الاقتصادية، التي أمر بها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بصفته ولي الأمر الذي يؤدي وظيفة بمليء منطقة الفراغ، في حدود ظروف المرحلة، ويعد هذا المنهج النبوي في مليء منطقة الفراغ هو النموذج الأكمل والتام، وكذلك يعد من المؤشرات العامة التي تصاغ في ضوئها أحكام منطقة الفراغ في أي مرحلة زمنية من قبل الدولة الإسلامية، ومن أمثلة ذلك، ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من النهي

ص: 437

عن أحتکار موارد مثل الماء والكلأ، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال ((قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أهل المدينة في مشارب النخل. انه لا يمنع فضل ماء أو كلأ))(10) وهذا النهي عن تحريم ممارسة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه ولي الأمر نظراً لحاجة مجتمع المدينة إلى الثروة الزراعية والحيوانية التي تمثل مصادر الحاجات الأساسية في الاقتصاد في تلك المرحلة.

(5) الأهداف التي حُددت للدولة في الإسلام: تعد الأهداف العامة للمذهب الاقتصادي الإسلامي والأهداف المحددة للدولة الاسلامية من المؤشرات الأساسية في استخلاص العناصر المتحركة ومن أهمهذا الاهداف التوازن الاقتصادي والضمان الإجتماعي، والأهداف العامة للمذهب الاقتصادي الإسلامي.

(6) المفاهيم الأساسية: تؤدي المفاهيم دورا كبيرا في تحديد الموقف من المقولات المذهبية في الإسلام، مثلا مفهوم الإسلام عن الملكية يرتبط بمفهوم الاستخلاف الإجتماعي والفردي أذعد الإسلام الملكية الخاصة أسلوبا يحقق ضمنه الفرد متطلبات الخلافة، من استثمار المال وحمايته وإنفاقه في مصالح الفرد والجماعة، وبالتالي يتحدد مفهوم الملكية بكونها عملية يمارسها الفرد لحساب الجماعة ولحسابه ضمن الجماعة (11) فهذا المفهوم يقوم بدو الإشعاع على بعض الأحكام، ويساندها في إصدار الموقف المذهبي من مقولة الملكية، وكذلك الحرية الاقتصادية.

لذلك تعد المفاهيم القاعدة التي ترتكز عليها العناصر المرنة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، و الأضواء الكاشفة عن نوعية التشريعات الاقتصادية الملائمة لملا منطقة الفراغ(12).

ص: 438

ثالثاً: النص ومنهجية التنظير في الاقتصاد الاسلامي.

تعتمد منهجية التنظير في الاقتصاد الاسلامي على النص بوصفه المادة الأساسية التي تعمل المنهجية على تحليلها و الكشف عن ما تتضمنه من المفردات النظرية الداخلة في تكون صورة المذهب الاقتصادي الاسلامي، وتتخذ هذه المنهجية مسار خاص في التحليل و أستخراج المفردات و بناء المركبات النظرية، ووفقا لحركة تطور الفكر الاقتصادي الاسلامي فقد مرت هذه المنهجية بمراحل تطور عدیده وواجهت أشكاليات مختلفة، وهنا وفي حدود هذا البحث نركز على الصورة المشتركة التكاملية الأبرز المساهمات العلمية في بناء منهجية التنظير في الاقتصاد الإسلامي، ووفق سياق النقاط التالية:

1. التعامل مع النص بوصفه مصدر مباشر للمفردات النظرية للمذهب الاقتصادي الاسلامي: وفق هذا المنهج يتم استنباط جوانب المذهب الاقتصادي الاسلامي من النص الاسلامي الذي يصرح بها بشكل مباشر، منفردا أو بضم مجموعة أخرى من النصوص تشترك بذات الدلالات التي تخدم الافصاح المباشر عن ذلك الجانب أو بعض مفرداته، ثم تجري عملية جمع النتائج وتنسيقها وأعادة صياغتها بشكل يتلائم مع حاجات البناء النظري للمذهب الاقتصادي الاسلامي(13).

2. التعامل مع النص بناء علوي للمفردات النظرية للمذهب الاقتصادي الاسلامي: في هذا المنهج يتم استنباط جوانب المذهب الاقتصادي الاسلامي من النص الاسلامي الذي لا يصرح بها بشكل مباشر، من خلال توظيف النص بوصفه بناء علوي يرتكز على المذهب الاقتصادي ويستمد منه أتجاهاته، لذلك يكون من الممكن أكتشاف ملامح المذهب من خلال الدلالة النظرية

ص: 439

التي تقدمها النصوص التي تمثل البناء العلوي، مثل النصوص التي تضمنت الاحكام التي نظمها الاسلام العقود والحقوق أو ما يعرف بالقانون المدني الاسلامي وكذلك الحال بالنسبة للنظام المالي الاسلامي(14).

3. التركيب بين المفردات المستنبطة للوصول للقاعدة العامة: بعد أن يتم أكتشاف المفردات النظرية للمذهب من خلال تحليل البناء العلوي، تأتي عملية التركيب بين المفردات المستنبطة لتكوين القاعدة العامة ومن خلال الربط بين القواعد العامة ذات الموضوع الواحد تنتج النظرية التي تمثل أحد مفاصل الهيكل النظري للمذهب مثل نظرية الانتاج أو التوزيع أو القيمة الخ(15).

4. التميز بين المفاهيم و الأحكام في مضامين النص: المفهوم بوصفه تصور أسلامي يفسر ظاهرة كونية أو تشريعية أو أجتماعية وفق الفلسفة العامة للمذهبية الاسلامية، يكون لهذه المفاهيم وظيفة بنائية في عملية تكوين القواعد العامة للنظريات المذهبية، وتساهم المفاهيم في أضاءة مسار أشتقاق المفردات النظرية من نصوص الاحکام بوصفها أبنية علوية للمذهب(16).

5. الموضوعية كشرط ضروري لنجاح المنهج: الموضوعية في عملية اكتشاف المذهب من النص تعني نفي الذاتية من خلال تجنب ظواهرها الأساسية وهي؛ توظيف النص لتبرير واقع معين، و محاولة دمج النص الاسلامي في أطار فکری مغایر، أو تجريد النص من ظروفه وشروطه، أو أتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص(17).

6. تجنب خداع الواقع التطبيقي: أن النصوص التي تحاكي نموذج تطبيقي سليم للمذهب الاقتصادي الاسلامي مثل النموذج التطبيقي لعصر النبوة و النموذج التطبيقي في عهد الامام علي ع، هذه النصوص لها قيمة كبيرة في

ص: 440

بیان صورة الاقتصاد الاسلامي بشرط ملاحظة خصوصية الواقع التطبيقي في كل مرحلة تاريخية وموقف النص من هذه الخصوصية لتجنب الوقوع في خداع الواقع التطبيقي اثناء عملية الاكتشاف(18).

7. النص و الديناميكية في المذهب الاقتصادي الإسلامي.

يطلق مصطلح منطقة الفراغ على الجانب التشريعي المتغير والمرن الذي يعطي ديناميكية الاستجابة للواقع المتغير، ووفقا للاصول التشريعية فأن ولي الأمر (الدولة) تؤدي وظيفة تحديد الأحكام التي تحقق متطلبات الأهداف العامة للإقتصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان(19).

هذه المرونة التي يتمتع بها المذهب الاقتصادي في الإسلام، تجعله يستطيع أن يتكيف مع تطورات الحياة الاقتصادية، ويلائم الطبيعة الديناميكية للظروف الموضوعية في الحياة الاقتصادية.

ويكون الجانب الثابت من عناصر المذهب الاقتصادي الإسلامي بمثابة مؤشرات عامة تعتمد كأساس لتحديد العناصر المرنة والمتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة الاقتصادية ومقتضياتها وعملية استنباط العناصر المتحركة من المؤشرات الإسلامية العامة تتطلب منهجية محددة لاستنباطها من النص ووفق الآتي(20):

(1) تحديد العناصر الثابتة والوقوف على مؤشراتها العامة.

(2) استیعاب طبيعة المرحلة التاريخية ووقاعها وشروطها الاقتصادية، وتحديد الأهداف التي تحددها المؤشرات العامة ووسائل تحقيقها.

(3) صياغة التشريعات المتعلقة بتلك العناصر المتحركة، وفي حدود الصلاحيات التشريعية للدولة الإسلامية.

ص: 441

المبحث الثاني: متضمنات العهد من المفردات البنائية لنظرية العدالة و الفلسفة العامة للمذهب الاقتصادي الاسلامي

أولا: الرؤية الكونية.

بوصف أن الرؤية الكونية هي التفسير الذي يؤمن به المجتمع للكون والحياة؛ وفي ضوئها تتحدد الاجابات عن الاسئلة المركزية في موضوع الغايات العليا للنشاط الحياتي ويتحدد مفهوم المثل العليا و نوع علاقة الانسان بها بوصف الفردي أو الاجتماعي، کما يتحدد في ضوئها علاقة الإنسان مع بني نوعه وكذلك مع المفردات المكونة للبيئة التي يعيش فيها (الطبيعة بمعناها الواسع)، هذه الابعاد التي تتحدد مضامينها في أطار الرؤية الكونية يتلخص الموقف فيها في مضمون الغاية العليا التي يجري في ضوئها صياغة نظرية العدالة بقواعدها التي تنظم ابعاد النشاط الحياتي وفق استراتيجية تخدم هذه الغاية العليا من خلال تلبية متطلبات الغايات الفرعية المنبثقة عن الغاية العليا، وفي ضوء قواعد نظرية العدالة العامة يجري تحديد القواعد الفرعية المنظمة لكل جانب من جوانب النشاط الحياتي العام في ابعاده الاساسية (الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية و الثقافية... الخ)، والموقف في كل بعد يمثل ما يسمى بالمذهب ففي البعد الاقتصادي يتحدد المذهب الاقتصادي وفي البعد الاجتماعي يتحدد المذهب الاجتماعي وهكذا، والمذهب الاقتصادي بوصفه مجموعة القواعد الفرعية لنظرية العدالة في الجانب من النشاط الحياتي و التي تؤمن بناء استراتيجية تنظم النشاط الاقتصادي بما يخدم القواعد الفرعية في العدالة والتي تخدم بمجموعها الغاية العليا التي حددتها الرؤية الكونية، ولكي يأخذ المذهب فرصته للتطبيق في الواقع الموضوعي لابد أن تتجسد مضامینه النظرية بكامل بناءه النظري في مجموعة

ص: 442

من المؤسسات و العلاقات التي تضع مضامين استراتيجية المذهب موضع التطبيق وهذه المؤسسات و العلاقات وغيرها من المفردات هي ما تؤلف النظام الاقتصادي، وأن مستوى تجسيد مضامين المذهب الاقتصادي الذي تتكفل به مؤسسات النظام يتوقف على عدة عوامل تتوزع في جانبين؛ الأول: المركب النظري للنظام الاقتصادي و هي مسألة تعكس كفاءة الرؤية الكونية و نظرية العدالة، و الجانب الثاني: حالة الواقع الموضوعي و ما يتيح من فرص ظهور المضامين الكاملة لاستراتيجية المذهب التي يناط بمؤسسات النظام الاقتصادي تمثيلها(21).

وفقا لما سبق فأن هناك أهمية كبيرة في أجلاء الموقف في الرؤية الكونية وفق الصياغة النظرية التي تخدم عملية التنظير للمذهب الاقتصادي، وفي حالة المذهب الاقتصادي الاسلامي تمثل النصوص القادرة أن تخدم هذا الجانب ذات أهمية بالغة في تحقيق مقاربات نظرية اعلى في هذا البعد الاساسي من ابعاد الفكر الاقتصادي الاسلامي، و من بين أهم هذه النصوص هو النص قيد البحث والذي سنحاول استكشاف المعطيات التي يقدمها في جانب توصيف الدين الاسلامي بوصفه الرؤية الكونية التي يؤمن بها المجتمع المسلم وتتصف بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية من خلال الضمانات التي توفرت من خلال منابع تكوين هذه الرؤية الكونية و المصادر الدالة على مضامينها و التجارب الواقعية الكاشفة عن البعد الموضوعي لها(22).

وفي التالي أهم الجوانب التي اضائها النص في موضوع الرؤية الكونية:

(1) الطابع العام للرؤية الكونية الاسلامية: في مواقع مختلفة من نصوص العهد اوضح الامام (عليه السلام) الطابع العام للرؤية الكونية الاسلامية وفي التالي تحليل المضامين هذه الموارد في سياق النقاط التالي:

ص: 443

(أ) المسار العام للحركة نحو الغايات العليا: في قوله (عليه السلام) «أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»(23) يبين النص أن «السعادة» وهي مقتضى التطور التكاملي تنتج عن تطبيق استراتيجية الدين في الواقع الموضوعي هذه الاستراتيجية التي تصوغها «السنن و الفرائض» بوصفها قواعد تنظم حركة التطور التكاملي صوب غايتها العليا، و أن ناتج تفاعل الفرد والمجتمع في البيئة التي تحكمها استراتيجية الدين سيكون «السعادة« وهي التعبير الاخلاقي عن بلوغ النظام الاجتماعي العام لغاياته في الرفاه العام، و خلاف ذلك يكون في اذا لم تطبق استراتيجية الدين وتم أبدالها بغيرها، فالنتيجة الحتمية هي عدم تحقق الغايات العليا للوجود الإنساني لطبيعة التلازم بين هذه الغايات و الاستراتيجية المصممة لبلوغها.

وأن مفهوم «التقوى» الذي ينصرف الى الانضباط في تحمل المسؤولية، و كذلك مفهوم «الايثار في الطاعة» الذي يدل على وعي عميق لمحتوى موضوع المسؤولية، كذلك مفهوم «النصرة» الذي ينصرف إلى الدفاع عن اعتقاد راسخ وعميق(24)، هذه المفاهيم بعانيها المتفاعلة هنا تبين الشرط الضروري للقدرة على تجسيد استراتيجية الدين وهو بناء المحتوى الداخلي للانسان في ضوء حقائق و معطيات الرؤية الكونية للاسلام، وأن المستوى المتحقق من التطبيق يعتمد على مضمون هذه المفاهيم الثلاث «التقوى» القوة التي تمنح الانضباط العالي في تحمل مسؤولية التطبيق، و الايثار في الطاعة الذي يعطي دلالة العمق الكافي لوضوح الغايات العليا، و «النصرة» التي تمثل مستوى الارادة المتولد من الادراك و الوعي الداخلي(25).

ص: 444

(ب) فاعلية العلاقة بين الرؤية الكونية و الاستراتيجية المذهبية: في قولة (عليه السلام) «وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ(26)، فَإِنَّهْ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ(27)، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلىَ عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنَّ(28) بِعُقُوبَة، وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَة(29) وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً(30)، وَلَا تَقُولَنَّ: إِنِّ مُؤَمَّرٌ(31) آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ(32) فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ(33) لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيِرَ(34). وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً(35) أَوْ مَخِيلَةً(36)، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلىَ مَا لاَ تَقْدُرِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ(37) إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ(38)، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ(39)، يَفِيءُ(40) إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ(41) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال.»(42) في هذا المقطع من النص يبين لنا الإمام (عليه السلام) الصلة والارتباط مع الله تعالى وهو المثل الأعلى في الرؤية الكونية الاسلامية، هذه الصلة يجب ان تكون مستمرة بين التكوين الداخلي للانسان الصالح مثله الاعلى بشكل متصاعد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب أن يكون التطبيق الموضوعي لاستراتيجية الدين ملتزم بالاتجاه العام لارادة المثل الأعلى و الاطار الاخلاقي والمعرفي الذي يعبر عن هذه الارادة ليتفاعل تكامليا مع قواعد الاستراتيجية و يعطي لتطبيقها موضوعيا خصائص الارادة المذهبية التي تمثلها، من هنا جاء قول الإمام (عليه السلام) بعد ان عدد مظاهر انفصال نموذج الحكم عن الصلة بالمثل الأعلى الحقيقي؛ قال «فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ» فما ينهك الدين بصفته استراتيجية في التطبيق هو عدم فاعلية العلاقة بين الرؤية الكونية والاستراتيجية المذهبية لعدم استمرار الصلة بين التكوين الداخلي للانسان الصالح بمثله الاعلى بشكل متصاعد، لذلك تكون النتيجة المؤكدة من هذا الانفصال هي ان يفقد نموذج الحكم أطاره المذهبي الذي يضمن ارتباطه بالمثل الأعلى الحقيقي و يتحول الى صورة مشوهه للمذهبية الاسلامية تفقد قيمتها

ص: 445

وفق معايير المذهبية الاسلامية للحكم الرشيد وهو عبر عنه النص ب «وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ» وهي الحوادث او المفاعيل التي ينتج عنها تبدل الدول اي تحولها من نموذج الحكم الصالح أو الرشيد الى النموذج الفاقد لأي فاعلية في مسار الغايات العليا الحقيقية.

ثانيا: نظرية العدالة.

في ضوء الغايات العليا التي تتمخض عنها الرؤية الكونية تصاغ نظرية العدالة التي تمثل الجذر الحاكم لمضامين المذهبية بأبعادها الاجتماعية و السياسية والاقتصادية، ومن خلال النص قيد البحث يمكن استخلاص ملامح نظرية العدالة التي عبرت عنها فقرات النص في صياغة تلائم متطلبات موضوع النص وهو النموذج الاسلامي في الحكم الصالح او الرشید، و يمكن ايجاز ذلك في سياق النقاط التالية:

1 - منهج الانصاف في نظرية العدالة: يظهر من خلال موارد عديدة في النص قيد البحث أن الانصاف هو المنهج الذي تتحقق من خلاله فلسفة نظرية العدالة، ومن أبرز هذه الموارد قوله (عليه السلام) «أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً(43) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ(44) حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً(45) حَتَّى يَنْزعَ(46) وَيَتوُبَ. وَلَيْسَ شْيَءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِيِر نِعْمَةِ الله وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلىَ ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ»(47)، يقدم النص مفهوم الانصاف بوصفه المنهج الذي يمنح قواعد نظرية العدالة فاعلية البعد الأخلاقي و الاعتقادي تعبيرا عن خصوصية الغايات التي تعبر عنها نظرية العدالة و توظيفا لطبيعة تركيب المحتوى الداخلي للانسان الصالح، فمنهج

ص: 446

الانصاف يكون بذلك ضمان فاعلية التجسيد الموضوعي للعدل و المظهر العملي له، وفي عبارات الفقرة قيد البحث من نصوص العهد يظهر المعنى الذي تم استخلاصه من خلال جعل الإمام (عليه السلام) للانصاف محورا للعلاقة مع الله تعالى وهي العلاقة مع المثل الأعلى ثم العلاقة مع النفس ووحدة التفاعل الاجتماعي «الاسرة» ثم مع من هم في دائرة المصالح الاجتماعية، ان بناء العلاقة مع هذه المستويات على اساس منهج الانصاف يعني ان مستوى التطور التكاملي للفرد يكون كافيا لتحمل مسؤولية تطبيق نموذج الحكم الصالح وفق المذهبية الاسلامية، لذلك يكون الظلم هو النتيجة التلقائية لغياب منهج الانصاف بوصفه جزء من القدرات اللازمة للعدل وهو مضمون قوله (عليه السلام) «قاك إلآ تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله«فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ. وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلىَ ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.»(48) اذ أن عدم بناء قدرات منهج الانصاف يفقد نظام ادارة الدولة صلته بنظرية العدالة الاسلامية ويكون بمثابة اقصاء و تعطيل للمذهبية الاسلامية وفقدان المسار الى غاياتها العليا و قطع الصلة مع المثل الأعلى الذي ترتبط به لذلك جاء الوصف أن من عطل منهج الانصاف صار ظالما و ينتهي إلى صفة المحارب لله، لأنه نهج منهج يقطع صلة النظام الاجتماعي و بالتالي المجتمع بالمثل الاعلى.

2 - مبدأ الوسط: الوسطية في تقدير فعل العدل من ناحية نطاق العدالة و موضوعها و مستوى ظهور معالم نظرية العدالة في المخطط المذهبي في ابعاده الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، في هذا المبدأ يقول الإمام (عليه السلام) «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ

ص: 447

يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ(49)، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلىَ الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ للإنصاف، وَأَسْأَلَ بالإلحاف(50)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْاعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ(51) الْمُسْلِمِيَن، وَالْعُدَّةُ للأعداء، الْعَامَّةُ مِنَ الاْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ(52) لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ.»، في هذا المقطع من النص يشير الامام الى منهج الوسطية الذي يتحقق من خلاله تعلية متصاعدة لدائرة العدل من خلال تفعيل الارادة المذهبية في الادراك والفعل الاجتماعي، وهذا يشير اليه «الرضا لدى العامة» هذا الرضا المعبر عن المزاج الاجتماعي الموافق لروح الفلسفة العامة للمذهبية الاسلامية، لذلك فمن معايير الحكم الرشيد هو تنمية هذا المزاج الاجتماعي و تلبية متطلباته وهو ما عبر عنه «فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ» و في تأكيد لذات المعني جاء في موارد أخرى من النص قيد البحث لا يسع المقام لبحثها جميعا، نشير منها قوله (عليه السلام) «وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ وَال بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، - الى قوله - فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلالَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ»(53) هذه المقطع يشير الى وظيفة الحكم الصالح في تنمية روح الفلسفة العامة للمذهبية الاسلامية في المزاج الاجتماعي و الذي يخدم تعلية متصاعدة لقيم العدل في الفعاليات الاجتماعية و الاقتصادية وغيرها.

3 - تکامل مستويات البناء القدراتي للمجتمع: من أهم مناهج نظرية العدالة في تحقيق الغايات العليا هو منهج تکامل مستويات البناء القدراتي لطبقات المجتمع، اذان التباين في مستوى البناء القدراتي ينتج عنه تباین طبقي على مستوى الفاعلين الاجتماعيين و الفاعلين الاقتصاديين و الفاعليين معرفيا، هذا التباين هو من الخصائص

ص: 448

الضرورية التلقائية لحركة التطور التكاملي وتنوع مستويات البيئة التكاملية، وهذا يشير اليه الامام (عليه السلام) بقوله «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض« الى نهاية الفقرات التي أوضحت انواع و تقسيمات الفاعلين في مختلف انواع و مستويات الفاعلية، وأن وظيفة الحكم الرشید هي أن تؤدي الدولة وظيفتها في ادامة العلاقة بين هذا المستويات في سياق التفاعل التكاملي من خلال استراتيجيات اساسية وضعتها المذهبية الاسلامية لتحقيق ذلك وهي، استراتيجية الرشد واستراتيجية التمكين و استراتيجية التصحيح الموازي(54).

المبحث الثالث: متضمنات العهد من المفردات البنائية لدور الدولة في المذهب الاقتصادي الاسلامي.

من خلال مضامين العهد يظهر بشكل واضح ابعاد مهمة من دور الدولة الاقتصادي کما يصوغه المذهب الاقتصادي الإسلامي، ويمكن استنتاج عناصر المخطط النظري لنظرية دور الدولة في المذهب الاقتصادي الاسلامي من خلال فقرات النص قيد البحث في سياق النقاط التالية:

اولا: المفاهيم الأساسية التي تدخل في بناء نظرية دور الدولة في المذهب الاقتصاد الاسلامي:

وردت في العهد الاشارة الى العديد من المفاهيم الاسلامية التي تدخل في بناء المذهب الاقتصادي الاسلامي، أذ قدم العهد صورة لمفاهيم هذه القيم من ناحية صلتها بالمذهبية الاسلامية، و بذلك نحصل على تفسير محدد لظاهرة اجتماعية أو أقتصادية في نموذج مفهوم يمكن الاعتماد عليه في تكوين صورة المذهب الاقتصادي الإسلامي، ومن هذه المفاهيم التي تضمنها العهد التالي:

1 - مفهوم التجارة والربح التجاري و مبرراته في الحياة الاقتصادية: تضمن العهد

ص: 449

التعرض لعدة حقائق تتعلق بالتجارة و منها مفهوم الربح التجاري الذي يمكن أن نستخلصه من النص التالي الذي يؤكد على الاهمية الاقتصادية للتجار ويقرنهم بذوي الصناعات فالحياة الاقتصادية لا قوام لها ((إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ(55)، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرفُّقِ(56) بِأَيْدِيهِمْ ممّا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ.))(57)، ثم يقول في موضع آخر ((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيرْاً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ(58)، وَالْمُتَرَفِّقِ(59) بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ(60)، وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ(61)، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لاَ يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا(62)، وَلَا يَجْتِرَئُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ))، هذه النصوص تبين أن مفهوم التاجر في الاقتصاد الاسلامي يشترك مع مفهوم الصانع الذي يقوم بعملية تطوير المادة الخام الى مادة أكثر ملائمة للمنفعة الاستعمالية عند المستهلك أو أي مستخدم للسلعة، فالتاجر وفق هذا المفهوم یمارس ذات النشاط الذي يعظم المنافع الاستعمالية من خلال النشاط التبادلي الذي يخلق التوافق بين المنافع الاستعمالية و التبادلية للسلعة من القيام بدور الوسيط بين المنتج و المستهلك و من خلال خلق الاتاحة في المعروض السلعي عبر النشاط التسويقي وما يتضمنه من خدمات، و هنا يتضح مفهوم التجارة في المذهب الاقتصادي الاسلامي بكونها؛ نشاط منتج من خلال توظيف عناصر انتاج من رأس المال و العمل و المعرفة للوصول الى زيادة المنافع الاستعمالية عبر خدمات النشاط التبادلي في السوق، وفي ضوء ما يعطيه النص للتاجر من مفهوم قائم على تبرير کسب التاجر بما يبذله من عمل من نوع خاص فأن الوساطة بين المنتج والمستهلك التي يقوم بها التاجر يشترط بها أن لا تتحول الى عمل طفيلي لا يقوم على بذل العمل والجهد و بالتالي او كل المذهب الاقتصادي الاسلامي للدولة حق منع العمل الطفيلي في النشاط التبادلي سواء في تبادل المنافع أو تبادل السلع(63).

ص: 450

2 - الاحتکار: وهنا جانبا من موقف المذهب الاقتصادي الاسلامي في نظريته في التجارة، من خلال دور الدولة في ضبط النشاط التجاري في نموذجه المذهبي من خلال ممارسة الدولة لدورها الاقتصادي كقوة ضبط في منع الاحتكار بوصفه خروج عن نموذج النشاط التجاري الذي يوافق النظرية، اذ يقول (عليه السلام) ((وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أَنَّ فِي كَثِير مِنْهُمْ ضِيقاً(64) فَاحِشاً، وَشُحّاً(65) قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً(66) لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلىَ الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاْحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْه، وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً:

بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ(67) )) (68)، و بوصف ان الاسعار الاحتكارية هي تعبر عن قيمة مصطنعة خلقتها ظروف الاحتكار وان الربح الناتج من القيمة التبادلية المصطنعة هو ربح غير موافق لمفهوم الربح الذي يقره المذهب الاقتصادي الاسلامي لذلك تعمل الدولة هنا على منع الاحتكار لتبي التجارة في نموذجها الاقتصادي السليم، أن مصدر الاحتكار الأساسي هو احتكار من يملك المواد الأولية المستخرجة من الطبيعة وفرض اسعار احتكارية على المنتجين الذين ينقلون ارتفاع اسعار المواد الاولية الى اسعار السلع المنتجة و بالتالي فأن هذه القيمة المصطنعة التي أوجدها الاحتكار ناشئة من تحكم بجزء من الموارد الطبيعية ولأن مبدأ التسخير يضع قواعد الانتاج من الطبيعة التي تمكن المجتمع من اشباع حاجاته التكاملية لذلك فأن حرف مسار الانتاج الاولي عن مساره و الذي ادى الى حرف مسار الانتاج الثانوي عن مسارة في سلسلة القيمة كل ذلك يضع على عاتق الدولة التدخل لمنع الاحتكار بوصفه جزء من دورها في ضمان سلامة الشكل المذهبي للانتاج و التوزيع(69)، ومن اشكال الاحتكار المهمة هو احتكار النقد الذي يسمح بفرض سعر احتكاري عنه يتمثل بالفائدة الربوية بدلا عن سعره الطبيعي وهو عائد الاستثمار او قيمته في المبادلة من السلع و اشكال الثروة(70).

ص: 451

3 - موارد الدولة المالية و ملكيتها للموارد الطبيعية ودورها في تحقيق غايات المذهب الاقتصادي: جاء الحديث في الفقرات الاولى من العهد عن «اخراج» بوصفه العنوان العام لموارد الدولة من الانواع المختلفة من ملكيتها(71)، وهو ما يمكن الدولة من اداء دورها في «العمارة» وهو المصطلح الذي يعبر عن توفر الشروط و الخائص اللازمة في البيئة الملائمة لحركة التطور التكاملي، وهذا الربط بين الخراج و العمارة تصدر نصوص العهد اذ يقول (عليه السلام) «هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جباية خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا»(72) ونلاحظ هنا الربط بين المفاهيم الثلاث «الخراج و الاستصلاح و العمارة» و دلالته في فلسفة المذهب الاقتصادي الاسلامي في تمكين الدولة لاداء وظيفتها في الضبط المذهبي لعملية ادامة توفر الشروط و الخائص اللازمة في البيئة الملائمة لحركة التطور التكاملي وهذا ما عبر عنه في موضع آخر من العهد اذ يقول (عليه السلام) «ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الاْرْزَاقَ(73)، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ»، وهنا يشير النص الى العلاقة الموضوعية بين حالة التمكين و مستوى الاتاحة في القدرات الذي تتكفل به الدولة اذا لم يتاح للفرد تحصيله من نشاطه بوصفه فاعل اقتصادي.

4 - مسؤولية الدولة في رعاية القطاع العام: في قوله ع «وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الَخَرَاجِ، لِانَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِماَرَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الَخَرَاجَ بِغَيْرِ عِماَرَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً.»(74) من خلال هذا النص يظهر موقف المذهب الاقتصادي الاسلامي في مسؤولية الدولة في رعاية القطاع العام اذ ان العلاقة بين عمارة الأرض و حجم الخراج واهمية الاخير في كمورد اساسي في موازنة الدولة والانفاق العام المحقق الأهدافها، هذه الحقيقة

ص: 452

تضع الدولة أمام مسؤولية تنمية الانتاج عبر التدخل المباشر عبر الانفاق العام او غير المباشر عن طريق دعم الاستثمار الخاص في الموارد الطبيعية التي تمثل وعاء الحراج وهذه الأبعاد تدخل تحت مفهوم العمارة الذي هو أوسع من مفهوم التنمية في المفهوم الحديث(75).

5 - مسؤولية الدولة في الحفاظ على القيم التبادلية: وفي قوله ع «وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ(76) حُكْرَةً(77) بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ(78) به وَعَاقِبْ فِي غَيِرْ إِسْرَاف(79)،»(80)، في هذا النص يطرح مفهوم الثمن العادل أو القيمة العادلة و علاقته بالاحتکار و مسؤولية الدولة في مراقبة النشاط التبادلي لضمان بقاء القيم التبادلية في صورتها المقبولة وفق المذهب الاقتصادي الاسلامي، ويتم ذلك من خلال معیار نظرية القيمة الاسلامية بوصفها میزان نظرية العدالة في هذا الجانب، أذ تقوم نظرية العدالة على عامل الندرة الطبيعية كمعيار موضوعي في عدالة التبادل فمن خلال معيار الندرة الطبيعية يتحدد الثمن وفق ندرة المادة الأولية الداخلة في تكوين السلعة ووفق ندرة كمية ونوعية العمل المطلوب لإنتاجها ووفقا لهذين العنصرين تتكون القيمة وفق معيار موضوعي، الا ان ظروف العرض و الطلب قد تتيح القدرة لدى بعض اطراف التبادل خلق ظروف ندرة مصطنعة عبر التحكم بتدفق السلع و المنافع في دورة التبادل و بالتالي تظهر الاسعار التي تتجاوز القيمة التبادلية التي تحددها العوامل الموضوعية الطبيعية، وهذه الاسعار تنشئ عن قوة الاحتكار وهي تمثل انحراف عن نموذج التبادل المقبول مذهبيا، وهنا تبرز وظيفة الدولة كقوة ضبط مذهبي تعمل على أعادة ميزان التبادل الى حالته الطبيعية العادلة، ولكون مسألة تحديد نقطة البداية في خلق القيم المصطنعة في السوق قد تجزء المسؤولية عن نشوء هذه القيم بين عدة اطراف لذلك

ص: 453

تقتضي العدالة التدرج في ممارسة سلطة الضبط في منع الاحتكار و مراقبة الاسعار من قبل اجهزة الدولة، لذلك يضع النص مبدأ النهي و الاعتدال كمعاییر اجرائية في ممارسة سلطة الضبط، كما أن مصطلح «البيع السمح« الذي ورد في النص يعبر عن البعد الشكلي في شروط التبادل و البعد الاخلاقي في فلسفة التبادل، فمن خلال تفاعل هذين البعدين يتكون لدينا مفهوم البيع السمح أو الجانب الاقتصادي لمفهوم التسامح(81) وهو مفهوم غني يعكس مضامين تكامل المذهبية الاسلامية في تنظيم ابعاد البيئة العامة للنشاط الحياتي للفرد والمجتمع.

6 - دور الدولة في بناء القدرات الانسانية: وفقا لمنهجية المذهبية الاسلامية في العلاقة بين الانسان و غاياته فأن الوسائل الموصلة الى هذه الغايات هي القدرات الانسانية التي تتولد من خلال بيئة التطور التكاملي و هي القوة المحركة لمسار التطور التكاملي نحو غايته، و الدولة بوصفها المؤسسة العليا التي تمثل الارادة المذهبية موضوعيا، فأن النص التالي في العهد يحدد مسؤولية الدولة في تنمية القدرات الانسانية و ضمان توظيفها لخدمة المجتمع الصالح أذيقول عليه السلام «ثم أعرف الكل أمرئٍ منهم ما ابلی و لا تضمَنَ بلاء أمري إلى غيره و لا تقصَرنَ به دون غايته بلائه، و لا يدعونك شرف أمرئٍ الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما»(82).

7 - المناهج التي يحددها الاقتصاد الاسلامي للدولة: يحدد المذهب الاقتصادي الاسلامي مجموعة من المناهج التي تجب ان تسعى الدولة للوصول اليها تجسيدا الدورها الذي يرسمه المذهب في تجسيد فلسفته العامة وتحقيق غاياته، و من خلال نص العهد يمكن أن نقف على بعض تلك المناهج التي حددها العهد لولي الامر وهي بمثابة المؤشرات التي يمكن في ضوئها رسم السياسة الاقتصادية في ضوء المعطيات المتحركة في الواقع الموضوعي، ومن هذه المناهج التي حددها العهد وتم

ص: 454

بحثها في نصوصه انفا في سياق المباحث السابقة هي التالي:

أ) تحقيق منهج الانصاف لتنفيذ متطلبات نظرية العدالة: من خلال بناء قدرات منهج الانصاف ليحقق نظام ادارة الدولة صلته بنظرية العدالة الاسلامية ويكون بمثابة امضاء و تشغيل لاستراتيجية المذهبية الاسلامية وضمان الحركة على المسار الى غاياتها العليا.

ب) تطبيق منهج الوسطية: الذي يتحقق من خلاله تعلية متصاعدة لدائرة العدل من خلال تفعيل الارادة المذهبية في الادراك والفعل الاجتماعي.

ج) تطبيق منهج تکامل مستويات البناء القدراتي لطبقات المجتمع: وظيفة الحكم الرشيد هي أن تؤدي الدولة وظيفتها في ادامة العلاقة بين مستويات البناء القدراتي الطبقات المجتمع في سياق التفاعل التكاملي من خلال استراتيجيات اساسية وضعتها المذهبية الاسلامية لتحقيق ذلك وهي، استراتيجية الرشد واستراتيجية التمكين و استراتيجية التصحيح الموازي.

د) منهج الضبط المذهبي للنشاط الاقتصادي: تطبق الدولة هذا المنهج من خلال التدخل المباشر في النشاط الاقتصادي عبر القطاع العام او غير المباشر من خلال توجيه حركة الانتاج عبر توظيفها لملكيتها للموارد الطبيعية و قدراتها المالية والتشريعية و مراقبتها للنشاط الاقتصادي و استخدام قوة الالزام لديها لمنع الظاهر التي تمثل انحراف عن النموذج المذهبي مثل الاحتكار الذي يمثل انحراف النشاط التبادلي عن نموذجه المذهبي.

ه) منهج أقتصاد بلا فقر 83: والذي تؤدي الدولة من خلاله وظائف عديدة للوصول الى مستوى من اداء النظام الاقتصادي يمنع ظهور ظاهرة الفقر، و ملامح

ص: 455

هذه الوظيفة تضمنتها عدة موارد من العهد و كالتالي:

1) مسؤولية الدولة في الضمان الاجتماعي: تقدم الدولة الضمان الاجتماعي للفئات دون مستوى التمكين الكافي من خلال أدارتها المبدأ التكافل العام و تطبيق مبدأ حد الكفاية لرفع مستوى التمكين الجوهري(84) هذه الابعاد تضمنتها الفقرة التالية من العهد «ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَُهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى(85) وَالزَّمْنَى(86)، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً(87) وَمُعْتَّراً(88)، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ(89) مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمًا مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ(90) صَوَافِي(91) الْاسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ لِلْاقْصىَ مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْادْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ(92)، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ(93) لِاحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ. فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ(94) عَنْهُمْ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ(95)، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ(96)، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِاولئِكَ ثِقَتَكَ(97) مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَالْاعْذَارِ إِلَی اللهِ تَعَالَی(98) يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَيِنْ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الْانصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللهِ تَعَالَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ. وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ(99) مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَی الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلىَ أَقْوَام طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ»(100).

هذه الفقرات من النص تقرر بشكل واضح مسؤولية الدولة في الضمان الاجتماعي للفئات التي تقع دون مستوى التمكين الكافي وهو المستوى الذي عبر عنه (عليه السلام) الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى(101) وَالزَّمْنَی «والذين تتكفل الدولة برفع مستوى تمكينهم من مواردها«

ص: 456

وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِ الاْسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد» و هذه الوظيفة للدولة في غاية الأهمية لتحقيق غايات المذهبية الاسلامية لانها تتعلق باتاحة المستوى الضروري من التمكين الاقتصادي لادامة التطور التكاملي لفئة من الفاعلين الاجتماعيين دون كونهم فاعلين اقتصادين اذ يقول (عليه السلام) «فَإِنَّ هؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الاْنصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللهِ تَعَالَی فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ. وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ(102) مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلىَ الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ».

الاستنتاجات والتوصيات في ضوء النتائج التي توصل اليها البحث يمكن بناء العديد من الاستنتاجات والتوصيات.

الاستنتاجات وأهمها التالي:

1: أحتوى العهد على ملامح لصورة متكاملة للمذهبية الاسلامية في ابعادها الاقتصادية و السياسية والاجتماعية والأخلاقية و العقائدية وغيرها، وقد صبت في قالب واحد متكامل يعبر عن المخطط الاسلامي العام لبناء المجتمع الصالح، على أسس الرؤية الكونية الاسلامية والغايات العليا التي تعبر عنها و نظرية العدالة المتولدة منها.

2: يقدم العهد مجموعة مهمة من المفاهيم التي تخدم عملية البناء النظري للمذهب الاقتصادي الاسلامي.

3: يتبين من العهد ملامح العلاقة بين المذهب الأخلاقي الاسلامي و المذهب

ص: 457

الاقتصادي وبما يخدم الظهور الموضوعي للمذهب الاقتصادي.

4: يقدم العهد توصيفالدور الدولة في المذهب الاقتصادي الاسلامي و منهج الحكم الرشيد أو الصالح بأبعاده المتعددة.

التوصيات و في ضوء الاستنتاجات اعلاه يمكن تقديم العديد من التوصيات:

1: توظيف ما يكتنزه العهد من مفردات بما تخدم مقاربات اعلى في عملية البناء النظري للمذهب الاقتصادي الاسلامي.

2: الاهتمام العلمي بنتائج البحوث التي تكشف المضامين المعرفية للعهد و اعتمادها كأساس لمقاربات علمية جديدة استجابة للحاجات المتجددة في الفكر الاقتصادي الاسلامي.

3: اعتماد التوصيف الذي قدمه العهد لدور الدولة الاقتصادي في بناء سياسات الحكم الرشيد في البلدان الاسلامية لتوافق العلاقة بين الرؤية الكونية للمجتمع في هذه البلدان و متضمنات انموذج الحكم الرشيد الذي يقدمه العهد.

ص: 458

المصادر القرآن الكريم.

1. أبو عبد الله محمد أبن إدريس الشافعي الأم أدار المعرفة بيروت ط 2 1973.

2. احمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار الفكرا بیروت، ب ط، ب ت.

3. د. ابراهيم حسين العسل، التنمية في الفكر الاسلامي، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت - لبنان، ط 1، 2006 م،.

4. جعفر عباسي حاجي، المذهب الاقتصادي في الإسلام، الكويت، مكتبة الألفين، ط 1، 1987.

5. جمال الدين محمد بن مكرم، أبو الفضل، ابن منظور، لسان العرب، 1405 ه، دون ذكر معلومات أخرى.

6. فالح حسين أتطور ملكية الأراضي وأصنافها في العصر الأموي أدون ذكر أي معلومات أخرى.

7. د. طالب حسین فارس الكريطي، الاقتصاد الإسلامي والفقر تأصيل نظري لمنهج اقتصاد بلا فقر في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مرکز کربلاء للدراسات والبحوث، کربلاء العراق، ط 1، 2014 م،.

8. . طالب حسین فارس الكريطي: العلاقة بين قيمة التسامح و السياحة الدينية في الاقتصاد الاسلامي والوضعي، تأصيل نظري مفاهيمي في ضوء الاقتصاد الاسلامي و دراسة تطبيقية على عينة من السائحين في محافظة كربلاء المقدسة 2015،، مجلة السبط، مرکز کربلاء للدراسات و البحوث، العدد الثاني - السنة الاولى، 1937 ه 2016 م.

9. طالب الكريطي: دور الدولة في المذهب الاقتصادي الاسلامي، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الادارة والاقتصاد - جامعة القادسية، 2004 م.

10. الصدر، محمد باقر ، اقتصادنا، منشورات مركز الأبحاث والدراسات التخصصية

ص: 459

للشهيد الصدر (قد)، تحقيق لجنة التحقيق للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قد)، ط 1، مطبعة شريعة قم، 2004 م.

11. محمد باقر الصدر، ،خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي - ضمن مجموعة الإسلام يقود الحياة -، منشورات مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قد)، تحقيق لجنة التحقيق للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قد)، ط 1، مطبعة شريعة قم، طهران إيران، 2001 م.

12. ناصر مکارم الشيرازي، نفحات الولاية، شرح عصري جامع لنهج البلاغة، منشورات مدرسة الامام علي «ع: قم - ایران، ج 10، 1482 ه،.

13. محمد باقر الناصري، مع الامام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الأشتر، دار التعارف للمطبوعات، بیروت - لبنان، ط 2، 1985،.

14. يعقوب أبن إبراهيم، أبو يوسف الخراج، دار المعرفة للنشر والطباعة، بیروت، لبنان 1979.

15. محمد شوقي الفنجري، الإسلام وعدالة التوزيع الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ط 1، 1982.

16. محمد علي التسخيري، خمسون درساً في الاقتصاد الإسلامي، المشرق للنشر، طهران، إيران، ط 3، 2003.

17. د. جعفر عباسي حاجي، المذهب الاقتصادي في الإسلام، الكويت، مكتبة الألفين، ط 1، 1987، 18. مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، منشورات مؤسسة الثقلين الثقافية، ب ط، 2012 م 19. محمد عمر شابرا، مستقبل علم الاقتصاد من منظور اسلامي، ترجمة رفيق يونس المصري، دار الفكر و المعهد العالمي للفكر الاسلامي، ط 1، 2006 م، 20. محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الاسلامية، ترجمة: هاسم محمد، ج 1، مؤسسة الهدى، ط 4، 1424 ه، 21. محمد بن الحسن، الحر العاملي، وسائل الشيعة، المكتبة الإسلامية، طهران، ط 1، 1483 ه.

ص: 460

الهوامش 1 ناصر مکارم الشيرازي، نفحات الولاية، شرح عصري جامع لنهج البلاغة، منشورات مدرسة الامام علي (عليه السلام): قم - ایران، ج 10، 1426 ه، ص 279 - 280. كذلك انظر: محمد باقر الناصري، مع الامام علي (عليه السلام) في عهده الى مالك الأشتر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، ط 2، 1985، ص 5 - 8.

2 الصدر، محمد باقر، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي - ضمن مجموعة الإسلام يقود الحياة -، منشورات مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قد)، تحقيق لجنة التحقيق للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قد)، ط 1، مطبعة شريعة قم، طهران إيران، 2001 م. ص 45.

3 احمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار الفکر، بیروت، ج 5، ص 44.

4 أبو عبد الله محمد أبن إدريس الشافعي، الأم ، دار المعرفة، بیروت، ط 2، 1973، ج 4، ص 42.

5 يعقوب أبن إبراهيم، أبو يوسف، الخراج، دار المعرفة للنشر والطباعة، بیروت، لبنان، 1979، ص 65.

6 فالح حسين، تطور ملكية الأراضي وأصنافها في العصر الأموي، دون ذكر أي معلومات أخرى، ص 15.

7 سورة الحشر، آية 7.

8 سورة النور، آية 33.

9 انظر د. محمد شوقي الفنجري، الإسلام وعدالة التوزيع، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ط 1، 1982، ص 5 - 6 .

10 محمد بن الحسن، الحر العاملي، وسائل الشيعة ج 2، المكتبة الإسلامية، طهران، ط 1، 1983 ه ص 420.

11 الصدر، محمد باقر ، اقتصادنا، منشورات مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قد)، تحقيق لجنة التحقيق للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قد)، ط 1، مطبعة شريعة قم، 2004م. ص 439.

ص: 461

12 محمد علي التسخيري، خمسون درساً في الاقتصاد الإسلامي، المشرق للنشر، طهران، إيران، ط 3، 2003، ص 199.

13 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 433.

14 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 433 - 436.

15 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 438.

16 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 439 - 441.

17 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 441 - 446.

18 محمد باقر الصدر، إقتصادنا، مصدر سابق، ص 468 - 470.

19 د. جعفر عباسي حاجي، المذهب الاقتصادي في الإسلام، الكويت، مكتبة الألفين، ط 1، 1987، ص 191.

20 محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، المصدر السابق، ص 45 - 55. 21 ينظر في ذلك: مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، منشورات مؤسسة الثقلين الثقافية، ب ط، 2012 م، ص 20 - 38، جعفر عباس حاجي، المذهب الاقتصادي في الاسلام، مصدر سابق، ص 85 - 62۔ 22 للمزيد حول الرؤية الكونية: انظر، محمد عمر شابرا، مستقبل علم الاقتصاد من منظور اسلامي، ترجمة رفيق يونس المصري، دار الفكر و المعهد العالمي للفكر الاسلامي، ط 1، 2004 م، ص 58 - 62، محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الاسلامية، ترجمة: هاسم محمد، ج 1، مؤسسة الهدى، ط 4، 1424 ه، ص 28 - 30.

23 الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات دار المحجة البيضاء، بیروت ۔ لبنان، ط 1، 2012 م، ص 392.

24 مکارم الشيرازي، نفحات الولاية، ج 10، مصدر سابق، ص 291 - 293.

20 انظر في ذلك: مکارم الشيرازي، نفحات الولاية: مصدر سابق،، ص 297.

26 أراد بحرب الله: مخالفة شريعته بالظلم والجور.

27 لايدي لك بنقمته: أي ليس لك يد أن تدفع نقمته، أي لا طاقة لك بها.

28. بجح به : کفرح لفظاً ومعنى.

ص: 462

29 البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

30 المندوحة: المتسع، أي المخلص.

31 مؤمر - كمعظم. أي: مسلط.

32 الادغال: إدخال الفساد.

33 منهكة: مضعفة، وتقول: نهکه، أي أضعفه... وتقول: نهکه السلطان من باب فهم، أي: بالغ في عقوبته.

34 الغِير - بكسر ففتح-: حادثات الدهر بتبدل الدول.

35 الابهّة - بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة -: العظمة والكبرياء.

36 المَخِيلة - بفتح فكسر-: الخيلاء والعجب.

37 يُطامن الشيء: يخفض منه.

38 الطِماح - کتاب .: النشوز والجماح.

39 الغَرْب - بفتح فسكون-: الحدة.

40 يفيء: يرجع.

41. المساماة : المباراة في السمو، أي العلو.

42 الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 393 - 394.

43 من لك فيه هوى: أي لك إليه ميل خاص.

44 أدحض: أبطل.

45 كان حرباً: أي محارباً.

46 ينزع - کیضرب - أي: يقلع عن ظلمه.

47 الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 394.

48 الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 394 - 395.

49 يجحِف برضى الخاصة: يذهب برضاهم.

50 الالحاف: الالحاح والشدة في السؤال.

51 جمِاع الشيء - بالكسر -: جمعه، أي جماعة الاسلام.

52 الصِغْو - بالكسر والفتح -: الميل.

ص: 463

53 الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 396 - 397.

54 د. طالب حسین فارس الكريطي، الاقتصاد الإسلامي والفقر تأصيل نظري لمنهج اقتصاد بلا فقر في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مرکز کربلاء للدراسات والبحوث، کربلاء العراق، ط 1، 2014 م، ص 367 وما بعدها.

55 المرافق: أي المنافع التي يجتمعون لاجلها 56 الترفق: أي التكسب بأيديهم ما لا يبلغه كسب غيرهم من سائر الطبقات.

57 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 397 - 398.

58 المضطرب باله: المتردد به بين البلدان.

59 المترفّق: المكتسب.

60 المَرَافِق: ما ينتفع به من الادوات والانية.

61 المطارح: الاماكن البعيدة.

62 لايلتئم الناس لمواضعها أي: لا يمكن التئام الناس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق من تلك الامكنة.

63 انظر في ذلك: الصدر، خطوط تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، ضمن مجموعة الاسلام يقود الحياة، مصدر سابق، ص 106 - 109.

64 الضيق: عسر المعاملة.

65 الشحّ: البخل.

66 الاحتكار: حبس المطعوم و نحوه عن الناس لا يسمحون به إلا بأثمان فاحشة.

67 المبتاع - هنا -: المشتري.

68 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 403 - 404.

69 المصدر السابق، ص 92 - 97.

70 المصدر السابق، ص 102 - 103.

71 ناصر مکارم الشيرازي، نفحات الولاية، مصدر سابق، ج 10 نص 290 - 291.

72 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 292 - 393.

73 أسبغ عليه الرزق: أكمله وأوسع له فيه.

ص: 464

74 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 401.

75 ينظر في ذلك: د. ابراهيم حسين العسل، التنمية في الفكر الاسلامي، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت - لبنان، ط 1، 2006 م، ص 120 - 122.

76. قارف: أي خالط.

77 الحُکْرَة - بالضم-: الاحتكار.

78 نَکّل: أي أوقع به النكال والعذاب، عقوبة له.

79. في غير إسراف: أي من غير أن تجاوز حد العدل.

80 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 404.

81 د. طالب حسین فارس الكريطي: العلاقة بين قيمة التسامح و السياحة الدينية في الاقتصاد الاسلامي والوضعي، تأصيل نظري مفاهيمي في ضوء الاقتصاد الاسلامي و دراسة تطبيقية على عينة من السائحين في محافظة كربلاء المقدسة 2015، مجلة السبط، مرکز کربلاء للدراسات و البحوث، العدد الثاني - السنة الاولى، 1437 ه، 2016 م، ص 207 - 212.

82 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 399.

83 ينظر في ذلك: طالب الكريطي، الاقتصاد الاسلامي والفقر، مصدر سابق، ص 178 - 185.

84 طالب الكريطي: دور الدولة في المذهب الاقتصادي الاسلامي، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة القادسية - كلية الادارة و الاقتصاد، ، ص 34 - 36.

85 البؤسی - بضم أوله -: شدة الفقر.

86 الزَمْنَی - بفتح أوله -: جمع زمين وهو المصاب بالزَمانة - بفتح الزاي - أي العاهة، يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

87 القانع: السائل.

88 المُعْتّر - بتشديد الراء -: المتعرض للعطاء بلا سؤال.

89 اسْتَحْفَظَك: طلب منك حفظه.

90 غَلّات: ثمرات.

91 صوافي الاسلام: جمع صافية، وهي أرض الغنيمة.

92 بَطَر: طغيان بالنعمة.

ص: 465

93 التافه: الحقير.

94 تُشْخص همك: أي لا تصرف اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم.

95 صعّر خدّه: أماله إعجاباً و کبراً.

96 تقتحمة العين: تكره أن تنظر اليه احتقاراً وازدراءً.

97 فَرِّغ لاولئك ثقتك: أي اجعل للبحث عنهم أشخاصاً يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون من تثق بهم.

98 بالاعذار إلى الله تعالى: أي بما يقدم لك عذراً عنده.

99 ذوو الرقّة في السن: المتقدمون فيه.

100 نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 404 - 405.

101 البؤسی - بضم أوله -: شدة الفقر.

102 ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

ص: 466

المحتويات الثوابت والإصلاحات الإدارية لنظام الحكم في عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام مالك بن الأشتر أنموذجا المقدمة...7 المبحث الأول: السيرة الشخصية للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام):...11 المبحث الثاني: الثوابت الإدارية للخليقة علي (عليه السلام) اتجاه الولاة والعمال...15 المبحث الثالث: الوظائف الإدارية في الأمصار العربية الإسلامية من خلال رسائل الخليقة علي بن أبي طالب (عليه السلام)...19 الخاتمة والنتائج:...39 الهوامش...41 ثبت المصادر والمراجع...53

ص: 467

النظرية الاقتصادية بين رؤية الامام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر وبين فيزوقراطيي عصر الانوار دراسة مقاربة مقارنة تقديم...57 أولا: الدلالة الاصطلاحية لمفهوم عصر الأنوار...59 ثانياً: الدلالة الاصطلاحية لمفهوم الفيز وقراطيون [المذهب الطبيعي...61 ثالثاً: النظام الاقتصادي بين رؤية الامام علي عليه السلام وبين المدرسة الطبيعية...64 أ - الارض هي المصدر الوحيد للثروة...64 ب - دور الفئات الاجتماعية في النشاط الاقتصادي...66 ج - جباية الضرائب الخراج...69 د - الإنفاق على الطبقات الدنيا من المجتمع...73 ه - التباين في المعاملة بين العامة والخاصة في المسائل المالية...74 ز - مفهوم الملكية الفردية....75 ح - الموقف من الصناعة والتجارة وبقية القطاعات الانتاجية...79 الخاتمة...78 الهوامش...80

ص: 468

معايير بناء الدولة بالاستناد إلى عهد الامام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر (رضوان الله عليه) هدف البحث...85 أهمية البحث...85 مشكلة الدراسة...86 المقدمة...87 المحور الاول: التراجع السياسي في العراق - الاسباب والنتائج...89 المحور الثاني: معايير من عهد الامام...94 المعيار الاول / اختيار الحكام...95 المعيار الثاني / الاتصال بالأشراف والصالحين...97 المعيار الثالث / التواضع الودود مع القاعدة...98 المعيار الرابع / النظر الى ماسبق...99 المعيار الخامس / النظرة الانسانية...100 المعيار السادس / مواكبة العلماء والحكماء...101 المعيار الثامن / توزيع الثروة...102 المعيار التاسع / الانضباط الوظيفي...104 المعيار العاشر / حماية الملكية الفردية...501 المعيار الحادي عشر / انظمة الحماية الاجتماعية...106 المعيار الثاني عشر / القيادة المباشرة منضبطة الزمن...108 المحور الثالث: الرؤية المنهجية لمواجهة التحديات...110

ص: 469

اولا: مبدأ التسامح والعفو ابتداءاً:...111 ثانيا: اختيار الحاشية...112 ثالثا: المرونة في التعامل السياسي وعدم الانغلاق:...113 ثالثا: الاستثمار والخصخصة اساس اصلاح الاقتصاد...114 رابعا: التشريع اساس الاصلاح...115 خامسا: الاهتمام بالتنمية البشرية...117 الخاتمة والتوصيات...118 الهوامش...122 المصادر...126 الفكر الاقتصادي الإصلاحي للإمام علي (علية السلام) وإمكانية تطبيقه في الاقتصاد العراقي أهمية البحث:...132 مشكلة البحث:...132 خطة البحث:...133 الحركة الإصلاحية في دولة الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)...138 مفهوم الإصلاح الاقتصادي...134 أولاً - الإصلاح في النظام الإداري:...135 الأول: الفصل من الوظيفة:...144 الثاني: استعادة المبالغ المختلَسة:...145 الثالث: العقوبة الجزائية:...145

ص: 470

الرابع: التشهير برموز الفساد:...146 ثانياً - الإصلاح الاقتصادي:...148 ثالثاً - الإصلاح الاجتماعي:...163 الإصلاحات السياسية...167 بناء الجيش:...171 التوصيات...176 الهوامش...178 نظرية الاستدامة اللانهائية وابعادها في فكر الامام علي (عليه السلام ) لبناء الدولة المستدامة دراسة تحليلية لعهد مالك الأشتر المستخلص...185 المنهجية العلمية للدراسة...187 اولا: مشكلة الدراسة...187 اهمية الدراسة:...188 هدف الدراسة:...189 فرضيات الدراسة:...190 اسلوب الدراسة:...191 الجانب التحليلي...192 اولاً: تحليل البعد الاقتصادي (جباية خراجها)...199 ثانياً: تحليل البعد التنافسي (جهاد عدوها)...198

ص: 471

ثالثاً: البعد الاجتماعي (استصلاح اهلها)...201 رابعاً: البعد البيئي (عمارة بلادها)...204 خامسا: البعد المعرفي المستدام...207 الاستنتاجات والتوصيات...209 اولاً: الاستنتاجات...209 ثانياً: التوصيات...210 المصادر:...212 أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الاقتصادي العام في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أسباب اختيار البحث...215 فرضيات البحث...215 الفرضية الأولى:...215 الفرضية الثانية:...216 مفهوم الاقتصاد عند الإمام علي (عليه السلام)...216 الموازين الأعدل أساس أنموذج التوازن الاقتصادي...216 مدى إمكانية تطبيق الأنموذج المستنتج في إصلاح الخلل في التوازن الاقتصادي العام....217 التفعيل المبكر لمنطقة الفراغ التشريعي لمعالجة الحالات القائمة واستيعاب المستجدات المستقبلية...219 تطبيق النموذج المستنتج في اصلاح الاقتصاد العراقي...221 الاستنتاجات:...222

ص: 472

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر الدستور الاداري للدولة الرائدة المقدمة:...225 أولاً: الاعتبارات المبدئية في تولي المسؤولية:...225 توصیف الاعمال والمهام:...228 ثانياً: القضاء:...229 الزراعة عمارة الارض:...230 وأوصى (عليه السلام) بأن يُعاقب المحتكر:...231 الكادر الوظيفي:...231 التنظيم اللامركزي للسلطة الادارية:...233 الرقابة الفعالة:...234 البعد الاجتماعي للأدارة:...235 التوصيات والمقترحات:...237 مصادر البحث:...238 الهوامش...239 عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بين وجهة النظر الاقتصادية والدروس المستفادة منها على واقع الأقتصاد العراقي المقدمة:...243 مشكلة البحث...243 أهمية البحث...244

ص: 473

فرضية البحث...244 هدف البحث...244 المبحث الأول: الإطار المفاهيمي لعهد أمير المؤمنين المالك الأشتر في ولاية مصر...245 أولاً: نبذة مختصرة لشخصية أمير المؤمنين (عليه السلام)...265 ثانياً: شخصية مالك الأشتر...246 ثالثاً: أوضاع ولاية مصر وسماتها للمدة (24 - 35 ه)...247 رابعاً: بعض المضامين الاقتصادية لعهد أمير المؤمنين المالك الأشتر...248 1 - نظام السوق...249 2 - الإدارة الكفء وحُسن التدبير...249 3 - الأزمة أو الدورات الاقتصادية...251 4 - مبدأ الشفافية...251 5 - الحكم الرشید...252 المبحث الثاني: التحليل الاقتصادي لمضمون عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر...254 أولاً: بعض المفاهيم الاقتصادية في عهد أمير المؤمنين...254 1 - نظام السوق...254 2 - الإدارة الكفء وحُسن التدبير...259 3 - الأزمة أو الدورات الاقتصادية...261 4 - مبدأ الشفافية...262 5 - الحكم الرشید...264

ص: 474

ثانياً: السياسة الاقتصادية في عهد أمير المؤمنين...265 المبحث الثالث: الدروس المستفادة لكتاب أمير المؤمنين...266 التحقيق التنمية المستدامة في العراق...266 أولاً: الدروس التنموية...266 ثانياً: الدروس الإصلاحية...267 ثالثاً: الدروس المؤسساتية...269 الخاتمة...271 الهوامش...273 قائمة المصادر...279 إدارة الدولة في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) المقدمة...287 تمهید...291 المبحث الاول: نظام الطبقات الوظيفية في الدولة وتوزيع الأدوار...295 أولاً: طبقة الجند:...296 ثانياً: طبقة أهل الخراج...297 ثالثاً: طبقة الإداريين:...298 رابعاً: التجّار و الصنّاع:...298 خامساً: الطبقة السفلى:...299 المبحث الثاني: الوصف التفصيلي للطبقات الوظيفية...300

ص: 475

الطبقة الأولى: الجند...300 أولاً: الشروط و المواصفات التي يجب أن يتصف بها قادة الجند...300 ثانياً: كيفية اختيار قادة الجند:...302 ثالثاً: طريقة تعامل الحاكم مع القادة:...303 رابعاً: ضرورة التقريب بين القائد و جنوده...305 الطبقة الثانية: القضاة...306 أولاً: اختيار القضاة و مواصفاتهم:...306 ثانياً: حقوق القضاة على الحاكم:...309 ثالثاً: استقلال القضاء:...312 رابعاً: وجوب مراقبة القضاة:...312 الطبقة الثالثة: العمّال...313 أولاً: صفات طبقة العمّال و معايير التعيين و الاختبار:...313 ثانياً: حقوق العال على الحاكم...314 ثالثاً: عدم إغفال مراقبة العمّال:...315 الطبقة الرابعة: الوزراء...317 أولاً: مواصفات الوزراء:...317 ثانياً: آليات و معايير اختيار الوزراء...318 ثالثاً: التخصص في توزيع المهام على 319 رابعاً: تعامل الحاكم مع الوزراء:...320 الطبقة الخامسة: طبقة المستشارين...322

ص: 476

الخاتمة...324 الهوامش...327 فهرس المصادر والمراجع...332 إدارة الدولة دراسة مقارنة بين النظام الاداري الاسلامي والنظم الادارية المعاصرة (حكومة الإمام علي عليه السلام إنموذجا) الفصل الأول: التمهيد...337 1 - الاسلام مفهوم يعرف من خلال مصادیقه:...337 2 - العقيدة الكاملة للاسلام تتجسد في نظام الملة :...341 3 - اطروحة تطابق السلطة في ادارة الدول مع العدل:...345 الظواهر والسنن الكونية الدافعة لقيام ادارات الدول:...346 مفارقات بين النظم الادارية للدول تبرز في سياساتها...348 4 - نظام الملة لادارة الدولة في الاسلام:...350 5 - دعامتا النظم الادارية للحكم في الدول:...352 6 - الرقابة والمحاسبة روح ادارة الدولة الاسلامية:...353 الفصل الثاني: غياب مصداق ادارة الدولة العادلة في الاسلام...356 1 - السعي للكمال سنة كونية والانقلاب علیه طاريء وهو الى زوال:...357 2 - هل تلازم السلطة والقوة في ادارة الدول القائمة حق ام باطل؟...360 3 - مسوغات قيام إدارات الدول:...361 ثانيا - الاصطفاء والاختيار منهج الفطرة والدين وجوهر هما:...362 4 - الانقلاب على جوهر الدين ونظام ملته:...364

ص: 477

5 - القوة والسلطة من اجل العدل:...364 الفصل الثالث: الحلقة المفقودة بين اداراة الدولة كسلطة وبين العدل كغاية...366 1 - جدلية الظواهر الكونية التاريخية الثلاث وتعثر النظام الاداري الرباني:...366 2 - واقع جدل الظواهر الثلاث يغلب تحذيرات الرسالة:...371 3 - تحذيرات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تغير نظام الاختيار الرباني لادارة الدولة إلى ملك عضوض:...373 الفصل الرابع: ادارة الدولة وفق (نظام الملة)...376 1 - تخلف الامامية عن حكم انفسهم:...376 2 - معاني القيادة والادارة تتشخص في حدود الولاية المرجع:...378 3 - الأئمة يمهدون لنظام الملة في زمن الغيبة بنظام الوكلاء...378 4 - شروط معتبرة في الوكيل المعتمد:...379 5 - لكي يكون النظام المرجعي ادارة لنظام الملة (81):...381 6 - استشعار العجز ازاء المعصوم:...382 الفصل الخامس: نماذج من النظام المرجعي وامکان تمثيله لنظام الملة في الادارة:...384 1 - تقارب النماذج المرجعية مع نظام الملة وتباعدها:...384 2 - استقر أنا تاريخيا نماذج المرجعيات الدينية على اساس امکان قیادتها للامة وادارتها للنظام المرجعي داخل نظام الدول فوجدنا النماذج التالية:...384 3 - وصایا معصومة تحتاجها النماذج المستقرأة للمراجع لكمال نظام الملة:...389 4 - استيعاب النظام المرجعي لنظام الملة الكوني، أو الأساس الشرعي للنظام المرجعي عند الإمامية:...393

ص: 478

مستخلص البحث...396 الهوامش...399 المصادر:...413 ملامح المذهب الاقتصادي الإسلامي في عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك بن الحارث الأشتر (رحمه الله) واليه على مصر المقدمة:...431 المبحث الأول: الإطار المنهجي لتوظيف النصوص في البحث العلمي في الفكر الاقتصادي الإسلامي...433 المبحث الثاني: متضمنات العهد من المفردات البنائية لنظرية العدالة والفلسفة العامة للمذهب الاقتصادي الإسلامي...442 المبحث الثالث: متضمنات العهد من المفردات البنائية لدور الدولة في المذهب الاقتصادي الإسلامي...449

ص: 479

ص: 480

المجلد 5

هوية الکتاب

نظام الحکم و ادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله أعمال الموتمر العلم الوطني المشترك الأول المؤسسه علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الكوفة

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (2016:1: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582395 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1210 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP38.02.M8 N5 2018 LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (2016:1: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة 40 للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1) نظام الحکم و ادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر رحمه الله أعمال الموتمر العلم الوطني المشترك الأول المؤسسه علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الكوفة لسنة 1438 ه - 2016 م (المحور الاجتماعي والنفسي) الجزء الخامس اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف:

07728243000 - 07815016633 الموقع الالكتروني:

WWW.inahj.org الايميل:

Inahj.org@gmail.com تنويه: إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

المردود السلبي لتقريب الخواص (قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م. د. علي رحيم أبوالهيل الجابري

جامعة ميسان / كلية التربية / قسم التاريخ

ص: 5

ص: 6

أخذ مفهوم الخاصة مساحة واسعة الاهتمام من عهد الإمام علي (عليه السلام) الذي وجهه لمالك الأشتر حين ولاه على مصر. وهو بذلك يصدر عن معاينة لتجربة كانت آثارها وخيمة على مؤسسة الخلافة والدولة والمجتمع مثلتها تجربة حكم عثمان بن عفان وتقريبه لبني عمومته الأمويين وما أحدثوه في الدولة الإسلامية من فساد اداري و مالي، وبالرغم من ادراك الإمام علي (عليه السلام) قيمة ومكانة شخصية مالك الأشتر الا انه لم يتركه دون أن ينبه لخطورة الحضور الفعلي لتلك الطبقة و آثار تمددها على شخصيته و خروجها عما مرسوم لها من حقوق وما عليها من واجبات، وفي هذا الصدد يستحضر الإمام علي (عليه السلام) مجموعة من النقاط المفصلية التي تبين طبيعة تلك الطبقة وكيفية تشكلها ففي كثير من الأحيان تلج الحياة لتلك الطبقة مع قيام الأنظمة السياسية، مكونة مجموعة من الدوائر المحيطة بالحاكم، التي تتضخم في كثير من المجالات لتكون لها المحورية في رسم سياسة الدولة التي تحاول من خلالها التنفذ والهيمنة وشخصنة الدولة لذاتها المعنوية و المادية، هذا ما سيحاول البحث التعرض له و التأكيد عليه فعهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) يمثل قمة الرقي الدستوري و القيمي لإدارة الدولة و ايصالها إلى ما رسمته السماء لها.

أولا: طبقة الخواص في القرآن الكريم

وفي هذا المجال يوظف الإمام علي (عليه السلام) الصورة المستوحات من واقع النص الديني والموروث التاريخي، في توظيف تام لكل منابع المعرفة التي يمكن من خلالها أن تستقيم الأمور لیدرجها في عهد مالك الأشتر، ولاشك أن القرآن الكريم يأتي على هرم تلك المنابع المعرفية فهو الذي لا يأتيه الباطل أبدا، وهو الذي أخذ

ص: 7

حيزا كبيرا من حياة الإمام علي (عليه السلام)، حتى أعلن الرسول (صلى الله عليه وآله ) ذلك في قوله «علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (1) وحقيقة إن ما يروى في ما يأتي لهو دليل واضح عن مدى العلاقة بين سيد العترة والقرآن إذ ورد عنه (سلام الله عليه) قوله: «ذَلِكَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَ لَنْ یَنْطِقَ، وَ لَکِنْ أُخْبِرُکُمْ عَنْهُ: أَلاَ إِنَّ فِیهِ عِلْمَ مَا یَأْتِی، وَ اَلْحَدِیثَ عَنِ اَلْمَاضِی، وَ دَوَاءَ دَائِکُمْ، وَ نَظْمَ مَا بَیْنَکُمْ... وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لايَغُشُّ، وَ الْهَادِي الَّذِي لايُضِلُّ... فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ اَدْوائِکُمْ... فَاِنَّ فیهِ شِفاءً مِنْ اَکْبَرِ الدّاءِ وَ هُوَ: الْکُفْرُ وَ النِّفاقُ وَ الْغَیُّ وَ الضَّلالُ... وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ... وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَی رَبِّکُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَی أَنْفُسِکُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَیْهِ آرَاءَکُمْ» (2).

وعندما ينطلق الإمام (عليه السلام) لابتكار عقد لإدارة الحياة (الدولة و المجتمع)، يمثل خلاصة التجربة الناجحة لتطبيق نظرية الحكم الإسلامي التي مثلتها سیاسته الدولة الإسلام في المدة الممتدة من (35 - 40 ه) و التي يرجو استمرارها وشيوعها ومحاكاتها من الآخرين، لاشك ولا ريب أن يكون المضمون القرآني حاضرا وبقوة في مثل هكذا عهد وهكذا تجربة، غير أننا ولإختصاص البحث بالمردود السلبي لطبقة الخواص على نظام الحكم سنتطرق فقط لما يخص ذلك من نصوص قرآنية، فتتبع المضامين القرآنية يحتاج إلى استقصاء اللفظة والمعنى والفكرة الضمنية التي تنتمي للقرآن و حیزها الوجودي في ذلك العهد، الذي لا نشك من أنه ترجمه لواقع النص القرآني و التعاليم الربانية لإدارة الدولة.

يورد القرآن الكريم مجموعة من الآيات التي تبين طبيعة خواص الحاكم السياسي (3) و التي أخذت تسمية (الملأ) فيبين في اشارات ضمنية الصفات التي تتمع بها تلك الطبقة، ودورها وفاعليتها و محوریتها في رسم الحدث، فمثلا وردت الإشارة

ص: 8

إلى الملأ الذي عاصر النبي يوسف و النبي موسى، ففي الأولى نجد أن القرآن يشير الى ذلك التواجد من خلال الرؤيا التي حدثت للملك (وَ قالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (4).

مما يبين لنا جملة من الأمور منها:

إن الملأهم أعلى سلطة في منظومة الحكم و بهم تقام أعمدة السلطة و يعتمد الحاكم عليهم اعتمادا كليا فالآيات تصور أن أول من فزع الملك له مما رأه و التجأ اليهم هم الخواص مما يدلل على مدى التأثير والقرب في قرارات الحاكم و انما الأخذ والرد منهم، كما يلاحظ من خلال النص القرآني ان الملأ المشار اليهم آنفا هم کيان يمثل حالة غير منتجة للحاكم وهذا ما بدى واضحا في الحادثة المشار اليها اذ نجدهم قد تهربوا منها بقولهم أضغاث احلام والتي تعني انما هي مجرد اختلاط في المنامات لا تفسير لها (5)، مما يعني ان كثيرا من تلك الخاصة لا يملك من المؤهلات التي تقوّم الدولة وتملك أدوات الخبرة لديمومتها وبقاءها أو حل المعضلات التي تواجهها، وانما هي عبارة عن كائن يعتاش ويتمدد و ينمو على كتف الدولة غير أن جدواه عقيمة لا تساوي ما يبذل له، وهذ المفهوم تسرب وبشكل واضح إلى عهد الإمام علي المالك الأشتر وهذا ما سيتبين لاحقا.

كما ان النص المتقدم يشير إلى اخفاق النخبة المحيطة بالحاكم وعوزها المعرفي وعدم قدرتها على آداء مهام ادعتها لذاتها لذا حاولت التغطية عليه بالقول إنها من المنامات التي لا مجال لتواجدها في موسوعة المعارف وانما هي امور تقع في خانة اللغو الذي يمر به الإنسان في المنام في حركة توجيه واضحة المقاصد تبعدها عن دائرة شك

ص: 9

الحاكم بها.

في حين نجد أن الصورة لخواص الفرعون (6) الذي عاصر النبي موسى (عليه السلام) انما هي معبرة عن طبيعة الإستعلاء والإزدراء و العنجهية التي تغيب معها العقل، و تتبع ذلك يتبين من خلال تتبع النصوص القرآنية، إذ ورد قوله تعالى: ((قَالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِیمٌ. یُرِیدُ أَنْ یُخْرِجَکُمْ مِنْ أَرْضِکُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ أَرْسِلْ فِی اَلْمَدَائِنِ حَاشِرِینَ. یَأْتُوكَ بِکُلِّ سَاحِرٍ عَلِیمٍ... وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَی وَقَوْمَهُ لِیُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَیَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)) (7) وفي سورة الشعراء: ((قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)) (8) والتي يمكن أن نستنتج منها أن خاصة فرعون كانت تتميز بمفردة الإلغاء للآخر و أنها غير قادرة على استيعاب حالة النبوة التي تجسدت في موسی و لم تعتمد إلا على منهج استغلال عوامل القوة والبطش بالآخر، والقرآن يصور حالة التحريض التي كانت عند تلك الخاصة و التي نتج عنها مجموعة من الإجراءات القمعية التي تكللت برغبة افناء المكونات التي لا تنتمي لفرعون أو تعتقد به کوجود عقدي له الحاكمية المطلقة على البشر.

ص: 10

لو سلطنا الضوء على البيئة القيمية لخواص فرعون لوجدنا:

انها طبقة تعتمد على الترديد و لا تمتلك الإستقلالية في شخصيتها، فتواجدها وموقفها عبارة عن اصداء لطبيعة الإرادة الفرعونية دون ان تتحلى بالشخصية المعنوية ذات الإستقلال الواضح.

ان طبقة الخواص هي طبقة مصلحية لا تستهدف إلا الحفاظ على المكاسب المتوفرة عندها وهذا ما يؤدي إلى المماشات لكل قرارات فرعون خشية الخسارة لتلك المكاسب.

عدم تمثيل طبقة الخواص للعامة أو مصالح و ارادة الرعية وانما تمثل ذاتها التي تتسلل وتتضخم باستغلال المستجد و الحدث دون أن يكون لها تواجد ايجابي يلقي بضلاله على العامة، بل يتجلى تحشيدها لفرعون في عدة مواقف محفزة اياه ولوج ظاهر الإستعباد و القهر وذلك من خلال قوله تعالى: ((وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)) (9) مما يعني أن طبقة الخاصة تعتمد في تواجدها على طبيعة تصنيع الخطاب وتسويقة ليكون مقبولا عند فرعون وممثلا لعبوديتها له التي تحقق لها البقاء وهذا ما وجد في النص المتقدم و الذي اعتمدت فيه الخاصة على استلاد خطاب تحريضي يعاكس حقيقة الواقع المنظور، فطبقة الخواص قد اتبعت حالة من الإزدراء والتعصب فضلا عن التكبر في التعامل، في حين نجد أن الأنبياء قد أوضحوا الحق من الباطل عن طريق عرض الخطاب الإلهي و إرادة السماء باسلوب فيه من اللين والعقلانية المتوازنة مع طبيعة المهمة وهذا ما صورته الآية الكريمة التي خاطب الله سبحانه وتعالى بها النبي موسى وأخيه النبي هارون (عليهما السلام): ((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (10).

ص: 11

وفي مقابل ما وجدناه من تعامل هؤلاء الخاصة و مخالفتهم للأنبياء و الذي يمثل صورة معبرة عن الخضوع التام لشخص الحاكم وما يحمله من صفات استبدادية، نجد أن بعض خواص الملوك هم بدرجة من الرقي و تحليهم بالوعي الحضاري في التعامب مع الأنبياء كما هي حالة خواص ملكة سبأ الذين مثلوا عنصر التوازن العقلي إذ يصور القرآن الكريم ذلك بقوله سبحانه وتعالى: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» (11)

ففي بداية كلامها لم تكن تملك المواربة أو لغة التعجل أو التهكم بالإخر بل تكلمت بلغة حضارية قلما توجد في حاکم له من السلطة والهيبة والنفوذ خصوصا وأن هذ الموقف اطلقته أمام الخاصة دون خشية من استغلاله كنقطة ضعف ضدها، بل تعاملت بحرفية ونظرة واقعية وحفظ المكانة المقابل وشخصيته المعنوية لذا قالت (کتاب کریم) ولم تقل أي كلمة فيها ازدراء، وحتى اجابة الخاصة لم تكن تلك الإجابة التي تحمل في جنباتها الاستعراض لمصادر القوة و جعله الخيار الأمثل لتلك المواجهة بل ترادف مع ذلك قولهم (والأمر اليك فانظري ماذا تأمرين). مما يعني أن الطبيعة الحضارية لسبأ قد القت بظلالها على التعامل و انعكست آثارها على الطبقة الحاكمة ومنها الخواص التي لم تكن إلا دقيقة في حساباتها وتصرفاتها بحيث ادت ببلقس أن تسلك السلوك الحضاري في التعامل ممهدت له بحركة ابتعاث دبلوماسي اسفر عن نتائج ايجابية كان لها أن تغير كثير من المسيرة العقدية لتلك المرأة و مملكتها (12).

ص: 12

ثانيا: خاصة مالك بين واقعية التواجد وإيحاءات التجربة التاريخية

ينطلق الإمام علي (عليه السلام) بالحديث عن طبقة الخواص بصورة مباشرة في ذلك العهد إذ يورد كلمة الخاصة بلفظتها ودلالتها دون أن يعتمد على معناها أو على فهم المتلقي لها بل يحاول أن يعطي لذلك الموضوع زخما حقيقيا يجاري أثره على منظومة الحكم، فالإمام لا يكتفي بمكانة مالك الأشتر و التقوى التي هو عليها والخصائص التي تتمثل في شخصيتة (13) بل يتعدها ليؤكد له ذلك الأمر في مواقف عدة بتائم بينها وبين مفاهیم غاية في الأهمية و الدقة إذ نرى الإمام يقول لمالك: ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب)) (14).

مما يعني أن الزهو الذي يتمثل في خاصة السلطان بإمكانة أن يخترق المنظومة الدينية والعقدية والأخلاقية للوالي لتحولها من أداة لتطبيق المبادئ الدينية و تجسيد حقيقة المشروع الإلهي إلى أداة هدم وعنصر شك في واقعية النظرية السياسية الإسلامية التي منیت بهزائم طيلة العقود السابقة.

لذا نجد البعد الإيماني مترافق مع كل بنود ذلك العهد المقدس فالإمام (عليه السلام) يحاول أن يطوع مبادئ نظرية الإسلام السياسي ولكن في اصطفاف متماشي مع محورية الإيمان وطبيعته و النتائج التي تترتب على الإنحراف عن مضماره ومساره في استحضار لتلك العبارات التي تحيط المتلقي بجو من الفهوم و المدخلية القصوى على ضرورة توقي الحذر ف ((أنصف الله / إلا تفعل تظلم / من ظلم عباد الله كان خصمة الله دون عبادة / من خاصمه الله أدحض حجته)) يستلهم منها طبيعة المهمة الملقاة على الوالي فهي ليس تشريفا أو نشوة حكم، بل هي مهمة المحك الذي يكون

ص: 13

فيها الحاكم على طريق هي أحد من السيف وأدق من الشعرة.

عندما يتحدث الإمام علي (عليه السلام) بهذه الصراحة والصرامة في نفس الوقت يستثير في الباحث مجموعة من علامات الإستفهام أهمها: هل أن واليه مالك يتصور منه أن يأتي بمثل هكذا أمور، وهل له من الخاصة التي بإمكانها ان تسيطر على قراراته أو تستغل سلطته أو تنفذ إلى تضخيم ذاتها عن طريقة استغلال رمزيته؟، أم أن الإمام يحاول أن يذكر المتلقي بالنتائج الوخيمة التي تعرضت لها نظرية الحكم الإسلامي نتيجة لغزو الخاصة وتمدد أذرعها؟!.

في الحقيقية لا تكاد تسعفنا الصادر عن وجود خاصة من أهل بيت مالك الأشتر أو من عشيرته قد انطلقت معه إلى مصر وهي طامحة بالسلطة والتولية، إذ أن كل الذي لدينا أن اضطراب أوضاع مصر أضطر الإمام أن يضحي بتواجد مالك - ذلك التواجد الذي له ماله من ابعاد عسكرية ونفسية - في منطقة الجزيرة الفراتية قريبا منه (15)، والشيء الآخر أن شخصية مالك كانت تمثل قمة هرم خواص أمير المؤمنين عليه السلام وهو في كل ذلك عاش تجربة أمير المؤمنين وتعامله مع الخواص و المقربين من أهل بيته أو صحبته لذا كان عليه أن يطبق ما عاشه من تجربة مع أمير المؤمنين بكل تجرد لا أن يتخلى عنها بمجرد توليته على مصر.

ثم أن مالكا كان واليا على الجزيرة ولم يبرز منه أيا من تقريب الخاصة أو إعطاء أي منفذ أو تدخل أو تأثير لهم عليه، بل إننا نجد أن مالك كان يمثل شخصية القائد المثالي و المتكامل فهو حتى بعد أن سحب من إدارة الجزيرة لم يخطر بباله أن يولي عليها شخصا من أهل بيته لذا ولاها بدلا منه شبيب بن عامر الأزدي (16) الذي كان يملك صفات القائد التي اخذها من مالك الأشتر، كما أن شخصية مالك لم تكن شخصية مبتذلة أو قليلة السيطرة على زمام نفسها أو تضحي بكل بمبادئها لأجل الخاصة، بل

ص: 14

كانت شخصيته تمثل قمة الإلتزام بأوامر أمير المؤمنين و بإيقاع منضبط قل نظيرة في المتواجدين معه (سلام الله عليه)، فهو في غمارات صفين يمتثل لرأي أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أن النصر قريب إذ بعد أن رأى الإمام أن مكيدة المصاحف قد وجدت رواجاً في جل جيشه، أرسل إلى مالك الأشتر بإيقاف القتال، ولم يمهله بالاستمرار وحسم المعركة حتى لو كان الوقت المطلوب فواق ناقة أو عدوة فرس (17) مما أدى بمالك أن ينسحب من المعركة في التزام واضح بأمر أمير المؤمنين ومبدئية تجلت حين وبخ المتخاذلين بقوله ((يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا سنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم! أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا نمهلك، قال: فأمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت في النصر، قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلکم، وبقی أراذلكم، متی کنتم محقين! أحين کنتم تقتلون أهل الشام! فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون! فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم، وإنهم خير منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا، فقال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله! فلا أری فرارکم إلا إلى الدنيا من الموت، ألا فقبحا یا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فأبعدوا کما بعد القوم الظالمون) (18) ومن ثم فمثل هكذا أمور لا يمكن لها أن تلج إلى ولاية مالك على مصر أو تصاحب حكمه.

ص: 15

يبدو أن الإمام أراد أن يحيي ذلك الإرتباط بين التشوهات التي طالت تجربة الحكم الإسلامي بنظرة واقعية مستمدة من تجربة ومعرفة دقيقة فهو كأنما یرید أن يجعل مالك يسير في دائرة الواقع المعرفي الذي لا مجال للتخمين أو الشك في ثناياه ليستخلص له عوامل النجاح المستراحات من المسيرة المعرفية التي تمثلت في شخصه (سلام الله عليه) والتي صاغها في النص الذي يقول فيه ((إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبل، فلقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر جليله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله)) مما يعني أن معارف الإمام تؤكد لمالك على ضرورة أن يتخذ من معايشة الحالة التي عاصرها الإمام والتي تنفذت من خلالها الخاصة وبدت مسيطرة على منظومة الحكم عبرة له.

غير أننا عندما نطالع رسائل الإمام وعهوده إلى ولاته الآخرين لا نجدها تحمل ذلك التأكيد على تجنب الخواص بالشكل الذي أكده على مالك وهذا ما يثير الإستفهام فشخصيات ولاته السابقين ليست بمستوى شخصية مالك فمالك يقول عنه الإمام: «فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطي عنه أمثل» (19) وقال وقد أتاه نعي مالك «مالك وما مالك! لو كان جبلا لكان فندا، لا يرتقيه الحافر ولا يوفي عليه الطائر» (20) وفي كتابه لأهل مصر قال عنه: «فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم» (21) فلماذا هذا التأكيد؟!.

إن أهم ما يمكن توضيحه هنا أن التحذير من الخاصة في هذا العهد كان له مدخلية

ص: 16

وارتباط بشخصية مالك و بالمنطقة التي كلف بحكمها، فمالك يتحد مع مصر في مفردة مهمة وغاية في الدقة ترجع جذورها إلى انحراف الدولة الإداري الذي أفضى بالثورة على عثمان، إذ كان مالك من بين أبرز الذين ثاروا على عثمان نتيجة لإستئثار خاصته في الحكم و انتزاءهم الدولة الإسلامية بكل مفاصلها السياسية والإقتصادية واستغلالهم لرمزيته في ذلك الأمر وتقريره لهم ذلك الإستغلال، وكذلك كانت مصر فأهلها من أركان الثورة على عثمان وقد تشاطروا مع مالك نفس التوجه و الهدف هذا الأمر كان واضحا عند الإمام علي عليه السلام وحاضرا في ذهن و أكده في كتابه الذي أرسله اليهم حين ولى مالك إذ خاطبهم بقوله: «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى القوم الذين غضبوا لله حين عصي في أرضه وذهب بحقه، فضرب الجور سرادقه على البر والفاجر والمقيم والظاعن، فلا معروف يستراح إليه، ولا منکر یتناهی عنه أما بعد فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله....» (22)، لذا كان كلام الإمام واعطاءه هذا الزخم التحذيري من خواص أهل بيته ناتج من ذلك الأمر الذي ترجمة الإمام کي يكون مفردة مفصلية في ولايته على مصر، فثورة أهل مصر على عثمان إنما كانت نتيجة الهياج القبلي و النهم الذي راود خاصة عثمان والذي وصفه الإمام بقوله: «الى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث فتله. وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته» (23) ومن ثم من غير المقبول في الحكم الرشيد أن تتكرر هذه الحالة وفي بلد وقف بالضد منها و تجاهل نقاط الحساسية التي يتحسس منها الناس وثاروا ضدها، لذا كان ذلك التشديد، كما يمكن أن يضاف أن المقصود في الخطاب ليس مالكابل أن مالك كان طریق ولد من خلالها تلك الوصايا وأنما المقصود منه هو كل من يأتي لحكم الأمة فالواجب عليه أن يتنبه لمثل هكذا أمر.

ص: 17

ثالثا: الخاصة والصورة الضمنية للمصداق السلبي في تجربة الحكم الإسلامي

يتمثل اقتناص العبرة من الأحداث الماضية نموذج لا يمكن للإمام ان ينحيه عن المستقبل بل كان مهتما به بشكل كبير لذا نجده يركز عليه في عهده لمالك الأشتر فهو يوصيه بقوله «ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ - أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ - مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ - وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ - فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ - وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ - وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ - بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ - فَلْیَکُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَیْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ...» (24)

و من الأمور المستحضرة في هذا العهد المبارك والتي تشكل ارتکازا مفصليا هو استحضار التجربة التاريخية والجنوح إلى القراءة المتعمقة لطبيعة طبقة الخواص كطبقة محيطة بمركز القرار وأعلى هرم في كيان الدولة و الكشف عن أثرها المحوري وتأثيراتها على نضوج تجربة الحكم أو قوقعتها و تحجمها ومن ثم انهيارها، و الإحاطة بكلام الإمام والزخم المعطى لها يتطلب منا ايجاد تلك المقاربات وتوضيح حقيقة نتائجها، إذ يعرض الإمام الى ذلك بقوله: «ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولاتقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة. ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فیکون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة» (25).

من الواضح أن الإمام علي (عليه السلام) لم يتغافل عن الإستدلال بواقع الخاصة في الدولة الإسلامية سواء كان في خلافة عثمان أو في خلافته، ليحدز مالك الأشتر منه، فتقریب بني أمية وزجهم في ادارة أمور الدولة الإسلامية السياسية والإدارية

ص: 18

جعلهم أكثر نشوة واعتدادا بالنفس وأكثر جماحا وطموحا وتمردا حتى ظهر ذلك جليا وعلى أوجه في عدة مواقف من أهمها الإستئثار المالي والإداري، فقد سيطر الأمويون على موارد الدولة الإسلامية حتى أعطى عثمان زمام الدولة لهم وأباحها بمواردها المالية الكبيرة وجعلها حكرا ومغنما خاص لبني أمية، وتجليات ذلك واضحة فقد «افتتحت إفريقية في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان... وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم. وأعاد الحكم بن أبي العاص وأعطاه مائة ألف درهم. وتصدق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم. وأقطع مروان فدك ... وحمي المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية. وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين. وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بیت المال، وقد كان زوجه ابنته أم أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بیت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان و بکی، فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال: لا، ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله...» (26).

لقد شكلت كل تلك الأمور رافد استقى منه الإمام علي (عليه السلام) ذلك العرض والتحذير لمالك الأشتر، بل أن الإمام علي (عليه السلام) لم يكتف بالتحذير بل تعداه ليوعز لمالك جملة من المقومات التي تعرف بطبيعة هؤلاء وطرق معالجة ذلك الهياج الكامن في نفسیات تلك الطبقة، فمنع الإستئثار والتطاول يجب أن يقوم بمنع حصول هذه الطبقة على امتيازات تشريفيه تميزهم عن غيرهم من الرعية واستثناءآت

ص: 19

قانونية تسمح لهم بالتطاول و تجعلهم بمأمن من طائلة المحاسبة والعقوبة والردع لذا قال له الإمام: «فاحسم مادة أولئك بقطع اسباب تلك الأحوال».

ولعل ذلك الأمر من العلامات الفارقة التي اتسمت بها خلافة وشخصية الإمام علي (عليه السلام) و تمیزت عن السابقين له فلم يكن الإمام يسمح لأي شخص من خاصته أن يكون في مأمن من ردعه وعقوبته، لذا نراه يفعل دور القانون بردع مجموعة من خاصته کلا حسب جرمه، وكنماذج على ذلك ننعرض عدة أمثلة:

1. عندما اخبر أن المنذر بن الجارود يقرب خاصة عشيرته خاطبه الإمام بقوله «أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك انقیادا، ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك. ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك. ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على خيانة فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله» (27).

2. في حين أنه خاطب عبد الله بن عباس وقد اغلظ في الموقف مع بني تميم بقوله: «قد بلغني تنمرك لبني تميم و غلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب هم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام. وإن هم بنا رحما ماسة وقرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها. فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي فيك. والسلام» (28).

3. بينما نجده يوبخ عثمان بن حنيف على فعل هو مباح له وذلك حينما دعي إلى

ص: 20

مأدبة قائلا: «ما بعد یا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجنان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه» (29).

هذه اهم الأمور من خاصة الإمام و المقربين منه لا يساورها الطمع في شخصه ونیل الحظوة عندها بل أخذت تتوجس منه و تنها به مهابة الإيمان تلك التي عبر عنها قیس بن سعد لمعاوية: «رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوي، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام!» (30).

ولم يقف الإمام علي عند ذلك بل تعداه الى المفهوم القيمي الذي يتمثل بتلك الخاصة فهي طبقة لا تعترف بالعدل أو تتوخاه و تجعل منه شعارا لها، بل تصل ونتيجة لمكانتها من الحاكم أن تكون مستأثرة على العامة وغير معتدة بتواجدهم لذا خاطب الإمام علي عليه السلام مالكا بقوله (فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة «وهو استحضار واضح وصريحة للتجربة التي تمثلت في بني أمية أيام عثمان، إذ اصبح من المعتاد جدا أن يرى شخص من بني أمية يستأثر بما ليس له على عامة الناس بل ويتعدى عليهم بالفعل والقول، وكمثال لذلك نجد أن والي الخليفة على الكوفة سعید بن العاص الأموي يطلق كلمته المشهور «ما السواد بستان لقريس» (31) تلك الكلمة التي غير مجرى الأحداث وأججت النقمة على النهم الأموي والمعاملة التي تلقها عامة المسلمين منهم.

ص: 21

ولم كتف أمير المؤمنين (عليه السلام) بتشخیص صفات هذه الطبقة والتعريف بنطاق توسعها بل نراه يذهب الى ابعد من ذلك ليعرف بطرق علاج ما يدلل على نهمها بحالة من التنبيه منه وفي نفس الوقت بتقريب العامة ممن خلال عدة أمور:

1. منع تفضيل الخاصة ماديا أو اشعارها بأهمية تواجدها المعنوي وهذا ما مثله قوله سلام الله عليه «ولاتقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة».

2. قطع اسباب الطمع المادي عند الخاصة من خلال ابراز جوانب الحزم وعدم السماح لهم بالإضرار بالعامة أو التهرب من الواجبات الملقات عليهم و التأكيد على قيامهم بالمهمام و المسؤوليات المطلوبة منهم والواجبة التنفيذ إذ أكد ذلك بقوله: «ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة».

إن الآراء الواردة في كلام الإمام علي السابق تكشف عمق الفكرة وتظهر اتساع الأفق الذي ميز شخصيته (سلام الله عليه) عن غيره، فالسمة التي تميز الفكر الاداري للامام علي تتميز بالثراء القيمي، ففي شتى المواقف يشير الى العامة ويحذر من تجاوزات الخاصة عليهم ويروج لمبدأ حكومة الغالبية لا سيما إن كانت تلك الغالبية على حق أو أن رأيها أرجح من رأي الخاصة، مما يلفت النظر إلى مركزية العامة في انتظام عقد الدولة وضرورة إستمراره واثره في ابراز شخصيتها التي من خلالها تشيد أسس الدولة وتنهار إذا ما اهملت، وتجليات ذلك الأمر واضحة تمام الوضوح من خلال ابراز الإمام لمردود كلا النموذجين ففي الوقت الذي يصور فيه طبقة الخاصة على انها طبقة تعمد على امتصاص موارد الدولة في وقت السلم، لتتحول في وقت الإضطراب والطوارئ متفرج على ازمة الدولة دون ان تقدم لها ما يقابل ما كانت

ص: 22

تحصل عليه في تناقض تام لكل ما يتوقع منا، هذا الأمر أوضحه الإمام بقوله لمالك «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضی العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء. وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم»

في الحقيقة إذا اردنا فهم كلام الإمام فإننا نجد هناك مقابلة بين المعطيات والصفات، وجدوى ذلك التواجد ومردوده.

فمن حيث المردود الإقتصادي لتواجد الخاصة نجد أن الإمام يشخص طبيعة تلك الطبقة بكونها تمثل قمة الهرم في استضاب الموارد فامتیازاتها تمثل الثقل الأكبر على اقتصاد الدولة فهناك بونا شاسعا بين امتیازاتها وامتيازات العامة، ولعل منطلق التجربة قد فسح المجال لمفهوم (دور الخاصة في نضوب الموارد الإقتصادية) أن يبرز في كلام الإمام، ويكفي في ذلك أن موارد الدولة قد تم تحويلها إلى ملكيات خاصة في عهد عثمان وهذا ما دفع الإمام عليه السلام إلى اعلان اصلاحه الإقتصادي في اليوم الثاني من خلافته و الذي برز فيه تعدیل میزان الدولة واسترجاع الأموال المنهوبة بغير حق إذ قال: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق» (32) ولعل کلام الإمام الآتي يوضح من المقصود بالدرجة الأولى من ذلك البيان «إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام

ص: 23

معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع» أي أنهم الأداة التي عملت على استضاب الإقتصاد الإسلامي و الإستئثار به دون غيرها من الآخرين، لذا نجد الإمام يتكلم بوضوح عن مدى سلبية المردود الإقتصادي الذي تخلفه طبقة الخواص على الحاكم.

في حين المح الإمام إلى سلبية المردود الدفاعي لتلك الطبقة فليس «أقل معونة له في البلاء / وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة» مما يعني أن الإتكاك على تلك الطبقة والتعضد بقوتهم إنما هو أمر غير واقعي وليس له أدنى وجود وقد أوضح بن میثم البحراني سبب ذلك بقوله: «كونهم أقلّ معونة له في البلاء لمحبّتهم الدنيا وعزّة جانبهم / كونهم أضعف صبرا عند ملمّات الدهر لتعوّدهم الترّفة، وجزعهم على ما في أيديهم من الدنيا» (33) ولعل ذلك يتضح من خلال تجربة عثمان أيضا فهو قد عمد على استنجاد بني أمية لنصرته غير أن ممثل الأمويين آنذاك معاوية تقاعس عن نصرته أو الدفاع عنه مما يعني أن مقاربة المعطيات التاريخية و معاينة التجربة انتجت صورة واقيعية لإخفاقات مجموعة مقربة من الحاكم تدعي لنفسها صفة (النخبة) إذ أن حقيقة أمرها لا تعدوى من كونها مجموعة قد اصطنعت لنفسها أسلوب حياة هو في مجملة لا يتاشي إلا مع تحقيق ذاتها، في حين يمثل عنصر الهدم و الهرم للدولة، ومنها جاء تركيز الإمام على ضرورة التشخيص الحقيقي لمكامن القوة في الدولة بشكل عام والتي يمثلها عامة الشعب وما فيهم من صفات السخاء المادي والمعنوي فهم من جانب يمثلون الثقل الأهم في الدولة من حيث العدد أما الخاصة فلا يمثلون إلا مجموعة لا نسبة بينها وبين العامة، وكذلك من كون العامة قد التصقت بالدولة معتبرة اياها ممثلا حقيقيا لها و إن حققت لهم النزر من مقومات حياتهم، فكيف سيكون حالها إذ ما طبق کلام الإمام مالك في أن «یکن صغرك لهم

ص: 24

وميلك معهم» حينها ستتشط وتبرز بوضوح شخصية العامة ومدی تحقق اهداف الدولة بهم تلك الأهداف التي شخصها الإمام بقوله «عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء» هذه الأهداف التي تمثل جوهر الطموح والغاية الأهم في نظرية الحكم العادل.

إن المقاربة بين عهد مالك وادارته لمصر و استحضار التجربة التاريخية الشاذة المشوهة في الحكم الإسلامي انما يهدف ايجاد عوامل الأمن الذاتي والوظيفي للوالي، وهي نقطة مهمة توخي الإمام التنبيه عليها في عهده المبارك إذ نراه يقول حين نبه مالك من اعطاء الخاصة استثناءات بغير حق «فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة» اذ في حقيقة الأمر ان أمن الذات ورغبة الإمام في تحققه للوالي وعدم تأثير الخاصة عليه وتشويهه قد أخذ عدة اضاءات، فالرعية تمتلك معیار وأداة المقارنة بين تجربة الحكم السابق والتجربة المعاصرة، ومن خلال تلك الدراية ينبعث منها ما قد يمثل امن الذات المعنوي والمادي، فأما المعنوي فان الرعية ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده» و أما الأمن المادي فان الميل للخاصة سيوافر عوامل الظلم التي تبرز الشخص لخصومة الله «ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد» أي سلب توفيقه ولم يعد محفوفا بالعناية الإلهية. وهذه التفاتة قلما يتنبه إليها انسان ولكن الإمام أبي إلا أن تكون حاضرة وبقولة في عهده المقدس.

ص: 25

رابعا: حكم الأكفاء ومنظار الصفات المؤهلة للقيادة

من النقاط المفصلية التي بدت واضحة في ذلك العهد هو رغبة الإمام علي (عليه السلام) أن يكون الحاكم محاط بطبقة لا يعبر تواجدها عن التواجد غير المستحق وانما اراد أن يكون ذلك التواجد عن استحقاق جدارة فهو في الوقت الذي ينبه مالك ويحذره من الخاصة يبرز له طيبعة تكوين جهازة الإداري والصفات المؤهلة لتسنم الإدارة و أثرها على حكمه.

يورد الإمام معطيات غاية الأهمية في هذا المجال يوجب توفرها في الأعوان اهمها:

1. القدرة على فهم الوضع الحقيقي للدولة.

2. اختيار الوضع المنشود لمستقبل الدولة

3. القدرة على التخطيط لوضع برنامج عمل مؤسسات الدولة.

هذه الأمور تتبين من خلال قول الإمام علي لمالك الأشتر

مما يعني أن الإمام أراد من مالك يعتمد على بسط عدله و تنفیذ دستور ولايته على من يجد فيهم الحكمة و العقل و الدراية وتترسخ فيهم مقومات الدين و العلم والفقه و الدهاء ليتقوي بهم على ادارة امور البلاد و لتصل بهم العامة إلى اعلى درجات الإنتفاع الممكنة ومن ثم ابعاد عوامل الجهل الإختلال المجتمعي و نشوء مجتمع خال من آفات الجهل و المرض والعوز، فهم أداة لإرتقاء المجتمع الإسلامي، لا أن يعتمد على من هم أقل خبرة ولا يستهدفون من احاطتهم بالحاكم إلا ارضاء الذات و التفاخر بالمسؤولية وحسن الإدارة في العلن، وهم في حقيقة الأمر لا يملكون الأدوات المعرفية التي تحسن من عمل الدولة بل يأخذهم شبح السلطة و الوصول إلى المناصب ما هو إلا غاية قربهم و مشورتهم التي يستهدف منها المنفعة الذاتية فقط.

ص: 26

الخاتمة

بعد تلك الدراسة يمكننا انجاز جملة من النقاط التي توصل إليها الباحث:

1. من خلال ما تقدم يتبين أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت له غاية حاول ادراجها في عهده لمالك الأشتر، تفيد بتقديم مشروع إصلاحي شامل لإدارة الدولة والمجتمع، وتبين أن تأكیده الحديث عن طبقة الخاصة التي تضم المقربين من حاكم (خاصة أهلك / ومن لك فيه هوی) على أهميتها وأولويتها والتشديد الذي خصها به دوناً عن الفئات الأخرى، إنما فرضه خطوات الإصلاح الذي فرض نفسه كضرورة لهيكلة مؤسسات الدولة ومرافق الحياة المجتمعية، وأن هذا الأمر انما يمثل نقطة الشروع في عملية الإصلاح التي تنطلق من المؤسسة السياسية ذاتها لتنتج ترسخ قيم ومفاهيم لو اجيز لها التطبيقة العملي لمهد قیام أركان الحكم الرشيد و الغي تواجد عوامل الإنهيار التي احاطة بالمسلمين و ادت إلى تصارعهم وتقاتهلهم.

2. كما يمكن تشخيص الظرف الذي ولد فيه العهد فهو قد ولد بعد كثير من التشوبات التي طالت المبدئ الإسلامي المرسوم لإدارة الدولة و الحياة العامة، إذ توسعت رقعة الدولة الإسلامية أبان حركة الفتوحات، والتي انتجت تضخم في الحياة الإقتصادية و اختلاف في ميزان العطاء المادي حتى ولد نواة الطبقية التي أصبحت واقعا ملموسا بزيادة الواردات من البلدان المفتوحة، فقد قسم المسلمون على أساس السابقة و القرب من الرسول، ولم يكن للمتأخرين في الإسلام إلا فتات العيش الذي لا يسد الرمق بينما اتخم الطرف الآخر، وكانت الخاصة في هذا المورد انما تتجلى بالسابقة وليس بالقرابة، ثم تطورت في عهد عثمان لتعاني الأمة من الخاصة التي كون البعد الأسري اطرها وابعادها مما حتم على الإمام علي

ص: 27

الإلتفات إلى هذا الأمر ليشدد على ولاته بشكل عام ومالك بشكل بعد الوقوع في مغبته لما له من نتائج وخيمة جدا.

3. ونتيجة للانحرافات الخطيرة في إدارة الدولة والمجتمع، حرص الإمام (عليه السلام) على وضع برنامج إصلاحي شامل لكافة مرافق الحياة في الدولة الإسلامية عبر عهوده التي وجهها لولاته، والتي كان أشملها وأطولها عهده لصاحبه وواليه مالك الأشتر حين ولاه على مصر بعد عزل محمد بن أبي بكر عنها، وهذا ما يؤشر لخصوصية مالك الأشتر وتميزه عن جميع صحابة وولاة الإمام (عليه السلام) واطمئنانه وثقته بقدرة مالك على تنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي خطه له في العهد، وإلا لكان عهد به لمحمد بن أبي بكر، كما يؤشر خصوصية لمصر، بعدها من الأقاليم الغنية والواسعة والمتنوعة عرقيا وعقائدياً في تكوينها السكاني، ومن ثم للصراع الدائر بينه وبين معاوية عليها، ومحاولة الأخير بسط نفوذه عليها لكثرة خيراتها من جهة ولكونها من أهم الأمصار التي شارك أهلها في الانتفاضة على عثمان وقتله، وبالتالي فإن المصريين بحاجة لمشروع إصلاحي شامل يعيد ثقتهم بالخلافة الإسلامية.

4. يرجح الإمام علي (عليه السلام) مبدأ حكومة الرعية وسلطتها و وارتفاع مكانتها على من سواها ويشير إلى دورها المحوري في انتظام عقد الدولة على عس مكانة الخاصة التي لا تمثل إلا نموذج النفعيين المساهمين وبشكل كبير في استنضاب موارد الدولة دون تقديم ما يقابلها أو يساويها من خدمات.

ص: 28

5. ركز الإمام على قضية في غاية الأهمية ألا وهي مفردة الأمن الذاتي والوظيفي للوالي وهو غاية كبرى كان الإمام يرغب في تحققها، إذ عد الإمام السبيل إلى تحقق ذلك هو رضا العامة وما يجري الله سبحنه وتعالى على السنتهم من ثناء واطراء للوالي، وهذا الأمر هو نتاج السياسة العادلة التي تواخاها الوالي وعمل بها.

ص: 29

الهوامش

1. الطبراني، المعجم الأوسط، 5/ 135، المعجم الصغير، 1/ 255، الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/ 124، ابن مردویه، المناقب، 117، 118، الموفق الخوارزمي، المناقب، 177، المتقي الهندي، کنز العمال، 11 / 603، القندوزي، ينابيع المودة، 1/ 269،، بل إن هذا الإقرار قد جاء على لسان أناس منحرفين عن الإمام علي (عليه السلام) امثال الشعبي الذي ورد عنه أنه قال: «ما كان أحد من هذه الأمة اعلم بما بين اللوحین و بما انزل على محمد من علي «الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، 1/ 48 - 49، الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين 128.

2. نهج البلاغة، 54، ينظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9/ 217.

3. لابد من الإشارة إلى أن هناك أنواع للملا في القرآن الكريم منهم الملأ السياسي والملأ الإجتماعي و الذي ورد في كثير من الآية منها ما ذكر في سورة الأعراف الآية، 60، 66، 75، 95 وغيرها من السور والتي يبدو من خلالها أن الملأ الكافر هم حالة شاذة مخالفة للفكر والعقل وهم في حالة تهجم مستمر على الإرادة و الحق الإلهي الذي جاء به الإنبياء وفي معارضة تامة لتطبيق تلك المبادئ على الأرض، إذ نجد أن الملا الكافر دائما ما يحاول أن يكذب ويكفر انبياء الله بل ويحاول النيل منهم بكل الطرق، و لو حاولنا معرفة سبب ذلك فإننا نجد أن ما جاء به الإنبياء هو مخالف لطبيعة ما يريده الملأ وهو ضرب لمصالحهم، مما يعني أن النتيجة حتمية في محاربة هؤلاء للحق الذي يريده الله سبحانه وتعالى وهذه صورة من صور فقدان الملأ للعقل واحتواءهم للجهل في التعامل المذكور مع الأنبياء.

ص: 30

4. سورة يوسف، الآية: 43 - 44.

5. الطباطبائي، تفسير الميزان، 11 / 187، الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، 3 / 331، المشهدي، تفسير كنز الدقائق، 6 / 318.

6. اختلفت الآراء في اسم الفرعون الذي عاصر موسى، ينظر في ذلك دروزة، تاريخ بني اسرائيل.

7. سورة الأعراف، الآية: 109/ 127.

8. سورة الشعراء، الآية: 34 - 37.

9. سورة الأعراف، الآية: 127.

10. سورة طه، الآية: 43 - 44.

11. سورة النمل، الآية: 29 - 35.

12. ابن كثير، البداية والنهاية، 2 / 27، قصص الأنبياء، 2 / 289، ابن العربي، احکام القرآن، 3 / 487، الفخر الرازي، التفسير، 24/ 195/ 196.

13. تمثل شخصية مالك قمة النضوج الفكري والإيماني والذي تجسد بما قاله أمير المؤمنين عنه في عدة مناسبات ستتضح في ما يأتي.

14. نهج البلاغة، 459.

15.

16. كان شبيب عاملا على مدينة نصيبين قبل توليته على الجزيرة، أنظر البلاذري، انساب الأشراف، ص 398.

ص: 31

17. ينظر في تفاصيل ذلك: ابن أعثم الكوفي، الفتوح، 3/ 187 - 190، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/ 35 - 37، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 3/ 316، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2/ 217،

18. ينظر في تفاصيل ذلك: ابو جعفر الاسكافي، المعيار والموازنة، 164، ابن أعثم الكوفي، الفتوح، 3/ 187 - 190، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 4/ 35 - 37، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 3/ 316، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 2/ 217 - 219.

19. نهج البلاغة، 3 / 14.

20. نهج البلاغة، 4 / 103.

21. نهج البلاغة، 3 / 64.

22. نهج البلاغة، 3 / 63.

23. نهج البلاغة، 37.

24. نهج البلاغة، 458.

25. نهج البلاغة، 459.

26. شرح نهج البلاغة، 1 / 199.

27. نهج البلاغة، 495.

28. نهج البلاغة، 404.

29. نهج البلاغة، 447.

ص: 32

30. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 1/ 26.

31. الطبري، تاريخ الرسل، 3/ 369، ابو الفرج الأصفهاني، الأغاني، 12/ 367.

32. نهج البلاغة، 46.

33. 5/ 144.

ص: 33

المصادر

- القرآن الكريم.

1. ابن الأثير، أبي الحسن علي بن أبي الكرم بن محمد بن عبد الكريم بن الشيباني (630 ه/ 1232 م).

2. الكامل في التاريخ، (دار صادر - دار بيروت، بيروت - لبنان 1385 ه/ 1965 م).

3. ابن أعثم، ابو محمد أحمد بن أعثم الكوفي، (314 ه/ 926 م).

4. كتاب الفتوح، تحقيق: على شيري (ط 1، دار الأضواء، بيروت - لبنان، 1411 ه/1991 م).

5. البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر (279 ه/ 892 م).

6. انساب الأشراف، تحقيق وتعليق: محمد باقر المحمودي (ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1394 ه/ 1974 م).

7. أبو جعفر الإسكافي، محمد بن عبد الله المعتزلي (220 ه/ 835 م).

8. المعيار والموازنة في فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) وبيان أفضليته على جميع العالمين بعد الأنبياء والمرسلين، تحقيق: محمد باقر المحمودي (ط 1، د. م، 1402 ه/ 1981 م).

9. الحاكم الحسكاني، عبيد الله بن أحمد الحذاء الحنفي النيسابوري (من أعلام القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي).

10. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، تحقيق وتعليق: محمد باقر المحمودي (ط 1،

ص: 34

مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، مجمع أحياء الثقافة الإسلامية، طهران - إيران، 1411 ه/ 1990 م).

11. الحاكم النيسابوري، ابو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، (405 ه/ 1014 م).

12. المستدرك على الصحيحين، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي (دار المعرفة، بيروت - لبنان، د. ت).

13. ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد المدائني(656 ه/ 1258 م).

14. شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 1، دار احياء الكتب العربية، بيروت - لبنان، 1378 ه/ 1959 م).

15. السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911 ه/ 1505 م).

16. الدر المنثور (دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان ).

17. الطبراني، أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360 ه/ 970 م).

18. المعجم الأوسط، تحقيق: أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد و أبو الفضل عبد الحسن بن إبراهيم الحسيني (دار الحرمين، السعودية، 1415 ه/ 1995).

19. المعجم الصغير، (ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د. ت).

20. الطباطبائي، محمد حسين.

21. الميزان في تفسير القرآن (منشورات جماعة المدرسين، قم - ايران، د. ت).

22. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (310 ه/ 922 م).

ص: 35

23. تاریخ الرسل والملوك (ط 4، مؤسسة الأعلمي، بيروت - لبنان، 1403 ه/ 1993 م).

24. ابن العربي، محمد بن عبد الله بن محمد (543 ه/ 1148 م).

25. أحكام القرآن، تحقيق: محمد عبد القادر عطا (دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت / لبنان، د.ت).

26. الفخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسين الرازي (606 ه/ 1223 م).

27. تفسير الرازي (ط 3، د. م.، د. ت).

28. ابو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم (356 ه/ 966 م).

29. الأغاني، تقديم واشراف: كاظم المظفر (ط 2، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم - إيران، 1385 ه/ 1965 م).

30. القندوزي، سليمان بن إبراهيم الحنفي (1294 ه / 1877 م).

31. ينابيع المودة لذوي القربی، تحقيق: سيد علي جمال أشرف الحسيني (دار الأسوة للطباعة والنشر، ایران، 1416 ه/ 1996 م).

32. ابن کثیر، ابو الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي (774 ه/ 1372 م).

33. البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري (ط 1، دار احیاء التراث، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

34. المتقي الهندي، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين (ت 975 ه/ 1567 م).

35. کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة، ضبط تصحيح بكري حياني،

ص: 36

صفوة السفا (مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1409 ه/ 1989 م).

36. مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: يوسف اسعد داغر (ط 2، منشورات دار الهجرة قم المقدسة - ايران، 1385 ه/ 1965 م).

37. ابن مردويه، أبي بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الإصفهاني (410 ه/ 1019 م).

38. مناقب الإمام علي (عليه السلام)، جمع تحقيق عبد الرزاق محمد حسين حرز الدين، (ط 2، دار الحديث، قم المقدسة - ايران، 1422 ه).

39. الموفق الخوارزمي، الموقف بن أحمد المكي الحنفي الخوارزمي (568 ه/ 1172 م).

40. المناقب، تحقيق: مالك المحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة - ایران، 1414 ه).

41. الموفق الخوارزمي، الموقف بن أحمد المكي الحنفي الخوارزمي (568 ه/ 1172 م).

42. المناقب، تحقيق: مالك المحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة - ایران، 1414 ه).

43. الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (807 ه/ 1404 م).

44. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1408 ه/ 1988 م).

ص: 37

ص: 38

الجوانب التربوية والاجتماعية ودلالاتها في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (العدالة والانصاف والمساواة) أنموذجاً.

اشارة

اعداد

أ. د. امل داود سليم

م. د الهام فاضل عباس

ص: 39

ص: 40

ملخص البحث

العدل هو وضع الامور في موضعها ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها العدالة بمعنى الاعتدال، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل الوان التمييز، العدالة بمعنى رعاية الحقوق والاستحقاقات، والعدالة بمعنى التزكية والتطهير.

فالعدل يعني العدالة، والعدالة تشمل الحكم والقضاء، القوانين، والمساواة في مجال الحقوق، وعدم الاعتداء على حقوق الاخرين ووضع كل شيء في موضعه المناسب له ولقد اكد الاسلام على مبدأ المساواة والعدالة في اكمل صورتهما وجعلهما العقائد الاساسية التي يجب ان يدين بها المسلم.

ان فكرة العدل التي لخصها امير المؤمنين (علية السلام) بوضع الامور في مواضعها تشمل مختلف القضايا، فالعدل الاجتماعي يتم عبر الحقوق القانونية، الواجبات القانونية، الحقوق المالية، المسؤوليات الفرص المتكافئة. فالعدل هو الفرص المتساوية للناس بحيث يتمتعون بحقوقهم القانونية والشرعية وينفذوا واجباتهم ومسؤوليتهم الدينية والاجتماعية أي ان العدل اذا كان يعني وضع الامور في مواضعها فلابد ان يكون وضعها في حالتي الوصف والمعيار.

وقد لاحظت الباحثتان في الوقت الحاضر ان التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المجتمع بكافة شرائحه واطيافه قد اوجدت تهديدات ومخاوف وحالة من فقدان العدل او العدالة الاجتماعية لدى الافراد عموما. اضافة الى ذلك تأثير التكنلوجيا المعاصرة وظهور بعض التطورات في المجتمع والتي اثرت تأثيراً سلبي في قيم العدالة بين الافراد وقد تحسست الباحثتان ان هنالك العديد من

ص: 41

الافراد لا يتصفون بهذه المبادئ فكان هذا مبرراً واضحاً للباحثتين لإجراء مثل هذه الدراسة.

وبعد الاطلاع على وصية الامام علي (علية السلام) في العدل والانصاف لمالك الاشتر وضعت الباحثتين السؤالين التاليين:

1. بما يخص النص الاول في وصية الامام علي (علية السلام) في العدل والانصاف وظلم العباد.

2. النص الثاني في العدل والتواصل مع الناس، ومن خلال الاجابة على السؤالين من قبل افراد عينة البحث تتوضح المشكلة.

ولأهمية العدل والانصاف والتواصل مع الناس في بناء المجتمع وتحقيق المستقبل الافضل، وكذلك لأهمية الوصية التي وضعها شخص الامام علي (علية السلام) ولمكانته المعروفة وجبت الباحثتان اهمية موضوع البحث من خلال ما ذكر في الوصية للإمام بأن ذكر (مالك الاشتر) بأن يكون هدفه وغايته اقامة العدل، واحياء الحق، الغاية والهدف الذي من اجله ارسل الانبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة، فبالعدل فقط تقوم الانظمة وتستمر ويصير للحياة مفهومها ومعناها.

اما الحياة في ظل حاكم ظالم فهي بمثابه السجن، قال (علية السلام) (وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق وأعمها في العدل، واجمعها لرضا الرعية) وحيث قال الامام علي (علية السلام) في وصيته (اياك ومساماة ((السمو)) الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فان الله يذل كل جبار ويهين كل مختال).

وفي هذا الكلات من النص فان وصيه امير المؤمنين (علية السلام) واضحه لنا في تجنبنا بالتشبه في عظمه الله سبحانه وتعالى لأنه جبار يذل كل جبار ويهين كل مختال.

ص: 42

وتربوياً فإننا من الضروري ان نعمل بهذه الكلمات حيث يجب السير على نهج الامام علي (علية السلام) في نصح الطالبات من خلال التواضع والابتعاد عن التكبر، والمساواة المطلوبة بين الجميع ورفض التمييز والترجيح بينهم على اسس عنصرية فمن اركان العدالة الاجتماعية المساواة بين الناس، التوزيع العادل للثروات، واحترام حقوق الانسان.

اما التواصل بين الناس فقد ذكر الامام علي (علية السلام) ان (لكل أمرئ منهم ما ابلى ولا تضمن بلاء امري «صنيعةُ الى غيره») وهنا توضيح واضح الا انه يجب مكافاة كل فرد على ما قام به من عمل صالح وعليه فان البحث الحالي يهدف الى:

1. هل ان محتوى النص الاول (العدل والانصاف وظلم العباد) للإمام علي (علية السلام) مطبق في الوقت الحاضر واذا كان غير مطبق فما هي الاسباب وان كان مطبق الى حدما فما هي الاسباب.

2. هل ان محتوى النص الثاني (العدل والتواصل مع الناس) مطبق في الوقت الحاضر، اذا كانت الاجابة بنعم فما هي الاسباب وان كانت كلا فما هي الاسباب وان كانت الى حد ما فما هي الاسباب.

وطبقت الباحثتان الاستبيان الذي تم اعداده على عينه من طالبات الجامعة البالغ عددهم (120) طالبه والذي تم اختيارهم عشوائياً من الطالبات كلية التربية للبنات وبعد حساب اجابات الطالبات على فقرات الاستبيان تبين ان 70٪ من الاجابات كانت بتطبيق النصين ((الى حدما)) و 22٪ كانت اجابتهم بانها مطبقه و 7٪ كانت اجابات الطالبات بانها مطبقه في الوقت الحاضر.

ص: 43

وعلى وفق هذه النتائج بينة الباحثتان ان هناك اسباب عديده بتطبيقها (الى حد ما) ومن هذه الاسباب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمر بها البلد، اضافه الى التكنلوجيا المعاصرة والتي اصبح ان يلزم الافراد بالابتعاد عن التواصل الاجتماعي والتمسك بالقيم والعادات والتقاليد الدينية والالتزام بمنهج الدين الاسلامي اضافه الى مشاغل وهموم الحياة الكثيرة بالرغم ان افراد العينة لم يبتعدوا كثيراً عن النقاط او الركائز الاساسية او الخطوط العريضة للدين الاسلامي. ولذلك جاءت الاجابة ((الى حد ما)).

وهنا التوصيات الي توصي بها الباحثتان من ضرورة اقامة الندوات وورش العمل وتنفيذ وصية الامام علي (علية السلام) لتطبيق هذه الوصايا في وقتنا الراهن.

ومن اهم المقترحات هو اجراء بحث موسع عن العدل والانصاف بين افراد مؤسسات المجتمع العراقي.

ص: 44

المبحث الاول

مشكلة البحث:

اكد الاسلام على مبدا العدالة والمساواة في اكمل صورتهما وجعلهما من العقائد الاساسية التي يجب ان يديم بها المسلم، فالعدالة تعتبر من اهم المكونات والمرتكزات في الاسلام.

ولقد ركز القرآن الكريم كثيرا على اهمية تطبيق العدالة في المجتمع، فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس جميعا من تراب ولذلك لا فضل لابيض على اسود الا بالتقوى والعمل الصالح.

فالناس سواسية في اصل الخلقة والنشأة والمنبع، والمساواة بين الناس والتي تعد من اهمك مكونات واسس بناء العدالة الاجتماعية.

وان فكرة العدل التي لخصها امير المؤمنين (عليه السلام) بوضع الامور مواضعها، تشمل مختلف القضايا، فالعدل الاجتماعي يتم عبر امور مثل الحقوق القانونية كحق البيع والشراء، وحق العمل ونحوها، والحقوق المالية، المسؤوليات، والفرص المتكافئة.

فالعدل هو اعطاء الفرص المتساوية للناس بحيث يتمتعون بحقوقهم وينفذوا واجباتهم ومسؤولياتهم الدينية والاجتماعية، والعدل الذي مارسه الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مع الامة شمل النظرية والمصداق معا.

وفي وقتنا الحاضر نجد ان مهمة بناء شخصية الشباب في هذا الزمن، زمن الانفجار المعلوماتي اصبحت مهمة صعبة او تكاد تكون مستحيلة بل انها ايضا محبطة ومخيبة

ص: 45

لآمال الكثير من التربويين والمربين، فالشباب هم الفئة الاكثر تقبلا للتطور والاكثر اتصالا في عملية البناء الحضاري، وان وعي التربويين هو الذي سيحدد مستوى تأثير التكنولوجيا ودورها في بناء شخصية الشباب.

ومشكلة البحث تنبع من احساس الباحثتين في الوقت الحالي مع هذه التطورات التي اثرت تأثير سلبي في قسم العدالة بين افراد المجتمع.

وقد تحسست الباحثتان ان هناك العديد من الافراد لا يتصفون بهذه المبادئ ولا يلتزمون بها فكان هذا واضحا للباحثتين لإجراء مثل هذه الدراسة.

ومن خلال اطلاع الباحثتين على وصيه الامام علي (عليه السلام) في العدل والانصاف وضعت الباحثتين السؤالين التاليين:

1. بما يخص النص الاول في وصية الامام علي (عليه السلام) في (العدل والانصاف وظلم العباد)

2. النص الثاني في (العدل والتواصل مع الناس) انظر ملحق 1

ومن خلال الاجابة على السؤالين من قبل افراد عينة البحث تتوضح مشكلة البحث.

اهمية البحث

ان ما حققه الحضارة الاسلامية في عصور ازدهارها كان وراءه نظام ومفاهيم وقيم تربوية نحن الان في امس الحاجة الة دراستها والوقوف امامها للاستفادة من بعض جوانبها في حل مشكلاتنا اليومية.

ولقد ارسى الاسلام العديد من القواعد والاسس التي تنظم العلاقات بين افراد المجتمع، ومن اهم هذه الاسس هي العدالة الاجتماعية بما تحمله من معاني وقيم

ص: 46

رفيعة تساعد على القيام بمجتمع يتمتع بالسلام والاخاء والمحبة والرفاه.

وتتضح اهمية العدل في الاسلام في كونه صفة من صفات الله تعالى، حيث انه سبحانه وتعالى العدل.

ويعد العدل من القيم الاساسية التي حث عليها القرآن الكريم وكررها في العديد من الآيات ولقد فرض الله العدل على المسلمين ليشمل كل شيء في حياتهم ابتداءاً من العدل في الحكم الى الشهادة ومعاملة الاسرة والزوجة وجميع الناس حتى والخصوم، فلقد قال الله تعالى (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل).

وان قدرة الانسان على التمتع بحقوقه المعنوية والمادية الكاملة لا يمكن ان تتحقق الا في ظل عدالة اجتماعية شاملة، وان العدالة لا يمكن ان تكون كاملة وتامة دون حفظ وحماية وصيانة حقوق الانسان المشروعة وتطبيق قيم العدل والعدالة وحدها الكفالة بتحقيق مبدا الكرامة الانسانية التي اكد عليها القرآن الكريم.

وللعدالة الاجتماعية اركان واسس وقواعد لا تقوم الا بها، وهي مقياس لمعرفة ان كانت العدالة الاجتماعية مطبقة في مجتمع ما ام ان السائد فيه هو الظلم والجور والحرمان، واهم اركان العدالة هي المساواة بين الناس، فالمساواة بين الناس تعطي حيوية للمجتمع.

وما تعانيه المجتمعات في عالم اليوم من مشاكل مزمنة يعود - في جزء منها الى انتشار المحسوبيات في الحياة العامة، وانعدام تكافؤ الفرص بين الناس، والتمييز على اسس مختلة، مما يؤدي الى تأخر المجتمع وغياب العدالة.

ص: 47

ولأهمية العدل والانصاف والتواصل من الناس في بناء المجتمع وتحقيق المستقبل الافضل والتي تنبثق من اهمية الوصية التي وضعها شخص الامام علي (عليه السلام) ولمكانته المعروفة اذ ان اول شيء اوصى امير المؤمنين (عليه السلام) به مالك الاشتر، ان يكون محباً للرعية، محترما لمشاعر الناس من اي فئة كانوا، ثم دعاه الى ان لا يميز بين القريب والبعيد غي عطاءاته، ثم ذكره بان يكون هدفه وغايته اقامة العدل، واحياء الحق، الغاية والهدف الذي من اجله ارسل الانبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة فبالعدل فقط تقوم الانظمة وتستمر ويصير للحياة مفهومها ومعناها.

وتربويا فأنا من الضروري ان نعمل بالعدل وبالوصايا هذه حيث يجب السير على نهج الامام علي (عليه السلام) بالتواضع والابتعاد عن التكبر لذلك وجدت الباحثتان اهمية البحث هذا من خلال اهمية الموضوع نفسه.

اهداف البحث: يهدف البحث:

1. هل ان محتوى النص (العدل والانصاف، وظلم العباد: اذ قال امير المؤمنين (عليه السلام) (اياك ومساماة (السمو) الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فان الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال.

2. انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى (تميل اليه) من رعيتك فانك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض (ابطل) حجته وكان الله حربا حتى ينزع (يقلع عن ظلمه) ويتوب):

مطبق في الوقت الحالي واذا كان غير مطبق فما هي الاسباب:

ص: 48

2. هل ان محتوى النص (العدل والتواصل بين الناس) (وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية، وانه لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم،...)

مطبق في الوقت الحالي واذا كان غير مطبق فما هي الاسباب.

حدود البحث

يتحدد البحث الحالي بطالبات كلية التربية للبنات للمرحلة الاولية وطالبات الدراسات العليا للعام الدراسي 2015 - 2016

تحديد المصطلحات:

أولاً: العدل

• افضل تعريف لمعنى العدل هو: ((وضع الامور في مواضعها)) الوارد عن الامام علي (عليه السلام)

• العدل لغويا: القصد في الامور، او عبارة عن الامر المتوسط بين (الافراط - والتفريط) ومقابلها الظل والجور وما قام في النفوس انه مستقيم، من عَدَلَ يَعدِلُ فهو عادل من عُدول وعدل يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل.

• العدل اصطلاحا: هو عبارة الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور وهو استعمال الامور في مواضعها واوقاتها ووجوهها، ومقاديرها من غير سرف، ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير.

ثانيا: العدالة الاجتماعية

• علماء الاخلاق ينظرون اليها بوصفها:

ص: 49

خصلة اخلاقية تحفز على احترام حقوق الاخرين

• علماء القانون يعرفون العدالة:

بسيادة القانون

• علماء الفقه ينظرون للعدالة:

بوصفها شرطا لصحة مجموعة من الاعمال

• علماء الاجتماع يركزون على:

انه لا استقرار اجتماعي دون سيادة العدالة

• علماء الفلسفة يرون:

ان فلسفة الوجود قائم على العدالة

• فالعدالة: هي محور كل شيء في حياتنا واصل للأصول الاخرى.

ثالثا: المساواة

رفض التمييز على اسس عنصرية او عرقية أو مذهبية او ما شابه ذلك.

رابعا: الانصاف

لغة: مشتق من نصف اي شطر الشيء الى نصفين متساويين، وتناصف القوم اي تعاطوا بالحق وتعاملوا بالعدل والقسط والتنصف هو طلب المعروف ودرء المنكر بعد استواء المحاسن والمساوئ

اصطلاحا: هو الشعور التلقائي الصادق بما هو عدل او جور

فلسفة: الانصاف في ان يعطي صاحبه ما عليه بإزاء ما يأخذ من النفع، وهو استيفاء الحقوق لا ربابها واستخراجها بالأيدي العادلة والسياسات الفاضلة.

والانصاف: هو ان تعطي غيرك من الحق مثلا الذي تحب ان تأخذه منه لو كنت مكانه ويكون ذلك بالأقوال والافعال، في الرضا والغضب، مع من نحب ومع من نكره.

ص: 50

المبحث الثاني منهج البحث واجراءاته Research Method and Procedures

يتضمن هذا الفصل عرضا لإجراءات البحث المتبعة من حيث تحديد مجتمع البحث واختيار العينة وإجراءات بناء مقياس (العدل والانصاف) وإجراءات التطبيق النهائي على عينة البحث وبيان الوسائل الاحصائية المستخدمة في التوصل الى نتائج البحث وفيما يأتي تفصيل ذلك:

منهج البحث (Method of Research)

اعتمد البحث الحالي منهج الدراسات الوصفية التي تسعى الى تحديد الوضع الحالي لظاهرة معينة، ثم تعمل على وصفها بدقة، فالمنهج الوصفي هو أحد أشكال التحليل والتفسير العلمي المنظم لوصف ظاهرة أو مشكلة محددة وتصويرها كمياً عن طريق جمع بيانات ومعلومات مقننة عنها وتصنيفها واخضاعها للدراسة الدقيقة، ويأخذ المنهج الوصفي أنماطاً وأشكالاً عدة (ملحم، 2002: 35).

عينة البحث: Sample of Research

تمثلت عينة البحث ب (120) طالبة من طالبات قسم رياض الاطفال / كلية التربية / جامعة بغداد، اختيرت بشكل قصدي وتوزعت عينة البحث كما هو موضح في الجدول (1).

ص: 51

جدول (1) عينة البحث وفقاً لعينة الدراسة

المرحلة العدد الثانية الثالثة 40 الرابعة 72 الماجستير الدكتوراه / المجموع 120

اداة البحث: Tool of Reasearch

قامتا الباحثتان و تحقيقاً لهدف البحث بإعداد استبيان (مغلق - مفتوح) يَضم:

1. محتوى النصين من وصية الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر وكما:

- (العدل والإنصاف وظلم العباد).

- العدل والتواصل بين الناس).

2. اسئلة مغلقة، مفتوحة تتعلق بالنصين السابقين الذكر ملحق (1).

ولتحقق من صدق الاستبيان، وزع على عينة من الخبراء في المجال، بلغ عددهم (10) خبير (ملحق 2) وبعد حساب نسبة اتفاق آراء الخبراء تبين صلاحية الاستبيان بعد حذف السؤال الاول، حيث كانت نسبة اتفاق الاراء اكبر من 80٪ التي اعتمدت كمعيار لحساب الصدق الظاهري للاستبيان، وكما هو موضح في الجدول (2).

ص: 52

جدول (2) نسبة اتفاق اراء الخبراء للصدق الظاهري

الفقرات صالحة بنسبة اتفاق غير صالحة بنسبة اتفاق

محتوى النص الاول 100%

محتوى النص الثاني 100%

السؤال الاول از 20٪ 80٪

السؤال الثاني 100%

السؤال الثالث 100%

السؤال الرابع 90% 10%

وعليه اصبح الاستبيان بالشكل النهائي يضم محتوى النصين (العدل والإنصاف وظلم العباد) و (العدل والتواصل بين الناس) مع الاسئلة الخاصة بكل نص (ملحق 3)

تطبيق أداة البحث:

طبقت الباحثان اداة البحث على العينة البالغة (120) طالبة في قسم رياض الاطفال وكان التطبيق في صفوف الطالبات وقد استغرق (3) اسابيع حيث بدأ في (10/9 /2016) وانتهى في (28/ 10/ 2016).

ص: 53

الوسائل الاحصائية: (Statistical Means)

اعتمدت الباحثتان الوسائل الاحصائية الاتية:-

• مربع كاي.

• النسب المئوية.

* استعملت الباحثة البرنامج الاحصائي (spss) في معالجة البيانات أحصائيا بالحاسبة الالكترونية.

المبحث الثالث نتائج البحث ومناقشتها

يتضمن هذا الفصل عرضا للنتائج التي توصل اليها البحث، وعلى النحو الاَتي:

عرض النتائج:

• الهدف الاول: هل أن محتوى النص (العدل والانصاف، ظلم العباد) من وصية الامام علي (عليه السلام) الى وليه (مالك الاشتر) في مصر، مطبق في الوقت الحاضر، ام غير مطبق، ام مطبق الى حد ما؟

بعد حساب اجابات عينة البحث، استعملت الباحثتان معادلة مربع كاي لعينة واحدة (Chi- Square) (عودة والخليلي، د.ت: 283) وقد تبينت النتائج الدلالة الاحصائية لمربع كاي حيث بلغت القيمة المحسوبة (76،65) وهي اكبر من القيمة الجدولية البالغة (99، 5) عند مستوى دلالة (0،05) كما هو موضح في الجدول (3).

ص: 54

جدول (3) قيمة مربع كاي للهدف الاول

النص التكرار مطبق غير مطبق الى حد ما المجموع قيمة مربع کاي

المشاهدة 27 9 84 120 المحسوبة الجدولية

المتوقع 40 40 40 120 65، 76 99، 5

عند الاطلاع على الجدول السابق، نلاحظ أن رأي طالبات عينة البحث في مدى تطبيق محتوى وصية الامام علي (عليه السلام) الى وليه مالك الاشتر في مصر، مطبق الى حد ما، وبينت العينة أن هناك عدة اسباب لذلك كما هي موضحة في الجدول (4).

جدول (4) اسباب تطبيق محتوى النص (العدل والإنصاف وظلم العباد) من وصية الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر مصر

التطبيق الاسباب الى حد ما ك ٪ غير مطبق ك %

1 المحسوبية والاقارب 24 20 صعوبة الظرف الاجتماعي والاقتصادي 9 5، 7

2 عدم تطبيق تعاليم الدين 22 18٫33 ضعف الثقافة السياسية 9 5، 7

3 التطور التكنلوجي 20 / 16,66 التطور التكنلوجي السریع 8 66، 6

4 المصالح الشخصية 19 15,33 شیوع الفساد 5 166، 4

5 ضعف التواصل الاجتماعي و بين الناس 11 16، 9

ص: 55

عند الاطلاع على الجدول اعلاه نجد ان عوامل مثل (المحسوبية والاقارب وعدم الالتزام بالتوجيه الديني، فضلاً الى التطور التكنلوجي، والمصالح الشخصية وصعوبة الظرف الاجتماعي والاقتصادي جعلت في الناس بعيدة كل البعد عن العدل والانصاف وعدم ظلم العباد، حيث اصبحت للمحسوبية دوراً واضحاً في الحياة اليومية، فبلغت 20٪ من مجموع العينة المختارة، تلا ذلك ضعف الوازع الديني فكان نسبة 18،33٪ يلي ذلك التطورات التكنلوجية والمصالح الشخصية وتشير بعض الادبيات الى

الهدف الثاني: هل أن محتوى النص (العدل والتواصل بين الناس) من وصية الامام علي (عليه السلام) الى (مالك الاشتر) في مصر، مطبق في الوقت الحاضر ام غير مطبق، ام مطبق الى حد ما؟.

بعد حساب اجابات عينة البحث، استعملت الباحثتان معادلة مربع کاي لعينة واحدة (Chi-Square) (عودة والخليلي، د. ت: 283) وقد تبينت النتائج الدلالة الاحصائية لمربع کاي حيث بلغت القيمة المحسوبة (63،15) وهي اكبر من القيمة الجدولية البالغة (99، 5) عند مستوى دلالة (05، 0) كما هو موضح في الجدول (5).

جدول (5) قيمة مربع كاي للهدف الثاني

النص التكرار مطبق غیر مطبق الی حد ما المجموع قیمة مربع کاي

المشاهدة 12 18 81 120 المحسوبة الجدولیة

المتوقع 40 40 40 120 15، 63 99، 5

ص: 56

عند الاطلاع على الجدول السابق، نلاحظ أن رأي طالبات عينة البحث في مدى تطبيق محتوى وصية الامام علي (عليه السلام) الى وليه مالك الاشتر في مصر (العدل والتواصل بين الناس)، مطبق الى حد ما، وبينت العينة أن هناك عدة اسباب لذلك كما هي موضحة في الجدول (6).

جدول (6) اسباب تطبيق محتوى النص (العدل والتواصل بين الناس) من وصية الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر في مصر

التطبيق الاسباب الى حد ما ك % غیر مطبق ك %

1 ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية 44 66، 36 قلة صلة الرحم 18 15

2 عدم وجود الامن 32 66، 26 ترك اهل الظم 11 16، 9

3 وجود الفتنة بين الناس 22 33، 18 انعدام الضمیر 9 6، 7

التوصيات:

مما تقدم من اجراءات ونتائج البحث يمكن للباحثتان تقديم التوصيات الاَتية:

1. اقامة ورش عمل خاصة بكيفية تنفيذ وصايا الامام علي (عليه السلام) في المجتمع.

2. اقامة مؤتمرات وندوات تناولت موضوعات العدالة والانصاف بين الناس، تقدمها وزارة الدولة ومنها وزارة الشؤون الاجتماعية والتربية فضلاً عن التعليم العالي والبحث العلمي.

3. اقامة دورات خاصة تتناول موضوعات وصايا الامام علي (عليه السلام) تتمحور حول اعداد الاطفال والمعلمات في الرياض لما لهذه الاستراتيجيتين

ص: 57

الاكبر في بناء المجتمع العراقي.

المقترحات:

في ضوء نتائج البحث تقترح الباحثتان ما يأتي:

1. اجراء بحوث حول كافة نصوص وصايا الامام علي عليه السلام.

2. اجراء البحث الحالي على عينة موسعة تشمل جميع طلبة الجامعات.

المصادر:

- القران الكريم

1. الهام فاضل (2015) التكنولوجيا المعاصرة وعلاقتها بالنفس لطلبة الجامعة، بحث مقدم الى مركز البحوث النفسية، المؤتمر الدولي الثامن عشر.

2. الدهشان، جمال علي (1993) لتكافؤ الفرص التعليمية، المفهوم و مظاهر التطبيق في عصر الازدهار الاسلامي.

3. شكر فايز علي - الرعية في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر.

4. شبكة المعارف الاسلامية، الامام علي عليه السلام، رائد العدالة الاجتماعية.

5. عودة: احمد سليمان والخليلي، خليل يوسف في الاحصاء وللباحث في التربية والعلوم الانسانية، دار الفكر للنشر والتوزيع - عمان.

6. مجلة البحوث النفسية والتربوية - العدد الثالث - كلية التربية - جامعة المنوفية.

7. الشريف الرضي (الجامع) - نهج البلاغة، فهرسة الدكتور صبحي

8. اليوسف - عبد الله صمد (2009): مجلة البصائر - العدالة الاجتماعية في القران الكريم - العدد 44

ص: 58

ملحق (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

جامعة بغداد

كلية التربية للبنات

قسم رياض الاطفال

م/ استبيان

عزيزتي الطالبة ............

عزيزتي التدريسية .........

تقوم الباحثتان باجراء دراسة عن (العدل والإنصاف في وصية الامام علي (عليه السلام)) وتنفيذها في الوقت الحاضر) ولأنك العنصر الفعال في المجتمع وبناة المستقبل تضع بين يديك نصين من وصية الامام علي (عليه السلام) الى وليه (مالك الاشتر) في مصر الخاصة بالعدل والإنصاف، يرجي منكِ قراءة النصين الآتيين باستیعاب، ثم الاجابة عن الأسئلة الموضحة.

ص: 59

شاكرين تعاونك معنا

علماً ان الاجابة لأغراض البحث العلمي فقط ولا داعي لذكر الاسم.

مع التقدير

الرجاء قلب الصفحة

النص الاول

العدل والإنصاف، وظلم العباد:

إياك ومساماة (السمو) الله فِي عِظِمِتِهِ، وَ التشِبيُهِ بِهِ فِي جِبَرُوتِهِ، فإِنَ الله يُذِل كلِ جِبَار، ويُهِينُ كل مختِال.

إنصِفِ اللهِ وَ إنصِفِ الناسَ مِن نفسِكِ، وَ مِن خاصهُ إهلِكِ، وَمِن لِكِ فِيهِ هِوىً (تميل اليه) مِن رَعِيتِكِ، فإنِكِ إلا تِفعِل تِظلِم، وَمِن ظِلِمِ عِبَادِ الله كِانَ اللهُ خِصمِه دونَ عِبَادِهِ، وَمِن خِاصِمِه اللهُ إدحِضِ (إبطل) حجَّتِه، وَكِانَ الله حِرباٍ حِتى یِنزعَ (يقلع عن ظلمه) وَيِتوبَ.

بعد اطلاعك المتمعن للنص فأنك تجدين ان محتوى النص:

1) مطبق في الوقت الحالي نعم الى حد ما

2) إذا كانت إجابتكِ ب (نعم) فما هي الاسباب:

ص: 60

*

*

*

3) إذا كانت إجابتكِ ب (کلا) فما هي الاسباب:

*

*

*

4) إذا كانت إجابتكِ (الى حد ما) فما هي الاسباب:

* بعض الناس لا يعرفون العدل.

* ويظلمون الاخرين.

* يوجد أي عدل في الموضوع.

ص: 61

النص الثاني

العدل والتواصل بين الناس:

[وَ إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَینِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ، وَ ظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیةِ، وَ إِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ،] وَ لَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ (بمعنی حفظه وصانه) عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ.

فَافْسَحْ فِی آمَالِهِمْ، وَ وَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیهِمْ، وَ تَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ (إهل الاعمال العظیمة) مِنْهُمْ، فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَ تُحَرِّضُ النَّاکِلَ (المتإخر القاعد)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی، وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ (صنیعه) إِلَی غَیْرِهِ، وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ، وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مِا کِانَ صِغِیراٍ، وَلاضِعِة امرئ إلی إن تِستصغِرَ مِن بَلائِهِ ما کَانَ عِظیماٍ.

وَارْدُدْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ (الامور الجسام)، وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الاُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ: الاَخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ (نِصه الصریح)، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ: الاَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ.

بعد اطلاعك المتمعن للنص فأنك تجدين ان محتوى النص:

* مطبق في الوقت الحالي نعم كلا الى حد ما

ص: 62

1) إذا كانت إجابتكِ ب (نعم) فما هي الأسباب:

*

*

*

2) إذا كانت إجابتكِ ب (كلا) فما هي الاسباب:

*

*

*

3) إذا كانت إجابتكِ (الى حد ما) فما هي الاسباب:

* بعض الاشخاص يظلمون ولا يواصلونَ صلة الرحم.

* والبعض الاخر يحقد ويكره.

* وبعظهم يقتل اخوه المسلم.

ص: 63

ملحق (2) أسماء الساده المحكمين

ت اللقب العلمي والاسم التخصص مكان العمل

1 أ. د. خولة عبد الوهاب القيسي علم النفس كلية التربية للبنات / جامعة بغداد

2 أ. د. سميرة عبد الحسين علم النفس كلية التربية للبنات / جامعة بغداد

3 أ. م. د زینب محمد کاطع علم النفس كلية التربية للبنات / جامعة بغداد

4 أ. م. د. جميلة رحيم عبد علم النفس التربوي كلية التربية للبنات / جامعة بغداد

5 أ. م. د. أيمان عبدالكريم شخصية وصحة نفسية الجامعة المستنصرية / كلية التربية الأساسية

6 أ. م. د. شيماء صلاح العبيدي قياس وتقويم جامعة بغداد / كلية التربية للبنات

7 أ. م. د. عبد الحسين رزوقي قیاس وتقویم جامعة بغداد / كلية التربية ابن رشد

8 أ. م. د. سیف ردیف قياس وتقويم مركز البحوث التربوية والنفسیة

ص: 64

القواعد الاخلاقية والخصائص السلوكية الواجب توفرها في شخصية من يتولى الامصار الاسلامية من خلال عهد الامام علي (علية السلام) لواليه مالك الاشتر

اشارة

الدكتورة: أمل عجيل ابراهيم جامعة الكوفة / كلية الاثار

ص: 65

ص: 66

المقدمة

الحمد لله الذي شرفنا بنعمة الاسلام ووفقنا الى محبة الامام والصلاة والسلام على سید الانام محمد و آله الطيبين الكرام.

يعد عهد الامام علي (عليه السلام) من اهم العهود التي مرت بها الدولة الاسلامية، رغم قصر مدة الحكم والمحن التي عصفت بكيان الامة ووجودها في تلك الفترة التاريخية الا انه شهد تحديات وانجازات قل نظيرها وتطورات كبيرة في المجالات الادارية والاجتماعية والقضائية.

تناول البحث جانبا مهما من جوانب شخصية الإمام (علية السلام) من خلال العهد الذي كتبه (علية السلام) لواليه على مصر، والذي يعد اعظم وثيقة ادارية اوضحت بشكل جلي المنظور الاداري في فكر الإمام (علية السلام) وهو اطول عهد كتبه خليفة الى احد عماله واجمعها من حيث المضمون برسمه انموذجا «متقدما» لتخطيط الدولة وتوجيه معطيات النظام الاجتماعي والاخلاقي باحتواءه على مجموعة من القواعد المتكاملة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان لتكون دستور عمل للمجتمع الانساني باجمعه، يدعوا الى مکارم الاخلاق و ضوابط السلوك القويم فضلا عن حسن التخطيط والادارة والبعد السياسي اعتمادا على مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة.

وانطلق البحث من تناول مسألتين مهمتين:

الأولى: اعطاء ومضه وجيزه عن الظروف التي مرت على الإمام (علية السلام) ابان توليه الخلافة واستعراضها تاريخيا ولو بشيء من الايجاز لكي يتسنى فهم تقلبات المرحلة ومحنها التي مازالت آثارها باقية للان.

ص: 67

الثانية: يتجسد في القاء الضوء على احدى الجوانب المهمة في عهد الامام علي لمالك الاشتر وهو القواعد الأخلاقية والضوابط السلوكية الواجب توفرها في شخصية من يتولى ادارة الامصار الاسلامية مما يصلح ان يطبق في كل عصر بل يجب ان يتوافر في شخصية كل من يقود مجموعة من الناس من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية والامن والرفاهية والمساواة.

وختاما:

ان كل عملنا البسيط هذا موفقا فمن الله سبحانه وتعالى وان كان ناقصا مقصرا فمن انفسنا ونسأل الله العفو والمغفرة، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 68

المبحث الأول نظرة عامة على الاوضاع التاريخية ابان تسلم الامام علي (علية السلام)

الخلافة الراشدة (35/ 41 - 661/655 م)

واجهت الامام علي (علية السلام) بعد وفاة الرسول الكريم (صل الله عليه وآله وسلم) معضلات معقدة ومحن صعبة، فالوضع السياسي والاجتماعي في تلك الفترة التاريخية اخذ يسير بكيفيات واتجاهات متناقضة وبعيدة عن روح الاسلام وقواعده الاخلاقية ومع ظهور بوادر الانحراف والتدهور في جسد الدولة والمجتمع الاسلامي الا ان الامام (علية السلام) ظل يسير بنهج قيادي ذو نسق واحد ووفق مبادئ اخلاقية اصيلة ومشهودة من اجل هدف اسمی وغاية انبل وهو انقاذ المجتمع الاسلامي من صدمة الانحراف وتقويم التجربة ونشر الاستقامة والهداية التي دعا اليها الدين الحنيف (1).

وقد عمل الامام (علية السلام) في اطار التعبئة الفكرية التي كان يقوم بها على الموازنة بين موقفه المعارض من السلطة وبين حرصه الشديد على عدم انهيار التجربة الاسلامية وبين تقويم السلطة وتوجيه الارشادات والنصائح لها بغية وضعها على الطريق الصحيح لتطبيق الاسلام وكان مقتضى هذه الموازنة المعقدة بين هذه الاهداف الثلاثة استخدام استراتيجية موحدة في العمل ومواجهة الاحداث ضمن ضوابطها ومحدداتها (2).

وحينما بويع الإمام (علية السلام) على تولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان (24/ 35 ه - 644 / 655 م) قبلها مكرهاً قائلاً كلمته الخالدة «دعوني والتمسوا غيري.... واعلموا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم ولم اسع الى قول القائل وعتب

ص: 69

العاتب وان تركتموني فانا کاحدکم ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن وليتموه امرکم وانا لكم وزير خيرا لكم مني اميرا» (3).

وربما كان مغزى قوله انه يريد السير بهم على منهج وخطى الرسول الكريم (صل الله عليه وآله وسلم) والرسالة الاسلامية الحقيقية دون الاهتمام بالسلطة والحكم بعد ان شخص مخاطر الانحراف عن الطريق القويم الذي لو كانت قد سارت به الامة لتجنبت العديد من الأهوال والكوارث.

وكان النبي (صل الله عليه وآله وسلم) قد قبض والامام علي بن ابي طالب (علية السلام) عندئذ هو ابرز وجوه بني هاشم وكان واثقا من خلافته للبني (صل الله عليه وآله وسلم) الى حد انه رأى أن ليس لاحد ان يطلبها غيره (4) ولا عجب ان يشعر بذلك وقد خاطبه الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) بقوله: «اما ترضى ان تكون منی بمنزلة هارون من موسى» (5).

فقد كان يرى في نفسه وهو الرجل الذي خبر سنة الرسول خبره تامة وكذلك رأى فيه فقراء الصحابة (6) خاصة الضمانة الاساسية لاستمرار النهج الاجتماعي الذي ساد شبه الجزيرة العربية على يد النبي (صل الله عليه وآله وسلم) وايضا الضمانات الاساسية كي لا يعود ملأ قریش واغنياؤها - الذين التحقوا بالاسلام عندما لم يجدوا طريقا لمقاومته - للامساك بالسلطة تحت رايات الدين الجديد (صل الله عليه وآله وسلم).

كانت خلافة الامام علي (علية السلام) بداية عهد جديد ونقطة تحول عن الخط الذي وجد بعد وفاة النبي (صل الله عليه وآله وسلم) و اصبح من الواجب على الامة قبول المنهج الجديد في العمل السياسي والاجتماعي والاداري فكانت اولى واكبر

ص: 70

العقبات التي واجهت الإمام (علية السلام) فور تسلمه زمام الامور هو انشقاق معاوية بن ابي سفيان و تخلف الشام عن الانضمام الى بيعته (8).

وبهذا امتطى الامام اول صعوبة وخطا خطوته الاولى في اقامة منهجه الخاص بالحكم والادارة خلافا للمنهج السابق الذي درج عليه الحكام قبله في اقرار معاوية في منصبه وصلاحياته في الشام.

وكان عمر بن الخطاب (13 - 24 ه/ 634 - 644م) وقد ولاه الشام كلها فكان جواب الإمام (علية السلام) بليغا عظيما حينما اشار عليه المغيرة بن شعبة (9) بان يثبت العمال على ولاياتهم «فاذا بايعوا لك واطمأن الامر لك عزلت من احببت واقررت من احببت» فاجابه الامام (علية السلام): «والله لا ادهن في ديني ولا اعطي الدنية من امري» واصر عليه المغيرة بان ينزع من يشاء ويترك معاوية «لان لمعاوية جراءة وهو في اهل الشام يسمع منه ولك حجة في اثباته» فاجابه الامام «لا والله لا استعمل معاوية يومين ابدا ... لا اعطيه الا السيف» (10)

ان فلسفة الحكم عند الامام تستند من حيث الأساس على وحدة الوسائل والغايات وهي بهذا المعنى تمقت الانتهازية او الوصولية بشتى صورها ومختلف مجالاتها فلا يمكن على هذا الاساس ان يحقق المرء غاية نبيلة باتباعه وسيلة فاسدة وبالعكس لان الوسائل الفاسدة ترافقها وتنتج عنها غايات فاسدة ووسائل اخرى فاسدة كذلك (11)

حرص الامام بموقفه هذا على ان تدرك الامة کامة ان واقع المعركة بينه (علية السلام) وبين معاوية واعوانه ليست معركة بين شخصين او قائدین او قبيلتين وانما هي معركة بين الاسلام والجاهلية، و ان يفهم الناس ان واقع المعركة هو واقع المعركة

ص: 71

بين رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) و الجاهلية التي حاربته في بدر واحد وغيرها من الغزوات و سوف يمني هذا الحرص بنكسة كبيرة لو انه اقر معاوية واقر مخلفات عثمان بن عفان السياسية والمالية ولو الى برهة من الزمن (12).

وكان الوضع السياسي حرجا جدا آنذاك فقد جاء الامام (علية السلام) الى الحكم في وقت تآمرت عليه الاطراف المختلفة بما فيها المحسوبة عليه والمقاتلة بين قواته في ظل ظروف لا تساعد مطلقا على احداث التغيير المنشود الذي كانت تتطلبه تلك المرحلة الدقيقة فلم يمض وقت طويل على مبايعته في ذي الحجة من سنة (35 ه) حتی کانت وقعة الجمل في جمادى الاولى (36 ه) والتي روي المؤرخون انه قتل فيها جمع غفير من المسلمين (13).

واعقبتها واقعة صفين (14) سنة (37 ه) بين الامام (علية السلام) ومعاوية بن ابي سفيان والذي قتل فيها الصحابي الجليل عمار بن یاسر الذي قال فيه الرسول الكريم (صل الله عليه وآله وسلم): «تقتل عمارا الفئة الباغية» (15)

وكادت ان تكون الغلبة لجيش الامام بعد ان ظهروا على اصحاب معاوية ظهورا شديدا واضطروه للهرب على فرسه لينجو بنفسه قبل ان يدعوه عمرو بن العاص (16) الى خديعة رفع المصاحف والاحتكام الى ما فيها «فتستكف جيش الامام وتكسر من حده وتفت في عضده» (17).

وكان ان تمت الخدعة بنجاح فاوقفت المعركة واتفق الفريقان على اختيار حكمين هما عمرو بن العاص نيابة عن معاوية وابو موسى الاشعري (18) نيابة عن الامام ليحكموا بينهما على اساس القرآن فاجتمع الحكمان في (دومة الجندل) (19) من شهر ربیع الاول سنة (38 ه) واستطاع عمرو بن العاص بدهائه ومكره ان يخدع ابا موسی

ص: 72

الاشعري وان يعلن معاوية خليفة على المسلمين (20).

وكانت نتيجة الصراع ظهور فرقة الخوارج (21) و تحزبهم الى قرية يقال لها (حروراء) بينها وبين الكوفة نصف فرسخ، واصطدامهم بالامام (علية السلام) و جيشه فكانت وقعة النهروان سنة (39 ه) التي انتصر فيها جيش الحق وقتل الخوارج عن خرهم (22).

ووجه معاوية بن ابي سفيان، عمرو العاص على مصر على شرط له فقدمها ومعه جيش كبير من اهل الشام، فلقيهم والي الامام على مصر محمد بن أبي بكر وحاربهم محاربة شديدة قبل ان يخذله اليمانية الذين استمالهم عمرو بن العاص فخلفوا محمدا وحده حتى قتل بان ادخلوه جيفة حمار وحرقوه (23) مما يعد سابقة خطيرة في مخالفة القواعد الاسلامية والدين الحنيف.

وبلغ عليا (علية السلام) ضعف محمد بن ابي بكر وممالاة اليمانية لجيش معاوية فوجه (مالك بن الاشتر) (24) الى مصر قبل ان ينتهي اليه قتل محمد بن ابي بكر وكتب الى اهل مصر: اني بعثت اليكم سيفا من سيوف الله لا نابي الضربة ولاكليل الحد فان استنفرکم فانفروا وان امركم بالمقام فاقیموا فانه لا يقدم ولا يحجم الا بامري وقد اثرتكم به على نفسي فلما بلغ معاوية ان عليا قد وجه الاشتر عظم عليه الامر فدس له سما بعسل على يد رجل من اتباعه فمات الاشتر بالقلزم وبها قبره وكان قتله وقتل محمد بن ابي بكر في سنة (38 ه) (25).

وان معاوية قام خطيبا حينما ابلغوه بمقتله فقال: كانت لعلي يمينان فقطعت احداهما بصفين يعني - عمار بن یاسر - وقطعت الاخرى اليوم يعني الاشتر (26).

كانت خلافة الامام علي (علية السلام) مليئة بالصراعات الدامية والى جانب

ص: 73

الصراعات العسكرية تدخلت في النزاع التناقضات الاقليمية فوقف عرب سورية ضد عرب العراق ووقفت دمشق ضد الكوفة واصبح انقسام الامة الاسلامية امرا واقعا بعد ان اعتبر معاوية قرار التحكيم لصالحه واعلن انشقاقه (27).

ووصلت الامور الى ذروتها حينما امتدت يد الغدر لتغتال أمير المؤمنين (علية السلام) في (19 رمضان 40 ه) وهو يصلي في محرابه بالكوفة (28).

وربما ان تاريخ هذه المرحلة الدامية جدير بالمزيد من الاهتمام والتقويم خارج نطاق المفهوم التقليدي للدراسات ففي هذه المرحلة يكمن الخلل الذي دمر الطاقة الاسلامية وشل نهوضها الحضاري والسياسي وجعل الوهن يدب في اتباعها.

وما حدث من هذا التدهور السريع يضعنا امام خيارين لا ثالث لهما: اما ان نظرية الاسلام السياسية لم تطبق اصلا واما ان يكون ما طبق بقطع النظر عن صوابه وخطاءه على درجة من الضعف بحيث لم يستطع الحفاظ على تماسك الدولة وينبغي ان نحلل هذا التحول السياسي الخطير وفق مبادئ الاسلام نفسه وقواعده التي وضعها بهذا الشأن وحسب قوانين هذا العلم وسنن التاريخ عن طريق المنهج الذي نستطيع استنباطه من ممارسات أبي بكر وعمر وعثمان في ضوء السير والتاريخ (29).

في مثل تلك الظروف العصيبة والتي اختصرناها آنفا حكم الامام (علية السلام) وكانت الخطوة الاولى في برنامجه هو العمل على الغاء مظاهر الخلل واسبابه مقرونا بتغيرات جذرية في سياسة الدولة الادارية والاقتصادية والعسكرية والتصدي لرواسب النظام الذي سبقه ممارسات واشخاص والمواجهة مع قوى نافذة وصلبة (30)

ولعل القرار التغيري الاكثر ضرورة حينذاك هو اعادة النظر في الجهاز الاداري کونه الاداة التنفيذية المسؤولة للخلافة من خلال تعيين ولاة من فئة جديدة غير

ص: 74

متورطة في سياسة عثمان بن عفان. ولما كان هدف الحكم الاسلامي يتمثل في الدفاع والامن وفي الاصلاح الاجتماعي والتنمية الاقتصادية وفي البرنامج المالية الدولة التي تنفق على هذه الابواب يمكن القول ان كل هذه المرتكزات كانت تتمثل في شخص من يتولى الامصار لانه على عاتقه تقع مسؤولية تحقيق هذه الاهداف وتتبين من هنا اهمية ولاة الامصار والقواعد الأساسية التي يجب ان يسيروا عليها والتي تجلت باروع ما يكون الظهور في عهد الإمام (علية السلام) الى مالك الاشتر حينما ولاة بلاد مصر (31)

وفيه التأسيس النظام اداري و حقوقي يبدأ من الحاكم نفسه من حيث تحديد القواعد الاخلاقية والقيم السلوكية الواجب توفرها في ولاة الدولة الاسلامية مما يصلح ان تطبق في كل زمان ومكان وفي كل المجتمعات الانسانية على اختلافها وتنوعها.

وللصفات الاخلاقية جانب كبير من الاهمية يبعد صاحبها عن الشبهات والاساليب الدنيئة والملتوية فمتى كان المسؤول صادقا ورعا ملتزما باخلاقیات الاسلام وقيمة النبيلة كان اشد حرصا على شؤون البلاد والعباد وتفضيله المصلحة العامة على موقعه الوظيفي (32).

الامر الذي ادرکه الإمام (علية السلام) بنظرته الثاقبة واكد عليه في عهده الشامل لكل فقرات واسس البرنامج الذي يجب ان يسير عليه الولاة في معاملة رعاياهم

ص: 75

المبحث الثاني القواعد الاخلاقية والقيم السلوكية الواجب توفرها في ولاة الدولة الاسلامية في ضوء عهد الإمام (علية السلام) لمالك الاشتر.

يحتاج المجتمع الى هيئة عليا تقوم على ادارة شؤونه و تسيير اموره العامة لتحقيق التناسق الضروري بين الاحتياجات الاجتماعية المتفاوتة واساليب تحقيق تلك الاحتياجات وضرورة توجيهها الوجهة التي تؤهلها لخدمة مصالح الأمة والدين (33)

ولكل مجتمع اسس ومقوماته وصفاته العامة التي تميزه عن بقية المجتمعات وقد ثبت القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة اسس المجتمع الاسلامي وحدد الروابط والعلائق والصفات العامة لهذا المجتمع النموذجي للحياة البشرية المستقرة وطبق الرسول الكريم (صل الله عليه وآله وسلم) المبادئ الاسلامية تطبيقا عمليا في المدينة المنورة (34)

وجاء أبو بكر وعمر وعثمان فحاول كل منهم ان يطبق هذه المبادئ على حسب اجتهاده وبصيرته باختلاف التطبيق بين واحد واخر منهم بحسب قربها من مبادئ الاسلام او ابتعادها عنه، ويختلف الامر حينما نناقشه مدة خلافة الامام علي بن ابي طالب (علية السلام) باعتبار ان الامام هو اللصيق الاقرب لنهج الاسلام و خط النبوة على اساس کونه «باب مدينة العلم فمن اراد العلم فليأته من بابه» (35) وقول الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) له: «انت مني وانا منك» (36) و «لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق» «وقوله» من کنت مولاه فعلي مولاه» (37) فما ورد لاحد من اصحاب رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) من الفضائل ما ورد لعلي (علية السلام) (38) فهو من يحبه الله ورسوله (39).

ص: 76

وان النصوص النبوية التي ذكرها الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) في الامام (علية السلام) هي اكثر منان تحصى وهو تفوق النصوص الاخرى الواردة في الاخرين والتي هي من صنع السياسة في الاصل بهدف زعزعة مكانة الامام (علية السلام) وقد امتدت يد السياسة الى النصوص الواردة فيه فشككت فيها وحاولت تضعيفها وما عجزت عن هدمه منها بددت معناه و موهت عليه حتى يضلوا المسلمين عن حقيقة مكانته ودوره ورسالته التي تسلمها من الرسول ولا شك ان سيادة الخط الاموي المعادي للامام واهل بيته بعد وقعة صفين قد عمل هذا على ما هو ثابت ومعروف على سب الامام والطعن في اهل بيته (40) واضفاء المشروعية على حكومتهم واثارة الشبهات حول شیعته وقد اعان على ذلك الكثير ممن انتسب الى الاسلام من مدعي الصحبة والتابعين (41).

ولعل احد مظاهر نبوغ الامام (علية السلام) وريادته يتجلى في عهده الى مالك الاشتر ولاسيما فيما يخص شخص من يتولى الجماعة فيكون رئيسا لهم مديرا لامورهم ساعيا الى تحقيق العدل والرفاه في المجتمع فلا بد من توافر قيم سلوكيه وقواعد اخلاقية فيمن يتولى ادارة امور الرعية لانه بدون ذلك لا يمكنه ان يصبح راعيا لحقوق الاخرين.

فمن يمتلك هذه القواعد والخصال حري بان يتبعه الناس لانهم سيتبعون الفضائل التي تكمن في شخصه ولانه ينقلهم الى عالم مملوء بالقيم والمثل فلا خوف ولا خشية من راع ينتهج العدل ويسلك طريق الفضائل (42)

فكان لا يخص بالولايات الا اهل الديانات والامانات فاذا بلغه عن احدهم خيانة يقيله وهو يقول: اللهم اني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك (43).

ص: 77

ويروى انه (علية السلام) استرد عهده بولاية طلحة (44) على اليمن والزبير (45) على اليمامة والبحرين حينما قالا له: وصلتك رحم وقال: وانما وصلتکما بولاية امور المسلمين (46).

كان احب شيء للامام هو تطبيق العدالة وكانت الخلافة بنظرة احدى الوسائل الفعالة التي تعينه على تطبيق ذلك باوسع مدى ممكن فلم تكن بنظره وسيلة للابهة او الاثراء غير المشروع او مجالا لتوزيع المناصب والجاه و النفوذ على الأصهار والاتباع وذوي القربى (47)

وحدد في عهده الى مالك الاشتر الخصائص الاخلاقية الواجب توفرها في الوالي ولعل اولها هو:

اولا: تقوى الله والاتعاظ بالتاريخ

يجب ان يلتزم الوالي بتقوى الله وایثار طاعته واتباع ما امر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد احد لا باتباعها ولا يشقى الا مع جحودها واضاعتها (48)

ان اهمية التقوى تاتي من ان الايمان بقوة غيبية شرعية وقاهرة يدعوا ارادة الحاكم السياسي للتفاعل مع المكونات الفكرية والقانونية لمقاصد تلك القوة الالهية لان مقاصد الله سبحانه التشريعية بالنسبة للانسان والحياة ونظام الحكم متناغمة مع حركة الوعي بينما تبقى الرؤى الوضعية والتشريعات الاخرى غير قادرة على انتاج نظام حکم عادل يؤمن الجانبين العدالة والخير والفضيلة من جانب والتطور والانفتاح والاستمرارية من جانب اخر (49).

وجعل العمل الصالح هو احب الذخائر والاقتداء بالغير عن طريق الاعتبار بالتاريخ لاسيما وانه ولاه مصر وهي «بلاد وقد جرت عليها دول قبلك من عدل

ص: 78

وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاية قبلك ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم» (50)

فكان الامام يتعامل مع التاريخ لا كمؤرخ وانما باعتباره رجل عقيدة ورسالة ورجل دولة، فلم يكن يستخدم التاريخ کمادة وعظية فقط وانما كان يستهدف منه ایضا، النقد السياسي والتربية الاخلاقية لمجتمعه والتوجيه السلوكي والحضاري لهذا المجتمع (51).

فالسنن التاريخية تعيد نفسها على يد الانسان فقد شهد تاريخ مصر حكم الفراعنة وظلمهم فانحسرت حضارتهم وسلطتهم عن مسرح التاريخ كما شهد حكاما عادلين مارسوا مفهوم العدل وطبقوه على واقع الناس فانتج کیانا اجتماعيا وسياسيا متلاحما وهذا الاخير هو الذي ينتظره شعب مصر من الولاية السياسية لمالك الاشتر و عليه فلا ينبغي خذلانهم فيما يتوقعون من مستقبل سیاسی عادل (52)

ولعل من اهم العناصر الثقافية والاخلاقية للوالي معرفته بتاريخ ولايته التي ستقود الى اطلاعه على تقاليد واعراف المجتمع الذي يحكمه وعلى سيرة الولاة الذين سبقوه فتخلق في نفسه الرغبة للاحتذاء بالصالحين منهم کما تجعله في الوقت نفسه ينأى عن تصرفات الطالحين وجبروتهم وظلمهم الذي ظلت تتناقله السن الرعية بالذم والقدح حتى بعد زوال حكمهم وربما ان فطرة الانسان السليمة وطبعه المستقيم يجعله محبا للذكر الطيب متوجسا من الذم والسيرة السيئة.

ص: 79

ثانيا: امتلاك الهوى وعدم اطاعة الرغبات

يتم تحقيق اغراض القانون والشرائع عن طريق انتخاب اصحاب الايدي النظيفة من الصلحاء والا فان القوانين والشرائع في نفسها صالحة مؤمنة لحقوق الافراد وانما الحيد عن جادتها و محجتها من قبل الايدي الملوثة والنفوس الدنيئة التي يحملها الجائرون وهو الذي يظهر للناس خلاف مرامي الانظمة والقوانين المسنونة لصالحهم (53)

ومن هنا جاءت اهمية القواعد الاخلاقية التي يجب ان يتحلى بها الوالي والتي اوصى الامام (علية السلام) واليه الاشتر بها ومنها امتلاك الهوى وعدم اطاعة الرغبات «فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح بالنفس الانصاف منها فيما احبت او کرهت، واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليها سبعا ضاريا تغتنم اكلهم وان يعطيهم من عفوه و صفحه مثل الذي يحب ويرضى ان يعطيه الله من عفوه و صفحه «فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك امرهم وابتلاك بهم» (54)

فهذا الانسان لم يأت من فراغ ولو تتبعنا عملية بنائه لوجدنا في بداية امره كان عقلا وهوى فقاتل عقله هواه فانتصر عليه عندما عرف ان الله لم يخلقه للدنيا بل خلقه للاخره وانه تحت الرقابة الدائمة لانه في حالة امتحان متواصل امتحان الوعي والارادة (55)

ان فلسفة الحكم عند الامام اخلاقية في جوهرها تستند الى الفضيلة تشجعها وتغرسها في النفوس وتكافح الرذيلة وتدعوا الى استئصالها من عالم الوجود فالاخلاق عن الامام فكرة وسلوك في آن واحد والتوافق بين عقيدة الانسان وبين قوله وعمله والعقيدة بالطبع هي الاساس الذي يستند اليه المرء في قوله وعمله (56)

ص: 80

بان يستشعر في علاقته بالرعية وجود قوة اعلى منه تراقب عمله وتجازيه عليه وهي قوة الحق سبحانه وتعالى التي متى ما وضعها الوالي نصب عينيه کانت رادعا له عن الجور والظلم واطاعة الهوى والرغبات لانه بذلك ينصب نفسه «لحرب الله ... فانه لا يدي لك بنقمته ولا غني عن عفوه ورحمته ... واذا احدث لك ما انت فيه من سلطانك ابهه او مخيله فانظر الى عظم الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فان ذلك يطامن اليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفي اليك بما غرب عنك من عقلك» (57).

فيستحضر الوالي نظرة الناس اليه وحبه لهم وشعوره بانه محکوم لمن هو اعلى منه فتكون قاعدة تعامله معهم، العفو واللين والصفح، اما العقوبة والشدة فهي الاستثناء الذي تدفع اليه الضرورة.

ثالثا: انصاف الناس من النفس

تعد القواعد الاخلاقية على جانب كبير من الأهمية فهي تبعد من يتمسك بها عن الشبهات والاساليب الملتوية لاسيما اذا كان مسؤولا راعيا للجماعة فيكون اشد حرصا على شؤون البلاد والعباد وتفضيله المصلحة العامة على موقعه الوظيفي ومن الصفات الانسانية للحاكم الاسلامي ان يكون متواصلا مع رعيته واقفا على حوائجهم سواء في حدود موقعه او عند موظفيه في دائرته او رقعته الجغرافية.

وتتم قضاء حوائج الرعية من خلال تطبيق قاعدة أخلاقية مهمة وهي انصاف الناس من النفس «فانصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك فانك الا تعمل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته» (58).

فتشير الفقرة الى قضية اساسية في الانظمة السياسية التي تقوم على حكم الفرد

ص: 81

والتي لا تخضع لمؤسسات الشورى ولهذا ينبه الامام (علية السلام) على ان تقوية السلطان لا تكون بسياسة القمع وانما تكون بسياسة الاستجابة لمصالح الناس واحدى اسوأ المشاكل التي تعاني منها الديمقراطية في العالم المعاصر هي السكوت عن المحسوبيات والقرابات واستخدام القمع اما بشكل سافر او القمع المقنع والذي يغشى تارة بغشاء القضاء واخرى بغشاء الا من ووظيفته الاساسية تكون قمع تطلعات المواطنين، فيوصي الامام (علية السلام) الوالي الذي يجور على الناس من اجل نفسه او عشيرته بان يكف عن التحيز والمحسوبية وان يرد الحقوق الى اصحابها لانه اذا لم ينصف يكون ظالما والظالم خصم الله تعالى (59)

وان يحصن الوالي نفسه من الغرور والظلم بان تكون قراراته ترضي الجميع والا فالعامة دون الخاصة والميل الى عموم الناس وليس الى خصوصهم «وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية» (60).

ولعل مصداق ذلك هو اعطاء الحرية لعموم الناس وحسن الظن بهم واحترام العادات الاجتماعية والعمل على الارتقاء بها بالحفاظ على السنن الصالحة لهؤلاء «التي عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها» (61)

رابعا: ستر عيوب الناس

يدخل الجانب الاخلاقي في ثنايا وجوهر كل المبادئ والقيم الاسلامية وان نهج امير المؤمنين وعدالته مع الناس جميعا وعهده الى مالك الاشتر يدعونا الى مناقشة اصول الحكم على ضوء المنهج الاسلامي المشبع بالاخلاق (62)

ص: 82

فلا بد لعامل الدولة الاسلامية في أي مفصل من مفاصلها الحكومية او الادارية ان يكون على درجة من احترام الذات والابتعاد عن التكلف والتكبر وان يكون كيسا غير مبتذل في سلوكيات تصغره عند العامة وهذه القواعد الاخلاقية من اهم عناصر النجاح الاداري (63).

ومنها ان يكون الوالي: ساترا لعيوب الناس مبتعدا عن مرافقة ومشاورة من يطلب معائب الناس «فان في الناس عيوبا الوالي احق ان يسترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فانما عليك تظهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك» (64).

فعلى الوالي ان لا يقرب من يطلب مثالب الناس وان يستر على عيوب رعيته قدر ما يستطيع وان لا يصدق كل ما يسمعه ويتحرى الدقة في ذلك بالقضاء على اسباب الضغينة والنميمة والبغضاء وان يحقق العدالة بين رعيته بالنظر اليهم نظرة واحدة دون تمييز على اساس اللون او المال ا الطبقة الاجتماعية تطبيقا لقول الحق سبحانه وتعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (65)

ادرك الامام بنظرته الثاقبة ان القواعد الاخلاقية هي الضمانة الاكيدة لتطبيق النهج السياسي والاداري و تحقيق العدل الاجتماعي وان انعدامها يجعل رجال الحكم والادارة يفشلون في تطبيق هذا النهج ويتحمل اوزار ذلك المجتمع باسره فاكد في عهده الى مالك، ان يتاني في تصديق الساعين والمتملقين وان يختار المشاورین بحرص وحذر «ولا تعجلن الى تصدیق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانا يضعفك من الامور ولا حريصا يزين لك الشر بالجور فان البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله» (66)

ص: 83

ومثلما حذره من معرفة اولئك وتقريبهم منه اوصاه بمرافقة نقیضهم من ذوي الاخلاق العالية فقال «ثم الصق بذي المروءات والاحسان واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم اهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة» (67)

ثم يلتفت الى مسألة في غاية الاهمية وهي عدم الفرح بمديح هؤلاء وصولا الى الزهو والاغترار «والصق باهل الورع والصدق ثم رضهم على ان لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فان كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة» (68)

واحوج ما يحتاجه الحاكم هو رؤية واقعية وموضوعية للامور ليستطيع معالجتها بصورة صحيحة واسلوب التملق الذي تتبعه بطانة الحاكم يحرم الحاكم من هذه الرؤية الموضوعية والواقعية ويدفع به الى الوقوع في الخطأ (69).

لانها تصل به الى حالة الغرور والابهة والتكبر على الاخرين وهو ارضية و باعث للزلل والظلم فيشخص الامام حالة الغرور کحالة مرضية تؤدي الى الظلم وبالتالي فان الغرور عقبة في وجه تحقيق المساواة والعدالة في النفس والمجتمع الانساني خصوصا اذا ما اقترن مع مسؤولية قيادية في الامة (70)

وحتى لا يصل الوالي الى هذه الحالة ينبغي عليه ان يلتزم الحذر في اختيار بطانته وكذلك في اختيار موظفيه فلا يعتمد في ذلك على الفراسة والثقة لان هؤلاء لديهم من الخبرة مما تمكنهم من التعرف على فراسات الولاة ولكن «اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لاحسنهم كان في العامة اثرا واعرفهم بالامانة وجها» (71)

وحين تتنوع مسؤوليات الوالي وتتعدد فانه يعمد في علاقته مع الناس الى استخدام ادواته السياسية والوظيفية فتنشأ شبكة من الاداريين والمسئولين الثانويين الذين يمثلون البيروقراطية الجديدة المحيطة بالوالي فتمثل مراكز جديدة تؤثر على التوجه

ص: 84

السياسي العام للوالي فتحركه وفقا لارادتها ومصالحها ولذلك يبدي الامام (علية السلام) احترازا نظريا وسلوكيا ضروريا لمجابهة تلك الظاهرة واشكالها المتجددة لذلك ستكون العلاقة الحية والصحيحة مع الناس وجها لوجه ضمانة كبرى لسيادة الحق (72)

ولاجله نهى ابو الحسن (علية السلام) عاملة الاشتر عن الاحتجاب لانه مظنة انطواء الامور عنه واذا رفع الحجاب دخل عليه كل احد فعرف الاخبار ولم يخف عنه شيء من احوال عمله (73)

فيؤكد الامام (علية السلام) على ضرورة رفض السفراء والحجاب بين الوالي ورعيته بان تكون العلاقة بينه وبينهم مباشرة تتخذ من خلالها القرارات الصائبة والمواقف العادلة «فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالامور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونهم فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل وانما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور» (74)

خامسا: الوفاء بالعهد

ان العلاقة بين القائد والامة هي علاقة ديناميكية يؤثر فيها كل طرف في الطرف الاخر ويتأثر به فهي علاقة ازدواجية التفاعل لا احاديته فصلاح الرعية من صلاح الحاكم وسوء احد الطرفين او صلاحه يؤثر في الطرف الاخر سلبا وايجابا فتقع المسؤولية على كليهما (75).

ويعد الوالي المرتكز الاساس الذي تقوم عليه الادارة الناجحة لان نظام الحكم العادل يكون المسئولون فيه شخصيات مؤثرة بالمجتمع تتمتع بمزايا اخلاقية

ص: 85

وسلوكية رفيعة المستوى فكان الإمام (علية السلام) مدركا لمخاطر الحكم متشددا في تحديد مواصفات شخص الوالي باعتباره يمثل الهرم في الجهاز الاداري موجها له بالتحلي بافاضل الاخلاق واكرمها ومنها ان يكون وفيا بالعهود: ((فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة واجعل نفسك جنة دونما اعطیت فانه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد اجتماعا مع تفرق اهوائهم وتشتيت ارائهم من تعظيم الوفاء بالعهود)) (76).

سادسا: قواعد وضوابط اخلاقية وشخصية اخرى

يتخبط الكيان السياسي في مجاهيل كثيرة وينتهي به الامر الى فقدان العنصر الانساني في الحكم ويغدو وجود الحاكم مجرد تمثيل لسلطة قمعية خالية من أي شعور روحي او بعد انساني اذا ما انفصل هذا الكيان عن القواعد الأخلاقية الاسلامية ومن هنا جاء تأكيد الإمام (علية السلام) على عدة قواعد اخلاقية وضوابط شخصية يجب ان تتواجد في شخصية الوالي ومنها:

اولا: عدم الاعجاب بالنفس فان «ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين» (77)

وان الاعجاب بالنفس حتما الى الغرور والتكبر الذي هو عامل تشتت و تمزق في المجتمع والمجتمعات التي تنمو فيها مظاهر التكبر عرضه للانهيار اكثر من المجتمعات الاخرى ومن هنا جاء حث الاسلام على التواضع وعدم الاعجاب بالنفس لصيانة المجتمع من الانهيار والحفاظ عليه من السقوط السريع (78)

ثانيا: اوصى الإمام (علية السلام) عامله ان يبتعد عن ثلاث رذائل اولها المن على الرعية باحسانه اليهم والثانية التزيد فيما فعله في حقهم وهو ان ينسب الى نفسه من

ص: 86

الاحسان اليهم ازيد مما فعل والثالثة ان يخلف موعده معهم والخلف يوجب المقت «عند الله والناس» (79).

ثالثا: نهى الامام (علية السلام) واليه عن العجلة التي ذمها الله سبحانه وتعالى «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ» (80): وحذره من ايقاع الامور على احد طرفي التفريط والافراط فطلب الافراط في الطلب العجلة بها قبل اوانها او اللجاجة فيها عند تنكرها وتغير وجوه ماخذها وعدم اتضاحها وطرف التفريط التساهل فيها والقعود عنها اذا امكنت وهو يقابل العجلة فيها او الضعف عنها اذا استوضحت من الطرفين وموضعها الحق فلذلك قال فضع كل امر موضعه واوقع كل عمل موقعه (81).

رابعا: عدم تأجيل الاعمال والعجز عن انجازها والكسل عنها «وامض لكل يوم عمله فان لكل ما فيه» (82)

فيؤكد (علية السلام) على ضرورة التنظيم في العمل والدقة في انجازه عن طريق توزيع الاعمال وتوزيع السلطات التي يعدها من صميم وظائف الحاكم الاسلامي ومن البديهي ان الانشطة والفعاليات سوف تصاب بالتعثر والعرقلة ما لم تسير على ضوء منهاج ونظام» (83).

لا سيما وان الفكر الاداري في الاسلام ابتدأ بالحث على النظم والنظام وجاء الاسلام بهذه الفكرة يوم كانت الفوضى هي الحالة السائدة في جزيرة العرب فتقدم المسلمون في النواحي العسكرية والاقتصادية والادارية لانهم اوجدوا نظاما دقیقا لكل ذلك فبفضل التنظيم استطاع المسلمون ان يكتسحوا العالم ويوصلوا الاسلام الى كل بقاع الارض (84)

ص: 87

وعلى هذا الاساس اعار امير المؤمنين اهتماما كبيرا لنظم الامور وتنظيم الشؤون فاكد على ضرورة ان يتحلى الوالي بالحرص على امور الرعية من خلال انجاز اعمال ولايته اولا باول وعدم جعلها تتراكم وتهمل بسبب عجزه واهماله وكسله عن ادائها وان يجعل تنفيذ الاعمال واكمالها برنامجا يوميا له وقاعدة سلوكية في شخصيته.

خامسا: النظر الى مواطنيه دون تميز والتعامل معهم وفق المساواة فيما بينهم وعدم التفريق بين احد واخر فانهم صنفان: «اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق» (85).

وليس في وسع اكثر النظريات الاجتماعية التنظيمية عمقا وتحسبا ان تعطي للبعد الانساني عمقا في التعامل اكثر شمولية مما اورده الامام علي (علية السلام) في صورة الاخوة على اساس الدين او في الخلق والتكوين الجسدي حيث اذا لم تجتمع وسواك بوحدة العقيدة الاسلامية فانك تجتمع معه بوحدة الخلق (86)

فالمسلمون ليسوا اوصياء على الاخرين ولكنهم دعاة هداة والاسلام دين هداية يخاطب العقول والقلوب اولا وقبل كل شيء ويحترم البشر لانهم بشر من صنع الله تعالى وخلقه بصرف النظر عن اعراقهم واديانهم فمنهج الاسلام واضح في خطاب الجميع وهو نهج يقوم في الاساس على امرين: الاحترام، والاقناع (87)

وهذه النظرية العادلة، الشمولية، والانسانية لابد وان تستند على قاعدة اخلاقية متينة يجب توافرها في شخص الوالي لا سيما اذا كان حاكما لمجتمع لم يكن منغلقا على المسلمين فقط وانما يتعايش فيه المسيحيون جنبا الى جنب معهم كما كان في مصر آنذاك (87)

ص: 88

الخلاصة

1. كان عهد الامام علي (علية السلام) حافلا بالصراعات والفتن والمواجهات العسكرية التي تميزت بطابع الخبث والخديعة والانقلاب التام عن قيم الاسلام ومبادئه الرفيعة ومع كل تلك المحن الا انه شهد تحديات وانجازات قل نظيرها وتطورات عظيمة المستوى على الصعيد الاداري والقضائي والاجتماعي ولعل عهده (علية السلام) هو الفترة التاريخية الوحيدة والفريدة (بعد وفاة الرسول (صل الله عليه وآله وسلم)) التي طبقت فيها المساواة والعدالة والانسانية بارقى صورها استنادا على هدي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

2. ان البحث في أي مجال يتعلق بالامام (علية السلام) هو عملية شاقة ومتشبعة ومما يزيد من صعوبتها عظمة شخصية الإمام (علية السلام) التي يتصاغر امامها كل جهد وتقييم، وتداخلها مع المؤثرات السياسية والعقائدية والتاريخية والنفسية سواء في ارثها الماضي او الواقع الحالي المعاصر.

3. تمیز عهد الإمام (علية السلام) لواليه على مصر بالشمولية والاحتواء العميق لكل صغيرة وكبيرة تخص امور الحكم مما لا يوجد له أي مثيل اخر على مدى التاريخ وحقبة المتعددة ولا نبالغ اذا قلنا انه بحق يعد دستورا کاملا متكاملا جامعا مانعا لكل قواعد الحكم واصوله الصحيحة ليس على صعيد الدولة الاسلامية وانما هو ضروري لكل الازمنة وصالح لكل المجتمعات الانسانية. وان دراسة العهد بشكل تفصيلي والوقوف على المفاصل الرئيسية التي تناولها يحتاج الى سلسلة من الدراسات العميقة والمتخصصة.

4. دعا الإمام في عهده الى التوافق التام بين عقيدة الانسان وبين عمله وقوله فان العقيدة السليمة تتبعها سلامة الاقوال والأفعال المنبثقة عنها وبالعكس. وهي

ص: 89

قاعدة اساسية تبنى عليها الاخلاق والمواقف والقرارات.

5. ضرورة ان يتحلى الوالي بالقيم الاخلاقية والقواعد السلوكية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية فهي اساس شخصية الوالي ودستور معاملته لرعاياه وبخلافها تنهار العملية السياسية والادارية وتصبح السلطة عبارة عن حكومة ارهاب وقهر واضطهاد.

6. ادرك الامام بنظرته الثاقبة وعبقريته الفريدة اهمية الجانب الاخلاقي وانه جوهر نظام الحكم العادل الذي يجب ان يكون المسئولون فيه شخصيات قوية فاعلة ومؤثرة تتحلى بمزايا شخصية وسلوكية ترتقي بها لان تكون القدوة في المجتمع الذي تعيش فيه لاسيما وانها تشكل قمة الهرم في الجهاز الاداري فحدد شروط الوالي الصالح الذي لا تفارقه تقوى الله مع عدله للرعية واحسانه لهم وعدم احتجابه عنهم وستر ما خفي على الناس من عيوبهم واستخدام واللين والصفح في تعاملهم معهم.

7. استنادا الى الرؤية الشمولية عند الإمام (علية السلام) فان الادارة هي کيان حي يتصف بالخصائص الانسانية والصفة التنظيمية والجماعية.

وان اشاعة وتعميم وصايا الامام (علية السلام) في عهده لمالك الاشتر ورؤيته الخاصة عن الشخصيات المؤهلة لان تقود الجماعة ببعديها النظري والعملي، عبر نشرها والاخذ بها كمنهج عمل ودستور دولة في المؤسسات الادارية الحكومية والهيئات المدنية سيسهم بشكل كبير وفاعل في تطور الوعي بكون قائد الجماعة هو جزء منهم وقدوة لهم وخادم لتحقيق الخير والرفاهية لمن يقودهم من اجل تقديم نموذج حضاري متميز لا تنضوي تحت لوائه الامة الاسلامية فحسب وانما تنهل منه المجتمعات البشرية في العالم اجمع.

ص: 90

قائمة المصادر والمراجع

(الهوامش)

1. للاستزادة حول المحن والاوضاع التي اعقبت وفاة النبي (صل الله عليه وآله وسلم) ينظر: احمد بن اسحاق بن جعفر بن وهب ابن واضح اليعقوبي (ت: 292 ه)، تاريخ اليعقوبي، تعليق: خليل المنصور (دار الزهران، ایران: 1439 ه) ج 1، ص 83 وما بعدها؛ ابو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310ه) تاریخ الطبري (دار احیاء التراث العربي، بیروت: 2008) ج 3، ص 134 وما بعدها

2. كاظم الحسيني الحائري، الامامة وقيادة المجتمع، ط 3 (دار المتقين، بیروت: د. ت) ص 183

3. الطبري، تاریخ ج 4، ص 294؛ https: ar.wikipedia.org/wiki

4. لما قبض الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) قال العباس بن ابي طالب (علية السلام): ابسط يدك ابايعك فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ويبايعك اهل بيتك فان هذا الامر اذا كان لم يقل (من الا قاله) فقال له علي (علية السلام) (بثقة): ومن يطلب هذا الامر غيرنا ينظر: ابو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت: 276 ه) الامامة والسياسة، تح: علي شيري (دار الاضواء، بیروت: 1990) ج 1، ص 12.

5. علي مبروك - النبوة من علم العقائد الى فلسفة التاريخ محاولة في اعادة بناء العقائد (دار التنوير، بیروت: 2007) ص 126.

6. ابو عبد الله محمد بن اسماعیل بن ابراهيم البخاري (ت: 256 ه) ترقيم وترتیب: محمد فؤاد عبد الباقي (مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة: 2009) الحديث رقم 3707، ص 430.

ص: 91

7. كان من اهم الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة ابي بكر (11 - 13 ه/ 632 - 634 م) ومالوا الى الامام علي (علية السلام): سلمان الفارسي، وعمار بن یاسر، والمقداد بن عمرو، وابوذر الغفاري وهم من المستضعفين الذين حرصوا على (العدالة) دون ضرورات (القرابة). ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 84؛ علي مبروك، النبوة من علم العقائد الى فلسفة التاريخ، ص 126، هامش (52).

8. محمد عمارة، الفكر الاجتماعي لعلي بن ابي طالب (دار الثقافة، القاهرة: 1977)، ص 12.

9. ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 123؛ وما بعدها؛ الطبري، تاریخ، ج 4، ص 302.

10. المغيرة بن شعبة بن ابي عامر بن مسعود الثقفي ولد في الثقيف بالطائف وبها نشأ، اسلم عام الخندق بعدما قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك واخذ اموالهم فغرم دياتهم عنه عمه عمرو بن مسعود، وهو من اهل المكيدة والدهاء، وقد توفي في الكوفة عن عمر يناهز ال 70 عاما. ينظر: Wikipedia.org/wiki.

11. الطبري، تاریخ، ج 4، ص 299

12. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الامام، ص 43.

13. محمد باقر الصدر، اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، تح: عبد الرزاق الصالحي (مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، بيروت: 2003) ص 121، 122.

14. للمزيد حول الواقعة ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 127؛ الطبري، تاريخ ج 4، ص 310 وما بعدها؛ ابو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت: 346 ه)، مروج الذهب و معادن الجوهر، ط 2، تح: امير مهنا (مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت: 2010) ج 2، ص 368؛ عز الدين ابي الحسن علي بن ابي

ص: 92

الكرم الشيباني ابن الاثير (ت: 630 ه) الكامل في التاريخ ط 2، تح: مکتب التراث (دار احیاء التراث العربي، بیروت: 2009) ج 3، ص 312 وما بعدها؛ جمال الدين ابي المحاسن يوسف بن تغري بردي الاتابكي (ت: 874 ه)، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، مصر: 1963) ج 1، ص 101 وما بعدها.

15. للمزيد عن الواقعة ينظر: نصر بن مزاحم المنقري (ت: 212 ه)، وقعة صفين، ط 3، تح: عبد السلام محمد هارون (مكتبة المرعشي النجفي، ایران: 1376)؛ عبد الله جعفر التميمي، صفين لمحات تاريخية من السيرة العلوية (مطبعة النخيل، العراق: 2010) ص 10 وما بعدها.

16. ينظر ابن عبد الرحمن احمد بن شعيب النسائي (ت: 202 ه) تهذيب خصائص الامام علي (علية السلام)، تح: ابو اسحاق الحويني الأثري حجازي ابن محمد بن شريف (دار الكتب العلمية، بيروت: د. ت)، ص 114. اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 130؛ عماد الدين ابي الفداء اسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي (ت: 774 ه) البداية والنهاية (دار احیاء التراث العربي، بیروت: 2001) ج 6، ص 209.

17. عمرو بن العاص: ابو عبدالله من قريش العاص بن وائل السهمي، ارسلته قریش قبل اسلامه الى الحبشة ليطلب من النجاشي تسلميه المسلمين الذين هاجروا اليها فرارا من بطش الكفار، وبعد اسلامه عینه عمر بن الخطاب والیا على مصر بعد فتحه لها. ينظر: ابن عبد البر، الاستیعاب، ص 489، 490 Wikipedia.org/wiki:

18. ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 131.

19. ابو موسى الاشعري: عبد الله بن قيس ابن سليم بن الجماهير بن الاشعر وفي

ص: 93

نسبه بعض الاختلاف، وقد قدم الى مكة فحالف سعید بن العاص بن امیه ثم اسلم بعد ذلك، وقد ولاه عمر بن الخطاب البصرة، وبقي عليها حتى مقتل عثمان وكان منحرفا عن الإمام (علية السلام) لانه عزله ولم يستعمله ينظر بن عبد البر، الاستیعاب، ص 852، 851

20. وهي واحة معروفة بصفتها محطة مهمة على طريق الحجاز بن الشام والمدينة قرب جبال طيء وكانت تحت سلطة (اکیدر الكندي) وقد بعث لها الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد المخزومي لفتحها فدخلها واخذ اکیدر اسيرا وقد اسلم الاخير فكتب له الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) کتابا بماله ولقومه وبما عليهم ينظر: احمد بن یحیی بن جابر البلاذري (ت: 279 ه)، البلدان فتوحها واحكامها، تح: نجيب الماجدي (المكتبة العصرية، بیروت: 2008) ص 63؛ الفريد لویس در بریمار، تاسیس الاسلام بين الكتابة والتاريخ (دار الساقي، بیروت: 2009) ص 147، 148.

21. اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 132؛ ابو منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي (من اعلام القرن السادس الهجري)، الاحتجاج (مكتبة دار المجتبی، النجف الاشرف، 2009) ص 220.

22. كل من خرج على الامام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا واول من خرج على امير المؤمنين علي بن ابي طالب (علية السلام) جماعة ممن كانوا معه في حرب صفين واشدهم خروجا ومروقا من الدين: الاشعث بن قيس الكندي ومسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي. ينظر: الحسن بن موسی النوبختي (ت: 310 ه) فرق الشيعة، تح: هلموت ریتر (دار بيبلون، باریس: 2014) ص 6؛ ابو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت: 549 ه ) الملك والنحل، تح: ابراهيم شمس الدين (مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت:

ص: 94

2006) ص 113.

23. ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 134؛ النوبختي، فرق الشيعة، ص 6؛ ابن الاثیر، الکامل، ج 3، ص 398 وما بعدها.

24. اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 134.

25. هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفي المعروف بالاشتر من اثبت صحابة امير المؤمنين (علية السلام) ومن ثقاة التابعين وكان رئیس قومه ولطالما وثق به الامام واثنى على خبرته وبصيرته، اصيبت عينه في فتح دمشق وحرب اليرموك فاشتهر بالاشتر، نفي مع عدد من اصحابه الى حمص في ايام عثمان بن عفان بسبب اصطدامه بسعيد بن العاص (والي عثمان) ولما اشتدت نبرة المعارضة ضد عثمان بن عفان عاد الاشتر الى الكوفة ومنع والي عثمان الذي كان قد ذهب الى المدينة انذاك من دخولها واشترك في الثورة ضد عثمان. ينظر: ابن الاثیر، الکامل، ج 3، ص 410؛ جمال الدين ابو المحاسن يوسف بن تغري بردي الاتابكي (ت: 874 ه) النجوم الزاهرة في ملوك القاهرة (المؤسسة المصرية العامة للتالیف والترجمة والطباعة والنشر - مصر: 1963) ج 1، ص 104 وما بعدها.

26. اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 135.

27. ابو الحسن علي بن الحسين بن المسعودي (ت: 346 ه) مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط 2، تح: امير مهنا (منشورات مؤسسة الاعلمی للمطبوعات، بیروت: 2010) ج 2، ص 429؛ ابن الاثير / الكامل في التاریخ، ج 3، ص 410

28. کلودکاهن، الاسلام منذ نشوئه حتى ظهور السلطة العثمانية، تر: حسین جواد قبيسي (المنظمة العربية للترجمة، بیروت، 2010) ص 41؛ هاینس هالم، الشيعة - تر: محمود کبيبو (دار الوراق، بغداد: 2011) ص 24، 25.

29. للاستزادة ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 2، ص 148؛ الطبري، تاریخ، ج 5، ص 97

ص: 95

وما بعدها؛ المسعودی، مروج الذهب، ج 2، ص 430؛ وما بعدها.

30. احمد عز الدين، الامامة والقيادة (مركز المصطفى للدراسات، ایران: 1417) ص 36، 37

31. ابراهیم بیضون، من دولة عمر الى دولة عبد الملك دراسة في تكوين الاتجاهات السياسية في القرن الاول الهجري (مطبعة كلها، ایران: 2006) ص 120

32. فتحت مصر بصلح وعهد وخراج مفروض في زمن عمر بن الخطاب سنة (20 ه) واقر عليها عمرو بن العاص واليا بعد ان فتحها وكان عمر یکتب اموال عماله اذا ولاهم ثم يقاسمهم مازاد على ذلك وربما اخذه منهم فكتب الى عمرو بن العاص: انه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وانیه و حيوان لم يكن حين وليت مصر فانکر عمرو ذلك فاجابه الخليفة: اني قد خبرت من عمال السوء ما کفی وكتابك الى كتاب من قد اقلقه الاخذ بالحق وقد سؤت بك ظنا ... فقاسمه ماله. ينظر: احمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت: 279 ه) البلدان فتوحها واحكامها تح: نجيب الماجدي (المكتبة العصرية، بیروت: 2008) ص 204 وللمزيد من المعرفة حول فتح مصر ينظر:

33. ابو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ابن اعين القرشي المصري (ت: 871) فتوح مصر واخبارها، ط 2، (مكتبة مدبولي، القاهرة: 1996) ص 226 وما بعدها؛ الفرد. ج. بتلر، فتح العرب لمصر، ط 2، تر: محمد فريد ابو حديد (مكتبة مدبولي، القاهرة: 1996)، ص 226 وما بعدها؛ جاسم صكبان علي، فصول من تاريخ يوحنا النيقي عن فتح مصر: ترجمة من الانكليزية الى العربية بحث منشور في مجلة التراث العلمي العربي، العدد الثاني: 2012)

34. ينظر: علي سعد تومان عدوة، اسس بناء الدولة الاسلامية في فكر الإمام على (علية السلام) (العتبة العلوية المقدسة، النجف الاشرف: 2011) ص 208

ص: 96

35. كاظم الحائري / اساس الحكومة الاسلامية (مطبعة النيل، بیروت: 1979) ص 13.

36. هاشم الموسوي، النظام الاجتماعي في الاسلام (معاونيه العلاقات العامة في منظمة الاعلام الاسلامي، ایران: 1991) ص 29.

37. سلیم بن قیس الهلالي (ت: 76 ه)، کتاب سلیم بن قیس الهلالي، تح: محمد باقر الانصاري (مكتبة دار المجتبی، النجف الاشرف، 2009) ص 186 ابو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي النمري (ت: 463 ه) الاستيعاب في معرفة الاصحاب، خرج احاديثه: عادل مرشد (دار الاعلام، عمان: 2002) ص 533.

38. ابو عبد الله محمد بن اسماعیل بن ابراهيم البخاري (ت: 256 ه) صحیح البخاري، ترقيم وترتیب: محمد فؤاد عبد الباقي (مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة: 2009) ص 429

39. ابن عبد البر، الاستیعاب، ص 528، رقم الحدیث 1871؛ شمس الدين ابي عبد الله الذهبي (ت: 746 ه) دول الاسلام (مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بیروت: 1985) ص 24.

40. جلال الدين السيوطي (ت: 911 ه) تاریخ الخلفاء (دار الكتب العلمية، بیروت: 1988) ص 133.

41. ابو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت: 261 ه)، صحيح مسلم (مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة: 2009) ص 625، الحديث رقم 2406

42. كان مما اوصى معاوية بن ابي سفيان لواليه على الكوفة (المغيرة بن شعبة) هو «لا تتحم عن شتم علي وذمه .... والعيب على اصحاب علي والاقصاء لهم وترك الاستماع منهم». ينظر: الطبري، تاریخ، ج 5، ص 169.

ص: 97

43. ينظر: صالح الورداني، عقائد السنة وعقائد الشيعة التقارب والتباعد، ط 2 (مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت: 2011) ص 161.

44. محسن باقر الموسوي، الادارة والنظام الاداري عند الامام علي (علية السلام)، (مطبعة الغدیر، بیروت: 1998) ص 29.

45. ينظر: ابن عبد البر القرطبي النمري (ت: 463 ه)، الاستیعاب، ص 533

46. هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن کعب التميمي وهو احد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب فيهم الشورى، وشهد الجمل محاربا للامام ولكن الإمام (علية السلام) دعاه وذكره بسوابق فضله، فرجع عن قتال الإمام (علية السلام) ومع ذلك فقد قتل في الواقعة، ينظر: ابن عبد البر، الاستیعاب، ص 359، 360، رقم الحديث 1255؛ ابن کثیر، البداية والنهاية، ج 6، ص 208.

47. الزبير بن العوام بن خویلد بن اسد بن عبد العزي الاسدي وامه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم عمة الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) شهد الجمل فقاتل ساعة ثم ناداه الامام وذكره يقول الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) له: اما انك ستقاتل عليا وانت له ظالم فذكر الزبير ذلك وانصرف من القتال فتبعه عمیرہ بن جرموز السعدي فقتله. ينظر: ابن عبد البر، الاستیعاب، ص 261 وما بعدها رقم الحدیث 854.

48. ينظر: اليعقوبي، تاریخ، ج 1، ص 124، 125.

49. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الامام، ص 47.

50. عز الدين عبد الحميد ابن هبة الله ابن ابي الحديد (ت: 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تح: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط 2 (دار احیاء التراث العربي، بیروت: 1965)، ج 17، ص 30.

51. محمد سعيد الاحمد، المستقبلية الاسلامية، نهج البلاغة نموذجا لانطلاق الرؤية

ص: 98

(مركز الشهدين الصدرين للدراسات والبحوث، العراق: 2006)، ص 265.

52. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 30

53. محمد مهدي شمس الدين، حركة التاريخ عند الامام علي دراسة في نهج البلاغة (المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت: 1985) ص 8.

54. امل هندي الخزعلي، اسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الامام علي بن ابي طالب (علية السلام) لمالك الاشتر، (بحث منشور في مجلة العلوم السياسية، العدد 42: 2011).

55. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، (مطبعة شرعتي، ایران: 1382)، ص 278.

56. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 32

57. محسن باقر الموسوي، الادارة والنظام الإداري عند الامام علي (علية السلام)، ص 44

58. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الامام، ط 2، (دار المعلم للطباعة، القاهرة: 1978) ص 39

59. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 32

60. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 33.

61. محمد مهدي شمس الدين، عهد الاشتر، ص 89، 80

62. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 34.

63. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 17، ص 47.

64. قاسم خضير عباس، الامام علي رائد العدالة الاجتماعية والسياسية على ضوء تقرير الامم المتحدة (دار الاضواء، بیروت: 2004) ص 77، 83

65. علي سعد تومان عدوة، اسس بناء الدولة الاسلامية، ص 209

66. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 36.

ص: 99

67. الحجرات: 13.

68. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 17، ص 36.

69. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 51.

70. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 44.

71. محمد مهدي شمس الدين، عهد الاشتر، ط 2 (المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت: 2000) ص 89، 90

72. غسان السعد، حقوق الانسان عند الإمام (علية السلام) رؤية علمية، ط 2 (دار الرافدين، بیروت: 2010) ص 87، 88

73. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 17، ص 76.

74. عزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق (الغدير للطباعة والنشر، قم: 2000)، ص 453.

75. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، ص 270

76. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 90

77. احمد عز الدين، الامامة والقيادة (مركز المصطفى للدراسات، ایران: 1417) ص 15، 16

78. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج17، 79. وقد اكد القرآن الكريم على قضية الوفاء بالعهد فقال سبحانه وتعالى في: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) الاسراء: 34؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة: 1؛ (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) البقرة: 177؛ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون: 8

80. ينظر: ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 113؛ توفيق الفكيكي الراعي والرعية، ص 279

ص: 100

81. محسن باقر الموسوي، الادارة والنظام الاداري عند الامام علي (علية السلام)، (الغدير للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت: 1998)، ص 15

82. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 17، ص

83. الأنبياء: 37.

84. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، ص 280

85. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 88.

86. امل هندي الخزعلي، اسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الامام علي بن ابي طالب (علية السلام) لمالك الاشتر.

87. محسن باقر الموسوي، الادارة والنظام الاداري عند الامام علي (علية السلام)، ص 45، 46.

88. ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 32

89. (خضير کاظم حمود، السياسة الادارية في فكر الامام علي بن ابي طالب بين الاصالة والمعاصرة (مؤسسة الباقر، بیروت: د. ت) ص 18.

90. فهمي هويدي، الاسلام والديمقراطية (مركز الاهرام للترجمة والنشر، القاهرة: 1993)، ص 24.

ص: 101

ص: 102

الوفاء بالعهد أُسٌّ من أسس بناء الدولة والمجتمع

اشارة

الأستاذ الدكتور حاكم حبيب الكريطي الكلية الإسلامية الجامعة / النجف الأشرف

ص: 103

ص: 104

بین یدي البحث

يهتم هذا البحث بدراسة (الوفاء بالعهد)، بوصفه أُسّاً من الأُسس التي أوصى بها الإمام علي (عليه السلام) الأشتر النخعي، ليقيم بها ولايته على مصر. وقد جعل عليه السلام هذه القيمة الدينية والأخلاقية ضرباً من ضروب الأمانة التي أمر الله (عزّوجل) بصيانتها والتمسّك بها في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...» النساء 58، ومن هنا أوجب الإمام عليه السلام على المسلمين التضحيةً بالنفسِ من أجلِ الوفاءِ بالعهد، وهذا رفع لشأن هذه القيمة التي تُسهمُ في بناءِ المجتمع. وترصّنُ العلاقات بين أبنائه. لقد أراد الإمام عليه السلام أن يبني حياة المسلمين على الوجه الذي يحقّقُ لهم سلامة دينهم ودنياهم، بهذه القيمة العالية، فخصّها بجزء من عهده إلى الأشتر، لیُبصّره بذلك، ويبصّر المسلمين عامة من خلاله، لأنّ الوالي هو الأجدر بتطبيق ما يريده الإمام عليه السلام ليكون قدوة لرعيته في قيادته لهم. وسوف يُعطي هذا التشديد من الإمام عليه السلام، بشأن الوفاء بالعهد للأعداء، صورة عن سماحة الإسلام، وحرص المسلمين على بناء الإنسان على الوجه الذي يريده الله تعالى، إذ يحرم عليهم الإخلال بالعهود مع غيرهم، ويحتّم عليهم التمسّك بهذه الفريضة.

***

إنّ الوقوفَ على معاني الجذر (عهد) في الاستعمال الاجتماعي، مهيء لنا الاطّلاع على الفضاء الدلالي الذي تتحرك فيه المعاني التي تحتضنها السياقاتُ التي ترد فيها تلك المفردات. وعودةٌ إلى لسان العرب تُعطينا المعاني الآتية (1):

ص: 105

1. العهد: كلُ ما عُوهدَ الله عليه.

2. العهد: كلُّ ما بين العباد من مواثيق.

3. العهد: تولّي أمر اليتيم.

4. العهد: اليمينُ يحلفُ عليها الرجلُ.

5. العهد: الوفاء.

6. العهد: الأمان.

إنّ نظرةً أولى على هذه المعاني، تبرّز لنا المعنى العام المشترك بينها للجذر (عهد)، وهو: (الوفاء بما أخذه الإنسان على نفسه)، ومن هنا اقترن ذكرُ العهد بذكرِ الوفاءِ، وتوحّدا دلاليّاً، وصار أحدهما يدلّ على الآخر من دون ذكر صنوه، وصار وجود العهدِ یعني: أنّ ثمةَ وفاءً ملتبسٌ به، ولا يمكنُ التفريق بينهما في حدود الدلالات المشار إليها.

وعودةٌ إلى المعاني السابقة بنظرة تفصيليّة، تُعطينا الدلالات الآتية:

فالمعنيان الأول والثاني، يُحتّمان على الإنسانِ أن يكونَ وفيّاً مع الله سبحانه وتعالى من جهة، ومع عباده من جهة أخرى، بما يُلزم نفسه به، بعد أن أُضيف (الوفاء) للعهد، فصارا کالكلمة الواحدة ومن هنا صار الوفاءُ وسيلةً ونتيجةً لذلك في آنٍ معا. فتوحّد المعنيان في هذه الدلالة المكثّفة، بعد أن أُضيف (الوفاء) للعهد

أما المعنى الثالث، فإنّ تولّي أمر اليتيم عمل جليل، أمر به الله تعالى، وتظهر قيمتُهُ الأخلاقية والدينيّة بالوفاء به، والوفاء هنا يعني: التمسك بإصلاح حال اليتيم حتى يبلغ أشدّه، على وصف القرآن في قوله تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» الإسراء 34، وفي آيات أخر (2).

ص: 106

ويأتي المعنى الرابع، وهو الوصية، أي ما يعهد به الإنسان إلى الوصيّ، وهنا يتعهّد الوصىّ بتنفيذ ما وُصّىَ به، فيكون الوفاء شرعيا وأخلاقيّا، لا مناص من الوفاء به، وبهذا يتعاضد العهدُ والوفاءُ في هذه الجزئيّةِ من المعنى العام مرّة أخرى، بعد الاستجابة لما يأمر به الله تعالى.

ويبقى المعنى الأخير للعهد، وهو (الأمان)، وهذا المعنى، وإن كانت المعاني السابقة تُنتجه، لأنّ تحقّقها يعني حصول الأمان للمتعاهدين، إلّا إنّه هنا يقوّي من شأنِ الدلالةِ ويوسّعها، بما يجعلُ العهدَ هو الأمانُ الّذي يريده الله تعالى لعباده، لا بوصفه نتيجةً ينتجُها الوفاءُ فقط، وإنّما يكونُ الوفاءُ أماناً. وهذا المعنى يجمع المعاني السابقة كلّها، ويجعلُ التوسّعَ الدلاليَ الذي قدّمته ينفتحُ على هذا المعنى الواسع، الذي سيتجسد فيما أراده الإمام علي (عليه السلام)، من مالك الأشتر، بقوله ((هذا ما أمر بهِ عبدُ الله عليٌّ أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، مالك بن الحارث في عهده إليه حين ولّاهُ مصر)) (3). فجعل كتاب التولية عهدا، لأنّ كلّ ما جاء فيه يحتاج إلى الوفاءً به، حتى يتحقّق الأمان لمصر وأهلها. وليكون ذلك منهاج عمل للولاة في ولاياتهم، ووسيلة بيد المسلمين لمراقبة ما يطبّقه الوالي من العهد، فضلا عمّا فيه من بيان لغير المسلمين ليُبصروا علاقاتهم مع المسلمين من خلاله، واستنادا إلى هذه الرؤية، يكون هذا العهد، أساسا متينا لدولة العدل الإلهي التي بناها الإمام، وأراد من ولاته أن يتمثّلوه، وهم يسوسون العباد.

الوفاء بالعهد في الجاهلية:

أراد الإمام (عليه السلام) من مالك الأشتر ومن المسلمين، أن يستحضروا القيم العربية التي كانت سائدة في العصر الجاهلي، ورفع الإسلام من شأنها، فبقيت محافظة على مكانتها في النفوس، وفي مقدمة تلك القيم التي أقرها الإسلام، قيمة الوفاء بالعهد

ص: 107

أشار الإمام (عليه السلام) في عهده إلى ما كان من تعظيم المشركين للوفاء بالعهد في الجاهلية بقوله ((... وقد لزم ذلك المشركون دون المسلمين، لما استبولوا من عواقب الغدر، فلا تغدر بذمّتك)) (4).

ذكّرَ الإمامُ مالكاً والمسلمين، بأنّ المشركين، على الرغم من جاهليتهم وشركهم، ألزموا أنفسهم بالوفاء بالعهود، وجعلوا الغدر مذمّةً، وعارا يلحق صاحبه، لأنّ عواقبه مهلكةٌ، لذا راحوا يفتّشون عن أيّة وسيلة يمكن أن تفضح الغادر من جهة، وتنفّر الناس من الغدر من جهة أخرى. ومن ذلك ما عُرف عنهم أنّه إذا ((غدر رجلٌ، أو جنى جناية، انطلق احدهم حتى يرفعَ له رايةَ غدرٍ بعكاظ، فيقوم رجلٌ يخطبُ بذلك الغدرِ، ويقول: ألا إنّ فلاناً غدر، فاعرفوا وجهه، ولا تُصاهروهُ ولا تُجالسوهُ ولا تسمعوا منه قولا)) (5). وهذا النصُّ يكشفُ عن المهلكة التي يجلبها الغدرُ لصاحبه - أيضا -، فهي تُميته في المجتمع وإن كان حيّا، وتضرب عليه خيمة من الذلّ. وقد صوّر الشاعر الحادرة الذبياني أنفته وأنفة قومه من الغدر، حينما خاطب حبيبته بقوله:

أسميُّ - ويحكِ - هل سمعتتِ بغدرةٍ *** رُفعَ اللواءُ لنا بها في مجمعِ (6)

ومن هنا نفهم مراد الإمام (عليه السلام)، وهو يدفع المتلقي إلى استحضار هذه القيمة التي ظلّت على ما كانت عليه بعد مجئ الإسلام. لارتباطها بتنظيم حياة الناس، بما يكفل لهم العيش بأمان، وييُسر عليهم سبل بناء الحياة، ليكون هذا وسيلة إلى الوصول إلى رضا الله تعالى.

ص: 108

الوفاء بالعهد في الإسلام:

أشار الإمام (عليه السلام) إلى أنّ (الوفاء بالعهد) فرضٌ من الله تعالى على عباده بقوله: ((.. فإنّه ليس من فرائضِ الله شئٌ، الناسُ أشدُّ علیه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود)) (7). فكيف يُفهم هذا الكلام؟.

إنّ الاجابة عن هذا السؤال، تقتضي أن نقف على معنى (الفرض) في اللغة، لنأخذ منه تصوّرا لما يريده الإمام (عليه السلام)، وفي اللغة معناه ((ما أوجبه الله عزّ وجلّ ... وفرض الله علينا وكذا افترضه، أوجبه)) (8). فالوفاء بالعهد فرض أوجبه الله تعالى على عبادة ليمكّنهم من تنظيم شؤون حياتهم، ويمكّن أعدائهم من العيش بأمان من دون أن يخشوا غدرا. وليوفّر لهم فسحة للتفكير من أجل ترك معاداة المسلمين من دون أن يفقدوا شيئا مما يخشونه، وعلى هذا النحو يسعى الإمام (عليه السلام) إلى بناء الإنسان.

والإمام علي (عليه السلام)، في رؤيته هذه، يصدر - كما هو شأنه - عن رؤية قرآنيّة للوفاء بالعهد، فقد أوجب الله تعالى ذلك على المسلمين، وجعله - أي الوفاء بالعهد - سمةً من سمات المتّقين، وليس من سمات المسلمين بشكل عام، ويمكن أن نجد هذه الدلالة في قوله تعالى: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» آل عمران 76 وفي قوله عز وجل: «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» التوبة 4، فمحبةُ الله تعالى في هذه الآيةِ مرتبطةٌ بالمحافظةِ على العهد، والوفاء به، وهي موجّهةٌ إلى المتقين، الذين نالوا مرتبةَ التقوى في هذه الآية بالوفاء بالعهد، يقول السيد الطباطبائي عن هذه الجزئية: ((في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد مالم ينقضه المعاهد المشرك، و ذلك يجعل احترام العهد و حفظ الميثاق أحد مصادیق

ص: 109

التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن)) (9).

وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوفاء بالعهد، فهو سيده، وجعل ذلك شعبة من شعب الإيمان، التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المسلم، وقد جسّد ذلك في حياته الاجتماعية، فقد ورد في سيرته الطاهرة، أنّ امرأة دخلت عليه ((فَهَشَّ لَهَا، وَأَحسَنَ السُّؤَالَ عَنهَا، فَلَمَّا خَرَجَت قَالَ: إِنَّهَا كَانَت تَأتِينَا أَيَّامَ خَدِیجَةَ وإِنَّ حُسنَ العَهدِ مِنَ الإيِمَانِ)) (10)، إنّ رفق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المرأة على النحو الذي تشير إليه الرواية، يجد لنا المراد من حفظ الجوار والوفاء به، على الرغم من أنّ العهد كان مع السيدة خديجة، وحفظه يكون بحفظ ذكراها، وذكراها هنا جسّدته هذه المرأة التي ارتبطت بها في ذلك الزمان. ومن هنا يتبيّن لنا قيمة الوفاء بالعهد على وفق هذه الرؤية النبوية.

إنّ هذه الرؤيةَ القرآنيّةَ والرؤيّةَ النبويّةَ والرؤيةَ العلويّة للوفاء بالعهد، جعلته واجبا مفروضاً من الله (عزّ وجلّ) على من يُعطيه لغيره، أي أنّ العهدَ يستمدُّ وجوبَهُ من انعقاده بين طرفين، وإذا تمّ العقدُ تمّ وجوبُهُ، وصار الإخلالُ بِه إخلالاً بأُسٍّ من أُسسِ الإسلام. واستنادا إلى هذا سنعود لننظر في هذه الجزئية من عهد الإمام (عليه السلام) فنقول أنّه نبّه مالكا إلى التمسك بالوفاء بما يعقده من عهود مع غير المسلمين، لأنّ هذا سيقوّي مكانة المسلمين في النفوس، بما يقدمونه لأعدائهم من قيم اسلامية عليا، ستجذبهم إلى حوزة الإسلام حتما، أو عدم معاداته في أقلّ تقدير. بل إنّ القرآن الكريم عيّر المشركين بأنّهم لا يرعون حرمة للمسلمين إن استطاعوا، قال تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» التوبة 8. ليرسّخ ما أشرنا إليه من التمسك بالعهود. إذ أضاف عدمُ مراقبتِها فسقا إلى شرك المشركين على ما بيّنته الآية الكريمة (11).

ص: 110

إنّ ما أراده الإمام (عليه السلام)، لا ينطبق على مالك الأشتر هنا فقط، وإنّما يشملُ جميع المسلمين، لأنّ ما يُوصي به (عليه السلام) يريده للجميع، وكلّ مسلم يأخذ منه بالقدر الذي يحتاج إليه في حياته الإسلاميّة المستقيمة، يؤيد هذا الحديث النبوي الشريف عن المسلمين عامّة: ((يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدناهُم، أَيْ إِذَا أعْطَى أحدُ الجَيْشِ العَدُوَّ أمَاناً جَازَ ذَلِكَ عَلَى جَميعِ المُسْلِمِينَ، وَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ یُخْفِرُوه، وَ لَا أَنْ يَنْقُضوا عَلَيْهِ عَهْده)) (13).

ويستمر الإمام (عليه السلام) في احاطة مالك الأشتر علما بتفاصيل الوفاء بالعهد، فيخاطبه بقوله ((وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة، وألبسته منك ذمّة، فحُطّ عهدك بالوفاء، وارعَ ذمّتك بالأمانةِ، واجعل نفسَك جُنّةً دون ما أعطيتَ)) (13). فالإمام (عليه السلام) سمّى العهد هنا عقدا، ودلالة مفردة العقد تُعطي وثوقاً أكثر مما تُعطيه مفردة العهد نفسها، فقد ورد في المعجم العربي، أنّ العقد هو العهد، والجمع عقود، وهي أوكد العهود، وإذا قلت: عاقدته أو عقدتُ عليه، فتأويله أنّك ألزمته ذلك باستيثاق، والمعاقدة: المعاهدة (14). واستنادا إلى هذه الدلالات، فإنّ استعمال الإمام (عليه السلام) للفظة العقد يفصحُ عن تشديد أراده بشأن ما يعقده المسلمون مع أعدائهم ومع بعضهم البعض. ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى القول، إنّ قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» المائدة 1، ((يعمّ العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده، وألزمها إياهم من التكاليف، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات، والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به)) (15). واستنادا إلى هذا نقول: إنّ انتقاء الإمام (عليه السلام) لهذه الصياغة المتضمّنة لدلالة الجذر (عقد)، ينبئ عن الأهمية التي أراد أن يلفت أنظار المسلمين إليها بشأن حُرمة العهود.

أما اللباس الذي قرنه الإمام (عليه السلام) بالعقد، فيشير إلى ما يمكن أن يوفّره

ص: 111

من سكينة وستر للأعداء، فينعمون بذلك، وهنا لا يُمكنهم انکار هذه النعمة، ولا يجوز لهم تجاهلها، وسيغريهم هذا كلّه بالتفكير بالانضمام إلى حضيرة الإسلام اختيرا، وهذا وجه من وجوه بناء الدولة والمجتمع الذي يريده الإمام (عليه السلام).

ويزيد الإمام من تحذيره من خدش فريضة الوفاء بالعهد، فيُضيف متمّا کلامه عن ذلك فيقول: ((فلا تغدرنّ بذمّتك، ولا تخيّسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوّك، فإنّه لا يجترئ على الله إلا جاهلٌ شقيّ)) (16).

فقول الإمام (عليه السلام) هنا (فلا تغدرنّ بذمتك) ينطوي على تحذير للأشتر النخعي، من الغدر، وعلى الرغم ممّا في الغدر من بشاعةٍ، فإنّ هذه الصورةَ تزداد قُبحاً حينما يُنسبُ الغدر إلى ذمّة الإنسان الغادر وليس إلى خصمه المتعاقد معه بالعهد، وهذا ما جلّاهُ کلام الإمام (عليه السلام)، فلم يعد الغدرُ مخالفة لفرض رباني، ولا بُعدا عن قيمة أخلاقية يُجلّها المجتمع، وإنما صار ضررا يقع على الغادر نفسه، وهكذا يصل إلى غاية القبح حينما يرتدُّ ضرره على صاحبه، وهذا ما يحتّم على الإنسان أن يبتعد عن هذه الخصلة، بعد أن بصّره الإمام (عليه السلام) بعواقبها على النحو الذي تكشّف لنا.

أما قوله (عليه السلام) (ولا تخیّسنَّ بعهدك)، فعل الرغم من أنّ الجذر (خیس) يعني في اللغة: غدر وخان، إلا أنّ انتقاء الإمام (عليه السلام) له هنا، يأتي للإيغال في تبشيع صورة الغدر من خلال ما يؤدّيه من معان أخرى، تنطوي على ذلك، فمن معانيه التي تُظهر ما تُشير إليه المعاني الآتية: ((خاس الشيءُ يخيس: تغيّر وفسد وأنتن ... وخاس هو ذلّ، ويُقال: إن فعل فلانٌ كذا، فإنّه يُخاسُ أنفُهُ أي يُذلُّ أنفه)) (17). وهذا التوجيه يُعطينا تصوّرا لاستعال الإمام للمفردات، بحيث تقدم المفردة الواحدة عددا من المعاني، من دون أن يعترض السياق على ذلك، بل إنّه - أي السياق - يحتضنُ

ص: 112

المعاني الناتجة عن ذلك، بمرونةٍ تعين القارئ على تأويل الكلام إلى اتجاهات كثيرة من دون تعسّف، وهذا وجهٌ من وجوه المرتبة العليا للبلاغة عند إمام البلاغة (عليه السلام).

وينهى الإمام (عليه السلام) الأشتر النخعي عن مخاتلة العدو (ولا تختلنّ عدوّك)، ليحصّن العهد المتعاقِد عليه مع العدو، من أية ثلمة قد يُحدثها التفكير بإيذائه، وهنا اختار الإمام (عليه السلام) لفظة (تختلّن)، ليُنفّرَ المتلقّي من هذا الفعل، فاختل في اللغة يعني: الخداع عن غفلةٍ ... يختل الرجل ليطعنه، أي يداوره ويطلبه من حيث لا يشعر (18)، وهذه الدلالات من وسائل محاربة العدو في ميادين المعارك، ولكنّ الإمام نهی عن الاقتراب منها مع العدو الذي عقد المسلون معه عهدا، وصار المرغوب فيه مرغوبا عنه في هذا الموطن الذي يشير إليه الإمام.

أوجب الإمامُ (عليه السلام) على المسلمين من خلال عامله الأشتر النخعي، التمسك بهذه المضامين، وعدّ الإخلال بها تعدّيا على حدود الله عزّ وجلّ، يقول (عليه السلام) في بيان ذلك: ((فإنّه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقيٌّ، وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً، أفضاه بين العباد برحمته، وحريما یسکنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره)) (19).

فالجرأةُ على الله (عزّ وجلّ) من أفعال الجهلاء الأشقياء، فالجاهل يفعل ذلك لأنّه لا علم له بما يقدم عليه، من جهة، ويفعلُ ذلك من الجهل بالله (عزّ وجلّ) ورسوله وشرائع الدين، من جهة أخرى، والراجح أنّ هذا المعنى - ربما - يكون أكثر ملائمة لما يريد الإمام (عليه السلام)، لأنّه كفيل بتنفير الناس من الإقتراب مما يشين العهد.

أما الشقيّ فهو الّذي لا يستشعر لذّة السعادة في حياته، لأنّه يعيش في شدّةٍ

ص: 113

وعُسرةٍ، وهذا آتٍ من الجرأة على الله (عزّ وجلّ).

وثمة مفهوم آخر للشقيّ، يبسطه الإمام (عليه السلام) في موضع آخر من نهج البلاغة، إذ يقول عنه: ((فإنّ الشقيّ من حُرم نَفعَ ما أُوتيَ من العقلِ والتجربة)) (20)، والعقل يقتضي - حقّا - أن لا يجتر أعبد مسلم على حدٍّ من حدود الله.

إنّ هذا التشديد الذي أظهره الإمام (عليه السلام)، لا يُبقي حُجّةً لمن يريد أن ينقض عهدا، بداعي الحرص على المسلمين من أعدائهم، لأنّ ما يوفّره الوفاء بالعهد أكثر نفعا للمسلمين، ونفعه أولا يتمثل بالامتثال لما أمر به الله تعالى من الوفاء بالعهود، فالأصل في الإسلام التمسك بالثوابت التي تصون الدين.

الوفاء بالعهد أمان للعباد:

يلتفت الإمامُ (عليه السلام) إلى وجه آخر من وجوه الوفاء بالعهد، وهو وجه الأمان الذي يريده الله لعباده، يقول (عليه السلام) ((... وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره)) (21).

إنّ إشارة الإمام (عليه السلام) هذه تجعل العهد ضرباً من ضروب الأمن التي أرادها الله لعباده، رحمة منه بهم، ليعيشوا في دعة وأمان وسكينة، فيبنوا ويعمّروا، ولولا الأمنُ لما قدّر لهم أن يتمكنوا من ذلك، ولما قدّر للوالي أن يدبّر أمور العباد، لأنّ تدبير الأمور يقتضي أمنا وأمانا.

ثم يجعل الإمام (عليه السلام) العهد حریما يسكن العباد إلى منعته، والحريم يعني: كلّ ما حُرّم فلا يُلمس، ولا يُدنی منه (22). وهذه دلالة المنعة التي وصف الإمام (عليه السلام) بها الحريم، حيث توفّر للعباد سکنا في ظلّ الأمن المقترن بها. فالقلق والخشية والترقّب التي تقترن بعدم الأمن، تأخذ من العباد أسس الطُمأنينة

ص: 114

التي ينشدونها، فإذا جاء العهد بأمنه، وفّر لهم ما فقدوه من ذلك كلّه.

ثم يأتي قوله (عليه السلام) (فيستفيضون إلى جواره)، أي يُسرعون إليه، واستعمال الإمام (عليه السلام) لهذه اللفظة، ينطوي على بيان ما يمكن أن يشعر به الإنسان من الأمن الذي يُشيعه العهد، فلفظة (يستفيضون) تحمل دلالة السرعة والكثرة والانبساط والزحف والدفع في السير ... (33). وهذه المعاني كلّها ترسم صورة لحال الناس وهم يندفعون صوب أمن العهد، الذي بسطه الإمام في هذا الجزء من قوله. وفي الوقت نفسه، يُغري المسلمين بالبقاء على ثباتهم على صيانة ما يتعهّدون به أمام خصومهم، لأنّ في هذا سلامة لدينهم.

شروط صحة العهد:

يُنهي الإمام (عليه السلام) كلامه عن الوفاء بالعهد، ببيان الشروط التي ينبغي توفّرها فيه، من أجل سلامته، لأنّ في هذه السلامة سلامة للمتعاقدين عليه، بما يوفّره من مناخ أمن، يتيح للعباد بناء الحياة. وجاءت هذه الشروط في قوله الآتي: ((فلا ادغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تُعوّلنَّ على لحنِ قولٍ بعد التأكيد والتوثّق)) (24).

والآن ننظر في قول الإمام (عليه السلام) لنقف على ما يؤديه كلّ شرط من هذه الشروط، وهي على النحو الآتي:

1. لا ادغال في العقد: الادغال في اللغة يعني الفساد، وأدغل في الأمر: أدخل فيه ما يُفسده ويُخالفه (25). فمن يدخل في العقد ما ليس فيه يُفسده بهذا الفعل، والادغال ليس من خُلُق المؤمن. يقول الإمام (عليه السلام) في موطن آخر: ((ليس المؤمن بالمُدغل)) (26). فهذا التعارض بين الإيمان والادغال، يحتّمُ على

ص: 115

المؤمن أن يتجنب هذا الفعل الذي يُخرجه من دائرة الإيمان، فكيف إذا كان الادغال في فرض من فرائض الله تعالى وهو العهد؟.

2. لا مدالسة في العقد: الدَّلَسُ بالتحريك: الظلمة، والمدالسة: المخادعة، وفلان لا يُدالسك، ولا یُخادعك، ولا يُخفي عليك الشئ، فكأنه يأتيك به في الظلام (27). وهذه الدلالة للمدالسة تنطوي على خداع غير ظاهر، يستر المُخادِعُ خداعه كأنّه لایُری، وهذا لا يستقيم مع أخلاق الإسلام، لأنّ من يُخادع الله تعالى في العهد يستحق غضب الله تعالى، وقد ورد في الأحاديث أنّ النبي سُئل)) فيم النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تُخادعوا الله فيخدعكم، فإنّه من يُخادع الله يخدعه، ويخلع منه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر)) (28). فالذي يخدع من يعاهده يخدع نفسه، والله عزّ وجلّ ((خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده)) (29). واستنادا إلى ما تقدّم، فإنّ المدالسة في العقد تكون مدعاة لسخط الله وغضبه، وبهذا يبتعد عنه المسلمون، ويبتعد عنه الوالي قبل غيره، لأنّه المعني أولا بتفيذ ما يريده الله تعالى، ليكون قدوة للرعية.

3. لا تجوز العلل في العهد: وهذا منعٌ آخر من الإمام (عليه السلام) لتحصين المسلمين من الانزلاق إلى مهاوي عصيان الله تعالى، فقد يعمد صاحب العهد إلى محاولة صرفه عن وجهه من خلال كتابته بألفاظ غير واضحة في بيان المراد، وكأن الإمام (عليه السلام) يقول لمالك الأشتر: اختر ((للإيجاب والقبول ألفاظا واضحة في معناها، صريحة في دلالتها، يفهم منها أهل العرف انك قصدت المعني الظاهر، و ألزمت به نفسك)) (30). وبهذا يبتعد عن أسباب الجدال والاختلاف والتنازع، ممّا قد يقود إلى إبطال العهد من دون وجه حقٍّ.

4. تجنّب الّلحن في العهد: ووقفة على دلالة مفردة اللحن ربما تُعيننا على الاقتراب

ص: 116

من مراد الإمام (عليه السلام). فاللحن في اللغة يعني: أنّ القائل يُميل قوله بالتورية عن المفهوم الواضح، فهو إذاً ميلٌ عن جهة الاستقامة، والانحراف عن صحيح المنطق (31). وإن كان ظاهره يُعطي غير المخفي، وهذا هو ما أراد الإمام (عليه السلام) أن يبعد المسلمين عنه، لأنّ الطرف الآخر غافلٌ عمّا يراد به، واستنادا إلى هذا، اشترط الله تعالى (العدل) في من يكتب بين الناس «يَا أَيُّهَا وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» البقرة 282. ولا تقتصر الكتابة هنا على الدَين فقط، وإنّما تعمّ العهود والمواثيق كافة (32).

إنّ هذه الدلالة تُعطي للنصّ إمكانية التأويل على وجوه مختلفة، وصرف الكلام إلى أكثر من معنى، وتجعل من يريد الجنوح بدلالة ألفاظ العهد إلى غير الوجهة المتّفق عليها قادرا على ذلك، من خلال التكنية أو التعريض، وهذا ما نهى عنه الإمام (عليه السلام)، لأنّ من وثّق عهده باليمين، لا يصحّ أن يُعوّل على لحن القول المشار إليه. وحتى يقطع الإمام (عليه السلام) طريق التّنصل من الإبقاء على العهد ممّن يبغي ذلك، قال قولته هذه.

ويوصي الإمام (عليه السلام) الأشتر مشدّدا على الوفاء بالعهد، وعدم اللجوء إلى البحث عن مسوّغات للتخلص من قيوده، بقوله: ((... ولا يدعُونّك ضيقُ أمرٍ لَزِمَك فيه عهدُ اللهِ إلى طلبِ انفساخهِ بغيرِ الحقّ)) (33).

قد يقع الوالي في أمر يضيق به، ويقدّر أن لا منجى له ممّا هو فيه، إلا بطلب انفساخ العقد بغير الحقّ، فيذهب إلى ذلك، إما باللجوء إلى ما منع عنه الإمام (عليه السلام) کما مرّ بنا قبل قليل، وإما بفعل ذلك من دون حجة، لأنّ من يُجافي الحقّ، قد لا يحتاج إلى حجة ليسوّغ فعله. وهذا منهيّ عنه في قول الإمام (عليه السلام)، لأنّ الوفاء تمثّل لأمر الله تعالى، الذي يُلزم صاحبه التمسك به.

ص: 117

ويختم الإمام (عليه السلام) وصيته لمالك الأشتر بشأن الوفاء بالعهد بقوله: ((فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْر تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ تَبِعَتَهُ وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طِلْبَةٌ، لاَ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلاَ آخِرَتَكَ)) (34). وهذا الجزء من قول الإمام (عليه السلام)، مرتبط بالجزء السابق المتعلق بضيق الأمر الذي يواجه صاحب العهد، فالصبر هنا يندرج في حقل الصبر على ما يكره الإنسان، وهو واحدٌ من صبرين، وصفهما الإمام (عليه السلام) بقوله ((الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبرٌ عمّا تُحبّ)) (35). وهذا الصبرُ يُنتظر معه فرج الله (عزّ وجلّ)، والجزاء الأوفي، الذي يُظهره فضل العاقبة التي ذكرها الإمام (عليه السلام)، وقد وعد الله عزّ وجلّ الصابرين بقوله: «...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر 10. وصبر المسلم على التمسّك بعهد الله عزّ وجلّ خير من غدر يخاف تبعته، لمعرفته وجميع المسلمين بعواقب الغدر - کما بان ذلك من قبلُ -. وذكّر الإمام (عليه السلام) بأنّ من يقترف ذلك تُحدق به طِلبَةٌ من الله تعالى، وتُحيط به من الجوانب كلّها وتستدير به، فلا يبقى له منها منجی، ولا يقبله الله تعالى منها، لأنّ التبعةَ المشار إليها لزمته في الدنيا والآخرة.

لقد ختم الإمام (عليه السلام) عهده للأشتر بتذکیره، بعاقبة الخير التي تنتظر من يكون وفيّا بعهده، متمسّكا بعقده، وإن ضاق به أمرٌ، ورأى أنّ انفراجه - كما يظنّ - يكون بالتحرر منه، فهنا يكون الصبرُ هو المعوّل عليه في اجتياز ذلك.

ص: 118

خاتمة البحث

أكّد الإمام عليه السلام على أهمية (الوفاء بالعهد)، في حياة المسلمين، لأنّ في هذه القيمة، مع غيرها من القيم، ما يشكّل بعضاً من الأسس المتينة لبناء الدولة والمجتمع، وقد تبینت هذه الأهميّة في البحث من خلال ما يأتي:

1. ذكّر الإمام عليه السلام عامله الأشتر النخعي خاصة والمسلمين عامة، بتمسّك المشركين بالوفاء بالعهد، وبجعلهم الغدر منقصة يسبُّ بها الغادرون. فالأولى بالمسلمين أن يصونوا عهودهم مما يشينها.

2. صارت قيمة (الوفاء بالعهد)، قيمة عربية إسلامية، أمر القرآن بصيانتها، وحثّ النبيُّ على ذلك، وشدّد العام على الحفاظ عليها، بعد أن أصبحت فرضاً من فرائض الله تعالى.

3. جعل الإمام عليه السلام (الوفاء بالعهد) أماناً من الله تعالى لعباده، يعيشون في كنفه بسكينةِ وهدوء وطُمأنينة، وجعل الغدر دناءة لا يقربها مسلم.

4. وضع الإمام عليه السلام شروطا ومواثيق للعهود لا يصحّ انعقادها بدونه، وفي مقدمة تلك الشروط، كتابة العهد بألفاظ و تراکیب واضحة، تدلّ على معانيها بيسر، ولا تقبل التأويل الذي قد يُستند إليه في فسخ العقود بحجج لا أصل لها.

5. انتقى الإمام عليه السلام من الألفاظ والصياغات ما يُظهر وجوب الوفاء بالعهد، وما يبرّز مواطن رحمة الله تعالى في ذلك، بدقةٍ بالغةٍ كما هو معهود في كلامه عليه السلام، من خلال مراعاة ما تؤدّيه جذور الألفاظ من معانٍ متقاربة بشكل عام، ومختلفة في دلالاتها الخاصة في آنٍ معاً.

6. أراد الإمام عليه السلام من خلال عهده إلى عامله مالك الأشتر، أن يبنيَ مجتمعا اسلاميّاً، يعيش في ظلّ نظام دولة عدل إلهيٍّ، بعد أن وضع له أُسس البناء، وكان الوفاء بالعهد من الأُسس المكينة لذلك كلّه.

ص: 119

الهوامش

1. ينظر: لسان العرب (عهد).

2. ينظر: الأنعام 152، الفجر 17.

3. نهج البلاغة 3/ 106.

4. م. ن.

5. الأزمنة والأمكنة 1/ 288، وينظر أيضا 1/ 537. صورة الأسواق في الشعر الجاهلي (بحث) 320/ 321.

6. نهج البلاغة 3/ 106.

7. لسان العرب (فرض).

8. ديوان الحادرة الذبياني 310.

9. لسان العرب: (فَرَضَ).

10. الميزان 9/ 84. وينظر: التبيان 5/ 172.

11. عيون الأثر 2/ 402، والحديث في: بحار الأنوار 16/ 8، المعجم الكبير 22/ 14.

12. ينظر: الأمثل 5/ 540.

13. النهاية في غريب الحديث 2/ 168. وينظر قول للإمام الصادق عليه السلام بهذا المعنى في شرح أصول الكافي 7/ 402.

14. نهج البلاغة 3/ 106.

15. م. ن.

16. ينظر: م. ن.

17. تفسير البيضاوي 2/ 113، وينظر أيضا: تفسير الثعلبي 4/ 7.

ص: 120

18. لسان العرب (خیس).

19. ينظر: م. ن.

20. نهج البلاغة 3/ 107.

21. م. ن 3/ 137.

22. م. ن 3/ 107.

23. نهج البلاغة 3/ 107.

24. م. ن.

25. ينظر: تاج العروس (فيض).

26. نهج البلاغة 3/ 107.

27. ينظر: لسان العرب (دغل).

28. النهاية في غريب الحديث 2/ 123.

29. ينظر: لسان العرب (دلس).

30. تفسير العياشي: 1/ 283، وينظر الميزان 5/ 121.

31. تفسير الطبري 1/ 173.

32. في ظلال نهج البلاغة 1/ 115.

33. ينظر: لسان العرب (لحن).

34. ينظر: تفسير القرطبي 2/ 276.

35. نهج البلاغة 3/ 107.

36. م. ن.

37. م. ن.

ص: 121

فهرس المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي (أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن الأصفهاني ت 421 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 1417 ه.

2. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ مکارم شیرازی، منشورات مدرسة الإمام (عليه السلام) ط 1، التصحيح الثالث، 1426 ه.

3. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بیروت - لبنان، ط 2، 1403 ه - 1983 م.

4. تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي ت 1205 ه، مكتبة الحياة، بیروت، لبنان.

5. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي، مكتب الاعلام الاسلامي، ط 1، 1409 ه، قم.

6. تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، البيضاوي، (ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي ت 685 ه)، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار احیاء التراث العربي، بیروت، لبنان، ط 1، 1418 ه.

7. تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن (ابو اسحق الثعلبيت 427 ه)، تحقيق محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1422 ه.

8. تفسير الطبري (الجامع في تأويل القرآن)، الطبري (محمد بن جریرت 310 ه)، تحقيق أحمد محمد شاکر، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 ه - 2000 م.

9. تفسير العياشي، العياشي (النضر بن محمد بن مسعود بن عياش السمرقندي ت 320 ه)، تحقيق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، د. ت.

ص: 122

10. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ت 671 ه، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، 1405 ه.

11. ديوان الحادرة، تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد، دار صادر، ط 2، بیروت، لبنان 1393 ه.

12. شرح أصول الكافي، شرح المولى محمد صالح المازندراني، تعليق الميرزا أبو الحسن الشعراني، تصحیح علي أكبر الغفاري، ط 1، المكتبة الاسلاميةٌ م، ایران.

13. صورة الأسواق في الشعر الجاهلي، الاستاذ الدكتور حاکم حبيب عزر الكريطي (بحث)، مجلة الاستاذ، مجلة كلية التربية / ابن رشد، جامعة بغداد، العدد 23.

14. عيون الأثر، ابن سيد الناس ت 734 ه، تحقيق إبراهيم محمد رمضان، دار القلم، بیروت، ط 1، 1414 ه - 1993 م.

15. في ظلال القرآن، سید قطب (ابراهيم حسين الشاذلي ت 1385 ه)، بيروت - القاهرة، ط 17، 1412 ه.

16. لسان العرب، ابن منظور، دار صار، بیروت، لبنان.

17. المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، دار احیاء التراث العربي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط 2

18. الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ت 1402 ه، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، قم، إيران.

19. النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، تحقیق: طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطناحي، مؤسسة اسماعیلیان، قم، ط 4.

20. نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، جمع الشريف الرضي، تحقيق الشيخ محمد عبدة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

ص: 123

ص: 124

القيادة التحويلية عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) (دراسة تحليلية)

اشارة

د. حليم صخيل العنكوشي وزارة التربية العراقية - مديرية تربية الديوانية

ص: 125

ص: 126

تعريف بالبحث

المقدمة:

إن القيادة تُعد عملية حيوية لإدامة عمل واستمرار وتقدم المجتمعات والمنظمات والجماعات بشكل منتظم، وبسبب هذه الحيوية التي تتصف بها، والتي تخص كل التنظيمات الاجتماعية تقريباً، فإن منظورها ونطاقها من السعة بحيث یکاد يشمل كل ما يتعلق بالنشاطات الإنسانية المشتركة وبالأخص من خلال تغير التركيب الذهني للأفراد وبالتالي تغيير الطريقة التي يتصرفون بها. ويُعد الدور الذي تقوم به القيادة واحد من أهم الأدوار المرتبطة بمركز بناء الجماعة وتعتمد فاعلية الجماعة في جزء كبير منها على درجة تآزر وتوجيه أنشطة الجماعة نحو الحصول على الهدف والذي نادرا ما يحدث إذ لم يكن فرد ما في الجماعة يقوم بدور التوجيه.

وقد تناول هذا البحث نمط القيادة التحويلية التي استعملها الإمام علي (عليه السلام) في عهده المالك الأشتر (رضي الله عنه) وتأتي أهمية القيادة بشكل عام من كونها تقوم بدور أساسي يدخل في كل جوانب العملية الادارية وعملها كأداة محركة لها لتحقيق أهدافها، ذلك أن قيادة أي تنظيم تعمل من خلال تأثيرها على موظفيها فتزيل الفجوات النفسية والاجتماعية بين الموظفين والقائد، والقيادة هي سلوك يقوم به القائد للمساعدة على بلوغ أهداف الجماعة وتحريك الجماعة نحو الأهداف وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الأعضاء والحفاظ على تماسك الجماعة وتيسير الموارد للجماعة.

إن جوهر القيادة التحويلية يتركز حول رغبة القائد وقدرته على رفع مدارك الآخرين عن طريق تقوية الأفكار والقيم الأخلاقية، وحث الأتباع على إنجاز المهام الضرورية والاهتمام باحتياجات الرعية نظراً لقدراتهم ومهاراتهم الاستثنائية.

ص: 127

إن قيادة علي بن أبي طالب (عليه السلام) خلال فترة خلافته كانت تتسم بسمات قلَّ نظيرها إن لم يكن معدوم فقد رسم عليه السلام رؤية متكاملة عن مفهوم القيادة والتي تتلاءم مع وضع المجتمع وحالة الدولة وسير الأحداث والتعامل مع الأزمات، وفي عهده لمالك الأشتر كان يتعامل بصفة القائد التحويلي الذي يرسم سياسة الوالي في ضوء ظروف البلد الذي أرسله اليه.

إن القيادة التحويلية تعمل على إعادة النظر في الرؤية المتعلقة بالأفراد ومهامهم وأدوارهم وتعمل على تجديد التزامهم، وتسعى لإعادة بناء النظم والقواعد العامة التي تُسهم في تحقيق غايتهم، ويسعى القائد التحويلي الى الارتقاء بمستوى مرؤوسيه من أجل الانجاز والتطوير الذاتي والعمل على تنمية وتطوير المجتمع والدولة بشكل عام.

ونظرا لأهمية مفهوم القيادة التحويلية وقلة الدراسات التي تناولته على حد علم الباحث لذا شرع بتتبعه والوقوف عند مكوناته ومعرفة النظريات النفسية التي تفسره. فضلاً عن معرفة آلية تطبيق هذا النمط القيادي بمكوناته في العهد الذي أرسله الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر.

أهمية البحث:

يبرز هذا البحث أهميته من خلال ما يأتي:

أولاً: أهمية عهد الإمام علي (عليه السلام) الذي يروم الباحث دراسته وتحليل محتواه. فهو يُعد واحداً من الوثائق التي تنظم عمل السلطات وتهتم بجوانب المجتمع المختلفة. ثانياً: تنبع أهمية البحث من أهمية الموضوع الذي يُبحث فيه، والمتعلق بنمط القيادة التحويلية لدى الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضي

ص: 128

الله عنه).

ثانياً: ندرة البحوث حول مفهوم القيادة التحويلية على حد علم الباحث.

ثالثاً: الاستفادة من أنماط القيادة التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام) والتي تناسبت مع الظروف المحيطة وطريقة أدائه كحاكم للمسلمين والعمل على تعميم ذلك الأداء القيادي المميز.

رابعاً: يمكن أن يستفيد من نتائج هذه البحث:

• القادة السياسيين والعسكريين والقائمين بالأعمال الإدارية وبالأخص التربوية منها من خلال التعرف على النمط القيادي الذي يفعل أداء العاملين.

• قد يقدم هذا البحث تغذية راجعة للأفراد القائمين على قيادة المجاميع سواء أكانت تربوية أو اجتماعية أو حكومية بتطوير أدائهم وتحسين مهاراتهم.

• قد يفتح هذا البحث أفاقاً جديدة للباحثين في الأنماط القيادية التي اتبعها الإمام سلام الله عليه أثناء خلافته ليواصلوا البحث في هذا المجال.

ص: 129

أهداف البحث

يستهدف البحث الحالي الى ما يأتي:

1. تعرف مفهوم القيادة التحويلة وتحديد مكوناته.

2. الكشف عن القيادة التحويلية في عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه).

3. تعرف مدى الإفادة من النمط القيادي التحويلي للإمام علي (عليه السلام) في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات التربوية بما يتماشى مع الظروف الراهنة.

حدود البحث:

اقتصرت حدود البحث الحالي على تحليل نصوص العهد الذي أرسله الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الى مالك الأشتر وقد اتبع الباحث المنهج الوصفي التحليلي من خلال تحليل النص الوارد واستنتاج تمثيله لمكونات نمط القيادة التحويلية.

منهج البحث:

انسجاماً ومنهج البحث التحليلي فقد قسمت بحثي هذا على المقدمة وأربعة مباحث وخاتمة. شمل المبحث الأول تعريفاً بالبحث، فيما جاء المبحث الثاني ليقف عند مفهوم القيادة التحويلية ومكوناته، إما المبحث الثالث فهو لدراسة القيادة التحويلة في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه) وخصص المبحث الرابع لمناقشة مدى الإفادة من النمط القيادي التحويلي للإمام علي (عليه السلام) في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات التربوية بما يتماشى مع الظروف الراهنة.

ص: 130

وتوصل البحث الى أن الاساليب التي اتبعها سلام الله عليه كانت تمثل بحق نمط القيادة التحويلية التي تجاوزت الحوافز مقابل الأداء المرغوب الى تطوير وتشجيع المرؤوسين فکرياً و ابداعياً وترفع الروح المعنوية وتنشط سيادة القيم وتثير تفكيرهم نحو إيجاد معالجات جديدة و ابداعية للمشكلات التي تواجههم أثناء تنفيذ اعمالهم وتحويل اهتماماتهم الذاتية لتكون جزءاً اساسياً من الرسالة العليا للسلطة الحاكمة.

وقد خلص هذا البحث الى مجموعة من التوصيات والمقترحات.

التعريف بمصطلحات البحث:

أولاً- القيادة ((Leadership: عرفها كل من:

أحمد (2002) بأنها: «الصفة التي تخلعها جماعة معينة على فرد من أفرادها تتوافر فيه خصائص وقدرات معينة تجعله في نظرهم أهلاً للصدارة وأحق بالقيادة، ومن أهم تلك الخصائص قدرته على التأثير فيهم ودفعهم إلى العمل كفريق متعاون منسجم نحو تحقي هدف مرغوب «(أحمد، 2002: 89)

حسن (2004) بأنها: «سلوك يقوم به القائد للمساعدة على بلوغ أهداف الجماعة وتحريكهم نحو الأهداف، وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الأعضاء والحفاظ على تماسكهم وتيسير الموارد، وهي توجيه لسلوك الأفراد وتنسيق جهودهم والموازنة بين دوافعهم وحاجاتهم، من أجل تحقي الأهداف بكفاءة عالية وفاعلية» (حسن، 2004: 21)

الغزو (2010) بأنها: «التأثير في شخص أو مجموعة أشخاص وتوجيههم وإرشادهم من أجل كسب تعاونهم وحفزهم على العمل بأعلى درجة من الكفاءة في سبيل تحقيق الأهداف الموضوعة من خلال خلق دافع للعمل وتحفيزهم وبالتالي انجاز الأهداف» (العزو، 2010: 11)

ص: 131

ثانياً- القيادة التحويلية : (Transformational Leadership)

عرفها Burns 1978: ’’عملية يسعى من خلالها القائد والتابعون إلى نهوض كلِّ منهم بالآخر للوصول إلى أعلى مستويات الدافعية والأخلاق‘‘ ((20p:1978،Burns

عرفها روبرت (Roberts، 1985): هي القيادة التي تساعد على إعادة النظر في الرؤية المتعلقة بالأفراد و مهماتهم وأدوارهم، وتعمل على تجديد التزامهم، وتسعى لإعادة بناء النظم والقواعد العامة التي تسهم في تحقيق غايتهم (عیسی، 4:2008)

عرفها العامري (2002) بأنها: القيادة التي تركز على الأهداف البعيدة المدى مع التأكيد على بناء رؤية واضحة وحفز وتشجيع الموظفين على تنفيذ تلك الرؤية والعمل في نفس الوقت على تغيير وتعديل الانظمة القائمة لتلائم هذه الرؤية العامري، 2002: 20).

عرفها Murphy، 2005)) بأنها: «قدرة القائد على إيصال رسالة المنظمة ورؤيتها المستقبلية بوضوح للتابعين وتحفيزهم من خلال ممارسة سلوكيات أخلاقية عالية لبناء ثقة واحترام بين الطرفين لتحقيق أهداف المنظمة (p،2005/Murphy .131)»

عرفها محمد (2006): هي نمط قيادي لديه رؤية واضحة عن المستقبل وأهداف محددة وواضحة يشجع المرؤوسين على المشاركة في بلورة رؤية طويلة الأجل وتحديد أهداف واضحة واقعية للمؤسسة، ويسعى إلى إحداث التغيير والتطوير والتنمية الإدارية باستمرار ويتبنى أنظمةً وأساليب قيادية مرنة تمكن من التكيف والتأقلم مع التطورات والتغييرات العالمية المعاصرة، ويهتم بالعمل الجماعي المنظم وبناء فرق العمل، ويعمل على إيجاد بيئة إدارية صحية تقوم على التفاهم والحوار البنّاء والمشاركة بين المستويات الإدارية جميعها (محمد، 2006: 20)

ص: 132

وقد تبنى الباحث تعريف محمد (2006) کونه احدث التعاريف واكثرها شمولاً لمكونات القيادة التحويلية ويتماشى مع أهداف البحث الحالي.

اطار نظري

القيادة في اللغة:

(القود) في اللغة نقيض (السوق) ويقال قيده بالإحسان يقال يقود الدابة من أمامها ويسوقها من خلفها وعليه فمكان القائد في المقدمة كالدليل والقدوة والمرشد، وقد ورد مفهوم القيادة في اللغة تحت كلمة قود والاقود من الرجال أي الشديد العنق وسمي بذلك لقلة التفاته، أي أنه إذا أقبل على شيء بوجهه ولم يكن يصرف وجهه عنه) ابن منظور، 2003: 37)، إما اصطلاحاً فإن معناه: يشير إلى معنی القيادة (Leadership) الاصطلاحي ووفقاً ل (Oxford) بأنها السمات أو الصفات التي من الممكن أن يتحلى بها من يتخذ دور القائد. (Oxford، 2003: 403)

القيادة في الإسلام:

إن القيادة هي ظاهرة اجتماعيه ذات جذور عميقة تتصل بالإنسان وتراثه الثقافي ومشاركته لمن حولة، فالحاجة لها ضرورة ملحة من أجل تنظيم العلاقات القائمة بين الأفراد مهما كان عددهم، لذا فإنه لابد من أن يتولى أحدهم القيادة، وهذا ما يقرره علم النفس الذي يرى أن طبيعة الحياة تجعل من القيادة أمر لا مفر منه، وهذا ما قرره الدين الإسلامي العظيم عندما أمر بأن يتولى أمر كل جماعة قائد يرشدها وينظم أمرها، ويحمل معنى القيادة في الفكر الإسلامي بعضاً من المعاني المتعلقة بهداية الناس وإرشادهم وتولي أمورهم، ومن معانيها ما يلي:

ص: 133

• الإمامة: ويؤخذ منها (الإمام)، وتعني: «من يأتم الناس به من رئيس أو غيرة، ومنه إمام الصلاة»، ويعني أيضاً: الخليفة. (والإمامة) تعني: ریاسة المسلمون (مدكور، 1989: 25). إذ قال تعالى مخاطباً إبراهيم علية السلام: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (سورة البقرة، آية 124).

• الإمارة: وتعني في اللغة: منصب الأمير، ومنها (أمر) فلانا: أي كلفه شيئا، وأولوا الأمر: أي الرؤساء والعلماء (ومن يتولى قيادة الناس)، ومنها (الأمير): أي من يتولى الإمارة، ومنها أمراء، وأمير المؤمنين، واشتق منه (المأمور) وهو أحد رجال الإدارة (مدكور، 1989: 24)، وقد وردت عبارة أولوا الأمر في القران الكريم في أكثر من موضع، إذ قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (سورة النساء، آية 59)

• الولاية: وتعني في اللغة (السلطان) و منها الولي وهو كل من ولي أمرا أو قام به، وكذلك الوالي أي الذي يتولى أمر البلاد والعباد ويرعى شؤونهم.

إن المجتمعات البشرية لابد لها من قيادة تنظم شؤونها وتقيم العدل بينها، وفي قوله تعالى «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (سورة التوبة آية 128) تحديد مقومات وسمات القيادة الناجحة وكل ما يرتبط بها من أنماط، وقد حث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله سلم) على ضرورة تعيين القائد في أقل التجمعات البشرية فقد قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ((إذَا خَرَجَ ثَلاثَهٌ فی سَفَرٍ فَلْیُؤَمِّروا أَحَدَهُمْ))

ص: 134

مفهوم القيادة التحويلية ومكوناته:

تمت صياغة مصطلح القيادة التحويلية لأول مرة من قبل داونتون -Down ton، 1973))، فيما ظهرت القيادة التحويلية كمصطلح على يد (،1978 Burns) في كتابة القيادة، وذلك للتمييز بين أولئك القادة الذين يبنون علاقة ذات هدف وتكون تحفيزية مع مرؤوسيهم، من أولئك القادة الذين يعتمدون بشكل واسع على عملية تبادل المنافع للحصول على نتائج، ويميز (بيرنز) بين نوعين من القيادة: التبادلية تعني مجموعة من النماذج القيادية التي تركز على التبادلات التي تجري بين القادة واتباعهم. وفي مقابل القيادة التبادلية تعني القيادة التحويلية العملية التي يشترك فيها الفرد مع الآخرين ويكون روابط ترفع من مستوى الدافعية والأخلاق عند كل من القائد والتابع، كانت فكرة (بيرنز) عن القيادة التحويلية البداية لظهور دراسات و نظریات أخرى تناولت هذا الموضوع من أوجه مختلفة، حيث أتي بيرنارد باس (Bernard Bass) ليضيف إلى فكرة (بيرنز)، ويقدم نظريته الخاصة حول القيادة التحويلية، فهو يرى أن الأثر التحفيزي للقادة على التابعين يتضمن شعورهم بالولاء والثقة والإعجاب والاحترام نحو القائد، فهو يحفز التابعين لكي يخدمون وينجزون أكثر مما هو متوقع منهم عمله أصلاً، ويتم حث الأتباع على إنجاز المهام الضرورية والاهتمام الأكثر باحتياجات المنظمة، نظراً لقدراتهم ومهاراتهم الاستثنائية (العمري، 2008: 33).

ويفيد (باس 1985) بأن القيادة التحويلية تحفز الاتباع على بذل أكثر مما هو متوقع من خلال القيام بما يأتي:

• التغيير: ويعني التطوير التنظيمي بهدف تحويل المنظمة من منظمة فعالة إلى منظمة أكثر فعالية.

• الإبداع: إذ تستند إلى التفكير الابتكاري لحل ما يواجهها من مشکلات معقدة

ص: 135

إيماناً منها بأن الابتكار هو جوهر عملية الإبداع.

• إن روح المخاطرة ما يميز القائد التحويلي وهو القدرة على خوض المغامرات وقبول التحدي والاستمتاع بالمواقف المعقدة.

وإن القيادة التحويلية تشارك في عمليات تتضمن خطوات متتالية، وتشمل الاعتراف بالحاجة للتغيير، وإيجاد رؤية جديدة، وجعل التغيير عملا مؤسسياً. (قنديل، 2010: 61)

وتشمل سلوكيات القيادة التحويلية عند (باس) أربع عناصر وهي ما يمكن أن نطلق عليها عناصر القيادة التحويلية وهي:

1. التأثير الكرزماتيكي والجاذبية القيادية (Idealized Influence):

وفقاً لهذه الخاصية فإن القادة يسلكون طريقة تجعل منهم نموذجاً يحاكيه الآخرون بمرور الوقت، فيصبحوا أهلاً للإعجاب والاحترام والثقة، فهم يأخذوا في اعتباراتهم حاجات الآخرين وایثارها على حاجاتهم الشخصية ويكونوا على استعداد للتضحية بالمكاسب الشخصية لصالح الآخرين وعادةً ما يكونوا متوافقين وليسوا متسلطين في تصرفاتهم، ويمسكوا بالمعايير والاخلاق السامية، ولا يستخدموا القوة لأغراض القمع بل لتحريك والجماعات لتحقيق رسالتهم ورؤيتهم، ومتی ما توفرت هذه الصفات المثالية ومع مرور الوقت يعمل التابعين على محاكاتهم وتصبح اهداف هؤلاء التابعين ذات معنى أكبر فيعملون بأقصى طاقتهم، وقد قدم فيبر (1947 Weber) تعريفاً يُعد الأكثر شهرة للكريزما إذ قال: أنها خصائص شخصية خاصة تمنح الشخص قدرات فوق بشرية أو استثنائية ولا يملكها سوى القليلين من البشر وهي هبة من السماء وتؤدي إلى معاملة الشخص على أنه قائد.

ص: 136

2. الدافع والإلهام أو التحفيز الملهم (Inspirational Motivation):

يعمل القادة التحويليين وفق هذه الخاصية على تحفيز والهام المحيطين بهم وذلك بإعطاء المعنى والتحدي لما يقوم به مرؤوسيهم وتغليب روح الجماعة، واظهار الحماس والتفاؤل وجعل التابعين يركزون ويعملون ويفكرون في حالات مستقبلية جذابة ومتعددة، وتحفيزهم على دراسة بدائل متعددة، كذلك اتاحة الفرصة لهم في المشاركة في تحقيق الأهداف المشتركة.

3. التشجيع الإبداعي (Intellectual Simulation): يتصرفون وفق هذه الخاصية بطريقة تجعلهم يحركون جهود اتباعهم لكي يكونوا مجددین و مبتکرین وذلك بزيادة وعي التابعين بحجم التحديات وتشجيعهم على تبني وخلق مداخل وطرق جديدة لحل المشاكل، وتناول المواقف القديمة بطرق ووجهات نظر جديدة، ويتسم نمط القيادة التحويلية بالقدرة العالية على مواجهة التحديات والتطورات وفتح المجال للابتكار والإبداع من خلال فتح قنوات التطوير والتجديد لمواكبة التغيرات المحيطة والتحولات المتسارعة.

4. مراعات مشاعر الآخرين (Individualized Consideration): يعطي القائد التحويلي اهتمام خاص بحاجات كل فرد لتطويره والإرتقاء بمستوى ادائه ونموه، فيعمل كمدرب وناصح وصديق وموجه ويهتم بالنواحي الشخصية لكل منهم، وخلق فرص جديدة لتعليمهم مع الأخذ بالاعتبار الفروق الفردية فيما بينهم. (أفوليو، 2003: 73 - 76)

إن القيادة التحويلية هي العملية التي تغير الأفراد وتحولهم، وهي تركز على القيم والأخلاق والمعايير والأهداف طويلة الأجل وتشتمل القيادة التحويلية على تقویم دوافع الأفراد وإشباع حاجاتهم ومعاملتهم بإنسانية، والقيادة التحويلية تقوم

ص: 137

على إحداث تغيرات جذرية عن طريق إقناع المرؤوسين للنظر إلى ما هو أبعد من مصالحهم الذاتية من أجل الصالح العام للمنظمة، وتوسيع اهتماماتهم وتعميق مستوى إدراكهم وقبولهم لرؤية وأهداف المنظمة عن طريق التأثير الكارزماتیکي، والحفز الإلهامي، والاهتمام الفردي، والتشجيع الإبداعي.

وتحمل القيادة التحويلية فكرة "المسؤولية الأخلاقية" التي بدورها تشكل عنصراً فعالاً في تحفيز الأتباع للعمل إلى الحد الذي يتجاوز حدود مصالحهم الشخصية في سبيل مصلحة الجماعة أو المنظمة، وتسهل هذه الفكرة اكتساب السلوك التعاوني داخل المنظمة. كما يدرك القائد التحويلي أهمية التحسين المستمر للمحافظة على الإنجازات، فهو يعي أن مسؤوليته إحداث التغيير، ومن ثم تأدية دور فعال في بث روح التغيير في الآخرين، لتطوير أنفسهم وتحسين العمليات الإدارية على نحو مستمر.

يقوم القادة التحويليين بصياغة مجموعة من القيم الأساسية التي ينبغي تحقيقها، ویمارسون سلوكاً ينسجم مع تلك القيم، ويتطلع القادة التحويلين إلى ما وراء الأفق، كما أنهم يتطلعون للمستقبل ويتخيلون الفرص الجذابة التي تنتظرهم ويتصورن ما سيكون عليه هذا المستقبل، ويؤمنون بأن عمل الأفراد معًا يمكنهم من تحقيق المستحيل. إن رؤيتهم الواضحة الشفافة للمستقبل تدفعهم للأمام، ومع ذلك فإن الرؤية وحدها ليست كافية بالنسبة للقادة التحويليين، لذلك فإنهم يملكون القدرة على إلهام أفكارهم للآخرين من المرؤوسين لكي يحصلوا على التزامهم، لذلك فإن القادة التحويليين لديهم معرفة بأحلام وآمال وتطلعات و رؤی وقيم المرؤوسين، ولا تتحقق الأحلام العظيمة ولا تتحول إلى واقع ملموس من خلال أعمال فرد واحد، أن القيادة التحويلية تعتمد بشكل أساسي على العمل الجماعي، من هذا المنطلق فإن القادة التحويليين يمكنون الآخرين من التصرف واتخاذ القرار، ولذلك يمنحونهم

ص: 138

الصلاحيات التي تمكنهم من الإبداع في عملهم، والقادة التحويليين يشركون جميع من يعملون في المشروع أو من تهمهم النتائج، لأنهم يدركون أنه في منظمات اليوم لا توجد حدود ولا يمكن أن يقتصر التعاون على مجموعة صغيرة من المخلصين، بل يجب أن يشتمل على جميع زملاء العمل والمديرين والعملاء والزبائن والموردين والمواطنين، وجميع من له رؤية في العمل. إن القادة التحويليين يتيحون الفرص للآخرين لأداء عمل جيد، فهم يعرفون جيدًا أن أولئك الذين يتوقع منهم تقديم أفضل النتائج يجب أن يشعروا بشعور القوة والصلاحية الشخصية والملكية، ويدرك القادة التحويليين أن أسلوب التحكم والسيطرة لم يعد مطبقا، لذلك فهم يعملون ليجعلوا الناس يشعرون بالقوة والمقدرة والالتزام، ولذلك فإن القادة التحويليين يقوون مقدرة كل فرد على الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه (العمري، 2004: 34 - 35).

أبعاد القيادة التحويلية:

1. الرؤية المستقبلية (الجذابة): التي توفر الاتجاه والمعنى السائد، إذ أن القائد التحويلي يقوم بتكييف الأنماط والسلوك والعادات والقيم والمشاعر السائدة بين العاملين بما يلائم البرنامج الجديد، لأنه لا يمكن أن يتم التغيير في ظل الثقافة التنظيمية السائدة، مهما كانت مناسبة، لأن الوضع أصبح يختلف تمامًا، کما على القيادات التحويلية تطوير قناعاتها الفكرية واستعداداتها العقلية والسلوكية لمواجهة المفاجآت والتغيرات المستمرة، وأن تنمي قدراتها ومهاراتها للتعامل مع المفاجآت المتكررة لاتخاذ القرارات، خاصة في الأوضاع غير المستقرة.

2. التأثير النموذجي أو التأثير المثالي: (Idealized Influence) الذي هو جوهر الكارزما، وهو قدرة القائد على كسب ثقة وإعجاب واحترام وتقدير التابعين وعدّه المثل الأعلى.

ص: 139

3. التمكين: (Empowerment) أحد الأبعاد الجوهرية للقيادة التحويلية والافتراض الرئيس فيها أن سلطة اتخاذ القرار من المفترض أن يتم تفويضها للموظفين في الصفوف الأمامية لكي يمكن تمكينهم للاستجابة بصورة مباشرة لطلبات الناس ومشكلاتهم واحتياجاتهم. (455. Avoliodet.al،1999.p)

4. نمذجة الدور: (Modeling the role) هي العملية التي يتعلم بها الفراد عن طریق مشاهدة سلوك الأفراد الآخرين، وأن سلوك الأفراد الذين يشغلون مواقع معينة تكون موقعاً لتوقعات الآخرين وهذا ما يعرف بدور الأداء الاجتماعي.

5. التحفيز الفكري أو الاستثارة الفكرية: (Intellectual Stimulation):

وتعني إثارة التابعين لجعلهم أكثر وعياً بالمشاكل التي تعترض تحقيق الأداء الجيد الذي يفوق التوقعات ويتم ذلك من خلال التعاطف معهم والاستماع لأفكارهم ومقترحاتهم ومشاركتهم في أحاسيسهم ومشاعرهم (. Krishnan،1998،p 23)، وتمثل القيادة التحويلية الدافع الملهم لحفز التابعين نحو العمل والانجاز وتلبية احتياجاتهم وتمكينهم من تحقيق ذاتهم لأنها تركز على التحفيز الفكري. (Xirasagar 2008: p.602).

6. إيجاد معنى للعمل (The meaning of work) أو التحفيز (Motivation):

وتعني الانجذاب إلى الحاجات ذات المستوى العالي المتعلقة بتحقيق الذات والوصول إلى الرفعة والسمو، کما تعني العملية التي تركز على تصرفات وسلوكيات القائد التي تولد في التابعين حب التحدي، وأن تلك السلوكيات تعمل على إيضاح التوقعات للتابعين وتشجيع روح الفريق في العمل والالتزام بالأهداف التنظيمية. (4. Bass Avolio،1994 ،p)

ص: 140

7. الاعتبارية الفردية: (Individualized Consideration) قيام القائد بإيلاء الاهتمام بحاجات العاملين معه التي تتسم بالخصوصية بالإضافة إلى بناء الثقة ومعرفة جوانب القوة والضعف في أداء العاملين (14. Avoliodet.al،1999،p ) کما تعني تعزيز الحالة الجماعية التي تساعد على الإحاطة بالاهتمامات الفردية بما یماثل رسالة الجماعة (الزبيدي، 104:2007).

يرتكز جوهر القيادة التحويلية على القدرة على موائمة الوسائل مع الغايات وتشكيل واعادة تشكيل المؤسسات لتحقيق غايات انسانية عظيمة وتطلعات اخلاقية، ويقوم هذا النمط القيادي على إدراك الحاجات الظاهرة والكامنة للمرؤوسين بهدف تحقيق تغيير مقصود، ومن هنا نجد أن القائد التحويلي يسعى الى زيادة وعي مرؤوسيه باحتياجاتهم وتحويل هذا الوعي بالاحتياجات الى آمال وتوقعات، ومن ثم تتولد لديهم الدافعية لإشباع حاجاتهم فيما يتعلق بادراك وتحقيق الذات في حياتهم العملية.

وتسعى القيادة التحويلية إلى النهوض بشعور التابعين، وذلك من خلال الاحتكام إلى أفكار وقيم أخلاقية مثل الحرية والعدالة والمساواة والسلام والإنسانية، فسلوك القيادة التحويلية يبدأ من القيم والمعتقدات الشخصية للقائد وليس من تبادل مصالح مع المرؤوسين. فالقائد التحويلي سعى لإحداث تغيرات إيجابية في طرائق أداء العاملين وحثهم بأهمية عملهم وخلق الشعور لديهم بالولاء والانتماء للمنظمة بما يجعلهم يضعون المصلحة العامة في مرتبة أعلى من المصالح الشخصية، وتستند القيادة التحويلية إلى ثلاثة عناصر أساسية تتمثل فيما يأتي:

1. رفع مستوى وعي الأتباع بأهمية وقيمة الأهداف المحددة والمثالية.

2. حث الأتباع على تغليب مصلحة الفريق أو المنظمة على مصالحهم الشخصية.

ص: 141

3. تحفيز الأتباع للاهتمام بالحاجات ذات المستوى الأعلى.

تهتم عوامل القيادة التحويلية بأداء الأتباع وبتطوير قدراتهم إلى الحد الأقصى من خلال:

1. التأثير المثالي: يسمى العامل الأول بالكريزما أو التأثير المثالي، وهو يصف القادة الذين تمثل تصرفاتهم أدوارا نموذجية لأتباعهم ويتمثل الاتباع هؤلاء القادة ويرغبون في محاكاتهم بدرجة كبيرة.

2. الدافعية الإلهامية: يطلق على العامل الثاني الدافعية الإلهامية وهذا العامل يصف القادة الذين يوحدون الاتباع بتوقعات عالية ويلهمونهم من خلال تحفيزهم لكي يلتزمون بالرؤية المشتركة في المنظمة ويصبحوا جزءا منها.

3. الحفز الذهني: يتمثل العامل الثالث في الحفز الذهني ويشير الى القيادة التي تعمل على تحفيز الاتباع لكي يكونوا مبدعين و مبتکرین ومتحدين لمعتقداتهم ولقيمهم وللمعتقدات والقيم التي يتبناها القائد والمنظمة.

4. الاهتمام الفردي: يسمى العامل الرابع من العوامل التحويلية الاهتمام الفردي. وهذا العامل يمثل القادة الذين يوفرون المناخ المساند الذي ينصتون فيه بعناية الحاجات الاتباع الفردية.

5. المكافأة المشروطة: يمثل العامل الخامس للقيادة التحويلية هو المكافأة المشروطة، وفي نفس الوقت هو العامل الأول من بين عاملي القيادة التبادلية، وتشير المكافأة المشروطة إلى عملية المبادلة بين القادة والاتباع والتي يتم فيها مبادلة مجهود الاتباع في مقابل مكافآت معينة.

6. الإدارة بالاستثناء: يطلق على العامل السادس للقيادة التحويلية الإدارة

ص: 142

بالاستثناء، ويعني القيادة التي تعنى بالنقد التصحيحي والتغذية الراجعة السلبية والتعزيز السلبي. والإدارة بالاستثناء تأخذ شكلين: نشط وساكن، فالقائد الذي يستخدم الشكل النشط للإدارة بالاستثناء يراقب الاتباع عن قرب للبحث عن الأخطاء او المخالفات للقواعد ومن ثم يتخذ الاجراء التصحيحي اللازم. والقائد الذي يستخدم الشكل الساكن يتدخل فقط حين لا يتم تحقيق المعايير المطلوبة او بعد ظهور المشكلات.

صفات وخصائص القائد التحويلي ومهاراته:

1. قدرة القائد التحويلي ورغبته في جعل أتباعه يتصدون للمشكلات القديمة بطرائق جديدة وتعليمهم النظر إلى الصعوبات بوصفها مشکلات تحتاج إلى حل، والبحث عن حلول منطقية لها.

2. يملك خصائص ذاتية «فطرية»: كالتفكير والتخطيط والإبداع والقدرة على التصور.

3. القائد التحويلي صاحب رؤية ورسالة واضحة.

4. لديه مهارات إنسانية «اجتماعية»: كالعلاقات والاتصال والتحفيز.

5. وظيفته نقل الناس من حوله نقلة حضارية، ويدير أتباعه بالمعاني والقيم.

6. لديه مهارات فنية «تخصصية»: كحل المشكلات واتخاذ القرارات.

7. لدى القائد التحويلي أهدافه عالية ومعاييره مرتفعة.

8. إشاعة ثقافة الحوار وتقبل الرأي الآخر عند الأفراد التابعين والمعارضين.

وتأسيساً على ما سبق يتضح أن القيادة ترتكز على قدرة القائد وما لديه من قدرات عقلية ومعرفية وانفعالية وجوانب دافعية على التأثير في أفراد الجماعة، وذلك من خلال تحديد الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، كما يتوقف نجاح القائد على إدراكه

ص: 143

للتعبير، وقدرته على مواجهة المشكلات وحلها بطرق فعالة بالإضافة إلى إقناع أفراد الجماعة بقبول الأهداف وحثهم على تحقيقها.

وفي ذلك يرى (الزعبي) أنه إذا أردنا فهم القيادة فلا بد من فهم العلاقة بين ثلاثة عناصر متداخلة في القيادة، وهي القائد والموقف وأفراد الجماعة (الأتباع)، القائد بخصائصه وإمكاناته التي تساعد على تحديد أهداف الجماعة، والموقف بما يتضمن من وظائف و أهداف مرغوب تحقيقها، والأتباع بخصائصهم ودوافعهم وإمكاناتهم (الزعبي، 1994: 221 - 222).

النظريات التي فسرت القيادة التحويلية:

1. نظرية الرجل العظيم: (The Great Man Theory)

اهتم العلماء خلال القرن العشرين بمدخل السات الذي يُعد أحد المحاولات المنهجية لدراسة القيادة، والنظريات التي طورت في هذا الشأن كانت تسمى (نظریات الرجل العظيم) لأنها كانت تركز على التعرف على الخصائص والصفات الكامنة التي يمتلكها القادة العظماء، وأن القيادة هي عملية وراثية، وأن القادة يولدون ولا يصنعون، وتركز هذه النظرية على صفات القائد الجسدية، والفكرية، وسماته الشخصية: كالذكاء، والاستقلالية، والاعتماد على النفس، والمشاركة الاجتماعية، وأن نجاح القادة مبني على سماتهم الشخصية وقدراتهم وخصائصهم العبقرية، وقد ظهرت هذه النظرية في أوروبا في القرن الثامن عشر، وتعد نظرية الرجل العظيم أحد أقدم المحاولات الأولى التي استهدفت تحديد خصائص القيادة الناجحة، وتفترض هذه النظرية أن المتغيرات في الحياة الاجتماعية تتحقق عن طريق أفراد ذوي مواهب وقدرات غير عادية، ومن أشد دعاة هذه النظرية“ فرانسیس جالتون ( F.Gulton) الذي قدم دراسات عديدة

ص: 144

حول هذا التصور عندما أكد على العامل الوراثي في بروز القادة، كما قدم العديد من البيانات والاحصائية والوراثية تأييداً لصحة تلك النظرية من حيث تأثير الصفات والسمات الوراثية على القيادة (طلال، 2004: 61)، ومن أبرز رواد هذه النظرية) کارليلر) الذي يؤكد على أهمية البطولة في تحديد سمات القائد التي تجمع بمواهب خاصة تؤدي إلى الإبداع. وقد عدّها كثير من العلماء الأساس للانطلاق إلى نظريات أخرى أكثر علمية ودقة، أما أهم السمات التي اعتمدها الباحثون (ضمن هذه النظرية) والتي من يمتلكها يكون لدية إمكانية أن يكون قائداً وهي:

• السات البدنية: المظهر، روح الشباب، الطاقة والحيوية، البنية الجسمية القوية.

• السمات الذهنية: الذكاء، القدرة على التكيف، الثقة بالنفس، الحماس.

• السمات الاجتماعية: مثل التعاون، الإدارة، المهارات الفردية الشخصية.

• السمات المهنية: مثل الإبداع، حب المسؤولية وقبولها، المبادرة، الرغبة في الترقي في الوظيفة. (346. Harold Heinz :p)

وقد استندت الأفكار في هذه النظرية إلى الفكر القديم المرتبط بالحضارات السابقة مثل الحضارة الإغريقية والفرعونية والفينيقية والتي كانت تميز بين البشر باعتبار أنهم فئات وطبقات و منهم طبقة القادة والعظماء، لذلك فهم الأحق بالقيادة، وترى نظرية الرجل العظيم أن القيادة عناية إلهية يضعها الله حيث يشاء، وهناك أشخاص معينين يتميزون بالحكمة والجرأة بقدر ما زودهم به الله، ولا تظهر مثل هذه الشخصيات إلا عندما يريد الله (سند، 1983: 235 - 236). وقد تمركزت أفكار هذه النظرية حول المعايير الشخصية التي تصنع الزعامة الناجحة، وكيف أن القيادة الناجحة، تتطلب أشخاصا ذوي مواهب نادرة تجعلهم صالحين لقيادة غيرهم، وأن الرجل

ص: 145

العظيم يستطيع أن يحدث في الجماعة تغييرات متی کانت مستعدة لتقبلها، وهي التي ظهرت في إطار المدخل الفردي، والذي يرى منظوره أن القيادة سمة مميزة للفرد، وأن عدداً قليلاً من الأفراد لديهم من السمات الشخصية والقدرات ما يمكنهم من أن يكونوا قادة، ونظر هؤلاء المنظرون إلى القادة على أنهم محصورون في عدد محدود من العائلات، كما أنهم يسهمون في تحديد شخصية المجتمع، وبالتالي في تغييراً التاريخ تغييرا جذرياً، کما ذهبوا إلى الاعتقاد بأن (القادة يولدون ولا يصنعون) وأن السمات القيادية موروثة وليست مكتسبة (کنعان، 1999: 254 - 311)، وتؤمن هذه النظرية بعدم جدوى تنمية المهارة القيادية، لأن القائد يولد ولا يصنع، ولكن نتائج الدراسات دلت على أنه بالإمكان اكتساب الأفراد العاديين بعض العادات والتقاليد والقيم بحيث يمكنهم فيما بعد بفضل هذه الرعاية المستمرة أن يصبحوا قادة ناجحين.

وقد تبنى الباحث في تفسيره للقيادة التحويلية هذه النظرية لأنها أكثر قرباً من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والذي يرى بأن القيادة لطف والهام الهي وبالأخص قيادة الدولة الإسلامية.

2. نظرية المسار والهدف (The Path -Goal theory):

تم تطوير هذه النظرية بواسطة كل من (Robert House and Terrence Mitchell) إذ تشير إلى أن فاعلية القائد تتوقف على قدرته في زيادة تحفيز اعضائه على الإنجاز، وتحقيق الرضا عن أعماله وتقبلهم لقيادتهم، ولقد ربطت هذه النظرية بين السلوك القيادي الملائم في موقف ما على عاملين أساسيين هما:

• التابع (المرؤوس): فقد ينظر التابع إلى سلوك القائد على أنه السلوك المقبول إذا يتوقع بأن هذا السلوك هو وسيلة لإشباع حاجاته الحالية أو المستقبلية.

ص: 146

• العمل (المهمة): إذا كان العمل أو المهمة غير واضحة وغير محددة، فعندها يميل التابعون إلى سلوك قيادي يرشدهم إلى تحقيق الهدف، أما إذا كان العمل واضحا فإن التابعين ينظرون إلى توجيهات القائد على أنها إفراط في مراقبتهم. (يوسف، 1987: 65)

وتقوم نظرية المسار والهدف على أساس التوقع و الحفز الذي يعني محاولة الربط بين السلوك القيادي وحفز المرؤوسين، إذ يعمل القائد على التأثير في سلوك العاملين من خلال تغيير سلوكه ليكون قدوة للآخرين، تقوم على أن القادة والتابعين لهم يسيرون في طريق واحد لتوقعهم بأن ذلك سوف يقودهم لتحقيق رغباتهم (أبو جاموس، 1992: 341).

ونجد أن هذه النظرية قد استعملت التوقع في الدافعية، ويستعمل القائد بحسب هذه النظرية:

• التركيز وتوضيح على المهام ومتطلباتها

• المشاركة المفتوح لمناقشة المشاكل التي يواجهها التابعين (وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ) (سورة آل عمران آية 159)

• الأخذ بآراء المرؤوسين واقتراحاتهم عند اتخاذ القرارات. (کنعان، 1992: 341).

ويرى الباحث أن عملية الربط بين السلوك القيادي وحفز المرؤوسين من خلال تغيير سلوكه ليكون قدوة للآخرين سوف تزيد من فاعلية أداء العاملين، وأن هذه النظرية قائمة على حفز المرؤوسين وتفسر هذه النظرية السلوك القيادي على دافعية المرؤوس ورضاه للأنماط القيادية التالية: القيادة الموجهة (Directive leadership) والقيادة الداعمة (supportive Achievement) والقيادة المشاركة (-articipative Leader

ص: 147

ship والقيادة المهتمة بالإنجاز (Achievement oriented leadership)، فضلاً عن القيادة التحويلية (Transformational Leadership)، ولعل أبرز ما في هذه النظرية هو أنها تفترض إمكانية ممارسة نفس القائد لهذه الأنماط القيادية في مواقف مختلفة، يعتمد النمط المناسب في هذه النظرية على الموقف، فمثال على ذلك الموقف الغامض وغير المألوف يربك المرؤوسين، من هنا فإن النمط الذي يركز على تنفيذ المهمة هو المطلوب فعليه اخبارهم ماذا يفعلون ويبين لهم بوضوح طريق الوصول للهدف، وفي المقابل عندما يكون الموقف روتينياً فمن غير المناسب أن يتبع القائد نفس النمط السابق (521. weihrich، 1984:p) ويرى الباحث أن القائد الذي يتبع نمطاً يناسب الموقف ويقوم بتغيير النمط المتبع بحسب الموقف يزيد من ثقة المرؤوسين بقدرته القيادية ويزيد من فاعليته، إذ أن الجمود عند نمط محدد بغض النظر عن الموقف يخلق أزمات بين القائد والمرؤوس والعمل على نفور المرؤوس من القائد ويعيق من الانجاز والفعالية لدى المرؤوس.

دراسة القيادة التحويلة في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه):

إن الحقبة الزمنية التي تولى بها الإمام (عليه السلام) الخلافة الفعلية للمسلمين وقيادتهم على الرغم من إدارته لشؤونهم الدينية قبل توليه الخلافة، فقد امتازت بكثرة القلاقل والاضطرابات الداخلية والفتن والتناقضات التي نشأت في عهده، فقد عاش الإمام (عليه السلام) فترة استثنائية فلم يستطع فيها من تحقيق كل ما كان يطمح إليه، وقد بُويع بالإمامة والخلافة العامة يوم الغدير في (18) من شهر ذي الحجة عام (11) للهجرة، وبويع ثانية بعد مقتل عثمان وحصول الفتنة وكان أعلم الصحابة شجاعاً و حکیماً و قاضياً ومتسماً بالشمائل الحسنة المتكاملة، رجل الإنسانية

ص: 148

الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، استشهد في رمضان ليلة القدر على يد الخارجي ابن ملجم في مسجد الكوفة، وكانت حياته (عليه السلام) عظيمة زاخرة بالفضائل ولقد تربى سيد الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عملياً في أفعاله وأقواله، وهذا ما جسد أحد عناصر القيادي التحويلي وهو التأثير الكرزماتیکي والجاذبية القيادية (Idealized Influence).

ولم يستعمل الإمام علي (عليه السلام) نمطاً واحداً أو ثابتاً في أثناء خلافته بل تراه يتعامل بحسب الظروف والأوضاع ونوع المجتمع ومتطلبات المرحلة، وحتى في عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه) لم يكن متصلباً ومحدداً بنمط واحد بل ذهب الى أكثر من نمط تبعاً لما قد يلاقي مبعوثه من ظروف وأحوال، وأوصاه أن ينهج نهجه ويتخذ اسلوباً ناجعاً ومثمراً ويتماشى مع المنظومة القيمية الإسلامية من جهة والحفاظ على هيبة الدولة وفرض الاستقرار من جهة أخرى.

وعندما حصلت بعض الاضطرابات في مصر عينه الامام علي (عليه السلام) والياً عليها عام (38) ه وأرسل معه وصایا سمیت بعهد الأشتر. ولكن مالك لم يصل الى مصر لأنه قتل مسموماً قبل أن يصل اليها، وعند التمعن في هذا العهد نلاحظ أن الامام علي (عليه السلام) قد ابتدأ عهده بالأمر وشرع بهذا الأمر یُعدد الواجبات التي ينبغي على مالك الأشتر (عليه السلام) القيام بها، والأمور التي عليه مراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها، وقد بين له أن القائد ما هو إلا مسؤول مؤتمن على حقوق الناس وخدمتهم.

وعند تحليل بعض نصوص العهد نرى أنها تجسد بشكل مباشر أو غير مباشر العوامل التي تتكون منها القيادة التحويلية ويمكن بيان ذلك كما يأتي:

ص: 149

أولاً- الدافع والإلهام أو التحفيز الملهم (Inspirational Motivation):

إن في قولة (عليه السلام) ((أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ)) یرید من القائد أن يكون عادلاً منصفاً لرعيته فإن شعور الرعية بالعدل والإنصاف يجعلها متفاعلة مع قائدها ما يزيد من دافعيتها للإنجاز والعطاء وهذا يجسد عامل الاستثارة لدى الرعية.

وقوله سلام الله عليه (فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَاتُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَایصِلُ إِلَیكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ. فَفَرِّغْ لِأُلئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیةِ وَ التَّوَاضُعِ) يدفع بالولاة الى التواضع وسماع شكوى الرعية وتفقد أحوالهم مهما كانت منزلته بين الناس، فكل ذلك يجعل القائد متواصل مع رعيته فلا ينظرون اليه على أنه متجبر متسلط عليهم وهذا قطعاً سيدفعهم الى العمل بوصاياه وطاعة أوامره والاخلاص له، وسلوك القائد التحويلي هو استماله المرؤوسين أو التابعين ودفعهم الى الوثوق بقيادته مما يساعدهم على استثمار طاقتهم وعدم البخل بها، ويحفزهم على العمل الجماعي فيلهمهم سلوك قائدهم نحو العمل المثمر وعدم عرقلة أوامر القائد أو من ينوب عنه، وحرص الإمام (عليه السلام) أن يعالج المنظومة القيمية والمعرفية والفكرية الاجتماعية للمجتمع، ويُقرن صلاحها وصلاح الرعية بصلاح ذات القائد وسلامة منظومته المعرفية والاخلاقية.

ص: 150

ثانياً- التشجيع الإبداعي (Intellectual Simulation):

في قوله (عليه السلام) (وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَلاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْب فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ) يدعو مالكا الى تقريب ذوي الرأي والمشورة وتشجيعهم على التقرب من القائد والاهتمام بآرائهم والاستئناس بأفكارهم مما يؤيد ذهاب الباحث الى أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان يشجع المبدعين وأصحاب الرأي والمشورة ويسمع لهم ويقربهم.

وفي النص الوارد في عهده سلام الله عليه (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ) يذهب الى اختيار وانتقاء ذوي الحكمة والقدرة على الإدارة للفصل بين الناس وهؤلاء قطعاً يمتلكون دراية وقدرات عقلية عالية تمكنهم من الخوض في احكام الدين واستخراج ما يتلائم مع القضايا وهذا يحتاج الى فكر ابداعي وتقريب هكذا نماذج وتوليهم مناصب الحكم بين الناس والنظر في منازعاتهم لابد وأنهم يمتلكون قدرات ابداعية عالية.

إن تشديد الإمام على ضرورة كظم الغيظ وضبط النفس في هذا النص من العهد (وَاحْتَرِسْ مِنْ کُلِّ ذَلِكَ بِکَفِّ الْبَادِرَةِ وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْکُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاِخْتِيَارَ)، إنما هو دليل على دراية الإمام وعلمه أن الغيظ والغضب يشتت العقل ويقلل من التركيز ويؤخر الوصول الى حلول ناجعة للمشاكل بطرق سليمة، وكذلك يعيق التفكير الإبداعي لدى الشخص الغاضب فالتركيز وصفاء الذهن والهدوء النفسي من مقومات الوصول إلى حلول ابتكارية للمشكلات التي تواجه الأفراد.

ص: 151

ثالثاً- مراعات مشاعر الآخرين (Individualized Consideration):

في هذه النصوص: (وَلَاتَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ، وَلَاتَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ) ((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ(1)، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)) يشدد الإمام (عليه السلام) على ضرورة الاهتمام بمشاعر الرعية، وما قولة سلام الله عليه (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً) (ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکنَةِ الَّذِینَ یحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِی اللهِ لِکلّ سَعَةٌ، وَلِکلّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یصْلِحُهُ) دليل بيّن ومثال على مدى اهتمام الإمام عليه السلام بكل شرائح المجتمع فهو لم يؤثر الخاص منهم على العام، ولم يميّز ما بين قريب منه، أو بعيد عنه، فالكل عنده سواسية في النظرة وفي العطاء كذلك، فهو يدعوا الى التعامل بالتساوي مع كل الفئات والشرائح إذ هم سواسية أمام الشرع والقانون، وهذا يمثل الرؤيا الإنسانية والدور الأبوي لهذه الأمة أوليس هو ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبوا هذه الأمة.

وفي قوله (عليه السلام) (وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ مِمَّنْ لَاحِیلَةَ لَهُ، وَلَا ینْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَ ذَلِكَ عَلَي الوُلَاةِ ثَقِيلٌ وَ الحَقّ كُلّهُ ثَقِيلٌ وَ قَد يُخَفّفُهُ اللّهُ عَلَي أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ) أكد على الرحمة بالرعية واللطف بهم، وعدم ظلم الآخرين. والحذر من دعوة المظلوم، وعدم المساواة بين المحسن والمسيء، والى مدارسة العلماء والحكماء. وقد أراد منه أن يولي إهتماماً خاصاً بذوي الحاجات والفقراء، وأن يعمل على مداراة اليتامى وكبار السن، والابتعاد عن المَنِّ على الرعية والتواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصفح،

ص: 152

وقضاء حاجات الناس، وقول الحق، والعمل على نشر المساواة بين الناس، كما أشار العهد في نصوصه الى (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ یَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَیُؤْتَی عَلَی أَیْدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یُعْطِیَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ).

إن عدم تأخير حاجات الناس والإسراع في تلبية مطالبهم دليل الاهتمام بهم وعدم تجاهل مشاعرهم، كما أكد ذلك الإمام (عليه السلام) في قوله ((ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا یعْیا عَنْهُ کُتَّابُكَ وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ یوْمَ وُرُودِهَا عَلَیكَ)

وفي قوله (عليه السلام) (وَ إِیَّاكَ وَ اَلْمَنَّ عَلَی رَعِیَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ اَلتَّزَیُّدَ فِیمَا کَانَ مِنْ فِعْلِكَ وَ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعُودَكَ بخُلْفِكَ فَإِنَّ اَلْمَنَّ یُبْطِلُ اَلْإِحْسَانَ) يشير الى أن المن على الرعية يبطل الإحسان، ونعتقد أن عدم المن على الرعية هو نوع من أنواع الاهتمام بمشاعر الاخرين والاهتمام بهم، فنجاح الحاکم و کسب رضا الناس عنه في الدولة الربانية مرهون بما يقدمه لأمته.

رابعاً- الرؤية المستقبلية (الجذابة) إيجاد معنى للعمل (The meaning of work):

(اعْلَمْ یَا مَالِكُ أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاهِ قَبْلَكَ، وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ)) في هذا النص نرى أنه عليه السلام استفاد من الخبرات السابقة والأخطاء التي حدثت فهو يذهب الى تعديل السلوك وتجاوز تلك الهفوات من خلال النظر الى الأحداث وفي هذا يرسم صورة مستقبلية واضحة المعالم والأهداف، ومؤكد أن الابتعاد عن خطأ الماضين سوف تكون الرؤية

ص: 153

المستقبلية واضحة وسارة. ونرى في قوله (عليه السلام) (وَامْضِ لِکُلِّ یَوْمٍ عَمَلَهُ، فإنَّ لِکُلِّ یَوْمٍ ما فیهِ) (وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ) أنه يستشعر معنى وقيمة وضرورة للعمل، لاسيما اذا كان العمل مثمر ويؤدي الى اصلاح الأرض وسكانها ولكي يؤدي هذا الدور عليه أن يستحصل الخراج لتوفير بنى تحتية لدولة كاملة.

وفي قوله (عليه السلام) (إِيّاكَ وَ العَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبلَ أَوَانِهَا أَوِ التّسَقّطَ فِيهَا عِندَ إِمكَانِهَا أَوِ اللّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكّرَت أَوِ الوَهنَ عَنهَا إِذَا استَوضَحَت فَضَع كُلّ أَمرٍ مَوضِعَهُ وَ أَوقِع كُلّ أَمرٍ مَوقِعَهُ) جسد الإمام التأني واستيضاح الأمور ورسم صورة مستقبلية واضحة الأهداف والمعالم ووضع الشيء في موضوعه الحقيقي أو الملائم فمتى ما كان وضع الأمور في أماكنها اتضحت الصورة وأصبحت جلية تسر الناضرين اليها وتصبح صورة متكاملة يسهل العمل فيها.

وخير مثال على رسم صورة مستقبلية واضحة غير مشوشة عندما تصبح معالم الأمور جليه عندما يكون الحاكم على دراية بما ستؤول اليه الأمور اذا اخطأ في حكمه وأعطى كل ذي حق حقه ففي ذلك صلاح للراعي والرعية فهم في أمان من بسط القائد وسطوته وبذلك تكون الرؤية المستقبلية لقائد واضحة فضلاً عن وضوحها لدى رعيته، وفي هذا الأمر ما ورد في النص التالي من عهده (عليه السلام) (وَإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَکْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)

ص: 154

خامساً- التأثير النموذجي أو التأثير المثالي:

إن قوله (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) (أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ) يؤكد فيه على ضرورة تحلي القائد أو الحاكم بكاريزما خاصة تؤهله لقيادة الجماعة وتؤدي الى رغبة الآخرين فيه وطاعتهم له فإن ارقى انواع الكاريزما تلك التي من الله سبحانه وتعالى فهو إن اطاع الخالق فإن الله تعالى يتكفل بنصره ويضفي الهيبة والوقار على شخصيته وقطعاً سيؤدي هذا الى رغبة الآخرين اليه وسماع قوله وامتثال أوامره كونه يعطي للقائد حصانة نفسية ومعرفية واخلاقية تجعله مقبولاً من الرعية، وبعد أنموذج يحتذى به ويطمح الناس الى تقمص شخصيته وتمثيل أدوارها وفي هذا دعوته عليه السلام الى مالك بضرورة الإبتعاد عن العُجب بالنفس ((وإِيَّاكَ والإعْجَابَ بِنَفْسِكَ والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ الإطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِینَ))

سادساً - التمكين (Empowerment):

يجسد الإمام (عليه السلام) في قوله ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ)) عامل التمكين فهو يجعل الولاة قادة مستقلين لهم القدرة والحرية في فعل ما يرونه مناسباً وبإمكانهم ظلم الرعية أو إنصافها، ولكنه سلام الله عليه يحددهم بوجوب الاهتمام بالآخرين بنظرة القائد العطوف والرحيم الذي يجب اتباعه، ويذكره بقدرة الله عليه إذا ما ظلم أو استكبر، فهو يعطيه الحرية بالسلوك القيادي لكنه يقيده بضوابط لابد له من

ص: 155

عدم تجاوزها فهي معيار طاعته لله سبحانه وتعالى. وإنّه (عليه السلام) كان يؤمن بالدور التشاركي في المسؤولية العامة والمشورة ما بين الحاكم والمحكوم من أجل تحقيق الإصلاحات الداخلية، فقد أعطى الإمام (عليه السلام) لمالك حرية اختياره للعاملين معه لكنه حذرة من خطأ الاختيار ولابد له أن يستعمل طرقاً ووسائل لاختيار عمالة فقد أوصاه بأن يختبر عياله قبل أن يترك لهم حرية إدارة أمور الرعية، وكان جلَّ ما يخشاه في عهده هذا، هو أن تمتد أيدي القادة على أموال الدولة، التي هي أموال الرعية. ويرى وجوب تمتع القائد بثقافة إدارية وقدرة على الإنجاز.

سابعاً- نمذجة الدور(Modeling the role):

إن النص الذي ورد في العهد (ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً)، يشير الى حرص الإمام على ضرورة اختبار العاملين وفق معايير تجعل منه قادر على الإدارة، كما أنه سيشكل أنموذج يحتذى به إذا كان ذو مواصفات مقبولة اجتماعياً ويمتلك سمعة وتاريخ حسن.

وفي قول الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (عليه السلام) (وَالْوَاجِبُ عَلَیكَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُکُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ، أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِینَا صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم أَوْ فَرِیضَةٍ فِی کِتَابِ اللَّهِ، فَتَقْتَدِی بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِیهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِی اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَیكَ فِی عَهْدِی هذَا، وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِی عَلَیكَ، لِکَیلَا تَکُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا)، نرى فيه

ص: 156

حث القائد أو المتصدي للحكم بضرورة النظر في شؤون اسلافه وأخذ العبر وتجاوز الأخطاء، وهذا التوجيه المراد منه تقمص الأدوار الحسنة الاعتماد على القدوة من سبقوه من الحكام والأمراء والعاملين على إدارة الولايات والأمصار الإسلامية، حفاظاً على عدالة الحكم، ومراعاتها لحقوق الرعية.

(وَلَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالَحِةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، وَلَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا)

ثامناً- التحفيز الفكري أو الاستثارة الفكرية:(Intellectual Stimulation)

(وَأَکْثِرْ مُدَارَسَهَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَهَ الْحُکَمَاءِ فِی تَثْبِیتِ مَا صَلَحَ عَلَیْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَإِقَامَهِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ) (وَارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا یُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَیَشْتَبِهُ عَلَیْكَ مِنَ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»، فَالرَّدُّ إِلَی اَللَّهِ: اَلْأَخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ. وَ اَلرَّدُّ إِلَی اَلرَّسُولِ: اَلْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَةِ غَیْرِ اَلْمُفَرِّقَةِ) إن الإهتمام بالعلماء والمفكرين والمبدعين وتقريبهم وتوليهم زمام المبادرة يعطي للدولة حصانة فكرية ويبعدها عن الوقوع في الزلل ولهذا نراه عليه السلام يشدد على ضرورة الاستمتاع برأي العلماء والمفكرين ومشاورتهم ومجالستهم وهذا إنما يدل على مدى اهتمامه بذوي البصيرة والمعرفة وتشجيع التحفيز الفكري.

إن في قوله (عليه السلام): (فَافْسَحْ فِی آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ، وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ کَثْرَهَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ) (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَیْهِ أَنْ یَبْدَأَ بِتَعْلِیمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِیمِ غَیْرِهِ وَ لْیَکُنْ تَأْدِیبُهُ

ص: 157

بِسِیرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِیبِهِ بِلِسَانِهِ، فَإِنَّ مُعَلِّمَ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبَهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ) في هذين النصين دليل على استثارة الأفكار لدى الحكماء فميل القائد لهم وتقريبهم وفسح المجال لهم وتوفير سبل تحصيل المعرفة وطرق اكتسابها وآليات العمل بها، ونراه يبدأ بتهذيب وتعليم الذات فمنها تنطلق كل المعارف لان الفرد الذي يكون قادر على فهم ذاته وكبح جماح نفسه يكون قادر على تهذيب وتعليم الآخرين.

تاسعاً- الاعتبارية الفردية :(Individualized Consideration)

تجسد هذا العامل للقيادة التحويلية في قوله سلام الله عليه ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ وَ لاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْکَنَةِ وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَةً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ ص عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً)) وهذا يدل على اهتمامه سلام الله عليه بالفروق الفردية لدى المجتمع کما انهم يتمايزون بالميول والإتجاهات ولابد من احترام خصوصية وتوجهات العامة والافادة من قدراتهم المتنوعة فلا يمكن لمجتمع أن يعيش دون وجود طبقات متنوعة تحتاج بعضها البعض ويكمل بعضها دور بعض کي تستمر الحياة.

لاشك أن القدرات والامكانات والاستجابات متفاوتة بين الأفراد فالفروق الفردية من الأمور المسلم بها ولابد أن تكون الإثابة بقدر ما قدم الفرد واستمرار التعزيز يؤدي الى زيادة دافع الإنجاز، فإذا شعر الأفراد بأنهم يقيمون على وفق عطائهم وطاعتهم ومدى ممارستهم للقيم والمعايير ويفرق بينهم وبين من لا يلتزم

ص: 158

تلك القواعد والاحكام مؤكد سیکون اطمئنان نفسي لدى المحسن (أي الأفراد ذوي السلوك المتسق مع المنظومة القيمة الإسلامية)، ومعاقبة المنحرفين عن هذه المنظومة يعطي دافع للمحسنين بالاستمرار والتشبث بتلك المنظومة القيمية ولاشك أن إثابة المحسنين هي بحد ذاتها عقوبة للمسيئين أو المنحرفين عن تلك المنظومة، و هذا نجده في هذا النص من قوله (عليه السلام): (وَلايَكُونَنّ الُمحسِنُ وَ الْمُسيئُى عِنْدَكَ بِمَنْزَلَةٍ سَواء).

ويدل ذلك على أنها القيادة تحويلية تستحق الخوض في غمارها للتعرف على أهم الأسس والمهارات لتلك القيادة الفريدة التي مارسها (عليه السلام) والتي تجلت فيها كل خصائص القائد التحويلي سواء في حكمه أو في وصيته للولاة الذين هم بمعيته، وفهم هذه الأسس يساعدنا على الإستفادة منها في إدارة شؤون البلاد.

مدى الإفادة من النمط القيادي التحويلي للإمام علي (عليه السلام) في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات بما يتماشى مع الظروف الراهنة

غير خاف على المتابع أن الدول الاسلامية بشكل عام والعراق بشكل خاص يعاني من أزمة القيادة التي تكون قادرة على ادارة الازمات وتتعامل بموضوعية مع الصراعات وتقوم على إدارة تحاكي روح الاسلام وقيمه وأهدافه السامية، ويؤثر النمط القيادي الذي يسلكه قائد المجموعة تأثيراً مباشراً في وجود أو عدم وجود الصراع التنظيمي داخل المجموعة وخارجها، ولما كان الصراع هو وسيلة للتعبير عن التوتر والتأزم بمظاهر مختلفة من السلوك تشكل بمجموعها مظاهر الصراع لذا كان لزاماً على القيادات التدخل لحل هذه الصراعات والنزاعات داخل تشكيل المجموعة أو ما يهدد نظامها القيمي والاخلاقي، ويُعد النمط القيادي الذي يتبناه القائد بمثابة البوتقة التي يصهر فيها الصراع ليعطي نتائج سلبية أو ايجابية، لذا يتوجب تبني نمط

ص: 159

القيادة الاكثر قدرة على إدارة الصراع بما يحقق الأهداف المنوطة بالجماعة بكفاءة عالية وبأقل جهد ممكن مع توافر قدر كبير من رضا الأفراد وقدر كبير من الفعالية من خلال ما يقوم به القائد من عملية التوجيه والتنظيم والتنسيق وصنع الأهداف والسياسات واتخاذ القرارات.

لقد أفرزت التغيرات الهائلة في البيئة المجتمعية نتيجة للثورة المعلوماتية العديد من الضغوط وأفرزت أنواع من الصراعات والتحديات التي باتت تؤثر بشكل كبير على أداء القادة، وبالتالي أصبح للأنماط القيادية دور كبير ووسيلة فعالة في مساعدة القيادات بكل أصنافها على إدارة هذه الصراعات من خلال تبني نمط قيادي فعّال و معتدل يحقق أهداف الجماعة بما يساعد في خلق بيئة خالية من التوتر والازمات، ومما لاشك فيه أن مقدار النجاح الذي تحققه أي مجموعة يتوقف إلى حد كبير على فعالية وكفاءة القرارات المتخذة وملاءمتها للهدف المحدد على مختلف المستويات.

إن كفاءة القائد تعتمد في ممارسة وظائفه القيادية على القرار الناجح الذي يتخذه إزاء المواقف المختلفة وذلك لأن العلاقات السائدة في المجتمع تستدعي معالجات هادفة وفق منظور قادر على استيعاب تطورات المستقبل، وما يحقق هذا المنظور هو تبني الأنماط والسبل والاستراتيجيات التي تبناها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأن القائد کمخطط يتوجب عليه أن يتخذ موقف التخطيط فهو منوط به تقرير أي الأساليب والسبل تسلكها الجماعة ذلك بغرض تحقيق أهدافها، وهذا يتطلب منه تحديد الخطوات الفورية أو الخطوات على المدى البعيد اللازمة التحقيق أهداف الجماعة.

ويُعد عهد الإمام علي (عليه السلام) من أهم الوثائق السياسية ونسق علمي معرفي حضاري للأسلوب الحكم والرأفة بالرعية التي تعالج قضايا الحكم والادارة

ص: 160

وشؤون الدولة وعلاقتها مع الأمة والحقوق والوجبات المترتبة على القائد تجاه الأمة، وواجبات الأمة تجاه القائد وهي تعكس صورة عملية لسياسة الإسلام الحكيمة، وهو يُعد دستور حکم ناضج ومكتمل القواعد والشروط، وبما يوفر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الانسان وحقوقه، ويؤكد على عمارة البلاد وإصلاحها، والابتعاد عن الطمع وحب الشهوات، والالتزام بالذكر الحسن، والعمل الصالح.

ولابد للمسؤولين في مختلف درجات مسؤوليتهم ابتداءً من الأسرة الى المؤسسات التربوية والمهنية والخدمية ودوائر العمل وانتهاءً بالحكومة والدولة أن يستفيدوا من هذا النمط القيادي الذي مارسه الإمام (عليه السلام) وأبدع في ممارسته وحقق مالم يستطع غیره تحقيقه.

وأن يعملوا على بث العيون لمراقبة الحكام، وليس مراقبة المحكومين کما تفعل الأنظمة المستبدة على مر العصور. وعلى من يتولى ادارة شؤون الخلق في شتی المجالات أن يكون كما أراد الإمام (عليه السلام) من مالك الأشتر (عليه السلام) أن يحكم بالعدل، وأن لا يكون حكمه منطلقاً من هواه ومزاجه، وطلب منه أن يبتعد عن كل ما هو ليس حلالاً له، وإن لا يبتعد في حكمه عن الرحمة والمحبة ورضا الله سبحانه وتعالى، وأن يبتعد عن المحاباة وأن يكون دقيقاً في انتقاء الأفراد العاملين وعليه مراقبة هؤلاء الأفراد کما ورد ذلك في وصية الإمام عليه السلام.

ولابد لهم أن يتشبثوا بقول الإمام (عليه السلام) المأثور في عهده للأشتر الذي مازال حياً حتى هذه اللحظة وسيظل حياً مادام هناك حاكم فاسداً، إذ جاء في العهد قوله (وَإيَّاكَ وَالإستِئثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسوَةٌ)، ففي هذا القول، تحذير لحاكم، ولأي إنسان آخر له سلطة على الآخرين من الاستئثار بما هو حق مشترك لجميع الناس، إذ أنه يجب على الحاكم أن لا يستحوذ على ما هو ملكية عامة للناس، مهما كان نوعها.

ص: 161

وعلينا أن نتمسك بما ورد عن الإمام عليه السلام في تشديده على الأخلاق وتجنب سفك الدماء کما ورد ذلك في: (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفکَهَا بِغَيرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيسَ شَيءٌ أَدعَى لِنِقمَةٍ، وَلَا أَعظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلَا أَحرَی بِزَوَالِ نِعمَةٍ، وَانقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِن سَفكِ الدِّمَاءِ بِغَيرِ حَقِّهَا)

التوصيات:

1. إن عهد الإمام علي (عليه السلام) بحاجة إلى دراسة وبحث أكثر لأن هناك مواضع كثيرة فيه تحتاج الى دراسة وتأمل، يجب أن يتوقف عندها الباحث، لأنها تعطي توضيح لبعض الحقائق الإدارية والتنظيمية للدولة الإسلامية.

2. ضرورة تبني القادة العراقيين القيادة التحويلية بما تضمنه من سلوكيات و ممارسات ومهارات اتصالية وتحفيزية و ابداعية وتفویض للصلاحيات واعتمادها التوجيه الاستراتيجي في اتخاذ قراراتها كفيلة بنجاح منظماتهم في الحاضر والمستقبل.

3. ضرورة تدريس القيادة وأنماطها من أجل تهيئة الكوادر التي تسعى الدولة لتوليهم المسؤوليات الادارية والقيادية.

4. تنفيذ برامج تدريبية لاكتساب مهارات القيادة التحويلية وخصائصها وذلك الدورها في تحفيز التابعين أو المرؤوسين سواء أكانوا طلبة أو موظفين.

5. زيادة الاهتمام بالمعلمين والنظر اليهم كقادة تربويين وحثهم على تنبني السلوك القيادي التحويلي لما له من دور في خلق روح المبادرة والابداع لدى المتعلمين.

6. تبني المؤسسات التربوية تدریس عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر بجميع المراحل الدراسية لتعليم الطلبة الواجبات والحقوق.

ص: 162

المقترحات:

1. دراسة تحليلية لأنماط القيادة الأخرى التي استعملها الإمام (عليه السلام) في أثناء فترة خلافته كالقيادة الداعمة والقيادة المهتمة بالإنجاز.

2. دراسة تحليلية لأنماط القيادة التي استعملها بقية الأئمة سلام الله عليهم سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة.

3. إجراء دراسة مقارنة بين قيادة الإمام علي (عليه السلام) وأنماط القيادة للحكام المعاصرين.

4. دراسة السمات القيادية والإدارية لدى الإمام علي (عليه السلام).

ص: 163

المصادر العربية

* القرآن الكريم

1. ابن منظور، الفضل جمال الدين (2003): لسان العرب، المجلد الاول، الجزء الاول، القاهرة: دار الحديث للطباعة والنشر.

2. أبو جاموس، سلیمان (1992)، - إدارة القوى العاملة -، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، مصر.

3. احمد، احمد إبراهيم (2002)، تحديث الإدارة التعليمية، الإسكندرية، مكتبة المعارف الحديثة.

4. أفولیو، بروس (2003)، تنمية القادة: بناء القوى الحيوية، (ترجمة عبد الحكم الخزامي)، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر.

5. حسن، ماهر محمد صالح (2004) القيادة: أساسيات و نظریات و مفاهیم، ط 1، دار الكندي للنشر والتوزي، عمان، الأردن.

6. الزعبي، أحمد محمد (1994)، أسس علم النفس الاجتماعي، صنعاء: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع.

7. الزيدي، ناظم جواد (2007)، العلاقة بين سلوك المواطنة التنظيمية والقيادة التحويلية وأثرهما في تفوق المنظمات: دراسة استطلاعية لعينة من مديري المصارف الحكومية والأهلية، أطروحة دكتوراه (غير منشورة). جامعة بغداد، كلية الإدارة والاقتصاد، بغداد، العراق.

8. سند، عرفه متولي (1983) «مقدمة في العلوم السلوكية وتطبيقاتها في مجال الإدارة»، دار النشر للثقافة والتوزيع، بيروت.

9. طلال، الشريف عبدالملك (2004)، الانماط القيادية وعلاقتها بالأداء الوظيفي من وجهة نظر العاملين بإمارة مكة المكرمة، رسالة ماجستير غير منشورة،

ص: 164

السعودية.

10. العامري، أحمد سالم (2002)، السلوك القيادي التحويلي وسلوك المواطنة التنظيمية في الأجهزة الحكومية السعودية، المجلة العربية للعلوم الادارية مج (9)، ع (1)، ص 19 -39.

11. علاء، سید قنديل (2010)، القيادة الإدارية وإدارة الابتكار، دار الفکر، عمان، ص 61

12. العمري، عبدالله مهدي (2008)، تأثير القيادة التحويلية على الثقافة التنظيمية في المنظمات الاماراتية مع التطبيق على قطاع البترول، اطروحة دكتوراه (غير منشورة)، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم والسياسة، قسم الإدارة العامة. القاهرة.

13. العمري، مشهور بن ناصر (2004)، العلاقة بين خصائص القيادة التحويلية ومدى توفر مبادئ إدارة الجودة الشاملة، رسالة ماجستير (غير منشورة). جامعة الملك سعود، كلية العلوم الإدارية، قسم الإدارة العامة. الرياض.

14. عیسی، سناء محمد عیسی (2008)، دور القيادة التحويلية في تطوير أداء مديري المدارس الثانوية في محافظات غزة، رسالة ماجستير غير منشورة) . الجامعة الاسلامية / غزة، كلية التربية، قسم الادارة التربوية، فلسطين.

15. الغزو، فاتن عوض (2010)، القيادة والإشراف الإداري، دار أسامة للنشر والتوزي، عمان، الأردن.

16. کنعان، نواف (1999)، «القيادة الإدارية»، مكتبة دار الثقافة، عمان، الاردن.

17. کنعان، نواف (1992 م)، اتخاذ القرارات الادارية بين النظرية والتطبيق، ط 1، عمان، دار الثقافة للنشر.

18. محمد، محمد عبد المقصود (2006)، القيادة الإدارية، عمان، مكتبة المجتمع العربي، الأردن.

ص: 165

19. مدكور، إبراهيم (1989)، المعجم الوجيز، منشورات مجمع اللغة العربية، القاهرة، مصر.

20. يوسف، مجید (1987)،"أنماط السلوك القيادي لمديري المعامل الصناعية"، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد.

المصادر الأجنبية:

TA 1 * ILL LI 1. Xirasagar. S. 2008. Transformational transactional and laissez faire leadership among physician executives Journal of Health Organization and Management“ 22 (6). 2. Burns. J. M. (1978) Leadership-Harper New«pg20. 3. Harold Knooz Heinz Weihrich Essentials of Management-5th ed: Megraw-Hill Publishing Company Limited New Delhi-P346. 4. Koontz H odonnellc. And weihrichs H (1984). managements 8th editions New York: Me Graw - Hill company. 5. Murphy. L. (2005). Transformational Leadership: A Cascading Chain Reaction Journal Of Nursing Managements vol. 13. no.1.. 6. The oxford English Dictionary(2003). 2nd ed. CD -ROM. Oxford:

Oxford University. 7. Avolio. B.Bass B. and Jung“ D. (1999) Re-examining the components of transformational and transactional leadership using the multifactor leadership questionnaire. Journal of Occupational And Organizational Psychology. vol.72. 8. Krishnan V. (1998). Influencing the transformational leadership:

strategies used by followers. International Association Of Managements 16(1): 2127 9. Bass-B. Avolio: B.(1994). Improving Organizational Effectiveness Through Transformational Leadership United states: library of congress.

EL LV 41 LI UL.

ص: 166

من روائع عهد الإمام علي (عليه السلام) (فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (أنموذجاً) دراسة وتحليل

اشارة

أ. د. المتمرس. صاحب محمد حسين نصار

ص: 167

ص: 168

أورد ابن أبي الحديد المعتزلي قوله:

((علي إمام الفصحاء وسيد البلغاء، وعن كلامه قيل دون الخالق وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة))

شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي 8/1 من المقدمة

ص: 169

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار، وصحبه المنتجبين الأبرار .

وبعد: من مقولة وصىَّ رسول الله (صلى الله عليه واله) أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، في عهده لمالك الاشتر لما ولاه مصر: (ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين (1)، أو نظير لك في الخلق (2) ...) (3).

فكانت هذه المقولة نبراس ودرس، اورد الأمين العام السابق للأمم المتحدة (وفي عنان): (هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية)، وبعد أشهر اقترح (عنان) أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الامام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، واللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد مدارسات طويلة، عرضت: هل هذا يرشح للتصويت؟ (اي الكتاب) وقد مرّت علیه مراحل أقر المقترح، وصَوتَت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.

يَنظُر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الناس نظرة بمنتهى الواقعية تحت سراج الحكمة والتعقل، من خلال عهد إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، وهو يوصیه ويبين له كيف ينظر إلى الناس كي يكون تعامله معهم على أساس رؤية واضحة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه هذا يقدم فلسفة لكينونة الإنسان في الأرض وما تحمل هذه الكينونة من مراتب، وسنحاول أن نستجلي أهم المسائل المهمة التي تهتم بالشأن الإنساني في هذا الحديث.

ص: 170

وقد انتظم البحث عن ذلك في ثلاثة مطالب:

تناول المطلب الأول معايير التفضيل بين البشر وإنه يكون ضمن عدة أمور كثيرة وقفنا على ثلاثة منها: التقوى والعلم والأخلاق، وتناول المطلب الثاني: الاعتراف بإنسانية الإنسان من خلال الاختبار الإلهي، وادراك عظمة الخالق وإثراء التجارب ومعرفة قيمة التعايش. وكان المطلب الثالث باحثا في حدود الاعتراف بالآخر من خلال الإرادة الصلبة ومحورية بلد المقدسات، واشتمل المطلب الرابع على نموذج من حوار الإمام علي (عليه السلام) مع بعض الملحدين.

المطلب الأول: معايير التفضيل بين البشر

خلق الله تعالى البشر وكرمهم على بقية الخلق لقوله عزّ من قائل: (ولقد کرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (4)، وهذا التكريم ينطلق من كونهم بشر لا أكثر، من دون أي إضافة أخرى، مع أن هناك عناوین مختلفة يمكن أن تكون معيارا للتفضيل، كفضل المؤمن على الكافر، إلا أن نظرة الخالق إلى الإنسان بمحض كونه إنسانا، هي نظرة التكريم على سائر الخلائق.

وبحكم العلاقات التي لا يمكن لأي فرد أن ينسلخ عنها، وكل إنسان يعيشها حاجة طبيعية، نشأت معايير للتفضيل بين البشر أنفسهم بعد مرحلة التكريم العام الذي كرمهم به الله تعالى.

ونشأت تلك المعايير للتفضيل بين البشر أنفسهم من خلال عدة قوانين وقيم دينية وعقلائية أصبح يتفاضل بها البشر بحسب ارتباطهم بها من خلال الفعل والتطبيق.

وثمة معايير مختلفة للتفضيل بين أبناء البشر، وقد أكد القرآن الكريم على أهمها

ص: 171

وهي التقوى، لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (5)، وكذلك معیار العلم، كقوله تعالى: (قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَکَّرُ أُولُو الأَلبَابِ) (6). وبالإمكان بيان ذلك ببعض النقط طلبا للاختصار وكما يأتي:

أولاً: التقوى

إن كلمة (التقوى) من أكثر کلمات نهج البلاغة استعمالاً، فليس هناك كتاب يركز فيه على التقوى أكثر من نهج البلاغة، وليس هناك في نهج البلاغة مفهوم أو معنی اعتني به أكثر من التقوى. فما هي التقوى؟

إن التقوى من الوقاية، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب، فهي إذن سيرة عملية سلبية، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل! ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل، حرصاً على سلامة تقواهم!

ولا شك إن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب، والفعل والترك. بل لا يصل الإنسان إلى الإيجاب إلّا عن طريق السلب ولا إلى الإثبات إلّا بعد النفي، وليست كلمة التوحيد، (لا إله إلا الله)، إلاّ كلمة جامعة بين النفي والإثبات، ولا يمكن إثبات التوحيد إلاّ بعد نفي ما سوى الله تعالى، ولذلك نرى أن الإيمان والكفر مقترنان والطاعة والعصيان متلازمان، أي أن كل طاعة تتضمن معصية، وكل إيمان يشتمل على كفر (فمن یکفر بالطاغوت، ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى) البقرة / 256.

ص: 172

ثانياً: العلم

الفكر خاصية الإنسان وحده، به تجلى وتميز عن سائر الخلق، فهو في مواجهته للواقع لا يفتر عن الفكر طرفة عين، حيث تنشأ العلوم والصنائع المختلفة. وحاجة الإنسان لا تستقر على نوع معين من العلوم، لذلك فهو يرغب في تحصيل ما ليس عنده منها، من أجل إشباع ما تستدعيه طباعه من الحاجات والرغبات. ولن يتم له ذلك إلا بأخذه ممن سبقه أو زاد عليه في العلم والمعرفة. ومن هنا جاء العليم. فالعلم والتعليم حاجة طبيعية، فرضها العمران البشري، كما يقول ابن خلدون (فقد تبين بذلك أن العلم والتعليم طبيعي في البشر) (7).

وبالرغم من أن للعوامل الوراثية دورها في تحديد مواهب الفرد ومیوله واستعداداته فإن مدى تحقيق هذه الإمكانيات يتوقف على البيئة، بما تتيحه من وسائل التعلم والتدريب. لذا فقد أعطت الأمم والشعوب للتعليم مكانة بارزة في دساتيرها، وأفسحت بالمجال لدور العلم فيها، وشجعت على طلبه بوسائل عدة، لما كانت تأمله فيه من تقدم وازدهار يطال جميع مرافقها و مؤسساتها.

ولقد كان الإسلام في طليعة الأديان الداعية إلى تعلم العلم والتشدد في طلبه وأخذه من أي مصدر كان. وكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يشجع التعليم قولاً وعملاً، فيطلق سراح أسرى الحروب إذا علموا المسلمين القراءة والكتابة، ممّا يدل على الأهمية التي كان يعطيها للعلم والتعليم في بناء الفرد والجماعة. يقول الابراشي: ((إن التربية أساس النجاح للفرد والمجتمع. لذلك تنفق الحكومات في الأمم المتمدنة بسخاء على التعليم، موقنة أن في التعليم قوة، وقوة كبيرة في ترقية الفرد والنهوض بالمجتمع إلى حياة راقية وعيشة راضية، والتاريخ خير دليل على أن بالتربية والتعليم تحيا الشعوب من موتها، وتنتبه من غفلتها، وتقلل سجوتها)) (8).

ص: 173

ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن الدعوة التي أطلقها النبي (صلّى الله عليه وآله) في طلب العلم وممارسته في الحياة، وهو الذي كان يعتبر الجهل الفقر الأكبر الذي يقود إلى العمى والضلال في حين أن العلم يحلق بالإنسان في رحاب المعرفة والفضيلة ويسمو به عن الصغائر ليعيش في ملكوت الحق، فقال: ((اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به)).

ثالثاً: الاخلاق

من الواضح الذي لا غبار عليه أنّ كلّ الشرائع السماوية كان الهدف من ورائها هو تكامل الإنسان ورقیِّه على جميع المستويات المادّية والمعنويّة والروحية والجسدية كي يصل إلى مستوى الخلافة لله في أرضه ويعمرها بالفضائل والقيم والمعاني النبيلة السامية من خلال قيامه بوظائف الخلافة وأدائه لمستلزمات العبودية.

وبما إنَّ الشريعة الإسلامية تمتاز عن غيرها من الشرائع الاُخرى بشمولها وعمومها وخاتميتها فقد حوت كلّ ما جاءت به الشرائع الاُخرى السابقة لها من تعاليم دينية وقيم أخلاقية وأحكام شرعيّة وزادت عليها الكثير بعد أن نسخت و غیّرت ما كان منها يصلح لظرف معيّن وأجل محدود.

فالشريعة الإسلامية نظرية متكاملة الأبعاد ترسم للإنسان منهجاً شاملاً لجميع تفاصيل حياته وعلاقاته بما حوله من الموجودات وارتباطه بخالقه وبذاته وببناء نوعه.

من هنا يتضح لنا أنّ الأخلاق الإسلامية ونعني بها جميع محامد الأخلاق لا خصوص حسن المعاشرة مع الناس - هي مجموعة الأقوال والأفعال التي يجب أن تقوم على أُصول وقواعد وفضائل و آداب مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالعقيدة والشريعة

ص: 174

الإسلامية - من خلال منابعها ومصادرها الأساسيّة، والتي هي القرآن الكريم والسنّة الشريفة للرسول الأكرم والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.

فالأخلاق الإسلامية ليست جزءاً من الدين بل هي جوهره وروحه، ولعلّ هذا المعنى هو المقصود بالحديث المعروف المروي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله): ((إنّما بعثت لاُتَمِّم مکارم الأخلاق)) (9) والآخر المروي عنه (صلى الله عليه واله) أيضاً: ((بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها)) فانّ الشريعة بكلّ تفاصيلها ما الغرض منها إلاّ سموّ الإنسان ورقيّه ووصوله إلى درجة العبودية التي تحقق له السعادة في الدار الدنيا ومن ثَمّ الأجر والثواب في الدار الاُخرى. وهكذا أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يكون المجتمع مثالا حيا بالعلم والأخلاق والمکارم.

المطلب الثاني: الاعتراف بإنسانية الإنسان

لقد عانت البشرية من التمييز العنصري والديني، منذ قدم تاريخها وإلى اليوم، ويتأتى هذا التمييز من اضطراب آلية تقييم الفرد، وعدم وضوح القيمة الطبيعية المودعة في كينونة الفرد وهي (الإنسانية)، ومن خلال كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) يتضح لنا البعد الإنساني في تقييمه، فهو (عليه السلام) لم يغفل ذلك العنوان الإنساني الذي ينطوي تحته كل فرد حتى الكافر، بمعنى أنه (عليه السلام) قد أُدخل في دائرة الوعي ذلك الجانب المُكرَّم في كينونة الفرد هو الإنسانية، فهو عنوان مُكرَّم بنص القرآن الکریم کما سلف ذكره، وعلى هذا الأساس يتم التعامل مع الآخر على مختلف توجهاته، من خلال رؤية واقعية عقلائية، تعترف بالعنوان العام الجامع للبشرية على مختلف مراتبها.

ص: 175

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يصنف الناس إلى أخ في الدين او نظير في الخلق، ليس بصدد تفضيل الفاضل على المفضول، بل بصدد الاعتراف بالآخر المفضول إلى جانب الفاضل مع وجود الفارق، وهذا الاعتراف يأتي في إطار القيمة التكوينية المودعة في صميم المعنى الإنساني الذي يتمتع به كل فرد، إلا ما شذ عن الإطار الإنساني وأخذ ينسلخ عن الإنسانية نحو الحيوانية والتوحش، مثل الطواغیت والفراعنة فإنهم خارجون عن تصنيف الإمام (عليه السلام) وذلك الخروج واضح بعدما اتضح معيار الاعتراف بالآخر تحت عنوان التكريم.

وقد خلق الله الكون وفق منهج التنوع بما في ذلك الإنسان والحيوان والنبات والجماد والملائكة والأفلاك والمجرات واللغات والألوان والألسن والأديان.

وهذا الاختلاف والتنوع - سواء كان فطرياً کالأعراق والقوميات والشعوب والألوان (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) و (اختلاف ألسنتكم وألوانکم)، أو كان اختيارياً واكتسابياً كانتخاب الدين والفكر والثقافة والسلوك - ضروري لاعتبارات عدة:

أولاً: الاختبار الإلهي

باعتباره يخدم حكمة الله سبحانه وتعالى في ابتلاء البشر بالنعم التي أسداها، أمثال نعمة العقل والقوة والمال.

ثانياً: إدراك عظمة الخالق

فالإنسان عبر التنوع يدرك عظمة الخالق وجمالية الكون، وهو أحد الطرق المؤدية الى معرفة الله تعالى.

ص: 176

ثالثاً: إثراء التجارب

من خلال هذا التنوع يستطيع الإنسان الاستفادة من نقاط قوة الآخرين واجتناب نقاط ضعفهم في بناء الصرح الحضاري من دون مشاكل أو بأقل الخسائر.

رابعاً: معرفة قيمة التعايش

يستطيع الإنسان أن يدرك معنى التعايش والتسالم وهو الفطرة والطبيعة البشرية المبنية على التفاعل لقضاء الحوائج وحل المشكلات، باعتبار أن منطق العقل والدين يدعوان إلى الانسجام والاحترام المتبادل، وإن حكمة الله تعلى اقتضت جعل الخيرات في الكون تحت تصرف الجميع (والأرض وضعها للأنام) (10)، ومن العسير على الإنسان التقوقع والإنزواء خاصة مع تلاشي الحدود وانتشار العولمة وجعل العالم قرية واحدة على حد تعبير عالم الاجتماع الكندي (مالك لوهان) الذي صاغ هذا الاصطلاح أثناء الحرب الأمريكية الفيتنامية.

فإنسانية الإنسانية هي من تحتم على بني البشر أن يتعاملوا بمنطق التسامح والتعايش والتوادد من دون مشاكل واضطرابات.

المطلب الثالث: حدود الاعتراف بالآخر

من خلال قول أمير المؤمنين (عليه السلام) سوف يكون التقييم والتفضيل على أسس موضوعية، فيتم التعامل مع غير المسلم في إطار إنساني عام، وإنسانيته محفوظة مادام يعيش في حدودها، اما لو تعداها فإنه يكون خارجا من الأساس، ولا يمكن حمله على الإنسانية إذ لا مبرر لدخوله الإنسانية وهو يتنكر لها من خلال طاغوته وفرعنته وجبروته وبطشه.

ص: 177

إذاً، ما دام الإنسان يعيش القيم العامة التي تسالم بها العقلاء، فهو ضمن عنوان الإنسانية، وإن لم يعتنق الدين، غاية الأمر يبقى هو المفضول، والمتدين هو الفاضل وفق القيمة المضافة إلى هذا الأخير، وهي قيمة التدين.

وفي ضوء كلامه (عليه السلام) لمالك الأشتر: ((الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))، كيف يمكن رسم خطة أو بناء أساس للتعامل بين الاثنين؟ ما هي حدود التعامل وأبعاده وملابساته؟ كيف يمكن التوفيق بين الأصالة - الأنا - الموجودة في الدين وبين التبعية - الآخر الموجودة في الخلق؟

هل النظارة في الخلق إشارة إلى البعد الإنساني، والأخوة في الدين وإشارة البعد الإيماني؟ وعند الاختلاف في الاعتبارات الإنسانية لمن يكون المرجع؟ هل الاعتبار الإنساني يحدد الدين أو العقل؟

وبالإمكان الإجابة عن هذا التساؤل وكالآتي:

أولاً: الإرادة الصلبة

إن السعي لأن تكون لنا إرادة حقيقية وجدية لنشر فكر أهل البيت (عليهم السلام) - مراجع و علماء ومفكرون وخطباء وتجار - من منطق (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فالإرادة هي الأساس لكل حركة تغيير وإصلاح عبر التاريخ ولعامل الإرادة قوانينه وأنظمته الذاتية من الحس بتحمل المسؤولية نفسية واجتماعية وديني ومن إرادة التحدي.

ثانياً: محورية بلد المقدسات (العراق)

التركيز على العراق باعتباره مرکز الانطلاق الفكري والإشعاع الحضاري والعمق الإستراتيجي لأهل البيت عليهم السلام، وبوابة الخليج بل الشرق الأوسط

ص: 178

على حد تعبير الأمريكان، حينما أرادوا طرد البريطانيين والفرنسيين من المنطقة، ففي بداية الثلاثينات من القرن الماضي طلب الحكومة الأمريكية من مراكز الدراسات أن تقدم مقترحاتها عن سبل احتلال الخليج، وبعد سنتين قدمت مائتي دراسة، اختارت الحكومة إحدى الدراسات القائلة بأن العراق بوابة الخليج، ومنذ ذلك الوقت سعت الحكومة الأمريكية إلى تطوير علاقاتها مع بعض التجار وبعض المسؤولين من الدرجة الثانية في العهد الملكي، وتنامت هذه العلاقات في نهاية الستينيات (11). فالاعتراف بالآخر هو نوع من أنواع التعامل الذي طرحه أمير المؤمنين (عليه السلام) من أجل بناء مجتمع قائم على الانسانية وثقافة التعايش.

المطلب الرابع: الحوار من مقتضيات تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام)

من مشاكل الدهر، فقدان الحوار بين الأفراد والمجتمعات والأمم، وعدم الحوار مع الآخر عبارة عن رفض الآخر، وهو ينم عن نظرة دونية تجاه الآخر، ومن الخطأ أن يفهم الحوار على أنه تأسيس لشرعية الآخر، بل هو أسلوب واقعي وموضوعي، وقد تم حوار بين الباري عز وجل وبين إبليس الخارج عن الطاعة والامتثال: («قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» (12) وسيرة النبي (صلى الله عليه واله) وأهل بيته (عليهم السلام) زاخرة بمواقف حوارية.

ص: 179

إن تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام) للناس يُؤسس لضرورة بل شرعية الحوار، فلما كان ثمة مبررٌ للاعتراف بوجود الآخر وهو البعد الإنساني، فإن الحوار من ملازمات ذلك الوجود، وبالحوار تم تبليغ رسالات السماء، وبالحوار تم إلقاء الحجة على أعتى الخلق، ومن الشواهد على حواريات الإمام علي (عليه السلام) ما يأتي:

قال عبد الله بن عباس أتيت منزل الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقلت له: يا علي إن رؤساء اليهود قد قدموا المدينة وألقوا على أبي بكر مسائل فبقي أبو بكر لا يرد جوابا فتبسم الامام علي (عليه السلام) ضاحكاً ثم قال:

اليوم الذي وعدني رسول الله (صلى الله عليه واله) به، فأقبل يمشي أمامه، وما أخطأت مشيته من مشية رسول الله (صلى الله عليه واله) شيئا حتى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله (صلى الله عليه واله)، ثم لتفت الى اليهود، فقال (عليه السلام): یا یهودیان ادنوا مني وألقيا على ما ألقيتماه على الشيخ.

فقال اليهوديان: ومن أنت؟

فقال لهما: أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أخو النبي (صلى الله عليه واله)، وزوج ابنته فاطمة، وأبو الحسن والحسين، ووصيه في حالاته كلها، وصاحب كل منقبة وعز، وموضع سر النبي، فقال له أحد اليهوديين: وما أنا وأنت عند الله؟

قال (عليه السلام): أنا مؤمن منذ عرفت نفسي، وأنت كافر منذ عرفت نفسك، فما أدري م يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك.

فقال اليهودي: فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابه؟

قال (عليه السلام): ذاك يونس (عليه السلام) في بطن الحوت.

ص: 180

قل له: فما قبر سار بصاحبه؟

قال (عليه السلام): يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر ...(13).

إن النظارة في الخلق، واقتران الفرد بالفرد تحت عنوان الإنسانية، يكرس ضرورة الحوار كمخرج من أزمات العلاقة بين الأفراد على مختلف الأصعدة والمجالات، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (14)، وفي هذه الآية تكريس للدعوة والحوار، ومعلوم أن الكافر والملحد مشمول بتلك الدعوة، ولا يعقل أن تتم دعوة من لا وجود له ولا إنسانية، وهذا مقتضی تکریم الله عز وجل للإنسان عندما خاطبه بالدعوة، وأرسل إليه الرسل والأنبياء، لذلك فإن تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام) يأتي في سياق مقتضى التكريم الإلهي للإنسان، وذلك الموجود المكرم والمفضل على سائر المخلوقات، ومن ثم تأتي دوائر أضيق للتفضيل من خلال الاستجابة للدعوة والارتباط الحقيقي بقيم السماء.

ص: 181

الخاتمة:

ان التعامل الذي أظهرته الدراسات الحداثوية اليوم هو محاولة استبعاد كل ما هو اصيل في الدين الإسلامي، ولا يخفى على كل باحث في الدراسات الغربية نجدها تنادي في كل مرة بين الاصلاح والنهضة والتجديد بأفكار ترسم صورة على التعامل الانساني وتطبيقات حياته اليومية من تعامله مع الآخر وحريته وإنسانيته فنجد من نادي بالانسانية (15) اليوم كمفهوم وکنزعة منذ عصر النهضة وحتى عصر الحداثة وما بعدها، ولكن الإسلام سبق هذه التنظيرات قبل العقل الغربي الذي يتجه نحو: العدمية كنمط سلوكي يجعل الإنسان آلة خالي من القيم والشعور، و تارة يحاول أن يسلبه الحرية من الوجود ليستعبده، قال الإمام علي لابنه الحسن (عليهما السلام): ((ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)) (16)، ومرة يقفده کینونة ذاتيته فتجعله نمطي خارج إبداعاته الروحية التي أودعت بها طاقات، وبهذا يفقد الإنسان القيمة الروحية والتاريخية الزمنية لوجوده من سلبه لهذه الذاتية التي اكد عليها أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره)) (17)، أو قوله (عليه السلام): ((رحم الله إمراً تفكر فاعتبر واعتبر فأبصر...)) (18)، ومن هذا نستشف ان الانسان اليوم مفضل ومكرم بإنسانيته وكمالاته الروحية ليرتفع بها من الدونية الى العلية وهي التقوى وهذا ما أكدته نصوص القران العظيم وكلمات الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) وأهل البيت (عليهم السلام).

ص: 182

الهوامش

1. (اما اخ لك في الدين) انه مسلم، أي تلزمك حرمته. ينظر: نهج البلاغة: الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، جمعه الشريف الرضي/ شرح على محمد علي دخیل، دار المرتضی بیروت، ط 1، عام 1423 ه، 2003 م، 3/ 562.

2. (واما نظير لك في الخلق) اي، انسان والانسانية تستوجب منك العطف عليه، ينظر: المصدر السابق، 3/ 562.

3. المصدر السابق: 3/ 562.

4. سورة الاسراء / 70.

5. سورة الحجرات / 13.

6. سورة الزمر / 9.

7. مقدمة ابن خلدون: 403.

8. التربية والحياة أو تعميم التعليم، محمد عطية الابراشي، المطبعة: عيسى البابي الحلبي - القاهرة، ط 1، ت: 1943: 24.

9. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الناشر: دار احیاء التراث - بيروت، ط 2، ت: 1983 م: 16 / 210 باب مکارم اخلاق النبي.

10. الرحمن / 10.

11. ينظر: نهج أهل البيت عليهم السلام وثقافة التعايش، صاحب مهدي، بحث منشور على الانترنت: 5 http://www.alshirazi.net/maqalat/10.htm.

12. الأعراف/ 12 - 18.

13. ينظر: منتهى الآمال، عباس القمي: 1/ 85 - 86.

14. آل عمران / 64.

ص: 183

15. مصطلح: يدرس طبيعة الانسان وماهيته الانسانية، او يدرس البحوث المختصة بالإنسان، او يدرس المعايير او المعتقدات المتعلقة بالحاجات الانسانية، او دراسة الوجود الإنساني... ينظر: المعجم الموسوعي لمصطلحات الحداثة، اصدارات مركز الفكر الاسلامي المعاصر (1) 1433 ه - 2012 م لبنان، مط الرسل الفنية،، ج 1/ 143.

16. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، 13.

17. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 1، ص 50.

18. نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، ج 2، ص 200.

ص: 184

أهم المصادر والمراجع:

* القرآن الكريم خير ما نبتدئ به.

1. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الناشر: دار احیاء التراث - بیروت، ط 2، ت: 1983 م.

2. التربية والحياة أو تعميم التعليم، محمد عطية الابراشي، المطبعة: عيسى البابي الحلبي - القاهرة، ط 1، ت: 1943.

3. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، بيروت - لبنان، ط 2، ت: 1431 ه.

4. المعجم الموسوعي لمصطلحات الحداثة، اصدارات مركز الفكر الاسلامي المعاصر (1) 1433 ه -2012 م لبنان، مط الرسل الفنية.

5. مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 1، ت: 1421.

6. منتهى الآمال، عباس القمي، طبع و نشر: مؤسسة النشر الاسلامي لاقم، ط 1، ت: 1425 ه.

7. نهج البلاغة: الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، جمعه الشريف الرضي/ شرح على محمد علي دخيل، دار المرتضی بیروت، ط 1، عام 1423 ه، 2003 م

8. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مطبعة القاهرة، ط 1، ت: 1987 م.

9. نهج أهل البيت (عليهم السلام) وثقافة التعايش، صاحب مهدي، بلا ط، بلا ت.

ص: 185

ص: 186

العدالة الاجتماعية في ضوء عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر ... ((الطبقة السفلى أنموذجاً))

اشارة

إعداد

أ. م. د. طارق حسن کسار

جامعة ذي قار - كلية العلوم الإسلامية

ص: 187

ص: 188

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.

قال تعالى في كتابه الكريم ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربی وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)) سورة النحل: 90

إن فكرة العدل الاجتماعي قديمة العهد في تاريخ الجنس البشري، ولكن انحراف النفوس عن جادة الحق واستبداد الأقوياء من أمراء وحكام بالرعايا قد شوه معاني العدالة وطمس معالمها فاختلت موازينها وسادت الأهواء في كثير من أدوار التاريخ التي مرت بها البشرية.

هذا وقد ركز القرآن على مفهوم العدل إذ تكررت كلمة (العدل) ومشتقاتها في ما يقرب من ثلاثين آية، وكان العدل الأساس الثاني بعد التوحيد، واللذان دعا إليهما الأنبياء عليهم السلام عند بعثتهم للناس، إذ بعد التعريف بالله خالق الكون وأنه على البشر عبادته، بینوا أهمية العدل وكونه من الركائز المهمة في تبليغهم الرسالة الإلهية، قال تعالى: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .....)) سورة الحديد: 25، إذ يكون الهدف من خلق البشرية لغواً دون تحقيق العدل والعدالة في مجتمع يعتقد بالمساواة والأكرمية للبشر كافة

ولذلك جاء الأمر الإلهي بتطبيق العدل ((قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين کا بدأكم تعودون)) سورة الأعراف: 29، و ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)) سورة النحل: 90

ص: 189

ونتناول في هذا البحث العدالة الاجتماعية في ضوء عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر، وكيف أن الإمام أمر بالعدل في أكثر من موضع مما يتطلب ذلك عدة مجلدات، فلذلك تناولت جانبا واحدا في بحث مقتضب يتناول العدالة الاجتماعية للطبقة السفلى، وهي تمثل الفئة الغالبة في المجتمع، وقد قسمت البحث الذي وسمته ب « العدالة الاجتماعية في ضوء عهد أمير المؤمنين المالك الأشتر - الطبقة السفلى أنموذجاً» إلى مقدمة ومبحثين، تناول المبحث الأول

ماهية العدالة الاجتماعية وأسسها وذلك ضمن مطلبين، وأما المبحث الثاني فقد تناول ثلاثة مباحث، المبحث الأول فقد تناول طبقات الرعية، وأما المبحث الثاني فقد تطرق إلى والعدالة الاجتماعية بأصناف الطبقة السفلى ثم المبحث الثالث فقد عنی بتوصيات الإمام للراعي.

ونرجو أن نكون قد وفقنا في انجاز هذا البحث عن هذا الأمر الضروري المجتمعنا الذي بات محروما من ابسط مقومات العدالة الاجتماعية والتي نادى بها الإمام علي (عليه السلام) وأوصى عماله وولاته بها.. والحمد لله رب العالمين.

ص: 190

المبحث الأول ماهية العدالة الاجتماعية وأسسها وكيفية تطبيقها

المطلب الأول: ماهية العدالة

أولا: العدالة لغة:

ذكر الفراهيدي بأن العدل: هو «المرضي من الناس قوله وحكمه.... والعدل: نقيض الجور. يقال عدل على الرعية» (1)

أما ابن منظور فقد قال: «العدل: ما قام في النفوس أنه مستقیم، وهو ضد الجور .... والعدالة: وصف بالمصدر، معناه ذو عدل» (2)

وذكر في المفردات «عدل: العدالة والمعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة والعدل والعديل يتقاربان..... فالعدل هو التقسيط على سواء» (3)

فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة في اللغة الاستقامة، والعدل هو المتوسط في الأمور من غير إفراط.

ثانياً العدالة اصطلاحاً:

مختلف مفهوم العدالة باختلاف العلم المنتسبة إليه، فعلماء الفقه ينظرون للعدالة كشرط لبعض الفروع الفقهية كثبوت الاجتهاد والمرجعية والأعلمية، والشهادة والقاضي وغير ذلك. وعلماء الأخلاق يعتبرونها صفة حميدة تحفز على احترام حقوق الآخرين، وعلماء القانون يعتبرونها أساسا لإحقاق القانون وسيادته، وهكذا في

ص: 191

العلوم الأخرى يرتبط تعريفها بالمجال الذي يختص به العلم.

أما العدالة في الإسلام فهي: «رعاية الحقوق العامة للمجتمع والأفراد، وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع ما يستحقه من حقوق واستحقاقات، والتوزيع العادل للثروات بين الناس، والمساواة في الفرص، وتوفير الحاجات الرئيسية بشكل عادل، واحترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية» (4).

وذكر السيد الطباطبائي: «إن للعدالة وهي الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي والداني، والجانبين: الإفراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الإنسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد» (5)

بينما ذكر السيد مصطفى الخميني: «معنى العدالة في هذه المرحلة عدم الاحتجاب من الحق بالخلق» (6)

وقال جورج جرداق: «نضجت في ذهن الإمام القوي فكرة العدالة الاجتماعية على أساس من حقوق الجماعة التي لا بد لها إن تنتهي بإزالة الفروق الهائلة بين الطبقات التي يتخم ثريها وأميرها ويضوي فقيرها وصغيرها فكان صوته في معركة العدالة الاجتماعية هذه مدويا أبدا» (7)

بینما قول بعضهم بان العدالة هي وسط بين الظلم والانظلام... فهو مردود، فانَّ الانظلام يُقصَد به هنا قبول الظلم وعدم دفعه، فان عُدَّ هذا مشاركة في الظلم مع الظالم؛ لأنَّه كما لا يجوز ظلم الآخرين كذلك لا يجوز ظلم النفس إذن، فالانظلام ظلم وليس طرفا آخر للعدالة غير الظلم، وإلا فليس الانظلام قبيحا.

ص: 192

وعبر أرسطو عن العدل الاجتماعي بأنه «المطبق على أناس يشتركون في حياتهم ليحققوا استقلالهم والذين هم أحرار متساوون تناسبا إما شخصيا أو عددیا، وكلما كانت أموالهم ليست مكفولة لهم فلا عدل اجتماعي بالمعنى الأخص عندهم بين بعضهم والبعض» (8)

وهذه العدالة الاجتماعية عرضها العهد بتعبير اعم شمل مضمونه طبقات الناس وأبناء المجتمع كافة من أحرار وعبيد وعلى اختلاف أجناسهم ونحلهم دون تفريق أو تفضيل.

وسئل عليه السلام أيهما أفضل العدل أو الجود، فقال عليه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها. والعدل سائس عام، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما» (9)

قال الشيخ مطهري: «العدل في نظر الإمام هو الأصل الذي يستطيع أن يصون توازن المجتمع ويرضيه ويهب له السلام والخير والطمأنينة والاستقرار» (10)

وحينما نلحظ كلمة: رعية فان لها مفهوم إنساني جميل في الإسلام وهي من مادة رعي أي حفظ وحرس وأطلق الرسول هذه الكلمة على الناس من جهة أن الحاكم في الإسلام عليه إن يتعهد بحفظهم وحراستهم في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم وحرياتهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (11)

وبذلك تتحقق العدالة في المجتمع ويسود، وبحلول العدل في المجتمع يسود الخير والسلام والصلاح فيه «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك هم الأمن وهم مهتدون» (12)

ص: 193

المطلب الثاني: أسس العدالة الإجتماعية:

1- المساواة:

وهي تعني رفض التمييز على أسس عنصرية أو عرقية أو مذهبية، وهذا قانون عام لا يمكن الحيود عنه قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (13)، فأساس التفاضل هو التقوى، لكن من ناحية اجتماعية أيضا لا يمكن مساواة النشط مع الكسول في العمل ولا المبدع علميا مع الخامل في هذا المجال

قال تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (14)، فلا يمكن المساواة بين رجل أبكم وغير قادر على شيء ولا يأت بخير ورجل ناطق يأمر بالعدل، وقد أكد الإسلام على مبدأ الإخاء «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..». (15).

وقد أكد الرسول على مبدأ المساواة بين البشر إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أيها الناس! إن العربية ليست بأب والد، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألا إنكم ولد آدم، و آدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم» (16).

هذا وإن الناس حسبما عبر الإمام علي ع لا تخلو من مناظرة في الدين أو الخلق فلا يصح أن يقسو على أخ له في الدين تربطه به وشيجة الدين والإيمان، ولا يقسو على أخ له في الخلق يحب ما يحب ويكره ما یکره، وهم كالجسد الواحد، في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (17)

ص: 194

لكن في مجتمعاتنا في العصر الحاضر نجد أن هذا المبدأ لا يعمل به، إذ التفرقة حاكمة في المجتمع على أساس العرق أو المذهب أو المصلحة الشخصية وغير ذلك، مما يستدعي إعادة النظر في هذا الأمر ومعالجة هذه الظاهرة، وسنبين خلال طیات البحث كيف إن الإمام يوصي بالمساواة ويأمر بها ولاته.

2- التوزيع العادل للثروات:

لابد من التوزيع العادل للثروات والمصالح على أفراد المجتمع لكونهم أعضاء في المجتمع ويخدمونه بما يمتلكون من قابلیات بل وحتى الذين لا يمكنهم العمل لا بد من شمولهم بما يؤمن العيش الكريم لهم.

وأقر الإسلام مجموعة من الواجبات المالية كالزكاة والخمس والكفارات والصدقات تفرض على البعض حتى لا يحصل ذلك التفاضل الكبير ولغرض استفادة الفقراء من أموالهم، قال تعالى «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (18) و «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون» (19)

وأكد القرآن على الاهتمام بالطبقات الاجتماعية الفقيرة، قال تعالى «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» (20)

وكذلك الاهتمام بالمتعففين «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون

ص: 195

ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسياهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم» (21)

3- احترام حقوق الإنسان

لقد كفل الإسلام للفرد في المجتمع حق الحرية لكنه مسؤول عن أفعاله واختياره، وتشمل حرية الفكر والمعتقد، وللإنسان الحق بأن يعيش حياة كريمة آمنة، يحياها ویمارس أنشطته بها، دون تقييد أو خوف، وله الحرية المطلقة بكيفية العيش، وليس لأحد التدخل به أو بشؤونه مادام يتصرف في حدوده، وحق الملكية لما يملكه ويتصرف فيه، وحرمة الاعتداء على أمواله قال تعالى «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما کسبا نکالا من الله والله عزيز حكيم» (22) و «ولا تأكلوا أموالكم بینکم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون» (23)

وكفل للفرد كذلك حق الكرامة للإنسان حق الكرامة فهو مكرمٌ عند ربه قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (24) وحق التعليم وحق العمل، وأيضا حرر الإسلام المرأة من الظلم وأعطاها كافّة حقوقها، وحافظ عليها وسترها و کرمها،، وقد أعطاها الكثير من الحقوق المختلفة منها الحقّ في اختيار الزوج المناسب، وتكوين أسرة سعيدة ومثالية، ومنع تزويج الفتاة بالإكراه، بالإضافة إلى إعطائها الحقّ في التعليم.

4- التكافل الاجتماعي:

قال تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (25)

يقول محمد أبو زهرة: (يقصد بالتكافل الاجتماعي في معناه اللفظي أن يكون

ص: 196

آحاد الشعب في كفالة جماعتهم وأن يكون كل قادر أو ذي سلطان كفيلاً في مجتمعه يمده بالخير وأن تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد ودفع الأضرار ثم المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي وإقامته على أسس سليمة» (26)

ويمكن القول إن التكافل هو التزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع و مصالحه. و ليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوي من شعور الحب والمودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج و تأمين حاجته بما يحقق له حد الكفاية.

ومن مظاهر التكافل الاجتماعي كفالة كبار السن وكفالة الأرامل والأيتام وكفالة الفقراء والمساكين

5- وجود الحاكم العادل:

مهما كثرت الدعائم والأسس للعدالة الاجتماعية فإنها لا تتحقق إلا بوجود حاکم عادل يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.

ولا بد للحاكم من صفات يمتاز بها تؤهله لقيادة رعيته، بيد أن هناك صفات خاصة رجحت كفة مالك واختياره من قبل أمير المؤمنين ع لهذه الولاية، فهو مالك بن الحارث بن عبد يغوث الكوفيّ، المعروف بالأشتر، وهو من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام). أدرك رسول الله وهو من ثقاة التابعين وكان رئیس قومه، وكان الإمام عليّ (عليه السلام) يثق به ويعتمد عليه، وطالما كان يُثني على وعيه وخبرته وبطولته وبصيرته وعظمته، ويفتخر بذلك.

أوّل حضور فاعل له كان في فتح دمشق و حرب اليرموك وفيها أُصيبت عينه

ص: 197

فاشتُهر بالأشتر، وكان طويل القامة، عريض الصدر، عدیم المثيل في الفروسيّة. وكان لمزاياه الأخلاقيّة ومروءته ومَنعته وهيبته وأُبّهته وحياته، تأثیر عجیب في نفوس الكوفييّن

وحينما أرسله الإمام عليه السلام قال: بعثت إليكم يا أهل مصر عبدا من عباد الله لا ينام أيام الخوف «فمالك الاشتر معروف بحزمه وشجاعته وقوته في دينه وإيمانه وإخلاصه في أقواله وأفعاله ورجاحة عقله وحسن تدبيره فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيها طابق الحق فانه سيف من سيوف الله» (27).

وقد حكي: «أن مالك الأشتر کان مجتازا بسوق وعليه قميص خام، وعمامة منه، فرآه بعض السوقة فأزری بزیه، فرماه ببندقة تهاونا به، فمضى ولم يلتفت. فقيل له: ويلك أتعرف لمن رميت؟ فقال: لا. فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام). فارتعد الرجل، ومضى إليه ليعتذر إليه، وقد دخل مسجدا وهو قائم يصلي فلما انفتل انكب الرجل على قدميه يقبلهما. فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: اعتذر إليك بما صنعت. فقال: لا بأس عليك، والله ما دخلت المسجد إلا لأستغفر لك» (28).

يقول الشيخ القمي: «انظر كيف كسب هذا الرجل الأخلاق من أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمع انه من أمراء جيش أمير المؤمنين، وكان شجاعا، وشدید الشوكة» (29)

وبالجملة فمع هذه الجلالة والشجاعة والشدة والشوكة يصل به حسن خلقه إلى أن يستهزئ به رجل سوقي، فلا يظهر في حاله أي تغيير وتبدل، بل يذهب إلى المسجد ويصلي، ويدعو ويستغفر له. وإذا تلاحظ جيدا فان هذه الشجاعة التي عنده وغلبه هوى نفسه أعلى مرتبة من شجاعته البدنية. قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 198

(أشجع الناس من غلب هواه) (30)

هذه هي أهم أسس العدالة الاجتماعية وقد سلط عهد أمير المؤمنين ع الأضواء على جانب من عدالة السلطة ورعاية حقوق الإنسان في عهد أمير المؤمنين الإمام الخالد علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويعتبر كدعامة أساسية للحق والعدالة في تاريخ البشرية

وكان الإمام هو الشخص الأول بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وضع القواعد الدستورية الإسلامية الحقة في موضعها الصحيح وإتباعه أقوم الأنظمة العادلة لحفظ التوازن بين طبقات المجتمع وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بين الراعي والرعية وكذلك ضمان حقوق الإنسان على أساس العدل الاجتماعي والحق والمساواة، ولقد تجلى كل ذلك في سيرة الإمام العملية من خلال خطبه ورسائله ورقابته المستمرة إلى ولاته أو عماله على الولايات وكان القصد منها بناء سلطة عادلة قوامها الإدارة الذاتية للجماهير المؤمنة وتحريرها من كل الإدارات القمعية والفوقية أو التسلطية على أفراد المجتمع وتحرير الناس من آفة الفقر وتحقيق المساواة والعدالة المرجوة

ولأهمية موضوع العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ولأخذ العبر والدروس المستنبطة من الوثائق المهمة التي دونها التاريخ بصدق بحق شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودوره في معالجة الفساد بأنواعه في السلطة ووقوفه دائماً في الدفاع عن حقوق الإنسان بعكس الكثير الذين يركضون وراء التهافت على السلطة وترك حقوق الإنسان عند الاستيلاء على كرسي الحكم... تناولت هذا الموضوع الحيوي المهم.. والذي سنعرض فيه التطبيقات العملية للعدالة الاجتماعية وخاصة فيما يتعلق بالطبقة السفلى في هذا العهد.

ص: 199

المبحث الثاني طبقات الرعية والعدالة الاجتماعية بأصناف الطبقة السفلى

وتوصيات الإمام للراعي

المطلب الأول: طبقات الرعية

قال الإمام علي (عليه السلام): «و اعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض و لا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله و منها كتاب العامة والخاصة و منها قضاة العدل و منها عمال الإنصاف و الرفق ومنها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس، و منها التجار و أهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات و المسكنة».

إن تصنيف المجتمع إلى طبقات لا يمت إلى المال أو الجاه أو النسب أو الدين أو المذهب بصلة بل صنفه على أساس الأعمال والوظائف الاجتماعية التي ورثتها الإنسانية جيلا عن جيل. (لا يصلح ...) أي لا تستقيم الحياة في أي مجتمع ما لم تكن مصلحة مشتركة بين الجميع من فلاحين وعمال ومهندسين ومعلمين وعلماء .. الخ

ود ذكر الإمام (عليه السلام) تسع طبقات:

1. جنود الله نسبهم الإمام إلى الله لأنهم يجاهدون في سبيله دفاعا عن الدين والمسلمين وبلادهم.

2. کتاب العامة والخاصة: كتاب العامة من يحرر الشؤون العامة كالضرائب ونحوها، والمراد بالخاصة من يحرر للقاضي والوالي وآمر الجيش

3. قضاة العدل

4. عمال الإنصاف والرفق أي الولاة الذين يعينهم الخليفة لينصفوا الناس ويرفقوا بهم

ص: 200

5. أهل الجزية من أهل الذمة وهم أهل الكتاب الذين يقبلون بشروط المسلمين

6. الخراج من مسلمة الأمة الذين يدفعون الخراج وهم المسلمين

7. التجار

8. أهل الصناعات

9. الطبقة السفلى: الفقراء والمساكين وذوي الحاجة من أرامل وأيتام والعاجزين عن العمل وكل کاسب لا يسد دخله نفقته ونفقة عياله (31)

فبعد تعرَّضه (عليه السلام) لأقسام الرعية وأصنافها، بيّن أن كل قسمٍ منها يحتاج للقسم الآخر ومرتبط به ارتباطاً عضوياً، حيث إنَّ كل تلك الأقسام تشكِّل نظاماً متكاملاً متماسكاً، فهي بمثابة الجسم الواحد، وعيّن لكل صنف مسؤوليته ومهمته حتى لا تتداخل الأمور وبالتالي تسود الفوضى.

ومن جانب آخر قسم الإمام (عليه السلام) الرعية إلى فئتين: العامة والخاصة، إذ قال (عليه السلام):

«وليكن أحبّ الأُمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل وأجمعها للرعية فإنّ سخط العامة يجحف برضى الخاصّة وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقلّ له معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقلّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمّات الأُمور ومن الخاصّة وإنّما عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء أهل العامّة من الأمّة فليكن لهم صَغوك واعمد لأعمّ الأُمور منفعة وخيرها عاقبة ولا قوّة إلاّ بالله»

لقد حث الإمام علي (عليه السلام) على ضرورة الصلة الحية بين الوالي والعامة من الأمة، مشيراً إلى أن الأمة تنقسم إلى العامة «أي الأكثرية»، والخاصة أي الطبقة

ص: 201

التي تشكل فئة الأثرياء والوجهاء.

وقد يكون تضامن الولاة مع بعض المراتب الاجتماعية يؤثر سلباً أو إيجابا على مرتبة دون أخرى.

وهنا أصبح الوالي ملزماً بتحقيق المعادلة المتزنة بين الطبقتين ولا يخطئ بالتمسك فقط بالطبقة الخاصة أو العليا، وبذلك يخسر الطبقة الأخرى الواسعة وهي ذات الطابع الاجتماعي الكبير من متوسطي الدخل وتجار صغار وعمال وفلاحين و فقراء ومساکین وغيرهم، بينما التقرب من العامة هو الأسلم وقد لا يخسر كل الطبقة الخاصة، لأن العامة من الأمة هي المصدر الدائم للواردات الاجتماعية المتجددة التي تمد المجتمع بالعطاء الإنتاجي والثقافي والاجتماعي وبذلك يكون العامة من الشعب أو الأمة هم عماد الدين وجماع المسلمين،

إرضاء العامة

ولكون العامة كما ذكر يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف وغيرهم فإن الحكومة مدعوة لإرضائهم وتنفيذ رغباتهم المشروعة،

وقد حكى هذا المقطع من العهد مدى أهمية العامة عند الإمام وأن رضاهم موجب لنجاح الحكومة وسخطهم موجب لدمارها، وأن العامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم أكره للإنصاف وأقل شكراً عند العطاء، وإن عماد الدين وقوام السلطة إنما هو بالعامة دون الخاصة.

ص: 202

المطلب الثاني: العدالة الاجتماعية بأصناف الطبقة السفلى

ذكر الإمام علي (عليه السلام) في العهد: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسي و الزمني فان في هذه الطبقة قانعا و معترا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسما من بیت مالك و قسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى و كل قد استرعیت حقه ولا يشغلنك عنهم بطر فانك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، و تفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمة العيون و تحتقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم و كل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، و تعهد أهل اليتم و ذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له و لا ينصب للمسالة نفسه و ذلك على الولاة ثقيل و الحق كله ثقيل)

ونبين هنا معاني بعض المفردات التي وردت في هذا النص من كتب اللغة:

فقد ذكر الفراهيدي: «القانع: السائل، والمعتر: المعترض له من غير طلب» (32)

وقال ابن منظور: «الفقراء الزمني الضعاف الذين لا حرفة لهم لسان العرب» (33)

بينما ذكر في تاج العروس: «الفقير من له بلغة: من العيش، والمسكين: من لا شئ له» (34)

أما ابن منظور فقال: «فأما المسكين فالذي قد أذله الفقر، فإذا كان هذا إنما مسکنته من جهة الفقر» (35)

«والزمانة: العاهة، زمن يزمن زمنا وزمنة وزمانة، فهو زمن، والجمع زمنون، وزمين، والجمع زمني لأنه جنس للبلايا التي يصابون بها ويدخلون فيها وهم لها

ص: 203

کارهون .... والسطيح: المستلقي على قفاه من الزمانة لسان العرب» (36)

أما البائس فقد قال سيبويه: البائس من الألفاظ المترحم بها كالمسكين... والبؤسی: خلاف النعمي. (37)

وأما الصوافي فهي: «الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها، واحدتها صافية. واستصفی صفو الشي: أخذه» (38)

لقد اهتم الإمام (عليه السلام) كثيراً بطبقة الفقراء والمساكين أو الكادحين وذوي الحاجة والذي فاق سائر الطبقات لأنه كان يعيش بقلبه وروحه وجسمه وسائر شؤونه مع هذه الطبقة، ولقد عاش آلام المحرومين منهم والمعذبين وهو خليفة المسلمين، فهو يوصي ولاته بإعطاء حقوقهم كما ينبغي من بيت مال المسلمين وتنفيذ احتياجاتهم.

عن الاصبغ بن نباتة، قال: سمعت عمار بن یاسر يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها، زینك بالزهد في الدنيا، وجعلك لا ترزأ منها شيئا، ولا ترزأ منك شيئا، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعا، ويرضون بك إماما، فطوبى لمن أحبك وصدق فيك (39)

وقد سعى أمير المؤمنين (عليه السلام) جاهداً لرفع الغُبن والحيف عن هذه الطبقة، خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها، وهي خمس سنوات، وقد نجح إلى حدٍ بعيدٍ في هذا الاتجاه، وإن كانت المدة التي حكم فيها غير كافية لقلع جذور الفقر والاستضعاف.

يقول جورج جرداق: «إنَّ لعلي بن أبي طالب في حقوق الإنسان أصولاً وآراء، تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع» (40)

ص: 204

ويتضح من سياسة الإمام علي عليه السلام مدى حرصه على رعاية حقوق أفراد الأمة والوقوف بجانب المستضعفين دائماً، لأنهم يحتاجون إلى رعاية الوالي، وربما يطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب التي دعت الإمام (عليه السلام) إلى اتخاذ هذا الموقف، وما العوامل التي ساهمت في دعمه للفقراء والمستضعفين ومناوأة الأقوياء المستغلين؟

إن مجمل سيرة الإمام (عليه السلام) منذ طفولته وحتى توليه الخلافة والظروف التي أحاطت بها تجيب على هذا التساؤل، وربما يمكننا عرض بعض النقاط التي قد تساعد على إبراز الملامح الأساسية في شخصية الإمام (عليه السلام) وتفسر موقفه الخاص من المستضعفين، وهي:

1. إن الظروف الاقتصادية الصعبة التي نشأ فيها الإمام ع جعلته يشعر بمعاناة الفقراء والمحتاجين، وينفر من حياة الأغنياء، ويرى في ذلك مظهراً من مظاهر الظلم والاستغلال للفقراء والمعذبين، قال الإمام علي (عليه السلام): (إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك) (41)

2. إن نشأة الإمام علي (عليه السلام) في بيت النبوة وصحبته الطويلة للرسول الأكرم ص وإيمانه بالإسلام منذ وقت مبكر قد جعله يستوعب ويتشبع بقيم الدين ومثله العُليا، والتي يمكن إيجاز الجوانب الاجتماعية منها في النقاط التالية:

أ- إن الناس عباد الله وخلقه، وان التفاضل بينهم في الإسلام لا يقوم على أساس الثروة والنسب وإنما على أساس التقوى والعمل الصالح.

ب- إن المال مال الله، والناس مستخلفون للعمل فيه واستثماره وفقاً لأوامر الله، فلا

ص: 205

يجوز لصاحب المال أن يحتكر المال أو يتخذه أداة للظلم والاستغلال والتعالي على الفقراء والمحتاجين، بل إن من واجبه أن يضع هذا المال في خدمة الناس والمجتمع.

ج- إن الحياة الدنيا طريق الآخرة فلا ينبغي للإنسان أن يتشبث بأسباب الدنيا ويتعلق بها كأنه مخلد فيها، وإنما عليه يتزود منها تزود الزاهد الذي يرى في كثرة المال عبئاً يعيق الحركة لذا عاش الإمام ع قليل المال زاهداً منه حتى بعد أن أقبلت الدنيا على المسلمين وغدا بإمكانه أن يجمع من المال والثروة ما شاء..

3. إن قوة الإمام (عليه السلام) وشجاعته وروح الفروسية التي كان يتحلى بها قد جعلته يؤمن بالحق ويدافع عنه ولا يقبل المساومة عليه لذا كانت سياسته امتداداً لسياسة النبي الأكرم «ص» ومكافحة الباطل والمنافع الدنيوية التي تقوم عليها الدول الإمبراطورية والملكية التي يتخللها الاستبداد وغصب حقوق الآخرين

وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر «ثم الله الله في الطبقة السفلى.. وذوي الرقة... والحق كله ثقيل»

فالإمام (عليه السلام) يوصي مالك في قوله:... الله الله - يا مالك - في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم: أي لا سبيل لهم لإدارة أمورهم، من المساكين: المسكين هو الذي أسكنه الفقر من الحركة، والمحتاجين - المحتاج هو صاحب الحاجة، وأهل البؤسي - أي شديدي الفقر - والزمني - أي ذوي الأمراض والعاهات التي تمنع عن العمل، فإن في هذه الطبقة قانعاً: أي سائلاً، ومعترّاً - أي متعرّضاً للعطاء بلا سؤال، واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلّات صوافي الإسلام في كلّ بلد، وصوافي الإسلام وهي الارضون التي لم يوجف عليها بخيل أو رکاب وهي صافية لرسول الله فلما توفي صارت لفقراء المسلمين، أو هي كل مال مشاع للمسلمين.

ص: 206

وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن

وخص الإمام الأيتام والشيوخ العجزة بالرعاية لأنهم أولى من غيرهم، وهذا يصعب على الوالي أن يتفقد ذلك إلا إذا كان قويا في إيمانه تهون عليه الصعاب طلبا لمرضاة الله.

المطلب الثالث: وصايا الإمام ع بحق الطبقة السفلى

يوصي الإمام بالطبقة السفلى لأنهم ليسوا من الجند أو القضاة أو الموظفين أو الصناع وإنما من العمال المأجورين في الزراعة والبيوت، وفي محلات التجارة وعمال البناء ومن الشيوخ والعجزة والعاطلين عن العمل وغيرهم.

وهم الغالبية العظمى في اغلب الشعوب إضافة إلى كونها الطبقة المستغلة والمضطهدة من بين طبقات المجتمع، فالأغنياء لا يعطونهم من ثمن الخدمات إلا دون الكفاف، وهم يتأثرون بالوضع الاقتصادي أكثر من غيرهم، وهذه بعض وصایا الإمام (عليه السلام) والتي قسم منها ينطبق على طبقات أخرى والقسم الآخر ينطبق عليها بصورة خاصة.

وهذه جملة من وصاياه (عليه السلام):

1. أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به لمالك الأشتر بعد أمره بتقوى الله وإيثار طاعته والالتزام بما جاء في الكتاب الكريم أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى، قال (عليه السلام): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»، وفي هذا تثبیت لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس،

ص: 207

وتقوية لبنية النظام والحكومة، «أشعر قلبك الرحمة»: أي اجعلها كالشعار له، وهو الثوب الملاصق للجسد لأن الرعية إما أخوك في الدين أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية و طبع البشرية الرحمة له» (42)

فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها، فالقائد الذي يمنح رعيته الحب والعاطفة يكسب في المقابل حبهم وثقتهم وعاطفتهم، وأن لا يشمخ عليهم بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم.

وكأنه لضمان العلاقة بين الراعي والرعية لا يكتفي بمجرد رعاية الوالي للرحمة والمحبة واللطف في التعامل مع الرعية وبجميع مكوناتها المختلفة

المطلوب هو الانطلاق من الذات، ومن المركز الستراتيجي للذات، الانطلاق من القلب، لتبدأ بزراعة الحب والرحمة واللطف، حتى يتحول ذلك الحب الذي يسع جميع مكونات النسيج الاجتماعي إلى ملكة، فتحب الرعية بتعدديتها حبّاً متواصلاً و نابعاً من القلب

يشير (عليه السلام) إلى عدم جدوى كل ما تقدّم ما لم يعزّز بتكريس حقوق الرعية، وتحاشي الإضرار بها، و بمكوّناتها المختلفة بقوله: ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً - أي تضرهم - تغتنم أكلهم - أي تهضم حقوقهم.

2. العفو عن المسيئين: «يفرط بينهم الزلل، وتعرض لهم العلل»، وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أو زلل، ويمنحهم العفو والرضا لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها ويستمر الإمام عليه السلام في عهده بالرفق بالرعية ولا يصح أن يتخذ الحاكم أمر الزلل في حياة الناس حجة لاضطهادهم وعقوبتهم والتشديد عليهم، فالأخطاء توقعهم في الزلات فيتعامل الحاكم معهم بالرفق والعفو دون العنف إلا في حالة الإصرار على الجرائم والكبائر.

ص: 208

وقال الإمام (عليه السلام): «فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه و صفحه»

إذ يؤصّل عليه السلام للعفو والصفح لخلق الأرضية الخصبة للتسامح، إذ يقول: فأعطهم من عفوك وصفحك... و لاتندمن على عفو - إذ العفو أحسن عاقبة من الانتقام «ولا تبجحن بعقوبة» أي لا تفرحن بسبب ما عاقبت به أحداً، فإن العقوبة شرّ عاقبة مهما كانت حقاً.

يقول (عليه السلام): فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، «ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة... ولا تقولن: إني مؤمرٍ أمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير» حکی هذا المقطع الأساليب التي يجب أن تتوفر في الولاة من عدم الندم على عفو اصدر على مواطن، وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد، وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم، فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين، وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله، عليهم فإنه المالك لهم. فقد قال الإمام إن التبجح بالسلطان.. (فإن في ذلك ادغال في القلب) أي إفساد ومنهكة للدين (أي ضعف للدين) وتقرب من الغير (أي تقلب الأحوال» وعلى ضوء ذلك يسقط الحاكم

3. جاء الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له، فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته، وهذه کلماته قال (عليه السلام): «أنصف الله تعالى، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله تعالى، كان الله عز اسمه خصمه دون عباده»

وذكر الإمام (عليه السلام): ولا تنصبن نفسك لحرب الله فان لا يدلك بنقمته

ص: 209

(أي قدرة لديك) ولا غني لك عن عفوه» لأن من يظلم الناس يدخل في دائرة محاربة الله فهم عباده.

«ومن ظلم عباد الله.. كان لله حربا حتى ينزع أو يتوب» فظلم العباد يعني إعلان الحرب على الله تعالى

4. والملاحظ أنَّ الأمير (عليه السلام) طلب من واليه على مصر أن يُشرف بنفسه على أوضاع هذه الفئة، مضافاً إلى الإشراف العام، وحذَّره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم، وأداء حقوقهم المالية والقانونية والشرعية و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك

«واجعل لذوي الحاجات منك قسما» خصص من وقتك لسماع طلباتهم وحوائجهم فلا تجعل بينك وبينهم حجابا. (43)

5. وإياك و المن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو إن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الإحسان و التزيد يذهب بنور الحق و الخلف يوجب المقت عند الله و الناس، قال الله سبحانه و تعالى كبر مقتا عند الله إن تقولوا ما لا تفعلون.

6. عدم الاحتجاب عن الرعية: مما لا شك فيه إن السلطة هي سريعة الانعزال عن الجماهير أو الناس لماذا؟ وذلك لأنها كما هو واضح تشكل حول نفسها بما تملكه من نفوذ وقوة أي كيان عسكري لحمايتها وغيرها من الأمور مثل المال أو الثروة الطائلة والمهمات والأعمال، وان السلطة العليا تزداد عزلة كلما ازدادت طبقية وطغياناً وابتعاداً عن الجماهير، وفي اغلب الأحيان يلعب الوسطاء دوراً سيئاً أو مشوهاً عن الصور الحية للجماهير مما يعيق عملية النمو الحضاري والتقدم

ص: 210

الاجتماعي فتصادر بذلك حقوق الناس ولأنه قد يجد الوسطاء أنفسهم بدلاء عن قنوات الصلة الحقيقية للدولة والشعب وبذلك تضطرب عملية التفاعل الصحيح بين المجتمع والدولة وتتجه الجماهير إلى الابتعاد عن السلطة...

7. قال الإمام علي (عليه السلام) في كتابه إلى الاشتر «وأما بعد هذا فلا يطولن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم الأمور والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل.

8. وهكذا تتسامی شخصية الوالي في تواضعها كما يصفها أمير المؤمنين عندما تلتقي بالرعية وذوي الحاجات، ويطلع على أحوالهم ويحل مشاكلهم وبعيداً عن شرطة وهيبة السلطان حتى يعطي الحرية التامة في التحدث والتعبير عن الآراء بدون اضطراب ولا خوف ولا تكون امة طاهرة مستقيمة نزيهة إذا لم يؤخذ حق الضعيف وبلا تردد أو خوف.

وما يسببه الاحتجاب: ضياع الثقة وهدم روح التضامن والتقارب بين الراعي والرعية

«الوالي الذي يحتجب عن شعبه ويكون بمعزل عنه وترفع عليه يعود بالأضرار البالغة عليه والتي منها فتح أبواب المعارضة عليه ونقمة المجتمع منه وكراهيتهم الحكمه وسلطانه» (44)

ولقد جاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يتعلق بقواعد وأصول مهمة تتعلق بالحكم والقضاء حيث قال بوصيته إلى مالك الاشتر، ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك من لا تضيق به الأمور ولا تحكه الخصوم ولا يتمادی في الذلة ولا يحصر من الفي إلى الحق إذا عرفه..

ص: 211

وفي هذا الكلام المهم المتعلق في حياة الناس وما يتعلق بالحاكم والمحكوم وكيفية اختيار الحاكم أو القاضي العادل والصبور الذي لا يتمادى في الذلة ولا يتزعزع وغير عجول في اتخاذ القرار ولا يقبل الهدية ولا الوساطة ولا القرابة، هذا هو عهد الراعي إلا مثل لرعيته منذ توليه الخلافة.

9. وقال الإمام (عليه السلام) «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فان في إصلاحه وإصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، .... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر»

ذكر الطريحي (اسم الخراج يطلق على الضريبة والفيء والجزية والغلة ومنه خراج العراقين» (45)

مما يتضح إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أولى أهمية قصوى على طبقة المتمولين أو أهل الخراج من طبقات المجتمع، وبمعنى أن خزينة الدولة جيوب رعاياها أي إن الدولة تعتمد في تلافي الأموال اللازمة لنفقاتها المبرمة على الضرائب التي تجبيها من الشعب وكلما زاد الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري زادت الثروة الشعبية وتجلت المنافع الوطنية فليس من الحزم إن تكون الضرائب حائلاً دون الرقي الشعبي ولقد جاء في احد الأقوال لأمير المؤمنين «لا يكون عمران حيث يجور السلطان» (46)، حيث إن الضرائب والتكاليف الثقيلة أعظم في ويلاتها من المنافع التي تتوخاها الحكومة بتوسيع دائرة اختصاصها.

وخراب الأرض وفسادها هو بسبب (إعواز أهلها) فقرهم، وسبب وسبب ذلك هو طمع ولاتهم في الجباية وجمع الأموال لأنفسهم وسوء ظنهم بالبقاء يظنون طول البقاء

ص: 212

وينسون الموت أو إنهم يعتقدون أنهم سينعزلون وينفصلون عن الوظيفة فينتهزون الفرص لاقتطاع الأموال فانصرفوا عن عمارة البلاد.

10. العدل في العطاء: دعاه إلى أن لا يميّز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بيت المال؛ لأنّ المسلمين سواءٌ في تناول الحقوق المالية من بيت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء أثناء العهد السابق، فكان ذلك من الأسباب التي دعتهم إلى الثورة على عثمان بن عفان.

قال (عليه السلام): «أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ»

ثمَّ ذكّره بأن يكون هدفه وغايته إقامة العدل، وإحياء الحق، الغاية والهدف الذي من أجله أُرسل الأنبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة، فبالعدل فقط تقوم الأنظمة وتستمر، ويصير للحياة مفهومها ومعناها. أما الحياة في ظل حاكمٍ ظالم، فهي بمثابة السجن

«ولا تقولن أني مؤمر عليكم أمر فأطاع) فيستغل منصبه لاستذلال الناس وظلمهم وإذا اضطهدهم أدى ذلك إلى إضعاف دور الدين في حياة الناس ونفورهم عنه

ص: 213

أما الوصايا الخاصة بالطبقة السفلى إضافة إلى ما ذكر:

1. فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى: أي لا تؤثر أقرباءك أو احد من خاصتك على البعيد الذي ليس له علاقة معك، أو لا تصرف الصوافي إلا في المساكين هذا البلد دون البلد البعيد

2. ولا تشخص همك عنهم أي لا تصرفك مسؤولياتك عن ملاحظة شؤونهم،

3. تفقد أمور من لا يصل إليك منهم من تقتحمة العين أي تكره أن تنظر إليه احتقارا

4. فرغ إليهم ثقتك من رجالك لتفقد أحوالهم ممن عرفوا بالتواضع والعبادة

5. فلا يشغلنك عنهم بطر - أي طغيان الملك والنعمة -، فإنك لا تعذر -

أي لا يقبل الله ولا الناس عذرك التافه القليل، فلا تعذر بتضييعه إن أديت الواجبات المهمة، (لا تعذر بتضعينك التافه) أنت مطالب و مسؤول عن كل كبيرة وصغيرة في الرعية ولا تشغلك كبائر الأمور عن صغارها فلابد من الاهتمام بحاجة كل محتاج وان كانت من التوافه فرب تافه في نظر الناس هو مسالة حياة أو موت عند من يحتاج إليه

6. ولا تصعر خدك: أي دع الكبر والإعجاب

7. (واجعل لهم قسما من مالك) يأمر الإمام أن تكون النفقة على المحتاجين وان يخصص الوالي لهم قسما من الميزانية لتكون حقا مضمونا کرواتب الآخرين، وأما (صوافي الإسلام) فهي ليس سهم النبي ص فقط بل الأموال المشاعة بين المسلمين كافة.

8. ولا تشخص همك عنهم: لا تترفع عن خدمة البائسين ولا تبخل بسعيك لحل مشاكلهم

ص: 214

9. ثم نصح الإمام عامله أن يعين أشخاصا من الأبرار المؤتمنين على مصائر الخلق يتفرغون للبحث عن أحوال الناس ذوي الحاجات ويصغون لمطالبهم ويرفعونها إليه ليعمل على انجازها

لقد حذر الإمام (عليه السلام) الوالي من أمرين هما:

1. أن يمن على رعيته بما يسديه من إحسان إليهم فانه ذاهب إليه.

2. وان يعدهم بإحسان ثم يخالف ما وعده فان هذا مما يوجب مقت الله تعالى ومقت الناس (47)

قال الفكيكي: (له شأنٌ أيُ شأنٍ، وآراؤه فيها (حقوق الإنسان) تتَّصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي). (48)

ومَن عرف علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المسلَّط على رقاب المستبدِّين الطُّغاة، وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وحكومته وسياسته. (49)

ص: 215

الخاتمة والتوصيات:

إن مدرسة علي بن أبي طالب عليه السلام التربوية هي مدرسة البشر التاريخية على مر الأجيال، ولأنها مدرسة جامعة لكل المبادئ الهادفة إلى قيام أنموذج الإنسان الأمثل، والذي ظل دائماً حلم البشرية ومناط أمل المصلحين ودعوات الدعاة.

وكم نحن بحاجة لهذه الدساتير والوثائق في واقع الشعوب الإسلامية والعربية المرير وخاصة ما تمر به من مآسٍ وويلات وإضاعة حقوق الناس وخاصة المستضعفين، كل هذا جاء نتيجة لهبوط نسبي في ثقافة الحق والعدل والصفات السامية التي كان يؤكد عليها أمير المؤمنين ع في التكامل الإنساني مع الرعية وبالمقابل نجد هنالك تنامياً وصعوداً كبيراً في ثقافة التسلط والعنف واستغلال كرسي الحكم وهضم حقوق الآخرين.

لقد حقق علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في دور حكومته أهم ما يتطلبه الإسلام من أهداف فقد قضى على الغبن الاجتماعي والظلم الاجتماعي وحقق للمسلمين أهم ما يصبون إليه من العدالة والمساواة، فقد التزم الإمام بالحق حتى وُصف على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «علي مع الحق والحق مع علي»

ولو أردنا استقراء نظامه في الحكم نجد إن كثيراً من الدساتير العالمية المتطورة الحديثة تأخذ مضامينها من ذلك النظام العادل والنظرة السامية لحقوق الإنسان وخاصة عهده (عليه السلام) إلى الصحابي مالك الاشتر حين ولاه مصر وإعمالها حيث يعد في طليعة الآثار الخالدة لما اشتمل عليه من قواعد وأصول تتعلق بالإدارة والقضاء ولقد احتوى على فصول مهمة حددت القواعد التشريعية والسياسية والإدارية والقضائية والمالية والنظريات الدستورية ولأهمية هذا العهد الخالد وعظمته فقد انبرى علماء ومفكرون على شرحه ودراسته

ص: 216

وتبعاً لمنطلقات العدل المتكامل كان علي ابن أبي طالب (عليه السلام) یركز على عملية التغيير الاجتماعي وهي إحقاق الحق بين طبقات الأمة وفقاً لدور تلك الطبقات في البناء الاجتماعي حيث وكما هو معروف إن فكرة العدل قائمة في التطبيق الاجتماعي لها ومن وجهة نظر الإصلاح الإنساني، وما فائدة العدل الفردي إذا كانت شروط العدل الاجتماعي معدومة لان العدل الفردي يخص فرداً واحداً فيما يخص العدل الاجتماعي للبشرية جماعات وأفراداً.

وهذه جملة من التوصيات:

1. إن البشرية واحدة في الأصل الإنساني، والناس أبناء أسرة وعائلة إنسانية واحدة، والله عز وجل هو الذي كرّم الإنسان دون تمييز قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» سورة النساء الآية: 1.

فالكل مخلوق من نفس واحدة،، فلا داعي للتمييز والتفرقة في الامتيازات والعطايا.

2. الحفاظ على كرامة الرعية وان لا تترك لتعاني الفقر والعوز كما في قوله: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» سورة الإسراء الآية: 70

ويحدد الله عز وجل معيار التفاضل بالتقوى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» سورة الحجرات: الآية: 13.

3. حث الأغنياء على مساعد الفقراء وتجاوز محنهم وحفظ ماء وجههم، وقد أكد الإسلام على التكافل الاجتماعي، ونلاحظ تأكيد المرجعية الرشيدة تحث دائماً على هذا الأمر، وأولت موضوع الفقراء اهتماما خاصا، بل وأكدت ذلك من

ص: 217

خلال مساعدتها للفقراء والنازحين.

4. ترتیب معاش للمعوزين رعاية اجتماعية وصرف مخصصات إضافية لهم لتشمل أطفالهم

5. وحبذا لو تشكل لجان في وزارة التعليم العالي والتربية لادارج نهج البلاغة في الكتب الدراسية المنهجية في التعليم الثانوي والجامعي، لأنه يشيع ثقافة السلطة العادلة والتي نحن بحاجة إليها في كل وقت وخاصة الوقت الحاضر، ومن المؤسف إن تؤخذ مضامين هذا الكتاب وهذا العهد من دول غربية لا علاقة لها بالإسلام وتطبق بنود كثيرة في السلطة والقضاء وحقوق الإنسان وغيرها، ونحن في الدول العربية والإسلامية بعيدون كل البعد عن ذلك، فمن العجيب إن نرى نهج البلاغة غريبا حتى في الأوساط الشيعية بل وحتى الحوزات العلمية والكليات الإسلامية.

6. إن عدم الاهتمام بالرعية والطبقة السفلى وإهمال شانهم وعدم رعايتهم وعدم بذل المساعدة لهم، قد جر على كثير من الممالك عظيم الويلات وأنواع الكوارث التي عصفت بالبلاد وبعظماء السلاطين مما أدى إلى تفشي الفساد في الحال والعقيدة وغير ذلك. قال رسول الله: إذا بغض الناس فقراءهم واظهروا عمارة الدنيا رماهم الله بأربع خصال بالقحط من الزمان

7. من أعدى أعداء العدل هو التحيز والميل لإنسان دون أخر بحيث يعطيه أكثر من حقه وينقص الآخر، فالقاضي عليه إن يطبق القانون على الأفراد بدون ميل لأحد على حساب الآخر، ومن أسباب التحيز: الأقارب حسن المظهر وفصاحة قوله المصلحة الشخصية ومنصبه ومعارفه.

والحمد لله رب العالمين

ص: 218

فهرست الهوامش

1. کتاب العين - الخليل الفراهيدي 2 : 38، 39

2. لسان العرب - ابن منظور 11: 430

3. مفردات غريب القرآن - الراغب الاصفهاني

4. العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم عبدالله احمد اليوسف ص 28 29

5. تفسير الميزان، ج 6 ص 205

6. تفسير القرآن الكريم ج 2 ص 237

7. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق: ص 112

8. علم الأخلاق أرسطو طاليس ص 129

9. نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام ج 4 ص 102:

10. في رحاب نهج البلاغة مرتضى المطهري ص 87

11. بحار الأنوار 72: 38

12. مستدرك الوسائل، لميرزا النوري 12 / 89 / 13598

13. کنز العمال - المتقي الهندي 737

14. التكافل الاجتماعي في الإسلام لأبي زهرة ص 7

15. ظ: في ظلال نهج البلاغة ج 5 محمد مغنية ص 391

16. سفينة البحار: الشيخ عباس القمي، ج 1، ص 686،

17. منازل الآخرة والمطالب الفاخرة - الشيخ عباس القمي ص 210

18. بحار الأنوار 67: 76

19. ظ: في ظلال نهج البلاغة مغنية ج 5 نهج البلاغة مغنية ج 5 ص 396 - 398

20. كتاب العين - الخليل الفراهيدي ج 1 ص 170:

ص: 219

21. ابن منظور ج 5 ص 61:

22. تاج العروس - الزبيدي ج 3 ص 473:

23. لسان العرب - ابن منظور ج 5 ص 61:

24. لسان العرب، ابن منظور ج 2 ص 483، ج 13 ص 199

25. لسان العرب - ابن منظور ج 6 ص 21:

26. لسان العرب - ابن منظور ج 14 ص 463:

27. الأمالي - الشيخ الطوسي ص 181

28. علي وحقوق الإنسان، ص 105.

29. نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام 4: 78: 328

30. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17: 33

31. ظ: في ظلال نهج البلاغة، مغنية، 397

32. شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (علية السلام) لمالك الأشتر باقر شريف القرشي ص 55

33. مجمع البحرین 1/ 632

34. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي: 540

35. علي وحقوق الإنسان جورج: 112

36. الراعي والرعية: توفيق الفكيكي: 119

37. علي وحقوق الانسان، جورج ص 106

ص: 220

فهرست المصادر

* القرآن الكريم

* نهج البلاغة

1. الأصفهاني - الحسين بن محمدة (الراغب)، مفردات غريب القرآن، ط 1 دفتر نشر الكتاب، 1404 ه

2. ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم، لسان العرب، الناشر: أدب الحوزة 1405

3. أبو زهرة، محمد التكافل الاجتماعي في الإسلام، طبع و نشر: دار الفكر العربي - القاهرة - 1991

4. جرداق جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية جورج، الدار العربية للموسوعات الطبعة الأولى بيروت لبنان، 1426 - 2006

5. جرداق، جورج، علي وحقوق الإنسان، ط 1، الناشر: الدار العربية للموسوعات، 2006

6. الخميني، مصطفی، تفسير القرآن الكريم، ط 1، مطبعة: مؤسسة العروج، تحقیق ونشر: مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخميني، 1418 ه

7. الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، منشورات مكتبة الحياة بيروت لبنان

8. طاليس - علم الأخلاق أرسطو نقله للفرنسية بارتلي سانتهلير ونقله للعربية احمد لطفي السيد دار الكتب المصرية القاهرة، 1924

9. الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرسين،

ص: 221

قم المقدسة

10. الطريحي، فخر الدين مجمع البحرین، تحقيق: أحمد الحسيني، ط 2، الناشر: مکتب نشر الثقافة الإسلامية، 1408 ه

11. الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق و تصحیح: بهزاد الجعفري، علي الغفاري، الناشر: دار الكتب

12. الفراهيدي الخليل بن أحمد، کتاب العین، تحقيق: مهدي المخزومي، إيراهيم السامرائي، ط 2 ایران، 1409 ه

13. الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية: ، مطبعة اسعد بغداد 1963

14. القرشي باقر شریف، شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر الناشر ماهر مطبعة ستاره ط 1، 2011 م

15. القمي، الشيخ عباس، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، ط 2، الناشر: دار الاسوة للطباعة والنشر، 1416

16. القمي الشيخ عباس، منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، ط 1، قم المقدسة، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين

17. الليثي علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، ط 1، قم المقدسة: تحقیق علي الحسيني البيرجندي، طبع و نشر: دار الحديث

18. المتقي الهندي، علاء الدين علي، کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ط 1، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1989 م

19. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 2 بیروت مؤسسة الوفاء، 1403 - 1983

20. المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، ط 1، بيروت، 1413 - 1992

ص: 222

21. المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ط 1، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه

22. مغنية، محمد جواد في ظلال نهج البلاغة، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي مطبعة ستار ط 1، 1425 - 2005

23. الميرزا النوري، حسين، مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، ط 1، تحقیق: مؤسسة آل البيت ع لإحياء التراث، 1987 م

24. اليوسف، عبدالله احمد، العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم، ط 1، 2008 م

ص: 223

ص: 224

الامن الاجتماعي ووسائل تحقيقه في ظل عهد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه مالك الاشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

علاء عبد الرزاق تدريسي - جامعة بغداد

ص: 225

ص: 226

تلعب الفوارق الطبقية الواضحة وعوامل التمييز بين افراد المجتمع لأسباب عرقية ودينية دورا مهما في تشظية المجتمع وفقدانه لتماسکه و وحدته وبالتالي قيامه بالدور الذي يفترض ان يقوم به في ظل المبادئ الاسلامية الاصلية التي دعا اليها الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم وال بيته الكرام. ولقد جاء عهد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لعاملة على مصر مالك بن الحارث النخعي ليثبت الاسس الخاصة بالعدل والامن الاجتماعي مدركاً طبيعة الظروف السياسية التي سبقت توليه خلافته الظاهرية ولا سيما وقد أرسل مالكاً واليا على بلد شهد بوادر انطلاقة الثورة ضد عثمان بن عفان.

ينطلق البحث من فرضية اساسية الا وهي ان العهد العلوي تضمن جملة من المبادئ الخاصة بتحقيق الامن الاجتماعي والتي يفترض ان يجري التعريف به في بداية البحث والادوات التي تساعد وتعمل على تحقيقه؛ ولم يكتفي العهد بتبیان ضرورات المحافظة على مبادئ الامن الاجتماعي بل امتد ليشمل الوسائل الفاعلة واللازمة لتحقيق هذا المبدأ الهام في الحياة الانسانية.

ينقسم البحث لمبحثين اساسيين يتناول الاول دراسة مفهوم الامن الاجتماعي وتناول الظروف التاريخية والاجتماعية التي رافقت الحقبة التي سبقت تولى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لخلافته الظاهرية، واما المبحث الثاني فيتناول الاليات التي تعمل على وضع مبادئ الامن الاجتماعي موضع التطبيق، ولقد ادرك الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ان توافر الكرامة والحقوق الانسانية للفرد في المجتمع مترابطة مع تحقيق الاليات الخاصة بالأمن الاجتماعي وجعل هذا المبدأ المعول عليه في محاسبة الرعية للحاکم وتغييره اذا أخل بتطبيق شروطه ومبادئه.

ص: 227

مفهوم الامن الاجتماعي

يمكن تعريف الامن الاجتماعي على انه سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تتحداهم كالأخطار العسكرية وما يتعرض له الأفراد والجماعات من القتل والاختطاف والاعتداء على الممتلكات بالتخريب أو السرقة «في حين يرى فريق من علماء الاجتماع أن غياب أو تراجع معدلات الجريمة يعبر عن حالة الأمن الاجتماعي، وأن تفشي الجرائم وزيادة عددها يعني حالة غياب الأمن الاجتماعي، فمعيار الأمن منوط بقدرة المؤسسات الحكومية والأهلية في الحد من الجريمة والتصدي لها وأن حماية الأفراد والجماعات من مسؤوليات الدولة من خلال فرض النظام، وبسط سيادة القانون بواسطة الاجهزة القضائية والتنفيذية، واستخدام القوة إن تطلب الأمر؛ ذلك لتحقيق الأمن والشعور بالعدالة التي تعزز الانتماء إلى الدولة بصفتها الحامي والأمين لحياة الناس وممتلكاتهم وآمالهم بالعيش الكريم. (1)

ولقد ربط البعض من المفكرين الاسلاميين بين الامن الاجتماعي وبين تحقيق مقاصد الشريعة وصلاح الدنيا يتحقق بالأمن على مقومات العيش الانساني الامن، وهو الاساس والطريق لصلاح الدين. (2)

وقد حدد الماوردي قواعد صلاح الدنيا وانتظام عمرانها، وهي عنده ستة أشياء (دین متبع، وسلطان قاهر - دولة قوية - وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح) فإنه قد جعل «الأمن العام» القاعدة الرابعة من قواعد صلاح الدنيا وانتظام العمران، وعن هذه القاعدة يقول: (وأما القاعدة الرابعة فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر به الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس

ص: 228

لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قِوام أوَدِهم، وانتظام جملتهم... والأمن المطلق: ما عَمَّ والخوف قد يتنوع تارة ويعم، فتنوعه بأن يكون تارة على النفس، وتارة على الأهل، وتارة على المال، وعمومه أن يستوجب جميع الأحوال.) (3)

ومن ذلك أيضاً أن الأمن الاجتماعي هو عبارة عن: «حالة تنطلق من الشعور بالانتماء وتستند إلى الاستقرار وتستمد مقوماتها من النظام بمعنى أن تلك الحالة تفترض وجود بناء تنظيمي أو تنظیم جماعي اتفاقي يشعر الأفراد بالانتماء إليه، ويتسم بالثبات والاستقرار والدوام، ويحدد مواقع أعضاء التنظيم وحقوقهم وواجباتهم بما يساعد على توقيع سلوكيات أعضاء التنظيم في الحالات التفاعلية». (4)

والامن الاجتماعي هو: «الطمأنينة التي تنفي الخوف والفزع من الانسان فرداً أو جماعة، في سائر ميادين العمران الدنيوي، والمعاد الاخروي.

والامن الاجتماعي هو سيادة حالة من العلاقات التي تقوم على شعور الفرد بالأمن والطمأنينة نتيجة وجود شبكة من التشريعات والانظمة والتي تضمن حقوقه الاصلية واللصيقة بكونه انساناً بغض النظر عن انتماءاته الفرعية الاخرى، وهذه الحالة من الاطمئنان تفرز تقدماً على مختلف الصعد والاتجاهات وتعزيزاً للقيم التي يحملها الانسان عن نفسه وعن المحيط الذي يعيش فيه بحيث تتولد ثقة متبادلة بين الفرد والسلطات القائمة.

وبعد هذا التوضیح يبدو من المناسب تحديد الكيفية التي تمكن عن طريقها الامام امیر المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من تحقيق أسس الامن الاجتماعي في عهده

ص: 229

لمالك بن الحارث الاشتر رضوان الله تعالى عليه.

وسوف يتم في ثنايا البحث التعرف على اسس الامن الاجتماعي والكيفية التي استطاع العهد العلوي أن يلبيها بأدق تفاصيلها عن طريق

1. العلاقة مع الاخر المختلف في نصوص العهد والتجربة العلوية بشكل عام

2. كيفية توزيع الفيء

3. عمارة الارض واستجلاب الخراج

4. تعامل الوالي مع الرعية

5. النظر بعدل وبدون تحيز لجميع صنوف المجتمع من تجار وصناع وعمال

6. كيفية تنظيم العقوبات والاجراءات الجزائية.

أنّ الانحراف في قيادة التجربة الإسلاميّة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) تحوّل بمرور الزمن الى نظرية وقواعد في الحكم استقرت بشكلها الأكثر انحرافاً في أيام حكم عثمان، فكان الإمام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يمثل الاتجاه الآخر والصحيح وقد برز هذا الأمر جلياً أيام حكم عثمان عندما دخل الإمام عليه السلام في صراع مکشوف وعلني معه ليثبت للأُمّة محتوى واُسس وأخلاقيات نظريته في الحكم الإسلامي وقيادة التجربة، وكانت الاُمّة مهيّئة أكثر من أي وقت مضى للإحساس بحقيقة الاُمور وحقيقة الاختلاف بين منهج أبا بكر وعمر وعثمان ومنهج الإمام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في رؤية الإسلام ووعيه وقيادة تجربته في الحكم والخلافة، لكن هذا التهيّؤ من قبل الاُمّة كان بحاجة الى كثير من الصقل والتدريب لكي يتحوّل من مجرد معرفة ونظر الى موقف عملي ونفسي التحمل أعباء ذلك الوعي فيما يتطلّبه من مواقف وحزم وصبر على المشاق، سواء في جانب التصدّي للانحراف وتحمّل النتائج أو في جانب الصبر على التطبيق الجديد

ص: 230

للإسلام فيما يقرّره المنهج الآخر من زهد في الدنيا وعدالة في التوزيع والحكم والنظرة المتساوية لجميع فئات المجتمع قد لا تصبر عليها النفوس التي درجت وأشربت إتّباع المنهج السابق الذي كرّسه أبو بكر وعمر وعثمان وتحوّل الى ميوعة مطلقة في التعامل مع الحدود والأخلاق الإسلاميّة زمن حكم عثمان. ولهذا قال الإمام مخاطباً الاُمة: «أنا لكم وزيراً خيراً مني لكم أميراً...» أي أن أكون بعيداً عن القرار «وزير» خير وأفضل من أكون في موقع القرار والمسؤولية «أمير» إذ أنّ الموقع الثاني يستبطن إصدار الأوامر والقرارات الصعبة التي تتطلّب قاعدة بشرية واعية ومطيعة قد وطّنت نفسها على خوض غمار الصعوبات، وعلى هذا الأساس فإنّ بيعتكم لي يجب أن تكون بيعة قد أخذت في حسابها جميع هذه الاُمور وإلّا «فأنا لكم وزيراً خيراً مني لكم أمير».

وقد قبلت الاُمّة شورط الإمام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بعد أن بلغ الإصرار أشدّه على الإمام في قبول الخلافة - وكان مقتضى هذا القبول قبول المنهج الجديد في العمل السياسي والاجتماعي والإداري، وكانت خلافته بداية عهد جديد ونقطة تحوّل في الخط الذي وجد بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم. (5)

لقد تولى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الخلافة في أعقاب المشاعر الثورية التي تألّبت ضد عثمان بن عفّان والتي نتج عنها مقتله، والمسلمون وقتئذٍ كانوا في مرحلة تصاعد المعنويات وارتفاعها، وفي لحظة زخم ثوري سليم باتجاه القضاء على الانحراف ومحاولة بناء تجربة إسلاميّة صحيحة، وكان الإمام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بصدد استثمار هذه الحالة وتوظيفها في بناء المجتمع الجديد. فالمهمات التي كانت أمام الإمام تحتاج الى هذا النوع من الطاقة الحرارية والوعي وبدونهما لا يمكن خوض غمار الجهاد لإعادة بناء المجتمع والدولة، الأمر الذي لا يسمح بمهادنة معاوية وإبقاء الباطل ولو مؤقّتاً، لأنّ مهادتنه تعني قتل هذه الروح لما تؤديّه من

ص: 231

الشكّ في حقانيّة الإمام ومبدئيته.

لقد جاء الإمام وهو بصدد القضاء على مظاهر الفساد الحكومي والإداري الذي خلّفه معاوية في الدولة والمجتمع الإسلامي، واجتثاثه مع جميع تأثيراته وجهازه الإداري الفاسد، ولم يكن بالإمكان حتّى في منطق السياسة - إقرار معاوية ومهادنته لأنّ من شأن هذا الإقرار توطيد سلطته وإسباغ المشروعيّة على نظامه الحكومي والإداري وهذا يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام من إضعاف موقف معاوية وصولاً الى إزالته من الشام، كما أنه يتناقض مع ما كان يستهدفه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من ضرورة أن يُدرك الناس حقيقة المعركة بينه وبين معاوية. (6)

ولهذا كان اعتماده على رجال عرفوا بموقفهم الثوري الساخط على النهج الذي اتبعه عثمان بن عفان دليل على مضيه في إعادة بناء التجربة الاسلامية بما يتلائم مع أسس الاسلام المحمدي الأصيل وكان مالك بن الحارث الاشتر من ابرز القادة والولاة والذين كانوا موضع ثقة الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه والايدي القادرة على انجاز عملية الاصلاح. وكان عهده لمالك ذلك العهد الذي يعد من أطول العهد السياسية مصداقاً للرؤية الخاصة التي يحتفظ بها الأمام صلوات الله وسلامه عليه لمالك وللدور الذي يمكن أن يؤديه في عملية الاصلاح المنشود.

ان الاسس التي انطلق منها الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في هذا العهد قد بنيت على تصوره للدور الذي اسند للأشتر كعامل له على مصر ومن الممكن ان يكون ما ورد فيه قابلا للتطبيق من لدن الولاة الاخرين فضلا عن امكانية تطبيقه من لدن أي حكم يسترشد بالمبادئ الصالحة والمثلى في تعامله مع الرعية.

اولا المهام الموكلة للوالي بحسب هذا العهد هي جباية الخراج وتحصيل المال

ص: 232

لخزينة الدولة واستصلاح الرعية وهي السياسة الداخلية وعمارة الارض وهي السياسة الاقتصادية.

ولما ادرك الامام امير المؤمنين ان الرعية تضم الى جنب المسلمين ابناء ديانات وملل اخرى ومنها المسيحية واليهودية فقد ارسى اسس الامن الاجتماعي برسم الكيفية التي يتم عن طريقها التعامل مع معتنقي العقائد المغايرة للإسلام وهنا ارسى قواعد تمس تأمين الامن الاجتماعي الذي يُشعر الجميع بالمساواة والعدل والطمأنينة.

ترك بعهده لمالك النخعي والمعروف بعهد الاشتر الوصايا التي تجمل طريقة التعامل مع الاخر المختلف فابتدأه بالقول:» وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه. (7)

وهنا يؤكد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ان تقبل الاخر ومعاملته على انه اما اخ في الدين أو مماثل في الخلقة أمر لا يقتصر على سلوك خارجي بل يمتد لان يكون سلوكاً نابعاً من الذات حتى يتحول الى سلوك فطري يستند على محبة الرعية بجميع تنوعاتها واختلافها وهو يعني ان لا يأخذ الراعي نظرة مسبقة تتميز بالحيف والتمييز بالمعاملة فهم نظراؤه في الخلق الامر الذي يستوجب عليه معاملته بأحسن مما يتوقعون، ان تذكير الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لمالك بان الانسان الذي يعتنق ديناً أخر هو نظير لك في الخلقة هو دعوة لحسن التعامل معه وعدم التعالي عليه بأي شكل من الاشكال، وكان صلوات الله وسلامه عليه يدرك تمام الادراك ان اهل الذمة كانوا يواجهون عنتاً في حالة جمع الضرائب والرسوم

ص: 233

وتحصيلها منهم وفكرة النظير في الخلق تضاهي وتكمل الاخوة في الدين وتضع أساساً لعلاقة تقوم على المساواة بين جميع الناس من مختلف الملل والنحل والقوميات والاعراق وتحدد الاطار القانوني والشرعي لحرية الاعتقاد تلك الحرية التي لا يمكن قهرها. وبطبيعة الحال كان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه على يقين تام بأن الكلام المتعلق بالمعاملة المثلى مع الآخر لن يكون لوحده السبيل الناجح والامثل لتحويل التعامل مع المكونات المذهبية والدينية الاخرى الى اسلوب افضل ما لم تكن هنالك اجراءات عملية ترافق هذا الخطاب، فاردفه باتباع الاساليب الاكثر نجاعة لتحويل هذا السلوك الى سلوك عملي بقوله: «ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً - تأكل حقوقهم او تقتنص الفرص لسلبهم ما لديهم وبين صلوات الله وسلامه عليه اولوية العفو والصفح في مقابل العقوبة والانتقام إذ ان من شأن اتباع الصفح والعفو وتقديمه على الانتقام والاخذ بالظنة ان يشيع بين الرعية من مسلم وغير مسلم طابع التسامح في المعاملة ولا يورث احناً أو عداوات بين جهة وجهة أخرى.

كان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يدرك تمام الادراك ان المسلمين قد فتحوا بلداناً تميزت بموروث حضاري فاق ما كان موجوداً عند العرب من سکان شبه الجزيرة العربية وبالتالي كانت نظرة العربي لهذه الشعوب والاقوام نظرة تقوم على الحسد والرغبة بالتشفي والانتقام وهو ما يتنافى وروح الاسلام الحقيقية وكان في تعامله مع الاسرى الفرس في المدينة المنورة خير دليل على رغبته في تعريف الاخر بالأسلوب الاسلامي الحضاري الامثل في التعامل مع الاخ الاخر.

ان توعية الامام امير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لولاته بضرورة الاخذ بأساليب اكثر عدالة وتسامحاً مع الاخر جاء لرؤيته الخاصة للرعية فقد وصفها بالقول: «أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزّان الرعية ووكلاء

ص: 234

الأمّة ولاتضربنّ أحداً سوطاً لمكان درهم ولا تمسّن مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد. (8)

وهذا يعني ان الامام صلوات الله وسلامه عليه لم يعمل فقط على حث الولاة على ان لا يكون اسلوب التعايش مع الاخر هو اسلوب عمل فقط بل هو اسلوب حياة قائم على الحب الصادق والاحترام و عدم اعتماد أي اسلوب يقوم على القسوة والفضاضة ونهيه عن استخدام السوط دل على ان هذه الاداة كانت هي الاسلوب الشائع المستخدم في الحقبة التي سبقته والتي شهدت استئثاراً وظلماً وغبناً لحقوق الرعية. ولعل اظهار الولاة المحبة للرعية بمسلمهم ومعاهدهم من شأنه أن يعود بالنفع على علاقة الامة ببعضها البعض ويشيع المحبة والتراحم بين مختلف الفئات وهو أدعى لشيوع العدل واستقرار الدولة من الاساليب التي تقوم على الظلم والاستبعاد.

انتهج الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه اسلوب العدل والمساواة في الحقوق والغاء اي شكل من اشكال التمايز والذي عده السبب الاول لبذر الكراهية والاختلاف في النظرة من فئة لفئة أخرى ولعل حادثة المسيحي البصير الذي كان یسئل الناس في مسجد الكوفة ما يقيم به أوده قد بينت ان التساوي في العطاء وضرورة انفاق بیت المال على المسيحي كما هو الحال مع المسلم ضرورة أساسية لحفظ الكرامة الانسانية:» استعملتموه حتى إذا کبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بیت المال. (9)

کما سعى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى توفير المستلزمات الضرورية التي تجعل من العلاقة مع الاخر علاقة طبيعية تقوم على الود والاخاء والتعاون ولعل واحدة من أهم هذه المستلزمات هي الغاء الفوارق الطبقية الفاضحة والتي نمت بعد الفتوحات واوجدت طبقة مهيمنة مسيطرة بحكم انتمائها العرقي

ص: 235

والديني وعدت الاراضي المفتوحة بمثابة أسلاب يجب تقاسمها مع اهمال تام لشؤون الرعية فقال في عهده لمالك:» الله الله - يا مالك في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم - أي لا سبيل لهم لإدارة أمورهم - من المساكين المسكين هو الذي أسكنه الفقر من الحركة -، والمحتاجين - المحتاج هو صاحب الحاجة، وأهل البؤسى - أي شديدي الفقر - والزمني - أي ذوي الأمراض والعاهات التي تمنع عن العمل -، فإن في هذه الطبقة قانعاً - أي سائلاً - ومعترّاً - أي متعرّضاً للعطاء بلا سؤال - واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلاّت صوافي الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى - أي دون تمييز في ذلك الضمان بين المركز والمحيط أو بين العاصمة والمحافظات أو بين المدينة والأرياف -، فلا يشغلنك عنهم بطر - أي طغيان الملك والنعمة -، فإنك لا تعذر - أي لا يقبل الله ولا الناس عذرك. (10)

لقد ايقن الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه ان الاخذ بأساليب الحوار مع الاخر والقائم على الاحترام والاعتراف بالكينونة المادية والعقلية لابد وان يستند على جملة من المقومات منها الحرية وضرورة الحفاظ على الكرامة الانسانية ومعاملة الاخر كالذات، ففيما يخص الحرية اشترط الا يجبر عامل على عمل فلا قيمة للعمل لديه ما لم يكن نابعاً من الاختيار الحر، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه بهذا الشأن: «ولست أجبر أحداً على عمل يكرهه.» (11)، كما كان لمفهوم الحرية دلالات اوسع في نهج الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه من مجرد الاشارة الى الاحرار والارقاء الذين استرقوا بفعل الفتح إذ عد الحرية صفة ملازمة للانسان» لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً» فالحرية اذن مطلقة، وحدودها الرفض والقبول ضمن نطاق الحياة الداخلية والوجدان، والاحرار مخيرون يقبلون ويرفضون عن اقتناع وايجابية

ص: 236

والحرية هنا هي التي تنشأ الثورات وتقيم الحضارات وتبني علاقات على اساس التعاون الخير وتربط الافراد والجماعات بما يشدهم إلى الخير.

وشدد الامام امير المؤمنين على المساواة اذ عدها الركن المكمل للحرية في تشييد مجتمع يقوم على احترام الانسان مهما كان هذا الانسان متميزا عن المجموع وكان تقسيمه للمال والفيئ بالتساوي ايمانا منه بان الانسان لا يتميز عن الانسان الآخر الا بتقواه وان ما يتميز به من عمل مرده الى الله وقد بين مشروعه الذي جاء لينقض مشروع الاثرة والتمايز واذي كان قائما قبله بالقول: «الا وايما رجل من المهاجرين والانصار من أصحاب رسول الله يرى ان الفضل له على سواه بصحبته، فان الفضل غدا عند الله، فانتم عباد الله والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد». (13) وهذا النمط من المساواة في المال ومنع استئثار شخص أو جهة بالمنافع العامة طبقاً لتمايز في العرق أو في الدين أو في سابقة من العمل هي التي تفسح المجال امام نظرة اكثر اتساعاً وشمولا في التعامل مع الاخر المغاير وتمنع عنه اي شعور بالنقص والدونية جراء تميز في الجانب العقائدي، وهو ما عبر عنه الامام امير المؤمنين أفضل تعبير إذ قال: «إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة». ولم ارى في هذا المال لأبناء اسماعيل دون غيرهم، وان آدم لم يولد عبدا ولا امة. (14)

وامن الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بضرورة ان تكون الدولة القيمة والراعية لكل رعاياها، فالرعية جسد واحد وعلى الدولة أن ترعى اعضاؤه جميعاً بما تستحق، ولا وجود لتفرقة أو تمييز بين فرد و فرد وهو ما يوفر قاعدة مثلى لعلاقات سوية بين المسلمين ومعتنقي الملل والاديان الاخرى، والعرب وغيرهم من الاقوام الاخرى.

ونظر الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لمبدأ اسلامي أصيل وهو

ص: 237

مبدأ عمارة الارض فبين السبل الاكثر مثالية لان يكون هذا المبدأ مترافقاً مع احترام الذات الانسانية، ذلك ان عمارة الارض لا تتم بجهد جماعة دون اخرى او بجهد شخص يستأثر بمغانمها بل بجهد الرعية من مسلمهم ومعاهدهم وبالتالي تعود منافع الارض وعمارتها للناس أجمعين، ولقد جسد فكرته صلوات الله وسلامه عليه بقوله: «ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا رزقاً يأكلونه ولا دابة يعتملون عليها، ولا تضر بن أحدهم منهم سوطاً لمكان درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضاً في شيء من الخراج، فإنها امرنا أن نأخذ منهم بالعفو.» (15)

واذ اعلن الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه تمجيده للعمل وان الارض ملك لزارعيها فكان ذلك انصافا للموالي من الذين كانوا فلاحين وحرفيين في المناطق التي فتحها العرب المسلمون: «ثم أعرف لكل امرئ منهم ما بلی، ولا تضيعن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ ان تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى ان تستصغر من بلائه ما كان عظیماً». (16)

ولم يكن من منهاج امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يفرض على الناس عقيدة معينة فيما يتعلق بالدين، وفي كل ما له صلة قريبة أو بعيدة بالوجدان الخالص وحياة الانسان الداخلية والتي تتصور وتتلون بالوان نابعة من الذات، ویأبی ان يفرض على احد من الناس أن يؤمن بما يؤمن به المسلمون ديناً، فالناس أحرار أن يؤمنوا بالله على ما يرون، وان يعتقد كل منهم على طريقته في الاعتقاد شرط أن لا يلحق ذلك الاذى بالجماعة، والخلق كلهم عيال الله. ويأبى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يجعل الانسان الحكم الاول والاخير على تصرفات

ص: 238

الخلق وهم لا يلحقون بك الاذى، فرب امرئ يُستصغر شأنه وهو أرفع منك شأناً وأوضح قوله صلوات الله وسلامه عليه منهجيته بهذا الشأن: «فلا تستصغرن عبداً عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم.»

کما شدد الامام امير المؤمنين على ضرورة نزع فتيل التعصب والكراهية من النفوس، فقدم الالية المناسبة والتي تقوم على «حصاد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك، وضرورة ان يكون أبن أدم وصي نفسه، واتباع القاعدة المثلى للسلوك الانساني وهي: «أحبب لغيرك ما تحب لنفسك وأكره له ما تكره لها، وأرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».

ولعل وصايا الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لعماله و ولاته في الكيفية التي يمكن عن طريقها معاملة أهل الذمة تكشف عن سياسته التي لم تكن لتفرق قيد أنملة عن سلوكه المثالي المستند على روح الشريعة وما اوصاه به رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فقد أوصى معقل بن قيس بالقول: «إتق الله يا معقل ما استطعت ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فأن الله لا يحب المتكبرين» وبين ان اتباع النهج الاسلامي الاصيل والذي ينأى عن الاعتبارات المادية التي شابت هذا النهج حري به ان ينشر العدل والقسط بين الناس أجمعين مهما كانت دياناتهم ومعتقداتهم فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ولو سلكتم الحق، واضاء لكم الاسلام، لما ظُلم منكم مسلمُ أو معاهد.» کما شدد على محمد بن ابي بكر واليه على مصر بضرورة العدل على أهل الذمة بقوله:» أوصيك بالعدل على أهل الذمة وبإنصاف المظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس، والاحسان ما استطعت، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء، كما عهد لنصارى نجران بان «لا يُضاموا ولا يظلموا ولا ينقص حق من حقوقهم».

ص: 239

وبطبيعة الحال فأن نهج التسامح وحسن التعامل مع الاخر والذي كان طابعاً متأصلا في ذات الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لازمه ذم التعصب والتكبر الموروث عن التعصب القبل أو العرقي بمعنى أنه أزال مبررات مثل هذا التعصب والذي قرنه بالكفر ومخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها فقال: «الا وقد امعنتم في البغي وأفسدتم في الارض، فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية، فانه ملاقح البغضاء ومنافح الشيطان التي خُدعت بها الامم الماضية والقرون الخالية» وهو يعني هنا ان التعصب كان سبباً من اسباب اضمحلال وسقوط دول وامبراطوريات كبرى عبر التاريخ في الوقت الذي يكون فيه التسامح اساساً لديمومة الحضارة الانسانية وتيسير سبل المعاش والتألف:» ولقد نظرت فيها وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الاشياء، إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء». (18)

وبالمقابل نوه الامام صلوات الله وسلامه عليه بحملة من الاخلاق التي يفترض ان يتعصب الانسان لها وهي سلوكيات عامة شاملة يتقبلها الموالي والمخالف المسلم والمعاهد فقال بهذا الشأن:» فإذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحاسن الامور، والاخلاق الرغيبة والاحلام العظيمة والاثار المحمودة، والاخذ بالفضل، والكف عن البغي والانصاف للخلق واجتناب المفاسد في الارض (19)

وحينما يقوم الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بإزالة الاسباب الموجبة للتعصب فهذا يعني انه أزال أسباب الاحتقان بين الجماعات المختلفة ووفر قاعدة من العدل والمساواة وأشاع جوا من الالفة والمودة بين مجموع الامة. ولعل نظرته هذه تقودنا للتعرف أصلاً على طبيعة نظرته للحياة ككل وموقع الانسان في هذه الحياة، لقد امن الامام صلوات الله وسلامه عليه بان «الله خلق الناس حرما في أرضه، وأمناً

ص: 240

بين خلقه، وجمع الفتكم فنشرت النعمة عليكم جناح کرامتها، وأسالت لكم جداول نعیمها» وعقد الله بينهم حبل الألفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها بنعمة لا يعرف احد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر». (20) وبالتالي كانت الدعوة لاحترام الحياة وتبجيل قيم التألف دون قيم التناحر والتنازع منهجاً أساسياً في سلوكه وممارسته السياسية وهذا يعني إعلاءاً لقيم التنوع وذلك لان الحياة تستند على هذه القيم وعن طريق نشر قيم التألف يتم احتواء الاخر لا بطريقة الالغاء او الضم القسري بل تشعره بان قيمه ومعتقداته محفوظة كانسان، طالما لم يكن هنالك تنافر وشد وعدائية في المجتمع. ولعل تأسيس قاعدة الامن الاجتماعي القادرة على ادارة التنوع هي التي تفسح المجال امام حرية فكرية وعقائدية تستند على احترام الاخر وافساح المجال واسعاًللتعبير عن آرائه ومعتقداته.

وتعزيز الحرية الانسانية والمبني على الاحترام والتبجيل للذات الانسانية جاء عن طريق ارساء الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لجملة من الخطوات والتي كانت سابقة في التاريخ الحضاري الانساني فأعطى للإنسان حرمة في مسكنه وحرية في مزاولته لعمله او حرفته وبين قيمة الانسان التي تستند على مقدار ما يجيد من حرف وقال صلوات الله وسلامه عليه بهذا الصدد:» الناس ابناء ما يحسنون» وادرك ان قيمة العمل مقرون بالحرية التي تمنح للإنسان لإنجاز عمله هذا، وامن بحق الانسان في طلب العلم وطلب العلم لا يكون الا بوجود أرضية من الحرية التي تبيح للإنسان تحصيل العلم وأخذه من موارده المختلفة وحرية النظر والتلقي والأخذ والعطاء، وحينما تكون هنالك حرية في تلقي العلم من مصادر ومدارس مختلفة يكون هنالك اختلاف و تباين في وجهات النظر ونشوء لمدارس واتجاهات مختلفة والتي يمكن أن تخالف تصور وتفکیر توجهات الدولة، ووجود مثل هذه

ص: 241

التوجهات والمدارس مكفول في المدرسة العلوية، بل كان ضرورياً لتلاقح الفكر، فكلما كان القاعدة الفكرية متينة وراسخة كان لديها القدرة على النقاش والجدل مؤمنة بان الانفتاح على الاخر هو ما يرص بنیانها ويدعم كيانها، في الوقت الذي تميل فيه الطروحات الاستبدادية إلى الالغاء والمنع مدركة ان اي حوار مع الفكر المغاير سوف يقوض من هيمنتها وديمومة سيطرتها.

ولقد بين الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الخطوات الضرورية اللازمة لتكوين علاقات تقوم على الود والاحترام بين مختلف الفئات والافراد اذ امن بان الحقوق والواجبات بين افراد المجتمع تتكافئ بنحو لا يتكامل بعضها الا بالبعض الاخر فقال صلوات الله وسلامه عليه بهذا الشأن: «ثم جعل الله حقوقاً لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافئ في وجوهها ويوجب افتراضها بعضاً على بعض، ولا يستوجب بعضها الا ببعض». (21)

واذا ما كانت هذه هي العلاقة المثلى التي يفترض أن تكون بين الفئات المختلفة في الرعية فهذا يعني ان سبل التواصل بين هذه الفئات المختلفة من عرب او غير عرب مسلمين أو غير مسلمين ستكون أكثر وداً بحكم احتیاج الكل للكل واعتماد الكل على الكل، ولم تكن مثل هذه النظرة الا استمراراً لنهجه الخاص بالمساواة التامة بين الرعية ومساواتهم بالعطاء والفيء دون الاخذ بالاعتبارات التي تقوم على العنصرية والعصبية والدين.

ان الاعتماد على معيار يقوم على حسن العمل وتقبيح التفاخر بالأنساب في تلك الحقبة الزمنية يكشف عن الأبعاد الثورية والنهج الانساني الذي تبناه الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ويكشف عن الاسباب التي دفعت مخالفيه من المستفيدين من الالية السياسية المعتمدة سابقاً لمعارضته واختلاق العقبات التي تحول

ص: 242

دون اکماله لنهجه الانساني القائم على العدل والمساواة التامة بين الافراد. ولقد جسد صلوات الله وسلامه عليه هذه المساواة في القانون والوقوف امام القضاء، والمساواة في الضرائب والمساواة في تولي الوظائف بمعنی فسح المجال امام الجميع لتولي الوظائف التي تتناسب ومؤهلاتهم، عن طريق جملة من الوصايا لعماله وفي الاليات التي اعتمد عليها في حكمه: «ولیکن امر الناس عندك في الحق سواء» و «اعلموا ان الناس عندنا أسوة»، واما العدل في القضاء فقد دلت سيرته وفي أكثر من موضع على ان الاحکام الخاصة بالقضاء تسري على الجميع بما فيهم الخليفة نفسه والذي قد يقف متخاصماً مع يهودي يدعي ان درع الخليفة هي درعه وعندما لا تكون هنالك بينة للخليفة يحكم القاضي بأيلولة الدرع لليهودي والذي لم يكن ليشعر باي درجة من درجات التمييز أو الحيف في ظل دولة يقف مع رأسها سواء بسواء امام السلطة القضائية. (22)

کما کانت وصاياه للقضاة بضرورة التزام الحق طبقاً لمن لزمه من قريب أو بعيد واتباع نهج العدل على الصديق والعدو: «ولا تبغوا على أهل القبلة ولا تظلموا أهل الذمة». «واخفض لهم جناحك، والن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، و أس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمح الأقوياء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك». (23)

لم يشأ الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يجعل العلاقات بين مكونات المجتمع تقوم على صيغة ((غالبٍ و مغلوب)) ذلك ان العدل والمساواة واتاحة الفرص للجميع للعمل والتفكير بحرية قد أظلت الرعية بظلها وبالتالي لا يمكن أن يكون هنالك قسر أو سعي لإجبار شخص ما على فعل لا يرتضيه، فاستجلاب النفع العام بدلا من تكديس الاموال لدى فئة دون اخری کان دیدن السياسة العلوية، كما ان العفو يحتل المرتبة الاولى دون العقوبة وتقديس العمل بدلا

ص: 243

من الانساب والافتخار بالرمم البالية، ومعيار التقوى كان هو المعيار الذي يميز بين انسان وأخر، ودفع الضرر مقدم على الاخذ بأساليب الشدة والعسف وترك اسلوب التسقيط والاخذ بالظن، كل هذه المرتكزات تدفع الانسان للاطمئنان بان النهج العلوي يقوم على فسح المجال واسعاً امام الانسان لاستكمال شروط بنائه ونضجه العقلي وهذا النضح العقلي يكون اللبنة الاولى في حوار متكافئ وصولاً للحقيقة.

واذا ما كانت هذه هي الاسس التي استند عليها الامام امير المؤمنين في بناء مجتمع حضاري يقوم على الحوار المتكافئ فذلك يعني ان الاخر المختلف قد أُعطي المساحة الكافية للتحرك والجدل وكان الجدل مع رأس الدولة مسألة طبيعية، وبلغ الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه غاية الحرية في فهم نصوص الاسلام من مختلف جوانبه إذ قال عن اهم دعامات الاسلام: «القرآن حمال ذو وجوه»، وكذلك دعا الامام الى شحذ الذهن وتوظيف العلم من اجل استيعاب وشرح آيات القرآن الكريم وعدم الوقوف عند شرح او فهم دون احتساب لعامل التطور والزمن اذ قال صلوات الله وسلامه عليه: «ان القرآن ظاهره انيق وباطنه عمیق، لاتفنی عجائبه ولا تنقضي غرائبه». وقبل الامام ان يحاور رجلا كانت تكتنفه الشكوك حول اثنی عشر موقعاً في القرآن الكريم، فقدم الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه له اية التسامح الفكري وحاوره بعد ان سمع جميع حججه قائلا: «سأعلمك ما شككت فيه، وناقشه واقنعة بحوار علمي و فكر حر ولاسيما في موضوع ذوي أهمية واثر بالغ على عقيدة المسلم مثل الشك في القرآن.

وبين الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الضرورة الماسة لدخول الانسان للدين بالقناعة وليس محاباة لشخص أو لجهة فقال بهذا الشأن:» من دخل في هذا الدين بالرجال اخرجه منه الرجال کما ادخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب

ص: 244

والسنة زالت الجبال قبل ان يزول.

اما في مسالة العبادات والشعائر الدينية فان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يعطي الحرية للإنسان في ادائها إذ قال: «ان للقلوب اقبالا وادبارا، فاذا اقبلت فاحملوها على النوافل، واذا ادبرت فاقتصروا بها على الفرائض».

ولعل اقتراب الموالي وغير المسلمين من نهج الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه والائمة من اهل البيت (عليهم السلام) مرده تفسير مدرسة اهل البيت للدين تفسيرا يلائم مصالح الفئات المقهورة والمغلوب على امرها من الرعية ويخالف مصالح الحكام المتنفذين ولقد وجد الموالي وغير المسلمين بان المدرسة العلوية تفسح المجال امام المجتهدين للانتقال به أي التفسير من حال لحال ویأبی الانكماش والجمود، و بالتالي انسجمت طروحات وافکار هذه المدرسة مع اماني المستضعفين والمضطهدين والذي كان جلهم من الموالي وغير المسلمين.

وكان انفتاح المدرسة العلوية بشكل كبير على الانسان المغاير المختلف و تجاربه الروحية والفكرية قد دفع بهذه المدرسة لان تكون المدرسة الاكثر قدرة على الجدل والتفكير الحر والتأمل لمختلف القضايا الفلسفية والكلامية والسياسية بعيداً عن الاطر الضيقة التي رسمتها السلطات المتعاقبة بحرية الرأي وتدارس الآراء المخالفة للمذهب بحرية تامة وهو ما اختلفت عنه عن اي مدرسة في تلك الحقبة ولعلها اول مدرسة في التاريخ الانساني تؤمن بنحو لا يتطرق اليه الشك بحرية الرأي وتسمح للمخالف بمناقشة زعيم المدرسة بأدق التفاصيل الخاصة بالمسائل الكلامية، وهذا يعني ان المدرسة العلوية كانت قد اعتمدت اولى اليات الحوار الا وهي احترام الطرف المقابل حتى وان كان مناقضا للمعتقدات وللمقولات التي تنهض عليها المدرسة.

ص: 245

لقد شيد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أسس الحرية الفكرية والاعتقادية في الاسلام في ظل أنموذج لم يسبقه الیه حاکم جمع بين يديه السلطتين الدينية والزمنية، ولقد بين ملامح وأسس هذه الحرية الفكرية والاعتقادية في اكثر من خطبة او قول او سلوك واضح جسد ما قاله وعنى به، لقد احترم وبنحو لا يقوم معه شك الاديان الاخرى ومعتنقيها وتراثها الروحي والفكري، وبين ان عبادة الله الواحد الاحد كانت في الكنيسة كما هي في المسجد وكما كانت قبلهما في البيع، ولم يكن قوله صلوات الله وسلامه عليه: «والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الانجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم.. وجادل عدداً من أحبار اليهود في مسجد الكوفة والذين جاؤه ليسألوه حول الله كيف هو وكيف كان ومتی کان، فرحب بهم وأجابهم عن تساؤلاتهم بروح منفتحة ونفس واثقة بعلمها، کما سمح للجدل والحوار بشأن المفاضلة بين الرسل والاديان ووجود الجنة والنار، کما سمح لكافة أشكال المعارضة السياسية أن تمارس عملها طالما لم تعتدي على عموم الناس بقول أو فعل، ولعل رده على شخص أشار عليه بقتل اثنين من الخوارج کانا يظهران عقيدة الخوارج في مسجد الكوفة بالقول: «لقد كان ينبغي لك أن تعلم اني لا اقاتل من لم يقاتلني، ولم يظهر لي عداوة وكان ينبغي لو أنني أردت قتلهما أن تقول لي أتق الله لِم تستحل قتلهما ولم يقتلا أحداً، ولم ينابذاك ولم يخرجا على طاعتك». (24)

وكان رده صلوات الله وسلامه عليه على رجل اراد ان يجادله في مسجد الكوفة بأسلوب شدید مبادراً بالقول: «ایها المدعي ما لا يعلم والمقلد ما لا يفهم انا السائل فأجب، فأراد البعض منعه فقال لهم الإمام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: «دعوه ولا تعجلوه فان الطيش لا يقوم به حجج الله ولا به تظهر براهين الله، ثم التفت الى الرجل وقال له: سل بكل لسانك وما في جوانحك فاني اجيبك».

ص: 246

كما أعلن الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في أكثر من موضع ان معارضته من لدن أي فرد في الرعية لا تنقص أو تثلم حقاً من حقوقه في المال العام أو التمتع بكافة المزايا والحقوق التي يتمتع اي انسان أخر.

وخاطب الإمام امير المؤمنين الرعية كاشفاً عن رؤيته للعلاقة التي يفترض ان تكون قائمة بينه وبينهم بالقول: «فلا تكُفُّوا عن مَقالَةٍ بحقٍّ، أو مشورةٍ بعدلٍ. فإنّي لستُ بنفسي بفوقِ أن أخطئ، ولا آمَنُ ذلكَ من فعلي، إلاّ أن يَكفيَ اللهُ من نفسي ما هُو أملكُ به مني. فإنما انا وانتم عبيدٌ مملوکونَ لربٍّ لاربَّ غيرُهُ. يملكُ منّا ما لا نملِكُ من أنفسنا، واخرجنا ممّا كنّا فيهِ الى ماصَلحنَا عليه. فأبدلنا بعدَ الضلالَةِ بالهُدى، واعطانا البصيرَةَ بعد العمى» (25).

وهذه الاسس مهدت أو وضعت الاساس لقواعد الامن الاجتماعي طبقاً لما نص عليه العهد فالإيمان بمنح الحقوق المختلفة من عقائدية وسياسية واقتصادية واجتماعية لأفراد المجتمع كافة وسوف نری کیف فصل العهد هذه الاسس الخاصة بالأمن الاجتماعي.

لقد سعى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى تدعيم عرى الثقة بين الحاكم والمحكوم الراعي والرعية لما له من تأثير بالغ على ترسيخ حالة الطمأنينة لدى افراد المجتمع وبالتالي اشاعة حالة من الامن والاستقرار فقال في عهده للاشتر: «وأعلم إنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من احسانه اليهم وتخفيف المؤنات عليهم وترك استکراهه ایاهم ما ليس له قبلهم». (26)

وسعى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه إلى جعل العلاقات بين طبقات المجتمع علاقات تقوم على التكافؤ والتضامن والاعتمادية المتبادلة:» وأعلم

ص: 247

ان الرعية لا يصلح بعضها إلا بعض، ولا غنی ببعضها عن بعض، وكل قد سمى الله سهمه، و وضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظاً». (27)

وحتى يأمن الناس نزاهة القضاء وحياديته ومن تحقيق العدالة وهي العامل الناجع في تحقيق السلم والامن المجتمعيين بين الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه الكيفية التي تكون عليها شخصية القاضي أو من يُسند اليه منصب القضاء: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق بهم الامور ولا تماحته الخصوم ولا يتادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تُشرف نفسه على طمعٍ، ولا يكتفي بأدنی فهمٍ دون أقصاه». (28)

ولكي يضمن استقلال القضاء ونزاهته شرع الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه علیه استقلال المحاكم فقال في العهد: «واعطه أي القاضي من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيرك من خاصتك بذمته ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً» وبين مواصفات القاضي المثالي فهو ذلك الذي: «لا يزدريه الاطراء ولا يستميله الاغراء، وأكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس». (29)

ولعل ذات المعايير التي سعى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لاتباعها مع القضاة عمد الى اتباعها في طريقة اختيار الموظفين فأوصى مالك الاشتر بان لا يكون اختيارهم عن طريق الفراسة أو حسن الظن من لدن الوالي بل بالاختيار بما ولوا للصالحين قبل عهده بالولاية وأن يعمد لاختيار وانتقاء أحسنهم أثراً في العامة وأعرفهم بالأمانة وجها، فان ذلك دليلُ على نصيحتك لله ولمن وليت امره». (30)

ومما لاشك أن اطمئنان الرعية لطرق واليات اختيار القضاة والموظفين يعني

ص: 248

انقيادهم الطوعي للمبادئ العامة التي يسي عليها الحكم وتدعيم عرى الامن المجتمعي بنحوٍ لا يدع مجالاً لحالات فساد أو اثراء غير مشروع أو حسد أو غل من لدن الرعية لمن تقلد منصباً في الدولة، والسعي في الوقت ذاته لان يكون معيار العدل والنزاهة والاستقامة والاقتداء بسيرة الصالحين هو المعيار الامثل لأي فرد يسعى لان يدرج في مدارج خدمة الرعية وتقلد المناصب التي تعود بالنفع العام على المجتمع.

ولم يكن الامن الاقتصادي وهو واحد من أهم المعايير التي تدعم وجود الامن الاجتماعي بعيداً عن نصوص العهد ولقد تضمن تأكيداً على الكيفية التي تتم بها جباية الاموال وركز على ضرورة عمارة الارض إذ عدها العصب الاساسي لحياة امنة من الناحية الاقتصادية وربط بين سبل تحصيل الخراج وعارة الارض وعد عمارة الارض السبيل الاكثر نجاعة لجلب الخراج وفي ذات الوقت جلب رضا الرعية إذ ان عدم رضاهم واعوانهم سوف يعود سلباً على عمارة الارض وسوف يفضي لحرابها أي انه جعل الرضا المجتمعي وهو احد الادلة الاكثر بروزاً على الامن الاجتماعي معیاراً لصلاح الارض وعمارتها. «ولیکن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد» ... وان العمران محتمل ما حملته، وانما يأتي خراب الارض من اعواز اهلها، وإنما يعوز اهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر. (31)

وركز الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في العهد على أهمية التجارة والصناعة في تأمين الاحتياجات الانسانية فهي مواد المنافع وأسباب المرافق والتجار والصُناع سلم لا تُخاف بائقته فهم مسالمون وصلح لا تخشى غائلته. (32) ورغم التأكيد على اهمية التجار والصناع ودورهم في الحياة الاقتصادية الا ان الامام امير المؤمنين

ص: 249

صلوات الله وسلامه عليه نبه في الوقت ذاته الى ضرورة محاسبة المحتكرين والجشعين منهم ذلك إن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرةٍ للعامة وعيب على الولاة» (33) وهذا يعني ان هنالك تأكيد في العهد على ضرورة تأمين الاحتياجات المادية للرعية وهذا ما يضمن امناً اقتصادياً ورفاهية للجميع بدون مضارة أو احتكار أو سلب للمنافع ونرى بعد ذلك ان الامام صلوات الله وسلامه عليه أوصى أن يكون البيع بيعاً سمحاً: بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمُبتاع.

ثم تابع وصيته بالعمال والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني والقانعين والمعترین وضرورة أن يتم تخصيص نصیب من بيت المال وقسم من غلات صوافي الاسلام لهم، وعلى الوالي أن ينظر بحسب العهد بعين العدل والمساواة لكل فردٍ من أفراد الرعية وأن يتعهد أهل اليتم والفاقة وذي الرقة ممن لا صلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وعلى الراعي أن لا يهمل أي فرد من أفراد رعيته حتى أولئك الذين لا يمكن أن ينظر اليهم الوالي أو قد يهملهم نظراً لضالة شأنهم و ضعتهم وان يكون هنالك أشخاص يتفرغون لمعرفة أحوالهم وتفقد أوضاعهم فأمثال هؤلاء أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وهذا يعني بسط شروط العدل والمساواة بين مختلف الطبقات الاجتماعية وفي ذلك ضان لشروط الامن الاجتماعي. (34)

وحتى يُشعر الوالي رعيته بان بسط يد العدل والمساوة يضم الجميع ينبغي عليه أن يجعل لذوي الحاجات قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وأن يجلس لهم مجلساً عاماً يتواضع فيه لله ويبعد الجند والاعوان حتی يكلمهم مُتكلمهم غير متتعتع أي غير متحرج من نطق، عملاً بوصية رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): «لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع» والاعطاء بشكل هنئ والمنع باجمال واعذار» (35)

ص: 250

وحتى تكون العلاقة طبيعية ومنسجمة بين الدولة والمجتمع أوصى الامام امیر المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في عهد للأشتر بضرورة أن لا يطول احتجاب الوالي عن الرعية فهو شعبة من الضيق وان مثل هذا الاحتجاب يورث عادات اجتماعية سيئة فيصغر عند الرعية الكبير ويعظم الصغير، ویُحسن القبيح ويُشاب الحق بالباطل، وبين الإمام صلوات الله وسلامه عليه عدم ضرورة الاحتجاب فالوالي لا يعدو كونه امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق، فلا داعٍ لاحتجابه إذ ان احتجابه سوف يؤدي بالناس إلى الكف عن مسألته أيسوا نتيجة لطول احتجابه مع العلم ان حاجة الناس للوالي تكون اما شکاة من مظلمة أو انصافٍ في معاملة. (36)

وحتى يقطع الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه نشوء أي سياسات طبقية أو بروز طبقة تثري على حساب الصالح العام أوصى في العهد بضرورة أن لا يقوم الوالي بإقطاع أحدٍ من حاشيته وحامته قطيعة، أو يمتلك عقدة (قطعة من الاض) أو ضيعة يضر بمن يليها من الناس في شربٍ أو عمل مشترك، يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبه عليك في الدنيا والاخرة. (37)

وأكد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه على ضرورة عدم سفك الدماء بغير حقها ذلك انه ليس هنالك شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها. وعدم المبالغة في العقوبة فان مافوق الوكزة (وهي الضربة بجمع الكف) مقتلة وفي حالة حصول القتل على اثر عقوبةٍ لا تستحق القتل فان على الوالي دفع الدية لأهل المقتول. (38)

وحتى يضمن الوالي الرضا الاجتماعي فعليه تجنب المن على الرعية بالإحسان أو التزيد فيما كان من فعله، أو أن يعد رعيته بوعدٍ فيخلف الوعد، فالمن يُبطل الاحسان والتزيد يُذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس. (39)

ص: 251

الخاتمة والاستنتاجات

أعقبت وفاة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم جملة من المتغيرات التي أفضت بمجملها إلى النكوص عن المسيرة الاصلية التي أرسى دعائمها صاحب العصمة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه وثلة من صحابته المنتجبين والذين امنوا بان الرسالة الاسلامية السمحة رسالة حق وعدل وانصاف وأمن وامان يعيش في ظلها الناس اخوة متساويين ومتكافئين في الحقوق والواجبات، ولما كان الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه هو المستحفظ على هذه الرسالة والقيم عليها بعد انتقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) للملكوت الاعلى فقد عمل على اتباع سياسة النصح والارشاد قبل تولي خلافته الظاهرة حفظاً للمصالح الاسلامية العليا وعدم رغبة في تضييع الجهود التي بذلت منذ انطلاق الدعوة الاسلامية ولما أدت السياسية التي اتبعت في عهد عثمان بن عفان ولا سيما سياسة الاثرة والتمييز في العطاء وتقريب بني امية واستبعاد وعزل ونفي الاصحاب الاوائل والذين لم يكونوا يمتلكون عصبية قبلية أو ثروة مادية وتراكم الثروات بيد فئة قليلة وتسليط الاقارب والاصهار على رقاب المسلمين إلى تزايد عوامل السخط والثورة وأدت الى قتله، وضغط المسلمين وجموع الثائرين على الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لتولي الخلافة فوليها ساعياً لإصلاح ما فسد في المسيرة الاسلامية وعمل على عزل الولاة الذين كانوا سبباً في تفاقم النقمة على عثمان وبدأ باتباع سياسة ثورية تعمل على اقتلاع الفساد من جذوره وصولا لحالة من العدل والمساواة والامن، ولعل مفردة الامن بمضامينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية كانت من اولويات السياسة العلوية ولهذا أكد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في خطبه ورسائله لعماله على ضرورة نزع الخوف من صدور الرعية وتأمين كل فرد على حياته

ص: 252

ومعتقده وعرضه وماله وممتلكاته وتأمين أسس المساواة في العطاء بنحو لا يشعر معه أي فرد بالحيف والظلم ومعاملة الاخر المختلف بنحو ينم على نظرة انسانية عميقة في مدلولاتها، ولكي يأمن تنفيذ هذه السياسة اسند لخلص اصحابه اعمال الولايات الكبرى في دولة الخلافة فكان مالك بن الحارث الاشتر النخعي واحداً من هؤلاء الاصحاب الذين كانوا بمثابة الايادي الأمينة لتنفيذ معطيات السياسية العلوية الجديدة، ولعل المكانة التي تمتع بها هذا الصحابي الجليل قد دفعت الامام امیر المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لتخصيصه بعهد يُعد أطول عهوده السياسية واكثرها تفصيلاً وشرحاً لطبيعة السياسة التي ينبغي للوالي أن يتبعها في اقليم شهد عدة من التجارب التاريخية المتعاقبة ومرت عليه دول سادت ومن ثم بادت و فيه مرکز للزعامة المسيحية التي وقفت دائما بالضد من محاولات فرض عقيدة مغايرة على اتباعها، لذلك جعل الرحمة والمحبة للرعية أولى واجبات الوالي وتقديم العفو على العقوبة وستر العورة والابتعاد عن عقد الحاقدين و وشايتهم مما يترك اثاراً سلبية في العلاقة بين الراعي والرعية وعد الخلق صنفان أخ في الدين او نظير في الخلق وترك بطانة السوء وتدعيم عري وعوامل الثقة بين الراعي والرعية وضرورة التضامن بين الطبقات والفئات الاجتماعية وضمان استقلالية القضاء والمحاكم والتدقيق في اختيار الموظفين وتقديم عمارة الارض على جباية الخراج وتأمين حالة من الرفاهية الاقتصادية للجميع بتحريم الاحتكار، وعدم الترفع عن العمال والاجراء ورقيقي الحال وترك الاحتجاب عن الرعية ومعرفة دقائق وتفاصيل حياتها بما يصلح أحوالها وعدم الاكتفاء بالسماع، وعدم احاطة الوالي نفسه ببطانة من سوء يقطعهم من اراضي المسلمين، وعدم سفك الدماء الا بالحق وتغليب العفو على العقوبة، وعدم المن على الرعية أو وعدهم بما لا يمكن الوفاء به، وكل هذه النصائح والارشادات التي وردت في العهد العلوي تجعل منه واحداً من اول الوثائق القانونية المفصلة في التاريخ الانساني

ص: 253

ودليل على اصالة النهج الانساني عند الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وسعيه لتأمين أسس الامن الاجتماعي بمناحيه المختلفة الامر الذي يجعل من عهد الأشتر أول وثيقة سياسية قانونية تم فيها تقدیم مصلحة الرعية على الراعي واول وثيقة قانونية سياسية أمنت الانسان على كيانه المادي والمعنوي وأوجدت السبل اللازمة لسير المجتمع في ظل الاهداف السامية التي أرسى أسسها صاحب العصمة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 254

الهوامش

علي أسعد بركات، الامن الاجتماعي، دمشق، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب،2011، ص: 145

7. محمد عمارة، الإسلام والامن الاجتماعي، القاهرة، دار الشروق، 1998، ص: 21

8. الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري (450 ه)، أدب الدنيا والدين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1407 ه - 1987 م، ص 119.

9. أحمد المراياتي، العنف: أسبابه وخلفياته النفسية والاجتماعية، 1997، ص 11.

10. حول هذه الخلفية التاريخية يُنظر: علي شريعتي، الامام علي في محنه الثلاث، محنة التاريخ، محنة التشيع، محنة الانسان، ترجمة: علي الحسيني، بيروت، دار الامير، الطبعة الثانية، 2007. وعزيز السيد جاسم، علي سلطة الحق، بغداد، وزارة حقوق الانسان، المركز الاعلامي، الطبعة الثانية، 2014. واحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الاسلام، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1973.

11. يُنظر في هذا الشأن: محمد مهدي شمس الدين، ثورة الامام الحسين عليه السلام، ظروفها الاجتماعية واثارها الانسانية، بيروت، دار الكتاب الاسلامي، 2006، و محمد الحسيني اسماعيل، السقوط الاخير، تاريخ الصراع على السلطة منذ ظهور الاسلام وحتى الوقت الحاضر، القاهرة، مكتبة وهبة، 2006، و علاء عبد الرزاق، المقاومة السياسية لائمة اهل البيت من الصادق حتى الهادي، بغداد، دار الفراهيدي، 2016.

12. عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لملك الاشتر واليه على مصر، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية، النجف الاشرف، 2012، ص: 15 - 33

ص: 255

13. جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الانسانية، بیروت، دار الاندلس، 2010 ص: 250

14. نفس المصدر السابق

15. عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره؛ ص: 25

16. نهج البلاغة، شرح ابن ابی الحدید، بغداد، دار الكتاب العربي، مصدر سبق ذكره؛ الخطبة 192

17. جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الانسانية، مصدر سبق ذكر، ص: 213

18. نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 10

19. نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 10

20. عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 23

21. عهد الاشتر، نفس المصدر السابق، ص: 21

22. باقر شريف القريشي، حياة الامام الحسين عليه السلام، تحقيق مهدي باقر القریشی، کربلاء المقدسة، العتبة الحسينية المقدسة، ط ((2)) 2008،ص: 159

23. نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 165 - 174

24. نفس المصدر السابق، ص: 175

25. نفس المصدر السابق، ص: 175

26. نهج البلاغة، الخطبة ((216))

27. تفاصيل القصة عند المدرستين الاسلاميتين في الموقع الخاص بالعتبة العلوية المقدسة، باب مناقب الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ووردت عند ابي جعفر محمد بن علي بن شهر اشوب، مناقب ال ابي طالب، المجلد الاول، بیروت، مؤسسة الاعلمی للمطبوعات، 2009، ص: 384

ص: 256

28. نهج البلاغة: الجزء الثالث، وصية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لمحمد بن أبي بكر حين توليته مصر، ص: 31

29. نهج البلاغة، الجزء الثاني، ص: 3

30. نهج البلاغه، خطبة ((216))

31. عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 25

32. نفس المصدر السابق، ص: 27

33. نفس المصدر السابق، ص: 34

34. نفس المصدر السابق، ص: 35

35. نفس المصدر السابق، ص: 41

36. عهد الاشتر، نفس المصدر السابق، ص: 37 - 39

37. نفس المصدر السابق، ص: 42

38. نفس المصدر السابق، ص: 43

39. عهد الاشتر، نفس المصدر السابق، ص: 45

40. نفس المصدر السابق، ص: 48

41. نفس المصدر السابق، ص: 51

42. نفس المصدر السابق، ص: 52

43. عهد الاشتر، مصدر سبق ذكره، ص: 58

44. عهد الاشتر، نفس المصدر السابق، ص: 58

ص: 257

ص: 258

التعايش السلمي دراسة في المأثور عن الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

د. محمد الجيلاوي

ص: 259

ص: 260

المقدمة:

أكد الإسلام مسألة التعايش السلمي بين الناس، وقد وردت في الآيات والروايات والفقه الإسلامي بحوث مفصلة في هذا الباب. وقد أولى النظام الإسلامي، بما له من شموليه ومبادئ إنسانية، الأقليات الدينية والطوائف غير المسلمة عناية فائقة، وبنى الكيان الاجتماعي على أساس التعايش السلمي وضمان حقوق الجميع.

وفي عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، يوصى الإمام مالكاً بمحبة الناس والرأفة بهم، ولم يفرِّق الإمام (عليه السلام) بين المسلم الذي عبرّ عنه بالأخ في الدين، وغير المسلم الذي عبرّ عنه بالنظير في الخَلق.

وقد كان منهج حُكمه (عليه السلام) امتداداً ذاتياً لمنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يقوم بالعمل الذي قام به (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإنَّ سياسته ومنهجه (عليه السلام) في أيام حُكمه إقامة العدل برحابه ومفاهيمه وإماتة الباطل وإحياء سنن الإسلام. فهناك فارق بين سياسته التي قامت على العدل، وبين سياسة خصومة التي عاشت على الأموال والرغبات والأمور الدنيوية الأخرى.

إنَّ هذه الدراسة التي أقدمها إنما هي صفحة من صفحات ذلك النظام الرائع والتعايش السلمي الذي يملأ النفوس ثقة واطمئناناً بعدله وأصالته وسلامة أهدافه، فقد حوت بنوده على خير الإنسانية وعلى تحقيق آمالها وأحلامها.

وقد حاولت في هذا البحث تسليط الضوء على جانب مهم من خطاب الإمام علي (عليه السلام) الفكري في نهج البلاغة إلى واليه على مصر مالك الأشتر، وهو الدعوة إلى السلم والتعايش السلمي بين أبناء الديانات والمجتمعات المختلفة، وعدم

ص: 261

التمييز بين طبقات المجتمع.

وكان الإمام علي (عليه السلام) أول المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة للجميع، وهم متساوون.

وسبب اختياري للموضوع، هو الحرص على التذكير بالتعايش السلمي في عهد الإمام علي (عليه السلام) بين المجتمع آنذاك. ونحن اليوم بحاجة إليها في ظل الظروف التي يمر بها بلدنا الحبيب.

ص: 262

التمهيد

(التعايش السلمي) لغة واصطلاحاً

التعايش لغةً:

عيش: العَيشُ: الحياةُ، عاشَ يَعِيش عَيشاً وعِيشَةً ومَعِيشاً ومَعاشاً وعَيشُوشةً (1).

قال الجوهري (ت 393 ه): كلُّ واحد من قوله مَعاشاً ومَعِيشاً يصلُح أَن يكون مصدراً وأَن يكون اسماً مثل مَعابٍ ومَعِيبٍ ومَمالٍ ومَمِيلٍ، وأَعاشَه الله عِيشةً راضية (2).

السلم لغةً:

السَّلم والسِّلمُ: يفتح ويكسر ويذكر ويؤنث. والسَّلَامُ والسِّلمُ والسَّلَمُ: الصّلح (3). قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُم السَّلَامَ لَستَ مُؤمِناً) (4).

والسَّلامُ في الأَصل: السَّلامةُ، يقال: سَلِمَ يَسلَمُ سَلاماً وسَلامةً، ومنه قيل للجنة: دار السَّلامِ؛ لأَنها دار السَّلامةِ من الآفات.

والسَّلمُ والسَّلامُ: كالسِّلمِ. والسِّلمُ: المسَالِمُ. تقول: أَنا سِلمٌ لِمَن سالَمني.

وتَسالَموا: تصالحوا، والسَّلَمُ: الاستِسلامُ، والتَّسالُمُ: التَّصالُحُ. والمُسالَمةُ: المُصالحة.

والسَّلامُ: الاستِسلامُ، وحكي السِّلمُ والسَّلمُ الاستِسلامُ وضد الحرب.

والإِسلامُ والاستِسلامُ: الانقياد. والإِسلامُ من الشريعة: إِظهار الخضوع وإِظهار الشريعة والتزام ما أَتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبذلك يُحقَنُ الدم ويُستَدفَعُ المكروه (5).

ص: 263

التعايش السلمي اصطلاحاً:

يعني التعايش: الاشتراك في الحياة على الألفة والمودة والمحبة من خلال العيش المتبادل مع المخالفين القائم على المسالمة والمهادنة.

والعيش: معناه الحياة، وهو العيش على هذه الأرض منذ نزول أبينا آدم (عليه السلام) إلى يوم الساعة من دون تفريق بين بني البشر.

والسلمي: وصف مؤكد لطبيعة التعايش، وهذا فرض أنَّ هناك تعايشاً غير سلمي.

ولم ترد لفظة التعايش والتسامح في القرآن الكريم أو السنة النبوية.

والقرآن الكريم يبين أنه لا حرج على المسلم أن يحيا في ظل التعايش السلمي بينه وبين أي إنسانٍ مخالف له في دينه ومعتقده، ما لم يُظَاهِر الطرف الآخر المسلم بالعداوة والتحريض، أو الإساءة والخيانة.

والإسلام لا يوصي بمبدأ التعايش السلمي فحسب؛ بل تخطّاه إلى أبعد من ذلك، فحثّ المسلمين على إقامة وشائج الصداقة والمحبّة مع الشعوب غير المسلمة. قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (6).

فالإسلام يفتح صدره للجميع، ويمد يده للجميع، ويدعو للتعايش السلمي بين جميع الشعوب والأمم. قال تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (7).

والتعايش السلمي: التعاون بين دول العالم على أساس من التفاهم وتبادل المصالح السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والثقافية.

ص: 264

ويطلق على التعايش السلمي بالمصطلح الحديث: المواطنة والسلم الأهلي.

ومصطلح التعايش: (coexistence) شاع رواجه في العصر الحديث؛ وذلك نتيجة الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية.

ويقال: إنَّ كلاً من الكتلتين: الشرقية والغربية، تدعو إلى التعايش السلمي فيما بينهما، وفي الوقت نفسه تتسلح كل منهما، وتتحصن خوفاً من الأخرى (8).

وتاريخياً يقصد مصطلح التعايش السلمي: نبذ الحرب كوسيلة لحل الخلافات الدولية.

وهو عبارة عن سياسة جاء بها الرئيس السوفيتي خروتشوف سنة 1953 م. ويتمثل التعايش السلمي في محاولة العسكرين تجاوز خلافاتهما الايديولوجية والاقتناع بإمكانية وجود نظامين رأسمالي وشيوعي.

ومصطلح التعايش السلمي مصطلح سياسي يعني البديل عن العلاقات العدائية بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة، ومع كونه مصطلحاً سياسياً فليس هناك ما يمنع التوسع في استخدامه في ساحة العلاقات الاجتماعية بين أتباع الديانات المختلفة ولاسيما إذا كانوا في دولة واحدة.

والتعايش السلمي لا يقوم فقط بين الدول وإنما بين الشعوب أيضاً، مع بعضها بعضاً، وبين أبناء الشعب الواحد والمدينة الواحدة وهكذا. فالتعايش هو مجتمعات متكاملة يعيش فيها الناس من مختلف الأعراق والأجناس والأديان منسجمين مع بعضهم بعضاً، ولا يتطلب أدنى فكرة للتعايش سوى أن يعيش أعضاء هذه الجماعات معاً من دون أن يكفر بعضهم الآخر، ويقتل أحدهم الآخر.

والتعايش السلمي أيضاً يكون مع المخلوقات الخارجية الأخرى التي تعيش في كواكب أخرى، فعندما استقبل الإمام علي (عليه السلام) دهقان من دهاقين الفرس

ص: 265

وهو من المنجمين، فسأل المنجم الإمام (عليه السلام) أسئلة كثيرة، فقال (عليه السلام): (البارحة سعد سبعون ألف عالم، وولد في كلّ عالم سبعون ألفاً) (9).

إنَّ هذه الأرقام يقصد منها تثبيت فكرة تعدد العوالم وسعة الكون!. لا أحد في العصر الحديث يبدو أنه يمكنه التصديق بأنَّ هذه الملايين من النظم التي تدور حولها المليارات من الكواكب بعضها بقدر الأرض وبعضها أكبر منها بألف مرة ليست مسكونة وخالية من أية مخلوقات!. ولولا هذا الشعور لما أرسلت وكالة الفضاء رسالة بخمسين لغة حية وفيها تراتيل من الكتب الثلاث إلى سكان الكواكب تطلب فيها إليهم عدم مهاجمة الأرض وضرورة التعايش السلمي!! (10).

و مما تقدم نجد: إنَّ التعايش السلمي في ضوء القواعد الإنسانية وفي ضوء مقاصد الإسلام هو عبادة ربانية وضرورة بشرية. وإنَّ البشرية، سواء كانت مجتمعات أم أفرداً، وسواء كانوا مختلفين في اللون أم العرق، أو الدين والمذهب، أو الرأي، أو اللغة، أو القومية والحزب لا يمكن أن تستقر ولا يمكن أن تتقدم ما لم يسعون إلى التعايش السلمي، واحترام الإنسان بما هو إنسان.

فالإسلام يؤكد احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأنَّ الإنسان بما هو إنسان محترم، قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (11).

الوالي مالك الأشتر (رضي الله عنه):

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي، المعروف بالأشتر: أمير، من زعماء العرب وفرسانهم وأكياسهم، ومن كبار الشجعان. وكان رئيس قومه. أدرك الجاهلية والإسلام. سكن الكوفة. وكان له نسل فيها. وشهد اليرموك وذهبت عينه فيها. وشهد يوم الجمل، وأيام صفين مع الإمام علي (عليه السلام). وله شعر جيد، ويعدّ

ص: 266

من الشجعان الأجواد العلماء الفصحاء (12).

وكان الأشتر من رؤساء الشيعة الموالين لأهل البيت (عليهم السلام).

واعتمد عليه الإمام علي (عليه السلام) وادخره للمهمات. وقال فيه من جملة ما قال (عليه السلام): (کَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً وَ عَلَی عَدُوِّنَا شَدِیداً نَاقِماً)) (13). وقال أيضاً (عليه السلام): (رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (14). وقال أيضاً (عليه السلام): (مِمَّنْ لَایُخَافُ وَهْنُهُ وَلَا سَقْطَتُهُ) (15). فكان الأشتر يجمع بين العلم والعقل والإخلاص، زيادة على الشجاعة والفروسية.

وقال (عليه السّلام)، وقد جاءه نعى الأشتر رحمه الله: (مَالِكٌ وَ مَا مَالِكٌ وَ اَللَّهِ لَوْ کَانَ جَبَلاً لَکَانَ فِنْداً وَ لَوْ کَانَ حَجَراً لَکَانَ صَلْداً لاَ یَرْتَقِیهِ اَلْحَافِرُ وَ لاَ یُوفِی عَلَیْهِ اَلطَّائِرُ) (16). وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين هجرية.

والرسالة التي تلقاها مالك الأشتر من الإمام (عليه السلام) حين ولاه على مصر، تعرف بعهد الأشتر. وقد أخذ هذا العهد حظاً كبيراً من اهتمام العلماء العرب وغير العرب قديماً وحديثاً، ومنهم مستشرقون، ونقل المؤلفون وكتاب المقالات كثير من فصوله. ولمحمد تقي الحكيم كتاب «حياة مالك الاشتر» تناول فيه حياة مالك.

ص: 267

التعايش السلمي عند الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه):

إنَّ عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر واليه على مصر، بيانٌ يشرح أهداف الحكومة، وبرنامجٌ عملي للحاكم في سياسته وحياته الشخصية.

وإنّ التعايش السلمي الإنساني موضوع مهم يمكن استخراجه من كلام الإمام علي (عليه السلام)، ليصبح وصفة ناجعة للتعامل الحضاري البناء بين مختلف المجتمعات على الرغم من اختلافاتها، مما يصون هذه المجتمعات المتعددة في الدين أو الثقافة أو السياسة أمام الرؤى المنغلقة والمتطرفة التي لا تريد للعالم مجالاً للتعامل والحوار والتعددية، بقدر ما تريده حلبة للصراع الحضاري، فالمتشددون لا يعرفون الاصطياد إلا في المياه العكرة! وقد سار الإمام علي (عليه السلام) على سيرة أستاذه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا (عليه السلام) لمشروع إنساني قيمي، يقوم على مبادئ، قد جاء بها الإسلام، فكان (الآخر) في منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو أخ في الدين أو أخ في الإنسانية، ويذهب أبعد من ذلك، فهو يقبل بالعدو، ويعامله بالحسنى والعطف، والإعراض عن الازدراء به، وسلبه مكانته الاعتبارية. وكان العدل أساس حكم أمير المؤمنين (عليه السلام). فكان عصر الإمام علي (عليه السلام) عصر الحرية الواسعة.

وكانت الحرية الواسعة أشبه شيء بالحريات التي منحها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للناس في بداية الإسلام، فكان يعيش في المدينة المنورة بجنب المسلمين: المشركون، واليهود، والنصارى، والمنافقون، مختلطين في دورهم وأسواقهم يتعاملون ويمارسون حرياتهم المتبادلة في ظل الإسلام.

وإنَّ الرجوع إلى سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكشف لنا عن كمٍ هائل من الوصايا والوقائع التي تحقق لنا تواصلاً ناجحاً مع الآخرين، والالتزام بتلك

ص: 268

الوصايا كفيل بتحقيق تعامل فعال مع الناس، فعملية التعايش تبدأ من نظرة الانسان إلى نفسه وتقييمها، ومدى نجاحه في إقرار حالة التعايش الداخلي مع ذاته، فالذي ينظر إلى نفسه نظرة إيجابية مطلقة أو سلبية مطلقة، ويقيّم الآخر بأنه سلبي أو إيجابي بصورة مطلقة، لا يمكنه أن يتعايش مع الآخر، وكذلك المتعثر في التعايش مع ذاته في محاكاته وحواراته مع الذات للخروج بتوازن بين الإرادات الداخلية المتباينة كالعقل والعاطفة والضمير والنفس وما إلى ذلك، فيكون ذا شخصية بعيدة عن التوازن والاعتدال والوسطية، وهذا مما يبعد الإنسان عن التعايش، فالتعايش يبدأ من دائرة الذات ويمتد ليؤثر، ويتأثر بجميع دوائر التعايش. يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» (17). فالأصل الانساني واحد، والجميع مكرمون، والاختلاف والتنوع والتعدد في اللغات والألوان من آياته ومعجزاته للعالم. وإذا كانت التعددية من آياته سبحانه وتعالى، وهي الأصل في الحياة؛ فما هو الطريق للتعامل بين مكونات التعددية؟ قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (18).

بعد تأكيد التعددية يحدد الله عزَّ وجلَّ معيار التفاضل بالتقوى الذي هو عليم خبير بها، ويشير إلى مقدمة من مقدمات التعايش، وهو التعارف بين مكونات نسيج الأسرة العالمية الواحدة.

والتعارف عادة يمهّد للتفاهم، والتقارب والتعاون والتعايش، وإنَّ الآثار الخطيرة للمعرفة الخاطئة أو الناقصة عن الآخر باتت معروفة، ولذلك يؤكد المصلحون ضرورة تجاوزها، ومعالجتها لدعم التعايش، لدفعه نحو التعاون، كما في قوله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» (19).

ص: 269

وفي الحديث الشريف عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): ((خَيرُ النّاسِ مَن نَفَعَ النّاسَ)) (20).

فالتعددية هي الأصل، وهي آية، واختبار، وتنافس، واستباق الخيرات في وقت واحد قال تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (21). فالإسلام يصحّح النظرة إلى الذات أولاً، وإلى الآخر ثانياً، وإلى التعددية ثالثاً، ويزرع متطلّبات التعايش رابعاً، فيعالج التحجيم والتضخيم سواءً في النظرة إلى الذات أم إلى الآخر، بالإشارة إلى وحدة الأصل الانساني، وتكريم الإنسان بما هو إنسان إلى جانب نفيه للغرور والتعصب وما شابه ذلك من معوّقات الاتصال والتعارف، والإسلام لم يحترم حرية الآخرين فحسب؛ بلّ يسمح للآخر بتطبيق قوانينه في بيئته وضمن المجتمع أو النظام الاسلامي وقاعدتا الالزام والإمضاء في الفقه الاسلامي خير دليل على ذلك، وفي الأحلاف والاتفاقيات التي عقدها وطبّقها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصعيدين الخارجي والداخلي ما هي إلا أكبر وأرقى أنواع التسامح المطروحة هذه الأيام مع بداية الألفية الثالثة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الإسلام يكرّسُ كل متطلبات ودعائم التعايش وما ينعشه ويضمنه بصورة مستديمة مثل: القسط، والعدل، والإنصاف، والعفو، والصفح، وإحقاق الحق، ونفي الظلم، وحسن الظن وما إلى ذلك؛ قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (22).

يقول الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لما ولاّه مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن: ((وأَشعِر

ص: 270

قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ) (23). وكأنه لضمان التعايش بين الرعية، لا يكتفي بمجرد التزام الراعي الرحمة والمحبة واللطف في التعامل مع رعيته.

اذن: فما هو المطلوب؟ وما هو البديل؟ إنَّ المطلوب هو الانطلاق من الذات، والانطلاق من القلب، لتبدأ بزراعة الحب والرحمة واللطف، حتى يتحول ذلك الحب الذي يسع جميع مكونات النسيج الاجتماعي إلى ملکه.

ويشير الإمام (عليه السلام) إلى عدم جدوى كل ما تقدّم ما لم يعزّز بتكريس حقوق الرعية، ويتحاشي الإضرار بها، وبمكوّناتها المختلفة بقوله: (وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ) (24). أي لا تضر الناس ولا تهضم حقوقهم. ثمَّ يؤكد (عليه السلام) العفو والصفح لخلق الأرضية الخصبة للتسامح والتعايش بقوله: (یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ... وَلَاتَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَلَاتَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ) (25).

(يَفرُطُ): أي يسبق. (مِنهُمُ): أي من الناس. (الزَّلَلُ): وتَعرِضُ لَهُمُ العِلَلُ: أي علة الأعمال السيئة. (ويُؤتَى عَلَى أَيدِيهِم فِي العَمدِ والخَطَأ): أي طبيعة الإنسان. (فَأَعطِهِم مِن عَفوِكَ وصَفحِكَ... ولَا تَندَمَنَّ عَلَى عَفوٍ)؛ إذ العفو أحسن عاقبة من الانتقام. (ولَا تَبجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ): أي لا تفرحن بسبب ما عاقبت به أحداً، فإنَّ العقوبة شرّ عاقبة مهما كانت حقاً. وعلى الانسان أن لا يعتدي ويسئ إلى أخيه الإنسان بشيء، وأن ينصفه من نفسه، ويكون عوناً له على ظالمه سواء أكان على دينه أم على دين الشيطان. قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لشيعته: (أَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وإِن كَانُوا مَجُوسِيّاً) (26). وقال له أحد أصحابه وأتباعه: وَقَعَ لِي مَالٌ عِندَّ يَهودِيٍّ، فَاکَابَرَنِي عَلَيه

ص: 271

وحَلَفَ، ثُمَ وَقَعَ لَه عِندِي مَالیُ فَهَل آُخَذَه مَکَانَ مَالِيَ الَّذِي أخَذَه وأجحَدُه وأحلِف عَلَيه، کَمَا صَنَعَ. فَقَالَ الإمامُ الصادق (عليه السلام): (إِن خَانَكَ فَلَا تَخُنه، ولَا تَدخُل فِيمَا عِبتَه عليه) (27).

وقد تعرّض الإمام علي (عليه السّلام) في هذا الفصل من عهده للأشتر لبيان روابطه مع رعيته والمسوسين له من العامة والخاصّة.

ورابطته أنه وال على النّاس وبيده القدرة والأمر والنهي مع كلّ أحد، وقد بيّنها في أمور منها:

1. أن يكون ملء قلبه المحبّة واللطف والرّحمة لكافّة الرعيّة.

2. عدم سوء الافادة عن قدرته عليهم فيصير ذئباً يغتنم أكلهم؛ لأنَّ رعاياه، إمّا إخوانه في الدّين كافة المسلمين، وإمّا إخوانه في الإنسانية كالذمّي والمعاهد.

3. الصفح عن خطاياهم والعفو عن ذنوبهم لنقصان التربية، ونبّهه على أنَّ نسبتهم إليه کنسبته إلى الوالي الآمر عليه وفوقه أيضاً هو الله تعالى، فينبغي الصفح عنهم، وأنّه يرجو الصفح عنه من الوالي الأمر وفوقه من الله تعالى القادر، وبيّن أنَّ تعذيب عباد الله تعالى بمنزلة الحرب مع الله الَّذي لا قدرة تجاه عقوبته، ولا غنى عن عفوه ورحمته.

4. أمره برعاية الانصاف مع الله تعالى و خلقه، سواء بالنسبة إلى نفسه أو أهله أو من هواه من رعیته، فلا يهضم حقّ الله وحقّ أحد من عباده لرعاية هؤلاء فإنه ظلم والله تعالى خصم للظالم، ومن خاصمه الله تعالى أدحض حجته وكان لله حرباً حتّى يتوب والظلم يوجب تغيير النعم وسلب الأمارة والحكم.

5. أمره برعاية ما هو أفضل في أداء الحقّ وما هو أعمّ لجميع الرّعيّة في اجراء العدل وما هو أجمع لرضا الرعية في تمشية الأمور وإن كان يوجب سخط الخاصّة من

ص: 272

أرباب النفوذ وأصحاب المقامات السّامية، وعلَّل ذلك بأنّ غضب عامّة الرعيّة وعدم رضاهم عن وضعهم يوجب الثورة والبلوى ولا يقدر الخاصّة مهما كانوا مخلصين للحكومة وجادين في نصرتها المقاومة تجاه سيول الثائرين وأهل البلوى (28).

وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعامل ويوصي لأفضل عماله وخير صحابته بحسن معاملة الرعية؛ لإنَّ التمييز الذي كان قبل الإسلام بين بني البشر قد ألغي من الله تعالى وقد وضح ذلك في آيات قرآنية عديدة، وكذلك ألغي من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث شريفة، ثمَّ من أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ). فقد كانت الرومان تعتقد - فلسفياً - أنَّ العنصر الأبيض غير العنصر الأسود جنساً ودماً وخلقة. فالدم الذي يجري في عروق الإنسان الأبيض يختلف عن الذي يجري في عروق الأسود وكأنهما خلقا من أصلين متباينين.

وقد خلق الأسود لكي يخدم الأبيض. فوجوده لوجوده، على غرار سائر الحيوانات والنباتات والأحجار. فالإنسان الكريم هو الأبيض! أما الأسود فهو مخلوق لخدمة الأبيض! فهو عبد له في أصل خلقته، وللإنسان الأبيض أن يستغل الإنسان الأسود أينما وجده أو عثر عليه، فهو مُلكٌ له وهو مالكه وفق القانون.

تلك كانت نظرة الأمم المتمدنة - أمثال الرومان والفرس واليونان وغيرهم - إلى الجنس الأسود إطلاقاً. لذلك كان النخاسون يغيرون على المناطق الأفريقية لصيد الإنسان الأسود زرافات وأفراداً، يحملونهم في السفن ويأتون بهم إلى الأسواق فيبيعونهم كما تباع الأغنام والمواشي؛ بل وبصورة أفجع!

ص: 273

وكانت الموالي تعامل العبيد معاملة سيئة، يستغلون منافعهم ومواردهم ويفرضون عليهم الإتاوات الثقيلة، ويكلفونهم ما لا يطيقون، أو يعبثون بأرواحهم غاية التفريح وترويح النفس، كأداة صامتة يعمل صاحبها بها ما شاء!

جاء الإسلام - والعالم منهمك في مهاوي الغي والفساد - جاء ليضع حداً لتلك المظالم، ونهاية للعبث والفساد، وليوقظ العقل البشري الذي أخذه السبات العميق منذ مدة سحيقة، ولينير درب الحياة من جديد فتنتهي الأمم عن غيها وجهلها، وتهتدى إلى سبل الصلاح، والسلام، والعلم، والعدل، والإنصاف: سبيل الإنسانية الفاضلة! (29)

سأل السيد جعفر العاملي عن الوحدة الإسلامية، هل هي وحدة سياسية أم أوسع من ذلك؟ فأجاب: إن المقصود بالوحدة هو: الوحدة الإنسانية (30): بمعنی أن نتعامل مع الآخرين على أساس أنهم: (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).

فالناس كلهم على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم وعقائدهم وانتمائاتهم أخوة في أصل واحد، أو رابط واحد وهو رابط الإنسانية، فجميعنا بلا استثناء أخوة في الإنسانية والبشرية، أي كلنا من أب واحد وأم واحدة، وهما آدم وحواء، فهذه الأخوة أخوة إنسانية، وهي مهمة وضرورية لبقاء الحياة البشرية في سلام وأمان ووئام وراحة واستقرار، والعيش سلمياً بصورة اعتيادية. ولو لم تبق هذه الأخوة لم يبق أي رابط يربط بين الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ودياناتهم وعقائدهم، فهي رابطة عالمية ينبغي الذود عنها، والدفاع في سبيل بقائها، وعلى أساسها قامت المنظمات الدولية والإنسانية للدفاع عن حقوق الإنسان في كافة المجالات، وعلى أساسها منعت حروب وأوقفت، وعلى أساسها شكلت محاكم دولية، وعلى أساسها استقلت

ص: 274

دول، وتفككت دول أخرى، كل ذلك من أجل الحفاظ على حقوق الإنسان، وإن كنا نجهل المصالح السياسية والأطماع الدولية في كثير من المجالات.

وكان الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان قد عَلق قبل سنوات عدة على مقولة الإمام علي (عليه السلام): (يا مالك إنَّ الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، فقال: (هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كل المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية). وبعد أشهر اقترح عنان أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر. وبعد مدارسات طويلة طرحت اللجنة القانونية في الأمم المتحدة سؤلاً، هل هذا العهد (الكتاب) يرشح للتصويت؟ ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول ليكون أحد مصادر التشريع الدولي (31).

قوله (عليه السلام) لمالك في التعايش السلمي وتفضيل السلم على القتال:

قال (عليه السلام) لمالك: (وَلاتَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وَلِلّه فيهِ رِضًا فَاِنَّ فِى الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَراحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَأَمْناً لِبِلادِكَ) (32).

يعدّ هذا الكلام تأسيساً لخطابه الفكري (عليه السلام) في تفضيل السلم على الحرب. ولا يكتفي الإمام (عليه السلام) بتأسيس الخطاب فحسب؛ بل يفكّر أيضاً في ديمومته فيزيد في الكتاب نفسه (وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأمَانَةِ، واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَیْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ الله شَيْءٌ، النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ) (33).

لم يكن الإمام (عليه السلام) ممن يعشقون الحرب؛ بل كانت الحرب من المحظورات التي تبيحها الضرورات، فالحرب - بدمارها وقتلها للإنسان أي إنسان،

ص: 275

وهو إما أخ لنا في الدين أو نظير لنا في الخلق -، لا تشكل خيار الإمام (عليه السلام) الأول؛ بل هي خياره الأخير، فهو يؤخّر الحرب طمعاً في هداية الناس وتجنباً للقتال وحقناً للدماء: (فَوَ اَللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ یَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طَائِفَهٌ فَتَهْتَدِیَ بِی وَ تَعْشُوَ إِلَی ضَوْئِی وَ ذَلِکَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَی ضَلاَلِهَا وَ إِنْ کَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا) (34). لا شك في أنَّ تفضيل هداية الأعداء ومعايشتهم على خوض القتال معهم فكرة متجذرة في الخطاب القرآني العام، فيأمر الله سبحانه وتعالى موسى وهارون (عليهما السلام) بالذهاب إلى فرعون: (إِذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیناً لَعَلَّهُ یتذَکَّرُ أَوْ یخْشی) (35). وللقول الليّن أو الحوار. إذا أردنا ترهين المصطلح - مكانة رفيعة في الخطاب القرآني الذي انبنى عليه الخطاب العَلوي، فهذان الخطابان المؤسّسان على التذكر والخشية أمام الله سبحانه وتعالى كفيلان بسدّ الطريق أمام الطغيان الذي يؤسّس للحرب والدمار، بعد أن أغلق جميع الأبواب أمام الحوار الا والتعددية والتعايش، وهذا ما يشهد عليه التاريخ الإنساني بجميع طغاته.

فللتعايش مكانة مرموقة ليس في الديانة الإسلامية فحسب؛ بل في العلاقات التي تحك-م بين الديانات السماوية أيضاً، فليس التبشير بظهور نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكتب السماوية التي نُزّلت قبل القرآن الكريم إلا برهانٌ قاطعٌ على النزعة التعايشية المنفتحة التي تحكم تلك العلاقات، وأنَّ المكانة المهمة التي تحتلها قصص الأنبياء السابقين في النص القرآني دليل على هذا التعايش، وتعايش النصوص وهي منظومة من العلامات التي يهتدي بها الإنسان دليلٌ على تعايش المرسل والمرسل إليه، لا سيما وأنَّ مرسل هذه النصوص واحدٌ، وهو الله سبحانه وتعالى.

ويسبح النص العلوي بوصفه منبثقاً من النص القرآني في هذا الفلك التعايشي، فنرى أنَّ ذكر موسى وعيسى (عليهما السلام) يدخل في نسيج ضفائر نص نهج البلاغة. (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ علیه السلام، فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ، وَیَلْبَسُ

ص: 276

اَلْخَشِنَ وَیَأْکُلُ اَلْجَشِبَ، وَکَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ وَسِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ اَلْقَمَرَ، وَظِلاَلُهُ فِي اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمغَارِبَهَا، وَفَاکِهَتُهُ وَرَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ؛ وَلَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَلاَ وَلَدٌ یَحْزُنُهُ، وَلاَ مَالٌ یَلْفِتُهُ وَلاَ طَمَعٌ یُذِلُّهُ رِجْلاَهُ وَخَادِمُهُ یَدَاهُ) (36).

لا شك في أنَّ هذه الصورة التي يرسمها الإمام (عليه السلام) لعیسی بن مریم (عليه السلام) تتواشج مع مدلول النص الإنجيلي حين يقول على لسان السيد المسيح: «ما أصعب دخول الأنبياء إلى ملكوت الله! فمرور الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغنيّ إلى ملكوت الله». وإن دلّ هذا التواشج الدلالي على شيء فيدلّ على عقلية الإمام (عليه السلام) المنفتحة تجاه الآخر المسيحي ونصّه المقدّس (37).

ويتراءى لنا أنَّ هذا الانفتاح النصي بحاجة إلى انفتاح في التأويل، وهذا الانفتاح يحتاج قبل كلّ شيء إلى عقلية منفتحة لدى المتلقي، ولا يحصل هذا الانفتاح إلا عبر التعايش السلمي مع الآخر بكيانه المستقل، وهذا يحتاج إلى نظرة تعددية لدى المتلقي أيّاً كانت ديانته.

ونكتشف من خلال فك شفرات هذه الفقرة من النصّ العلوي ومقارنته بالنصّ الإنجيلي أنَّ الإمام (عليه السلام) يركز على التعايش السلمي البناء مع الآخر، ولا نحصل على هذه الحصيلة الدلالية إلا من خلال الحفر في أعماق النصّ، كما رأينا، وليس الاكتفاء بقشوره، أي إنَّ النصّ العلوي - وكذلك النصّ القرآني - لا يذكر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) لنعتبر بقصصهم فحسب؛ بل يريد أن يؤسّس من خلال هذه العلاقة التناصية لخطاب فكريٍّ منفتح حيٍّ - وكلّ حيٍّ منفتحٌ - ليأتسي به كلّ من يقتدي بالإمام (عليه السلام)، فيحترم الآخر وينفتح عليه، ليكون التعايش السلمي معه خیارنا الأول والأهم في الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية على المستويين المحلي والعالمي.

ص: 277

يجب الانتباه إلى أنَّ التركيز على التعايش السلمي وتفضيل السلم على القتال في الخطاب العلوي لا يعني أن نغط في نوم الغفلة العميق؛ بل علينا دائماً أن نكون على أهبة الاستعداد لمواجهة الأخطار التي يمكن أن تكون لنا بالمرصاد.

ونرى كيف أنَّ الإمام (عليه السلام) يطالب الأشتر النخعي بأخذ الحذر كله: (وَلكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ؛ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِی ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ) (38).

لا شك في أنَّ أخذ الحذر من العدو أو كل من بإمكانه أن يشكل خطراً للمسلمين يتطلب تضامناً حقيقياً بينهم، ليصبحوا أقوياء يستطيعون الرهان على السلام والتعايش مع الآخر؛ لأنَّ سلام الأقوياء يشكل خياراً أنسب في عالم لا نستطيع أنّ نعيش فيه حياة كريمة لمجرد النوايا الطيبة، وتكشف لنا تجارب تاريخية على مستوى العلاقات الدولية مثل الحرب الباردة، أنَّ السلام والتعايش في أدنى درجاتها يمكن أن يتحققا من خلال موازنة الخوف من الآخر، ولاشك في أنَّ هذا اللون من السلام والتعايش أفضل بكثير من الصراع والحرب (39).

ويرى الإمام (عليه السلام) في الوحدة رمزاً للقوة وفي الفرقة رمزاً للضعف: (فَانْظُرُوا کَیْفَ کانُوا حَیْثُ کانَتِ الأمْلاءُ مُجْتَمِعَةً، وَالأَهْواءُ مُتَّفِقَةً وَالقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَالأَیْدِی مُتَرادِفَةً وَالسُّیُوفُ مُتَناصِرَةً وَالبَصائِرُ نافِذَةً وَالعَزائِمُ واحِدَةً أَلَمْ یَکُونُوا أرْباباً فی أقْطارِ الأَرَضِینَ، وَمُلُوکاً عَلیٰ رِقابِ العالَمِینَ، فَانْظُرُوا إلیٰ ما صارُوا إلَیْهِ فی آخِرِ أمُورِهِمْ، حِینَ وَقَعَتِ الفُرْقَةُ وَتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الکَلِمَةُ وَالأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ وَتَفَرَّقُوا مُتَحازِبِینَ، قَدْ خَلَعَ اللّٰهُ عَنْهُمْ لِباسَ کَرامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضارَةَ نِعْمَتِهِ، وَبَقِیَ قَصَصُ أَخْبارِهِمْ فِیْکُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِینَ) (40).

ص: 278

ماذا نجني من السلام والتعايش السلمي:

يقول الإمام (عليه السلام) في كتابه لمالك الأشتر: (فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِلاَدِكَ) (41).

إذا وسّعنا مدلول (الجنود) و (الهموم) و(الأمن) ليشمل كل الطاقات التي من المفترض أن تقوم بالتنمية الدائمة الشاملة في كلّ مجتمع من المجتمعات البشرية، فنستطيع أن نستوعب مدلول كلام الإمام (عليه السلام)، فنرى كيف كان الإمام (عليه السلام) يؤمن بأثر السلام في تنمية الطاقات المختلفة التي يمتلكها المجتمع ليستخدمها في تطويره في مختلف الميادين؛ وذلك بعيداً عن الهموم والمشاكل التي تواجهها كثير من المجتمعات المسلمة التي كانت عليها أن تقتدي بكلام الإمام (عليه السلام)، وتجتاز العقبات التي سدت طريق التقدم والتنمية أمام هذه المجتمعات. وتوفير الفرص للقيام بعملية الإصلاح في المجتمع، وهناك فائدة أخرى للسلام يضع الإمام إصبعه عليها، فيقول ردّاً على الذين سألوه: لِمَ جَعَلتَ بَينَكَ وبَينَهُم أَجَلًا فِي التَّحكِيمِ. يقول (عليه السلام): (فَإِنّمَا فَعَلتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيّنَ الجَاهِلُ، وَ يَتَثَبّتَ العَالِمُ، وَ لَعَلّ اللّهَ أَن يُصلِحَ فِي هَذِهِ الهُدنَةِ، أَمرَ هَذِهِ الأُمّةِ، وَ لَا تُؤخَذَ بِأَكظَامِهَا، فَتَعجَلَ عَن تَبَيّنِ الحَقّ، وَ تَنقَادَ لِأَوّلِ الغيَ ّ) (42). إذا كانت في الهدنة التي أعقبت الحرب مع العدو فرصة للإصلاح وإخماد نيران الأحقاد والعودة إلى الرشد وسواء السبيل، فمن البديهي أن يكون للسلام والتعايش مثل هذه الإنجازات في علاقاتنا المحلية والإقليمية والدولية.

إنَّ التعاضد والتضامن في وجه الأخطار التي تهدّد المجتمعات المتعايشة المسالمة من الثمار التي تجنيه هذه المجتمعات من السلام والتعايش، ونرى ذلك في النص العلوي حين نستنطق ضفيرة من ضفائر هذا النص، فيذكر الإمام (عليه السلام) في حلف

ص: 279

يعقده بین ربيعة واليمن أنهما تصبحان (يداً واحدة) ومن ذوي (دعوة واحدة)، أي أنَّ السلام والتعايش يبرزان القواسم المشتركة بين هاتين الطائفتين من الناس لتنتج عنها قوة واحدة تحمي الطرفين المسالمين.

وغني عن الذكر أنّنا حين نقوم بترهين هذا الجزء من الخطاب العلوي علينا أن انتبه إلى أنَّ المجتمعات المعاصرة ليست مثل (المجتمعين) الذين عقد الإمام (عليه السلام) بينهما، فالمجتمعات المعاصرة أكثر تعقيداً وتعددية، الأمر الذي يجعلنا نحترم الآخر بخصوصياته الثقافية وبكيانه المستقل، حتى ولو كان هذا الآخر ممن يشترك معنا في الديانة واللغة وما شابههما من القواسم المشتركة.

إنّ الإمام (عليه السلام) خاض كثيراً من الحروب الطاحنة التي فرضها عليه أعداء الإسلام ومعارضوه، الأمر الذي أجبره ليخصّص معظم طاقاته الجسدية والفكرية للتعامل مع هذه الأحداث، ولا شك في أنَّ ذلك تمَّ بالفعل على حساب الفضاء النصي الذي خصّه لخطابه السلمي التعايشي في نصوصه التي نجدها بين أيدينا، ولا شك أيضاً في أنَّ هذا التقلص في الفضاء النصي لا يعني أبداً الضالة في القيمة الدلالية لخطابه المسالم. زيادة على ذلك إننا نستغرب من تعامل الإمام (عليه السلام) السلمي في أحيان كثيرة، فيتوقع كثير منّا نقيضه حين نقوم بعملية إعادة خلق الواقع التاريخي. ولا يخوض الإمام (عليه السلام) غمار الحرب على السلطة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يعامل بمرونة من كان يعامله بعنف.

والدعوة التي دعا إليها الإمام (عليه السلام) هي دعوة السلم والتعايش السلمي بين أبناء الديانات والمجتمعات المختلفة، وقد رأينا كيف أنَّ الخطاب العلوي هو خطاب منفتح يناشد حياة مفعمة بالتعايش والسلام، وتراءى لنا ذلك من خلال استنطاق بعض طبقات النص في نهج البلاغة، مع ذلك فإننا نعتقد أنَّ هذا النصّ

ص: 280

نصّ تعدّدي يحتمل قراءات متعدّدة، غير أنَّ ذلك لا يمنعنا، ونحن نحاول تقديم قراءة لهذا النص، أن نقول إنَّ: خطاب الإمام (عليه السلام) الفكري خطابٌ مؤسسٌ على التعايش السلمي، على الرغم من ضآلة الفضاء النصي الذي يحتلّه هذا الخطاب الفكري بالمقارنة إلى الفضاء المخصّص بما يمكن أن نسميه الخطاب القتالي في نهج البلاغة.

وينبني الخطاب العلوي المسالم هذا على الدعوة إلى السلام والحفاظ عليه، کما ينبني على الإشادة بالأنبياء السابقين (عليهم السلام)، وأشرنا إلى ذلك من خلال ذكر النص العلوي للسيد المسيح (عليه السلام)، مما يكشف عن علاقة حوار وتناصّ بين نصي نهج البلاغة والإنجيل، الأمر الذي يدعو المتلقي إلى حياة مؤسّسة على الحوار والتعددية واحترام الآخر بخصوصياته الثقافية والحضارية التي تتمثل في الكيان المستقل لكل مجتمع من المجتمعات، والاعتراف بهذا الكيان حجر أساس اللحوار والتعددية فالتعایش (43).

حقوق الرعية لجميع الشرائح والأديان:

أخرج الكليني (ت 329 ه) في (الكافي) بسنده عن رجل من ثقيف، وكان من عمال أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: استعملني علي بن أبي طالب على بانقيا وسواد من سواد الكوفة، فقال (عليه السلام) لي: (إِیَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ مُسْلِماً أَوْ یَهُودِیّاً أَوْ نَصْرَانِیّاً فِی دِرْهَمِ خَرَاجٍ أَوْ تَبِیعَ دَابَّهَ عَمَلٍ فِی دِرْهَمٍ فَإِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ اَلْعَفْوَ) (44).

قامت حكومة الإمام (عليه السلام) العادلة في ارجاء الدولة الإسلامية على الروابط الحسنة مع جميع الأديان، فقد كان الإمام (عليه السلام) سمحاً دائماً يؤمن بحرية العقيدة ومبدأ التعايش السلمي بين معتنقي المبادئ المختلفة، ويعد أهل

ص: 281

الكتاب متساويين مع المسلمين في الحقوق والواجبات بطريقة أو بأخرى.

وجاء في كتاب (تهذیب الأحکام): إنَّ الإمام علي (عليه السلام) كان يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس، فوجه الإمام (عليه السلام) السؤال إلى من حوله من الناس قائلاً: (ما هذا؟) فقالوا: إنه نصراني کبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له مال يستعيش به، فيكتنف الناس. فقال الإمام (عليه السلام) في غضب: (استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال) (45).

فجعل الإمام (عليه السلام) لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت.

الحقوق عند الإمام علي (عليه السلام) کاملة وللجميع، من دون تمييز، والضمان الاجتماعي من بيت المال عام يشمل كل الناس، فالحاجة لابدّ أن تسدّ مع حفظ الكرامة الانسانية.

أليس التمييز عدوّاً للتعايش؟ ألا يكون التعايش - إن وجد - هشّاً مع الحاجة والفقر والخوف من المستقبل وإهدار الكرامة الإنسانية لسدّ العَوَز؟.

والإمام (عليه السلام) يوصي مالكاً بالضمان في قوله: (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاْسْلاَمِ فِي کُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلاْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَدْنَى، وَکُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ؛ وَلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ) (46).

يقول الإمام (عليه السلام) لمالك: (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ): أي لا سبيل لهم لإدارة أمورهم. (مِنَ المَسَاکِينِ): والمسكين هو الذي أسكنه

ص: 282

الفقر من الحركة. (والمُحتَاجِينَ): جمع محتاج هو صاحب الحاجة. (وأَهلِ البُؤسَی): أي شديدي ذوي الفقر. (والزَّمنَی): أي ذوي الأمراض والعاهات التي تمنع عن العمل. (فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً): أي سائلاً. (ومُعتَرًا): أي معترّضاً للعطاء بلا سؤال. (وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الاْسْلاَمِ فِي کُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلاْقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلاَدْنَى): أي لا يكون تمييز في ذلك الضمان بين المركز والمحيط أو بين العاصمة والمحافظات أو بين المدينة والأرياف. (وَلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ): أي طغيان الملك والنعمة. (فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ): أي لا يقبل الله تعالى ولا الناس عذرك.

تعرّض (عليه السّلام) في هذا الفصل من عهده المبارك لبيان طبقات النّاس والرّعيّة وأثبت للرّعية طبقات سبعة وليس المقصود من ذلك إثبات نظام الطبقات وتأييده فإنَّ نظام الطبقات مخالف للعدل والديمقراطية الحاكمة بتساوي الرّعيّة في الحقوق.

فالبشر في تحوّله الاجتماعي شرع من النظام القبلية والأسرة المبني على أنَّ الحكم المطلق ثابت لرئيس القبيلة وأبي الأسرة يحكم على الأفراد با شاء يعزّ من شاء ويذلّ من شاء، فلا حياة للفرد إلَّا في ضمن القبيلة ويشترك معها في الخيرات والشرور على ما يراه صاحب الأسرة ورئيس القبيلة، وهذا أدني نظام اجتماعي وصل إليه البشر في تكامله الاجتماعي وانتقاله من الغاب إلى الصّحراء، وقد ظلّ البشر في هذا النظام آلافاً من السّنين يسكن في ظلّ بيوت من الشعر أو الجلد وينتقل من کور إلى کور. وقد تحولت أمم من هذا النظام إلى نظام مدنی أرقی قبل آلاف من السنين فقد ذکر بعضهم اکتشاف آثار المدنيّة في مصر من قبل خمسة عشر ألف عام وفي الصّين إلى ما قبل ذلك بآلاف من القرون، ثمّ ازدهرت المدنية في ما بين النّهرین وضواحي

ص: 283

إيران وفارس وظلّت قبائل أوربا وإفريقيا برابرة تعيش تحت الخيام إلى هذه العصور الأخيرة إلَّا ما ظهرت من المدنية في اليونان وبعض ضواحي البحر الأبيض وجزرها.

فنظام الطبقات يحصل للأمم بعد التحوّل من النظام القبلي ومرجعه إلى الأخذ بالحسبان الامتيازات بين الأفراد والأصناف ويبتني على التبعيض في الحقوق العامّة، کما شاع الآن في أفريقيا الجنوبية؛ إذ إنَّ الجنس الأبيض وهم الأسرة الحاكمة في البلاد يمتازون عن السودان وهم أكثر سكان البلاد الأصليين بحقوق واسعة، فنظام الطبقات يخالف التساوي والتآخي بين الأفراد والتساوي في الحقوق کما نادی به الإسلام. وقد تعلَّق العرب على النظام الطبقي والأخذ بالحسبان الامتياز من وجوه شتی: منها عدم تزويج بناتهم من غير العرب، وعدم تزويج القبائل بعضها من بعض، وقد اهتم النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بمحو النظام الطبقي وإلغاء هذه الامتيازات المتوهّمة بكلّ ما أتي من جهد.

ومقصوده (عليه السّلام) من قوله: (واعلم أنَّ للرّعيّة طبقات) ليس اثبات الطبقات بهذا المعنى؛ بل بیان اختلاف الرّعيّة في ما تتصدى له من شؤون الحياة البشريّة؛ إذ إنَّ الإنسان مدني بالطبع يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه من المأكل والملبس والمسكن ولا يقدر فرد واحد؛ بل أفراد على إدارة كلّ هذه الأمور فلا بدّ وأن تنقسم الرّعيّة بحسب مشاغلها إلى طبقات ويتصدّى كلُ طبقة لشأنٍ من الشؤون وشغلاً من المشاغل، ثمّ يتبادل حاصل أعمالهم بعضهم مع بعض حتى يتم أمر معيشتهم ويكمل حوائج حياتهم وجعل الرّعية سبع طبقات.

وقد بيّن (عليه السّلام) في نظم طبقات الرّعيّة أنه لا محلّ للعاطل، ومن لا يعمل عملاً يفيد المجتمع الحيّ البشري. ومما ترى بين الامّة من جماعات لا يتصدّون إلى هذه المشاغل ولكنهم ربما يعيشون أرغد عيش بين الرّعيّة فهم كاللَّصوص.

ص: 284

ثمّ بيّن (عليه السّلام) الموقع الاجتماعي لكلّ من هذه الطبقات واحتیاج بعضها إلى بعض في إدارة شؤون الحياة وإدامتها.

ثمَّ بعد ذلك لا يخلو الاجتماع مهماً كان صحيحاً ومنَّظماً وعادلاً من وجود ذوی العاهات والعجزة والأشياخ الَّذين لا يقدرون على العمل، فهذه الطبقة كالقشر من الشجرة فكما أنّه لا يمكن وجود شجرة سالمة مثمرة من دون قشر، لا يمكن وجود مجتمع خال من هذه الطبقة السفلى، فمنهم من أدّى خدمته أيّام شبابه و دوران صحّته ثمّ عرضه الهرم أو اعترضه السقم فتعذّر له العمل، فلا بدّ من رعايته بتحمّل مئونته، ومنهم من حرم من القوّة لعاهة عرضته فلا بدّ من حفظ حرمته ورعاية كرامته، وهم الَّذين يحقّ رفدهم ومعونتهم وتهيئة وسائل معیشتهم ويسع رحمة الله تعالى كلّ هذه الطبقات السبعة ولكلّ منهم على الوالي حقّ الرعاية والمحافظة بقدر ما يصلحه (47).

ص: 285

الخاتمة:

الخص البحث إلى ما يأتي:

1. التعايش السلمي مصطلح معاصر معناه القبول بالآخر المختلف إيديولوجياً ودينياً وعرقياً.

2. بات واضحاً ما مرَّ في البحث أنَّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) سعی إلى وضع أسس ودعائم الدولة المتحضرة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان واحترام إنسانية الإنسان، وقد سعى الإمام (عليه السلام) سعياً حثيثاً إلى ذلك، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة؛ إذ عاداه مجتمعه الذي تعوّد على نظام الطبقية. ويحقّ لنا كمسلمين الفخر والاعتزاز ونحن ننظر إلى باني الدولة العصرية قد نادی بالشعارات التي ينادون بها اليوم ودعا لها وعمل على تحقيقها، فيما يسمونه اليوم: حرية، ديمقراطية، فهم الآخر، الحوار مع الآخر، التعايش السلمي.

واليوم، لا تزال الفرصة سانحة، بإمكان عالم اليوم المليء بالحروب والدمار واغتصاب الحقوق العودة إلى ذلك النهج النيّر، نهج الإمام علي (عليه السلام)، فهو يكفينا لإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وكذا العودة إلى كتابه إلى واليه على مصر الشهيد مالك الأشتر رضوان الله عليه، لننهل من ذلك المعين العذب، وهو يوصي عامله بأدقّ الأمور وفي شتّى ميادين إدارة الدولة.

3. تبين من الدراسة أنّ الخطاب العلوي خطاب مؤسّس على التعايش السلمي وإعطاء الأولوية للسلام واحترام الآخر، على الرغم ما يكشفه لنا التاريخ من الحروب والصراعات التي خاضها الإمام (عليه السلام) طيلة حياته المباركة قبل تصديه للسلطة السياسية وبعده.

ص: 286

الهوامش:

1. ابن منظور، لسان العرب، 6/ 321، مادة: (عيش).

2. الجوهري، الصحاح، 3/ 1013، مادة: (عيش).

3. الراغب الأصفهاني، مفردات الفاظ القرآن، 423، مادة: (سلم).

4. سورة النساء، الآية 94.

5. ينظر: ابن منظور، لسان العرب، 291/12 - 296، مادة: (سلم).

6. سورة الممتحنة، الآية 8.

7. سورة آل عمران، الآية 64.

8. محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، 1/ 158.

9. الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، 356/1

10. عالم سبيط النيلي، طور الاستخلاف، 29/1

11. سورة الإسراء، الآية 70.

12. ينظر: السمعاني، الأنساب، 5/ 476؛ الزركلي، الأعلام، 259/5.

13. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 16/ 142.

14. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 98/15.

15. المجلسي، بحار الأنوار، 32/ 414؛ 42/ 176.

16. الزمخشري، ربيع الأبرار، 1/ 182.

17. سورة الروم، الآية 22.

18. سورة الحجرات، الآية 13.

19. سورة المائدة، الآية 2.

20. الريشهري، میزان الحكمة، 1/ 845.

21. سورة المائدة، الآية 48.

ص: 287

22. سورة المائدة، الآية 8.

23. ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 136.

24. ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 127.

25. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 4 / 48.

26. الشيخ الكليني، الكافي، 5/ 133.

27. الشيخ الطوسي، الاستبصار، 3/ 52.

28. ينظر: الخوئي، منهاج البراعة، 20/ 179 - 185.

29. الشهيد الثاني، الروضة البهية، 6/ 224.

30. ينظر: مختصر مفید، 10/ 261.

31. ينظر: ستار الجودة، موقع كتابات ستار الجودة، 1 - 2.

32. القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 1/ 367.

33. ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 174.

34. قطب الدين الراوندي، منهاج البراعة، 271/1.

35. سورة طه، الآية 43 - 44.

36. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 229/9.

37. ينظر: محمد أديبي، السلم والتعايش الإنساني، 2.

38. ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 174/5.

39. ينظر: محمد أديبي، السلم والتعايش الإنساني، 3.

40. الشيرازي، توضيح نهج البلاغة، 3/ 212.

41. ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 174.

62. الشيخ الطوسي، الاحتجاج، 1/ 276.

43. ينظر: محمد أديبي، السلم والتعايش الإنساني، 1 - 5.

ص: 288

44. الشيخ الكليني، الكافي، 3/ 540.

45. الشيخ الطوسي، تهذیب الأحکام، 6/ 293؛ الفيض الكاشاني، الوافي، 10/ 446.

46. ابن شعبة الحراني، تحف العقول، 141.

47. ينظر: الخوئي، منهاج البراعة، 20/ 195 - 201.

ص: 289

المصادر والمراجع:

- خير ما نبتدئ به القرآن الكريم.

المصادر:

- الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه):

48. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، (دار العلم للملايين، بیروت، 1407 ه).

- ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي (ت 656 ه):

49. شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (دار إحياء الكتب العلمية، بیروت، 1378 ه).

- الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل (ت 502 ه):

50. مفردات ألفاظ القرآن، تحقیق صفوان عدنان داوودي، (منشورات طليعة النور، قم، 1427 ه).

- الزمخشري، أبو القاسم جار الله محمد بن عمر الخوارزمي (ت 538 ه):

51. ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، تحقیق عبد الأمير مهنا، (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1412 ه).

- السمعاني، أبو سعيد عبد الكريم بن محمد التميمي المروزي (ت 562 ه):

52. الأنساب، تقديم وتعليق عبد الله عمر البارودي، (دار الجنان، بيروت ، 1408 ه).

- ابن شعبة الحراني، أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين الحلبي (ت القرن 4 ه):

53. تحف العقول عن آل الرسول (تحفة العقول)، تحقیق علي أكبر غفاري، (مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1404 ه).

ص: 290

- الشهيد الثاني، زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي (ت 965 ه):

54. الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، تحقيق السيد محمد الكلانتر، (مطبعة أمير، قم، 1386 ه).

- الشيخ الطبرسي، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب (ت 548 ه):

55. الاحتجاج، تحقيق محمد باقر الخرسان، (مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1386 ه).

- الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن (ت 460 ه):

56. الاستبصار فيما اختلف من الاخبار، تحقیق حسن الموسوي الخرسان، (مطبعة خورشيد، الناشر دار الكتب الاسلامية، طهران، 1390 ه).

57. تهذیب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان الله عليه، حققه وعلق عليه السيد حسن الموسوي الخرسان، (مطبعة خورشید، طهران، 1390 ه).

- الفيض الكاشاني، محمد حسن (ت 1091 ه):

58. الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني، (الناشر مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام، أصفهان، 1406 ه).

- القاضي النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت 363 ه):

59. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل البيت رسول الله عليه وعليهم أفضل السلام، تحقیق آصف بن علي أصغر، (دار المعارف، القاهرة، 1383 ه).

- قطب الدين الراوندي، سعید بن هبة الله الراوندي (ت 573 ه):

60. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيد عبد اللطيف الكوکھمري، مطبعة الخيام، قم، 1406 ه).

ص: 291

- الشيخ الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي (ت 328 ه):

61. الكافي، تحقیق علي أكبر الغفاري، (دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 ه).

- المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه):

62. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، (مؤسسة الوفاء، بیروت، 1403 ه).

- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي المصري (ت 711 ه):

63. لسان العرب، (نشر أدب الحوزة، قم، 1405 ه).

- ابن میثم البحراني، کمال الدین میثم بن علي بن میثم البحراني (ت 679 ه):

64. شرح نهج البلاغة، عنى بتصحيحه عدة من الأفاضل وقُوبِلَ بعِدَّة نُسَخ مَوثوقٌ بها، (الناشر مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1404 ه).

المراجع:

1. - السيد جعفر مرتضى العاملي:

2. مختصر مفيد (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، (مطبعة المركز الإسلامي للدراسات، بیروت، 1324 ه).

3. الخوئي، العلامة المحقق الحاج میرزا حبیب الله الهاشمي الخوئي (ت 1324 ه):

4. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي، (منشورات دار الهجرة، قم، 1403 ه).

- الريشهري، محمد:

5. القيادة في الإسلام، تعريب علي الأسدي، (دار الحديث، قم، دت).

6. میزان الحكمة، (دار الحديث، قم، 1416 ه).

ص: 292

- الزركلي، خير الدين (ت 1410 ه):

7. الأعلام، (دار العلم للملايين، بيروت، 1980 م).

- الشيرازي، محمد الحسيني (ت 1422 ه):

8. توضيح نهج البلاغة، (دار تراث الشيعة، طهران، دت).

- عالم سبيط النيلي:

9. طور الاستخلاف (الطور المَهدَويّ)، (الناشر المركز النيلي للدراسات القصدية، 1424 ه).

- محمد جواد مغنية (ت 1400 ه):

التّفسير الكاشف، (دار العلم للملايين، بيروت، 1981 م)

في ظلال نهج البلاغة، (مطبعة ستار، إيران، 1427 ه).

مواقع الانترنت:

1. ستار الجودة:

2. موقع كتابات ستار الجودة.

www.kitabat.com .3

4. محمد أديبي مهر ويد الله ملايري:

5. السلم والتعايش الإنساني من منظار نهج البلاغة. (موقع نهج البلاغة).

arabic.balaghah.net/content .6

ص: 293

ص: 294

ذوو الاحتياجات الخاصة وفئاتهم في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

للكاتب والباحث نذير هارون الزبيدي

ص: 295

ص: 296

المقدمة

يعتبر عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الاشتر، وثيقة اسلامية فريدة من نوعها - منذ زمان صدورها وحتى يومنا هذا - لإدارة الحكم والحكومة العادلة، وتعد بحق دستوراً کاملاً لتنظيم الحياة في مختلف اتجاهاتها، مستمدة من رؤية استراتيجية شاملة قائمة على الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، بمرجعيتها القران الكريم والسنة المطهرة، واللتان استوعبها امير المؤمنين عليه السلام فكرا وعملا.

هذا العهد الّذي كانت ولادته قبل نحو ألف وأربعمائة سنة، ركّز فيه الإمام (عليه السلام) على فكرة المجتمع ومكوناته وفئاته، خصوصا فئة ذوي الاحتياجات الخاصة والتي تعد واقعا اجتماعيا عايشته الانسانية على مدار تاريخها، فهم فئة موجودة في كل مجتمع من المجتمعات وفي كلّ العصور، ومنذ أقدمها، يختلفون في خصائصهم عن خصائص اقرانهم نتيجة لقصور معين يمنعهم من القيام بدورهم ومهامهم بشكل طبيعي لذا فهم يحتاجون لتكيف خاص مع البيئة التي يعيشون فيها.

وقد واجه ذوو الاحتياجات الخاصة معاناة شديدة وظروف بالغة الصعوبة، وعلى امتداد التأريخ وكانوا يشكلون عبئا ثقيلا على افراد مجتمعاتهم وتعرضوا لشتی انواع المعاملة السيئة والقاسية، والتي وصلت في بعض العصور حد التصفية الجسدية.

بينما يقدم لنا نهج امير المؤمنين علي (عليه السلام)، واقعا فكريا وعمليا مغایرا تماما، واقعا لم تشهد البشرية له نظير، تجسدت فيه اسمى معاني الإنسانية، وأروع صور تكريم الانسان واحتراما لكرامته وأدميته، بغض النظر عن شكله ومظهره، ومستواه الاجتماعي، وقد تجلى ذلك بأوضح صوره في وثيقة العهد، التي اخرجت

ص: 297

لنا ولأول مرة في التاريخ مصطلح (ذَوِي الحَاجَاتِ) وحددت فئاتهم واكدت على اهميتهم ووجوب العناية بهم.

اقتضت طبيعة البحث إن يكون في مقدمة ومبحثين وخاتمة.

تناولنا في المبحث الأول المحاور التالية: (مفهوم ذوو الاحتياجات الخاصة وفئاتهم وتطور الفكر البشري في رعاية ذوي الاحتياجات عبر العصور، والتسمية المستخدمة في الاشارة الى افراد الفئات الخاصة وتعدد مصطلحاتها).

اما المبحث الثاني فقد احتوى على المحاور التالية: (مصطلح ذوي الحاجات في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر وفئات ذوي الاحتياجات في وثيقة العهد).

ص: 298

المبحث الأول مفهوم ذوو الاحتياجات الخاصة وفئاتهم

يعد مفهوم ذوو الاحتياجات الخاصة من المفاهيم الحديثة في ميدان التربية وعلم النفس وقد انتشر بشكل ملحوظ في اواخر القرن الماضي وتعددت تعريفاته، إلا أنه ورغم تعدد تلك التعريفات والنظر إليه من زوايا متعددة تختلف باختلاف العلماء والباحثين، فإنّ هناك اتفاقًا على أن مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة «هو مفهوم بنائي يشمل مجموعة افراد المجتمع غير العاديين بالنسبة لخصائصهم الجسمية والنفسية والعقلية، فمنهم فئات الاعاقة (الجسمية او الذهنية) والاعاقة (السياسية - القانونية - الاقتصادية - الثقافية ..) وهذا ما يعكس مدى اتساع فئات ذوي الاحتياجات الخاصة» (1).

ويعتبر ذوو الاحتياجات الخاصة واقعا اجتماعيا عايشته الانسانية على مدار تاريخها فهم فئة موجودة في كل مجتمع من المجتمعات وفي كلّ العصور، ومنذ أقدمها، يختلفون في خصائصهم عن خصائص اقرانهم نتيجة لقصور معين يمنعهم من القيام بدورهم ومهامهم بشكل طبيعي لذا فهم يحتاجون لتكيف خاص مع البيئة التي يعيشون فيها.

ومن المعلوم ان الخصائص الجسمية والعقلية لعمر معين، او مدى معين متقاربة ومتشابهة، ولكن ذوي الاحتياجات الخاصة يختلفون بنسبة واضحة عن هذا المتوسط، ما يستدعي بالضرورة معاملة خاصة تتوافق مع احتياجاتهم وهذا بالطبع

ص: 299

يتطلب برامج خاصة وميزانية خاصة وجهد ووقت، اذا كان المطلوب هو تحسين هذه الخصائص واستغلالها بالقدر المطلوب بحيث يتمكنون من الاعتماد على انفسهم واعالة عوائلهم (2).

وقد وردت عدة تعريفات لمصطلح ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي منها تعریف (أولسون و بلات) (Olson. J. Platt) حيث وصفوهما بانهم: اولئك «الاشخاص الذين يختلفون اختلافا ملحوظا عن الافراد الذين يعتبرهم المجتمع اشخاصا طبيعيين او عاديين ويكون نموهم اعلى من المتوسط او ادنی منه بشكل جوهري، والمقصود بالاختلاف الملحوظ او الجوهري هو الاختلاف الذي يتعدى حدود المدى الطبيعي للاختلاف او التباين (3).

اما (القمش والمعايطة) فيعرفان ذوي الحاجات الخاصة بأنهم: الافراد الذين ينحرفون انحرافا ملحوظا عن المتوسط العام للأفراد العاديين في نموهم العقلي والحسي والانفعالي والحركي واللغوي مما يستدعي اهتماما خاصا من المربين والمهتمين بهذه الفئة من حيث طرائق تشخيصهم واختيار طرائق التدريس الملائمة لهم (4).

ویری (ابو النصر) ان مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة يطلق على: «كل مجموعة من افراد المجتمع بغض النظر عن اي فروق فردية بسبب السن او الجنس وغير ذلك بحيث يتميز افراد المجموعة بخصائص او سمات معينة، تعمل على إما اعاقة نموهم الحسي او الجسمي او النفسي او العقلي أو الاجتماعي وتوافقهم مع البيئة التي يعيشون فيها، واما تفيدهم في هذا النمو بكل جوانبه» (5).

اما (الخطيب والحديدي) فيعرفان ذوي الاحتياجات الخاصة بانهم: الافراد الذين يحتاجون الى خدمات التربية الخاصة والتأهيل والخدمات الداعمة لها، ليتسنى لهم

ص: 300

تحقيق اقصى ما يمكنهم من قابلیات انسانية، وانهم يختلفون جوهريا عن الافراد الاخرين في واحدة او اكثر من مجالات النمو والاداء التالية: (المجال المعرفي والمجال الجسدي والمجال الحسي والمجال السلوكي والمجال اللغوي والمجال التعليمي) (6).

تشير التعريفات السابقة الى ان الاعاقة تمثل السمة الاساسية لذوي الاحتياجات الخاصة، لانهم في الغالب يعانون من قصور في ناحية او اكثر من النواحي الجسمية او العقلية او النفسية وهذا القصور يؤثر سلبا على قدرتهم على ممارسة حياتهم بطريقة طبيعية مثل الأشخاص العاديين ويحوجهم الى الرعاية واهتمام خاص وبرامج تربوية وتدريبية وتأهيل يتناسب مع طبيعة كل اعاقة وخصائصها ومستواها او درجتها ودرجة القابلية للتعلم والتأهيل (7).

وينتمي الفرد من ذوي الحاجات الخاصة بشكل عام إلى فئة او اكثر من الفئات التالية:

1. الموهبة الابداعية والتفوق العقلي.

2. الاعاقة العقلية بمستوياتها المختلفة.

3. الاعاقة السمعية الكلامية واللغوية.

4. الاعاقة البصرية بمستوياتها المختلفة.

5. صعوبات التعلم الأكاديمية والنمائية.

6. الاعاقة الجسمية والصحية.

7. الاضطرابات السلوكية والانفعالية.

8. التوحد.

9. اضطرابات التواصل (8).

ص: 301

تطور الفكر البشري في رعاية ذوي الاحتياجات عبر التاريخ:

«الإعاقة وعلى اختلاف أشكالها هي حال مغرق في القدم مصاحب للإنسان أينما وجد وأينما عاش» (9)، وقد واجه المعاقون معاناة شديدة ومروا بمراحل قاسية وطويلة عبر الزمان «سببت لهم الكثير من الالم والاقصاء والتمييز على ايدي الاخرين وحتى على ايدي عائلاتهم الذين كانوا يخشون التأثر سلبا جراء الاقتران بهم» (10).

فقد كان المعاقون في العصور القديمة منبوذون بصفة عامة، ويعاملون معاملة سيئة وقاسية جداً، خصوصا في الحضارتين (اليونانية و الرومانية) فقد كانت مجتمعاتهما تنفیان هؤلاء الأفراد وتنهيان حياتهم بطرق وحشية وبأشكال تتسم بالقسوة المفرطة على اعتبار انهم افرادا غير صالحين بمقاییس حضارتهما (11). ويشكلون عبئا ثقيلا على افراد المجتمع، و كانت» نظرة الناس اليهم قائمة على تفسيرات خرافية وتصورات غير منطقية، معتقدين بان هناك قوى غيبية سحرية جعلت صفات التشاؤم والشر والنحس، ملتصقة بهم» (12) ومنهم من اعتبرهم نذير شؤم او هي دلالة على غضب الالهة (13) وانهم تتملكهم الارواح الشريرة (14)، او أن لديهم مس من الشيطان او ان المعاق نفسه صاحب روح ضالة (15).

اذ شهد العصر الاغريقي التخلص من الاطفال المعاقين عن طريق قتلهم (16) للمحافظة على نقاء العنصر البشري کما نادی افلاطون في جمهوريته (17) فوجودهم وتناسلهم يؤدي الى اضعاف الدولة بمرور الوقت (18)، وكذلك الحال في اسبارطة فقد ابادوهم بلا رحمة، عن طريق رميهم من اعالي الجبال للحيوانات المفترسة والطيور الجارحة، وكانت السلال تباع علناً في أسواق أسبارطة وأثينا ليوضع فيها الصغار المشوهون والمعاقون خارج المدينة إهلاكا وخلاصاً منهم (19).

ص: 302

وتمثل نفس الاتجاه في الدولة الرومانية القديمة، فكان مصير المعوقين بید زعیم القبيلة الذي كان وحده من يقرر مصيرهم اعتمادا على درجة الاعاقة، وفي كل الاحوال كان يتم التخلص منهم، لانهم يمثلون عبئا على انفسهم واهلهم، عن طريق القائهم في الانهار او تركهم على قمم الجبال ليموتوا بفعل الظروف المناخية او الحيوانات المفترسة (20).

اما في عصر المجون والانحلال التي سادت الحضارة الرومانية في فترة من الفترات، فقد وجد الرومان حلاً للمعاقين والمتخلفين عقلياً فجعلوهم مادة للترفيه والتسلية، حيث كانت التقاليد تستلزم أن يوضع الطفل عقب ولادته مباشرة على الأرض أمام والده، فإما أن يرفعه الأب عن الأرض ليصبح الوليد بذلك عنصراً مقبولاً في الأسرة، وإما أن يعرض عنه بسبب تشوهات خلقية أو قصور في تكوينه، فيصبح في هذه الحالة إما من الرقيق أو من المهرجين إن سمح له بالحياة (21).

اما العرب في العصر الجاهلي فكانت نظرتهم الى ذوي الاعاقة نظرة احتقار وازدراء، وكم مهمل، ليس لوجودهم فائدة تذكر، يضاف الى هذا الخوف من مخالطتهم خوف العدوى (22)، فقد ذكر القرطبي ان «العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الأعذار؛ فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته؛ وهي أخلاق جاهلية وكبر» (23).

ثم ما لبث ان تحسن وضع ذوي الاحتياجات الخاصة وتحسنت نظرة الناس اليهم، مع نزول الاسلام الحنيف وسيادته، فقد حث على الاهتمام بالمعاقين ورعايتهم وتقديم العون لهم بما يحفظ كرامتهم ويقيهم من العنف والاضطهاد «والنظر اليهم على انهم خلق من خلق الله لا دخل لهم فيما هم فيه» (24) اذ حرص الإسلام كل الحرص على اقرار مبدأ المساواة بين الناس، وعدم التفرقة بين البشر على اساس

ص: 303

الشكل او الاصل او الجنس او القومية او اللون والنظر الى الانسان على اساس عمله وقلبه وليس على اساس شکله او اصله او عرقه حيث قال الله تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (25).

«ويقرر الاسلام ان الانسان مكرم في اصل خلقه «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (26) وان ما يكون لدى الفرد من نقص او کال انما هو بمشيئة الله ((هُوَ الَّذی یُصَوِّرُکُمْ فِی الاَْرْحامِ کَیْفَ یَشاءُ)) (27) ووجه الجماعة المسلمة والافراد الى عدم النفور من المرضى (المعاقين) «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» (28)» (29). لذا طلب الاسلام كف الاذى المعنوي المتمثل في النظرة والكلمة والاشارة وغيرها من وسائل التحقير والاستهزاء (30) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ» (31).

«ورفع الاسلام المشقة عن غير القادرين «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (32) «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا» (33) آخذاً في تشريعاته جانب المرضى والضعفاء في الاعتبار ((فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)) (34)» (35).

وفرض الاسلام على القادرين حقوق في اموالهم تدفع للمحتاجين (36) «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (37) فقد حرص الإسلام على توفير الموارد المالية اللازمة لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات المعيشية للمعاق، ومن أهم هذه الموارد، الخمس والزكاة، والصدقات. يقول الله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ

ص: 304

خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» (38).

وقد بقي المجتمع المسلم طيلة هذه القرون تربة مباركة لتلك القيمة الربانية، يحافظ عليها وينمي ما فيها من مبادئ وأسس تربوية، وإذا تأملنا معاملة ورعاية واهتمام المعاقين في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوة، وحتى اليوم، نجد كثير من الصفحات المشرقة والتي تدل على مبلغ العناية والرعاية التي لقيها المعاقون من مجتمعاتهم الإسلامية ليس على اندماجهم في مجتمعاتهم وعدم شعورهم بالاغتراب فيها، بل أيضاً مساهمتهم مساهمة جادة في بنائها وازدهارها. فالمتأمل في تاريخنا العلمي، يجد فيضا من العلماء من ذوي العاهات ممن نبغوا في شتى أنواع العلوم والفنون والآداب کالأحول، والأخفش، والأصم والأعرج، والأعمش، والأعمى والأفطس، فبلغ هؤلاء في تاريخنا العلمي والفكري مكاناً عظيماً وذاع صيتهم وأشتهروا بألقاب ما ابتلاهم به الله من عاهات (39).

واستمرت الحضارة الاسلامية على هذا النهج في اعطاء المعاقين حقوقهم وتلبي حاجاتهم من خدمات او مساعدات مالية، ثم ما لبثت ان ضعفت الدولة الاسلامية وتعددت بلدانها واصابها ما يصيب الحضارات من الضعف والوهن (40).

اما في مراحل الانتقال من العصر الوسيط بين الاديان السماوية وبين عصرنا هذا عادت مرة ثانية الاتجاهات الخرافية والغيبية حول السمات المرضية في الانسان حيث المظاهر القاسية في معاملة المعوقين (41) وازدادت الإساءة إليهم، وأصبحت بصورة عامة مشكلة رعاية المعوقين ضمن المشاكل الصحية الاجتماعية الأخرى، والتي لم تنل أدنى اهتماما لها نتيجة لطبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة التي كان يعيشها المجتمع الأوربي بصورة عامة فمعظم حالات المعوقين كانت تعالج

ص: 305

بصورة سيئة، فقد كانت الكنيسة تصدر حكمها على المتخلفين عقلياً لاتصالهم بالشياطين، حتى أطلق عليهم «مارتن لوثر» أعداء الله!!، كما أطلق عليهم العامة أولاد الشياطين» وزعموا أن أرواح الشر بأيديهم، وعاقبوهم علناً بأبشع أساليب العقاب، فأحرقوهم بالنار وعذبوهم بقسوة واستخدموا أساليب العنف والإرهاب بقصد طرد روح الشر لعل الشيطان يهرب من الجسد المعذب، لذلك كان عصر النهضة أسوأعصر بالنسبة للمتخلفين عقلياً وغيرهم من ذوي الاضطرابات العقلية والنفسية، وسمي هذا العصر كذلك بعصر السلاسل الحديدية. الا ان هذا العصر شهد بعض الحالات لرعاية المعوقين، لكنها اقتصرت على أبناء الأعيان والأمراء والأثرياء فقط، وظل هذا الوضع حتى نهاية القرن الثامن عشر (42).

لكن بعد قيام حركات الإصلاح كالثورة الفرنسية والأمريكية ظهرت الأفكار التي تنادي بحماية وتعليم المعاقين وتنمية قدراتهم، واندماجهم في الحياة الطبيعية مع الأفراد العاديين في المجتمع، وهكذا يمكن القول أن بداية الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة كانت مع بداية القرن التاسع عشر وكان ذلك في فرنسا ثم امتد إلى عدد من الدوّل الأوروبية ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في أواخر القرن التاسع عشر، (43) وذلك عندما أسس (سیجان) (Edward Seguin) (44) أول مؤسسة الرعايتهم عام 1850، وفي عام 1922 تأسست جمعية الأطفال الغير عاديين وتغيرت النظرة إلى الإعاقة العقلية عندما اعتبرتها (مونتسوري) (Maria Montessori) (40) مشكله تربوية (46).

أما ذروة الاهتمام على المستوى الحكومي والشعبي فقد ظهرت في أمريكا عام 1962 م حين تبنى الرئيس الأمريكي كنيدي رعاية المعوقين عقليا لان شقيقته كانت معوقة عقليا، وطلب من رجال التربية وعلم النفس والطب والاجتماع دراسة هذه

ص: 306

المشكلة دراسة وافية (47).

فلم يعد ينظر الى الاعاقة على انها وصمة عار بل اصبح ينظر الى المعاقين على انهم افراد يستحقون بذل المزيد من العناية والاهتمام في تربيتهم وتعليمهم، حتى يتسنى لهم التكيف مع مطالب الحياة وشق طريقهم لها في الحدود التي تسمح بها قدراتهم وطاقاتهم ولعل ما يؤكد هذه النظرة التفاؤلية جملة من المبادئ الانسانية السامية التي اقرتها مواثيق حقوق الانسان کالمساواة وتكافؤ الفرص وحق كل انسان ان ينال نصيبه من التربية والتعليم في الحدود التي تسمح بها قدراته (48) خاصة ان ذوي الاحتياجات الخاصة يمثلون ما نسبته 15٪ من المجتمعات الانسانية بحسب تقديرات الامم المتحدة، ما دفع العديد من الدول والمنظمات الانسانية والعالمية مثل اليونسكو واليونيسيف والمنظمة الدولية للصحة والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية للعمل على رعاية الاطفال المعاقين كحق من حقوقهم وكواجب انساني وتربوي (49)، والعمل على توفير حماية اجتماعية وتربوية وقانونية لهم، وعقد المؤتمرات الدولية لدراسة قضاياهم، والتي نتج عنها التوقيع على بعض المواثيق الدولية التي تضمن حقوقهم ودمجهم بالمجتمع وتحسين مستوى معيشتهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا ومنحهم حقوقا معينة في مجالات التعليم والتربية والتأهيل وعدم الانتقاص من حقوقهم باي شكل من الاشكال (50)، وخلال العقود الاربعة الماضية ازداد الوعي بمشكلة الاعاقة من خلال الاعلان الخاص بحقوق المعاقين ذهنياً والذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1971 (51).

«ويعد الإعلان العالمي لحقوق المعاقين الصادر بالقرار 3447 في التاسع من كانون الأول 1975 من أهم المواثيق الدولية المرتبطة بحقوق المعوقين، وفي مؤتمر بلجراد الدولي المنعقد عام 1980 اتخذت العديد من القرارات لصالح المعوقين (52).

ص: 307

وجاء المؤتمر العالمي حول التربية للجميع في 1990 والذي كفل هذا الحق للجميع بغض النظر عما بينهم من فروق فردية، وتوجت الاعلانات الصادرة عن الامم المتحدة بإصدار القواعد الموحدة بشان تحقیق تكافؤ الفرص للمعوقين سنة (1993 (53).

الا انه ورغم صدور كل تلك القرارات لازال المعاقون يواجهون معاناة شديدة تسبب لهم ما يكفي من الالم والاقصاء والتمييز على ايدي الاخرين، وعلى سبيل المثال فان هناك الكثير من المعوقين والمقعدين، محرومون من التعليم اما بسبب الفقر او الحروب او بسبب تصميم المباني او عدم توفير كوادر مدربة على التعامل مع تلك الحالات او لنقص في توفير تكنلوجيا مساعدة وغير ذلك.

وتشير الاحصاءات الى وجود ما يزيد على 600 مليون شخص في العالم لديهم نوع معين من الاعاقة ويعيش اكثر من 400 مليون منهم في الدول النامية في ظروف فقر وعزلة وياس واهمال کما تذهب بعض التقديرات الى ان ما نسبته 10 - 20٪ من سكان الدول النامية هم اناس معوقون بشكل او باخر (54).

التسمية:

تعددت المصطلحات والتسميات المستخدمة في الاشارة الى افراد الفئات الخاصة تعددا ادي في معظم الاحيان الى التداخل والالتباس وغموض الفهم اكثر مما ادى الى صحة الدلالة ووضوح الفهم، ومن بين هذه التسميات المتداولة بين الناس: الشواذ والمعوقين وذوي العاهات والعجزة والمخبولين والملموسين والملبوسين، والعُبط والمبروكين، ومنها ما يطلق على فئة بعينها: کالبلهاء ، والمعتوهين، والبكم، والخُرس، والطُرش، والعُرج، والعور... وغيرها (55).

ص: 308

والملاحظ ان جميع هذه المصطلحات تعبر عن الاتجاه السلبي وعن نظرة القصور ازاء هؤلاء الافراد حيث تشير الى اوجه العيوب والشذوذ عما هو مألوف ومتعارف عليه من الصفات الحسية والمعنوية (56). كما ان شيوع تلك التسميات السلبية وتداولها بين عامة الناس ادى الى آثار سلبية وخيمة، لعل من ابرزها جميعا هو الوصمة الاجتماعية لهؤلاء الافراد بالقصور والعجز، اكثر من الاشارة الى مظاهر الكفاءة، واوجه القوة والايجابية في شخصياتهم، بل واغفالها لمقدرتهم على اداء الكثير من الاعمال والمهام كغيرهم من العاديين سواء بسواء، مما يترتب عليه غالبا ادراك انفسهم على انهم اقل قيمة من غيرهم ويؤدي الى انحطاط تقديراتهم لذواتهم، کما يفسح الطريق النمو احساساتهم بالألم النفسي ويجعلهم نهبا لمشاعر النقص والدونية والانسحاب (57).

کما تعكس بعض هذه التسميات في اذهان العامة سوء فهم يتمثل في ان من تطلق عليهم هذه التسمية من الناس يتميزون نوعيا او كيفيا عن غيرهم بخصائص او صفات لها من الغرابة والشذوذ ما يستحيل معها فهمهم او التعامل معهم في اطار المبادئ العامة الاساسية لعمليات التعلم وطرق التفكير وغيرها مما هو معمول به مع اقرانهم العاديين (58).

ولعل ذلك هو ما دفع كثير من العلماء والباحثين الى المناداة بضرورة استخدام مصطلحات بديلة ومن هذه المصطلحات التي شاع استخدامها مصطلح المعاقون (59). والذي تم استخدامه بدلاً من التسميات الاخرى بعد ان اقره المؤتمر السابع لخبراء الشؤون الاجتماعية العرب المنعقد في القاهرة عام 1961 (60).

ويشير مصطلح الاعاقة الى مشكلات الرفض الاجتماعي بأشكاله المختلفة بمعنی الدرجات المتنوعة من العقاب وعدم الاثابة التي تتولد عن العجز او هي العجز

ص: 309

المستمر الذي يسبب عدم القيام بالدور او الوظيفة العادية للفرد او هي النتيجة المجمعة للعوائق والعقبات التي يسببها العجز بحيث تتداخل بين الفرد واقصى مستوى وظيفي له مما يعطل طاقته الانتاجية وهي قياس لمدى الخسارة أو النقص في طاقة الفرد في اي ناحية من النواحي (61).

وهناك من يفسر الاعاقة على أنها: «حالة تنشأ لظروف جسدية او نفسية او عقلية تقيد من او تحد قدرة صاحبها على القيام بواحدة او اكثر من الوظائف التي تعتبر من المكونات الاساسية للحياة اليومية مثل القدرة على رعاية الذات واشباع الحاجات بصورة استقلالية فلا يستطيع أن يعول نفسه او ان يحيا حياة كريمة دون رعاية ومساعدة الاخرين (62).

ومصطلح الاعاقة مصطلح عام اقل موضوعية من حيث القابلية للقياس، فهو لفظ يشير الى الاثر الذي ينجم عن حالة العجز في ضوء متغيرات شخصية واجتماعية وثقافية مختلفة وتبعا لذلك فان حالة العجز قد لا تعني حالة اعاقة بالضرورة (63).

اما العجز فهي حالة تتصف بضعف وظيفي على النمو السوي وتنتج عن مشکلات جسمية او حسية او صعوبات في التعلم والتكيف الاجتماعي، فالعجز هو اصطلاح يشير الى تدني الوظيفة او فقدان احد اجزاء الجسم او اعضائه مما يحد من قدرة الفرد على اداء بعض المهمات كالمشي او السمع او البصر وبهذا المعنى ايضا لا يمكن اعتبار الفرد الذي يعاني عجز ما على انه معاق ما لم يؤدي هذا العجز الى مشکلات تربوية او شخصية أو اجتماعية او مهنية لدى الفرد (64).

وتجدر الملاحظة هنا إلى أن الكثيرين يستخدمون مصطلحات العجز والاعاقة بشكل متبادل دون تمييز بينهما، ويرى علماء النفس ان على الاخصائيين في مجال التربية

ص: 310

الخاصة ان يفرقوا بين هذين المصطلحين اذ انهما يحملان في طياتهما انعكاسات بالغة الاهمية على الاساليب التربوية والعلاجية (65). وذلك على النحو التالي:

ان مصطلح الاعاقة ليس مرادفا لمصطلح العجز ويستخدم هذا المصطلح لوصف حالة او حاجز فرض عن طريق المجتمع او البيئة او الشخص نفسه ويمكن استخدام مصطلح الاعاقة عند الاستشهاد بالقوانين وحالات محددة ولكن لا ينبغي ان يستخدم لوصف العجز فمثلا يعد السلّم والباص غير المجهز اعاقة لهؤلاء الافراد. اما مصطلح العجز فهو مصطلح عام يستخدم للتعبير عن اوجه القصور الوظيفي الذي يحد من قدرات الفرد: مثال ذلك القدرة على المشي او السمع او التعلم او حمل الاشياء ويمكن ان يرجع ذلك إلى حالة جسمية او عقلية او حسية ويمكن استخدام هذا المصطلح کاسم وصفي او صفة فيمكن ان نقول مثلا الافراد العاجزون عقليا او جسميا او الرجل العاجز (66).

ومن زاوية اخرى فان من يفضلون استخدام مصطلح المعوقين او العجزة ربما يتغافلون عن ان الفرد المعوق او العاجز في احوال وظروف بيئية او اجتماعية او مدرسية معينة قد يكون - او يصبح - اداؤه عاديا في ظروف واحوال اخرى مواتية لإشباع احتياجاته والعكس صحيح ايضا (67).

وثمة مصطلحات اخرى تستخدم للإشارة الى حالات الاعاقة والعجز ومنها (الاضطرابات) و (الحالات الخاصة) كذلك تستخدم مصطلحات اخرى في العلوم الطبية ومنها (التشوهات) و (العيوب)» (68).

إن التطور في تناول قضايا الاعاقة ومشكلاتها، وندرة توحيد معايير المصطلحات التي اطلقت على الاشخاص المعاقين وتعدد تسمياتها وتداخلها، واختلافها فيما بينها

ص: 311

في مدلولاتها ومعانيها باختلاف الاماكن والاوساط والمراحل التاريخية التي مرت بها تبعاً للمستوى الاجتماعي والثقافي للناس «فمن يعتبر معاقا في مجتمع ما، قد لا يعتبر معاقا في مجتمع اخر او من يعتبر معاقا في موقف ما قد لا يعتبر معاقا في موقف اخر» (69). فضلا عن ان مصطلح المعاقين يعاني من اوجه القصور في استيعاب جميع الفئات الخاصة ولا يشمل سوى اولئك الذين اضيروا في جانب او اكثر من جوانب الشخصية او يواجهون مشكلات وصعوبات ناجمة عن قصورهم وعجزهم ويجعلهم مختلفين عن غيرهم من العاديين ومن ثم فان مصطلح المعاقين لا يتضمن في معانيه جميع مظاهر الانحرافات کالتفوق العقلي والموهبة والابداع وانما يقتصر على الانحرافات السلبية دون غيرها (70)، كل هذه الاسباب ساهمت في نمو مشاعر الانکار والمقاومة والرفض لاستخدام هذه المسميات السلبية وربما الشعور بالخجل والخزي والعار من قبل اسر المعوقين، وادي الى تعميم المدركات والاتجاهات السلبية على المستوى الاجتماعي نحو هؤلاء الافراد وذلك لما تحمله هذه المسميات من دلالات على العجز وعدم الكفاءة في القيام بالأدوار الاجتماعية المتوقعة من كل منهم (71). وبالتالي ادى الى اعادة النظر في مصطلح المعاقين والذي اُعتبِر قاسيا جداً على نفسية الشخص الذي تنقصه مهارات استخدام كل ما منحه الله من إمكانيات بالشكل الطبيعي والسليم، والتحول الى منهجية جديدة تعتبر المعاق شخص له احتياجات ومتطلبات خاصة، فظهرت مصطلحات بديلة، ذات دلالة اقل وطأة واكثر تخفیفا على نفسية هؤلاء الافراد والتعامل بها بدلا من مصطلح المعاقين.

اذ عدل الكونجرس الأمريكي في عام 1990 مسمى (قانون تربية المعوقين) الذي صدر لأول مرة عام 1970 الى (قانون تربية الافراد ذوي القصور) تخفيفا لوطأة مصطلح المعاقين، فتضمن القانون ذكر الافراد اولا ثم صفة القصور ثانيا ليؤكد

ص: 312

ان القصور جزء طبيعي من تجربة كل فرد وهو لا يقلل من حقه في الحياة والتعلم والمشاركة في بناء المجتمع وقد طور هذا القانون مرة اخرى عام 1997 ليمنح الاباء دورا اکبر في المشاركة واتخاذ القرارات بشأن اوضاع اطفالهم في فصول التعليم (72).

وهكذا لجأ العلماء والباحثون الى استخدام مصطلحات بديلة ومنها غير العاديين والفئات الخاصة وذوو الاحتياجات الخاصة للإشارة الى كل من ينحرف في مستوى ادائه في جانب او اكثر من جوانب شخصيته عن متوسط اداء اقرانه العاديين الى الحد الذي يتحتم معه - او يصبح لازما - ضرورة تقديم خدمات او وجوه رعاية خاصة کالخدمات التربوية او الطبية أو التأهيلية او الاجتماعية او النفسية (73).

وعلى اي حال فالمصطلح الاكثر قبولا حاليا هو مصطلح «الافراد ذوو الحاجات الخاصة»، لما للمصطلحات السابقة جميعا من مدلولات سلبية (74)، ولكون مصطلح ذوي الاحتياجات الخاصة يتميز بالاتساع والشمول من جانب، وبالإيجابية من جانب اخر اذ يتضمن من النواحي العقلية والمعرفية كل من المتخلفين عقليا والمتفوقين عقليا والموهوبين کما تنطوي على نظرة اكثر ايجابية للمعوقين من حيث انهم يمكن ان يصبح اداؤهم عاديا - او على الاقل قريبا من هذا المعدل - کما يمكن ان يصبحوا اکثر نشاطا وتفاعلا في مجتمعاتهم واكثر مقدرة على التحصيل والانجاز والاستقلالية - قدر امکاناتهم - اذا ما تم تهيئة بيئة اجتماعية ومدرسية تتوافر لهم فيها الوسائل والادوات والمصادر المناسبة لإشباع احتياجاتهم الخاصة والتنمية استعداداتهم الى اقصى ما يمكن بلوغه (75).

ص: 313

ومما تجدر الاشارة اليه هنا ان المشاركين في المؤتمر القومي الاول للتربية الخاصة في مصر 1995 قد اتفقوا على استخدام مصطلح «الطفل من ذوي الحاجات الخاصة» للدلالة على كل المصطلحات التي سبق استخدامها في برامج وخدمات التربية الخاصة والتأهيل وهم يقصدون بالفرد الخاص كل فرد يحتاج طوال حياته او خلال فترة من حياته الى خدمات خاصة لكي ينمو او يتعلم ويتدرب او يتوافق مع متطلبات حياته اليومية او الاسرية او الوظيفية او المهنية ويمكنه بذلك ان يشارك في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما يستطيع وبأقصى طاقاته كمواطن (76).

ص: 314

المبحث الثاني مصطلح ذوي الحاجات في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر رضوان الله عليه

شرَّع الإمام علي (عليه السلام) أروع مظاهر الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري في عهده لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، واسس أسمى صور العدالة التي ينشدها الإسلام، وإن الإنسانية على ما جربت من تجارب و بلغت من رقي وإبداع فيما أسسه لها رجال السياسة والقانون من أنظمة الحكم والإدارة فإنهم لم يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً (77)، ولسنا مغالين إذا قلنا ان كل القوانين، أو الانظمة التي تعنى بحقوق الانسان، وان تعددت فإنها لم تصل الى تحديد مفهوم جامع مانع يحاكي قول الامام الذي اختصر فيه كل المفردات الانسانية (78) وبكلمات قصيرة الصياغة بعيدة الدلالة فيقول (عليه السلام) قاصدا البشر بشكل عام: «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ» (79) فهذا العبارة لم يشهد التاريخ لها مثيل على مدى العهود التي تلت حكمه رغم التطور الطبيعي وارتقاء الفكر البشري، ولم يحصل مقارب لهذا البناء العظيم لا في ظل مبادئ الثورة الفرنسية ولا عند قيام هيئة الأمم المتحدة في اربعينيات القرن الماضي (80).

لقد ضمن الإمام (عليه السلام)، بهذا النص مفاهیما انسانية غاية في الرقي الاخلاقي والجمالي، الفني والانساني الذي يفرض وجوده وهيمنته ليكون منهجاً خلاق للمساواة بين ابناء الجنس البشري دون تمييز، تجمعهم الطبيعة الخلقية للبشر وبما ان الناس متشابهون او متطابقون في الحلقة فهم بتطابقهم هذا يجدون لدى الامام

ص: 315

حيزاً عظیماً يجعل كل عرق منهم له على الاخر الحقوق ذاتها، فتسقط لديه الاختلافات الاخری کالجنس واللون والدين والقومية.

«إن مقیاس تقدم الدول ورقيها اليوم هو مقدار ما تراعي حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - والذي لم يمض على إعلانه سوى نصف قرن - فتراها تسعى جاهدة أمام العالم على أن تظهر بمظهر المراعي لهذا الإعلان وما جاء فيه، في حين نجد ان امير المؤمنين أقر ما هو أوسع وأشمل من هذه الحقوق، «الا أنه ومع شديد الاسف هذا الجانب مغيب في ظل الخلافات الحادة بين المسلمين؛ بفعل التعصب الأعمى الذي كان ولا يزال يدفع أبناء كل مذهب إلى التركيز على ما من شأنه دعم متبنياتهم وتفنيد صحيح الآخر، يضاف الى ذلك قصورنا عن ادراك منهج الامام علي عليه السلام وعجزنا عن الالمام به كلياً وحتى جزئيا، هذه الاسباب جعلت العالم يجهل وجود کنوزا في التراث الفكري للأمام علي عليه السلام تحمل أروع صور تكريم الفرد (81).

ولقد ذكرنا سابقا أن مصطلح «ذوي الاحتياجات الخاصة» دخل ميادين التربية وعلم النفس حديثا وانتشر بشكل ملحوظ في اواخر القرن الماضي بعد مطالبات كثيرة - جاءت من علماء وباحثين ومؤتمرات دولية متعددة - بضرورة ترك تلك المصطلحات ذات المسميات السلبية المستخدمة سابقا- ک (الشواذ والمعوقين وذوي العاهات والعجزة والمخبولين والمعتوهين، والبلهاء وغيرها) والتي عُدت قاسية جداً على نفسية من تنقصهم مهارات استخدام كل ما منحهم الله من إمكانيات بالشكل الطبيعي والسليم - والتحول الى منهجية جديدة تعتبر المعاقين اشخاصا لهم احتياجات ومتطلبات خاصة.

بينما نجد ان امیر المؤمنين عليه السلام هو أول من استعمل ما يعرف اليوم ب»

ص: 316

ذوي الاحتياجات الخاصة موثقا ذلك في عهده المالك الاشتر، فقد ورد ذكر هذا المصطلح فيه ثلاث مرات، مرة باسم (ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَة) (82) ومرة اخرى ب (ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَة) (83) واخيرا ب (ذَوِي الْحَاجَاتِ) (84) ليس هذا فحسب بل وحدد فئاتهم واكد على اهميتهم ووجوب العناية بهم ومنذ ما يقرب من 1400 سنة.

ويعد مصطلح (ذَوِي الْحَاجَاتِ) الذي ورد ذكره في وثيقة العهد العلوي، واحدا من أروع صور تكريم الانسان واحتراما لكرامته وأدميته، بغض النظر عن شكله ومظهره، ومستواه الاجتماعي، وتتجلى فيه اسمی معاني الإنسانية في التعامل مع ذوي العِللِ والعاهاتِ وأَهلَ اليُتمِ والمساكين والمحتاجين والمرضى والعاجزين من الاطفال والنساء والشيوخ.

وبنظرة سريعة للمسميات التي اطلقاها الامام نجد أن العبارة الاولى (ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَة) والثانية (أَهلِ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَة) متشابهتان وتشتملان على فئتين رئيسيتين الاولى منهما «ذوي الحاجة» والثانية «ذوي المسكنة»، اما العبارة الاخيرة فهي اعم واشمل من سابقاتها بل وتشتمل عليهما معا، وهذا ما سنوضحه في فئات ذوي الحاجات عند الأمام علي عليه السلام في وثيقة العهد.

وهناك امر اخر اود الاشارة اليه، وهو انه رغم التشابه اللفظي الكبير بين المصطلح المعاصر» ذوو الاحتياجات الخاصة» وبين عبارة (ذوي الحاجات) الواردة في وثيقة العهد العلوي والذي يصل حد التطابق بينهما، الا اننا نجد بين المحتويين فرق واضح وهو خلو العبارة الواردة في العهد من كلمة «الخاصة» فالأمام اسماهم «ذوي الحاجات» من دون خصوصية، وهذا ما يعد بحق، التفاتة غاية في الروعة من الامام علي عليه السلام، وتكشف لنا العقلية الفذة التي يمتلكها والتي سبق بها العلماء والباحثين والمتخصصين في مجال التربية وعلم النفس - في الوقت الحاضر -

ص: 317

الذين طالبوا بضرورة ترك المصطلحات ذات المسميات السلبية التي ذكرناها سابقا، واستبدالها بمسميات مقبولة مرضية لنفوسهم وغير منفّرة تبعث الطمأنينة في قلوبهم، فاستقر رأيهم على مصطلح «ذوي الاحتياجات الخاصة» الا انهم فاتهم ان هؤلاء الافراد، لفرط حساسيتهم فان هذا التخصيص الوارد في كلمة «خاصة» يحرجهم ويؤذي إحساسهم ويجرح مشاعرهم ايضا.

فئات ذوي الاحتياجات في وثيقة العهد:

بالنظرة الإجماليّة - لا التفصيليّة - لوثيقة العهد يُمكن لنا أن نطلّ من خلالها على أبرز قضيّة تعرّض لها الإمام علي عليه السلام وهي مسألة المجتمع ومكوّناته والّتي نقصد بها الطبقات الاجتماعيّة، فقد قسّم الامام علي عليه السلام المجتمع بشكل عام إلى «سبع طبقات «فئات»، وحدّد ما يجب على كلّ طبقة وما يجب لها وهي:

1. طبقة الجنود.

2. طبقة القضاة.

3. طبقة عمّال الإنصاف والرفق = شرطة الأخلاق والتضامن الاجتماعيّ.

4. طبقة العامّة = العمّال ونحوهم.

5. طبقة أهل الجزية من أهل الذمّة، والخراج من المسلمين = وزارة الاقتصاد.

6. طبقة التجّار وأهل الصناعات.

7. طبقة أهل المسكنة والحاجة» (85).

يقول الإمام (عليه السلام) مخاطبا مالك الاشتر: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لَایَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَ لَاغِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْل، وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ

ص: 318

السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ. وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَهً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ صلی الله علیه و آله عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً» (86).

وحينما يُقسِّم الإمام عليه السلام المجتمع إلى طبقات فهذا لا يعني أبداً أنّه يُريد إيجاد تمایز وفوارق طبقيّة في المجتمع، بالمعنى الّذي شاع استعماله في الأدب السياسيّ في الوقت الحاضر. كلّا. فليس هذا مقصوده على الإطلاق فالإسلام ألغى فكرة النظام الطبقيّ الّتي كانت موجودة في كلّ المجتمعات - وإن كانت مع الأسف موجودة ومستمرّة - وإنّما المقصد من ذلك الفئات الاجتماعيّة (87)، فمنهج الإمام علي (عليه السلام) قائم على رفض ومحاربة التقسيم على اساس العرق او العنصر القومي.

إذاً فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة، فالإمام عليه السلام لم یُراع قيمة كلّ طبقة حين قدّمها وأخّرها، وإنّما راعي الخدمات الاجتماعيّة الّتي تقوم بها، أمّا القيمة فلا تُقاس إلّا بالتقوى (88).

وهذا العهد الّذي كانت ولادته قبل نحو ألف وأربعمائة سنة، ركّز فيه الإمام عليه السلام على فكرة المجتمع ومكوناته وفئاته، ورأى أنّ العنصر البشريّ اجتماعيّ بالطبع لا يستغني بعضه عن بعض. وبهذا نستكشف مدى عظمة الإمام عليّ عليه السلام في المسائل الاجتماعيّة، لكونه المعلِّم الأوّل لعلم الاجتماع في العالم، والواضع لقواعد هذا العلم المستمدّ من تعاليم الإسلام، ولنظريّة وظائف المجتمع، وبيان أنواعها (89).

كانت هذه إطلالة إجمالية موجزة لما ورد في وثيقة العهد العلويّ حول موضوع الفئات الاجتماعية، اما بالنظرة التفصيليّة لها، ولما يخص موضوعنا «ذوي الحاجات» والذين جاءوا في الطبقة الاخيرة «الطبقة السفلة»، حسب تصنيف الوثيقة، والتي

ص: 319

رتبتهم بهذه الطبقة لسبب، لا يخفى على الحصيف المطلع، ان الهدف وراء ذلك، هو لكونهم بحاجة لتضافر جهود الطبقات العليا التي سبقتهم وحمايتها ويقع على عاتق تلك الطبقات مساعدتهم وتأمين احتياجاتهم، وصَون حقوقهم.

اما فيما يخص فئات ذوي الحاجات في وثيقة العهد فيقول الإمام (عليه السلام): «ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیتِ مَالِكَ وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِی الْإِسْلَامِ فِی کُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی وَ کُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ فَلَایشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَاتُعْذَرُ بِتَضْییعِكَ التَّافِهَ لِأَحْکَامِكَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ فَلَاتُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلَاتُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَایصِلُ إِلَیكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُلئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیةِ وَ التَّوَاضُعِ فَلْیرْفَعْ إِلَیكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ تَعَالَی یوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَینِ الرَّعِیةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیرِهِمْ وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیةِ حَقِّهِ إِلَیهِ وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ مِمَّنْ لَاحِیلَةَ لَهُ، وَلَا ینْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وَذلِكَ عَلَی الْوُلَاةِ ثَقِیلٌ وَ الْحَقٌّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ وَقَدْ یخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ» (90).

يتبين لنا من النص اعلاه ان الامام عليه السلام قسم فئات ذوي الحاجات على النحو التالي: (الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی وَأَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ) والتي سنأتي على تفصيلها لاحقاً، كما انها وعلى وفق هذا التصنيف نجدها اعم واشمل من التقسيمات التي وضعها العلماء واصطلحوا عليها حديثا، فقد ذكرنا سابقا ان غالبية المختصين بعلم النفس المعاصر والتربية النفسية الحديثة اتفقوا على ان

ص: 320

الفرد ذوي الحاجات الخاصة ينتمي إلى فئة او اكثر من الفئات التالية:

1. الموهبة الابداعية والتفوق العقلي.

2. الاعاقة العقلية بمستوياتها المختلفة.

3. الاعاقة السمعية الكلامية واللغوية.

4. الاعاقة البصرية بمستوياتها المختلفة.

5. صعوبات التعلم الأكاديمية والنمائية

6. الاعاقة الجسمية والصحية.

7. الاضطرابات السلوكية والانفعالية.

8. التوحد.

9. اضطرابات التواصل (91).

بينما لم تقتصر وثيقة العهد في تقسيمها لذوي الحاجات، على فئات المعاقين فقط، بل شملت رؤيتها مساحة واسعة لفئات اجتماعية اخرى لم يرد لها ذكر في التقسيم اعلاه من (الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی وَأَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ) وهذه الفئات وحتى وقت قريب كانت محل خلاف وجدل بين الباحثين والمتخصصين وتفاوتت فيهم الآراء بين مؤيد ورافض لجعلهم ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة.

الا ان هناك توافق ظهر مؤخرة بين الباحثين والمختصين على مصطلح جديد أطلقوا عليه «المعاقون اجتماعيا» يندرج ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة ويشمل (الايتام والمتسولون واطفال الشوارع والمسنون). فقد اكد الدكتور مدحت ابو النصر في كتابه «الاعاقة الاجتماعية المفهوم والانواع وبرامج الراعية» ان الاعاقة الاجتماعية تندرج ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة وتشمل: الأحداث

ص: 321

الجانحون وأطفال الشوارع والمتسولون ونزلاء السجون ... واضاف إلى هذه الفئة أصنافًا أخرى مثل الضحايا والمسنين، على اعتبار أن لهم احتياجات خاصة، وأنهم يعانون من بعض المشكلات في تفاعلاتهم الاجتماعية مع الآخرين (92). كما اكد الدكتور عثمان لبيب في كتابه «الاعاقات الذهنية في مرحلة الطفولة» ان الأطفال اليتامى ومجهولي الابوين، يعدون معاقون اجتماعيا ويندرجون ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة (93).

وقد قسَّم الامام فئات ذوي الاحتياجات على النحو التالي:

اولا: الذين لا حيلة لهم: وهم من لا قوة ولا مقدرة لديهم، فالحَيلُ في معجم المعاني القُوَّةُ والمقدرة، فيُقال: لا حَيلَ ولا قُوَّة إلّا بالله (94).

وقد ورد ذكر من «لا حيلة لهم» في الكتاب المبين بمعنى المستضعفين في قوله تعالى: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» (95) والمقصود بالمستضعفين في الآية الكريمة، الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام متمثلة في الانتقال من مكة إلى المدينة، «والمستضعف غير الضعيف. فالمستضعف فُرض عليه الضعف نتيجة ظروف قاهرة وقوة غاشمة قیّدت طاقته المادية ومنعتها من الانطلاق ولكن الروح المعنوية لا تزال متوقدة تنتظر الفرصة للانطلاق والتحرر من قيودها. أما الضعيف فهو الانسان الذي اختار ان يكون ضعيفا بمحض ارادته مع امتلاكه لكل عوامل القوة واسبابها، فهو الخانع الذليل» (96)، وما يهمنا من الآية هو ما يتعلق بلفظ من «لَا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً» اذ اتفق جميع المفسرين بان هؤلاء هم أهل الاعذار من العجزة والمرضى والمقعدين، فقد ورد في تفسير الطبري تعليقا على ما جاء في هذه الآية انهم: «العجزة عن الهجرة بالعسرة، وقلة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق» (97) وذهب تفسير البغوي

ص: 322

الى نفس الراي فيقول انهم: «أهل العذر لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا قوة للخروج» (98) «ولم يختلف التفسير الوسيط عن ذلك فيقول هم: «الذين عجزوا حقا عن الهجرة لضعفهم او مرضهم او شیخوختهم» (99) ام التفسير الميسر فقد اتفق مع من سبقه فيقول هم:» العجزة من الرجال والنساء والصغار الذين لا يقدرون على دفع القهر والظلم عنهم، ولا يعرفون طريقا يخلصهم مما هم فيه من المعاناة (100).

وعليه فان مصطلح «الذين لا حيلة لهم» يحمل معنی شامل جامع لأغلب فئات الاعاقة التي اقرها المختصون الحاليون وذكرناها سابقا؛ كما انه تعبير أَليَقُ بذوي الاعاقات من تلك المسميات - السلبية وانعكاساتها - المستخدمة حاليا مثل (ذوو العاهات او المقعدون او المعوقون وغيرها) لكونه اقل وطأة واكثر تخفيفا على نفسية هؤلاء الافراد.

ثانيا: المساكين: مفردها مسكين، والمِسکِينُ الخاضِعُ الضعيف الذليل، ومن ليس عنده ما يكفي عياله (101) و «الفقير والمسكين صنفان متغایران، فالفقير ينطبق على من يتصف ب (فقد المال)، والمسكين يتصف ب (فقد المال + المسكنة)، فالقدر المشترك بينهما فقد المال، وهو المصداق الوحيد للفقير، في حين أنه إحدى مصادیق المسكين؛ لأنه له مصاديق أخر، هي: (الزمانة - المرض - العرج والعمى) فالمسكين أسوأ حالا من الفقير وتبني هذا القول أغلب المفسرين» (102).

فهذه الفئة وكما هو واضح تشمل طبقة «الفقراء ممّن لا يستطيعون العمل لعاهةٍ فيهم او لا يقدرون معها على العمل، أو لا يستطيعونه لكبرَ السّن وضعف البنية، أو لا يستطيعونه لصغر السِّنّ کالأيتام الّذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكنّ عملهم لا يمدّهم بالكفاية» (103).

ص: 323

ثالثا: المحتاجون: مفردها محتاج، والمحتاج من بِهِ حَوجٌ» واِفتقَارٌ ورَجَلٌ مُحتَاجٌ: مُفتَقِرٌ، ُمعوِزٌ، مُحتَاجٌ إِلَى مَن يُسَاعِدُهُ (104)، وتختلف المساعدة ونوعها باختلاف الحاجة وطبيعتها.

اما علماء النفس فيعرَّفون الحاجة بأنها: «افتقار الى شيء ما بحيث انه لو كان موجودا لحقق الاشباع او الرضا وما فيه صالح الكائن وهذا الافتقار يدفع الكائن للعيش في نوع من التوتر» (105) وعرفها اخرون بانها: «حالة العوز او النقص النفسي لدى الكائن العضوي كليا أو جزئيا التي يكتسبها الفرد من خلال تفاعله مع المتغيرات البيئية، والتي تخلق له إحساس بالتوتر وعدم الراحة والاستقرار، واختلال في التوازن العضوي والنفسي، وظهور أنماط سلوكية تتعارض ومعايير الجماعة» (106).

وقد اختلف العلماء في تصنيف حاجات الانسان لأنها كثيرة يصعب حصرها وعدها وهي متداخلة ومتشابكة، الا ان اكثر التصنيفات اعتماداً هو تقسيم الحاجات الى قسمين:

• القسم الاول: الحاجات العضوية (الفسيولوجية) وتشمل: (الحاجة للماء والطعام، الحاجة للجنس، الحاجة للأمومة - الحاجة للإخراج - الحاجة للنشاط والراحة).

• القسم الثاني: الحاجات غير العضوية وتقسم الى قسمين:

أ- حاجات نفسية ومن اهمها: الحاجة للأمن، الحاجة لحب الاستطلاع، للحاجة للإنجاز الحاجة للاعتماد على النفس.

ب- حاجات اجتماعية ومن اهمها: الحاجة للانتماء، الحاجة لتقدير الاخرين، الحاجة للصحبة (107).

ص: 324

فإذا ما تم اشباع هذه الحاجات فان ذلك يؤدي وبالدرجة الاولى الى المحافظة على الكيان البيولوجي للإنسان بما يمكنه من الاستمرار في الحياة ، ويساعده على أحداث النمو السليم وممارسة نشاطه بشكل طبيعي و بأسلوب سوي وسليم، كما يسهم اشباع الحاجات النفسية والاجتماعية اسهاماً كبيراً في بناء الشخصية الإنسانية وتشكيلها ونموها، فضلا عن ان ذلك يمكنه من إدراك إمكانات البيئية التي تحيط به والتي يستمد منها ما يشبع هذه الحاجات (108).

اما اذا لم يتم إشباع تلك الحاجات فان ذلك يؤدي إلى خلل في مكونات شخصية الإفراد وإذا ما حصل ذلك فان النتيجة الحتمية انعكاس على النتاج الذي يعطيه الإفراد في مجال عملهم مما يجعله في أدنى مستوياته، وقد انتهى علماء النفس إلى إن إحساس الإنسان بالنقص في شيء ما إنما يحدث توتراً نفسياً يؤدي إلى عدم الاتزان، وبالتالي إلى عدم السوية (109).

لذا فان مفردة المحتاجين التي وردت في وثيقة العهد جاءت لتسلط الضوء على ضرورة تلبية الحاجات الضرورية للمحتاجين، وتأمين حاجاتهم الأساسية واللازمة لبقائهم واستمرارهم في الحياة، وهذا الأمر يقع على عاتق الدولة باعتبارها القائمة على تسيير شؤون ابنائها من خلال وضع مواردها في خدمة شعبها، ما يؤدي بالنتيجة إلى مساهمتهم في بناء الدولة.

رابعا: أهل البؤسي: البؤسي بضم أوله: شدة الفقر» (110) اي من افتقر وعاش في بؤس شديد، وهذه الفئة قد تتوافق مع فئة المساكين الا انها تختلف معها في درجة الفقر وشدته، فأهل البؤسی هم اولئك الذين دفعهم الفقر والعوز الى الاستجداء والتسول.

ص: 325

ان تقسيم الفقراء والمساكين الى فئات في وثيقة العهد حسب درجة فقر هم وشدتها ونعتهم بمسميات تصف حالة البؤس التي وصلوا اليها، وتأكيدها على تخفيف العبء عنهم ورعايتهم وضرورة توفير العيش الكريم لهم بغض النظر عن أي وصف اخر ودون تمييز بينهم سواء كانوا مسیح او يهود فهم مواطنون متساوون في كنف الدولة الإسلامية ونفقتهم على بيت المال، يؤكد ان الامام علي (عليه السلام) اول من دعا الى انشاء «هيئة الضمان الاجتماعي وسعى الى انشاء وزارة الشؤون الاجتماعية« (111) فليس في تأريخ الإسلام وغيره مثل الإمام أمير المؤمنين في اهتمامه بالفقراء، فقد شاركهم في جشوبة العيش وخشونة اللباس، فهو أبو الفقراء، وصديق المحرومين وملاذ البائسين (112).

خامسا: الزمني: «جمع زمن وهو المصاب بالزمانة بفتح الزاي اي العاهة (113)، ورجل زمّن اي مبتلی (114) والزَّمَانَةُ: مرضٌ يدومُ،، يقال: مرضٌ مُزمِنٌ، وعلَّةٌ مُزمِنَةٌ (115). والجمع زَمنَي لأَنه جنس للبلايا التي يصابون بها ويدخلون فيها وهم ها کارهون (116) «والمقصود هنا ارباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب» (117)

والامراض المزمنة هي: مجموعة من الأمراض التي تسمى أيضا «الأمراض غير المعدية»، او الامراض غير السارية وهي أمراض لا تنتقل بالعدوى من شخص لآخر، وتأخذ عادة إصابة الشخص بها وتطورها فترة طويلة ضمن عملية بطيئة نسبيا، اما انواعها فهي: (أمراض القلب - الامراض السرطانية - الجلطة الدماغية - مرض السكري - اضطرابات الصحة النفسية والعصبية - حالات العجز - الاضطراب العقلي - مرض الربو فقر الدم - تورم الغدة الدرقية - بعض أنواع الصرع - الإعاقة العقلية عند الأطفال) (118).

ص: 326

ومن الجدير بالذكر هنا ان الامام علي (عليه السلام) صنف ذوي الامراض المزمنة ضمن فئات ذوي الحاجات، بينما نجد ان اصحاب الامراض المزمنة لم يصنفوا ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة الا مؤخرا، وهذا ما ذهب اليه القليل من المختصين ومنهم الدكتور عثمان لبيب حيث جعلهم ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة وافرد لهم بابا في كتابه «الاعاقات الذهنية في مرحلة الطفولة» ولكن للحاجات الشديدة منها فقط ک (امراض القلب والسل والسكر وحالات الصرع وامراض الدم والامراض العصبية وبعض حالات الحساسية) (119)، بينما ما زال البعض الاخر يخالف ذلك.

سادسا: أهل اليتم: تأتي مفردة اليتيم بمعنى الانفراد، والأيتام في اللغة جمع يتيم، وهو: الصغير الذي مات أبوه دون أمه (120).

اما اليتيم اصطلاحا: فقد حصل على تعريفات عديدة، ومنها تعريف الزحيلي الذي عرفه بأنه: الفرد الذي مات ابوه قبل ان يبلغ الحلم سواء اكان غنيا ام فقیرا ذكرا ام أنثى، (121) اما وزارة العمل والشؤون الاجتماعية فتعرفه بانه: «من كان عمره دون سن (ثماني عشرة سنة) ويعاني من فقدان أحد الأبوين أو كلیهما» (122).

وقد شجع الامام المجتمع وبجميع افراده ومؤسساته على رعاية الايتام کونه الطريق الامثل لنيل رضا الله تعالى وتحقيق الاستقرار الاجتماعي (123) وكان هو شخصيا عليه السلام أباً عطوفاً للأيتام، ومن اشد الناس حرصا على رعايتهم والعناية بهم والعطف عليهم (124) کما ان الامام عاش تجربة خاصة في العناية بالأيتام، سواء حين كفلت اسرة الامام - ولاسيما ابو طالب - الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو كفالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه للأمام علي (عليه السلام) لاحقاً هذه التجربة اسهمت في اثراء رؤية الإمام (عليه السلام) للأيتام وصيانة حقوقهم واحساسه العميق بمعاناتهم (125).

ص: 327

سابعا: ذوي الرقة في السن: ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه (126) والذين بلغوا مرحلة الشيخوخة.

وقد عرف جیمبرز (chambers) المسن بأنه: الشخص الذي عاش عمراً طويلاً استطاع من خلاله أن يكسب خبرات كثيرة ومتنوعة، لا تكون عند الشباب ومتوسطي العمر وعادة يحال على التقاعد بسبب النقص الحاصل في قدراته الجسمية والعقلية (127).

اما ديمغرافياً وإحصائياً فيعرف المسنون بأنهم السكان البالغين من العمر (60 سنة) وفي بعض الدول يبدأ سن الشيخوخة من سنة (60 - 65) (128).

اما الشيخوخة فتُعرف بأنها: مرحلة زمنية من مراحل العمر المتتابعة يصل أليها الإنسان بعد سن الخامسة والستين، فهي عملية حيوية طبيعية تتأثر بنمط الحياة وعوامل البيئة والوراثة (129)، وتسمى هذه المرحلة بالعمر الثالث وهي فترة طبيعية في عمر الإنسان (130).

ولا شك أن تحديد هذه الفترة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمتوسط الأعمار في كل دولة على حدة (131) کما أن التحديد العمري، للمعمر أو المسن لا يخضع لمعيار ثابت في كل المجتمعات والأزمنة ولا يوجد تحديد ثقافي صرف، فضلاً عن ذلك فان عمر المسن يرتفع مع التقدم العلمي والصحي للمجتمع ولكن تشترك كل المجتمعات بشان تحديد الإطار العام لعمر المسن وحدوث تغيرات بيولوجية في نهاية العمر متمثلة بظهور علامات الهرم على الوجه وضعف البصر والسمع وتبدل لون الشعر وضعف خلايا الجسم وزيادة أو نقص الإفرازات الهرمونية ومعاناة المسن من أمراض مزمنة كتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم والسكري فضلاً عن الإصابة بالكآبة

ص: 328

واضطرابات القلق والوسواس القهري واضطرابات النوم والأكل وما إلى ذلك من المشكلات النفسية الأخرى (132).

وتعتبر الشيخوخة من أهم المشكلات التي تواجه المجتمعات الحديثة التي ينصرف إليها البحث العلمي في مختلف میادینه و تخصصاته الاجتماعية والبيولوجية والطبية والنفسية باعتبارها مرحلة من المراحل الهامة في عمر الإنسان، اذ أن توقعات الحياة في الدول المتقدمة وكذلك الدول النامية قد تزايدت بشكل مطرد عبر العقود القليلة الماضية وفي تقرير صدر مؤخراً عن منظمة الصحة العالمية أفاد بأن توقعات الحياة قد ارتفع خلال الخمسين سنة الأخيرة من 46 عاماً إلى 64 عاماً في الدول النامية، ومن المتوقع أن يصل إلى 72 عاماً في عام 2020 م، كما أنه تجاوز هذه الأرقام في معظم الدول المتقدمة حيث وصلت نسبة السكان الذين تجاوز عمرهم الستين عاماً حوالي 32٪ من إجمالي السكان وينتظر أن يتجاوز هذا الرقم ثلث السكان عام 2020 م، وببلوغ ذلك العام ستكون ثلاثة أرباع الوفيات بسبب أمراض ترتبط بالشيخوخة ارتباطاً مباشراً، وهذا التزايد في توقعات الحياة وفي عدد المسنين يعود أساساً إلى انخفاض معدلات الوفاة في الأععار الصغيرة، ونتيجة لما حدث من تقدم طبي وتحسن في ظروف المعيشة، وتطور لمفاهيم الصحة العامة وأساليب الوقاية والعلاج (133).

ومن هذا المنطلق أصبح موضوع رعاية المسنين من قضايا الساعة التي تحظى بالاهتمام و أصبحت الكثير من الدول في العصر الحديث تقدم برامج متنوعة من الرعاية الاجتماعية لمواطنيها وسكانها بهدف تحقيق عدل اجتماعي وتوفير خدمات لهذه الفئة من فئات المجتمع باعتبار أن ذلك من معايير رقي وتقدم ونهضة الدول (134).

بينما نجد ان الإمام (عليه السلام) كان يوصي ابناء الامة ولاسيما اصحاب

ص: 329

السلطة منهم في وثيقة العهد بضرورة رعاية هذه الفئة والاهتمام بها، بل «ونَقلَ احترام كبار السن وضرورة توفير العيش الكريم لهم، كجزء من تلك الرعاية، من حيز البعد المعنوي الى الواقع العملي فشملهم بحق الضمان الاجتماعي، فكان ينفق عليهم من مال المسلمين» (135)، حتى اذا «مر شیخ مكفوف كبير يسأل ، قال امير المؤمنين: من هذا؟ قالوا يا امير المؤمنين نصراني فقال امير المؤمنين: استعملتموه حتى اذا كبر وعجز منعتموه انفقوا عليه من بيت المال» (136). وهذا ما يؤشر الى مدى البعد الانساني العظيم للأمام علي عليه السلام في التعامل مع كبار السن وان لم يكونوا من المسلمين.

لقد وضع الإمام (عليه السلام) الدولة أمام مسؤوليّتها اتجاه فئات ذوي الحاجات، في وثيقة العهد التي تعد بحق دستوراً کاملاً للحكم والحكومة العادلة، لأنّه كان عليه السلام يعلم علم اليقين ان هؤلاء الافراد إذا لم يلقوا العناية منها ينحرف قویّها إلى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً، وبالتالي يتفكك المجتمع وتنهار منظومته القيمية والأخلاقية ويتحول الى غابة، القوي فيها يأكل الضعيف، مجموعة من الافراد لا رابط بينهم يسهل استغلالهم واستعارهم من قبل الطغاة والظالمين.

ص: 330

الخاتمة

أن ما ورد بين دفتي البحث يظهر لنا النتائج التالية:

1. واجه ذوو الاحتياجات الخاصة معاناة شديدة وظروف بالغة الصعوبة، وعلى امتداد التأريخ وكانوا يشكلون عبئا ثقيلا على افراد مجتمعاتهم وتعرضوا لشتی انواع المعاملة السيئة والقاسية، والتي وصلت حد التصفية الجسدية في بعض المراحل التاريخية.

2. رغم صدور جملة من المبادئ الانسانية السامية التي أقرتها المنظمات الدولية والانسانية التي تضمن حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وتعمل على دمجهم بالمجتمع وتحسين مستوى معيشتهم ورعايتهم صحيا واجتماعيا، لازال المعاقون يواجهون معاناة شديدة تسبب لهم ما يكفي من الالم والاقصاء والتمييز على ايدي الاخرين.

3. حرص الاسلام كل الحرص على اقرار مبدأ المساواة بين الناس، وعدم التفرقة بين البشر من خلال العديد من الآيات القرآنية الكريمة، التي حثت على الاهتمام بالمعاقين ورعايتهم وتقديم العون لهم بما يحفظ كرامتهم ويقيهم من العنف والاضطهاد والنظر اليهم على انهم خلق من خلق الله لا دخل لهم فيما هم فيه، وقد تجسد ذلك واقعا فكريا وعمليا في نهج امير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وما اسسه لحكومته العادلة، وكان شاهدا حيا البالغ العناية والرعاية التي لقيها المعاقون من حكومتهم الاسلامية.

4. يعتبر عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الاشتر، وثيقة اسلامية فريدة من نوعها - منذ زمان صدورها وحتى يومنا هذا - لإدارة الحكم والحكومة العادلة، وتعدبحق دستوراً کاملاً لتنظيم الحياة في مختلف اتجاهاتها.

ص: 331

5. يُعد تأصيل مصطلح (ذَوِي الحَاجَاتِ) في وثيقة العهد ولأول مرة في التاريخ وتحديد فئاتهم والتأكيد على اهميتهم ووجوب العناية بهم، من أروع صور تکریم الانسان واحتراما لكرامته وآدمیته - بغض النظر عن شكله ومظهره، ومستواه الاجتماعي.

6. رغم التشابه اللفظي الكبير والذي يصل حد التطابق بين المصطلح المعاصر «ذوو الاحتياجات الخاصة» وبين عبارة (ذوي الحاجات) الواردة في وثيقة العهد العلوي، الا اننا نجد بين المحتويين فرق واضح وهو خلو العبارة الواردة في العهد من كلمة «الخاصة»، التي فيها من السلبية ما يجعلها كلمة محرجة ومؤذية لإحساس ذوي الحاجات وتجرح مشاعرهم، وهذا بحد ذاته، التفاتة غاية في الروعة من الامام علي عليه السلام، سبق بها العلماء والباحثين والمتخصصين في مجال التربية وعلم النفس - في الوقت الحاضر - الذين طالبوا بضرورة ترك المصطلحات ذات المسميات السلبية واستبدالها بمسميات مقبولة وغير منفّرة.

7. لم تقتصر وثيقة العهد في تقسيمها لذوي الحاجات، على فئات المعاقين فقط، بل شملت رؤيتها مساحة واسعة لفئات اجتماعية اخرى من (الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى وأَهْلَ الْیُتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ).

8. ان مصطلح «المعاقون اجتماعيا» الذي اشتمل على فئة (الأيتام والمتسولون والأحداث الجانحون و مجهولي الأبوين والمسنون) واندرج حديثا ضمن فئات ذوي الاحتياجات الخاصة هو ذات ما دعا اليه الامام علي عليه السلام في وثيقة العهد منذ ما يقرب من 1400 سنة.

9. ان مصطلح «الذين لا حيلة لهم» الذي ورد ذكره في وثيقة العهد يحمل معنی شامل جامع لأغلب فئات الاعاقة التي اقرها المختصون؛ کما انه تعبير أَليَقُ بذوي الاعاقات من تلك المسميات - السلبية وانعكاساتها مثل (ذوو العاهات او المقعدون او المعوقون وغيرها).

ص: 332

10. ان مفردة المحتاجين التي وردت في وثيقة العهد جاءت لتسلط الضوء على ضرورة تلبية الاحتياجات الاساسية والضرورية للمحتاجين، وتأمينها، لبقائهم واستمرارهم في الحياة، وتمكينهم من المساهمة في بناء الدولة، وهذا يقع على عاتق الدولة باعتبارها القائمة على تسيير شؤون ابنائها.

11. ان تقسيم الفقراء والمساكين الى فئات في وثيقة العهد حسب درجة فقرهم وشدتها ونعتهم بمسميات تصف حالة البؤس التي وصلوا اليها، وتأكيدها على تخفيف العبء عنهم ورعايتهم وضرورة توفير العيش الكريم لهم بغض النظر عن أي وصف اخر ودون تمييز بينهم يؤكد ان الامام علي عليه السلام اول من دعا الى انشاء «هيئة الضمان الاجتماعي وسعى الى انشاء وزارة الشؤون الاجتماعية.

12. صنف الامام علي (عليه السلام) ذوي الامراض المزمنة ضمن فئات ذوي الحاجات. 13. شمل الامام (عليه السلام) في وثيقة العهد كبار السن بحق الضمان الاجتماعي سواء كانوا مسلمين او غيرهم، فهم مواطنون متساوون في كنف الدولة الإسلامية ونفقتهم على بيت المال.

14. واخيراً أملنا ان ينال هذا الجهد اليسير المتواضع، القبول ويلقي الاستحسان، فما هو الاجهد مُقل ولاندعي فيه الكمال ولكن عذرنا انا بذلنا فيه قصارى جهدنا فان اصبنا فذاك مرادنا وان أخطئنا فلنا شرف المحاوله والتعلم. وصلِ اللهم على سیدنا وحبيبنا محمد وعلى آله الطيبين.

ص: 333

المصادر

المصادر العربية:

* القرآن الكريم.

1. ابو بکر عبد بن محمد المالكي، ریاض النفوس في طبقات علماء القيروان وافريقية وزهادهم ونسائهم وسير من أخبارهم وفضائلهم و أوصافهم، تحقيق: بشير البكوش، دار المغرب الإسلامي، بيروت، 1994 م.

2. أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة ، عالم الكتب، القاهرة، 2008 م.

3. باقر شريف القرشي، شرح العهد الدولي للأمام امير المؤمنين لمالك الاشتر، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مؤسسة الامام الحسن لأحياء تراث اهل البيت، 2011.

4. تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، مقدمة في التربية الخاصة، ط 4، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان - الاردن ، 2010 م.

5. جمال محمد الخطيب، منی صبحي الحديدي، ط 1، دار الفكر، عمان - الاردن 2009.

6. الحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزیل (تفسير البغوي)، تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش، دار طيبة، الرياض، 1989 م.

7. خضير کاظم حمود، السياسة الادارية في فكر الامام علي بن ابي طالب (بين الاصالة والمعاصرة)، مؤسسة الباقر، بيروت، (د. ت).

8. زیاد کامل اللالا واخرون، اساسيات التربية الخاصة، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان - الاردن، (د. ت).

ص: 334

9. عبد الرحمن سید سلیمان، سیکولوجية ذوي الحاجات الخاصة، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة (د. ت).

10. عبد الصبور منصور محمّد، مقدمة في التربية الخاصة، سيكولوجيا غير العاديين وتربيتهم، دار المسيرة للنشر والتوزيع، القاهرة 2003.

11. عبد الغني ابو العزم، المعجم: الغني، کتاب الكتروني، (د. ط)، (د. ت).

12. عبد اللطيف عبد الحميد، مشکلات اجتماعية، مطبعة جامعة بغداد، 1991.

13. عبد المطلب امين القريطي، سيكولوجية ذوى الاحتياجات الخاصة وتربيتهم، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1996 م.

14. عثمان لبيب فراج، الاعاقات الذهنية في مرحلة الطفولة، ط 1، المجلس العربية للطفولة والتنمية، القاهرة 2002 م.

15. عطا الله الخالدي، دلال العلمي، الصحة النفسية وعلاقتها بالتكيف والتوافق دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2009.

16. غسان السعد، حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، ط 2، بغداد، 2008 م.

17. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط 4، مكتبة الشروق الدولية، جمهورية مصر، 2004 م.

18. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 2009 م.

19. محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، دار ليبيا - بنغازي، 1966 م.

ص: 335

20. محمد بن ابي بكر الرازي، مختار الصحاح، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، (د. ت).

21. محمد بن احمد الانصاري القرطبي، تفسير القرطبي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (د. ت).

22. محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تفسير آي القران، تحقیق محمود محمد شاکر، دار المعارف، مصر، (د. ت).

23. محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقیق عبد الرحیم رباني، دار احیاء التراث، بيروت، (د. ت).

24. محمد بن مکرم جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، 1997 م.

25. محمد بهائي السكري، وداعا للشيخوخة، المكتب العلمي، القاهرة، 1988.

26. محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ط 2، مطبعة السعادة القاهرة، 1983 م.

27. محمد عبد الظاهر الطيب، اختبار تكملة الجمل للحاجات النفسية، دار المعارف، الاسكندرية، 1979 م.

28. محمد عبدة، نهج البلاغة، دار المعرفة، بيروت - لبنان، (د. ت).

29. مدحت ابو النصر، الاعاقة الاجتماعية المفهوم والانواع وبرامج الراعية، ط 1، مجموعة النيل العربية للطباعة، القاهرة، 2004.

30. الاعاقة الجسمية: المفهوم والانواع وبرامج الراعية، ط 1، مجموعة النيل العربية للطباعة، القاهرة، 2006.

ص: 336

31. مصطفی نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، سيكولوجيا الاطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ط 1، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان - الاردن، 2007 م.

32. نبيل موسی، موسوعة مشاهير العالم، دار الصداقة العربية، ط 1، بيروت - لبنان، 2002 م.

33. وفيق صفوت مختار، ابناؤنا وصحتهم النفسية، دار العلم والثقافة، القاهرة 2001.

34. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ط 2، دار الفكر، عمان - الاردن، 1984 م.

البحوث والدراسات:

35. ألهام فاضل عباس، الوحدة النفسية وعلاقتها بالحاجات النفسية عند موظفي جامعة بغداد، مجلة البحوث التربوية والنفسية، العدد 32، 2011 م.

36. جبار كاظم الملا، دلالة الفقير والمسكين في سياق واحد في النص القرآني، بحث منشور، مجلة جامعة بابل، العلوم الانسانية، المجلد 23، العدد 3، 2015.

37. خالد النجار واخرون، مقدمة في التربية الخاصة، بحث منشور، جامعة القاهرة، مركز التعليم المفتوح، (د. ت).

38. رواب عمار، نظرة الاسلام لذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور، كلية التربية الرياضية، جامعة محمد خيضر، الجزائر، 2008 م.

39. سلمى الناشف، مشکلات اطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في محافظة النعيرية في المملكة العربية السعودية، بحث منشور، موقع ومنتدي دراسات وبحوث المعوقين، (د. ت).

ص: 337

40. سلوی ابراهیم اسماعیل، تقییم لواقع الاطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في العراق والخدمات المقدمة لهم، بحث منشور، دائرة التنمية البشرية، وزرارة التخطيط العراقية، 2009 م.

41. عاطف بحراوي، مقدمة في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور، (د. ت).

42. عبد الكريم جعو خلف الزيرجاوي، المشكلات الاسرية لمعوقي الحرب، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1989.

43. عبد المهدي الجراح، خالد العجلوني، استخدام التكنلوجيا لخدمة ذوي الحاجات الخاصة، بحث منشور، موقع ومنتدي دراسات وبحوث المعوقين، 2005 م.

44. غزوة فیصل کاظم، إيذاء الذات وعلاقته بالشعور بالذنب لدى الأيتام في المرحلة المتوسطة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، الجامعة المستنصرية، 2009.

45. مجهول المؤلف، مناهج ذوي الاحتياجات الخاصة (الاهداف - المحتوى - التطوير)، بحث منشور، (د. ت).

46. محمد جبران هادي القحطاني، تقييم برامج الانشطة الرياضية، بأندية ذوي الاحتياجات الخاصة في المنطقتين الجنوبية والغربية، رسالة ماجستير منشورة، كلية التربية، جامعة ام القری، 2015 م.

47. محمد السعيد عبد الجواد ابو حلاوة، التربية الجنسية للأطفال والمراهقين ذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور، فعاليات الدورة التدريبية لتأهيل العاملين في مجال التربية الخاصة، جمعية الحياة للجميع لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة 2004.

ص: 338

48. منی حمید حاتم، المشكلات الصحية والنفسية لذوي الاحتياجات الخاصة

(المسنين)، بحث منشور، مجلة كلية الآداب، العدد 9، 2011.

49. مهدي محمد القصاص، التمكين الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة، دراسة ميدانية، المؤتمر العربي الثاني عن الاعاقة الذهنية بين التجنب والرعاية جامعة اسيوط، بحث منشور، موقع ومنتدي دراسات وبحوث المعوقين، 2004 م.

50. نجلاء سامي النبراوي، ذوو الاحتياجات الخاصة بالمغرب والاندلس، بحث منشور، شبكة الألوكة، (د. ت).

الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنت):

51. حميد علي خان، قراءة في وثيقة العهد و مسائل أخرى من متطلبات البحث عن المفاهيم القانونية في نهج البلاغة، بحث منشور، موقع في رحاب نهج البلاغة، موقع الكتروني، http://arabic.balaghah.net/conten.

52.حيدر البصري، من حقوق الانسان في الاسلام، مجلة النبأ، موقع الكتروني، العدد 63، تشرين الثاني، 2001 م، http://annabaa.org .

53. دراسات في نهج البلاغة، إطلالة على عهد الأشتر، المعارف الاسلامية، موقع الكتروني، الدرس الحادي عشر، - http://www.almaaref.org/books/con .

tentsimages/books/almaaref_alislameya/derasat_fe_nahej_al balagah/page/lesson11.htm .

54. عبد الله العلي النعيم، رعاية المسنين: بين مسئوليات المجتمع ودور الأسرة والمؤسسات الأهلية، بحث منشور، 2001 م. / http://swmsa.net/forum archive/index.php/t-11390.html.

55. مصطفى الهادي، من هم المستضعفون في الأرض؟، كتابات في الميزان، موقع الكتروني، 73526= http://www.kitabat.info/subject.php?id -

ص: 339

56. المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون الخليجي، رعاية المسنين، موقع الكتروني، http://sgh.org.sa/ar-sa.

57. ويكيبيديا، أمراض غير سارية، موقع الكتروني، https://ar.wikipedia. منظمة الصحة العالمية، الامراض المزمنة، موقع الكتروني، //:http org/wiki www.who.int/topics/chronicr /WW

المصادر الاجنبية:

1. chambers 1985) Dictionary - edited by E-Kiyk Patrick chambers ، London.

2. Olson. J. Platt. J. (1999). Teaching children and adoles cents with special needs (3rd Ed.) prentice - Hall

ص: 340

الهوامش

1. مهدي محمد القصاص، التمكين الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة، دراسة ميدانية، المؤتمر العربي الثاني عن الاعاقة الذهنية بين التجنب والرعاية جامعة اسيوط، بحث منشور، موقع ومنتدى دراسات وبحوث المعوقين، 2004 م، ص 2.

2. ينظر: سلمى الناشف، مشکلات اطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في محافظة النعيرية في المملكة العربية السعودية، بحث منشور، موقع ومنتدى دراسات وبحوث المعوقين، (د. ت)،ص 2.

3. Olson, J. Platt. J. (1999). Teaching children and adolescents .

with special needs (3rd Ed.) prentice - Hall

4. نقلا عن: د. جمال محمد الخطيب و د. منى صبحي الحديدي في كتابهما المدخل الى التربية الخاصة، ط 1، دار الفكر، عمان - الاردن، 2009، ص 14.

5. د. مصطفى نوري القمش، د. خليل عبد الرحمن المعايطة، سيكولوجيا الاطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ط1 ، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان - الاردن، 2007 م ،ص 17.

6. مدحت ابو النصر، الاعاقة الجسمية: المفهوم والانواع وبرامج الراعية، ط 1، مجموعة النيل العربية للطباعة، القاهرة، 2006، ص 21.

7. جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 13.

8. ينظر: محمد جبران هادي القحطاني، تقييم برامج الانشطة الرياضية بأندية ذوي الاحتياجات الخاصة في المنطقتين الجنوبية والغربية، رسالة ماجستير منشورة، كلية التربية، جامعة ام القرى، 2015 م، ص 31.

ص: 341

9. ينظر: د. تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، مقدمة في التربية الخاصة، ط 4، دار المسيرة للنشر والتوزيع ، عمان - الاردن، 2010 م، ص 16؛ د. عبد الرحمن سيد سليمان، سيكولوجية ذوي الحاجات الخاصة، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة (د. ت)، ج1/ ص 25؛ د. زياد كامل اللالا واخرون، اساسيات التربية الخاصة، دار المسيرة للنشر والتوزيع ، عمان - الاردن، (د. ت)، ص 24؛ جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 13.

10. د. خالد النجار واخرون، مقدمة في التربية الخاصة، بحث منشور، جامعة القاهرة، مركز التعليم المفتوح، (د. ت)، ص 2.

11. د. عبد المهدي الجراح، د، خالد العجلوني، استخدام التكنلوجيا لخدمة ذوي الحاجات الخاصة، بحث منشور، موقع ومنتدى دراسات وبحوث المعوقين، 2005 م، ص 1.

12. ينظر: زياد كامل اللالا واخرون، المصدر السابق، ص 26؛ تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق، ص 14.

13. سلوى ابراهيم اسماعیل، تقييم لواقع الاطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في العراق والخدمات المقدمة لهم، بحث منشور، دائرة التنمية البشرية، وزرارة التخطيط العراقية، 2009 م، ص 7.

14. ينظر: مهدي محمد القصاص، المصدر السابق، ص 3؛ تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق،ص 14.

15. جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 52.

16. ابو بكر عبد بن محمد المالكي، رياض النفوس في طبقات علماء القيروان و افريقية و زهادهم و نساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم و أوصافهم،

ص: 342

تحقيق: بشير البكوش، دار المغرب الاسلامي، بيروت، 1994 م، 1/ 320؛ د. عاطف بحراوي، مقدمة في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور (د. ت)، ص 2.

17. ينظر: جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 102؛ تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق، ص 14؛ مصطفی نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 36.

18. ينظر: مهدي محمد القصاص، المصدر السابق، ص 3؛ تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق، ص 14؛ مصطفى نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 36.

19. د. نجلاء سامي النبراوي، ذوو الاحتياجات الخاصة بالمغرب والاندلس، بحث منشور، شبكة الالوكة، (د. ت)، ص 3.

20. ينظر: تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق، ص 14؛ عاطف بحراوي، المصدر السابق، ص 2؛ مصطفی نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص36.

21. ينظر: مهدي محمد القصاص، المصدر السابق، ص 3؛ نجلاء سامي النبراوي، المصدر السابق، ص 3؛ مصطفی نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 36؛ جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 17 - 18.

23. ينظر: د. رواب عمار، نظرة الاسلام لذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور، كلية التربية الرياضية، جامعة محمد خيضر، الجزائر، 2008 م، ص 2.

ص: 343

24. محمد بن احمد الانصاري القرطبي، تفسير القرطبي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (د .ت)، ج12/ 292.

25. زياد كامل اللالا واخرون، المصدر السابق، ص 26.

26. سورة الحجرات، الآية: 13.

27. سورة الإسراء، الآية: 70.

28. سورة آل عمران، الآية: 6.

29. سورة النور ، الآية: 61.

30. عاطف بحراوي، المصدر السابق، ص 1.

31. مهدي محمد القصاص، المصدر السابق، ص 3.

32. سورة الحجرات، الآية: 11.

33. سورة البقرة، الآية: 286.

34. سورة الطلاق، الآية: 7.

35. سورة البقرة، الآية: 282.

36. عاطف بحراوي، المصدر السابق، ص 2.

37. المصدر نفسه.

38. سورة الذاريات، الآية: 19.

39. سورة الأنفال، الآية: 41.

40. ينظر: مجهول المؤلف، مناهج ذوي الاحتياجات الخاصة (الاهداف - المحتوى - التطوير)، بحث منشور، (د. ت)، ص 14 - 18.

41. زياد كامل اللالا واخرون، المصدر السابق، ص 27.

42. سلوى ابراهيم اسماعيل، المصدر السابق، 7.

ص: 344

43. ينظر: مجهول المؤلف، المصدر السابق، ص 10 - 13 .

44. عبد الصبور منصور محمّد، مقدمة في التربية الخاصة، سيكولوجيا غير العاديين وتربيتهم، دار المسيرة للنشر والتوزيع، القاهرة 2003، ص 33.

45. إدوارد سيجان (1812 - 1880): طبيب فرنسي الاصل امريكي الجنسية، يعتبر من الرواد الاوائل في تاريخ التربية الخاصة، هاجر الى الولايات المتحدة الامريكية عام 1849 م وحصل على شهادة الطب من جامعة نيويورك في عام 1861، وكان اهتمامه مركزا على تربية المعاقين عقليا؛ للمزيد من التفاصيل ينظر: د. نبيل موسى، موسوعة مشاهير العالم، دار الصداقة العربية، ط 1، بيروت - لبنان، 2002 م، ج2/ ص 235 - 236.

46. ماريا مونتيسوري (1870-1952): وهي اول ايطالية تتخرج من مدارس الطب وتعمل في مجال طب نفس الاطفال ضعاف العقول، وقد اسست مدارس ضعاف العقول المعروفة باسمها وصاحبة نظام التعليم للمعوقين المعروف بنظام مونتيسوري؛ ينظر: المصدر نفسه، ج2/ ص 407.

47. خالد النجار واخرون، المصدر السابق، ص 16.

48. المصدر نفسه 345.

49. مصطفى نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، ص 35.

50. ينظر: تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز ، المصدر السابق، ص 19.

51. محمد جبران هادي القحطاني، المصدر السابق، ص 2.

52. مصطفى نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 37.

53. سلوى ابراهيم اسماعيل، المصدر السابق، ص 4.

54. مهدي محمد القصاص، المصدر السابق، ص 4.

ص: 345

55. ينظر: عبد المهدي الجراح، خالد العجلوني، المصدر السابق، ص 1.

56. ينظر: عبد المطلب امين القريطي، سيكولوجية ذوى الاحتياجات الخاصة وتربيتهم، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1996 م، ص 23.

57. عبد الرحمن سيد سليمان، المصدر السابق، ص 11.

58. ينظر: عبد المطلب امين القريطي، المصدر السابق، ص 23.

59. المصدر نفسه، ص 25.

60. عبد الرحمن سيد سليمان، المصدر السابق، ص 11.

61. عبد الكريم جعو خلف الزيرجاوي، المشكلات الاسرية لمعوقي الحرب، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1989، ص 16.

62. رواب عمار، المصدر السابق، ص 5.

63. محمد السعيد عبد الجواد ابو حلاوة، التربية الجنسية للأطفال والمراهقين ذوي الاحتياجات الخاصة، بحث منشور، فعاليات الدورة التدريبية لتأهيل العاملين في مجال التربية الخاصة، جمعية الحياة للجميع لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، 2004، ص 3.

64. جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 15.

65. مصطفى نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 17 - 18.

66. ينظر: عبد الرحمن سيد سليمان، المصدر السابق، ص 15.

67. مصطفى نوري القمش، خليل عبد الرحمن المعايطة، المصدر السابق، ص 18.

68. عبد المطلب امين القريطي، المصدر السابق، ص 25.

69. جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 15.

ص: 346

70. عبد الرحمن سيد سليمان، المصدر السابق، ص 22.

71. عبد المطلب امين القريطي، المصدر السابق، ص 25.

72. ينظر: عبد المطلب امين القريطي، المصدر السابق، ص 24

73. ينظر: المصدر نفسه، ص 29 - 30.

74. ينظر: المصدر نفسه.

75. جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 15.

76. ينظر: عبد المطلب امين القريطي، المصدر السابق، ص 30 - 31.

77. عبد الرحمن سيد سليمان ، المصدر السابق، ص 24 - 25.

78. باقر شريف القرشي، شرح العهد الدولي للأمام امير المؤمنين لمالك الاشتر، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مؤسسة الامام الحسن لأحياء تراث اهل البيت، 2011، ص 15.

79. حميد علي خان، قراءة في وثيقة العهد ومسائل أخرى من متطلبات البحث عن المفاهيم القانونية في نهج البلاغة، بحث منشور، موقع في رحاب نهج البلاغة، موقع الكتروني، http://arabic.balaghah.net/content

80. محمد عبدة، نهج البلاغة، دار المعرفة، بيروت - لبنان، (د. ت)، ج 3 / ص 84.

81. حميد علي خان، المصدر السابق.

82. ينظر: حيدر البصري، من حقوق الانسان في الاسلام، مجلة النبأ، موقع الكتروني، العدد 63، تشرين الثاني، 2001 م، http://annabaa.org

83. المصدر نفسه، ج 3 / ص 90.

84. المصدر نفسه، ج 3 / ص 91.

85. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 3 / ص 102.

ص: 347

86. دراسات في نهج البلاغة، إطلالة على عهد الأشتر، المعارف الاسلامية، موقع الكتروني، الدرس الحادي عشر، ص 160، /http://www.almaaref.org books/contentsimages/books/almaaref_alislameya/derasat_ fe_nahej_albalagah/page/lesson11.htm.

87. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 3/ ص89 - 90.

88. دراسات في نهج البلاغة، المصدر السابق، ص 154.

89. ينظر: المصدر نفسه، ص 155.

90. المصدر نفسه

91. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 3 / ص 100 - 101.

92. اتفقت العديد من المصادر على هذه الفئات التسعة في تصنيف الاعاقة، ما عدى كتاب سيكولوجية ذوي الحاجات الخاصة فقد اضاف فئة عاشرة باسم (الاعاقة الاجتماعية وتحت الثقافية)؛ للمزيد من التفاصيل ينظر تيسير مفلح كوافحة، عمر فواز عبد العزيز، المصدر السابق، ص 16؛ عبد الرحمن سيد سلیمان، سيكولوجية ذوي الحاجات الخاصة، المصدر السابق، ج 1 / ص 25؛ د. زیاد کامل اللالا واخرون، المصدر السابق، ص 24؛ جمال محمد الخطيب، منى صبحي الحديدي، المصدر السابق، ص 13.

93. ينظر: مدحت ابو النصر، الاعاقة الاجتماعية المفهوم والانواع وبرامج الراعية، ط 1، مجموعة النيل العربية، 2004، القاهرة، ص 13 - 15.

94. ينظر: عثمان لبيب فراج، الاعاقات الذهنية في مرحلة الطفولة، ط 1، المجلس العربية للطفولة والتنمية، القاهرة 2002،، 17 - 19.

95. محب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي، تاج

ص: 348

العروس من جواهر القاموس، دار ليبيا - بنغازي، 1966 م، مادة (حيل)؛ محمد بن ابي بكر الرازي، مختار الصحاح، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، (د. ت)، (مادة حيل)؛ أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، القاهرة، 2008 م، (مادة حيل).

96. سورة النساء، الآية: 98.

97. مصطفى الهادي، من هم المستضعفون في الأرض؟، كتابات في الميزان، موقع الكتروني، 73526=http://www.kitabat.info/subject.php?id

98. محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تفسير آي القران، تحقيق محمود محمد شاکر، دار المعارف، مصر، (د. ت)، ج 5/ ص 102.

99. الحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزيل (تفسير البغوي)، تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية، دار طيبة، الرياض، المجلد 2، ج 5 / ص 273.

100. محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط للقرآن الكريم، ط 2، مطبعة السعادة، القاهرة، 1983م، ج 5/ ص366.

101. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 2009 م، ص 99.

102. ينظر: مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط 4، مكتبة الشروق الدولية، جمهورية مصر، 2004 م، ص 440.

103. جبار كاظم الملا، دلالة الفقير والمسكين في سياق واحد في النص القرآني، مجلة جامعة بابل، العلوم الانسانية، المجلد 23، العدد 3، 2015، ص 1523.

ص: 349

104. دراسات في نهج البلاغة، المصدر السابق، ص 161.

105. عبد الغني ابو العزم، المعجم: الغني، كتاب الكتروني، (د ط)، (د. ت)، مادة (حوج).

106. محمد عبد الظاهر الطيب، اختبار تكملة الجمل للحاجات النفسية، دار المعارف، الاسكندرية، 1979 م، ص 5.

107. د. الهام فاضل عباس، الوحدة النفسية وعلاقتها بالحاجات النفسية عند موظفي جامعة بغداد، مجلة البحوث التربوية والنفسية، العدد 32، 2011 م، ص 318.

108. عطا الله الخالدي، دلال العلمي، الصحة النفسية وعلاقتها بالتكيف والتوافق دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان، الاردن، 2009، ص 14.

109. ينظر: وفيق صفوت مختار، ابناؤنا وصحتهم النفسية، دار العلم والثقافة القاهرة 2001، ص 162 - 163.

110. ينظر: المصدر نفسه، 159 - 164.

111. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 3 / ص 100.

112. ينظر: د. غسان السعد، حقوق الانسان عند الأمام علي بن ابي (عليه السلام). رؤية علمية. ط 2/ بغداد، 2008 م، ص 354؛ د. خضير کاظم حمود، السياسة الادارية في فكر الامام علي بن ابي طالب (بين الاصالة والمعاصرة)، مؤسسة الباقر، بيروت، (د. ت)، ص 11.

113. باقر شريف القرشي، المصدر السابق، ص 45.

114. محمد عبدة، المصدر السابق، ج3 / ص 100.

115. محمد بن ابي بكر الرازي، المصدر السابق، مادة (زمن).

ص: 350

116. ينظر: مجمع اللغة العربية، المصدر السابق، ص 401.

117. محمد بن مکرم جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، 1997 م، مادة (زمن)

118. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 3 / ص 100.

119. ينظر: ويكيبيديا، أمراض غير سارية، موقع الكتروني، - https://ar.wiki pedia.org/wiki. منظمة الصحة العالمية، الامراض المزمنة، موقع الكتروني، http://www.who.int/topics/chronicr.

120. ينظر: عثمان لبيب فراج، الاعاقات الذهنية في مرحلة الطفولة، ط 1، 2002، المجلس العربية للطفولة والتنمية، القاهرة، ص 17

121. 19.

122. ينظر: محمد بن مکرم جمال الدين ابن منظور، المصدر السابق، (مادة يتم).

123. وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ط 2، دار الفكر، 1984 م، ص 8 - 9.

124. غزوة فيصل كاظم، إيذاء الذات وعلاقته بالشعور بالذنب لدى الأيتام في المرحلة المتوسطة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، الجامعة المستنصرية، 2009، ص 21.

125. غسان السعد، المصدر السابق، ص 369.

126. باقر شريف القرشي، المصدر السابق، ص 48.

127. غسان السعد، المصدر السابق، ص 382.

128. محمد عبدة، المصدر السابق، ج 1013 - 102.

129. chambers ، Dictionary، edited by E-Kiyk Patrick chambers

ص: 351

((124.، London،1985.

130. نقلا عن: منی حمید حاتم، المشكلات الصحية والنفسية لذوي الاحتياجات الخاصة (المسنين)، بحث منشور، مجلة كلية الآداب، العدد 9، 2011، ص 611.

131. منی حمید حاتم، المصدر السابق، ص 611.

132. عبد اللطيف عبد الحميد، مشکلات اجتماعية، مطبعة جامعة بغداد، 1991، ص 156.

133. محمد بهائي السكري، وداعا للشيخوخة، المكتب العلمي، القاهرة، 1988، ص 20.

134. منی حمید حاتم، المصدر السابق، ص 611.

135. ينظر: عبد اللطيف عبد الحميد، المصدر السابق، ص 156 - 157.

136. المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون الخليجي، رعاية المسنين، موقع الكتروني، http://sgh.org.sa/ar-sa.

137. عبد الله العلي النعيم، رعاية المسنين: بين مسئوليات المجتمع ودور الأسرة والمؤسسات الأهلية، بحث منشور، 2001 م، / http://swmsa.net/forum. archive/index.php/t-11390.html.

138. غسان السعد، المصدر السابق، ص 386

139. محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقیق عبدالرحیم رباني، دار احیاء التراث، بیروت، (د. ت)، ج 11/ ص 49.

ص: 352

القيم السلوكية والمحددات النفسية في ضوء عهد اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في رسالة مالك الاشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

م. د. نهى حامد طاهر عبدالحسين الطائي كلية الدراسات الانسانية الجامعة العتبة العباسية المقدسة

م. م. سهاد حسن المكصوصي جامعة موسى الكاظم (عليه السلام) / محافظة واسط

ص: 353

ص: 354

ملخص البحث

من المؤكد أنه ليس أحد من أرحام النبي (صلى الله عليه و آله) وأصحابه أشد ولاءً ولا أكثر حباً ولا تمادياً في الإخلاص له من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان القوة الضاربة التي حمته من ذئاب طغاة القريشيين الذين جهدوا على تصفية جسده وإقصاء قيمه ومبادئه وحينما أحاطوا بداره لتصفيته وقاه الإمام بنفسه وبات في فراشه، فكان الفدائي الأول للنبي (صلى الله عليه وآله)، وبهذه المنزلة الرفيعة من الوفاء والإخلاص كان الزعيم مالك للإمام فقال له: (أنت لي كما كنت لرسول الله).

وعلق آية الله الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي على كلمة الإمام مالك بقوله: «ولقد ترجم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام ) قائده الأشتر بكلمة من قصار کلماته، وذكر نصها، فهذه الكلمة القصيرة فتحت لنا ألف باب نصل منها إلى معرفة تلك النفس الزكية القدسية».

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) خالصاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لأنه ابن عمه ومن أقرب الناس إليه نسباً ولحمة بل لأنه النبي الصادق الأمين الذي جاء بالحق من عند الله تعالى فصدع به، وبلغه، وهكذا يقضي التشبيه لمالك، ويدل عليه مأثور فعله وقوله في حالتي الغضب والاطمئنان والشدة والرخاء، وهو وإن لم يبت على فراش علي، ولكنه عرض نفسه مشهدٍ للفداء في كل موقف وقفه، وشهد شهده، ومغالاته في التضحية عنه

ويعد عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر عبارة عن كتاب (رسالة) كتبها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولّاه

ص: 355

بلاد مصر، وهذا الكتاب من أهم وأطول کتب أمير المؤمنين (عليه السلام). كان عهد الإمام إلى الأشتر يهدف إلى التأسيس لنظام إداري و حقوقي على الصعيد الإسلامي يبدأ من الحاكم نفسه.

ولقد تضمن هذا العهد (40) فقرة، وكانت الفقرة الاولى منها تتحدث عن السيرة الحسنة اي حسن السلوك، والذي ستقوم الباحثتان بملامسة هذا الموضوع المهم في هذا العهد.

ص: 356

المقدمة

خلّف علي بن أبي طالب (عليه السلام) منظومة فكرية متكاملة تصعب الاحاطة بمضامينها ومعانيها، فهي معين ثَرٌّ لا ينضب. ما نهل منه شارب الا وخرج بجديد ينفع الناس والمخلوقات کافة. وليس في الأمر مبالغة أن سمية ب: «البيان الجامع». ان اصلاح العباد والبلاد هو الهدف الاساسي الذي يقوم عليه نهج أمير المؤمنين (عليه السلام). فقد تم تفسیر خطبه ورسائله، وأقواله حول شؤون المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، والعلمية، والسياسية، والبيئية، والحفاظ على أمن الناس، وتأمين العيش الكريم لهم، ورسمت المعالم الأساسية لأول میثاق لحقوق الانسان. وكان عليه السلام، في سلوكه اليومي و ممارسته العملية منسجماً تمام الانسجام مع أقواله ليس فقط مع محبيه، بل حتي مع مبغضيه، لأنه كان يؤمن أن الناس كلهم أخوة سوداً كانوا أم بيضاً، مسلمين أو معاهدين (ابو جوهر، 2010: 75).

ويشمل علم الأخلاق مجموعة من السلوكيات والعادات والصفات والمشاعر الراسخة في خلجات النفس البشرية، فهي تشكل اساس الملكات التي تظهر عادة بشكل عفوي دون تفكير ويطلق عليها صفة الخير او الشر. اما السلوكيات الغير راسخة والتي تصدر بصورة غير ارادية يطلق عليها مصطلح الغضب. اما اذا صدرت بعد التأمل وكبت الرغبات انذاك يطلق عليها مصطلح الأخلاق المصطنعة، عطاء البخيل بقصد الشهرة او المصلحة وكسب السمعة. فقد جاء في اقوال الأمام علي (عليه السلام) كل داء يداوى الاسوء الخلق، من ساء خلقه ضاق رزقه، ان الخلق المذموم من ثمار الجهل وأخيرا: سوء الخلق يوحش القريب وينفر البعيد) (التميمي، 1931: 9187).

ص: 357

أن حسن الخلق لدى امير المؤمنين علي (عليه السلام) لا يكون فقط مع الناس بل يكون مع الله سبحانه وتعالى في الدرجة الأولى وحسن الخلق مع الله يكون بتصديق أخباره عز وجل مما أخبر به أو أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وعلى اله وسلم) فصدقة ولو لم تفهمه عقولنا فلتزم بحسن الخلق مع هذا. وأيضاً يكون حسن الخلق مع الله بتطبيق أحكامه ويكون أيضاً بالصبر على ما قضى وقدر والحال الآخر لحسن الخلق هو حسن الخلق مع الناس (العايد، 2005: 15).

ونلاحظ في عهد امير المؤمنين لماك الاشتر، وکما جاء في تقديم الشريف الرضي له (ومن عهدله عليه السلام كتبه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها حين إضطرب محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن)، وقد إبتدأه عليه السلام بالبسملة ثم «هذا ما أمر به عبد الله عليٍ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك بن الحارث الأشتر في عهد اليه حين ولاه مصر ...». نلاحظ ان الامام علي (عليه السلام) قد ابتدأ عهده بالأمر وشرع بهذا الأمر یُعدد الواجبات التي ينبغي على مالك الأشتر القيام بها، والامور التي عليه مراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها. ويبين له (عليه السلام) أن الحاكم ما هو إلا مسؤول مؤتمن على حقوق الناس وخدمتهم، وعدل الحاكم هو ما يوجب على الرعية إتباعه. والمتدبر في قراءة العهد يجد أن الامام علي (عليه السلام) أنكر أن يكون الحاكم والحكومة سلطة متجبرة متسلطة على رؤوس الناس بل ان يكون الحاكم والحكومة في خدمة الناس ومداراتهم، وإلا تحولت الحكومة الى منصب دنیوي يلهث وراءه كل من يحب الدنيا ومغرياتها، وكل باحث عن جابر، وهذا ما حذر منه الامام علي (عليه السلام) ونبه عليه، وخوَّف من عاقبته في الدنيا والآخرة (المالكي والعباسي، 2014: 301).

ويعد عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر عبارة عن كتاب (رسالة)

ص: 358

كتبها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاه بلاد مصر، وهذا الكتاب من أهم وأطول کتب أمير المؤمنين (عليه السلام). كان عهد الإمام إلى الأشتر يهدف إلى التأسيس لنظام إداري و حقوقي على الصعيد الإسلامي يبدأ من الحاكم نفسه (سوادي، 2010: 15).

لقد شهد النبي (صلى الله عليه وعلى اله وسلم) لطائفة من أمته بالإيمان منهم مالك الأشتر، فروى أحمد من حديث مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ قَالَتْ بَكَيْتُ فَقَالَ مَا يُبْکِیكِ قَالَتْ وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا يَدَ لِي بِدَفْنِكَ وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ فَأُکَفِّنَكَ فِيهِ قَالَ فَلَا تَبْكِي وَأَبْشِرِي فَإِنِّي سَمِعْتَ رَسُولَ اللهَّ (صَلَّى اللهَّ عَلَيْهِ وعلى اله وَسَلَّمَ) يَقُولُ لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ أَوْ يَحْتَسِبَانِ فَيَرِدَانِ النَّارَ أَبَدًا. وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَّ (صَلَّى الله عَلَيْهِ وعلى اله وَسَلَّمَ) يَقُولُ لَیَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْکُمْ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُؤمِنِينَ وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ أَو جَمَاعَةٍ وَإِنِّي أَنَا الَّذِي أَمُوتُ بِفَلَاةٍ وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا کُذِبْتُ القرطبي، 1992: 58).

ووفقا لهذا العهد، فسر بعض العلماء الاخلاق لدى امير المؤمنين في انه التفكير الصحيح، اي ان الأسلوب الأمثل هو التفكير الصائب والأمعان والدراسة والمقارنة قبل الأقدام على عمل، فالمعروف عن التفكير انه يوصل الأنسان الى المعرفة عبر العقل فأما ان تكون المعرفة في اطار الخير او في اطار الشر، فأن كانت خيرا ارتقى بها الأنسان، وقد يخطوبه بمجتمعه الى مصير افضل لو كان له دور في قيادته، وان كانت شراً مستطيراً تعرض الى مهاوي الخطر، فبفضل زيادة التمرين والتكرار ينمو لدى الأنسان قابلية القدرة على التفكير الصحيح، يمكنه من اتخاذ القرار المفيد الذي يخدمه

ص: 359

ويأنس به.

اما الاسلوب الثاني في علم الأخلاق فيشمل الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة، و تنقسم الأعمال بدورها الى جيدة واخرى رديئة، وهذه الأعمال ما هي الا عبارة عن افرازات طبيعة للأنسان تعكس مكنوناته النفسية التي تعبر في الغالب عن فضائل او عن رذائل، وقد جاء في سورة القلم وانك لعلى خلق عظیم کما جاء على لسان الرسول الأعظم: «انما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق». وجاء في حكم الأمام علي بن ابي طالب (عليه السلام): «حسن الخلق افضل الدين - لا قرين كحسن الخلق - اكرم الحسب الخلق الحسن» (التميمي، 1931: 9187).

وقد نال هذا العهد من الاهتمام والدراسة والتمحيص والتفسير والشرح والبيان ما لم ينله نص آخر مماثل له في التوجه على مر العصور، وقد تُرجم إلى كثير من لغات العالم، وفي بعض اللغات تُرجم وشرح مراراً وتكراراً، وهذا دليل على قيمة المعاني الانسانية العظيمة التي يحتويها هذا العهد، وتناوله مختلف شؤون الحياة أولاً، وواجبات الحاكم والحكومة ثانية (المالكي والعباسي، 2014: 301).

اهمية البحث والحاجة اليه:-

ان الانسان والمجتمع يتعرضان بشكل دائم لتدهور واضطراب و خسران في جميع مقومات الحياة وميادينها، باستثناء من تكون المفاهيم والقيم الدينية هي الحاكمة على مسيرته وحركته، حيث تحرر تلك القيم الإنسان والمجتمع معاً من جميع العبوديات الفكرية والاجتماعية والتربوية، وتزرع في الضمير وخلجات النفس وفي الواقع الاستقرار والطمأنينة التي هي أساس الصحة النفسية والخلقية، وتدفع الى العمل

ص: 360

الايجابي البناء في اصلاح وتغيير النفس والمجتمع، وأساس القيم المعنوية والنفسية الايمان بالله تعالى و باحاطته التامة بالانسان في حركاته وسكناته، وهو الذي يجعل الضمير طامعاً في ثواب الله، وخائفاً من غضبه وعقابه. ولقد أثبتت حركة التاريخ وسننه المتتابعة انّ الابتعاد عن الدين فكراً وسلوكاً هو أساس جميع الوان الانحراف والانحطاط الفردي والاجتماعي، ابتداءً بفقدان الصحة النفسية والروحية، وانتهاءً بالممارسات المنحرفة، ولهذا نجد انّ الانحراف يتزايد في المجتمعات غير الدينية التي لا تؤمن بمفاهيمه أو لا تتبناه منهجاً لها في القيم المعنوية تشمل: الايمان بالله، والایمان بالثواب والعقاب، وذكر الله، وذكر الموت، والاعتراف بالذنب، والاستغفار، والتوبة، والرضا بالقضاء (العذاري، 1992: 32).

قد تحدث الإمام علي (عليه السلام) عن سمو شخصية مالك وعظيم شأنه في رسالته التي بعثها لأهل مصر حينما ولاه عليهم والتي جاء فيها:-

((أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله تعالى لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار وهو مالك بن الحارث أخومذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله تعالى لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخر، ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم)).

ومن خلال قول الامام علي (عليه السلام) عن مالك الاشتر، يمكن ابراز بعض الجوانب من شخصيته وكالاتي:-

أوله: عظیم شجاعته وشدة بأسه في أيام الرعب والخوف، فإنه لا يهاب الأعداء

ص: 361

ولا يلين لهم

ثانیه: شدته على الكفار، وقد وصفه الإمام بأنه أشد عليهم من حريق النار، وهو وصف من أروع الصفات.

ثالثه: انه سيف من سيوف الله تعالی کما کان الإمام عليه السلام (القرشي، 2004: مصدر انترنت).

ان من الطبائع الإنسانية السليمة أنها خلَّدت شخصيتها المتميزة التي أسهمت بصورة أو أخرى في تذلیل مصاعب الحياة، وتركت بصماتها العلمية والعملية بين يدي الإنسان، لكي يوظِّفها لصالحه في تحقيق النجاح في الميادين كافة، وعندما نقلب صفحات التأريخ الإنساني بتروٍ وتقصٍّ منصف، فإننا سنجد بين طياته شخصیات عظيمة قدمت للبشرية عصارة أفكارها المدعومة بأعمالها، فنقلتها من سباتها وسكونها إلى منطقة الحراك والعمل الإنتاجي المبدع في شتى مجالات الحياة، وبذلك أصبحت أممالها حظوتها القوية في الوجود والتطور المتصاعد، ونقشت اسمها وأعمالها الكبيرة في سجل الإنسانية الخالد، من خلال الإسهامات الفكرية والعلمية لشخصياتها العظيمة، ولكننا قد نجد شخصية فذة فريدة تميزت بالتفوق المطلق وجمعت كل الخصائل الإنسانية الرفيعة والسامية الا وهي شخصية امير المؤمنين علي (عليه السلام)، فهي تعد أعظم وأروع وأهم شخصية بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله) المتفردة في صفاتها والمتميزة في سماتها، والتي جعلت من الإمام الشخصية الخالدة التي جاد بها التاريخ على المسلمين وعلى الإنسانية، فتألقت متفردة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سماء البشرية صانعةً مثلاً أعلى ونموذجاً فريداً وشمساً زاهرة بالقيم والفضائل التي تمد العالم دائماً وأبداً بالخير والسعادة (الشيرازي، 2013: 11).

ص: 362

ولقد اكد امير المؤمنين علي (عليه السلام) على تكامل الاخلاق في رسالته لمالك الاشتر، ويمكن ان نذكر اهم ما جاء به الامام علي (عليه السلام) حول الاخلاق من خلال الاحاديث التالية:- «مَنْ سَاءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ اَلصَّدِیقُ وَ اَلرَّفِیقُ» (التميمي، 1931: 9187). «مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ ضَاقَ رِزْقُهُ». (الريشهري، 1998: 1086). «سُوءُ اَلْخُلُقِ شَرُّ قَرِینٍ». (التميمي، 1931: 5567). «سُوءُ اَلْخُلْقِ نَکَدُ اَلْعَیْشِ وَ عَذَابُ اَلنَّفْسِ». (الريشهري، 1998: ص 1085). «سُوءُ اَلْخُلْقِ یُوحِشُ اَلنَّفْسَ وَ یَرْفَعُ اَلْأُنْسَ». (التميمي، 1931: 5640).

کما جاء في رسالة امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر الوصية التالية المذكورة في نهج البلاغة: «او أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطا، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم» (Jawed، 2006 22).

ومن المتناصات التي وردت في عهد الأشتر والرسالة الخامسة، قوله (عليه السلام): «ولا يكون المحسنُ والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة. والزم كلاً منهم ما ألزم نفسه. وأعلم إنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظنِّ راعٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراجه إياهم على ما ليس قِبَلَهم «،أما ما جاء في الرسالة الخامسة، فهو: «إن الملك صاحب النظر يجب أن ينظر في استحقاق العاملين، فليعطي كل واحد بقدر حقه، لا أن يعطي أذنه لمن يتوقع أن تفرغ الخزانة، ولا للذي

ص: 363

تمتلئ عينه طمعاً. بل على الحاكم أن يرى العزة بنفسه، ولا يطلع أحداً على الحال، ولا يشجع أحداً أن يكون شفيعاً، فرأي الملك وفائدته، هو أن لا يدع غير المحتاج دائم الصراخ وأن يوفر أسباب مؤونة الناس بدون ذلة، فليس هناك أكبر من هذه الهمة، ولن يجد أكبر منها «(عبده، ه 1885: 88 - 89).

کتب (عليه السلام) إلى أهل مصر - حين ولّى عليهم الأشتر - کتاباً يصف فيه الأشتر بقوله: «أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع. أشدّ على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة، فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يقدم ولا يحجم ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم». (الاميني، 1359 ه: 40).

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في موضع آخر:

((لله در مالك، وما مالك لو كان جبلا لكان فنداً، ولو كان حجراً لكان صلداً، أما والله ليهدن موتك عالماً، وليفر عن عالماً على مثل مالك، فلتبك البواكي وهل موجود کمالك)).

وقال أيضا لما بلغه موت مالك: رحمك الله يا مالك، كان لي مالك کما کنت الرسول الله (صلى الله عليه وعلى اله وسلم) (الشريف المرتضي، 1970: 211).

ومن خلال ما سبق عرضه، يمكن تلخيص اهمية البحث بان معنى الاخلاق لدى امير المؤمنين، ينصب على الانسان الذي يتميز بجملة من الصفات لعل من ابرزها معرفة الاسلام و حسن تطبيقه، والعدالة، والوعي السياسي، والصفات الشخصية

ص: 364

الحميدة. وفي حالة المساس بالشريعة الاسلامية أو ظهور حالة الاستبداد والظلم من قبل الحكام أزاء الأمة وتبديد حقوقها نتيجة ضعف الوعي والأداء السياسي والإداري، فإن الامام يمنح الحق للامة بأفرادها و مجموعها بالتصدي للحكومة واخطائها تجسيداً لحق المعارضة وبصورة تدريجية حتى تصل الى الثورة المسلحة للقضاء على الظلم والطغيان وذلك استناداً الى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أولاه الامام أهمية متميزة على الصعيدين النظري والعملي.

هدف البحث:-

يهدف البحث الحالي، التعرف على اهم القيم السلوكية والمحددات النفسية في ضوء عهد امير المؤمنين علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رض الله عنه).

حدود البحث:-

يتحدد البحث الحالي بالقيم السلوكية والمحددات النفسية المتضمنة في عهد امير المؤمنين علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رض الله عنه) اثناء تسليمه ولاية مصر

تحديد المصطلحات:-

1. القيم السلوكية:-

عرفها (الصائغ، 2006):-

يقصد بالقيم السلوكية، ذلك النسق من المعايير التفضيلية للسلوكيات المرغوبة

ص: 365

شرعا وعرفًا، والتي يمكن للتربية نقلها وتنميتها عن طريق التنشئة الاجتماعية والتفاعل في المواقف التعليمية والتي يتجسد عنها عن قناعة ممارسات لفظية وحركية مباشرة وغير مباشرة يمكن وصفها بأنها ممارسات يبرز فيها الخلق الحسن (الصائغ، 2006: 9).

2. المحددات النفسية:-

عرفها (ابو رزق، 2011):

عبارة عن صفات أو خصائص يتميز بها الفرد عن غيره من الأفراد أو تتميز بها جماعة من الجماعات وقد تكون هذه السمة أخلاقية كالكرم أو التعاون أو التسامح أو الصدق، وقد تكون فكرية كالمرونة، أو ثقافية كسعة الأفق، أو شخصية كالانبساط، أو مزاجية كسرعة التقلب في المزاج، أو حركية أو جسمية، مكتسبة أو موروثة، شعورية أو لا شعورية، وقد يعوض الإنسان شعوريا أو لا شعوريا بسمة مناسبة أخرى، و قد تكون السمة سطحية أو عميقة مسيطرة أو بسيطة، و قد تكون متغيرة متحركة ديناميكية أو ثابتة ثبوتا نسبيا (ابو رزق، 2011: 29 - 30).

3. عهد الامام علي (عليه السلام):-

عرفه (الطهراني، 1355 ه):-

هو ذلك العهد الذي ارسله الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه) عند توليه ولاية مصر، والذي ينص في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور العبادية والقضائية (الطهراني، 1355 ه: 362).

ص: 366

4. الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام):-

عرفه (المسعودي، 1916) و (ابن الجوزي، 2005):

أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام الهاشمي القُرشي، ولد في (13 من شهر رجب عام 23 قبل الهجرة الموافق 29 من شهر تموز لسنة 599 م) واستشهد في (21 من شهر رمضان عام 40 ه الموافق 27 من شهر يناير لسنة 661 م) ابن عم محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله نبي الإسلام وصهره، من آل بيته عليهم السلام، وكافله حين توفي والديه وجده، وأحد أصحابه، هو رابع الخلفاء الراشدين عند السنة وأحد العشرة المبشرين بالجنة وأوّل الأئمّة عند الشيعة، ولد في مكة وتشير مصادر التاريخ بأن ولادته كانت في جوف الكعبة، وأُمّه فاطمة بنت أسد الهاشميّة، أسلم قبل الهجرة النبويّة، وهو أول من أسلم . هاجر إلى المدينة المنورة بعد هجرة محمد بثلاثة أيّام وآخاه محمد صلى الله عليه واله مع نفسه حين آخى بين المسلمين، وزوجه ابنته فاطمة (عليها السلام) في السنة الثانية من الهجرة. شارك علي عليه السلام في كل غزوات الرسول صلى الله عليه واله عدا غزوة تبوك، وعُرف بشدّته وبراعته في القتال فكان عاملاً مهماً في نصر المسلمين في مختلف المعارك وابرزها غزوة الخندق ومعركة خيبر. لقد كان علي عليه السلام موضع ثقة الرسول محمد (صلی الله عليه وعلى اله وسلم) فكان أحد كتاب الوحي وأحد أهم سفرائه ووزرائه (المسعودي، 1916: 5)، (ابن الجوزي، 2005: 7).

5. مالك الاشتر ( رضي الله عنه):-

عرفه (الشيخ المفيد، 1993):-

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي المعروف بالأشتر، أمير كبار

ص: 367

الشجعان، وكان رئيس قومه. يلقب مالك بن الحارث النخعي بألقاب عديدة هي: الأشتر، كبش العراق، والأفعى، لكن لقب الأشتر هو الغالب عليه من بين تلك الألقاب، وقد جاء هذا اللقب على أثر ضربة في معركة على إحدى عينيه فشترت. ويعرف مالك الأشتر بطول قامته وضخامة جثته، كان منظر الأشتر في الحرب يبعث في النفوس الهلع والخوف وهو يرتدي عدّة القتال ممتطياً جواده يتقدم الجيوش، ويرتب الصفوف ويبعث الحمية والنخوة والثقة بالنصر. وكان الأشتر من أصحاب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وشهد معه الجمل وصفين و مشاهده كلها، وكما قال الإمام (عليه السلام): كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله). (الشيخ المفيد، 1993: 79).

الاطار النظري للبحث:-

للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مواهب وعبقريات، ولم تختص ملكاته العلمية بأحكام الشريعة ومعارف الإسلام، وإنما كانت شاملة لجميع أنواع العلوم على اختلافها وتعدد أنواعها، وقد ذكر العقاد في عبقرية الإمام أنه فتق أكثر من ثلاثين علماً، لم يعرفها المسلمون من قبل.

ومن المؤكد أن سعة علوم الإمام وشموليتها لكل علم تتطور به الحياة كانت مستمدة من النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فقد أفاض علیه علومه، وغذاه بمكوناته الفكرية، فقال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) فهو باب مدينة علم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) التي شملت جميع أنواع العلوم التي عرف الناس بعضها وجهلوا الكثير منها. (القرشي، 2004: مصدر انترنت).

وقد قال العقاد عنه في كتابه (عبقرية الامام علي عليه السلام) بان سيرته تخاطب الانسان حيثما اتجه اليه الخطاب البليغ من سير الابطال والعظماء، وتثير فيه اقوى ما

ص: 368

يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف وحسن الخلق، وواقع العبرة والتامل. ففي سيرته (عليه السلام) معنى لملتقى العاطفة المشبوبه بالاحساس المتطلع الى الرحمة والاكبار، لانه الشهيد ابو الشهداء، يجري تاريخه وتاريخ ابنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والحكم والعدالة والعلم والخلق الرفيع (العقاد، 1967: 5).

ومن بين العلوم التي انفرد بها الإمام عليه السلام وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الاشتر واليه على مصر، فقد وضع فيه أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية، وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم والإدارة في مجتمع لم يفقه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة، وقد شرع الإمام أروع صور الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري، إن الإنسانية على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي وإبداع فيما أسسه لها رجال السياسة والقانون من أنظمة الحكم والإدارة فإنهم لم يأتوا بمثل هذا العهد، ولوكان بعضهم لبعض ظهيراً فقد بلغ من عظيم ما سنه الإمام في عهده أنه أمر الحكام أن يساووا بين جميع طبقات الشعب حتى في اللحظة والنظرة، وقد أقام بذلك أسمى صور العدالة التي ينشدها الإسلام وعلى أي حال فإنا نعرض صوراً من الأنظمة المشرقة التي تملأ النفوس إكباراً وتعظيماً (القرشي، 2004: مصدر انترنت).

فعندما قرّر الامام علي (عليه السلام) إرسال مالك الأشتر إلى مصر ليحميها من سطوة معاوية، كتباً إليه كتاب جاء فيه: (أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم وأسد به الثغر المخوف، وقد كنت وليت محمد ابن أبي بکر مصر، فخرجت عليه خوارج..). ضاق معاوية بهذا النبأ؛ وجمع أهل الرأي من أصحابه ليوحدوا رأيهم في هذا الموضوع، فإن تولية الأشتر أهم بكثير من أمر محمد.. وهو بعد لم يغرب عن باله موقفه أمس في صفين وبلاؤه، وتضحيته، وتفانيه في سبيل

ص: 369

الحق.

كما لم تغرب عنه خطبته في ذلك اليوم، وهو على فرس أدهم وقد استعدّ للقتال، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال:

(ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدّر، أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلقّت بيننا، وبين عدو الله وعدونا فنحن بحمد الله ونعمه ومنه، وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن من العقاب، معنا ابن عم نبينا، وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله، لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتى كان شيخاً لم تكن له حبوة، ولا نَبوة، ولا هفوة، ولا سقطة. فقيه في دين الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جمیل، وعفاف قديم... فاتقوا الله، وعلیکم بالحزم والجد واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية، وأنتم مع البدريين وقريب من مائة بدري سوی من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله، ومع معاوية رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله، فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين: إما الفتح، وإما الشهادة عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا، وإياكم طاعته وتقواه واستغفر الله لي ولكم). (شمس الدين، 1990: 239).

وفي خلال هذا العهد کتب الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رض)، الالتزام بحسن الخلق، وهذا يتضح في مقولته:

«ليكن أحبّ الأُمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل وأجمعها للرعية فإنّ سخط العامة يجحف برضى الخاصّة وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة

ص: 370

وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقلّ له معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقلّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأضعف صبراً عند ملمّات الأُمور ومن الخاصّة وإنّما عمود الدين وجماع المسلمين والعدّة للأعداء أهل العامّة من الأُمّة فليكن لهم صَغوك واعمد لأعمّ الأُمور منفعة وخيرها عاقبة ولا قوّة إلاّ بالله.

ولیکن أبعد رعيتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لعيوب الناس فإنّ في الناس عيوباً الوالي أحقّ مَن سترها فلا تكشفنّ ما غاب عنك واستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحبّ ستره من رعیّتك. وأطلق عن الناس عقد كلّ حقد واقطع عنك سبب كلّ وتر واقبل العذر وادرأ الحدود بالشبهات. وتغاب عن كلّ ما لا يَضِحُ لك ولا تعجلنّ إلى تصدیق ساع فإنّ الساعي غاشّ وإن تشبّه بالناصحين.

لاتُدخلنّ في مشورتك بخيلا يخذلك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعف عليك الأُمور ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجور فإنّ البخل والجور والحرص غرائز شتّی يجمعها سوء الظنّ بالله. وأيقن أنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام وقام بأُمورهم في عباد الله فلا يكوننّ لك بطانة تُشركهم في أمانتك کما شركوا في سلطان غيرك فأردوهم وأوردهم مصارع السوء (الشيرازي، 1994: 113).

ص: 371

عرض النتائج:-

من خلال ما تم عرضه في الاطار النظري للبحث، يمكن ان تستنتج الباحثتان بان القيم السلوكية والمحددات النفسية لامير المؤمنين علي (عليه السلام) في العهد الذي ارسله لماك الاشتر (رضي الله عنه) تتميز بخصائص لا حصر لها، لكن يمكن ان نذكر منها:

1. ان العمل الصالح أعظم ذخيرة.

2. امتلاك الهوى، والشح بالنفس عما لا يحل له، والشح يعني «الإنصاف فيما أحببت وكرهت».

3. العدل بين الناس جميعاً، فإنهم صنفان: «إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

4. التحذير من سفك الدماء بغير حق.

5. النهي عن الإعجاب بالنفس، وحب الإطراء.

6. النهي عن المن على الرعية بالإحسان، أو التزيد في إظهار ما وقع منه بالفعل.

7. النهي عن الإخلاف في الوعد، بعد الوعد.

8. النهي عن الاستئثار بما فيه الناس متساوون.

9. الحلم و تأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، وقوام ذلك «ذكر المعاد إلى ربك».

10. تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية.

11. إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.

ص: 372

التوصيات:-

1. اقامة الندوات والمؤتمرات التي تؤكد على دور الامام علي (عليه السلام) في تنمية الاخلاق الحميدة وتهذيب النفوس من الرذائل.

2. تضمين المبادی الخلقية التي جاء بها اهل البيت (عليهم السلام) في مقررات الدراسية لطلبة الجامعة، وخاصة في مادتي التربية الاسلامية وحقوق الانسان.

3. اقامة الملتقيات الطلابية والتي تهدف الى توعية الطلبة بالمضامين الخلقية التي جاء بها اهل البيت (عليهم السلام) من اجل العمل على الاقتداء بها في سلوكهم خلال حياتهم اليومية.

المقترحات:-

1. اجراء دراسة مماثلة تهدف الى معرفة سبب اختيار الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر في تنصيبه ولاية مصر.

2. اجراء دراسة تهدف الى معرفة الخصائص السلوكية والعسكرية للوالي مالك الاشتر (رضي الله عنه).

ص: 373

قائمة المصادر

1- المصادر العربية:-

1. ابن الجوزي، سبط (2005): تذکرة الخواص المعروف بتذكرة خواص الأمة في خصائص الأئمة، المجلد الأول، دار الكتب العلمية - بيروت البنان.

2. ابو جوهر، محمد امین (2010): العدالة الاجتماعية في نهج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، مجلة افاق الحضارة الاسلامية، العدد (14)، شمارة، ایران، ص (75 - 94).

3. ابو رزق، محمد مصطفی (2011): السمات الشخصية المميزة لذوي صعوبات التعلم وعلاقتها بالانتباه وبعض المتغيرات، رسالة ماجستير منشورة، كلية التربية، الجامعة الاسلامية - غزة.

4. الأميني، محمد هادي (1359 ه): ترجمه أعلام نهج البلاغة، ترجمة أبو القاسم أمامي، طهران، ایران.

5. التميميي، عبد الواحد محمد (1931): شرح غررالحکم و درر الكلم، للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ترجمة مكتبة الروضة الحيدرية، مطبعة العرفان، صیدا.

6. الريشهري، محمد (1998): میزان الحكمة، الجزء الثالث، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، قم، ایران.

7. سوادي، فليح (2010): عهد الخليفة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى وليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، الطبعة الاولى، النجف الاشرف.

ص: 374

8. الشريف المرتضي علي بن الحسين (1970): نهج البلاغه من كلام امير المؤمنين علي بن ابي طالب، مركز الأبحاث العقائدية، تحقيق الشيخ فارس الحسون، النجف الاشرف.

9. شمس الدين، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي أبو عبد الله (1990): تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والاعلام، وذيله، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، طرابلس الشام، سوريا.

10. الشيخ المفيد، عبدالله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (1993): الاختصاص، الطبعة الثانية، مصادر الحديث الشيعية - القسم العام، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، ایران.

11. الشيرازي، السيد محمد رضا (2013): الإمام علي (عليه السلام) التفوق المطلق والشخصية الجامعة، الطبعة الاولى، مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية، العراق - كربلاء المقدسة.

12. الشيرازي، مرتضى الحسيني (1994): السبيل الى انهاض المسلمين، الحوزة العلمية الزينبية، دمشق، سوريا.

13. الصائغ، عبد الرحمن يحيی حیدر (2006): دور المعلم في تنمية القيم الخلقية لدى المرحلة الثانوية، رسالة ماجستير منشورة، كلية التربية، جامعة الملك سعود.

14. الطهراني، الشيخ آقا بزرك (1355 ه): الذّريعة إلى تصانيف الشّيعة، الجزء الثالث، دار الاضواء، قم، ایران.

15. العايد، عبد الرحمن بن عايد (2005): فضل حسن الخلق، دار الكتب،

ص: 375

الكويت.

16. عبده، محمد (1885 ه): شرح نهج البلاغة للامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، الطبعة الادارية، بیروت، لبنان.

17. العذاري، السيد شهاب الدين الحسيني (1992): ملامح المنهج التربوي عند اهل البيت (عليهم السلام)، سلسلة المعارف الاسلامية، دار الرسالة، العدد (42)، بيروت، لبنان.

18. العقاد، عباس محمود (1997): عبقرية الامام علي (عليه السلام)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

19. القرشي، سماحة اية الله الشيخ باقر شريف (رحمه الله) (2004): شرح العهد الدولي للإمام علي (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر على مصر، في رحاب نهج البلاغة، موقع انترنت، - http://arabic.balaghah.net/con tent/%D8%B4%D8%B1%D8%AD.

20. القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري (1992): الاستيعاب في معرفة الأصحاب، الجزء الرابع، دار الجيل، بیروت.

21. المالكي، صبيح مزعل جابر، والعباسي، عماد الدين عبد الرزاق (2014): التناص بين عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر والرسالة الخامسة (في نصيحة الملوك) لسعدي الشيرازي، مجلة جامعة بابل للعلوم الانسانية، العدد (2)، المجلد (22)، ص (286 - 312).

ص: 376

22. المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين (1916): مروج الذهب و معادن الجوهر - عربي - فرنسي، الجزء الثاني، مطبعة باريس للنشر والتوزيع، فرنسا.

2- المصادر الاجنبية:-

Jawads Firas Abdul-Munim (2006) A Pragmatic Analysis of Illocutionary Speech Acts in Standard Arabic with a Special Ref erence to Al-Ashter's 'Epistle”. Babylon University (College of Education /Safi yil Deen Alhilli

ص: 377

ص: 378

القيم الاجتماعية المستوحاة من رسالة اميرالمؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر رضوان الله عليه

اشارة

أ. م. د. عمر عبدالله نجم الدين الكيلاني جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية قسم علوم القران

م. د. نور نظام الدين نجم الدين الكيلاني جامعة بغداد / كلية التربية ابن رشد قسم علوم القران

ص: 379

ص: 380

المقدمة

أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمناً لنعمائه، ومَعاذاً من بلائه، ووسيلاً إلى جِنانه، وسبباً لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبيّ الرحمة، وإمام الائمة، وسراج الامة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد الاقدم، ومَغرِس الفخار المُعرِق، وفرع العَلاء المثمر المورق. وعلى أهل بيته مصابيح الظُّلم، صلّى الله عليهم أجمعين.

للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مواهب وعبقريات، ولم تختص ملكاته العلمية بأحكام الشريعة ومعارف الإسلام، وإنما كانت شاملة لجميع أنواع العلوم على اختلافها وتعدد أنواعها، وقد ذكر العقاد في عبقرية الإمام أنه فتق أكثر من ثلاثين علماً، لم يعرفها المسلمون من قبل. ومن المؤكد أن سعة علوم امير المؤمنين (عليه السلام) وشموليتها لكل علم تتطور به الحياة كانت مستمدة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أفاض علیه علومه، و غذاه بمكوناته الفكرية، فقال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) فهو باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن بين العلوم التي انفرد بها امير المؤمنين (عليه السلام) وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الاشتر واليه على مصر، فقد وضع فيه أدق الأنظمة وأهمها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية والاجتماعية، وعالج فيه بصورة موضوعية وشاملة جميع قضايا الحكم والإدارة في مجتمع لم يفقه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة، وقد شرع (عليه السلام) أروع صور الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري، إن الإنسانية على ما جربت من تجارب و بلغت من رقي وإبداع فيما أسسه لها رجال السياسة والقانون من أنظمة الحكم والإدارة فإنهم لم يأتوا بمثل هذا العهد، ولوكان بعضهم لبعض ظهيراً فقد بلغ من عظيم ماسنه (عليه السلام) في عهده أنه أمر الحكام أن يساووا بين جميع طبقات الشعب حتى في اللحظة والنظرة،

ص: 381

وقد أقام بذلك أسمى صور العدالة التي ينشدها الإسلام وعلى أي حال فإنا نعرض صوراً من الأنظمة المشرقة التي تملأ النفوس إكباراً وتعظيماً.

ص: 382

مفهوم القيم الاجتماعية

القيم الاجتماعية هي الخصائص أو الصفات المرغوب فيها من الجماعة والتي تحددها الثقافة القائمة مثل التسامح والحق والقوة وهي أداة اجتماعية للحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار بالمجتمع. لغة القيمة هي القدر والمنزلة والقيم الاجتماعية هي الخصائص أو الصفات المرغوب فيها من الجماعة وتوجه سلوكهم، وهي التي تخبرهم الفرق بين الحلال والحرام أو الصحيح والخطأ والجيد والسيء والتي تحددها الثقافة القائمة مثل التسامح والحق والعدل والامانة والجرأة والتعاون والإيثار والقوة وهي أداة اجتماعية للحفاظ على النظام الاجتماعي والاستقرار بالمجتمع (1).

ان أهمية القيم في أنها أولا تحثنا على القيام بأوامر ديننا الإسلامي قولا وعملا، ويعد معیار مهم نحدد من خلالها ما هو مرغوب وغير مرغوب، وهي تساهم في تحقيق الأهداف السامية لكل منا، تمثل الهوية الصادقة التي يحملها كل إنسان بداخله، وهي التي تتحكم بردود أفعالنا اللاإرادية (2).

رسالة علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر أو عهد علي بن أبي طالب للأشتر هي الرسالة التي أرسالها علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى مالك بن الاشتر النخعي عندما ولاه الحكم في مصر. فهي عهد في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور العبادية والقضائية (3).

ص: 383

القيمة الاجتماعية في وصية علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر

أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر، الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة. ومن القيم الاجتماعية التي تضمنتها هذه الوصية ما يلي:

القيمة الاولى: التقوى

قال (عليه السلام): «أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جلَّ اسمه قد تكفَّل بنصر من نصره وإعزاز من اعزه» (4).

لا يخفى على احد ما جاء في كتاب الله تعالى من الآيات التي تحث المسلمين على (التقوی) حيث ذكرت في القرآن الكريم (258) مرة، وقد أمر الله عز وجل بها عباده عامة وأمر بها المؤمنين خاصة كما في قوله تعالى: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (5). ووصية الأنبياء القومهم: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (6).

فالتقوى هي جعل النفس في وقاية مما يخاف وحفظها عما يؤذيها ويضرها وهي مخافة الله في السر والعلن وفي الخمول والنشاط وفي الغني والفقر وفي المحبة والكراهية وفي القوة والضعف وهي العمل بما انزل الله في كتابه وجاء به نبيه وهي الرضا والقبول

ص: 384

بقضاء الله وقدره وهي جمع الزاد للقائه والاستعداد لليوم الآخر وهي أن تجعل بينك وبين الله حائل واق من عقابه فهي الإسلام وإتباع أوامره واجتناب نواهيه فهي التي تمنع الفقير من السرقة إذا قصد بها تقوى الله وهي التي تمنع الغني من الكبر وهي التي تمنع القوي من البطش وهي التي تمنع المسؤول من الظلم والتي تجعل الحاكم حنونا على شعبة يسهر لأجلهم ويحرص على أمنهم وهي التي تجعل رجل الأمن يسهر الليل حفاظا على النائمين والتي تمنع الموظف من أخذ الرشوة ...... إلخ (7).

إن المتأمل لكتاب الله ليرى أن التقوى ما وردت إلا لجلب الخير في الدنيا والآخرة فهي طريق الفلاح والنجاح وفي إهمالها تقع المصائب والمحن وتقع العقوبات الإلهية ففيها مخرج من كل ضيق وهي مجلبة للرزق ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، نری من تعريفها أنها تصنع المعجزات فهي دعوة للإخلاص ودعوة للنجاح ودعوة للتفاؤل ودعوة لنهوض الأمة الإسلامية.

والتقوی لیست شعارات وأقوال براقة بل هي ترجمة عملية لما وقر في القلب من إيران وخوف من الله عز وجل فكم من مدعي للتقوى ليس له منها نصیب، کیف تكون التقوى عند تجار يستغلون حاجة الناس ويمارسون الاحتكار وترى الغش في بضاعتهم والغبن الفاحش للناس من غير قناعة ولا رضا بالرزق.

وثمار التقوى هي (8):

• تجلب محبة الله ورضاه.

• الفوز بالجنة والنجاة من النار.

• سبب للرزق الكريم.

• الحصول على محبة الناس.

• التكافل الاجتماعي والمحبة والتآخي بين أفراد المجتمع.

ص: 385

• تحسين الوضع الاقتصادي والجذب السياحي إذا ما صارت سمة للمجتمع.

• سبب للحصول على العلم.

• الحصول على النور الذي يفصل بين الحق والباطل.

• جلب السعادة والانتصارات والفتوحات.

• الاستقامة على دين الله والثبات عليه.

• الذرية الصالحة وحفظ النفس والعرض والمال.

وان للتقوى مقياس بالقلب يأتي من ثمار العمل فلا بد من الحفاظ عليه وزيادته وشكر الله عليه فما من خير يصيبك إلا من الله عز وجل.

القيمة الثانية: كبح الشهوات

قال (عليه السلام): «وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإنَّ النفس أمارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله» (9).

فقد أكد الإمام (عليه السلام) على السيطرة على نزعات النفس وكفها ومنازعاتها إلى شهواتها و مآربها.

القيمة الثالثة: العمل الصالح

قال (عليه السلام): «فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح» (10). هذه المثل العليا في سياسة الإمام (عليه السلام) فقد أكد فيها على ضرورة العمل الصالح.

فالعمل الصالح هو العمل المرضي عند الله تعالى، ومنزلة العمل الصالح في الإسلام منزلة عظيمة، ومرتبته مرتبة عالية، والله جل جلاله وصف عباده المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح، فكل موضع يُذكر فيه الإيمان يكون مقرونًا بالعمل الصالح، ذلكم أن الإيمان المتجرد من الأعمال الصالحة لا يغني عن صاحبه شيئاً (11).

ص: 386

قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللَّهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَی عَالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهَادَهِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِمَا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (12).

القيمة الرابعة: الرحمة والمحبة

قال (عليه السلام): «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم» (13).

قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (14). وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (15).

أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر، الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة (16).

القيمة الخامسة: الاخوة والانسانية

قال (عليه السلام): «فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق» (17).

اعتمدت الرسالة في الأمم المتحدة كونها من أوائل الرسائل الحقوقية والتي تحدد الحقوق الواجبات بين الدولة والشعب؛ هذا العهد وصل إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة عبر زوجته السويدية، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة: إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، والعبارة هي: «...، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»، وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام مالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت

ص: 387

لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة غير عهد علي بن أبي طالب لمالك الأشتر کمصادر للقانون الدولي (18).

القيمة السادسة: العفو والتسامح

قال (عليه السلام): «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه» (19).

ثمَّ أوصاه الإمام (عليه السلام) أن يعفو ويصفح عمَّن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته.

القيمة السابعة: التواضع ونبذ التكبر

قال (عليه السلام): «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهةً أو مخيلةً فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك» (20).

التواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس وينشر الترابط بينهم ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس وفوق هذا كله فإن التواضع يؤدي إلى رضا المولى سبحانه وتعالى قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله وقال (صلى الله عليه واله وسلم): (مَن تواضع لله رفعه الله).

والتواضع يكون مع الله ومع رسوله ومع الخلق أجمعين فالمسلم يتواضع مع الله بأن يتقبل دينه ويخضع له سبحانه وتعالى ولا يجادل ولا يعترض على أوامر

ص: 388

الله برأيه أو هواه ويتواضع مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بأن يتمسك بسنته وهديه، فيقتدي به في أدب وطاعة ودون مخالفة لأوامره ونواهيه والمسلم يتواضع مع الخلق بألا يتكبر عليهم وأن يعرف حقوقهم ويؤديها إليهم مهما كانت درجتهم وأن يعود إلى الحق ويرضى به مهما كان مصدره والتواضع من أبرز أخلاق الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) (21).

القيمة الثامنة: العدل

قال (عليه السلام): «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك» (22).

ثمَّ دعاه إلى أن لا يميّز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بيت المال؛ لأنَّ المسلمين سواءٌ في تناول الحقوق المالية من بيت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء أثناء العهد السابق، فكان ذلك من الأسباب التي دعتهم إلى الثورة على عثمان بن عفان (23).

ثمَّ ذكّره بأن يكون هدفه وغايته إقامة العدل، وإحياء الحق، الغاية والهدف الذي من أجله أُرسل الأنبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة، فبالعدل فقط تقوم الأنظمة وتستمر، ويصير للحياة مفهومها ومعناها. أما الحياة في ظل حاکمٍ ظالم، فهي بمثابة السجن، قال تعالى: (عليه السلام): «وليكن أحب الأمور عليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية» (24).

ص: 389

القيمة التاسعة: الابتعاد عن سوء الظن

قال (عليه السلام): «واعلم أنه ليس شيءٌ بأدعى إلى حسن ظنِّ راعٍ برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجتمع به حسن الظن برعيتك، فإنَّ حسن الطن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإنَّ أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده. وإنَّ أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده» (25).

الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (26).

وليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن، فبه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس، وتكدر البال، وتتعب الجسد.

القيمة العاشرة: الصدق

قال (عليه السلام): «وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب» (27).

يعدّ الصّدق من أشرف الفضائل النفسيّة الإنسانيّة، فهو بذرة صالحة تُغرس في نفس الإنسان فتقتلع الصفات السيّئة لتثمر ثقة الناس بنا، فهو تأسیس لأخلاق حميدة حسنة تكون كمصباح يدّل على طريق الحقّ لا نتعثّر باجتيازه مهما كان وعراً، فهو كلّ الطمأنينة والمنجاة، لما له من آثارٍ جليلة في حياة الفرد والمجتمع أيضاً. الصّدق هو النّطق بالحقّ بعد اعتقاده، وإرسائه على الواقع، والعمل به، والمتّصف بالصّدق يُشار إلى أخلاقه العظيمة وبساطته الفطريّة. والصدق هو طريق النجاح والنّصر، ونافذة المقامات العليا، وبوابة المنزلة الرّفيعة، وهو كلّ المواقف الخالية من التصنّع والتكلّف والحِيَل (28).

ص: 390

الخاتمة

يعد هذا الاستعراض المختصر لمضامين القيم الاجتماعية لعهد امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر وانتهى هذا العهد الذي يمثل العدل في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته وهو من هجرية، اخلفته الإنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والإدارة بمنتهى الحكمة والدقة، في وقت لم يكن فيه المسلمون وغيرهم يعرفوا هذه الأنظمة الخلاقة وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبقرياته التي لا تحد و حسبه علواً أنه وصی رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وباب مدينة علمه، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسی.

وان هذا العهد يعد من أروع التشريعات التي سنت للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، من هنا قررت الامم المتحدة في بداية الالفية الجديدة توصية عالمية من قبل ((كوفي عنان)) للأنظمة في العالم بالاخذ به لما ورد فيه من قيم ومثل تؤسس للعدالة الانسانية، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، والرأفة بالمجتمع، وتنظيم العلاقات الحكومية.

ص: 391

الهوامش

1. الشيخ محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، 364 - 363.

2. محمد عابد الجابري، نظام القيم في الثقافة العربية، مجلة فكر ونقد العدد 19 دار النشر المغربية الدار البيضاء 1999.

3. طه عبد الرحمان الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ط 2، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب 2006، ص 68.

4. نهج البلاغة، علي بن ابي طالب (عليه السلام)، ضبط نصه صبحي الصالح، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص 149.

5. سورة النحل، الآية: 2.

6. سورة الشعراء، الآية: 106.

7. علم الاجتماع في نهج البلاغة، هاشم ناصر المحنك، دار انباء للطباعة والنشر، النجف الاشرف، العراق، ص 39.

8. شرح نهج البلاغة، ابن ابي حديد، ط 2، دار الجيل، بیروت، 1966، ج 17، ص 122.

9. نهج البلاغة، ص 149.

10. نهج البلاغة، ص 149.

11. اخلاقيات العدالة في عهد امیر، ص 149.

12. سورة التوبة، الآية: 105.

ص: 392

13. نهج البلاغة، ص 149.

14. سورة ال عمران، الآية: 159.

15. سورة الأنبياء، الآية: 107.

16. الراعي والرعية والحاكم والمحكوم في عهد الامام علي - عليه السلام لمالك الأشتر، صباح محسن کاظم، 2010، ص 81.

17. نهج البلاغة، ص 150.

18. رسالة علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر / https://ar.wikipedia.org/wiki.

19. نهج البلاغة، ص 150.

20. نهج البلاغة، ص 150.

21. التواضع من محاسن الأخلاق الإسلامية، أحمد الخاني، ط 1، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، 1981، ص 178.

22. نهج البلاغة، ص 150.

23. اخلاقيات العدالة في عهد امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر النجعي، هاشم حسين ناصر المحنك، جامعة الكوفة، النجف الاشرف، العراق، 1990، ص 115.

24. نهج البلاغة، ص 150.

ص: 393

25. نهج البلاغة، ص 151.

26. سورة الحجرات، الآية: 12.

27. نهج البلاغة، ص 154.

28. البراهين الاحمدية، مرزا علام احمد القادياني، ترجمة: عبد المجيد عامر، ط 1، الشركة الاسلامية المحدودة، 2013، ص 127.

ص: 394

المصادر

* القرآن الكريم

1. اخلاقيات العدالة في عهد امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر النجعي، هاشم حسين ناصر المحنك، جامعة الكوفة، النجف الاشرف، العراق، 1990.

2. بحوث معاصرة في الساحة الدولية، الشيخ محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية.

3. البراهين الاحمدية، مرزا غلام احمد القادياني، ترجمة: عبد المجيد عامر، ط 1، الشركة الاسلامية المحدودة، 2013.

4. التواضع من محاسن الأخلاق الإسلامية، أحمد الخاني، ط 1، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، 1981.

5. الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، طه عبد الرحمان، ط 2، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب 2006.

6. الراعي والرعية والحاكم والمحكوم في عهد الامام علي - عليه السلام لمالك الأشتر، صباح محسن کاظم، 2010.

7. شرح نهج البلاغة، ابن ابي حديد، ط 2، دار الجيل، بیروت، 1966.

8. علم الاجتماع في نهج البلاغة، هاشم ناصر المحنك، دار انباء للطباعة والنشر، النجف الاشرف، العراق.

ص: 395

9. نظام القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري، مجلة فكر ونقد العدد 19 دار النشر المغربية الدار البيضاء 1999.

10.

نهج البلاغة، على بن ابي طالب (عليه السلام)، ضبط نصه صبحي الصالح، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

11. رسالة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر / https://ar.wikipedia.org/wiki

ص: 396

الطبقات الاجتماعية في فكر الإمام علي (عليه السلام) - الفقراء انموذجاً - قراءة في نصوص العهد الى مالك الاشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

أ. م. د. وسيم عبود عطيه أ. م. د. أحمد بهاء عبد الرزاق كلية التربية للبنات / جامعة الكوفة

ص: 397

ص: 398

المقدمة

حينما قسّم الامام علي (عليه السلام) المجتمع إلى طبقات فهذا لا يعني أبداً انه يريد ایجاد تمایز وفوارق طبقية في المجتمع، لأنه من الواضح والمعلوم لدينا أن مبدأ التمايز في الاسلام وفي نهج الإمام (عليه السلام) بين الناس هو التقوى، وهو المثل الاعلى في الحياة الانسانية.

اعترف الاسلام کما اعترف الامام علي (عليه السلام) بالطبقات الاجتماعية - الفئات - القائمة على اساس اقتصادي او مهني او عليهما معاً، وذلك لأن وجودها ضرورة لا غني عنها ولذا قال (عليه السلام): ((واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض))، فالتقسيم الطبقي الذي ذكره (عليه السلام) يُقدم بالدرجة الاولى على الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها كل طبقة، ولا يستتبع حكماً تقويمياً على الشخص المنتسب الى طبقة ما يجعله في القمة او ينحدر به الى اسفل السلم الاجتماعي.

وفي هذا العهد قسّم (عليه السلام) المجتمع إلى سبعة طبقات كان في أدناها طبقة اهل المسكنة والحاجة ((الفقراء))، حيث وضع (عليه السلام) الدولة أمام مسؤوليتها تجاههم لأنهم اذا لم يجدوا العناية منها ينحرف قويها الى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً، فلا بد من تدبير يدفع البؤس عن افرادها والذي أرسى (عليه السلام) دعائمه وهو مبدأ التكافل او الضمان الاجتماعي.

وضع الامام (عليه السلام) حلولاً استراتيجية لمكافحة الفقر والقضاء عليه ومنها الالتزام باتباع حكمة الله في الكون، والاولوية للاعمار والتنمية والاستثمار في البنية التحتية، وترشيد الانفاق، والتوازن بين الريف والحضر في التخطيط الاقتصادي، والالتزام بمعايير موضوعية للمسؤولين الاقتصاديين، وتكريس مبدأ المسألة والمحاسبة وتنشيط حركة الاموال والغاء الاكتناز، والمرونة في الضرائب، وتوفير الحريات، ومحاربة كافة عوامل الفقر.

ص: 399

المبحث الأول مفهوم الطبقات الاجتماعية

تتألف كافة المجتمعات الانسانية من طبقات و مراتب، غالیاً ما تكون مركبة ومتداخلة يندمج فيها الافراد والاسر، ومن خلالها يمكن التمييز وبدقة بين طبقات اجتماعية وفئات کبری من الناس والاسر التي تبدو وكأنها: «زمر مغلقة نسبياً ذات منزلة متفاوتة» (1)، ويعتبر اعضاء كل طبقة انفسهم، كما يعتبرون من قبل الفئات الاخرى وكأنهم يتمتعون بقيمة متساوية نسبياً وبتفوق مشترك في علاقاتهم مع الفئات الاخرى، وفي الوقت نفسه تشكل كل طبقة فئة مغلقة نسبياً، فالانتقال من طبقة الى اخرى صعب دون ان يكون مستحيلاً، اذ ليس لاعضاء طبقة ما الا احتمالات ضئيلة لبلوغ مستوى طبقة اعلى، على حين ان المخاطر قليلة عند الهبوط الى طبقة ادنی (2).

واختلفت المفاهيم في مدلول اصطلاح الطبقة الاجتماعية، فبحسب المفهوم التقليدي: ينظر اليها على انها مجموعة من الافراد تتميز عن غيرها في مدى ما تتمتع به من نعم مادية بسبب وفرة ما لديها من اموال، سواء نتيجة ملكية (وراثة) أو عمل (جهد) (3).

أما المفهوم الماركسي فإنه أكد على انها مجموعة من الافراد تجمعهم بصفة خاصة مرکزهم من ملكية وسائل الانتاج ودورهم في العمل الاجتماعي، وترتبط اما بعلاقات عدائية عندما تحصل طبقة على نصيب من الثروة الاجتماعية على حساب طبقة اخرى كالعلاقة بين ملاك وسائل الانتاج (البرجوازيين) والعمال (البروليتاريا)، وأما بعلاقات غير عدائية وتكون بين طبقات غير مستغلة لطبقات اخرى كالعلاقة بين العمل والفلاحين، ولا يعتبر العداء بين الطبقات في نظر الماركسيين شراً محضاً بل هو من حتميات التطور الاجتماعي وأهم دوافعه من اجل ان تحل طبقة العمال محل الطبقة البرجوازية وهو مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية (4).

ص: 400

رفض الاسلام المفهوم التقليدي من حيث تقسيمه المجتمع الى طبقات متميزة بسبب المال، او المفهوم الماركسي في تصوره للطبقات الاجتماعية او تغذيته للصراع بینهما، واعتبر ان المثل الاعلى للحياة هو التقوى كعامل تمييز بين الناس في الاسلام (5)، والتي تتمثل في صورتها الروحانية المثلى في تعمير الكون وتنمية الحياة، ذلك ان الانسان هو خليفة الله في أرضه: «إني جاعلٌ في الارض خلیفة» (6)، وانه تعالى سخّر له كل شيء: «وسخّر لکم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه» (7)، فيجب ان يرتفع الى مستوى هذه الخلافة بأن يعمر الدنيا ويحييها ويسخر طاقاتها لخدمته حامداً الله، إكمالا لقوله تعالى: «هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها» (8)، وهو يباشر ذلك كله باسم الله سبحانه، ذاكراً إياه في كل لحظة مسبحاً بحمده شاكراً فضله، خاشياً غضبه وانتقامه ملتمساً رضاه وتوفيقه (9)، وصدق الله العظيم حينما قال: «ما خلقت الجن والانس الا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما اريد ان يطعمون، ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين» (10).

والتقوى في الاسلام هو الايمان المقرون بالعمل الصالح: «ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، اولئك هم خير البرية» (11)، فهي نهج واسلوب في الحياة أساسه العمل النافع المقرون بالاحساس بالله تعالى وابتغاء وجهه (12)، وصدق الله العظيم حينما قال: «لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات» (13).

ونظر الامام علي (عليه السلام) الى التقوى وذكر انها الفضيلة في أرفع معانيها وأجل صورها (14)، وكذلك بذل المال لمن أعوزه على حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطي ولا افضال (15)، فيقول (عليه السلام): «فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملکه، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب، فأعملوا والعمل يرفع، والتوبة تنفع، والدعاء يسمع ...» (16).

ص: 401

ووعي (عليه السلام) الى أمر صيانة المجتمع من اخطار التفاوت الطبقي لايتم الا من خلال الاصلاح الاقتصادي الذي بدوره يعد أساساً للاصلاح الاجتماعي، فكان السبيل الى ذلك عن طريق المساواة الانسانية للجميع «فيما الناس فيه أسوة» (17)، فالمساواة عند الإمام (عليه السلام): «ليست شعاراً يرفع ولا كلمة تقال بل هي جهد يبذل وعمل يعمل ومفهوم يطبق في المجتمع تطبيقاً جاداً بلا مفاوتة بين انسان وآخر وبلا ترخص لأنسان دون انسان» (18).

جعل الإمام (عليه السلام) دستور سياسته في المساواة كلمة قصيرة الصياغة بعيدة الدلالة تهدف للاصلاح واعادة بناء الانسان فيقول: «الناس أما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» (19)، فشعاره (عليه السلام) كان المساواة بين جميع الناس وإن تباينوا في الأديان واختلفوا في العناصر والالوان مساواة ميسرة قاصدة بغير تقصیر سمحه بغير مبالاة، نسبية بغير اطلاق تتعايش في الممكن المتاح (20).

برزت في رؤية الامام علي (عليه السلام) المساواة في التمكن من أسباب العيش والعمل والرفاه في الانسان بغض النظر عن أي انتماء حيث كانت فكرته ان: «الناس في المعاش أسوة» (21)، وكان دائما يردد قائلاً: «ان الناس عندنا في الحق أسوة» (22).

ساوی (علیه السلام) بين القريب والبعيد في الحقوق والغي التفاوت الطبقي الذي كان سائداً آنذاك، وهذه الحقيقة تطرق اليها أحد الباحثين بقوله: «ان السنوات الخمس والعشرين التي سبقت البيعة لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) قد شهدت نمواً سرطانياً لأسوء أقتصاد اقطاعي - رأسمالي في أقاليم الوطن الأسلامي الحديث النشأة، وظهور الطبقية بأسوء صورها في الحياة» (23)، ولذلك كانت اولى قراراته (عليه السلام) بعد توليه الخلافة هو رد الاموال العامة للشعب ومنعه للاثراء غير المشروع إذ يقول: «ان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل

ص: 402

فالجور عليه أضيق» (24).

عمل الامام (عليه السلام) على اتخاذ الاجراءات التي أكد من خلالها على المساواة بين المسلمين في الثروات والغاء سياسة التفاضل المالي، اذ كان يقول: «... إلا وایما رجل من المهاجرين والانصار من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى ان الفضل له على من سواه لصحبته فإن الفضل النير غداً عند الله وثوابه واجره على الله ... والمال مال الله يقسم بینکم بالسوية، لافضل فيه لاحد على أحد...» (25).

أظهر قرار الامام (عليه السلام) في العدول عن تمييز الناس في العطاء والعودة الى نظام المساواة انقلاباً اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات، وكان رد فعل الاغنياء وفي مقدمتهم قبيلة قريش وأبناؤهم ضد الإمام (عليه السلام) هو بداية الثورة المضادة ضد حكمه (26).

حاول (عليه السلام) بأسلوب المساواة العادلة القضاء على الفقر المدقع الذي كان بجنب الثراء الفاحش في المجتمع آنذاك، ومن هذا البعد فإن: «الناس غير متساوین في الضرائب اذ لا تؤخذ الضريبة الا من الموسر دون المعوز» (27).

ركز الإمام (عليه السلام) على ضرورة المساواة بين الناس في الرعاية، وفي معاملة ولاتهم والمشرفين على ادارة شؤونهم، فقد أوصى في عهده الى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر -، وبيّن له كيفية التعامل مع الناس من ابناء الامة بقوله: «فأخفض لهم جناحك وألن لهم جنابك، وأبسط لهم وجهك، و آس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم» (28).

ص: 403

المبحث الثاني الطبقات الاجتماعية في فكر الامام علي (عليه السلام) من خلال بنود عهده الى مالك الاشتر

اعترف الامام علي (عليه السلام) بالطبقات الاجتماعية القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات ضرورة لا غنی عنها في المجتمع، ولذا قال (عليه السلام): «واعلم ان الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض، ولا غنی لبعضها عن بعض» (29).

كان التقسيم الطبقي الذي ذكره (عليه السلام) يقوم بالدرجة الاولى على الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها كل طبقة، ولا يستتبع حكماً تقويمياً على الشخص المنتسب الى طبقة ما يجعله في القمة أو ينحدر به الى أسفل السلم الاجتماعي، ولا يحدد قيمة الشخص الاجتماعية (30).

اذاً فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة، فالإمام (عليه السلام) لم يراع قيمة كل طبقة حين قدمها واخرها، وانما راعي الخدمات الاجتماعية التي تقوم بها، أما القيمة فلا تقاس الا بالتقوى (31).

قسّم الامام (عليه السلام) فئات المجتمع الى طبقات تسع هي: (جنود الله، کتاب العامة والخاصة، قضاة العدل، عمال الانصاف والرفق، اهل الجزية... من اهل الذمة، والخراج ... من مسلمة الامة، التجار، أهل الصناعات، الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة) (32).

• الطبقة الاولى: وهم القوات المسلحة، أي الجيش الذي يحافظ على الكيان السياسي والاجتماعي، ويدافع عن الثغور من الاعداء، ويقوم بالعمليات

ص: 404

الجهادية من فتح للبلدان أو حفظ الامن العام (33)، وهذه الطبقة من المجتمع ذکرها (عليه السلام) في مواضع مختلفة نظراً لأهمية موقعیته في الدولة والمجتمع بصورة عامة، وصيانة أمن البلاد والمحافظة على الارواح، وهم هيبة الدولة والسلطان، فاهتم بنوعية قيادتهم، وعالج مسألة أسلوب تعبئة هذه القوات (34)، حيث يقول (عليه السلام): «فقدموا الدارع واخروا الخاسر وعضوا على الاضراس... والتؤوا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الابصار، فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا الاصوات، فإنه أطرد للفشل، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها الا بإيدي شجعانكم» (35).

أطلق (عليه السلام) على الجند بالدرع الحصين لأن الأمة تتستر به في المواقع الخطيرة التي يتعرض فيها الوطن الى الاعتداء او السلب والنهب، فقال فيهم (عليه السلام): «فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن، وليس تقوم الرعية الا بهم، ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم» (36).

يعطي (عليه السلام) أهمية لوجود الجند في الدرع الواقي من الاعداء، و به تتحصن الامة خوفاً من الفتك او سلب الممتلكات او ازهاق الأرواح، فهم (زين الولاة) أي انهم للوالي او الحاكم زين وما يزدان به بحيث يشعر بالمهابة والافتخار و علو الهامة (37)، وهم (عز الدين) لأن بهم يمكن الذود عن حمى المسلمين والدفاع عن مبادئ الدين (38)، و (سبل الامن) فهم القوة الصائنة التي يكون فيها حفظ الامن والنظام في البلد، وتكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الاخطار والاستغلال، والمجتمع لا يقوم الا بهؤلاء المدافعين عن كيان الامة (39).

ويؤكد(عليه السلام) على بذل الاموال للجيش لكي يكون جاهزا وكاملاً

ص: 405

ومسلحاً، وبدون المال لا يكون هنالك جيش قوي ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه «ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم» (40).

• الطبقة الثانية: كتاب الدولة، وهم أركان الجهاز الاداري الذين منهم تتوزع بقية السلطات، وقد يطلق عليهم لقب الوزير أو رئيس الديوان، فهم الايدي المتحركة للحاكم في ادارة البلد، والإمام (عليه السلام) يحذر من اتخاذ الكتاب الذين لا يحفظون الاسرار ويتجرؤون على الوالي فينزلوا منزلته امام الناس، ولا فکر صائب لديهم ولا نباهة وحذاقه في معرفة الامور، قليلي الخبرة والتجربة في عقد الصفقات والمعاملات (41)، وتتداخل في مسألة اختيار الكتاب عدة امور مهمة نظراً لحساسية الموقع وأثره، لذا فإنه (عليه السلام) حذّر من الجوانب السلبية في الاختيار فيقول: «ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء» (43)

. ويضيف (عليه السلام) حول الكتاب وحسن اختيارهم: «ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فأعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً واعرفهم بالامانة وجهاً، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره» (43)، فيجب اختيار اهل التجربة والمعرفة بما تولوا قبل ذلك من اعمال وكانت جهودهم مشكورة واعمالهم حسنة وسيرتهم جيدة» (44).

ويدعو (عليه السلام) الى تقسيم العمل بحسب القدرة والطاقة لمن يقوم بهذه الاعمال، ويطلب ان يجعل لكل ادارة معينة مختصة في جانب من جوانب الدولة رجلاً يشرف عليها ليس فوقه احديقهره ويتأثر به اثناء عمله غير الوالي نفسه «واجعل

ص: 406

لرأس كل امر من امورك رأساً منهم لايقهره كبيرها ولا يشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتفابیت عنه الزمته» (45).

• الطبقة الثالثة: القضاء، وهو منصب حساس ومؤثر به پنشر العدل والسلام ويمحى الظلم من المجتمع، ولهذا اهتم (عليه السلام) بأمر القضاء لأنه العمود الذي يتكئ عليه کیان المجتمع ويحفظه من الجرائم المتنوعة والتجاوزات اللامشروعة (46)، ففي مخاطبته لمالك الاشتر يقول: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الامور ولا تمحکه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ...» (47).

فالامام (عليه السلام) يشخص أهم الصفات الواجب توفرها في القاضي ومنها:

1. أفضل الناس من الرعية يعرفه الوالي وقد خبره بذلك.

2. لا تعسر به الامور.

3. لا تجعله المخاصمة لجوجاً مصراً على رأيه، واذا شعر بخطأ حكمه رجع وعاد دون أن تأخذه العزة بالاثم.

4. ولا تشفق نفسه، وتخاف من فوق المنافع والمصالح.

5. أن يكون قادراً على اصدار الحكم النهائي بعد التأمل والمراجعة والتدقيق.

6. الوقف على الشبهات.

7. لا يضجر أو يتملل أثناء الخصومة.

8. بعد اتضاح الامور يجب ان يكون صارماً في اصدار الحكم.

9. لا يؤثر عليه اطراء او مدح.

ص: 407

10. يقف على حكمة العادل ولا يؤثر عليه تحريض او اغراء (48).

• الطبقة الرابعة: الجهاز الإداري للدولة، وهناك طائفة جديدة من تشکیلا الدولة صنفها الإمام (عليه السلام)، وهم رؤساء الهياكل الرئيسية لإدارة البلد، واطلق عليهم العمال، وهم بمثابة المحافظين ورؤساء الدوائر العامة في البلد والمشرفين على الاعمال الادارية، منهم طبقة واسعة من المجتمع ولهم نفوذ سياسي واداري واجتماعي (49)، وقد قال فيهم (عليه السلام) «ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم اخلاقاً وأصح اعراضاً وأقل في المطامع اشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً» (50).

ويضع (عليه السلام) بعض الضوابط الرئيسية لاختيار العمال منها:

1. ان يكون من اهل التجربة والمقدرة الذين امتحنوا في الاعمال الاخرى.

2. ان يكون من اهل الحياء والسمعة الطيبة.

3. أن يكونوا من اهل السبق والقدم في الاسلام (51).

ووازن (عليه السلام) بين الجانب المعيشي لعمال الولايات من الضرورات التي لابد منها لاشباع حاجاتهم المادية وحتى لا تغريهم الدنيا او تبعث في نفوسهم السير والاندفاع باتجاه الشهوات لسد الرغبات الجامحة ولذا ذکر (عليه السلام): «ثم أسبغ عليهم الارزاق فإن ذلك قوةً لهم على استصلاح انفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم ان خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك» (53).

وحتى يبتعد العمال عن الرشوة والمفاسد الاخرى التي هي أساس الانحلال الاداري وخراب المجتمع «... أمره بإسباغ الارزاق عليهم، فإن الجائع لا امانة

ص: 408

له، ولأن الحجة تكون لازمة لهم ان خانوا، لأنهم قد كفوا مؤنة انفسهم وأهليهم بما فرض لهم من الارزاق» (53).

ويوصي (عليه السلام) بتفقد ومراقبة العمال بدقة ببث العيون والمفتشين الذين يتحرون الاعمال بحذق وصرامة، ويبحثون عن الاعمال المخفية والتي سببها الطمع المادي «ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم، فأن تعاهدك في السر لأمورهم حدوه لهم على استعمال الامانة والرفق بالرعية...» (54).

• الطبقة الخامسة: التجار وذوي الصناعات الحرفية، تشكل هذه الطبقة وحدة اجتماعية عظيمة الاهمية بعيدة الاثر في الكيان الاجتماعي (55)، وقد قال فيهم (عليه السلام): «واستوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته» (56)، فالامام (عليه السلام) يوصي عامله بأن يعمل مع التجار وذوي الصناعات الخير وان يوصي غيره من امرائه وعماله ان يعملوا معهم الخير، ثم يقسم (عليه السلام) الموصى بهم ثلاث أقسام اثنان منها للتجار، وهما المقيم والمسافر ممن يضرب السير بالارض، وواحد لأرباب الصناعات (57).

ويفصح (عليه السلام) بجلاء عن الدور المهم لمهنتي التجارة والصناعة، وعدهما عماد الحياة الاقتصادية بقوله: «ولا قوام لهم جميعاً الا بالتجار وذوي الصناعات...» (58)، فبوجود طبقة التجار يتم اقامة الاسواق وتوفير البضائع

ص: 409

التي تحتاج اليها الرعية دون الحاجة الى السفر وتكبد المشاق والصعاب (59) فكان (عليه السلام) يرمي من التوصية بهذه الشريحة الاجتماعية الى تقديم الدعم المالي والفني لتسهيل مهمتهم في نقل احتياجات المجتمع من سلع وبضائع على مختلف انواعها، مما يكون له الاثر البالغ بما يخدم الصالح العام من خلال اعتماد اقتصاد متكامل في ميادين التجارة والصناعة (60).

ويواصل (عليه السلام) توصياته فيما يخص هذه الشريحة المهمة بالمجتمع الاسلامي بقوله: «وتفقد امورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم ان في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب معزة للعامة، وعيباً على الولاة، فامنع من الاحتكار ...» (61).

وهنا ينبه (عليه السلام) على أهم واجبات الولاة تجاه التجار، من خلال تأكیده على تفقد امورهم في حاضر البلد واطرافه، باعتبارهم ادوات جلب المنافع (السلع)، لتحقيق الرُقي الاقتصادي (62).

ومن جانب آخر أكد (عليه السلام) على مراقبة الاسعار والحيلولة دون ارتفاعها لأن ذلك يثقل كاهل عامة الناس، وفي هذا يقول (عليه السلام): «وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع» (63)، فإن حدث ما يؤدي الى غلاء الاسعار فلابد من اتخاذ الاجراءات اللازمة لمواجهة هذا الغلاء من قبل اولي الامر سعياً لجعل السعر المتعارف عليه قائماً وفق حركة السوق السائدة من خلال قوی العرض والطلب (64).

وتماشياً مع ما جاء في بنود العهد الذي ذكر انه قد يكون في كثير منهم نوع من البخل والشح فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الاقوات، مما يضر بالمصلحة العامة

ص: 410

فأمره قائلاً: «فأمنع من الاحتكار فإن رسول الله -ص- منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً...» (65).

فالاحتكار من الامور المحظورة في الاسلام (66)، وهو الادخار للمبيع وطلب الربح بتقلب الأسعار (67)، ولهذا اعتبره (عليه السلام) عيباً على الولاة، لأنه يحدث نتيجة تقصيرهم في أداء مهامهم ومباشرتهم لأحوال الرعية (68).

والزم (علیه السلام) الولاة والعمال بمعاقبة المحتكرين من التجار والتنكيل بهم حتى يكونوا عبرة لكل من ينوي سلوك هذا المسلك المستقل (69)، ونبّه أيضاً على عدم الاسراف والمبالغة في العقوبة قائلاً: «فمن قارف حكره بعد نهيك اياه فنكل به وعاقبه من غير اسراف» (70).

• الطبقة السادسة: أهل الذمة، تتضح سماحة الإمام (عليه السلام) ورفقه وانصافه في جباية الاموال من أهل الذمة وحماية اموالهم من عبث الولاة والجباة (71)، فكانت تؤخذ الجزية في كل سنة مرة واحدة ويفضل ان تكون في موعد جني الغلات الزراعية (72)، وكان (عليه السلام) يأخذ من صاحب المسال مسالاً، ومن صاحب الابر ابراً، ومن صاحب الحبال حبالاً (73)، فهو يأخذ هذه الامتعة منهم بما يساوي قيمتها المفروضة عليهم کجزية، وذلك في سبيل التخفيف عنهم والرفق بهم (74)، فمن وجبت عليه ومات أو أسلم قبل أن يدفعها فلا تؤخذ من تركته ولا يطالب بها ورثته (75).

ص: 411

المبحث الثالث الفقر من منظور الامام علي (عليه السلام):

يعرف الفقر بأنه الحاجة، يقال انسان فقير أي محتاج، قليل الزاد والمال والمتاع (76)، فالفقير عند العرب: المحتاج، وبه فسر قوله تعالى: «أنتم الفقراء الى الله »(77)، أي المحتاجون اليه في بقائکم وكل أحوالكم (78). ويقال في الفاقة: إنه لمفتاق، وانه لذو فاقه. وفي الحاجة: انه لمحتاج، وانه لذو حاجة (79)، وانه لفي قتر من عيشه وقترة، أي ضيق (80).

والافلاس: یکنی (أبا عمرة) ففي أحد أبيات الشعر:

كل أبو عمرة وسط حجرتي *** وحل نسج العنكبوت برمتي (81)

والفقر والعيلة والعالة والخصاصة والاملاق، والعدم والحاجة، والفاقة والمسكنة والمتربة هي واحد (82).

ووردت كلمة الفقر ومشتقاتها في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً موزعة على عشر سور بعضها مكي والآخر مدني، وهذه الآيات بعضها حث على الر والاحسان للفقراء، وتبين انهم اولى الناس بالصدقات، وبعضها الاخر حذر من سلوك طريق الشيطان واتباعه حيث يعد اتباعه بالفقر ويأمرهم بالفحشاء (83)، فالفقراء يستحقون التكفل والنفقة بنص القرآن، قال تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...» (84)، وفي معرض تفسيره لهذه الاية يفرق الامام الصادق (علیه السلام) بين الفقير والمسكين والبائس بقوله تعالى: «الفقير الذي لا يسأل الناس، والمسكين أجهد منه، والبائس أجهدهم» (85).

ص: 412

كان الإمام علي (عليه السلام) واعياً لمشكلة الفقر فهو القائل: ((ان الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء اقوات الفقراء، فما جاع فقير الا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك)) (86)، ولهذا اعتبره الامام علي (عليه السلام) بمثابة ((الموت الاكبر)) (87)، وكذلك كان الامام علي (عليه السلام) یکره الفقر ويستعيذ بالله منه، ويأمر الناس بالاستعاذة بالله منه، وينعته بأقبح النعوت، فقال (عليه السلام): ((الغني في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة)) (88)، ومن أقواله (عليه السلام): ((الا وان من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، الا وان من النعم سعة المال، وافضل من سعة المال صحة البدن، وافضل من صحة البدن تقوى القلب)) (89).

وحاول الامام علي (عليه السلام) انقاذ الافراد من الفقر واخطاره لأنه يؤدي بالانسان الى الكفر والخيانة والذل وعدم نصرة الحق، وكل هذه الامور هي منقصة للدين، وقد ذكرها الامام في وصيته لأبنه محمد بن الحنفية: ((يا بني إني أخاف عليك الفقر، فأستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين)) (90).

واستقراءً للاوضاع الاجتماعية في عصر الامام (عليه السلام) فإنّ ظاهرة الفقر كانت منتشرة وبحاجة إلى علاج اجتماعي جذري، فكان يقول (عليه السلام): ((.. ولكن هيهات ان أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة - ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى واكباد حرّی...)) (91)، وهو القائل أيضاً: ((اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر الا فقيرا يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً)) (92).

وأوصى الامام علي (عليه السلام) بالفقراء وبحسن التعامل معهم، فهو يقول لأبنائه: ((الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم)) (93)، ومن

ص: 413

وصيته (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): ((واذا وجدت من اهل الفاقة من يحمل لك زادك الى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج اليه فاغتنمه و حمله اياه، واكثر من تزويده وانت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده ...)) (94).

ويحدد الامام علي (عليه السلام) الاثار السلبية للفقر اذ يقول: ((الفقر سواد الوجه في الدارين)) (95)، وان ((من قلّ ذل)) (96)، وأشد خطورة من ذاك التأثير النفسي على الانسان فهو: ((مذهلة للنفس مدهشة للعقل جالب للهموم)) (97)، و ((من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال: بالضعف من يقينه، والنقصان في عقله، والدقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه، فتعوذ بالله من الفقر)) (98)، ويقول (عليه السلام): ((أهلك الناس اثنان خوف الفقر وطلب الفخر)) (99).

ولهذا دعى الامام علي (عليه السلام) ان الانسان الفقير: ((الجائع المستغل المحروم المصفد بالاغلال لا يستطيع ان يكون فاضلاً، وان من اللغوان يوعظ بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وان انساناً کهذا ينقلب کافرة بالقيم والفضائل، وان معدته الخاوية وجسده المعذب ومجتمعه الكافر بإنسانيته المتنكر له وشعوره بالاستغلال وميسم الضعة الذي يلاحقه انی کان، هذه كلها تجعله لصاً وسفاحاً وعدواً للانسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة)) (100).

ص: 414

المبحث الرابع الفقر أسبابه وسبل مكافحته لدى الامام علي (عليه السلام) (من خلال بنود العهد الى مالك الاشتر)

ان الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة تؤدي الى تفاوت طبقي خطير بين فئات المجتمع الاسلامي يقوم على أساس تقويم الناس بحسب كفايتهم وقدراتهم العلمية والاخلاقية وغيرها (101)، وللإمام (عليه السلام) وصف دقيق لأحوال الناس في زمانه يقول فيه: «فرُبَّ دائبٍ مضيع، ورُبَّ کادحٍ خاسر، وقد أصبحتم في زمنٍ لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر فيه الا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً إضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر الا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً أتخذ البخل بحق الله وفراً أين أخياركم وصُلحائكم وأحرارکم وسُحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟» (102)

هنالك أسباب كثيرة تخلق الفقر وتزيد نسبة الفقراء في المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل موجبات ارتفاع الاسعار وظاهرة الغلاء، وقد عالج الامام علي (عليه السلام) تلك الظواهر المسببة للفقر، ووجد ان من بين اهم تلك الظواهر والعوامل هي الملكية العامة للدولة اذ اطلق (عليه السلام) للناس حرياتهم واعطاهم مطلق الحق في ان يزرعوا ما شاءوا من الاراضي لأنها ملك عام وليس خاص (103).

ومن مسببات الفقر أيضا الاحتكار والذي يقصد به حبس الطعام او كل ما له علاقة بحاجات الناس حتى يرتفع ثمنه وفي هذا الصدد أكد الامام (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر «فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منع منه، وليكن البيع سمحاً بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع» (104)، كما ان الاسراف والتبذير في منظور الامام علي (عليه السلام) يعد عاملاً اساسياً من عوامل

ص: 415

الفقر، وفي هذا الصدد يقول (عليه السلام): «التبذير عنوان الفاقة» (105)، ويقول (عليه السلام) : «من افتخر بالتبذير احتقر بالافلاس» (106).

شدد الامام علي (عليه السلام) في كتابه الى مالك الاشتر برعاية المحرومين و «أهل البؤس» بقوله (عليه السلام) «ثم اذكر الله الله يا مالك في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم» (107) ويقصد الإمام (عليه السلام) المساكين والمحرومين والمحتاجين ومن اسكنه الفقر من الحركة، فلا يتحرك كما يتحرك الاغنياء.

«واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك» (108) أي طلب سبحانه منك الحفظ من حقه تعالى فيهم أي في اهل المسكنة والحفظ بادارة شؤونهم وتفقد احوالهم والقيام بحوائجهم، وتخصيص مورداً لهم من بیت المال الذي يجمع من الخراج والزكاة والجزية وغيرها من الموارد الاخرى. «وقسماً من غلات صوافي الاسلام فإن للاقصى منهم مثل الذي للادنی» (109) والغلات جمع غلة وهي الثمرة كالحنطة والشعير، وصوافي الاسلام جمع صافية، وهي أرض الغنيمة التي اغتنمها المسلمون بإسم الاسلام، ويؤكد الإمام (عليه السلام) بضرورة مراعاة العدالة في التوزيع بين الناس وان يراعي حقهم قريباً كان أم بعيداً (110).

ويستدرج الإمام (عليه السلام) في كتابه بالقول: «فلا يشغلنك عنهم بطر فأنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم فلا تشخص همّك عنهم، وتفقّد امور من لا يصلك اليك منهم ممن تقتحمة العيون و تحقره الرجال ...» (111) وهنا ينبه الإمام (عليه السلام) بضرورة الاهتمام بالرعية والفقراء، لأنه ومن المعروف ان الحكام دائما ينشغلون عن تتبع احوال الرعية ولا يعتنون بهم (112)، وهنا يشدد (عليه السلام) على ضرورة ملاحظة شؤون الفقراء والمساكين.

ص: 416

ليس هذا فحسب وانما وجّه الامام علي (عليه السلام) جميع عماله على ضرورة التواضع كي لا يتكبروا عن رعايتهم والبحث عنهم في الخرائب و الخانات وما أشبه، فإذا وجدوهم وجب عليهم تقديم العون لهم واعطائهم حقوقهم التي أوجبها الله سبحانه وتعالى على الحاكم (113).

وكان الامام علي (عليه السلام) قد كتب الى مالك الاشتر ما مضمونه «لاينبغي لنفسك او لقرابتك او لاصحابك امتیازاً فيما هو ملك للناس وهم متساوون فيه، وما کسبه الناس من الحلال فهو لهم، «هذا الامام الذي يتحدث هكذا يقول في موضع اخر ما مضمونه «من كان يملك الارض والماء ثم افتقر، فهو بعيد عن رحمة الله» (114).

سعى الامام علي (عليه السلام) للتعامل مع مشكلة الفقر والعمل على وضع الحلول الناجعة والجذرية لها من اجل استئصال هذه المشكلة من المجتمع البشري فكان يقول (عليه السلام): ((أربعة من قواصم الظهر، فقر لا يجد صاحبه له موادياً ...)) (115)، وكانت أساليب التعامل والمعالجة هذه المشكلة تتركز أبعادها على ما يأتي:

1. الجانب الديني: يرفض الامام علي (عليه السلام) أي دعوة لتبرير الفقر استناداً الى قدر الله، أو كون الفقر الحال الاكثر انسجاماً مع رؤية الاسلام وفلسفته للحياة، بل ان الامام يؤكد ان تحقيق الضمان الاجتماعي لإزالة الفقر هو جزء مهم من أسباب الدعوة الاسلامية ككل (116)، وعلى هذا الأساس أتبع الامام علي (عليه السلام) الدعاء كأحد الأساليب لإزالة أية شائبة في العقل تجمع بين الاسلام والفقر، اذ يدعوا (عليه السلام) قائلاً: ((اللهم انا نعوذبك من الشرك وهواديه، والظلم ودواهيه والفقر ودواعيه)) (117)، ومن جانب يؤكد الإمام (عليه السلام) ان الاختبار الحقيقي لمدى تمسك الفرد بمبادئ الاسلام هو اسهامه الفاعل في تحقيق الضمان ضد الفقر إذ كان يقول: ((اختبروا شيعتي بخصلتين: المحافظة على اوقات الصلاة، والمواساة لإخوانهم

ص: 417

بالمال)) (118). وجعل الإمام (عليه السلام) من تخفيف معاناة الفقراء واجب ديني، فقال: ارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة من الله بالرحمة لهم)) (119).

2. الجانب السياسي: يحمل الامام علي (عليه السلام) الحكومة والدولة مسؤولية ايقاف تيار الفقر المتنامي في المجتمع من خلال اسلوب کسر ارادة الشرفاء في أية مجتمع، فقد رد على من أشار عليه بتولية طلحة والزبير مدينتي الكوفة والبصرة قائلاً: ((ويحك ان العراقيين بهما الرجال والاموال ومتي تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ويضربا الضعيف بالبلاء ويقويا على القوي بالسلطان)) (120)، ويشخص كذلك حالة الاسراف للحاكم وأعوانه والابتعاد عن تطلعات وامال الفقراء من خلال حديثه لأحد ولاته المسرفين: ((دع الاسراف مقتصداً واذكر في اليوم غداً، وامسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك...)) (121).

ويحث الامام علي (عليه السلام) على قيام الدولة بالقضاء على الفقر من خلال اعادة توزيع الثروات في المجتمع حيث يقول: ((اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدل نعمة الله كفراً أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كان بإذنه عن سمع المواعظ وقراً)) (122).

3. الجانب الاقتصادي: يذكر الامام علي (عليه السلام) ان وجود الفقر المدقع بجانب الثراء الفاحش يدل على عدم قيام المجتمع الاسلامي الحقيقي، لذلك ذكر: ((انكم في زمان ... اهله معكوفون على العصيان لا يعظم صغيرهم كبيرهم ولا يعول غنيهم فقيرهم)) (123)، ولهذا اعتبر الإمام (عليه السلام) سوء توزيع الموارد والثروات داخل المجتمع هو احد الاسباب المباشرة لمشكلة الفقر فكان يذكر: ((ان الله فرض على أغنياء الناس في اموالهم قدر الذي يسع فقرائهم فإن ضاع الفقير أو اجهد أو عُري... وان الله عز وجل محاسب الاغنياء في ذلك يوم القيامة ومعذبهم

ص: 418

عذاباً اليما)) (125)، ويدعو الإمام (عليه السلام) الى العدالة في التوزيع: ((إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عن عما تعنی به مما قد وضح للعيون، فأنت مأخوذ منك لغيرك)) (125).

وحرص الإمام (عليه السلام) على ايجاد مجتمع متكافل متوازن تسوده المحبة، ونلمس هذا من خلال التوجيهات السامية التي وجهها إلى ولاته في الامصار يقول: ((فمن اتاه الله مالاً فليصل به القرابة وليحسن منه الضيافة وليفك به الاسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم)) (126).

4. الجانب الاجتماعي: يوصي الإمام (عليه السلام) اولاده بالانفتاح على الفقراء والتخفيف من الامهم وسلوكهم إذ يعزو ذلك الى الفقر وليس الى الفقراء فيقول: ((العسر يشين الاخلاق ويوحش الرفاق)) (127)، ويدعو الامام للبحث عن جوهر الفقراء فكان يقول: ((إذ أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، واذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه)) (128).

ويسبر الامام أغوار النفس الإنسانية قائلاً: ((أربع هي مطلوبات الناس في الدنيا: الغني والدعة وقلة الاهتمام والعز، فأما الغني: فموجود في القناعة، فمن طلبه في كثرة المال لم يجده، واما الدعة: فموجودة في خفة المحمل فمن طلبها في ثقله لم يجدها، وأما قلة الاهتمام: فموجودة في قلة الشغل فمن طلبها في كثرته لم يجدها، وأما العز فموجود في خدمة الخالق فمن طلبه في خدمة المخلوق لم يجده)) (129).

ويوجه الإمام (عليه السلام) حديثه بعد ذلك الى أبناء المجتمع، ويبين لهم اعتزازه بكرامتهم الانسانية إذ يقول: ((استغن عمن شئت فأنت نظيره، وافتقر الى من شئت فأنت أسيره)) (130).

ص: 419

الخاتمة

1. اعترف الامام علي (عليه السلام) بالطبقات الاجتماعية القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات ضرورة لا غنى عنها في المجتمع.

2. كان التقسيم الطبقي الذي ذكره (عليه السلام) يقوم بالدرجة الاولى على الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها كل طبقة، ولا يستتبع حكماً تقويمياً على الشخص المنتسب الى طبقة ما يجعله في القمة أو ينحدر به الى أسفل السلم الاجتماعي، ولا يحدد قيمة الشخص الاجتماعية

3. غزارة الوعي الاقتصادي للإمام علي (عليه السلام)، النابع من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بما انتهجه من أقوال وتطبيقات ظهرت جلياً على أرض الواقع أثناء حكومته في مدينة الكوفة.

4. وضع نظام مناسب للضمان الاجتماعي من قبل الدولة لإعانة المساكين والفقراء والمحتاجين، وادق الصور الانسانية وحفظ كرامة الانسان.

5. التشجيع على التكافل الاجتماعي وبعده الاجتماعي الاقتصادي، والبناء النفسي الرصين من خلاله، والذي يكمل الضمان الاجتماعي التي تسهم به الدولة، فاعتبره واجب على المجتمع وبالذات المتمكنين منهم مادياً لاعانة الاخرين.

6. اتباع العدالة في توزيع اموال المسلمين، وبما يتناسب وحقوق الانسان وكرامته، والحيلولة دون الاستغلال لها، والعدالة في التوزيع تلغي أية ثغرة بين المسلمين الحصولهم عليها.

7. للعامل الاقتصادي الدور الفاعل والمؤثر مع العوامل الاخرى في المجتمع، وهو أحد العوامل التي تسهم في تكوين وبناء المجتمع وتماسكه، وهو مرهون باتجاه

ص: 420

المنهج الانساني المخطط له على مستوى الفرد والجامعات، والتوجه بالاقتصاد التنموي لاتجاهات المجتمع والحضارة الانسانية وتقدمها والحيلولة دون ان يكون مسبباً للجشع وخسارة الانسان.

8. عالج الامام علي (عليه السلام) موضوع في غاية الحساسية الا وهو الطبقية والطبقات الاجتماعية، وما لها من خصوصيات وعموميات المعالجات والانسيابية وآلية الاصلاح والتضامن، وهو ما لا تتضمنه مختلف الايديولوجيات الحديثة ما المبنية على الصراعات الطبقية والعبودية وامتهان الانسان وانسانيته، وهي دللت في نهاية المطاف على فشلها التطبيقي وصعود طبقة على حساب الاخرى، وهو ما يخالف الاتجاهات الاسلامية بالاصلاح التضامني التكاملي بين الطبقات الاجتماعية لتحقيق العدالة والمساواة.

ص: 421

هوامش ومصادر البحث:

1. لاروك: الطبقات الاجتماعية، ص 5.

2. المصدر نفسه والصفحة.

3. الفنجري: الاسلام وعدالة التوزيع، ص 364

4. نصر: تطور النظام الاقتصادي، ص 435 - 436.

5. شمس الدين: دراسات في نهج البلاغة، ص 37؛ الفنجري: الاسلام، ص 365.

6. سورة البقرة: آية 30.

7. سورة الجاثية: آية 13.

8. سورة هود: آية 61.

9. الفنجري: ذاتية السياسة الاقتصادية الاسلامية، ص 52.

10. سورة الذاريات: آية 56.

11. سورة البينة: آية 7.

12. الفنجري: ذاتية، ص 56.

13. سورة البقرة: آية 148.

14. شمس الدين : دراسات، ص 42.

15. المصدر نفسه والصفحة.

16. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 228.

17. المصدر نفسه، ص 571.

18. ((جعفر: فلسفة الحكم عند الامام، ص 8.

19. ((الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 547.

ص: 422

20. ((السعد: حقوق الانسان عند الامام علي، ص 84.

21. جرداق: علي صوت العدالة الانسانية، ص 192.

22. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 594.

23. محمد: المعارضة السياسية في تجربة امير المؤمنين (عليه السلام)، ص 46.

24. الريشهري: موسوعة الامام علي بن ابي طالب، 120/4

25. المصدر نفسه، 106/4-107

26. السعد: حقوق الانسان، ص 92.

27. جرداق: علي صوت العدالة الانسانية، ص 367؛ السعد: حقوق الانسان، ص 94.

28. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 77.

29. ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة، ص 49/17.

30. شمس الدين: دراسات، ص 62.

31. مركز نون للتأليف والترجمة: دراسات في نهج البلاغة، ص 155.

32. ابن ابي الحديد: شرح، 17 / 49؛ شمس الدین: دراسات، ص 64.

33. الزبيدي: في الفكر الاجتماعي عند الامام علي (عليه السلام)، ص 211.

34. المصدر نفسه، ص 212.

35. الامام علي(عليه السلام): نهج البلاغة، ص 182.

36. ابن ابي الحديد : شرح، 17/ 57.

37. الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 213.

38. المصدر نفسه والصفحة

39. المصدر نفسه، ص 214 - 215.

40. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 57.

ص: 423

41. الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 249 - 250.

42. الحراني: تحف العقول عن آل الرسول، ص 99.

43. المصدر نفسه والصفحة.

44. الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 252.

45. الحراني: تحف العقول، ص 99.

46. شمس الدين: دراسات، ص 81.

47. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 435.

48. الفكيكي: الراعي والرعية، ص 52؛ الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 227.

49. المصدر نفسه، ص 236.

50. الحراني: تحف العقول، ص 97.

51. شمس الدين: دراسات، ص 94.

52. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 70.

53. الحراني: تحف العقول، ص 97.

54. المصدر نفسه والصفحة؛ الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 244.

55. شمس الدین: دراسات، ص 133.

56. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 83

57. الفاضلي: المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر، ص 65.

58. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 84.

59. الفاضلي: المضامين، ص 65.

60. المصدر نفسه، ص 66.

ص: 424

61. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 83.

62. الفاضلي: المضامين، ص 67.

63. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 83.

64. الفاضلي: سياسة التسعير في الدولة العربية الاسلامية، ص 36.

65. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 83.

66. الفاضلي: المضامين، ص 69.

67. النووي: روضة الطالبين، 3/ 78؛ العلامة الحلي: نهاية الاحكام في معرفة الاحكام، 2/ 513.

68. الفاضلي: المضامين، ص 70.

69. الزبيدي: في الفكر الاجتماعي، ص 259.

70. ابن ابي الحديد: شرح، 17/ 83.

71. الفاضلي: المضامين، ص 60.

72. ابو يوسف: الخراج، ص 122 - 123.

73. ابو عبيد: الاموال، ص 62.

74. ابو يوسف: الخراج، ص 122.

75. المصدر نفسه والصفحة.

76. ابن دريد، جمهرة اللغة، 2 / 910؛ الازهري: تهذيب اللغة، 9/ 113.

77. سورة فاطر: آية 15.

78. القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، 4/ 215.

79. ابن السكيت: تهذيب الالفاظ، 1/ 14.

80. ابن سيدة: المخصص، 3/ 451.

81. المصدر نفسه، 3/ 454.

ص: 425

82. الهمذاني: الالفاظ، ص 197.

83. اللوح. وعنبر: علاج مشكلة الفقر، ص مشكلة الفقر، ص 320 - 321.

84. سورة التوبة: آية 60

85. الحويزي: تفسير نور الثقلين، ص 67.

86. بيضون: تصنيف نهج البلاغة ،2/ 628.

87. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، القصار من حكمه، ص 638.

88. المصدر نفسه، المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص (55).

89. المصدر نفسه، المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم النص (387).

90. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 531.

91. المصدر نفسه، المختار من كتبه، ص 532.

92. بيضون: تصنيف، 2/ 627.

93. الاصفهاني: مقاتل الطالبيين، ص 19.

94. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 398.

95. الاحسائي: عوالي اللئالي العزيزية، 1/ 39.

96. الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص 423.

97. المصدر نفسه، ص 149.

98. المجلسي: بحار الانوار، 72/ 47.

99. المصدر نفسه، 57/ 54.

100. شمس الدين: دراسات في نهج البلاغة، ص 39.

101. عدوة: أسس بناء الدولة الاسلامية في فكر الامام علي (عليه السلام)، ص 184.

102. الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام): نهج البلاغة، الخطبة 129، ص 187.

ص: 426

103. السيد مرتضى الحسيني الشيرازي: استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الامام علي (عليه السلام)، ص 84.

104. المصدر نفسه، ص 97.

105. غرر الحكم ودُرَرُ الكِلم: عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي: ص 359.

106. المصدر نفسه، ص 360.

107. مهدي حسين التميمي: الامام علي (عليه السلام) التدبير والقيادة، ص 127.

108. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رض)، ص 17.

109. المصدر نفسه، ص 19.

110. المصدر نفسه والصفحة.

111. الشيرازي: استراتيجية، ص 166

112. السعد: حقوق الانسان، ص 366.

113. الشيرازي: استراتيجية، ص 166.

114. ناجي ساري فارس المالكي: مشكلة الفقر وكيف علاجها عند الامام علي (عليه السلام)، ص 64.

115. المجلسي: بحار الانوار، 96/ 39.

116. السعد: حقوق الانسان، ص 366.

117. المحمودي: نهج السعادة، 7/ 236.

118. بيضون: تصنیف نهج البلاغة، 2/ 626.

119. المجلسي: بحار الانوار، 78/ 83.

120. ابن قتيبة الدينوري: الامامة والسياسة، 1/ 71؛ السعد: حقوق الانسان، ص 368.

ص: 427

121. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 477.

122. المصدر نفسه، ص 187.

123. مدير: الحكم من كلام الامام أمير المؤمنين، 1/ 284.

124. الامام علي: نهج البلاغة، ص 672.

125. المصدر نفسه، ص 551.

126. المصدر نفسه، ص 195.

127. الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص 49.

128. الامام علي (عليه السلام): نهج البلاغة، ص 603.

129. الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص 74.

130. المجلسي: بحار الانوار، 7/ 169.

ص: 428

أصول التعايش السلمي دراسة استنباطية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م. م محمد ناصر العذاري

م. م حسن محمد الدربندي

ص: 429

ص: 430

المقدمة

الحمد لله الذي أرسل رسوله «مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا» وجعله «يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» خصه بالنبوة وأمره بتبليغ الوصية فقال له «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» فأدى الامانة وصدح بالأمر (مَنْ کُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِیٌّ مَوْلاَهُ) «فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ». وصل اللهم على محمد وآل الأخبار المنتجبين.

أما بعد

القرآن الكريم كتاب الله خالق الخلق جميعا، صرح جلياً «إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» [يونس: 6] ولا غبار على أن الاختلاف سرٌّ إلهي بني عليه عالم الإمكان والثابت «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» [البقرة: 143] لذا فهذا الاختلاف يستبطن الرحمة «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» [آل عمران: 62].

ولا يمكن بحال من الأحوال إزالة الاختلافات بين خلق الله بشكل عام وبين الناس أنفسهم بشكل خاص، ومن أراد تفحص ما يختلف الناس فسيصل إلى نتيجة حتمية أن الاشتراك نسبي بين الأفراد بعين التغاير.

ولذا فهذا البحث الموسوم ب (أصول التعايش السلمي دراسة استنباطية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) محاولة جادة علمية تثبت أن التعايش ضرورة أصله القرآن الكريم وأكد عليه أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 431

وجسدوه في حياتهم العملية.

سائلين المولى القدير أن ينعم على المسلمين خاصة والعالم بأسره عامة بالوعي الحقيقي لأهمية التعايش السلمي وأن يطبقوه في مجالات الحياة بدون استثناء، كما نقل لنا التأريخ عبر عصوره ناذج متنوعة من هذا التطبيق.

المبحث الأول التعريف بمفردات العنوان

قبل الشروع بالدراسة المفصلة لهذا البحث، ينبغي أولا تحديد مدلولات العنوان ليتسنى لنا الانطلاق من هذا التحديد استيفاءً لمضامينه وأهدافه، وليسهل رسم المنطلقات العامة للبحث.

أولاً / تعريف الأصول لغة واصطلاحا:

1. الأصول لغة: جمع أصل والأَصل: (أَسْفَلُ الشَّيْء، اومَا يُبنَى عَلَيْهِ غَيرُه وَقَالَ الرّاغِبُ: أَصْلُ كُلِّ شَيءٍ قَاعِدَتُه الَّتِي لَو تُوُهِّمَتْ مُرتَفِعَةً ارْتَفَعَ بارْتِفاعَها سَائِرُه) (1).

2. وأما في الإصلاح فقد ذكر العلماء للأصل معاني عدة، منها:

أ- ما يقابل الفرع، فمن باب القياس يقال: الخمر أصل النبيذ أي أن حكم النبيذ مستفاد من حكم الخمر.

ب- القاعدة، أي الركيزة التي يرتكز عليها الشيء، كقوله (عليه السلام): (بني الإسلام على خمسة أصول) (2)، أي على خمس قواعد وان تعددت هذه المعاني في الاصطلاح، إلا أن رجوعها إلى المعنى اللغوي غير بعيد.

ص: 432

ثانيا / تعريف التعايش السلمي لغة واصطلاحا:

التعايش السلمي مصطلح مركب من كلمتين، فإنه لابد من التعريف بهما وعلى النحو الآتي:

1- التعايش السلمي لغة:

بالرجوع إلى الدلالة اللغوية، التي هي أصل في اشتقاق الاصطلاح، نجد مفردة التعايش في كتب اللغة: (عاش: عيشا وعيشة ومعاشا صار ذا حياة فهو عائش، أعاشه: جعله يعيش يقال أعاشه الله عيشة راضية، عایشه: عاش معه، عيشه: أعاشه، تعايشواز عاشوا على الألفة والمودة) (3).

والمَعاشُ والمَعِيشُ والمَعِيشةُ ما یُعاشُ به وجمع المَعِيشة مَعايِشُ على القياس ومَعائِشُ على غير قياس وقد قُرِئَ بهما قوله تعالى «وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ» [الحجر: 20] (4).

وأما مفردة (السلم) فهي مصدر من فعل ثلاثي: سلم؛ السالم، المسالم، السلامة، وتدور في جملتها على معنى الخلاص من كل بلاء أو شر، فالسّلامة: أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى وكل مكروه. قال أهل العلم: الله جلَّ ثناؤُه هو السلام؛ لسلامته مما يلحق بالمخلوقين من العيب والنقص والفناء. وقال الله جلَّ جلاله «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ» [یونس: 25] فالسلام الله جلَّ ثناؤه، ودارُهُ الجنَّة (5).

وقال ابن منظور: السِّلمُ الصلح يفتح ويكسر ويذكر ويؤنث - والسَّلَمُ بفتح السين واللام يريد الاستسلامَ والإِذعانَ كقوله تعالى «وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ» [النساء: 90]، أي الانقياد وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع (6).

ص: 433

2- التعايش السلمي اصطلاحا:

لهذا المصطلح المركب مجموعة من التعريفات اختلفت فيما بينها، وذلك راجع لكونه غير محدد بمجال دون آخر، فالتعايش حالة اجتماعية ديمومته التواصل الإنساني.

ومن ابرز معانيه وأهمها التعددية والاختلاف بمعناها الشامل - كما سيتضح من خلال البحث - متمثلاً بكل المضامين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والتي جميعها تهدف الى خدمة المصالح العامة من جهة وإسعاد المجتمع الإنساني من جهة أخرى.

وعليه فالتعايش السلمي ضربٌ من التعاون المشترك الذي يقوم على أساس الثقة والاحترام، هادفاً إلى تحقيق مصالح يتفق عليها سوى كان بين طرفان أو الأطراف (7).

وكذلك اختلفوا علماء السياسة اختلافاً كبيراً فيما يتعلق بتعريف التعايش السلمي و معیاره، فمنهم اعتبره: کشعار سياسي يعني البديل عن العلاقة العدائية بين الدول ذات النظم الاجتماعية المختلفة (8).

بينما يحرص البعض على ان التعايش السلمي هو: اتفاق بين طرفين أو أطراف يقوم على تنظيم وسائل الحياة بينهم وفق قاعدة يتم تحديدها عن طريق السبل المؤدية إليها (9).

ومن منطلق قاعدة الكثرة والتعدد وباعتبارها شرعة إلهية وسمة من سمات الوجود، فقبول الآخر ليكون شريكا يسهم في بناء مجتمعا صالحا تسوده ثقافة التحضر والسلام، قادرا على هزم الكراهية والعنف والموت والحرب والدمار، متجسدا بالحوار الذي يؤسس للتسامح، خاضعا للمساومات الفكرية والمشتركات الدينية، متجاوزا

ص: 434

سبل الانقسام وعابراً كل الفوارق فيكون ذلك هو التعايش بمفهومه السلمي.

ثالثا / تعريف الاستنباط لغة واصطلاحا:

1- معنى الاستنباط في اللغة:

قال ابن منظور: (نبط: النَّبَط: الْمَاءُ الَّذِي يَنْبُطُ [يَنْبِطُ] من قعر البئر إذا حُفرت، وَقَدْ نبَطَ مَاؤُهَا ينْبِطُ ويَنْبُطُ نَبْطاً ونُبوطاً. وأَنبطنا الماءَ أي اسْتَنْبَطْنَاهُ وَانْتَهَيْنَا إِليه. واسْتَنْبَطه واسْتَنْبَطَ مِنْهُ عِلْمًا وَخَبَرًا وَمَالًا: اسْتَخْرَجَهُ. والاسْتنْباطُ: الاِسْتِخْرَاجُ. واستنبَطَ الفَقِيهُ إِذَا اسْتَخْرَجَ الْفِقْهَ الْبَاطِنَ بِاجْتِهَادِهِ وفهمِه. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» [النساء: 83] (10).

2- الاستنباط في الاصطلاح:

قال الجصاص: (إن الاستنباط هو اسم لكل ما استُخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب، والاستنباط في الشرع نظير الاستدلال والاستعلاء) (11).

ص: 435

المبحث الثاني التعايش في ضوء القران الكريم والسنة النبوية

1- التعايش في ضوء القران الكريم:

من أهم ما أصله القران الكريم أن الموجودات فوارقها لا تنحصر إذ اقتضى أمر الله تعالى لعباده التنوع في الأجناس والألوان قال سبحانه «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» [الروم: 22]، ونرى ذلك في مظاهر الطبيعة حولنا وهذا يعني ان التنوع هو سمة من سمات الخلق البارزة، وهذه من حكم الخالق عز وجل في الوجود الكوني حيث تعدت من التنوع إلى التغاير قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [الحجرات: 13] فهذه الآية المباركة تصدع في حقيقة الجعل التكويني للتنوع البشري، حيث جعل خلقه (شعوبا وقبائل) أي: ان التنوع البشري إرادة إلهية مطلقة ليس لكرامة وفضيلة أو صدف أو طفرة وراثية (12).

وإنما جوهر يستمد وجوده من الخالق لهذا التنوع البشري، فلا تملك أي جهة حق إلغاء هذا التنوع، يقول تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» [هود: 118] ومن هنا يؤسس الله تعالى ضرورة الاعتراف بالتنوع ليكون للإنسان فاعلية وإبداع نحو التواصل لكي تطلع كل مجموع بشرية على واقع المجاميع الأخرى للتعرف على خصوصياتها لان الإنسان مجبول بالفطرة على حب الاطلاع. لذلك يشير القران الكريم إلى حقيقة التنوع الذي ينبغي أن تكون دافعا للتعايش بين الأقوام والأمم التي تنبثق من قاعدة الاحترام المتبادل (13).

وبما أن لفظة التعايش بالقران الكريم وردت بمعاني أخرى تشير إلى حال الإنسان

ص: 436

في حياته، كقوله تعالى «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ» [الحاقة: 21]، وقوله تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» [طه: 124]، «وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا» [النبأ: 11] ولكن ذلك لم يمنع من وجود معنى التعايش في كتابه عز وجل، من خلال كلمات رائعة مرادفة ككلمة (نفس واحدة، والتعارف)، والتي ورد ذكرها في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» [النساء: 1] فالله سبحانه وتعالى أوجد الإنسانية من نفس واحدة، ومنها نشر الوجود رجالا ونساءً بصريح قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» [الأنعام: 98] وأما كلمة (التعارف) حيث ورد ذكرها في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [الحجرات: 13].

وقد ذهب المفسرون إلى جعل هذه الآية منطلقا لأساس التعايش في الإسلام الذي أوصى الله به في قرانه في قوله «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» [المائدة: 2]، والإسلام يسعى من خلال تعاليمه إلى تربية إتباعه على التسامح والتعايش المشترك، فقد جعل الله الناس جميعاً شركاء في المسؤولية في قوله تعالى «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» [هود: 61] أي جعلكم مسؤولين عن عمارتها وصنع الحضارات فيها.

وشجع على التفاعل الإنساني الذي يستند في مفهوم الفكر الإسلامي إلى مبدأ يقول سبحانه وتعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» [البقرة: 251].

ص: 437

ومما سبق يتضح أن التعايش متوجه قراني إلى حقيقة يتكئ عليها المجتمع الإنساني، وقد طبقها الإسلام عملياً بجدارة، ويكتفي بذلك مقولة الإمام الباقر (عليه السلام) أن نستمع لها وهو يقول: ((صلاح شأن الناس التعايش)) (14).

2- التعايش السلمي في السنة النبوية

مکث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فترة طويلة بين قومه متآلفاً معهم، وقد كان أكثر قومه أمة بدوية، منشغلة عن أسرار الكون ومعرفة مصيرهم بمشقة الحياة وتحصيل العيش، ومما اشتهروا به من السجايا مزيجا من السخاء والشجاعة والشهامة وإكرام الضيف وغيرها، وأيضا كان من طباعهم القسوة والغلظة والغضب والتعصب، وممارسة الرذائل وارتكاب الفواحش (15) وغير ذلك، وعندما تلقى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوامر الإلهية بالقيام للدعوة إلى الإسلام اخذ يكلم الناس ويعرض عليهم الدين الذي بعثه الله به، حتى طهر المجتمع من الرذائل وأرسى قواعد الدين القويم الذي قام على مبادئ العدل والمساواة والتعايش مع الآخر ليشمل جميع نواحي ومجلات الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.

حيث وضع قواعد وأسس عملية للتعايش مع الآخر لجميع الأحوال والظروف، بما يضمن فاعليتها مع الآخر داخل الدولة الإسلامية وخارجها من جهة وانسجامها مع ثوابت الشريعة من جهة أخرى.

وقد أكد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على مبدأ من المبادئ التي يرتكز عليها التعايش إلا وهي المساواة التي أثبتها في خطبة حجة الوداع ((وَ لَيسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضلٍ إِلَّا بِالتَّقوَى)) (16) يبين لنا هذا الحديث على أهمية المساواة بين الناس كلهم، وان الفوارق بين البشر ليس لها قيمة في ميزان الشريعة، بل المعيار للقيمة

ص: 438

والفضل بين الناس هو التقوى لا غيرها.

ولضمان المساواة التامة لمواطني المدينة قد شكلت وثيقة المدينة أو ما تسمى بالمصطلح المعاصر (دستور المدينة) والذي يلاحظ فيها تنظيم العلاقات والحقوق بين المسلمين من جهة والمسلمين وغيرهم من جهة أخرى، وما تفرضه تلك العلاقة من تعايش والتزامات وواجبات من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها.

وان قيمة هذه الوثيقة تتجلى في تطبيقها على ارض الواقع، حيث لم ترفع دعوى أو صوت من يهودي أو غيره يشكو من سوء المعاملة، بالرغم من وجود دسائس خفية تحاول إثارة العصبية والأحقاد الجاهلية.

حيث قامت الوثيقة بين أهل المدينة على عدة قواعد نكتفي بذكر قاعدتين منها:

قاعدة العدل والمساواة: وقد عززت بنود الوثيقة التعايش السلمي في الدولة التي منها: (أنه من خرج أمن ومن قعد أمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم)، ومنها (ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (17).

ومن هنا نرى أن قاعدة التعايش هي الأساس في علاقة الإنسان بنظام الحكم وبالدولة، ليمثل العدل والمساواة دعامة وطيدة وَصِفَة أصيلة للشريعة الإسلامية، ومن خلال تسليط الضوء على قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» [النساء: 135] انه لا احد فوق المساءلة والمحاسبة ومما ينبغي قبولك بالنقد والانتقاد بل يجب العدل ليس فقط ضد النفس حيث أمرت بأن يكون الحكم بالعدل ولو على المخالف في قوله تعالى «وَلَا

ص: 439

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى» [المائدة: 8] بغض النظر عن الخصوصيات الأخرى.

قاعدة ضمان حرية الاعتقاد: فلكل مواطن حرية التعبد والاعتقاد فقرر (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ - أي يهلك - إلا نفسه وأهل بيته).

فان المسلمين وغيرهم يُعاملون على أساس المواطنة فهم سواسية في الحقوق والواجبات لا على أساس العقيدة والانتماء، فليس هناك مواطن من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية والثالثة.

ومن نماذج حرية الاعتقاد السلمي الذي وضع أسسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما نُقل أن جمعا من النصاری کانوا ((قد زاروا رسول الله للتحقيق والاستفسار أقاموا قداسا في مسجد النبي في المدينة بكل حرية)) (18).

ولم تتوقف بنود الوثيقة على الإطار الثقافي للمجتمع القائم - آنذاك - فقد ورد فيها (وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)، وهذا بما يسميه الفكر الإسلامي بالشورى ليجعل محور المشاركة أكثر شفافية وأكثر اتساعا ليجعلها قائمة على أساس تبادل الخبرات والعمل بما فيه صلاح المجتمع.

وهناك أيضا من الروايات التي سلطت الضوء على جانب م ن المعاملات المالية والتي تشير الى أسلوب التعامل السلمي والأخلاقي بين الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبعض اليهود هو ما نقله الإمام موسی بن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) ((عَن أَمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّ يَهُودِيّاً کَانَ لَهُ عَلَى رَسُولِ الله (صلی الله علیه وآله وسلم) دَنَانِيرُ فَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَهُ: یَا یَهُودِيُّ مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ.

ص: 440

فَقَالَ: فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى تَقْضِيَنِي. فَقَالَ (علیه السلام): إِذاً أَجْلِسُ مَعَكَ.

فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى صَلَّى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْغَدَاةَ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله (صلی الله علیه وآله وسلم) یَتَهَدَّدُونَهُ وَ يَتَوَاعَدُونَهُ. فَنَظَرَ رَسُولُ الله إِلَيْهِمْ فَقَالَ (صلی الله علیه وآله وسلم): مَا الَّذِي تَصْنَعُونَ بِهِ! فَقَالُوا: يَا رَسُولُ الله يَهُودِيٌّ يَحْبِسْكَ. فَقَالَ (صلی الله علیه وآله وسلم): لَمْ يَبْعَثْنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ أَظْلِمَ مُعَاهَداً وَلَا غَيْرَهُ.

فَلَمَّا عَلَا النَّهَارُ قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَشَطْرُ مَالِي فِي سَبِيلِ الله، أَمَا وَالله مَا فَعَلْتُ بِكَ الَّذِي فَعَلْتُ إِلَّا لِأَنْظُرَ إِلَى نَعْتِكَ فِي التَّوْرَاةِ؛ فَإِنِّي قَرَأْتُ نَعْتَكَ فِي التَّوْرَاۃِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ وَلَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ وَلَا مُتَزَيِّنٍ بِالْفُحْشِ وَلَا قَوْلِ الْخَنَاءِ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَكَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وَهَذَا مَالِي فَاحْکُمْ فِيهِ بِمَا أَنْزَلَ الله)) (19).

وأمثلة ذلك كثيرة منها حزنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ملك الحبشة بما روّي عَن إمامنا الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ الَعسكَرِيِّ عَن آبَائِهِ (عليهم السلام): ((إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صلی الله علیه وآله وسلم) لَمَّا أَتَاهُ جَبْرَئِیلُ (علیه السلام) بِنَعْیِ اَلنَّجَاشِیِّ بَکَی بُکَاءَ حَزِینٍ عَلَیْهِ وَ قَالَ إِنَّ أَخَاکُمْ أَصْحَمَةَ وَ هُوَ اِسْمُ اَلنَّجَاشِیِّ مَاتَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَی اَلْجَبَّانَةِ وَ کَبَّرَ سَبْعاً فَخَفَضَ اَللَّهُ لَهُ کُلَّ مُرْتَفِعٍ حَتَّی رَأَی جِنَازَتَهُ وَ هُوَ بِالْحَبَشَةِ)) (20)، والتأريخ ينقل لنا أن المسلمين احترموا أهل الحبشة ولم ينكروا عليهم دينهم، ولم يتدخلوا في شؤونهم الداخلية إلا في مساعدتهم في إطار من التعاون والمشاركة والوفاء لجميل إيوائهم (21).

ص: 441

بعد ذلك يمكن القول إن سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته كانت مثالا حيا وانعكاسا جليا لقواعد التعايش ومبادئ التواصل الإنساني التي رسمها بمواقفه الإنسانية، لتشكل أسوة يُقتدى بها على مر العصور.

المبحث الثالث أصول التعايش السلمي من خلال العهد المبارك

عند الخوض باستنباط المعارف من أي نص من نصوص المعصومين (عليهم السلام) يتبادر إلى الأذهان هل هذا النص المعصومي صحيح أم ضعيف؟ أفي دائرة المعتبر أم مردود؟

وحتى وإن توثقنا من الحديث لابد من عرضه على القرآن الكريم، وإيجاد له ما يؤيده من الآيات القرآنية، ويمكن أن يكون ذلك بالتصريح والمباشرة؟ أم بغير التصريح و بالمضمون.

والسنة المعصومية الصادرة عنهم (عليهم السلام) - لا الموضوعة - لها تصديق في القرآن الكريم أما تكون داخلة بكليات مفاهيم الآيات و لربما تكون مؤيدة لها على نحو الجزيئات؛ وعلى العموم فالله تعالى يصدق ما صدر عن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قولا أم فعلا أم تقريرا - وهو شامل لأهل بيته الطاهرين - وذلك بصريح قوله تعالى «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» [يونس: 37].

وسنحاول - بعون الله تعالى - أن نرجع ما اقتطفناه من نصوص التعايش السلمي من العهد المبارك لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى القرآن الكريم، لإثبات أن

ص: 442

لها مَرجعاً قرآنياً؛ وهو داخل في قوله تعالى «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» [النجم: 4] فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلامهما واحد ومؤيد من قبل الله تعالى بصريح نص الآية الكريمة «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» [آل عمران: 61] وبما صرح به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برواية الإمام الصادق (عليه السلام) ((أَنْتَ مِنِّی بِمَنْزِلَهِ هَارُونَ مِنْ مُوسَی إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِیَّ بَعْدِی)) (22).

وفيما يلي أصول التعايش السلمي من العهد المبارك، وإرجاع كل واحد من تلك الأصول (النصوص المقتطفه) إلى كبراه من الآيات القرآنية والنصوص الحديثية:

1. ((إمَّا أخٌ لكَ في الدين، وإمَّا نظيرٌ لك في الخَلق))

وهذا الأصل المبارك يعتبر حجر الزاوية في تثبيت التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد، فمن لم يدرك - أو لا يريد - أن الناس سواسية في نقطة الانطلاق وفي الميزان، بقوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» [آل عمران: 59] والاختلاف لأجل التعارف والسير في الحياة على نحو المحبة والتسامح «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [الحجرات: 13].

وعلى ذلك وردت النصوص المعصومية الشريفة لإثبات أصل الخلقة وميزان الإكرام عند الله تعالى ومنها ما صرح به الرسول الأكرم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((یَا عَلِیُّ إنَّ اللّهَ تَبارَك وَ تَعالی قَدْ أذْهَبَ بِالإسْلامِ نَخْوَةَ الْجاهِلِیَّةِ وَ تَفاخُرَها بِآبائِها ألا إنَّ النّاسَ مِنْ آدَمَ وَ آدَمَ مِنْ تُرابٍ وَ أکْرَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاهُم)) (23).

2. وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً

ص: 443

ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ.

لا يمكن إقامة مجتمع مترابط وليست الرحمة ما تسوده؛ ومن الصفات التي بينها الله تعالى لمجتمع المقربين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم رحماء بينهم مما يتجلى أن تلك الصفة غاية في الحسن حتى تطلق لخير أمة على مر العصور فقال تعالى «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» [الفتح: 29].

وما أمر به أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الأشتر (رضي الله عنه) ما هو إلا ما كان عليه به في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان للناس بأهل البيت (عليهم السلام) المثل الأعلى بالرحمة ورعاية الناس وبذلك ما صرح به مولانا الإمام السجاد (عليه السلام) ((مَا یَنْقِمُ اَلنَّاسُ مِنَّا فَنَحْنُ وَ اَللَّهِ شَجَرَةُ اَلنُّبُوَّةِ وَ بَیْتُ اَلرَّحْمَةِ وَ مَوْضِعُ اَلرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ اَلْمَلاَئِکَةِ)) (24).

3. أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ.

لا يخفى على ذي لب أن العدالة مطلباً للعقل السليم قبل أن تأتي الرسالات السماوية تؤكد عليها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر الجزئي وهو الإنصاف فمن باب أولى أراد الكلي وهي العدالة إذ (أَن الإنصاف إِعطَاء النّصف وَالعدل يكون فِي ذَلِك وَفِي غَيره) (25) والعدل أمر من الله تعالى حيث قال «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» [النحل: 90] وقال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا» [النساء: 105].

4. إِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ المَظلُومِینَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ.

ص: 444

الناس عيال الله، فتعالى لن يقبل أن يعتدى على عياله أحد، فعَن أَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ وسلم): (( اَلْخَلْقُ عِیَالُ اَللَّهِ فَأَحَبُّ اَلْخَلْقِ إِلَی اَللَّهِ مَنْ نَفَعَ عِیَالَ اَللَّهِ وَ أَدْخَلَ عَلَی أَهْلِ بَیْتٍ سُرُوراً)) (26) فالمعتدي سيجد «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» [الفجر: 14].

ومن ركائز إقامة السلام والتعايش بين الأفراد والمجتمعات اجتناب الظلم فهو قبيح أينما وقع وكيفما كان؛ لذا فأمير المؤمنين (عليه السلام) حث وليه على مصر الأشتر (رضي الله عنه) أن يترفع عن ضلم العباد فدعوة المظلوم لا ترد وإن أجلها الله تعالى فنصره للمظلوم محتوم لما رُوي عَن أَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَی لَیُنَادِی کُلَّ لَیْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مِنْ أَوَّلِ اَللَّیْلِ إِلَی آخِرِهِ... أَلاَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ مَظْلُومٌ یَسْأَلُنِی أَنْ آخُذَ لَهُ بِظُلاَمَتِهِ قَبْلَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ فَأَنْتَصِرَ لَهُ وَ آخُذَ لَهُ بِظُلاَمَتِهِ قَالَ فَمَا یَزَالُ یُنَادِی بِهَذَا حَتَّی یَطْلُعَ اَلْفَجْرُ)) (27).

وليأخذ الناس العبر من دعاء نبي الله نوح (عليه السلام) عندما أصر قومه على ظلمه وإيذائه «فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)» [القمر: 10 - 13].

5. وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ.

قال تعالى «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» [الأعراف: 31] وفي موضع آخر «فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ»

ص: 445

[النساء : 129] فيمكن استنباط أن لكل أمر حدوده الطبيعية وتجاوزها زيادة أو نقصاناً مرفوض من قبل الله تعالى ولذا قال الإمام الصادق (عليه السلام) لرجل ((اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُسْرِفْ وَ لاَ تَقْتُرْ وَ کُنْ بَیْنَ ذَلِكَ قَوَاماً إِنَّ اَلتَّبْذِیرَ مِنَ اَلْإِسْرَافِ قَالَ اَللَّهُ عَزَّوَجَلَّ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِیراً)) (28).

6. فَلْیکُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَیلُكَ مَعَهُمْ.

الجانب النفسي له الدور الهام في تركيز الجهد على تأدية أفضل، ولولا الشعور بذلك الانتماء النفسي لا يمكن لأي أحد أن يتعامل بإيجابية في مواقفه ويؤدي فاعلية عالية في داخل المجتمع، لذا نجد ان الله تعالى من بيّن عوامل كثيرة اختار أهمها ولعله أساسها ألا وهو الشعور الإيجابي والميل الصادق نحو الآخرين لذا قال تعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» [آل عمران: 159] وإنما تجمعت الناس حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لليونته تجاههم وعدم غلظة قلبه الشريف وما ذلك إلا رحمة من الله تعالى وتعزيزاً لدينه الحنيف.

7. وَلْيَکُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَکْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا.

قد أوجب الله تعالى على عباده ستر بعضهم بعضاً وما يعلن منها إلا لمورد في نيل الحقوق وعبر موارد شرعيّة وقانونية، فمن اتخذ من كشف معائب الناس سمة له على الناس أن يحقروه وعلى الحاكم اجتنابه وعدم تقريبه له، إنما الألفة المجتمعية لا تقوم إلا بكتم الأسرار والابتعاد عن تفحص معائبهم قد روي عَن أَبِي عَبدِ الله أنه قَالَ (عليه السلام): ((إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِأَنْ يَتَمَنَّي لِلنَّاسِ الصَّلاَحَ أَهْلُ الْعُيُوبِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا صَلَحُوا كَفُّوا - عَنْ تَتَبُّعِ عُيُوبِهِمْ)) (29).

ص: 446

وأخبر تعالى أن اليوم الذي تنكشف به سرائر الناس في مرحلة من مراحل القيامة وهو «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)» [الطارق: 9 - 10].

والتآلف بين الناس له مقوماته فقال تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» [آل عمران: 134] والمجتمع الفاقد لهذه المقومات يكون عاجز حتى ان يجمع أفراده مهما كانت المشتركات النسبية والمذهبية والاجتماعية.

8. أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْدٍ، وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ کُلِّ وِتْرٍ، وَ تَغَابَ عَنْ کُلِّ مَا لاَ یَضِحُ لَكَ، وَ لاَ تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِیقِ سَاعٍ، فَإِنَّ السَّاعِیَ غَاشٌّ، وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِینَ.

ينزع الله من المؤمنين قبل دخولهم الجنة العداوة إن كانت عند بعضهم إذ قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) [الأعراف: 43 ] وما هذا إلا دليل على الأهمية البالغة حتى يكون المؤمن مع أخوانه في حياة يسودها الوئام والسلام لذا أوصى رسولنا الكريم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((وَلَا تَدَابَرُوا)) (30).

وعلى الحاكم أن يتأنى في الأخذ من الناقلين للأخبار إلا بعد التثبت قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» [الحجرات: 6] فلربما أدى ذلك التسرع إلى إيقاع الأذى بقومٍ آمنين ولم يك لهم أي ذنب، ومما أمر الإمام (عليه السلام) أن يكون للحاكم مقربين ممن لا يطمأن لدينهم وحسن نواياهم وهذا ما صرحت به الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» [آل عمران: 118] .

9. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بباطِلٍ لم

ص: 447

تَفْعَلْهُ، فاِنَّ كَثرَةَ الإطْراءِ تُحْدِثُ الزَّهوَ وتُدْنى مِنَ العِزّةِ.

إذا اتصف المرء بصفات المؤمنين حمدت أفعاله وأصبح أكثر إيجابية في حياته، ولا تكون الحياة خلاقة إلا أن يلتزم الصدق ويتخذ الورع منهجا له وقد قال تعالى «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» [الأحزاب:24] وكذا قوله تعالى «وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ» [الاحقاف: 16] إذ نستدل من ذلك الأهمية البالغة للصدق في حياة الناس فأراد الإمام (عليه السلام) أن نلتصق بالصادقين ولا نحاول استمالتهم بأي طريقة لقول ما تطيب به النفس من مدح وتملق.

10. وَلَا یَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِی ذَلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَهِ عَلَی الْإِسَاءَهِ، وَأَلْزِمْ کُلّاً مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ.

من أهم مقومات تماسك أفراد المجتمع أن يروا أن المسيء يدان والمحسن يكرم، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية والاجتماعية وغيرها، وهذا نابع من صاحب السلطة (31).

إذ أن الله تعالى في حسابه وتعامله مع الناس على ض-وء ما صرحت به الآية الكريمة «وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ» [غافر: 58] وهو بيّان واضح بالتفريق بين من آمن ومن كفر ومن اتخذ الهداية ومن سلك طريق الضلالة.

نعم، كل إنسان مسؤول عن تصرفاته وما يعتقده، ولذا قال تعالى «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا» [الإسراء: 13].

11. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَیْسَ شَیْءٌ بِأَدْعَی إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِیَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَیْهِمْ.

ص: 448

لابد للمتعايشين بسلام أن يحسنوا الظن لبعضهم بعضاً قال تعالى «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» [الحجرات: 12] وظن السوء لا يجلب لهم إلا الفرقة وتقطع الأواصر بينهم.

ومن مظاهر حسن الظن ذلك الإحسان بين الأفراد وبالأخص إحسان الحاكم لرعيته فالأمر الإلهي «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» [النحل: 90] فأفراد المجتمع أن رأوا من حاكمهم العدل والإحسان إلتزموه وعملوا به اقتداءً بحاكمهم يثبت ذلك عَن أَبِي عَبدِ الله الصَادِق قَالَ قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ (عليه السلام): ((اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ وَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ الْعَدْلِ وَ الْإِحْسَانِ)) (32) وعلى الناس إتباع الآية الكريمة فيما كان الله تعالى «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ» [الشورى: 25].

12. وَلَاتَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الْأُمَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ، وَ صَلَحَتْ عَلَیهَا الرَّعِیةُ، وَلَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَیءٍ مِنْ مَاضِی تِلْكَ السُّنَنِ، فَیکُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَیكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.

يستنبط من قوله تعالى «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» [آل عمران: 95] وكذا من قوله تعالى «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» [الممتحنة: 4] أن على المؤمنين أن يتبعوا السبيل القويم الذي كان عليه السابقون من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وكذا ما أثر عن المؤمنين من سبل الخير والصلاح وهذا كذلك ما يدل عليه قول مولانا الإمام الرضا (عليه السلام): ((اِتَّبِعُوا سُنَّهَ اَلصَّالِحِینَ فِیمَا أَمَرُوا بِهِ وَ نَهَوْا عَنْهُ)) (33).

13. وَأَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَمُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ.

ص: 449

العلم أساس رقي الشعوب؛ وبالحث عليه كان أول ما نزل من القرآن «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» [العلق: 1] لذا ف-ا ريب أن يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) بالركون إلى العلماء بالتدريس والمناقشة وأن يكون للإنسان تردداً على الحكماء والتزود منهم، ولا يمكن أن ينتهي العلم بمرحلة ما؛ إنما بغية العقلاء أن يتزودوا دوما من العلم ويبتغون إلى الله تعالى أن يهيأ لهم سبله «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» [طه: 114].

قال تعالى «يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا» [مريم: 43] فمن تزوّد بالعلم وطبقه بشكل صحيح وصل إلى أن التعايش السلمي أساس في المجتمع واختلاف الناس في مشاربهم وثقافاتهم وتوجهاتهم العقائدية والمذهبية (لا يفسد بالوّد قضية).

ومدارسة العلم لا يحكمها العمر أو المرتبة الاجتماعية، إنما على الناس أن يطلبوه من أهله «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)» [الكهف: 65 - 66] عَن أَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) قَالَ: ((إِنَّ اَلْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِیَاءِ إِنَّ اَلْأَنْبِیَاءَ لَمْ یُوَرِّثُوا دِرْهَماً وَ لاَ دِینَاراً وَ إِنَّمَا وَرَّثُوا أَحَادِیثَ مِنْ أَحَادِیثِهِمْ فَمَنْ أَخَذَ بِشَیْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظّاً وَافِراً فَانْظُرُوا عِلْمَکُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ)) (34).

14- وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لَایَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَ لَاغِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْل، وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ، وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ. وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَهً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلی الله علیه وآله وسلم) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً.

ص: 450

التباين بين الناس سر الوجود کما خلق الله تعالى كل مخلوق له ما يتميز به عن الآخر «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» [الروم: 22]، وهذا مما على الناس فهمه لتستقم حياتهم ولا يروا الاختلاف إلا عامل ايجابي يعزز وجودهم.

وعلى الحاكم أن يفشي بين الناس روح المحبة والمساواة ويعطي لكل ذي حق حقه، ليقتدوا به ولينصف بعضهم بعضا؛ لذا قال تعالى «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» [التوبة: 128] وبعدما رأوا أفعال رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» [الأحزاب: 21] فأمرهم باتباع ما وجدوه من الرحمة والعدالة عند الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

15- ثُمَّ لاَقِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ، لَمِا يُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ، وَيَجْمَعُونَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا.

لا يخلو أي مجتمع من العمل والعمال؛ وحياة الناس جميعا تسودها التعاقدات بشتى أنواعها؛ ولا تجد فرداً منهم إلا ويرتبط مع آخر أو مع جماعة بنوع من الالتزامات.

والقضاء من ركائز المجتمعات؛ فكلما صلح القضاء كان المجتمع أكثر صلاحاً وأمناً، ومن صفات الأنبياء (عليهم السلام) أنهم كانوا قضاة بين الناس قال تعالى «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ» [الانبياء: 78] والظاهر من الآية الكريمة أن الله تعالى أما يشهد على

ص: 451

القاضي لعدم صوابه في الحكم أو يشهد له ويكرمه إن كان حكمه صائباً.

16- وَفِی اللهِ لِکلّ سَعَةٌ، وَلِکلّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یصْلِحُهُ.

مما يتخلف به الناس تلك الإمكانيات العقلية والجسدية، وعلى الراعي حسبان تلك الاختلافات فيعطي لكل منهم ما يصلحه وينسجم معه؛ ولذا من مهام الوالي تقدیر ما يصلح بالناس فعَن حَمَّادِ بنِ عُثمَانَ قَالَ قُلتُ لِأَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) ((اَلتَّعْزِیرُ کَمْ هُوَ قَالَ دُونَ اَلْحَدِّ قُلْتُ دُونَ ثَمَانِینَ قَالَ لاَ وَ لَکِنْ دُونَ اَلْأَرْبَعِینَ فَإِنَّهَا حَدُّ اَلْمَمْلُوكِ قَالَ قُلْتُ: وَ کَمْ ذَاكَ قَالَ: قَالَ عَلِیٌّ (عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ) عَلَی قَدْرِ مَا یَرَی اَلْوَالِی مِنْ ذَنْبِ اَلرَّجُلِ وَ قُوَّةِ بَدَنِهِ))(35).

فالمساواة لا تعني تكليف الأفراد على حد سواء؛ بل، تكليف كل واحد على قدر طاقته لقوله تعالى لينفق «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» [الطلاق: 7]

فالإصلاح لابد من إقامته للحاكم قال تعالى َأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» [الأعراف: 142]

وعليه كذلك مداراة الرعية وعدم التعالي «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» [الشعراء: 215] فإن ذلك ما يقوّم حياة الناس ويوحدهم ويعزز التعايش السلمي بينهم.

17- فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ، [وَ أَنْقَاهُمْ] جَيْباً، وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ.

المجتمع الأمثل على أرض الواقع العلمي خلال تجربة الحياة الإنسانية كان في

ص: 452

عصر الرسالة؛ وأهم سمات ذلك المجتمع التسامح فيما بين أفراده بكل مظاهر الرحمة وقبول الآخر وعدم التعالي قال تعالى «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» [الفتح: 29] والذي يكون أقربهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثرهم رحمةً وتسامحاً لإخوانه، قال مولانا الصادق (عليه السلام): ((إِنَّا أَهْلُ بَیْتٍ مُرُوَّتُنَا اَلْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَنَا) (36).

وعلى الراعي أن يلتزم القسط بين رعيته ولا يظلمهم أبدا قال تعالى «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» [يونس: 47].

18- ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ.

والمروءة كما عرفها لنا أهل البيت برواية عَن أَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) قَالَ: ((کَانَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِیٍّ عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ عِنْدَ مُعَاوِیَةَ فَقَالَ لَهُ أَخْبِرْنِی عَنِ اَلْمُرُوءَةِ فَقَالَ حِفْظُ اَلرَّجُلِ دِینَهُ وَ قِیَامُهُ فِی إِصْلاَحِ ضَیْعَتِهِ وَ حُسْنُ مُنَازَعَتِهِ وَ إِفْشَاءُ اَلسَّلاَمِ وَ لِینُ اَلْکَلاَمِ وَ اَلْکَفُّ وَ اَلتَّحَبُّبُ إِلَی اَلنَّاسِ)) (37) قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» [النحل: 128] فالله يحب المحسنين قَالَ أَبُو جَعفَرٍ (عليه السلام): ((مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اَللَّهِ إِلَی اَللَّهِ اَلْمُحْسِنَ اَلتَّوَّابَ)) (38) وقال عز من قائل «وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ» [المائدة: 84] ففي هاتين الآيتين دليل واضح أن على الناس جميعا مصاحبة أهل الإحسان والصلاح لينتفعوا منهم ويتزودوا من خير الدنيا والآخرة وبمقابل ذلك الابتعاد عن الظالمين قال تعالى في «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» [هود: 113].

ص: 453

19- اِخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ.

على الحاكم أن يختار أفضل رعيته لمنصب القضاء، لذا جعل الله تعالى من مهام الانبياء القضاء بين الناس «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ» [الانبياء: 78] فآخرة القاضي مرهونة بقضائه فَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: ((لِسَانُ اَلْقَاضِی بَیْنَ جَمْرَتَیْنِ مِنْ نَارٍ حَتَّی یَقْضِیَ بَیْنَ اَلنَّاسِ فَإِمَّا إِلَی اَلْجَنَّةِ وَ إِمَّا إِلَی اَلنَّارِ)) (39) وميل القاضي إلى فئة دون أخرى مدعاة للتفرقة والعداوة في المجتمع.

20- ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ.

ليس من حق الحاكم تقديم أحداً من الناس على الآخر لهواً؛ بل عليه الاحتكام إلى قواعد ثابتة للترجيح فكما الله جعل المقياس بيّن الناس التقوى فقال جل ذكره «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [الحجرات: 13] وقد ذكر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الناس في كل مورد بما رواه عنه مولانا الإمام الصَّادِق جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍا أَنَّهُ قَالَ: ((أَتْقَى النَّاسِ مَنْ قَالَ الْحَقَّ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ وَ أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ رَضِىَ لِلنَّاسِ مَا یَرْضَى لِنَفْسِهِ)) (40) فمن أراد أن يتقدم شعبه ويرتقي عليه يجعل الشخص المناسب في المكان المناسب.

21- ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ.

كثير من الناس يحاولون استمالت الحكام بإظهار ما يفضلونه، وإذا اعتمد الحاكم على ظاهر الناس وحسن الظ-ن سيستغل المتملقون ذلك، فلابد للحاكم اختيار

ص: 454

أصحاب المسؤوليات في المجتمع بطرق منضبطة لا من خلال الفراسة والظن رغم أن المؤمن له ما لا لغيره فعَن أَبِي جَعفَرٍ (عليه السلام) فِي قَولِ الله عَزَّوَ جَلَّ «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» [الحجر: 75] قَالَ (عليه السلام): ((هُمُ الْأَئِمَّةُ (علیهم الاسلام) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله وسلم): اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ فِي قَولِ اللهِ تَعَالَی «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» (41).

كما يحكي لنا القرآن الكريم اختيار عیسی (علیه السلام) لأصحابه قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ» [الصف: 14].

22- وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلاَ مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ.

اليسر في الأمور في جميع مجالات العبادات والمعاملات بين الناس سمة للإسلام قال تعالى «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» [البقرة: 185] وعلى كل مسؤول أن ينظر بعين الرحمة لظروف رعيته وذكر الإمام الصلاة لأنها مستمرة بشكل يومي فنستدل على أهمية الالتزام بما يطيقه الناس؛ وعليه ما قَالَهُ رَسُولُ الله (صلى الله علیه و آله وسلم): ((مُدَارَاةُ اَلنَّاسِ نِصْفُ اَلْإِیمَانِ وَ اَلرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ اَلْعَیْشِ)) (42).

23- فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِیَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاَةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ.

التواضع والمعايشة مع الناس من صفات المصلحين وقد أشكل الكفار على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا» [الفرقان: 7] ولا يمكن إدارة شؤون الرعية والحاكم لا يكون بتاس معهم بشكل مستمر فعَن حَبِيبٍ الأَحوَلِ قَالَ سَمِعتُ أَبَا عَبدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: ((صَدَقَةٌ یُحِبُّهَا اَللَّهُ إِصْلاَحٌ بَیْنَ اَلنَّاسِ إِذَا

ص: 455

تَفَاسَدُوا، وَ تَقَارُبٌ بَیْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا)) (43).

24- وَلكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ؛ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِی ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ.

الصلح خير إن ألتزم الطرفان به، لكن على المرء أن يحذر من عدوه إذا صالحه فلربما يتربص به و يعمد إلى غدره قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا» [النساء : 71] وقد قَالَ أَبُو عَبدِ الله (عليه السلام): ((عَلَیْكَ بِالتِّلاَدِ وَ إِیَّاكَ وَ کُلَّ مُحْدَثٍ لاَ عَهْدَ لَهُ وَ لاَ أَمَانَةَ وَ لاَ ذِمَّةَ وَ لاَ مِیثَاقَ وَ کُنْ عَلَی حَذَرٍ مِنْ أَوْثَقِ اَلنَّاسِ فِی نَفْسِكَ فَإِنَّ اَلنَّاسَ أَعْدَاءُ اَلنِّعَم)) (44). فمع الصلح لابد من الحذر، فالله تعالى يحب التصالح وإفشاء المحبة «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» [الحجرات: 9].

25- وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ.

الأمانات وإن اختلفت، لكن لابد لكل إنسان من بعض منها، فأما أمانات بين الإنسان وربه أم بينه وبين الآخر، والالتزام بأدائها واجب قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» [النساء: 58] عَن الحسين الشيباني عن أَبِي عَبدِ الله (عليه السلام) قال: ((قُلْتُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَوَالِیكَ یَسْتَحِلُّ مَالَ بَنِی أُمَیَّةَ وَ دِمَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ وَقَعَ لَهُمْ عِنْدَهُ وَدِیعَةٌ فَقَالَ أَدُّوا اَلْأَمَانَتِ إِلَی أَهْلِهَا وَ إِنْ کَانُوا مَجُوساً فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ یَکُونُ حَتَّی یَقُومَ قَائِمُنَا فَیُحِلُّ وَ یُحَرِّمُ)) (45).

وكذا فما تعاهد عليه لابد له من الالتزام به لقول الله عز وجل «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ» [النحل: 91] وعَن أَبِي عَبدِ اللهَ قَالَ (عليه السلام): ((إِنَّکُمْ لاَ تَکُونُونَ صَالِحِینَ حَتَّی تَعْرِفُوا وَ لاَ تَعْرِفُونَ حَتَّی تُصَدِّقُوا وَ لاَ تُصَدِّقُونَ حَتَّی تُسَلِّمُوا أَبْوَابٌ أَرْبَعَةٌ

ص: 456

لاَ یَصْلُحُ أَوَّلُهَا إِلاَّ بِآخِرِهَا ضَلَّ أَصْحَابُ اَلثَّلاَثَهِ وَ تَاهُوا تَیْهاً بَعِیداً إِنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَی لاَ یَقْبَلُ إِلاَّ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ وَ لاَ یَقْبَلُ إِلاَّ اَلْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ وَ اَلْعُهُودِ)) (46).

26. وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ.

وبطبيعة الحال فالحاكم لا يمن على رعيته بإدارة شؤونهم، بل له اجر ذلك أما في الدنيا أو بالآخرة بكليهما، لذا فعلى صاحب المسؤولية أداء ما عليه بالعدل ويحرص على ان لا يقع الظلم في أفعاله مع الناس لأمر الله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [النحل: 90] عَنْ صَبَّاحِ بْنِ خَاقَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ اَلتَّمِیمِیِّ قَالَ ((خَرَجَ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ) عَلَی أَصْحَابِهِ وَ هُمْ یَتَذَاکَرُونَ اَلْمُرُوءَةَ فَقَالَ أَیْنَ أَنْتُمْ مِنْ کِتَابِ اَللَّهِ قَالُوا یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ فِی أَیِّ مَوْضِعٍ فَقَالَ فِی قَوْلِهِ «إِنَّ اَللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ» فَالْعَدْلُ اَلْإِنْصَافُ وَ اَلْإِحْسَانُ اَلتَّفَضُّلُ)) (47).

ص: 457

المبحث الرابع تطبيقات التعايش السلمي في المجتمع المسلم

1- التعايش الديني:

يقصد بالتعايش الديني قبول و احترام المعتقدات الدينية والمذهبية الأخرى المختلفة والمخالفة، والتعايش مع معتنقيها، وتظهر أهمية هذا النوع من التعايش في الظروف التي تسيطر فيها حركة دينية معينة على المجتمع وتضطهد أصحاب المعتقدات الدينية الأخرى (48).

ويعد أول تطبيق عملي للدولة الإسلامية هو ما فعله النبي (عليه السلام) في حسن التعايش مع الآخرين من غير المسلمين، ودلالة على ذلك أن الدين الإسلام لا ينفي الآخر على الإطلاق وأنه يقر بمبدأ الاختلاف بين الناس في أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم، وهو سنة وحكمة ربانية، قال تعالى «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» [يونس: 99] واستمر بعد وفاته من جاء بعده ال بيته والصحابة بتطبيق هذا السلوك الحضاري القويم، فعَن ثَابِتٍ، عَن أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخدُمُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِندَ رَأسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهْوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القاسِم، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلی الله علیه وآله وسلم) وَهْوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ (49).

وقد لا يلتف كثير منا إلى شيء مهم وهو ساح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لغلام يهودي بأن يكون في بيته وخدمته ويدخل ويتطلع على أسرار لا يطلع عليه الناس.

ص: 458

وهنا يجب الانتباه والالتفات الى نقطة مهمة، وهي أن مشروع التعايش بالإسلام كان يخطط لبناء مجتمع محكم ينتمي إلى الهوية الإسلامية ويحمل شعارها من اجل ان يكون الدين كله لله. وما يؤيد هذا الرأي أن القانون الإسلامي يحمي الجميع مع تنوع أديانهم، حيث سجل لنا التاريخ قصة عن أعدل الحكام، إذ تنازع مواطن يهودي مع حاكم البلاد الإمام علي (عليه السلام) حيث ((أَنَّهُ مَضَی (عَلَیْهِ السَّلاَمُ) فِی حُکُومَةٍ إِلَی شُرَیْحٍ مَعَ یَهُودِیٍّ. فَقَالَ یَا یَهُودِیُّ: اَلدِّرْعُ دِرْعِی وَ لَمْ أَبِعْ وَ لَمْ أَهَبْ. فَقَالَ اَلْیَهُودِیُّ: اَلدِّرْعُ لِی وَ فِی یَدِی. فَسَأَلَهُ شُرَیْحٌ اَلْبَیِّنَةَ. فَقَالَ (علیه السلام): هَذَا قَنْبَرٌ وَ اَلْحُسَیْنُ یَشْهَدَانِ لِی بِذَلِكَ. فَقَالَ شُرَیْحٌ: شَهَادَةُ اَلاِبْنِ لاَ تَجُوزُ لِأَبِیهِ وَ شَهَادَةُ اَلْعَبْدِ لاَ تَجُوزُ لِسَیِّدِهِ وَ إِنَّهُمَا یَجُرَّانِ إِلَیْكَ. فَقَالَ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ السَّلاَمُ) وَیْلَكَ یَا شُرَیْحُ أَخْطَأْتَ مِنْ وُجُوهٍ أَمَّا وَاحِدَهٌ فَأَنَا إِمَامُكَ تَدِینُ اَللَّهُ بِطَاعَتِی وَ تَعْلَمُ أَنِّی لاَ أَقُولُ بَاطِلاً فَرَدَدْتَ قَوْلِی وَ أَبْطَلْتَ دَعْوَایَ، ثُمَّ سَأَلْتَنِی اَلْبَیِّنَةَ فَشَهِدَ عَبْدٌ وَ أَحَدُ سَیِّدَیْ شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ فَرَدَدْتَ شَهَادَتَهُمَا، ثُمَّ اِدَّعَیْتَ عَلَیْهِمَا أَنَّهُمَا یَجُرَّانِ إِلَی أَنْفُسِهِمَا أَمَا إِنِّی لاَ أَرَی عُقُوبَتَكَ إِلاَّ أَنْ تَقْضِیَ بَیْنَ اَلْیَهُودِ ثَلاَثَهَ أَیَّامِ أَخْرِجُوهُ فَأَخْرَجَهُ إِلَی قُبَاءَ فَقَضَی بَیْنَ اَلْیَهُودِ ثَلاَثاً ثُمَّ اِنْصَرَفَ فَلَمَّا سَمِعَ اَلْیَهُودِیُّ ذَلِكَ قَالَ هَذَا أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ جَاءَ إِلَی اَلْحَاکِمِ وَ اَلْحَاکِمُ حَکَمَ عَلَیْهِ. فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَالَ: اَلدِّرْعُ دِرْعُكَ سَقَطَتْ یَوْمَ صِفِّینَ مِنْ جَمَلٍ أَوْرَقَ فَأَخَذْتُهَا)) (50). وعليه فإن التعايش الديني هو التسامح بين الرؤى الدينية للأديان المختلفة، وان القانون الإسلامي قائم على أساس العدل والمساواة ليس على أساس الديانة أو الانتماء.

2- التعايش الأخلاقي القيمي:

لقد أختار القرآن الكريم من بين جميع صفات النبي الأكرم أن يمتدحه بأعظم تلك الصفات و كلها عظيمة بالواقع فقال تعالى «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» [القلم:

ص: 459

4] لدلالة على الأهمية البالغة للأخلاق بمجاليها النظري والعلمي.

ومن نماذج سمو الخلق عند أهل البيت أن الإمام الحسين في أكثر من مورد يعلن انه لا ينبغي استخدام العنف وفرض الرأي والتسلط على الناس بالسلاح والقوة، وذلك موقفه مع الحر بن يزيد الرياحي الذي قدم لمقاتلة الإمام ومعه ألف فارس قد أنهكهم العطش، حيث وقفوا إمامه وقت الظهر في شدة الحر، وقد اشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ، وكانت فرصة سانحة أن يقتلهم، وهو يعلم أنهم جاؤوا لقتاله وقتله، لكن رق لحالهم وغض النظر عنهم، وأمر أصحابه أن يسقوهم وان يرشفوا خيولهم ترشيفا (51)، وهنا يجسد أروع ملاحم الإنسانية والرحمة والتسامح ليؤكد أن التعايش هو مصلحة المجتمع، لان الإمام و أصحابة جاهدوا، ليس من اجل أطماع وأغراض دنيوية. وإنما من اجل الالتزام بالدين، وتحمل المسؤولية الاجتماعية، ومراعاة حقوق الآخرين.

والإمام الحسين عمل بما كان عليه أبوه أمير المؤمنين عندما قاتل معاوية بن أبي سفيان، واستولى عسكر معاوية على الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، ورأى عليه السلام أنّه الموت لا محالة حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم وملكوا عليهم الماء، فقال أصحاب وشيعة للإمام (عليه السلام): امنعهم الماء كما منعوك، واقتلهم بسيوف العطش، فقال: لا والله أكافيهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة.

فالتاريخ الإسلامي كان وما يزال يحتفظ ويفتخر بمواقف آل الرسول (عليهم السلام) التي يستفاد منها اعتنائهم بقيم التسامح واللين والعفو والسلم.

فالتعايش يستمد قوامه من تلك القيم المرتبطة الواحدة بالأخرى، إذ ليس من

ص: 460

الصواب الاهتمام بقيمة وإهمال القيم الأخرى وذلك لأن كل واحدة منها تكمل الأخرى، وهذا التداخل فيما بينها يجعلها تشكل الإنسانية كالعدل فهو بحاجة إلى الشجاعة والحكمة والعز، وهكذا تتداخل هذه القيم فيما بينها لتشكل قواعد للتعايش السلمي.

3- التعايش والحوار:

الحوار في معناه الصحيح لا يجوز أن يكون سبباً في التنافر والعداوة، بل بالعكس يجب أن يكون سبباً للتعارف والتلاقي على الخير واحترام كل جانب لوجهة نظر الجانب الآخر، وترسيخ قيمة التعايش، والبحث عن القواسم المشتركة التي تشكل الأساس المتين للتعاون المشترك بين الشعوب والأمم.

والناس - بإرجاعهم للقسمة المنطقية التي لا تقبل الإشكال - ((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ)) (52) وهذه الجملة المختصرة لمولانا رائد الإنسانية (عليه السلام) أصبحت قاعدة أساس في إطار التسامح الديني والتعايش مع الآخرين وهي صالحة للعمل بها في كل زمان ومكان.

فالتاريخ الإسلامي يذكر بوضوح تام كيف كان المسلمون يعيشون مع كافة أتباع الأديان المختلفة جنباً إلى جنب، والكل يعيش في حرية دينية سامية، ويمارس سائر أشكال الحياة الاجتماعية وطقوسه الدينية، وخير دليل على ذلك قبول الحوار عند الإمام الرضا مع أهل الأديان وأصحاب المقلات، ويعتبر هذا المجلس الذي عقده المأمون للمناظرة بين الإمام الرضا (عليه السلام) وبين علماء الأديان والمذاهب، مجلساً فريداً حيث لم ينعقد مجلس مثله من ظهور الإسلام إلى غيبة ولي الأمر.

ولإثبات أن المشتركات بين الأديان كثيرة أن الإمام الرضا قال لكبير علماء المسيحية:

ص: 461

(انا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت به الحواریون وکافر بنبوة كل عیسی لم يقر بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكتابه ولم يبشر به أمته) (53). مؤكدا أن التعايش ممكن رغم الاختلاف وان الإسلام قام على الإقرار بالديانات السماوية التي سبقته إلا «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» [آل عمران: 19].

فالاختلاف بين الشرائع أثبته الله في قوله تعالى «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» [المائدة: 48]، وهذه الشرائع والمناهج رغم اختلافها لكن ما يجمعها واحد «دِينًا قِيَمًا» [الأنعام: 161] وله مالك واحد هو «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» [الفاتحة: 4].

4- التعايش مع المنافقين:

يعد النفاق والمنافقون خطراً داهماً وشراً مستطيراً على الإنسان والمجتمع الإسلامي، وقد حذر الإسلام من النفاق وأهله، وقد خصص الله سبحانه وتعالى سورة باسمهم: سورة المنافقون، قال تعالى «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» [المنافقون: 1].

وقد لعبوا دورا خطيرا في الوقيعة بين المسلمين، ولم يتوقفوا على ذلك فقط بل عمدوا إلى الإساءة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيذائه، ومع ذلك فان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صبر عليهم واستعمل الحكمة في ردهم ودفع فتنهن عن المسلمين، فيما روي عن جَابِرٍ بقوله رَضِيَ الله عَنهُ: ((غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّی کَثُرُوا، وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ، فَكَسَعَ أَنْصَارِیًّا، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا شَأْنُهُمْ «فَأُخْبِرَ بِکَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى

ص: 462

اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ): «دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ» وَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِینَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ یَا رَسُولَ الله هَذَا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ الله، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ))) (54).

فان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المبادئ قد تجاوز كل دعوات وعوامل الصراع والنزاع، بتسامحه وسعة صدره وقدرته على الاحتواء، وحاول استمالتهم إلى الإيمان الحقيقي، وهذا بحد ذاته يعتبر ردا على المتقولين أن الإسلام ليس دين تسامح وحوار، وانه دین قوة وقهر، وانتشر بالسيف.

وهذا وصيه سيد الموحدين (عليه السلام) عندما تمرد عليه الخوارج - وهو آنذاك الحاكم الشرعي - المنتخب من جماهير الأمة، ورغم أنهم تجرؤوا على الإمام برميه بالكفر والشرك، إلا انه - وانطلاقا من تسامحه وخلقه الرفيع وبصيرته الدينية - رفض (عليه السلام) أن يعتبر الخوارج الذين كفروه كفارة، أو أن يحكم بخروجهم عن الإسلام، فضلاً عن موقفه وتعامله مع سائر المحاربين له وهذا ما اشتهر عند جميع المسلمين ((إِنَّ عَلِیّاً (علیه السلام) لَمْ یَکُنْ یَنْسُبُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَی اَلشِّرْكِ وَ لاَ إِلَی اَلنِّفَاقِ وَ لَکِنَّهُ کَانَ یَقُولُ هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَیْنَا)) (55).

وهذه الشواهد التي نسوقها هي نابعة من سياسة تسامحيه مع المجتمع بكافة أطيافه لأمير المؤمنين (عليه السلام)، رغم ما يكنه له البعض من عداء أو كراهية، وأيضا ما يبطنونه من حقد دفين، فعاملهم بالرفق واللين، مقدما نموذجاً فريدا للعالم أجمع للتعايش السلمي، دون تأجيج للفتنه، وتنكيل بالخصوم.

وفي هذا السياق قد نقل الدكتور عبد الهادي الفضلي ما ذكرته مجلة (الشؤون الدولية)

ص: 463

(56) في عددها الخاص عن الإسلام والمسيحية والماركسية انتهى فيه الباحثون في دراستهم ان هذه العقائد الثلاثة: (الإسلام والمسيحية والماركسية) لا يزال الإسلام - من بينها - نظاما صالحا للتطبيق والمعاصرة (57).

5. التعايش في المعاملات الدينية:

کما سلفت الإشارة أن التعايش في الواقع الإسلامي هو عقيدة ثابتة وسلوك راقٍ، بل هو منهج طبقه المسلمون في حياتهم الخاصة والعامة، فكان تعاملهم مع غيرهم من إتباع الديانات الأخرى، مثالا رفيعا قل نظيرة.

ولعل من اكبر الأدلة وأقوى الحجج في هذا المورد عبر العصور على أساس متين من التعايش، ما رواه جَابِرٍ اَلْأَنْصَارِیِّ قَالَ: ((صَلَّی بِنَا عَلِیٌّ (عَلَیْهِ السَّلاَمُ) بِبَرَاثَا بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ قِتَالِ اَلشُّرَاةِ وَ نَحْنُ زُهَاءُ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ فَنَزَلَ نَصْرَانِیٌّ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَقَالَ: أَیْنَ عَمِیدُ هَذَا اَلْجَیْشِ فَقُلْنَا: هَذَا.

فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ فَسَلَّمَ عَلَیْهِ ثُمَّ قَالَ: یَا سَیِّدِی أَنْتَ نَبِیٌّ؟ فَقَالَ (علیه السلام): لاَ اَلنَّبِیُّ سَیِّدِی قَدْ مَاتَ. قَالَ: أفَأَنْتَ وَصِیُّ نَبِیٍّ؟ قَالَ (علیه السلام): نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ لَهُ اجْلِسْ كَيْفَ سَأَلْتَ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا بَنَيْتُ هَذِهِ الصَّوْمَعَةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَ هُوَ بَرَاثَا وَ قَرَأْتُ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِهَذَا الْجَمْعِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ وَ قَدْ جِئْتُ أُسْلِمُ فَأَسْلَمَ وَ خَرَجَ مَعَنَا إِلَى الْكُوفَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام): فَمَنْ صَلَّى هَاهُنَا؟ قَالَ: صَلَّى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَ أُمُّهُ (علیهم السلام) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام) أَ فَأُخْبِرُكَ مَنْ صَلَّى هَاهُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: الْخَلِيلُ (عليه السلام) (58) وأصبح هذا المكان جامعا للمسلمين وله نفس الاسم (براثا) إلى يومنا هذا، ولم يغير المسلمون اسم ذلك الجامع.

والأمر الذي يؤيد بما لا يرقى إليه الشك قوله تعالى «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ

ص: 464

بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)» [البقرة: 251] ونحن لا نسوق هذه الشواهد التاريخية إلا أن نؤكد على إن التعايش في الإسلام أصلُ أصيل، ومبدأ ثابت من مبادئ أهل البيت (عليهم السلام)، وان التعايش هو سمتهم التي اصطبغت بها الحضارة الإسلامية عبر الأحقاب.

6- التعايش في الجانب الاقتصادي:

من الثابت لنا أن الدولة الإسلامية هي المسؤولة عن جميع الأفراد ضمن أراضيها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، ولهذه المسؤولية دور مهم في تحقيق التعايش الاقتصادي السلمي بينهم أي بين المسلمين وغيرهم.

وقد اهتم الإمام علي (عليه السلام) بالجانب الاقتصادي اهتماماً خاصً، وقد كان من المتصدين أمام كل المحاولات الرامية، إلى التعدي على حقوق أفراد الدولة الإسلامية، حيث أن أول ما قام به عند تسنمه الخلافة، إلغائه النظام الذي كان متبعاً قبله في العطاء على أساس الهجرة والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (59)، وأعاده إلى نظام المساواة بين المسلمين، إلا ((أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ عَلِیٍّ (علیه السلام) مَشَوْا إِلَیْهِ عِنْدَ تَفَرُّقِ اَلنَّاسِ عَنْهُ وَ فِرَارِ کَثِیرٍ مِنْهُمْ إِلَی مُعَاوِیَةَ طَلَباً لَمَا فِی یَدَیْهِ مِنَ اَلدُّنْیَا فَقَالُوا: لَهُ یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ أَعْطِ هَذِهِ اَلْأَمْوَالَ وَ فَضِّلْ هَؤُلاَءِ اَلْأَشْرَافَ مِنَ اَلْعَرَبِ وَ قُرَیْشٍ عَلَی اَلْمَوَالِی وَ اَلْعَجَمِ وَ مَنْ یُخَافُ خِلاَفُهُ عَلَیْهِ مِنَ اَلنَّاسِ وَ فِرَارُهُ إِلَی مُعَاوِیَةَ. فَقَالَ لَهُمْ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ السَّلاَمُ) أَ تَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ اَلنَّصْرَ بِالْجَوْرِ لاَ وَ اَللَّهِ لاَ أَفْعَلُ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَ لاَحَ فِی اَلسَّمَاءِ نَجْمٌ لَوْ کَانَ مَا لَهُمْ لِی لَوَاسَیْتُ بَیْنَهُمْ فَکَیْفَ وَ إِنَّمَا هِیَ أَمْوَالُهُمْ)) (60).

وشاهد آخر عَنْ رَجُلٍ بَلَغَ بِهِ أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ) قَالَ: ((مَرَّ شَیْخٌ

ص: 465

مَکْفُوفٌ کَبِیرٌ یَسْأَلُ فَقَالَ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ): مَا هَذَا؟ قَالُوا: یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ نَصْرَانِیٌّ. فَقَالَ أَمِیرُ اَلْمُؤْمِنِینَ (عَلَیْهِ اَلسَّلاَمُ) اِسْتَعْمَلْتُمُوهُ حَتَّی إِذَا کَبِرَ وَ عَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ، أَنْفِقُوا عَلَیْهِ مِنْ بَیْتِ اَلْمَالِ)) (61).

يمكن القول أن الدولة الإسلامية المتمثلة بالإمام علي (عليه السلام)، ساهمت في توفير البيئة التي يتعايش فيها المسلم وغير المسلم و تحقق لغير المسلم حقوقه كاملة، فهو يتمتع بكل الخدمات التي قدمها (عليه السلام) دون تمييز بين المسلم وغيره وهذا يساهم بالتعايش الفعال وايضا يمنح البيئة والمناخ الملائم لممارسة النشاط الاقتصادي.

ولم تقف جهود الإمام (عليه السلام) عند هذا الحد، وإنما تجاوز ذلك قيامه بمتابعة عمل الجباة والمكلفون بجمع تلك الأموال، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قال: ((أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى بَزْرَجِ سَابُورَ فَقَالَ: لَا تَضْرِبَنَّ رَجُلًا سَوْطًا فِي جِبَايَةِ دِرْهَمٍ، وَلَا تَبِيعَنَّ لَهُمْ رِزْقًا وَلَا کُسْوَةَ شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، وَلَا دَابَّةً يَعْتَلِملُونَ عَلَيْهَا، وَلَا تُقِمْ رَجُلًا قَائِمًا فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ إِذًا أَرْجِعَ إِلَيْكَ کَمَا ذَهَبْتُ مِنْ عِنْدِكَ. قَالَ: وَإِنْ رَجَعْتَ کَمَا ذَهَبْتَ وَيْحَكَ إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ)) (62).

أن تعامل الإمام (عليه السلام) في جباية الأموال المفروضة على أهل الذمة، إنما هو مستمد من الشريعة السمحاء ، فهؤلاء دخلوا في ذمة الدولة الإسلامية وان التسامح معهم قد يودي إلى تألیف قلوبهم نحو الإسلام ومن ثم دفعهم الى الدخول فيه، مع مراعاة عدم إبراء ما بذمتهم من حقوق مالية. وهذا كله يؤدي بالنتيجة الى نشر ثقافة التعايش والتالف بين أفراده وإشاعة السلم الاقتصادي في المجتمع بأسره.

من الشهادات الصادرة عن ابرز علماء الغرب التي تشيد بإنسانية الإسلام ومدی

ص: 466

التعايش السلمي فيه اذ قال الكونت هندريك: ان المسلمين امتازوا بالمسالمة وحرية الأفكار في المعاملات و محاسنتهم المخالفين، وقال غوستاف لوبون: ان القوة لم تصمد أمام قوة القرآن، وان العرب تركوا الماديين أحراراً في أديانهم فقد عاملوهم بلطف عظيم. والحق أن الأمم الم تعرف فاتحین رحماء متسامحين مثلهم (63).

ص: 467

النتائج:

1. أثبت البحث أن جميع كلمات أمير المؤمنين ما هي شرح و تجسيد لآيات القرآن الكريم وأحاديث خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد طبقها عملياً في حياته الشريفة بأكمل صوّرها.

2. أن التعايش السلمي ركيزة إسلامية وليس خطابات فضفاضة عمل عليها أهل البيت (عليهم السلام) وأكدوها في حياتهم القولية والفعلية والتقريرية.

3. أن السيرة التاريخية للإمام علي (عليه السلام) هي المصدر الكبير لروح الإنسانية التي تنشر العفو والتعايش على جميع العصور.

4. العهد المبارك لأمير المؤمنين (عليه السلام) يستحق عقد المصنفات المطولة لما يحمله من مضامين عالية أوجزها بقوة العبارة ودقتها، وما نصوص التعايش السلمي التي عرضها البحث إلا دليل على صلاحيته ليكون دستوراً إنسانياً لحكام العالم بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم.

5. رسم (عليه السلام) للمسلمين من خلال عهده ومعطيات الأحداث التي قدمها، طريقا في التعامل مع الآخر، بكافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والدينية.

6. تأكيد العهد المبارك إن الاشتراك أصل والاختلاف فرع، فالآخر هو النظير بالدين أو بالخلقة وهذا دليل لا لبس فيه على أن التعايش السلمي مقصود إلهي لخدمة الأهداف الإنسانية وتحقيق المصالح البشرية.

7. جسدت فتوى الجهاد الكفائي المباركة وحشدنا المقدس اليوم الصور الإنسانية لمعاني التعايش وقبول الآخر، بل؛ والدفاع عنه والتضحية بالغالي والنفيس.

ص: 468

التوصيات:

1. تفعيل دور المؤسسات التربوية من خلال تنويع مناهجها في الحث على سبل التعايش بين الأفراد.

2. السعي الجدّي لوسائل الإعلام - بكافة أشكالها المرئية والمسموعة والمقروءة - بأخذ دورها الفاعل في نشر قيم التعايش السلمي بين فئات المجتمع.

3. تطويّر البرامج الثقافية والفكرية، الداعيّة لبث روّح التعايش والمواطنة وقبول الآخر، من منطلق العهد المبارك للإمام علي (عليه السلام) ليتواءم مع التحولات ألعصريه الجارية في العالم كله.

4. ترجمة مفهوم العهد باللغات الأخرى، كاللغة الانكليزية والفرنسية، وغيرها، وعرضها بطريقة بسيطة، للتعريف بالأنموذج المتكامل لسماحة الإسلام وعدالته، ودحض مزاعم الأعداء بإقصائه للإنسان وتهميشه على أساس من دينه أو مذهبه المخالف.

هذا وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا ويجعلنا من أهل الإخلاص والإيمان، واعو ذبه من النفاق والرياء، إن أصبت فمن الله تعالى وان أخطأت فمن نفسي والشيطان، سبحان ربك عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ص: 469

الهوامش

1. الزَّبيدي: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، ج 27، ص 447

2. الحكيم: محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، المؤسسة الدولية، ط 4، بیروت، 1422 - 2001، ص 35.

3. إبراهيم مصطفی و مجموعة من العلماء: المعجم الوسيط ، دار النشر: دار الدعوة تح: مجمع اللغة العربية . باب العین، ج 2، ص 639.

4. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بیروت، ط 1، باب عيش، ج 6، ص 321.

5. ينظر: ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، ط: 1399 ه - 1979 م. باب سلم، ج 3، ص 90.

6. ابن منظور، لسان العرب، باب سلم، ج 12، ص 289.

7. يُنظَر: مقال للباحث، زاويتي محمد، التعايش بين الأديان، كيف ولماذا؟، بتاريخ 12/28 / 2011 م، موقع: مع لبناء السلام: http://www.tfpb.org

8. مجموعة من أساتذة معهد الفلسفة وأكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي، مشكلة الحرب والسلام، ترجمة: شوقي جلال وسعد رحمي، دار الثقافة الجديد، مصر، بدون تاریخ، ص 2.

9. التويجري: عبد العزيز بن عثمان، الإسلام والتعايش بين الأديان في أفق القران الحادي والعشرون، منشورات المنظمة العربية الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو - 1419 ه، ص 2.

10. ابن منظور: لسان العرب، ج 7، ص 410.

11. الجصاص: أحمد بن علي، أحكام القرآن، تح: عبد السلام محمد علي، دار إحياء

ص: 470

التراث العربي، بيروت 1405 ه 2/ 2150.

12. ينظر: الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 11، ص 60.

13. بحر العلوم: حسن عز الدين، التعددية الدنية في الفكر الإسلامي، العارف للمطبوعات، لبنان، ط 1، سنة 2011، ص 35

14. المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 3، بیروت، دار إحياء التراث العربي، سنة 1403، ج 71، ص 167.

15. وقد وصف حالهم بدقة جعفر بن ابي طالب، حين خطب امام النجاشي قالا: أيها الملك! كنَّا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل المَيتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار،... حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نَسَبَه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا منَ الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة. ينظر: ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعارفي، السيرة النبوية،، تح: طه عبدالرؤوف، دار الجيل، بیروت، ط 1، سنة 1411 ه، ج 1، ص 335 - 336.

16. المجلسي، بحار الأنوار، ج 73، باب جوامع مناهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص 348.

17. ينظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 350.

18. الشيرازي: ناصر مکارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 2، ص 262.

19. المجلسي: بحار الأنوار، ج 16، باب مکارم أخلاقه و سیره و سننه ص 216؛ وكذا: الحر العاملي: محمد بن الحسن، الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، 1384 ه ط النعمان، النجف الأشرف، ص 57.

20. الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، باب جواز الصلاة على الميت، ص 107

ص: 471

21. فقة التعايش في السيرة، ص 40

22. الكليني، الكافي، ج 8، باب حديث أبي بصير مع المرأة، ص 106

23. الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج 4، باب النوادر و هو آخر أبواب الكتاب، ص 362.

24. الكليني: الكافي، ج 1، باب أن الأئمة (عليهم السلام) معدن العلم و شجرة النبوة، ص 221.

25. العسكري، الفروق اللغوية، ص 234.

26. الكليني: الكافي، ج 2، باب الاهتمام بأمور المسلمين و النصي، ص 164.

27. الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 1، باب وجوب الجمعة و فضلها ومن وضعت، ص 420.

28. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 9، باب الحقوق في المال سوى الزكاة، ص 45

29. الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج 4، باب و من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجزة، ص 401

30. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 17، باب الزيادة وقت النداء و الدخول، ص 459.

31. وقد كان منهج مولانا أمير المؤمنين واضح بقوله(عليه السلام): ((فَوَ الله مَا أَنَا فِي هَذَا الْمَالِ وَ أَجِیرِي هَذَا إِلَّا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاء)). المجلسي: بحار الأنوار، ج 32، باب بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 110

32. الكليني: الكافي، ج 1، باب أنه لا يعرف إلا به، ص 85

33. النوري: مستدرك الوسائل، ج 6، باب استحباب زيادة ألف ركعة في شهر، ص 214.

34. الكليني: الكافي، ج 1، باب صفة العلم و فضله و فضل العلماء، ص 32

ص: 472

35. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 28، باب أنه لا فرق في حد الشرب، ص 228

36. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 12، باب استحباب العفو عن الظالم، ص 174.

37. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 11، باب خصال الفتوة و المروءة، ص 435.

38. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 16، باب استحباب تكرار التوبة و الاستغفار، ص 86.

39. الطوسي: تهذيب الأحكام، ج 6، باب من الزيادات في القضايا، ص 292.

40. الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج 4، باب ومن ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجزة، ص 394

41. الكليني: الكافي، ج 1، باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله، ص 218

41. الكليني : الكافي، ج 2، باب المداراة، ص 116

43. الكليني: الكافي، ج 2، باب الإصلاح بين الناس، ص 209.

44. الكليني: الكافي، ج 8، حديث القباب، ص 249.

45. الكليني: الكافي، ج 5، باب أداء الأمانة، ص 132.

46. الكليني: الكافي، ج 1، باب معرفة الإمام(عليه السلام) و الرد إليه، ص181 47. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 11، باب خصال الفتوة و المروءة، ص 434.

48. الفيشاوي: سعد، المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007، ص 434.

49. بن حنبل: أحمد، المسند، ج 3، ص 175، ح 12823.

50. المجلسي: بحار الأنوار، ج 101، باب نوادر القضاء، ص 296.

51. ينظر: القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، ط 1، سنة 1413 ه، بيروت: درا البلاغة، ج 3، ص 74.

52. المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج 41، ص 145

ص: 473

53. الصدوق: التوحید، ص 420

54. البخاري: صحيح البخاري، ح 4905، وكذا: مسلم، صحیح مسلم، ح 2584.

55. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 15، باب حکم قتال البغاة، ص 83

56. الصادرة عن جامعة كامبردج البريطانية التي تعدّ من الجامعات المرموقة على المستوى الأكاديمي العالمي.

57. الفضلي: عبد الهادي، الإسلام والتعدد الحضاري بين سُبل الحوار وأخلاقيات التعايش، ط 1، بیروت، 2014، مركز الحضارة التنمية الفكر الإسلامي، ص 106.

58. الصدوق: من لا يحضره الفقیه، ج 1، باب فضل المساجد و حرمتها و ثواب من، ص 232.

59. ينظر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 109.

60. الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 15، باب التسوية بين الناس في القسمة، ص 107.

61. الطوسي: تهذیب الأحکام، ج 6، باب من الزيادات في القضايا، ص 292

62. البيهقي: السنن الکبری، ج 9، ص 345.

63. ينظر: الشيرازي، محمد الحسيني، السلم والسلام، ط 1، 1426 ه - 2005 م، لبنان، دار العلوم، ص 41.

ص: 474

قائمة المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. بحر العلوم: حسن عز الدين، التعددية الدنية في الفكر الإسلامي، العارف للمطبوعات، لبنان، ط 1، سنة 2011 م.

2. البخاري: محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تح: مصطفی دیب، دار بن كثير، دمشق، ط 3، 1403 ه.

3. البيهقي: احمد بن الحسين، السنن الكبرى، تح: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 3، 1424 ه - 2003 م.

4. التويجري: عبد العزيز بن عثمان، الإسلام والتعايش بين الأديان في أفق القرآن الحادي والعشرون، منشورات المنظمة العربية الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو - 1419 ه.

5. الجصاص: أحمد بن علي، أحكام القرآن، تح: عبد السلام محمد علي، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1405 ه.

6. الحكيم: محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 4، بيروت، 1422 ه - 2001 م.

7. ابن حنبل: أحمد، مسند أحمد بن حنبل، تح: شعیب الارناؤوط - عادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 ه - 2001 م.

8. زاويتي: محمد، التعايش بين الأديان، كيف ولماذا؟ مقال منشور بتاريخ 28/ 2011/12م، موقع: معاً لبناء السلام: .http://www.tfpb.org

9. الزبيدي: محمّد بن محمّد بن عبد الرّزاق الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تح: علي شيري، دار الجديد للطباعة والنشر والتوزيع، بلا.

10. الشيرازي: ناصر مكارم، الأمثل في تنزيل كتاب الله الأمثل، ترجمة ونشر مدرسة

ص: 475

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قم، 1426 ه. ق.

11. الصدوق: محمد بن علي الحسين، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامية، صححه وعلق عليه: علي اكبر الغفاري، منشورات: جماعة من المدرسين في الحوزة العلمية قم، ط 3، 1413.

12. الطباطبائي: محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1997 م.

13. الطبرسي: حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تح: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1، 1408 ه.

14. الطبري: محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، راجعه وصححه وضبطه نخبه من العلماء، 1879 م.

15. الطوسي: محمد ابن الحسن، تهذيب الأحكام، تح: حسن الموسوي الخراساني، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365 ه.

16. العاملي: محمد الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تح: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، 1414ه.

17. العسكري: أبو هلال، الفروق اللغوية، تح: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط 1، 1412 ه.

18. ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، دار الفکر، ط: 1399 ه - 1979 م.

19. الفضلي: عبد الهادي، الإسلام والتعدد الحضاري بين سُبل الحوار وأخلاقيات التعايش، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ط 1، بيروت، 2014 م.

20. الفيشاوي: سعد، المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007 م.

21. القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي (علیه السلام)، ط 1،، بیروت:

ص: 476

درا البلاغة، 1413 ه.

22. الكليني: محمد بن یعقوب، الكافي، صححه وعلق عليه علي اکبر الغفاري: دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1365 ه.

23. المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، بیروت، دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1403 ه.

24. مجموعة من أساتذة معهد الفلسفة وأكاديمية العلوم بالاتحاد السوفيتي، مشكلة الحرب والسلام، ترجمة: شوقي جلال وسعد رحمي، دار الثقافة الجديد، مصر، بلا ت.

25. إبراهيم: مصطفی و مجموعة من العلماء، المعجم الوسيط، دار النشر: دار الدعوة تح: مجمع اللغة العربية.

26. ابن منظور: محمد بن مکرم، لسان العرب، دار صادر، بیروت، لسان العرب، ط 1.

27. ابن هشام: أبو محمد عبد الملك، السيرة النبوية، تح: طه عبد الرؤوف، دار الجيل، بیروت، ط 1، 1411 ه.

ص: 477

ص: 478

المحتویات

المردود السلبي لتقريب الخواص (قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه))

أولا: طبقة الخواص في القرآن الكريم...7

ثانيا: خاصة مالك بين واقعية التواجد وإيحاءات التجربة التاريخية...13

ثالثاً: الخاصة والصورة الضمنية للمصداق السلبي في تجربة الحكم الإسلامي...18

رابعا: حكم الأكفاء ومنظار الصفات المؤهلة للقيادة...26

الخاتمة...27

الهوامش...30

المصادر...34

الجوانب التربوية والاجتماعية ودلالاتها في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (العدالة والانصاف والمساواة) أنموذجاً

ملخص البحث...41

المبحث الاول...45

مشكلة البحث:...45

اهمية البحث...46

اهداف البحث: يهدف البحث:...48

حدود البحث...49

تحديد المصطلحات:...49

ثانيا: العدالة الاجتماعية...50

ثالثا: المساواة...50

ص: 479

رابعا: الإنصاف...50

اصطلاحا: هو الشعور التلقائي الصادق بما هو عدل او جور...50

المبحث الثاني: منهج البحث واجراءاته...51

منهج البحث (Method of Research)...51

عينة البحث: Sample of Research...51

اداة البحث: Tools of Reasearch...52

تطبيق اداة البحث:...53

الوسائل الاحصائية: (Statistical Means)...54

اعتمدت الباحثتان الوسائل الاحصائية الاتية:-...54

المبحث الثالث: نتائج البحث ومناقشتها...54

عرض النتائج:...54

التوصيات:...57

المقترحات:...58

المصادر:...58

ملحق(1)...59

القواعد الاخلاقية والخصائص السلوكية الواجب توفرها في شخصية من يتولى الامصار الاسلامية من خلال عهد الامام علي (علية السلام) لواليه مالك الاشتر

المقدمة...67

المبحث الأول: نظرة عامة على الاوضاع التاريخية ابان تسلم الامام على (علية السلام)...69

الخلافة الراشدة (30/ 61 ه - 661/655 م)...69

المبحث الثاني: القواعد الاخلاقية والقيم السلوكية الواجب توفرها في ولاة الدولة الاسلامية في ضوء عهد الإمام (علية السلام) لمالك الاشتر...76

اولا: تقوى الله والاتعاظ بالتاريخ...78

ص: 480

ثانيا: امتلاك الهوى وعدم اطاعة الرغبات...80

ثالثا: انصاف الناس من النفس...81

رابعا: ستر عيوب الناس...82

خامسا: الوفاء بالعهد...85

سادسا: قواعد وضوابط اخلاقية وشخصية اخرى...86

الخلاصة...89

قائمة المصادر والمراجع...91

الهوامش...91

الوفاء بالعهد أس من أُسٌّ بناء الدولة والمجتمع

بين يدي البحث...105

الوفاء بالعهد في الجاهلية:...107

الوفاء بالعهد في الإسلام:...109

الوفاء بالعهد أمان للعباد:...114

شروط صحة العهد:...115

خاتمة البحث...119

الهوامش...120

فهرس المصادر والمراجع...122

القيادة التحويلية عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) (دراسة تحليلية)

تعريف بالبحث...127

المقدمة:...127

أهمية البحث:...128

أهداف البحث:...130

ص: 481

حدود البحث:...130

منهج البحث:...130

التعريف بمصطلحات البحث:...131

أولاً- القيادة ((Leadership: عرفها كل من:...131

ثانياً- القيادة التحويلية :(Transformational Leadership)...132

اطار نظري...133

القيادة في اللغة:...133

القيادة في الإسلام:...133

مفهوم القيادة التحويلية ومكوناته:...135

أبعاد القيادة التحويلية:...139

صفات وخصائص القائد التحويلي ومهاراته:...143

النظريات التي فسرت القيادة التحويلية:...144

دراسة القيادة التحويلة في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر:...148

مدى الإفادة من النمط القيادي التحويلي للإمام علي (عليه السلام) في إدارة شؤون الدولة والمؤسسات بما يتماشى مع الظروف الراهنة...159

التوصيات:...162

المقترحات:...163

المصادر العربية...164

المصادر الأجنبية:...166

من روائع عهد الإمام علي (عليه السلام) (فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (أنموذجاً) دراسة وتحليل

المطلب الأول: معايير التفضيل بين البشر...171

أولاً: التقوى...172

ثانياً: العلم...173

ثالثاً: الاخلاق...174

ص: 482

المطلب الثاني: الاعتراف بإنسانية الإنسان...175

أولاً: الاختبار الإلهي...176

ثانياً: إدراك عظمة الخالق...176

ثالثاً: إثراء التجارب...177

رابعاً: معرفة قيمة التعايش...177

المطلب الثالث: حدود الاعتراف بالآخر...177

أولاً: الإرادة الصلبة...178

ثانياً: محورية بلد المقدسات (العراق)...178

المطلب الرابع: الحوار من مقتضيات تصنيف أمير المؤمنين (عليه السلام)...179

الخاتمة:

الهوامش...183

أهم المصادر والمراجع:...185

العدالة الاجتماعية في ضوء عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر. ((الطبقة السفلى أنموذجاً))

المقدمة...189

المبحث الأول: ماهية العدالة الاجتماعية وأسسها وكيفية تطبيقها...191

المطلب الأول: ماهية العدالة...191

أولا: العدالة لغة:...191

ثانياً العدالة اصطلاحاً:...191

المطلب الثاني: أسس العدالة الإجتماعية:...194

1- المساواة:...194

2- التوزيع العادل للثروات:...195

3- احترام حقوق الإنسان...196

4- التكافل الاجتماعي:...196

5- وجود الحاكم العادل:...197

ص: 483

المبحث الثاني: طبقات الرعية والعدالة الاجتماعية بأصناف الطبقة السفلى...200

وتوصيات الإمام للراعي...200

المطلب الأول: طبقات الرعية...200

إرضاء العامة...202

المطلب الثاني: العدالة الاجتماعية بأصناف الطبقة السفلى...203

وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن...207

المطلب الثالث: وصايا الإمام ع بحق الطبقة السفلى...207

وهذه جملة من وصاياه (علیه السلام):...207

أما الوصايا الخاصة بالطبقة السفلى إضافة إلى ما ذكر...214

لقد حذر الإمام (عليه السلام) الوالي من أمرين...215

الخاتمة والتوصيات:...216

جملة من التوصيات:...217

فهرست الهوامش...219

فهرست المصادر...221

الامن الاجتماعي و وسائل تحقيقه في ظل عهد الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه لمالك الاشتر رضوان الله عليه

مفهوم الأمن الاجتماعي...228

الخاتمة والاستنتاجات...252

الهوامش...255

التعايش السلمي (دراسة في المأثور عن الإمام علي (عليه السلام)في عهده لمالك الأشتر)

المقدمة:...261

التمهيد...263

(التعايش السلمي) لغة واصطلاحاً...263

ص: 484

التعايش لغةً:...263

السلم لغةً:...263

التعايش السلمي اصطلاحاً:...263

الوالي مالك الأشتر (رضي الله عنه):...266

التعايش السلمي عند الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر:...268

قوله (عليه السلام) لمالك في التعايش السلمي وتفضيل السلم على القتال:...275

ماذا نجني من السلام والتعايش السلمي:...279

حقوق الرعية لجميع الشرائح والأديان:...281

الخاتمة:...286

الهوامش:...287

المصادر والمراجع:...290

ذوو الاحتياجات الخاصة وفئاتهم في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...297

المبحث الاول: مفهوم ذوو الاحتياجات الخاصة وفئاتهم...299

التسمية:...308

المبحث الثاني: مصطلح ذوي الحاجات في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر رضوان اللہ علیه...315

فئات ذوي الاحتياجات في وثيقة العهد:...318

وقد قسَّم الامام فئات ذوي الاحتياجات على النحو التالي:...322

الخاتمة...331

المصادر...334

الهوامش...341

ص: 485

القيم السلوكية والمحددات النفسية في ضوء عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في رسالة مالك الاشتر (رضوان الله عليه)

ملخص البحث...355

المقدمة...357

اهمية البحث والحاجة اليه...360

هدف البحث:-...365

حدود البحث:-...365

تحديد المصطلحات:-...365

1- القيم السلوكية...365

2- المحددات النفسة...366

3- عهد الامام علي (عليه السلام)...366

4- الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)....367

5- مالك الأشتر (رضي الله عنه)...367

الاطار النظري للبحث...368

عرض النتائج...372

التوصيات...373

المقترحات...373

قائمة المصادر...374

القيم الاجتماعية المستوحاة من رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه)

المقدمة...381

مفهوم القيم الاجتماعية...383

القيمة الاجتماعية في وصية علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر...384

القيمة الاولى: التقوى...384

ص: 486

القيمة الثانية: كبح الشهوات...133

القيمة الثالثة: العمل الصالح...386

القيمة الرابعة: الرحمة والمحبة...387

القيمة الخامسة: الأخوة والإنسانية...387

القيمة السادسة: العفو والتسامح...388

القيمة السابعة: التواضع ونبذ التكبر...388

القيمة الثامنة: العدل...389

القيمة التاسعة: الابتعاد عن سوء الظن...390

القيمة العاشرة: الصدق...390

الخاتمة...391

الهوامش...392

المصادر...395

الطبقات الاجتماعية في فكر الامام علي (عليه السلام) - الفقراء انموذجاً - قراءة في نصوص العهد الى مالك الاشتر

المقدمة...399

المبحث الاول: مفهوم الطبقات الاجتماعية...400

المبحث الثاني: الطبقات الاجتماعية في فكر الامام علي(عليه السلام) من خلال بنود عهده الى مالك الاشتر...404

المبحث الثالث: الفقر من منظور الامام علي(عليه السلام):...412

المبحث الرابع: الفقر أسبابه وسبل مكافحته لدى الامام علي (عليه السلام) (من خلال بنود العهد الى مالك الاشتر)...415

الخاتمة...420

هوامش ومصادر البحث...422

ص: 487

أصول التعايش السلمي دراسة استنباطية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...431

المبحث الأول: التعريف بمفردات العنوان...432

أولاً / تعريف الأصول لغة واصطلاحا:...432

ثانيا/ تعريف التعايش السلمي لغة واصطلاحا:...433

1- التعايش السلمي لغة:...433

2- التعايش السلمي اصطلاحا:...434

ثالثا/ تعريف الاستنباط لغة واصطلاحا:...435

1- معنى الاستنباط في اللغة:...435

2- الاستنباط في الاصطلاح:...435

المبحث الثاني: التعايش في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية...436

1- التعايش في ضوء القرآن الكريم:...436

2- التعايش السلمي في السنة النبوية...438

حيث قامت الوثيقة بين أهل المدينة على عدة قواعد نكتفي بذكر قاعدتين منها...439

المبحث الثالث: أصول التعايش السلمي من خلال العهد المبارك...442

المبحث الرابع: تطبيقات التعايش السلمي في المجتمع المسلم...458

1- التعايش الديني:...458

2- التعايش الأخلاقي القيمي:...459

3- التعايش والحوار:...461

4- التعايش مع المنافقين:...462

5- التعايش في المعاملات الدينية:...464

6- التعايش في الجانب الاقتصادي:...465

النتائج:...468

التوصيات:...469

الهوامش...470

قائمة المصادر والمراجع...475

ص: 488

المجلد 6

هوية الکتاب

أعمال

المؤتر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1211 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشرة: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1211 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشرة: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1)

أعمال

المؤتر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسه و نهج البلاغة ومركز دراسات الكوقة

لسنة 1438 ه - 2016 م

(المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان)

الجزء السادس

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني :

WWW.inahj.org

الايميل:

Inahj.org@gmail.com

الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشر (رحمه الله).

الجهة الراعية للمؤتمر: الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 23 - 24 من شهر ربيع الأول

من العام 1438 ه.

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1211 لسنة 2018 م

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات: 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة: مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

الآثار الدّنيويّة للأعمال في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

د.عبّاس إسماعيل الغراويّ

ص: 5

ص: 6

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى ابن عمِّه سيد الوصيين وإمام المتقين، والسلام والتحيات على العترة الطاهرة الأئمة المنتجبين، وبعد.....

تمرُّ على الأمة الإسلاميّة في هذا الوقت ضغوطٌ داخليّة وخارجية، أبرزها التمويه على حقيقة الإسلام؛ فقد ادّعاه من هم أبعدُ الناس عنه، فصار الإسلام مفهومًا يتنازعه أهل الحق والباطل متأرجحًا في نسبته بينهما، ولكن غرابيل الباطل إنْ غیّبتْ وجهَ الشمس فانّها تبقى غرابيل، وهكذا ولله الحمد فإنّ العين البصيرة يمكنها التّمييز ورؤية الحقيقة؛ ليعود الإسلام الحقيقي إلى سنام القيادة بين الحين والآخر بالرغم من كل الهجمات. ولأجل أنْ يأخذ مكانه الحقيقيّ دومًا كان لا بد من تداول مناهج رؤسائه الحقيقيين المتمثلة بالنّبي وآله (عليهم الصلاة والسلام)، ويأتينا نهج الإمام المرتضى (عليه السلام) نهجًا ناصعًا في سبيل إحياء الحق، ففيه ما فيه من كنوز تُزیّنُ وجهَ هذا الزّمان وكل زمان بالحقيقة الغرّاء.

وأرى أنّ من الأمور التي لم يُشَرْ إليها في ذلك النّهج هو أنّ وراء ما نعمل من أعمال تأثيرات دنیويّة فضلًا عما لها من جزاء أخرويّ، ولعل أغلب النّاس إذا أدرك أنّ وراء ما يفعله من عمل جزاءً عاجلًا فانّه سوف يتوانى عن ارتكاب ذلك الفعل، وقد أبان الإمام في كلامه المجازاة الدنيويّة على ما نعمل لأجل اجتنابها، فحتى الدنيا التي يظنها الإنسان المُنکِر محلَّ سُعداهُ قد تعود عليه بالويلات إذا ارتكب المحذرورات.

ومن هنا وفي الوقت الذي ابتعد فيه كثير من الناس عن خط الإسلام الحقيقيّ باتت

ص: 7

الضرورة في التذكير أمرًا لا بدّ منه، وربّما في هذا العمل شيء من التساؤلات التي تُطرح: لماذا هذه التعاسة مع ما لدينا من مال وفير؟ لماذا هذا البلاء؟ لماذا تلك المصيبة؟...

أن السعادة الحقيقة تكمن في معرفة الإسلام الصحيح وتطبقيه بصورة صحيحة، وهو ما حرص عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه وأفعاله حتى رأينا نهج البلاغة أشبه بصيدليّة مجانيّة تنفع النّفس، وتريح الإنسان، وتبني مجتمعًا رفيعًا رائعًا نظيفًا من الشوائب المكدرة للحياة، يقول بعضهم: ((وما نراه في عصرنا الحاضر من أمراض عضويّة كثيرة كالسكتة القلبيّة والدماغيّة والإصابة بمرض السّكر وضغط الدم وقرحة المعدة والأمعاء وأمراض السرطان المختلفة وأمراض الدّم والقلق والاضطراب النّفسيّ والأرق الشّديد ما هي إلا إفرازات طبيعيّة لمشاكل العصر التي كبّلت الإنسان المعاصر بمختلف الأمراض النفسيّة؛ لذا يجب علينا أنْ نهتمّ بهذا الجانب الحيويّ ونتبع إرشادات وتعاليم ومواعظ الإمام علي (عليه السلام)))(1) المتجلية في خطاباته الرائعة؛ لذا كان هذا البحث: (الآثار الدنيوية للأعمال في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)) والاكتفاء بهذا العهد من كلامه (عليه السلام) كونه أنموذجًا صالحًا يمكنه الإدلاء بتلك الآثار، ويمكنه أن يترجم أنه لأجل الحصول على الآخرة فعلينا بنهج أمير المؤمنين، ولأجل الحصول على الدنيا فعلينا بنهج أمير المؤمنين.

وقد قسم البحث على مبحثين وخاتمة بينت أبرز النتائج.

أبان المبحث الأول الآثار الدنيوية للأعمال الصّالحة، وأعرب عن أنّ الإثابة لا تتوقف على المستوى الأخروي؛ ففي الدنيا أيضًا يكون شيئًا من تلك الإثابة، فالله واسع الرّحمة عظیم المنال، کریم بعباده.

أما المبحث الثاني فأعرب عن الآثار الدنيويّة للأعمال السّيئة، وقد كشف عنها مستفيدًا من القرآن الكريم والسنّة والتّراث التّاريخي في تثبیت مفاصل المبحث.

ص: 8

والبحث إذ يؤيد أن البلاءات قد تكون بسبب من أعمالنا فهذا لا يعني التّعميم، بل المراد انها قد تكون سببًا، وليس من الضرورة أنْ يكون وراء كل بلاء نوع من الآثام، فالله قد يختبر عباده لا لأجل أخطائهم، وانما لأجل اصطفائهم، والله في أمره شؤون.

وهناك نقطة مهمة في البحث، وهي أنه اعتمد الإيجاز بسبب ضيق المقام، وطلبًا للتسهيل ومن هنا كان يحيل على الدراسات الأخرى ويكتفي ببعض الأمثلة، وقديمًا قالَ الجاحِظُ (ت 250 ه): ((وقد يُكتَفى بذِكْرِ القَليلِ حتّى يُستدَلَّ بهِ على العنايةِ الّتي إليها يُجْرى))(2).

ونقطة أخرى أرى فيها أهمية بالغة، وهي أن هذا العهد المبارك وإن كان موجهًا إلى (مالك الأشتر) إلا أنّ المراد كل من تسیّد أو نُصِّبَ على جماعة بدليل قوله (عليه السلام) للأشتر: ((لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا))(3)، فكلنا ندرك أنْ مالكًا وإنْ قيل له ذلك فهو ممن ليس يتبع الهوى، فقد رآه الامام وجربه تلك السنين وعرف صدقه، ولكن هذا من باب (إيّاك أعني واسمعي يا جاره)(4)، ويؤيد ذلك قول أمير المؤمنين نفسه في مالك حين جاءه (عليه السلام) خبر مقتل مالك (رضوان الله عليه) بالسم؛ إذ قال: ((مَالكٌ وَمَا مَالِكٌ! وَاللهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً، [وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً] لاَ يَرْتَقِيهِ الْافِرُ، وَلاَ يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ))(5)، والفند هو الجبل العظيم كناية عن مكانته ورفعته وتقدمه على الآخرين في السلوك القويم والخصال الحميدة. ومن هنا لقد كان الإمام في كتابه هذا موجهًا كلّ من يتلقى هذا الكلام العظيم ممن يستحق عليه الوقوع في (الهوى) فعلا. فالعبرة اذن في عموم اللفظ لا في خصوصه، وبهذا يكون الكلام أكثر تأثيرا في المتلقي، فالخطاب غير المباشر يكون أكثر قبولًا وامتثالًا من المباشر بحكم أنّ النفس تأنف من القيودات الإرشادية إذا تعلق الأمر بها مباشرة، وكأنها على خطأ، لكن اذا كان ذلك

ص: 9

الخطاب موجها إلى غيرها، فانّها ستمتثل خصوصًا إذا كان المخاطب ممّن قد علا شأنه بين الناس على النحو من مالك الأشتر أو على النحو من الإمام الحسن (عليه السلام) مثلما بيّن في هامش سابق.

وأخيرا ختم البحث بخاتمة بيّنت أبرز النّتائج التي وصل إليها البحث مع اقتراح ما يمكن الاستنارة منه من جراء البحث.

وختامًا نقول: ربنا اجعل هذا العمل خطوة في سبيل الوصول إلى طريق الذين «دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (سورة يونس: 10).

المبحث الأول: الآثار الدنيوية للأعمال الصالحة

يتباین مفهوم السعادة بحسب المرجعية المعرفيّة للإنسان، فالمسلم الحقيقيّ يراها تكمن في الآخرة مع أنّه لا ينسى نصيبه من الدنيا، ويراها المادّيّ انها مقتصرة على السعادة الدنيوية، وفي جميع الأحوال فالدنيا قد تكون عامل مشترك بين الرؤيتين، وإن اختلفت كيفية الرؤية، وأيا كان الأمر فإننا نجد الأعمال الصالحة تهيئ له ذلك المبتغى في الدنيا فضلا عن الآخرة.

يمكن القول: إنه لا شك أن السعادة الحقيقية هي التي لا تجعل صاحبها يندم، بل توفر له العيشة الهنيئة وراحة البال في قادم أيامه، وهو ما نراه في اقتناء سبيل الإسلام ؛ فهو لا يؤكد الفضل الأخروي دون الدنيوي، بل يؤكدهما معا.

إن لكل عمل صالح يقوم به الفرد أثرًا على ذلك الفرد ويحقق له مقدارا من السعادة، فهو يأخذ بيده نحو الحياة الكريمة، وإن لم يشعر بذلك، ومن هنا قد نرى أنّ المؤمنين الخُلَّص يعيشون بسعادة مع ما فيهم من بلاء وعناء، يقول الإمام علي (عليه السلام) في مقدمة عهده

ص: 10

إلى مالك الأشتر: ((أمرهُ [أي إنّ أمير المؤمنين أمر مالكًا] بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها))(6)، فالسعادة كلّ السعادة تكون باتباع التقوى، ف ((لو أن العالم عرف التقوى وقام بواجبها لانطفأت ثورة الشرّ، وساد السلام في ربوعه))(7)، فبالتقوى تتجسد ((روح الأخوة العامّة في كل العلاقات الاجتماعيّة بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط، فا دام الله سبحانه وتعالى واحدًا ولا سيادة إلّا له، والنّاس جميعًا عباده ومتساوون بالنّسبة إليه، فمنَ الطّبيعي أنْ يكونوا أخوةً متكافئينَ في الكرامةِ الإنسانيّةِ والحقوقِ كأسنانِ المشط... ولا تفاضلَ ولا تمييزَ في الحقوق الإنسانيِة))(8)، هكذا هو ما تعمله التقوى في أهلها، إنّنا بالتقوى نكون قد امتلكنا المفتاح الأوحد الّذي يفتح مغاليق السّعادة للفرد(9)، وبوسائلها: الصّلاة والصّوم والزّكاة... يعود الفرد بالسّعادة المطلقة لا في الآخرة فقط بل حتى في الدنيا، فلا تكترث لإنسان يعيش خليعًا منها وهو يدّعي أنّه سعيد، بل هو تعيس من الداخل وإن ادّعى ما ادّعى.

نعم ان الفرائض (الصلاة والصوم والزكاة...) والسنن مليئة بالجواهر التي تبعث على السّعادة والطمأنينة، ونأخذ من ذلك نماذج على سبيل التمثيل لا الحصر طلبا للإيجاز.

لقد حصر الإمام السعادة بها فقط؛ فقال (عليه السلام) : ((لا يسعد أحد إلا باتباعها))، فمثلا الصّلاة عمود الدين وهي أيضًا عمودُ السّعادة الدنيوية بفوائد تصعب الإحاطة بها(10)، فمن فوائدها:

1 - انها ذات فائدة نفسيّة للفرد؛ إذ إنّ تاركها يعاني من الضجر اللاإرادي، ان الصلاة كفيلة بإراحة مؤدّيها، فهي موطن الذّكر الله تعالى وذكره (عز وجل)سبب الاطمئنان، قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد: 28).

2 - انها تبعث على قوة الشخصية؛ فهي ((تخلق الإرادة والعزة والكرامة والحرية في

ص: 11

النفس؛ فالمصلي حينما يتوجّه إلى الله في صلاته، ويقول: (الله أكبر) يسجّل ضآلتهُ وضآلةَ كل قوة في هذا الوجود أمام قوة الله تبارك وتعالى))(11)، وذلك كفيل بخلق إنسانٍ صالحٍ قادرٍ على النّجاة من وساوس الشيطان شريطة أنْ يكون مستمرًّا في خشوعه بصلاته، وأنْ لا تكون كنقر الغراب؛ وذلك لأن ((الصلاة هي الاصرار الواعي والمعالجة المستمرة للنفس البشرية من أجل أن تتحرر من الاستغراق في المتاع القريب وتوسع أفقها الزماني والمكاني لتكون على مستوى حاجاتها الفعلية والمستقبلية، على الأرض وفي الآخرة، إنها استمداد المحدود من المطلق حياة وسعة في أبعاد ذاته وزمانه ومكانه. وهي بالتالي ظاهرة من معالم الحضارة المتميزة التي يدعو الإسلام لبنائها على الأرض ممتدة بأفقها إلى جميع الناس وإلى مستقبل الأجيال على الأرض، ومستقبل الناس في الحياة والآخرة))(12).

بل ينبغي بنا ان ندرك ان الفضل لكل مكونات الصلات سواء أكانت أركانا أم غير أركان وحتى لملحقات الصلاة، فهذه لها ما لها من جنبات صحية مفيدة للجسم، فهناك ((الاستيقاظ المبكر وعلاقته بصحة الرئة ونقاء الدم. والنوم المبكر وعلاقته بصحة الجسم بشكل عام. والتطهر بأنواعه وعلاقته بصحة الجسم بشكل عام. والسواك المستحب قبل كل وضوء وعلاقته بصحة الفم والمعدة. والاستنشاق المستحب قبل كل وضوء ثلاث مرات وعلاقته بصحة الأنف والرأس. وغسل الأطراف وعلاقته بصحة الأطراف والجسم. والوقوف للصلاة باطمئنان وعلاقته بصحة الأعصاب والركوع الذي يتكرر في الأقل 17 مرة يوميًّا وعلاقته بصحة العمود الفقري وجهاز الهضم. والسجود الذي يتكرر في الأقل 34 مرة يوميًّا وعلاقته بصحة الجهاز الهضمي ودورة الدم في الرئة والرأس. والسجود على الأعضاء السبعة الجبهة والكفين والركبتين وإبهامي الرجلين وعلاقة ذلك بصحة الشرايين. وجلسة التورك المستحبة في الصلاة، وهي أن يجلس المصلي

ص: 12

على فخذه الأيسر واضعا ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وكراهة الجلوس على القدمين. وعلاقة ذلك بسلامة الفقرات والجهاز الهضمي. وكراهة افتراش الساعدين حال السجود (کما تجلس السباع) وعلاقته بشرايين وعضلات الأطراف))(13).

هذا الأمر مع الصلاة أما إذا جئنا الى الصيام فهو كذلك يفيد كثيرا في الدنيا مثل ما هو مفيد جدا لنيل أجر الآخرة، فهو علاج عند نزول المصيبة، ف((عن أبي عبد الله (علیه السلام)...قال: إذا نزلت بالرجل النازلة والشديدة فليصُمْ؛ فإن الله (عز وجل) يقول: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ» يعني الصيام))(14)، فهذه شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) في أن الصوم به تفتح المصائب، فهو المنفذ الذي يهرع اليه صاحب المصيبة، فالله سيخففها، بل يميحها بفضل صيامه.

ولا يكتفي الامر بحل المصائب، بل الصوم طريق لتقوية الإرادة، وقد أدرك ذلك ممن ليسوا هم على طريق الإسلام، يقول العالم الفرنسي جبهاروت: ((إن رجال الدين أدركوا تأثير الصوم في تقوية الإرادة وسلامة الإنسان من سيطرة حواسّه، فجعلوا الصوم في مقدمة رياضاتهم، ونحن قد وجب علينا - لتقوية إرادتنا - أنْ نمارس الصوم، إذ قد ثبت تأثيره في ذلك فيما لا يستطيع دحضه، وناهيك هذا من سعادة في الحياة وسبب لنيل أقصى غايات المجد))(15)، ها هو يؤكد فضيلة الصوم في تحقيق السعادة وفي نيل المجد.

بل ان في الصيام زيادة الطمأنينة الروحيّة وانتشار الألفة بين العوائل والأصدقاء، وبه تقل المشاكل الاجتماعية(16).

الفوائد الاجتماعية والنفسيّة للصوم وهناك فوائد فكريّة وتنويرية، فقد نقل أن الفرد: ((إذا صام جفّت الرطوبات التي هي علة النسيان والبلادة وقلة الفهم... فإذا صام وجاع وعطش زاد فهمه وحفظه... وذهب عنه الكسل في العبادة وخفّ جسده لفعل الطاعات وانكسرت نفسه عن الشهوات والخصال الذميمة كالحسد والغضب

ص: 13

والشهوة والتكبر والبغي والعدوان وطول الأمل ونسيان الموت والآخرة))(17).

وهناك أيضا فوائد صحية كثيرة للصوم ترجمها قول النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله): ((صوموا تصحوا))(18)، أي تحقيق الصحة بصورة مطلقة ولشتى الأمراض حتى يمكن القول: إنّ الصوم هو الجرعة الوحيدة التي تنفع لعلاج مئات الأمراض، يقول الأستاذ عبدالرزاق نوفل: ((إن الصوم يذيب أيّة أورام صغيرة في أوّل تكونها، ويمنع تكوين الحصوات والرواسب الجيرية؛ إذ يحللها إلى أجزاء صغيرة))(19)، ها هو علاج بلا مواد كيمياوية أو أدوات تشريحية أو مسكنات، إنه علاج بلا ثمن ولا آثار جانبيّة.

ويقول العلامة الشيخ محمد علي الزهيري: ((إن الصيام يصفي الدم من الفضول المضرّة ويعين (الهاضمة) ويريحها في عملها المتواصل، ويجفف الرطوبات من المعدة وغيرها من الجسد ويُخرج من العضلات والأعضاء والأغشية والشرايين والأوردة وجميع أجزاء البدن كل ما يعيقها عن عملها))(20)، فها هو طبيب داخلي يعالج من دون أن نشعر.

ويقول الدكتور محمد الظواهري: ((إن كرم رمضان يشمل مرض الأمراض الجلديّة؛ إذ تتحسن بعض الأمراض الجلديّة بالصوم... إذ إن الامتناع من الغذاء والشراب مدة ما تقلل من الماء في الجسم والدم، وهذا بدوره يدعو إلى قلته في الجلد، وحينئذ تزداد مقاومة الجلد للأمراض الجلدية المعدية والميكروبية))(21).

نفهم مما سبق أن الصوم طبيب داخلي من جهة ومن جهة أخرى فهو ليس مختصا بمرض واحد بل بأمراض متعددة، يقول الأستاذ ملفادن: ((ان تسعين بالمئة من الأمراض التي تنتاب الجنس البشري يمكن اتقاء شرها بواسطة الصوم))(22)، ومن هذه: خفض ضغط الدم وخفض نسبة السكر والدهون في الجسم وتخفيف أعراض عجز القلب ويقلل حساسية الأمعاء للمواد الغذائية ويساعد على سقوط الديدان من الأمعاء

ص: 14

ويعمل على خفض نسبة اليوريا في الدم وهو استراحة مؤقتة للجهاز الهضمي وفيه فائدة انه يخفض ارتفاع ضغط العين (الماء الأسود)، ويقلل سلس البول، ويساند في الوقاية من مرض تصلب الشرايين بسبب انخفاض نسبة الدهون في الدم، ويفيد في علاج التهاب القولون وعلاج التهاب المعدة والمريء وعلاج التهاب الكلية المزمن الحابس للصوديوم وغير ذلك كثير من الفوائد الصحية(23).

ولا يقف الامر على الصلاة والصوم بل كذلك مع العبادة المالية (الزكاة والخمس)، فإذا ما جئناها وجدناها خير علاج لمعالجة الفقر(24) علاجا يندر ان نجد مثله عند الآخرين، فهي عندنا سبب للرزق، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((فَرَضَ اللهُ الايمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ))(25)، بل ان هناك روايات كثيرة تؤيد أن فضيلة الانفاق تعود على صاحبها بالرزق الوفير؛ فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال ل ((محمد ابنه: يا بني، كم فضلَ معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون دينارا، قال: اخرج فتصدق بها، قال: إنه لم يبق معي غيرها، قال: تصدق بها فان الله يخلفها، أما علمت أن لكل شيء مفتاحًا، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدق بها، ففعل فما لبث أبو عبد الله (عليه السلام) عشرة أيام حتى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: يا بني، أعطينا لله أربعين دينارا، فأعطانا الله أربعة آلاف دينار))(26)، ويذكر السيد دستغيب أكثر من رواية تبين الفضل الدنيوي للإنفاق في الدنيا قبل الآخرة(27).

ان الانفاق سبيل لتحقيق الكرامة الاقتصادية بين أطياف المجتمع، ولا شكّ أنّ ((الكرامة الاقتصاديّة تورث الكرامة الاجتماعيّة))(28)، إي إنّه بما يحصل عليه الفقراء أموال سيعملون به على توفير مستلزماتهم، فيغدون لذلك طبقة مثمرة في المجتمع، وهذا يقود الفقير أو المسكين إلى أن يكون إنسانا حيويًّا. أما إذا ترك الفقير من دون عَوِن

ص: 15

فإن هذا أول التعطيل لفئة كبيرة في المجتمع، بل ربّما كان فقرُ الفقير في المجتمع سببًا لأنْ يقوده إلى أنْ يكون إنسانًا عدائيًّا، والعدوانيّة هذه تنعكس على سائر طبقات المجتمع فانعدام الأمن يقود إلى انعدام الرزق وتوقف السوق، بل توقف التقدم، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ» (البقرة: 126)، فقدّم الأمن على الرزق؛ لأنّ الثاني يقوم على تحقق الأول. إن شيوع الأمن يعني شيوع الحياة. وذلك لأن مساعدة الفقراء والمساكين لا تقف على الفرد المساعَد فقط بل على البلد برمته؛ لذا وجب على البلد الذي يريد ان يكون عزيزًا مصائًا قويًّا مقدرًا وجب عليه أن يعتني بالطبقة المعدمة من الارامل والايتام والمساكين.

ولا ننسى أن فضل انفاق المال بالزكاة أو الخمس انما فائدته للارض بانها ستكون معطاءة، فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((وجدنا في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة وإذا طففت المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثار والمعادن كلها))(29).

وهكذا الأمر مع سائر الفرائض والسنن كالحج(30) مثلا، فكلها فوائد بفوائد للفرد وللمجتمع الإسلامي، ونكتفي بهذا المقدار في تحليل قول أمير المؤمنين بوجوب ((اتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها))، فهذا الشطر وحده بحاجة إلى مؤلف، بل إلى مؤلفات ومؤتمرات، تتمركز في بيان فضل الفرائض والسنن.

ونتحول إلى حديث آخر للإمام يعطينا به (عليه السلام) قاعدة عامة في التعامل مع الناس وخصوصًا ممن هم تحت سيطرتنا أو تصرفنا، يعطينا الإمام قاعدة نجني في تطبيقها أكناف الرحمة فنعود نرفل بالهناء والسرور؟ هذه القاعدة تتمركز في أن نحتمل

ص: 16

ما يصدر من تلك الطبقة الدُّنيا من خرق أو عيّ وعلينا أنْ لا نتضايق منهم أو أنْ نأنف، وعندها سنكتنف رحمة الله على مصراعيها، فها هو (عليه السلام) يقول لمالك، ويعني بمالك كل من يسمعه من ذوي السلطة وأنى كانت تلك السلطة، يقول (عليه السلام): ((ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونحّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته))(31).

فعلى المعلم أنْ يعي ذلك اتجاه تلاميذه، وعلى المدير أنْ يتسامح مع موظفيه، وكذا على الضابط أن يتفهم ذلك عند تذبذب بعض جنوده، وعلى الأب أن يتوانى عن أخطاء أبنائه بعض الشيء، ولا يكون عليهم سيفا قامعًا يزهقهم من الدّنيا عند أدنى خطأ... وهكذا...

ان هذا الفعل العلوي نتيجته انك ستنجح في عملك وينجح ممن هم تحتك، بل سينجح المجتمع جميعه في الآخر. بنيل رحمة الباري (يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته).

ويقول الامام (عليه السلام) في بيان الاجر الدنيوي للصلح الذي يكون مدعمًا برضا الله يقول: ((ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك والله فيه رضى، فإنّ في الصلح دعةً لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادكَ))(32)، وهنا يبيِّنُ عاقبة الصلح المرضي لله بأنه دعة للجنود، أي راحة لهم وتسهيل عليهم، بل فيه راحة الوالي وأمن البلاد، فالبقاء على الحرب نتيجته مزيد من الخسائر للمنهزم، بل حتى للمنتصر، وهذا يدل على سعي الإسلام المتمثل برجُلِه الفذ أمير المؤمنين (عليه السلام) يدل على انه إسلام الحياة والتسامح؛ فهو لم يرد الحروب إلا إذا أجبر عليها(33) لِما للحروب من مضار ومساوئ في جميع الأحوال، فقد ثبت أنّ ((من الآثارِ النّفسيّة الّتي لا تخفى على العامّة والخاصّة من المتخصّصين لعلم النّفس والطّبّ النّفسيّ أنّ الحروب تنشر ثقافة الخوف والقلق والفرار ممّا يعطّل عند الأجيال التي تعاصر الحرب كيفيّة التّواصل مع الحياة بشكل جيّد، وقد

ص: 17

يمتدّ التأثير لبقيّة حياتِهم فيها بعد))(34)، فكيف يكونُ الأمر إذنْ مع من فقدوا عزيزًا وتُرِكوا بلا مُعيلٍ ولا والٍ؟! لا شكّ أنّ هذا يُبعد الطمأنينة من قلوبهم ويبعث على التوتُّر والاضطراب، ومن المتوقّع ((أنّ العنف الأسريّ يزداد في ظل ظروف عدم الاستقرار))(35)، ومن هنا كانت الدعوة الى الصلح اذا اكتنف رضا الله.

نخلص من هذا أنّ الأفعال الحسنة تقود إلى حياة حسنة في الدنيا وثواب وافر في الآخرة انها تقود الى السعادة في الدارين.

المبحث الثاني: الآثارالدنيوية للأعمال السيئة

ان اقتراف الأعمال السيئة ينتج طائفة من الآثار الدنيوية الطالحة التي تعود على الفرد بالمضرة الجسيمة أعاذنا الله منها، وذلك ل((أنّ التمسك بالدين وما يرافقه من استقرار روحي ونفسي له فوائد عائليّة واجتماعية لا تحصى وبالعكس فإن الابتعاد عنه سيوقع الإنسان في مشاكل اجتماعية ونفسية وصحيّة وصدق الله العظيم: «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»))(36)، (آل عمران : 182) (الأنفال: 51).

وقد مر علينا النص ((أمرهُ [أي إنّ أمير المؤمنين أمر مالكًا] بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها))(37)، أي إنّ الشقاء كل الشقاء يكون مع ترك الفرائض والسنن، فإذا كنا رأينا الصلاة قوة للنفس وللإرادة وللحياة السليمة، ورأينا الصوم مصدر السلامة النفسية والفكرية والصحية، فإنّ عكس ذلك يعني الضياع في مستويات حياتية متعددة، بل لا يقف الأمر على تارك الصلاة فهناك مضار حتى لمن تهاون بصلاته، ذكرها النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) بكلامه، فقد روي ((عن سيدة النساء فاطمة

ص: 18

ابنة سيدة الأنبياء صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وعلى أبنائها الأوصياء أنها سألت أباها محمدا (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة: ست منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره. فأما اللواتي تصيبه في دار الدنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره ويرفع الله البركة من رزقه ويمحو الله (عز وجل) سياء الصالحين من وجهه وكل عمل يعمله يوجر عليه ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين))(38)، واكتفينا بالآثار الدنيويّة التزامًا بمطلب البحث الذي يصب على الآثار الدنيويّة.

نعم لقد تبينت العواقب السيئة للمرتكب سوءا من القرآن الكريم نفسه، فقد قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» (الشورى: 30)، وقد أكد القرآن ذلك في غير موضع: «فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا» (النساء: 62) وجاء أيضا: «وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (القصص: 47).

إنّ الأعمال السّيئة بصورة عامّة مصدر التّعاسة والشقاء، ولا سيّما الأمر مع الدماء، فهي سبب ضياع الإنسان، يقول الإمام علي (عليه السلام) في عهده للأشتر (رضوان الله عليه): ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقِّها. والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة.فلا تقوينَّ سلطانك بسفك دم حرام؛ فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله))(39)، فنقمة الله على القاتل تكون في الدنيا قبل الآخرة، يعيش مهموما زائل النعمة حتى إذا كان سلطانا

ص: 19

متسلطًا فإن ذلك مما يُضعف سلطانه، وليس مثلما يتصور بعضهم أنّه بفعله هذا يديم ملكه، نعم قد يستقيم له الأمر بعض الشيء، ولكن ليس إلى الأبد، فوليّ صاحب الدم لن يسكت عن دمه، والله لن يقبل بذلك الفعل الشنيع، فربما أمهل لكنه لا يُهمل. وإذا قرأنا التاريخ رأينا أن الذين تورطوا بالدماء أن أغلبهم لم يخرج من الدنيا إلا وهو يرى نفسه بأم عينه معروضة لسفك الدماء، خذ ما حدث مع قتلة الإمام الحسين أو ما حدن الحجاج (لعنه الله) الذي عرف بشغفه بسفك الدماء، خذ ما حدث مع ابن الزيات... والقائمة تطول.

نتمنى أن يدرك الناس مغزى ذلك في هذا العصر في وقت شاعت فيه الاقتتالات العشائريّة فيما بينها في كثير من الأماكن بسبب ضعف العامل الديني، وكأنهم نسوا أن القتل لا يحرمهم من نعيم الآخرة فقط، بل حتى يبعد عنهم الرفاه في الدنيا لتؤول عاقبتهم في الآخر إما إلى التعاسة، وإما إلى مثل ما ارتكبوه وهو (القتل).

ومن الآثار الدنيوية للأعمال السيئة ما جاء في (التكبر) في قوله (عليه السلام) الذي يجسد أنّ على الإنسان أن يعرف حقيقة نفسه وأن يتعامل بها بالشيء الذي أراده الله لها، وهو العبودية لله تعالى، أما إذا أعطاها أكبر من شأنها فانّه قد وضع قدمه في الطريق الخاطئ، وعرضها للمهالك والهنات، وختم عاقبته بالفشل والمهانة، يقول الإمام (عليه السلام): ((إياك ومساماة الله في عظمته والتشبّه به في جبروته، فإن الله يذلُّ كل جبار ويهين كل مختال))(40)، هذه الرسالة لكل من تجبّر، لكل من تسنّم منصبًا ونسيَ حقيقة نفسه، وراح يتكبر ويتعالى ويختال على الآخرين، ان من كان كذلك فالذلة والمهانة سبيله. قد تقول لي إن هذا بالآخرة فقط، والجواب انا لو فتشنا التاريخ لرأينا الأغلب فيه كان الذلة في الدنيا قبل الآخرة.

زد على ذلك ان تكبره يحرمه من الإدارة النّاجحة ويمنعه من التصرف الصحيح

ص: 20

بسبب خيلائه وتغطرسه(41).

ومن الأمور السيئة التي أبان الإمام عاقبتها الدنيوية (حب المدح بغير محله)، فالنفس تستطيب لكثرة المدح بما يخالف الفطرة السليمة؛ مع أنها إذا مدحت جرّ بها هذا إلى الزهو والفتور عن أخطائها، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((والصقْ بأهلِ الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرةَ الإطراء تُحدِثُ الزّهوَ، وتدني من الغِرّة))(42)، وهذه القاعدة للأسف قليلة الاستعمال جدًّا في أمتنا، فأكثر المتسيّدين قد شجّعوا على أن يُقال فيهم كل ثناء، وبذلوا لذلك الأموال الكثيرة حتى رأينا الآن أن شعر المديح قد كان هو السائد، وانعكس هذا على الأمة جمعاء؛ إذ صارت الأمة الإسلامية ترفل بحکام مزهوین مغرورين، وقد جرّهم هذا الخلق السيئ إلى عدم إدارة الأمة بصورة جيّدة.

ومن الأخطاء التي تجرّ إلى تدهور الإدارة على جميع الأصعدة - وكان قد حذر منها أمير المؤمنين (عليه السلام) - المساواة بين المُتباينين في قيمة عملهما، وهذا يعني دمار العمل بصورة عامة؛ إذ سيميل ذلك المجد إلى التواني إذا رأى أنّ مجهوده يضيع سدًى أمامَ مديره، وأنّه قد تساوى مع ذلك المهمل، أمّا ذلك المهمل فانّه سيتجاسر على توانيه ويزداد في إهمالهِ؛ لأنّه لم يرَ أيّ نقدٍ أو عقوبةٍ، بل رأي تساويهِ مع المجدّ. والحقيقة أنّ هذا الأمر تفشّى في وقتنا الحاضر حتى أنك ترى كثيرًا من الموظفين أسوأ من الفايروس بسبب تخاذلهم، ليس همهم إلا راحتهم وإلا قبض رواتبهم. نتمنى أن يكون هناك حساب للجميع وفي جميع المجالات، وأن يكون التقييم لأجل الناتج لا لأجل المحاباة التي عجّ بها بلدنا في الوقت المعاصر، هذه النصيحة بينها أمير المؤمنين في لآلئ كلماته بقوله: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة. وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه))(43).

ص: 21

هذا ما قاله أمير المؤمنين فأين أتباع أمير المؤمنين؟ يجب أن يكون الاتباع في النهج والعمل لا في الادعاء فقط.

ومسألة أخرى يبينها أمير المؤمنين في رحاب تجنب المخاطر، وهي أنّ على الجميع عمارة الارض والاهتمام بذلك أكثر من الخراج(44)، يقول سيد الأوصياء: ((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومَنْ طلبَ الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا)).

ان التأكيد على الخراج (الضرائب) فقط تؤول عاقبته إلى دمار تلك البلاد، لا بدّ من عمارة الارض بصورة مطلقة: صناعة وزراعة وعمرانا... لا بد من ذلك، ولكن أنّي ذلك ؟! فها هم أصحاب الشأن ونحن في بلد أمير المؤمنين (العراق) لأجل معالجة العجز في الموازنة يسعون إلى زيادة الجبايات والضرائب من أجل معالجة العجز، أي على خلاف ما نصح به أمير المؤمنين (عليه السلام). نتمنى أن يقرأ ذلك العهد وأن يكون له أثر في صنع عراقنا العزيز.

للأسف أن أبرز شيء تعكر به الزراعة وقد حث عليه أمير المؤمنين في عهده، ولكنا نجد الفلاح في هذا الوقت أصبح يعاني من مشكلات كثيرة تتناقض مع ما أراده أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعد أن كانت المعاملة الحسنة هي التي اكتنفته من الامام، ((وقد يذهب الظن بالبعض إلى أنّ هذه المعاملة تؤثّر على ماليّة الدولة وتُضعفها، ولكن هذا الظن بعيد عن الصواب؛ لأنّ هذه الوضعيّة التي يحصل عليها الفلاح تعود على الدولة نفسها بفوائد عظيمة تُزيد في ازدهارها ورفاهيتها؛ وذلك لأنّ هذا المال يصرف في إصلاح الأرض وعمرانها، ويصرف في سد حاجات الفلاح نفسه من مسكنه وملبسه ومرافق حياته الأخرى، فيكون في ذلك تزيين للبلاد بما أتاح لها هذا المال من العمران ويكون في ذلك شعور هذه الطبقة بالطمأنينة والرضى بما يدفعها، وهي أكثر طبقات

ص: 22

المجتمع عددا وأعظمها انتاجا إلى المحافظة على الحكم القائم والدفاع عنه؛ لأنه يحفظ لها مصالحها. ولدينا شاهد من التأريخ على هذا، فقد كان نابليون الثالث (إمبراطور فرنسا) ممن حدبوا على هذه الطبقة وزعموا مصالحها وحموها من عتاة الظلمة، وأشعروا الفلاح الفرنسي أنه سيد أرضه وأنّ أمرها منوط به وحده، وقد كان موقفه هذا مما دفع بالفلاحين إلى أن يخصوه بتأییدهم دائمًا لِما لمَسوه من رعايته لمصالحهم وفهمه لموقفهم))(45).

ومن الأمور التي يؤكدها الإمام الاطلاع على أحوال الناس والعوام ومتابعة أمورهم، وأن يعيش الوالي (المسؤول) بينهم فلا يتخلف عنهم بسبب طلباتهم، وإذا ما أصر الوالي (المسؤول) على تجنبه الناس والعيش بمعزل عنهم فهذا هو الخطأ بعينه، وهو أمر يكاد يكون شعارا المسؤولينا الذين غاب عن أغلبهم معاناة الناس ومشكلاتهم(46) على خلاف ما نصح به أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يقول: ((أما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل))(47)، فها هي الموازين تتغير لدى العوام، وتنعكس عندهم المبادئ الحقة، فيسوء ما كان حسنًا ويحسن ما كان سيئًا، وذلك بسبب خطيئة احتجاب الوالي.

وقد نجد الإمام (عليه السلام) يعبر عن العاقبة السيئة للأعمال الطالحة بما يعرف بالسلم الحجاجي، أي تعاقب الحجج، وكل حجة لاحقة تكون أقوى من السابقة في التدليل على ارتكاب الفعل أو اجتنابه، وذلك لأجل إقناع المقابل بمراد المتكلم(48)، وذلك في قوله (عليه السلام): ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب.

ص: 23

وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))(49).

فهنا لكي يقنع الإمام المتلقي بضرورة الامتثال لتعاليمه أبان أنه إنْ لم يفعلها فقد ظلم، وهذه حجة قوية في سبيل کسب امتثال المتلقي، ثم تأتي الحجة الأخرى القضية الثانية بأنه إذا ظلم فإنّ الله سيخاصمه، وهذه حجة قوية جدًّا لأجل تحقيق امتثال المتلقي؛ فالله هو الخصيم، وهذا مدعاة للسعي في الإذعان للإمام بكل ما يقوله. ثم تأتي الحجة الأشد قوة بأنه لا حجة للعبد مع هذا ولا عذر، وهذا يعني تجريده من كل معاذيره، ومن ثّمّ تأتي الحجة الأقوى من سابقاتها ((وكان الله حربًا حتى ينزع ويتوب))، فها هو معلن حربا مع الله الذي لا يقهر، أي هو خاسر مطرود مکسور لا محالة.

ثم أخيرا الحجة التي تمثل رأس الهرم ((وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))، وهذه أكدت أن العقوبة الإلهية قريبة منه جدا، وكذلك فانه قريب من ((أدعى إلى تغيير نعمة الله))؛ لأن الإنسان قد يخرج من سبيل الله، ويجحد الآخرة، فيكون تخويفه من العذاب الدنيويّ أشد عليه، خصوصا اذا هدد بتغيير النعمة، فهذا مدعاة الى تنبيهه.

ونود ان نشير إلى أن الإنسان إذا أمن العقاب الدنيوي ازداد تغطرسه على ما فيه من تغطرس فكان إرسال العذاب الدنيوي له عسى أن يتذکر ويعود إلى جادة الحق، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم: 41)، ولا ننسى قول الإمام السابق؛ اذ ختم ب (وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب)، فالغاية هي الرجوع إلى التوبة، ومن هذا فحتى العذاب الدنيوي الذي يصيب الإنسان المتغطرس انما هو سبب لعدم تماديه في الغطرسة ورغبة في عودته للحق من جهة أخرى.

ص: 24

الخاتمة

لقد كشف البحث عن تنوع الآثار للأعمال الصالحة وتوسعها إلى درجة يغدو القيام بالعمل الصالح أمرًا محتمًا لما فيه من خير وفير، ولنتجوز ونقول يصبح قضية لا بد من أدائها حتى لو لم يكن هناك أجرا أخرويا، فالأثر المنال في الدنيا يحتِّمُ على كل عاقل أنْ لا يغضّ الطرف عنه فكيف إذا كان الأجر ينتظره نعيم أبدي لا يفني؟!

وقد أثبت البحث في عمومه أن سعادتنا جزء من أفعالنا، وتعاستنا تكون في الأغلب بسبب من أخطائنا، ولقد تبين أن من الأفعال الصالحة التي نقوم بها ما يعود بالإيجاب على حياتنا الاجتماعية والفكرية والنفسية والصحية...

وقد تأكد فيما سبق عظمة انتهاج الاسلام وتعاليمه، وعظمته في دفع الانسان على بناء الحياة السليمة السعيدة، وليس صحيحا تلك الادعاءات التي شنت هجوماتها عليه(50)، وذلك اذا انتهجنا بنهج رجالاته الحقيقيين فبهم يمكننا أن نضع أقدامنا على الطريق الصحيح، ويكون ذلك باستذكار سيرتهم (عليهم السلام) وامتثالها وانتهاج اقوالهم نبراسًا في تصحيح المسار.

ان المناهج النبيلة تخلق بلدًا نبيلًا؛ ليكون الجيل القادم واضعا أقدامه في طريق النجاح والفلاح في كل شيء، وقد ((سئل أحد السياسيين رأيه في مستقبل الأمة فقال: ضعوا أمامي مناهجها أنبئكم بمستقبلها))(51).

وفي الختام نسأل الله القبول والمغفرة، والتوفيق الى مرضاته

ص: 25

قائمة المصادر والمراجع

أولا: القرآن الكريم

ثانيًا: الكتب

1. إدارة الذات، سلام الحاج، جَدي(65) للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط 1، 1433 ه - 2012 م.

2. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، السيد أبو هشام عبد الملك الموسوي، دار الزهراء، قم - إيران، ط 1، 1327 ه.

3. استراتيجيات الخطاب (مُقاربة لُغويّة تَداوُليّة)، عبد الهادي بن ظافِرِ الشِّهْريّ، دارُ الكُتُبِ الوَطنيّة، بنغاري - ليبيا، ط 1، 2004 م.

4. أسرار العبادات، کاظم الحسيني الرشتي، تح: صالح أحمد الدبّاب، منشورات مكتبة الأوحد، قم، ط 1، 1426 ه - 2005 م.

5. الإسلام لماذا، د. عليّ القائميّ، تر: د. سلمان الأنصاريّ، دار النبلاء، بيروت - لبنان، ط 1، 1423 ه - 2002 م.

6. الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، مكتبة الكلمة الطيبة، بغداد، ط 1، 1432 ه - 2012 م.

7. بحارُ الأنْوارِ الجامعةِ لدُررِ أخْبار الأئمَّةِ الأطْهار، الشّيخ مُحَمَّد باقر المَجْلسيّ (ت 1110 ه)، دار إحياء التُّراث العَرَبِيّ، بيروت - لُبْنان، ط 3، 1403 ه - 1983 م.

8. البيانُ والتَّبْيين، أبو عُثمان عُمَر بن بَحْر الجاحِظ (ت 255 ه)، تح: عبدالسلام مُحَمَّد هارون، مَكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1418 ه - 1998 م.

ص: 26

9. دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، تح: سامي الغريريّ، مؤسسة دار الكتاب الإسلاميّ، مطبعة ستار، قم، ط 1، 1428 ه - 2007 م.

10. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة، د. مرسلینا حسن شعبان، إصدارات شبكة العلوم النفسية العربيّة، 2013 م.

11. الدين الإسلاميّ - بحث في الأصول والمبادئ-، العلامة السيد حسن علي القبانجي، تح: مؤسسة إحياء التراث الشيعيّ، منشورات بقية العترة، النجف الأشرف، ط 1، 1426 ه.

12. الذنوب الكبيرة، السيد عبد الحسين دستغیب، تعريب: علي محمد زين، دار البلاغة، بيروت - لبنان،، ط 6، 1434 ه - 2013 م.

13. السعادة في الإسلام، السيد وسام عبدالله العاملي، مطبعة الأميرة، بيروت - لبنان، ط 1، 1428 ه - 2007 م.

14. السنة النبوية والطب الحديث، د. صادق عبدالرضا علي، دار المؤرخ العربي، بیروت - لبنان، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

15. السياسة من واقع الإسلام، السيد صادق الحسيني الشيرازي، مؤسسة المجتبی للتحقيق والنشر، بيروت - لبنان، ط 4، 1424 ه - 2003 م.

16. صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، السيد حسن علي القبانجي، مؤسسة إحياء التراث الشيعي، النجف، ط 1، 1426 ه.

17. الفاخر في الأمثال، المُفضل بن سلمة الضّبّيّ (ت 291 ه)، تح: مُحَمَّد عثمان، دار الكُتُب العِلْمِيَّة، بيروت - لُبْنان، ط 1، 2011 م.

ص: 27

18. فلسفة الصلاة، الشيخ علي الكوراني، دار الزهراء، بيروت - لبنان، ط 6، 1405 ه.

19. الكافي، الشيخ الكليني (ت 329 ه)، تح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 3، 1388

20. المجازاتُ النَّبويّة، الشَّرِيْف الرَّضِيّ، تح: مهديّ هوشمند، دار الحديث - قم، ط 1، - 1422 ه.

21. الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية، عبد العليم إبراهيم، دار المعارف، القاهرة - مصر، ط 7، (د.ت).

22. نهج البَلاغة، تح: د. صبحي الصّالِح، مركز البحوث الإسلاميَّة، قم، 1395 ه.

23. نهج البلاغة والطب الحديث، د. صادق عبدالرضا علي، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 1424 ه - 2003 م.

24. وسائل الشيعة، الحر العاملي (ت 1104 ه)، تح: مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، قم، ط 2، 1414 ه.

ثالثًا: البحوث المنشورة

25. الأمة الإسلامية آلام وآمال، بحث للأستاذ عبد الكريم صار (باحث من السنغال) منشور في ضمن کتاب: آلام الأمة الإسلاميّة وآمالها (مجموعة مختارة من المقالات والمحاضرات للمؤتمر الدولي الثالث عشر للوحدة الإسلاميّة)، إعداد سید جلال الدین میرافائي، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ط 1، 1421 ه.

26. الفقر - التعريف ومحاولات القياس، د. الطيب لحيلح، و محمد جصاص، بحث منشور في ضمن: أبحاث اقتصاديّة وإداريّة، العدد السابع، 2010 م.

ص: 28

الهوامش

1. نهج البلاغة والطب الحديث: 40.

2. البيان والتّبيين: 1 / 69.

3. نهج البلاغة: 445.

4. الفاخر في الأمثال: 172، وقد اثبت الشريف الرضي أن دعاء الرسول لنفسه إنّما كان ((على طريق التعليم لأمَّتِهِ كيف يتوبُ العاصي، ویُنيب الغاوي، ويستأمن الخائف، ويستقيم الجانف)) [المجازات النَّبَوِيَّة: 254]، بل يمكن أن نرى أن الإمام (عليه السلام) قد استعمل المخاطب غير المقصود في حديثه مع ابنه الامام الحسن (عليه السلام) في وصيته إليه بعد حرب صفين التي كانت في ظاهرها النصح للامام الحسن (عليه السلام) و حقيقتها أن المقصود بها غيره من الناس السامعين؛ اذ كيف يكون المراد هو الإمام الحسن، والامام الحسن كان الأنموذج الحي لتلك الوصية الرائعة، فقد كان هو تلك الوصية ولكن بصورة ناطقة وليس هو من يصدق عليه في مقدمة الوصية: ((مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَان، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِ لِلدُّنْيَا... إِلَی الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الأسْقَام، ...وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا،...وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الأمْوَاتِ)) [نهج البلاغة: 391]، فالمقصود هنا هو (الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ

يُدْرَكُ)، بل يؤكد أن المراد ليس هو الإمام الحسن حقيقة اذا تأملنا: ((وَإِنَّمَا قَلْبُ

الْحَدَثِ كَالأرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيء قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالأدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو

قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الأمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ

وَتَجْرِبَتَهُ)) [نهج البلاغة: 393] فأمير المؤمنين (عليه السلام) هنا يتحدث مع الأحداث، إي الأطفال الصغار جدا، والإمام الحسن کان بعد حرر صفین (زمان

ص: 29

الوصية) قد تجاوز الثلاثين من عمره؟!.

5.نهج البلاغة: 554.

6. نهج البلاغة: 427.

7. صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: 2 / 286.

8. الإسلام يقود الحياة: 128، وينظر: الدين الإسلامي - بحث في الأصول والمبادئ -: 14 - 15.

9. ينظر: السعادة في الإسلام: 231 - 232.

10. ينظر: أسرار العبادات: 20 - 199.

11. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام): 320.

12. فلسفة الصلاة: 43.

13. فلسفة الصلاة: 240 - 241.

14. الكافي: 4 / 63 - 64.

15. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام): 331.

16. ينظر: السنة النبوية والطب الحديث: 190 - 191، ونهج البلاغة والطب الحديث: 122.

17. أسرار العبادات: 219 - 220، وينظر: صوت الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: 1 / 446 - 447.

18. بحار الأنوار: 59 / 267.

ص: 30

19. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 334.

20. الأساليب التربوية عند أئمة أهل البيت: 334.

21. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 334 - 335.

22. الأساليب التربوية عند أئمة لأهل البيت: 336.

23. ينظر: السنة النبوية والطب الحديث: 191، وينظر: المصدر نفسه: 192.

24. فتشير الدراسات إلى أن: ((الفقر آخذٌ في التزايد من سنة إلى أخرى رغم نداءاتِ التحذير التي تطلقها المنظمات الدوليّة، فلأول مرة وصل عدد الفقراء إلى 1٫02 مليار نسمة من أصل 6,788 مليار نسمة هم سكان العالم في 10 أكتوبر 2009 يتوزعون على مختلف مناطقِ الكرةِ الأرضيّة بطريقةٍ غير متساوية، تدلُّ على جهود البعض وكسل الآخرين، فقارة آسيا الّتي يقطن بها أكبر عدد من السُّکُان (4,03 ملیار)، وتمثل نسبة 60,5 ٪ من سكان العالم تتواجد [الصواب: توجد] بها أكبر نسبة من الفقراء وهي 64,07 ٪ تليها قارة إفريقيا التي تمثل نسبة 14% من سكان العالم بنسبة 28,62 ٪ من فقرائه ثم قارة أمريكا، ثم قارة أمريكا الجنوبية بنسبة 9,24 وأخيرا الدول المتقدمة مجتمعة في أوربا وأمريكا الشمالية واستراليا بنسبة 1,06 ٪. لقد أضحى الفقر مشكلة اقتصاديّة وقضية إنسانيّة انعكست آثارها السّلبيّة على حياة المجتمعات...، فالفقر كان ولا يزال يهدد الازدهار حيثما كان، ويشكل تحديًا حقيقيًّا وصارخًا للإنسانيّة وأصبح ظاهرة عالميّة، الأمر الذي أدّى إلى البحث باتّجاه إيجاد الحلول المناسبة للتخفيف من آثاره على المجتمعات)) [الفقر - التعريف ومحاولات القياس -: 166]، والحقيقة ألّا حلول إلا بالتماس نهج أهل البيت.

ص: 31

25. نهج البلاغة: 512.

26. وسائل الشيعة: 9 / 369 - 370.

27. ينظر: الذنوب الكبيرة: 2 / 150 - 152، ومن هذه الروايات ما رواه عن العالم الأخوند أنه ذات سنة من سني الغلاء كان لي قطعة أرض قد زرعتها شعيرًا، ومن باب الصدفة وعلى خلاف سائر المزارع الأخرى أينع الشعير ونضج وأصبح جاهزا للحصاد وكان كل الناس يعانون من الضيق والجوع، شعرت بحزن عميق فقررت ترك الشعير وذهبت الى المسجد وناديت: لقد ترکت شعيري بشرط أن لا يأخذ منه الا فقير وأن لا يأخذ الفقير أكثر من قوته وقوت عياله حتى يكفي الزرع، فذهب الفقراء إلى هناك وبدأوا يأخذون مؤونتهم يوما بيوم، ولم أكن أدري ما الذي يجري؛ لأني عزفت عن الذهاب إلى المكان أصلا، ولمّا نضج الزرع في سائر المزارع وأصبح الناس في رفاه، وبعد أن فرغت من حصاد سائر مزارعي قلت للحصادين أن يذهبوا الى تلك الأرض عسى أن يجدوا فيها شيئًا، وهذا ما كان فعلا فحصدوا الشعير المتبقي وكانت النتيجة أن الحاصل من تلك الأرض كان ضعفي ما حصلته من الأراضي الأخرى، فإضافة إلى أن أخذ الفقراء منها لم يؤثر فيها فقد تضاعف ناتجها، وبحسب المعتاد كان من المحال أن يبقى فيها شيء والأعجب من ذلك أنه عندما حلّ الخريف وكان من المتعارف أن تُترك الأرض التي زرعت لحالها سنة ثم تزرع، فلم أزرعها وتركتها على حالها، فلم أذر فيها البذر، ولم أعالج الأرض إلى ان جاء الربيع وذاب الثلج، فرأيتها خضراء أقوى من سائر الزرع والأراضي)) وقد تحيرت في أمري وقلت: لعلني اشتبهت في الأرض إلى أن جاء موسم الحصاد وكان انتاجها أضعاف انتاج سائر الأراضي: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» [البقرة: 291]، الذنوب الكبيرة: 2 / 151.

ص: 32

28. السياسة من واقع الإسلام: 233.

29. الكافي: 2 / 374.

30. فتح السيد حسن القبانجي في كتابه: صوت الامام علي (عليه السلام): 1 / 457 - 460، مبحثا لفوائد الحج النفسية والاجتماعية والاقتصادية.

31. نهج البلاغة: 439 - 440.

32. نهج البلاغة: 442.

33. ينظر: السياسة من واقع الإسلام: 332.

34. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة: 8.

35. الدعم النفسي ضرورة مجتمعيّة: 8

36. نهج البلاغة والطب الحديث: 122 - 123.

37. نهج البلاغة: 427.

38. بحار الانوار: 80 / 22.

39. نهج البلاغة: 443.

40. نهج البلاغة: 428.

41. ينظر: إدارة الذات: 45 - 46.

42. نهج البلاغة: 430.

43. نهج البلاغة: 630 - 631.

44. يرادف الخراج الآن في الوقت المعاصر الضرائب.

ص: 33

45. دراسات في نهج البلاغة: 124.

46. ليس هذا تجريحا وانما هو محاولة للتشخيص، فها هي عوائل الشهداء من الجيش والحشد الشعبي وها هم الفقراء والمساكين في كل مكان وهم بحاجة إلى رعاية خاصة، ربما لا نرة المسؤول على ابوابهم الا قبيل الانتخابات تحوطه الكاميرات والقنوات أكثر مما يجلبه من مساعدات.

47. نهج البلاغة: 441.

48. ينظر: استراتيجيات الخطاب: 499 - 500.

49. نهج البلاغة: 428 - 429.

50. فقد ((کتبوا مئات الكتب ضد الإسلام... ولا زالوا يظهرون الأمر كذلك على أن الإسلام قد انتهى وأفكاره أصبحت قديمة)) [الإسلام لماذا: 392]، وينظر: الأمة الإسلامية آلام وآمال (بحث منشور): 570، ويمكن التأمل في النشيد الطلياني في التحريض على قتال المسلمين ومحو القرآن، وقد ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتابه - لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم -: 57 - 58، ومنه ((يا أماه... ألا تعلمين أن إيطالية تدعوني، وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحًا مسرورًا لأبذل دمي في سحقِ هذه الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلاميّة التي تجبر البنات الأبكار للسلطان، سأقاتلُ بكلِّ قوةٍ لمحوٍ القرآنِ... وإن لم أرجع فلا تبكي على ولدكِ...، وإن سألكِ أحدٌ عن عدمِ حدادكِ عليّ فأجيبيهِ إنّهُ مات في محاربةِ الإسلامِ))، فإذا كانت هذه نظرتهم إلينا، فينبغي نشر علومنا الحقة تأليفًا وترجمة فضلًا عن إشاعة النّهج السّماوي في طبائعنا كي ندحض ادعاءاتهم، وربّما نجدُ اليوم داعش تجسيدًا لما يقولونه عنّا وما يفعله زعيمهم أبو بكر البغداديّ من تجسيد (تجبر البنات الأبكار

ص: 34

للسلطان)، فما هو إلا من نتاج أعداء الإسلام بطريقةٍ أكثر مكرًا.

51. الموجه الفني: 35.

52. هذه کتابتها في العربي، ولكنها كتبت على غلاف الكتاب بالانجليزي: jady.

ص: 35

ص: 36

الفلسفة الأخلاقية ومبادئ حقوق الانسان في فكر الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الامام علي بن ابي طالب الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ. د. احسان عيدان عبد الكريم السيمري كلية الطب جامعة البصرة

ص: 37

ص: 38

خلاصة البحث:

ان المسير مع الحقوق الانسانية التي طالب الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وان يعيش في ظلها الانسان تعد خطوة مهمة ومتقدمة على زمانه وقد ظلت نبراساً يضيء طريق الشعوب والثوار وان انت احصيت الثائرين على المظالم في العهد الأموي والعباسي [ولاحقاً كذلك خصوصاً في العراق القيت علياً إمامهم... وان انت احصيت غايات هذه الثورات التي زلزلت الشرق قروناً طوالاً وقضت مضاجع الطغاة الفيتها الغايات الاجتماعية التي من اجلها كافح علي واليها دعا وفي سبيلها استشهد، وهذه الغايات الاجتماعية والاقتصادية قد صاغها الامام عبر جملة من الحقوق اقرها (عليه السلام) لصالح الإنسان فقد دخل الإمام (عليه السلام) في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، إنّما توجّه (عليه السلام).

إنّ الإمام علي (عليه السلام) جعل كلّ الأُمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل و تبادل وتناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري عزّ وجل أوجب هذه لتلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثم بين (عليه السلام) ذلك بصورة اوضح (وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ

حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ). إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين

ص: 39

كما ذكرها الإمام (عليه السلام) فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات کیان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالى بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعيّة على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام التجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة. أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود کلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنّها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

فرضية البحث:

ينطلق البحث من فرضية مفادها (ان للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق من جهة، ويمكن الاستفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر، من جهة اخرى).

منهجية البحث:

ان طبيعة موضوع الدراسة واحتوائه على عدة عناصر رئيسة التاريخ، والفقه، والسياسة، قد حددت منهجية البحث بالمنهجين التاريخي والتحليلي بشكل رئيس والاستفادة كذلك من المنهج المقارن كلما اقتضت الضرورة ذلك.

ص: 40

المقدمة

إنّ الدولة أو السلطة الزمنيّة - كما يُعبَّر عنها - لها دور كبير في بناء المجتمع، وتحديد طبيعة مسيرته بالصورة التي تؤمن بها، سواء كانت ذات أيدلوجيا مُحدّدة كانت تعتمد أو تتخذ منهجاً هامشيّاً غير واضح الأهداف والمعالم، أو أنّها مُجرّد سيطرة راعي على رعيّته، وقد وضع كثير من الفلاسفة نظريّاتهم في هذا الأمر، وذاك هوبز مثلاً يرى (أنّ الدولة تكوين صناعيّ بمقتضى تعاقد إرادي) بمعنى أنّ المجتمع لم ينشأ تلقائيّاً، وإنّما إرادة الناس هي السبب في وجود المُجتمع، ومسؤوليّة الملك والحكومة إنّما هي توفير الفرصة لإشباع غرائز الأنانيّة لدى الأفراد في المجتمع، وبالتالي فإنّ على هؤلاء الأفراد الالتزام بالقوانين التي تصدرها الحكومة.

هذه واحدة من النظريّات في السلطة والمُجتمع التي حدّدت مسؤوليّة السلطة في إطار إشباع غريزة الأنانية لدى الأفراد، ثُمّ إنّ من واجب الأفراد الالتزام بالقوانين الصادرة من السلطة.

أمّا (جون لوك)، فيرى (... أنّ حالة الطبيعة لم تكن أبداً حالة حرب وصراع وأنانية، بل كانت حالة يعيش فيها الإنسان حُرّاً، ويتصرّف على أساس عقلي، وكان من شأنه أن يُخفّف من آثار الحريّة المُطلقة، وليس معنى ذلك أنّ حالة الطبيعة تخلو من المتاعب والأنانيّة والصراع، بسبب فساد بعض الأفراد، ولخلوّها من أسباب الاستقرار الثلاثة التي حدّدها (لوك) على النحو التالي:

أ - قانون مُستقرّ واضح.

ب - قاضٍ عادل يحكم بين الأفراد.

ج - قوّة تنفيذ تستطيع تنفيذ القانون.

ص: 41

ومن هنا فإنّ (لوك) يعترف بحالة الفطرة كحقيقة تاريخية، ولكنّه ينظر إليها من منظور اجتماعي...، وقال: إنّ الأفراد فيها مُتساوون في الحقوق والواجبات بالطبيعة، باعتبارهم أفراداً في مجتمع طبيعي أسبق من المجتمع المدني أو السياسي، عاشوا في رحابه مُنذ نعومة أظفارهم، وكان رأي لوك أنّ الحياة التي تزداد تشابكاً يوما بعد يوم لم تكن التسير هكذا، وإنّما كان من الضروري الاتفاق على شخصٍ ما لكي يتولّى تنفيذ القانون الطبيعي دون تحيُّزٍ لزيدٍ أو لعمرو، ومِن هنا اتّجه التفكير إلى إيجاد سلطة عُليا وظيفتها إقامة العدل بين الناس، وتنظيم حريّتهم التي يتمتّعون بها مُنذ عهد الفطرة، وبذلك اصطلحوا على إبرام عقد بينهم وبين شخصٍ ما). إنّ لوك أقرب في رأية ونقاطه التي حدّدها إلى الموضوعيّة من غيره، ولكن هذه النظريات التي أتعب الفلاسفة أنفسهم في استخراجها لم تكن متكاملة المضمون واضحة الأهداف مناسبة للتطبيق العملي، إنّما هي أفكار مبتورة، وتصوّرات جاء بعضها غير موضوعي أساساً، فهي في أحيان كثيرة أشبه ما تكون بالأماني الفارغة. وبقيت المجتمعات في حالة من الغثيان من عُقم تلك الأفكار وابتعادها عن واقع الأمر.

الامام نبراس ومشعل الحرية:

الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) النموذج الإنساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامه، والفروسيه، والشجاعة؛ رجل الانسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سید الانبياء والمرسلين الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين اعجمي وعربي الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، لقد تربی سید الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عمليا في أفعاله

ص: 42

وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدى بها، فالحاكم يمثل الجموع بلا إستثار أو فردانية أو إستغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها وتحقيق العدالة.. لا كما تقوله الميكافيلية من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتوية (الغاية تبرر الوسيلة) تخص الحاكم وكيفية قيادته وكأنما الناس - قطيع وليس ببشر. أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي کما شرعها فلاسفة اللبرالية بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين الى الامام و خطوة إلى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب إكذب حتى يصدقك الناس، أو بديماغوجية الاعلام المضلل والمصالح الاستعمارية والاستعبادية التي جلبت مئات الحروب في تأريخنا الانساني وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرآى ومسمع الامم المتحدة والجمعية العامة والمنظمات الدولية، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الانسان، والفقراء بالارض لا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الألمم المتكسرة بصدورهم؟!! فيما يجسد العهد العلوي أرقى التقنينات والاطر الانسانية لحياة يسودها الرخاء وينعم بها الانسان بالسعادة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي دون حروب أو عنف أو تسلط...

الرأفة بالرعية:

یقنن الامام للعالم في عهده المالك الأشتر(رضوان الله عليه) إسلوب الحكم والرأفة بالرعية في نسق علمي ومعرفي وحضاري، تنهل جميع الشعوب من عهده المبارك الذي يعد اهم وثيقة تأريخيه في اقامة العدل والمساواة، إستقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي صك لحقوق الانسان المستل من الشرع المقدس....

کما ورد في القرآن الكريم(1) «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

ص: 43

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

يذكر الشيخ المفيد: فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام علیکم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لاينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لانابي الضرس ولاكليل الحد، حلیمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جمیل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولايحجم إلا بأمري، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم .عصمكم الله بالهدی وثبتكم التقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام علیکم ورحمة الله وبركاته.

التجارة والحياة الاقتصادية:

بالطبع سایکولوجية النفس البشريه مجبولة على حب المال، والسلطه؛ لذلك يقع المحذور دوما من خلال الانجراف وراء المغريات الماديه عند الحاكم او سواه؛ الا الانبياء والمعصومون ومن ينهج وفق الجادة المستقيمه ويتصف بالنزاهة والاخلاص، من هنا وثيقة العهد العلوي هي محاولة تأسيسيه معرفيه.. وفكريه.. اخلاقيه.. وروحيه.. لتجنيب الحاكم الهفوات في ادارته، ...وهي وصايا بالرفق بالتجار، والأغنياء، والفقراء، وادارة الشؤون الاقتصاديه بحنكة ودرايه دون التفريط بأي حقوق. فالعامل الاقتصادي له

ص: 44

الدور الأساس في تلبية حاجات الناس وإشباع رغباتهم وتوفير المواد والمستلزمات الضرورية لأدامة الحياة، وقد أكد على منع الاحتكار والتلاعب بالاسعار واللهاث وراء الجشع وكان الامام يقول: لو كان الفقر رجلا لقتلته!!.. وماجاع فقير الا بما مُتع غني فما ورد بالعهد الشريف مثالا على ما اقوله:

سترضي بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا والمقيم بهم والمضطرب بماله والمترفق بيديه فإنهم سواد المناخ أسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك ويحرك شهبك وجيلك وحيث لايلتم الناس لمواضعها ولايحترثون عليها فإنهم سلم الالتحاق یا ثقة وصلح لا تخشى عائلته وتقصد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك.واعلم مع ذلك أن كثير منهم ضيقاً فاحشا وشحاَ قبيحاً احتكاراً للمنافع و تحكماً في البياعات وذلك باب معزه إنعامه وبحيث على الولاة فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه واله) منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين البذل ولا يحيف بالفريقين من البايع والمبتاع فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فشكل به وعاقبته في غير إسراف ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين وأهل البؤس والزمن فان هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ لله ما ستحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من نحلات صواني الاسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للادني وكلاً قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر فانك لاتعذر بتضيعيك التامة لاحكامك الكثير المهم فلاتشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم وتفقد امور من لا يصل أليك منهم ممن تقتحمه.

العيون وتحقره الرجال من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالاعذار الى الله يوم تلقاه، فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه اليه وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة لهه

ص: 45

ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على اقوام طلبوا العافية فصيروا انفسهم ووثقوا بصدق موعد الله لهم واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفزع لهم بيه محصر وتجاس لهم مجلسا عاما، فتواضع فيه الله الذي خلقك وتقصد عنهم جندك واعوانك احراسك وشرطك متى يكلمك متکلم غير متمتع فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متمع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونج عنهم الفبق والانفة يبسط الله عليك بذلك اكتاف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته واعط ماعطيت هنيئاً وامتع في اجمال واعذار. ثم امور من أمورك لابد لك من مباشرتهم منها اجابة عمالك منها يعيا عنه كتابك ومنها: اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك فيما تخرج به صدور اعدائك لكل يوم عمله فان لكل مافيهثم انظر في حال كتابك امورك خيرهم، واخصصت رسائلتك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق فمن لاتبطره الكرامة فيجتري بها عليك في خلافلك بحضرة ملاء ولاتقصر به الغفلة عن ایراد امکانیات عمالك عليك، واصدار جواباتها عل الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك أو لاتضعف عقداً اعتقده لك ولايعجز عن اطلاق ماعقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل بقدر تقره يكون بقدر غيره اجهل.

بالنفس فيقول الوالي مالي وللبلاد وعمراتها اليوم هنا وغداً لاعلم ان المقر فلابد من جمع المال على عجل اما جشعا وحباً في المال او طلباً لارضاء من قوته بالتملق والتظاهر بالاخلاص في اداء الواجب اوليذل الرشاد والهدايا لحواشي الملوك والحكام ليدفعوا عنه طائلة الحساب، او يكفوا عنه اذي الوشاة ويؤكد عليها أن ذلك سبيل معوج وسیاسة فاشلة ويستكثر على الولاة للسالكين هذا السبيل عدم اتعاطتم بمن كان قبلهم واعتبارهم با تالوه من الفشل وسوء المنقلب

ص: 46

للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) صفات خاصّة تَميّز بها عمّن سواه من مُعاصريه وسابقيه والمتأخّرين عنه، ولا غلو في ذلك، فمنها - على سبيل المثال لا الحصر - سابقته في الإسلام، وجهاده المستميت في سبيله حتى ثبتت أركان الدين، علاوة على أخلاقه التي ليس لها مثيل، إلاّ تلك التي حملها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إضافة إلى الكثير من الصفات الحميدة ممّا أحصاه الكُتّاب والمؤرّخون، والتي لا مجال لذكرها هُنا حصراً.

لقد كتبَ الكثير بشأن الإمام علي (عليه السلام)، إلاّ أنّنا نجد في كلّ مرّة حَدثاً جديداً، أو مادّة غير مطروحة، أو بحثاً نافعاً وذا علاقة بحياتنا وتاريخنا بكلّ صوره، وما إلى ذلك. وفي هذا البحث المتواضع الذي يتعلّق بالفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) لا أدّعي أو أفاخر قائلاً بأنّني أحطّت بكلّ ما يتعلّق بالموضوع، إلاّ أنّي أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفّقني إلى هذا الحدّ من المعرفة، والبحث في فكر هذا الرجل الإلهي الذي أفصح عن شيء من مكنونات حقيقته ولده الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) في كلام له بعد استشهاده حين قال (عليه السلام): (والله، لقد قُبض فيكم الليلة رجلٌ ما سبقه الأوّلون إلاّ بفضل النبوة، ولا يُدركه الآخرون، وإنّ رسول الله (صلّى الله علیه و آله وسلّم) كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه و میکائیل عن يساره

حقوق الانسان عند الامام علي (عليه السلام)

في خضم ما تمر به الأمة الإسلامية في عالمنا المعاصر من تحديات جمة ألقت بظلالها القائمة على وجود امتنا ومستقبلها تبرز قضية (حقوق الإنسان) ببعديها النظري والعملي كتحد مهم وصعب ينبغي الاستجابة له، لاسيما مع محاولة تعميم النموذج الغربي المحصن بمنظومة فكرية تمتلك بعض عناصر القوة، وان احتوت على سلبيات وتناقضات كثيرة، وممارسة عملية مميزة، على الرغم من محدودیتها، فانها تنفرد بكونها

ص: 47

الماثلة للعيان والشاخصة في الأذهان دون غيرها.

ومن الناحية الاخرى فان هناك حالة من الانهزامية واليأس داخل نفوس اكثر ابناء الأمة الإسلامية، وهم يعيشون يومياً ابشع انتهاك لأدميتهم في ظل حكومات استبدادية ومؤسسات اجتماعية واقتصادية تحطم انسانيتهم کلما تحركوا لتغيير واقعهم المرير، غير متناسين مجموعات من وعاظ السلاطين التي ارتدت، من غير وجه حق، طیلسان الدين وأضحت تصوغه على وفق رؤى اصحاب السلطة وبما يضفي شرعية زائفة على سياستها الخاطئة.

وهكذا فقد الانسان المسلم حقوقه بين النص والواقع والقيم العالمية والسمة الخصوصية، والايمان بحقوق الانسان وادعاء الدفاع عن تلك الحقوق وافراغها من محتواها الحقيقي. وفي هذا اليم المتلاطم تلوح سفينة النجاة الاسلامية التي اغنت الانسانية بتجربة مميزة كان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من روادها ومن المساهمين الفاعلين في تثبيت دعائم الاسلام و تجربته في شتى نواحي الحياة ومنها حقوق الانسان.

فهذا هو الإمام علي في تعامله مع النص لا يعده سيفا مسلطا على الإنسان ولا النص وسيلة يسيرها الإنسان حيثما شاء وعلى وفق اهوائه ومصالحة، لكنه أداة للسمو بالإنسان معنويا وماديا وهذا ما اسهم في نظرة الامام علي (عليه السلام) لحقوق الإنسان، وهناك كثير من الدلالات والاراء بهذا الصدد وصلت الينا على الرغم مما عاناه الفهم العلوي للاسلام من خطة لمحاربة ما سمي ب(فقه المعارضة) من السلطات الحاكمة التي تعرضنا الى جانبٍ منه.

وتعد تجربة الامام علي (عليه السلام) من اثرى التجارب الاسلامية سواء من الناحية الموضوعية أم الذاتية، وقد استمد هذا الاثراء اهميته من امور عدة اهمها:

ص: 48

1 - زخم جوهري لشخص الإمام وارائه وسلوکه کمثال وقدوة حسنة سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية، وقد مدحه معاصروه سواء كانوا من مناصريه ومناؤيه.

2 - الاحداث المهمة التي مرت بحياة الإمام، كتجربة عملية ونظرية، منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى اغتياله عام 40 ه.

3 - الموروث العلمي والحضاري من أفعال وأقوال نسبت للإمام، في شتى الميادين، وهنا لابد من ذكر موقفنا من كتاب (نهج البلاغة)، حيث نعتقد بضرورة التعامل بايجابية مع ما ورد في النهج وليس بقدسية اخذين بنظر الاعتبار المعايير التي ذكرناها سابقا في كيفية التعامل مع النص، وهو منهج مستمد من فكر الإمام علي وليس دخيلا عليه.

4 - بروز حالة القتال بين المسلمين بصورة تميزت عما سبقها زمنيا، وكذلك تطور حالة المعارضة السياسية وتبلور الانقسامات داخل المجتمع الإسلامي.

5 - ازدياد الوعي والعمق الفكري خصوصا اثر الانفتاح على الحضارات الاخرى بعد الفتوحات الإسلامية في فارس والشام ومصر.

وهذه المناطق المفتوحة ذات موروث حضاري مهم ألقى بظلاله على الحياة الفكرية والسياسية للدولة الإسلامية انذاك.

وبناء على ما ذكرناه، يمكن القول إنه على الرغم من تباین نظرة الفرق الإسلامية للأمام علي الا أن الإمام کان تجسيدا حيا للاطروحة السماوية المتمثلة بالشريعة الإسلامية بروافدها: القرآن الكريم، السنة النبوية، وابداع الإنسان المتمكن في تعامله مع النص.

ومن المنهج الإسلامي في نبعه الصافي الاصيل اكتسب الإمام نظرته إلى الحياة وقيمتها في ضمن المسيرة البشرية، اذ تشكلت رؤيته للانسان كقيمة عليا ومحور لهذا الكون، فيخاطب (عليه السلام) الانسان قائلا:

ص: 49

وتحسب انك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الاكبر

ويجعل الإمام هذا المخلوق افضل الموجودات، اذا ما حقق إنسانيته، إذ يقول (عليه السلام) بنظرة تحليلية: (ان الله عز وجل ركب في الملائكة عقل بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل وركب في بني ادم کليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم). وهنا نتلمس معیار قيمة الانسان حين يربطها الإمام بمسألتين:

الاولى: إنه انسان منتم الى الاسرة البشرية من ابناء ادم وحواء، فيترتب على هذا الموقع حقوقاً اساسية ومن اهمها (حق الحياة).

الثانية: درجة الايمان والعمل الصالح، وهي درجة اسمی، لا ينالها الجميع، ولكن لا تجعل من يملكها افضل الاوفق المعيار الايماني وهو معیار معنوي، (ليس على وجه الارض اکرم على الله من النفس المطيعة لامره) على وفق قول الامام علي (عليه السلام) وان الانسان هو خليفة الله في أرضه والكائن الذي امتاز بمعرفة الخالق وتكليفه بالعبادة فلقد كان من دعاء الامام علي (عليه السلام): (الهي کفی بي عزا ان اكون لك عبدا وكفي بي فخرا ان تكون لي ربا). ويجمل المفكر جورج جرداق الرؤية العلوية الجليلة الى معنى الحياة بانها هي (الاصل وعليه تنمو الفروع).

لقد تعامل الإمام مع الحياة بواقعية، فلم يشغل فكره بمسائل الخلود وما شابه إذ آمن أن الموت مسالة حتيمة و ان الموت طالب حثيث لايفوته مقيم الاعتداء موجودة وسوف تستمر وتتفاقم لذا تصدى الفكر العلوي لهذه الجريمة في محاولة للحد منها اعتمادا على عنصرین:

1 - عنصر معنوي انساني، داخلي.

2 - عنصر قانوني مادي، خارجي.

ص: 50

فبالنسبة للعنصر الانساني، استمرارية الإمام بتوجيه خطابه دائما للانسان من اجل الانسان، أي يقوم بدور التربية والارشاد والتصحيح للمسيرة الإنسانية، ويحذر كل من يفكر ان يزهق روحاً بغير وجه حق، قائلاً (ثلاثة لا يدخلون الجنة [اولهم] سفاك الدم الحرام) وينبه (عليه السلام) من اقتراف هذه الجريمة كونها ذنباً لا يغفر، (فمن الذنب الذي لا يغفر ظلم العباد بعضهم لبعض وان الله تبارك وتعالى اذا برز لخلقه اقسم قسم على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كف بكف ولو مسحة بكف).

الا ان الزواجر الاخلاقية وهذا البعد الديني الغيبي قد يشكل رادعاً مهما، ولكن بالتأكيد ليس للجميع فهو غير مجدي مع من امتهن الاجرام او أعماه الطمع، فهناك من يكون (الصورة صورة انسان والقلب قلب حیوان) كما يصفهم الإمام فيسعون لتحطيم الكيان البشري وقطع رسالته الحضارية فيتصدى لهم الإمام مادياً وقانونياً وذلك هو العنصر القانوني المادي الخارجي فيؤكد (عليه السلام) وفقاً لذلك مسألة القصاص، وهو اجراء عملي يفسر الإمام بعض ابعاده بقوله: (فرض الله سبحانه القصاص حقنا للدماء) ويعقب مفکر اسلامي على ذلك قائلا (قد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل): -

- انتقاما منه.

- زجرا لغيره.

- تطهيرا للمجتمع من الجريمة التي يضطرب فيها النظام العام ويختل بها الأمن (وقد كان الإمام على الصعيدين الفكري والعملي حاسما في موضوع القصاص من الدماء على وفق تفاصيل فقهية قانونية متعددة من جهة، والمساواة في حق الحياة للجميع من جهة اخرى، إذ اشار على عمر بن الخطاب بقتل اكثر من شخص بشخصٍ واحد ثبتت جنایتهم بقتله، وذلك بعد تردد بعضهم في ذلك . وروي عن علي انه قتل ثلاثة قتلوا واحدا وانه قتل حرا بعبد قتله عمداً وقتل الرجل بالمرأة بل ان في معتقد علي (من

ص: 51

قتل يهوديا او نصرانيا قتل به).

واعلن الإمام أن رئيس الدولة وولاته وكبار موظفيه وصغارهم يخضعون على حل سواء لقانون صيانة الدماء، أي القصاص فيقول في عهده للاشتر (اياك والدماء وسفكها بغیر حلها، فانه ليس شيء ادعي لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احری بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن).

والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن تلمسها في هذا النص، منها:

1. تأكید حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

2. المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

3. ان سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للثورات لان (لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا) على وفق وصف الإمام.

وبناءً على احترام الإمام لحق الحياة نلاحظ أنه حكم على جريمة التحريض او الأمر بالقتل أو بعقوبة أخرى تتناسب مع الجرم والشكل القانوني للجريمة وكان (علیه السلام) يقول (من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام) وأشار الإمام كذلك إلى عملية القتل المعنوي وذلك بهدم كرامة الإنسان وسمعته وعد ذلك بمثابة اغتيال له اذ يقول: (من استطاع منكم ان يلقي الله تعالى وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سلیم اللسان من إعراضهم فلیفعل).

ص: 52

من بين المميزات الرئيسية للرؤية العلوية لحقوق الإنسان تبرز مسألة تقديسه (عليه السلام) للحياة وانعكاس ذلك على إقراره مبدأ مسؤولية الحكومة والمجتمع اتجاه حياة الإنسان وانه (ا يبطل دم امری مسلم) وان (الدم لا يبطل في الإسلام)، ان الانعکاس العملي لهذا المبدأ كان على صعيدين الأول حفظ دماء المسلمين وان كانوا في غير بلاد الإسلام، والثاني حفظ دماء من هم تحت حكم الإسلام كافة، وبغض النظر عن ديانتهم وانتماءاتهم، هذا على الصعيد النظري.

أما الصعيد العملي فان النموذج العلوي في الحكم کرس مبدأ حق الحياة وصيانتها وجعل منه حقا للشعب إزاء الحكومة، إذ تعامل مع حفظ الحياة، كمبدأ وليس عملية يمكن له استغلالها سياسيا او تتدخل فيها عوامل ذاتية ومصلحية لحادث الاعتداء على الحياة ومن ثم تخرج عن الهدف المتمثل بصيانة الدماء ابتداءً، فمثلاً أصر الإمام على إقامة الحد بحق عبيد الله بن عمر بن الخطاب بعد أن قتل ثلاثة أنفس لمجرد الظن والاتهام وكان أول خطاب للإمام علي (عليه السلام)، كرئيس للدولة، يؤكد حرمة الإنسان بشكل عام وسلامة حياته بشكل خاص فيقول: (ان الله حرم حرما غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها وشد بالإخلاص والتوحید حقوق المسلمين والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده الا بالحق، لا يحل اذي مسلم الا بما يجب، اتقوا الله في عباده وبلاده فأنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم).

واصبح الدفاع عن حياة الناس هدفاً أساسياً لحكومة الإمام، فقد فسر (عليه السلام) أسباب اقدامه على الحرب في معركة الجمل، عندما سئل (ارایت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة، بم قتلوا؟ قال الإمام: قتلوا شيعتي وعمالي - فسالتهم ان يدفعوا الي قتلة اخواني اقتلهم بهم، ثم كتاب الله بيني وبينهم فأبوا علي، فقاتلوني وفي اعناقهم بيعتي ودماء الف رجل من شيعتي فقتلتهم مهم). وكان (علیه السلام) يؤكد هذا الحق قائلاً: (فو

ص: 53

الله لو لم يصيبوا منهم الا رجلاً واحداً متعمدين لقتله لحل لي بذلك قتل الجيش كله). وكذلك الحال بالنسبة للخوارج في معركة النهروان وما بعدها اذ كان الدافع الرئيسي الحربهم (لانهم سفكوا الدم واخافوا السبيل).

ووفقاً لما تقدم يمكننا القول أن حفظ الدماء، وصيانتها والحاق القصاص بالمعتدين مهما كانت أسماؤهم او مناصبهم كان من الروافد المهمة للسياسة العلوية على ارض الواقع، ولابد من الإشارة في هذا المجال الى مبدأين على جانب من الأهمية بشأن حفظ الحياة:

الاول: مسالة التقية.

الثاني: أن حفظ النفس الإنسانية أولى من تطبيق النصوص الشرعية.

إن هذين المبدأين يتشكلان نتيجة للفهم العلوي العميق للإسلام، والذي أشرنا البعض من سماته سابقا، فقد روي عن الإمام قوله: (التقية ديني ودین اهل بيتي)، والتقية - كمبدأ اول - بمعناها العام هي (التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل او قول مخالف للحق) وهي اداة لحفظ النفس والعرض والمال من الملكة من قبل العدو سواء كان مسلماً وغيره.

ويستمد مبدأ التقية أهميته في حفظ الحياة، ولاسيما في وقت الاضطهاد ووجود الخطر والتحدي مع ضعف القدرة او انعدامها للتصدي له، من كونه رخصة شرعية فضلا عن كونها رخصة عقلية أيضاً، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله موصياً رجلاً من شيعته: (وامرك أن تستعمل التقية في دينك، فان الله عز وجل يقول: «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» وقد أذنت لك

ص: 54

في تفضيل اعدائنا ان الجأك الخوف اليه، وفي إظهار البراءة أن حملك الوجل عليه، وفي ترك الصلاة المكتوبات ان خشيت على حشاشتك الآفات والعاهات... ولئن تبرأت منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجنانك لتبقي على نفسك روحها التي بها قوامها ومالها الذي به قیامها وجاهها الذي به تمكنها وتصون بذلك من عرف من اوليائنا واخواننا فان ذلك افضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين... واياك اياك ان تترك التقية التي أمرتك بها فانك شاحط بدمك ودماء اخوانك وضررك على اخوانك و نفسك اشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا) و حفاظا على الحياة البشرية أجاز الإمام التجاوز عليه باللسان من بعده حيث تكرر قوله (انکم سوف تعرضون على سبي فسبوني).

اما المبدأ الثاني فليس بعيدا عن الأول، بل هو امتداداً له، فحينما يوجد تقاطع بين نصوص و اوامر الشريعة مع الوجود الإنساني، فالأولوية تكون اضطرارا لحفظ الحياة عند الإمام علي (عليه السلام)، فالصلاة يمكن أن تقطع والحلف بالله كذباً يجوز والطبيب له أن يكشف على جسد المريضة(5) وقد تلغي العقوبة على امرأة زنت لتحفظ حياتها(6)، بل روي عن الإمام قوله: (لا قطع في طعام)(7) و (لا قطع في عام المجاعة)(8) فمهما كانت ملكية الأفراد مهمة لكنها لا تعني شيئاً مقارنة بحق الانسان بالحياة، ومن جهة اخرى نلاحظ أن الإمام تعامل مع روح النص الشرعي «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»(9) وذلك بتعطيل الحد في الحاجة الاضطرارية إلى الطعام وفي عام المجاعة. وبناء على ذلك يمكن القول أن الإمام لا ينظر الى النصوص بشكل مجرد فحسب بل يرى ما وراء النص في تحقيق الأهداف الاسمى ومنها حق الحياة.

اما حالات القتل الخطأ فان الإمام أسهم في تطوير نظام التعويضات المادية او ما يعرف ب(الدية) والذي قد يشمل حتى القتل المتعمد فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ان احبوا فلهم العقل وان احبوا

ص: 55

فان لهم القود(2))(3). وفيما يتعلق بالاسهامات الفكرية والعملية للامام بشان هذا النظام الاسلامي وصيغ عمله فتبدو مثلا في تحديده للدية في القتل العمد بعدة نصوص منها قوله: (الدية الف دينار - أي الف مثقال ذهب - وعلى اهل البوادي مائة من البقر او الف شاة)(4)، وهي اقل من ذلك في الخطأ وتدفع الدية خلال سنة في القتل العمد وثلاث سنين في القتل الخطأ وسن علي (عليه السلام) كذلك أن في العين والانف واللسان دية وكل منها على تفصيل(5). بل أن (الذمي والمستامن والمسلم في الدية سواء)(6) على وفق قول الامام ويعد هذا المبدأ منتهى السمو في النظر إلى الانسان انسان دون النظر إلى معتقده او مكانته لتحديد ما يمكن أن يحصل عليه من تعویض عادل.

ولقد آثر عن الإمام علي (عليه السلام) أن من حق افراد الشعب على الحكومة أن تقدم لهم التعويض المناسب على وفق ما حدده الإمام في الحالات الآتية:

1 - القتل الخطأ من قبل اجهزة الدولة.

2 - اخطاء القضاء، «لو اقام الحاكم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بیت المال.. ولو انفذ الى حامل فاجهضت خوفا.. تكون الدية على بيت المال.. وهي قضية عمر مع الإمام علي عليه السلام».

3 - وعن علي (عليه السلام) قال: (من مات في زحام جمعة او عرفة او على جسر لا يعلمون من قتله فديته على بيت المال)(3).

4 - وان «من حفر بئرا او عرض عودا، فأصاب إنسان فضمن»(4) وهذه المقولة يمكن أن تشمل أعمال الدولة ومسؤوليتها عمّا قد تسببه من ضرر على بعض افراد المجتمع. وكذلك فان الإمام فرض الدية على الطبيب والبيطار اذا اخطأ في تشیخص الداء او وصف الدواء فمات المريض او الحيوان(5).

ص: 56

ولعل أهم ما أضافه الإمام لمبدأ التعويضات عن الأضرار التي تؤدي بحياة الانسان او تشويهه واعاقته هو مبدأ التعويض المادي عن الاضرار المعنوية كالخوف والهلع الذي قد يصيب الإنسان نتيجة عمل ما - ويبدو انه (عليه السلام) كان رائد فكرة التعويض في هذا الميدان - فحين ارسله الرسول (صلى الله عليه وآله) لدفع الدية لبعض القتلى من (بني جذيمة) من الذين لم يجز قتلهم، قال لهم الإمام بعد أن فرغ من إعطاء الأموال لذوي الضحايا (هل بقي لكم بقية من دم او مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، فقال: إني أعطيكم مالا بروعة الخيل، يريد ان الخيل لما وردت عليهم راعت نسائهم وصبيانهم، وقال هذه لكم بروعة صبيانكم ونسائكم).

ورفض الإمام عملية الانتحار، ناظرا اليها كحالة من التخاذل والانهزامية من مسؤولية الحياة والفرار من مواجهة الواقع لتغييره وذلك ناتج عن فراغ الايمان وضحالة الوعي، وقد كان (عليه السلام) رافضاً للانتحار، سواء حين يقوم الانسان بقتل نفسه، فيقول الإمام: (المؤمن يموت بكل موتة غير انه لا يقتل نفسه)(2) ام عند قيام الانسان بالقاء نفسه في التهلكة او تقصيره بالدفاع عن حياته إذ يقول (عليه السلام): (والله ان امرءاً مکن عدوه من نفسه حتى يحز لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر أن يمنعه لعظیم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره)(3).

ومع هذا المنهج الفكري والعملي ازاء الحياة البشرية فمن الضروري العلم أن الإمام لم تتملکه اطلاقية غير منضبطة بشأن تقدیسه للحياة فضلاً عن أن القاتل عنده يقتل او يدفع الدية على وفق الحالة ورأي القضاء و اولیاء الدم يلاحظ أن هناك حالات اخرى (يطغى فيها الانسان ويفسد في الارض ويغدو وبالاً خطراً على المجتمع الذي يعيش فيه وهنا تتدخل العدالة فتلغي عن حياته حرمتها التي كانت لها وتقرر لهذا الانسان المفسد عقوبة الاعدام).

ص: 57

اما الجرائم التي حكم الإمام بان عقوبتها الإعدام فهي لجملة افراد هم:

1 - المرتد: أي من يغير دينه من الاسلام الى معتقد آخر(2) حيث قال الإمام: (كل مرتد مقتول ذکر کان او انثی)(3).

2 - اللص الهاتك للحرمات: حيث قال الإمام (من دخل عليه لص فليبدره بالضربة فما تبعه من اثم فانا شریکه فيه)(4).

3 - الجاسوس، او العین کما اصطلح عليه، والحقيقة لم اعثر على نص مباشر للامام بهذا الشأن، لكن رأي الإمام الحسن بن علي والإمام جعفر بن محمد الصادق والإمام علي بن موسى الرضا، وهم من ذرية الامام علي (عليهم السلام) والذين يستندون في علومهم الى حد كبير على علم النبي (صلى الله عليه وآله) وعلم الإمام (عليه السلام)، يقولون بقتل الجاسوس وان كان مسلما وذلك خلافا لأراء بعض فقهاء المسلمين الذين حكموا عليه بالحبس او التعزير(5).

ويبدو أن الإمام يذهب إلى قتل الجاسوس في الاقل من منطلق عقلي، فجريمة التجسس اضافة الى هبوطها الأخلاقي بخيانة الأمة قد تؤدي الى قتل مئات والاف من ابناء الامة وضياع قدراتها ومن ثم تراجع مشروعها الحضاري.. وذلك جميعا مما يتضاد مع الاتجاه النظري والعملي للامام.

4 - الزاني المتزوج او الزانية المتزوجة، الذين تثبت جريمتهما، تكون عقوبتهما القتل.

5 - الساحر وتتدرج عقوبته عند الإمام - من الحبس الى القتل(2).

6 - من قطع الطريق واخاف الناس لسلب الأموال، تتدرج عقوبته من قطع اليد او اليد والرجل إلى القتل، وكل جريمة بتفاصيلها(3).

ان تعداد هذه الجرائم يمكن أن يجمع تحت عنوان (الاضرار بالمجتمع وافساده) اذ

ص: 58

ان هناك حالة اعتداء من مرتكبي هذه الاعمال ضد افراد وقيم المجتمع. لذلك كان الرد العادل هو تجريدهم من مسؤولية الحياة بعد ان خانوا تلك المسؤولية.

ومما يلاحظ أن قائمة العقوبات العلوية تخلو من اي عقوبة بالقتل لاغراض سياسية، کالانتماء لجهة معارضة، او نقد وشتم الحاكم او عدم مبايعة او ما شابه، وهذا يدل على حرية المعارضة في فكر الإمام وفترة حكمه(4).

وفي الجانب العملي شخص الإمام بعض خصومه السياسيين ولكنه رفض اسلوب التصفية الجسدية للمعارضة، وان كان هذا الاسلوب من متبنيات تلك المعارضة، إذ ذهب (عليه السلام) ضحيته، فمثلا عندما اتوه بر جل وسأل (عليه السلام) عن سبب القاء القبض عليه اجاب السامع (سمعت هذا يعاهد الله أن يقتلك... فقال علي: خل عنه، فقال الرجل: اخلي عنه وقد عاهد الله أن يقتلك، فقال الإمام: انقتله ولم يقتلني، قال: وانه قد شتمك، قال الإمام: فاشتمه آن شئت او دعه).

وفي مسالة القصاص وتحقيق العدالة فان الإمام يؤكد فكرا وممارسة ضرورة توخي الدقة والمراجعة للتأكد قبل اقامة الحد والقصاص(2) والتأكید كذلك مبدأ شخصية العقوبة مبطلا نظام الثأر، إذ يقول: (ابغى الناس من قتل غير قاتله)(3) وما برح الإمام مخلصا لما آمن به من مبادئ انسانية حتى وهو على فراش الاستشهاد حين اكد رفض الثار بقوله:

(يا بني عبد المطلب لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولوا قتل امير المؤمنين(4). ومن الواضح أن الإمام اکد معاملة المجرم بانسانية حتى قبل القصاص منه إذ اوصي الإمام بقاتله (ابن ملجم) حين قال: (اطيبوا طعامه والينوا فراشه فان اعش فعفوا او قصاص وان امت فألحقوه بي اخاصمه عند رب العالمين)(5)، وقال ايضاً: (لا تمثلوا بالرجل فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول ایاکم والمثلة ولو بالكلب

ص: 59

العقور)(6).

واذا ما ثبتت الجريمة فان تنفيذ العقوبة يكون بارحم الطرق إذ يقول الإمام (عليه السلام) (لا قود الا بالاسل، والاسل هاهنا كل ما رق من الحديد وارهف كالسنان والسيف والسكين).

وبعد تنفيذ العقوبة بالمجرم كان الإمام في بعض الحالات يصلي، عليه بنفسه(2)، وكان یامر دائما اهل المتوفي بتجهيزه ودفنه بصورة لائقة ومساوية لموتى المسلمين(3)، فلقد كانت المساواة العادلة الحق الأساس الثاني الذي آمن به ودعا اليه وقاتل من اجله علي بن ابي طالب (عليه السلام).

(ولا يعجزه هارب) وان (الدنيا دار فناء)، وهنا لابد من التطرق إلى نظرة الإمام الى الدنيا، فقد ورد ذمه للدنيا حينما عدها (دار اولها عناء واخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب). ويحذر الإمام من الدنيا قائلاً (واحذركم الدنيا) فهي (دار بلية) وافعی (لين مسها قاتل سمها) أن هذه النصوص اذا اخذت كحالة جزئية، قد تعطي انطباعا غير دقيق عن نظرة سلبية للامام اتجاه الدنيا . ويبدو أن رؤية الإمام للدنيا او المحيط الخارجي اللوجود الإنساني هي رؤية حيادية، إذ ينظر اليها وفق تدخل عامل السلوك البشري فيها، فيقول الإمام علي (عليه السلام) ان الإنسان الحكيم والمؤمن ينظر إلى الدنيا: (بعين الاعتبار)(7) وينطلق ليمارس دوره الإنساني بها ومن خلالها فهي (دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها قبل أن الإمام يمتدح الدنيا مع الاسهام الايجابي للانسان] فهي مسجد احباء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر اولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة)(8) وهكذا لم يكن الذم والمدح من قبل الإمام للدنيا بحد ذاتها ولكن بحسب نوعية الدور الإنساني فيها سواء كان سلبا ام ايجاباً؛ هدماً أو بناءً.

ومع اقرار الإمام بحتمية الموت فانه يوجهه كعامل للنهوض بالحياة وتفعيلها، فوجود

ص: 60

الموت يدعو الى تكريس الحياة للعمل والمثابرة والسعي لتطور المجتمع وترك اللهو العبثي الذي لا طائل منه. ويكون الموت قاعدة اولى لترسيخ احترام حقوق الاخرين، ونبذ الكراهية ومدعاة للعطاء والتباذل بل ان في حتميته يقر ارقى انواع السلوك الانساني في نبذ التفاخر والكبر(4) ومنع الظلم(5) ويكون الية لدفع الذل والظلم عن الانسان(6).

ووفقا للفكر العلوي، فان الحياة قيمة عليا تتغلب على الموت، وان أي اعتداء لازهاق حياة انسان، وبغض النظر عن ماهية ذلك الانسان، هو اعتداء على الارادة الإلهية الموجدة والمانحة الوحيدة للحياة من جهة وجريمة بحق الإنسانية جمعاء، وسلب لحق اساسي من حقوق الإنسان الا وهو (حق الحياة) من جهة اخرى، لذا فان الإمام نظر الى القتل بانه جريمة كبرى فيقول(عليه السلام) ان من (الكبائر الكفر بالله، وقتل النفس ..)(7).

بل ان الإمام وقف بالضد من التهديد باستخدام القتل وما دونه من تعذيب واهانة وما شابه من وسائل انتقاص الانسان وتحت أي ذريعة ليقر بذلك (حق الامن) للمجتمع، فقد اشار (عليه السلام)، إلى أنَّ من سلبيات مجتمع الجاهلية، قبل عهد الرسالة الإسلامية، هو تفشي ظاهرة انعدام الامن وشيوع سفك الدماء فيتوجه بخطابه الى العقول اين ما كانت او وجدت فيقول: (ان الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) نذیرا للعالمين وامينا على التنزيل وشهيدا على هذه الامة، وانتم يا معشر العرب على غير دين وفي شر دار تسفكون دماءكم وتقتلون اولادكم، وتقطعون ارحامكم(1)، وان سمات الدنيا في ظل انعدام الامن تكون (متجهمة لاهلها،عابسة في وجه طالبها،ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة وشعارها الخوف ودثارها السيف)(2).

وبدلا من مجتمع الخوف الذي رسم الإمام ملامحه في كلماته السابقة يطرح (عليه السلام) المشروع البديل في تحقيق الامن وهو(الإسلام) فيقول: «الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه، لمن ورده، واعز اركانه على من غالبه فجلعه امنا لمن علقه(3)

ص: 61

وسلما لمن دخله»(4). ان المشروع الإسلامي لبناء المجتمع الامن، في رؤية الامام علي (عليه السلام) يتمثل بعدة ابعاد لعل من اهمها:

4. الامن المعنوي او الروحي والسعي لإشاعة مفاهيم وسلوكيات التقوى والهداية: (فان جار الله امن وعدوه خائف)(5).

5. الامن القضائي(6).

6. الامن الاقتصادي(7).

7. الامن الداخلي والحدودي: إذ يقول (عليه السلام)عن احد ثقاته (واسد به لهاه الثغر المخاوف)(8) ويمتدح (عليه السلام) القوة العسكرية قائلاً: (فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن وليس تقوم الرعية إلا بهم)(9)، ومن واجبات الحكومة والحاكم ان «تأمن فيه السبل»(10).

8. الامن الخارجي واستباب السلام الذي جعله الإمام هدف لسياسة الحاكم وحق للامة، اذ يقول (عليه السلام) (لا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك الله فيه رضى فان في الصلح دعة لجنودك وراحة لهمومك وامناً لبلادك).

9. الامن السياسي والاجتماعي: في هذا المضمار يرفض الإمام ان يروع الإنسان وان تكون السلطة، مهما كان موقعها في المجتمع (سلطة الاب، الزوج، رئيس العشيرة، رجل دين، والي او موظف كبير، رئيس دولة)، عامل لاثارة الخوف في نفوس الاخرين اذ يقول: (لا يحل لمسلم ان يروع مسلما) وكذلك فأن (من نظر الى مؤمن ليخيفه أخافه الله يوم القيامة).

ويعطف الإمام فكره نحو السلطة الحاكمة باعتبارها القوة الاهم داخل الدولة والمجتمع، متخذا الحكم الاموي والتحذير منه نموذجا فيقول عن اسلوب تعامله مع الشعب (يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم الا

ص: 62

السيف والا يجلسهم(4) الا الخوف(5). اما واقع بعض الشخصيات المبدئية التي تتصدى لمشروع التسلط واشاعة الخوف وسفك الدماء (فقد شملتهم الذلة، فهم في بحر اجاج، افواهم ضامزة(6) وقلوبهم ترحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا وقتلوا حتى قلوا)(7) على وفق وصف الإمام، الذي تصدى لهذا الواقع، في ضمن مشروعه الانساني والسياسي، فيبرز (علیه السلام) حق الامن بان صيره محورا لحركته

السياسية إذ يقول: (اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك).

ويعد الإمام ان تحقيق الامان من افضل الاعمال (فمن امن خائفا امنه الله وان الامن بمختلف ميادينه، وفقاً لرؤيته (عليه السلام)، هو معيار مهم لتقييم وضع الدولة واداء الحكومة وتطور المجتمع (فشر البلاد بلد لا امن فيه ولا خصب)، بل ان بقية النعم والحقوق تتلاشى مع وجود حالة الخوف والاضطراب في المجتمع إذ يقول (علیه السلام) (لا نعمة اهنا من الامن).

ولعل من اهم سمات الشعور بالامن، هو امن الانسان على حياته، فحق الحياة من (المبادئ التي ظل امير المؤمنين مصرا على اشاعتها بين الناس... ولكل انسان ان يعيش امنا مطمئنا على حياته، دون خوف او وجل او تهديد او ارهاب من احد او سلطة او جهة).

ص: 63

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي

من العوامل المؤثّرة في طبيعة تشكيل النظام الاجتماعي وتوالد أو تراكم الظواهر الاجتماعية هو ماهيّة الحكم والحاكم في المجتمع، إذا ما علمنا أن السلطة لها - أيّ سلطة - تتبنّى مبادئ ومناهج مُعينة في السياسة والثقافة والتربية، فإمّا أن تكون هذه المبادئ وضعيّة من صُنع الإنسان نفسه أو إلهيّة.

ففي الأنظمة الوضعيّة يَحلّ حُكم الإنسان محلّ حُكم الله تعالى، وتضحي أطروحة الإنسان في التربية والثقافة بديلة عن التشريع الإلهي المعصوم.

(والأمر في الإسلام على العكس من هذه الفكرة تماماً، ففي (نهج البلاغة) مثلا، مع أنّه كتاب معرفة الله وتوحيده، ومع أنّه يتكلّم في كلّ مكان عن الله وعن حقوقه على العباد، لم يسكت هذا الكتاب المقدّس عن حقوق الناس الحقّة والواقعيّة، وعن مكانتهم المُحترمة المُمتازة أمام حُكّامهم، وعن أنّ الحاكم في الواقع ليس إلاّ حارساً مؤتمناً على حقوق الناس، بل أكّد على ذلك كثيراً.

إنّ الإمام الحاكم في نهج البلاغة - حارس أمين على حقوق الناس ومسؤول أمامهم، وإن كان لا بدّ من أن يكون أحدهما للآخر، فالحاكم هو الذي جعل في هذا الكتاب المقدّس للناس لا أن يكون الناس للحاكم).

(وفي الدُرّ المنصور، بأسانيده عن علي (عليه السلام) أنّه قال: (حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا له لیا وأن يطيعوا وان يُجيبوا إذا دُعوا)، فالمُلاحظ هو أن القرآن الكريم يرى الحاكم حارساً أميناً على المُجتمع، وإنّ الحكومة العادلة إنّما هي أمانة على عاتق الحاكم يجب أن يؤدّيها إلى الأُمة، وأنّ أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من وُلده (عليهم السلام) إنّما أخذوا عن

ص: 64

القرآن ما قالوه بهذا الصدد).

لكنّ الصورة تتماسك أمامنا، وتنتظم أطرافها ليأخذها بعضها بتلابيب البعض، إذا ما أمعنّا النظر في التصوّر الذي يُقدّمه الإمام علي (عليه السلام) للسلطة والمجتمع، حيث إنّ الإمام (عليه السلام) أعطى صورة واقعيّة حيّة للعلاقة بين السلطة والمجتمع أولاً، ثُمّ بين الأفراد أنفسهم الذين يُكوّنون المُجتمع أولاً، ثُمّ وضّح حقوق الناس على السلطة، وحقوق الأفراد على المجتمع داخل النسيج الاجتماعي، وحقوق السلطة على المجتمع، في أفضل ما وضع وأجمل ما طرح، وبه تتحقّق سعادة المجتمع وتقدّمه ورقيّه.

فقد دخل الإمام (عليه السلام) في أدقّ التفاصيل في العلاقات العامّة، ثُمّ أعطى السُبل الصحيحة والمُناسبة لتفادي حالات السقوط والانهيار. وقد أشار إلى القوى التي تُبعّد عن الفساد والخلل الذي ربما يحدث في أيّ وقت، ثُمّ ربط الهياكل المُكوّنة لهذه العلائق وطبيعتها، وحدّد الطُرق الواجب اتّخاذها كمنهج عملي وعلمي لتسيير دورة الحياة اليوميّة، فلم يترك شيئاً ويأخذ آخر، إنّما توجه (عليه السلام)

إنّ الإمام علي (عليه السلام) جعل كلّ الأُمور التي يعيش بها الخلق من سلوك وتعامل وتبادل وتناصح، بل العلاقات العامّة والصيغ المُتبادلة في العمل وفق ما أراده الله تعالى؛ لأنّ الباري عزّ وجل أوجب هذه لتلك بموجب قانون إلهي، وهو التساوي في وجوه الحقّ المفروض على الناس، بحيث جعل فيها التناسق والنظام والتلازم وبدونها لا يصلح شيء في المسيرة الإنسانيّة، وكذلك هذا الوجوب لا يكون بعضه إلاّ ببعض، ثُمّ بيّن (عليه السلام) ذلك بصورة اوضح (وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ

حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نظِاَما لأُلْفَتِهِمْ وَعِزّاً لِدِينِهِمْ.فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاة،ِ وَلا تَصْلُحُ الْوُلاةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ. فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إلى الْوَالِي حَقَّهُ وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ

ص: 65

الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَی أَذْلالِهَا السُّنَنُ؛

فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ).

إنّ الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين كما ذكرها الإمام (عليه السلام) فيها الجوانب المُهمّة والدعائم الأساسيّة لثبات كيان المجتمع وحفظ مظاهره الإيجابيّة وصورة نظامه، هذا إذا شعر الوالي بأنّ الله قد فرض له حقوقاً على رعيّته، وكذلك حقوقاً للرعية على الوالي، وبحفظهما وعدم الإخلال بتوازنهما تكون (نظاماً لأُلفتهم)، وبهذه الأُلفة وهذا التعاون والمحبّة والصدق في نيّاتهم وضمان تسديد الحقوق إلى مُستحقّيها والالتزام اتجاه بعضهم البعض الآخر هي الضمان الحي للمسيرة الصالحة.

إذن؛ هذه الحقوق التي فرضها الله تعالى على الجانبين هي حقّ الوالي على الرعيّة وحق الرعيّة على الوالي. والمقصود بالحق الأوّل هو حقّ الدولة وقائدها، أي: السلطة القائمة على المجتمع.

فالإمام (عليه السلام) في نصّه يطرح هذا الموضوع شرطاً في نموّ الدولة ودوامها، ويضع هُنا واحداً من مفاتح تفسير التاريخ، في واحد من شروط نموّ الحضارات ودوامها.

ويُمكن طرح الجوانب الإيجابية للعلاقة المُتبادلة بين الراعي والرعيّة كما يلي:

1 - إنّ هذه العلاقة الودّية والتي استوجبت على الطرفين حقوقاً مُتبادلة أصبحت نظاماً للأُلفة والمحبّة والوفاء.

2 - بهذا الود والحُب والتعايش العائلي داخل البلد والتوافق والانسجام ومُراعاة الضوابط لا التي حدّدها الباري عزّ وجل في العلاقة الحقوقيّة المتبادلة سيعزّ الدين ويرتفع شأنه.

3 - صلاح الوالي، فبصلاحه وأهليته كإنسان مؤمن وصادق وأمين غير خوّان ولا مُنافق يُدلّس على الناس أعماله أو يُخفي أمره وأسراره، فإنّه تصلح به الرعيّة، وإذا كان فاسداً

ص: 66

مفسداً عند ذاك تفسد الرعيّة؛ لأنّه لا صلاح للرعية اإلاّ بصلاح القدوة القائد. كذلك إذا انحرف المُجتمع وانفردت به الشهوات والرغبات الأنانية والمطامح الشخصيّة - أي حُبّ الذات بكلّ معنى لها - تاركاً أمر الله وحقوقه، مبتعداً عن تعاليم مقدّماً مصلحته على الصالح العام، مُقرّاً بالصفات الذميمة والشريرة والرذيلة، بعيداً عن الاستقامة التي حدّدها القرآن؛ فإنّه سيفسد أمْر الولاة ولا يستقيم، وبالتالي تنهار العلاقة الإيجابيّة التي وضعت أُسسها سابقاً، ويُدمّر النسيج الاجتماعي المتراص مع الحاكم.

إذن؛ لا بدّ أن يؤدّي الناس حقّ الوالي ويؤدّي الوالي حقّ الناس؛ حتى يسود الحقّ بالعدالة والسمو في المجتمع بالالتزام المتبادل بالحقوق الواجب أداؤها على كلّ طرف إزاء الطرف الآخر.

وسيترتّب على ذلك:

1 - ارتفاع شأن الحقّ بينهم.

2 - التطبيق الكامل لمنهج الحق وطريق الدين الحنيف.

3 - وضوح معالم العدل الذي يسود المجتمع.

4 - جريان السنن الإلهيّة كما أرادها الله سبحانه وتعالى.

5 - رفاهية المجتمع وسعادته في الزمان الذي طُبّقت فيه أوامر الله تعالى.

6 - الرغبة والتمنّي لطول بقاء الدولة والدفاع عنها في الوقت العصيب.

7 - يأس العدو وردّه على نحره وطمر كلّ مطامعه.

هذه سبع نقاط إيجابيّة مُهمّة يحصل عليها المُجتمع والدولة معاً من خلال الوفاء

ص: 67

بالواجب الإلهي المفروض على الطرفين، وإنّه ليس (عقداً اجتماعياً) کما وصفه (جان جاك روسو) أو غيره، إنّما سُنن صالحة معتمدة تامّة التطبيق ومضمونة النتائج لصلاح المجتمع والسلطة معاً.

والإمام (عليه السلام) لا يسكت عند هذا الحد، إنّما يتحول إلى الجانب السلبي من العلاقة بعد أن تحدّث عن الجانب الإيجابي المُثمر، وسنأتي إلى طرحها تباعاً إن شاء الله.

بقي لنا أن نتساءل: ما هي هذه الحقوق التي توفّر الأمن للعلاقة الإيجابيّة وتُعطي الطاقة الفاعلة للسير على طريق الحق والاستقامة، وإقامة العدل في المجتمع؟ لإنّه كما قلنا إنّ هدفنا هو اتباع منهجيّة أو إعطاء ملامح عامة لنظرية اجتماعية إسلامية تسير عليها المجتمعات الإنسانية باتخاذها منهجاً سليماً للعمل به، فنعود ونسأل الإمام علي (علیه السلام) أن يُعطينا صورة لهذه الحقق وماهيّتها، فجاءنا الجواب بهذا الكلام البليغ: (أَيُّهَا النَّاّسُ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفيِرُ

فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَ تَعْلَمُوا. وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ).

ص: 68

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي(عليه السلام):

إذن، الحرب ليست هدفا عند الإمام علي (عليه السلام)، إنّما الاجتماع والتعاون والتعايش السلمي هو الهدف...، والدفاع عن الدين ورايته هي ليست دعوة إلى الحرب وتأجيج نارها، إنّما هي إصلاح واقع الهيكل الاجتماعي وتطبيق الشريعة ورسم الصورة الصحيحة للمسيرة البشرية في حياتها ودحر الباغي على الدين وأهله، فإنّه لا يمكن الإغضاء عنه والابتعاد منه وتركه في غيّه يصول ويجول، وإنّه اذا ما تمادى في ذلك فإنّه سيسعى فساداً في الأرض ويُهلك الحرث والنسل، وهذا ما حدث فعلاً من خلال غارات جيش معاوية على القُرى والنواحي والمُدن في أطراف الدولة الإسلامية، حينما انخدع فريق بحيلة معاوية في رفع المصاحف، ونكصَ عن حربه، وما أفعال بسر بن أرطأة - أحد قادة معاوية - إلاّ شاهد واضح على ذلك، حيث قام هذا الذنب بالتقتيل وتشريد وسلب النساء وذبح الأطفال على صدور أُمهاتهم، كما فعل مع أطفال عبيد الله بن العباس والي الإمام علي (عليه السلام) على اليمن.

وإذا ما راجعنا عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر نجد هذا النص: (وَلا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلِّهَ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَأَمْناً لِبِلادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)، فالقبول بالدعوة إلى الصلح والسِلم هي نابعة من حبّ عليّ (عليه السلام) إلى الحق والعدالة، (وصاحب هذا التوجه في تاريخ العرب لا بدّ له أن يكون محبّاً للسلم كارهاً للقتال، إلاّ إذا كان القتال ضرورةً اجتماعية وإنسانية، وحبّه للمسلم إنّما كان نتيجةً منطقية محتومة لمعنى المجتمع لديه، ولِما قاده إليه العقل والتجربة من إدراك هول الحروب ومقدار ما تسيء إلى الغالب والمغلوب من أبناء آدم وحوّاء، ولا بن أبي طالب في هذا المجال موقفٌ جليلٌ آخذٌ من العقل والقلب

ص: 69

والشرف جميعاً، ونحن لا نغالي إذا قلنا أنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حبّ القتال شريعةً لهم في الجاهلية أنكرها النبيّ وأنكرها العاقلون، وحبّ السِلم في القرآن من عمل الله، وحبّ القتال لغير سبب معقول من عمل الشيطان، وفي سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ...أما أروع ما في هذا المبدأ الذي كشف عنه ابن أبي طالب دون عنت ودون إجهاد، فهو أن هذه الثورية الدافعة إلى التطور أبداً، إنّما هي ثورية خيّرة تنقل البشر أبداً من حال إلى حال أفضل.

أنّ علياً يوحّد ثوريّة الحياة وخير الوجود روحاً ومعنى، فأشدّ ما رأيناه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى الوجود توحيداً لا يجعل هذا شيئاً من تلك ولا تلك شيئاً من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاً من خير الوجود وخير الوجود كلاً من ثورية الحياة، فالثوريّة في المبدأ العلوي أنها في تطوّر لا يهدأ في سبيل الخير، وهذا التطور في ما يُستفاد من مذهب ابن أبي طالب (عليه السلام)، سنّة طبيعيّة لا يمكن لقوةٍ من القوى أن تعوقها أو تقف في سبيلها.

غير أنّ الإنسان قادر على أن يفهم هذه الحقيقة، فيُساعد الطبيعة في مُهمّتها الثوريّة الكبرى، فيفيد من الزمن وينجو من خطر المعارضة لناموس الحياة. أمّا إذا وقف في طريق هذا التطوّر أن يعوقه أو يحوّل مجراه، فإنّه خاسرٌ إذ ذاك مسحوقٌ بعجلة الحياة السائرة إلى أمام).

إنّ مسألة عقد الاتّفاقيّات وإبراهما أو إعطاء العُهود للخصم في وقت الحرب عند علي (علیه السلام) هي من المسائل المهمّة التي لا تراجع فيها، حيث يمضي (عليه السلام) في وصل حلقات منهاجه القويم في ظروف الحرب، فيقول: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ

ص: 70

جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللِّهَ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ، فَلا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَی الله إلِا جَاهِلٌ شَقِيٌّ، وَقَدْ جَعَلَ الل عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً

أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إلى مَنَعَتِهِ وَيَسْتَفِيضُونَ إلى جِوَارِهِ، فَلا إِدْغَالَ وَلامُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ).

إذن، احفظ العهد الذي أعطيته بالوفاء، وارعَ الذمّة بالأمانة، (ثُمّ إنّ الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله أشدّ من اجتماعهم على تعظيم الوفاء بالعهود، مع تَفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم، حتى أنّ المشركين التزموا الوفاء فيما بينهم، فأولى أن يلتزمه المسلمون).

وفي كتاب الله تعالى نقرأ آیات مُتعدّدة بهذا الشأن: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً)، (وَالّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).

ثُمّ إنّ هؤلاء قد عرفوا أنّ الغدر يعود عليهم وبالاً (وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ)، أي: لا تخن عهدك وتنکث، (وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ) من باب المخاتلة، أي المكر والخداع.

ثُمّ (فَلا إِدْغَالَ وَلا مُدَالَسَةَ وَلا خِدَاعَ فِيهِ) معناه: لا إفساد ولا خيانة ولا خداع، فهي ثلاث من الصفات الذميمة التي تستنزل غضب الله تعالى، وتقود إلى تفكك عُرى الكيان الاجتماعي، لينحدر حتماً في مسار التدني الحضاري.

ثُمّ يتطرق الإمام (عليه السلام) إلى المواثيق السياسية والديبلوماسيّة بعُرفنا الحالي، وضمن حالة الحرب والسلم والاتفاقات المتعلّقة بها، حيث يقول: (وَلاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إلى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ

ص: 71

بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَلا آخِرَتَكَ).

فإذا تعلّل المعاقد لك بعلّةٍ قد تطرأ على الكلام وطلب شيئاً لا يوافق ما أكدته وأخذت عليه الميثاق، فلا تعوّل عليه، وكذلك لو رأيت ثقلاً في التزام العهد، فلا تركن إلى لحن القول لتتملّص منه، فخذ بأصرح الوجوه لك وعليك.(2)

هذه هي مفاهيم الإسلام العظيمة، فالأمانة والعهد والوفاء والصدق هي مفاهيم أكّدها الإسلام طريقاً إلى سعادة البشرية وتكاملها.

وإنّ المرء ليقف مذهولاً بحقٍّ أمام عظمة هذا الرجل المُلهَم وهو يُفصّل في ذلك الزمان البعيد أرقى نُظم الحرب والسلم وشروط المعاهدات الدوليّة.

إنّ الذي يُدرّس اليوم في أعلى المراحل الجامعية، والمعاهد الديبلوماسية كقانون حقوقي وسياسي ثابت في العلاقات الدوليّة، وتعتمده الأُمم المتّحدة أو المنظمات الدولية الأُخرى في إبرام المعاهدات والاتفاقات الدوليّة لم يتخطّ هذه المواد التي فصلّها الإمام (عليه السلام).

خذ مثلاً على ذلك، المعاهدات والاتفاقيات المعقودة بين دولتين أو أكثر بسبب نزاع حدودي، أو صراع على جرف قاري، أو حول كيفية استغلال منابع وثروات معدنيّة مُشتركة - تقع ضمن الحدود الفاصلة بين البلدين - أو تحديد طبيعة استغلال تلك الثروات النفطيّة أو الغازية بفعل تأثير عمليات السحب في هذا الجانب أو ذاك، أو بفعل تدخلات في الشؤون الداخليّة للبلد الآخر، والتي غالباً ما تؤدّي إلى حرب أو صراع دولي، لأجل الحصول على موطئ قدم أو تشكيل مناطق نفوذ دوليّة... هذه المعاهدات أخذ العالم المُعاصر يحتاط في تدوينها خشيةً من وقوع فرص التعلّل بما قد يعتري بعض

ص: 72

ألفاظها من إبهام.

فغالباً ما تلجأ الدول إلى كتابة هذه المواثيق بلغات مُختلفة، فيكتب مثلا نصّ المعاهدة بلسان البلدين وبلغةٍ واضحة، ثُمّ يُضيفون لغة ثالثة عالمية يتفقون عليها تُعتبر كمرج أساس في حالات تباين التفسيرات في مواد الاتفاق، ويكتب ذلك في الملاحق القانونية للمُعاهدة، أي: يعتمدون على النص الذي اتّفقوا عليه كمرجع لتفسير النصوص واعتماد ذلك المرجع وتثبيته، ورغم ذلك فهناك تحايل والتفاف وتلاعب بمعاني الكلمات، واستخدام التورية بحيث تحتمل الكلمة عدّة معانٍ لغرض التهرّب من الالتزامات التي وافقت ووَقّعت عليها الدولة، وما أكثر ما يحدث هذا في عالمنا المعاصر، ولهذا تسعى الدول إلى استخدام أذكى وأقدر الخبراء والسياسيّين في تثبيت النصوص وتدقيقها؛ حتى لا تقع في المزالق القانونيّة والسياسيّة في عصر المكر والخداع وانعدام المبادئ في العلاقات العامّة.

وهذا ما أكّده الإمام علي (عليه السلام) قبل مئات السنين، وحذّر من الوقوع في مداخله (ولا تعقد عقدا تجوز فيه العِلل)، كذلك يطلب (عليه السلام) أن لا يستخدم لحن القول كملاذ للهروب من الالتزام والمواثيق، هذا هو منهج علي (عليه السلام). وما أكثر ما يتمنّى المرء لو أنّ المجتمعات البشريّة سارت على هداه ومنهجه لتتجنّب السقوط والدمار والخراب العام في الحضارة، وبالتالي خسارة الإنسان لِما بنى وما بذل من جهد في سبيل الرقي والمدنيّة، بفعل نقض عهد، أو تهوّر سلطان، أو اعتداء أثيم، أو غزو في ليلة ظلماء وما شابه ذلك.

ثُمّ يؤكد الإمام (عليه السلام) على أنّ صبر الوالي على الضيق الذي لحقه من العهد، وتحمل ذلك على أمل الانفراج في العُقد والمشاكل التي أحاطت به هو خير وأفضل من غضب الله وعدم رضاه في حالة الغدر ونقض العهود والمواثيق.

ص: 73

إنّ هذا الكلام يحمل في طيّاته أعلى القيّم وأرقى المفاهيم الأخلاقية في التعامل الإنساني، يحمل قيمة الإنسان معه وإنسانيّته التي دمّرها المتوحّشون في عصرنا الحالي، يحمل معه روحاً عالمية الآفاق، بعيدةً كلّ البُعد عن الضيق والانغلاق الحضاري والفكري، وبعيدة أيضاً عن القيم الزائفة، من غدرٍ وكذبٍ ونكثٍ واحتيال، والتي جرّت إلى ويلات الحروب والصراع الذي أكل من البشرية ما لا يُعدّ ولا یُحصى من ذلك المخلوق الذي كرّمه الله تعالى وهو الإنسان، ومن تلك الطبيعة التي خلقها الله تعالى للإنسان لكي يتمتّع بنِعمها ويستغلّ مواردها في سبيل راحته ویُعمّرها من أجل سعادته.

لكنّ هذا - كما تأكّد سلفاً - لا يمنع من التأهب والاستعداد لمواجهة الطوارئ المُحتملة، فالإسلام لم يمنع ذلك، بل أقرّه.

فالحرب ليست هدفاً بحد ذاتها، إنّما هي وسيلة للدفاع عن الدين والجهاد في سبيل إعلاء راية الحق. وهذا عليّ (عليه السلام) يُدير الحرب والسلام معاً، الحرب لأنّه اضطر إليها بعد أن أتمّ الحجّة، فهي للدفاع عن دين الله وهيبته ومبادئه السامية التي حاول الطامعون والمنافقون والمُضلّلون اختراقها.

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير:

ممّا يُلفت النَظر في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الجُملة الأخيرة منه (وإنّما الناس مع المُلوك والدنيا، إلاّ مَن عَصم الله).

وكأنّ هذا هو مبدأ أساس أو جزء مُهمّ من الظواهر الاجتماعية على الكُرة الأرضيّة، يا ترى هل أنّ الناس دائماً مع المُلوك وحبّ الدنيا والتساقط على الدنانير؟ وما هي أسباب ذلك؟ هل الدولة أم السلطان أم الايدلوجيا ذات تأثير مباشر على هذا السلوك الخاطئ؟ وما هو العلاج إذن؟

إنّ تأثير الدولة الصالحة والدولة المُفسدة على المجتمع هي من حقائق الأمور الظاهرة،

ص: 74

هذا في الواقع العملي، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى دراسة وتحقيق لمعرفة جذوره، كما أنّ له صِلة وثيقة في معرفة العوامل التي تؤدّي بالدولة إلى الصلاح أو إلى الفساد.

إنّ التاريخ يُحدّثنا عن حياة الأُمم التي مضت والحضارات التي قامت واندثرت، فيُبيّن لنا سيرة المُلوك والحكّام، وأثرها السلبي أو الإيجابي على حياة ومسيرة وتطوّر المُجتمعات.

فلننظُر إلى أُمّة على رأسها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائداً وموجهاً ومُقنّناً وراسماً للمنهج الذي يستنير به الناس، ومُربّياً يسعى ليلاً ونهاراً باذلاً جهده لبناء مجتمع سليم قوي تسوده العدالة والسعادة والرفاهية. إنّها الصور الرائعة التي تجذبنا وتهزّنا من الأعماق، وتُجدّد فينا الحياة، وتبعث فينا الطمأنينة والاستقرار لبناء المستقبل الزاهر على ما سَنّه واختطّه رسول الإنسانيّة، فالكلّ على عِلم بالسيرة النبويّة الطاهرة، وبذلك الله المجتمع المدني الإسلامي الذي عاش في ظِلّه الفقير سعيداً ومُكرماً، وفيه من مراتب الإيثار والتضحية والمؤاخاة ما تَحلُم به النفوس، بل ذلك الصبر والتحمّل وهوان النفس اتّجاه الدين هو من علاماته أيضاً، والاندفاع اللامُتناهي نحو الشهادة والموت في سبيل من أجل الحقّ والمبدأ القويم، ومن شواهده ذاك المجاهد عمر بن الحمام - أخوبني سلمة - حينما سمعَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُحرّض الناس على القتال، حيث قال: (والذي نفس محمّد بيده، لا يُقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتَل صابراً مُحتسباً، مقبلاً غير مُدبر، إلاّ أدخله الله الجنّة)، فقال عُمر بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! ثُمّ قذف التمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتّى قُتل، هذا المجتمع الذي بناه القائد العظيم والإمام الهادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لكن مع أمثال هذه الصورة وممّا لا يُمكن حصره على شاكلتها، وهذا التماسك

ص: 75

الاجتماعي فإنّ ذلك لا يمنع من وجود منافق هُنا وهناك في قلبه مرض، في هذا الجانب أو ذاك وقد تأصّل في قلبه الجَشَع وحُبّ الدنيا، إلاّ أنّ الأعم الأغلب هُم حَمَلة الرسالة الّذين نشروا مبادءها في كلّ البقاع، وهم المَثَل الذي يُضرَب به في السُلوك الإنساني القويم والخُلُق الرفيع.

إنّ الشعوب إذا ما تهيأت لها الأسباب من قيادة رائدة تجعل من الذات الإنسانيّة التائهة حقيقة أخلاقيّة لها دورها الحقيقي في ترابط المُجتمع وحفظ جمعه وِفق المبادئ العادلة السليمة تكون في مستوى أخلاقي رائع تغمرها السعادة والاطمئنان.

إنّ مِثلَ هذه القيادة وهذه الأُمّة ستكون في المقدّمة بالنسبة للشعوب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك تكون أُمّة يقودها فرعون طاغية يستخفّ بقومه ويقهرهم على طاعته، بل على تصديق ضلالاته والدفاع عنها.

إنّها أُّمّة يصعب أن تُذعِن لبُرهان حقٍّ، أو تستفيق من طغيان ظُلم واستهتار، حتى وهي تبصر الآيات والدلائل البيّنة، فلا استوقفتها هزيمة السَحَرة وإذعانهم لمُعجزات موسى، ولا استفاقت لآيات العذاب والرُعب في الضفادع والقُمَّل والجراد والدم، وحتى انغلاق البحر لقوم موسى لم يُحرّك في ضمائرهم نزعة التَحرّر من ذلّ العبوديّة والخنوع!

حقائق ثابتة:

إنّ محور كلام الإمام (عليه السلام) يدور حول العمل مع المُجتمع من خلال تطبيق الحقّ والعدالة، وتسيير أُموره وِفق ما حدّدته الشريعة الإسلاميّة، فكان هَمّهُ ووصاياه بندرج في هذا الأمر.

ولهذا نجد أنّ أغلب كُتُب الإمام فيها تذكير أو توبيخ أو تقريع أو وصايا اجتماعية

ص: 76

وغير ذلك، والدفاع هو حماية رعيّته، وأغلبها لها علاقة خاصّة بالمجتمع وتحوّلاته وأعماله ومُراعاته والرفق به ومساعدته في الظروف الصعبة التي تستوجب ذلك.

فالفكر الذي يحمله (عليه السلام) هو فكر إسلاميّ إنساني، والترابط وثيق بين الإسلام والإنسان والحق والعدالة، والمساواة هي من سُنن القرآن وشريعة محمّد (عليه السلام)، ومن أجل ذلك أرسل الله الأنبياء والرُسل مُبشّرين ومُنذرين، وعليٌّ (عليه السلام) صورةٌ صادقةٌ للوعي الرسالي والتطبيق العادل والشامل لكلّ مفاهيم القرآن على المجتمع، بل البشرية جمعاء. فرسالة عليٍّ (عليه السلام) هي رسالة الإسلام والقرآن إلى الإنسانيّة، ولهذا نجد الروح الإنسانيّة العالية في نفس عليٍّ (عليه السلام) تدور معه حيثما دار کدوران الحقّ معه.

إذن، فالسِمات البارزة والرئيسيّة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي رفع شأن الدين ورضاء الله، ورضاء الله لا يتمّ إلاّ برضاء عيال الله، ونبذ كلّ ما هو ضدّ تَقدّم البشريّة وحُريّتها وسعادتها، ونُلاحظ من خلال ذلك أنّ المفاهيم العامة التي يحملها سيّد المُوحّدين، والتي طبّقها على نفسه وأهله قبل تطبيقها على غيره، هي التي جذبت النفوس وجعلته رمزاً خالداً على مَرّ الدُهور.

فالثورة الفرنسيّة التي ما زال العالم الغربي يتبجّح بأهدافها الإنسانية وعلى أنّها من بنات أفكارهم، وأنّ فلاسفتها أعطوا معنىً لحياة الإنسان من خلال شعار (حرية - عدل - مُساواة) نجد أنّ هذا الشعار هو جُزء من المبادئ الإسلاميّة التي أعلنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهي بكلّ ما حوت من قِيَم إنسانيّة طرحها الإمام علي (عليه السلام) قبلهم بمئات السِنين.

ص: 77

فلنأخذ بأيدي هؤلاء، ونفتح أذهانهم على الصور الواقعيّة التطبيقيّة في تُراثنا الإسلامي المجيد، من عقيدة مُتكاملة تامّة وفِكر عظيم ثاقب، وتُريهم ماذا أعطى الإسلام من مفاهيم خالدة، وما هي سيرة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ وما هو فكر عليّ (عليه السلام)؟ وما تضمّنته رسائله وكتبه بشأن ذلك؟ إلاّ أنّ الذي يَحزّ في النفوس، ويخلق الآهات والحسرات في الصدور هو ضياع الإسلام بين أهله، وتعلّق الآخرين بمبادئه والاستفادة منها تحت عناوين مُختلفة.

حُريّة الإنسان في المُجتمع:

هُناك مَن يقول أنّ الإنسان يولد حُرّاً، والمجتمع هو الذي يُقيّد حُريّته وحركته، فالطفل حينما يُولد تأخذه القابلة فوراً وتُقمّطه بقماطه وتشدّ يديه ورجليه وتمنع حركته، فإذن أوّل شيءٍ يستقبله هو القيد بِيَدِ عضو من المجتمع الكبير وهي القابلة، فتُقيّد حريّته، حين أنّ هناك كلمة للإمام (عليه السلام) هي أبلغ من كلّ كلامٍ، وأكثر واقعيّةٍ من غيرها، ولها مدلولاتها التحرّرية، وفيها معانٍ سامية هدفها خَلق الإرادة الفكريّة والعمليّة لدى الإنسان، فقد قال (علیه السلام):

(لا تكنْ عبدَ غيرك وقد خلقك الله حُرّاً)، فالعبوديّة خالصةٌ الله تعالى لا لغيره، والإنسان حُرٌّ في إرادته وفي تفكيره وفي حياته العامّة، وهذه الحريّات يجب أن يُرافقها مُراعاة الجوانب والضوابط التي حدّدتها الشريعة؛ حتى لا تُنتهك حُقوق الآخرين المشروعة في العيش بسلام وأمان، وتُصان الحياة العامّة والنُظم التي تُسيّر الحياة الاجتماعيّة من كلّ انحراف أو تجاوز، مع احترام القوانين التي تُنظّم المسيرة الاجتماعيّة، ومع ضمان سلامة الحُريّات العامة ضمن إطار الشريعة الإسلاميّة، فإنّ الإنسان سيتحرّر ذهنه من الضغوطات القاتلة لحركة الإبداع والتطور، وبالتالي فإنّ هذا الإنسان سوف لا يشعر بالذلّ والاستعباد والحقارة ويكون عنصراً نافعاً، حتى في جانب الإيمان العقائدي يرفض

ص: 78

الدين الاعتقاد الوراثي المُقولَب والجاهز، إنّما يرى في ذلك آثاراً سلبيةً مُستقبلاً، ويؤكّد على أنّ الإنسان يجب عليه التفكير والتدبّر قبل الإيمان والاعتقاد؛ حتى يضمن التماسك والرصانة أمام كلّ التيّارات المختلفة؛ فعليٌّ هو سعادة للبشريّة في أفكاره وسلوكه؛ لأنّها قابلة للتطبيق مع العقيدة الإسلاميّة في وقت واحد، لأنّ الأولى فرع من الثانية، فإنّهما قانون شامل للمجتمعات تسعد به وتعيش بسلام معه.

ولو عُدت لكُتب الإمام (عليه السلام) وكلامه لوجدته كيف يهتم بأُمّته، بل برعيته وهم عموم المجتمع، سواء كانوا مسلمين أو ذميّين، فالعدالة عنده للجميع مادام هو في ظلّ الإسلام.

الحزمُ واللِينُ:

إنّ طبيعة الناس الذين يُكوّنون المجتمع لا تتوافق في سلوكيّة مُعيّنة؛ نتيجة للتباين في الأفكار والفَهم والاعتقادات في القوانين والنُظم، والإمام (عليه السلام) يرسم خط سیرٍ القائد في علاقته مع شَعبه مادام المجتمع بهذا الشكل من الاختلاف، فلابدّ إذن من مسيرة خاصّة وهو خلط الشدّة بضغث من اللِّين، (والضغث في الأصل: قبضةٌ حشيشٍ مختلط يابسها بشيءٍ من الرَطِب، ومنه (أضغاثُ الأحلام) للرؤيا المُختلطة التي لا يصح تأويلها، فاستعار اللفظة هاهنا، والمراد: امزج الشدّة بشيء من اللين فاجعلها كالضغث).

ثُمّ إذا بدا أنّ الأمر لا ينفع معه إلاّ اتخاذ الحزم والشدة بناءً على مُقتضيات المصلحة الإسلاميّة والعامة وضمن الحدود الشرعية، فاستخدام ذلك ضروريٌّ.

ص: 79

وهذه مسألة أساسية في إدارة الحياة الاجتماعية والسياسيّة للبلد، وهي أيضاً حالةٌ نفسيّةٌ توجد في أعماق الكثير من الناس، فهي تستخفّ بالحاكم الذي يكون سياج مملكته هدفاً واهناً للأعداء والطامعين، والمجتمع إذا استشعر ضعف الدولة وعدم قُدرتها في السيطرة على مقاليد الأمور لضعف الوالي فسوف يختلّ التوازن الاجتماعي والسياسي، وينهار معه النظام الاجتماعي والأمني، ويصبح الأمر في غاية الخُطورة.

والبلد يكون حينئذ غابةً لوحوشٍ ضاريةٍ ومتنوعةٍ يأكل بعضها البعض الآخر. إنّها مسألةُ عظيمةٌ وحيويّةٌ، فالوالي المسلم عليه أن يُحافظ ويصون ويعدل ويُراعي الجميع، باسطاً لهم نفسه، مادّاً يده، مُعطيّاً الحقوق والحريّات بما شرعته العقيدة الإسلاميّة، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(كُلّكم راعٍ وكُلّكم مسؤولٌ فالإمام راعٍ وهو مسؤول، والرجّل راعٍ على أهله وهو مسؤولٌ، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وهي مسؤولةٌ، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤولٌ، ألا فكلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول).

فالمسؤوليّة جسيمةٌ وخطيرةٌ، وتتطلّب نفساً تخاف الله وترعى حُرماته، و قلباً رءوفاً، وفكراً ناضجاً يستعمله في المُلمّات، مدبّراً قديراً أميناً شجاعاً.

هذه كلّها متطلّبات واقعيّة تُعطي معاني أساسيّة لطبيعة علاقة الراعي مع الرعيّة والحاكم مع المحكوم.

ص: 80

الرعايّةُ للجُمَيع:

طَرفٌ آخر من المُعادلة الاجتماعيّة تشمله الرعاية الإنسانيّة الإسلاميّة، ويدخل في الموازنة العامّة وِفقَ إطارٍ خاصٍّ تُنظّمه صورة الرسالة التالية، التي توضّح تتبّع الإمام (عليه السلام) للأحداث، ودفاعه عن طوائف المُجتمع المُختلفة، حيث قال (عليه السلام):

(أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقيِنَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَلا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالإِدْنَاءِ وَالإِبْعَادِ وَالإِقْصَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) طريقة العمل مع صنف آخر من المُتجمع بعد أن وصل إليه خبر تعرّض بعض أكابر القوم من الدهاقين الذين يأمرون ولا يأتمرون للضغط والشدة والقسوة، وكذلك الاحتقار والجفوة لهم، فالإمام يقول: يجب أن يكون هُناك توازنٌ في التعامل والعلاقة مع هؤلاء الناس، لا أن تُدينهم فهم ليسوا أهلاً لذلك؛ لأنهم من أهل الشرك وأنت والي المسلمين، ولا تُقصيهم - أي تُبعدهم وتجفوهم - لأنّهم من المُعاهدين، فأشعرهم بالمعاملة اللينة مشوبة بطرف من الشدّة؛ حتى لا يشعر بضعفك في حياهم وعند ذلك يستهينون بأمرك، وأشعرهم بأنك شديد في وقت الشدّة، أي: يكون عملك متداخلاً بين قوّةٍ ورأفةٍ أو تقريبٍ وإبعادٍ مع هؤلاء، للأسباب النفسية التي يجب أن يُراعيها العالِم أو والي المسلمين، هذا في جانب العلاقة مع المشركين والمُعاهدين.

هناك جانب آخر يُظهره الإمام ويُوضّحه لعُمّاله، وكما جاء في هذا الكلام له (عليه السلام) (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأَثِيمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ.فَاسْتَعِنْ بِاللِّهَ عَلَی مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وأرفِقْ مَا

ص: 81

كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لا تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ.وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلامُ).

فبعد أن أثنى (عليه السلام) على عامله من أنّه من الرجال الذين يعتمدهم في مُهمّاته في إدارة البلاد، ومن الذين يستعين به على إقامة العدل وإظهار دين الله، استمر الإمام (عليه السلام) في بيان مزاياه على أنّه من الولاة الذين يقمع - أي يدحَر - به الأعداء ویکسر به شوكة المُتكبّرين، أصحاب الذنوب والخطايا، ثُمّ قال: (وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ) (الثغر: مظنّة طروق الأعداء في حدود المملكة، واللهاة: قطعة لحم مدلاة في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيها له بفم الإنسان).(2)

ففي كلامه (عليه السلام) تشبيهٌ رائعٌ من أنّه الخندق المُتقدّم الذي يُدافع من خلاله عن ثغور المسلمين أمام أطماع الأعداء الغاصبين، ثُمّ يطلب منه الاستعانة بالله أولاً وقبل كل شيء أمام الهموم والمشاكل التي تواجهه، والنظر إلى الأمور بدقةٍ وحذرٍ مُتناهي، فالمجتمع وأي مجتمع كان لا يمكن أن يتّصف بسلوك واحد ومسيرة واحدة أبداً، اللّهمّ ربما إلاّ في حالة واحدة عابرة، لها وقت مُحدّد وتزول بزوال المُؤثّر هي حالة (العقل الجَمعي) التي تمرّ بها المجتمعات في وقت ومكان واحد ومُحدّد. فالإمام (عليه السلام) یُشدّد على الموازنة الدقيقة في التعامل مع الناس (... قيل لبعضهم: مَن أرجح الملوك عقلاً، وأكملهم أدباً وفضلاً؟ قال: مَن صحب أيّامه بالعدل، وتحرّز جهده من الجور، ولقي الناس بالمُجاملة، وعاملهم بالمُسالمة، ولم يُفارق السياسة، مع لين في الحُكم، وصلابة في الحق، فلا يأمَنُ الجري بطشه ولا يخاف البريء سطوته).

ثِقلُ المُوازنَة:

قد ذكرنا آنفاً أن المجتمع في طبقاته وسُلو که مُتنوع، وكل طبقة يجب أن يكون لها

ص: 82

تعامُل خاصّ بها، علاوة على أن يكون هَمَّ الوالي الأوّل هو النظر إلى شؤون العامّة من الناس، ومراقبة سَيرِ حياتهم واحتياجاتهم من جميع المجتمع والاهتمام بما دونهم، ولا العكس كذلك فلكلّ موقعٍ خاص، ولا أقصد بوجوه المُجتمع الطبقة الخاصّة التي ذكرها الإمام في عهده للأشتر، إنّما تلك لها مبحثٌ خاصٌّ بها، وهي بعيدةٌ عن هذا المعنى المطروح وهناك فاصلةٌ بينهما. والرعية عموماً تؤلّف الأغلبيّة الساحقة من المجتمع وهُم العامّة، وهذه الطبقة هي الثقل الأساس في المُجتمع والطبقة المضحيّة إذا ما تعرّضت البلاد للعدوان، فهي في المُقدّمة، وقد وضّح إمامنا ذلك أيضا في عهده للأشتر، وأغلب ما تكون هذه الفئة من الناس أصحاب نفوس طيّبة طاهرة مع وجود الرعاع فيهم، فلا مُنافاة في ذلك، وهي راضية بما قسم الله لها من رزقٍ ومن منزلةٍ، غير آبهة بما يتصارع عليه الآخرون طلباً لجاهٍ أو سلطةٍ أو جمع مال، يُريدون أن يسدّوا رَمَق أطفالهم بمعيشتهم اليوميّة. فليس من العقل إلحاق الضَرر بهذا الإنسان المُستضعف، لأنّ ذلك معناه انهيار الدولة؛ لأنّ هؤلاء الناس ليسوا جُثثاً هامدةً لا قول ولا فعل لهم طيلة حياتهم، إنّما كلمتهم أقوى من أيّ شيء، وإذا أُطلقت فهي البركان المُتفجّر، وهذا لا يحدث إلاّ في حالات مُعيّنة، منها انتشار الظُلم واستدامته، ومحاربتهم في معايشهم، وإهمال حقوقهم المشروعة وقضمها حين ذاك يُحدث ما لم يكن في الحُسبان وما لا یُحمد عُقباه؛ لأنّهم الطبقة الأوسع انتشاراً والأكثر عدداً والقوة العاملة التي تُدير حركة المجتمع بجُهدها وبذلها، فالشدّة المطلوبة هنا ليس مع هؤلاء المساكين الضعفاء وإن بَدَرَ منهم شيءٌ فذلك لا يعني أن يكون مُسوّغاً للوالي لكي يُمارس حالة الظُلم والإجحاف، بل سوء العمل والخطأ، والتأديب يتناسب مع الإساءة التي ارتكبها وهي حالة عادية في المجتمعات، إنّما الشدّة مع الذي يدّعي القوة ويُحاول بكلّ إمكاناته كسب المنافع الباطلة وأكل السُحت الحرام ولو على حِساب حقّ المُجتمع، بل أحياناً إجحافه وظلمه، وأحياناً تطمع نفسه وتُمنّیه للسيطرة على مُقدّرات البلاد والحُكم، وهذه الطبقة - على ما اعتقد - هي التي يقصدها

ص: 83

الإمام (عليه السلام) لغرض الحذر منها ومتابعتها واستخدام القوّة معها؛ حيث تكون في أغلب الأوقات قريبةً من الوالي بل في بلاطه، وقد سمّاها الإمام بتسميات مُتعدّدة، منها الطبقة الخاصّة والأُخرى (بالعُظماء)، وجعل قِبالَها مُصطلح للعامّة (بالضعفاء). والعظماء هؤلاء يُحاولون بناء كياناتهم على حِساب مَن هُم أضعف قُدرة وأقلّ مقدِرة وأبعد رغبةً، الذين اكتفوا بما أعطاهم الله من مكانة.

عِلمُ النَفس الاجتِماعي والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع:

إنّ قائد البلد وحاكمه لا بدّ وأن يستخدم مُختلف الأساليب في علاقته بطبقات الشعب، ولا بّد أن يكون مُلمّاً بعض الشيء بعلم النفس الاجتماعي الذي يُعطي للموازنة الاجتماعية حالة الضخّ المعنوي لاستقرار وضع المجتمع، وفي ذلك قال (عليه السلام): (وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ؛ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَءُ فِي حَيْفِكَ وَلا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَالسَّلامُ).

إنّ إنزال النفس للرعية والالتفات الكريم لهم تضع حالة الاستقرار في موضعها، وتعطي زخماً قويّاً للعلاقة الصميمة بين الراعي والرعيّة.

إنّ الشعور بأحاسيس المجتمع له دورٌ في تبادل المحبّة والوفاء بين الوالي والرعية، فلا يأتي لمقابلة رعيته بوجه مُقطب عبوس يقطر بُغضاً وحِقداً وكراهيّة، أي لا يُقابل المجتمع إلاّ وهو مبسوط الوجه، أي الانبساط والراحة حتى يعطي الدلالة على الرضا والمحبّة لأنّه ليس رئيساً للشرطة أو المحتسب في البلاد ليكون بتلك الصورة حتّى يخافه المُجرم والمُسيء، إنّما هو أبٌ للرعيّة وقائدٌ لمسيرتهم.

ثُمّ يطلب الإمام (عليه السلام) أن يعطيهم من نفسه حتى يتحدثوا معه ويستأنسوا

ص: 84

به، والسماح لهم بتقديم طلباتهم وطرح مظالمهم، فالمساواة بينهم مبدأٌ أساسيٌّ عند الإمام (عليه السلام)، وهذه المساواة لا تكون في جانبٍ واحدٍ محدودٍ، بل حتى في أقلِّ الأشياء في اللحظة والنَظرة، وهذا الوصف كمال الدِقّة في التعبير، حيث يتبين من خلاله حجم العلوم النفسية والاجتماعية التي يحملها الإمام (عليه السلام)، والتي صورّها في كلامٍ بليغٍ لا يُدركه إلاّ مَن أمعن في التصوير البلاغي، وهذه تحتاج إلى بحوثٍ خاصّةٍ في العلوم النفسيّة والاجتماعية، حيث لو نظرنا إلى القرب الدقيق في الحالة الوضعيّة الدقيقة لِلحْظَة والنظْرة، أو في الحركة التي تتمّ بين الأجفان وإدارة العين، والعين إذا نظرت بحرکات مُعيّنة، أو الجفن إذا تحرّك، نجد أنّها تحمل في طيّاتها معانٍ كثيرةٍ، فالمَحبّة والغضب، وعدم الرضا فيها والقبول الحَسن وما يتبع ذلك، فإذن، المجتمعات في حياتها اليوميّة قد اهتمّت في هذه العناوين والأعراف وتعوّدت عليها وتوارثتها، وأخذت النفوس تقرأ المعاني في العُيون، وتعرف الأهداف في الإشارة والتحيّة، فالناس أخذت تلتفت إلى هذه الأُمور وتهتمّ بها، فإذا ما كان صاحب تلك التعبيرات في العين والوجه واليدين (الوالي أو الحاكم) فهنا الأمر يكون أشدّ وأكثر أهميةً وخطورةً، ولكن إذا ما ساوى في هذه الصور بين الناس؛ فلا يبقى هناك تأويلٌ مُعيّنٌ أو إشعارٌ بحالة رضى أو رفض لبعض الناس دون الآخرين. يطمع العُظماء في حيفك ولا ييئس الضعفاء من عَدلك)، كل ذلك من أجل رعاية ضعفاء الناس من المجتمع، لأنّ كبراء القوم - أي عظماءهم - يترصّدون حركة وُكلام الوالي، وهدفهم الانقضاض على الفريسة، أو الجيفة - إن صحّ التعبير - لأنّ مَن يطمع بظلم ضعفاء الناس وسرقة حقوقهم المشروعة عند الوالي لمصالحه الذاتية، ومتابعة ما يقوم به الوالي لهؤلاء من حركات وأفعال لإجهاض كلّ عمل خيرٍ وصالح للناس هو في حقيقة الأمر سقوطٌ على المطامع الدنيويّة التي هي في واقع أمرها جيفة نتنة، وهؤلاء العُظماء يُحاولون الاستفادة من كلّ بابٍ مفتوح حتّى يستطيعون اقتحام قلبِ ونفس الوالي لتحقيق مآربهم على حساب غيرهم، وهذه حقيقة واقعة، فهم إذن

ص: 85

أظلم مَن عليها؛ لظلمهم ضعفاء المجتمع واستغلال الحضوة والجاه عند الوالي، وقد قال إمامنا (عليه السلام) في جانب من وصيّته لابنه الحسن (عليه السلام): (وظُلم الضعيف أفحش الظُلم)، فالأعمال التي قد تبدو عاديةً بسيطةً، وهي إشارةٌ ونظرةٌ وتحيّةٌ ولحظةٌ إلاّ أنّها تترك آثاراً عظيمة لدى الآخرين، فالمُتتبّع يتربّص تلك الحركات ويُدركها فوراً، فإذا كانت حيفاً للناس أو ظلماً فقد فتح فاه ومَدّ يديه وانبسطت أساريره طمعاً بالوالي لسلب وظلم الضعيف. وكذلك أنّ الإمام (عليه السلام) يُخبر الوالي أنّ الضعفاء إذا شعروا بظُلمك سوف يُصيبهم اليأس من عدالتك، ومسألة اليأس من العدل تجرّ إلى أمورٍ كثيرةٍ سنتداولها في بحثنا هذا.

ويستخلص ماذا أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيانه الواضح في عصره وما بعده، وفي حياتنا الحاضرة أيضاً؟ وكيف سيطر الشيطان على النفوس ودفعها نحو الشرّ والرذيلة والانحطاط الخُلقي؟ وبالتالي خراب الوضع النفسي عند المجتمع الذي يدمّر كلّ مدنيّةٍ وكلّ حضارةٍ.

التَقسّيم العِلمي أو المعرفي:

لقد بيّنا بعض التقسيمات التي صنّف بها الإمام عليّ (عليه السلام) المجتمع حسب بعض المفاهيم أو الصفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا جانب آخر من تلك التقسيمات هو التقسيم حَسب المعرفة العلميّة، وهذا أيضاً له جوانبه المؤثّرة على حياة المُجتمع ومسيرته، حيث يقول في جانبٍ من كلامه لكميل بن زياد النخعيّ:

(... النَّاسُ ثَلاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إلى رُكْنٍ وَثِيقٍ).

المجتمع من الناحية العلميّة عند الإمام (عليه السلام) على هذه الأنواع الثلاثة،

ص: 86

إلاّ أنّ أخطر هذه الأنواع على المجتمع الصنف الثالث (جهلة الأُمّة)، الذين تُسيّرهم الأهواء، وتدور بهم الدواليب، ويجرّهم القال والقيل، ويجمعهم العقل الجمعي بين الناس، وقد وصفهم الإمام (عليه السلام) بالهَمَج، وهُم الحمقی من الناس، ثُمّ إنّهم يتّبعون كلّ صيحةٍ بدون عِلمٍ ولا معرفةٍ، سواء كانت هدفها إعادة حقٍّ مغصوبٍ، أو حركة باتّجاه الباطل، فهم مع الرياح أينما تميل يميلون معها، والسبب في كل ذلك أنّهم لا عِلم ولا معرفة لهم حتى يتبصّروا الأمور ويعرفوا حقائقها، فالعلم - کما وصفه الإمام (عليه السلام) - نورٌ يُستضاء به في الظلمات، ثُمّ ليس لديهم أو في فكرهم أيّ استقرار أو هدوءٍ في أعمالهم وحركاتهم، وهم الأدوات الذين يُحرّكهم الناس كيفما شاءوا، لا استقرار لهم في رأيٍ ولا مشورة لهم أبداً. تجلبهم الصيحة سواء كانت من هُنا أو هناك کما يُحرّك مشاعرهم المال.

التقسيم الإنساني:

ينتقل الإمام عليٌّ (عليه السلام) إلى صورةٍ أُخرى في نقلةٍ حضاريةٍ أخلاقيّةٍ في منتهی الإنسانيّة والشعور الفيّاض بالأحاسيس والمشاعر البشريّة، ويُصنّف المجتمع بشكلٍ أنسانيٍّ آخر، حيث يُقسّم الناس إلى صنفين يُشكّلان عُموم الأمّة، فالناس عند عليٍّ (عليه السلام) صنفان: (إمّا أخٌ لك في الدّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق).

وهذه نظرةٌ إنسانيّةٌ عظيمةٌ، بل حضاريّة راقية لا يمكن أن يدرك مدى قيمتها إلاّ مَن يمتلك عقلاً راجحاً وثقافاً واسعةً. تكلّم بها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعطاها مبدأً عاماً للبشرية، وقانوناً إنسانياً حضارياً، إن طُبّق بما جاء فيه سعدت البشريّة وحَلّ الأمن والسلام. وما يطرحه أدعياء الحريّات وحقوق الإنسان من مبادئ عامّة بهذا الشأن لا تعدو كونها محض نِفاق وكذب، والإشارات كثيرةٌ في هذا الجانب ولا مجال لذكرها، وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر وما سبقنا، حيث التبجّح والتمسّك الزائف بنصوص

ص: 87

برّاقةٍ ولامعةٍ تحوي الخُلق السليم على الورق والقتل والسبي والتشريد للشعوب المستضعفة على الأرض. فالإنسان عند عليٍّ (عليه السلام) أخو الإنسان، سواء كان في الدين و ارتباطاته الوشيجة أو في الخلقة، فالله خلقهم كلهم من آدم وحواء «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».(1)

أيّة نظرةٍ عظيمةٍ هذه، بعيدةٌ كل البُعد عن العنصرية والتعسّف والاستخفاف والاستهانة بالناس، أيّة صورةٍ ناصعةٍ هذه يُعطيها عليٌّ (عليه السلام) للحكّام وللمجتمعات البشريّة، وللتعايش السلمي في الدولة الواحدة وبناء كيانها على أُسسٍ إنسانيّةٍ قَلّ مثيلها. أين نحن الآن في عصرنا هذا من أفكار عليٍّ (عليه السلام) وما نشاهده من تمييزٍ عنصريٍّ وحقدٍ دينيٍّ وصراعٍ طائفيٍ، وجرائم بشعةٍ تُرتكب بحقّ البشرية باسم الإنسانيّة والدفاع عن حقوقها؟! ولننظر إلى واضع أُسس الحريّة والعدالة والإنصاف عليٍّ (عليه السلام) تلميذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي قدّم تلك الأفكار المليئة بالروح الإنسانيّة، ونُطبّق ما قدّم لنا وللمجتمعات الإنسانيّة.

إنّ حالة التعايش الإنساني الأخلاقي في المجتمعات تبعث الأمل في النفوس، ويعمّ النموّ والانبعاث والتطوّر، وتبدع العقول فيها بعد أن أصبحت الحياة الاجتماعية واحة أمان ومحبة وإيثار في ظل المبادئ السامية التي أعلنها علي (عليه السلام) (إمّا أخٌ لك في الدّين)، فإذا كان كذلك فلهُ حقوقٌ تستوجب أداءها في الإسلام، وقد شرح الدين ذلك ووضع أفضل الصيغ للتعامل الأخوي والإنساني. فإذا كان أخٌ في الدين يجب أن يتبادل الحقوق مع الآخرين؛ لأن تلك المبادئ قوانين عامّةٌ وتامّةٌ لا تحتاج إلى تمحيصٍ، إنّما تحتاج إلى تطبيقٍ من خلال التربية الدينية والأخلاقية، وترويض النفس حتى تطوّع للعمل بتلك القيم العظيمة.

ص: 88

(وما يجري بين الناس بعضهم لبعض: من أداء الحقوق وتأدية الأمانات والنصفة في المعاملات والمعاوضات وتعظيم الأكابر والرؤساء وإغاثة المظلومين والضعفاء). فهذا القِسم من العدالة يقتضي أن يرضى بحقّه، ولا يظلم أحداً، ويقيم كل واحدٍ من أبناء نوعه على حقّه بقدر الإمكان، لئلاّ يجور بعضهم بعضاً ويُؤدّي حقوق إخوانه المؤمنين بحسب استطاعته. وقد ورد الحديث النبوي: (إنّ للمؤمن على أخيه ثلاثين حقاً لا براءة له منها إلاّ بأداءٍ أو العفو: يغفر زلّته، ويرحم غُربته، ويستر عورته، ويقبل عثرته، ويقبل معذرته، ويردّ غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعی ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويُجيب دعوته، ويَقبل هديّته، ويُكافئ صِلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويطيب كلامه، ويبرّ إنعامه، ويصدق أقسامه، ويُواليه ولا يُعاديه، وينصره ظالماً أو مظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظُلمه، وأمّا نُصرته مظلوماً فيُعينه على أخذ حقّه، ولا يَسأمه، ولا يخذله، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه).

(وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق)، وهذه أيضاً لها مضامینها وضوابطها، فالدين الإسلامي مترجَمٌ بفكر عليٍّ (عليه السلام)، الذي طرح العدالة بمعانيها الحقّة، مطبقاً على نفسه أولاً ومُراعياً كلّ الظروف التي تمرّ على المجتمعات من خيرٍ أو شرٍّ، يُريد أن يبني مُجتمعاً إنسانيّاً بمعنى الكلمة، فالإنسان عنده الهدف في البناء، والبناء لا يكون إلا بأساسٍ مُحكمٍ والأساس المُحكم هو العدالة المُطلقة، فعليٌّ كان لا يلتفت إلى جانبٍ إنسانيٍّ ويترك الآخر، إنّه ينظر نظرةً شاملةً للأُمّة، ويكون ذلك عِبر الحكم بالحقّ كافة، فلا ينسی مثلا (أهل الذمّة وغيرهم) من اليهود والنصارى ومن الطوائف الأخرى، فهو مثلاً يقول إلى عمّال بلاده: (أمّا بَعد، فإنّ قَد سَيَّرْتُ جُنُودَاً هيَ مارَّةٌ بِكُمْ إنْ شاءَ الله، وَقَد أوصَيتُهُم بما يَجِبُ لله عليهِم مِن كَفِّ الأذى وصَرْفِ الشَذى، وأنا أبرَأُ إليكُمْ وإلى ذِمَّتِكُم مِن مَعرّة الجيش).

ص: 89

یُخر الإمام (عليه السلام) عُمّاله وجُباة الخراجِ بأنّه قد وجّه جيشاً إلى جهة معينة وهو يمرُّ بهم، وأنّه قد أوصاهم بكفّ الأذي وإبعاد شرّهم عن الناس، ثُمّ يقول: (وإلى ذِمّتكم)، أي: اليهود والنصارى الذين بينكم، قال (عليه السلام): (مَن آذى ذّميّاً فكأنّما آذاني)، وقال: (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا)، ويسمّى هؤلاء ذمّة، أي أهل ذمّة، بحذف المُضاف. والمعرة: المضرّة، قال: الجيش ممنوع مَن یمرُّ به من المسلمين وأهل الذمّة، إلاّ سدّ جوعة المُضطر منهم خاصّة؛ لأنّ المُضطر تُباح له المِيتة فضلاً عن غيرها.

أهلُ الذِمّة والإسلام:

(إنّ حُقوق الأقليّاتٍ في الإسلام محكومةٌ بموقف الإسلام الأساس من كرامة الإنسان، ومن الإشارات القرآنيّة والنبويّة المُستمرّة التي تُنبّه إلى أنّ الناس خَلقُ الله وعياله، وأنّهم من نفقس آدم (عليه السلام)، وأنّهم نُظراء لنا في الخَلق على حَدِّ تعبير الإمام عليٍّ (عليه السلام)، إذ نحسب أنّ علائق الناس درجاتٌ في التصوّر الإسلامي، فهناك العلاقة الإنسانيّة التي يُمكن أن تتمّ بانفصالٍ تامٍّ عن مُختلف فوارق اللون والعِرق والدين. الإنسان لمجرّد كونه أنساناً فيه قبسٌ من روح الله).

وهذا الصِنف من الناس - أي (أهل الذمة) - كانوا يعيشون بأمنٍ وسلامٍ في ظلّ المبادئ الإسلاميّة السمحاء، وتُؤخَذ منهم الجزية وفقاً لِما فرضه كتاب الله وحدّدته الشريعة، ولذلك فإنّ المُسلمين كانوا مسؤولين عن أمنهم والدفاع عنهم.

ص: 90

الدفاعُ عنِ المُعاهدين:

إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يعتبر الدفاع عن المعاهدين من الضرورات الأساسيّة التي لا يجد فيها فرقاً بينهم وبين غيرهم من المسلمين، ففي وقائع الغزوات المُتكررة الجيش مُعاوية بن أبي سفيان على قُرى ومُدن الدولة الإسلاميّة في الأنبار، حيث قتلوا ونهبوا وسلبوا وأحرقوا كلّ شيءٍ للناس، فتأثّر عليٌّ (عليه السلام) تأثراً شديداً وحثّ أصحابه على الجهاد والقيام لمقارعة العدو بعد أن وجد فيهم التكاسل والتباطؤ والخذلان، وقد قال في ذلك: (وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَی الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلُبَهَا وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاسْتِرْجَاعِ

وَالاسْتِرْحَامِ، ثُمّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).

في هذا الخطاب ظهر حزن الإمام (عليه السلام) لِما جرى على المرأة المُسلمة والأُخرى المعاهدة - أي من أهل الذمة - الذي سلب جیش معاوية منها حِجلها و(قلبها) - السوار المصمت - وقلائدها و(رعثها) - وهو ضرب من الخزر - وهُنّ لا يستطعن فعل شيء سوی تردید کلمة (إنا لله وإنّا إليه راجعون) مع مناشدة هؤلاء القساة الرحمة، ثُمّ بعد ذلك عادوا من حيث أتوا بدون أيّ شيءٍ، تامّين العَدد ولم يُجرح منهم أحدٌ. و(الكَلْم) الجُرح. ثُمّ أسَفَهُ كان واحداً لتلك المُسلمة والمعاهدة، فهي تحت حمایته کما هي المسلمة.

لقد عبّر عليٌّ (عليه السلام) عن عُمق حُزنه على أعمال هؤلاء الغَدَرَة في قوله: (فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً).

ص: 91

فأهل الذمة عند عليٍّ (عليه السلام) مصونون محفوظون في مالهم وأعراضهم وكراماتهم. وهذه النظرة الإنسانيّة التي لا نجد لها نظيراً في العصور السابقة، حيث إنّ بلاد الأندلس عاش فيها المسلمون مئات السنين وبينهم أهل الذمّة على عقائدهم لم يمسهم أحد، وحينما دارت الدوائر على المسلمين أنزلوا السيف على رقاب المسلمين أو یُحرَقوا إن لم يَرتدّوا، وشُرّد الباقون منهم، بحيث لا تشعر أنّ هذه البلاد مَلكها المسلمون مئات السنين، فلم يبقَ فيها إلاّ نزرٌ يسيرٌ أخفى دينه وإيمانه. والآثار الإسلامية الباقية تُدلل على الامتداد والعُمق الإسلامي المُتأصل في هذه الأرض حتى عصرنا الحالي، حيث التبعيض في المعاملة اتّجاه المسلمين وتقتيلهم وتشريدهم والعبث بكلّ مُقدّراتهم. وعلماء الاجتماع الإنساني والمفكرون لم ينسبوا ببنة شَفَةٍ حول ذلك، فليعملوا بما كان من معاملة أبناء الطوائف والأديان الأخرى كما كان يفعل عليٌّ (عليه السلام)، ويُطبّق بحقّهم عامل العدالة والإنصاف.

ثُمّ إنّهم لا يدخلون في الجيش الإسلامي كجُنود، إنّما كانت تُحسن معاملتهم، وكانوا مع المسلمين على سواء أمام القانون في القضايا الحقوقيّة.

التقسيم الإيماني:

هناك تقسيمٌ آخر عبّرنا عنه ب (الإيماني)، وهو ضمن نطاق المُجتمع بصورةٍ عامّةٍ.

فقد قال الإمام (عليه السلام) في قِسمٍ من خُطبةٍ له: (شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا وَمُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى).

هؤلاء ثلاثة أصنافٍ بهيئات إيمانيّة مُختلفة تنطبق في واقع الأمر على حقائق إيمان الأفراد وأعمالهم للآخرة، وهذه الصفات أيضاً تترتب عليها أُمورٌ كثيرةٌ في حياة المجتمع وعلاقاته وطبيعة التعامل فيما بينهم.

ص: 92

فالإمام (عليه السلام) تَضمّن معنی کلامه التأكيد على أنّ (مَن كانت أمامه الجنّة والنار على ما وصف الله سبحانه، فحريٌّ به أن تنفذ أوقاته جميعهاً في الإعداد للجنّة والابتعاد عمّا عساه يؤدّي إلى النار).

ثُمّ قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام:

(الأول) الساعي إلى ما عند الله السريع في سعيه، وهو الواقف عند حُدود الشريعة، لا يشغله فرضها عن نفلها ولا شاقها عن سهلها.

و(الثاني) الطالب البطيء، له قلبٌ تعمرُه الخشية، وله صِلةٌ إلى الطاعة، لكن ربما قعد به عن السابقين ميلٌ إلى الراحة، فيكتفي من العمل بفرضه، وربما انتظر به غير وقته، وينال من الرخص حظّه، وربما كانت له هفوات، ولشهوته نزوات، على أنّه رجّاعٌ إلى ربّه، كثيرٌ النَدَم على ذنبه، فذلك الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، فهو يرجو أن يغفر له.

والقِسم (الثالث) المُقصّر: (وهو الذي حفظ الرسم ولبس الاسم وقال بلسانه أنّه مؤمن، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمالٍ ظاهرةٍ كصومٍ وصلاۃٍ وما شابههما، وظنّ أنّ ذلك كل ما يطلب منه، ثُمّ لا تورده شهوته منهلاً إلاّ عبّ منه، ولا يميل به هواه إلى أمر إلاّ انتهى إليه، فذلك عبد الهوى وجدير به أن يكون في النار هوی).

ص: 93

التقسيم الإداري:

1 - الجُند:

وهو في تعبيرنا العسكري الحالي: القوات المُسلّحة، أي الجيش الذي يُحافظ على الكيان السياسي والاجتماعي، ويُدافع عن الثغور من الأعداء، ويقوم بالعمليّات الجهاديّة من فتح للبلدان أو حفظ الأمن العام، وهذا الصنف من المجتمع ذكرهم الإمام عليٌّ (عليه السلام) في مواضع مُختلفةٍ؛ نظراً لأهمية موقعيته في الدولة والمجتمع بصورةٍ عامّةٍ، ثُمّ حدّد معالمهم وصِفاتهم وأهميّتهم بالنسبة لقوام الكيان السياسي، وصيانة أمن البلاد والمُحافظة على الأنفس والأرواح، وهم هيبة الدولة والسلطان، واهتم بنوعية قیادتهم، ثُمّ عالج مسألة أُسلوب تعبئة هذه القوات، أي أعطى صورة التعبئة العسكرية التي يستخدمها هذا الجيش، كما نقول في عُرفنا المُعاصر هناك تعبئة إنكليزيّة أو أمريكيّة وأُخرى ألمانيّة أو روسية، وكلٌّ يختلف بعضها عن البعض الآخر، ولهم نظريّات مُعينة في كلّ واحدة من هذه الأنواع، فالإمام عليٌّ (عليه السلام) أيضاً له تعبئة خاصّة يطلب تطبيقها على جنده في أيام الحرب، وهذا جانب من تعبئته للجيش، حيث يقول (عليه السلام): (فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَعَضُّوا عَلَی الأَضْرَاسِ؛ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ؛ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الأَبْصَارَ؛ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ

وَأَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَمِيتُوا الأَصْوَاتَ؛ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَرَايَتَكُمْ فَلا تُمِيلُوهَا وَلا تُخِلُّوهَا وَلا تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ).

وفي كلام آخر له (عليه السلام): (وَأَكْمِلُوا اللاّمَةَ، وَقَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَدِهَا

قَبْلَ سَلِّهَا، وَالْحَظُوا الْخَزْرَ، وَاطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَنَافِحُوا بِالظُّبَى، وَصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللِّهَ وَمَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَعَاوِدُوا الْكَرَّ، وَاسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ، فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الأَعْقَابِ...).

ص: 94

2 - الدرع الحصين:

يُطلق على الجيش عادةً بالدرع الحصين؛ لأنّ الأُمّة تتستّر بالجيش في المواقع الخطيرة التي يتعرّض فيها الوطن إلى الغزو أو الاعتداء أو السلب والنهب، فقال فيهم عليٌّ (عليه السلام): (فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللِّهَ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَزَيْنُ الْوُلاةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِهِمْ، ثُمّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلا بِمَ يُخْرِجُ اللُّهَ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ

عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

يُعطي أمير المؤمنين (عليه السلام) أهميّةً لوجود الجُند، فهم الدرع الواقي من الأعداء، وبه تتحصّن الأمة خوفاً من الفتك أو سلب الممتلكات أو إزهاق الأرواح والاعتداء على الأعراض وإيجاد الخلل والإرباك في حياة المجتمع، وهكذا يستمر بالكلام فيقول: (وَزَيْنُ الْوُلاةِ) أي إنّ الجيش للوالي أو الحاكم زينٌ وما يزدان به بحيث يشعر الوالي بالمهابة والافتخار وعلوّ الهامة، فالرؤساء الآن يستعرضون قواتهم دائماً في الساحات العامّة وأمام الجماهير، ويبّرزون ذلك إعلاميّاً ليفتخروا وتزداد قوتهم وصلابتهم من خلال الدفع المعنوي الذي يحصلون عليه.

ثُمّ (وَعِزُّ الدِّينِ)، فقد قامت الدولة الإسلاميّة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقويت شوكتها بذلك النفر المجاهد من أهل بدر، ولولا تلك القوّة البسيطة العدد القوية بالإيمان لمَا استقام الأمر، ثُمّ تطورت الحالة إلى تجييش الجيوش لمُقاومة الكفّار والمشركين وفتح البلدان، حتى في وقت مرضه والذي أعقبته وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنفذ جيش أُسامة لكي يُرسله إلى بلاد الشام، وطلب من أكابر الصحابة - بما فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب - أن يلتحقوا بهذا الجيش الذي عسكر بالقُرب من المدينة ولعن من تَخلّف عنه.

ص: 95

ومع ذلك تخلّفوا عن ذلك الجيش، فالغرض من ذلك هو أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد اهتمّ بأمر الجيش وأمر الصحابة بالالتحاق به؛ لأنّه عزّ الدين، وبه يكون الذود عن حمى المسلمين، والدفاع عن مبادئ الدين فاهتمّ بأمره ذلك الاهتمام العظيم، حتى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعطى أجمل الصور المثاليّة للمجتمعات الإنسانيّة عامة بتقديمه على أصحابه وأتباعه ليصون ويحافظ على دين الله كما يذكر ذلك أمير المؤمنين، حيث يقول (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَأَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَالأَسِنَّةِ، فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَأَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَمَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ).

وغالباً فإنّ أي حاكمٍ أو سلطانٍ أو راعي رعية يريد الحصول على مجتمع متكاملٍ ومتكافئ تحت إمرته ويقوده نحو الصلاح لا بدّ وأن يكون هو ذلك القائد أُمثولةً لمَن هو دونه في التضحية والفداء والسخاء والكرم والعِفّة والأمانة، فالمجتمعات الإنسانية تفتخر بمن هو قُدوةٌ، وتعتزّ به لِما أدركته فيه من خصالٍ حميدة، وإقدامٍ شجاع، وتضحيةٍ جسميةٍ وخُلقٍ رفيعٍ.

(وَسُبُلُ الأَمْنِ) الخاصّية الثالثة: هي القوّة الصائنة التي يكون فيها حِفظ الأمن والنظام في البَلد، وتكون حياة الناس ومصائرهم محفوظة من الأخطار والأهوال والاستغلال والمجتمع لا يقوم إلاّ بهؤلاء المدافعين عن كيان الأُمّة (وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ).

ص: 96

3 - الجيشُ والخَراجُ:

يؤكّد الإمام على الميزانيّة العامة للجيش، وتخصيص المبالغ الكافية لكي يكون هذا الجيش الذي يحمل تلك المزايا المُهمّة للبلد والمجتمع جاهزاً وكاملاً ومسلّحاً تسلیحاً قويّاً، وبدون المال لا يكون هناك جيشٌ قويٌّ ولا سلطة رصينة تحفظ المجتمع وتصونه وتُجاهد عدوه وتصلح به ما فسد من أمأمْرِ الأُمّة، (ثُمّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ).

4 - المُثُلُ العُليا والقيادةُ العَسَكَرِيَّة:

إنّ المجتمعات الرصينة تحمل صفات قادتها دائماً، فالقائد الشجاع يكون أُمثولةً صادقةً لشعبه، والعسكري الباسل الذي يحمل الصفات الأخلاقيّة العالية، والطاعة الكاملة، والإيمان العالي تكون صورته وأعماله الحافز الأوّل والرئيسي لإقدام الجندي وبروز شجاعته وتضحيته في سوح الوغى، ولذا وضع مُعلّم الإنسانيّة الثاني بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمام عليٌّ (عليه السلام) تلك الخِصال الطيّبة في هذه الصور الرائعة (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً، مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ وَيَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو

عَلَی الأَقْوِيَاءِ، وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ، ثُمّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ثُمّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيةٌ لَهُمْ إلى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَلا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالا عَلَی جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِلْجَسِيمِ

ص: 97

مَوْقِعاً لا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ).

قال ابن أبي الحديد: (هذا الفصل مُختصّ بالوصاة فيما يَتعلّق بأمراء الجيش، أمره أن يولّي أمر الجيش من جنوده مَن كان أنصحهم الله في ظنّه، وأطهرهم جيباً، أي عفيفاً أمينا، ویُکنّی عن العِفّة والأمانة بطهارة الجيب لأنّ الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه، فإنْ قُلت: وأيُّ تعلق لهذا بولاة الجيش؟ إنّما ينبغي أن تكون هذه الوصيّة في وُلاة الخراج! قلتُ: لا بُدّ منها في أُمراء الجيش لأجل الغنائم).

من خلال كلام الإمام (عليه السلام) نخرج بحصيلةٍ من المعاني الأساسيّة والتي لها تأثيرٌ مباشرٌ على سلامة المُجتمع، وما خصَّ به الإمام (عليه السلام) من كلامه وهو الجيش، حيث يجب تولية قيادات الجيش إلى من يحمل الإيمان الثابت بالله، والاعتقاد الراسخ برسوله، والطاعة التامّة للإمام، ولا يكون عكس ذلك، بالإضافة إلى تمتّعه بأخلاقٍ عاليةٍ وعفّةٍ وطهارةٍ وأمانةٍ واستقامةٍ عامة تؤهّله لهذا المنصب الحساس؛ لأنّ ما يتحمّله هذا المنصب من مهمّاتٍ وتنظيمٍ وإدارةٍ وإحساسٍ وشعورٍ بالمسؤولية تفرض أن يكون قائد الجيش حاملاً للخصال الحميدة، من الشجاعة المتناهية والصلابة اتجاه الأعداء واللين والرأفة مع جنده في الأوقات التي تحتاج إلى ذلك.

ثُمّ (مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَيَسْتَرِيحُ إلى الْعُذْرِ) أي يقبل أدني عُذرٍ ويستريح إليه، وتسكن عنده الجُند، ويرأف على الضعفاء، أي يرفق بهم ويرحمهم، والرأفة: الرحمة، (وَيَنْبُو عَلَ الأَقْوِيَاءِ): يتجافي عنهم ويبعُد، أي لا يُمكنّهم من الظُلم والتعدّي على الضعفاء (وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ): لا يهيج غضبه عُنفٌ وقسوةٌ، ولا يقصد به الضعف أي ليس عاجزاً.

(ثُمّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ).

في هذا المقطع أعلاه يتوخّى الإمام من ولاته تنصيب قادةِ جُنده على أُسسٍ أخلاقيّةٍ وعلميّة حتى يبعد كلّ شُبهة تُضعضع نظام الجيش وتخلخله، فهو يختار الصفات المُناسبة

ص: 98

بدقّةٍ مُتناهيةٍ، نلاحظ من خلال ذلك مدى التفكير بالمستقبل، فهو يُبني على أُسس مدروسةٍ تامةٍ ذات أهدافٍ بعيدةِ المدى تُنبئ عن عقليّة جبّارة فائقة، فبعد أن يُعطي المعالم الشخصية الأخلاقية للقائد يستمرّ في كلامه، فيطلب أن يكون قادة الجُند من المعروفين بأنسابهم الطيّبة وأحسابهم المعروفة (وكان يقال: عليكم بذوي الأحساب، فإنْ هُم لم يتكرّموا استحيوا).

ثُمَّ (وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ)؛ لأنّ الشَرَف والكرامة والفضيلة هي من الأُسس التي يقوم عليها كيان الجيش، بدءاً من القائد الأوّل إلى الأدنى، ونلاحظ ذلك الآن في الإعلام الحربي وغيره لدى الكثير من الدول التي تؤكّد على هذه الخِصال، وتلصق بجيوشها الخصال الرفيعة من الشرف والكرامة، وتؤكّد دائماً على أن الجيش هو الشرف الأعلى في المجتمع لِما فيه من رفع المعنويّات، و(الجنديّة تعمل على بثّ روح الثقة الاجتماعية بين الأفراد وحبّ الطاعة للنظام العام، والكراهة للتفرقة والانقسام، والحثّ على الأُخوّة والوئام والتعاون والتكاتف في سبيل مصلحة المجموع وتقدیس الواجب، وهذا الخُلُق الروحي هو جوهر ما ترمي إليه تعاليم الجنديّة ونظامها) إذا كانت هذه الصفات تعطيها الجنديّة أو تُربّي روح المقاتلين عليها، فما حال جیش العقيدة الإسلاميّة وجُند عليٍّ (عليه السلام)؟ فمِن المؤكّد أن يكون على رأس هذا الجند مَن هُم بتلك الصفات التي ذكرها الإمام عليُّ (عليه السلام)، وتلك الخِصال الحميدة الطيبة، ثُمّ عدد الإمام بعضها وهي الأساس:

1. مِن أهل النجدة.

2. شجاع.

3. سَخي.

4. من أهل السماحة.

5. أمين.

ص: 99

كلّ هذه كما قال الإمام (عليه السلام) (جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ) أي: إنّ هؤلاء القادة يحملون كلّ صفات الكرم، وبالأحرى مجموعةٌ من المكارم والمعاني الأخلاقية وأقسام المعروف بكلّ أنواعه.

عِلمُ النفسِ الاجتماعي في تعامُلِ عليٍّ (عليه السلام) مع جُنده:

لقد وضّح الإمام علي (عليه السلام) أهميّة الجند وأثرهم الفعّال في حياة الكيان العامّ السياسي والاجتماعي، ثُمّ أعطى بعد ذلك وجهة نَظره في اختيار القيادات العسكريّة وصفاتهم وأفعالهم السابقة، وعاد ليُعالج مسألةً حسّاسةً وحيويّةً في مسيرة بِناء الجيش والمحافظة على تنظيمه وتكامله والدفع المعنوي له، حيث أخذ يُعالج المسائل المُتعلّقة بالجُند معالجةً نفسيّةً اجتماعيّةً، ثُمّ يُعطي رأيه السديد في هذا الأمر حتى لا يبقى جانبٌ من الجوانب المتعلّقة بحياة وعمل هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع دون اهتمامٍ أو بيانٍ لها، فالقائد الشجاع والمُميّز بصفاته الأخلاقيّة الذي يهتمّ بأمر جُنده ويُعينهم في وقت الشِدّة والحاجة هو الذي يجب أن يَحضى بالمنزلة الرفيعة والاهتمام الكافي به (وَلْيَكُنْ آثَرُ

رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَ يَسَعُهُمْ وَيَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ).

فالإمام (عليه السلام) وفي التفاتةٍ رائعةٍ إلى الجانب الاجتماعي والنفسي للجند يُقدّم لنا صوراً للتعامل الإسلامي العظيم، فيؤكّد على أن يكون أفضل قادة الجُند لديك مَن واسی جُنده بما حمله من المال وصرفه عليهم وعلى أهليهم الذين خلّفوهم في مساكنهم من أولادٍ ونساءٍ، والذين لا يوجد أحدٌ لديهم يعيلهم أو يمدّهم بالمال والغذاء، إلاّ ذلك المجاهد في سبيل الله الملتحق بالجيش، وهذه مسألةٌ في غاية الأهميّة، حيث لها آثارٌ اجتماعيّةٌ ونفسيةٌ عظيمةٌ وضحها الإمام (عليه السلام) بجلاء، حيث قال: (حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً

ص: 100

وَاحِداً فِ جِهَادِ الْعَدُوِّ)، فالجندي إذا ما ضمِن المعيشة أو الاستقرار المادّي والأمني لأهله من بعده، وعدم وقوعهم في حالة العوز والفاقة، فإنّه لا يلتفت إلى وراءه، وتكون جهته هي جبهته، و همّه هو قتال عدوّه، وهو معتقد حتّى وإن استشهد فإنّه مُطمئنُّ البال، وينام قرير العين في مرقده النهائي، فلا يمكن أن يكون الجندي في ساحة المعركة فكره مشغولٌ بأمورِ عائلته، وقد يترافق مع تلك الأموال سوء معاملة القائد العسكري لجنده، حيث يترك ذلك الآثار السلبية الذي ينتج عنه الفرار وانکسار الجيش وهزيمته أمام العدو.

لقد أعطى الإمام (عليه السلام) الجوانب الايجابيّة للمعاملة الحسنة والآثار السلبية للمواقف السيئة، وأكّد أنّ عطف القائد ورعايته للجند يبعث الراحة والطمأنينة لديهم، وبالتالي يعود ذلك عليه خيراً حيث يُقدّم الجند أنفسهم وأرواحهم على أكفّهم، حيث يقول (عليه السلام): (فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك)، وبالتالي فإنّ الجُند سوف يُبادلون القائد نفس الحبّ والحنان والمودّة.

العلاقةُ الإنسانيّة ومودّة الأُمّة

هناك ترابطٌ قويٌّ بين اهتمام الوالي بالعدل والإحسان وبين ظهور مودّة الرعيّة للوالي ونصحهم في ذلك، وقد قال عليٌّ (عليه السلام):

(وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وإِنَّهُ لا

تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إلِا بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ، وَلا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إلِا بِحِيطَتِهِمْ عَلَی وُلاةِ الأُمُورِ وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ).

وينفكّ عن هذا الارتباط الجندي الذي لا يُمكنه التضحية في ساحة الوغى أو النصح لولاته إذا كان لا يرغب بهم ولا يميل إلى وُدّهم، حيث يستثقل وجودهم مع دولهم

ص: 101

ويتمنّى زوالها لِما عاناه منهم.

أمّا إذا كان الأمر عكس ذلك، فإنّهم (لا يستبطوا انقطاع مدّتهم، بل يعدّون زمنهم قصيراً يطلبون طوله).

حيث ربط الإمام عليٌّ (عليه السلام) بين ما سبقَ وما لحَق من تبادل النُصح والمحبّة بين الجُند والوالي، وبين ما يتبع ذلك من واجباتٍ و حقوقٍ، فالقائد الذي له صفاتٌ جيدةٌ له أثرٌ كبيرٌ على المعنويات والمجتمع بصورةٍ عامّةٍ.

حسن الثناء ورفع معنويات الجند:

إنّ رفع المعنويات لا ينحصر بصورة المعاملة والرابطة التي ذكرت آنفاً بعد، بل ذَکر الإمام علي (عليه السلام) جوانب أُخرى نفسية اجتماعية، لها أثرٌ فاعلٌ في وضع الجند وقادتهم (وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَ ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَ، وَلا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئٍ إلى غَيْرِهِ، وَلا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إلى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً، وَلا ضَعَةُ امْرِئٍ إلى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ

بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً).

فعَدَّ المفاخر والمآثر لمَن هُم أبلوا بلاءً حسناً، وحسن الثناء عليهم وإبراز بطولاتهم، بتعداد ذلك يهزّ الشجاع منهم ويزيده بسالةً وبطولة وإقداماً وجُرأةً، (وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) أي المتأخر القاعد من الناس.

إنّ إبراز الشخص البطل أمام المُجتمع بصورة الإنسان الذي لا يرهب الموت وتخافه الأعداء وله سیفٌ صارمٌ سيكون له التأثير الإيجابي الفعّال على اندفاع الآخرين،

ص: 102

وستجعله مرفوع الهامة له الموقع المُحترم في قلوب الناس جميعاً، وعائلته وأهل بيته يفتخرون به، ويعدّون مناقبه وبطولاته كرجلٍ قويٍ وشَهمٍ وشجاعٍ، إنّ هذا الأمر قریبٌ جدّاً من حياتنا الاجتماعية، حيث عایشنا هذه الحالات في مجتمعاتنا، وفي العالم أجمع، فالشخص الجبان المتخلّف عن الجيش الفار من ساحة القتال يُعيّره الناس وينتقصون من شخصيّته بحيث يصبح مُهان الجانب، وهذه تقريباً كانت ولا زالت عُرفاً اجتماعيّاً له حساسيّته وفاعليّته في النفوس، وأكثر ما تكون آثارها السلبية في المجتمعات البدويّة بصورة عامّة (ثُمّ أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم، فإنّ ذلك مما یرهف عَزم الشجاع ويُحرّك الجبان، قوله: (ولا تضُمّنّ بلاء امرئٍ إلى غيره) أي اذكر كلّ مَن أبلى منهم مُفرداً غير مضموم ذکر بلائه إلى غيره، كي لا يكون مغموراً في جنب ذکر غيره، ثُمّ قال له: لا تعظّم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم، ولا تُحقّر بلاء ذَوي الضعة الضّعة أنسابهم، بل اذكر الأُمور على حقائقها).

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي:

يحدث الظلم أحيانا نتيجة الطمع وحبّ الغلبة، بل البعد عن الله والعمل بما حرّم. إنّ الإنسان يحتاج إلى من يتظلّم عنده بعد الله تعالى، وهذا يحدث حتى في حياتنا اليومية، وهو تظلّم الطفل لدى والده لشعوره بعدالة والده وقوّته وسطوته التي تعيد ما أخذ منه إليه، بالإضافة إلى شعوره بالمحبة والعز والارتباط القلبي بينه وبين أبيه حينئذٍ يشكو إليه ما وقع عليه من حيف أو ظلم من أخوته بغيابه، ولولا شعور الطفل وإحساسه واطمئنانه النفسي بأنّ والده سوف يأخذ حقّه لما جرأ وعرض عليه المظلومية، وهذه قضية تتعلّق بالأثر النفسي في ذات الإنسان نعايشها يومياً في مجتمعنا، هذا في الحلقة الأولى المكوّنة للمجتمع، وهكذا يسري الأمر إلى المجتمع كلّه بكافّة طبقاته، فإذا ما

ص: 103

أحسّ الإنسان بعدالة ولي أمره واهتمامه باستاع مظالم الناس والإجابة عليها فوراً، قولاً وفعلاً، فإنّ ذلك سوف يدفع الناس إلى الالتفاف حول الأب الأكبر للمجتمع والدفاع عنه في الملمّات والشدائد من الأيام.

وقد اهتمّ إمامنا في ذلك الاهتمام الواسع، فأخذ يفصّل جوانب هذا العمل ويسعی إلى تربية الولاة للأخذ به والعمل طبق دستوره وبصورة لائقة، ونافعة، وعادلة، فهو لم يأمر الوالي بالجلوس للناس والاستماع منهم فقط، بل حدّد لهم معالم النظر في المظالم، وصوره، وكيفيته، ومِلاكاته، ومراعاة حالات الشاكي (المتظلّم)، ومراعاة الجوانب النفسية لديه، وإعادة الحقّ إلى نصابه بالصورة الصحيحة. وعلي (عليه السلام) قال البعض عمّاله، في كتاب بعثه إليهم من الذين يطأ عملهم الجيوش: (وأنا بين أظهر الجيش فارفعوا إليّ مظالمكم، وما عَراكم ممّا يغلبكم من أمركم، ولا تطيقون دفعه إلاّ بالله وبي، أغيّره بمعونة الله، إن شاء الله).

فإذن، قضية النظر في المظالم تعتبر من أهم الأمور في حياة المجتمع لأنّها تثبت العدالة وتجري الأحكام على ضوئها بين الناس بصورة كاملة، وأنّ سلامة المجتمع وصحّته تأتي من رفع المظلومية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم، وهذا الأمر يحتاج إلى قوّة إيمانية وعدالة سلطانية تعطي الإنسان سلامة أمره واستقراره، وبذلك يتماسك المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية وامتزاج ذلك بالقيم الأخلاقية التي تحرق كل الصور المأساوية للظلم والظالمين والطامعين والمغتصبين، وهذا علي (عليه السلام) يوصي في أنفاسه الأخيرة، ولديه الحسن والحسين (عليه السلام)، بقوله: (أوصيكما بتقوى الله وحده، ولا تبغيا الدنيا وإن بَغَتكما، ولا تأسفا على شيء منها، قولا الحقّ، وارحما اليتيم، وأعينا الضعيف، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذكما في الله لومة لائم).

ففي سكرات الموت بعد ضربة اللعين ابن ملجم المُرادي، يوصي علي (عليه السلام)

ص: 104

بتقوى الله وترك زينة الحياة الدنيا وما حوت، ثمّ قول الحقّ، فالحقّ عند علي (عليه السلام) معناه إرادة الله وكلمته، ففيها نجاة الأمة وخلاصها واستقامتها. ثمّ أكّد على حماية اليتيم والرأفة والرحمة به، ثمّ إعانة الضعيف الذي لا حيلة له، الذي يرى في علي (عليه السلام) طعامه ولباسه وكرامته وعزّه، بتلك الرأفة، وذلك الحبّ، أطعم الأيتام والضعفاء فعاشت هانئة مطمئنة سعيدة، فالخبز إذ عجن بالذلّة والمنّة لا طعم فيه ولا فائدة منه، فهو هنا لم يوص ولاته بل ولديه الإمامين سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليها السلام)، وحبيبَي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويؤكّد عليهم وهو الذي قد خَبرهم وعرفهم كمعرفته بنفسه، فهما قلب عليٍّ، وروحه ونفسه والنور الذي ينظر فيه، وإنّهم كعلي في خصاله، ومع ذلك يوصيهم ليسمعهم ويبلغ غيرهم ممّن قرب أو بعد، ممّن حضر أو لم يحضر في وقته وفي المستقبل.

إنّه يعطي الدرس الاجتماعي للبشرية، ولتبقى هذه الكلمات خالدة تدقّ أسماع وعقول الناس في كلّ زمان ومكان، لكي يفهموا كيف يبنوا مجتماعاتهم ويقيموا العدل. ثمّ انتقل إلى الشيء الأعظم والأهم ألا وهو: (كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ولا تأخذکما في الله لومة لائم).

حتى في آخر اللحظات يدعو إلى إنصاف المظلومين، كونا معهم، كونا حرباً على الظالمين، فإنّ ذلك أساس العدل والحكم الذي أراده الله، ومهما يكن هذا الظالم کُونا عليه حرباً بلا هوادة حتى يستقیم (ولا تأخذكما في الله لومة لائم) ونستنتج من قوله (عليه السلام) هذا ثلاث قضايا مهمّة، كأنّهن الأعمدة الرئيسية للعدالة والمساواة العامة في المجتمع:

1 - الرحمة.

2 - إعانة الضعفاء، أي: فقراء الأمة ومن لا حيلة ولا قوّة له.

ص: 105

3 - العدالة ومخاصمة الظالم والوقوف إلى جنب المظلوم واخذ حقّه ممّن ظلمه.

لله درك يا أبا الحسن! من أبٍ رؤوفٍ وحاكمٍ عادلٍ ومربٍّ أخلاقي عظيم، واجتماعي فرید، جمعتَ كلَ الخصال وأعطيت كلّ روحك لهؤلاء الناس الأيتام والضعفاء المظلومين فأعطوك كلّ شيء.

شرائط النظر في المظالم:

لم يجعل الإمام (عليه السلام) مسألة النظر في المظالم في المستوى الإرشادي فقط، إنّما جعلها الطرف المهم في سلامة الدين وصلاح الأمر، فوضع لهذا الأمر المهم مقوّمات أساسية لا يمكن أن يصلح الانتصاف للمظلوم بدونها، ولا يمكن أن تكون عدالة في هذا التقاضي بعدم الالتزام بهذه الشرائط الذي وضعها أمير المؤمنين في هذا النص:

(وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً

فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛

حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلّی الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ للِضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ). ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

إنّ النظر في المظالم يتطلّب أولاً - وقبل كلّ شيء - أن يجلس الوالي شخصياً للنظر في مظالم الناس ويخصص وقتاً معيناً معلوماً لذلك، ثمّ العمل بالبنود المهمّة التي وضعها علي (عليه السلام) التي تدل على صحّة عملية النظر في المظالم، وهذه لا يمكن العمل بقسم منها وترك القسم الآخر؛ لأنّها متلازمة في أمرها. و (تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ

ص: 106

وَشُرَطِكَ).

إنّ الإنسان بطبيعة وضعه الاجتماعي والآثار النفسية المتبقية في ذهنه، من إرهاب السلطة أو عظمة الحاكم أو الأُبّهة العالية، تجعله متردداً خائفاً ينسيه الوضع الحالي قضيته، وربّما يفر ولا يعرض قضيّته وهو معتقداً أنّ سلامة نفسه هي أفضل من الحصول عل ظُلامته. ولهذا يضع أمير المؤمنين (عليه السلام) الموازين الدقيقة والصحيحة لمثل هذه الأعمال، فهو أولاً يطلب أن يجلس الوالي بنفسه وأن لا يوكل غيره لذلك؛ لكي يعالج المشاكل ويحلّ العقد ويباشر الأمور ويطلّع عليها شخصیاً. ثمّ ينصب میزان العدل الإنصاف المظلوم والأخذ بالظالم وإعادة الحقّ إلى نصابه، ونشر راية الرحمة على رؤوس الأبناء، أي المجتمع؛ لأنّ الراعي يعتبر الأب للقوم، فإذا ما كان أبوهم لا يستمع لهم ولا یُدنيهم ولا يتظلّمون عنده بالحقّ فلا نفع من ذلك إذن، وعند ذاك تصبح الفاصلة بين الناس والوالي كبيرة.

فلا تبطر!. كما قال الإمام (عليه السلام) وكلامه مترابط من بدايته حتى آخره، وكلّه شواهد بعضه على بعض، وعلى معرفة تامة بأوضاع المجتمع واعتباراته، ومستقر للأوضاع والأحداث والسلوك الذي ينتج عن كل نوع من سيرة الولاة، بحيث يعطي النتائج لكلٍّ منها مسبقاً ويضعها بين يدي عمّاله لكي تكون أشبه بالقانون الاجتماعي الحاصل من استقراءات ودراسات تطبيقية على المجتمع، إذ يضع النقاط على الحروف لكلّ مسألة سياسية واجتماعية ونتائجها، لهذا لا نجد بُعداً بين معنىً وآخر وبين رسالة وأخرى، فكلّها نابعة من أساس واحد ومصدر أصيل، بناؤه العدالة الاجتماعية التي هي أصل لبناء كل أمر.

فمرّة يأمر ولاته بتفقد أمور الرعية بإرسال ثقاته من الرجال الذين يخافون الله ولا يتكبّرون على الناس حتى يدوّنوا مشاهدتهم ويرسلوا التقارير الصحيحة والتامّة إلى

ص: 107

الولاة دون إضافات أو نواقص متعمّدة من الذين لا يستطيعون المجيء إليه. وكذلك يأمرهم بالأمر التالي: فانشر العدل بنشر أصحابك الثقاة، ومرّة أخرى يكون هناك إنسان مظلوم نهب حقه وهدرت كرامته وطرد من موقع العدالة والحقّ والرحمة بواسطة إنسان ظالم، سواء كان عاملاً من عمّال الولاة، أو قاضياً من القضاة، أو صاحب شَرطة، أو أي إنسان آخر، ولا يجد من يتظلّم عنده في هذه الدنيا ليعيد حقه إلاّ الله والذي بيده ولاية الأمر، وهي بطبيعة الحال أمانة في عنقه من الله لرعاية أمر عباده. وهذا الأمر قمّة في العدالة الإنسانية ورحمة كاملة للبشرية، فالمجتمعات التي توجد فيها هذه المبادئ الصالحة تأخذ زخماً معنوياً كبيراً للإخلاص والتفاني والتضحية سواء كان لدينها أو وطنها.

ثمّ يطلب الإمام أن يجلس الوالي بنفسه ويقيم مجلساً عامّاً، ويريد من كلامه أيضاً أنّ لا يجلس جلوس الجبابرة والطغاة والمتكبرين التي لا يفيد فيها ولا يستفيد، بل يجب أن يكون وَقوراً متواضعاً؛ لأنّ الله ينظر إلى حكمه وعدله (فتواضع لله الذي خلقك)، ثمّ لا يتعرّض الحاشية والحرّاس لطالبي الحاجات بحيث يأخذ الخوف والرعب مأخذه منهم رهبةً من سطوة الأعوان الممحلقين أعينهم بشدّة، وفي وجوههم القسوة والشدّة التي تخيف الناس وتمنعهم من الكلام (حتى يكلمك متكلّمهم غير متتعتع أي: لا يترددون في العرض عندك، ثمّ يقول: فإِنِّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلّی الله عليه وآله) يَقُولُ، فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: (لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).

فأمير المؤمنين (عليه السلام) استشهد بحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يؤكّد وبوضوح عدم طُهر امةٌ لا يؤخذ فيها حق الضعيف من القوي وبدون تردد أو خوف، إذ لا يستديم الحكم إلاّ بالعدل وإنصاف المظلومين.

وإذا ما طغى الجور والظلم والفساد في بلاد ما فإنّ التغيير آتٍ بحتمية لا ريب فيها، لأنّ الناس لا يمكن أن تستكين للضيم والقهر مدّة طويلة وفي التاريخ شواهد وحقائق كثيرة تدلّل على ذلك.

ص: 108

ثمّ يجب أن يتوقع الوالي كلّ شيءٍ من هؤلاء البسطاء من الناس الضعّاف الحال الذي أعياهم الفقر، وأتعبهم الفقر، والدواهي التي أصابتهم من العمّال والأعوان من الذين تحت ظل ورعاية الوالي، ثمّ لا حبيب ولا نصير يقف على حالهم ويعالج أوضاعهم وينصفهم من أعدائهم. هؤلاء المتعبون يجب أن تستوعبهم وتحتمل منهم كل جهل يصدر أو كلام ربّما يجرح، أو عنف في كلام غير محسوب أو عجز عن النطق أو ما شابه ذلك من المثيرات في النفوس المؤجّجات للأحاسيس والمشاعر والتي تثير الغضب وعدم الرضى (وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأَنَفَ؛ يَبْسُطِ اللُّهَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَامْنَعْ فِ إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

هذه الصورة الجميلة والرائعة من المعاملة الإنسانية القيّمة التي يضع مضامينها علي (عليه السلام) ويعطيها جاهزة لولاته حفظاً لأمته من الضياع والهتك والتسلّط غير المشروع والعبودية. فهو يريد للإنسان أن يعيش ضمن مبدأ الإسلام العظيم الذي يعطي للإنسان حريّته وكرامته، وكذلك يقول للوالي: بأن لا يضيق صدرك من طلباتهم وسوء خلق بعضهم الذي قد يصدر منهم، فتستكبر وتأنف من ملاقاتهم والتحدّث إليهم. إنّ الله يعوض عن ذلك للإنسان الذي يحمل الحبّ والحنان والعطف والرفق، بل كلّ معاني الكلمات التي تبعث في القلب والنفس الروحَ الإنسانية الطاهرة، وبهذه المعاملة سوف يبسط الله رحمته وغفرانه في جميع المواطن التي قد يبتلي فيها الإنسان، إنّ الوالي بهذا العمل أدّى فرائضه وأدّی حقّ عبادته، ومعنى ذلك أنّه أطاع الله من خلال التعاليم الإلهية التي أوجبها على عباده، فالأجر والثواب على تلك الأعمال عند الله، وما تعطيه للخلق يبدله الله خيراً فاعط بمنتهى الإحسان ورضى النفس وبدون منٍّ أو أذى أو استكثار، وإن أردت أن تمنع فامنع بلطفٍ واعتذارٍ؛ فإنّ ذلك أسمى وأرفع وأبلغ أثراً في النفوس وأكثر تقبّلاً وقناعة لدى الناس بحيث تدفعهم إلى مَحالهّم وهم راضين عنك، شاکرین عملك.

ص: 109

علي مع الحق والحق مع علي:

لقد كان الحقّ الفيصل الأوّل في المواقف المهمّة خلال حكمه، فقد أعطى نفسه للحقّ ولم يجره الآخرون لأنفسهم طمعاً باستئثار لا يهمّهم آثاره الضارّة أو الحالة الظالمة التي تتبعه، ولذا نصب میزان العدل بوجه أولئك الذين سعوا إلى جلب المنابع المادية لأنفسهم حتى وإن كان ذلك خروجاً على الشريعة ومبادئها، إنّ علي (عليه السلام) في إشارة دقيقة ومهمّة يحدّد من خلالها صورة وواقع الولاية في عهده حيث يقول (عليه السلام): (لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّ أُرِيدُكُمْ للهَّ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ! أَعِينُونِي عَلَی أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللِّهَ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً).

هذا وحده هو قانون للبشرية وعلماء الإنسانية والمدافعين عن حقوقها، ولإصحاب النظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ كي يرفعوا به عمود خيمة الإنسانية الكبيرة التي يستظل بظلها كل مظلوم و مستضعف ومن تقتحمة العيون في المجتمع.

فتلك الخيمة قائمة ما دام هذا العمود قائماً، إنّه الأمل الذي تدور من حوله قلوب تلك الأرواح الهاربة من حَرور الجور والعبودية والظلم.

فما تعاني منه الإنسانية بصورة واسعة هو الظلم بمختلف ألوانه والانحراف عن الاستقامة والقيم الإلهية. ولولا الظلم والجشع والطمع بأنواعه لم يكن هناك صراع واستئثار وبغي.

بقي علينا أن نعرف أن الأمر المهمّ الآن: كيف نعالج الواقع المرّ الذي أفرزته الظروف القاسية؟ ظروف الحيف والجور، حيث تنکفي موازين العدالة والحقّ.

فنحن - أفراد البشر - إذا رأينا إنسانا لا يضمر سوءاً للآخرين، ولا يتجاوز على

ص: 110

حقوقهم ينظر إلى الناس بعين نهاية الحياد، يناصر المظلوم ويعادي الظالم، إنّ شخصاً كهذا نعتبره حائزاً على نوع من الكمال نسّميه (العدل) ونطلق على صاحبه اسم (العادل).

وعلى خلاف هذا الفرد الذي يتجاوز على حقوق الآخرين وإذا كان في مركز القوّة والقدرة فإنّه يرجح أفرادا على آخرين دون وجود مرجح، ويناصر الظالمين ويخاصم الضعفاء وفاقدي القدرة، أو على الأقل يكون محايداً في النزاعات والمناقشات الدائرة بين الظالمين والمظلومين، إنّ شخصاً كهذا نعتبره متّصفاً بنوع من (الظلم) ونسمّيه (الظالم).

وهناك آيات قرآنية كثيرة وردت في شأن العدل والظلم، هذا نموذج من بعضها: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ».

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1).

«الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»(1).

«وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ».

إذن، يجب اتّخاذ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وخطب الإمام علي (عليه السلام) مرتكزاً في وضع الحلول المناسبة، من خلال معرفة وأخذ العبر والدروس من أجل بناء المجتمعات بناءً إنسانياً إيمانياً.

ص: 111

النظرة العلوية إلى الظلم:

إنّ منهج الإمام علي (عليه السلام) الاجتماعي المتعلّق بهذا الموضوع يجسّده كلامه وخطبه (عليه السلام) التي ترسم في الأذهان الصور المتكاملة والواقعية للعدل والظلم، وسأبدأ بكلام له (عليه السلام) يتبرّأ فيه من الظلم ويقول فيه: (وَاللَّهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَی حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إللَّهِ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِياَمَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِباَدِ وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا).

إن الإمام (عليه السلام) يقسم بالله، وأيَّ شيء مهمّ وعظيم هذا لدى الإمام الذي يؤدّي به إلى القسم بالله وهو علي إمام المتقين وسيد الموحدين؟! إن بذلك ينتهي كلّ نقاش، وينتهي كلّ تحليل أو تبرير بفعل قسمه هذا، ويقول (عليه السلام): لأن بات يتقلّب على الشوك وتلك النبتة البريّة المدبّبة برؤوس الإبر الشوكية طيلة ليله مسهّراً، أو جرّ على ذلك وهو مقيد بالأغلال بحيث لا يستطيع الذود عن جسمه اتجاه تلك الآلام القاسية والجروح الدامية، فإنّ ذلك كله أحبّ إليه من أن يلاقى الله ورسوله يوم القيامة وهو ظالم لعباده.

فالإمام (عليه السلام) يريد بهذه الصورة التهويلية أن يبيّن مدى أثر الظلم ومسؤولية الإنسان الظالم عند الله ورسوله يوم الحساب، ثمّ يوضح لنا ولغيرنا أنّ الظلم لأجل حطام هذه الدنيا الفانية له نتائج قاسية، وسيترك أثاراً سلبية عظيمة، وزرها ثقيل، تبقى مع الإنسان إلى يوم الحشر العظيم...

(وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَی الْبِلَی قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا (فالنفس نهايتا الفناء وهي تمضي إليه مسرعة، وغداً محلّها بين طبقات الثرى، ألا يكفيها هذا رادعاً عن مظالم الناس؟!

ص: 112

ثم إنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في بعض مواعظه على أنّ الظلم أنواع وعدَّد تلك الأنواع، وانتهى بظلم العباد بعضهم لبعض، وحذر شدّته من يوم القيامة، حيث قال (عليه السلام): (أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً؛ الْقِصَاصُ هُنَاكَ

شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى، وَ لا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَالتَّلَوُّنَ فِي دِينِ الل فَإِنَّ جَمَاعَةً فيِمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فيِمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَی وَلا مِمَّنْ بَقِيَ).

إنّ الإمام (عليه السلام) يوضح حجم عقوبة ظلم العباد عند الله وأكّد أنّ قصاصها الحساب شديد وعسير على الإنسان، وهو ليس بصورة جرح سكاكين أو ضرب بالسياط حتى يقال: إنّ أمره هيّن. إنّ عقاب ذلك عند الله اشدّ ما يمكن أن يكون وخاصة إذا كان هذا المظلوم مؤمناً، فالإمام (عليه السلام) في قوله إلى البَجَلي قاضيه على الأهواز يبيّن ذلك: (دارِ المؤمن ما استطعت؛ فإنّ ظهره حُمى الله، ونفسه كريمةٌ على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله، فلا تكن خصمه).

إذن، من الذي يخاصمه إذا ظلم أحداً من المؤمنين؟ إنّه الباري عزّ وجلّ، وفي أية صورة تكون حالته هناك وهو الضعيف القاصر أمام الجبّار المتعال.

ثمّ يؤكّد الإمام (عليه السلام) على عملية التفاضل بين نوعين من الحالة الاجتماعية فوجود أيدٍ متماسكة وقلوب متفقة مع حقّ صعب تطبيقه ومكروه عندكم، خيرٌ من الا الا تفرّق وشِقاق ونِفاق مع باطل محبّب ومرغوب في النفوس.

فإذا ما طَهُرت القلوب واتسع بعضها للبعض الآخر وتحمّلت تطبيق الحقّ والعدالة مع مخالفة ذلك لهوى النفس، هو أصلح وأجدى نفعاً لتماسك ووحدة المجتمع ككل.

والإمام (عليه السلام) يقول في ذلك: (أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِ عَلَی أَنْفُسِكُمْ وَايْمُ اللَّهِ

لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ

ص: 113

کَارِهاً) .

ولا زالت كلمته (عليه السلام) التي قالها في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) تدّق أسماع العالم لتعطي للإنسانية معنى العدل وإحقاق الحقوق: (وظلم الضعيف أفحش الظلم).

ولهذا كان علي (عليه السلام) لا يترك صغيرة ولا كبيرة تهم أمر المجتمع إلاّ وعالجها بحكمته ومواعظه وإرشادته في معاملاتهم وحياتهم العامة وإدارة أمور البلاد في كل أمر، فكان يتابع القضاء كما يتابع الأسواق وحركة البيع والشراء وهو يشدّد على قضائه ويقول لأحدهم: (انهَ عن الحِكرة، فمن ركب النّهى فأوجعه ثمّ عاقبه بإظهار ما احتكر. أقم الحدود في القريب يجنبها البعيد، ولا تطلّ الدّماء ولا تعطّل الحدود).

أو كما جاء في كتابه (عليه السلام) إلى حذيفة بن اليمان: (... وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المُحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرّفق في أمورك والدّين، والعدل في رعيّتك، فإنّك مساءل عن ذلك، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فإنّ الله يجزي المحسنين... وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم؛ فإنّ الله مع الذين اتّقوا والّذين هم محسنون)

فعليٌّ أمرهم باتباع هذا المنهج العادل الذي رسمه لهم في إدارة الشؤون الإدارية والاجتماعية المهمّة في البلاد، حيث أكدّ على مسألة العدل في الرعيّة وأعطاها الأهمية القصوى، وكان كلّ أمره أن لا يقع حيف أو إجحاف وأن يُنتصف للمظلوم وذلك من العدل حتى يستقيم أمر الأمّة: (وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم).

وكما قلنا سابقاً أنّ لا شيء يمنع عن إقامة العدل سوى اتباع هوى النفس، وما أكثر ما أكدّ الإمام (عليه السلام) على ذلك وأشار إليه بالابتعاد عنها وإقامة العدل في الأمة

ص: 114

بإحقاق الحقّ، وأن لا يخاف ولا يحاذر من أنّه يريد العمل به إذا كان عائداً إلى الله لإعلاء طريق الحقّ وهو طريق الله تعالى، وان الله مع المتّقين والمحسنين.

وقد روى اليعقوبي عن الزهري، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً فبينما أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل له، يخبره أنّ مدينته احتاجت إلى مرمَّة (أي: إصلاح) فقلت له: أنّ بعض عمال (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتب إليه بمثل هذا، فكتب (عليه السلام) إليه:

(أما بعد فحصّنها بالعدل، ونقّ طرقها من الجور؛ فإنّه مرمّتها.والسلام).

إذن، الهدف الأعلى والسامي عند الإمام (عليه السلام) هو تثبيت أركان العدل في البلاد لأنّ فيه رضاء الله وصلاح المجتمع في ذلك (ومن هنا، وعلى هذا الأساس، اتّجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المجتمع يُحي قوانينه ويعمل لها ويريدها صالحةً خيّرة، ثمّ يضع كلاً من النصح والسيف في موضعه، تدعيما لآرائه وتثبيتاً لموقعه من طبقات الناس في زمانه، وراح لا يُعنى بشيء عنايته بتوطيد أركان العدالة الاجتماعية: أَوَ ليس هو القائل لمهنّئيه بالولاية فيما بعد، وقد دخلوا عليه فإذا هو يرفأ نعله بيديه: (إنّ هذه النعل هو خير عندي من ولايتكم هذه، إن لم أقم حقاً وأزهق باطلاً).

أما العاملون للآخرة فإنّ الإمام يريد منهم أن يتوسّلوا لنعيمها بخدمة الجماعة قبل غيرها من الوسائل، لذلك جعل الإمام (عليه السلام) خير الآخرة - لمن يريد - منوطاً بالعمل في الناس عملاً مستقيماً، وفي طليعة هذا العمل: المساهمة في توفير الخبز والماء والكساء للمجموعة البشرية، وفي رفع الحاجة عن العامّة، ومحاربة الظالمين وإغاثة المظلومين، ثمّ إعلان حقوق الإنسان والدفاع عنها، (ويقول لكميل بن زياد في معنى الصلاة والصوم: يا كميل، ليس الشأن أن تصلي وتتصدّق، وإنّما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي، وانظر فيمَ تصلّي، وعلام تصلي، فإن لم تكن من وجهه

ص: 115

وحلّه فلا قبول!).

وقد بلغ من اهتمامه بحياة الناس على الأرض، قبل الآخرة، وبخبرهم اليومي أنّه كان يغتدى فجر كلّ نهار ويطوف في أسواق الكوفة، وهو خليفة، ويقف على أهل كل سوق وينادي، قائلاً: (يا معشر التجار! اتّقوا الله، واقتروا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعيثوا - أو: تعيشوا في الأرض مفسدين).

وإن أدّى أمر العدل وإعادة الحق إلى نصابه ومنع الظلم إلى الحرب والموت، فإنّ ذلك لم يمنعه من إقامة الحقّ ودحض الباطل، وإنصاف المظلوم وصدّ الظالم، فأساس بنيان المجتمع يعتمد على استقامة هذه الأمور، وغيرها يكون الدمار، ولذا الحرب والقتال مع أنصار الظلم ومهما كلّفت لا بدّ منها، لِما فرضه الله تعالى على الإمام العادل من إقامة الحدود وردّ الإثم والعدوان، فقد ورد في كتاب وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ما يلي: (قال نصر: وفي حديث عمر بن سعد قال: وكتب عليٌّ إلى عمّاله، فكتب إلى مخنف بن سليم:

(السلام عليكم، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد.. فإنّ جهاد من صَدَف عن الحقّ رغبةً عنه وهبّ في نعاس العمى والضلال اختياراً له، فريضةٌ على العارفين، إنّ الله يرضى عمن أرضاه، ويسخط على من عصاه، وإنّا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلّوا الحدود، وأماتوا الحقّ، وأظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وَلِيجة من المؤمنين، فإذا ولىّ لله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، فإذا ظالمٌ ساعدهم على ظلمهم أحبّوه وأدنوه وبرّوه، فقد أصرّوا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف. وقديماً ما صدّوا عن الحقّ، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين...)

ص: 116

إنّ كتاب الإمام (عليه السلام) قد حوى معانٍ وصوراً واقعية نلمسها في وقتنا الحالي وفي داخل مجتمعاتنا المختلفة، وهي حقيقة وظاهرة اجتماعية تبنّتها نفوس خلقٍ كثير من المجتمع وخالطت هواها فامتزجت لتعطي واقعاً اجتماعياً مُراً سحقت فيه كلّ القيم الأخلاقية وابتعدت فيه عن كلّ معاني العدالة الاجتماعية، فازداد المرض وتفاقم أمر المجتمع سوءاً من أثر المرض الذي أصبح عضالاً، وربّما يرأف الله تعالى بالحال ويشافي القلوب من تلك الأمراض النفسية حتى نسعد في حياتنا ونضمن الثواب في آخرتنا، ومسك ختامنا الآية الشريفة: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

ص: 117

الخاتمة:

بات واضحاً من خلال ما مر في البحث ان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سعى إلى وضع أسس ودعائم الدولة المتحضرة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان واحترام إنسانية الإنسان، وقد سعى الإمام عليه السلام سعياً حثيثاً في سبيل تحقيق ذلك، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة، إذ عاداه مجتمعه الذي تعود على نظام الطبقية.

ويحق لنا كمسلمين الفخر والاعتزاز ونحن ننظر إلى باني الدولة العصرية قد نادى بالشعارات التي ينادون بها اليوم، ودعا لها وعمل على تحقيقها، فيما يسمونه اليوم: حرية، ديمقراطية، فهم الآخر، الحوار مع الآخر..

وقد تبين بوضوح انّ الإمام عليه السلام، قد سبق العصور والأزمنة بفكرة الثاقب ورؤاه العظيمة، إلاّ ان المجتمع آنذاك لم يكن متفهماً وواعياً بما فيه الكفاية لما كان الإمام عليه السلام، وبالنتيجة لم يستفد ذلك المجتمع من تلك الوصايا النورانية التي تعد بحق لبنات بناء الدولة المتحضرة.

وتعدّ العدالة المحور الأكثر بروزا في منهج حكمه عليه السلام، وقد بلغ من اقتران اسم الامام أمير المؤمنين عليه السلام بالعدالة، وامتزاجه بها، قدراً كبيراً، إذ صار اسم يريده علي عنواناً للعدالة، وصارت مفردة العدالة توحي باسم (علي) صلوات الله عليه.

واليوم، لا تزال الفرصة سانحة، وبإمكان عالم اليوم المليء بالحروب والدمار والأزمات، أن يعود إلى ذلك النهج النير، نهج الإمام علي عليه السلام، فهو يكفينا لإقامة الدولة الصالحة والعصرية المتحضرة، وكذا العودة إلى كتابه إلى واليه على مصر، الشهيد مالك الأشتر رضوان الله عليه، لننهل من ذلك المعين العذب، وهو يوصي عامله على مصر بأدق الأمور، وفي شتى ميادين إدارة الدولة.

ص: 118

المصادر:

1 - القرآن الكريم.

2 - ابن الأزرق - بدائع السلك في طبائع الملك - الجزء الأول - تحقيق علي سامي النشار بغداد.

3 - ابن هشام - السيرة النبوية - المجلد الأوّل والثاني - دار المعرفة - بيروت.

4 - إشفيتسر- ألبرت - فلسفة الحضارة - ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي - مطبعة مصر - القاهرة.

5 - الأعرجي - الدكتور زهير - مباني النظرية الاجتماعية في الإسلام - المطبعة العلمية قم - الطبعة الأوّلى 1417 ه.

6 - البري التلمساني - محمّد بن أبي بكر الأنصاري - القرن التاسع الهجري - تحقيق الدكتور التنوخي.

7 - البيّاتي - الدكتور منير حميد - النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القومية القانونية - الطبعة الثانية.

8 - التوحيدي - أبو حيان - الإمتاع والمؤانسة - دار الشريف الرضي.

9 - جرداق - جورج - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية المجلّد الأوّل والخامس - دار مكتبة الحياة - بيروت.

10 - جعفر - الدكتور نوري - علي ومناوؤه - دار النجاح - القاهرة - الطبعة الرابعة 1976 - 1396 ه.

11 - الخطيب - السيد عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغة وأسانيده - الطبعة الرابعة - بيروت.

ص: 119

12 - دیوارنت - ول وايريل - قصّة الحضارة - المجلّد الرابع - ترجمة محمّد بدران 1408 ه - 1988 م - بيروت.

13 - رهبر - محمّد تقي - دروس أساسية من نهج البلاغة - منظمة الإعلام الإسلامي - إيران.

14 - زيدان - الدكتور عبد الكريم - السنن الإلهية في الإمام والجماعات والأفراد - الطبعة الرابعة 1413 ه - 1993 م.

15 - الشرقاوي - عبد الرحمن - علي إمام المتقي - المجلّد الأوّل والثاني - بيروت 1985 م.

16 - الشرقاوي - محمود - التفسير الديني للتاريخ - الجزء الأوّل - دار الشعب.

17 - الصالح - الدكتور صبحي - النُّظم الإسلامية - نشأتها وتطوّرها - الطبعة السادسة - بيروت.

18 - صحيح البخاري - تحقيق الدكتور مصطفى البغا - الجزء الثاني.

19 - صحيح البخاري - ضبط وتعليق الدكتور مصطفى ديب البغا - المجلّد الخامس - مطبعة الهندي.

20 - الصدر - محمد باقر - اقتصادنا - الجزء الثاني - الطبعة الثانية 1408 - المجمع العلمي للشهيد الصدر.

21 - الصدر - محمد باقر - المدرسة القرآنية.

22 - الصدر - محمد باقر - آهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف - دار التعارف للمطبوعات - بيروت.

23 - الصدر - محمّد باقر - فدك في التاريخ - تحقيق الدكتور عبد الجبار شراره - مركز الغدير.

24 - الطباطبائي - السيد محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن - المجلّد الثاني - مؤسسة

ص: 120

الأعلمي - بيروت.

25 - الطبري - محمّد بن جریر - تاریخ الرسل والملوك - الجزء الخامس - تحقیق محمّد أبو الفضل إبراهيم - بیروت لبنان.

26 - طي - الدكتور محمّد - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم - الطبعة الثانية -1417 ه 1997 م - مركز الغدير للدراسات الإسلامية.

27 - عبد الباقي - الدكتور زيدان - التفكير الاجتماعي (نشأته وتطوّره) الطبعة الثالثة (1401 ه - 1981 م).

28 - عبد الحميد - صائب - تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي. الغدير - بيروت - الطبعة الأوّلى 1417 ه - 1977 م.

29 - العلوي - هادي - فصول من تاريخ الإسلام السياسي 1995 م - قبرص - شركة F.K.H المحدودة للنشر.

30 - على - الدكتور جواد - المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام الجزء السابع - الطبعة الثانية 1413 ه - 1996 م.

31 - غيث - الدكتور محمّد عاطف - دراسات في علم الاجتماع التطبيقي - دار النهضة العربية للطباعة والنشر- بيروت.

32 - فضل الله - السيد عبد المحسن - نظرية الحكم والإدارة - دار التعارف - بيروت.

33 - الفكيكي - توفيق - الراعي والرعية - الطبيعية الثانية 1403 ه مؤسسة نهج البلاغة - شركة افست - إيران.

34 - قطب - محمّد - مذاهب فكرية معاصرة - نظرية الحكم والإدارة - دار الكتاب الإسلامي - قم - بيروت.

ص: 121

30 - الكليني - فروع الكافي - تحقيق العلامة الشيخ محمّد جواد مغنية الطبعة الأوّلى 1613 ه - 1992 م - دار الأضواء للطباعة والنشر - بيروت.

36 - الماوردي - الأحكام السلطانية تحقيق الدكتور احمد البغدادي - الكويت 1989 م.

37 - متز - آدم - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمّد عبد الهادي أبو ريده - المجلّد الأول - 1377 ه - 1957 م.

38 - المحمودي - الشيخ محمّد باقر نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة المجلّد الرابع والخامس.

39 - المسعودي - مروج الذهب - دار الهجرة - قم.

40 - مطهري - الشيخ مرتضى الإسلام وإيران - الجزء الثالث 1405 ه - 1985 م، ترجمة هادي الغروي.

41 - مطهري - الشيخ مرتضى - العدل الإلهي - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني.

43 - مطهري - الشيخ مرتضى - في رحاب نهج البلاغة - ترجمة هادي يوسف الغروي - دار التعارف - 1400 ه - 1980.

43 - مقدمة ابن خلدون - مؤسسة الأعلمي - بيروت.

44 - المنقري - نصر بن مزاحم - واقعة صفين تحقيق عبد السلام محمد هارون - الطبعة الثانية - منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي - قم 1404 ه.

45 - النراقي - محمّد مهدي جامع السعادات - الجزء الأوّل.

46 - النفيسي - الدكتور عبد الله - في السياسة الشرعية - الكويت 1405 ه. 1984م.

47 - نهج البلاغة - الدكتور صبحي الصالح - دار الهجرة - 1395 ه.

48 - نهج البلاغة - تصنيف لبيب بيضون - مكتب الإعلام الإسلامي - الطبعة الثالثة 1417 ه.

ص: 122

49 - نهج البلاغة - شرح ابن أبي الحديد - تحقیق محمّد أبو الفضل إبراهيم - دار الإحياء الكتب العربية - الحلبي وشركاؤه - الطبعة الثانية 1967 م - 1387 ه.

50 - نهج البلاغة - شرح الشيخ محمّد عبده - مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بيروت.

51 - الوردي - الدكتور علي - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - منشورات الرضي - قم.

52 - ويد جيري - الپان ج - المذاهب الكبرى في التاريخ - من كونفوشيوس إلى تويبني - ترجمة ذو كان قرقوط - دار القلم - بيروت - الطبعة الثانية 1979 م.

53 - هاريت - لیدل - التاريخ فكراً استراتيجياً - ترجمة حازم طالب مشتاق - الطبعة الأوّلى - بغداد - 1985 م.

54 - هويدي - الدكتور فهمي - مجموعة مقالات في حقوق الإنسان في الإسلام - المؤتمر السادس للفكر الإسلامي - بيروت.

55 - اليزدي - محمّد تقی مصباح المجتمع والتاريخ من وجهة نظر القرآن الكريم - ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني - دار أمير الكبير للنشر 1514 ه.

المجلات والنشريات:

1 - الفكر الإسلامي - الجزء الثاني - مؤسسة البلاغ.

2 - الفكر الجديد - العدد العاشر - السنة الثالثة - 1995 م - دراسة في ضوء علم الاجتماع الحضري - إبراهيم الموسوي.

3 - لماذا السقوط الحضاري - مؤسسة البلاغ.

4 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثالث السنة الثانية - علم الاجتماع عند ابن خلدون - شيخ الأرض تیسیر.

5 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد الثاني - السنة الثانية - تكامل الحكمة وشموليتها في فكر الإمام علي (عليه السلام) - يوسف عبد الحميد.

ص: 123

6 - مجلة الجامعة الإسلامية - العدد السادس - السنة الثانية 1995 م - الحوار الحضاري ضرورة إنسانية - الدكتور احمد عبد الرحيم السايح.

7 - مجلة المنهاج - مركز الغدير - العدد الثالث - السنة الأوّلى 1417 همت 1996م.

8 - مجلة كلية الآداب - العدد السادس - نیسان 1963 م - جامعة بغداد - التظلم من الحكام - عبد الغني باقر.

9 - مجلة كلية الآداب - جامعة بغداد - العدد 17 - سنة 1974 م - بعض نظریات علم الاجتماع في القرن العشرين - إحسان الحسن.

ص: 124

المواطنة والتنمية في حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

الدكتور رحيم علي صياح جامعة المثنى / كلية التربية الأساسية / قسم التاريخ

ص: 125

ص: 126

ملخص البحث

تناولنا في بحثنا هذا مفهوم المواطنة التي تعرف بأنها: التزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ نتيجة انتمائه لمجتمع معين، وعليه في الوقت نفسه واجبات يتوجب عليه أداؤها.

ثم تطرقنا إلى مفهوم التنمية، وماذا نعني بالتنمية؟ وما أهدافها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟ فالتنمية في واحد من تعريفاتها: إحداث مجموعة من المتغيرات الجذرية في مجتمع معين بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر.

بعد ذلك عرجنا على مسألة الحكم لما له من أهمية في تكريس مفهوم المواطنة وإعطائها أبعادها الحقيقية، وكذلك أهميته الكبيرة في إدارة عملية التنمية وتحقيق أهدافها، فالحكم الرشيد من منظور التنمية الإنسانية هو الحكم الذي يعزز رفاه الإنسان ويدعمه ويصونه، ويقوم على توسيع قدرات البشر، وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولاسيما أفراد المجتمع الأكثر فقرا و تهميشا.

وحاولنا أن نقارن بين التعريف الحديث للحكم الراشد وبين منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في ممارسة السلطة، والسعي إلى تحقيق التنمية، والدور الرائد للإمام في ترسخ أسس التنمية، وتحقيق الرفاه للإنسان، وتعزيز مفهوم المواطنة، فأخذنا بعرض أهم سياسات الإمام علي (عليه السلام) في تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وسعي الإمام لتكون رابطة المواطنة هي الرابط الأهم في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس الولاء للحاكم.

ص: 127

Summary

We had this in our

concept of citizenship, which is defined as: mutual commitments between the people and the state, person gets the civil, political, economic and social rights, as a result of membership of a particular community, and in the same time, the duties must be performed.

Then we have dealt with the concept of development and what we mean by development and its goals of economic, political and social development is in one of its tariffs means: make a series of radical changes in a particular community in order to give that community the ability to continuous self development, after that we have looked at the issue of governance because 11111 I U11 VI 1 of its importance in the consecration of the concept of citizenship and give real dimensions, as well as of great importance in the management of the development process and achieve its' goals. Good governance in its rationalof human development perspective is to judge which promotes and supports and protects human well-being and is based on the expansion of human capabilities and choices and opportunities and freedoms economic, social and political, especially for the poorest members of society and marginalized.

We have tried to compare the modern definition of the rule of good governance (Al-Rashid) and the approach of Imam Ali(peace be upon him) in the application of power and the pursuit of development and the pioneering role of Imam Ali in the established foundations of development and the well being of the human person and the promotion of the concept of citizenship.

We have displayed the most important policies of Imam Ali (peace be upon him) in achieving the economic, political and social development and the TV 1 ILI LLL pursuit of the Imam to be the Association of citizenship is the most important link in the relationship between the ruler and the ruled, not loyalty to the ruler.

ص: 128

المقدمة:

يحتل مفهوم المواطنة مكانة بارزة في الفكر السياسي والاجتماعي؛ لما له من أهمية في إقرار الحقوق السياسية والاجتماعية للإفراد والمجتمع بشكل عام، وقد أخذ هذا المفهوم بالتطور والنضوج، فأصبحت المواطنة جزءا أصيلا من الحقوق الطبيعية والسياسية للإنسان التي سعت الأمم والهيئات الدولية لإقرارها، والحفاظ عليها، وفي الجانب الآخر فإنّ لمصطلح التنمية مكانته الكبيرة في سياسات الدول التي تسعى لتحقيق حياة کریمة لشعوبها، فالتنمية لم تعد تقتصر على تحقيق فائض في الإنتاج، وجني أرباح، بل امتدت واتسع مفهومها ليشمل جميع جوانب الحياة، فهي ببساطة أصبحت تهدف إلى حماية الإنسان من الفقر والجهل والمرض، وإلى بناء إنسان قوي يتمتع بكل الحقوق الامتيازات.

ومن هنا كان لزاما علينا أن نناقش أيضا ما يعرف بالحكم الصالح أو الرشید؛ وذلك الأثره الرئيس في إدارة عملية التنمية وإنجاحها، فكان اختيارنا لهذا الموضوع للترابط الوثيق بين المواطنة والتنمية والحكم في تحقيق الرفاه والحياة الكريمة للإنسان والمجتمع.

تناولنا في بحثنا هذا مفهوم المواطنة تعريفا وتطورا تاريخيا، وما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ضرورة تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، كما تطرقنا إلى موضوع الحكم الصالح أو الرشید، وابرز ساته التي يجب أن تتوافر فيه؛ ليكون رشیدا أو صالحا، ثم أعطينا نبذة عن مفهوم التنمية، ومسارها التاريخي وتطورها، وسعيها التحقيق الرفاه للإنسان.

وأخيرا تناولنا سياسات الإمام علي (عليه السلام) في سعيه لتحقيق المواطنة الصالحة بين أفراد المجتمع، وسياساته في خلق تنمية بشرية مستدامة هدفها الأول الإنسان وكرامته.

ص: 129

المواطنة:

المواطن عضو في دولة له فيها ما لأي شخص آخر من الحقوق والامتيازات التي يكفلها دستورها، وعليه ما على أي شخص آخر من الواجبات التي يفرضها ذلك الدستور(1).

فيما عرف آخر المواطن بأنه: عضو في دولة ما، له أن يتمتع بالحقوق المدنية والسياسية في تلك الدولة، وعليه التزامات بشأن تلك الحقوق(2).

وفي دائرة المعارف البريطانية عرفت المواطنة بأنها: علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات و حقوق في تلك الدولة(3).

وقيل إن المواطنة في أبسط معانيها: هو أن تكون عضوا في مجتمع سياسي معين، أو دولة بعينها، القانون يؤسس الدولة ويخلق المساواة بين مواطنيها، ويرسي نظاما عاما من حقوق وواجبات تسري على الجميع من دون تفرقة، وعادة ما تكون رابطة الجنسية معیارا أساسيا في تحديد هوية المواطن(4).

التطور التاريخي لمفهوم المواطنة:

اختلفت آراء الباحثين حول التطور التاريخي لمفهوم المواطنة، فمنهم من يرى أن المواطنة من صياغات الفكر العقلاني التجريبي، وهناك دراسات أخرى ترجح ظهور مصطلح المواطنة كأساس سیاسي وقانوني إلى ظهور الدولة القومية كنموذج للنظام السياسي(5).

وهناك من يرجع جذورها إلى الحضارة الإغريقية، وما توصلت إليه دولة المدينة عند الإغريق، والذي شكلت الممارسة الديمقراطية لأثينا أنموذجا له، إذ كانت المواطنة تشير

ص: 130

إلى حق الفرد في المشاركة السياسية في مجتمع المدينة، وإن اقتصر هذا الحق على الرجال الأحرار فقط(6).

وفي روما القديمة مر مفهوم المواطنة بمرحلتين، اقتصرت حقوق المواطنة في المرحلة الأولى على الرومان، أما سكان الأقاليم الأخرى التي تضمها الإمبراطورية فقد اعتبروا رعايا، وقد منحت المواطنة الرومانية للمواطنين امتيازات قانونية على درجة عالية من الأهمية، ومن ثَمَّ فإنَّ المواطنة اتسمت بالامساواة بين الشعوب(7).

أما في المرحلة الثانية فقد أصبح الولاء وليس السكن هو الأساس في اتصاف الفرد بالمواطنة، فصار كل أبناء الشعوب الخاضعة للإمبراطورية مواطنين، وذلك رغبة من الدولة في تعزيز الولاء لروما، فارتبط مفهوم المواطنة بالواجب العام والمسؤوليات مثل الخدمة العسكرية ودفع الضرائب(8).

ویرى أحد الباحثين أنَّ مفهوم المواطنة بدأ بالتشكل في أوربا بعد انحسار هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا، وتراجع توجيهها المباشر للحياة السياسية فيما يتعلق بحياة الناس، هذا الانحسار والتراجع جعل العلاقة بين الدولة أو الملك وبين الشعب أو السكان مباشرة، مما جعل الشعب يشعر أنَّ الدولة دولته، وأنَّ له عليها حقوقا، كما أنَّ الدولة ترى أن لها على هذا الشعب حقوقا، ولاسيما الضرائب التي يقضي أقناع الناس بدفعها أشراك ممثلين لهم في الحكومة يشرفون على صرفها، فضلا عن سبب آخر مهم دفَع الناس والدول إلى اتخاذ مبدأ المواطنة حلا لمشكلاته، هذا السبب هو تعدد الشيع الدينية النصرانية في القرن السابع عشر بالذات، وشيوع الصراع والفتن بينها، حيث استمرت هذه الفتن حتى بلغت حدًّا من الشدة حمل الناس على أن يقبلوا ولو ببطء وتردد أن يتجاوزوا الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة، وأن يسلموا بمبدأ آخر وهو أن الاختلاف في العقيدة الدينية لا يحول دون الانتساب لمواطنة مشتركة(9).

ص: 131

وبذلك انتقلت دائرة الحضارة الأوربية من المفهوم التقليدي للمواطنة الذي استمد جذوره من الفكر السياسي الإغريقي والروماني إلى المفهوم المعاصر الذي يستند إلى فكر عصر النهضة والتنوير وأطروحات حقوق الإنسان والمواطن، والدعوة لأن يكون الشعب مصدرا للسلطات، وبذلك ترسخ مبدأ المواطنة وأقر كحق ثابت في الحياة السياسية، واتسع نطاق شموله تدريجيا ليضم كل المواطنين البالغين سن الرشد من الجنسين، كما تحسنت آليات ممارسته عندما أصبح جميع المواطنين يتمتعون بحق المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية تعبيرا عن كون الشعب مصدرا للسلطات، فضلا تعدد أبعاده وشموله الجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، فضلا عن الحقوق السياسية والقانونية(10).

وكل هذا التطور في مفهوم المواطنة كانت نتيجة لحراك سياسي واجتماعي متواصل من أجل تكريس حقوق المواطنة، ففي عام 1689 م وفي طريق تقييد الملكية، وتعزيز الحقوق والحريات أصدر البرلمان البريطاني (شرعة الحقوق الشهيرة)، حيث أشرت هذه الوثيقة النهاية الحقيقية للحكم المطلق في بريطانيا، وفرضت احترام القانون والبرلمان على الملكة (ماري)، كما نصت هذه الشرعة على أنَّ انتخاب أعضاء البرلمان يجب أن يكون حرا، وعلى حق الشعب في المشاركة في الانتخابات(11).

وعند قيام الثورة الأمريكية وإعلان الاستقلال الأمريكي في تموز 1776 م أعلنت ولاية فرجينيا وثيقة الحقوق، وجاء فيها: «أننا نعتقد الحقائق التالية من البديهيات: خلق الله الناس جميعا متساوين، وقد منحهم الخالق حقوقا خاصة لا تنتزع منها: الحياة، والحرية، والسعي لنيل السعادة»(12).

كذلك هو الحال في فرنسا إذ كانت حركة التنوير التي شعت خارج حدود تلك البلاد، ودعم فرنسا لحرب استقلال الولايات المتحدة، إلى جانب السخط الشعبي

ص: 132

على ملكية مستبدة على يد لويس السادس عشر، وتفاقم الأزمة المالية، وامتلاء سجن الباستيل بالمفكرين والكتاب، كلها عوامل مهدت لقيام الثورة الفرنسية العام 1789 م، وعلى أثرها تم إصدار إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 26 / آب / 1789 م بعد إقراره من ممثلي الشعب الفرنسي في الجمعية الوطنية، لقد احتوى هذا الإعلان على(17) مادة تصدرتها ديباجة، وفي المادة الأولى منه، وهي الأكثر شهرة عالميا نصت على أنه: «يولد الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق ويبقون كذلك»(31).

ونتيجة لنضال الشعوب وسعيها في إطار تحقيق العدالة والمساواة والعيش بكرامة، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في كانون الأول سنة 1948 م، الذي يضمن حقوق الإنسان كمواطن كامل العضوية، فلأول مرة أصبحت المواطنة عبر الحريات السياسية حقا لكل شخص دون تمييز(14)، وقد تضمن هذا الإعلان ثلاثين مادة تؤكد على الحقوق السياسية والاجتماعية للإنسان كمواطن كامل العضوية في بلده، ومن أهم ما جاء فيه(15):

1. المادة 1: يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء، وقد سبق الإمام علي(عليه السلام) الإعلان العالمي حين أعلن للناس: «أيها الناس إنَّ آدم لم يلد عبدا ولا أمه، وإنَّ الناس كلهم أحرارٌ»(16)، كما جاء في وصيته لولده الحسن(عليه السلام): «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرا»(17).

2. المادة 2: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي. وهذا ما أستشعره الإمام علي(عليه السلام) في حكومته قبل هذا الإعلان بكثير حين أوصى عامله على مصر

ص: 133

بقوله: «واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا، تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق»(18).

3. المادة 5: لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات، أو المعاملات القاسية، أو الوحشية، أو الحاطة بالكرامة.

وكان حرص الإمام علي (عليه السلام) كبيرا على كرامة الإنسان وصيانة حياته من التعدي بالقول أو الفعل، وجاء ذلك من خلال وصيته للاشتر بقوله: «أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل مالا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإنَّ الساعي غاش وإنْ تشبَّه بالناصحين»(19)، وهناك الكثير من المواد التي أشرنا إليها في موضوع التنمية فيما يلي من قابل الصفحات.

لقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) برنامجه الحكومي الذي ركز على الحقوق المشتركة بين المواطن والحاكم رغم اختلاف التسمية، فمفهوم المواطنة حديث الظهور، لكن هذا البرنامج تضمن كل ما تدعو إليه المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان من قبيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966، وأصبح نافذا في آذار سنة 1976 م: «أيها الناس إن لي عليكم حقًّا، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حین آمركم».

ص: 134

الحكم الصالح (الحكم الرشيد):

يُعرَّف الحكم الصالح من منظور التنمية الإنسانية بأنه: «الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم، وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لاسيا بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرا وتهميشا(20).

وضع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في تقريره المعنون (إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة) الصادر سنة 1997 م مجموعة من الميزات أو السمات التي لابد من أن يتَّسم الحكم بها؛ ليكون حكما رشيدا يخدم عملية التنمية، ومن هذه السمات:

4. المشاركة: يجب أن يكون لكل الرجال والنساء صوت في عملية صنع القرار، سواء بصورة مباشرة، أو من خلال مؤسسات وسيطة شرعية تمثل مصالحهم.

ونستطيع القول إن المشاركة الواسعة في اتخاذ القرار لم تغب عن حكومة الإمام علي(عليه السلام)، بل هي أهم ما يميز حكومته منذ اللحظة الأولى، فهو الخليفة الوحيد الذي جاء باختيار الأمة مباشرة، بل بإصرارها على بيعته، وهذا ما أشار إليه الإمام بقوله: «فما راعني إلا والناس إلي كعرف الضبع ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(21).

5. سيادة القانون: يجب أن تتسم الأطر القانونية بالعدالة، ولابد من توخي الحياد في إنفاذها، وبخاصة القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان.

في العموم نقول إن الإمام علي (عليه السلام) دعا إلى تطبيق القانون الإلهي في الحكم، وإدارة شؤون البلاد والعباد، فقد ورد في عهده إلى مالك الاشتر قوله: «أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه، وسننه التي لا يسعد أحد ألا بإتباعها، ولا يشقى ألا مع جحودها وإضاعتها».(22)، وفي موضع آخر يقول: «ولا يكونَنَّ المحسن

ص: 135

والمسيء عند بمنزلة سواء، فإنَّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه».(23)، وقال أيضا: «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك خاصتك حيث وقع»(24).

6. الاستجابة: يجب أن تسعى المؤسسات وتوجه العمليات إلى خدمة جميع أصحاب المصلحة.

وفي هذا الجانب كانت استجابة الإمام علي(عليه السلام) سريعة وحاسمة في تحقيق مصالح المواطنين، فقد كتب إلى عمر بن مسلمة الارحبي يقول: «أما بعد فإنَّ دهاقين عملك شكوا غلظتك، ونظرت في أمرهم، فما رأيت خيرا، فلتكن منزلتك بين منزلتين جلباب لين بطرف من شدة في غير ظلم ولا نقص»(25).

7. الشفافية: تتأسس الشفافية على حرية تدفق المعلومات، فالعمليات والمؤسسات والمعلومات يجب أن تكون متاحة بصورة مباشرة لأولئك المهتمين بها، ويجب توفير المعلومات الكافية لفهم تلك العمليات والمؤسسات ورصدها.

وكان هذا منهج الإمام علي(عليه السلام)، فقد كان واضحا كل الوضوح مع رعيته، لم يُخفِ عن الناس شيئا إلا ما كان له خطر على جيشه أو رعيته، فكان يصارح الرعية بكل ما يهم أمورهم السياسية والمعاشية، فقد وجه عامله على مصر بذلك: «وإنْ ظنَّت الرعية س بك حيفا، فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإنَّ في ذلك رياضة لنفسك، ورفقا برعيتك، وإعذارًا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق»(26).

كما يوضح لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) سياسة المكاشفة والشفافية التي يتبعها مع قادة جيشه ورعيته حين يخاطبهم بقوله: «ألا وإنَّ لكم عندي ألا احتجز دونكم سرا إلا

ص: 136

في حرب، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقا في محله، ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء»(27).

8. التوجيه نحو بناء توافق الآراء، يتوسط الحكم الرشيد المصالح المختلفة للوصول إلى توافق واسع للآراء بشأن ما يحقق مصلحة المجموع كأفضل ما يكون، وبشأن السياسات والإجراءات حيثما يكون ذلك ممكنا.

كانت مصلحة الأمة وتحقيق الوحدة والمحافظة على النسيج الاجتماعي أهم ما سعى إليه الإمام علي (عليه السلام)، وقد تجسد ذلك في عهده إلى الاشتر بقوله: «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدثَنَّ سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر بمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها»(28).

9. الإنصاف: يجب أن تتاح لجميع الرجال والنساء الفرصة لتحسين رفاههم أو الحفاظ عليه.

في هذا الصدد روت سودة بنت عمارة الهمدانية حادثة مؤداها إنها جاءت شاكية إلى الإمام علي (عليه السلام) بقولها: «لقد جئته في رجل كان ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائما يريد صلاة، فلما رآني أنفتل، ثم اقبل علي بوجه طلق ورحمة ورفق، وقال: ألك حاجة؟ فقلت: نعم وأخبرته بالأمر، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد إني لم أمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك، ثم اخرج من جيبه قطعة جلد، وكتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» «(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ»، وإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملك حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام. ثم دفع إلي الرقعة فجئت بالرقعة إلى

ص: 137

صاحبه، فانصرف عنا معزولا»(29).

وفي عهده للاشتر نقرأ: «وأنصف الناس من نفسك، ومن ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب»(30).

10. الفاعلية والكفاءة: ينبغي أن تسفر العمليات والمؤسسات عن نتائج تلبي الاحتياجات مع تحقيق أفضل استخدام للموارد.

وقد تضمن عهد الإمام لمالك الاشتر الرؤية الدقيقة من الإمام لاستثمار الموارد الاقتصادية المتاحة لتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية، وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع، وهذا ما سنعرضه في موضوع التنمية.

11. المساءلة: يجب أن يكون صناع القرار في الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني مسؤولين أمام الجمهور العام، وأمام أصحاب المصلحة المؤسسية، وتختلف هذه المساءلة بحسب كل منظمة، وبحسب ما إذا كان القرار داخليا أو خارجيا بالنسبة للمنظمة.

أسس الإمام علي(عليه السلام) جهازا رقابيا غاية في النزاهة والفعالية لمراقبة الولاة والعمال، ولم يكتف الإمام بالرقابة الرسمية، بل حفز الرقابة الداخلية في نفس الموظف بضرورة الاستشعار بمراقبة الله تعالى، كذلك أعطى دورا مهما للرقابة الشعبية، وهذا ما يفسر لنا وجود أكثر من نص يحاسب فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) عماله على سوء استخدام السلطة، أو إضاعة الأموال العامة، أو إساءة معاملة الرعية، ومنها ما كتبه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني(31) عامله على أردشير خُرّة: «بَلَغَنِي أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلهَكَ، وَأَغْضَبْتَ إِمَامَكَ: أَنَّكَ تَقسِمُ فَيْءَ المُسْلِمِينَ الذي حَازَتْهُ رِمَاحُهُم

ص: 138

وَخُيُولُهُم، وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُم فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِن أَعْرَابِ قَوْمِكَ، فَوَالّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسْمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَتَجِدَنَّ بِكَ عَلَيَّ هَوَانًا، وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَانًا، فَلا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ، وَلا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الأَخْسَرِينَ أَعْمَلاً، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَقِبَلَناَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا الفَيْءِ سَوَاءٌ، يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ، وَيْصدِرُونَ عَنْه وَالسَّلاَم»(32).

12. الرؤية الإستراتيجية: يجب أن يمتلك القادة والجمهور العام منظورا عريضا وطويل الأجل فيما يتعلق بالحكم الرشيد والتنمية المستدامة، مع الإحساس بما هو مطلوب لهذه التنمية، كما ينبغي أن يكون هناك فهم للتعقيدات التاريخية والثقافية التي يتشكل وسطها ذلك المنظور.

يمكن لنا وبلا تحفظ أن نعد الأمام علي (عليه السلام) رائدا للتنمية بمختلف تسمياتها واتجاهاتها، فلم يفكر في كل سنوات حكمه في مقدار ما يجبى إن كان من الخراج أو من الموارد الأخرى، بقدر ما كان يفكر ويسعى لبناء الإنسان وأعمار الأوطان وبناء مستقبل زاهر للأجيال من خلال المحافظة عل الموارد الاقتصادية وإدامتها، وهذه الرؤية الإستراتيجية سنراها واضحة في سياسة الإمام (عليه السلام) في مجال التنمية، وسنطلع عليها في مواضعها.

ص: 139

تعريف التنمية البشرية:

التنمية في اللغة: التنمية من نما: بمعنى الزيادة، قال الخليل(33): نما الشيء ينمو نموا ونمى ينمي نماء، وأناه الله رفعه، وزاد فيه إنماء ...، ونما الخضاب إذا زاد حمرة وسوادا، و نميت فلانا في الحسب، أي: رفعته فانتمى في حسبه، وتنمى الشيء: ارتفع من مكان إلى مكان(34).

أما في الاصطلاح فقد عرفت التنمية البشرية بأنها: عبارة عن تحريك علمي مخطط لمجموعة من العمليات الاجتماعية والاقتصادية من خلال عقيدة معينة لتحقيق التغيير المستهدف بغية الانتقال من حال غير مرغوب فيها إلى حالة مرغوب فيها(35).

والحق أن هناك أكثر من تعريف للتنمية البشرية كما يشير إلى ذلك الدكتور إحسان محمد الحسن(36)، فمن تعاريفها: «أنها تعني عملية التوافق الاجتماعي، وتنمية طاقات الفرد إلى مستوى معين من المعيشة وأسلوب الحياة».

كما أن هناك تعريفا أشمل وأعم كما أرى، وهو أكثر تعبيرا عن مفهوم التنمية البشرية، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها يشير إلى أنها: عملية تغيير حضاري تتناول آفاقا واسعة من المشروعات التي تهدف إلى خدمة الإنسان، وتوفير الحاجات المتصلة بعمله ونشاطه، ورفع مستواه الثقافي والصحي والفكري والروحي، وهذه التنمية تعمل بصورة عامة على استخدام الطاقات البشرية من أجل رفع مستوى المعيشة، ومن اجل خدمة أهداف التنمية(37).

أما تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة فأكدت أن التنمية البشرية هي: عملية تهدف إلى زيادة الخيارات المتاحة أمام الناس، ومع كون هذه الخيارات غير محددة فإنه يمكن تمييز ثلاثة خيارات مهمة تتمثل في ضرورة أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل،

ص: 140

وأن يكتسبوا المعرفة، ويحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة، ثم تحدد هذه الخيارات حتى تستوعب الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واحترام حقوق الإنسان(38).

تعد قضية التنمية قضية محورية ومصيرية تعكس عزم شعب وتصميمه وإرادته وتطلعه لمستقبل أفضل من التقدم والرفاهية، مما يستوجب الالتزام بالعمل الجاد والجهد والعطاء المتواصل في سبيل الوصول بالمجتمع، وتقدمه من أجل أن نلحق بركب التقدم الإنساني الحضاري(39).

التطور التاريخي لمفهوم التنمية:

تبرز أهمية مفهوم التنمية في تعدد أبعاده ومستوياته وتشابكه مع العديد من المفاهيم الأخرى مثل التخطيط والإنتاج والتقدم، وقد برز مفهوم التنمية بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية إذ لم يستعمل هذا المفهوم منذ ظهوره في عصر الاقتصادي البريطاني البارز آدم سميث في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية إلا على سبيل الاستثناء، فالمصطلحان اللذان استخدما للدلالة على حدوث التطور المشار إليه في المجتمع كانا (التقدم المادي أو التقدم الاقتصادي)، وعندما ثارت مسألة تطوير بعض اقتصاديات أوربا الشرقية في القرن التاسع عشر كانت المصطلحات المستخدمة هي التحديث أو التصنيع(40).

لقد اقتصر مفهوم التنمية منذ ظهوره نهاية الحرب العالمية الثانية على الكمية التي يحصل عليها الفرد من سلع وخدمات مادية، إذ كان الاهتمام منصبا فقط على النمو الاقتصادي، وتحسن میزان المدفوعات، وتنمية الصادرات باعتبارها المقياس الحقيقي للتقدم والتنمية (41).

ص: 141

في مطلع السبعينيات ظهر اتجاه جديد بين الاقتصاديين يسلط الضوء على مفهوم جديد للتنمية، وهو التنمية الاجتماعية آخذا بعين الاعتبار انعکاس السياسات التنموية على بُنى المجتمع وأنشطته الاقتصادية، وقد اعتمد أصحاب هذا الاتجاه الجديد على معيار آخر يسمى بمعيار أو نظرية (إشباع الحاجات الأساسية)، واعتبروه أفضل من المعيار السابق (متوسط دخل الفرد)؛ لأنه ببساطة - يسلط الضوء على أكبر شريحة من أي مجتمع من حيث الاهتمام بحاجاته المادية والمعنوية(44).

في العام 1990 م تبني برنامج الأمم المتحدة للإنماء مفهوما للتنمية البشرية بمقتضاه أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها، وذلك باعتبار البشر هم الثروة الحقيقية للأمم، وأن التنمية البشرية هي عملية توسيع خيارات البشر، وأن قدرات أي أمة تكمن فيما تمتلكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفعالية(43).

اعتمد مفهوم التنمية البشرية على ثلاثة عناصر تعلقت بدخل الفرد، وعمره المتوقع، ومستوى تعليمه، وأضحى تصنيف الدول يتم بحسب هذا المعيار، وعلى الرغم من افتقاده لعناصر عديدة لحجم البطالة أو العمالة والتضخم ونمط العلاقات الاجتماعية وغيرها، لكنه لقي قبولا واسعا عند العارفين به، إلا أن تدهور البيئة وإهلاك مواردها من جهة، وتطور العديد من المفاهيم جعل الاقتصاديين يطرحون مفهوما أعمق من ذلك، وهو مفهوم التنمية الإنسانية التي تضمن استدامة التنمية من حيث البيئة، كما شمل الاهتمام بالحريات، والمرأة، ودرجة الاتصالات وغيرها(44).

ثم ظهر مفهوم آخر للتنمية تمثل بالتنمية المستدامة، وكان تقرير (مستقبلنا المشترك) الصادر عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة في عام 1987 م أول من أشار إلى هذا المفهوم بشكل رسمي، وأُعلن عن تبني هذا المفهوم للتنمية في قمة الأرض المنعقدة في ريو دي

ص: 142

جانيرو في العام 1992 م، حيث ورد في إعلان ريو بأن البشر هم صمیم ومركز التنمية المستدامة، وأن من حقهم أن يحيوا حياة صحية ومنتجة في وئام مع الطبيعة(45).

نظرة الإمام علي (عليه السلام) للتنمية:

للإمام علي (عليه السلام) رؤية فلسفية خاصة في العمارة (التنمية) لا نبالغ إذا قلنا أنه سبق بها المفكرين، ويتضح لنا ذلك جليا من خلال كتابه إلى مالك الأشتر الذي تضمن الرؤية الفلسفية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) للعمران بقوله: «جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها»(46).

فأمير المؤمنين علي (عليه السلام) لم يذهب مباشرة لعمارة البلاد، أو استصلاح العباد، وإنما هناك مقدمات لهذه العمارة لابد من تحقيقها أولا؛ لتتم عملية التنمية الشاملة للعباد والبلاد، ولأن الهدف من التنمية هو الإنسان فلابد أن تكون التنمية في مختلف الجوانب وفي وقت واحد ووتيرة واحدة وبالأهمية نفسها؛ كي تؤتي أكلها، وتكون نتائجها مثمرة، ومن هذه المقدمات:

الخراج (التنمية الاقتصادية):

يعد الخراج موردا ماليا مهما لميزانية الدولة، تمكنها من تحقيق ما تصبو إليه من إصلاح وعمارة وعدالة اجتماعية.

لقد احتلت مكانة الطبقة التي تفلح الأرض وتستزرعها مكانا بارزا و مهما في الفكر الاجتماعي لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، بل إن حديثه عنها ووصاياه بشأنها تجعلنا نقول: إن فكره الاجتماعي قد جعل مكان هذه الطبقة ابرز مكان، وأهمه بالقياس إلى باقي الطبقات(47).

ص: 143

ولا ريب أن تحتل هذه الطبقة الاجتماعية مكانتها الرفيعة تلك بين طبقات المجتمع؛ نظرا لما تقدمه من فائدة ومنفعة لعموم شرائح المجتمع الأخرى، بل إن الإمام علي (عليه السلام) ذهب أبعد من ذلك بأن ربط صلاح كل طبقات المجتمع بصلاح هذه الطبقة فقد كتب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لعاملة على مصر: «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في إصلاحه وإصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله»(48).

وبعد أن يعين لنا الإمام علي (عليه السلام) أهمية هذه الطبقة، وأهمية الدور الذي تؤدية للمجتمع، يضع لنا الأسس التنموية الصحيحة للنهوض بهذا القطاع وديمومته، واستمراره برفد المجتمع، فيوصي عامله على مصر بقوله: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»(49).

أشار أحد الباحثين(50) إلى أن مصطلح العمارة والتعمير من أصدق المصطلحات تعبيرا عن التنمية، إذ يحمل مضمون التنمية الاقتصادية وقد يزيد عنه، فهو نهوض في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وأن تناول بصيغة أولية جوانب التنمية الاقتصادية بمعناها المتعارف عليه، والذي لا يخرج عن تعظیم عمليات الإنتاج المختلفة، وهذا ما يطلق عليه بالرؤية الإستراتيجية، التي يجب أن يمتلكها القادة فيما يتعلق بالحكم الرشيد والتنمية(51).

كما أوصى الإمام علي (عليه السلام) عماله أن يأخذوا حالة الزرع بعين الاعتبار أيضا تحقيقا لعمارة البلاد، وتطوير هذا القطاع الحيوي بعدم إثقال كاهل الفلاح بالفروض المالية المترتبة عليه نتيجة استغلال الأرض، فقد ذكر أنه وضع على جريب البر الرقيق فروضا تختلف عما وضعه على البر الغليظ، أو البر المتوسط، وميز في الفروض بين النخل

ص: 144

والشجر المجتمع والنخل المنفرد(52)

ففي هذا الصدد أورد لنا البلاذري(53) نقلا عن أبي زيد الأنصاري ما نصه: «قال بعثني علي بن أبي طالب على ما سقي الفرات، فذکر رساتیق(54) وقرى، فسمي نهر الملك، وكوثی، و بهر سیر(55)، والرومقان(56)، ونهر جوبر، ونهر در قیط(57)، والبِهْقُباذات(58)، وأمرني أن أضع على كل جریب(59) زرع غليظ من البر درهما ونصفا وصاعا(60) من طعام، وعلى كل جريب وسط درهما، وعلى كل جريب من البر رقیق الزرع ثلثي درهم، وعلى الشعير نصف ذلك، وأمرني أن أضع على البساتين التي تجمع النخل والشجر على كل جريب عشرة دراهم، وعلى جريب الكرم إذا أتت عليه ثلاث سنين، ودخل في الرابعة، وأطعم عشرة دراهم، وأن أُلغِيَ كل نخلٍ شاذ عن القرى يأكله مَنْ مَرَّ به، وأن لا أضع على الخضروات شيئاً، المقاثي، والحبوب، والسماسم، والقطن».

وهذه دعوة من الإمام علي (عليه السلام) إلى استثمار القطاع الزراعي بتخفیف الأعباء عن كاهل المزارع وتوسيع الموارد التي يملكها المجتمع، والعمل على زيادة الإنتاج الذي يعود بالخير والمنفعة على الأفراد، وليس إلى تكديسها في خزائن الدولة وجيوب الحكام(61).

وبعد أن بين الخطوط العامة لعمارة الأرض وتنمية القطاع الزراعي، يدعو عامله بل يوصيه كيف يتعامل مع هذه الشريحة؛ كي تتم عملية التنمية بكل يسر، وتؤتي ثمارها، بقوله: «فإن شكوا ثقلا أو علة، أو انقطاع شرب، أو بالة، أو إحالة ارض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش خففت عنهم با ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم»(62).

فهذه الدعوة لواليه بسعة الصدر، وبعد النظر في الاستجابة لمطالب الفلاح، وإن کثرت أو تعددت، لها فوائدها ومزاياها في خلق حالة من المودة بين الراعي والرعية، ثم

ص: 145

إنها لها فوائدها المباشرة سواء لهذا المسؤول أو للمجتمع بشكل عام، وهذا ما يذكره أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: «فإنه ذخر يعودون به عليك»، أي إن ما تقدمه لهم من عون ومساعدة إنما هو في واقع ادخار المستقبل الأيام سيعودون به عليك في أوقات الأزمات حيث تكون بأمس الحاجة لهم، فلا ينكرون فضلك، ولا ينسون موقفك تجاههم في أوقات محنهم التي وقفت فيها إلى جانبهم، كما أنه في الوقت نفسه استثمار بشري راقٍ، فهؤلاء سوف ينمو الحس الوطني عندهم، كما ينمو عندهم الشعور بالمواطنة الصالحة، ويشعرون أن هذه الدولة دولتهم لا دولة الحكام والأمراء، فيكون جل اهتمامهم الوطن، وهذا هو الهدف من التنمية أن تخلق شعورا متبادلا بين الراعي والرعية يتجسد فيه حب الوطن، والارتقاء به إلى المراتب اللائقة.

وعلى هذا يبدأ الإمام علي (عليه السلام) يزين لواليه الوقوف إلى جانب الفلاح وقت الأزمة والشدة بها سيجنيه هذا الوالي والمجتمع من ذلك العمل والموقف بقوله: «فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته»(63).

ثم يبين لنا الإمام علي (عليه السلام) أسباب فشل التنمية، وخراب البنية التحتية للقطاع الزراعي، وكيف تتراكم أسباب الخراب بقوله: «وإنها یؤتی خراب الأرض من إعراز أهلها، وإنما إعراز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر»(64).

فالسبب الأساس في عرقلة التنمية هي النظرة القاصرة من الولاة الذين يكون اكبر همهم الجمع، فيقيدون الإنفاق، ويهملون الاستثمار، وينشغلون بالجمع فقط لإرضاء

ص: 146

المسؤول الأعلى، أو لأخذ ما يمكن أخذه من هذه الأموال لإدراكهم بأنهم سوف يعزلون، ويفقدون هذه المناصب، وهذا يحدث عندما يكون تنصيب الولاة وعزلهم ليس على أساس الكفاءة والنزاهة، وإنما على أساس المحاباة والمولاة، فيأتي من ليس أهلا القيادة البلاد وسياسة العباد، فيكون تنصيبه سهلا يسيرا وعزله أسهل؛ لذ لا يكون همه إلا الجمع والاستئثار بمال المسلمين.

أما إذا تطلعت الدولة إلى جمع المال بتحميل القطاع الزراعي ما يستنزف كل إمكاناته فلن يبقى بأيدي أهله ما يمكنهم من بناء استثمارات جديدة به، فتتدهور قدراته الإنتاجية، ويحدث به الخراب، أي التخلف الاقتصاديا وما يعرف اليوم بضعف إنتاجية هذا القطاع، وستحدث بالمجتمع ملات، ولن يجد عندها في القطاع الزراعي كبير غناء، ولن يتمكن المجتمع عندها من التغلب على ما حصل به(65).

لذا يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على أهمية العناية بهذه الطبقة وتدريب الولاة على التفكير بمصلحة الأمة، وإيثار المنفعة العامة، وعدم التبرم من القيام بما یوجب حق الرعية، فيوصي عامله بقوله: «ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك»(66).

فهنا يأمر الإمام علي (عليه السلام) عامله على مصر بمراعاة الطاقة الفردية والقومية عند فرض الخراج، وتخفيف المؤن قدر الإمكان على أهل الأراضي الخراجية؛ ليبقى في أيديهم أموال أو مدخرات يمكن تحويلها إلى مجالات الاستثمار المتنوعة، والتي سيكون لها أثرها في عمارة البلاد، وتزيين الولاية، ومن ثَمَّ تحقيق التنمية الاقتصادية على جميع الصُّعد(67).

ص: 147

جهاد العدو (التنمية الأمنية):

أكد أحد الباحثين(68) أن من مهام الدولة الإسلامية في نظر هذا الإمام علي عليه السلام جهاد عدوها، وهذا يكون بإعداد الجيش بفروعه كافة، وتوفير العدة والعتاد والتدريب لأفراده؛ من أجل حفظ أرض الإسلام وأهله من الأعداء الخارجين.

لا شك أن للأمن أثرا رئيسا في استقرار أي بلد، والاستقرار يعد من الأمور المهمة لجلب الاستثمارات؛ إذ يقال: إن رأس المال جبان، فاستقرار البلاد، وانتشار الأمن والنظام يخلق شعورا لدى الفرد بالاطمئنان، والارتياح النفسي بأن حياته وملكيته مصانة لا يمكن التعدي عليها.

وجهاد العدو الذي عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) يعني فيما يعنيه الحفاظ على حدود الدولة، وحمايتها من الاعتداءات الخارجية، أي بمعنى الحفاظ على سيادة الدولة، وحمايته استقلالها، وعدم فتح المجال للقوى الخارجية بالسيطرة على مقدرات الدولة الاقتصادية التي هي الأساس في حدوث عملية العمران والتنمية؛ لذا نرى الإمام علي (عليه السلام) يضع جهاد العدو في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تحقيق مستلزمات التنمية الشاملة.

يعلق أحد الباحثين على ذلك بقوله: «يعطي الإمام (عليه السلام) أهمية كبرى للأمن والنظام، فهما قوام الحكم و أمل الرعية، فإذا وُجدا أمكن أن يتحقق كل خير، وإن فُقدا فُقِد كل خير، وهما ضروريان لتحقيق العمارة والتنمية، يقول الإمام: «ولا يكونَنَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه»(69).

فيما أكد باحث آخر(70) أن موقف الإمام علي (عليه السلام) من ضرورة الاهتمام

ص: 148

بالقوة العسكرية يتجلى بقوله: «هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين جباية خراجها وجهاد عدوها»، نلمس من هذا النص أن ازدهار البلاد وعمارتها يعتمد على جهاد الأعداء، إذ إن العمارة معطوفة على الجهاد؛ لأنه لا يمكن لدولة أن تتمتع بالرفاه الاقتصادي وهي عرضة لغارات أعدائها، أو مستسلمة لهم، فبيَّن الإمام في هذا المناخ الملائم للتنمية وهو تحقيق الاستقرار برد الاعتداءات الخارجية، وأن حالة عدم الاستقرار تؤدي إلى عدم تشجيع الاستثمار، ومن ثَمَّ إعاقة النمو الاقتصادي، وما يترتب عليه من أن أصحاب رؤوس الأموال يمتنعون ويخشون من استثمار أموالهم، لذلك كلما كان البلد أكثر استقرارا وأمانا في الوقت الحاضر والمستقبل کان تكوين رأس المال أكبر»(71).

كتب أمير المؤمنين (عليه السلام): «فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم ويكون من وراء حاجاتهم»(72).

وجباية الخراج کا نعلم هي تحصيل لأهم موارد الدولة الإسلامية، بل إن جباية الخراج هي عماد بيت مال المسلمين الذين يوزع في أعطياتهم، ومنهم الجند القائمون على حماية البلاد، وجهاد العدو، إذن فهناك حلقة مترابطة بين جباية الخراج، وجهاد العدو، وعمارة البلاد؛ لأنها توسع وتزید موارد بیت المال، وتزيد في عطاء الجند، وتمكن من امتلاك وسائل القوة للدفاع عن الإسلام وأهله.

إذن هناك ارتباط وثيق بين وسائل التنمية فيما بينها من جهة، وبينها وبين التنمية نفسها من جهة أخرى، فالإمام علي (عليه السلام) قد حدد أولا وسائل التنمية: جباية الخراج، وجهاد العدو، وإصلاح الناس، إلى الهدف الأسمى وهو التنمية الشاملة التي تشمل كل جوانب الحياة.

ص: 149

إن الاهتمام بجباية الخراج و جهاد العدو، ليس مقدمات للتنمية البشرية التي كان ينشدها الإمام علي (عليه السلام) فقط، بل هما جزء أصيل من التنمية، فكان لابد من تنمية القطاع الزراعي، والقطاع الأمني كي يصل الإمام (عليه السلام) إلى التنمية البشرية، والارتقاء بالفرد المسلم إلى المنزلة التي أرادها الله تعالى، فلا أحد ينكر قيمة التنمية الاقتصادية وأهميتها لحدوث التنمية البشرية، أي أن سخر التنمية الاقتصادية الإحداث التنمية البشرية، وأن لا تكون التنمية الاقتصادية هي الهدف بحد ذاتها، وهذا هو السر في فشل التنمية الاقتصادية وعجزها في الارتقاء بالإنسان؛ لأنها وضعت المعيار المادي فقط لقياس التقدم البشري؛ لذلك بدأ البحث عن بديل أفظهر لنا ما يعرف بالتنمية البشرية، والتنمية الإنسانية، وأخيرا التنمية المستدامة.

التنمية البشرية:

تطرق أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر إلى ضرورة إصلاح أهل مصر، والإصلاح هنا إنما هو النهوض بجميع الجوانب، وليس إصلاح المفسد، وإصلاح المفاسد من الأمور فقط، بمعنى آخر: هو الارتقاء بإنسانية الإنسان، وتوفير الظروف الملائمة مما يجعله مؤهلا لأداء ما افترض الله عليه حين استخلفه في الأرض.

والحق أن هناك رابطا لا يكاد ينفصم بين التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية، فكل تنمية اقتصادية تهمل الإنسان تعد فاشلة، ولا يكتب لها النجاح، وقد اثبت الواقع أن الكثير من الدول قد حققت نموا اقتصاديا كبيرا، لكنها لم تستطع أن تقضي على الفقر والحرمان؛ لأنها وضعت نصب عينها تحقيق النمو الاقتصادي دون تحقيق تنمية بشرية، فازداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا.

كانت فلسفة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تنصب في عمومها وخصوصها حول

ص: 150

الإنسان، وتسعى في أول ما تسعى إلى حفظ كرامة الإنسان وصيانة وجهه، عن طريق التوزيع العادل للموارد، وكذلك تقديس العمل وتحبيبه للفرد المسلم، والحث على مزاولته؛ لما فيه من حفظ كرامة الإنسان، وديمومة عطائه ونفعه للفرد والمجتمع.

کما سعى أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى إقامة دولة يكون الجميعُ فيما سواسية، لا سلطان جائر، ولا مواطن مظلوم، ولا صاحب سطوة حائف، ولا صاحب حق خائف، لذا كان يوجه عماله إلى ضرورة احترام الإنسان، وعدم إخافته وإرهابه بمظاهر السلطة وهيبة السلطان، وهذه أولى خطوات التنمية البشرية وأهمها، وهي أن تخلق إنسانا قويا غير متعتع، يثق بالدولة ومؤسساتها، وتكون الدولة عند ثقته، فلا تخذله، ولا تسلمه لظالميه.

في جانب التنمية البشرية هناك الكثير من مواطن الخلل التي حدثت في المجتمع قبل وصول أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى سدة الحكم، والتي أشار إليها، ووجه عماله على معالجتها.

وأيضا يمكن أن نقول هناك الكثير من الأمور التي تحقق التنمية البشرية كما يراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وعمل على تحقيقها، فأوصى عماله بها وشدد عليهم بذلك، ومنها:

1 - الحقوق السياسية

لقد تضمن عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لمالك الأشتر الكثير من هذه الصور الرائعة التي سبق بها غيره، ومن ثَمَّ سبقت أمتنا الإسلامية غيرها من الأمم في مجال حقوق الإنسان، وتحقيق التنمية البشرية كما أرادها المشرع العظيم.

ومما أوصى به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عامله على مصر قوله: «واجعل لذوي

ص: 151

الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما تتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غیر متعتع، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقول في غير موطن: لا تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع، ثم احتمل الخرق منهم والعِي، ونَحِّ عنك الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار»(73)، وهذا ما أشارت إليه المادة (7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة».

فالإمام علي (عليه السلام) حريص كل الحرص على توفير المناخ السليم الذي يضمن الأمن والأمان للضعيف حتى يصدع بحقه، ويقول كلمته بلا خوف من سلطان جائر، كما أن ذلك يكسر هيبة السلطان في نفسه، ويزيل الرهبة لدى العامة، فلا يخاف أحد من أن يقول الحق بوجه سلطان جائر، وهذه الحقيقة هي التي كان يرمي إليها أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، إذ يخاطب جماهير المسلمين بقوله: «فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي»(74)، وهذا يتطابق مع ما جاء في المواد (2، 3، 7) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي سبق لنا الإشارة إليها.

والملاحظ من هذين النصين أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أراد بناء الفرد المسلم بناء صحيحا، بناء المؤمن القوي كما أراده الله ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، فأراد

ص: 152

الإمام (عليه السلام) أن يكون هذا الإنسان من القوة بحيث لا يدع مجالا لأي حاکم أن يظلم، ولا لأي جبار أن يبطش ويتغطرس، وأن يكون المسلمون ندا قويا للحكام في قول الحق، وتعديل الاعوجاج، وتصحيح المسار، والمحافظة على الدين، وصون كرامة الإنسان.

وهذا مما لا ريب فيه مجال سياسي متطور جدا إذا ما قارناه بعالم اليوم، نجد أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قد سبق غيره بكثير في إقرار الحقوق السياسية للأمة والأفراد، وضمن لهم حق التعبير وحرية الرأي، وقد ورد أن الإمام علي (عليه السلام) خطب بالكوفة، فقال رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لله،، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال علي: «الله أكبر كلمة حق يلتمس بها باطل، أما أن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم من مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا»(75).

نقول إن هؤلاء المعارضين لو كانوا في غير زمان علي (عليه السلام) لقتلوا أو صلبوا، أو نفوا من الأرض، بل لسلبت أموالهم، وسبيت نسائهم، ولكنه علي (عليه السلام) همه الأول الإنسان موافقا كان أو معارضا، هدفه من كل السياسات التي اتبعها أن يخلق المناخ الذي يوفر للإنسان البيئة الصالحة ليكون إنسانا کما أراد الله من خلقه بهذا الوصف والمعنى، وقد نصت المادة(19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء».

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) مدركا تمام الإدراك لحقوق المواطنة وأهميتها، فهو لذلك لم يضع شرط طاعة الإمام موجبا للمواطنة، بل كانت نظرته أوسع وأشمل، فجعل الولاء للدولة والمجتمع هو الأساس في حصانة المواطنة، أو رفع هذه الحصانة،

ص: 153

وهذا المناخ السياسي والاجتماعي الذي سعى أمير المؤمنين (عليه السلام) لإيجاده، إنّما هو جزء أساس في خلق عملية التنمية البشرية التي سعى إلى تحقيقها.

كما تضمن العهد إلى مالك الأشتر قول الإمام علي (عليه السلام): «وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بناء الدولة، ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظیم حق عطل، ولا العظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد»(79).

ومن هنا نستشف أن الهدف الأسمى الذي سعى إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) إنما هو تحقيق العدالة الاجتماعية، وصيانة حقوق الراعي والرعية، وتقوية الأواصر بين السلطة والشعب حيث يكون الحق سيد الموقف، وحتى لا تجترئ السلطة على إتيان الباطل وتعطيل الحقوق.

علق أحد الباحثين(77) على ذلك بقوله: «يرى الإمام علي أن إقامة العدل وتحقيق المساواة يؤديان إلى التماسك الاجتماعي بين المواطنين، والى رضا الرعية وتعاونها فيما بينها وبين راعيها، وهذا شرط أساسي لبناء العمارة وبلوغ التنمية، ويمكنها من الانطلاق، وإلا اضطربت الأمور وخيم التخلف.

ص: 154

وللتأكيد على حسن معاملة الرعية وصيانة كرامتها، وكف غضب السلطان وبطشه يوصي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عامله بقوله: «وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة، أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك، على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإنَّ ذلك يطا من إليك من طماحك، ويكف عنك من غرمك، ويفيء إليك ما عزب من عقلك، وإياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه في جبروته، فإنَّ الله يذل كل جبار، ويهين كل محتال»(78).

2 - عدالة التوزيع

كما أسلفنا كان هدف التنمية الاقتصادية منصبا على النمو الاقتصادي، وتحسين میزان المدفوعات وتنمية الصادرات بوصفها المقياس الحقيقي للتقدم والتنمية، من دون العناية بالعدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على فئات المجتمع بما يؤدي إلى رفع المستوى المعاشي للجميع.

أما في فكر أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الإنسان هو محور التنمية وقطبها، لذا كان الاهتمام بالعمران وتوفير الأمن سبيلا لرفع المستوى المعاشي للفرد المسلم عن طريق التوزيع العادل للثروة على أبناء الأمة الإسلامية، فاتخذ (عليه السلام) جملة من الإجراءات التي تحقق التنمية البشرية المتوازنة، فالتنمية ليست رفع مستوى واردات الدولة، بل هي فضلا عن ذلك كيف تصل ثار هذه الواردات إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، التي بدورها ترفد عملية التنمية باليد العاملة، والفكر السليم القادر على النهوض بواجباته الشرعية تجاه الوطن، فكان من هذه الإجراءات:

أ - الإعانات المالية:

اتبع الإمام علي (عليه السلام) سياسة الإعانات لدعم الطبقات الفقيرة التي تحتاج إلى عون الدولة ودعمها، مبينا أهمية هذه المعونات في رفد هذه الطبقات بما تحتاج إليه في

ص: 155

حياتها اليومية مما يقوم بأودها ويسد رمقها، فضلا عن الجانب المعنوي لهذه الإعانات، والتي تشعر الفرد بأن الدولة معه تشعر بهمه، وتحنو عليه، وتربت على كتفه، وتشد من أزره لمواجهة الصعاب، وفي هذا الصدد کتب (عليه السلام) إلى عامله على مصر يوصیه: ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه(79).

والذي نستشفه من هذا أنه (عليه السلام) يأمر عامله بإعانة المحتاجين من أهل الحاجة والمسكنة على ما فرض الله لكل صنف في كتابه الكريم، ثم إن هذه المعونة ليست منة أو تفضلا من أحد، وإنما هي حق شرعه الله تعالى لهذه الفئات، کما نستشف أن مقدار المعونة ليس محددا بسقف معين، بل يعطى كل فرد بما يصلح حاله، وهذه لفتة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة، فإعطاء كل فرد بما يصلح حاله، يعني تهيئة الأسباب المناسبة لهذا الفرد على مواجهة الحياة، وإعطاؤه ليس ما يسد رمقه فحسب، بل إعطاؤه - کما يفهم من العبارة - ما يمكنه من إصلاح حاله، أي ما يمكنه من إيجاد عمل يكسب منه قوته وقوت عياله، ومن ثَمَّ الاعتماد على كسبه، والخروج من دائرة الفقر والمسكنة، وحفظ ماء وجهه من ذل المسألة، وهذه الإعانة بما تمثله من مواصفات يمكن أن نشبهها اليوم بالقروض التشغيلية التي تعطى للعاطلين عن العمل، إلا أنها في عهد الإمام (عليه السلام) تعطي بلا مقابل، ولا تسترد لبيت المال.

وكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله قثم بن العباس ما نصه: "انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى مَن قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات"(80).

ومعلوم أن الإمام (عليه السلام) قد فرض لكل مولود في الإسلام نصيبا من مال الله، فقد أورد أبو عبيد(81) عن رجل من خثعم، قال: ولد لي ولد، فأتيت عليا فأثبته

ص: 156

في مائة، أي فرض له مائة درهم حين ولادته، وفي رواية أخرى لأبي عبيد(82) أن الإمام (عليه السلام) فرض مائة درهم للقيط، قال: "أتيت عليا بمنبوذ فأثبته في مائة".

وعلى هذا فتلك الأموال التي أمر بها قثم بن العباس أن يصرفها لذوي العيال والمجاعة، وأمره أن يصيب بها مواضع المفاقر والخلات، أي أن يتحرى عن ذوي العيال المحتاجين حقًّا للإعانة، وهذا نابع من حرص الإمام علي (عليه السلام) في أن توضع الأموال في مواضعها.

نقول لابدَّ من أن تلك الأموال إعانات مالية اعتاد الإمام علي (عليه السلام) أن يقدمها لمن به حاجة ماسة، فربّما لا تكفي حصة الفرد من العطاء، أو لحدوث طارئ، أو لأي سبب آخر، لذا نراه يوصي عامله بان يصيب بهذه الأموال مواضع الفاقة، أو المفاقر، ويسد بها كل خلل قد تظهر على المحتاج، فينکشف عوزه وفقره.

وفي نص أخر يضيف الإمام علي (عليه السلام) للفكر الإنساني لفتة إنسانية رائعة وفکر اجتماعي خلاق من خلال نظرته الإنسانية إلى الفئات التي تستحق إعانة الدولة، ويصف هذه الفئات بوصف نبيل يتجلى فيه سمو أخلاقه، ورقة نفسه، فيوضح مصارف المعونة إلى من تصرف، فضلا عما ذكرنا من فئات، فيقول واصفا إياهم: "ليس لهم في الإمارة نصيب، ولا في العمارة حظ، ولا في التجارة مال، ولا في الإجارة معرفة، وقد فرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوم بهم"(83)، وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أشار في المادة(25) إلى أنَّ: "لكل إنسان الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته".

ب - تخصيص مورد مالي ثابت:

لم تقتصر جهود الإمام علي (عليه السلام) على تقديم الإعانات المالية لضعاف الناس

ص: 157

من المحتاجين، وأصحاب العيال، بل سعى لتكوين ما يشبه الشبكة الاجتماعية تحمي الفقير والمريض، والطفل اليتيم من العوز والفقر، وذلك بتخصيص مورد مالي ثابت لهذه الفئات من موارد بیت المال، ومن غلات صوافي الإسلام، والحق أن هذا الإجراء للإمام علي (عليه السلام) لم يسبقه إليه أحد بأن نظر هذه النظرة الإنسانية الراقية لهذه الفئات، ووضع لها المعالجة العملية والعلمية في آن واحد، ولم يقصر الإمام علي (عليه السلام) نظره على صرف موارد مالية فقط لهذه الفئات المستحقة، وإنما أمر عامله باتخاذ ما يشبه اللجنة من أهل الصلاح والتقوى المعروفين بخشية الله تعالى، للنظر في أمور هؤلاء، ورفعها للوالي ليتخذ ما يلزم بشأنها من الإجراءات.

يوصي الإمام علي (عليه السلام) عامله على مصر بقوله: (ثم الله اللهَ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا، وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بیت مالك، وقسما من صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهم)(84).

وفي هذا النص تأكید كبير على الاهتمام بهذه الشرائح الاجتماعية، قلما نجد له مثيلا في التاريخ، وهو بحق يعد سبقا للإمام علي (عليه السلام) على كل اللوائح التي وضعت لضمان حقوق الإنسان، فالإمام يؤكد حق هذه الشرائح في العيش الكريم بقوله: الله اللهَ في الطبقة السفلى أي احفظ الله في هذه الطبقة التي لا حيلة لها في كسب العيش، وتحقيق الحياة الكريمة التي ينشدها الإسلام، وهذه الطبقة شملت المحتاجين، والبؤساء، والمرضى غير القادرين على الكسب بالطرق الاعتيادية لعجزهم عن ذلك، فأمر الإمام (عليه السلام) بتخصيص مورد مالي ثابت لهم من بيت مال المسلمين، ومن غلات

ص: 158

صوافي الإسلام.

ولا اقصد بالثابت هنا ثبات كمية المال، وإنما ثبات التخصيص من الموارد، فكمية الأموال تتغير تبعا لواردات بیت المال، فقد تزيد أو تنقص لكن ثبات التخصيص المالي لهم أمر مهم جدا، فقد أصبح للمحتاجين منذ هذا العهد مورد مالي مسمى لهم في بيت مال المسلمين، وغلات الصوافي.

إن هذا الإجراء الذي أجراه الإمام (عليه السلام)، وهو أمر جديد على بيت مال المسلمين الذي هو مؤسسة مالية تختص بما يرد للدولة من أموال کريع أراضي الخراج، وجباية العشور وغيرها، وكانت تصرف هذه الموارد في المسلمين بحسب القرابة من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، والسابقة في الإسلام، ولم يشمل بالعطاء موالي المسلمين، في حين قرر الإمام علي (عليه السلام) بعد أن ساوى بين المسلمين في العطاء، وفرض للموالي کما فرض للعرب بلا فرق أو تمييز، يقرر أن في بيت المال حقًّا للمحتاجين من المرضى والمساكين، وأهل البؤسی؛ ليقيهم العوز وشظف العيش، ويخرجهم من دائرة الفقر والحاجة، كما خصص لهذه الطبقة قسما من واردات أراضي الصوافي، وهي أراض كانت تعود ملكيتها للإمام يضعها حيث شاء بما يحقق النفع للأمة الإسلامية، وهذا ما أكدته المادة(22) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: لكل شخص بصفته عضوا في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية، وفي أن تحقق بوساطة المجهود القومي، والتعاون الدولي، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته، وللنمو الحر لشخصيته.

3 - إشاعة ثقافة العمل:

يعد العمل في مختلف المجالات من قبيل الإنتاج، وتوفير السلع والبضائع الاستهلاكية، والخدمات التي تقتضيها متطلبات المجتمع وحاجاته من العناصر المهمة

ص: 159

في عملية التنمية، وقد أولى الإمام علي (عليه السلام) هذه المسألة عناية خاصة، ناهيك عن ممارسته للإعمال المختلفة طوال حياته (عليه السلام)(85)، فهو (عليه السلام) یكنُّ للعمل المنتج الصالح احتراما عميقا انعكس من أقواله المتناثرة في بطون الكتب، والتي بينت لنا رؤيته (عليه السلام) في العمل الذي يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع(86)، فقد سعی (عليه السلام) إلى إشاعة ثقافة العمل، وبیان قدسيته، وأن أهميته تكمن في القضاء على آفة الكسل والعجز والفقر التي تسهم في تفشي الأمراض الجسمانية والنفسية على نطاق الفرد والمجتمع على السواء، لذا حث الإمام (عليه السلام) من خلال خطبه ووصاياه أفراد المجتمع على مزاولة العمل بوصفه واجبا عباديا، إذ ورد عنه (عليه السلام) أنه قال: إني الأبغض الرجل يكون كسلانا من أمر دنياه، فهو من أمر أخرته اکسل(87)، وليعيش المؤمن حالة الموازنة بين العبادة والعمل، والأمور الحياتية الأخرى، فلا ينزلق في التطرف، كأن يترك العمل، ويصبح كلاًّ على الآخرين بحجة الزهد والعبادة، أو ينغمس في العمل، فینسی واجباته العبادية الأخرى، قسم أمير المؤمنين (عليه السلام) وقت المؤمن بشكل مثالي ومتوازن يضمن من خلاله سعادة الدنيا والآخرة، إذ قال: للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها في ما يحل ويجمل، وليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم(88).

وفي إطار سعيه لإشاعة ثقافة العمل الصالح المنتج قال (عليه السلام): إن العمل شعار المؤمن(89)، وقال (عليه السلام): طوبى لمن ذل في نفسه، وطاب کسبه، وصلحت سريرته(90)، وقال أيضا: آفة العمل البطالة، وقد علق احد الباحثين بعد أن أورد هذا الحديث بقوله: بأن الإنسان قد يعتاد الخمول والبطالة، فإذا فعل ذلك أخلد إلى الراحة والدعة، وبذل قصارى جهده بهذه لينأى بنفسه بعيدا عن الإعمال ذات الطبيعة الإنتاجية،

ص: 160

والتي تنطوي ممارستها على نوع من العناء والجهد والتعب، فإذا ما انهمك في عمل لم يكن همه سوى الفراغ منه بغض النظر عن جودته وإتقانه، وعليه فلا ينبغي للفرد أن يجعل الشعور بالميل للبطالة، والقعود عن العمل يتسرب إلى قلبه(91).

وعلى هذا الأساس، وتأكيدا لأهمية العمل للفرد والمجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام) دعا إلى مواصلة العمل، وعدم الكسل، أو الاتكال على ما جمع الفرد من ثروة، فالعمل في فكره (عليه السلام) ليس مجرد وسيلة لكسب المال فقط على الرغم من أهمية ذلك، بل لقيمته المعنوية والذاتية للفرد، فضلا عن مردوده الاقتصادي والاجتماعي، فعمل الفرد ينعكس على المجتمع من خلال ما يقوم به الفرد المسلم من إنتاج بضائع وسلع، أو تقديم خدمات نافعة، كما أنه من جهة أخرى ينعكس على دورة النقود في الأسواق، فما يحصل عليه العامل من أموال سينفق معظمها على شراء ما يحتاج إليه من سلع وخدمات، أما من الناحية الاجتماعية فإشاعة العمل، والحث عليه ستقضي على آفة البطالة، كما أنه يسهم في تشغيل عدد كبير من اليد العاملة، كما أن المردود المالي الذي يحصل عليه العامل فيه حقوق شرعية إذا ما أخرجها، ووضعها بيد من سُميت له، فانه سيخلق مجتمعا متماسکا متكافلا ينعدم فيه الفقر، وتسوده الرحمة والمودة، فلا تبقى ضغينة بصدر فقير معوز تجاه غني مترف، وإشاعة ثقافة العمل تجعل الأفراد في سباق محمود على انتهاز الفرص، والقيام بمختلف الأعمال المشروعة، ومن ثَمَّ تخليص المجتمع من النظرة السلبية التي ينظر بها لبعض الأعمال والمهن، هذه النظرة التي حاربها الإسلام منذ البداية، قال (عليه السلام): قيمة كل امرئ ما يحسنه(92)، وقد علق ابن خلدون(93) على ذلك بقوله: بمعنى أن صناعته هي قيمته، أي قيمة عمله الذي هو معاشه. وقال الشيخ محمد عبده(94): وهذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة، ولا توزن بها حكمة، ولا تقرن إليها كلمة.

ص: 161

وفي دعوة الإمام (عليه السلام) إلى إتقان العمل وإجادته قال: لا تطلب سرعة العمل، واطلب تجویده، فالناس لا يسألون في كم فرغ من العمل، وإنما يسألون عن جودة صنعته(95)، وهذه النظرة الفلسفية للعمل وجودة الصناعة في حقيقتها دعوة إلى التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل الذي من أهم ميزاته إتقان الصنعة.

إن مبدأ التخصص، أو تقسيم العمل في الصناعات كما يسمونه حديثا يُعد من أهم المبادئ التي اعتمدها الإمام في القطاع الصناعي، والذي يؤدي إلى مستوى عالٍ من الدقة والجودة(96).

وقال الإمام علي (عليه السلام): بركوب الأموال تكسب الأموال(97)، وهي دعوة إلى عدم الانزواء في محيط المدينة، أو القرية، إذا ما شح الرزق، وضاقت السبل، فهي دعوة إلى السفر في أرض الله الواسعة، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا»(98)، وقال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»(99).

وفي دعوة أخرى من الإمام علي (عليه السلام) إلى الجد والاجتهاد في العمل، وخلق روح المثابرة في الفرد المسلم قال: من قصر في العمل ابتلي بالهم(100).

وسعى الإمام علي (عليه السلام) إلى توفير الفرص للعاطلين عن العمل، حيث كان أهم ميادين العمل وقتذاك الزراعة، لذا فقد اتخذ عدة خطوات لتشجيع العاطلين عن العمل على استغلال الأرض، والانتفاع بنتاجها للقضاء على الفقر، وزيادة الإنتاج، ومن أهم هذه الخطوات تشجيعه على إحياء الأراضي الموات.

وإشاعة ثقافة العمل جزء مهم من مستلزمات التنمية البشرية، فلحدوث تنمية حقيقية لابد من مجتمع منتج يقدس العمل ويحترمه، فالإنسان هو صانع التنمية وغايتها، وقد أشار الإعلان العالمي في المادة (23) إلى أنَ: لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، كما أن له حق الحماية من البطالة.

ص: 162

الخاتمة:

بعد أن وصلت الشعوب إلى درجة من اليقين بأنها لا تستطيع العيش معا بكل اختلافاتها الاثنية والدينية، كان لابد من وجود قاسم مشترك يجمعهم للعيش في وطن واحد، فكانت المواطنة هي المبدأ الذي تمسكوا به وعاشوا متساوين في ظلاله.

كان لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) قصب السبق في إقرار حقوق المواطنة، وإن اختلفت التسميات إذا ما أخذنا بحداثة مفهوم المواطنة، لكن المضامين كانت واحدة، فقد ركَّز الإمام (عليه السلام) على الإنسانية بوصفها الرابط الجامع لكل البشر: أما أخ لك في الدين، وأما نظير لك في الخلق»(101)، وسعى في سياسته إلى احترام حق الحياة، وحرية التعبير والحوار مع معارضيه.

وفي جانب ما اصطلح عليه بالحكم الصالح أو الرشید، نستطيع القول إن كل السمات التي وضعتها الأمم المتحدة ليكون الحكم صالحا أو رشیدا، كانت متوافرة في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، بل يمكننا القول إن الإمام (عليه السلام) كان الأنموذج الأسمى للحاكم الصالح، ولا شك في أنه يمكننا القول بلا تردد إن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعد رائد التنمية البشرية الإسلامية، وواضع أسسها، وإن المفكرين والفقهاء الذين أسهموا في بناء الفكر التنموي الإسلامي لابد من أن يكونوا قد تأثروا بشكل من الأشكال بفكر الإمام علي (عليه السلام).

قال أحد الباحثين: «من المقولات المعروفة للإمام علي التي طالما توقفت عندها کما لابد أن يتوقف عندها الكل متأملا بكثير من الإعجاب قوله: «ربوا أولادكم على غير ما دَرَجْتم عليه لأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، ولعل أفضل ما سمعته تعليقا على هذه المقولة ما قاله أحمد جبريل السياسي الليبي المعروف ورئيس الوزراء السابق كان يتحدث في ندوة في تونس كنت حاضرا فيها ذكر هذه المقولة في سياق معين وقال: «إن الإمام علي

ص: 163

بهذه المقولة يعتبر رائدا للتنمية المستدامة»، وما قاله أحمد جبریل کلام دقيق جدا بشكل مدهش»(102).

ونحن إذ ننهي هذه الصفحات نقول: لابد لنا من وجوب الاستفادة من منهج أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التنموي الذي كان الإنسان فيه هدفا وغاية، فما زالت السياسات المتبعة تضع التطور المادي فقط معيارا أساسا لكل تقدم، وهذا ما أكدت معظم الدراسات، بل والخطط الاقتصادية، فشله الذريع، فالتنمية أولا إنما هي الاهتمام بصنع الإنسان القادر على تغيير الظروف، وتقديم العطاء للوطن.

لذا يجب أن تكون السياسة الموضوعة شاملة لجميع نواحي الحياة، من التعليم والصحة، والمستوى المعاشي، والرقي الثقافي، وأن يكون هناك مقياس دقيق للعدالة الاجتماعية، فتوفر كل هذه الأسباب بلا عدالة يفرغ التنمية من محتواها، ويقتل أهدافها.

ص: 164

الهوامش

1. بدوي، أحمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (بیروت، مكتبة، لبنان، 1982 م)، ص 60.

2. السعيد، احمد عطية الله، المعجم السياسي الحديث، (بیروت، شركة بهجة المعرفة بلا)، ص 66.

3 .یا یموت، خالد، المواطنة في الفكر الاسلامي المعاصر، بحث منشور في مجلة الكلمة الالكترونية، العدد 54، (بلا، 2007 م)، ص 1 منشور على الموقع.

http://www.kalema.net/v1/?rpt=756art

4. فوزي، سامح، المواطنة، (القاهرة، مركز القاهرة الدراسات حقوق الانسان، 2007 م)، ص 9.

5. محسن، جواد کاظم، المواطنة الحقوق والواجبات من منظور اسلامی، بحث منشور في مجلة الدراسات السياسية العربية والدولية، العدد 18، (بغداد، 2010)، ص 1.

6. زبون، ناهدة محمد، مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر دراسة في المفهوم والأبعاد، بحث منشور في حولية المدي، مج 1، العدد 4، (بغداد، 2010 م)، ص 368.

7. یونس، مفيد ذنون، التنمية الاقتصادية والمواطنة ودور مؤسسة الحكم، بحث منشور في مجلة دراسات اقليمية، العدد 13، (الموصل، 2009 م)، ص 120.

8. يونس، التنمية الاقتصادية والمواطنة، ص 121.

9. الزنيدي، عبد الرحمن بن زيد، فلسفة المواطنة، بحث مقدم في لقاء قادة العمل التربوي في السعودية، منشور على موقع naief/http:www.docuuments/chair Imamu.edu.sa ص 6 ص 7.

ص: 165

10. یونس، التنمية الاقتصادية والمواطنة، ص 121.

11. زبون، مفهوم المواطنة، ص 370.

12. م.ن، ص 370.

13. م. ن، ص 371.

14. الصائغ، بان احمد، التأصيل التاريخي لمفهوم المواطنة، بحث منشور في مجلة الدراسات الاقليمية، العدد 14، (الموصل، 2009 م)، ص 331.

15. ينظر: (الاعلان العالمي لحقوق الانسان، 1948 م).

16. الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه)، روضة الكافي، (بیروت، منشورات الفجر، 2007 م)، ج 8، ص 40.

17. الحراني، الحسن بن علي بن الحسين (من اعلام القرن الرابع الهجري)، تحف العقول عن آل الرسول، (بیروت، دار المرتضی، 2007 م)، ص 68.

18. عبده، محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م)، ص 417.

19. م، ن، ص 419.

20. تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2002 م، ص 101.

21. م. ن، ص 34.

22. م. ن، ص 416.

23. م. ن، ص 420.

24. م. ن، ص 432.

205. اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 ه)، تاريخ اليعقوبي، تعليق: خليل المنصور، (طهران، مطبعة مهر، 1425 ه)، ج 2، ص 141..

26. عبده، نهج البلاغة، ص 32، ص 433.

ص: 166

27. م. ن، ص 414.

28. م. ن، ص 421.

29. ابن الصباغ، علي بن محمد بن احمد المالكي (ت 855 ه)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: جعفر الحسيني، بيروت، المجمع العالمي لأهل البيت، 2011 م)، ص 184 ص 185، وينظر: ابن طيفور، أبو الفضل، بلاغات النساء، (مطبعة مدرسة والجة عباس الأول، القاهرة، 1908)، ص 37.

30.نهج، ص 418.

31. مصقلة بن هبيرة الشيباني بن شبل بن يثربي من وجوه أهل العراق ولاه ابن عباس اردشیر خرة وعتب عليه الإمام علي في إعطاء مال الخراج لمن يقصده من بني عمه، وقيل إنه فدى نصارى بني ناجية بخمس مائة إلف فلم يرها، لحق بمعاوية فولاة طبرستان وفيها هلك بعد أن أخذ العدو الطرق عليه. ينظر: (ابن عساکر، علي بن الحسن (ت 571 ه)، تاریخ دمشق، تحقيق: محب الدين أبي سعيد بن غرامة العمر وي، (بیروت، دار الفكر، 1997 م)، ج 58، ص 269 ص 270 ص 273.

32. عبده، نهج البلاغة، ص 404.

33. عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، العين، (بیروت، داراحیاء التراث العربي، 2001 م)، ص 988. ينظر: (ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه)، لسان العرب، تدقیق : يوسف البقاعي واخرون، (بیروت، مؤسسة الأعلمي، 2005 م)، مج 2، ص 4028.

34. ابن فارس، ابو الحسن احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم، دار الكتب العلمية، بلا)، ج 5، ص 479.

35. بکار، عبد الكريم، مدخل إلى التنمية المتكاملة رؤية اسلامية، (دمشق، دار

ص: 167

القلم، 1999 م)، ص 9.

36. علم الاجتماع الاقتصادي، (الموصل، مطبعة دار الحكمة، 1990 م)، ص 144.

37. م. ن، ص 144.

38. الغندور، سماح طه احمد، التنمية البشرية في السنة النبوية، دراسة موضوعية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة غزة، كلية أصول الدين، (غزة،2011 م)، ص 3.

39. السروجي، طلعت مصطفى، التنمية الاجتماعية من الحداثة إلى العولمة، (الاسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2009 م)، ص 5 ص 6.

40. ينظر: عارف، نصر، في مفاهيم التنمية ومصطلحاتها، بحث منشور في مجلة ديوان العرب، عدد حزیران لسنة 2008 م،(لقاهرة، 2008 م)، ص 1.

41. دوابة، اشرف محمد، التنمية البشرية من منظور اسلامي، بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الثالث حول واقع التنمية البشرية في اقتصاديات البلدان الاسلامية، جامعة الجزائر، كلية العلوم الاقتصادية والتسيير، (الجزائر، 2007 م)، ص 2.

42. بن قانة، اسماعيل محمد، اقتصاد التنمية نظريات نماذج استراتيجيات، (عمان، دار اسامة، 2012)، ص 227 ص 228.

43. دوابة، التنمية البشرية من منظور اسلامي، ص 2.

44. بن قانة، اقتصاد التنمية، ص 228.

45. العبيد احمد، ضرار الماحي، نشأة وتطور مفهوم التنمية المستدامة، بحث رمنشور في مجلة التنوير، العدد، (الخرطوم، 2008 م)، ص 9.

46. عبده، الشيخ محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م)، ص 416.

47 .عمارة، محمد، علي بن ابي طالب نظرة عصرية جديدة، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974 م)، ص 37.

ص: 168

48. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

49. م. ن، ص 426.

50. عبد المنعم، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية، ص 54.

51. ينظر وثيقة البرنامج الانمائي، ص 10.

52. خزنة كاتبي، غيداء، الخراج منذ الفتح الإسلامي حتى اواسط القرن الثالث الهجري، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م)، ص 237.

53. أحمد بن يحيى (ت 279 ه)، فتوح البلدان، (بیروت، مكتبة الهلال، 1988 م)، ص 266، وص 267.

54. الرساتیق: جمع رستاق، فارسية معربها: الرزاق، وهي: القرية، أو محلة العسكر، أو البلد التجاري.

ينظر: عمارة، محمد، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، (بیروت، دار الشروق، 1993 م)، ص 248.

55. بهر سير: من نواحي سواد بغداد قرب المدائن، ويقال بهر سير الرومقان، وقيل بهر سير إحدى المدائن السبع التي سميت بها المدائن، وهي غربي دجلة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 1، ص 515).

56. الرومقان: طسوج من طساسيج السواد في سمت الكوفة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 3، ص 97).

57. نهر درقیط: كورة ببغداد من جهة الكوفة. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 2، ص 451).

58. بهقباذ: اسم لثلاث کور ببغداد من أعمال سقي الفرات منسوبة إلى قباذ بن فيروز والد أنو شروان. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 1، ص 516).

ص: 169

59. الجريب: بفتح فكسر مقیاس مساحة مقداره ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وقيل عشرة آلاف ذراع. ينظر: (الشرباصي، أحمد، المعجم الاقتصادي الإسلامي، بيروت، دار الجيل، 1981 م)، ص 93).

60. الصاع: أربعة أمداد، وهو مكيال أهل المدينة، وعند أهل الكوفة أربعة أمناء. ينظر: (الشرباصي، المعجم الاقتصادي، ص 259).

61. العسل، ابراهيم، التنمية في الاسلام مفاهیم مناهج وتطبيقات، (بیروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1996 م)، ص 95.

62. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

63. م. ن، ص 426 ص 427.

64. م. ن، ص 427.

65. ينظر: العسل، ابراهيم، الفكر الانماءي عند الامام علي (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 5، (بیروت، 1997 م)، ص 77.

66. عبده، نهج البلاغة، ص 426.

67. الجابري، عبد الله حاسن، الفكر الاقتصادي عند الامام علي بن ابي طالب من خلال رسالته لواليه على مصر الاشتر النخعي دراسة مقابلة بالفكر المالي الحديث، بحث رمنشور في مجلة ام القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 17، العدد 34، (الرياض، 1426 ه)، ص 336.

68. م. ن، ص 312.

69. العسل، الفكر الانمائي، ص 75.

70.، إبراهيم، أحمد اسعد محمود، السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، كلية الشريعة، (عمان، 1997 م).

ص: 170

ص 61.

71. ابراهيم، السياسة الاقتصادية، ص 61.

72. محمد عبده، نهج البلاغة، ص 421.

73. عبده، نهج البلاغة، ص 430.

74. ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، بیروت، الدار اللبنانية للنشر، 2008 م)، ج 11، ص 66.

75. الطبری، تاریخ الامم والملوك، (بیروت، دار الاميرة، 2010 م)، ج 3، ص 283.

76. ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغه، ج 11، ص 59 ص 60.

77. العسل، الفكر الانهائي، ص 73.

78. عبده، نهج البلاغة، ص 418.

79. عبده، نهج البلاغة، ص 422.

80. م. ن، ص 448.

81. القاسم بن سلام (ت 224 ه)، الأموال، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1986 م)، ص 250.

82. م. ن، ص 250.

83. السعد، حقوق الإنسان، ص 391.

84. عبده، نهج البلاغة، ص 629.

85. البختیاری، صادق، العدالة والتنمية في منهج الإمام علي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 27، (بیروت، 2002 م) ص 14..

86. السعد، حقوق الإنسان، ص 311.

ص: 171

87. الموسوي، میسون محمد حسين، الفكر الإبداعي في تراث الإمام علي (نهج البلاغة نموذجا)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، مقدمة إلى معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، (بغداد، 2005 م)، ص 93.

88. عبده، نهج البلاغة، ص 497.

89. السعد، حقوق الإنسان، ص 312.

90. عبده، نهج البلاغة، ص 474.

91. بختیاری، ص 14.

92. عبده، نهج البلاغة، ص 467.

93. عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه)، المقدمة، تحقيق: حجر عاصي، (بیروت، دار الهلال، 1988 م)، ص 256.

94. نهج البلاغة، ص 467.

95. الموسوي، الفكر الإبداعي، ص 94.

96. العسل، إبراهيم، الفكر الإنمائي عند الإمام علي، مجلة المنهاج، العدد 5، 1997 م، ص 78.

97. م. ن، ص 319

98. سورة الملك، آية 15.

99. سورة الملك، آية 15.

100. عبده، نهج البلاغة، ص 475.

101. عبده،، نهج البلاغة، ص 417.

102. زهرة، السيد، التنمية المستدامة، مقال منشور في جريدة أخبار الخليج، جريدة يومية، العدد 12832 في 11 / 5 / 2013 م، (المنامة، 2013 م).

ص: 172

ثبت المصادر والمراجع

القرآن الكريم

أولا: المصادر الأولية

1 - البلاذري، أحمد بن يحيى (ت 279 ه)، فتوح البلدان، (بیروت، مكتبة الهلال، 1988 م).

2 - ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656 ه)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (بیروت، الدار اللبنانية للنشر، 2008 م).

3 - الحراني، الحسن بن علي بن الحسين (من اعلام القرن الرابع الهجري)، تحف العقول عن آل الرسول، (بیروت، دار المرتضی، 2007 م).

4 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808 ه)، المقدمة، تحقيق: حجر عاصي، (بیروت، دار الهلال، 1988 م).

5 - ابن الصباغ، علي بن محمد بن احمد المالكي (ت 855 ه)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: جعفر الحسيني، (بیروت، المجمع العالمي لأهل البيت، 2011 م).

6 - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 568 ه)، مجمع البيان في تفسير القرآن، (بیروت، دار المرتضی، 2006 م).

7 - الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه)، جامع البيان عن تأویل آي القرآن، تحقیق: محمود محمد شاكر، (القاهرة، مكتبة ابن تيمية، بلا).

8 - تاريخ الأمم والملوك، (بیروت، دار الاميرة، 2010 م).

9 - ابن طيفور، أبو الفضل احمد بن طاهر (ت 280 ه)، بلاغات النساء، (مطبعة مدرسة

ص: 173

والجة عباس الأول، القاهرة، 1908).

10 - أبو عبيد، القاسم بن سلام (ت 224 ه)، الأموال، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1989 م).

11 - ابن عساکر، علي بن الحسن (ت 571 ه)، تاریخ دمشق، تحقیق: محب الدين أبي سعيد بن غرامة العمروي، (بیروت، دار الفكر، 1997 م).

12 - ابن فارس، أبو الحسن احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، معجم مقاییس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، (قم، دار الكتب العلمية، بلا). 13 - الفراهيدي، عبد الرحمن الخليل بن احمد (ت 175 ه)، العين، (بیروت، دار إحياء التراث العربي، 2001 م).

14 - القاضي النعمان، أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي (ت 363 ه)، دعائم الإسلام، تحقيق: اصف علي اصغر فيضي، (بیروت، دار الأضواء، 1991 م).

15 - القرطبي، محمد بن احمد بن أبي بكر (ت 671 ه)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وآخرون، (بیروت، مؤسسة الرسالة، 2006 م).

16 - الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه)، روضة الكافي، (بیروت، منشورات الفجر، 2007 م).

17 - ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه)، لسان العرب، تدقيق: يوسف البقاعي واخرون، (بیروت، مؤسسة الأعلمي، 2005 م).

18 - یاقوت الحموي، أبو عبد الله یاقوت بن عبد الله (ت 525 ه)، معجم البلدان، (بیروت، دار صادر، 1995 م).

ص: 174

19 - اليعقوبي، أحمد بن إسحاق (ت 292 ه)، تاريخ اليعقوبي، تعليق: خليل المنصور، (طهران، مطبعة مهر، 1425 ه).

ثانيا: المراجع

20 - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948 م.

21 - بدوي، احمد زكي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، (بیروت، مكتبة لبنان، 1982 م)

22 - برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 1997 م، إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة

23 - بكار، عبد الكريم، مدخل إلى التنمية المتكاملة رؤية إسلامية، (دمشق، دار القلم، 1999 م).

24 - تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 م

25 - الحسن، إحسان محمد، علم الاجتماع الاقتصادي، (الموصل، مطبعة دار الحكمة، 1990 م).

26 - خزنة كاتبي، غيداء، الخراج منذ الفتح الإسلامي حتى أواسط القرن الثالث الهجري، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م).

27 - السروجي، طلعت مصطفى، التنمية الاجتماعية من الحداثة إلى العولمة، (الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2009 م).

28 - السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، (بغداد، د. م، 2008 م).

29 - السعيد، احمد عطية الله، المعجم السياسي الحديث، (بیروت، شركة بهجة المعرفة

ص: 175

بلا)

30 - الشرباصي، أحمد المعجم، الاقتصادي الإسلامي، (بیروت، دار الجيل، 1981 م).

31 - عبده، الشيخ محمد، نهج البلاغة، (القاهرة، مؤسسة المختار، 2008 م).

32 - العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام مفاهیم مناهج وتطبيقات، (بیروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1996 م).

33 - عمارة، محمد، علي بن أبي طالب نظرة عصرية جديدة، (بیروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974 م).

34 - قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، (بيروت، دار الشروق، 1993 م).

35 - فوزي، سامح، المواطنة، (القاهرة، مركز القاهرة الدراسات حقوق الإنسان، 2007 م)،

36 - بن قانة، إسماعيل محمد، اقتصاد التنمية نظريات نماذج استراتيجيات، (عمان، دار أسامة، 2012).

37 - النجار، عبد الهادي علي، الإسلام والاقتصاد دراسة في المنظور الإسلامي لأبرز القضايا الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، (الكويت، عالمالمعرفة، 1983 م).

ثالثا: الدوريات:

38 - البختياري، صادق، العدالة والتنمية في منهج الإمام علي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 27، (بیروت، 2002 م)، ص 14..

39 - الجابري، عبد الله حاسن، الفكر الاقتصادي عند الإمام علي بن أبي طالب من

ص: 176

خلال رسالته لواليه على مصر الأشتر النخعي دراسة مقابلة بالفكر المالي الحديث، بحث منشور في مجلة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 17، العدد، الرياض، 1426 ه).

40 - بو حمد، رضا صاحب، سياسة الإعانات عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة جامعة ذي قار، العدد 2، مج 1 (ذي قار، 2005).

41 - دوابة، أشرف محمد، التنمية البشرية من منظور إسلامي، بحث مقدم إلى الملتقى الدولي الثالث حول واقع التنمية البشرية في اقتصاديات البلدان الإسلامية، جامعة الجزائر، كلية العلوم الاقتصادية والتسيير، (الجزائر، 2007 م).

42 - دنیا، شوقي احمد، دور الدولة في التنمية في ضوء الاقتصاد الإسلامي، بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 9، الرياض، 1414 ه).

43 - زبون، ناهدة محمد، مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر دراسة في المفهوم والأبعاد، بحث منشور في حولية المدى، مج 1، العدد 4، (بغداد، 2010 م)،

44 - الزنيدي، عبد الرحمن بن زيد، فلسفة المواطنة، بحث مقدم في لقاء قادة العمل التربوي في السعودية، منشور على موقع.

documents /-/ http: www.Imamu.edu.sa

45 - شبع، محمد جواد، التنمية في القرآن الكريم، بحث منشور في مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، العدد 6، مج 11، جامعة الكوفة، (النجف الأشرف، 2010 م).

46 - الصائغ، بان أحمد، التأصيل التاريخي لمفهوم المواطنة، بحث منشور في مجلة الدراسات الإقليمية، العدد 14، (الموصل، 2009 م).

47 - عبد المنعم أحمد، فؤاد، السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها

ص: 177

المعاصرة، (جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1422 ه).

48 - عارف، نصر، في مفاهيم التنمية ومصطلحاتها، بحث منشور في مجلة ديوان العرب، عدد حزيران لسنة 2008 م، (لقاهرة، 2008 م).

49 - العبيد احمد، ضرار الماحي، نشأة وتطور مفهوم التنمية المستدامة، بحث منشور في مجلة التنوير، العدد 5، (الخرطوم، 2008 م).

50 - الهنداوي، حسن بن إبراهيم، مفهوم التنمية وخصائصها من وجهة نظر إسلامية، بحث منشور في مجلة التنوير، العدد 5، (الخرطوم، 2008 م).

51 - العسل، إبراهيم، الفكر الإنمائي عند الإمام علي (عليه السلام)، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 5، (بیروت، 1997 م).

رابعا: الأطاريح والرسائل

52 - إبراهيم، أحمد اسعد محمود، السياسة الاقتصادية في خلافة الإمام علي بن أبي طالب، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة اليرموك، كلية الشريعة، (عمان، 1997 م).

53 - الغندور، سماح طه احمد، التنمية البشرية في السنة النبوية، دراسة موضوعية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة غزة، كلية أصول الدين، (غزة، 2011 م).

54 - محسن، جواد کاظم، المواطنة الحقوق والواجبات من منظور إسلامي، بحث منشور في مجلة الدراسات السياسية العربية والدولية، العدد 18، (بغداد، 2010).

55 - الموسوي، میسون محمد حسين، الفكر الإبداعي في تراث الإمام علي (نهج البلاغة نموذجا)، أطروحة دكتوراه غير منشورة، مقدمة إلى معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا، (بغداد، 2005 م).

ص: 178

56 - یایموت، خالد، المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر، بحث منشور في مجلة الكلمة الالكترونية، العدد 54، (بلا، 2007 م)، ص 1 منشور على الموقع

http://www.kalema.net/v1/?rpt=756 art

57 - يونس، مفيد ذنون، التنمية الاقتصادية والمواطنة ودور مؤسسة الحكم، بحث منشور في مجلة دراسات إقليمية، العدد 13، (الموصل، 2009 م).

ص: 179

ص: 180

القيادة الاخلاقية في عهد الامام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر

اشارة

ا.م.د. ابتسام سعدون النوري

الجامعة المستنصرية

ا.م.د. حليمة سلمان الحمداني

جامعة كركوك

ص: 181

ص: 182

مقدمة:

إن أول تحديا يواجهنا هو تعريف المقصود بمصطلح «القيادة» بشكل واضح، غالباً ما تستحضر كلمة قائد في أذهاننا انطباعات مخالفة للطريقة التي استخدمت فيها في هذه المناقشة، عندما يُطلَب من الناس تعريف «القائد» فإنهم كثيراً ما يقولون: «الشخص المسؤول، الذي يصدر الأوامر وبيده زمام الأمور» وللأسف فإن صفحات التاريخ مليئة بهؤلاء الذين عرّفوا القيادة بهذه الطريقة.

کما إن أشكال القيادة، سواء الإستبدادية (Autocratic)، والأبوية (Paternalistic)، والقمعية (manipulative)، والقيادة التي تدعي إلمامها بجميع الأمور (all-it-Know)، التي يمكن أن نجدها في مختلف أنحاء العالم تميل إلى إضعاف هؤلاء الذين من المفترض أن تقوم على خدمتهم، فهم يمارسون التحكم عن طريق جعل عملية اتخاذ القرار مركزية بحتة، وبالتالي إجبار الآخرين على الرضوخ.

فإذا كان لا بد للبشرية أن تنتقل من سن المراهقة الجماعية إلى سن البلوغ الجماعي، وإذا كان لا بد لها أن تحصد فوائد طويلة المدى لعملية قمة الأرض، علينا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة وثيقة الصلة بالموضوع.

أولاً: هل بإمكان نماذج القيادة السائدة حاليًا إنتاج قادة قادرين على معالجة القضايا العالمية الهامة التي تواجه الإنسانية بكل أمانة وعدل؟ ثانيًا: هل المؤسسات التي أوجدتها نماذج القيادة السائدة حاليًا قادرة على إيجاد حضارة عالمية مستدامة؟ ثالثًا: هل نحن بأنفسنا مستعدون للتخلي عن الممارسات العتيقة والولاءات القديمة واكتشاف نموذج جديد للقيادة الأخلاقية؟

إن هذا الانموذج يرتكز بشكل تام على خدمة الآخرين، لذلك فإن أحد متطلبات

ص: 183

القيادة الأخلاقية هو روح الخدمة، خدمة الفرد لعائلته، لجامعته ولأمته. وروح هذه لا تنكر بأي شكل من الأشكال الدوافع والمبادرات الفردية، كما أنها لا تعيق الإبداع الفردي. بل إنها تطالب بنموذج للقيادة يعمل على إطلاق القدرات الكامنة لدى الفرد بينما يضمن خير وسعادة الجميع، وهذا ما ينطبق على شخصية مالك الاشتر

من هو مالك الأشتر؟

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة الى جده النخع، ولقد إشتهر مالك (بالأشتر) حتى يكاد يطغى على إسمه الحقيقي ولا يُعرف إلا به، وكنيته ابو إبراهيم، وقد لُقب بالأشتر وكبش العراق، وهناك روايتان في كيفية شُتر عينه، الاولى: ان عينه شُترت في حروب الردة في جهاده عن الاسلام عندما ضربه ابو مسيكمه على رأسه، والرواية الثانية ان عينه شُترت في وقعة اليرموك، عند مبارزته لرجل مشرك من الروم وقتله، ولربما تكون عينه قد فقئت في حروب الردة ثم أُصيبت ثانية في معركة اليرموك، ولُقب كذلك (بكبش العراق)، وقد أورده الرازي في مختار الصحاح ونصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين(1).

ويستدل من بعض القرائن ان ولادة مالك كانت لما يقرب من عشرين سنة سبقت البعثة النبوية الشريفة وأنه كان معروفاً ومشهوراً في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(2):

وقد وِلد في بيشه الواقعة في أعلى اليمن وهي بلاد ذات خصب ونخيل وأشجار وعيون ماء(3)، وتنقل المصادر أن مالكاً قدِم مهاجراً الى المدينة ونزل في دار الامام علي (عليه السلام)، وقد شهد الوقائع وخاض المعامع في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ويجزم الواقدي أن مالكاً يحب الامام علي (عليه السلام) قبل خلافته، ونزل في

ص: 184

داره مع اهله وهو دليل قوي بأن الامام علي تعرف على مالك وأهله في اليمن، والمعرفة هنا عائلية وصميمية.

هدف البحث: تعرف على الخصائص القيادية في شخصية مالك الاشتر:

تحديد المصطلحات:

اولا - القيادة الاخلاقية: هي مججموع القدرات والمفاهيم، والفضائل، وأنماط التفكير، والمهارات الي يتمتع بها الفرد في موقف، وهي تمثل بمجموعها اطلاق القدرات لخدمة الآخرين.

شخصية مالك الاشتر: نشأ إبراهيم بن مالك الأشتر في أسرة كريمة أشربت في قلبها حب الإسلام وموالاة أهل البيت (عليه السلام)، وذكر لنا التأريخ أنه شارك في حرب صفين مع الإمام علي (عليه السلام) بين يدي والده وهو غلام فأبلى فيها بلاءً حسنًا، وشخصية مالك الأشتر شخصية الرجل الشجاع الذي يفرض نفسه في كل موقف، وهو الذي لم تُرد له راية او ينكسر له جيش(4)، وقد قال فيه ابن أبي الحديد: «لله در اُمٍ قامت عن الأشتر، لو أن انساناً يقسم أن الله ما خلق في العرب ولافي العجم أحداً أشجع منه إلا أُستاذه علي بن أبي طالب لما خشيت عليه الإثم(5) وقد قتل يوم اليرموك أحد عشر رجلاً من بطارقتهم وقتل ثلاثة منهم مبارزةً. ومما يُحسب له قتله للعلج الرومي في الشام، والذي لم يستطع أحد ان يبارزه وكان خالد بن الوليد يعد مالك الأشتر بألف فارس، وذلك عندما عزم ابو عبيدة بن الجراح على إرسال اربعة آلاف فارس مدداً من الشام الى عمرو بن العاص في مصر، وخاف عليهم مشقة الطريق، فقال له خالد: ان الله كفاك ذلك، فقال:كيف ذلك يا أبا سليمان؟ قال خالد: إن عزمت على ماذكرت فابعث اربعة من المسلمين فهم مقام اربعة آلاف فارس، فقال ابو عبيدة متعجباً: من الأربعة؟ قال خالد: انا أحد الأربعة والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ومالك بن

ص: 185

الحارث (الأشتر)... فقال له ابو عبيدة: إفعل ماتراه(6)، ومما يؤثر عنه عند إعادته الى ميمنة أهل العراق عند هزيمتهم في وقعة صفين فهي شجاعة وتأثير في الناس الذين أعادهم وهذه دلالة على قيادة حازمة وثقة كبيرة من الجيش بشخصيته. وقوله للإمام علي (عليه السلام) عندما إنشق عليه الجيش في وقعة صفين وقد صار قاب قوسين او أدنى من النصر (إقلب الصف على الصف تصرع القوم)، هي شجاعة قلَّ نظيرها، وقد إتفقت جميع المصادر التي ذكرت جانباً من حياة مالك الأشتر على شجاعته(7)،

دوره في القضاء على انقلاب أشراف الكوفة

كان لابراهيم شرف مقاتلة الذين شاركوا في قتل الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته واصحابه الكرام والاقتصاص منهم، وذلك عندما اراد المختار الثقفي عليه السلام الاخذ بثأر الامام الحسين (عليه السلام) واهل بيته بإعلانه الثورة على حكام بني أمية (لع) سنة 66 هجرية حيث اشار عليه جماعته بأن يدعو ابراهيم عليه السلام ليلتحق مه حيث انه مع ما عنده من شجاعة وخبرة بالقتال فهو سيد قومه ويتبعه جمع كبير من الرجال(8). وفعلا قد قام المختار بدعوته موكدا له هدفه السامي الذي هو نصرة اهل بيت النبوة عليهم السلام، فوافقه ابراهيم (عليه السلام) على ذلك لما استتب الوضع للمختار في الكوفة دعا بإبراهيم بن الأشتر، فعقد له عقدًا وأمره بالمسير إلى جيش الشام في الموصل، فخرج ومعه النخبة من جيش الكوفة ولم يتبق مع المختار سوى قوة قليلة، وعسكر إبراهيم بجيشه في ساباط المدائن. فحينئذ توسم أهل الكوفة من الموالين لبني أمية في المختار القلة والضعف، فخرجوا عليه، وجاهروه العداوة، ولم يبق أحد ممن اشترك في قتل الحسين (عليه السلام)، وكان مختفيًا إلا وظهر، ونقضوا بيعته، واجتمعت القبائل عليه من بجيلة والأزد وغيرها، فصارت الكوفة كلها على المختار سيفًا واحدًا(9) فبعث المختار من ساعته ساعته رسولًا إلى إبراهيم بن مالك الأشتر (رضي الله عنه) وهو بساباط

ص: 186

: (لا تضع كتابي حتى تعود بجميع من معك إلي). فوافاه إبراهيم في اليوم الثاني بخيله ورجله، ومعه أهل النجدة والقوة. وجاء البشير إلى المختار أن المتمردين ولّوا مدبرين، فمنهم من اختفى في بيته، ومنهم من لحق بمصعب بن الزبير في البصرة، ومنهم من خرج إلى البادية، ثم وضعت الحرب أوزارها، وحلت أزرارها، ومحص القتل شرارها(10).

دوره في هزيمة جيش الشام وقتل عبيد الله بن زياد (معركة الخازر)

لما تم للمختار القضاء على الانقلاب المسلح الذي قام به أشراف الكوفة بفضل إبراهيم الأشتر عاد إلى المهمة الأصلية التي انتدب إبراهيم إليها وهي مواجهة جيش الشام بقيادة عبيد الله بن زياد فأمر إبراهيم الأشتر بإعداد العدّة لذلك، فخرج إبراهيم، ثم سار يريد ابن زياد، حتى نزل ابن الأشتر نهر الخازر بالموصل وأقبل ابن زياد في الجموع، ونزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثم التقوا فحض ابن الأشتر أصحابه على القتال وتزاحفوا ونادى أهل العراق: يا لثارات الحسين، فجال أصحاب ابن الأشتر جولة، فناداهم: يا شرطة الله الصبر الصبر. ثم حمل ابن الأشتر على جيش الشام عشيًّا فخالط القلب، وكسرهم أهل العراق فركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغمة وقد قُتل عبيد الله بن زياد وحصين بن نمير وأعيان أصحابه الأشتر وقام ابن فاحتزّ رأس ابن زياد، وبعث به إلى المختار وأعيان من كان معه. ثم بعثه المختار إلى محمد بن الحنفية بمكة ثم بعثها محمد إلى علي بن الحسين(عليه السلام)(11)، وقد كانت هذه المعركة ونتائجها المذهلة أكبر نصرٍ يحققه المختار بواسطة إبراهيم الأشتر (رضي الله عنه) على الأمويين وكان مقتل بن زياد فيها من أكبر أحلامهما مما عزز مكانتهما عند الشيعة عمومًا وعند بني عبيد الله هاشم خصوصًا.

ص: 187

السمات القيادية في الشخصيه:

تعد شخصية الفرد نتاج تفاعل لمجموعة المجالات الذاتية والتي تكون موجهة نحو أهداف معينة، وتصدر عن الشخصية آثار معينة على الفرد والمحيط الي يوجد فيه، ومن أجمل الشخصيات و أعظمها تلك التي يطلق عليها الشخصية القيادية والتي يتميع صاحبها بملكة نادرة لا يملكها إلا ما ندر من الناس لدرجة أنه لا يزال الكثير من الناس يعتقدون أن القادة يولدون ولا يصنعون و ذلك لصعوبة اكتساب الصفات القيادية العظيمة.

القدرات الأساسية للقيادة - ان يتحلى الفرد بالقدرة على:

1. تشجيع الآخرين وإدخال البهجة إلى قلوبهم.

2. أن يُشَرِّب الفرد أفكاره وأعماله بالمحبة.

3. أن يكون ذو رؤية وتشجيع الآخرين على ذلك.

4. إدارة المرء لشؤونه ومسؤولياته بصدق وأمانة.

5. تقييم المرء لنقاط ضعفه وقوته دون تدخل «الأنا».

6. محاربة الفرد لميوله الأنانية بالتوجه إلى هدفه الأسمى في الحیاة.

7. القيام بالمبادرة بطريقة خلاقة ومنضبطة.

8. إدامة الجهد والمثابرة في التغلب على العقبات.

9. فهم علاقات السيطرة أو الهيمنة والمساهمة في تحويلها لعلاقات خدمة واعتماد وتعاون متبادليْن.

10. العمل كعامل محفز لتأسيس العدل.

11. التفكير بشكل منهجي ومنظم لإيجاد الحلول.

12. المشاركة بشكل فاعل في المشورة.

ص: 188

13. بناء الوحدة مع تعزيز التنوع.

14. الخدمة في مؤسسات المجتمع بطريقة تشجع هذه المؤسسات على حث وتمكين الأفراد الذين تقوم بخدمتهم على التعبير عن مواهبهم في خدمة الإنسانية.

سمات القيادة في شخصية مالك الاشتر:

1. يدرك للأهداف العامة لما هو مسؤول عن قيادته، إذ كتب عليه السلام الى أميرين من امراء جيشه: «وقد أمَّرت عليكما وعلى من في حيز كما، مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا. وإجعلاه درعاً ومجِنا، فانه ممن لايُخاف وهنُهُ، ولاسقطتُهُ، ولا بطؤهُ عما الإسراع اليه أحزَمُ، ولا إسراعهُ الى ما البطء عنهُ أمثلُ)(12)

2. له القدرة على البحث و التنقيب وجمع المعلومات المتفقة مع حاجة منصبه.

3. لديه من المهارات والتجارب والخبرات الإنجازية ما يساعده في سير العمل لمن يقودهم.

4. يتحلى بالقدرة على ضبط النفس والنضج الإنفعالي، اذ كانمالك الاشتر يزن الأمور بميزان الحكمة والعقل فيدبرها أحسن تدبير.

5. يتمتع بروح المبادأة فقد كان بطلًا جسورًا من أبطال الوغى وأسدًا هصورًا عند اللقاء.

6. عادلا في قراراته، إذ قال أمير المؤمنين (والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة نتيجة ذلك محمودة) وفي هذا النص يؤكد الامام ان واجب الحاكم الكبير هو ان يتحرى تطبيق العدالة بدقة وامانة دون ان يراعي في ذلك اية اعتبارات عاطفية او عائلية او مصلحية خاصة. فحين يحيد المقربون الى الحاكم عن

ص: 189

الحق فيجب تطبيق العادلة عليهم كما تطبق على سائر افراد الشعب.

ونذكر هنا مثالاً آخر على شجاعته أورده صاحب كتاب حبيب السير في أخبار أفراد البشر عندما رفض عبيد الله بن عمر في معركة صفين ان يبارز مالكاً عندما عرفه، فقال له مالك ان الفرار من القتال عارٌ، فقال عبيد الله: أن يقول الناس( فرَّ جزاه الله) خير من أن يقولوا (قُتل رحمه الله)(13).

ومن كتاب له عليه السلام الى أهل مصر لما ولَّى عليهم لما ولّى عليهم الأشتر: (أما بعد فقد بعثت اليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولاينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له، وأطيعوا أمره، في ما طابق الحق، فانه سيف من سيوف الله، لا كليل الضبة، ولاناجي الضريبة. فان أمرَكم أن تقيموا فأقيموا، فانه لا يقدم ولا يحجم، و لايؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، وقد أثر تكم به على نفسي، لنصيحته لكم، وشدة شكيمته، على عدوكم)(14) وبعد حياة حافلة بالعز والجهاد، وتاريخ مشرق في نصرة الإسلام والنبوة والإمامة، يكتب الله تعالى لهذا المؤمن الكبير خاتمةً مشرِّفة، هي الشهادة على يد أرذل الخَلْق، فكان لأعداء الله طمع في مصر، لقربها من الشام ولكثرة خراجها، ولتايل أهلها إلى أهل البيت (عليهم السلام) وكراهتهم لأعدائهم، فبادر معاوية بإرسال الجيوش إليها، وعلى رأسها عمرو بن العاص، ومعاوية بن حديج ليحتلَّها، فكان من الخليفة الشرعي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن أرسل مالكَ الأشتر(رضوان الله عليه) والياً له على مصر، فاحتال معاوية في قتله (رضوان الله عليه) داسّاً إليه سُمّاً بواسطة الجايستار (وهو رجل من أهل الخراج، وقيل : كان دهقان القُلْزُم، وكان معاوية قد وعد هذا ألا يأخذ منه الخراج طيلة حياته إن نفذ مهمته الخبيثة تلك، فسقاه السم وهو في الطريق إلى مصر، فقضى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) شهيداً عام - 38 ه).

ص: 190

التوصيات:

1. الاتفاق على أن الأسرة هي المعلم الأول للأطفال، وأن المنزل هو المصدر الأساس التنمية قيم حب اهل البيت (عليهم السلام والصحابة.

2. الاعتراف بأن معرفتهم هو عملية ذات اتجاهين يتعلم من خلالها الكبار من الأطفال والشباب والأطفال من الكبار.

3. استدخال فکر اهل البيت في المناهج الدراسية بدءا من مرحلة رياض الاطفال وانتهاءا بالمرحلة الجامعية.

4. ضرورة تحصين المجتمعات الإسلامية لأهميتها في المحافظة على معالم الشخصية الإسلامية السوية.

5. المقترحات:

6. اجراء بحوث تتضمن فکر اهل البيت.

7. اجراء دراسة مشابهة للدراسة الحالية تتناول شخيات اخرى واكبت وعاصرت عهد الامام علي (عليه السلام).

ص: 191

الهوامش:

1. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبید حسون، ص 30 - 33.

2. المصدر نفسه، ص 30.

3. المصدر نفسه، ص 34.

4. المصدر نفسه، ص 39.

5. المصدر نفسه، ص 62.

6. المصدر نفسه، ص 40

7. تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، ج 1: ص 549.

8. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبيد حسون، ص 40

9. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات مكتبة النهضة، بغداد.

10. نهج البلاغة، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، ط 5، 1428 ه - 2007 م

11. الطوسي، الأمالي، ص 238 - 243 بتصرف.

12. تصنیف نهج البلاغة، لبيب بیضون ص 576 - 577

13. نُظر قصة إستشهاده مسموماً في كتاب تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، مقدم - جلال الدين همائی، ج 1: ص 598. وللاطلاع أكثر حول سيرته وجهاده وملازمته للإمام علي (عليه السلام) یراجع ج 1: صص 473، 507، 508، 510، 523، 528، 529، 531، 534، 535، 539، 543، 544، 549، 553، 558، 560، 562، 563، 566، 567، 568.

14. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الإسلامية، نجاح عبيد حسون، 153.

ص: 192

المصادر

1. تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، ج 1.

2. تصنیف نهج البلاغة، لبيب بيضون.

3. مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، نجاح عبید حسون.

4. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، منشورات مكتبة النهضة، بغداد.

5. نهج البلاغة، مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، ط 5، 1428 ه - 2007 م

6. انظر قصة إستشهاده مسموماً في كتاب تاريخ حبيب السير في أخبار أفراد بشر، خواند امیر، مقدم - جلال الدين همائی، ج 1: ص 568. وللاطلاع أكثر حول سيرته وجهاده وملازمته للإمام علي (عليه السلام) یراجع ج 1 : صص 473، 507، 508، 510، 523، 528، 529، 531، 534، 535، 539، 543، 544، 549، 553، 558، 560، 562، 563، 566، 567، 568.

مواقع الانترنت:

7. القيادة الإدارية والرئاسة (com.voob - 1.www //:http)

ص: 193

ص: 194

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه)

اشارة

د. إسماعيل طه الجابري

د. حيدر قاسم مَطَر التميمي

قسم الدراسات التاريخية - بيت الحكمة - بغداد

ص: 195

ص: 196

مقدمة

أصبحت فكرة حقوق الإنسان، والدعوة إليها، من الأمور الجوهرية في المجتمعات المعاصرة. وارتبط قیام مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث، سواء في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام أو غيرها، بالغرب، الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، حيث أسهم الإستعمار الغربي على المستوى العالمي في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكوِّنة للحقوق الأساسية للإنسان، وسعى في كثيرٍ من الدول إلى فرض قيمهِ ومنظورهِ عن الحياة، عن طريق القهر الإستعماري، والسيطرة الإستبدادية المادية في كافة مجالات الحياة.

أمَّا في الفكر والشريعة الإسلامية، فإنَّ من ينظر في حقوق الإنسان في الإسلام يجد أنَّها حقوق شرعية أبدية لا تتغير ولا تتبدل مهما طال الزمن، لا يدخلها نسخٌ ولا تعطيل، ولا تحريفٌ ولا تبدیل، لها حصانةٌ ذاتية؛ لأنَّها من لَدُنِ حکیمٍ علیم، فالله (سبحانه وتعالى) أعلمُ بخلقهِ، وهو (عز وجل) أعلم بمصالح العباد من أنفسهم، فهي أحكام إلهية تكليفية، أنزل الله (سبحانه وتعالى) بها كتبهِ، وأرسل بها رُسُلهِ، لقد رضي الله (سبحانه وتعالى) لهذهِ الأمة الإسلام ديناً وجعل خاتم الأنبياء مُحمَّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفوق ذلك كلِّهِ فرض الله (سبحانه وتعالى) على العباد حماية هذهِ الحقوق ورعايتها فيما بينهم. وبالتالي، فإننا نجد أنَّ الإسلام قد بلغ في الإيمانِ بالإنسان وفي تقديس حقوقهِ إلى الحدِّ الذي تجاوز بهِ مرتبة (الحقوق) عندما اعتبرها (ضرورات) ومن ثمَّ أدخلها في إطار (الواجبات)... هي في نظر الإسلام ليست فقط حقوقاً للإنسان من حقِّهِ أن يطلبها ويسعى في سبيلها، ويتمسك بالحصول عليها، ويُحرم صدَّه عن طلبها، وإنَّما هي (ضروراتٌ واجبة) لهذا الإنسان، بل إنَّها واجباتٌ عليه أيضاً.

إلاَّ أنَّه وبالرغم من ذلك، نجد ترسُّخ المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان في

ص: 197

المجتمعات الإسلامية بسبب غياب المفاهيم الإسلامية المُنظِّمة للحقوق الشرعية للأفراد والجماعات، مما أدى إلى بناء تصور للحقوق الإنسانية عند المسلمين مُستمد من التجربة الغربية لمعالجة الواقع، ومحاولة الإرتقاء بحقوق الأفراد والجماعات. ولذلك يمكن القول: (إنَّ المفاهيم والمبادئ الغربية صارت المرجع الأساسي لبناء قواعد إجتماعية لتنظيم الحقوق الفردية في العالم أجمع. ونجم عن ذلك سلب الحضارة الإسلامية مقومات وجودها كواقع ممارس في العديد من المجتمعات الإسلامية، وصارت تراثاً عاجزاً عن تنظيم الواقع، ومرجعاً أخلاقياً محدود الأثر في الواقع التشريعي المعاصر المُنظِّم لحقوق الإنسان)(1).

ولهذا، فإنَّه من الأهميةِ بمكان بيان الإطار المُنظِّم للحقوق الشرعية في النظام السياسي الإسلامي، وإبراز القواعد الفكرية التي تُبنى عليها فكرة الحقوق الإنسانية في الفكر الغربي، وبيان تناقضها مع التصور الإسلامي للحقوق الشرعية للإنسان، ومصادرها، ومقاصدها، وتفصيلاتها، ويُبرز اختلافها عن الحقوق الغربية الوضعية. كما يؤكِّد البحث أنَّ قيام الحقوق الشرعية الإنسانية، لا يتم في المجتمع الإسلامي إلاَّ بالعودةِ إلى جذور الفكر الإسلامي، واستنباط التشريعات المعالجة للحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية من القِيَم الإسلامية الراسخة الثابتة.

ولعلَّ من أهمِّ وأبرز هذهِ الجذور الفكرية هو نص عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه) (ت 38 ه / 658 م). فقد كان الأمير المؤمنين (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيَّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز

ص: 198

العدالة الإجتماعية بآرائهِ وأدبهِ و حکومتهِ و سیاستهِ... وبكلِّ موقفٍ له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة.

وأخيراً، نود الإشارة أن لو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الإجتماعي المبني على قاعدة السِلم الأهلي المنَّاع للأمات الحادة في مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. يُرسي بكلِّ وضوح المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المُسلم وحقوق الرعية، وهي بالتالي، من الوثائق التي قلَّ التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس ما يدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السِفر الخالد.. والله (سبحانه وتعالى) وليُّ التوفيق.

ص: 199

المبحث الأول: حقوق الإنسان في الفكر الغربي

لحقوق الإنسان في الحضارة الغربية(2) تاريخٌ طويل، وإذا قطعنا النظر عن حقوق الإنسان في الإسلام، وتأثير ذلك على الحضارة الغربية الحديثة، فإنَّه يمكننا أن نُجمل تاریخ حقوق الإنسان في الغرب في الصفحات التالية..

فمن الثابت تاريخياً أنَّ الفرنسيين كانوا أول من أطلقوا هذا الاسم على مواثيق الحقوق، وأطلقوا صِفة الحقوق في إعلانهم الذي أصدروه في سنة 1789 م(3)، على اعتبار أنَّ تلك الحقوق لا تخص إنساناً دون الآخر بل إنَّها لصيقة بالإنسان باعتبارهِ إنساناً أينما كان، ولذلك لم يوجهوها إلى الفرنسيين كما فعل الإنكليز وأبناء الولايات المتحدة الأمريكية في إعلاناتهم(4). لكن من الثابت تاريخياً أيضاً أنَّ جوهر الفكرة، وأساسها الفلسفي ولد في أثينا على يدِ فلاسفةِ القانون الطبيعي ممثلةً في مدرسةِ السفسطائيين (5). غير أنَّ الفكرة ظلَّت فكرة فلسفية لا تحظى بتطبيق عملي في ظلِّ دولةِ المدينة الإغريقية، أو الإمبراطورية الرومانية، فلم يكن قد اعترف بعد للفرد في الحضارة الغربية بأيَّةِ حقوق، قبل قيام الدولة الحديثة.

وحاولت الديانة المسيحية في أول عهدها أن تُثبت للفرد قيمته كإنسان مؤكِّدةً على حقٍّ له كان يهمها في المقام الأول وهو حرية اعتناق العقيدة. وكانت نقلةً واسعة على طريق الاعتراف للفرد بحقوقهِ الأولية، إلاَّ أنَّ القائمين على شؤون الديانة المسيحية قد تراجعوا عن تلك الخطوة خلال القرن الرابع الميلادي عندما اشتد عودها، واعترف بها

ص: 200

الإمبراطور قسطنطين Constantine the Great (272 - 337 م) دیناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية، واعتبرت العقيدة الوحيدة المسموح بها داخل الإمبراطورية(6). وقد ضاعت الفكرة - حقوق الإنسان - في أوربا بعد ذلك في خضمِّ ظلام القرون الوسطى إلاَّ من ومضاتٍ خاطفة مثل وثيقة العهد الكبير (الماجنا کارتا) Magna Carta Libertatum في إنكلترا التي صدرت عام 1215 م، والتي حَدَّت من سُلطان الملك جون John (1166 1216)، والأشراف، ورجال الدين لصالح الشعب(7).

وبحلول القرن السابع عشر الميلادي بدأ ظهور المُفكِّرين الذين يُسمَّون ب (الفرديين)، أو فلاسفة المذهب الفردي، أمثال: جون لوك John Locke (1632 - 1704)؛ جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712 - 1778)؛ آدم سميث Adam Smith (1790 - 1723)؛ جان بابتست ساي Jean-Baptiste Say (1826 - 1896). وقد كان رأي هؤلاء أنَّ الهدف الأقصى للقانون (حماية الفرد وحريتهِ)(8).

مواثيق الحقوق:

يحظى ميثاق الحقوق الفرنسي من معظم فقهاء القانون دون غيرهِ من مواثيق الحقوق بالإشادةِ والتعظيم، على أنَّه (يمثل فلسفة الديمقراطية الغربية عن الحرية)(9). مع أنَّ هناك مواثيق أخرى للحقوق إنكليزية وأمريكية سابقةً عليه كان لها الكثير من الفضل في تدعيم حقوق الفرد وحرياتهِ وذيوعها.

1. میثاق الحقوق الإنكليزي: أسفرت ثورة عام 1668 م في إنكلترا عن خلع البرلمان للملك جيمس الثاني James II (1633 - 1701)، واستُدعي ويليام أورانج -Wil liam of Orange III (1650 - 1702) لتولِّي المُلك، وقُدِّم إليه في 13 / فبراير سنة 1988 م (وثيقة الحقوق) لتكون أساساً للحكم، والشروط الأساسية في تلك

ص: 201

الوثيقة كانت متصلة بحماية المصالح الإقتصادية للطبقةِ الوسطى The middle class، وبمقتضى تلك الوثيقة تنازل الملك عن أغلب سلطاتهِ للبرلمان، وسيطرت الطبقة الوسطى (البرجوازية Bourgeoisie) على البرلمان مما أدى إلى تطور كبير في نظام التمثيل البرلماني، واقترب من نظام التصويت النيابي(10).

ومهما كان من أمر تلك الوثيقة واتهام البعض لها بأنَّها لم تكن وثيقة ديمقراطية(11)، فإنَّ مجرد تنازل الملك عن جُلَّ سلطاتهِ للبرلمان هو في حدِّ ذاتهِ مكسب للديمقراطية؛ لأنَّها نقلت السيادة من فرد (الملك) لصالح جماعة (البرلمان)، وكانوا إلى حدٍّ ما يُمثلون الشعب وكلَّ زيادةٍ في سلطاتهم ترتد حتماً لصالح الشعب.

وعلى الرغم من عدم وجود وثيقة للحقوق في إنكلترا مكتوبة على غِرار الوثيقة الأمريكية أو الفرنسية، أو دستور أعلى مُدوَّن، فإنَّ الاحترام المستمر للحرية هو في حدِّ ذاتهِ خير ضمان للحقوق الأساسية، فصيانة الحريات التقليدية في بريطانيا أسمى مثال على قوةِ التقاليد وعلى روح الشعب الغالبة، حيث حقوق الرجل الإنكليزي مصونة، و محروسة بفضل تطبيق حكم القانون.

ورغم النُضج السياسي لبريطانيا فإنَّ نقطة الضعف التي شابت الحقوق الأساسية عندهم هي أنَّها كانت على الدوام حقوق الإنكليز، لا حقوق الإنسان، حارمين سکَّان المستعمرات منها إلاَّ مؤخراً(12). وهذا يذكرنا بديمقراطية أثينا التي كانت مقصورةً على الوطنيين الأحرار دون العبيد، أي الأجانب عموماً.

2. ميثاق الحقوق الأمريكي: تُعتبر الثورة الأمريكية (13) -The American Revolu tionary War (1783-1775) بحق أول من قنَّن بصورةٍ واضحة في العصر الحدیث حقوق الإنسان، وضمَّنتها وثيقة إعلان استقلال(14) ولایات اتحاد جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، بعد ثورتها على التاج البريطاني وانتصارها عليه في

ص: 202

4 / 7 / 1776 م الذي سبق إعلان الاتحاد، والدستور سنة 1777 م، والتصديق عليه سنة 1781 م. ومما جاء فيه: (نحن نُصر ونُسلِّم كقاعدةٍ واضحة من تلقاءِ نفسها بالحقائق الآتية: أنَّ الناس كلَّهم سواسية وأنَّهم يتمتعون کما وهبهم الخالق بحقوقٍ لا يمكن التنازل عنها، منها الحياة والحرية والسعي نحو السعادة)(15).

وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية تُعتبر أكمل تحديدة منها في أيِّ نظامٍ ديمقراطي آخر، ويبدو أكثر أمناً في أدواتهِ، وفي حمايتهِ فالحقوق والحريات مدونة في الدستور الفيدرالي، وفي دساتير الولايات المتحدة، ويشيع في هذهِ الدساتير جو (القانون الأعلى). وهي محمية لا من اعتداء السلطة التنفيذية فحسب، بل من اعتداء السلطة التشريعية أيضاً، وهناك المحاكم المُستقلة التي تؤدي وظيفتها لتجعل المُراقبة والتنفيذ حقيقيين(16).

إلاَّ أنَّ الحدود والقيود على هذهِ الحقوق أصبحت واضحةً حتَّى في بلدٍ کالولايات المتحدة تحت ضغط التوترات والأزمات والخُطط البارعة التي تعمل بها الحركات الإجتماعية الحديثة(17) Social Movements والضغوط الإجتماعية غير القانونية.

3. إعلان الحقوق الفرنسي: أولت الثورة الفرنسية The French Revolution حقوق الإنسان منذ اللحظةِ الأولى اهتماماً بالغاً حتَّى أنَّها أصدرت إعلان الحقوق في 26 أغسطس سنة 1789 م، ولم يتم القَسَم على الدستور بعد جمعهِ وصياغتهِ إلاَّ في 14 سبتمبر سنة 1791 م، أي بعد عامين من صدور إعلان الحقوق(18).

وقد صُدِّر ضمن هذا الإعلان وفي مادتهِ الأولى: (يولد الناس أحراراً متساويين أمام القانون). أمَّا مادته الثانية فتنص على أنَّ: (هدف كلِّ جماعة سياسية هو المُحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية، والثابتة. وهذهِ الحقوق هي: الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة التعسُّف). ومما يدل على اهتمام الفرنسيين بتلك الحقوق أن كاد واضعو دستور

ص: 203

نابليون Napoleon Bonaparte (1769 - 1821) أن يُسجلوا في هذا القانون ما قررته الثورة الفرنسية في (إعلان الحقوق) من وجود قانون طبیعي عام ثابت لا يتغير، وبهذا جاء المشروع الأول لذلك القانون ولكنهم انتهوا إلى حذف هذا النص لا على اعتبار أنَّه غير صحيح بل اعتبر بمثابة اعتناق لمذهبٍ فلسفيٍّ لا يتلاءم مع طبيعةِ النصوص التشريعية(19).

وقد اهتمت الدساتير المُتعاقبة في فرنسا بحقوق الإنسان ومنها دستور سنة 1946 م، وآخرها دستور سنة 1958 م(20)، وقد جاء في ديباجة هذا الدستور الصادر في 4 / 10 / 1958: (الشعب الفرنسي يُعلن في صراحة تمسك بحقوق الإنسان، ومبادئ السيادة القومية، كما وردت في إعلان الحقوق سنة 1789 م)(21).

وعلى نقيض البريطانيين، نجد أنَّ الفرنسيين منذ عهد الاستنارة(22) -Age of En lightenment والثورة الكبرى قد رفعوا عقيرتهم بصيحةِ (حقوق الإنسان)، لا حقوق الفرنسيين، وقد خاض الفرنسيون معارك مجيدة حول هذهِ الحقوق والحريات كان بعضها فاصلاً بالنسبة لتطور البلاد الديمقراطي الحر(23).

إعلانات الحقوق الدولية:

- بعد أن مُني العالم بحربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن كان عليه أن يبحث بهمَّةٍ واقتدار عن الوسائل الكفيلة بعدم تِكرار مثل ذلك حمايةً للجنس البشري وحقوقهِ المشروعة. والتقى الجميع على إنشاء هيئة الأمم المتحدة(24) The United Nations UN الذي بدأ ميثاقها (UN Charter) بديباجةٍ نصها: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن نُنقذ الأجيال المُقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيلٍ واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف. وأن نؤكِّد من جديد إيماننا بالحقوق

ص: 204

الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدرتهِ، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوقٍ متساوية). ثمَّ تضمن الميثاق بعض المواد الخاصة بهذهِ الحقوق ومنها:

المادة الأولى للفقرة الثالثة: (من مقاصد الهيئة تحقيق التعاون الدولي على حلِّ المسائل الإقتصادية، وعلى توفير احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع عليه، دون تمييز بسبب الجنس، أو اللغة، أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء)(25).

كذلك المادة (13 - 1) فقرة (ب): (تُنشئ الجمعية العمومية - United Nations Gen eral Assembly (UNGA دراسات وتُشیر بتوصياتٍ بقصد الإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة، بلا تمييز بينهم في الجنس...).

والمادة (55) فقرة (ج): (رغبةً في تهيئةِ شروط الاستقرار والرفاهية الضرورية لقيام علاقاتٍ سليمة ودية، علاقات تقوم على احترام المبدأ، الذي يقضي للشعوب بحقوقٍ متساوية، ويجعل لها تقرير مصيرها تعمل الأمم المتحدة على أن ينتشر في العالم احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية للجميع، بلا تمییز بسبب الجنس وصِراعات تلك الحقوق والحريات فعلاً).

وأيضاً تضمَّنت المواد (56-62-68-76) إشاراتٍ إلى حقوق الإنسان، وقد شُکِّل المجلس الإقتصادي والإجتماعي بهيئةِ الأمم المتحدة (لجنة حقوق الإنسان) بقصد إعداد مشروع وثيقة دولية بإعلان حقوق الإنسان، وحرياتهِ الأساسية، وكيفية تطبيقها، وما هي وسائل تنفيذها، والإجراءات التي يجب اتخاذها ضدَّ انتهاك هذهِ الحقوق، وقد واصلت اللجنة عملها قرابة عامين في ليك سکس، وفي جنيف، ثمَّ تقدمت بالمشروع الأول الخاص بوثيقة إعلان الحقوق والحريات، وقد أقرته الجمعية العامة لهيئةِ الأمم

ص: 205

المتحدة. ومن بينها قرارها رقم (217) في دور الانعقاد العادي الثالث بباريس بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1948 م، وقد اشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة كلَّها تدور حول حقوق الإنسان من كافةِ الوجوه، ومادته الأولى تنص على أن: (يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء...).

وقد صدرت اتفاقياتٍ دولية عديدة في شأن حقوق خاصة للإنسان، کالاتفاقيات الدولية في شأن الحقوق المدنية والسياسية الصادرة بقرار الأمم المتحدة رقم (2200) في دور الانعقاد العادي (21) بتاريخ 16 من ديسمبر سنة 1966 م، واتفاقيةٍ أخرى بذات التاريخ والدور بشأن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية(26). واتفاقيات عديدة أخرى، لا يتسع المجال لحصرها، موضوعها: القضاء على التمييز العنصري، وتحريم إبادة الجنس البشري، وتحريم الرق، والحرية النقابية، وحق تقرير المصير، وحماية ضحايا الحرب، والأسرى، والمساواة في الأجور، وتحريم السُخرة.. إلخ(27).

والذي يهمنا من أمر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنَّه حوى كلَّ حقوق الإنسان، فنصَّ على حماية حقوقهِ السياسية، والمدنية، والإجتماعية، والثقافية، والإقتصادية.. وهي حقوق جديدة لم تتضمنها إعلانات الحقوق من قبل، وهي تتميز بطابعها الإيجابي، أي بفرض إلتزام على الدولة بتحقيقها للأفراد، ويأتي في مقدمة هذ المواد، على وجه الخصوص، المواد من (22) إلى (28)(28).

وأخيراً، يمكن القول أنَّ مفهوم حقوق الإنسان في الغرب قد تبلور عِبرَ مسارين كبيرين: أولها التجارب السياسية الغربية المُتمثلة في الصِراع ضدَّ الحكم المُطلق من أجل الحدِّ من صلاحياتهِ الواسعة. والأمثلة الكبرى الواضحة لهذا المسار هو الصراع السياسي في إنكلترا من أجل تحديد صلاحيات الكنيسة صاحبة الحكم السياسي المُطلق وانتزاع

ص: 206

بعض الحقوق للأفراد والجماعات کما صِيغ ذلك في وثيقةِ الماغنا کارتا - Magna-car ta، وكذا عملية تحرير الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة الصادرة عنها، ثمَّ الثورة الفرنسية، والثورة الروسية... إلخ.

أمَّا المسار الثاني لهذهِ الأفكار فهو اجتهادات المُفكِّرين وتنظيرات الفلاسفة ابتداءً من الحقبة الإغريقية، والرومانية، والإسلامية ثمَّ الحقبة الحديثة في الغرب، والتي تعتبر فلسفة التنوير مُعلِّمتها الرئيسية.

وهذهِ الاجتهادات الفكرية، التي كانت بمثابة مختبر آخر تبلورت فيه حقوق الإنسان، لم تكن إسهامات معزولة عن سياق التاريخ الفعلي. بل كانت تفكيراً في هذهِ الصراعات والتحولات من جهة وإنارةً وتوجيهاً لها من جهةٍ ثانية. لذلك سيكون من باب التبسيط أن نقول بأنَّ حقوق الإنسان هي بنت التجربة التاريخية، وأنَّ هذهِ هي التي ولَّدت هذهِ الأفكار، أو على العكس من ذلك، أنَّ مفهوم الحرية والحق هو الذي أنتج هذهِ الحقوق الفعلية في التاريخ. ولعلَّ هذا الإشكال أصبح اليوم متجاوزاً في العلوم الإنسانية. وهذا ما يبيح لنا القول بأنَّ مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عِبرَ تفاعل تجربتين تاريخيتين طويلتي الأمد: تجربة الواقع وتجربة الفكر، وأنَّه قد يكون من التبسيط اختزال هذهِ الجدلية التاريخية في أحد طرفيها فقط.

وفي مناخ تنويري، تميز بالنضال ضدَّ النزعة المُطلقة في الحكم وضدَّ النزعة التعسفية والاستبدادية، ارتبطت فكرة حقوق الإنسان بالنزعة الفردانية Individualism، المُمجِّدة لحرية الفرد ولإرادتهِ وعقلهِ، بفكرةِ العَقْد الإجتماعي Social Contract، كفكرةٍ ضابطة للأصل البشري التعاقدي لكلِّ سلطة، بفكرةِ الحقِّ الطبيعي القائمة على وجود حقوق طبيعية راسخة لدى الإنسان، أهمها الحرية أم الحقوق الإنسانية جميعاً. ولعلَّ الجملة التي أوردها توماس هوبز Thomas Hobbes ) 1679-1588 ) في (اللفياثان)(29) سنة

ص: 207

1651، تجمع بشكل لمَّاح هذه العناصر الثلاثة (الحرية، التعاقد، الحق الطبيعي)، حيث يقول: (الحق الذاتي الطبيعي الذي تعود الكُتَّاب على تسميتهِ بالحقِّ الطبيعي -هو الحرية التي يملكها كل إنسان في أن يستعمل كما يشاء قدراته الخاصة)(30).

تُشکِّل هذهِ الروافد الثلاث الكبرى، التي تصب كلَّها في دائرةِ حقوق الإنسان، عائلةً فكريةً واحدة. فهي جميعاً تعكس التحولات الكبرى التي حدثت في التاريخ الحي وفي الفكر، والتي أسهمت في إحداث تعديلاتٍ كبرى على أساس الثقافة الغربية الكلاسيكية في اتجاه إثبات دور أكبر للعقل في الكون (العقلانية Rationalism)، وإثبات صورة الطبيعة كنظامٍ مستقل له نواميسه الخاصة (الوضعية Positivism)، وإقرار إرادة الإنسان بما لها من قدرةٍ على الوعي بالحتميات المختلفة والتخلص من تأثيرها (النزعة الإرادية)، وذلك ضمن منظور الصيرورة والتحول في سياق التاريخ الحي (النزعة التاريخانية -His toricism)، وفي أُفق منظور نمطي متصاعد للزمن.

وهذهِ الأفكار، في مراوحتها الجدلية بين نضالات وصِراعات الواقع التاريخي والاجتهادات الفلسفية في ميدان الفكر ستنتقل بالتدريج من بطون الكتب ودوائر الخاصة إلى رحاب الواقع السياسي، كما ستتحول بالتدريج من معايير أخلاقية مُلهمة وموضوعية إلى تشريعاتٍ وقوانين ضابطة ومُلزمة سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد العلاقات بين الدول.

ص: 208

المبحث الثاني: حقوق الإنسان في الفكر والشريعة الإسلامية

ينطلق الإسلام من اعتقادٍ راقٍ في نظرتهِ للإنسان؛ حيث جعل الله (عز وجل) الإنسان خليفةً له في الأرض لعِمَارتها(31)، وإقامة أحکام شریعتهِ فيها، فالإنسان هو محور الوجود، وهو المخلوق المميز بين سائر المخلوقات. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامٍ شمولية وثابتة بشأن حقوق الإنسان، تقوم على أساس الوسطية والاعتدال، حيث المساواة بين الناس والحوار والأخوة بين كافَّة الأُمم، وقد شَمِلَت حقوق الإنسان في الإسلام الحقوق الخاصة الفردية، إلى جانب الحقوق الأخرى الإقتصادية والثقافية والإجتماعية. وقد سبقت الشريعة الإسلامية الغرَّاء المعاهدات الدولية والإعلانات والمواثيق الدولية والتشريعات الوطنية كافَّة منذ خمسة عشر قرناً في مجال حقوق الإنسان والاعتراف بمركز الفرد، وإحاطتهِ بتكريم وتفضيل على كثير من المخلوقات.

وردت كلمة (إنسان) في القرآن الكريم (65) مرة بمعنى المخلوق، وأنَّه عبد الله، «الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» (سورة الرحمن، الآيات: 1 - 4)، لذلك أشار الفقهاء إلى حقوق (العِباد)، في مقابل (حقوق الإنسان). فالوضع الطبيعي هو العناية بالإنسان قبل العناية بحقوق الإنسان، لأنَّ هذهِ الحقوق إنَّما أُضيفت للإنسان واستحقها لكونهِ إنساناً، وليس لأنَّه كائن من الكائنات ومخلوقٌ من المخلوقات، وقد فضَّل الباري (سبحانه وتعالى) الإنسان على باقي المخلوقات والكائنات، فلهُ من الحقوق ما ليس لها، ومن حقوقهِ تسخيرها واستعمالها لمصلحتهِ(32). ولقد حدد الإسلام رسالة الإنسان في الحياة من خلال جعلِهِ خليفةَ الله في أرضهِ، عندما يُبلِّغ الملائكة خلقهُ (سبحانه وتعالى) لآدم (عليه السلام) قائلاً: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

ص: 209

خَلِيفَةً» (سورة البقرة، آية: 30)، وأكَّد القرآن الكريم ذلك في سورةِ الأنعام، إذ ورد فيها: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ» (سورة الأنعام، آية: 165)، وفي موضعٍ آخر يقول القرآن الكريم: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» (سورة فاطر، آية: 39).

واستخلافُ الإنسان في الأرض يعني التكريم والرعاية والإنعام بالشرف والعِزَّةَ عليه، ويؤمن المسلمون أنَّ الله (سبحانه وتعالى) خَلَق الإنسان على أحسن صورة جسداً وروحاً، فنظر الإسلام نظرة تكريمٍ للإنسان، حيث أمر الباري (عز وجل) ملائكته بالسجود له، فقال (سبحانه وتعالى): «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى» (سورة البقرة، آية: 34). ومنها ما يتعلَّق بكمال الإنسان حيث خلقهُ اللهُ بريئاً من كلِّ انحراف؛ أي ما يُعرف في الإسلام ب(الفِطْرة)، وما الانحراف إلاَّ عارضٌ خِلافا لشريعةِ اللهِ (سبحانه وتعالى) تحت تأثير شهوات الإنسان الخاصة أو سوء التربية وغيرها، ويستحق عندئذٍ العقوبة، ومنها ما يتعلَّق بمسؤوليتهِ عن سلوكهِ وتصرفاتهِ على أساس إقامة العدل والمُساواة؛ لضمان السلام والخير والمصلحة للجميع(33).

وفي ضوءِ ذلك فخلافة الإنسان في الأرض تشریفٌ وتمكين لهذا الإنسان، ومن أسباب التكريم والتفضيل أنَّ الباري (عز وجل) يقول: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا» (سورة البقرة، آية: 31)، و «عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (سورة العلق، آية: 5)، و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» (سورة الرحمن، آية: 4)، والبيان ليس مجرد النُطق والكلام بل - قبل ذلك - فِکرٌ ونَظْمٌ للأفكار، ثمَّ بيانها، والأهم من ذلك هو أنَّ الباري نَفَخ فيهِ من روحهِ: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (سورة الحجر، آية: 29)، وهذا النوع من التكريم سبب سموِّهِ وتفوقهِ ومنبع مواهبهِ ومؤهلاتهِ والمدد اللائم لتساميه وترقيه(34)، حيث تعهَّد الباري (سبحانه وتعالى) بني البشر، فأرسل لهم رُسلَهُ بالأدلةِ والبيانات يُبشِّرونهم،

ص: 210

ويُنذرونهم ويقودونهم إلى صراط العزيز الرحيم: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (سورة الأنعام، آية: 153).

وقد أشار عدد من الدارسين إلى أنَّ حقوق الإنسان في الإسلام ليست مجرد حقوق؛ وإنَّما هي ضرورات و واجبات شرعية؛ أي أنَّ حقوق الإنسان هي قواعد آمرة، ومصدرها إلهي لا وضعي، إنَّما هي جزء من الشريعة الإسلامية القائمة على تأمين الصالح العام للإنسان ولبني البشر کافَّة. وهناك أربعة مصادر أساسية لحقوق الإنسان في الإسلام، هي مصادر الشريعة الإسلامية(35)، وتتمثل بالقرآن الكريم باعتبارهِ مصدراً أول تتفرع عنه بقية المصادر الأخرى، ويتناول القضاء على التقاليد غير المعقولة في جميع شؤون الإنسان، وإصلاح المجتمع إصلاحاً شاملاً في عقائدهِ الدينية أو في صِلاتهِ الإجتماعية من خلال الدعوة إلى حياة إنسانية فُضلی دون تمييز في الحقوق والواجبات، بسبب الجنس أو اللغة أو العِق والدعوة إلى الخير وتجنب كلَّ شر، والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والدعوة إلى السلام بين الناس، وجاء القرآن الكريم بصفتهِ المصدر الأول للشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان بأحكامٍ كلِّية وقواعد عامة لا تقبل التغيير والتعديل كعدم التمييز بين أبناء الشريعة الإسلامية وحماية حقوق الإنسان الأساسية من حريتهِ الشخصية وحصانة بيتهِ، وصيانة مالهِ ودمهِ، وحقِّ كلِّ إنسان في العمل، وحقِّهِ في المجتمع هي ضمان حياة كريمة، وعدم الإكراه في الدين والعدل في الحكم.

أمَّا المصدر الثاني لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية فهو السُنَّة النبوية الشريفة، وهي كل ما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو صفة خلقية... والسُنَّة النبوية حُجَّة شرعية، قال الله (سبحانه وتعالى): «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» (سورة النساء، آية: 80). والسُنَّة النبوية تابعة للقرآن الكريم وبيان له، إمَّا تفريع على قواعد القرآن أو شرح لكُلِّيهِ، وبسطٌ لمُجملهِ، أو وضع قاعدة عامة

ص: 211

مُستمدة من أحكامٍ جزئية أو من قواعد كُلِّية فيه، فالسُنَّة هي التجسيد والتنزيل للقِيَم في الكتاب والسُنَّة على حياةِ الناس، وتقويمها بها، والتجلِّي المعصوم للقِيَم في الواقع؛ هي السُنَّة العملية من سُنن النبوة، وهي وإن كانت تُشكِّل حقبة تاريخية تمَّ من خلالها بناء أنموذج الاقتداء والتأسِّي في كل المجالات والحالات التي مرَّت بها مسيرة النبوة ابتداءً من قولهِ (سبحانه وتعالى): «اقْرَأْ» وانتهاءً بقولهِ (عز وجل): «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (سورة المائدة، آية: 3)، بكل ما فيها لتكون السيرة أنموذج اقتداء في كلِّ ما تُعاني الأمة وما يعرض لها على مستوى الفرد والجماعة والدولة والسِلم والحرب... إلاَّ أنَّها تختلف عن التاريخ بأنَّها فترة بناء الأنموذج، فترة المرجعية ومصدرية التشريع في جميع مجالات الحياة؛ لأنَّها مُسددة بالوحي ومؤيدةً بهِ، فيما يُعتبر التاريخ اجتهاد البشر وفعلهم وخطأهم وصوابهم في محاولاتهم لمُقاربةِ ومُحاكاة الأنموذج، فالتاريخ بهذا يكون محلَّ عِبرَة ودَرس و تجربة تُضاف إلى عقل الأمة وخبرتها، لكن لا يرقی بحالٍ من الأحوال ليكون مصدر تشريع و معیار تقویم و تشکیل مرجعية.

وبالتالي فإنَّ لدستور المدينة المنورة قَصَبُ السَبْق بالنسبةِ لكلِّ دساتير العالم، فهو يُعتبر أول تجربة سياسية إسلامية في صدر الإسلام بقيادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كان له دور بارز في إخراج المجتمع من دوامة الصراع القَبَلي إلى رحاب الأخوة والمحبَّة والتسامح، إذ ركَّز على كثيرٍ من المبادئ الإنسانية السامية كنُصرة المظلوم، وحمايةِ الجار، ورعايةِ الحقوق الخاصة والعامة، وتحريم الجريمة، والتعاون في دفع الديَّات، وافتداء الأسرى، ومساعدة المَدِین، إلى غير ذلك من المبادئ التي تُشعر أبناء الوطن الواحد بمختلف أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم أنَّهم أسرة واحدة مُكلَّفة بالدفاع عن الوطن أمام أيِّ اعتداء يفاجئهم من الخارج. فالمُساواة قامت بينهم على أساس القيمة الإنسانية المشتركة؛ الناس جميعاً متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف

ص: 212

والمسؤولية، وأنَّه ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول(36).

ويأتي الإجماع كمصدر ثالث لحقوق الإنسان في الإسلام، وهو ما يصدر عن علماء الشريعة في كلِّ زمانٍ وقت إرشاد القواعد والمبادئ العامة في القرآن الكريم والسُنَّة النبوية الشريفة وتطبيقاتها التفصيلية، ومن طرف الإجماع الرأي الإجماعي والتعامل الإجماعي ورأي بعض علماء الشريعة مصحوباً بسكوت الباحثين الذين أطلعوا على هذا الرأي أو التعامل لدى بعض علماء الشريعة دون اعتراضٍ عليه من الباقين الذين أطلعوا عليه(37).

أمَّا المصدر الرابع لحقوق الإنسان في الإسلام فهو الاجتهاد، وهو الرأي الفردي الصادر عن علماء الشريعة في كلِّ زمانٍ و مکان وفق إرشاد القواعد العامة في القرآن الكريم والسُنَّة والإجماع، والاجتهاد - وهو الرأي غير المُجمع عليه - قد يكون اجتهاداً تفسيرياً عند الإبهام في النصوص الشرعية تجاه بعض المسائل الحقوقية الجديدة، كما يكون عند سکوت هذهِ النصوص فيها يجد من وقائع حقوقية لا نصَّ عليها(38).

إنَّ ما يُميِّز حقوق الإنسان في الإسلام هو أنَّها ليست حقوقاً مُطلقة؛ لأنَّ الإسلام طالما ينطلق بوجهٍ عام من واجباتِ الأفراد، فإنَّه يضع منذ البداية حدوداً لحقوق الإنسان(39)، إنَّها حدود الحلال والحرام، وحدود الفقه الذي يُراعي تبدل الأماكن والمصالح والأزمان فلا حرية مُطلقة للإنسان؛ بل حرية مقيدة بمصالح الناس، وبشخصيةِ الإنسان المميزة عن سائر المخلوقات من حيث العقل والضمير والشعور، ولا ملكية مفتوحة للفرد في مواجهةِ الآخرين من بني مجتمعهِ، بل ضوابط يحددها التكافل الإجتماعي بين الناس، ولا استئثار بالموارد والثروات على حساب الشعوب، وإلاَّ نقع في إمبرياليةٍ متمادية واستغلالٍ بشع لحقوق الإنسان في مناطق محددة من العالم(40).

كما أنَّ حرص الإسلام على تأكيد المساواة وهدم كافة الحواجز كان من أهمِّ العوامل

ص: 213

التي جعلت العبيد والمقهورين والمظلومين یهرعون إليه. وقد كان هذا التأكيد مع سلوك المسلمين دافعاً للمفكِّر الهندي (دالا) Maneckji Nasserwanji Dhalla (1875 - 1956) إلى القول: (إنَّ دین مُحمَّد [(صلى الله عليه وآله وسلم)] وحده بين أديان العالم هو الذي ظلَّ متحرراً من الحاجز اللوني... إنَّه يفتح ذراعيه على وسعها ترحيباً بمُعتنقيه أياً كانوا زنوجاً أو منبوذين، وهو يمنح الجميع حقوقهم و میز اتهم دون تحفظ، ويحتضنهم في نطاق المجتمع مثلما يحتضنهم في نطاق العقيدة، والإسلام يستبعد كلَّ حواجز المولد واللون، ويقبل شتَّى معتنقيه ضمن جماعة المسلمين على أساس المساواة الإجتماعية التامة)(41).

كذلك فإنَّ غريزة حب الذات التي أودعها الله (سبحانه وتعالى) في أعماق نفس كلِّ إنسان، هي التي تدفعه إلى الدفاع عن حقوقهِ وحماية مصالحهِ، والأوامر الدينية في هذا المجال هي من نوع الأوامر الإرشادية التي تساعد الإنسان على تخطِّي العقبات وتحمل الصِعاب التي تعترض الدفاع عن الحقوق. فالقرآن الكريم يُشجع من انتُهِك شيءٌ من حقوقهِ أن يجهر بالاعتراض وإعلان ظلامتهِ، وفي ذلك يقول الله (سبحانه وتعالى): «لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا» (سورة النساء، آية: 148). ومن سعی و تحرك للانتصار لحقوقهِ والدفاع عن مصالحهِ المشروعة، فإنَّه قد مارس حقَّه الطبيعي ولا لوم عليه ولا مؤاخذة، وذلك لأنَّه أنطلق مما هو مستقر في قناعتهِ وعقیدتهِ ووجدانه، وفي ذلك يقول (عز وجل): «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (سورة الشورى، آية: 41). ثمَّ إنَّ الدفاع عن حقوق الإنسان وفقاً لبعدهِ العَقَدي لا يقف عند حدود المصالح المُرتبطة بذات الشخص، بل يعني تحمل المسؤولية تجاه أيِّ حق إنساني يُنتهك، حتَّى أنَّ الله (سبحانه وتعالى) یُحرض المؤمنين على القتال نُصرةً للمُستضعفين، وفي ذلك يقول (سبحانه وتعالى):

ص: 214

«وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا» و (سورة النساء، آية: 75).

وإذا كانت سائر الأنظمة والتشريعات تفتقر إلى نظامٍ عِقابي رادع لكلِّ من تُسوِّل له نفسه انتهاك حقوق الإنسان، فإنَّ الشَارع الحكيم حفظاً للبُعد العَقَدي الذي يقرر قدسية مثل هذهِ الحقوق، وقد قرر نظاماً عقابياً إسلامياً يُعد من أكثر النُظُم العقابية أصالةً وتطوراً ونجاعة؛ إذ فيه عناصر يتفق فيها مع بقية قوانين العالم القديم والحديث، وفيه عناصر خاصة لا يُشاركه فيها أيِّ قانون من القوانين، ولا شكَّ أنَّ إقرار هذا النظام العِقابي من شأنهِ أن يحفظ البُعد العَقَدي الذي يتقرر من خلالهِ مكانة وقُدسية هذهِ الحقوق.

وبالتالي، فإنَّ حقوق الإنسان لا يمكن أن يتقرر لها البُعد العَقَدي ما لم تكن مستقرة في وجدان الناس وفي ضمائرهم، وذلك بما یُشکِّل عقيدة في فؤادهم وتوجه فكرهم وتنظيرهم وتفعيلهم، وأنَّ ذلك يحتاج إلى جانبين أحدهما إيجابي يتمثل في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عنها باستماتة، وجانب سلبي يتمثل في ردع كل من لا يلتزم باحترام وحفظ مكانتها وقدسيتها.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام ضرورة التنويه على أنَّ المبادئ التي حرصت الشريعة الإسلامية على احترامها تتطور بذاتها في التطبيق العملي لكي تواجه وتشمل كلَّ التطورات التي تُسفر عنها متطلبات الحضارة في مراحلها المختلفة، لأنَّ الشريعة الإسلامية شُرِّعت للناس کافَّة وفي كلِّ مکانٍ و زمان وهي الشريعة الخاتمة..

وأخيراً، يمكن لنا القول أنَّ الدين الإسلامي الذي كرَّم الإنسان وفضَّله على غيرهِ من المخلوقات، بحيث سخَّر جميع ما في الكون لخدمتهِ، وجعله الله (سبحانه وتعالى)

ص: 215

خليفة له في الأرض: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (سورة البقرة، آية:30)، لا يمكن أن يكون قد قصر في إقرار حقوقهِ الأساسية. فحقوق الإنسان في الإسلام مما لا يمكن التغاضي أو غضِّ الطَّرفَ عنها؛ للحيز الذي تشغله في الشَرع المقدس، وما هذا الذي عرضناه في ثنايا البحث سوى غيضٌ من فيضٍ يتَّسع الحديث فيه بما لا يتناسب مع محدودية هذهِ الصفحات. ولكن الأمر المؤسف أنَّ هذا الجانب - حقوق الإنسان في الإسلام - مُغيَّب في ظلِّ الخلافات الحادة بين المسلمين؛ مما جعل الكثير منهم يجهل وجود هذهِ الحقوق في الإسلام.

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصرة:

تُعد قضية حقوق الإنسان من أهمِّ القضايا النظرية - إن لم تكن أهمها - في الفكر العربي والإسلامي المعاصرين، ذلك أنَّ الأزمة الحقيقية في تعامل الإسلام مع الحداثة هي أزمة حقوقية: حق التعبير، حق حرية الاعتقاد والممارسة، حق الحياة، وحقِّ إنهائها، حق حدٍّ أدنى من الدخل للفرد، حق حدٍّ أدنى من التعليم، حق مساواة المرأة بالرجل، حق التحرر من الرِّق، وغيرها من الحقوق، التي تُمثل نقاط صِدام أساسية مع الحداثة العالمية - ولا نقول الغربية - حيث تحرك العالم منذ زمن طويل في اتجاه تحرير الأرقاء، ومساواة المرأة بالرجل، وحرية التعبير والاعتقاد والممارسة، بينما تخلَّفت معظم الدول الإسلامية عن هذهِ الحركة؛ وذلك لأنَّ جموع المسلمين، وخاصةً علماء الدين، يرون تعارضاً بين الشريعة وبين القوانين الوضعية في هذا الصدد.

ولا يمكن حلِّ الأزمة إذا أغفلنا الجانب النظري منها، كما لا يمكن حلِّ الجانب النظري من الأزمة إلاَّ بتحليل جذورها ومحاولة حلِّها على هذا المستوى.

ص: 216

والمجال الأساسي الذي يدرس حقوق الإنسان في دائرۃِ المعارف الإسلامية هو علم أصول الفقه؛ فهو العلم الذي يُناظر فلسفة القانون في الفلسفة الغربية من جهة، وفلسفة التأويل من جهةٍ أخرى. وتُعد دراسة هذا العلم في سياق الدراسات الفلسفية النقدية أمراً بالغ الأهمية، لأنَّه يُدرس بشكلٍ تقليدي، يقوم على التكرار وترسيخ القديم، في المعاهد والكلِّيات الدينية، بينما يمكن تحليله وتأويل مفاهيمه بناءً على مناهج حديثة، تأويلية وأنثروبولوجية وإجتماعية ونفسية في أقسام الفلسفة. وبالفعل، فهذا العلم هو ما يقرر معنى الحق في الإسلام، وأنواع الحق، وأقسامه، وأطرافه، بل ونظريته العامة، وإن كان بشكل غير مباشر. ويحتاج الأمر إلى دراساتٍ تستخرج نظرية الحق ومفهومه من هذا العلم، لمزیدٍ من بلورةِ أسباب هذه الأزمة..

ويمكن القول بأنَّ من أهمِّ أسباب أزمة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي هو عدم توفر مفهوم الحق الطبيعي في علم أصول الفقه؛ فهناك (حقوق الآدمي) وهي حقوق مُعطاة من الله (سبحانه وتعالى) إلى البشر، لكنها ليست أصيلة في الطبيعة البشرية والاجتماع الإنساني، وبالتالي يفقد الإنسان استقلاله القانوني أمام الفقه. وقد تعرضت بعض الكتابات الفكرية والفلسفية لهذي المشكلة، إذ هناك بعض المقالات والفصول المتفرقة لحسن حنفي المُفكِّر المصري، خاصةً ما تعلَّق منها بعلم أصول الفقه في الوقت نفسهِ، وهناك كتاب (الديمقراطية وحقوق الإنسان)(42) لمحمد عابد الجابري (1936 - 2010)، وهناك (نحو تطوير التشريع الإسلامي) (43) لعبد الله أحمد النعيم تلميذ المُفکِّر السوداني محمود طه(44)، وكذلك مُصنَّفه:,Human Rights and Religious Values An Uneasy Relationship? Rodopi B.V., Amsterdam, New York: NY, 1995, printed in the Netherlands.. کما کتب كلٌّ من نصر حامد أبو زيد (1943 - 2010)، وعبد الله العروي، ومحمد أركون (1928 - 2010)، وطه عبد الرحمن، والطيب تيزيني،

ص: 217

وأدونيس، مقالات عن حقوق الإنسان في الإسلام، لكن كلِّ ذلك - باستثناء كتابات عبد الله النعيم - إمَّا ظلَّ متفرقاً غير متبلور، وغير نافذ إلى أساس الأزمة في التشريع الإسلامي نفسه، وإمَّا دار أصلاً فَلكِ دراسةِ المفاهيم في الثقافةِ الغربية. إلى جانب هذهِ المقالات والدراسات كتب عدد من المُفكِّرين، الذين لم يتمتع أغلبهم بمناهج البحث الفلسفي، أو لم يكونوا أكاديميين، مُصنَّفات كثيرة تحاول بحث قضية حقوق الإنسان في الإسلام، وانتهوا إلى أنَّ الإسلام قد سبق المواثيق الدولية في إقرار حقوق الإنسان، دون بحث المفاهيم نفسها، ولا نظرية الحق، وكموقفٍ دفاعي ضدَّ الهجوم العلماني والغربي على المعسكر الأصولي، مثل: مُحمَّد أبو زهرة (1898 - 1974)، ومحمد عِمارة، وزكريا البري، وعلي عبد الواحد وافي (1901 - 1991)، وفرج محمود حسن أبو ليلى، ومحمد الغزالي (1917 - 1996)، وأحمد الرشيدي، وغيرهم.

ولم يزل مجال حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر مجالاً بِکراً، يحتاج إلى مزيير من عقلياتٍ شابة نقدية متخصصة، لا ترى بداً من دراسة العلوم الإسلامية، إذا كان الهدف هو نقد الثقافة، وتطويرها، والاتجاه نحو حداثةٍ عربية ذات أساس نظري مكين.

ص: 218

المبحث الثالث: دراسة مقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي

يُشير الموروث الإسلامي الذي لا يزال بين أيدينا على أنَّ الدين الإسلامي ومن ثمَّ الأمة المسلمة، هي أول الأمم التي امتلكت وثائق ترعى حقوق الإنسان وتُنظِّم شؤونه وعلاقاته بعضه مع البعض الآخر، وبينه وبين غير المسلمين، وكذا العلاقة بين المجتمع والدولة الإسلامية ممثلةً بحكومتها.

وليس جديداً أن نقول: أنَّ أول تلك الوثائق وأعمقها، بل وأقدمها وأرقاها اهتماماً بالإنسان من حيث كونهِ إنسان، فضلاً عن تثبیت ما لهُ وما عليه، هي وثيقة القرآن الكريم، كتاب الله (عز وجل) المُنزَّل على رسولهِ الكريم مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ نظَّمت كل ما يتعلَّق بالإنسان، فرداً أو أسرة أم مجتمعاً، بشكلٍ لا يقبل التجاوز على حقوق الغير، ولا استلابها من قبل السلطات الحاكمة.

وحيث لا يسع المجال هنا لإيراد جميع ما جاء به القرآن الكريم من آیاتٍ بیناتٍ نظَّمت شؤون الأفراد والمجتمعات، فإننا سنورد أمثلةً على ذلك، ومنها:

أولاً: قال سبحانه وتعالى): «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (سورة الحديد، آية: 25)، هنا نُلاحظ أنَّ الإسلام أول من دعى وعَمِلَ على حفظِ حقوق الإنسان، وتأمين مصالحه، وكماله في الدنيا والآخرة(45). إذ تُشير الآية إلى أنَّ الله (سبحانه وتعالى) ولدرجةِ اهتمامهِ بأن تسود العدالة بين الناس، فهو لم يُرسل الرُسُل ويُنزِّل معهم الكتب السماوية لهداية الناس فحسب، بل وأنزل معها الميزان الذي يُمثل عدالة السماء في الأرض، وذلك للحكم بين الناس بشكلٍ متساوي ليأخذ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه بالقسط، وليس بالتمايز بحسب الجنس واللون والمكانة الإجتماعية.

ص: 219

ثانياً: قوله (سبحانه وتعالى): «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ «إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» (سورة المؤمنون، الآيات: 5 - 6). هنا يلتفت الشَرع المقدس إلى مسألةٍ مهمة في حقوق الأفراد، تلك هي الغريزة الجنسية التي لا بدَّ من السيطرةِ عليها من خلال تنظيمها، لأنَّ عدم التنظيم بل والتقيد في بعض جوانبها سيجعلها سائبة، فتؤدي إلى إحداث مشاكل إجتماعية عديدة، يكون نِتاجها تفكك المجتمع وانتشار الأمراض فيه، لذا فقد قيَّدها، ووضع لها شروطا من شأنها أن تجعل ممارستها مقترنةً بالتنظيم المشروع، كي لا تتحول المرأة من خلالها إلى كائن مُبتذل لا يُنظر إليه إلاَّ جسداً ورغبة، وعليه فإنَّ من أراد أن يسلم من المخاطر ويُحقِّق لنفسهِ السعادة، فلا بدَّ له من قيود تُحدد غرائزه وتُنظِّمها(46).

ولم يقف الشَارع المقدس عند ذلك، بل شَمِلَ الغرائز الإنسانية كلَّها، ليجعلها مُنظَّمة ومُنسجمة مع حركة المجتمع وتطورهِ. فلو أخذنا الأكل على سبيل المثال، لرأينا أنَّ الخالق (عز وجل) قد وضع قيوداً عليهِ حددها بعدم الإسراف، بقولهِ (سبحانه وتعالى): «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (سورة الأعراف، آية: 31). وذلك لأنَّ الإسراف سيؤدي إلى الإضرار بالجوانب الإقتصادية للمجتمع، كما أنَّ من نتائجهِ حصول حالة الإشباع والاكتفاء عند طبقةٍ دون أخرى فينشأ التمايز الطبقي بين الأفراد، وعندها لا تتحقق العدالة في المجتمع.

إنَّ فكرة التقييد التي وضعها الخالق (عز وجل) على الإنسان، هي ليست لإضرارهِ بل الإسعادهِ، فإذا كانت في الدين بعض القيود والمُحددات، فهذا بكلِّ تأكيد موجه لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنَّ إطلاق العنان لغرائز الإنسان سيؤدي إلى إحداث أضرار كبيرة على مستوى الأفراد والمجتمعات(47).

ثالثاً: قال (سبحانه وتعالى): «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (سورة

ص: 220

البقرة، آية: 256). هذهِ الآية تتعرض للحرية الفكرية والاعتقادية، وتمنح كلماتها القليلة الإنسان حريته فيما يعتقد، على أن لا یُجبر على الدخول في الإسلام مُكرهاً، وهذا ما لا يرضاه الله (عز وجل)، ولا رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي نهى عن ذلك، بل إنَّ النبي والصحابة من بعدهِ لم يستعملوا الإجبار والإكراه، وقد ظهر ذلك واضحاً في تعاملهم مع الأقليات الموجودة في المجتمع الإسلامي من نصارى ويهود، ولو كان هناك إكراهٌ في الاعتقاد لكان إجبار الأكثرية الحاكمة للأقليات التي خضعت تحت سلطتهم أمراً هيناً، ولما أوصى الدين بالإحسان إليهم والتعايش السلمي معهم(48). وهذهِ بلا شك واحدة من أهمِّ مرتكزات الحرية الفكرية التي أوجدها الإسلام وسار عليها المجتمع الإسلامي ولاسيَّما في عصره الأول عصر النبوة(49).

رابعاً: قوله (سبحانه وتعالى): «قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» (سورة الأعراف، آية: 123). وقد وردت هذهِ الآية بصيغةِ النقد لفعل فرعون، مدللةً على أنَّه قد صادر حياتهم وإرادتهم التي كان يرى أنَّها له وحده، في حين أنَّ القرآن الكريم يريد للإنسان أن يكون صاحب رأي حر غير مسلوب الإرادة في التفكير والتدبير والعمل، فالخالق یری أنَّ من حقِّ الفرد تبنِّي الآراء التي يؤمن بها، في حين كان فرعون یری أنَّ ليس من حقِّ أتباعهِ تبنِّي الآراء لوحدهم، بل لا بدَّ لهم من أن يستمعوا إلى الرأي منه بوصفهِ الحاكم، وهذا بحدِّ ذاتهِ مصادرة للرأي الذي لم يرتضهِ الدين الإسلامي.

وقد جسَّد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) موضوع حرية الرأي واحترام آراء الرعية، على الرغم من كونهِ حاکماً وذو سلطة، بقولهِ: (إنِّي لأعلم بما يصلح أمركم، ولكن هيهات أن أفعل ذلك بفساد نفسي )(50). وهذا يعني أنَّ الإمام لو استخدم هذا الأسلوب مع رعيتهِ، فقد يكون فيه إصلاح أمر حكومتهِ، ولكن بلا شك سيكون على

ص: 221

حساب قيمهِ ومبادئهِ ودينهِ(51).

أمَّا الوثيقة الإسلامية الثانية، فتتمثل في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك وثيقة المدينة المنورة التي نظَّمت العلاقة بين المسلمين بعضهم مع البعض، وبعضهم وبين غير المسلمين، والتي مثَّلت أرقى صور احترام حقوق الإنسان على الرغم من قلَّةِ عدد موادها(52).

ومن الأحاديث النبوية التي عالجت بل واهتمت بحقوق الإنسان الإجتماعية والإنسانية والأخلاقية، وحددت علاقة المسلم بأخيهِ المسلم، وأكَّدت على عدم التجاوز على حقوق الآخرين، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يحلُّ لأمرئٍ مالُ أخيهِ إلاَّ ما أعطاهُ من طيبِ نفسٍ منهُ، فلا تَظْلِمَنَّ أنفُسكم)(53). هذا الحديث يؤسِّس لحُسن العلاقة بين المسلمين ويؤشر أُسس التعامل فيما بينهم، ولاسيَّما ما يتعلَّق منه بأموال الغير التي تكون مُحرمة ما لم تأتِ برضى وطيب خاطر.

ونجد في حديث آخر نبذاً للتفرقة والتمييز بين المسلمين، بل وبين البشر على أساس اللون أو الجنس أو الطائفة، بقولهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأبيضٍ على أسود فضل إلاَّ بالتقوى)(54)، وهذهِ أجدها صيغة متقدمة لاحترام الإنسان بوصفهِ إنساناً، بعيداً عن لونهِ وجنسهِ وقوميتهِ وطائفته، إذ لم يضع النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ ضابطة واحدة للتفريق بينهم، وهو التقوى، أي الإلتزام بالإسلام الصحيح، وتطبيق مبادئهِ وأداء واجباتهِ واجتناب نواهيه.

وحدد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثٍ آخر العلاقة بين السيد والعبد، ضامناً بذلك حقوق العبد، بقولهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): (إخوانكم

ص: 222

حولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يدهِ فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تُكلِّفوهم ما يغلبهم)(55).

كما لا يخفى أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ساوى بين الرجل والمرأة في واحدةٍ من أهمِّ الواجبات، وهي الحصول على العلم وطلبه، بقولهِ: (طلبُ العِلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة)(56). فلم يكتفِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه طلب العلم بل رفع من أهميتهِ بأن جعله واحداً من الفرائض الواجب أداؤها، والتي ساوى فيها وفي تحصيلها بين الرجل والمرأة، بعيداً عن التمييز على أساس الجنس.

فضلاً عما تقدم، فإنَّ هناك العديد من الوثائق التي صدرت عن عددٍ من أئمة أهل بيت النبي عليهم السلام، فيها تأكيد على حقوق الإنسان وتأكيد على عدم التجاوز عليها، ويأتي في مقدمتها عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى عامله على مصر - موضوع بحثنا - الذي يُعد دستوراً يُنظِّم علاقة الحاكم بالرعية، ويُحدد أُسس العلاقة معهم ولا يسمح للحاكم بالتجاوز عليهم(57).

کما تُعد رسالة الحقوق للإمام علي بن الحُسين زين العابدين (عليه السلام) وثيقة مهمة عُنيت بحقوق الإنسان بشكلٍ عام وليس المسلم فحسب، فقد تضمَّنت خمسون حقاً، شملت حياة الإنسان وكل ما يتعلَّق بحريتهِ وعقيدتهِ وفكرهِ وتعليمه، كما تضمَّنت بعض الحقوق أُسس العلاقة داخل المجتمع، إذ ركَّزت على حقوق الوالد على الولد، والزوجة على الزوج، والمُعلِّم على المُتعلِّم.. وغيرها(58).

وبالانتقال إلى حقوق الإنسان في الفكر الغربي، فإنَّ التاريخ يُسجل لنا أنَّ وثيقة العهد الكبير (الماغنا کارتا) هي أقدم وثيقة يعود تاريخ صدورها إلى عام 1215 م، وهي مع ذلك لم تُفصل في حقوق الإنسان، بل حددت من سلطات الملك والأشراف ورجال الدين، مما عُدَّ ذلك انتصاراً لصالح الشعب(59).

ص: 223

وصدرت بعد ذلك بقرون وثائق عُنيت بحقوق الإنسان من دولٍ عدَّة، كل على انفراد، مثل ميثاق الحقوق الإنكليزي عام 1668 م(60)، وميثاق الحقوق الأمريكي، الذي صدر بعد إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا في 4 / تموز / 1776 م(61)، في حين جاء إعلان الحقوق الفرنسي في أعقاب الثورة الفرنسية في 26 / آب / 1789 م(62).

بيد أنَّ قانوناً منظَّماً يحظى بالقبول الدولي العام لم يصدر إلاَّ في عام 1948 م، إذ صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول، والذي وقَّعت عليه في حينهِ ثمان وأربعين دولة، متضمناً ديباجة وثلاثون مادة(63).

مما تقدم نستنتج أنَّ الفارقة الزمنية بين أول تشريع إسلامي لحقوق الإنسان ممثلاً بالقرآن الكريم، وأول وثيقة غربية تُعنى بجانب من حقوق الإنسان هو ما يقرب عن ستة قرون، في حين شكَّلت الفاصلة الزمنية بين أول وثيقة إسلامية نظَّمت حقوق الإنسان، والوثيقة الغربية المُنظَّمة المُتمثلة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يزيد على اثني عشر قرناً، وهذا ما يدل على قِدَم التشريع الإسلامي المعني بهذا المجال.

بيد أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، لماذا تأخرت المجتمعات الإسلامية في ممارسةِ حقوقها والتمتع بها؟

إنَّ الإجابة عن ذلك يُعيدنا إلى طبيعة الدولة الإسلامية في نهاية العهد الراشدي، وهي التي شَهِدَت تمرد الوالي على الخليفة، وتحشيده الجيوش لمقاتلتهِ واغتصاب الحكم منه، ذلك الحكم الذي تسلَّمه وفقاً لمبدأ أُقرَّ في خلال العهد الراشدي بأكملهِ ذلك هو مبدأ أو قاعدة الشوری.

اتجهت أمور الدولة الدينية والسياسية بعد ذلك وتحديداً في العهدين الأموي

ص: 224

والعباسي، اتجاهاً مغايراً للمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم وأكَّدت عليها السُنَّة النبوية، والتي تمثلت باحترام الإنسان وحريتهِ ومُعتقدهِ، والتي منحته مجالاً واسعاً للتعبير عن رأيهِ، کما نهجت طريقاً جديداً في التداول السلمي للسلطة. فابتعدت القيادة الدينية - السياسية التي تمثل قمة هرم السلطة في الدولة الإسلامية كثيراً عن هذهِ المبادئ، وعملت على إقناع الناس بأنَّهم إنَّما يحكمونهم ويسوسونهم بحسب نظرية الحقِّ الإلهي، بوصف الخليفة ظل الله في الأرض.

وراح معاوية بن أبي سفيان (20 ق. ه. - 60 ه / 603 - 680 م) ومن بعدهِ الحُکَّام الأمويين بتهيئةِ طبقةٍ من الرواة ورجال الدين، من الذين أغدق عليهم الأعطيات لتدوين الروايات التي تحط من مكانة الخليفة (علي بن أبي طالب) وتُقلِّل من شأنهِ، حتَّى بلغ بهِ الأمر إلى أن أمر بسبِّهِ على المنابر وفي أوقات كلِّ أذان، وبذا استغل معاوية هؤلاء الرواة في سبيل إيجاد تبریر دیني لسلطان بني أمية، وكذلك لكبح الجماهير عن القيام بالثورة برادعٍ داخلي وهو الدين نفسه(64).

ونتيجةً لسياسة تحطيم الإطار الديني، التي اتبعها معاوية يُعاونه فيها طائفة من رواة الأحاديث المكذوبة، فقد کُمِّمت الأفواه، وسُلبت إرادة الناس في التعبير عمَّا يعتقدون، الأمر الذي جعل الناس يعتقدون أنَّ الثورة على الأمويين عملاً محظوراً وخارجاً عن الدين(65). وقد أدى ذلك إلى ظهور العديد من الثورات في العصر الأموي، كان من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: ثورة الإمام الحُسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) سنة 61 ه / 981 م؛ وحركة التوابين سنة 65 ه / 685 م؛ وحركة المختار الثقفي خلال الفترة 65 - 67 ه / 980 - 187 م؛ وثورة عبد الله بن الجارود سنة 75 ه / 694 م؛ وثورة زيد بن علي (عليه السلام) سنة 122 ه / 760 م؛ وثورة يحیی بن زید سنة 125 ه / 743 م؛ وغيرها(66).

ص: 225

ولا يختلف حال الإنسان وحقوقهِ في العصر العباسي عمَّا سبقه في زمن الأمويين، فقد استمر الظلم، ومُلاحقة المعارضين على الشُبهة، و إكراه الناس على بيعةِ الخليفة، وإشاعة مفهوم أنَّ الخليفة سلطان الله في أرضهِ، وليس للناس حق المعارضة، بل عليهم جميعاً الطاعة والتسليم والبيعة مخيرين أو مكرهين.

ومن أمثلة ذلك حرص أبو العباس السفَّاح (104 - 136 ه / 722 - 754 م) على أخذهِ البيعة من مُحمَّد ذو النفس الزكية (93 - 145 ه / 712 - 762 م) وأخيهِ إبراهيم، اللذان ظلا معارضان على الرغم من أنَّ العلويين جميعاً قد بايعوه(67)، فراح يتبع أثرهما الذي استكمله من بعده أبو جعفر المنصور (95 - 108 ه / 714 - 775 م)، أو راح يسأل عنهما بني هاشم رجلاً رجلاً، فكان كل منهم يقول: (يا أمير المؤمنين قد عَلِمَ أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسهِ، وهو لا يريد بذلك خلافاً ولا يحب لك معصية)(68).

ولعلَّ أبشع مجزرة ارتكبها المنصور بحقِّ الإنسانية، هي عندما أقدم على ملئ خزانةٍ في غرفةِ زوجة ابنه المهدي برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً و أطفالاً، وأوصى بأن لا يفتحها ابنه المهدي ولا يطَّلع عليها إلاَّ بعد هلاكهِ(69).

وكردةِ فعلٍ على سلب الحريات، وقمع المعارضين، فقد نشبت العديد من الثورات التي قام بها العلويون ضدَّ الحكم العباسي، كان من أبرزها: ثورة الحُسين بن علي صاحب فخ سنة 169 ه / 780 م؛ وثورة يحیی بن عمر العلوي سنة 250 ه / 864 م؛ وثورة مُحمَّد بن جعفر العلوي سنة 252 ه / 866 م؛ وثورة علي بن زيد العلوي سنة 256 ه / 870 م(70).

ولم تكن الثورات مقتصرةً على العلويين، بل شَهِدَ العصر العباسي الثاني ثورةً كبيرة امتدت بين سنة 255 - 270 ه / 869 - 883 م، تلك هي ثورة الزنج التي جاءت کردِّ

ص: 226

فعلٍ على الظلم والاضطهاد والتمايز الطَبَقي الذي شَهِدَهُ ذلك العصر، حين ساد الظلم اللعبيد من قبل طبقة الملاَّكين من أصحاب الأراضي المدعومين من السلطة، فكانت ثورة الأعراب الساخطين على النظام الإجتماعي من جهة وبين مالكي الأرض وأصحاب العبيد والخلافة من جهةٍ أخرى(71).

وقد كان من نتائج ذلك أن ظهرت العديد من الفرق الغالية في معتقدها، مثل المُرجئة والقدرية والجبرية والكيسانية.. وغيرها.

استمرت عملية التفريط بحقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي عِبرَ العصور المختلفة وصولاً إلى العصرين الحديث والمعاصر، واللذين شَهِدا تجاوزاً على الحريات، و تکميماً للأفواه، وانتقاماً من المعارضين بوسائل تعذيب شتَّی، فضلاً عن القهر والإذلال النفسي، كلَّها وسائل وأساليب جعلت المجتمع الإسلامي بعيداً كلَّ البُعد عن تمثيل أبسط الحقوق وأكثرها بديهيةً وهو حق العيش، ما جعل المجتمعات الإسلامية تختلف كثيراً عن المجتمعات الغربية في توثیق و تنظیم قوانین حقوق الإنسان والعمل على أساسها.

ص: 227

المبحث الرابع: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه).. الخصائص وسَمَات التميز

أأبا تراب وللتُّراب تفاخر *** إن كان من أمشاجهِ لشك طينُ

والناس من هذا التُّراب وكلَّهم *** في أصلهِ حمأٍ بهِ مسنونُ

لكن من هذا التُّراب حوافر *** ومن التُّراب حواجبٌ وعيونُ

فإذا استطال بك التُّراب فعاذرٌ *** فلأنت من هذا التُّراب جبينُ

ولئن رجعت إلى التُّراب فلم تمت *** فالجذر ليس يموت وهو دفين

لكنه ينمو ويفترع الثَّرى *** وترفُّ منهُ براعمٌ وغصونُ(72)

إنَّ البحث في مكانة ودور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التاريخ الإنساني بصورةٍ عامة والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، عملية شاقة ومتشعبة على كلِّ من ولج هذا الميدان، ولاسيَّما إذا كانت الحقيقة غايته والعِلم سبيله، وما يزيد من صعوبتها تداخلها مع المؤثرات السياسية والعقائدية والتاريخية وحتَّى النفسية، سواء في إرثها الماضي أم في واقعها الحالي، ناهيك عن مدى توافر القدرات العلمية والنقدية عند الباحث نفسه.

إنَّ الأمة الإسلامية كونها ذات رسالةٍ حضاريةٍ بحاجة إلى توظيف أدوات المعرفة والبحث العلمي معززةً بالشجاعة وروح النقد في عمليةِ البحث داخل موروثنا الحضاري العام وفي تفصيلاتهِ كافَّة، وما يتطلبه ذلك من الوقوف إزاء مضامين الإرث التاريخي وقفة تفحص دقيق، وتحليل مُعمَّق قبل التوصل إلى الأحكام الصحيحة والاستنتاجات

ص: 228

المبنية على الدليل المعرفي، وينبغي للباحث الموضوعي أن يتجنَّب عدداً من الأحكام أو الرؤى المُسبقة والجاهزة التي تنتشر في كثيرٍ من الكتابات التاريخية، والتي عدَّها كثير من الكُتَّاب خطوطاً حمراء لا يمكن في أيَّةِ حالٍ تجاوزها أو مناقشتها..

للإمام علي بن أبي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصولٌ وآراء تمتد لها في الأرض جذورٌ وتعلو لها فروع. أمَّا العلوم الإجتماعية الحديثة في كانت إلاَّ لتؤيد معظم هذهِ الآراء وهذهِ الأصول. ومهما اتخذت العلوم الإجتماعية من صورٍ وأشكال، ومهما اختلف عليها من مُسمَّيات، فإنَّ علَّتها واحدة وغايتها واحدة كذلك. وهما رفع الغُبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثمَّ بناء المجتمع على أُسس أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته كإنسان. ومحورها حرية القول والعمل ضمن نطاقٍ يُفيدُ ولا يُسيء. وتخضع هذهِ العلوم لظروفٍ معينة من الزمان والمكان لها الأثر الأول في تكوينها على هذا النحو أو ذاك(73).

قد كان لعليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام) في تاريخ حقوق الإنسان شأنٌ أيَّ شأن. وآراؤه فيها تتصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس. ومَن عَرفَ الإمام علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المُسلَّط على رقاب المُستبدين الطُغاة. وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الإجتماعية بآرائهِ وأدبهِ وحكومتهِ وسياستهِ... وبكلِّ موقفٍ له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة.

ولو استعرضنا تاريخ الحركات التحررية الإصلاحية والثورات الإجتماعية في الإسلام وغيره منذ صدرهِ وحتَّى العصور المتأخرة لرأيناها ترجع بوجهتها وأصالتها إلى آراء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإلى الأُسس العادلة التي أرساها في عهدهِ

ص: 229

لمالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه) (ت 38 ه / 658 م) وخلال سيرتهِ الشريفة، التي وضعها لتكوين مجتمع فاضل في حكم فاضل واستطاع بذكائهِ الخارق وبصيرتهِ الفذَّة وبمقدرته الفائقة على الإدراك واستنباط الأحكام وإحاطتهِ التامة بالكتاب والسُنَّة في ظلِّ سلطةٍ عادلة أو حكومةٍ صالحة لأيِّ ظرفٍ وزمان و تتماشى مع الشريعة السماوية دون انفصال، ولذلك لم يؤخذ عليه ما أُخِذَ على غيرهِ..

ولو كانت الصحيفة قد أرست أُسس الاستقرار والتآلف الإجتماعي المبني على قاعدة السِلم الأهلي المنَّاع للأزمات الحادة في مجتمع المدينة المنورة أبَّان زمن النبي الكريم (صلی الله عليه وآله وسلم)، فإنَّ عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر يُعد تطوراً كبيراً على طريق إدارة وحكم البلاد، التي فُتحت ودخلها الإسلام. یُرسي بكلِّ وضوحِ المعالم الأساسية لمهمات الحاكم المسلم وحقوق الرعية، وهي بالتالي، من الوثائق التي قلَّ التعامل معها وعرضها لجمهور المسلمين، وهذا في الأساس ما يدفعنا لتسليط الضوء على جانب حقوق الإنسان من هذا السيرفر الخالد...

نهجُ البَلاَغَة.. بين صِحَّة الانتساب وأهمية المضمون

ما أشبه ما مُني بهِ كتاب النهج بما مُني بهِ كتاب الله (عز وجل)، فقد قال المُنكرون للتنزيل: أنَّ القرآن من کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس من كلام الله، وقال المُرتابون في النهج: أنَّه من کلام جامعهِ السيد الشريف الرضي(74) وليس من كلام الإمام (عليه السلام)(75)، ولو أنَّهم أمعنوا النظر جيداً لعرفوا أنَّ لكلٍّ من الكلامين طابعه الخاص الذي يمتاز بهِ عن الآخر بصورةٍ واضحة. فأين کلام مُحمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلام الله (سبحانه وتعالى)؟ وأين كلام الرضي من كلام عليٍّ بن أبي طالب (عليه السلام)؟ وكيف يجوز أن يشتبه هذا بذاك؟ وما اشتبه التِبر يوماً باللُجين.

ص: 230

على أنَّ هناك من الوثائق التاريخية المُعتمد عليها ما لو رجع إليها المُتتبع لإزداد إيماناً ويقيناً بصحة النِسبة وثبوتها بشكلٍ لا يقبل الجدل والارتياب، وهذا ما نَهَد إلى جمعهِ والإلمام بهِ أهل التنقيب والتدقيق(76)، مُبطلين هذا الزعم بأدلَّةٍ، منها أنَّ خُطَب النَّهج، أو أكثرها، مُدوَّنة في كتب الشيعة وأهل السُنَّة من قبل أن يولد الشَّريف الرَّضي بسنوات(77). والقول الفَصل في نسبةِ النَّهج إلى الإمام هو أن ننظر، ونُحاكم ما جاء فيهِ على أساس كتاب الله (عز وجل)، فما وافق منهُ الكتاب فهو من قول الإمام، لأنَّه مع القرآن، والقرآن معهُ، وما خالفهُ فلا علاقة لهُ بالإمام من قريبٍ، أو بعيد. وقد تواتر عن أئمَّةِ أهل البيت (عليهم السلام) قولهم: (لا تقبلوا علينا خِلاف القرآن، فإنَّا إن تحدثنا بموافقةِ القرآن، والسُنَّة، إنَّا عن الله، وعن رسولهِ نُحدِّث، ولا نقول: قال فُلانٌ، وفُلان، فإذا أتاكم من يُحدثكم بخِلاف ذلك فردُّوه، إنَّ لكلامنا حقيقة، وإنَّ عليهِ لنوراً، فما لا حقيقة لهُ، ولا نور عليهِ فذاك قول الشَّيطان)(78).

وقد اجتهد علماء الشيعة على مدى قرون في دحضِ التهم الموجَّهة إلى صحَّة كتاب (النَّهج)؛ وتمَّ تخصيص قَدَر عظيم من العمل المُستنير خلال العقود الأخيرة من أجل إثبات، أولاً، أنَّ المادة المُكوِّنة للنص لا يمكن أن تكون من فعل الرضي - إذ أنَّ الغالبية العظمى منها موجودة في مصادر سبقته زمنياً وثانياً، أننا نستطيع تتَّبع معظم مادة النص، عِبرَ سلسلةٍ موثوقة من الرواة، إلى الإمام نفسه حتَّى ولو لم تصل جميع الأقوال إلى أعلى مكانة في سلَّم صحیح الحديث، أي كونها متواترة (بمعنى أنَّها أحاديث مروية عِبرَ سلاسل عديدة تتكون من رواة موثوقين لا يمكن الشك فيهم بصورةٍ خطيرة).

يقول مختار جيلي ملخصاً أبحاثه المُستفيضة حول هذهِ القضية: (لا نُكران.. في أنَّ قسماً ضخماً من النَّهج (هكذا) يمكن نسبته فعلاً إلى علي، وخاصةً مقاطع تاريخية وتقريظية بعينها، ولو أنَّه من الصعب تأكيد صحَّة الأقسام الأكثر تعرضاً للتشكيك... يُضاف إلى ذلك أنَّه من

ص: 231

الممكن تحديد عدد هام من المقاطع المصحوبة بأسانید کاملة، والتي يمكن العودة بتاريخها إلى زمن علي. وقد جرى اعتماد هذهِ النصوص من قِبل باحثين قدماء من أصحاب الشهرة كالطبري والمسعودي والجاحظ وكثيرين غيرهم)(79).

وما من كلمةٍ في نهج البلاغة إلاَّ ودلَّ عليها القرآن بالتفصيل، أو الإجمال مع العِلم بأنَّ كلام الله قد تفرَّد بخصائص كثيرة لا يُشاركه فيها كلام البشر أيَّاً كان قائله، وهذهِ الحقيقة يُدركها كُلَّ من قرأ قوله (عز وجل): «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (سورة ق، آية: 37).

لا يشك أديب أو مؤرخ أو عالم ديني أو اجتماعي فينا لنهج البلاغة من قيمةٍ جلَّى، وأنَّه في مصافِّ الكتب المعدودة، التي تُعتبر من أمهات مصادر حضارتنا العربية.. كيف لا، ونهج البلاغة هو كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ذلك الإمام الذي كان قدوةً مثالية للمسلمين ونبراساً رائداً للمؤمنين، حتَّى أنَّ الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 170 ه / 718 - 786 م) حين سُئل: ما تقول في عليٍّ بن أبي طالب؟ قال قوله المأثور: (احتياج الكُل إليه، واستغناؤهُ عن الكُل، دليلٌ على أنَّه إمام الکُل في الكُل)(80). وبهذا فإنَّ نهج البلاغة يُعد أعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي.. بعد القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وحسبنا من وصفهِ ما قال فيه مُفسِّره الشيخ مُحمَّد عبده: (ولا أعلم إسماً أليق بالدلالة على معناه منه، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلَّ عليهِ اسمهُ.. وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلاَّ أصابه، ولم يدع للفكر ممراً إلاَّ جابهُ)(81). وهو أحد المصادر الأربعة، التي لا غِنى للأديب العربي عنها، وهي القرآن الكريم ونهج البلاغة والبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمُبرِّد.

هذا وإنَّ كلام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أرحب من أن تسعهُ المُؤلَّفات أو تستوعبه المُجلَّدات. وما (نهج البلاغة) إلاَّ غيضٌ من فيض، وباقةٌ من بستان، استطاع

ص: 232

الشريف الرَّضي أن يجمعها من المصادر التي كانت في زمنهِ وقبله، وأن يدققها تدقيقاً صادقاً، بما أُوتي من أمانة وعدالة، وأصالةٍ أدبية ولغوية. وقد رتَّبه ترتیباً مبدئياً، فجعل الخُطب أولاً ثمَّ الكُتب والرسائل ثمَّ الحِكَم.

وقد تمَّت لنهج البلاغة شروحٌ كثيرة، يزيد عددها باللغتين العربية والفارسية على أربعين شرحاً، من أهمها:

1. (معارج نهج البلاغة): شرح فرید خراسان أبي الحسن علي بن زيد بن مُحمَّد بن علي البيهقي النيسابوري (493 - 565 ه / 1100 - 1170 م).

2. (منهاج البراعة): شرح قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي (ت 573 ه / 1177 م).

3. شرح عزِّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد المُعتزلي (ت 655 ه / 1258 م).

4. شرح کمال الدین میثم بن علي بن میثم البحراني (ت 679 ه / 1280 م).

5. (إعلام نهج البلاغة): شرح السيد علي بن ناصر العلوي السرخسي (من أعلام القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي)(83).

وهناك طبعات كثيرة لشروح نهج البلاغة ذكرها المُحقِّق الدكتور سيد جواد مصطفوي خراساني، وهي: (الشرح المحشی) طبع طهران؛ (الشرح المحشی) طبع تبریز؛ (شرح ملاَّ فتح الله )؛ (شرح فیض الإسلام)؛ (شرح میرزا مُحمَّد باقر اللاهيجاني المشتهر بنواب؛ (شرح ملاَّ صالح القزويني)؛ (الدرَّة النجفية)؛ (شرح ابن أبي الحديد) طبع مصر، طبع بیروت، طبع طهران؛ (شرح محيي الدين الخياط)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد عبده) طبعة أولى مصر، طبعة بيروت؛ (شرح محمد حسن نائل المُرصفي)؛ (شرح الحاج میرزا حبیب الله الخوئي)؛ (شرح الدكتور صبحي الصالح)؛ (في ظلال نهج البلاغة)؛ (شرح الشيخ مُحمَّد جواد مغنية(83).

ص: 233

حقوق الإنسان في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر

يحمل عهد الإمام مالك الأشتر بتوليتهِ على ولايةِ مصر الرقم (52) في معظم طبعات نهج البلاغة(84). وبعباراتٍ تاريخية عريضة، أصبح هذا العهد مصدر إلهام عِبرَ القرون حيث كان يُقرأ كدستور مثالي للإدارة الإسلامية يُكمل من خلال وصفهِ المفصَّل نسبياً لواجبات الحاكم وحقوقهِ وواجبات معظم موظَّفي الدولة وطبقات المجتمع الرئيسة - الإطار العام للمبادئ المُشرَّعة في (دستور المدينة المنورة) الذي أملاه النَّبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). غير أنَّ النصائح الواردة في العهد تفوق كثيراً المقاييس الموضوعة تقليدياً بالنصوص السياسية أو القانونية الخاصة بالإدارةِ والحُكم. وبغضِّ النظر عن كونها تُخاطب لأول وهلة الحاكم أو الوالي في الدولة، فإنَّ القسم الأعظم من النصيحة ينتمي في الحقيقة إلى المبادئ الأخلاقية المُطبَّقة عالمياً، وبالتالي، فإنَّ صلتها بالمحكومين تُماثل صلتها بالحُكَّام. ولذلك فهي نصٌّ أخلاقي بمقدار ما هي نص سیاسي - إنَّها ليست (نظاماً) متنوع الأساليب والأغراض، أو نظرية في الأخلاق، بل تعبير مُلهم، في الحقيقة، عن فضائل روحانية جسَّدها الإمام وشعَّت عنه، طبائع فاضت مباشرةً من مصادر الوحي الإسلامي، وتكشف بالتالي عن جذور الفضيلة والأخلاق في مناخ محکوم بمبدأ الوحي الشامل لكلِّ شيء. لذلك، من الممكن قراءة هذه الوثيقة كتعليق أيضاً على ذلك الوحي، الأمر الذي يُشجِّع، بدورهِ، القارئ على الغوص بعُمقٍ أكبر في المعاني المُودعة في النصوص المُنزَّلة(85).

كان مالك الأشتر تابعاً مخلصاً وعريقاً للإمام، وكان يُشار إليهِ على أنَّه واحد من (رجال يدهِ اليُمنى). ويُذكر أنَّ معاوية بن أبي سفيان، المُعارض الرئيس للإمام أثناء الحرب الأهلية (37 - 41 ه / 657 - 661 م) التي طغت على فترة خلافتهِ، كان أحد الأشخاص الذين قالوا ذلك بحقِّ مالك، وذلك بعد سماعهِ نبأ نجاح مهمَّته في تسمیم

ص: 234

مالك قبل تمكنه من احتلال منصبهِ والياً على مصر. فقد روى الطبري عن معاوية قوله: (كان لعليٍّ بن أبي طالب يمينان. إحداهما قُطعت في صفِّين(86) والأخرى اليوم(87). ومن جهتهِ، كان ردَّ الإمام على أخبار اغتيال مالك على النحو التالي: (مالِك وما مالِك! والله لو كان جبلاً لكان فَنْداً، ولو كان حجراً لكان صَلْداً، لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر)(88).

تأتي دائرة حقوق الإنسان في منظور الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أوسع مما أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية. فالحقوق عنده (عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الإجتماعية، فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقَّ الوالدين، وحقَّ الزوجة، وحقَّ الابن، وحقَّ المُعلِّم، وحقَّ المُربِّي، وحقَّ الصديق... إلخ. ونتيجةً لهذهِ الحقوق المُتبادلة يقوم نظام العلاقات الإجتماعية بين الأفراد. أمَّا حقَّ الله (سبحانه وتعالى) فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقَّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تَبَعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. إذ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (جعل الله سبحانه حقوق عبادهِ مُقدِّمة لحقوقهِ)(89). وبهذا يكون أفضل ما يقوم بهِ الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أفضل الجُودِ إيصال الحقوق إلى أهلها)(90).

نَظَر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الوجود نظرةً لا يتعطَّل فيها حدٌّ من حدود العقل والقلب والجسد. ولا يطغى فيها تأمُّلُ الإنسان في الكون والاندماجُ في کمالاتهِ. على النظر في حقوق الإنسان المُرتبط بالأرض ارتباط عیشٍ وبقاء. أو على النظر في حقوق الجماعة المتعاونة المتكافلة في سبيلِ البقاء وما يقتضيه من مقوِّمات. فهو إمَّا دعا إلى الإعجاب بروعةِ الوجود وعجائب الخلق، دعا في الحين ذاتهِ إلى توجيه الأفراد والجماعات توجیهاً صحیحاً يسير بهم في طريق التعاون الاقتصادي والتكافُل المادي الذي

ص: 235

يضمن لهم الوصول إلى الخير الأكبر: إلى المحافظة على كرامةِ الإنسان المُركَّب من فكرٍ يعمل، وعاطفةٍ تتحرك، وجسدٍ له عليك حقٌّ ولك بهِ المعنى المادي من معاني وجودك. وهو إمَّا سعى في تطهير الضمير وتقديس الشوق وسماحة الوجدان، راح في الوقت نفسهِ يسعى في تنظيم مجتمعٍ عادل له قوانين وضعيَّة هي بمثابة الأساس من البناء(91).

واحدةً من أبرز مقاطع وموضوعات حقوق الإنسان التي أوردها الإمام في عهدهِ المالك الأشتر (رحمة العدل)، حيث الاقتران بالفقراء یُعزِّز وعيَ الحاكم بحاجتهِ الدائمة إلى الله (سبحانه وتعالى)، وهذا ما يُساعده على العيش بصورةٍ دائمة معتمداً على رحمةِ الله، بالأمل والثقة؛ والمصاحب الطبيعي لمثل هذهِ الحياة هو الإنعام بالعطف والرحمة على بني جنس المرء من البشر. ولا تتعارض القدرة على العمل بشفقةٍ ورحمةٍ مع متطلِّبات العدل، إذا ما تصورناه على أُسسٍ أنطولوجية Ontology، أي وفقاً للطبيعة الأساسية للحقيقة. والتصرف برحمة يتطابق مع العدل ليس بمعنى وضع الأمور في مواضعها فحسب - إذ علينا أن نمدَّ الرحمة إلى حيثما كانت الحاجة إليها - بل تتلاءم مع العدل من جهةِ كونها تتوافق مع طبيعة الأشياء الحقيقية، أي مع الطبع المطبوع للحق. ولهذا السبب نجد على رأس كلِّ سورةٍ من سور القرآن (ما عدا واحدة) اسم الله متبوعاً بعبارتي (الرحمن الرحيم). بعبارةٍ أخرى، لا تنبع القدرة على التصرف برحمة من مشاعر شخصية إلى هذا الحد کما لو كانت صادرة عن ارتباطٍ مطبوع بطبيعة الحقيقة الإلهية نفسها؛ أي تلك الحقيقة الأسمى التي يقول عنها القرآن: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (سورة الأعراف، آية: 156)؛ أو تلك الحقيقة التي يقول فيها: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (سورة الأنعام، آية: 54)؛ أو تلك التي يتقرر فيها طبعُها الجوهري بمبدأ (سَبِقت رحمتي غضبي)(92). ويعثر المرء أيضاً على أقوال عديدة للإمام علي بخصوص ضرورة إظهار الرحمة: (توزيع الرحمة يستنزل الرحمة)(93)، (كما تَرحَم تُرحَم)(94)، (أعجبُ لامرئٍ يرجو رحمةَ مَنْ هو أعلى منه، ولا يرحم مَنْ هو أدنى منهُ)(95).

ص: 236

وفيما يتعلَّق بموضوع الرحمة أيضاً، تُعتبر الفقرة التالية من عهد الإمام مالك الأشتر عملاً رائعاً لأنَّها تضع ضرورة الرحمة والشفقة في سياقٍ عالمي، كما إنها أحد أكثر التعابير أهمية للإمام حول وحدة الجنس البشري ومساواة جميع بني البشر. إنَّها تقف بارزةً كوسيلة تصحيح لكلِّ أشكال التحامل والتخصيص والتمييز الطائفي التي قد تُطبِّق العدل أو الرحمة على أعضاء (مجموعة) الفرد فقط، مهما كان تعريفها أو تحديدها: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ للِرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ

فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظيِرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَيُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللُّهَ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلاَكَ بِهِمْ)(96).

إنَّ المُلاءَمَة العالمية لمبدأ الرحمة والعطف قد اجتمعت هنا بمُذکِّرٍ بالسلطة المُطلقة لله (عز وجل). فمهما كان الرجل -حاكماً أو والياً یُعيِّنهُ حاكم - فإنَّه ليس بشيء سوى عبدٌ الله، يعتمد على رحمة ربِّهِ بصورةٍ مُطلقة. وهكذا، على كلِّ من يجد نفسه في موقع من التفوق النسبي على الآخرين أن يتذکَّر دائماً ضعفه مقابل المُطلق، حيث يؤدي بهِ هذا الوعي في آنٍ إلى إظهار الرحمة تجاه من هم أدنى منه، واكتساب رحمة الله الذي هو فوقه(97).

وبالتالي، فقد كان للإمام اهتمام واضح وتشديد بالغ على موضوع الرحمة في عهدهِ لمالِك الأشتر، واضعاً في طليعةِ هذا العهد مجموعةً من المبادئ العامة، ومن جملتها حقوق الإنسان كإنسان، إلى جانب حقوقهِ كمسلم، منطلقاً مبدئياً من الرحمةِ بالإنسان كإنسان. يقول (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ). وهكذا أسَّس الإمام لحقوق الإنسان على مُركَّبٍ من ثلاثةِ أُسس: أولاً: يأمره بأن يتحسَّس الرحمة بالإنسان. وثانياً: المحبَّة للإنسان، وهي غير الرحمة. فالرحمة(98) إنعطاف قلبي وشفقة

ص: 237

على الشيء الذي ترحمه، ولكن ليس بالضرورة أن تُحبه، فالإمام يُضيف إلى الرحمة المحبَّة، بمعنى أن يكون لدى الوالي مودةً للناس بما هم ناس؛ بقطع النظر عن الفوارق الأخرى، فينبغي أن تُقدَّر ظروف الإنسان مُجرداً عن لونه وتوجهاته الفكرية والعقائدية وغيرها؛ فالإنسان إذا عاش في ظروفٍ معينة توجب عليه أن يعتقد بعض الأمور؛ اعتقد بها، ولو عاش غيره ظروفاً كظروفهِ لاعتقد بما اعتقده، فينبغي أن تُقدَّر ظروفه انطلاقاً من الرحمة له كإنسان، طبعاً ما لم يكن خطراً على البشرية، فهذا له حسابٌ آخر.

وثالثاً: يأمره (عليه السلام) باللطف بهم، وهو من صفات الحق ومن معاني (اللَّطيف) من أسمائهِ الحُسنی (عز وجل)، وجاء في الأثر: (تخلَّقوا بأخلاق الله)(99). ويُراد من اللُّطف هنا: التعامل معهم بالمُسامحة والرِفق واليسر، فالرحمة والمحبَّة من وظائف القلب، بينما اللُّطف أمرٌ عملي، يُراد منه التعامل معهم بوسائل مبنيَّة على اللين والعَطف، فيُخاطب الإنسان بلُطف، وتُدار شؤونه بلطف. ولتكن قرارات الوالي رحيمةً غير شديدة أو شاقَّة، بل مبنيَّة على أساس التلطُّف بهم، لأنَّ الإسلام دين الرِفق، يقول النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنَّ الرِفقَ لاَ يَكُونُ فِي شَءٍ إلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنزَعُ

مِن شَيءٍ إلاَّ شَانَهُ)(100).

وحينما فرغ الإمام (عليه السلام) من تقرير هذا المبدأ حذَّر من ضده وهو (الوحشية) في التعامل ولو بشكلٍ جزئي كما يفعل البعض حين يخلط بين الإنسانية، حيناً والوحشية حيناً آخر فتغلب وحشيته على إنسانيتهِ، فلو أنَّ أحداً عَدَل مع غيرهِ في كلِّ شيءٍ وظلمه في مجالٍ واحد فقط لغلب ظلمه عدله وسُمِّي (ظالماً) له، فقال (عليه السلام): (وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ). فلا ينبغي أن يكون همَّ الوالي هو النهب من حقوق الرعية والاعتداء على كراماتهم، بل ينبغي أن يستحضر في ذهنهِ دائماً بأنَّه إنسان وهم كذلك، فما يتمناه لنفسهِ ينبغي أن يتمناه لهم، إذ لا فرق بينه وبينهم من ناحيةِ

ص: 238

الإنسانية(101).

ويصل الإمام الآن إلى نقطة في الرسالة، (العَهد)، يُريد من مالِك أن يُوليها اهتماماً خاصاً. إنَّه يبدأ الفقرة(102) بعبارةٍ تعجبية، (اللهَ، الله) من أجل التشديد على ضرورتها وإلحاحها. ويتعلَّق التوجيه هنا بأُناسٍ لا مورد هم على الإطلاق - أهل البؤس والزَّمْني(103) واليتامى وكِبار السِّن - أولئك الذين هم (أحوج إلى الإنصاف) من غيرهم، والذين يجب مُعاملتهم بطريقةٍ تؤدي إلى (الإعذار إلى الله سُبحانه يوم تلقاه). إنَّ هؤلاء جميعاً، ومعهم أولئك المُحتاجون الذين يرفضون التسول، هم من يجب على الوالي مساعدتهم، وأن يُعيِّن لهم أحدَ ثِقاتهِ من أهلِ الخَشية والتواضع ليرفع إليه أمورهم. ثمَّ يُضيف الكليات الحاسمة: (وَذَلِكَ عَلَی الْوُلاةِ ثَقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللِّهَ لَهُمْ). ولعلَّ هذا من أقوى مصادیق رعاية الإمام (عليه السلام) لحقوق الإنسان، أيَّ إنسان، في ظلِّ إدارة دولتهِ وسياستها الذي أوضح جانباً منها عهده إلى مالكِ الأشتر (رضي الله عنه).

ما نريد تسليط الضوء عليه هنا هو أنَّ العنصر الروحي هو ما يجعل الشيء المثالي شيئاً عملياً؛ ولولا ذلك لأصبح (حملاً ثقيلاً): المساعدة الإلهية مضمونة لأولئك الذين لا يقتصر اهتمامهم على هذهِ الدنيا فقط، ولكنَّ طلباتهم تتعدَّى حدودها لتعبر إلى الدار الآخرة. وعندما ننظر إلى هذهِ الدنيا على أنَّها ممر إلى الآخرة فحسب، يبرز لدينا موقف تجاه الدنيا يتَّسم بالعدل الكامل. أمَّا أولئك الذين لا تخرج حدود طلباتهم خارج هذهِ الدنيا فإنَّهم سيكونون ضحية خيار إهمال الفقراء السهل - لأنَّه، وطبقاً للمقاییس الأفقية للتقييم السياسي، فإنَّ تكاليف إتّباع سياسة الصدقات تجاه الفقراء والمُحتاجين قد تفوق في وزنها، بالنسبة إلى الوالي، ما يتأتَّى إليهِ من منافع. ويكون ذلك حيثما كانت السياسة الأخلاقية مرتبطة بتقدير حصري لهذهِ الدنيا، أو بسياسات براغاتية(104) Pragmatism

ص: 239

أو مصالح شخصية، وتكشف عن عيوب موروثة بعينها. لكن، إذا ما كان مفهوم الحق في ما يتعلَّق بالفقراء مُشبعاً بإیمان ثابت بعدالةِ الله (سبحانه وتعالى) لا تلين ورحمة تَسَع كلَّ شيء وتفيض بطلب الآخرة، عندها سيتولَّد موقف من الوفاء الثابت لحاجات الفقراء والمساكين في المجتمع، تحقيقاً لضمان حقوق الإنسان فيه، بل سيستمر في توالدهِ إلى ما لا نهاية.

إنَّ مثل هذا الموقف يذهب بعيداً خارج نطاق المفاهيم المعهودة للصداقة أو الكَرَم. لأنَّ من أدرك هذا الموقف من الكمال لن يكون قابلاً لتقبُّل أيَّ اقتراح معاكس ينبع من براغماتيةٍ أنانية أو فردية، وبصورةٍ أقل من اللامبالاة أو العناد وقوة الشكيمة. بهذا الموقف الثابت في المكان يأتي ذِكْرُ الإمام للصفة التالية، صِفة الاحتمال والصبر، والتي تجري هنا بصورةٍ طبيعية. لأنَّه، في ضوء الاستشعار الملموس، وليس المفهومي فحسب، للقِيَم المُطلقة موضوع البحث، يمكن مدَّ الصبر والاحتمال إلى ما لا نهاية - حيث لا يعود معتمداً على الإرادة الشخصية وحدها، بل يُستَدام بتقوية النعمة التي تجري من إيمانٍ مُستَشعَر بالقلب. ويستكمل الإمام النقطة المذكورة أعلاه بإشارة إلى أولئك الذين لهم طلبات مُحقَّة، ولديهم، كنتيجة لذلك، ثقة عظيمة بحقيقةِ وعد الله (سبحانه وتعالى)، إذا ما كان وعد الله بالجزاء، وبعدالتهِ التي لا تخذل، ورحمتهِ اللامحدودة كونها حقيقة، ثمَّ الدافع وراء جهد الوالي المدِّ الرحمة إلى الفقراء والتعامل معهم بعدالةٍ سيتعمَّق بصورٍ لا تُقاس. وتتحول المهمة التي يصفها الإمام ب(الثقيلة) - أي واجب مساعدة الضعفاء والمساكين، وهي المساعدة التي لا يمكن أن تتأتَّى عنها أيَّةِ منافع سياسية - تتحول إلى واجب لا مفرَّ منه مُلزم لقناعات المرء الروحية. وتجد هذهِ القناعة أو الاعتقاد أرضيةً لها في اليقين بأنَّ مثل هذا الكرم والرحمة هي أمور حَسَنة ومُحقَّة ومناسبة فحسب، بل إنَّ مثل هذهِ الفضائل إنَّما هي في تناغم وانسجام مع الجوهر الصحيح والقريب للحقيقة المُطلقة.

ص: 240

إنّ المضامين (الأخلاقية) للحقيقة - الروحية - والصدى الروحي المتردد للفضيلة أيضاً - محجوبة عن الحُكَّام الدنيويين بتحاملهم المستور في أحسن الأحوال، وبقبائحهم المستورة في أسوأها. ومثل هؤلاء الحُكَّام غافلون أيضاً عن التحذيرات والتهديدات بالعقاب للظالمين. ويمكن النظر إلى الظالِم هنا على أنَّه ذلك الذي يعصي الأوامر الإلهية بالعدل، والذي يخرق أيضاً، وهذا هو المهم أساساً، صفة الرحمة الواقعة في قلب الطبيعة الإلهية(105). هذهِ الصفة التي نادى بها وحاول بيانها وإيضاحها علي بن أبي طالب خلال عهدهِ لواليه على مصر مالِك بن الأشتر النُخعي رضوان الله عليه.

كان (عليه السلام) يُجسِّد العدالة الإنسانية ببُعديها الفردي والإجتماعي، حيث تجلَّت عدالتةِ الإنسان في حدود حياتهِ الفردية وعدالته في مضمار الحكم والسلطة تلك التي نطلق عليها (العدالة الإجتماعية)(106) Social Justice في حياةِ أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام). وعلينا أن نعرف ذلك بنيَّةِ تطبيقهِ عملياً لاسيَّما بالنسبةِ لأولئك الذين تحملون المسؤوليات في المجتمع ويتبوءون موقعاً في الحكومة، فلقد تمثَّلت العدالة الفردية بأعلى درجاتها في شخصية الإمام، وذلك ما نُعبِّر عنه ب(التقوى)، تلك التقوى التي كان (عليه السلام) يُجسِّدها في عملهِ السياسي والعسكري وفي توزيعهِ لبيتِ المال وفي قضائهِ وجميع شؤونهِ. وبالتالي، تمثل العدالة الفردية أو الذاتية في الواقع سنداً للعدالتِ الإجتماعية.

قدَّم الإمام درسه الخالد لكلِّ الذين يُمارسون دوراً على الصعيد السياسي لمجتمعاتهم، فهو (عليه السلام) في هذا المجال يقول: (مَن نَصَّبَ نفسهُ للناسِ إماماً فعليهِ أن يبدأ بتعليم نفسهِ قبل تعليم غيرهِ، وليكن تأديبه بسيرتهِ قبل تأديبه بلسانهِ(107).

إذ بإمكان اللسان النُطق بالكثير، أمَّا ما يأخذ بيدِ الإنسانية لسلوك صراط الله (عز وجل) فهو سيرة وأفعال من يقع عليهِ الاختيار ليكون إماماً للناس سواء على المجتمع أو

ص: 241

أدنى مستوىً من ذلك(108).

ولم يكتفِ الإمام أن يقوم هو بنفسهِ بالعدل، وإنَّما كان يؤكِّد على عمَّالهِ ومن يُولِّيهِ على البلدان والأمصار. حيث قال (عليه السلام) في عهدهِ لمالِك الأشتر: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ). ومن عهدٍ له (عليه السلام) إلى مُحمَّد بن أبي بكر (رضي الله عنه) (10 - 38 ه / 631 - 658 م) حين قلَّده مصر: (فَاخفِض لَهُم جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُم جَانِبَكَ، وَأبسُط لَهُم وَجهَكَ، وآسِ بَينَهُم فِي اللَّحظَةِ

وَالنَّظرَةِ حَتَّى لا يَطمَعَ العُظَمَءُ فِي حَيفِكَ لَهُم وَلاَ يَيأَسَ الضُّعَفَاءُ مِن عَدلِكَ بِهِم، فَإنَّ اللهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُم مَعشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِن أَعمَلِكُم وَالكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالمَستُورَةِ، فَإنْ يُعَذِّبْ فَأنتُم أظلَمُ، وإنْ يَعْفُ فَهُوَ أكرَمُ)(109). ومن كتابٍ لهُ (عليه السلام) إلى الأسود بن قَطِيبَةَ صاحِب حُلوَان: (أمَّا بَعدُ فَإنَّ الوَالِيَ إذَا اختَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ العَدلِ. فَليَكُن

أمرُ النَّاسِ عِندَكَ فِي الحَقِّ سَوَاءً فَإنَّهُ لَيسَ فِي الجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ العَدلِ. فَاجتَنِب مَا تُنكِرُ أمثَالَهُ)(110).

ومن هذا المتقدم يتضح لنا أنَّ آراء الإمام تُعد مقياساً يجب على الكل التفكير والعمل وفقها، والتي يمكن اعتبارها في هذه المسألة المهمة أبرز نموذج لمعرفة معنى العدالة الإجتماعية الحقيقي ومُراعاة المساواة بين الناس وفي العدالة التي من المفترض أن تحكم علاقة الحكومات بشعوبها.

وقد يجوز لنا أن نورد حادثة توضح بشكلٍ جيد تطبيق الإمام الرحيم لمبدأ العدل إضافةً إلى كونها تعبيراً عن مبدأ أشرنا إليه سابقاً وهو أنَّ الناس جميعاً هم (نظيرٌ لك في الخَلق). التقى الإمام مصادفةً متسولاً أعمى عجوزاً، فسأل عنه. فقيل له أنَّ المتسول نصراني، فقال لمن حوله: (لقد استعملتموه، حتَّى أصبح عجوزاً ضعيفاً، وترفضون الآن مساعدته. أعطوه من بيت المال ما يُقيم به أودَهُ)(111). يُضاف إلى ذلك، أنَّ هذهِ الجملة تُعبِّر بإيجاز شديد عن مبدأ المصلحة الإجتماعية الإسلامي، الذي يقوم على إعادة

ص: 242

توزیع عادلة وسياسة من عدم التمييز بين المسلمين وغيرهم بصورةٍ صارمة. فالعدالة الإجتماعية والمساواة الدينية تنبعان منسابتين من الرحمة التي لا يُنظر إليها كأحد المشاعر فقط، بل كبُعد منطبع في الحق. ولذلك، فإنّها تُترجَم إلى واجب ديني أساسي مفروض على كلِّ المسلمين، حُكَّاماً ومواطنين، لا فرق.

وجدير بالذكر أنَّ الجملة الأخيرة من الفقرة المذكورة سابقاً، وهي التي تُحذِّر الحاكم من اعتبار السلطة الممنوحة له على رعاياه، ليست ببساطة امتيازاً، وإنَّها امتحاناً من الله، تُعبِّر بوضوح عن موقف الإمام الخاص من الحُكم. لقد قال في الخطبة الشهيرة ب(الشِقْشِقيَّة) إنَّه لم يقبل بالسلطة إلاَّ لأنَّها واجب لا يمكن التهرب منه: (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللُّه عَلَی الْعُلَمَءِ أَنْ لاَ يُقَارُّوا عَلَی كِظَّةِ ظَالِ وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَی غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَطْفَةِ عَنْز)(112).

نرى في ذلك تمثلاً باهراً لموقف أفلاطون المثالي من السلطة؛ السلطة التي يحملها (الفيلسوف) الحق، ذلك الذي يتحمل عبء الحكم من أجل الناس فحسب: (ولا يعتبرها تمييزاً بل مهمة لا مجال لتجنبها... ينصب اهتمامه على الحق وما يستجلبه ذلك من شرف، وفوق ذلك كلَّه، يرعى العدل باعتبارهِ شيئاً لا غِنىً عنه، ومن أجلهِ وأجل ضمان سلامته، يعملون على إعادةِ تنظيم دولته)(113).

وبالتالي، فقد ابتدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) عهده لمالِك الأشتر (رضي الله عنه) بالأمر، بقولهِ: (هَذَا مَا أَمَرَ بهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بنَ الْحَارِثِ الأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ). مُشْرِعاً بهذا الأمر يُعدد الواجبات التي ينبغي على مالِك الأشتر القيام بها، والأمور التي عليه مُراعاتها، وحقوق الناس التي يجب تأديتها. مبيناً لهُ أنَّ الحاكم ما هو إلاَّ مسؤول مُؤتمن على حقوق الناس وخدمتهم، وعدل الحاكم هو ما يوجب على الرعية إتباعه. والمُتدبِّر في قراءةِ العهد يجد أنَّ الإمام كان قد أنكر أن

ص: 243

يكون الحاكم والحكومة سلطة مُتجبِّرة مُتسلِّطة على رؤوس الناس، بل أن يكون الحاكم والحكومة في خدمةِ الناس ومُداراتهم، وإلاَّ تحولت الحكومة إلى منصب دنيوي يلهث وراءه كلَّ من يُحب الدنيا ومغرياتها، وكلَّ باحثٍ عن جاه، وهذا ما حذَّر منه الإمام ونبَّه عليه، وخوَّف من عاقبتهِ في الدنيا والآخرة.

وأخيراً، فقد أكَّد الإمام في عهدهِ للأشتر على جملةٍ من القواعد والقوانين التي تُدار وتُحكم من خلالها الدولة، وتُراعي شؤون الرعية، فحينما توجه مالِك لإدارة شؤون مصر كان مزوداً بدستور حكمٍ ناضج ومُكتمل القواعد والشروط، وبما يوفِّر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، مؤكِّداً على عِمَارة البلاد واستصلاحها، والابتعاد عن الطمع وحُبِّ الشهوات، والإلتزام بالذِكر الحَسَن، والعمل الصالح. كما أكَّد (العهد) على الرحمةِ بالرعية واللُطف بهم، وعدم ظُلم الآخرين. وقد أوصى الإمام مالِكاً إلى الحذر من دعوةِ المظلوم، وإلى عدم المساواة بين المُحسِن والمُسِيء، وإلى مُدارسةِ العلماء والحكماء.. وأراد منه أن يُولي اهتماماً خاصاً بذوي الحاجات والمَسْكَنة والفقراء، وأن يعمل على بثِّ العيون لمُراقبة الحُكَّام، وليس مراقبة المحكومين كما تفعل الأنظمة المُستبدة على مرِّ العصور، وأن يعمل على مُداراة اليتامى وكِبار السِّن، والابتعاد عن المَنِّ على الرعية والتواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصَفح، وقضاء حاجات الناس، وقول الحق، والعمل على نشر المساواة بين الناس.. وموضوعاتٍ أخرى كثيرة وردت في هذا العهد الذي أنفذه الإمام علي إلى مالك الأشتر ليكون دستور حكمٍ يعتمد عليه في حكم مصر.

وهكذا، فإنَّ حقوق الإنسان ليست مجرد شعارات تُطلق فحسب، بل هي أحكام وتقنيات إدارية، كما إنَّها مبادئ جسَّدها رموز الإسلام الكرام في مواقفهم العملية لاسيَّما النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيتهِ الطيبين الطاهرين.

ص: 244

الهوامش:

(1) مفتي، محمد أحمد وسامي صالح الوكيل، حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي.. دراسة مقارنة، (القاهرة، دار النهضة الإسلامية، 1413 ه / 1992 م)، ص 2.

wiki/René Cassin (2) يُعرف الدبلوماسي الفرنسي رينيه كاسان (*) René Samuel Cassin (1887 1976) مصطلح حقوق الإنسان، بقولهِ: (إنَّها فرع من فروع العلوم الإجتماعية تختص بدراسة العلاقات بين الناس استناداً إلى كرامةِ الإنسان بتحديد الحقوق والرخص الضرورية لإزدهار شخصية الكائن الإنساني). السيد برعي، عزت سعيد، حماية حقوق الإنسان في ظلِّ التنظيم الدولي الإقليمي، ط 1، (القاهرة، مطبعة العاصمة، 1985 م)، ص 4.

(*) هو: دبلوماسي فرنسي، أسَّس المعهد الفرنسي للعلوم الإدارية، وشارك في صياغةِ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. تحصل سنة 1968 على جائزة نوبل للسلام Nobel Peace Prize لعملهِ على صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما حصل في نفس العام على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. نُقل رفاته من مقبرة مونبارناس إلى مقبرة العظماء (البانتيون) بباريس خلال الاحتفال بالذكرى المئوية لمولدهِ سنة 1987 م. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني: /https://en.wikipedia.org -AAV)

(3) إعلان حقوق الإنسان والمواطن The Declaration of the Rights of Man and of the Citizen (French: Déclaration des droits de l'homme et du citoy )en): هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 آب / أغسطس 1789 م. يُعتبر الإعلان وثيقة حقوق من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية، إذ تُعرَّف

ص: 245

فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة. الإعلان متأثر من فكر التنوير ونظريات العَقد الإجتماعي والحقوق الطبيعية التي قال بها مفكِّرون أمثال: جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1778-1712)، جون لوك John Locke (1632 1704)، فولتير(François-Marie Arouet Voltaire) (1778-1694)، مونتسكيو( Charles-Louis de Secondat Montesquieu) (1689 - 1755). وهو يُشكِّل الخطوة الأولى لصياغةِ الدستور. رغم أنَّ الإعلان حدد حقوق البشر دون استثناء (وليس حقوق المواطنين الفرنسيين فقط) إلاَّ أنَّه لم يُحدد مكانة النساء أو العبودية بشكلٍ واضح. كما أنَّ لمبادئ هذا الإعلان مكانةً دستورية في القانون الفرنسي الحالي.

Jellinek, Georg, The Declaration of the Rights of Man and of Citizens.. A Contribution to Modern Constitutional History, Authorized Translation from the German By: Max Farrand, New York: Henry Holt and Company, 1901, Pp.18-.

(4) مدني، السيد محمد، مسئولية الدولة عن أعمالها المُشرعة.. القوانين واللوائح في القانون المصري.. دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراه غير منشورة، القاهرة، جامعة فؤاد الأول، كلِّية الحقوق، 1953 م، ص 137؛ کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ترجمة: ماهر نسیم، (القاهرة، دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، 1962 م)، ص 78.

(5) السوفسطائية Sophism: كلمة يونانية مشتقة من اللفظة (سفسطة) (سوفيسا (Sophisma، التي تعني الحكمة والحذق. وقد أطلقها الفلاسفة على الحكمة المموهة والحذاقة في الخِطابة أو الفلسفة، كما أُطلقت على كلِّ فلسفةٍ ضعيفة الأساس متهافتة

ص: 246

المبادئ. والسوفسطائية حركة فلسفية غير متكاملة ضمن نظام، ظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، ومركزها أثينا، وهي فلسفة عملية تقوم على الإقناع لا على البُرهان العلمي أو المنطقي، وعلى الإدراك الحسِّي والظن، وعلى استعمال قوة الخطابة والبيان والبلاغة والحوار الخِطابي، والقوانين الجدلية الكلامية بهدف الوصول إلى الإقناع بما يُعتقد أنَّه الحقيقة، وبهذا المعنى أصبحت السوفسطائية عنواناً على المُغالطة والجدل العقيم واللعب بالألفاظ وإخفاء الحقيقة. تُعد السوفسطائية دعوةً نسبية شكِّية وتمرداً على العلوم الطبيعية، فقد كانت في صميمها دعوة إلى الاقتصار في تفسير الكون على الظواهر وحدها، من دون الاستعانة بأيِّ مبادئ خارجية أو عوالم أخرى، وكانت أيضاً دعوة ضدَّ (المدرسة الإيلية) التي كانت تبحث عن الحقيقة خارج عالم الظواهر بوصفه عالماً وهمياً، فقد حولت السوفسطائية الفكر من الاهتمام بالطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان، وقلبت أسسه، وغيرت معاييره؛ إذ تركت الظواهر الخارجية جانباً وجعلت من الإنسان موضوعاً أساسياً للتفلسف والتفكير قبل الموضوعات الأخرى، فالإنسان الفرد هو معيار الحقيقة. لهذا اهتمت السوفسطائية بالمعرفة والذات والأخلاق. ولم ينبثق السوفسطائيون (المغالطون) عن تيارٍ فلسفي واحد، بل عن مدارس فلسفية مختلفة، وكان نعت «مغالط» أو سوفسطائي يعني وصمة الإزدراء والطعن والنقد، بيد أنَّ بعض الباحثين عدوا المغالطين الأُوَل رجالاً أجلاء محترمين لهم كلمتهم المسموعة ورأيهم النافذ في وطنهم، أخذوا على عاتقهم عبءَ تربية الأحداث وسعوا إلى تهيئةِ رجال الدولة. وكان من أشهر أعلام السوفسطائية: پروتاگوراس Protagoras و گورگیاس Gorgias و هیپیاس -Hip pias وپرودیکوس Prodicus وپولوس Polos. يُنظر: ستيس، ولتر، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، (القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1984 م)، ص ص 97 - 112.

ص: 247

(6 ) Wylen, Stephen M., The Jews in the Time of Jesus: An Introduction, New York: Paulist Press, 1995, Pp. 190192-.

(7) The Roots of Liberty.. Magna Carta, Ancient Constitution, and the Anglo American Tradition of Rule of Law, Edited by: Ellis Sandoz, Columbia:

University of Missouri Press, 1993.

(8) عطية، نعيم، القانون والقيم الإجتماعية.. دراسة في الفلسفة القانونية، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971 م)، ص 30.

(9) متولي، عبد الحميد، الحريات العامة.. نظرات في تطوراتها وضماناتها ومستقبلها، (الإسكندرية، منشأة المعارف، 1975 م)، ص 30.

(10) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، (القاهرة، دار الموقف العربي، د.ت.)، ص 82.

(11) المرجع نفسه.

(12) کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 77.

(13) هي: ثورة قامت في المُستعمرات البريطانية الثلاثة عشر الواقعة في أمريكا الشمالية والتي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية خلال القرن الثامن عشر، وقد استوطنها مهاجرون بالساحل الشرقي من أمريكا الشمالية رأوا من حقهم الانفصال عن الإنكليز وتسيير أمورهم بأنفسهم. بدأت الثورة في 19 / أبريل / 1775 م عندما اصطدم البريطانيون بالثوار الأمريكيين في مدينتي لكسنجتون Lexington وكونكورد Concord في ولاية ماساشوسيتس Massachusetts، واستمرت ثماني سنوات وانتهت في 3 / سبتمبر/ 1783 م، عند توقيع معاهدة باريس بين بريطانيا والولايات المتحدة التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة. لمزيد من

ص: 248

التفاصيل، يُنظر: أبو عليه، عبد الفتاح حسن، تاريخ الأمريكيتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، (الرياض، دار المريخ للنشر، 1407 ه / 1987 م)، ص ص 48 - 81؛ Shalhope, Robert E., Toward a Republican Synthesis: The Emergence of an Understanding of Republicanism in American Historiography, The William and Mary Quarterly, 3rd Ser., Vol. 29, No. 1. (Jan., 1972). Pp.4980-; Boatner, Mark Mayo III, Encyclopedia of the American Revolution, 2ed, New York:

Charles Scribners and Sons, (1974); Gray, Edward G., and Jane Kamensky, eds. The Oxford Handbook of the American Revolution, (2013); Bailyn, Bernard, The Ideological Origins of the American Revolution, Harvard University Press, (1967).

(14) إعلان الاستقلال الأمريكي The Declaration of Independence: هو و تبناها الكونغرس القاري في 4 / يوليو/ 1776، لتُعلن أنَّ المستعمرات الأمريكية الثلاثة عشر المتحاربة مع بريطانيا العظمى قد أصبحت ولايات مستقلة، وبالتالي لم تعد جزءً من الإمبراطورية البريطانية. مكتوب بشكل رئيسي بواسطة توماس جيفرسون Thomas Jefferson (1743-1826)، يُعتبر الإعلان تفسيراً رسمياً لأسباب تصويت الكونغرس في 2 / يوليو لصالح إعلان الاستقلال عن بريطانيا العظمى، بعد مرور أكثر من عام على اندلاع حرب الاستقلال الأمريكية. عيد ميلاد الولايات المتحدة الأمريكية - يوم الاستقلال - يُحتفل بهِ في 4 / يوليو، يوم اعتماد الكونغرس صيغة الإعلان. بعد إتمام النص في 4 / يوليو، أصدر الكونغرس إعلان الاستقلال على أكثر من صورة. فوزع بدايةً كإعلانٍ مطبوع وزِّع على نطاقٍ واسع وتُليت على مسامع الجمهور. أشهر نسخة من الإعلان، هي النسخة الموقعة التي

ص: 249

تُعتبر إعلان الاستقلال الرسمي، وهي معروضة في الأرشيف الوطني في واشنطن العاصمة. بالرغم من الموافقة على الإعلان في الرابع من يوليو، إلاَّ أنَّ تاريخ التوقيع عليه هو محل جدل، وقد خلص معظم المؤرخين إلى أنَّ الوثيقة قد وقع عليها تقريباً بعد شهرٍ من تبنِّيها، في 2 / أغسطس / 1776، وليس في 4 / يوليو كما المُعتقد السائد. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني:

https://en.wikipedia.org/wiki/United_States_Declaration_of_Independence

(15) العمري، أحمد سويلم، مجال الرأي العام والإعلام، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1957 م)، ص 84.

(16) کارتر، جوندولين وجون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 75.

(17) الحركات الإجتماعية: هي تلك الجهود المُنظَّمة التي يبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع، أو السياسات، أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقتراباً من القِيَم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة. وبالرغم من تراجع مفهوم (الحركة الاجتماعية) خلال العَقدين الأخيرين في العلوم الإجتماعية كمفهوم تحليلي لصالح مفهوم (المجتمع المدني)، فإنَّ هناك من لا يزال يدافع عنه من المُفكِّرين المرموقين، منهم على سبيل المثال عالم الإجتماع الفرنسي آلان تورين Alain Touraine الذي يبني دفاعه عن مفهوم الحركة الإجتماعية على أساس موقفهِ النقدي الرافض لفكر ما بعد الحداثة الذي أعلن انتهاءها لصالح النسبية وتفضيلاً لمفهوم الجماعات المدنية المُتنازعة في المجال العام التي تُدير نزاعاتها عِبرَ آلية التفاوض المستمر وليس الحركات الواسعة الأيدلوجية، فقد انصب نقد تورين على ما بعد الحداثة باعتبارهِ فكراً هداماً للنموذج العقلاني الذي وصلت إليه المجتمعات الحديثة عِبرَ نضالاتٍ مريرة على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي يقوم بالأساس على

ص: 250

السعي لبناء إجماع رشيد. وبالتالي فإنَّ هدف الحركة الإجتماعية الحديثة عند ألان تورين هو تحرير الذات التي تُمثل إليه مفهوم الفاعل الإجتماعي، أي المفهوم الذي يجعل للعلاقة الإجتماعية بعداً أصيلاً في الفرد. كما يؤكِّد تورين أنَّ الحركة الإجتماعية تكون عن وعي الأفراد بذواتهم في غنىً عن تشكل نِقابة سياسية من أجل الدفاع عن مطالبهم. يقول تورين: (الحركة الإجتماعية الجديدة: لا تتشكَّل بالعمل السياسي والصِدام، ولكن بتأثيرها في الرأي العام). ولا يبدو أنَّ هناك تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الحركة الإجتماعية، حيث يتسع حيناً ليشمل في طياته مختلف المسارات أو السيرورات الإجتماعية مهما تنوعت أو تعددت، ويضيق حيناً آخر؛ بحيث يُشير فقط إلى سلوكٍ جمعي له فرادة تميزه، وله بناء وتنظيم وقيادة، ويهدف إلى تغيير الأوضاع القائمة، أو تغيير بعض جوانبها الأساسية على الأقل. وثمَّة تصنيفات عديدة للحركات الإجتماعية، فالبعض يُصنفها إلى حركاتٍ ريفية وأخرى حضرية، أو حرکاتٍ قومية وأخرى عالمية، وغير ذلك من التصنيفات التي تستند إلى أُسسٍ فئوية أو عرقية. ويرى كل من ريمون بودون Raymond Boudon و فرانسوا بوریکو Francois Bourricaud أنَّ الحركات الإجتماعية تتشكَّل في الفترات التي تُعاني فيها المجتمعات من أزمة، وتُسهم هذهِ الحركات في عملية التغيير وتجاوز الأزمة. زهران، فريد، الحركات الإجتماعية الجديدة، ط 1، (القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007 م)، ص ص 27 - 32.

(18) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 115.

(19) بدوي، ثروت، النُظُم السياسية، (القاهرة، دار النهضة العربية، د.ت.)، ص 325.

(20) والذي يمثل بدء الجمهورية الخامسة في فرنسا. هذا الدستور الذي وضع قيد التنفيذ في 5 / تشرين الأول / 1908 م. حيث نشأت الجمهورية الفرنسية الخامسة

ص: 251

على أنقاض الجمهورية الفرنسية الرابعة مُستبدلةً الحكومة البرلمانية بنظامٍ نصف رئاسي. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر الموقع الإلكتروني: https://en.wikipedia.org/wiki/French_Fifth_Republic

(21) حسنين، علي محمد، رقابة الأمة على الحُکَّام.. دراسة مقارنة بين الشريعة ونُظُم الحكم الوضعية، (دمشق، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1988 م)، ص 51.

(22) عصر التنوير: هي حركة سياسية، إجتماعية، ثقافية وفلسفية واسعة، تطورت بشكلٍ ملحوظ في القرن الثامن عشر الميلادي في أوربا. نشأت في إنكلترا ولكن التطور الحقيقي كان في فرنسا. وتحول مفهوم التنوير ليشمل بشكل عام أيَّ شكلٍ من أشكال الفكر الذي يريد تنوير عقول من الظلام والجهل والخرافة، مستفيداً من نقدٍ العقل ومُساهمةٍ للعلوم. لمزيد من التفاصيل، يُنظر: صالح، هاشم، مدخل إلى التنوير الأوروبي، (بیروت، دار الطليعة، 2005 م).

(23) کارتر، جوندولين و جون هيرز، نظام الحكم والسياسة في القرن العشرين، ص 77.

(24) منظَّمة عالمية تضم في عضويتها جميع دول العالم المُستقلة تقريباً. تأسَّست مُنظَّمة الأمم المتحدة بتاريخ 26 / أكتوبر / 1945 في مدينةِ سان فرانسیسکو -San Fran cisco، كاليفورنيا California الأمريكية، تبعاً لمؤتمر دو مبارتون أو كس The Dumbarton Oaks Conference الذي عُقِدَ في العاصمة واشنطن Washington D.C.. من 1919 إلى 1945 كان يوجد مُنظَّمة شبيهة بمنظَّمة الأمم المتحدة تُدعى عصبة الأمم The League of Nations، إلاَّ أنَّها فشلت في مهامها خصوصاً بعد قيام الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى نشوء الأمم المتحدة بعد انتصار الحلفاء The Allies of World War II، وتمَّ إلغاء عصبة الأمم. وعضوية الأمم المتحدة مفتوحة أمام كل الدول المُحبة للسلام التي تقبل التزامات میثاق الأمم المتحدة وحكمها.

ص: 252

ومنذ 14 تموز من سنة 2011 بعد تقسيم السودان أصبح هناك (193) دولة كأعضاء في المنظَّمة. إنَّ السعي لتوفير حقوق الإنسان كان أحد أهم الأسباب التي قامت من أجلها الأمم المتحدة. حيث أدت الأعمال الوحشية والإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية إلى إجماع عام على أن تعمل الأمم المتحدة ما بوسعها لمنع مثل هكذا مآسي في المستقبل. هذا الهدف المُبكِّر أصبح يمثل إطاراً قانونياً لاحتواء وحل الشكاوى المُتعلِّقة بانتهاكاتِ حقوق الإنسان. لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: هانیماكي، يوسي إم، الأمم المتحدة.. مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: محمد فتحي خضر، ط 1، (القاهرة، مؤسَّسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013 م)، ص ص 15 - 30.

(25) يُنظر الموقع الإلكتروني: http://www.un.org/en/sections/un-charter/introductory-note/index.html

(26) المرجع نفسه.

(27) حسنين، رقابة الأمة على الحُكَّام، ص 109؛ ولمزيدٍ من التفاصيل حول هذهِ الاتفاقيات، يُنظر: وفيق، محمد، موسوعة حقوق الإنسان، (القاهرة، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، 1970 م).

(28) مدني، مسئولية الدولة عن أعمالها المُشرعة، ص 128.

(29) يُعتبر کتاب (اللفياثان) الذي ألَّفه عالم الرياضيات والفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز سنة 1651 م من الكتب المؤسِّسة النظرية فلسفة الدولة، ولعلَّه الأكثر تأثيراً في السياسة بعد كتاب (الأمير) لمكيافيلي، وتقوم فكرة الكتاب على أنَّ البشر أنشأوا تقالید سیاسية للحكم والدولة استناداً إلى قدراتهم ومخاوفهم وطبائعهم الخاصة، وليس بناءً على الغيب. واللفياثان هو كائن خرافي له رأس تنين وجسد

ص: 253

أفعى يستعمله (هوبز) ليصور سلطة الحاكم أو الدولة التي يستبدل بها الناس ضمن عقدٍ إجتماعی جدید سلطة الدين أو اللاهوت. تحدث (هوبز) في القسم الأول من الكتاب عن الأجسام وحركتها في العالم الطبيعي، وتحدث في القسم الثاني الأكبر عن الدولة المدينة، وتحدث في القسم الثالث عن الدولة المسيحية، ليتوصل إلى ضرورة أن تخضع الكنيسة للدولة وليس العكس، وفي القسم الرابع (مملكة الظلام) يتحدث عن مساوئ الدولة الدينية، وعن مخالفتها للعهد القديم والعهد الجديد. ويُعلِّق (رضوان السيد) على الكتاب بالقول: (إنَّ هوبز أخذ بالفكرة السائدة للعقد الإجتماعي، ولكنه أفرغه من مضمونهِ حين اعتبره مؤداً لا رجعة فيه ولا تعديل ولا مسؤولية، وحين ربطه بخطأ في الطبيعة البشرية يستحيل إجراؤه إلاَّ بهذهِ الطريقة، وبذلك تسود النظام الهوبزي جبرية مطلقة يؤسِّسها الفيلسوف على فرضياتٍ يعتقد أنَّها في يقينها مثل مسلَّمات الرياضة والهندسة. وطبيعي وسط ازدهار أفكار الديمقراطيات وممارساتها أن لا يأخذ أحد اليوم نظرة (هوبز) عن الدولة بالاعتبار، ولكنه يظل مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الحديث، وصرخةً في وجه الاضطراب السياسي، ودعوةً السلطةٍ واحدة في المجتمع الواحد). يُنظر: هوبز، توماس، اللفياثان.. الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبیب حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم: رضوان السيد، ط 1، (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، 1932 ه / 2011 م)، صص 15 - 16، مقدمة المُراجِع.

(30) المرجع نفسه، ص 54.

(31) الغزالي، محمد، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، ط 4، (القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2005 م)، ص 11.

(32) الريسوني، أحمد وآخرون، حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة، ط 1، (قطر،

ص: 254

وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1423 ه)، ص 40 وما بعدها.

(33) الحقيل، سلیمان بن عبد الرحمن محمد، حقوق الإنسان في الإسلام والرد على الشُبهات المثارة حولها، (الرياض، 1415 ه / 1994 م)، ص ص 30 - 31.

(34) الريسوني، حقوق الإنسان.. محور مقاصد الشريعة، ص 63.

(35) الحقيل، حقوق الإنسان في الإسلام والرد على الشُبهات المثارة حولها، ص 33 وما بعدها؛ ويُنظر كذلك: الفتلاوي، سهيل حسین، حقوق الإنسان في الإسلام.. دراسة مقارنة في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، (بیروت، دار الفكر العربي، 2001 م).

(36) لمزيدٍ من التفاصيل، يُنظر: عبد الحسين، شذى عبد الصاحب، مجتمع المدينة من خلال القرآن الكريم.. الجوانب السياسية والإجتماعية.. دراسة تأريخية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة ديالى، كلِّية التربية، 2005 م، ص ص 74 - 83.

(37) الزعبي، فاروق فالح، (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي.. دراسة تحليلية مقارنة)، مجلَّة الحقوق، مجلس النشر العلمي، الكويت، العدد 4، السنة 29، ذو القعدة 1436 ه / ديسمبر 2005 م، ص 112.

(38) المرجع نفسه، ص 115.

(39) الرشيدي، أحمد وعدنان السيد حسين، حقوق الإنسان في الوطن العربي، (دمشق، دار الفكر، 2002 م)، ص 18.

(40) السيد حسين، عدنان، حقوق الإنسان في الإسلام، ط 1، (بیروت، المؤسَّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1426 ه / 2009 م)، ص 316.

(41) Dhalla, Maneckji Nusservanji, Our Perfecting World: Zarathushtra's

ص: 255

Way of Life, New York: Kessinger Publishing LLC., 2008, p.211.

(42) ط 2، (بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997 م).

(43) ط 2، (القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2006م).

(44) هو: محمود محمد طه، مُفکِّر و مؤلِّف و سیاسي سوداني (1909 - 1985). أسس مع آخرين الحزب الجمهوري السوداني عام 1945 کحزب سياسي يدعو لإستقلال السودان والنظام الجمهوري، وبعد اعتکافٍ طويل خرج منه في أكتوبر 1951 أعلن مجموعةً من الأفكار الدينية والسياسية سمَّی مجموعها بالفكرة الجمهورية. أخذ الكثير من العلماء مختلفي المذاهب الكثير على الفكرة الجمهورية وعارضوها ورماه بعضهم بالردة عن الإسلام وحوكم بها مرتين، أُعدم في أخراهما في يناير 1985 في أواخر عهد الرئيس جعفر نميري. عُرف بين أتباعهِ ومُحبيه بلقب (الأستاذ). ما زال الحزب الجمهوري ينشر فكره وما زال معارضوه ينشرون الكتب والفتاوى المضادة. لمزيدٍ من التفاصيل، یُنظر: بشیر، محمد عمر، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900 - 1969)، ترجمة: هنري رياض وآخرون، (الخرطوم، الدار السودانية للكتاب، 1600 ه / 1980 م)، ص ص 239 - 260.

(45) المالكي، فاضل، حقوق الإنسان، (طهران، مؤسَّسة البحوث والدراسات الإسلامية، 2012 م)، ص 11.

(46) المرجع نفسه، ص 14.

(47) المرجع نفسه، ص 15.

(48) شريعتي، روح الله، فقه التعايش.. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.. حقوقهم وواجباتهم، تعريب: علي آل دهر الجزائري، (بیروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر

ص: 256

الإسلامي، 2009 م)، ص 14.

(49) للإطلاع على سبب نزول هذهِ الآية وتفسيرها، يُنظر: الشيرازي، ناصر مکارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، (بیروت، مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات، 2007 م)، ج 2، ص ص 91 - 95.

(50) ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، د.ت.)، ج 2، ص 102.

(51) المالكي، حقوق الإنسان، ص 201. (52) عن وثيقة المدينة والدراسات التي قُدمت حولها، يُنظر: مركز دراسات الكوفة، وثيقة المدينة، (الأعمال الكاملة لأبحاث المؤتمر العلمي السنوي الأول لمركز دراسات الكوفة، شباط / 2012 م)، النجف، مؤسَّسة النبراس للطباعة والنشر والتوزيع، 2012 م، 3 ج.

(53) الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله مُحمَّد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المُستدرك على الصحيحين، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1990 م)، ج 1، ص 171.

(54) المجلسي، مُحمَّد باقر (ت 1111 ھ / 1698 م)، بحار الأنوار، تحقیق: عبد القادر عطا، بیروت، مؤسَّسة الوفاء، د.ت.)، ج 1، ص 171.

(55) البخاري، أبو عبد الله مُحمَّد بن إسماعيل (ت 256 ه / 870 م)، الأدب المفرد، تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط 3، (بیروت، دار البشائر الإسلامية، 1409 ه / 1989 م)، ج 1، ص 76.

(56) الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 ه / 918 م)، المعجم الوسيط، تحقیق: طارق عوض الله، (القاهرة، دار الحرمين، 1415 ه / 1995 م)، ج 2،

ص: 257

ص 297.

(57) للمزيد عن عهد الإمام مالك الأشتر، يُنظر: سوادي، فليح، عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليهِ على مصر مالك الأشتر، (النجف الأشرف، العتبة العلوية، 2010 م).

(58) لمزيدٍ من التفاصيل حول رسالة الحقوق وشرحها، يُنظر: القبانجي، حسن السيد علي، شرح رسالة الحقوق، ط 3، (قم، مطبعة إسماعیلیان، 1416 ه / 1996 م)، ج 2 - 3.

(59) Sandoz, Ellis, The Roots of Liberty, London: Liberty Fund Inc.; Liberty Fund Ed edition, p.81.

(60) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 82.

(61) العمري، أحمد سويلم، مجال الرأي العام والإعلام، ص 84.

(62) سيف الدولة، عصمت، النظام النيابي ومشكلة الديمقراطية، ص 115.

(63) الجدة، رعد ناجي وآخرون، حقوق الإنسان والديمقراطية، (بغداد، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 2009 م)، ص 43.

(64) شمس الدين، محمد مهدي، ثورة الحُسين.. ظروفها الإجتماعية وآثارها الإنسانية، (قم، مطبعة ستارة، 2006 م)، ص ص 109 - 110.

(65) المرجع نفسه، ص 197.

(66) للإطلاع على تفاصيل تلك الثورات وظروفها، يُنظر: عكله، مثال حسن، الثورات العلوية الشعبية في العراق وأثرها في نشوء الفرق الإسلامية حتَّى عام

ص: 258

334 ه، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة المستنصرية، 2010 م؛ وعن ثورة زيد بن علي أسبابها وظروفها ومجريات أحداثها، يُنظر: المقرم، عبد الرزاق الموسوي، زيد الشهيد بن علي بن الحُسين بن علي بن أبي طالب، (قم، مطبعة شریعت، 1427 ه / 2006 م).

(67) العذاري، محمد عبد الرضا، واقعة فخ سنة 169 ه.. أسبابها ونتائجها، رسالة ماجستير غير منشورة، كلِّية التربية، الجامعة المستنصرية، 2009 م، ص 15.

(68) أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين بن مُحمَّد (ت 356 ه / 967 م)، مقاتل الطالبيين، تحقيق: أحمد صقر، (طهران، منشورات ذي القربی، 1425 ه / 2004 م)، ص 188.

(69) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 ه / 923 م)، تاريخ الرُسُل والملوك، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة، دار المعارف، 1979 م)، ج 8، ص 104.

(70) عن تلك الثورات، يُنظر: عكله، حسن، مرجع سابق.

(71) عن ثورة الزنج وأسبابها ومجريات أحداثها، يُنظر: السامر، فيصل، ثورة الزنج، ط 2، (بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، 2012 م).

(72) الوائلي، أحمد، ديوان الوائلي، شرح وتدقيق: سمير شيخ الأرض، ط 1، (بیروت، مؤسَّسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، 1428 ه / 2007 م)، ص ص 82 - 83.

(73) جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية .. علي وحقوق الإنسان، (البحرين، دار ومكتبة صعصعة، 1423 ه / 2003 م)، ج 1، ص 105.

(74) هو: أبو الحسن مُحمَّد بن الحسين بن موسى الرضي العلوي الحُسيني الموسوي (359 - 406 ه / 970 - 1015 م). أشعر الطالبيين، على كثرةِ المجيدين فيهم.

ص: 259

مولده ووفاته في بغداد. انتهت إليه نقابة الأشراف في حياةِ والدهِ. وخلع عليه بالسواد، وجُدد له التقليد سنة 403 ه. له: (ديوان شعر) في مُجلَّدين، وكتب، منها: (المجازات النبوية)؛ (مجاز القرآن) باسم (تلخیص البيان عن مجاز القرآن)؛ (مختار شعر الصابئ)؛ (مجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل) طُبعت باسم (رسائل الصابئ والشريف الرضي)، (حقائق التأويل في متشابه التنزيل)؛ (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب). وشعره من الطبقةِ الأولى رصفاً وبياناً وإبداعاً. يُنظر: ابن خلِّکان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن مُحمَّد بن أبي بكر (ت 681 ه / 1282 م)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقیق: إحسان عباس، (بیروت، دار صادر، 1968 م)، ج 4، ص ص 414 - 420؛ الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 15، بیروت، دار العلم للملايين، 2002 م)، ج 6، ص 99.

(75) یُنظر على سبيل، ما ذكره ابن خلِّكان ضمن ترجمته للشريف المرتضى، ما نصه: (وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، هل هو جَمْعهُ أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنَّه ليس من کلام علي، وإنَّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه). وفيات الأعيان، ج 3، ص 313.

(76) يُنظر: مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة.. محاولة لفهمٍ جدید، تحقیق: سامي الغريري، ط 1، (قم، دار الكتاب الإسلامي، 1425 ه / 2005 م)، 6 ج؛ الخطيب، عبد الزهراء الحُسيني، مصادر نهج البلاغة وأسانیده، ط 3، (بیروت، دار الأضواء، 1405 ه / 1985 م)؛ الجلالي، محمد حسين الحُسيني، مُسندَ نهج البلاغة، ط 1، (قم، مكتبة العلاَّمة المجلسي، 1431 ه)، 3 ج؛ الجبوري، حیدر کاظم، مصادر الدراسة عن نهج البلاغة، (النجف الأشرف، العتبة العلوية المقدسة، 2013 م).

(77) نعمة، عبد الله، مصادر نهج البلاغة، (بیروت، مطابع دار الهدى،

ص: 260

1392 ه / 1972 م)، ص ص 28 - 35.

(78) الطوسي، أبو جعفر مُحمَّد بن الحسن (ت 460 ه / 1028 م)، اختیار معرفة الرجال المعروف ب(رجال الكشِّي)، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، (قم، مؤسَّسة النشر الإسلامي، 1427 ه)، ج 2، ص 489.

(79) جيلي، مختار، (نهج البلاغة)، طهران، الموسوعة الإسلامية، ط 2، م 7، ص 904.

(80) بیضون، لبيب، تصنیف نهج البلاغة، ط 2، (طهران، مكتب الإعلام الإسلامي، 1408 ه)، ص 41.

(81) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، (بیروت، دار المعرفة، د.ت.)، ج 1، ص 4.

(82) بیضون، تصنیف نهج البلاغة، ص 42.

(83) الخراساني، جواد المصطفوي، الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه، (طهران، دار الكتب الإسلامية، د.ت.).

(84) Wadād Al-Qādī, An Early Fatimid Political Document, Studia Islamica, N48, 1978, Pp.71108-.

(85) کاظمي، رضا شاه، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ط 1، (بیروت، دار الساقي ومعهد الدراسات الإسماعيلية، 2009 م)، ص ص 106 - 107.

(86) هذهِ إشارة إلى عمار بن یاسر (رضي الله عنه) الذي قُتل على أيدي قوات معاوية في صفِّين. وشکَّل مقتل عمار صفعةً معنوية كبيرة لجيش معاوية، إذا ما تذكرنا نبوءة النبي بأنَّ الفئة الباغية ستقتل عماراً. يُنظر: القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 2691 ه / 875 م)، صحیح مسلم، تحقیق: نظر محمد الفاريابي، ط 1، الرياض، دار طيبة، 1427 ه / 2006 م)، حديث رقم (2916)، م 2، ص 1333.

ص: 261

ذکر مسلم عن أمِّ سلمة (رضي الله عنها) أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمار بن یاسر: (تَقتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ).

(87) الطبري، أبو جعفر مُحمَّد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، تاریخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، (القاهرة، دار المعارف، د.ت.)، ج 5، ص 96.

(88) ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي (ت 656 ه / 1208 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1385 ه / 1965 م)، ج 6، ص 77.

(89) الآمدي، أبو الفتح ناصح الدين عبد الواحد بن مُحمَّد بن عبد الواحد التميمي (ت ق 6 ه / 12 م)، غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، تحقيق: حسين الأعلمي، ط 1، (بیروت، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، 1422 ه / 2002 م)، ص 120.

(90) المصدر نفسه، ص 42.

(91) جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 1، ص ص 111 - 112.

(92) هذا حديثٌ قُدسي، أي حديث إلهي نطق بهِ النبي. يُنظر: ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق: عبد القادر شيبة الحَمَد، ط 1، (الرياض، 1421 ه / 2001 م)، ج 13، ص 449، حديث رقم (7179).

(93) الآمدي، غُرَ الحِکَم ودُرَر الكَلِم، ص 111.

(94) المصدر نفسه، ص 238.

ص: 262

(95) المصدر نفسه، ص 38.

(96) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 84.

(97) کاظمي، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ص 134.

(98) لمزيد من التفاصيل حول موضوع الرحمة في الإسلام، يُنظر: أعمال المؤتمر الدولي حول (الرحمة في الإسلام)، الذي أقامته جامعة الملك سعود، كلِّية التربية، قسم الدراسات الإسلامية، الرياض، 1430 ه، 13 مُجلَّد.

(99) الفخر الرازي، أبو عبد الله مُحمَّد بن عمر بن الحسن الطبرستاني القَرَشي (ت 604 ه / 1208 م)، تفسير الفخر الرازي المُشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، ط 1، (بیروت، دار الفكر، 1401 ه / 1981 م)، ج 9، ص 66.

(100) القشيري، صحیح مسلم، حديث رقم (2594)، م 2، ص 1203.

(101) المالكي، فاضل، حقوق الإنسان، ط 1، (مؤسَّسة البحوث والدراسات الإسلامية / دار الفكر، 1432 ه)، موسوعة المحاضرات الإسلامية، ص ص 15 - 18.

(102) نقصد بهذهِ الفقرة، ما نصه من كتاب الإمام مالك الأشتر: (اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِینِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَّاً. وَاحْفَظِ للهَّ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِ الإِسْلَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ للِأَقْصَ مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للِأَدْنَى. وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ وَلا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ

ص: 263

باِلإِعْذَارِ إِلَی اللهَّ يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللِّهَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ. وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنّْ لا حِيلَةَ لَهُ وَلا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذَلِكَ عَلَی الْوُلاةِ ثَقِيلٌ وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللُّهَ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ). عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص ص 100 - 101.

(103) الزَّمني: بفتح أولهِ، جمع زمن، وهو المُصاب ب(الزَّمَانَة) بفتح الزاي أي العاهة. يريد أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب. يُنظر حول المعنى: الفيروز آبادي، مجد الدين أبو طاهر مُحمَّد بن يعقوب بن محمد (ت 817 / 1415 م)، معجم القاموس المحيط، تحقیق: خلیل مأمون شيحا، ط 4، (بیروت، دار المعرفة 1430 ه / 2009 م)، ص 573.

(104) المذهب العملي أو فلسفة الذرائع أو البراغماتية Pragmatism: هو مذهب فلسفي سیاسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ رابطاً بين التطبيق والنظرية، حيث أنَّ النظرية يتم استخراجها عِبرَ التطبيق، نشأت هذهِ المدرسة في الولايات المتحدة في أواخر سنة 1878. والبراغماتية اسم مُشتق من اللفظ اليوناني: براغما، ومعناه العمل. تقوم البراغماتية على أنَّ الأثر العملي هو المُحدِّد الأساسي في صِدق المعرفة وصِحَّة الاعتقاد بالحياة الإجتماعية للناس. فالقيمة والحقيقة لا تتحدان إلاَّ في علاقتهما بالممارسة العملية. وتتميز البراغماتية عن الفِعلانية كما حددها الفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز پیرس Charles Sanders Peirce (1839 - 1914). وتشمل البراغماتية كل الحركة الفلسفية المُتعلِّقة بوليام جيمس William James ( 1910-1892 ) وجون ديوي John Dewey (1859 - 1952)، ثمَّ الفلاسفة الجُدد الذين استأنفوا تراثهم الفكري، من مثل: ريتشارد رورتي Richard McKay

ص: 264

Rorty ( 2007-1931 ) وهيلاري پوتنام Hilary Whitehall Putnam (1926 - (2016

Pratt, James Bissett, What is Pragmatism?, New York: The MacMillan Company, 1909, Pp.147-.

(105) کاظمي، العدل والذكر.. تعریفٌ بروحانية الإمام علي، ص ص 144 - 145.

(106) هي: نظام اقتصادي - إجتماعي، يهدف إلى إزالة الفوارق الإقتصادية الكبيرة بين طبقات المجتمع. تُسمَّى أحياناً العدالة المدنية، وتصف فكرة المجتمع الذي تسود فيه العدالة في كافة مناحيه، بدلاً من انحصارها في عدالةِ القانون فقط. بشكلٍ عام، تُفهم العدالة الإجتماعية على أنَّها توفير معاملة عادلة وحصة تشاركية من خيرات المجتمع. العدالة الإجتماعية تُشكِّل مادةً خصبة للنقاش في السياسة، والدين، ومحددات المجتمع المُتحضر. من وجهة نظر اليسار، تتمثل العدالة الإجتماعية في النفعية الإقتصادية، وإعادة توزيع الدخل القومي، وتكافؤ الفرص، وغيرها من أمارات المجتمع المدني.

من أبرز نظريات العدالة الإجتماعية تعود للفيلسوف الأمريكي الليبرالي جون رولس John Bordley Rawls (1921 - 2002) التي اعتمد فيها على تبصرات الفيلسوفان النفعيان جيرمي بينثام Jeremy Bentham(1748 - 1832) وجون ستيوارت میل John Stuart Mill. ( 1873-1806 )، وأفكار العَقد الإجتماعي عند جون لوك John Locke ( 1704-1632 )، وأفكار إيمانويل كانت Immanuel Kant ( 1804-1724 ). إذ كان أول تعبير له عن نظريتهِ في العدالة الإجتماعية في کتابهِ: (نظرية في العدالة) A Theory of Justice، الذي نُشر عام 1971. جاعلاً من العدالة الإجتماعية فكرةً فلسفية لا سياسية.

Social Justice in an Open World.. The Role of the United Nation, New York:

ص: 265

United Nation, 2006. Pp.1120-.

(107) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 153.

(108) عفراوي، أياد دخیل، سياسة المجتمع عند الإمام علي (عليه السلام)، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة المستنصرية، كلِّية التربية الأساسية، 1437 ه / 2015 م، ص ص 96 - 97.

(109) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 27.

(110) المرجع نفسه، ج 3، ص ص 115 - 116.

(111) الحر العاملي، مُحمَّد بن الحسن (ت 1104 ه / 1693 م)، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، (قم، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، د.ت.)، ج 11، ص 49.

(112) عبده، مُحمَّد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص ص 36 - 37.

(113) المنياوي، أحمد، جمهورية أفلاطون.. المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة، ط 1، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2010 م)، ص 205.

ص: 266

دروس ملهمة من الفكر الإسلامي إلى الفكر العالمي في مجال القيمة الروحية للإنسان (وصايا الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا)

اشارة

أ.م. آمال وهاب عبد الله

جامعة كركوك / كلية القانون والعلوم السياسية / قسم العلوم السياسية

ص: 267

ص: 268

مقدمة:

لا ينكر أن الفكر العالمي الغربي قد ساهم في إرساء قواعد وحقوق الإنسان ببعديها النظري والتطبيقي، إلا أن هذا الفكر قد شابه العديد من التضاربات و التناقضات والتفسيرات الخاصة ما أوقعه في معضلات و أزمات عكست بالتالي ما عرف بأزمة الفكر العالمي المعاصر فحالة اليأس والانهزامية داخل نفوس أكثر أبناء عالم اليوم وهم يعيشون أبشع انتهاك لأدميتهم في ظل حكومات وأنظمة سياسية استبدادية أو ديمقراطيات ديكورية و مؤسسات اقتصادية و اجتماعية تبعية تحطم إنسانيتهم كلما تحركوا لتغيير واقعهم المرير، غير متناسين في الوقت نفسه مجموعات وعاظ السلاطين الذين صاغوا من غير وجه حق مفردات و مبادئ زائفة لإضفاء الشرعية للسلطة الحاكمة. هكذا فقد الإنسان المسلم بوجه خاص حقوقه بين النص و الواقع و القيم العالمية و السمة الخصوصية و الإيان بحقوق الإنسان و ادعاء الدفاع عن تلك الحقوق و إفراغها من محتواها الحقيقي.

وهاهي إشكالية عالم اليوم توجب بنا تحقيق نهضة فكرية و حضارية أصيلة نابعة من واقع مجتمعنا و تقاليدنا وأعرافنا غير النهضة الفكرية و الحضارية المزيفة عند الأمم الأخرى، تلك النهضة التي تستقي أفكارها و مقوماتها من تراثها و تقاليدها و أصول بيئتها الفكرية و الحضارية مستندة بذلك الفكر الإمام علي (عليه السلام) و دعوته ووصاياه لحقوق الإنسان و التي عدت مفردات و مبادئ يمكن دراستها في كل عصر، وإذا لم يتحقق ذلك فإننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى قبول الأفكار السياسية الغربية المزيفة و التي لا تنبع من أصول تراثنا و تقاليدنا وهو ما يهدد کیاننا و يجعلنا دوما أن نعيش في فراغ فكري. ويستند البحث إلى فرضية علمية مفادها أن للإمام علي بن ابي طالب ( عليه السلام) فكر مميز لحقوق الإنسان اتسم بالشمولية والعمق تجلت بقواعد حكمه

ص: 269

ووصاياه عليه السلام و قد امتاز هذا الفكر بمبادئ رصينة تتساوق في إي زمان و مکان نظرا لما تحتويه من قیم روحانية و مسؤولية كبيرة في بناء فكر عالمي أنساني قادر على تحقيق و بناء الاستقرار العالمي، وعليه قسمت الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسة:-

أولا:- حقوق الإنسان وأزمة الفكر العالمي المعاصر

كما هو معلوم أن الفكر الغربي الذي بسط نفوذه في أصقاع واسعة من العالم قد أصبح بحكم الأمر الواقع الفكر العالمي المعاصر، كما أن الحضارة العالمية الحديثة التي هي الأخرى انعکاس مکبر للحضارة الغربية قد قامت على فلسفة تستمد مقوماتها من هذا الفكر العالمي الذي نحن بصدده والذي له آراؤه في الإنسان و الكون والحياة. وليس بخاف على كل متتبع للفكر العالمي المعاصر وللحضارة الحديثة أنها قد جاءت بأفكار علمية و بوسائل لتجسيدها، الهدف منها الأخذ بيد الإنسان نحو التقدم والسعادة و أن الأفكار و الوسائل التي جاءت بها قد حققت بالفعل تقدما في ميادين العلم و السياسة والاجتماع والاقتصاد والاختراع والتكنولوجيا..... الخ والتي مثلت باجمعها ثورة علمية متقدمة، وكل هذه الأمور لا مجال لإنكارها الا أن الفكر العالمي المعاصر و حضارته التي جاءت تجسيدا لأفكاره قد ظهرت فيها التضاربات والتناقضات والتفسيرات الخاصة مما أوقعتها في معضلات وأزمات عكست بالتالي على ما عرف بأزمة الفكر العالمي المعاصر - ومن هذه النظريات ما صاحب مفاهيم العدالة والحرية من تفسيرات خاصة و غامضة فلقد جاءت الحرية في ظل الفكر والحضارة العالمية التي يحملها على أكتافهم الغربيون جاءت لتعطي حرية من دون قید و مثل هذه الحرية قد أصبحت اقتصاديا حرية الاستغلال، و اجتماعيا حرية أطلاق الغرائز، اما على الصعيد السياسي حرية التسلط و حرية النفوذ السياسي وما صاحبها من حرية الهيمنة والاحتلال العسكري والسياسي

ص: 270

على حد سواء. و هكذا انتهت الحرية لتكون منسجمة كل الانسجام مع مفاهيم الفكر المادي الذي لا يتقيد بضوابط الضمير والأخلاق التي جاءت بها التعاليم الإنسانية للحضارات الدينية والإسلامية على وجه الخصوص والتي ترى في إرساء ضوابط الحر ية نهجا أخلاقيا أساسا لنجاح الحرية المادية.(1)

وعليه بات الفكر الغربي يلاقي صعوبة الاعتدال والتوازن بين ما هو قائم و بين ما يجب أن تقوم عليه حياة الإنسان الذي هو هدف كل الحضارات في القديم و الحديث، والذي يراد له السعادة الطمأنينة و الاستقرار ولقد انعكست صور الاختلال والتوازن بين الفرد والجماعة من جانب و صعوبة التوفيق بين حياة المادية و بين جانبها الروحي من جانب آخر، و هذا ما أدى إلى ظهور تحدیات و أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية أدت بمجملها إلى الانحسار المعنوي لمركز الإنسان الاعتباري، إضافة إلى الصراع بين القوى الدولية لبسط نفوذها و هيمنتها - الصراع المادي - و ما آلت اليه من حروب عالمية و كوارث بشرية تجسدت بصور العوز والفقر و مجتمعات مستبعدة و مستعبدة اجتماعيا واقتصاديا و عنف وإرهاب حصدت أرواح بشرية و تلاشت فيها القيم الروحية والمعنوية لمركز الإنسان، مما أصاب عالم اليوم إعياء و وهن شدیدین.(2)

وفي هذا يقول الدوس هكسلي (أن العالم الآن يشبه قبيلة لعبدة الشيطان، ويعيش في ظل قوانين جديدة قائمة على الشر والحقد و المادية البحتة التي تجرد الإنسان من كل مشاعر الانسان بلا حب بلا تعاطف......) وفي سبيل تقديم العلاج لإمراض الحضارة المعاصرة، يقول هكسلي (أن المثل العليا حقيقة واجبة لاشك فيها لأنها ضرورية للعالم هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفلسفة المادية التي أعجب بها هواة الملذات الباحثون على مسرات الحياة بأنواعها.......).(3)

ويتفق هارولد لاسكي مع هكسلي في الامراض التي تعاني الحضارة العالمية المعاصرة،

ص: 271

الا انه يؤكد بوجه خاص؟ أن مصدر الأزمة تكمن في كونها فقدت الثقة بنفسها بحيث لم تعد قادرة على التغلب على عالم الإطماع والخصومات، ويعبر عن فقدان الثقة هذه بقوله): لقد فقدت الحضارة ثقتها في نفسها و إيمانها العميق بحيوية القيم الثقافية السائدة، وعجزت عن تحقيق الرفاه بين عالم المثل الأعلى المتمثل في كتابات الإنسانيين و بين حقائق هذا الواقع الحافل بأهوائه وإطماعه و خصوماته. أن الحضارة تمر بمحنة من محن الشك والخوف والإلحاد وتمييع المعايير الثقافية والقيم الأخلاقية بصورة تنذر بشر مستطير في حياة الفرد وحياة الجماعة).(4)

مما تقدم يتبين أن عالم اليوم بحاجة ماسة إلى نهضة حضارية أصيلة تستقي أفكارها و مقوماتها من أصول عقائدية قائمة على إنسانية القيم والاعتبارات الروحية للإنسان في كافة الميادين والحقول السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية. والأمة كي تستطيع أن تنهض نهضة فكرية و حضارية أصيلة مجددة، لابد لها أن تستمد أصول نهضتها الحديثة من الأصول الفكرية والمرجعيات العلمية الرصينة و خير مثال دراسة و مراجعة أصول الفلسفة السياسية للأمام علي (عليه السلام) خصوصا إذا ما علمنا أن أصول هذا الفكر نابع من منهجية عقائدية متينة قائمة على مبادئ حقوق الإنسان و القائمة على مقومات العدالة الاجتماعية و الحرية و المساواة والمسؤولية و التوازن. فحاجة الإنسان اليوم اشد من أي وقت مضى لتصحيح الاختلال (رجحان كفة الماديات دون الروحیات) وإعادة التوازن ومن المعلوم إن الطريق الأفضل لإعادة التوازن لا يمكن أن يتم الا بقيام فکر يستطيع أن يوازن بين جوانب الحياة المختلفة، بحيث يؤدي إلى فلسفة شاملة للكون والإنسان تتكامل فيها الأجزاء المختلفة من جانب وقادر على توجيه العلم والتقدم نحو الخير في ظل فکر اجتماعي وسياسي يتقيد بقيود الأخلاق والفضيلة ويساعد على توجيه الفكر المادي وجهة إنسانية او يحد على الأقل من التسلط والتنافس والخصم والنفوذ والهيمنة من جهة اخرى.

ص: 272

ثانيا: - مركز الإنسان وحقوقه في فكر الإمام علي (عليه السلام)

(عالمية الفكر السياسي العلوي)

أن المقارنة الموضوعية بين نظرة كل من الفكر العلوي والفكر الغربي إلى الإنسان، تتطلب أولا الوقوف على الينابيع الأساسية التي استمد كل منهما قوته، والتطورات التي مرت بهما بعد ذلك. وبتطبيق ما تقدم على الفكر الغربي نجد أنه و كما يقول المختصون فيه قد استمد قوته و ينابيعه من التراث اليوناني.

وبنظرة سريعة إلى الفكر اليوناني نجد أنه قد استطاع في كثير من جوانبه أن ينقل الإنسان إلى المستوى الذي تتقارب فيه مقوماته مع مستوى الأخلاق الفاضلة. ومن هنا فان من الممكن القول أن الفكر الغربي في بداية انطلاقه قد نظر إلى الإنسان ومتطلبات تفاعله مع ما يحيط به نظرة قائمة على الأخلاق . وان هذه النظرة قد استمرت كذلك الى القرن السادس عشر الميلادي، اي إلى ظهور احد مفكري الغرب المشهورين وهو ماكيافيلي، الذي بظهوره تغير مجری تاريخ الفكر الغربي والسياسي منه بالذات. وقد ظهر هذا التغير نتيجة للآراء التي جاء بها هذا المفكر، والتي جعل الإنسان منها يسير على طرفي نقيض مع الأخلاق.(5) هذا من جهة، ومن الجهة الثانية، فان الفكر الغربي استطاع عبر الزمن الطويل أن يتحول في نظرته من النظرة الديكتاتورية للإنسان، الى النظرة القائمة على الحرية التي تمثلت في محاولته لتحرير الإنسان من التسلط. وما مشاركة شعوب اوربا في الحكم الا دليل على تطور النظرة إلى الإنسان من الديكتاتورية الى الحرية.(6) ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل استطاع الفكر الغربي أن ينشر مفاهيمه على النطاق العالمي؟ أن الإجابة الدقيقة على ذلك تتلخص في انه اذا كان الفكر الغربي قد حقق نشر مفاهيم الحرية بالنسبة لذويه، فانه على الصعيد العالمي قد فشل فيها على الرغم من نشره المفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، ألا أنه نشر ما يمكن

ص: 273

تسميته بالحرية المبطنة.(7) وهذه الحرية المبطنة ظهرت في أكثر من مظهر في علاقات أوربا وأميركا وفكرهما مع غيرهما من شعوب العالم. ذلك أن شعار الحرية الذي حمله الغربيون بعد نهضتهم قد تقوقع على نفسه بحيث ترجم بأنه حرية التسلط على الآخرين أنه حرية الأوربي و الأميركي في الاستعلاء على الآخرين. وهذا النوع من الحرية المبطنة أدى في مفهومه وتطبيقه إلى الاستعمار وبالتالي إلى الإمبريالية والهيمنة.(8) ومن مظاهر هذا النوع من التسلط و الاستعلاء، نظرة الأوربي والأميركي الاستعلائية والتسلطية نحو شعوب أفريقيا ومن قبل ذلك شعوب آسیا.(9) والأكثر من ذلك أن كل من أوربا وأمیر کما کانت مرجعيتهما الرئيسة لنشر مفاهيم الحرية عن طريق ما أسمته برسالة الرجل الأبيض التي بدت في ظاهرها تحررية إنسانية، ولكنها كانت في حقيقتها رسالة استعباد الإنسان الأبيض للإنسان الإفريقي الأسود. ولعل من خير الأمثلة على مفاهيم الحرية المبطنة، ما أعلنته دولة غربية ديمقراطية عريقة وهي بريطانيا على لسان قائدها الجنرال مود آبان احتلال بغداد، حين خاطب الجماهير بقوله (اننا جئنا محررين لا فاتحين)،(10) والصورة الحقيقية التي ظهرت انها حرية تسلط على الآخرين و حرية من يخدم ذلك التسلط. ومن هنا يصبح مثل هذا المفهوم في الحرية حرية سائبة تبتعد عن القيم الانسانية. وفي الحقيقة أن هذا المفهوم السائب في الحرية هو الذي ادى الى قيام معاهدة سايكس بيكو لاقتسام البلدان والشعوب و ما تلاها من هيمنة وتسلط وصراع القوى العظمى الى يومنا هذا.

و الآن كيف نظر الفكر العلوي للإنسان؟ نستطيع القول أن الفكر العلوي قد نظر للإنسان من زاويتي الأخلاق والاستقامة. هذه الاستقامة التي تنافي و ترفض كل عمل سیاسي کان او اقتصادي او اجتماعي قائم على المراوغة و البرغماتية مؤكدا بالوقت نفسه أن الحرية التي ينشدها للإنسان هي حرية مقيدة و لیست سائبة، حرية مقيدة بالفضيلة و بالأخلاق، حرية مقيدة بالضمير وحرية مقيدة بالإنسانية. أنها حرية لا تفرق بين

ص: 274

أعجمي و عربي إلا بالتقوى وهذه التقوی ما هي ألا الاستقامة في العمل. ومن هنا نجد أن ينابيع فكره (عليه السلام) هي ترجمة لروح الإسلام الحنيف التي تحملها النصوص المقدسة الواردة من القرآن الكريم و السنة النبوية الشريفة، فقد أوصى (عليه السلام) الصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه) عندما عينه واليا على مصر أن يكون ينابيع فكره و أطروحة حكمه مستندة إلى القران الكريم والسنة النبوية الشريفة فقد قال (عليه السلام) (.... واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب و يشتبه عليك من الامور فقد قال الله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الامر منکم فان تنازعتم في شيء فرده الى الله والرسول)(11) فالرد الى الله الأخذ بمحكم كتابه و الرد على الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة، اذن تجسد دور أمير المؤمنين (عليه السلام) دور المنفذ للأطروحة السماوية، فالإنسان كما جاء في الدستور الإسلامي هو أفضل من في الوجود، وبعبارة أدق أن الدستور الإسلامي المتمثل بالقران الكريم يكرم الإنسان و يفضله على سائر المخلوقات کما ورد في قوله تعالى (و لقد کرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناه على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(12) ثم تأي آية اخرى لتعبر عن قيمة الإنسان والمتمثلة بقوله تعالى (خلق الإنسان علمه البيان)(13) بمعنى أن الإنسان الذي هو أهم من في الكون قد حصل على القادر عل تعلم المعرفة وما فيها من البيان، وقد وضع أمام الإنسان نظام شامل للحياة يضم قواعدها الأساسية و انه بفضل عقله و بیانه يستطيع أن يتفهم هذا النظام الشامل في خطوطه العريضة، و أن يجتهد بالنسبة لخطوطه التفصيلية، ويتمثل هذا النظام الشامل القائم على خطة عامة للحياة في أن الإنسان سید نفسه و سيد العالم الذي يعيش فيه، و أن الأشياء من حوله تنظم لتخدم وتقضي حاجاته وتؤدي الى سعادته، و مع أن الفكر الإسلامي يعترف بتأثير و تأثر الظروف التي تصحبها ألا أنه يضع حدا و حاجزا يمنعها من التأثير الطلق في الإنسان(14)، انه يضعها تحت تنظيمه لا بل تحت سيطرته، وهناك الأمثلة الكثيرة على هذه السيطرة، فقد ورد في القرآن

ص: 275

الكريم وهو الموسوعة العالمية والثقافية والاجتماعية نجد أن هناك تخطيطا تتحدد طبيعة نظامه بالاعتدال، ويظهر هذا الاعتدال بقاعدة الدستور الأعلى بقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا)(15)، وبديهي أن حياة الأمة الوسط هي حياة تقوم على التوازن بين الأفراد في داخل المجتمع و خارجه.

وقد سعى الإمام علي (عليه السلام) جاهدا أن يكون هدف وغاية كل حاکم تعزيز مقومات ومركز الإنسان من حيث إقامة العدل، وإحياء الحق، وهو الهدف الذي من اجله أرسل الأنبياء والرسل حتى ينعم الناس بالعدالة الاجتماعية والمساواة فبالعدل فقط تقوم الأنظمة و تستمر ويصير للحياة مفهومها و معناها أما الحياة في ظل حاکم مستبد فهي بمثابة السجن. قال (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه) (... وليكن أحب الأمور أليك أوسطها في الحق و أعمها في العدل و أجمعها الرضى الرعية).(16)

واذا كان ما تقدم يمثل لنا مركز الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) فأننا حين نأتي الفكر الغربي نجد فيه نظریات متضاربة ومتناقضة عن فلسفة مركز الإنسان ومن بين هذه النظريات نظرية الأبوة والنظرية الإقطاعية والنظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية.

وإذا ما حاولنا أن نتفهم مركز الإنسان من خلال نظرية الأبوة نجد أنها تميز بين أفراد العائلة الواحدة من الناحية المادية، بحيث يصبح الابن الأكبر بحسب مفهومها الوريث الوحيد، من بعد موت أبيه. وإذا ما حاولنا أن نتفهم مركز الإنسان من خلال نظرية ونظام الإقطاع فأننا نجده يباع ويشترى مع الأرض التي يملكها الإقطاعي و مثل هذه الصورة تمثل صورة و نظرة دونية إلى الإنسان.(17)

ص: 276

وبانتقالنا إلى نظريات الفكر الغربي الحديثة نجد أن النظرية الرأسمالية قد جاءت و كما أعلن مناصروها بإعطاء الإنسان حريته وبإفساح المجال له في التثبت الفردي الاقتصادي الذي يعمل على سعادته التي لها انعكاسها على سعادة المجتمع، كون المجتمع يتألف من مجموع الإفراد. و لكننا نجد أن هذه النظرية تنطلق من قاعدة الربح. وقاعدة الربح هذه تدفع بالإنسان إلى الخضوع والاستغلال. ومعنى ذلك أن الربح غاية و أن الإنسان واسطة، وهذا يعني أيضا أن وازع الربح المادي يجعل الإنسان يتصرف تصرفا غير مسؤول بحيث يطلب في المجتمع النفوذ السياسي إلى جانب نفوذه الاقتصادي، و من هنا يصبح الفرد الذي لا يملك مسخرا من قبل الفرد الذي يملك، وهذا بعينه يؤدي الى عدم المساواة في المجتمع.(18)

ولقد جاءت النظرية الاشتراكية كرد فعل للرأسمالية لمحاربة الاستغلال، وهدفت إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية بحيث ينتفع من الثروة القومية اكبر عدد ممكن في المجتمع. ولكن الاشتراكي بكل أنواعها المختلفة التي جاءت تقول (الكفاية بالإنتاج والعدالة في التوزيع) لم تستطع أن تتخطى المحور المادي(19) الذي جعل منها أن تبدأ بالمادة و تنهي بها و هذا ما يجعلها تفترق عن نظرية العدالة الاجتماعية في فكر الأمام علي (عليه السلام) الذي ينطلق من قاعدة الكفاية في كل شيء.

أضف لذلك أن مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي دونت في (10 کانون الثاني عام 1948)، والتي اعتبرت وثيقة عالمية تصدر في هذا السياق بحق، جاءت لتؤكد على (أن الناس متساوون في الكرامة والحقوق، وإنهم وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بروح المودة والمساواة والإخاء...).(20)

كما أكدت المادة الثانية على مساواة الناس في الحريات (دون أي تمييز في الجنس او اللون او اللغة او الدين او الرأي السياسي او المولد او الأصل الوطني أو الاجتماعي(21).

ص: 277

ونصت المادة الثالثة والرابعة والخامسة على حق الفرد في الحياة الحرة والأمن الشخصي، وعدم جواز الرق والتجارة فيه، ورفض التعذيب او أي معاملة قاسية او وحشية تحط من كرامة الإنسان.. وهكذا في جميع مواد الإعلان العالمي التي شملت حق التجنس وحق الهجرة و حق اللجوء و حق الضمان الاجتماعي وحق التعلم والضمير.... الخ.(22)

أن هذه الحقوق التي أقرتها الأسرة الدولية، وصادقت عليها اغلب النظم السياسية الحاكمة، لم توضع في اغلبها موضع التنفيذ، أن لم نقل تم تجاوزها في أغلب دول العالم، لأنها لم تشد الإنسان إلى خالقه أولا، ولأنها جاءت من فوق الإنسان وليس من داخله، ولأنها اهتمت بالطرح ألمفاهيمي (عبارات تجميلية وديكورية) دون التأكيد على الحقائق التجريبية، وأكدت على الحكومات دون الشعوب دون النظر إلى الفرد والنفس البشرية(23)، اي عكس ما دعا إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي اهتم بسريرة الإنسان و دخيلته، وعلاقته مع ربه، وصولا إلى عملية التغيير الكبرى في إطار الأمة والمجتمع.

وعلى ما يظهر أن الفكر الأوربي على الرغم من كل التقدم الذي حققه بفضل بعض مفاصل نظرياته في الميادين المختلفة و لاسيما الميدان المادي منه، الا أنه بدت فيه ثغرات تعطي للأشياء مجالا للسيطرة شؤون الإنسان.

وصفوة القول فأن بالإمكان القول أن الفرق الأساسي بين نظرة الفكر العلوي الى الإنسان وبين نظرة الفكر الغربي هو مركز الإنسان و نظرته الى ذاته و الى الآخرين.

ص: 278

ثالثا: - مقومات حقوق الكانسان في نص رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

مما تقدم يمكن للمرء أن يستخلص حقوق الإنسان و مرکزه لیست نتاج الحضارة الغربية، بل أن جذورها تمتد الى جوهر الرسالة الإسلامية، ويعتبر الإسلام أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق وارسي أسس القانون الدولي لحقوق الإنسان، و لقد تميز الفكر العلوي بتجسيد صور حقوق الإنسان من خلال مفردات القران الكريم و السنة النبوية الشريفة، لقد اكتسب مركز الإنسان خلال مسيرة حياته (عليه السلام) مقومات و سمات واضحة لا يسمح للأشياء المحيطة به أن تسيطر عليه، أضف لذلك أنها ميزتها عن غيرها من الحقوق والحريات. تجسدت بحكمه و قضائه ووصاياه، ونظرا لحدود البحث الزمانية و المكانية وفق أصول الرصانة العلمية لأي دراسة أكاديمية، اختص هذا المحور من البحث تبني دراسة و تحليل وصايا الإمام علي (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه) عندما عينه (عليه السلام) واليا على مصر، وهنا يستقي بحثنا و دراستنا أصول و مقومات حقوق الإنسان من تلك الوصايا مقسم بذلك إلى ثلاثة مقومات رئيسة وهي كالآتي:-

1 - العدالة الاجتماعية:- يتجلى الاعتدال في هذا المفهوم باعتباره أحد أهم مقومات حقوق الإنسان، ولكونه يتسم بالتكامل و الروح الإنسانية غير الاستعلائية و غير المتعصبة إزاء الغير والأكثر من ذلك أن الوسائل التي تستخدمها في الوصول الى الأهداف هي وسائل لا تقوم لخدمة جهة او جانب على حساب الجهة الأخرى او الجانب الأخر سواء أكانت الجهة التي تتمثل في الإنسان نفسه أو في الأشياء من حوله و هذه الوسائل التي نحن بصددها تلتقي كلها في محور و ذلك هو التكافل الاجتماعي.

ص: 279

وكان الأمير المؤمنين (عليه السلام) في العدالة الاجتماعية أصولا و أراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلوها فروع تصل اتصالا موثقا بالإسلام فهي تدور حول رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي(24)، فقد أوصى (عليه السلام) واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه) بأن يشرف بنفسه على أوضاع العامة و حذره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم إزاء حقوقهم المالية و القانونية، قال (عليه السلام):- (واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد(25)) ثم قال (عليه السلام) في موضع آخر:- (....... واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتواضع فيه لله الذي خلقك).

ومن عرف علي بن أبي طالب (عليه السلام) و موقفه من قضايا المجتمع أدرك أنه السيف المسلط على رقاب المستبدين الطغاة، وأنه الساعي في تركيز العدالة بآرائه و قضائه و سیاسته، قال (عليه السلام):- (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤس شدة الفقر - و الرمن - أصحاب العاهات - فان في هذه الطبقة قانعا و معترا وأحفظ الله ما ستحفظك من حقه فيهم)(26).

وإزاء مثل هذه الوصايا التي استقت بمعطياتها من المفاهيم الفكرية التي وقف عليها الفكر الإسلامي، نجد أن تلك الوصايا قد مثلت مراجع منفردة كونها تتساوق مع تطورات العصور وهي في الوقت نفسه أكثر شمولا و ابعد افقا. مما جعل إتباعه (عليه السلام) يزدادون تمسكا بقيمه و نظرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد وجدوا أن وصاياه (عليه السلام) تستمد من قيم فكرية و نظريات تنطلق قواعد الاعتزاز بالإنسان أيا كان، ووجدوا أن فكره (عليه السلام) هو فكر معتدل و ليس متعصب او متطرف قائم على تحقيق العدالة الاجتماعية بكافة أشكالها و صورها.

اما مفاهيم العدالة الاجتماعية التي جاء بها الفكر الغربي والحضارة الغربية فأننا نجد

ص: 280

أنها قد فسرت تفسيرا مقتضبا، ليعنى اقتصارها على الشعوب الغربية دون غيرها. ثم أنها عدالة تسعى لترفيه الشعوب الغربية و رفع مستواها المعيشي باستخدام ما وصل أليه العلم و العقل الغرب من تقدم مادي و حضاري.

اما بالنسبة لغير الشعوب الغربية فأنها جاءت لتعطي معنى رسالة الرجل الغربي الأبيض المتمدن المتمكن بعلمه وعقله واختراعاته في الصناعة والتكنولوجيا و قوته في النفوذ من ان يعمل ما عليه من واجب في تمدين الشعوب الأسيوية والإفريقية. وأن هذا الواجب يتجلى في الاحتفاظ بسيطرته و سلطانه في توجيه الشعوب غير الأوربية بالنظر لما لها من قدرة و خصائص قيادية في جميع مناحي حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والفكرية، وقد كانت النتيجة التي أدت إليها مثل هذه الأفكار اصطدامها مع القيم الإنسانية التي جاءت بها الحضارات التي سبقت الحضارة الغربية ووقوعها في أزمات فكرية و اقتصادية وسياسية واجتماعية و نفسية لا تزال تعاني منها حتى اليوم.

2 - التوازن:- لقد لاقى عالم اليوم أكثر ما لاقى صعوبة أيجاد التوازن بين مختلف جوانب حياة الإنسان. الذي هو هدف كل الحضارات في القديم والحديث والذي يراد له السعادة و الطمأنينة و الاستقرار. ولقد بدأ الاختلال في التوازن في صعوبة التوفيق بين حياة الفرد و حياة الجماعة كما بدا هذا الاختلال أيضا في صعوبة التوفيق بين جانب حياة الإنسان المادية و بين جانبها الروحي، والذي نتج من كل ذلك أن نظريات متضاربة في العلم والسياسة والاجتماع قد نشأت و قد تمثل هذا التضارب تطرف بعض هذه النظريات. فهناك نظريات تمثل الى اليمين المتطرف كالنظرية الديمقراطية (الرأسمالية) التي رأت أن الأساس في كل فلسفة اقتصادية و سياسية متقدمة ينبثق من حرية الفرد التي لا يجب يقف في طريقها عائق و أن اي تدخل

ص: 281

في حياة الفرد و حريته السياسية والاقتصادية يجب أن يكون و في ظل الضرورات القصوى، محددا بحد أدنى لا يجب أن يتخطاه. كما ظهر الى جانب ذلك نظريات تمثل التطرف في أقصى اليسار التي ترى أن التقدم يجب أن يقاس من زاوية حرية ومصلحة الجماعة و قد تمثلت هذه النظريات بالنظرية الشيوعية والاشتراكية والنظريات الفرعية اليسارية المتطرفة التي انبثقت منها(27). ومن جهة أخرى، فقد ظهرت صعوبة التوفيق بين حياة الإنسان المادية و الروحية. ولقد نجم عن الإيغال في جانب الحياة المادية و على حساب الحياة الروحية، فلقد أدت التفسيرات العقلية و المذهب العقلي إلى التمسك بكل دليل مادي و تجريبي، والى إنكار كل شيء غير مادي، بحجة أنه لا يمكن إخضاعه إلى التجربة وبالتالي فلا يمكن حسه، ولقد أدت هذه النظرية بمفكري الغرب من أمثال دارون و فرویده ومارکس و دورکهایم و سارتر إلى تطبيق نظريات علم الحيوان على الإنسان. ولقد رافق هذه النظريات أفكار جاءت تقول أن الإنسان ابن المصادفة، الإنسان حيوان، وانه لا غاية لوجوده، ولا هدف ولا معنى للحياة الإنسانية... الخ وقد زاد من تعميق هذا الرأي الدعوة إلى حرية العمل و إطلاق الحركة والتصرف دون قيد من دين أو إيمان بآله........ الخ. أن هذه النظرة و هذا التقييم المادي للانجاز الإنساني بعينه قد أدى إلى الاختلال بين الجانب المادي والجانب الروحي. فبينما أصاب الجانب المادي التركيز و النمو فانه قد أصاب الجانب الروحي الضمور.

في حين أكد (عليه السلام) على القيم الروحية للأفراد مشيرا بذلك ضرورة حماية حقوقهم من اي فئة كانوا مسلمين ام غير المسلمين، وهذا يعد بحد ذاته تثبيتا لمقومات التوازن بين الأغلبية والأقلية وترسيخا في الوقت نفسه لإنسانية الإسلام، فقد أوصى (عليه السلام) مالك الاشتر بضرورة وأهمية البعد الاعتباري والروحي لإحداث

ص: 282

التوازن المطلوب بين الحاكم والمحكوم قال (عليه السلام):- (....... واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم و لا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم فأنهم صنفان أما أخ لك في الدين و اما نظير لك في الخلق)(28).

وليس هذا فحسب بل أن من مقومات التوازن حسب أصول منهجه الفكري (عليه السلام) تتجسد بضمان حقوق الأفراد بالعمل والدخل كلا حسب قدراته وإمكانياته العقلية والجسدية قال (عليه السلام) :- (............ واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله و منها عمال الإنصاف و الرفق ومنها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس و منها النجار و أهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة و كل قد سمى الله له ووضع على حده فريضة في كتاب الله او سنة نبيه (صل الله عليه و آله)(29). ولو تفحصنا جيدا لوجدنا أن الوصية هنا تعد نظرية فريدة لم يستطع الفكر الغربي أن يصل إليها بإبعادها و محتواها، فهي تؤكد على فلسفة التوازن عن طريق قاعدة التكافل الاجتماعي الأمر الذي يؤدي الى التآلف و التماسك في المجتمع الواحد و ليس على الصراع الذي جاء به الفكر الغربي والذي اوجد أنظمة مقسمة بحسب إمكانياتها المادية شعوب مستقطبة بفضل ثرواتها و مواردها الاقتصادية أنظمة الخليج العربي أنموذجا، وشعوب مستبعدة و مستعبدة مغلوب على أمرها اغلب البلدان الإفريقية التي تعاني من العوز و الفقر وهو مما أدى الى الاختلال في التوازن و الوقوع بأزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية عجز الفكر الغربي في إيجاد معالجتها مما أدى الى ظهور تحديات عالمية تجسدت بصور عدة منها، أزمة الغذاء العالمي، الهجرة غير الشرعية، الأوبئة والأمراض العالمية، استقطاب العديد من الشعوب المستبعدة في التجنيد للعمليات الإرهابية...........الخ .

3 - المسؤولية:- اما بالنسبة للمسؤولية باعتبارها أساس رصين لكفالة حقوق الإنسان

ص: 283

فان الحقائق التي يقوم عليها الفكر العلوي تكشف أنها مسؤولية لعامة المجتمع، لا مسؤولية طبقة دون طبقة اخرى وهي في الوقت نفسه سلسلة متكاملة الأبعاد تأخذ الصور الآتية:-

- المساواة: - أكد (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضوان الله عليه)، أن لا يميز بين القريب والبعيد في عطائه من بيت المال، لأن المسلمين سواء في تناول الحقوق المالية من بيت المال، و قد عانى الناس من التمييز في العطاء إثناء العهد السابق، قال (علیه السلام) (....... أنصف الله و أنصف الناس من خاصة اهلك و من لك فيه هوى من رعيتك فأنك الا تفعل تظلم و من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)(30).

- أقامة العدل و أحياء الحق، وهي مسؤولية كل من أرسله الله تعالى نبيا او رسولا وهي مسؤولية كل حاكم و قائد ووالي، حتى ينعم المجتمع بالعدالة و المساواة قال (عليه السلام) (...... وليكن أحب الأمور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية)(31).

- رضا العامة: - أوصى (عليه السلام) مالك الاشتر (رضوان الله عليه) بأن يكون رضا العامة من أولوياته، لأنها ثبات النظام و الدرع الواقي له من كيد الأعداء. قال (عليه السلام):- (.......وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف..... من أهل الخاصة. و إنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة فليكن صغوك لهم و ميلك معهم)(32).

اذن رضا العامة بحسب الفكر العلوي مسؤولية الحاكم وهي في الوقت نفسه انعکاس مدى انسجام وتساوق قرارات الحاكم مع مصلحة العامة من المجتمع لتحقيق الرفاه و الطمأنينة وأن مثل هذا يتم بالتآلف والذي يقوم بأن يكفل الفرد حقوق الجماعة

ص: 284

وهو الذي يدفع ويحفز الجماعة بأن تكفل حقوق الفرد مما يؤدي الى تحقيق التوازن والتعادل والإنصاف والاعتدال والتي هي محاور أساسية في تحقيق العدالة الاجتماعية، أن هذا التكافؤ بين الفرد والجماعة يولد في الوقت نفسه على تبادل الآراء ووجهات النظر و الباب المفتوح بين الأطراف جميعا، وتمنع أي استئثار بالرأي او بالسلطة. ومثل هذه المفاهيم تتخطى كل النظريات السياسية والاقتصادية و الاجتماعية الحديثة التي جاء بها الفكر الغربي المعاصر والذي اوجد جماعات خاصة متنفذة مثل جماعة الضغط الأموال التي جاءت نتيجة الضغط والإكراه او الرشوة والإغراء بالمال و بغيره والتي سعى صانع القرار بتحقيق رضاها على حساب العامة (اللوبي الصهيوني وتأثيره على القرار الأميركي) لمثل هذه الجماعات المتنفذة باتت المسؤولية بعيدة كل البعد عن الشعب و الجماهير الحقيقيين.

- مبدأ الكفاءة: - ويتمثل مبدأ الكفاءة في الفكر العلوي أن الاختيار لا يقوم اعتباطا و إنما يقوم بحكم العقل و المنطق و هي مسؤولية الحاكم، فقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه الاشتر (رضوان الله عليه) أن يختار لوزارته ممن لم يخدم في الأنظمة السابقة، وهذا ما نجده احد أهم عقبات عالم اليوم في إدارة شؤون النظم السياسية المعاصرة من إعادة وتدوير النخب السياسية، قال (عليه السلام) (..... أن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الآثمة،و إخوان الظلمة)(33). حيث دعاه (عليه السلام) لأن يختار لوزاراته في إدارة شؤون الدولة، أشخاصا تتوفر لديهم مهارات قيادية و إدارية يستدعي التحرك من خلالها تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية، قال (عليه السلام) (........ و و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فأن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها

ص: 285

سوء الظن بالله)(34).

- مبدأ الاعتدال ومحاربة الاستبداد:- ومن القيم العظيمة التي دعا أليها (عليه مالك الاشتر (رضوان الله عليه) الاعتدال في القضاء و منع الاستبداد والتي تأخذ صور سفك الدماء وانتهاك الحرمات، قال (عليه السلام) (....... إياك والدماء و سفكها بغير حلها، فأنه ليس شيء ادعى لنقمة و لا أعظم لتبعة، و لا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها..... و أن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي الى أولياء المقتول حقهم)(35).

ص: 286

خاتمة:

السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ماذا عن الفكر العلوي في الغد؟ و للإجابة على هذا السؤال يمكننا القول أن القواعد الرصينة التي جاء بها الفكر العلوي و التي تقوم على حقوق الفرد والمجتمع معا وفي وقت واحد و على قدم المساواة لا شك أنها ستمكنه من أن يأخذ الدور الأساسي بيد الإنسان نحو السعادة و الرفاه لإقامة عالم أفضل يستطيع أن يتغلب على ما يعانيه اليوم من تناقضات و أزمات سياسية وأمنية واقتصادية وأخلاقية وفكرية، خصوصا اذا ما علمنا أن لفكر أمير المؤمنين (عليه السلام) مقومات الفكر العالمي القادرة على قوة الانطلاق و الحركة الذاتية الخالية من التعصب و القادرة بنفس الوقت معالجة الإمراض الي يعاني منها العالم المعاصر نتيجة سيادة الفلسفة المادية التي أعجب بها هواة الملذات والباحثون على مسرات الحياة بأنواعها مما ولد عالم الأطماع و الخصومات.

مما تقدم يتبين أن الأمة التي تهدف الى نهضة أصيلة حديثة اليوم، لا بد لها و أن تدرس تراثها الحضاري و أصولها الفكرية، و أن تترجم كل ذلك ترجمة تواكب روح العصر الذي تعيش فيه وهو ما يتطلب مراجعة و إحياء أصول الفكر العلوي العالمي، وما لم يتحقق ذلك، فأننا سنجد أنفسنا مضطرين الى قبول أفكار سياسية غريبة عنا لا تنبع أساسا من تراثنا و تقاليدنا و هذا ما يهدد كياننا و يجعلنا دوما أن نعيش في فراغ فكري

ص: 287

الهوامش:

1. قارن مع:- عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات و الأنظمة السياسية، دار المعارف، القاهرة، 1959، ص (57).

2. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان (مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية)، الطبعة الثالثة،منشأة المعارف، الإسكندرية،2004، ص (73).

3. ریموند كيتل، العلوم السياسية،ترجمة فاضل زكي،الجزء الثاني، دار الصباح والنشر الأهلية، بغداد، 1970، ص (196).

4. المصدر نفسه، ص (201).

5. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره، ص (63).

6. ریموند کیتل، مصدر سبق ذكره، ص (203).

7. قارن مع:- فاضل زكي، الفكر السياسي العربي الإسلامي «ماضيه وحاضره»، دار الطبع و النشر الأهلية، بغداد، 1970، ص (401).

8. المصدر نفسه، ص (402).

9. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره، ص (68).

10. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (403).

11. عباس علي الموسوي، مالك الاشتر و عهد الامام له، دار الاضواء، بيروت، 1987، ص (34).

12. سورة الإسراء، الآية (70).

ص: 288

13. سورة الرحمن، الآية (4).

14. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (400).

15. سورة البقرة، الآية (143).

16. فليح سوادي، عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010، ص (17).

17. عبد الحميد متولي، مصدر سبق ذكره،ص (54).

18. المصدر نفسه، ص (62).

19. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، (401).

20. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية، الطبعة الثالثة، منشأة المعارف، الإسكندرية . 2004، ص (98).

21. المصدر نفسه، ص (103).

22. المصدر نفسه، ص (108).

23. ينظر كل من:- محمود متولي، حقوق الإنسان «الأهداف و الآمال»، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث و الدراسات، القاهرة، 2005، 2، ص (81). و عبد الله مرغني، حركة حقوق الإنسان في البلدان العربية، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديمقراطية، المغرب العربي، 2011، ص (98).

24. محمد بحر العلوم، من مدرسة الامام علي، الطبعة الثالثة، دار الزهراء، بيروت، 1980، ص (23).

ص: 289

25. عباس علي الموسوي، مصدر سبق ذكره، ص (24).

26. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره، ص (19).

27. فاضل زكي، مصدر سبق ذكره، ص (409).

28. عباس علي الموسوي، مصدر سبق ذكره، ص (27).

29.المصدر نفسه، ص (28).

30. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره ص (16).

31. عباس علي، مصدر سبق ذكره، ص (30).

32.المصدر نفسه، ص (31).

33. فليح سوادي، مصدر سبق ذكره، ص (17).

34. المصدر نفسه، ص (15).

35. المصدر نفسه، ص (18).

36. المصادر

37. القرآن الكريم.

38. ریموند كيتل، العلوم السياسية، ترجمة فاضل زكي، الجزء الثاني، دار الصباح والنشر الأهلية، بغداد،1970.

39. و عبد الله رغني، حركة حقوق الإنسان في البلدان العربية، مركز دراسات حقوق الإنسان و الديمقراطية، المغرب العربي، 2011.

40. عبد الحميد متولي، الوجيز في النظريات و الأنظمة السياسية، دار المعارف، القاهرة،

ص: 290

1959.

41. عباس علي الموسوي، مالك الاشتر و عهد الإمام له، دار الأضواء، بيروت، 1987.

42. فاضل زكي، الفكر السياسي العربي الإسلامي (ماضيه وحاضره)، دار الطبع و النشر الأهلية، بغداد، 1970.

43. فليح سوادي، عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الى واليه على مصر الاشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، النجف الأشرف، 2010.

44. محمد بحر العلوم، من مدرسة الإمام علي، الطبعة الثالثة، دار الزهراء، بيروت، 1980.

45. محمد بشير الشافعي، قانون حقوق الإنسان مصادره و تطبيقاته الوطنية والدولية، الطبعة الثالثة، منشأة المعارف، الإسكندرية. 2004.

46. محمود متولي، حقوق الإنسان (الأهداف و الآمال)، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث و الدراسات، القاهرة، 2005.

ص: 291

ص: 292

حق المواطنة والحريات العامة في الدولة العراقية في مدة العهد الملكي (دراسة مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مالك الأشتر)

اشارة

م. د. أحمد مريح الركابي

كلية الأمام الكاظم (عليه السلام) - للعلوم الإسلامية الجامعة

ص: 293

ص: 294

الملخص

تعد مدة العهد الملكي 1921 - 1958 في العراق ذات أهمية كبيرة في التطور السياسي والاجتماعي الذي شهده العراق خلال تلك المدة، فقد بُنيت مؤسسات الدولة لأول مرة، وصدر الدستور العراقي، وأسست الأحزاب السياسية على وفق قوانين وتعليمات، وأخذت دورها في الحياة السياسية وأسهمت في بناء الدولة الحديثة، يتناول البحث قيم المواطنة والحريات العامة في الدستور العراقي ومناهج الأحزاب السياسية وبرامج الحكومات التي تعاقبت على ادارة الدولة ومدى تمتع العراقيين بمختلف طوائفهم وأعراقهم بتلك الحقوق، ومقارنة كل ذلك مع ما ورد من نصوص في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فيما يخص قيم المواطنة والحريات العامة، والخروج بنتائج مهمة تخص الموضوع. وقد تم الاعتماد على مصادر عدة متنوعة في كتابة البحث، منها وثائق البلاط الملكي والمطبوعات الحكومية والنشرات الحزبية فضلاً عن الكتب والبحوث ذات الصلة.

ص: 295

Abstract

The Covenant for Royal 19211958- in Iraq are of great importance in the political and social development witnessed by Iraq during that period the state institutions were built for the first time and released the Iraqi constitution and the established political parties in accordance with the laws and regulations and took a role in political life and contributed to building a modern state deals Find the values of citizenship and public freedoms in the Iraqi constitution and the political parties and programs of successive governments on the State Administration curricula and compared with the reported texts in the era of the faithful (p) to the owner of Ashtar regarding citizenship and public freedoms values and out the results of a task for the subject. It has been relying on a variety of several sources in the writing of the research. including the papers of the royal court and government publications and the party as well as books and related research.

ص: 296

المقدمة

لم يكن للعراقيين قبل عام 1921 دولة تضمهم باسم الدولة العراقية، فقد خضعوا في تاريخهم الحديث إلى الاحتلال العثماني منذ عام 1434 م حتى نهاية الحرب العالمية الاولى عام 1918 م(1)، إذ خضع العراق بعدها إلى الاحتلال البريطاني ثم الانتداب الذي فرض عليه عام 192.. وفي عام 1921 تم تنصيب الملك فيصل بن الحسين (1883 - 1933 م) ملكاً على العراق وتأسيس الدولة العراقية الحديثة(2).

وكان على الملك الجديد أن يرسي حكمه على أسس ديمقراطية وأن يبني مملكته على وفق نظام برلماني مقيد بقانون، وهذا ما اشترطته عليه حكومة عبد الرحمن النقيب المؤقتة (25 تشرين الاول 192 .- 23 آب 1921)، وقد سعى بوسائل شتى أن يوازن بين خطوات بناء تلك الدولة وبين غايات ورغبات البريطانيين الذين سهلوا له مهمة تسنمه عرش العراق(3).

شرع فيصل فور توليه بجمع أعضاء المجلس التأسيسي العراقي الذي بدوره وضع الدستور العراقي وقانون الانتخاب، وحرص من كتب الدستور على مراعاة التنوع الاثني والعرقي والديني للعراقيين فضمنوه نصوص مهمة تخص الحريات العامة وحقوق المواطنة، وقبل إصدار الدستور صدر قانون الجمعيات لعام 1922 الذي نظم عمل الأحزاب والجمعيات السياسية العراقية، وقد أجيز وفقاً لذلك القانون عدد من الأحزاب السياسية التي تسابقت في برامجها على التركيز بحقوق المواطن والحريات الديمقراطية العامة، كذلك فعلت الحكومات التي تعاقبت على إدارة الدولة، حاولت ان تعطي صورة عن طبيعة عملها ودورها في توفير أجواء للحريات وحقوق المواطنة(4)، ولكن السؤال المطروح هو إلى اي مدى توافقت تلك البرامج والأهداف مع ما جاء في عهد أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى مالك الأشتر فيما يخص حقوق المواطنة والحريات

ص: 297

العامة؟ هذا ما سيتناوله البحث بعد أن نبين حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي وبرامج الأحزاب والوزارات العراقية على النحو الآتي:

حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي 1925

المواطنة لغة مشتقة من الجذر (وطن)، والوطن هو المنزل الذي تقيم فيه، وهو موطن الإنسان ومحله.. ووطن بالمكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطنا، والموطن.. ويسمى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، وفي التنزيل العزيز قوله تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» التوبة / آية 25.. وأوطنت الأرض ووطنتها واستوطنتها أي اتخذتها وطنا، وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد(5).

أما اصطلاحاً فهي صفة المواطن الذي له حقوق وعليه واجبات تفرضها طبيعة انتهائه إلى وطن. ومن هذه الحقوق على سبيل المثال لا الحصر، حق التعليم، حق الرعاية الصحية، حق العمل. وبناء عليه فالمواطنة علاقة الفرد بدولته، علاقة يحددها الدستور والقوانين المنبثقة عنه والتي تحمل وتضمن معنى المساواة بين من يسمون مواطنين، وأن نوعية المواطنة في دولة ما تتأثر بالنضج السياسي والرقي الحضاري(6). وينظر إلى المواطنة بوصفها خلق الحياة الامنة والعدل والمساواة لكل فرد في المجتمع بصرف النظر عن دينه ومذهبه أو طائفته أو عرقه وحق كل مواطن في التعبير عن رأيه بحرية وانتخاب من يمثله، فالمواطنة تستند إلى الحرية والعدل والمساواة وهذه أهم مرتكزات المواطنة الحقيقية(7).

أما الدستور هو عقد سياسي بين مكونات مجتمع ما، ينظم العلاقة بين الأفراد أو بين الأفراد والمجتمع، وبين الأفراد والسلطة على أساس المواطنة بما يتضمن حقوق وواجبات، والأهم في الدستور هو توضيحه لطبيعة النظام السياسي وهيئات

ص: 298

الدولة وسلطاتها ووظائفها وعلاقتها واختصاصها فيما بينها ثم علاقتها مع المواطنين وحقوقهم وواجباتهم، وهو ضمانة لحريات الافراد وحقوق الجماعات(8).

وفيما يخص الدستور العراقي فقد بدأ المجلس التأسيسي العراقي الذي انتخب في إذار 1924 بدراسة مسودة القانون الأساسي في حزيران من العام نفسه، وذلك بعد تصديقه على المعاهدة العراقية البريطانية، وكان يُراد لهذا الدستور أن يراعي مجموعة مسائل وردت في المعاهدة العراقية - البريطانية لعام 1924 قبل عرضه على المجلس التأسيسي العراقي، ومنها(9):

1. أن يأخذ بعين الاعتبار رغبات الشعب العراقي وحقوقه.

2. . أن ينص على ضمان الحريات والشعائر الدينية التي لا تتناقض مع الآداب.

3. ضمان حقوق الطوائف والأقليات.

4. وقد تم إقراره وإصداره بالفعل عام 1925، وضم أبواباً عدة، إذ أفرد هذا الدستور الباب الاول منه والذي حمل عنوان (حقوق الشعب) من المادة الخامسة حتى المادة الثامنة عشر لتنظيم الحقوق والحريات العامة، وهذا يعني أن موضوع الحقوق والحريات قد أقر مع أول دستور عراقي(10).

تناول باب حقوق الشعب - وهو ما يهمنا في البحث - على حقوق المواطنة والحريات العامة، حيث أكدت المادة السادسة منه بأنه لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وأن اختلفوا في القومية والدين واللغة، ونصت المادة السابعة على ان الحرية الشخصية مصونة لجميع سكان العراق من التعرض والتدخل، ولا يجوز القبض على أحدهم أو توقيفه، أو معاقبته، أو إجباره على تبديل مسكنه، أو تعريضه لقيود، أو إجباره على الخدمة في القوات المسلحة إلا بمقتضى القانون، أما التعذيب، ونفي العراقيين إلى خارج

ص: 299

المملكة العراقية، فممنوع بتاتاً. وكذلك عرضت المادة الثامنة منه بأن المساكن مصونة من التعرض، ولا يجوز دخولها، والتحري فيها، إلا في الأحوال والطرائق التي يعينها القانون(11).

وأشارت المادة العاشرة بأن حقوق التملك مصونة، فلا يجوز فرض القيود الإجبارية، ولا حجز الأموال والأملاك، ولا مصادرة المواد الممنوعة، إلا بمقتضى القانون. أما السخرة المجانية، والمصادرة العامة للأموال المنقولة وغير المنقولة، فممنوعة بتاتاً. ولا ينزع ملك أحد إلاَ لأجل النفع العام في الأحوال وبالطريقة التي يعينها القانون، وبشرط التعويض عنه تعويضاً عادلاً(12).

وركزت المادة الثانية عشرة بأن للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع وتأليف الجمعيات والانضمام إليها، ضمن حدود القانون، فيما أشارت المادة الثالثة عشرة إلى ان الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة(13).

وكذلك نصت المادة الثامنة عشرة بأن العراقيين متساوون في التمتع بحقوقهم، وأداء واجباتهم، ويعهد إليهم وحدهم بوظائف الحكومة من دون تمييز، كل حسب اقتداره وأهليته، ولا يستخدم في وظائف الحكومة غير العراقيين إلا في الأحوال الاستثنائية التي تعين بقانون خاص. مع أن نص المادة السابعة عشر منه جعل اللغة العربية هي الرسمية سوى ما ينص عليه بقانون خاص، وعاد للتأكيد في متن المادة 18 على مساواة العراقيين في التمتع بحقوقهم(14).

ص: 300

لكن إلى اي مدى يمكننا القول ان النصوص التي جاء بها دستور عام 1925 والخاصة بالحقوق والحريات العامة للشعب قد طبقت وتم العمل بها من الحكومات التي تعاقبت على الحكم في العراق؟ واجابة ذلك سوف نجدها في برامج الحكومات الذي تم التطرق له في مكان لاحق من البحث.

أما النواب العراقيين الذين جرى انتخابهم لمجلس النواب فقد رأوا ضرورة ان يكون النظام الديمقراطي الذي اعتمده العراق لحكمه هو النظام الذي يعبر عن تطلعات أغلبية الشعب باختيار الحكومة ويكون للأقلية حق التعبير والرأي وتكون جميع الاتجاهات والعقائد موضع احترام ويتساوى فيه جميع المواطنين، فالديمقراطية تدعو إلى احترام الحريات المدنية والسياسية للمواطنين والتي تتمثل في المساواة في بعديها السياسي والاجتماعي (15).

حقوق المواطنة والحريات في برامج الأحزاب السياسية (1922 - 1958)

نظمت الحياة الحزبية في العراق منذ وقت مبكر وسابق على صدور الدستور العراقي، فقد صدر قانون الجمعيات في الثاني من تموز 1922 (16)، وبموجبه أجيزت ثلاثة أحزاب سیاسية هي الحزب الوطني العراقي بزعامة جعفر ابو التمن، وجمعية النهضة العراقية بزعامة أمين الجرجفجي، والحزب الحر العراقي بزعامة محمود النقيب، وذلك للمدة بين تموز وأيلول 1922 (17). وبعد صدور الدستور شهدت الساحة السياسية ظهور عدد من الأحزاب السياسية عملت حتى عام 1958، منها أحزاب علنية مجازة بموجب القانون وأخرى سرية عملت بعيداً عن أنظار السلطة.

ولو تتبعنا برامج عدد من تلك الأحزاب لرأينا انها تتفاوت في نظرتها إلى حقوق المواطنة وفقاً لخلفياتها الفكرية والإيديولوجية وتوجهات قادتها ومنظريها، فالحزب

ص: 301

الوطني العراقي الذي اجيز في الثامن والعشرين من تموز 1922، اكد في منهاجه أن غاية الحزب السياسية هي المحافظة على استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية والذب عن کیان الأمة العراقية والنهوض بها إلى مصاف الأمم الراقية والدفاع عن حقوق الشعب العراقي بطوائفه المختلفة (18). ومن بين غاياته الاجتماعية إصدار العفو العام الخالي من كل قيد أو شرط عن جميع المتهمين السياسيين وإطلاق سراح المسجونين، وإرجاع المبعدين والمنفيين والسماح لهم بالرجوع إلى أوطانهم (19). وقد عزز ذلك رئيس الحزب ومؤسسه جعفر أبو التمن في مبادئه وأفكاره التي يؤمن بها، فقد جعل أفكاره منصبة على هدفين يتصل أحدهما بالآخر وهما وحدة الشيعة والسنة والتقريب بينهما(20).

ولم تختلف جمعية النهضة العراقية التي اجيزت في التاسع عشر من آب 1921، والذي انتخب أمين الجرجفجي معتمداً عأما لها، عن أهداف الحزب الوطني العراقي وغاياته، فقد دعا إلى تنشيط الفكرة الوطنية للوحدة العراقية على اختلاف أجناس العراقيين (21).

وبعد قيام الحياة البرلمانية عام 1925، ظهرت مجموعة من الأحزاب السياسية التي أعلنت في برامجها عن أهدافها وغاياتها، وأسست أحزاب أطلق عليها (الأحزاب البرلمانية)، منها حزب التقدم الذي أجيز في الثاني والعشرين من آب 1925، برئاسة عبد المحسن السعدون، وقد أعلن عن برنامجه الذي أكد فيه الحفاظ على الوحدة العراقية والنسيج الوطني (22). أما حزب الشعب الذي أسس في الثالث من كانون الأول 1925، فقد رفع شعار (الإخلاص والتضامن والتضحية) ودعا إلى تقوية الشعور الوطني وتعمیم مبادئ التضامن بين الأهالي (23).

وفي الخامس والعشرين من تشرين الثاني 193.، أجازت وزارة الداخلية حزباً باسم (حزب الإخاء الوطني) تضمن منهاجه تأليف رأي عام لمكافحة كل ما من شأنه أن يخل بالوحدة الوطنية، ومقاومة التصرفات الشخصية التي لا تنسجم والمصلحة الوطنية (42).

ص: 302

وأسس حزب عام 1934 باسم (حزب الوحدة الوطنية) بزعامة علي جودت الأيوبي، دعا في منهاجه إلى تقوية شعور التضامن والتضحية والإخلاص بين أبناء الشعب وتعزيز الروح الوطنية (25).

أما الأحزاب التي أجيزت في عام 1946، فقد تضمنت برامجها مواداً تناولت حقوق المواطنة وضرورة ضمانها فضلاً عن الحريات العامة، فعلى سبيل المثال، أشار الحزب الوطني الديمقراطي في المادة الثانية من منهجه السياسي بأنه يؤيد الحريات الديمقراطية مثل الحرية الفردية وحرية الكلام والنشر والصحافة والاجتماع والاعتقاد، وتوطيد هذه الحريات، وفيما يخص المواطنة، فإنه لا يفرق بين العراقيين ولا يميز بينهم ويعدهم جميعاً - على اختلاف عناصر هم وأديانهم ومذاهبهم - متساوين في الحقوق والواجبات، إذ ان الوطن العراقي ميدان للتعاون الحر على اساس المصلحة المشتركة بين العرب والأكراد وغيرهم من العناصر التي يتكون منها العراقيين(26).

أما حزب الاستقلال ذو التوجه القومي، فقد ورد في المادة الرابعة - ز - من برنامجه السياسي في الأمور الداخلية، أن الحزب يقدس قوميته ويعتز بها، وأنه يحترم القوميات الأخرى، ويستنكر كل استغلال عنصري. وأكد على ضمان حقوق الشعب والحريات العامة ورفع مستوى الصحافة(27).

فيما أوضح حزب الأحرار في منهاجه أن هدفه النهوض بالشعب العراقي على اختلاف طبقاته والعمل على توحيد صفوف أبنائه ودعا إلى خدمة الشعب وتوزيع العدل (28). وأعلن حزب الاتحاد الوطني الذي أجيز في الثاني من نيسان 1946 بزعامة عبد الفتاح إبراهيم في برنامجه، بأن الحزب يدعو إلى تحقيق المساواة بين جميع العراقيين في حقوق المواطنة وواجباتها من غير تمييز في القومية والدين والمذهب، وضرورة ممارسة العراقيين للحريات الديمقراطية مثل حرية الكلام والصحافة والنشر والاجتماع

ص: 303

والجمعيات والأحزاب والنقابات وحرية العبادة والمعتقد (29).

وتضمن منهاج حزب الشعب الذي أجيز في المدة ذاتها بزعامة عزیز شریف، إلى المساواة التامة بين مختلف القوميات والجماعات التي يتألف منها الشعب العراقي من دون أي تفريق أو تمييز لفرد أو جماعة على فرد أو جماعة على أخرى، على أساس العنصرية أو الدين أو المذهب وتحريم أية دعوة أو محاولة إلى مثل هذا التفريق أو التمييز، ودعا أيضاً إلى حرية الاجتماع وحرية الاعتقاد والكلام والنشر، وإلغاء جميع القوانين الاستثنائية المناقضة للحريات الديمقراطية التي تفرق بين أبناء الوطن (30).

ولابد من الإشارة هنا إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي أسس عام 1934 ومارس نشاطه بصورة سرية، فعلى الرغم من كونه حزباً طبقياً ينادي بحقوق طبقة العمال والفلاحين، إلا أنه دعا في منهاجه الذي اطلقه عام 1946، إلى أنه سيعمل من أجل تثبيت الوحدة الوطنية بين جميع طبقات الشعب وأقسامه التي يهمها استقلال العراق وتقدمه، ويرى الحزب ان حجر الزاوية لبناء هذه الوحدة هو الصداقة والأخوة بين القوميتين الرئيستين اللتين يتألف منهما الشعب العراقي وهما العرب والأكراد وإقامة صداقة متينة على أساس الاحترام المتبادل والمساواة التامة في جميع الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية من دون تمييز أو تحديد، ودعا الحزب إلى الصداقة والإخوة بين العرب والأكراد من جهة وبين الجماعات القومية والجنسية الصغيرة التي تسكن العراق مثل التركمان والأرمن وغيرهم والدفاع عن حقوق هذه الجماعات في اللغة والثقافة القومية والمساواة التامة في الحقوق (31).

ولابد من القول إن الكثير من تلك الأحزاب لم تطبق ما نادت به من أهداف تخص الحريات العامة والمطالبة بحقوق الشعب، فالأغلب الأعم منها لم تسمح له الفرصة بالوصول إلى السلطة أما بعضهم الآخر فعند تسلمه السلطة تنصل عنها أو أنهی حزبه

ص: 304

وما دعا إليه بعد وصوله إلى السلطة، فعلى سبيل المثال، أنهى علي جودت الأيوبي حزبه - حزب الوحدة الوطنية - وأغلقه بعد سنة وأحدة من تأسيسه وذلك عند سقوط وزارته في آذار 1935(32).

حقوق المواطنة والحريات في برامج الوزارات العراقية

تعاقب على حكم العراق في مدة العهد الملكي تسع وخمسون وزارة، توالى على رئاستها ثلاث وعشرون رئيس وزراء، ولا يكاد يخلو برنامج كل وزارة من هذه الوزارات من إشارة إلى المطالبة بالحريات العامة وحقوق المواطنين.

ولو استعرضنا برامج عدد من تلك الوزارات لرأينا أنها تحاول أن تكسب الرأي العام بما تعلنه من برامج تنادي بتطبيق الحريات الديمقراطية، حيث نص منهاج وزارة ياسين الهاشمي (7 آب 1924 - 21 حزيران 1925) على تقوية الشعور الوطني بكل الوسائل واستكمال أسباب الدفاع عن حقوق الشعب (33).

وعندما ألف عبد المحسن السعدون وزارته الثالثة (14 كانون الثاني 1928 - 2. كانون الثاني 1929) أعلن فيها بأنه يسعى إلى احترام الحريات الشخصية وصيانة المحاكم من كل تدخل غير قانوني، والحفاظ على الوحدة العراقية والقضاء على الدعايات المضرة التي من شأنها الاخلال بها أو بث الشقاق بين أبناء البلد (34).

وفي الوزارة الثالثة التي الفها نوري السعيد (25 كانون الاول 1938 -) قال رئیس الوزراء إلى إن من أهم أهداف وزارته صيانة الحريات العامة وعدم إفساح المجال لاستغلالها على حساب الشعب وسمعة البلاد، والاهتمام بالصحافة وجعلها في مستوى تتمكن معه من أن تخدم المجتمع خدمة صالحة، وفي أول اجتماع للوزارة الجديدة في 26

ص: 305

كانون الأول دعا السعيد إلى الإفراج عن الصحف المعطلة كافة، والسماح لها باستئناف خدماتها، كما قررت الوزارة إلغاء الرقابة عن الأشخاص والرسائل كافة، وإعادة المفصولين إلى الخدمة وإطلاق سراح المحامين الموقوفين(35).

أما وزارة توفيق السويدي الثانية (23 شباط 1946 - 3. ايار 1946) والتي جاءت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والظروف الاستثنائية التي قيدت الممارسات الديمقراطية في العراق(36)، فقد اعلن فيها عن رغبته بإلغاء ما خلفته الحرب من قوانين شإذة وإلغاء الادارة العرفية ومرسوم صيانة الامن وسلامة الدولة رقم 56 لسنة 194. وغيرها من المراسيم الأخرى، وفي مجال ممارسة الحريات العامة، أعلن عن نيته في إطلاق سراح المعتقلين ورفع الرقابة عن الصحف والسماح بتأليف الأحزاب السياسية وتأمين حرية الانتخاب وتحقيق المبادئ الديمقراطية(37).

مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر

إن عهد الأمام علي (عليه السلام) الذي كتبه إلى عامله مالك بن حارث الأشتر سنة 37 للهجرة حيث بعثه والياً على مصر، يكتسب أهمية فائقة، فقد جاء ليؤسس أفكاراً مطلقة صالحة للتطبيق في أي مرحلة مستقبلية يواجهها أصحاب القرار في خضم تجإذبات الواقع السياسي والاجتماعي والفكري للأمة، فهو أفضل مرسوم إداري كتب لحد يومنا هذا ولم يصبه غبار النسيان(38). إذ اراد أمير المؤمنين (عليه السلام) بعهده هذا ان يؤسس إدارة للتغلب على ثغرات الماضي والحاضر من أجل التوصل إلى مجتمع وأمة امنة (39).

ولو عقدنا مقارنة بين مقدار الحقوق والحريات العامة التي منحها نظام الحكم الملكي للعراقيين وبين حقوق المواطنة والحريات التي تضمنها عهد أمير المؤمنين إلى

ص: 306

مالك الأشتر، لرأينا ان الهوة واسعة والبون شاسع بين السياستين، ولعلنا نلتمس ذلك في مواطن عدة، لعل في مقدمتها اعتماد أمير المؤمنين (عليه السلام) للشريعة الإسلامية منطلقاً في حكمة العادل، إذ بين عليه السلام ان الإسلام شريعة شاملة، لها القدرة على حل مشكلات الانسان من خلال بساطة مبادئه ووضوح أهدافه، وبه يسعد الإنسان ويحيى المجتمع، فقال (عليه السلام): (الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن ورده.. فجعله امنا لمن عقله، ونوراً لمن استضاء به..)(40).

يزاد على ذلك القدوة التي اتخذه الأمام (عليه السلام)، فمن أراد طريق الخير والصلاح في الدنيا والفوز في الآخرة فعليه أن يتخذ قدوة ينير له الطريق ويهديه إلى الصواب، فرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قدوة لنا في سلوكه في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وفي سياق تأسي الأمام علي (عليه السلام) برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما قاله من أن الرسول أفضل قدوة وأسوة لنا ومثالنا في الحياة، فقال: (واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن (41).

أما النظام الملكي في العراق فقد اقتدی بدستور وضعي، كُتب في ظل الانتداب البريطاني على العراق، فعلى الرغم من تناوله مواد مهمة تخص حقوق الشعب والحريات العامة، إلا أن مصلحة النظام تطلبت مخالفته في أكثر من مناسبة (42).

ولعل الطرفين يلتقيان في وسيلة ومصدر وأحد للسلطة وهو الشعب، فالنظام الملكي قائم على نظام الانتخاب والديمقراطية التي تعني حكم الشعب، وبما أن مصدر السلطة هو الشعب وحده عند الأمام (عليه السلام) فان وجودها لا يعني أكثر من تحقيق هذه الإرادة العامة، فإذا استقام أمر الناس بأصحاب السلطة استقامت السلطة وبقي أصحابها في مناصبهم، وإلا فليعزلوا في الحال كما قال (عليه السلام): (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة امر الرعية)، وهو ما قاله لمالك: (تفقد أمورهم کما يتفقد الوالدان

ص: 307

لولدهما) (43). أما إرادة الشعب في النظام الديمقراطي الذي تبناه الحكم الملكي والتي كان من المفترض أن تتحقق عن طريق الانتخاب واختيار ممثليه، فلم تكن تراعى على نحو صحيح، فغالباً ما يجري تزوير الانتخابات وإيصال نواب إلى البرلمان بالتزكية وغير ذلك من الوسائل غير الديمقراطية التي تصادر بها إرادة الشعب (44).

ومن الأمور المهمة التي لا يمكن تجاوزها في هذا المقام هو ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده فيما يخص حق المواطنة ومراعاتها، قائلاً: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ

أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: أما أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وأما نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ.. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ) وقوله: (وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَىً بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ

وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَلَی حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم))(45)، فلو استعرضنا التاريخ منذ الأزل وحتى في الفلسفة اليونانية وفي جمهورية افلاطون نجد أنها لم تصل إلى هذه المثل الانسانية العليا التي تحدث بها الأمام علي (عليه السلام) للبعد الإنساني أكثر عمقاً في التعامل وأكثر شمولية مع الرعية في ضوء الإخوة الانسانية بين الدين والخلق (46). هذا النوع من التعامل، ولاسيما مع الأقليات، افتقد إليه النظام الملكي في العراق، والأمثلة على ذلك كثيرة، فوزارة الهاشمي التي ألفها في عام 1924 خالفت ما دعت إليه في منهاجها، فقد استعانت بطائرات بريطانية في ضرب جماعتين متنافرتين من الطائفة الأيزيدية بعد أن رفض أحد أطراف الخصام تدخل الحكومة في الصلح

ص: 308

بين الطرفين، وكذلك استعانت الحكومة بسلاح الجو البريطاني في أواخر كانون الأول 1924 لإخضاع الشيخ سالم الخيون شيخ قبائل بني أسد في المنتفق بعد أن رفض سياسة الحكومة(47). أما الشاهد الآخر على عدم مراعاة حكومات العهد الملكي لحق المواطنة هو ما قامت به الحكومة العراقية من مذابح بحق الأقلية الآثورية(48) في شمال العراق في عملیات تصفية منظمة في عهد حكومة رشيد عالي الكيلاني ازدادت حدتها بين 8 - 11 آب 1933 (49)، وما حدث من مجازر وإبادة عرقية في بلدة سميل، فضلاً عن حوالي 63 قرية آثورية في لواء الموصل آنذاك (محافظتا دهوك ونينوى حالياً)، والتي أدت إلى موت حوالي 6 .. شخص حسب مصادر بريطانية (50).

ويعود سبب ذلك إلى الابتعاد عن العدل والركون إلى الظلم في سياسة المجتمع وقيادته، فقد أيقن الأمام (عليه السلام) بأن العدل مرتكز من مرتكزات الحكم، لذا أفرط في الحث على وجوب الالتزام والعمل به تجاه الرعية بقومياتهم وأعراقهم وأديانهم المختلفة، وأشار إلى قبح الظلم والظالم(51)، مؤكداً أن العدل من صفات الوالي العادل ولا تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة(52)، وبذلك أوصى مالك في العهد، وبمواضع عدة، بضرورة العمل بالعدل بين الرعية وعدم التمييز بينهم: (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عباد الله كان الله خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ) وقوله: (إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ

الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ) وقوله: (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ)(53) وغير ذلك من النصوص التي تحث على التزام العدل بوصفه وسيلة ومنهجاً.

ص: 309

لقد كان ضمان الحقوق والحريات العامة من النظريات المتأصلة في فكر الأمام علي (عليه السلام) القائم على أسس الاصلاح الاجتماعي، فقد كان عهده حافلاً وزاخراً بأزهى ألوان الحقوق والحريات حتى للسجناء الذين وفر لهم كل شيء مما يليق بإنسانيتهم (54)، ولعل من أبرز تلك الحقوق هي حق الحياة والحرية وحق الملكية وحق التفكير والتعبير، وقد جسد ذلك الأمام (عليه السلام) في دولته باعترافه (سلام الله عليه) للناس بحرياتهم، فقد أدرك الحرية بأصولها، من خلال بنائه في الاخلاق الخاصة والعامة، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، على أن لا تسيء حرية الفرد إلى حرية الجماعة(55). وأوصى (عليه السلام) مالك ان يستمع إلى من ينتقد سیاسته وحكمه، إذ قال: (ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأِوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ

رُضْهُمْ عَلَی أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الإْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْو مِنَ الْعِزَّةِ)(56).

بل ذهب الأمام (عليه السلام) إلى أبعد من ذلك فيما يخص حرية الرأي والتعبير قائلاً: (.. من اِسْتَثْقَلَ اَلْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ اَلْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ اَلْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّيِ لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلاَ آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إلِاَّ أَنْ يَكْفِيَ اَللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي..)(57)، وبذلك يفتح الأمام باب حرية الرأي على مصراعيه وكذلك النقد والمحاسبة أمام جماهير الأمة، بل إن الأمام يدعو إلى توفير الأمن للمجاهرين بالحق، ويجعل من تقبل الرأي الآخر دعوة لمراجعة الذات بالنسبة للحاکم (58).

وقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الإنسانية بوصفها مبدأ مهماً في السياسة وقيادة المجتمع من خلال احترام الإنسان لإنسانيته بصرف النظر عن جنسه أو عرقه أو دينه

ص: 310

أو طبقته الاجتماعية وإن كان هذا المبدأ قد تجلى بوضوح في الإرشادات الأخلاقية العامة التي امتلأت بها صفحات النهج والتي لم يفرق فيها الأمام بين غني وفقير، عربي وأعجمي، مسلم وغیر مسلم، إلا أنه يتأكد بشكل قاطع من خلال ما دعا إليه الأمام من أخلاقيات الحكم (59)، وهو تجسيد حي لكل المعاني التي جاء بها الإسلام في تكريم الإنسان ومنع إذلاله فهو القائل إلى مالك الأشتر: (وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ)(60).

أما الحكم الملكي في العراق وعلى الرغم من تبنيه النظام البرلماني الديمقراطي واعتماده دستوراً كفل حرية الانتخاب وحرية الرأي والمعتقد والدين وغير ذلك من الحريات العامة، غير أنه تجاوز ذلك في مناسبات عدة، مستغلاً الظروف السياسية التي مر بها العراق في ذلك الوقت، فوقع الحيف على فئة واسعة من أبناء الشعب، وكانت سیاسة تكميم الأفواه حاضرة في معظم حكومات العهد الملكي، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، اعتقال الشيخ مهدي الخالصي (1834 - 1927) ونفيه إلى إيران لمعارضته النظام وإصداره فتوى في أوائل تشرين الثاني 1922، حرم فيها الأشتراك في انتخابات المجلس التأسيسي(61). وهناك دليل آخر هو ما قامت به حكومة نوري السعيد الأولى (23 إذار 193. - 19 تشرين الأول 1931) عندما قاطع الأهالي في السليمانية الانتخابات البرلمانية وخرجوا بمظاهرات دعت الحكومة إلى قمعها بواسطة الجيش، وقد اسفرت عن مقتل عشرين شخصاً وإصابة ثلاثين آخرين واعتقال أكثر من مئة شخص (62).

وفيما يخص الأحزاب السياسية ودعواتها في برامجها للدفاع عن حقوق الشعب وحرياته، فإن تلك الدعوات لم تكن ذا فائدة كبيرة، فمعظمها لم يتولَ السلطة، وبقيت شعاراته حبراً على ورق، والذي تولى السلطة منها تنصل عن شعارته التي رفعها، أما

ص: 311

الأحزاب الأخرى فإنها كانت بطبيعتها فئوية نادت بقومية ما، أو ايديولوجية معينة، فحزب الاستقلال مثلاً، على الرغم من احترامه للقومية واعتزازه بها نجده لا يبين ولا يشرح ماهية هذه القومية ومقوماتها ولم يكن له رأي فيما يخص القوميات الأخرى، فهو لم يتطرق إلى القومية الكردية مع ان الحوادث والمشاكل قد حدثت في العراق بسبب إهمال السلطات الحاكمة للقضية الكردية(63).

وأما حرية الصحافة والرأي والتعبير التي كفلها الدستور، فقد تعرضت هي الأخرى إلى التعطيل مرات عدة، بحجة الظروف الاستثنائية والأحكام العرفية، بل تعرض أصحاب الرأي والمثقفون إلى الاعتقال والمحاكمة بمجرد انتقادهم سياسة الحكومات والنظام الملكي على نحو عام، مثل ما تعرض له الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (1899 - 1997) من اعتقال وسجن وتعرضت جريدته (الرأي العام) إلى الإغلاق مرات عدة (64)، كذلك السياسي الديمقراطي كامل الخارجي (1897 - 1964) الذي تعرض إلى الاعتقال والحكم بالسجن مدة ثلاث سنوات؛ لانتقاده الحكم الملكي في الصحافة العراقية بسبب موقف الحكومة من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 (65). والأخطر من ذلك هو إصدار مراسيم لتعطيل حركة المطبوعات والنشر، ومن ذلك مرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954، الذي قيد فيه حرية النشر والصحافة، بحجة وجود نواقص خطيرة في القانون القديم الذي عد مصدراً لإشاعة الفوضى بين المواطنين والتمويل من مصادر سرية بقصد الترويج لمبادئ منعها القانون(66).

ومما يجدر ذكره هنا، ان النظام الملكي كان يفتقد إلى الشخصية القدوة الملهمة التي منها يستمد رؤساء الحكومات عزمهم وحکمتهم في إدارة الأمور فالدستور عد الملك مصون غير مسؤول وأعطاه صلاحيات محددة من قبيل المصادقة على قرارات مجلس الوزراء وقيادة القوات المسلحة وله الحق في اعلان الحرب بموافقة مجلس الوزراء وغيرها (67)،

ص: 312

أما المجلس التشريعي فعلى الرغم من أهميته الكبيرة فإن باستطاعة رئيس الوزراء المطالبة بحله في ظروف معينة، وبالفعل جری حله أكثر من مرة (68)، أما ولاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعماله فقد استقوا أفكارهم الدينية والسياسية والاجتماعية مما كان يلقيه إليهم من أوامر، وكانوا بدورهم يطبقون تلك المبادئ من غير مواربة وما كانوا يبالون في شيء غير تطبيق العدالة، ما حدا بالإمام دعوة أهل مصر بوجوب طاعة مالك الأشتر طاعة مطلقة بقوله لهم: (.. فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، لاَ كَلِيلُ الظُّبَةِ، وَلاَ نَابِي الضَّرِيبَةِ، فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فانْفِرُوا، وَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقيِمُوا فَأَقِيمُوا، فَإِنَّهُ لاَ يُقْدِمُ وَلاَ يُحْجِمُ، وَلاَ يُؤَخِّرُ وَلاَ يُقَدِّمُ إِلاَّ عَنْ أَمْرِي..)(69).

الخاتمة

مما تقدم ذكره، يمكن أن نجمل أهم ما توصلنا إليه من نتائج بالنقاط الآتية:

1. الزم أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر ولاته جميعاً بضرورة مراعاة جوانب مهمة في ادارة امصارهم ومنها احترام ارادة الناس وحقوقهم، ثم رسم لكل من يتولى شؤون الإدارة في العالم أجمع خطوط السلامة التي تمكنهم من تجاوز المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجههم، ويكسبوا ثقة الناس.

2. اعتمد حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) على الشريعة الإسلامية السمحاء بمصادر تشريعها كافة، وهذا ما تجسد في عهده إلى مالك الأشتر عامله على مصر وما فيه من حقوق وحريات عامة للشعب، أما الحكم الملكي في العراق فقد اعتمد دستوراً وضعياً جرى مخالفته مرات عدة من أجل تثبيت السلطة وليس من أجل مراعاة حرية الناس وحقوقهم.

ص: 313

3. قدم الإمام علي (عليه السلام) المصلحة الانسانية في نظرته إلى حق المواطنة وبالأخص الأقليات الدينية والعرقية المنضوية تحت ظل الحكم الاسلامي، فأشار إلى ذلك بأجمل نص عرفته البشرية عندما قسم الرعية في قوله: (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: أما أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وأما نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق).. وألزم عامله على مصر بالعمل به، وهذا الشيء افتقده النظام الملكي طوال سنوات حكمه التي بلغت ثمان وثلاثين سنة في العراق.

4. من أسباب نجاح حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأمصار الإسلامية هو شخصيته الملهمة وقيادته العادلة وسعي ولاته وعماله على تنفيذ سياسته وعدله، وهو ما يفتقده النظام الملكي في العراق الذي قام في بدايته تحت ظل الانتداب البريطاني، فضلاً عن تداخل السلطات والتمايز في صلاحياتها.

5. ان الخلفيات الفكرية وآراء قيادات الحكومات العراقية المختلفة التي تعاقبت على حكم العراق خلال تلك المدة، دفعتها إلى النظر للقوميات الصغيرة والأقليات بنظرة شوفينية عنصرية، فالأفكار القومية المنتشرة حينذاك كانت سبباً في التعصب والتمييز، بينما نجد النظرة الشمولية الانسانية للإمام علي (عليه السلام) حدت على نحو كبير من تمييز العنصر العربي أو المسلم على غيره من أبناء الوطن الواحد.

ص: 314

الهوامش

1. البرت منتشاشفيلي، العراق في سنوات الانتداب البريطاني، ترجمة هاشم التكريتي، بغداد، 1978، ص 2 - 3.

2. ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث 19.. إلى سنة 195.، ج 1، ترجمة سلیم طه التكريتي، منشورات الفجر، بغداد، 1988، ص 217.

3. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج 1، ط 7،، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ، 1988، ص 46 - 47.

4. عبد المجيد کامل عبد اللطيف، سيرة الملك فيصل الأول منذ نشأته حتى وضعه اللبنة الأولى للدولة العراقية الحديثة 1883 - 1924، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 25، العدد 3، 2,16، ص 571 - 573.

5. ابن منظور، لسان العرب المجلد 13، دار صادر، بیروت. 1968، ص 451.

6. بشير نافع وآخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية (مركز دراسات الوحدة العربية)، بيروت 2..1، ص 27.

7. سعد عبد الحسين نعمة، دور مبدأ المواطنة في تعزيز المشاركة السياسية في العراق، مجلة كلية الدراسات الإنسانية، النجف الاشرف، العدد 3، 13، 2، ص 139.

8. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985، ص 679 - 68..

9.أثير إدريس عبد الزهرة، مستقبل التجربة الدستورية في العراق، دار ومكتبة البصائر، بیروت، 2٫11، ص 31.

ص: 315

10. وسن حمید رشید، الضمانات الدستورية للحقوق والحريات في الدستور العراقي لعام 2..5، مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 21، العدد 3، 13، 2، ص 653.

11. القانون الأساسي العراقي، بغداد، 1925، ص 2.

12. المصدر نفسه، ص 2.

13. المصدر نفسه، ص 3.

14. المصدر نفسه، ص 3.

15. شریف خشن شامخ الشويلي، عبد الكريم الأُزري حياته ودوره الإداري والسياسي في العراق حتى عام 1946، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2٫11، ص 1،8.

16. الحكومة العراقية، مجموعة القوانين والنظامات الصادرة بين 1 تشرين الأول 192. و 31 كانون الأول 1922، المطبعة العصرية، بغداد ،1922، ص 232.

17. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 3، ط 7، دار الرافدين للطباعة والنشر، 2..8، ص 239.

18. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الأحزاب السياسية العراقية، مركز الأبجدية للطباعة والنشر، بيروت، 1983، ص 39.

19. فاروق صالح العمر، الأحزاب السياسية في العراق 1921 - 1932، مطبعة الإرشاد بغداد، 1978، ص 59.

20. د. ك. و، الملفة 414، وزارة المستعمرات، عربي، ملحوظات عن شيوخ وعشائر منطقة الشطرة ووزراء، 193.، و 73، ص 8..

ص: 316

21. جعفر عباس حمیدي، الديمقراطية والتعددية السياسية في مناهج ومواقف الأحزاب السياسية العلنية في العراق 1922 - 1954، مجلة الحكمة، بيت الحكمة بغداد، العدد 38، السنة السابعة، كانون الأول 2..4، ص 18.

22. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 222 - 223.

23. سامي عبد الحافظ القيسي، ياسين الهاشمي ودوره في السياسة العراقية بين عامي 1922 - 1936، البصرة، 1975، ص 291.

24. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج 2، ط 5، بیروت، 1978، ص 1..- 1٫1.

25. حسن لطیف کاظم الزبيدي، موسوعة الأحزاب السياسية العراقية، مؤسسة العارف للمطبوعات، بیروت، 7.2، ص 34.

26. فاضل حسين تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي 1946 - 1958، مطبعة الشعب، بغداد، 1963، ص 32 - 33.

27. عبد الأمير هادي العكام، تأريخ حزب الاستقلال العراقي 1946 - 1958، دار الحرية للطباعة، بغداد، 198، ص 39.

28. جعفر عباس حمیدي، التطورات السياسية في العراق 1941 - 1953، بغداد، 1976، ص 8، 2 - 9، 2.

29. المصدر نفسه، ص 283 -284.

30. عبد الأمير هادي العکام، المصدر السابق، ص 52 - 53.

31. سعاد خيري، من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق، ج 1921. - 1958،

ص: 317

مطبعة الاديب بغداد، 1974، ص 126 - 128.

32. حسن لطیف کاظم الزبيدي، المصدر السابق، ص 34.

33. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 33.

34. المصدر نفسه، ص 53 - 54.

35. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزرات العراقية، ج 5، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988، ص 32 - 46.

36. توفيق السويدي، مذكراتي، نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بیروت، 2٫11، ص 359.

37. ستار جبار الجابري، سعد صالح ودوره السياسي في العراق، مطبعة المشرق، بغداد، 1997، ص 126.

38. أمل هندي الخزعلي، أسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، العدد 42، 2،11، ص 116.

39. خضير عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 21، العدد 2,1،1.، ص 4..

40. رشید باني شنان الظالمي، الفكر الاقتصادي الاسلامي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة أوروك للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، المجلد 5، العدد 1، 2٫12، ص 187.

41. الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، تعليق د. صبحي

ص: 318

الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 138. ه، خطبة 216، ص 187.

42. للإطلاع على نماذج من تلك المخالفات ينظر: بشير حمود کاظم الغزالي، القانون الأساسي العراقي ومجلس النواب، ضمن كتاب المفصل في تاريخ العراق المعاصر، بغداد، 2..3، ص 448 - 455.

43. محسن الموسوي، دولة الإمام علي (عليه السلام)، دار البيان العربي، بیروت، 1993، ص 19..

44. جريدة الوطن، بغداد، العدد 258، 14 كانون الأول 1946.

45. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى وإليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الثقافية والفكرية، النجف الاشرف، 2٫1، ص 15 - 16، ص 19.

46. حسين الشريفي، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الاصالة والادارة مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 5، العدد 32، 15، 2، ص 124.

47. عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ص 34 - 35.

48. خلال مدة استقلال العراق، قرر البطريرك مار شمعون المُطالبة بحكم ذاتي للآثوريين في شمال العراق وسعی لحشد الدعم البريطاني من أجل ذلك، وعرض هذه القضية على عصبة الأمم عام 1932، وقد طالب مار شمعون الحكومة العراقية وعصبة الأمم بالاعتراف بالاثوريين بوصفهم طائفة من طوائف العراق وانشاء منطقة حكم ذاتي لهم، وإعطاءه صلاحية لتعيين عضو يمثلهم في البرلمان العراقي. غير أن

ص: 319

الحكومة العراقية سرعان ما رفضت هذه المطالب خشية تلقي دعوات مماثلة من قبل مجموعات عرقية ودينية أخرى، عنئذ قرر اتباع البطريرك الاستقالة من اللواء الاثوري الذي كان يخدم تحت السلطة البريطانية وتكوين مليشيا تمركزت في منطقة العمادية، وبعد عدة محاولات من الحكومة العراقية بإقناع آثوريي المناطق الممتدة من شیخان إلى زاخو بقبول الجنسية العراقية قرر «مالك ياقو» أحد زعماء الآثوريين اصطحاب عدد من الرجال إلى سوريا في 21 تموز أملا في إقناع الحكومة الفرنسية بإقامة حكم شبه ذاتي لهم في الأراضي الخاضعة تحت سيطرتها شرقي سوريا غير أن الفرنسيين رفضوا السماح لهم بالبقاء في سوريا وقاموا بمصادرة أسلحتهم فقرر هؤلاء العودة مجددا إلى العراق بعد أن اكتشفوا استحالة تقديم مطالبهم في سوريا فأبلغ الفرنسيون السلطات العراقية أن حوالي 8.. آثوري سيعبر الحدود عائدا إلى العراق، وحصلت مواجهات بينهم وبين الجيش العراقي، الذي قام في 5 آب 1933 بعمليات قتل وسلب ونهب وحرق للقرى الاثورية وقتل للنساء والأطفال. للمزيد ينظر: ق. ب. ما تفييف بارمتي، الاثوريين والمسألة الاثورية في العصر الحديث، مطبعة الأجيال دمشق، 1989؛ عمار يوسف عبد الله، بريطانيا والاثوريون في العراق 1918 - 1933، مجلة التربية والعلم، كلية التربية، جامعة الموصل، المجلد 14، العدد 1، 2..7، ص 66 - 7..

49. د. ك. و، ملفات البلاط الملكي، القضية الآثورية، الملفة رقم 1179 / 311، و 44، ص 6.

50. بارمتي، المصدر السابق، ص 17 - 173.

51.ناصر عبد الأله دوش وكوثر هاتف کریم، القيم الخلقية في وصايا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، جامعة الكوفة،

ص: 320

العدد 14، السنة الثامنة، 14، 2، ص 226.

52. کاظم عبد فريح المولى، نزاهة الحاكم عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 3، العدد 32، 15، 2، ص 26..

53. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ص 16، ص 21.

54. علي سعد عمران وحيدر حسين علي، المؤسسة الاصلاحية في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (دراسة قانونية)، مجلة رسالة الحقوق، جامعة كربلاء، العدد 1، 11، 2، ص 199.

55. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، حقوق الانسان في دولة الإمام «دراسة مقارنة»، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، المجلد 1، العدد 7، 2٫11، ص 183.

56. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر، ص 18.

57. الشريف الرضي المصدر السابق، خطبة 216، ص 421.

58. غسان السعد، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (رؤية علمية)، ط 2، بغداد، 2..8، ص 14..

59. حیدر مالك فرج البديري، التربية السياسية في فكر الإمام علي عليه السلام ،(لارك) (مجلة)، كلية الآداب، جامعة واسط، العدد 5، السنة 3، 2٫11، ص 282.

60. خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام

ص: 321

علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، العدد 2، 14، 2 ص 62 - 63.

61. جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، قسم الكاظمين، ج 1، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1987، ص 295.

62. المصدر نفسه، ص 89.

63. عبد الأمير هادي العکام، المصدر السابق، ص 4..

64. جلال عبد الله خلف، ايديولوجية الفكر اليساري في أدب محمد مهدي الجواهري بين التصور والتطبيق، مجلة الأستإذ، كلية التربية ابن رشد، جامعة بغداد، العدد 1، 2، 12، 2، ص 399 - 4...

65. عبد الرحمن البياتي،، سعید قزاز ودوره في سياسة العراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2..1، ص 159.

66. جريدة الوقائع العراقية، العدد 351.، في 16 تشرين الثاني 1954.

67. سليم حسين ياسين، الدستور العراقي الأول لسنة 1925 (دراسة تاريخية)، مجلة أبحاث ميسان، العدد 11، 2..9، ص 86.

68. ناجی شوکت، سيرة وذكريات ثمانين عأما 1894 - 1974، ج 2، منشورات مكتبة اليقضة العربية، بغداد، 199، ص 579.

69. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 478.

ص: 322

المصادر

القرآن الكريم.

الوثائق غير المنشورة:

1. د. ك. و، ألملفه 414، وزارة المستعمرات، عربي، ملحوظات عن شيوخ وعشائر منطقة الشطرة ووزراء، 193..

2. د. ك. و، ملفات البلاط الملكي، القضية الآثورية، الملفة رقم 1179 / 311.

الوثائق المنشورة:

1. الحكومة العراقية، مجموعة القوانين والنظامات الصادرة بين 1 تشرين الأول 192.

و 31 كانون الأول 1922، المطبعة العصرية، بغداد ،1922.

2. القانون الأساسي العراقي، بغداد، 1925.

الكتب

1. ابن منظور، لسان العرب المجلد 13، دار صادر، بیروت. 1968.

2. أثير إدريس عبد الزهرة، مستقبل التجربة الدستورية في العراق، دار ومكتبة البصائر، بیروت، 11، 2.

3. البرت منتشا شفيلي، العراق في سنوات الانتداب البريطاني، ترجمة هاشم التكريتي، بغداد، 1978.

4. بشير نافع وآخرون، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية «مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2..1.

5. بشير حمود کاظم الغزالي، القانون الأساسي العراقي ومجلس النواب، ضمن كتاب المفصل في تاريخ العراق المعاصر، بغداد، 2..3.

6. توفيق السويدي، مذكراتي، نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، الذاكرة

ص: 323

للنشر والتوزيع، بيروت، 11، 2.

7. جعفر عباس حمیدي، التطورات السياسية في العراق 1941 - 1953، بغداد، 1976.

8. سامي عبد الحافظ القيسي، ياسين الهاشمي ودوره في السياسة العراقية بين عامي 1922 - 1936، البصرة، 1975.

9. ستار جبار الجابري، سعد صالح ودوره السياسي في العراق، مطبعة المشرق، بغداد، 1997.

10. ستيفن همسلي لونكريك، العراق الحديث 19.. إلى سنة 195.، ج 1، ترجمة سليم طه التكريتي، منشورات الفجر، بغداد، 1988.

11. سعاد خيري، من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق، ج 1 (192. - 1958)، مطبعة الاديب بغداد، 1974.

12. الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، تعليق د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 138.ه.

13. عبد الأمير هادي العكام، تأريخ حزب الاستقلال العراقي 1946 - 1958، دار الحرية للطباعة، بغداد، 198..

14. عبد الرحمن البياتي،، سعید قزاز ودوره في سياسة العراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2..1.

15. عبد الرزاق الحسني، تاريخ الأحزاب السياسية العراقية، مركز الأبجدية للطباعة والنشر، بيروت، 1983.

16. تاريخ الوزارات العراقية، ج 1، ط 7،، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.

ص: 324

17. تاريخ الوزارات العراقية، ج 2، ط 5، بیروت، 1978.

18. تاريخ الوزرات العراقية، ج 5، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.

19. تاريخ العراق السياسي الحديث، ج 3، ط 7، دار الرافدين للطباعة والنشر، 2..8.

20. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى وإليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، اعداد المستشار فليح سوادي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الثقافية والفكرية، النجف الاشرف، 2٫1..

21. غسان السعد، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (رؤية علمية)، ط 2، بغداد، 2..8.

22. فاروق صالح العمر، الأحزاب السياسية في العراق 1921 - 1932، مطبعة الإرشاد بغداد، 1978.

23. فاضل حسين تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي 1946 - 1958، مطبعة الشعب، بغداد، 1963.

24. ق. ب. ما تفییف بارمتي، الاثوريين والمسألة الاثورية في العصر الحديث، مطبعة الأجيال دمشق، 1989.

25. محسن الموسوي، دولة الإمام علي (عليه السلام)، دار البيان العربي، بيروت، 1993.

26. ناجي شوکت، سيرة وذكريات ثمانين عأما 1894 - 1974، ج 2، منشورات مكتبة اليقضة العربية، بغداد، 199..

الرسائل والأطاريح غير المنشورة

شریف خشن شامخ الشويلي، عبد الكريم الأُزري حياته ودوره الإداري والسياسي في العراق حتى عام 1946، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد

ص: 325

، 11، 2.

الموسوعات

1. جعفر الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، قسم الكاظمين، ج 1، ط 2، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1987.

2. حسن لطیف کاظم الزبيدي، موسوعة الأحزاب السياسية العراقية، مؤسسة العارف للمطبوعات، بیروت، 2..7.

3. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985.

البحوث والدراسات المنشورة

1. أمل هندي الخز علي، أسس بناء الجهاز الإداري الكفء، قراءة في عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر، مجلة العلوم السياسية، جامعة بغداد، العدد 42، 11، 2.

2. جعفر عباس حمیدي، الديمقراطية والتعددية السياسية في مناهج ومواقف الأحزاب السياسية العلنية في العراق 1922 - 1954، مجلة الحكمة، بيت الحكمة بغداد، العدد 38، السنة السابعة، كانون الأول 2..4.

3. جلال عبد الله خلف، ايديولوجية الفكر اليساري في أدب محمد مهدي الجواهري بين التصور والتطبيق، مجلة الأستاذ، كلية التربية ابن رشد، جامعة بغداد، العدد 1، 2، 12، 2.

4. حسين الشريفي، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين الاصالة والادارة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 5، العدد 32، 15، 2.

5. حیدر مالك فرج البديري، التربية السياسية في فكر الإمام علي (عليه السلام) (لارك) (مجلة)، كلية الآداب، جامعة واسط، العدد 5، السنة 3، 11، 2.

ص: 326

6. خضير عبد الرضا جاسم الخفاجي، الفكر العسكري وعدله الإسلامي في عهد الخليفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 21، العدد 1، 1، 2..

7. خولة عيسى صالح الفاضلي، المضامين الاقتصادية والعدل الاجتماعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، مجلة التراث العلمي العربي، جامعة بغداد، العدد 2، 14، 2.

8. رشيد باني شنان الظالمي، الفكر الاقتصادي الاسلامي عند الإمام علي (عليه السلام)، مجلة أوروك للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، المجلد 5، العدد 1، 12، 2.

9. سعد عبد الحسين نعمة، دور مبدأ المواطنة في تعزيز المشاركة السياسية في العراق، مجلة كلية الدراسات الإنسانية، النجف الاشرف، العدد 3، 13، 2.

10. سلیم حسين ياسين، الدستور العراقي الأول لسنة 1925 (دراسة تاريخية)، مجلة أبحاث ميسان، العدد 11، 2..9.

11. عبد المجيد کامل عبد اللطيف، سيرة الملك فيصل الأول منذ نشأته حتى وضعه اللبنة الأولى للدولة العراقية الحديثة 1883 - 1924، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 25، العدد 3، 14، 2.

12. علي سعد عمران وحيدر حسين علي، المؤسسة الإصلاحية في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) «دراسة قانونية»، مجلة رسالة الحقوق، جامعة كربلاء، العدد 1، 11، 2.

13. عمار يوسف عبد الله، بريطانيا والاثوريون في العراق 1918 - 1933، مجلة التربية والعلم، كلية التربية، جامعة الموصل، المجلد 14، العدد 1، 2..7.

14. کاظم عبد فريح المولى، نزاهة الحاكم عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 327

في نهج البلاغة، مجلة الكلية الإسلامية الجامعة، النجف الاشرف، المجلد 3، العدد 32، 15، 2.

15. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، حقوق الانسان في دولة الإمام «دراسة مقارنة»، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة بابل، المجلد 1، العدد 7، 11، 2.

16. ناصر عبد الأله دوش وكوثر هاتف کریم، القيم الخُلقية في وصايا الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية، جامعة الكوفة، العدد 14، السنة الثامنة، 14، 2.

17. وسن حمید رشید، الضمانات الدستورية للحقوق والحريات في الدستور العراقي العام 2..5، مجلة جامعة بابل، العلوم الإنسانية، المجلد 21، العدد 3، 13، 2.

الصحف

1. جريدة الوطن، بغداد، العدد 258، 14 كانون الأول 1946.

2. جريدة الوقائع العراقية، العدد 351.، في 16 تشرين الثاني 1954.

ص: 328

المواطنة وحقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام)

اشارة

ا. م. د انتصارهاشم مهدي

ا. م. د ايمان حسن الجنابي

ص: 329

ص: 330

الملخص

المواطنة بشكل بسيط وبدون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتعمق في مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من أسس وکيفية منح المواطنة وغير ذلك من مفاهيم لم نمارسها في حياتنا اليومية، فالمواطن هو الإنسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي المكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أي علاقة بين الأفراد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، ولكن هل يولد الإنسان مواطناً ومتى يصبح الفرد مواطناً حقيقياً. إذا العنصر الأساسي في مفهوم المواطنة هو الانتماء الذي لا يمكن أن يتحقق بدون تربية المواطنية فهي ضرورية لتحقيق المواطنة، من هنا نستنتج بأنه روح الديمقراطية هي المواطنة فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي قلب النابض لمفهوم الديمقراطية، من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، فما هي الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية، فيترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسية من حقوق وحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تميز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو أي وضع آخر وهذه الحقوق هي: الحقوق الحقوق المدنية والحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية نتاولها بالبحث بالتفصيل في فكر حكم الامام علي ابن ابي طالب في بحثنا متناولين الحقوق والواجبات بتفاصيلها ودور الامام علي في وضع نظام اجتماعي وحقوق سیاسية وقضائية وحرية

ص: 331

دينية في حكمه فضلا عن الدروس العملية التي اعطاها للانسانية كحق. خرج البحث بمجموعة من الاستنتاجات والتوصيات والمقترحات.

ما هي المواطنة، هل نستطيع أن نطبق هذا المفهوم في مجتمعاتنا التي ما زالت ولاءتها متبلورة حول العرق والجنس والأثني والقومي والديني، مبتعدين كل البعد عن مفهوم المواطنة والتي تنطوي تحت مفهوم الانتماء للدولة وليس لشيء آخر. على الرغم من أن هذا المفهوم ليس حديثاً بل أنه قديم يرجع إلى عصور قديمة مثل اليونانية والرمانية، وقد تطور مفهوم المواطنة بشكل مستمر إلا إنه تراجع بعد سقوط الإمبراطورية الرمانية، وفي فترة الإقطاع وحتى نهاية العصور الوسطى والتي امتدت مابين 3.. حتى 13.. م، وتطور مفهوم المواطنة بعد ذلك لتأثره بحدثين هامين هما إعلان استقلال الولايات المتحدة في عام 1786، والمبادئ التي آتت بها الثورة الفرنسية في عام 1789 فكانا نقطة تحول تاريخية في مفهوم المواطنة.

ما المواطنة؟

المواطنة بشكل بسيط وبدون تعقيد هي انتماء الإنسان إلى بقعة أرض، أي الإنسان الذي يستقر بشكل ثابت داخل الدولة أو يحمل جنسيتها ويكون مشاركاً في الحكم ويخضع للقوانين الصادرة عنها ويتمتع بشكل متساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق ويلتزم بأداء مجموعة من الواجبات تجاه الدولة التي ينتمي لها، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نتعمق في مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من أسس وکيفية منح المواطنة وغير ذلك من مفاهيم لم نارسها في حياتنا اليومية، فالمواطن هو الإنسان الذي يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي المكان الإقامة أو الاستقرار أو الولادة أو التربية، أي علاقة بين الأفراد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك

ص: 332

العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، ولكن هل يولد الإنسان مواطناً ومتی يصبح الفرد مواطناً حقيقياً. إذا العنصر الأساسي في مفهوم المواطنة هو الانتماء الذي لا يمكن أن يتحقق بدون تربية المواطنية فهي ضرورية لتحقيق المواطنة، من هنا نستنتج بأنه روح الديمقراطية هي المواطنة فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي قلب النابض لمفهوم الديمقراطية، من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، فما هي الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية، فيترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسية من حقوق وحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تميز من أي نوع ولا سيما التميز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو أي وضع آخر وهذه الحقوق کما یلي:

الحقوق المدنية

وهي مجموعة من الحقوق تتمثل في حق المواطن في الحياة وعدم إخضاعه للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية او الاحاطة بالكرامة وعدم إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أي مواطن دون رضاه، وعدم استرقاق أحد والاعتراف بحرية كل مواطن طالما لا تخالف القوانين ولا تتعارض مع حرية آخرين، وحق كل مواطن في الأمان على شخصه وعدم اعتقاله أو توقيفه تعسفياً، وحق كل مواطن في الملكية الخاصة، وحقه في حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامته داخل حدود الدولة ومغادرتها والعودة إليها وحق كل مواطن في المساواة أمام القانون، وحقه في أن يعترف له بالشخصية القانونية وعدم التدخل في خصوصية المواطن او في شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه او سمعته وحق كل مواطن في حماية القانون له، وحقه في حرية الفكر، والوجدان والدین واعتناق الآراء وحرية التعبير وفق النظام والقانون وحق كل طفل في اكتساب جنسيته.

ص: 333

الحقوق السياسية

وتتمثل هذه الحقوق بحق الانتخابات في السلطة التشريعية والسلطات المحلية والبلديات والترشيح، وحق كل مواطن بالعضوية في الأحزاب وتنظيم حركات وجمعيات ومحاولة التأثير على القرار السياسي وشكل اتخاذه من خلال الحصول على المعلومات ضمن القانون والحق في تقلد الوظائف العامة في الدولة والحق في التجمع السلمي.

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:

وتتمثل الحقوق الاقتصادية أساسا بحق كل مواطن في العمل والحق في العمل في ظروف منصفة والحرية النقابية من حيث النقابات والانضمام إليها والحق في الإضراب، وتتمثل الحقوق الاجتماعية بحق كل مواطن بحد أدنى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي وتوفير الحماية الاجتماعية والحق في الرعاية الصحية والحق في الغداء الكافي والحق في التامين الاجتماعي والحق في المسكن والحق في المساعدة والحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة والحق في الخدمات كافية لكل مواطن، وتتمثل الحقوق الثقافية بحق كل مواطن بالتعليم والثقافة هذه بالنسبة الى الحقوق ام الواجبات التي تقع على عاتق المواطن فهيا كالآتي:

- واجب دفع الضرائب للدولة

- واجب إطاعة القوانين

- واجب الدفاع عن الدولة

حيث تعتبر الواجبات المترتبة على المواطن نتيجة منطقية وامرأ مقبولاً في ضل

ص: 334

نظام ديمقراطي حقيقي يوفر الحقوق والحريات للمواطن وبشكل متساوي وبدون تمیز.

hassan-161@hotmail.com

يقول العلماء ان الامام علي سباق عصره في كل من كان يطرحه من علوم ومعارف ونظم تتلائم وطبيعة البشر وحاجات المجتمع وقيام الدولة ومن افاق افکار حكمته الواسعة المستوعبة للقضايا المجتمع والمعالجة لها والملبية للطموحات بروح الاحترام الالفة والعدالة فقد عبر رجال القانون عن المواطنة الحقيقية قائلين انها تعبر عن منظومة الحقوق المتكاملة في ظل واجبات وطنية محددة والمواطنة بهذا المعنى تعني عدم التمیييز بين ابناء الوطن الواحد رجلا او امرأة كبيرا او صغيرا ابيضا ام اسودا غني او فقيرا مسلما ام مسيحيا عربي ام اعجمي فالمعيار الاساسي ان هذا المواطن او ذاك يحمل الهوية الفلانية وله الحق في الحياة الكريمة المتساوية المتكافئة على كافة المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية كما تعبر عن التزامات وواجبات في الانتماء والولاء ولهذا الوطن وهو يترجم عمليا من خلال الدفاع عن البلد في الازمات ودفع الضرائب والالتزام بالنظام والقانون وبالتالي فإن اعتراض ينصب على (تديين) المواطنة.. لان هذا امر يعني مصادرة مفهوم المواطنة لصالح دین محدد وهو ما يعد تمييزا ترفضه مباديء المواطنة وقيمها كما يمثل ذلك (اختطافا) المباديء وقيم إنسانية عامة لايجوز تخصيصها لصالح فئة او دين او مصلحة شخصية او تعصبات عرقية كما ويؤكد علماء القانون والاحوال الشخصية في ان الاسس النظرية الحديثة لبناء ثقافة المواطنة تنطلق من عملية بناء الدولة العصرية من خلال منظور حقوق الانسان بمعزل عن الانقسام الجنسي او التمايز الطبقي واختلاف العرق واللون وللغة الدين ايضا. فالمواطنة ليست منحة من أحد بمقدار ما ترتبط بالتقدم الحضاري والحفاظ على منظومة حقوق المواطن والاصرار عليها والثبات على مكتسباتها، ويذهب الغرب بان الفضل يعود بشكل مباشر

ص: 335

الى قيام الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قامت بتأصيل المواطنة الحديثة من خلال الفصل بين المؤمن (في إيجاد للانتماء الديني) والمواطن (في إيجاد للانتماء الوطنی) وهذه الحالة حدثت عبر مسار طويل ومعقد من الثورات القومية والديمقراطية والتطورات الفكرية والعلمية على مستوى العديد من الدول والحضارات وهو ما أدى الى التاكيد على حقوق المواطنة من خلال بناء الدولة المدنية الحديثة والوعي بأن الديمقراطية لاتتحقق بمجرد وجود دولة مدنية بل بوجود ضمانات لحفظ التوازن بين المصلحة الخاصة للمواطن والمصلحة العامة لوطنه. وتتجاوز المواطنة بهذا الشكل روابط الدم (القبيلة) والقرابة (العائلة) الى الاهتمام بالتكوين السياسي للمواطنين بوجه عام بمعنى إنها تجعل من السياسة موضوع مشاركة عامة للمواطنين في تقرير مايخص مصيرهم وفي هذا الصدد لا يمكن ان نتجاهل مفهوم (المواطنة) في ادبيات التيار الاسلامي فكلمة (مسلم) تعني مواطنا له حقوق وعليه واجبات لان كلمة (مواطن) و (مواطنة) هي ابتکار حدیث غير ان تتمتع المسلمين بحقوق المواطنة كان مسألة نظرية لانه - في الواقع - تم حرمان أغلبيتهم من المشاركة السياسية لاسباب سياسية ومذهبية ودينية ولعل اهمها سيادة النظم السلطوية السياسية في العديد من الاقطار الاسلامية. واني لاعجب من بعض المفكريين الاسلامين في اسلوب تدیينه لكل ماهو مدني من تحرير المراة مرورا بالیات الاقتصاد وصولا الى المواطنة الان وهو امر اعتقد في خطورته وذلك من على غرار الربط القسري بين النظريات العلمية وبين النصوص الدينية بدون انتباه الى النصوص الدينية هي ثوابت على مر الزمان والمكان وان النظريات العلمية متغير حسب التقدم العلمي والتكنولوجي مما يجعل البعض يرفض محاولة إيجاد صيغة توفيقية بين العلم والدين تحت بند الاعجاز العلمي وهي في مخيلة البعض نوع من التاكيد على قوة هذا الدين او ذاك في اختزال مخل لصالح الدين وهذا يؤدي الى تفكيك النصوص الدينية لصالح اهداف خاصة او تفسيرات محدودة تتطابق مع مصالح واهداف شخصية او نظرات ضيقة بعد

ص: 336

هذه المقدمة نقول:

اولا: ان الامام علي في زمانه كان قائد الاعظم دولة واوسعها

ثانیا: عندما اقدم الامام في خلافته على تلك الاصلاحات بل الانقلاب على كل تلك النظم والتطبيقات التي انتهجها من كان قبله من الحكام ما كانت صادرة عن هواجس او خوف او ضعف لمحابات جهة او ماشاكلها من المصالح وغايات بل كانت نابعة من جوهر طبيعته في اقامت العدالة وتطبيقها على جميع الموطنين بدون استثناء.

ثالثا: فقد اقدم الامام منذ اليوم الاول لتوليه الخلافة بالغاء (العطاء الطبقي) الذي ابتدعه عمر في بداية خلافته حسب السابقة في الاسلام ووفق المنزلة الاجتماعية والذي استمر حتى عهد عثمان لكن الامام الغي ذلك النظام وجعله عطاء يتساوی فيه السابق والاحق بالاسلام والزعيم والوضيع والمسلم وغيره والكل سواء والكل مواطن فلا فرق بين زيد ولاعمر.

رابعا: كما واصدر قرارا وفي بداية خلافته ايضا بان كتب الى ولاة الامصار ان ينفقوا مايحصل لديهم من الاموال على ولاياتهم واوطانهم اولا وبالذات ليتمتع المواطن بثروته وبناء وطنه ولا ينقلوها الى المركز الا ما فاض وزاد عن حاجاتهم وهذا مخالف وعكس ما كان يفعله من سابقه من الحكام حيث كانت ترسل اليهم اكداس الاموال وهذا ما تعسف به بعد ذلك خلفاء بني امية حيث يقول الخليفة (الوليد) لعماله احلبهم فاذا انتهى الحليب فاحلبلي (الدم).

خامسا: اعطائه الحقوق لكافة الاديان في حرية مباشرة طقوسها وعباداتها في بيعها وكنائسها وصوامعها واديرتها ضمانا لحقوق المواطنة.

ص: 337

سادسا: اطلاقه العنان لحرية الفكر والرأي بشرط ان لا يتعارض والقانون ويمس بالمجتمع فالجميع سواء.

سابعا: ان مفهوم المواطنة الحديثة هو تكافيء دماء كل المواطنين فلا فرق بين سيد ووضيع ولا كبير وصغير وهذا ما طبقه الامام علي بحذافيره عندما وصله نبأ غارة الغامدي - احد قادة معاوية الذين كان يرسلهم الى حواضر الدولة الاسلامية للنهب والذبح والرعب والارهاب - بنهم ذبحوا النصارى واليهود وسلبوا الحلي والاموال فتنهد الصعداء وقال: لو مات الانسان كمدا وحسرة ماكان عندي ملوما انهم اخواننا (دمائهم دمائنا). انظر الغارات للثقفي وشرح النهج للمعتزلي وتاريخ الطبري ثامنا: فقد حوت وثيقة عهده الى مالك الاشتر واليه على مصر كثيرا من النظم المدنية والمساوات والعدالة بين الناس في مصر وعلى الوالي يجب مراعات التنوع في النسيج الاجتماعي لمصر. تاسعا: ان مابشر به الامام علي نابع من طبيعته الانسانية المثالية في نشر قيم العدالة والمساوات في المجتمع والتسوية في الحقوق والواجبات ويصرح بها في موضوعية وشفافية تامة حيث يؤكد ومن منظومة قيمه الاخلاقية الرسالية كقوله كلكم ابناء ادم وادم من تراب و(الوطن ما حملك) حيث لم يجعله مؤطرا بمكان معين بل المتعين الاساسي للانسان ان يتوفر ما يكفل حقوقك فيه فذاك هو الوطن فمادمت في اي مكان وانت محترم وامن ولك كرامتك ومصونة حقوقك فتلك الارض (وطنك) وطبعا مع مراعات الواجبات وكذلك قوله (لا وطن مع فقر ولا غربة مع غنی).

ص: 338

اولاً: حقوق الانسان عند الامام علي ابن ابي طالب

مفهوم الحق:

الحقّ في اللغة: المطابقة والموافقة، لمطابقة رِجْلِ الباب في حَقِّهِ لدورانه على استقامة(1).

والحقّ عند الفقهاء هو: ما ثبت به الحكم(2).

ومعنى ذلك أنّ الفقهاء علّقوه بالقضاء، فأصبح للحقّ آثار. ومهمّة القضاء الكشف عنه لتعيين آثاره.

وبحث الفقهاء - من كافّة المذاهب - موضوع الحقّ في باب الحكم على الغائب، وباب الشهادات؛ لكونها الوسيلة لإثباته، فقسموا الحقّ إلى مراتب تبعاً لقوّة الشهادة؛ فهناك من الحقوق ما يثبت بأربعة شهود، وهناك ما يثبت بثلاثة شهود، وشاهدين، وشاهد واحد.

وهناك من الحقوق ما يثبت بشهادة النساء، وهناك ما لا يثبت إلا بشهادة الرجال. ومن الذين ربطوا بين نظرية الحقوق الفقهية والحكم على الغائب سلار، وهو أبو يعلى الديلمي، المتوفّى سنة (463 ه)، فقد قسّم الحقوق إلى ثلاثة أنواع: حقّ الله، وحقّ الآدمي، وحقّ الله تعالى يتعلّق به حقّ الآدمي. ثمّ يضرب أمثلة على حقّ الله تعالى: الزني واللواط والخمر فلا يُقضى فيها على الغائب؛ لأنّ القاضي مأمورٌ بالتخفيف، وحقّ الله قابل للتخفيف، بخلاف حقوق الناس التي لا يمكن التخفيف فيها؛ لذا يُقضى فيها على الغائب، كما يقول الصهر شتي: كالدين ونحوه، أمّا النوع الثالث فالمثال الذي يضربه سلار بالرسقة، فإنه يقضي فيها على الغائب بالغرم دون القطع(3).

أمّا هبة الله الراوندي المتوفّى سنة (573 ه)، فيربط بين الحقوق والشهادات، فيقسّم الحقوق تبعاً لذلك إلى ضربين: حقّ الله وحقّ الآدمي.

ص: 339

«فأمّا حقّ الآدمي فإنّه ينقسم - في باب الشهادة - إلى ثلاثة أقسام: أحدها لا يثبت إلا بشاهدین ذکرین کالقصاص، والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وهو كلُّ ما كان مالاً أو المقصود منه المال، والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين، أو أربعة نسوة، وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب.

وأمّا حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء، ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي ثلاثة أضرب: ما لا يثبت إلاّ بأربعة؛ وهو الزنى واللواط إذا كانا بالأحياء، فإن كانا بالأموات فيكفي في ذلك شاهدان، وإتيان البهائم. والثاني: ما لا يثبت إلاّ بشاهدين؛ وهو السرقة، وحدّ الخمر. والثالث: ما اختلف فيه؛ وهو الإقرار بالزنى، قال قوم: لا يثبت إلاّ بأربعة کالزّنی، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر الإقرار؛ وهو أقوى»(4).

أمّا ابن فرحون فيربط بين الحقوق والإثبات عبر الشهادة من زاويتين:

الزاوية الأولى: مسؤولية الشاهد في الشهادة، فقسّم هذه الحقوق إلى ما يجب أن يشهد الشاهد عليها، وما لا يجب عليه ذلك. ويعطي مثالاً على النمط الأوّل: العتق والطلاق والخلق والرضاع، وعلى النمط الثاني: الزّنی وشرب الخمر وما أشبه ذلك ممّا أُمرنا بالستر فيها، فلا يضرّ الشاهد ترك إخباره با شهادهِ.

أمّا الزاوية الثانية: فهي مراتب الشهادات وقسّمها إلى خمسة أقسام:

1 - أحكام تثبت في البدن فقط، وهي ما يطَّلع عليها الرجال، وهي تثبت بشاهدين.

2 - أحكام تثبت في البدن ممّا يطلع عليه النساء، وهي تثبت بشهادة امرأتين.

3 - أحكام تثبت في البدن وتتعلّق بالمال، كالشهادة على أسباب التوارث، کالنکاح بعد موت أحد الزوجين ليرث الآخر مالاً، وفيه رأيان؛ الأوّل: جواز شهادة رجل وامرأتين، والثاني: لابُدّ من رجلين.

ص: 340

4 - حقوق الأموال: كالقرض والوديعة وما شابه ذلك، واستحقاقه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو بشاهد ويمين، أو بامرأتين ويمين.

إذاً، فدائرة الحقوق عند الفقهاء هي ما يتحمَّل بموجبها شخصٌ تبعات عمله وآثاره، وإثباتها يكون عبر الشهادة.

فالحقوق تتكشّف عندما يتمّ تجاوزها، ففي هذه الحالة يتحمَّل المتجاوز تبعات عمله، كالقصاص والجلد والرجم، أو قطع اليد، أو إعادة المال المسروق إلى أصحابه، فهذه هي الحقوق بالمنظور الفقهيّ البحت.

ثانيا: الحقوق عند أمير المؤمنين (عليه السلام):

أمّا في منظور أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّ دائرة الحق هي أوسع ممّا أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية.

فالحقوق عنده (عليه السلام) هي الركن القانوني في نظام العلاقات الاجتماعية فالمسلم مسؤولٌ عن حقوق الآخرين: حقّ الوالدين، وحقّ الزوجة، وحقّ الابن، وحقّ المعلّم، وحقّ المُربّي، وحقّ الصديق.

فيجب على الإنسان المسلم أن يُؤدّي هذه الحقوق، وكما أنّ للآخرين حقوقاً عليه، فإنّ له حقوقاً عليهم، ونتيجة لهذه الحقوق المتبادلة يقوم نظام العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.

أمّا حقّ الله فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تبعٌ لحقوق الناس، وليس العكس. تأمَّل ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام): «جعل الله سبحانه حقوق عباده مُقدِّمة لحقوقه»(5).

ص: 341

لذا كان أفضل ما يقوم به الإنسان هو أن يُوصل الحقوق إلى أهلها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها»(5).

ثالثا: أنواع الحقوق:

تنقسم الحقوق التي تؤمِّنها الدولة الإسلامية لرعاياها إلى:

1 - الحقوق الشخصية.

2 - الحقوق الاقتصادية.

3 - الحقوق الاجتماعية.

4 - الحقوق السياسية.

5 - الحقوق الدينية.

6 - الحقوق القضائية.

أولاً: الحقوق الشخصية:

وعلى رأسها حقّ الإنسان في الحياة؛ إذ لا يجوز مصادرة الحياة من الناس، يقول تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» (النساء / 93).

وتأمين هذا الحق واجبٌ من واجبات الدولة الإسلامية؛ حيث ورد في القرآن الكريم «فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (البقرة / 193).

وخلق الإنسان في الحياة واضح في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) من اللحظة الأولى لتكوينه، وهو جنين، حتى آخر يوم من حياته.

ص: 342

فقد روي أنّه (أُتي بحامل قد زنت، فأمر الخليفة برجمها، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (هب أنّ لك سبيلاً عليها، أيّ سبيل لك على ما في بطنها) والله تعالى يقول:) «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (النجم / 38)، فقال عمر: لا عشتُ لمعظلة لا يكون لها أبو الحسن، ثمّ قال: فما أصنع بها؟ قال (عليه السلام): (احتط عليها حتى تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم عليها الحدّ)(6).

هذا، ومن تسبّب في موت الجنين - حتى بصورة غير مباشرة - فعليه الدية، روي - أيضاً أنّ الخليفة كان استدعى بامرأة) يتجمّع (عندها الرجال، فلمّا جاءها، رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم، فأملصت ووقع إلى الأرض ولدها يستسهل، ثمّ مات، فبلغ عمر ذلك، فجمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسألهم عن الحكم في ذلك، فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدِّياً ولم ترد إلا خيراً ولا شيء عليك في ذلك، وأمير المؤمنين (عليه السلام) جالسٌ لا يتكلّم، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: (لقد سمعتُ ما قالوا)؛ قال: فما عندك أنت؟ قال: (قد قال القوم ما سمعت) قال: أقسمتُ عليك لتقولنّ ما عندك، قال: (إن كان القوم قاربوك فقد غشوك، وإن كانوا ارتأووا فقد قصروا، الدية على عاقلتك؛ لأنّ قتل الصبيّ خطأ تعلّق بك)، فقال: (أنت - والله - نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجري الدية على بني عدي)(7).

وتأكيداً لحقّ الإنسان في الحياة وضعت الشريعة الإسلامية أحكاماً صارمة لمنع الاعتداء على حياة الآخرين، حتى لو كان قد ارتكب جناية، وهذا الأمر نجده في منهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد طالب الزوج الذي قتل رجلاً - مُدّعياً أنّه وجده في فراش زوجته - بأربعة شهود، وهو أمر شبه مستحيل، أو أن يدفع الدية عن قتله إيّاه.

ففي رواية (أنّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أبي موسى الأشعري أنّ ابن أبي الجسري وجد على بطن امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل حكم ذلك على القضاء فسأل أبو

ص: 343

موسی عليّاً (عليه السلام)، فقال: (والله ما هذا في هذه البلاد) - يعني الكوفة وما يليها - وما هذا بحضرتي، فمن أين جاء هذا؟ قال: كتب إليّ معاوية أنّ ابن أبي الجسري وجد مع امرأته رجلاً فقتله، وقد أشكل ذلك على القضاة، فرأيت في هذا، فقال عليّ (عليه السلام): (إن جاء بأربعة يشهدون على ما شهد وإلا دفع برمته)(8).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يدرأ الحدود التي توجب قتل المتّهم إلاّ في القصاص، فكم من مرّة جاء زانٍ محصن راغباً في إقامة الحدّ فكان يردّه بأعذار حتى لا يعود، لكنّه يعود مرة ثانية وثالثة ورابعة.

وحكايته مع المرأة التي زنت حكاية مشهورة ذكرها العامّ والخاصّ؛ فقد جاءته امرأة وقالت له: إني زنيت فطهّرني، وكانت المرأة حاملاً، فقال لها أمير المؤمنين: (انطلقي فضعي ما في بطنك ثمّ ائتيني أُطهرك) ثمّ ذهبت وعادت بعد حولين فتجاهل عليها أمير المؤمنين فأصرَّت مرّة ثالثة على إقامة الحدّ فقال لها (عليه السلام): (انطلقي فأكفلیه) (الطفل) حتى يعقل أن يأكُل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ولا يتهوّر في بئر).

وكان هدفه من التسويف هو توفير الأسباب النفسية لكي لا تعود المرأة في المرّة الرابعة؛ لأنّها إن عادت وجب إقامة الحدّ عليها، ثمّ إنّها عادت وأصرّت على إقامة الحدّ، فأقام الإمام عليها حدّ الرجم(9).

وفي واقعة أخرى: (أتاه رجلٌ بالكوفة فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني، قال: فمن أنت؟ قال: من مزينة، قال: أتقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: بلى، قال: فاقرأ، فقرأ،... قال: أبك جنّة؟ قال: لا، قال: فاذهب حتى نسأل عنك، فذهب ثمّ عاد، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ألك زوجة؟ قال: بلى، قال: فمقيمة معك في البلد؟ قال: نعم، فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) فذهب وقال: حتى نسأل عنك، فرجع ثالثة، ثمّ رابعة، فغضب أمير المؤمنين منه ثمّ إنّه قال: (ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه

ص: 344

الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملاء، أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ) (10).

نستخلص من هذه الحكاية الأمور التالية:

1 - رغبة الإمام في انصراف الرجل عن قراره بإقامة حدّ الرجم عليه من خلال صنع أجواء تعلّقه بالدُنيا.

2 - كان الإمام يُحاول أن يجد طريقاً لدرء الحدّ عنه، فكان يسأله أسئلة مختلفة علَّه يجد سبيلاً لإنقاذه من الرجم.

3 - لا يكتفي الإمام بمنح الرجل فُرصة للعيش، بل للعيش الكريم أيضاً؛ أي أن يبقى مستوراً لا يعلم بما فعله أحد.

4 - قول الإمام: (فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحدّ)، عبارة عن قاعدة ذهبية سبق بها أمير المؤمنين الشرائع الحديثة في مجال حقوق الإنسان.

وتحمل هذه القاعدة إقراراً صريحاً بأنّ الحدود ليس الهدف من إقامتها الانتقام، بل الهدف هو إصلاح الإنسان والمجتمع، فإذا صلح الإنسان بغير العقاب فلا ضرورة الإقامة الحدّ عليه.

وقد اسقط أمير المؤمنين - فعلاً - الحدّ عن رجُلٍ اتّهم بقتل رجل لم يكن له أولياء، فهو وليّ الدم عنهم، فقد أُتي أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطّخة بالدم وإلى جانبه رجلٌ مذبوح يتشحّط في دمه، فاعترف الرجل بأنَّه القاتل، فلمَّا جاءوا به لإقامة حدّ القتل عليه، فإذا برجلٍ مُسرعٍ مقبل عليهم، مُدَّعياً بأنّه هو القاتل، فسأل أمير المؤمنين الرجل الأوّل: (ما حملك على إقرارك على نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، وما كنتُ أستطيع أن أقول وقد شهد علي أمثال هؤلاء الرجال وأخذوني وبيدي سكينٌ ملطّخة بالدم والرجلُ يتشحّط في دمِه وأنا قائم عليه؟ وخفتُ الضرب فأقررتُ،

ص: 345

وأنا رجلٌ كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاةً وأخذني البول، فدخلتُ الخربة فرأيتُ الرجل يتشحّط في دمه، فقمتُ متعجّباً، فدخل علىّ هؤلاء، فأخذوني. فأمر أمير المؤمنين أن يأخذوا الاثنين إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ليحكم بينهما، فقال الحسن (عليه السلام): (قولوا لأمير المؤمنين: إنّ هذا) الرجل الثاني (إن كان ذبح ذلك) المقتول (فقد أحيا هذا) الرجل الأول، (وقد قال الله عزّ وجلّ: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة / 32)، یُخلى عنهما ويُخرج دية المذبوح من بيت المال)(11).

وهكذا نرى أنّ حكم الإمام الحسن هو حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). وهذه الحكاية على غرار الحكاية السابقة، طبّق فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعدة - التوبة أفضل من إقامة الحدّ - وقد كاد يُقيم الحدّ على الرجل الأوّل لإقراره بالقتل لو لا الرجل الثاني الذي لو كان هو القاتل فقد تاب عن فعله، ولأنّه تسبّب في إلغاء حدّ القتل عن الرجل الأوّل، فقد استحقّ الحياة. أمّا حقّ المقتول فلم يذهب هدراً؛ إذ عُوِّض عن ذلك بالدية من بيت المال.

هذه الحادثة وغيرها الكثير من الحوادث المماثلة ترسم لنا لوحة جميلة يتجلّى فيها حرص الإمام على حقّ الإنسان في الحياة، وإنّ هذا الحقّ مُصان، وأنّ رئيس الدولة هو المسؤول الأوّل والأخير عن تأمين حياة الناس.

وقد ذهب الإمام إلى أبعد ممّا وصلت إليه الشرائع الوضعية في مجال حقوق الإنسان، فقد أسقط الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الحدّ عن سارق الطعام في عام المجاعة؛ إذ رُوي عنه: (لا يقطع السارق في أيّام المجاعة)(12)، ونُقل عنه أيضاً أنّه قال: (لا قطع في عام مجاعة)(13) لأنّ حياة الإنسان أغلى من كل شيء.

وبناءً على هذه القاعدة أجاز أمير المؤمنين لأهل الميّت أن ينبشوا القبر لاستخراج الكفن عند حاجتهم إليه؛ لأنّه سيسدّ بعض حاجاتهم (14).

ص: 346

ثانياً: الحقوق الاقتصادية

وهو حقّ الإنسان في إيجاد العمل اللائق، وحقّه في ناتج العمل، وهو يشمل ملكيّته لرأس المال وللإنتاج، وضمن القرآن الكريم للإنسان هذا الحقّ من خلال الآية الكريمة: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» (النساء / 29). وهذا اعتراف صریح بالحق في الملكيّة، ومسؤولية الدولة الإسلامية في ضمان هذا الحقّ بتوفير الكسب المشروع للإنسان، وبضمان حرّية التملّك على أساس العمل، وحماية الملكية من اعتداء الآخرين عليها.

وفي سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحُكم نجد الكثير من الشواهد الدالّة على ضمان هذا الحقّ، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في كتابنا (الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة).

إلاّ أنّنا سنأتي - بمقدار الضرورة - على ذكر الشواهد الحيّة.

1 - توفير الكسب الحلال.

فقد حثّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على العمل، فقال (من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه) (15).

وذكر عن سيرة الأنبياء: إنّ الله أوحي إلى داود (عليه السلام): (يا داود، إنّك نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئاً)، قال: فبکی داود أربعين صباحاً، فأوحى الله إلى الحديد: (أن ألن لعبدي داود)، فلان له الحديد فكان يعمل في كلّ يوم درعاً(16).

ومن مسؤولية الدولة أيضاً توفير فرص العمل للجميع، فحقّ رعايا الدولة الإسلامية - حتى من غير المسلمين - ضمان هذا الحقّ. ويُذكر هنا أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 347

وجد شیخاً أعمى بالبصرة بتصدّق من أموال الناس، فأنكر أمير المؤمنين ذلك فقالوا له: يا أمير المؤمنين، نصراني، فقال الإمام: (استعملتموه حتى إذا كَبُرَ وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال)(17).

ومن جانب آخر، فمن حقّ العامل الذي يعمل ضمن العقود الإسلامية أخذ الأجر على عمله، وصاحب العمل مكلفّ بأداء هذا الأمر قبل أن يجفّ عرق العامل، وقد أكد أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك في بداية حُكمه عندما بعث أحداً لیُنادي بين المسلمين باللعن على ثلاثة؛ أحدهم من خان أجيراً على أجرته.

2 - حقّ الإنسان في الملكية.

وثمرة العمل هو الإنتاج، فكان من حقّ الإنسان أن يمتلك ما أنتجته يداه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديّيه إلى الإمام)(18).

وهذه قاعدة أرسى معالمها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخذها الفقهاء كمستند في تملّك الأرض المحياة.

ويؤكّد هذا النصّ على حقّين؛ الأوّل: حق الإنسان في العمل. والثاني: حقّه في تملّك نتائج عمله (19).

ص: 348

3 - حماية الملكية من السرقة أو العبث أو ما شابه ذلك.

وقد واجه أمير المؤمنين (عليه السلام) مظاهر التسيّب والعبث بأموال الناس، فقد قضى على صاحب البقرة التي شقّت بطن الجمل بالضمان لأنّه ربطها في طريق الجمل؛ مستنداً إلى حديث رسول الله: (لا ضرر ولا ضرار)(20).

ومن طرق حماية الملكية الاقتصادية إقرار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لقاعدة اليد التي لها آثار كبيرة في الفقه والقضاء الإسلاميّين.

ذُكر أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رجلٍ أبصر طائراً فتبعهُ حتى سقط على شجرة، فجاء رجلٌ آخر فأخذه (للعين ما رأت ولليد ما أخذت)(21).

فأصبح الطائر ملكاً لمن أخذه باليد، وسنجد كثيراً من القضايا التي وقعت في عهده (عليه السلام) حكم فيها استناداً لهذه القاعدة التي هي أصلٌ من أصول الملكية.

وبالإضافة إلى مسؤولية الدولة، فعلى المالك أيضاً مسؤولية حماية أمواله؛ لذا دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحاب الأموال إبداء ما يستطيعون من شجاعة عند تعرّض أموالهم للانتهاك، يقول (عليه السلام): (إنّ الله ليمقت الرجل يدخل عليه اللصّ بيته فلا يحارب) (22).

وخلاصة الأمر، أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تعهّد بحماية الحقوق الاقتصادية لرعايا الدولة الإسلامية، وضمن ما يكفل لهم العيش الكريم، فقد ورد عنه:

(أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم علىّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ: فالنصيحة لكم، وتوفير فیئکم علیکم)(23) والفيء الذي يُوفرهُ الإمام لرعيته هو الخراج، وما يجلب إلى بيت المال، والظاهر أن توفير ذلك إنّما يكون بتهيئة جميع وسائل العمل وميادين الانتاج (24).

وقد وضع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قاعدة مهمّة يمكن الاستناد إليها في

ص: 349

جميع الحقوق الاقتصادية للأمّة؛ وهي: (والناس كلّهم عيال على الخراج)(25).

فرسم من خلال هذه القاعدة مسؤولية الدولة في إيجاد العمل المناسب، وفي توفير العيش الكريم لكلّ رعايا الدولة الإسلامية (36).

قارن بين نص المادة (17) مِن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواقف أمير المؤمنين (عليه السلام).

ثالثاً: الحقوق الاجتماعية

وهي تشمل حقّ الإنسان في الزواج وإشباع حاجاته الجنسية، ومن ثمّ إنشاء الأُسرة، وكذلك حقّه في العيش الكريم بعيداً عن أذى الآخرين وتتحمّل الدولة مسؤولية كبيرة في توفير هذا الحقّ وصيانة الفرد اجتماعياً وأُسرياً حتى ينعم بحياة رغيدة.

والحقوق الاجتماعية يمكن لنا أن نستشفّها من خلال الإجابة على هذا السؤال: ماذا يُريد الفرد من المجتمع؟

1 - یُريد منه تأسيس الأُسرة السعيدة وإشباع حاجاته الجنسية، ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) بغافل عن وجود هذه الغريزة، فكان يُسرع في توفير مستلزمات إشباعها كلّما دعت الضرورة إلى ذلك، وهذه نماذج حيّة عن ذلك:

جاءته امرأة فقالت له:

فأنكر ذلك السامعون، ولعلّهم أرادوا ضربها وتأديبها على كلماتها.. لكنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عرف ما تبطن هذه الكلمات من شهوة جامحة قاومتها المرأة ستراً على زوجها.

ص: 350

فقال: أحضريني بعلك، فأحضرته، فأمره بطلاقها ففعل، ولم يحتجّ لنفسه بشيء، فقال (عليه السلام): إنّه عنّين، فأقرّ الرجل بذلك، فأنكحها رجلاً من غير أن تقضي عدّة (27).

ورُوي أيضاً: قضى أمير المؤمنين في امرأة حُرّة دلس لها عبد فنكحها ولم تعلم إلاّ أنّه حرٌ، قال: (يُفرّق بينهما إن شاءت المرأة)(28)؛ أي أنّها مُخيّرة بين أن تبقى زوجة له أو أن تفترق عنه، فالخيار لها. فالزواج رابطة مُقدّسة تتساقط أمامها كلّ الاعتبارات غير الشرعية.

روى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني أنّ عبد الله بن أبي بكر أعطى زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل حديقة على أن لا تتزوّج بعده، فلمّا مات من السهم الذي أصابه بالطائف خطبها عمر، فقالت: كان أعطاني حديقة على أن لا أتزوّج.

فقال لها عمر: فاستفتي، فاستفتت عليّاً (عليه السلام)، فقال لها: (ردِّي الحديقة على أهله وتزوّجي)، فتزوّجت منه(31)؛ لأنّ الزواج رابطة مُقدَّسة لا يستطيع أيّ عقد أو اتّفاق الوقوف بوجهها. فمثلما للمرأة الحقّ في الزواج والعيش الكريم، كذلك من حقّ الرجل الذي يملك مؤونة الزواج أن يتزوّج أيضاً؛ لأنّ الزواج حصانة ضدّ الانحراف.

وحينما شاهد عليٌّ (عليه السلام) شاباً يستمني فضرب على يده حتى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال (32).

لقد وجد الإمام في هذا الشابّ ثورة جنسية عارمة لا يطفئها شيء سوى الزواج؛ لأنّه سيعود مجدّداً إلى ممارسة فعلته إن لم تحل مشكلته حلاً جذرياً، كذلك فإنّ الضرب وحده لا يكفي، بل لا فائدة منه، والحلّ الطبيعيّ يكمن في الزواج، ولمّا لم يكن الشابّ قادراً على الزواج زوجّه الإمام من بيت المال. وهذا يدلّ - بما لا يدع مجالاً للشكّ - أنّ الزواج حقّ

ص: 351

مشروع يجب أن تعمل أجهزة الدولة على تحقيقه (33).

ومن حقّ الفرد - أيضاً - أن يعيش في مجتمعه حياةً كريمةً مرفوع الرأس، لا تنالهُ الألسن بالقذف. أو ماشابه ذلك. وعلى الدولة مسؤوليّة تطهير المجتمع، وإزالة الأسباب التي تُنقص من الاحترام المتبادل إذ ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (يُعزَّر الرجلُ في الهجاء)(34).

أمّا لو قذف إنسانٌ إنساناً آخر بابن المجنونة فإنّه يُجلد عشرين جلدة، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (35).

ومن أطرف ما رُوي في قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ رجلاً قال لرجلٍ على عهده (عليه السلام): إنّي احتلمتُ بأمّك، فرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: إنّ هذا افترى عليّ، قال: وما قال لك؟ قال: زعم أنّه احتلم بأمّي، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن شئت أقمته لك في الشمس فأجلد ظلّه، فإنّ الحلم مثل الظلّ)(36).

ولم يكتفِ أمير المؤمنين بهذا القدر، بل قرّر ضربَهُ حتى لا يُؤذي المسلمين بعد الآن، لأنّ كلامه كان جارحاً وهو شبيه بالقذف، فكان لابدّ من مكافحة حتى هذا القليل من الأذى حتى يصبح المجتمع طاهراً يستطيع أن يأمن فيه الإنسان على ماله وحرماته. وهذا الا هو ما يُسمّى اليوم بالحقّ العامّ أو حقّ المجتمع.

رابعاً: الحقوق السياسية:

وتشمل الحقّ في المشاركة السياسية، في صنع القرار وفي بناء مؤسّسات الدولة، وكذلك الاعتراض على أعمال المسؤولين في الدولة، وكذلك الحقّ في إنشاء التجمعّات السلمية.

ص: 352

وتنطلق هذه الحقوق في الشريعة الإسلامية من قاعدة الاستخلاف؛ إذ وعد اللهُ المؤمنين ان يجعل منهم خلفاء يحكمون الأرض، قال تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا» (النور / 55)، يتبيّن لنا من ضمير (هم) في لفظ «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ» أنّ جميع الذين آمنوا هم خلفاء دون استثناء، ولهم الحقّ في الشؤون السياسيَّة، ويُلاحظ من يدرس سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقوق جلية وواضحة(37).

1 - حقّ المشاركة في بناء الدولة.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأكثر مُدارسة العلماء، ومناقشة الحُكماء في تثبيت ما صَلَحَ عليه أمرُ بلادِكَ وإقامة ما استقام به الناسُ قبلَك، واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يَصْلحُ بعضُها إلاّ ببعض، ولا غِنى ببعضِها عن بعض؛ فمنها جُنود الله، ومنها كُتابُ العامّة والخاصّة، ومنها قُضاة العَدْلِ، ومنها عُمّالُ الإنصافِ، والرِّفقِ، ومنها أهْلُ الجزية والخراد أهْل الذِّمَّة ومُسْلِمة الناس؛ ومنها التجارُ وأهل الصناعاتِ، ومنها الطبقة

السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكُلٌّ قد سمَّى الله له سَهْمَهُ، ووضع على حدِّه) فريضةً

في كتابهِ أو سُنَّةِ نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً فيه عِندنا محفوظاً)(38).

فالمجتمع بجميع طبقاته يجب أن يُساهِم في البناء، فكلاهما؛ المجتمع والدولة، كيانٌ واحد، وكلّ طبقة في المجتمع تشكل جزءاً من هذا الكيان، ولا نعرف مفهوماً للمشاركة السياسية أقوى من المفهوم الذي أكّد عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله وفعله (39).

ص: 353

2 ۔ حق المعارضة، والاعتراض والشكوى:

فتاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) حافلٌ بحوادث من هذا القبيل، فالمرأة التي اعترضت على الوالي، قصّتها مشهورة؛ وهي سودة بنت عمارة الهمدانية.

فقد شكت هذه المرأة جور الوالي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأخذ الإمام يبكي ويقول: (اللّهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم، إنّي لم أمرهم بظُلم خلقك، ولا بترك حقّك) ثمّ عزله في الوقت(40).

وحكاية الفلاّحين الذين اشتكوا واليهم، فكتب إليه الإمام (عليه السلام) كتاباً جاء فيه: (أمّا بعدُ، فإنّ دهاقين أهْلَ بَلدِك شكوا مِنك غِلظةً وقسوةً واحتقاراً وجفوةً،

ونَظَرْتُ فلم أرَهُم أهلاً لأن يُدْنوا لشِرْكِهِم، ولا أن يُعصَوْا ويجفَوْا لِعَهْدِهم، فالبس لَهُم جلباباً من اللّين تشُوبُهُ بطرفٍ من الشِّدَّة، وداوِلْ لَهُم بين القسْوةِ والرأفةِ، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والاقصاء، إن شاء الله)(41).

أمّا حكاية أبي الأسود الدؤلي الذي عُزل من القضاء لرفعه صوته فوق صوت الخصم، فاعترض على قرار الإمام قائلاً: لم عزلتني وما خنتُ ولا جنيت؟ قال (عليه السلام): (إنّي رأيت كلامك يعلو كلام خصمك)(42).

وما هذه الحكايات إلاّ مؤشر دالّ على طبيعة النظام السياسي الذي أرسى دعائمه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي آل على نفسه احترام حقوق الناس كاملة، ولا ريب في ذلك فقد كتب إلى أحد ولاته: (أمّا بعدُ، فإنّما أهلَكَ من كان قبلكُم أنّهم منعُوا الناس الحقَّ فاشتروه وأخذوهُم بالباطل فاقتدَوْه)(43). فقد كان حكم أمير المؤمنين نقيضاً للحكم الفردي المستبدّ الذي كان عليه نظام الحُكم في الشام، فكان لابُدّ من رسم صورة صالحة عن الإسلام لتمكينه من الانتشار، بعد أن شّوّهتها الممارسات الخاطئة لبني أميّة في عهود سيطرتهم السياسية على البلاد الإسلامية.

ص: 354

3 - السماح للتجمعات السلمية بممارسة طقوسها:

ظهرت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) تشكيلات مختلفة؛ منها المنحرفة سياسياً بمعارضتها للسلطة الحقّة المتمثِّلة بالإمام (عليه السلام)، ومنها المنحرفة عقيدياً، وكان الإمام يعاملها كما يُعامل رعاياه دون أن يستثنيهم بشيء طالما ظلّت هذه التجمّعات سلمية، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال للخوارج: (لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولم نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا)(44). لكنّ الأمر يختلف تماماً مع المنحرفين عقيدياً؛ لأنّ عمل هؤلاء يتجاوز مفهوم المعارضة السياسية، فهم خارجون على الدين وليس السلطة، ولربّما كانوا مُساندين للسلطة، من أمثال الذين اعتقدوا بربوبيَّة أمير المؤمنين (عليه السلام) فحتى مع هؤلاء استخدم الإمام شتى الطُرق السلمية والأساليب الفكرية والتربوية لإعادتهم إلى الجادة، وعندما لم تفلح كلّ الوسائل استخدم معهم العنف. جاء في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط (45)، فسلّموا عليه وكلموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم ثمّ قال لهم: (إنّي لست كما قلتم، أنا عبد الله مخلوق) فأبوا عليه وقالوا: أنت هو (46)، فقال لهم: (لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قُلتم فيّ وتتوبوا إلى الله عزّ وجلّ لأقتلنَّكم)، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تُحفَر لهم بئر، فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض، ثمّ قذفهم فيها، ثمّ خمر رؤوسها، ثمّ أُلهِبَت النار في بئر منها ليس فيها أحد منهم، فدخل الدخان عليهم فيها فماتوا (47). وسياسته إزاء المعارضين سياسة واضحة أكّدتها رسائله إلى ولاته، ومنها كتابه إلى عبد الله بن عبّاس؛ وهو عامله على البصرة التي كانت موطن المعارضة، جاء في الرسالة: (إعلمْ أنّ البصرة مهبطُ إبليس، ومغرِسُ الفِتن، فحادثْ أهْلَهَا بالإحسان إليهم، واحلل عُقدة الخوف عن قلوبهم...)(48) فأمَرَ واليه باتّباع سياسة اقتصادية وتربوية لتصفية مظاهر

ص: 355

الحقد من نفوسهم؛ لأنّ معارضتهم لم تكن واقعية، بل كانت معارضة نفسية قائمة على الحقد.

4 - الحقّ في المساواة:

وهو من الحقوق السياسية التي جاء بها الإسلام وصدع بها القرآن الكريم في أكثر من آية قرآنية، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات / 13).

وبذلك كان القرآن الكريم مؤسّساً لفكرة المساواة في مجتمع كان يغرق في مستنقع التناقضات والطبقية. وعندما آلت قيادة الأمّة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عمل بهذا المبدأ على أفضل صورة، فكان يساوي بين نفسه وخادمه قنبر، بل كان يؤثره في اللباس الجيّد والطعام المفضّل، كما ورد في سيرته.

وساوى أمير المؤمنين (عليه السلام) في العطاء بين الشريف والوضيع، وبين الغنيّ والفقير، وقد دفع ثمن هذه السياسة غالياً، فثارت عليه الفئات التي كانت تمثّل الطبقة الاستقراطية في البلد، فكانت حرب الجمل، وتمرّد عليه معاوية لأنّه أراد إقصاءه عن الولاية فوقعت واقعة صفّين، وعلى الرغم من كلّ هذه المتاعب التي واجهته فقد ظلّ مصرّاً على تطبيق مبدأ المساواة في الحياة، فكان يقول: (أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(49).

وكتب إلى واليه محمّد بن أبي بكر: (فاخفض لهم جناحك، والِن لهم جنابك، وابسُط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضُعفاء من عدلِك عليهم)(50).

ص: 356

ولم ينسَ - حتى آخر لحظة من حياته - هذه القيم التي استشهد من أجلها، لم ينسَ أن يقول لولده بأن يساووا بينهم وبين قاتله عبد الرحمن بن ملجم في المأكل والملبس، ثمّ يقول للحسن (عليه السلام): (أحسنوا إساره فإن عشت فأنا وليّ دمي، وإن متّ فضربة كضربتي)(51).

خامساً: الحقوق الدينية:

المشمولون بهذا الحقّ هم المعاهدون من أهل الذمّة، فهؤلاء هم من رعايا الدولة الإسلامية، وهم سواسية لا يختلفون عن المسلمين في الحقوق الاقتصادية والحقوق الشخصية، لكنّهم يختلفون معهم في بعض الحقوق السياسية. وقد نظّم الحكم الإسلامي - على طول التاريخ الإسلامي - علاقة إيجابية بين المجتمع الإسلامي وبين أهل الذمّة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً في التسامح الديني. وكان أهل الذمّة يحظون برعاية أمير المؤمنين (عليه السلام) في فترة حكمه، فقد ذكرنا مُشاهدته للرجل المعاهد في البصرة وهو يتصدّق من أموال الناس، وكيف جعل له حقاً في بيت المال.

ولم ينسَ أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يُوصي عامله على الخراج: (ولا تمسّنَّ مال أحدٍ من الناس، مُصَلٍّ ولا معاهدٍ، إلاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام)(52).

فالمعاهد الملتزم بقوانين الدولة الإسلامية هو بحكم المُسلم في ضمان حقوقه وممتلكاته وصيانتها.

أمّا حقّهم الديني في ممارسة طقوسهم، فكانوا يجرونها وفق تعاليمهم الدينية، فقد ورد (أن عليّاً (عليه السلام) كان يستحلف النصارى واليهود في بيعهم وكنائسهم،

ص: 357

والمجوس في بيوت نيرانهم)(53).

وذُكر أنّ عليّاً (عليه السلام) استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أُنزلت على موسى (عليه السلام)، فحقوق أهل الذمّة مُصانة طالما ظلّوا ملتزمين بالقوانين الإسلامية، أمّا إذا أخلّوا بها فإنّ عقابهم سيكون أشدَّ من عقاب المسلمين، سيّما في الأمور التي تمسّ الجانب الأخلاقيّ من المجتمع الإسلامي، وذلك لأنّ الدولة الإسلامية، أحسنت إليهم ومنحتهم حقّ الرعاية وهم في الأصل غير مستحقّين لكلّ هذه الرعاية؛ لعدم انتمائهم لعقيدة الدولة، فإذا أذنبوا ذنباً فإنّهم خانوا خيانتين؛ الأولى: خيانتهم للمسلمين بارتكابهم الذنب، وخانوا الأمانة والإحسان الذي أولته لهم الدولة الإسلامية.

وهنا لابُدّ من التنويه إلى أنّ الحقوق الدينية لا تعني الحرية الدينية، فالمسلم الذي اعتنق الإسلام كعقيدة ونظام لا يحقّ له تغيير دينه إلى دين آخر، فإذا فعل ذلك فيُحاسب حساب المُرتدّ ويعاقب عقاباً شديداً.

وعقاب المُرتدّ عقابٌ صارم؛ لأنّه تجاوز حقوق المجتمع، وظلم نفسه عندما غيّر عقيدته بعد الاقتناع؛ لذا كان عقاب المرتدّ عند أمير المؤمنين أنّه: يُعزل عن امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويُستتاب ثلاثة أيّام؛ فإن تاب، وإلاّ قُتل في اليوم الرابع(54).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمُسلم تنصَّر ثمّ رجع: (قد قبلتُ منك رجوعك هذه المرّة، فلا تعد، فإنّك إن رجعت لم أقبل عنك رجوعاً بعده)(55)؛ لأنّه سيُحاسب حساب المُرتدّ، فالإنسان حرّ في اختيار عقيدته قبل أن يصبح مسلماً، فإذا أسلم فسيكون مُقيَّداً بالإسلام.

ص: 358

سادساً: الحقوق القضائية:

الحقوق القضائية هي ما يجب على القاضي توفيره للمُدّعي والمدّعى عليه حتى يسير القضاء وفق العدالة التي يتوخّاها الجميع، وإذا أخلّت الجهة التي تتولّى القضاء بهذه الحقوق، فإنّ الحُكم الصادر بحقّ المدّعى عليه يكون حكماً جائراً يمكنه استئنافه.

(وقد رعى الإسلام هذه الحقوق في زمن حالك لم تعرف البشرية طعم العدالة والحريّة، وفي زمن لم يكُن لدى العرب في الجاهلية نظام مُحكم للقضاء)(56).

وتأتي رعاية الإسلام لهذه الحقوق من منظور إنسانيّ واقعيّ، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو مُركّبٌ من عقل وهوى، وفيه استعداد للخير كما وأنّه قابل للانحراف نحو الشرّ، فإذا ارتكب ذنباً أصبح مُجرماً في نظر القانون إلاّ أنّه يظلّ إنساناً قابلاً للعودة إلى الجادّة.

وأفضل صورة واقعية عن الحقوق القضائية هو ما ترجمهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) في ممارساته القضائية.

ومن أجل أن نُنظّم هذه الحقوق تنظيماً منطقياً منسجماً مع أهداف الإسلام في القضاء نقسّمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم. وهي:

1 - المساواة في القضاء:

يجب أن يتساوى المدّعي والمدّعى عليه حتى لا يشعر أحد الطرفين بالغبن، فتضعف حجّته، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أورع الأمثلة في المساواة.

فقد ساوى بين شخصِهِ واليهوديّ الذي نازعه في الدرع في القصّة المشهورة، وأَمَرَ قُضاته بأن يساووا بين الخصمين ذاكراً العلّة أيضاً في ذلك، فيقول لأحدهم: (وآسِ

ص: 359

بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء مِن عدلك)(57).

وكتب إلى شريح قاضيه: (ثمّ واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك)(58).

وأكثر أهميّة من ذلك هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القضاء، وقد ضرب أمير المؤمنين (عليه السلام) أروع الصور في المساواة عندما عاتب خازن بيت المال عليّ بن أبي رافع لمّا أعطى إحدى بناته عقد لؤلؤ كعارية مضمونة فقال له: (لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة لكانت إذاً أول هاشمية قُطعت يدها في سرقة)(59).

فإذا كان الحاكم لا يُفرّق بين الإنسان العادي وأحد أولاده في تنفيذ الأحكام لهو الحاكم الجدير بحُكم البلاد؛ لأنّه سيُسعِد شعبه بتطبيق العدالة بينهم وتحقيق المساواة (60).

2 - تدقيق القاضي وعدم الإسراع في إصدار الحُكم:

يجب على القاضي أن لا يُسرع وأن يتفحّص الشهود بتمعّن ويستمع إلى أقوالهم وأقوال الخصمين بدقّة؛ لأنّ إهمال نقطة صغيرة قد تؤدّي إلى كارثة، وهذا حقٌ مُسلَّم لكلا الخصمين، فالعجلة والسرعة تؤدّيان حتماً إلى هضم الحقوق؛ نضرب مثالين عن دقّة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتأنّيه وعدم إسراعه في إصدار الحُكم:

3 - علنية جلسات المحاكمة:

وهي أساس في النظام القضائي المعاصر، وهي حقّ قضائي لصالح المتّهم، سيّما إذا كانت الدولة هي المّدّعى عليها، فالقاضي يستطيع أن يتلاعب بالأحكام كيفما يشاء، ولضمان قضاء عادل طالبت الدساتير بإجراء المحاكمات العلنية لكي تفوّت الفرصة أمام الأغراض الخاصّة لبعض القُضاة.

ص: 360

كما وأقرّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مبدأ علنية جلسات المحاكمة: كلّ شخص مُتّهم بجريمة يُعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانونياً بمحاكمة علنية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه (63).

وكانت تجري المحاكمات في عهد الإسلامي بصورة علنية، وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) مکانٌ خاصٌ في مسجد الكوفة يجلس فيه للقضاء.

وعند تتبّع سير القضاء في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) نجد أنّها كانت تجري بين الناس حتى يأخذ الآخرون العبرة منها(65).

وقد ذكر الفقهاء في آداب القضاء استحباب حضور أهل العلم إلى مجلس القضاء لتصويب القاضي إذا أخطأ، فهؤلاء يُشكّلون عيوناً على القاضي يحصون عليه أخطاءه إذا أخطأ.

وقد منع أمير المؤمنين (عليه السلام) إقامة القضاء في الأماكن الخاصّة لأنّها تكون بعيدة عن أعين الناس وسمعهم، فقد بلغ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ شُريحاً يقضي في بيته، فقال: (یا شُریح، اجلس في المسجد فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته)(66).

لأنّ المحاكمة في البيت ستكون أشبه بالمحاكمة السرية، وسيكون بمقدور القاضي أن يحكم بما شاء، فتوجّه إليه الاتّهامات، وقد أورد الحرّ العاملي باباً في كتابه تحت عنوان: (كان علي (عليه السلام) يقضي بين الناس في الأماكن العامّة)(67).

ص: 361

4 - مبدأ حرية الدفاع:

وهو مبدأ قرّته الدساتير الحديثة، ولم تعرف البشرية هذا الحقّ إلاّ عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

روي أنّ امرأة شهد عليها الشهود أنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها ليس ببعل لها، فأمر الخليفة عمر برجمها وكانت ذات بعل، فقالت: اللّهمّ إنّك تعلم أنّي بريئة، فغضب الخليفة وقال: وتجرح الشهود أيضاً؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) (ردّوها واسألوها فلعلّ لها عُذراً، فرُدّت) وسُئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبلٌ فخرجت في إبل أهلي وحملت معي ماءً، ولم يكن في إبل أهلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيتهُ فأبى أن يسقيني حتى أُمكّنه من نفسي، فأبيتُ، فلمّا كادت نفسي تخرج أمكنته من نفسي کُرهاً، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (الله اکبر) (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة / 173) فلمّا سمع ذلك الخليفة خلّى سبيلها (68).

وهذه الحكاية تؤكّد بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الذي استحدث هذا المبدأ؛ لأنّ العُرف القضائي السائد هو اعتماد رأي الشهود مع وجود الدلائل، فالمؤشّرات توحي بأنَّ المرأة كانت قد زنت، وجاء الشهود ليشهدوا بذلك، وقد أخذ عمر بالعُرف السائد في مثل هذه القضايا فحكم عليها بالرجم ورفض أن يسمع طعنها في الشهود، لكن مع تطبيق مبدأ حرّية المتّهم في الدفاع عن نفسه تغيّر كلّ شيء؛ حيث ثبت من دفاع المرأة أنها كانت مُجبرة، ولا حدّ على المضطرّ.

ص: 362

القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي.

وهو حقٌ لم نرَ له وجوداً إلا في عهد الإسلام؛ حيث أعطى للفرد الحقّ في الاعتراض على قرار القاضي وإعطاء أدلّة جديدة تثبت براءته أو إعطاء أدلّة جديدة تثبت حقّاً لصالحه، وقد منح أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الحقّ للشابّ الذي اعترض على حُکم شُريح القاضي في تبرئه الرجال الذين شاركوا أباه في رحلة التجارة حيث قُتل في الطريق، وكان الشابّ على يقين أنّهم هم الذين قتلوه، فاعترض على ذلك الحُكم عند أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قام بتفريق الشهود ومساءلتهم، كلّ على انفراد، حتى اكتشف التناقض في أقوالهم، وبالتالي ثبتت له صحّة اعتراض الشابّ على حكم شريح.

1 - الإقرار يجب أن يكون عن وعي بالقانون:

وهو حقٌ انفرد به أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتى أنّ القانون الوضعي أهمل هذا الجانب (69)، فالذي يرتكب عملاً مخالفاً يُعتبر مُجرماً حتى لو كان لا يعرف بموادّ القانون، وحتى هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تتباهى به الدول الكُبرى في عالمنا اليوم، فإنه غفل عن هذا الحقّ الذي لا نجد في جميع الشرائع والقوانين أحداً أقرّه غير الإسلام، وبالأخصّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي نجد في سيرته العطرة مصادیق كثيرة تدلّل على احترامه لهذا الحقّ. فقد أتي برجل قد شرب الخمر، فقال له أبي بكر: أشربت الخمر؟ فقال الرجل: نعم، فقال: ولم شربتها وهي مُحرّمة؟ فقال: إنّني أسلمت ومنزلي بين ظهراني قومٌ يشربون الخمر ويستحلّونها، ولم أعلم أنّها حرامٌ فأجتنبها، قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة، وأبو الحسن لها، فقال أبو بكر: يا غلام ادع لنا عليّاً فقال عمر: بل يؤتي الحُكم في منزله، فأتوه ومعهُ سلمان الفارسي، فأخبره بقصّة الرجل فاقتصّ عليه قصّته، فقال عليٌّ (عليه السلام) لأبي بكر: (ابعث معهُ من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار فمن تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه، فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم فلا شيء

ص: 363

عليه) ففعل أبو بكر ذلك بالرجل. قال عليّ (عليه السلام): (إنّما أردت أن أجدّد تأكيد هذه الآية فيّ وفيهم: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (یونس / 35)(70).

وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأل من يقرُّ على نفسه بذنب، هل سمع آية التحريم في ذلك العمل الذي ارتكبه؛ فإذا أقرّ بذلك حكم عليه، وإلاّ ترك سبيله. فالرجل الذي أقرّ على نفسه بالزّنی، فسأله أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد إقراره: (أتعرف شيئاً من القرآن؟) فقال: نعم، قال: اقرأ، فقرأ فأصاب، فقال له: (أتعرف ما يلزمك من حقوق الله تعالى في صلاتك وزكاتك)، فقال: نعم، ولم يكتف الإمام بهذا المقدار من الأسئلة عن مقدار المعلومات الدينية للمتّهم، بل حاول أن يستطلع حالته الصحية والنفسية ذات الأثر في إمكانية الوعي لديه فسأله: (هل بك من مرض معروف أو تجد وجعاً في رأسك أو شيئاً في بدنك أو غماً في صدرك؟)(71).

2 - الإقرار بالذنب بعيداً عن الضغوط:

وهو حقٌ يضمن حكماً عادلاً للأفراد، فالمُقرّ بالذنب يجب أن يتمتّع أثناء اعترافه بذنبه بكامل حرّيته، وأن لا يُمارَس بحقّه أي ضغط من أنواع التعذيب أو الترهيب أو التهييب (استخدام القاضي هيبته لانتزاع الأقوال). وقد ساند أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الحقّ الذي غَفِل عنه القضاء قبل الإسلام وبعده، وأمامنا حشدٌ من الصور الرائعة يمكن للقاضي أن يضعها نصب عينه، ويمكنها لوحدها أن تُشكّل معلماً من معالم القضاء عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

أُتي بامرأة حامل إلى الخليفة عمر في ولايته، فسألها فاعترفت بالفجور، فأمر بها أن تُرجم، فلقيها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: (أمرت بها أن تُرجم؟) فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال: (هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟) ثمّ

ص: 364

قال له عليّ (عليه السلام): (فلعلّك انتهرتها أو أخفتها؟) فقال: قد كان ذلك، قال: (أو ما سمعت رسول الله يقول: لا حَدَّ على معترف بعد بلاء) إنّه من قُيّدت أو حُبست أو تهدّدت فلا إقرار له. فخلّی عمر سبيلها، ثمّ قال: عجزت النساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب. لولا عليّ لهلك عمر (72).

تُبيّن لنا هذه الحادثة كم للضغط النفسي من أثرٍ على إقرار المتّهم، وكم لأسئلة القاضي من انعكاس على سير التحقيق وسير العدالة في القضاء. ونستخلص منها مبدأ قضائياً عمل به أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويجب أن يُسنّ في التشريعات القضائية في البلاد الإسلامية والمبدأ هو: (لاحدّ على معترف بعد بلاء)، وهو حديثٌ سمعهُ أمير المؤمنين (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالإقرار الذي يأتي نتيجةً للتعذيب النفسي أو البدني هو إقرارٌ باطل، ولا يجوز الاعتماد عليه في إصدار الأحكام.

القسم الثالث: الحقوق التي يجب مراعاتها عند إصدار الحُكم.

وهي اللحظة الحرجة التي رعاها الإسلام أحسن رعاية، وأعطى لأَطراف الخصومة الفُرصة الكافية لكي تأتي قرارات القاضي قرارات عادلة، وتنقسم هذه الحقوق إلى:

1 - تفسير الأدلّة لصالح صاحب الحقّ:

فالأدلّة التي يحصل عليها القاضي من إقرار أو شهادة أو ما شابه ذلك تمتاز بالمرونة، فيمكن أن تُفسّر تفسيرات مختلفة، ولمّا كان همّ القاضي هو احقاق الحقّ، فإذا تعيّن لديه صاحب الحق فيجب أن يُوجِّه مرونة الأدلّة لصالح صاحب الحقّ.

روي أنّ رجلاً أوصى، ودفع إلى الوصيّ عشرة آلاف درهم، وقال: إذا أدرك ابني فأعطهِ ما أحببت منها، فلمّا أدرك استعدی أمير المؤمنين، قال له: (كم تحب أن تعطيه؟) قال: ألف درهم.

ص: 365

قال: (أعطه تسعة آلاف درهم، وهي التي أحببت وخُذ الألف).

ورووا أنّ رجلاً حضرته الوفاة، فوصّى بجزء من ماله ولم يُعيّنه، فاختلف الورّاث في ذلك بعده، وترافعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقضى عليهم بإخراج السُبع من ماله، وتلا قوله تعالى: «لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (الحجر / 44)، فقد فسّر الجزء بالسبع.

وقضى (عليه السلام) في رجل وصّى فقال: اعتقوا عني كلّ عبدٍ قديم في ملكي، فلمّا مات لم يعرف الوصىّ ما يصنع، فسأله عن ذلك فقال: (يعتق عنه كلّ عبدٍ ملكهُ ستّة أشهر)، وتلا قوله جلّ اسمه: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا» (الأحقاف / 15) ثمّ قال:

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ» (البقرة / 233)، فحولان مدّة الرضاع وستّة أشهر مُدّة الحمل، فقال عثمان: ردّوها، ثمّ قال: ما عند عثمان بعد أن بعث إليها تردّ.

وقضى في رجل ضرب امرأة فألقت علقة أنّ عليه ديته أربعين ديناراً، وتلا قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (المؤمنون / 14).

ص: 366

ثمّ قال: (في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون دیناراً، وفي المضغة ستّون دیناراً) (73).

فيجب أن يكون رأي القاضي مُدعماً بالدليل الشرعي، وأن يكون الدليل حاضراً حتى يستطيع الإجابة عنه متى ما سُئل. طبعاً لم يحصل ولا مرّة أن سُئل أمير المؤمنين عن الدليل؛ لأنّ المسلمين كافّة يعتقدون به اعتقاداً جازماً، وأنّه لا يحكم اعتباطاً، لكن من كان يُريد السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدليل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال كانت الإجابة حاضرة عنده. بل نجده كان يُقدّم الدلل مع الحكم عندما يلاحظ الإمام علامة السؤال وقد ارتسمت في محيّا المُدّعي أو المدّعى عليه.

الاستنتاجات: تستنتج الباحثتان الآتي:

1. كان الامام علي (عليه السلام) راعيا لحقوق المواطنيين وهو اول من اسس لدولة ترعى الحقوق وتحدد معالم واضحة للواجبات.

2. تمتع المواطن في عهد الامام علي بالحقوق الاقتصادية والسياسية.

3. اكد الاسلام على حقوق الانسان قبل الف واربعمائة سنة فلقد كان الامام علي راعيا لهذه الحقوق التي وضعها الاسلام وهي: 1 - الحقوق الشخصية 2 ۔ الحقوق الاقتصادية 3 - الحقوق الاجتماعية 4 - الحقوق السياسية 5 - الحقوق الدينية 6 - الحقوق القضائية.

4. في فكر الامام علي عليه السلام تعد حقوق الانسان ومراعاتها قيمة اخلاقية عليا «أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها» بكلامه هذا تأسيس لثقافة مواطنة وحقوق انسان في دولة اسلامية تراعي وترعى الآخر.

ص: 367

5. اسس الامام علي صورة مثالية للمساواة التي اكد عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ولكن في فكر الامام علي جاءت بصورة واضحة مساواة امام القضاء والغاء المحسوبية موكدا مرة اخرى على الاخلاق في التعامل هي ان لا تميز بين فرد وآخر حتى في النظرة والتحية «وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء مِن عدلك»

6. ان حقوق الانسان في فكر الامام علي اشارات واضحة الى نكران الذات وحب الغير وتأسيس لمجتمع تسوده الفضيلة واحترام الآخر المختلف في اللون والدين والجنس.

التوصيات: توصي الباحثتان بالآتي:

1. اعتماد المنهج الدراسي في مادة حقوق الانسان التي تدرس في الجامعة والدراسة الاعدادية على ما جاء به فكر الامام علي في مجال حقوق الانسان وعدم الاكتفاء بما ورد في رسالته عليه السلام الى مالك الاشتر لكون حياة امير المؤمنين مليئة بالعبر والدروس في مجال حقوق الانسان.

2. حث الباحثين في التربية والمختصين في فلسفة التربية على كتابة رسائل وبحوث حول حقوق الانسان في فكر الامام علي للاستزادة من علمه عليه السلام في بناء المواطن الجيد المحب لوطنه.

3. وضع فلسفة في التربية تستمد من فكر الامام علي عليه السلام لاسيما مادتي التربية الاسلامية وحقوق الانسان کون هاتان المادتان تنميان الجانب الاخلاقي والروحي عند الانسان، اذ تشير الدراسات الى ان ثلث القرآن الكريم قيم اخلاقية وهذا مانريد ان نربي ابنائنا عليه ولاسيما ان الامام استمد علمه من القرآن.

ص: 368

المقترحات: تقترح الباحثتان اجراء الدراسات الآتية:

1. علي ابن ابي طالب والاخلاق

2. حقوق الانسان في الاعلان العالمي وفي فكر علي ابن ابي طالب (دراسة مقارنة)

3. اعداد برنامج لتنمية المواطنة والانتماء لدى الشباب مستمد من فكر الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام.

ص: 369

المصادر والمراجع:

1. الآمدي (عبد الواحد التميمي)؛ غرر الحکم و درر الكلم؛ فهرسة مصطفی درایتي، مكتب الاعلام الإسلامي، قم ابن أبي الحديد.

2. ابن أبي الحديد؛ شرح نهج البلاغة؛ دار احیاء التراث العربي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع القاهرة.

3. ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن بن علي)؛ الكامل في التاريخ؛ دار صادر، بیروت.

4. ابن شهر آشوب (رشيد السروي)؛ مناقب آل أبي طالب، طهران.

5. ابن عبد ربه؛ العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1953 م.

6. الاربلي (علي بن عيسر) (687)، کشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة، قم، 1346 ه.

7. الأنصاري (الشيخ مرتضی)؛ القضاء والشهادات المكتبة الفقهية، ط 1، قم، 141..

8. التستري (محمد تقي)، قضاء أمير المؤمنين، منشورات الشريف الرضي ط 5، قم.

9. الثقفي (أبو هلال إبراهيم)، الغارات، دار الكتاب الإسلامي، ط 1، قم 199.م.

10. الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقیق عبد الرحيم المرباني، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

11. الحلي (المحقق) أبو القاسم نجم الدين، جعفر بن الحسن (676)، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، انتشارات الاستقلال، طهران.

12. الراغب الأصفهاني (52.)، مفردات الفاظ القرآن، تحقیق محمد سید کلاني، ط 2، المكتبة المرتضوية.

13. الراوندي (هبة الدين سعيد بن عبد الله) (573)، فقه القرآن، سلسلة الينابيع

ص: 370

الفقهية، ط، طهران 6، 14.

14. زیدان (عبد الكريم)، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ط 1، مطبعة العاني، بغداد، 1984.

15. الصهر شتي (نظام الدين سليمان بن الحسن) اصباح الشيعة بمصباح الشريعة، سلسلة الينابيع الفقهية، طهران 6، 14.

16. الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار سویدان، بيروت.

17. الطحاوي (سليمان محمد)، السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، 1967.

18. الطوسي: شيخ الطائفة (أبو جعفر محمد بن الحسن) (46. ه) تهذيب الأحكام في شرح المقدمة، دار الكتب الإسلامية، طهران.

19. فقاهتي (میرزا عبد الرحيم الزنجاني)، کتاب القضاء، مكتبة المرتضوي، طهران.

20. القرشي (باقر شریف)، العمل وحقوق العامل في الإسلام، دار التعارف، مصر، 1966.

21. الكليني (أبو جعفر محمد بن يعقوب)، الكافي (الروضة) المكتبة الإسلامية، قم.

22. المجلسي (محمد باقر)، بحار الأنوار الجامع لدرر الأخبار، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1983.

23. المفيد (محمد بن النعمان 413 ه)، الارشاد، دار التيار الجديد، دار المرتضى، لبنان.

24. الموسوي (محسن)، دولة الإمام علي، دار البيان العربي، ط 1، 1993.

25. النسائي، (أحمد بن شعیب)، سنن النسائي، دار احیاء التراث العربي، بيروت.

26. النوري، مستدرك وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، بیروت.

ص: 371

الهوامش

(1) - الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 125.

(2) - مرتضى الأنصاري، القضاء والشهادات - الينابيع -، ص 495.

(3) - الصهر شتي، اصباح الشيعة، ص 11..

(5) - الراوندي، فقه القرآن، ص 193.

(5) - الآمدي، غرر الحكم: 3 / 37..

(6) - المفيد، الإرشاد، ص: 97 - 98، والمجلسي، بحار الأنوار: 4. / 251، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 494.

(7) - الإرشاد، ص: 98، والمناقب: 1 / 497.

(10) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص: 51.

(11) - الكليني، الكافي: 7 / 185 - 187.

(12) - الكليني، الكافي: 7 / 185 - 187.

(13) - الكليني، الكافي: 7 / 289 - 290.

(14) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 25، أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(15) - المصدر نفسه.

(16) - قارن بين مذهب أمير المؤمنين 7 في حقّ الإنسان في الحياة، وبين ما جاء في المادّة (435) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحق في الحياة والحرّية وسلامة شخصه (انظر: ص: 19 من الوثيقة).

ص: 372

(17) - اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

(18) - المجلسي: بحار الأنوار: 14 / 13، رواية 21.

(19) - الحرّ العاملي: وسائل الشيعة: 11 / 49.

(20) - صحيحة ابن خالد الكابلي عن الإمام الباقر 7: وجدنا في كتاب عليّ 7 ثمّ ذكر الحديث: راجع التهذيب: 4 / 145، رواية 26.

(21) - اكتفى الاعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة (23) بالقول: لكلّ شخص الحقّ في العمل، ص 24 من الوثيقة.

(22) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 196.

(23) - المصدر نفسه، ص 61.

(24) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 46، جهاد العدو، حدیث 22.

(25) - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2 / 192.

(26) - القرشي، العمل وحقوق العامل، ص 327.

(27) - باب الرسائل، رقم 53.

(28) - ورد في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان المادّة (17): لكلّ شخص حقّ التملّك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجرید أحد من ملکه تعسّفاً، ص 22 - 23.

(31) - الأصفهاني، الأغاني: 18 / 6..

(32) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 3: نکاح البهائم، الحديث 2.

ص: 373

(33) - الحرٌ العاملي، الوسائل، الباب 3: نکاح البهائم، الحديث 2.

(34) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 19 حدّ القذف، حديث 5.

(35) - المصدر نفسه، حدیث 3.

(36) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 36.

(37) - سنفرد له بحثاً مفصّلاً.

(38) - باب الرسائل، رقم 53.

(39) - قارن بين ما عُرف عن أمير المؤمنين 7 في هذا المجال وبين ما ورد في المادّة (21) من الإعلان العالمّي لحقوق الإنسان: لكلّ فردٍ الحقّ في الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلاده إمّا مباشرة وإمّا بواسطة ممثّلين يختارون اختیاراً حُرّاً (المواثيق الدولية، ص 23).

(40) - ابن عبد ربّه، العقد الفرید: 1 / 211.

(41) - باب الرسائل، رقم 19.

(42) - النوري، المستدرك: 17 / 359، رواية رقم 21581.

(43) - باب الرسائل، رقم 79.

(44) - ذكره أبو زُهرة في كتابه الجريمة، ص 163.

(45) - الزط: قوم من الهنود والسودان.

(46) - يعنون أنه الله - والعياذ بالله-.

(47) - الكليني الكافي: 7 / 259، الحديث 23.

ص: 374

(48) - باب الرسائل، رقم 18.

(49) - باب الرسائل، رقم 45.

(50) - باب الرسائل: رقم 27.

(51) - ذكره أبو زُهرة مستشهداً به على عظمة النظام الإسلاميّ في إعطائه حقوقاً كافية حتى للمجرمين، انظر كتابه: الجريمة، ص 209.

(52) - باب الرسائل: رقم 51.

(53) - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 18 / 219.

(54) - فقاهتي، کتاب القضاء، ص 85.

(55) - الوسائل، الباب 3: حدّ المرتد، الحديث 5.

(56) - الطحاوي، السلطات الثلاث، ص 33.

(57) - باب الرسائل: رقم 46.

(58) - الأنصاري، القضاء، ص 113.

(59) - الأنصاري، القضاء، ص 113.

(60) - تُشير المادّة (7) من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان: كلّ الناس سواسية أمام القانون (المواثيق الدولية، ص 2.)، قارن بين هذا النصّ وبين موقف الإمام من عليّ بن أبي رافع الذي أصبح مضرباً للأمثال في المساواة. وكل من تحدّث في هذا الموضوع لم ينسَ أن يُشير إلى موقف أمير المؤمنين 7، بل الكثير اسندوا إلى مساواة أمير المؤمنين 7 لإظهار عظمة القضاء الإسلاميّ (انظر: علم القانون والفقه الإسلامي، ص 3، 3).

ص: 375

(61) - المفيد، الارشاد، ص: 1، 1 - 2، 1، وابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب: 1 / 50 - 51.

(62) - المفيد، الإرشاد، ص: 5، 1، وابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 498.

(63) - المفيد، الإرشاد، ص: 5، 1، وابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 491 - 492.

(64) - راجع: ابن شهر آشوب، المناقب: 1 / 491 - 492.

(65) - المحقق الحلّي، شرائع الإسلام 2 / 195.

(66) - النوري، المستدرك، كتاب القضاء آداب القاضي، الباب 11، الحديث 3.

(67) - الحرّ العاملي، الوسائل: 11 / 157.

(68) - المفيد، الارشاد، ص 99.

(69) - یذکر ناصر کاتوزیان: بعد انتشار القانون وحلول موعد تنفيذه لا حقَّ لأحد عدم اطلاعه عليه.

(70) - الكليني، الكافي: 7 / 249.

(71) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 25.

(72) - الأربلی، کشف الغمّة، ص 33.

(73) - المفيد، الارشاد، ص 1٫7.

(74) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 5.

(75) - المصدر نفسه، ص 25.

(76) - انظر: الكليني، الكافي: 7 / 289 - 29..

ص: 376

(77) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 29.

(78) - المصدر نفسه، ص 3..

(79) - المصدر نفسه، ص 29.

(80) - الحرّ العاملي، الوسائل، الباب 3.: حدّ السرقة، الحديث 3.

(81) - المصدر نفسه، الحديث 4.

(82) - کشف الغمة، ص 57.

(83) - المصدر نفسه، صفحة 578.

(84) - غيث، قاموس علم الاجتماع، ص 194.

(85) - مونتسکیو، روح القوانين، 1 / 226.

(86) - الراغب الأصفهاني، المفردات، ص 111.

(87) - السبحاني (جعفر)، مفاهيم القرآن (معالم الحكومة الإسلامية)، ص 447.

(88) - المصدر نفسه 1 / 123.

(89) - المصدر نفسه: 6 / 98.

(90) - الآمدي، الغرر: 1 / 385.

(91) - باب الوصایا، رقم 31.

(92) - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة: 3 / 234.

(93) - المواثيق الدولية، ص 18.

(94) - المواثيق الدولية، المادّة 19، ص 23.

ص: 377

(95) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 151.

(96) - الطبري، تاريخ الأمم والملوك: 5 / 72، والكامل لابن الأثير: 3 / 334.

(97) - ابن الأثير، الکامل: 3 / 335.

(98) - الموسوي، دولة الإمام عليّ، ص 249.

(99) - المواثيق الدولية، ص 29.

(100) - الشيخ الطوسي، التهذيب: 1 / 228، رواية رقم 31.

(101) - التستري، قضاء أمير المؤمنين، ص 36.

(102) - سنن النسائي: 7 / 156.

(103) - الثقفي، الغارات، ص 25.

(104) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 163.

(105) - أبو زُهرة، الجريمة، ص 162.

hassan-161@hotmail.com

ص: 378

المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) من منظور منطق نظرية علم النقطة

اشارة

أ. م. د. تومان غازي الخفاجي

الكلية الإسلامية الجامعة - النجف الأشرف

أ. م. د. خالد كاظم حميدي

كلية الشيخ الطوسي الجامعة - النجف الأشرف

ص: 379

ص: 380

ملخص:

مهمة هذا البحث محددة لوضع أسس منطق جديد أطلقنا عليه (منطق علم النقطة)، وقد استعملنا أحد أنواعه وهو (المنطق العلائقي) منهجا لفَهم عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (1) فَهما جديدا منظمَّا بمنطق يجعلنا لا ننظر إلى الأشياء نظرة تفصل بعض عناصرها عن بعض؛ لأنّنا بقدر ما نعزل الأشياء وندرسها بشكل أحادي بقدر ما نرتكب من الأخطاء.

وقد تأسس منطق نظرية علم النقطة على فرضيتين، أولاهما: آية قرآنية كريمة قيلت على لسان النبي إبراهيم (عليه السلام) استخلصنا منها أنّ الله تعالى منحنا ثلاث ملكات إدراكية هي: (العقل والحس والقلب)، تؤلف مثلثا يحصر الحقيقة في نقطة وسطه، وإذا أهملنا إحدى هذه الملكات الثلاث ينفتح مثلث الإدراك وتفلت النقطة في فضاء لا متناهٍ ما یکثّر الجدل العقيم الطويل حولها، الذي يدلّ على الجهل، وهو فحوى الفرضية الثانية وهي مقولة الإمام علي (عليه السلام): (العلم نقطة كثّرها الجاهلون). والنقطة تعني القلّة التي تتمثل في اكتشاف مقولة فكرية أو مبدأ أو قانون، أو قواعد عامة تفسّر الظواهر المتنوعة تنوّعا لانهائيا وترجعها إلى ضرب من الوحدة.

ومن هنا جاءت تسمية هذا المنهج الفكري الجديد ب(منطق نظرية علم النقطة) كحلّ لمشكلة التفكير بمسنن واحد بوساطة المنطق الأرسطي الذي يُفعِّل التفكير الصوري المنفصم عن الواقع، بخلاف منطق نظرية علم النقطة الذي يقدّم نظاما ثانيا للتفكير، ليُصبح تفكيرنا حرّا يعي ذاته؛ لأنّ من شروط حرية الفكر أن نكون مخیرین بین خیارین على الأقلّ.

ص: 381

Summary:

The task of this research specific to lay the foundations for a new logic we launched it (the logic of science point). and we used one of its forms which (logic relational) approach to understanding the era of Imam Ali (peace be upon him) to Malk Al-Shtar new understanding structured logic“ we do not VI IIII look at things look detailing some of its elements for some; to the extent that we isolate the things were looking at as far as unilaterally commit errors.

The logic of science point theory was founded on two assumptions: the -L1 1 LVL LE first Quranic verse dignified spoken through the prophet Ibrahim (peace be upon him) have drawn them that God has given us three queens cognitive are (the mind and the sense of the heart) make up the triangle limits the truth in 1 the center of this triangle points and if we neglect one of these three queens opens perception triangle point slip away in the space of infinite piled up controversy aseptic run around which demonstrates the ignorances which is the thrust of the second hypothesis which is the argument of Imam Ali (peace be upon him): (science frequently point out fools). The point means the few who are in the discovery of an intellectual argument or principle or law« or general rules that explain the diverse phenomena infinitely versatile and are returning to the hit of the unit.

Hence the name of this new intellectual approach to (the logic of science point theory) as a solution to the problem of thinking one way mediated Aristotelian logic that he does think the picture is separated from reality, as opposed to the logic of the point flag which provides a second system of thinking theory. to become our thinking freely aware of itself, because of conditions for freedom of thought to choose between at least two options..

ص: 382

مقدمة:

الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خيرِ خلقه أجمعين محمدٍ وعلى آله الطاهرين وصحبه الكرام الميامين، وبعد:

فمنذُ أنْ سمّى العربُ (المنطق الأرسطي) سيدَ العلوم وخادمها، أي النظرية العامة للتفكير وتطبيقها، بقي هذا المنطق برنامجا عقليا مهيمنا يمثل هندسة بسيطة تختزل الوجود بأجناس وأنواع معدودة، تصاغ منها تعریفات حديّة بلغة الحاسوب الثنائية (.- 1): (الجنس = .، والنوع =1+)، لتسهيل عملية استقراء الواقع وجعله استقراء رياضيا يفترض ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة، ما يمكَّنه الاكتفاء باستقراء محدود يُعمم منه المقدمات الكلية التي يستخلص منها بالقياس الأرسطي نتائج يقينية يقينا مطلقا، لترابط المقدمات الجزئية بالكلية بعلاقة تضمُّن ثنائية؛ إذا عرفنا (جنس الشيء، أي الصفر) كحدٍّ أوسط مشترك بين المقدمتين، عرفنا (نوعه، أي الواحد)، والعكس بالعكس. إنّ نتائج هذا الاستقراء والقياس تكون يقينية رياضيا، ولكنها غير منتجة لمعرفة جديدة؛ لأنّها تعتمد على بدهية (خصائص الجزء موجودة في الكلّ).

بقي هذا المنطق الصوري القديم بقوانينه الثلاثة المشتقة، وهي: (ثبوت هوية الأشياء، وعدم التناقض، ومقياس (إما / أو ولا ثالث بينهما)، بمصطلحاته التي وضعها أرسطو، بقي مهيمنا على عقول العرب لبساطة هندسته للفكر وللوجود الذي اُفْتُرِضَ جمودُهما، خُلقا هكذا وسيبقيان إلى أبد الآبدين بعد إفراغ الأجناس والأنواع ککلیات من مادتهما کیلا تشوِّهُ المادةُ صورهما الكاملة بمبدأ (الصيرورة) أي تحوّل الأشياء من حال إلى أخرى؛ وحين طُبِّق هذا المنطق في الحياة الاجتماعية سوّغ عبودية المجتمع اليوناني وقمع الحريات بطريقة عقلية، ما جعل المنطق الأرسطي عدوا لتطور المجتمع وعدوا للعلوم الطبيعية التي جعلها اليونان لا تليق إلا بالعبيد، وهو تصور يسدّ الطريق بوجه أي منطق للاكتشاف

ص: 383

والاختراع في مجال العلوم التجريبية. وهذا قرار لا تطيعه طبيعة المعرفة المألوفة لدينا كبدهية لا تحتاج إلى برهان، ما يجعل اکتشاف منطق جديد يُعدّ ضرورة حضارية تتفق مع متطلبات العصر المعقدة، التي يمكن بوساطتها فَهم النصوص التراثية فَهما جديدا مخالفا لفَهم القدماء لها، بعد أنْ بدأ العرب يفکِّرون بالرجوع إلى تراثهم بسبب فشل معظم مشاريع استيراد الفكر من خارج الحضارة العربية.

هذه هي مشكلة البحث التي اقتضت أهمية التجديد في الفكر العربي لتأسيس منطق جدید أطلقنا عليه اسم (منطق علم النقطة)، لا یُحدِّد مقياسه بمعرفة (الصح من الخطأ)، و(اليقين من الشك) إلى غير ذلك من ثنائيات متنافرة خارج نطاق الاستعمال النافع، وإنّما یُحدّد مقیاسُه بثنائية: (مشكلة × حلّ)، وهو ما يسلط الضوء على مشكلات الواقع الحالي التي لم تكن موجودة من قبل، بسبب تغيّر العالم وتعقيده الذي يتطلَّب تغيير طرائق تفكيرنا، التي هي طرائق منطقية عليها أن تستوعب منطق القدماء وتتجاوزه الى ابتكار طرائق أخرى، ليصبح عدد أنواع المنطق کعدد المشكلات التي لا يمكنا إحصاؤها لعدم إمكاننا من التنبؤ بما يحصل في المستقبل.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يُقسَّم على مبحثين:

المبحث الأول: تعریف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه.

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر.

راجين من الله تعالى أن يُعيننا على خدمة الفكر العربي الإسلامي باستخراج کنوز المعرفة من النصوص التي قامت عليها حضارتنا عندما کُنّا نهتدي بها، وإنْ لم تكن معروفة بالمصطلحات التقنية التي تجعلها بمتناول الأفهام بلغة دقيقة قليلة وواضحة. والله ولي النعمة والتوفيق.

ص: 384

المبحث الأول: تعریف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه:

تعتمد نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي على فرضيتين تكوِّنان معا أنموذجا معرفيا عربيا جديدا، يُستخلص منه منطقٌ جديد سميناه ب(منطق علم النقطة)، مُؤصَّل على نصوص الحضارة العربية بعد الإسلام: القرآن الكريم والسُنّة النبوية، وما أنتجه العقل العربي تحت خيمتهما، وإنْ كان له بُعدٌ إنساني عام، شأنه شأن أي فكر حرّ. وهو ما سيتضح من المبادئ التي استقينا منها الفرضيتين:

الفرضية الأولى: لا يمكن مقاربة نقطة الحقيقة والحُكم عليها بيقين يطمئِن القلب، ما لم تتعاضد أدلة العقل المجرد، وأدلة الحس الجدلي التجريبي المكرر أربع مرات (مرة + 3 مرات)، وهو ما يُشرك ملكات النفس الإدراكية الثلاث: (العقل المجرد، والحس الجدلي التجريبي، والقلب الأخلاقي الموضوعي) بوصفها ملكات تعقّل، أي أنّنا لا نعني بالعقل المجرد إلا بوصفه ملكة فطرية لا تعرف إلا لغة بدهيات المنطق الرياضي؛ لذلك يمكن تسميتها ب(حاسوب العقل)، الذي يعمل بافتراض ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة عبر الزمن، ولا نعني بالحس المعنى اللغوي العام، وهو تحسس سطوح الأشياء، وإنّما نعني به ملكة التعقّل غير الفطرية، التي حنّكتها التجارب فعرفت قوانين صيرورة الأشياء أي تحولها الجدلي من حال إلى أخرى عبر الزمن. ولا نعني بالقلب بأنّه ملكة أهواء متقلبة؛ لأنّه مرتبط بعلاقة مع العقل المجرد من جهة، وبالحس الجدلي التجريبي من جهة أخرى.

وقد استخلصنا هذه الفرضية من آية قرآنية كريمة قيلت على لسان إبراهيم (عليه السلام) بشأن قضية غيبية هي (إحياء الموتى) قال: «أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ...»(2).

ص: 385

وهنا يكون اطمئنان القلب يقينا معرفيا آتيا من تعاضد نوعين من الأدلة العقلية والتجريبية المكررة (أربع مرات). ويقابل هذا اليقين المعرفي الآتي من الاعتماد على نوع واحد من الأدلة سواء العقلية المجردة، أم الحسية التجريبية، ما يجعل حزمة الأدلة النظرية المجرَّدة وحزمة الأدلة الحسية التجريبية طرفين مرتبطين بعلاقة جدلية يبرهن كلّ واحد منهما على وجود الآخر(3)؛ لأنّ العقل الفطري المجرد مفطور على (مبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة)؛ لذلك يستعمل الاستقراء الرياضي(4) Mathematical Induction: (مرة + 3 مرات) ثم يعمم من ذلك مقدمة كلية كبرى تعبّر عن علاقات التضمّن وفحواها بدهية: (خصائص الجزء موجودة في الكلّ)، كالآتي:

كل إنسان = فانٍ... (1) مقدمة كبرى.

وأنتَ = إنسان... (2) مقدمة صغرى.

فتكون النتيجة (أنت= فانٍ) لا محالة، بحذف الحدّ الأوسط المشترك بين المقدمتين (إنسان) عند جمع المعادلتين، أو بتطبيق قاعدة (المساويان لشيء واحد (إنسان) متساويان). والنتيجة يقينية يقينا مطلقا من حيث انضباط هذا الاستدلال رياضيا. لكن التعقل الحسي الجدلي يرفض هذا اليقين؛ لأنّه يفترض (مبدأ صيرورة الأشياء وعدم اطراد الطبيعة عبر الزمن)، وهذا ما يجعل القلب الأخلاقي يُشكك في المقدمة الكبرى؛ لأنّها مبنية على استقراء الماضي والحاضر، ويستحيل استقراء المستقبل، فلا مجال إذن ليقينية نتائج العقل المجرد المطلقة من منظور أخلاقيات القلب، الذي يعمل ب(مبدأ الحرية) المحكومة بقواعد أخلاق البحث الموضوعي، وعليه أنْ يحكم باحتمال صحة رياضيات العقل المجرد وليس بقينها المطلق، ولا يرجح صدق النتائج العقلية المجردة إلا بالتجريب الذي يقع بالضرورة في حيز المستقبل لمعرفة صحة اطراد الطبيعة في المستقبل القريب على الأقلّ.

ص: 386

ولغرض الاقتصاد بالجهد يقتصر التجريب على أربع مرات: (مرة + 3 مرات) کالاستقراء الرياضي، للتأكد من تعاضد الأدلة العقلية المجردة والأدلة الحسية التجريبية، قال الزمخشري (ت 538 ه): (([ليطمئِنّ قلبي]: ليزيد سکونا وطمأنينة بمضامّة ([تعاضد] علم الضرورة [المشاهدة] علم الاستدلال [القياس]. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين؛ ولأنّ علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العِلم الذي لا مجال فيه للتشكيك))(5).

لكنّ القلب الأخلاقي يجب أن يُبقي شيئا من الشك؛ لأنّ التجريب الحسيّ على الجزئيات في زمن مُحدَّد لا ينتج علما ضروريا، إلا إذا استخلص منها إدراك فكرة الصيرورة العامة المناقضة لفكرة ثبوت الهوية العامة. والصيرورة تنفي أي يقين مطلق (كلي) يمكن أن يُستخلص من الجزئيات مَهْمَا كان عدد التجارب كبيرا. بمعنى إذا كان العقل المجرد يسخِّر الاستقراء التجريبي لإثبات فكرة ثبوت هوية الأشياء واطراد الطبيعة، فالتعقل الحسي أيضا ملكة تجريد تجريبية جدلية تنفي ثبوت الهوية، وتجعل القلب يشكك في اليقين المطلق النقي 1...%؛ لذلك يكون الحُكم الأخلاقي الدقيق هو الذي يحتفظ بشيء من الشك حتى مع تعاضد الأدلة العقلية المجردة مع الأدلة الحسية التجريبية، وعليه يجب أن يحكم في هذه الحالة ب(اليقين النسبي)، ما يجعل ملكة القلب ملكة إدراك مستقلة تعمل بمبدأ (الحرية) في إطار هذه النسبية، لتقرر متى يبقى مثلث الإدراك ثابتا يميل لصالح العقل المجرد، ومتى يتحرك إلى الأمام مراعاةً لمبدأ صيرورة التعقل الحسي التجريبي، بحراك يشبه التداول السلمي للسلطة.

وعلى هذا الأساس يكون اليقين المطلق 1...٪ تصوّرا مجرّدا للعقل المجرد، ويفيد کمستوى سطح البحر الذي نقيس بالنسبة إليه كمّية الارتفاع والانخفاض عنه، وهنا نقيس كميّة اليقين بالمقياس المُدرَّج مئويا، الذي يبلغ أقصاه درجة الامتياز (99٪)، ولا

ص: 387

يبلغ (1...٪) أبدا، ودرجة (99٪) هي التي نسميها ب(المثُل الواقعية) التي تقول الحقّ حتى لو كان ضدّ مصالحها. ذلك أنّ درجة الكمال المطلق تمثل صورة عقلية خالصة للعقل المجرد، مفرغة من المادة، أي لا تدخل معطيات الحس في تكوينها، فهي صورة بشكل دائرة كاملة مختومة على طين المخ لا تزيد من وزنه شيئا، يحصّنها العقل المجرد من أن تُخدش بأيّة مادة يمكن أن يعبث بها مبدأ الصيرورة الزماني الذي ينفي عرض ما هو كلي إلا على نحو تقريبي فحسب، من دون الوصول إلى درجة الكمال المطلق لليقين أبدا(6).

وهذا يعني أنّ نقطة الحقيقة لا يمكن بلوغها بمدركات الإنسان المتوافرة لديه، ولا ندري فربّما يبلغها الإنسان عند الموت، ولكن لا سبيل للتواصل مع الأموات، إلا بالخيال الفني الخلاق. وكل ما يمكننا في الحياة الدنيا هو (مقاربة) نقطة الحقيقة بمثلث الإدراك الذي تشترك في تكوينه ملكات النفس الإدراكية الثلاث: (العقل المجرد، والحس الجدلي التجريبي، والقلب الأخلاقي الموضوعي)، بحسب الأنموذج الصوري الآتي:

نلحظ هنا عمل مدركات النفس كنظام منطقي تؤدي فيه كل ملكة وظيفتها، وإذا تعطلت إحدى الملكات لأيّ سبب، نحصل على معرفة غير منظَّمة لا تمثل علما، وهو ما يقود إلى الفرضية الثانية.

الفرضية الأخرى: وهي تمثل برهانا على صحة الفرضية الأولى، يُثبت خطأ النتائج عند إنكار مقاربة نقطة الحقيقة بمثلث الإدراك الذي يحصر الحقيقة في حيز ضيّق، وذلك بتعطيل عمل إحدى ملكات الإدراك الثلاث، فينفتح المثلث وتفلت نقطة الحقيقة في فضاء لامتناهٍ، فيكثر حولها الجدل العقيم الطويل، الذي يدلّ على الجهل بحسب المقولة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام): ((العلم نقطة كثّرها الجاهلون))(7)، أيّ العلم نكتة لطيفة في الشيء تُشبّه في قلتها ب(النقطة)(8)، والنقطة هنا هي ((منطق العمليات العقلية

ص: 388

العليا))(9)، المتمثلة في تجريد العقل المجرد لأنموذج مثلث الإدراك المعرفي السليم، کمنطق جديد يعتمد على فرضيتين واضحتين في الذهن، ولا مشكلة إذا قلّ وضوحهما الذاتي؛ لأنّ الوضوح في المنطق الجديد لا يهمنا بمقدار ما تهمّنا النتائج التي تنتج عن الفروض الأولى كحلول لمشكلات(10)، بمعنى أنّ طرفي مقياس منطق علم النقطة ليس الصدق × الكذب، ولا ثالث بينهما)، وإنّما طرفاه: (مشكلة ×حلّ)، وهذا يعني أنّ الجديد في هذا المنطق هو أنّه نظام يقدِّم حَلا لمشكلة الجدل العقيم الطويل الناتج من تفریق رجال المنطق الحاد بين النظرية والتطبيق، حتى ظنوا أنّ ((الطرفين نقیضان لا يلتقيان، فالنظري لا يكون عمليا، والعملي لا يحتاج إلى جانب نظري يسبقه)) (11)، وهو ما حيّر قلوب العرب، فانقسموا على فريقين يتجادلان منذ ألف ومائتي سنة من دون أن يجددوا طريقة تفكيرهم باکتشاف علاقة جدلية متينة تربط بين صورتي النظرية والتطبيق، أو بين العقل المجرد المولع بالتقسيم ووضع الفواصل بين حدود الأشياء لا تعبرها، والتعقل الحسي الجدلي الذي يربط الحدود فيما بينها، ما ينتج جدلية التحليل والتركيب التي تتكفل بحلّ مشكلة الجمود الفكري العربي وكثرة الجدل العقيم حول كثير من القضايا التاريخية والعقائدية ومعظم العلوم الإنسانية القديمة، حتى أصبح العقل العربي لا يعي ذاته، لعدم وجود منطق آخر إلى جوار المنطق الأرسطي يلوذ به لحلّ مشكلة القول بعدم تعايش الأضداد.

ونظرا لافتراض التعالق بين ملكات الإدراك الثلاث، وعمل كلّ ملكة بمبدئها الخاص: (العقل بمبدأ ثبوت الأشياء، والتعقل الحسي الجدلي بمبدأ صيرورة الأشياء عبر الزمن، والقلب بمبدأ الحرية)، فإنّ مثلث الإدراك السليم يعمل كمنظومة ينتقد بعضها بعضا نقدا فكريا، والنقد هنا معنى الفصل بين الحق والباطل، وهو من دون مقياس يصبح عبثا؛ لذلك لابدّ للقلب من مقياس يصبح بموجبه حَکَما عادلا يحكم بين

ص: 389

الخصمين: (العقل المجرد، والحس الجدلي) لعمل كلّ منهما مبدأ مناقض لمبدأ الآخر، ما يجعل القلب ملكة تعقل معرفية غير متقلبة، وإنّما تعمل على وفق قواعد وقوانین تجعلها تميل مرة إلى أدلة العقل المجرد، ومرة أخرى إلى أدلة الحس الجدلي.

وعلى هذا الأساس يكون الحل الوسط الذي عُرف بمصطلح علم الأخلاق القلبي ب(الوسطية) هو الحلّ الصحيح، الذي يقابله التطرف بين الكيفيتين المتنافرتين للعقل المجر من جهة د، والتعقل الحسي التجريبي من جهة أخرى، بعد جمع الكيفيتين المتنافرتين وتقسيمها بمقياس مئوي يختار من بينها القلب المقدار الذي يعمّ خيره الأكثرية؛ لأنّ رضا الناس جميعا غاية لا تُدرك.

وتظهر هذه الوسطية الأخلاقية عند الجاحظ (ت 255 ه) بقوله: ((إنّ الحياءَ اسم لمقدار من المقادير، ما زاد على ذلك المقدار فسمِّه ما أحببت. وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير، فالسَّرف اسم لما فَضَلَ عن ذلك المقدار. وللحزم مقدار، فالجبن اسم لما فَضَل عن ذلك المقدار. وللاقتصاد مقدار، فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار. وللشجاعة مقدار، فالتهور اسم لما جاوز ذلك المقدار))(12).

یُحذِّر الجاحظ هنا من حكم القلب الأخلاقي الذي يميل فيه القلب إلى أوهام الصور العقلية الكلية المجردة، التي تطمح بلوغها الأشياء متجاوزة الوسطية، ما يؤدي إلى عکس معنی الجود العملي إلى السَّرف، والحزم إلى الجبن، والاقتصاد إلى البخل، والشجاعة إلى التهوّر؛ لأنّ العقل المجرد يستعمل المقياس الصوري المتنافر الكيفيتين: (إما أبيض × أو أسود، ولا ثالث بينهما). فهو لا يميز إلا الصور الناصعة البياض، أو القاتمة السواد، وأما الثالث بينهما فهو يمثل جمعا بين المتناقضين؛ أي أنّ العقل المجرد يتعامل مع الكليات؛ لذلك يمثل الجود عنده إعطاء المرء كلّ ما لديه، والبخل هو الامتناع عن إعطاء أي شيء، ولا يعرف العقل المجرد أنّ بينهما ثالثا وسطا، يأخذ مساحة بين الصورتين

ص: 390

العقليتين المتطرفتين تقع بين: (الجود والبخل) يُسمّى (الاقتصاد)، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا» (13).

كذلك توجد مساحة (وسطية) بين تصور (ثبوت الهوية العقلي)، و(صيرورة الهوية الحسية الجدلية)، تسمى (الثابت في المتغيّر)، فأنا أُسمّى (حيّا) تسمية عقلية صورية ثابتة ابتداء من الميلاد حتى 7. سنة مثلا، وهذه التسمية ثابتة في متغيّر العمر الذي يتغيّر كلّ ثانية، ثمّ أَمُرُّ بلحظة تجمع بين المتناقضين (الحياة والموت)، تسمى ب(القشة التي كسرت ظهر البعير)(14)، تليها تسمية عقلية صورية ثابتة هي (ميّت) تستمر إلى يوم القيامة تتضمّن تغيّرا في عناصر الجثة كلّ ثانية، تليها لحظة تجمع بين (الموت والحياة)، وهكذا يجدُ القلب مجاله كَحَکَمٍ يعمل بمبدأ الحرية الذي يُعطي نِسَبا تقريبية تُطمئِنُهُ ب (اليقين النسبي) لكلّ كيفية صورية متنافرة، فيُقسِّم الحيّ على: (ولید، طفل، صبي، شاب، کهل، شیخ) کامتداد متصل تظهر وسطيته بالشباب الذي يقع بين صورتين متطرفتين: (وليد × شيخ) الذي يمكن أنْ يأخذ مساحة من (18 - 4.) عاما مثلا، يزيد أو ينقص بحسب الظروف.

وبهذا تكون ملكة القلب في نظام مثلث الإدراك ملكة تعقل ومعرفة، وليست ملكة أهواء وميول ذاتية متقلِّبة، وإنْ كانت تعمل بمبدأ الحرية، إلا أنّ حريتها مكفولة بتحررها من استعباد العقل المجرد لها تارة، واستعباد التعقل الحسي الجدلي لها تارة أخرى، فهي تعمل بينَ بينَ مقيّدة بنظام منطقي يجعل أضلاع مثلث الإدراك ليست ثابتة مطلقا ولا متغيرة بطريقة سريعة عشوائية، فهي تخضع لنظام الوسطية الذي يقود فيه القلب مثلث الإدراك بسلاسة تشبه التداول السلمي للسلطة، فنحكم بتساوي الأضلاع وثبوت طولها وسكون حركة المثلث في مكان واحد لمدة من الزمن يطرد فيها استقرار نظام الإدراك،

ص: 391

وهذا لا يمنع صيرورته بتقدمه إلى الأمام وتصغير حجم المثلث نتيجة لتقدم العلوم التجريبية وتطور مناهج البحث، ونمو المدركات التي كلّما واجهت مشكلة جديدة في الواقع لم تكن معروفة من قبل ابتكرت منطقا جديدا لحلِّها، ومن ذلك المنطق العلائقي ومقیاسه: (الوظيفة x الموقع)، وكل أنواع المنطق تقع تحت تعریف واحد، وهو أنه يعد نظاما نظريا وفنا تطبيقيا يساعدنا على تصحيح تفكيرنا؛ لأنّ ((وسائل التفكير الصحيح يمكن اختصارها إلى مدي كبير وتحويلها إلى قواعد کالطبیعیات والهندسة وتدريسها لكلّ عقل، وإنّه فنٌ لأنّه بالممارسة يقدِّم للفكر أخيرا ذلك الإتقان والدقة والضبط اللاشعوري السريع الذي يرشد ويوجه أصابع عازف البيانو بانسجام سهل في العزف على آلته. لا شيء أثقل على الفهم من المنطق، ولا شيء أكثر منه أهمية))(15).

فكلّ معرفة تُنظَّم تصبح علما بفضل المنطق الذي يُنظِّمها، وكلّ شيء مُنظَّم يمكن أن نجرد منه منطقا، فالحكمة حياة منظمة، والفن مادة منظمة(16)، وفي نظرية علم النقطة يوجد قسمان من التنظيم المنطقي، يتضمن كلُّ واحد منهما عددا من أنواع المنطق، والقسمان هما:

1 - منطق مثلث الإدراك السليم، ويضمّ منطق العقل المجرد، ومنطق الحس الجدلي، ومنطق القلب.

2 - منطق ما وراء مثلث الإدراك. ويضمّ عددا لا نهائيا من أنواع المنطق تظهر بحسب ظهور ظاهرة جديدة تعكس في الذهن مشكلة جديدة تتطلب مِنّا التفكير بنظام منطقي جديد، نحو: منطق الطير، ومنطق الازدحام، ومنطق المقياس، والمنطق العلائقي إلى غير ذلك.

ويقيس المنطق العلائقي قيم الأشياء عن طريق مقياسه: (الوظيفة × الموقع)، وهو تقويم بأسلوب جديدا لم يُعرف من قبل، حتى أنّه قد يقلِب الحقائق المعروفة رأسا على

ص: 392

عقب، تلك التي عرفناها بوساطة مقياس المنطق الأرسطي وحده، الذي يركز في تقویم الأشياء منفصلة اعتمادا على افتراض جوهر مستقل ثابت فيها خُلِقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين.

وقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) المنطق العلائقي كثيرا، ولاسيما في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر، وهو منطق يعلمنا كيف نعرف قيم الأشياء لا عن طريق خصائصها الجوهرية، وإنّما عن طريق وظائفها، ما يجعلنا نكتشف معرفة كُنّا نجهلها، بسبب استعمالنا لمنطق واحد.

ص: 393

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر:

مدخل: اُكتِشَفَ المنطق العلائقي في العصر الحديث، بمعنى أنّه صِيغ بمصطلحات تقنية على الرغم من استعماله عفويا في كلام الإنسان الذي تجاوز مؤخرا تعريف الأشياء بحدودها الذهنية المسماة ب(المفاهيم) أي التي يفهمها العقل، إلى تعريفها بالوظيفة، إذ إنّ التعريف الحدّي هو صورة تُختم على طين المخ كالنقش تميّز بين مفهوم شيء وآخر لكي تتمايز الأشياء بأسمائها المختلفة في الذهن، فاسم الكتاب مختلف عن اسم المنضدة واسماهما مختلف عن اسم (القلم)، وهكذا تتمايز الأشياء بتمايز الأسماء الحدية التي تطبع مفاهيمها في الذهن، لكن ما قيمة اسم القلم الذي لا يؤدي وظيفة الكتابة (17)؟!، وهذا يعني أنّ التعريف الوظيفي مكمل للتعريف الحدي، ليفهمها العقل المجرد والتعقل الحسي معا.

والوظائف هي التي تحدد (النفع والضرر) العمليين لمعرفة قيم الأشياء عن طريق معرفة وظائفها، أما قيمة العلامات اللغوية فتظهر في أداء وظيفتها كأداة ثقافية تنوب عن الأشياء وتسهِّل على الإنسان قضاء حاجاته بوساطتها؛ لذلك يمكن الحديث عن وظيفة الأشياء ووظيفة اللغة بمعنيين مختلفين (18):

أولهما: وظيفة منطقية صورية، ربّما جرَّدها العقل من الأساس البايولوجي، وهو يشير إلى الحركات الحيوية بغضّ النظر عن نتائجها التي تلبّي حاجات الكائن الحي، نحو: حركة الشهيق والزفير الشكليين اللذين يمكن أن ننتزع منهما منطقا صوريا مجردا يتمثل في الإيقاع الناتج من تكرار المزدوج المتضاد: (شهيق × زفير، ولا ثالث بينهما))، أو بتجريد أعلى: (إما × أو، ولا ثالث بينهما).

ثانيهما: وظيفة حسية عملية تشير إلى نتائج هذا الإيقاع العملية التي تلبّي حاجات

ص: 394

الكائن الحيّ في استنشاق الأوكسجين الضروري لحياة الأنسجة الحيوانية، وطرح ثاني أوكسيد الكاربون السام المميت للحيوان.

والمعنى الأول للوظيفة مكتشف من الملاحظة الشكلية السطحية الساذجة التي يجرّدها العقل بمؤشر ميزانه الذي يُشير إلى (الصفر = شهيق +1، زفير -1)، أمّا المعنى الثاني للوظيفة فمكتشف عن طريق الملاحظة العلمية التجريبية التي تبحث في الأسباب الطبيعية للأشياء وغاياتها، أو الغرض منها، التي استطاعت أن تربط بين الأشياء بعلاقات علمية متينة لا انفصام لها، وإلاَّ سيتحطم نظامها العلائقي جميعًا. والنتيجة هي الموت ليس للحيوانات ومنها الإنسان فحسب، بل الموت لما له علاقة نظامية معه، وهو النبات الذي اكتشف العلم التجريبي أنه يتنفس بالسموم التي يطلقها الإنسان والحيوان بزفيرهما، وهو ثاني أوكسيد الكاربون الذي يستنشقه النبات شهيقاً ويطلق الأوكسجين خارجًا بزفيره؛ لأنّه يكون سامًا بالنسبة إليه، الذي هو أساس حياة الإنسان والحيوان، بمعنى أنّ من دون الحيوان يموت النبات، ومن دون النبات يموت الحيوان. ومن دون السحاب الذي ينقل الماء المُنقّى من أملاح البحر سيموتان معًا، ومن دون الاختلاف الكمي بين حرارة اليابسة وحرارة البحر لا يتحرك السحاب من أعلى البحر إلى اليابسة بما عُرِف ب(نسيم البر والبحر)، ففي الليل تبرد اليابسة أسرع من البحر فيخفّ الضغط الجوي على اليابسة ما يدفع الهواء من جهة البحر إلى جهة البر.

یُلحظ أنّ العلم الحديث قد أسهم إسهامًا كبيرًا في اكتشاف المنطق العلائقي ومقیاسه: (الوظيفة x الموقع)، ويمكن إيضاحهما بالآتي:

أولاً: الوظيفة:

مفهوم أخذ تطوره من العلوم الطبيعية، ولاسيما علم الحياة (البايولوجي)، إذ نُظِرَ إلى العناصر المختلفة التي تدخل في نظام علائقي مستقل يُغذي بعض عناصره بعضاً

ص: 395

بأنها تنزل منزلة الكائن الحيّ، الذي لا تُفهم أجزاؤه إلاّ في علاقاتها مع هذه الكلية، وهي قانون المنطق العلائقي الأول الذي يجعل (الكل = مجموع أجزائه) بخلاف قانون المنطق الأرسطي الأول وهو قانون الهوية المعبَّر عنه بعلامة المساواة (=) أي (الكل = مجموع أجزائه)، وسُمّيَ بقانون الهوية؛ لأنّ علامة (=) الرياضية يُعبَّر عنها باللغة الاعتيادية بالضمير الرابط (هو)، فقولنا: (زيد هو عمر) أي يساوي أو يُطابق أو يماثله تمام المماثلة، وبعدم وجود الرابط (هو) لا تنتج لدينا قضايا حملية تربط بين (الموضوع والمحمول) تكشف عن علاقات جديدة بين الموضوعات، ما يجعل المنطق الأرسطي يركز عنايته في رسم حدود المفاهيم الذهنية بطريقة قسرية تفرض نفسها على الأشياء المتعالقة بطبيعتها فتفتتها إلى ذرات أو (ماهیات)، أو جواهر تُوهم بأنّها خُلقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين تتحدّى الصيرورة الزمانية وتمنع ارتباطها بعلاقات متبادلة، حرمت الإنسان أن يكتشف المنطق العلائقي قرونًا طويلة، وما زالت تحرم العربي من هذا الاكتشاف المهم؛ لهيمنة المنطق الأرسطي على عقول العرب فبقيت تشتغل بمسنن واحد، على الرغم من وجود المنطق العلائقي في القرآن الكريم؛ إذ أشار إلى الأشياء، التي لا تُنشئ علاقة وظيفية مع غيرها، بسبب بتمتعها بأوزان معينة ومقادير مضبوطة تسهل عليها تبادل العلاقات الوظيفية، وذلك قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ... وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَا كُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ» (19).

وقول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا))(20)، ولا يمكن أن يكون هناك بُنیان من لَبِناتٍ ليس بينها علاقات ونظام منطقي هندسي خاص لا يجيده إلاّ البنّاءون المهرة.

وقد أفاض عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر في بيان مقیاس

ص: 396

(الوظيفة) الذي يُعطي لكلّ عنصر في النظام العلائقي قيمته، ويُبيّن أنّ كلّ عنصر لا يؤدي وظيفته داخل النظام ليس له قيمة وليس له وجود. ولا يؤدي العنصر وظيفته بالشكل المطلوب إذا تبدّل موقعه المناسب له، كما هو الحال عند تعطّل وظيفة (کَبِد الإنسان) مثلاً إذا وضع في غير موقعه، في موقع قلبه أو كليتيه.

هكذا يُقيم الإمام علي (عليه السلام) الأشياء المُتعالقة كما هي معزولة، وهذه أولى مراحل الفَهم، ثم يتسع التقويم ببيان وظائفها ليكتمل فَهمها، ففي التقسيم الشائع لطبقات المجتمع، إذ اعتدنا أن نقسمه على طبقة أشراف خاصة، وطبقة العوام الذين اعتدنا أن نقوِّمهم بالدونية ولاسيما إذا لم ننتمِ إليهم، ونبجِّل طبقة الأشراف الخاصة، لكن التفكير العلائقي قد قَلَبَ هذه المعرفة رأسا على عقب عن طريق لفت أنظارنا إلى وظائف الطبقتين، ولاسيما في الظروف العصيبة، ما يجعل قيمة العامة أكثر ثقلا في الميزان من قيمة أشراف الطبقة الخاصة، وذلك ما يتضح في قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك: ((إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ، وأَكْرَهَ لِلإنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإلْحَافِ وأَقَلَّ شُكْراً

عِنْدَ الإعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الَخَاصَّةِ. وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلأعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الأمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ

ومَيْلُكَ مَعَهُمْ))(21).

والملحوظ هنا أنّ طبقة الخاصة تكون قیمتهم ضئيلة مقابل ما ينالونه من مال في الرخاء، وتقصيرهم عن أداء وظيفتهم في البلاء، فلا يجب أن يخشى الوالي سخط الخاصة، وعليه أن يخشی سخط العامة، الذين لا تذهب مراعاتهم في الرخاء سدی، فهم الذين يتذكرون الفضل ويوفون الكثير مقابل القليل؛ نظرا لسلامة فطرتهم الإنسانية.

وقد عَلِم الإمام (عليه السلام) أنّ الأشياء التي تدخل مع غيرها في نظام علائقي لا

ص: 397

تؤدي وظائفها إلا بتغذيها تغذية راجعة(22) Feed back بغذاء مادي أو روحي تستمده بعض عناصر النظام من عناصر أخرى تعدّ مصدرًا، وبهذا يكون المصدر ذا وظيفة قوية، وعليه تكون قيمة عناصر التغذية الرئيسة كبيرة يجب مراعاتها؛ لأنّها هي التي تديم تشغيل النظام، كما يتضح في الرسم:

وهنا تتضح قيمة عناصر التغذية الرئيسة في نظام التغذية الراجعة، التي لم نعرف قیمتها بعمق سابقًا من دون استعمال التفكير العلائقي، الذي ورد متماسكًا في قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر: ((واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ... فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وزَيْنُ الْوُلاةِ وعِزُّ الدِّينِ وسُبُلُ الأمْنِ ولَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِهِمْ ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ

الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ... ثُمَّ لا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ

الْقُضَاةِ والْعُمَّالِ والْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ويَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ ويُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأمُورِ وعَوَامِّهَا ولا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلا بِالتُّجَّارِ وذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ ويُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ...))(23).

نلحظ تماسك النظام الإداري للدولة المُقسَّم على طبقات تؤدّي كلّ طبقة وظيفة مهمة بحيث لا تقوم الطبقة إلا عليها ثم يركز الإمام علي (عليه السلام) في طبقتين لم نكن نعلم أنّ لهما قيمة كبيرة كقيمة السلطان والولاة والقضاة وغيرها من طبقات عليا، حتى بيّن الإمام أنّهما قوام كلّ الطبقات التي فوقهما وهما طبقة (التّجار والصنّاع)، لأنهما الطبقتان المنتجتان للثروة التي تموِّن وتغذي كل الطبقات المستهلكة التي فوقها والتي تحتها وهي ((الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ ومَعُونَتُهُمْ))(24).

وقد بيّن الإمام علي (عليه السلام) کیف تتعطل وظيفة العناصر المتعالقة ما يؤدي إلى تعطيل أو قلّة كفاية النظام، إذا انقطعت تغذيتها أو قلّت، ويتمثل نقص تغذية العناصر

ص: 398

الذي يجب على الوالي أن يحذر من وقوعه، بنوعين من التغذية:

أولهما: التغذية المادية: وتظهر في كمية رواتب رؤساء الجند التي يجب أن تكفيهم وتكفي أهليهم؛ لأن القادة يبذلون مجهودًا عضلياً وفكريًا، وقلّة رواتبهم تؤثر في تفكيرهم، وذلك قوله (عليه السلام) لمالك ((ولْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ ويَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ))(25).

ثانيهما: التغذية المعنوية: عن طريق تفقّد أحوال الرعية وتشجيع الولاة بالثناء الجميل كيفاً وكمًا بتعديد بطولاتهم، وذلك قوله (عليه السلام) لمالك: ((فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ [القادة] يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ... فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وتَعْدِيدِ مَا أَبْلَی ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ)(26).

وقد أمر الإمام (عليه السلام) مالکًا بمحاسبة العناصر التي تؤدي وظائف سلبية غير الوظائف المتعارف على أدائها في النظام الاجتماعي. ومكافحة الفساد الوظيفي هي من وظائف الحاكم؛ وذلك قوله:(«أَنَّ فِی كَثيِرٍ مِنْهُمْ [التجار والصنّاع] ضِيقاً فَاحِشاً وشُحّاً قَبِیحاً واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِی الْبِيَاعَاتِ وذَلِكَ بَابُ مَضَّرَةٍ لِلْعَامَّةِ وعَيْبٌ عَلَی الْوُلاةِ فاَمْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ... فَمَنْ قاَرَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ») (27)، بمعنى أنّ عقوبات هاتين الطبقتين يجب أن تكون إصلاحية، نظرا لأنهما تغذيان نظام الدولة كله.

وذهب الإمام (عليه السلام) إلى أبعد من هذا، إذ بيّنَ وظيفة الخلافة أو الإمارة، التي جعلها بعضهم غاية في ذاتها، وليست وسيلة للغاية أسمى وهي تطبيق العدالة الاجتماعية؛ لذلك لا نجد لها قيمة تذكر عند الإمام علي (عليه السلام)، فهي كقيمة (نعل مقطوعة)،

ص: 399

وذلك ما رواه ابن عباس (ت 68 ه) الذي دخل على الإمام بذي قار، وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، قال: ((قَالَ لِي (عليه السلام): مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ لا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (عليه السلام): واللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً))(28).

كذلك كانت الخلافة الدنيوية عنده (عليه السلام) والدنيا معها أهون من (عفطة عنز) ما لم يتخذها الخليفة وسيلة لأداء وظيفةٍ سامية بمعونة مجموعة من المناصرين لأيدلوجية الخليفة، وذلك قوله: ((لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا

أَخَذَ اللَّهُ عَلَی الْعُلَمَاءِ إلا يُقَارُّوا عَلَی كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَی غَارِبِهَا

ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ))(29).

هكذا عرف الإمام (عليه السلام) أهمية مقياس الوظيفة الذي يعطي للأشياء قيمتها في التفكير العلائقي، وتفقد قيمتها حتى لا تساوي شيئاً إلا لم تؤدِّ وظيفتها مَهْما عظمت هذه الأشياء في النظر إليها وهي منفردة كمفاهیم ذهنية معزولة عن نظامها العلائقي. وهو منطق لم يفهمه من يدَّعون أنّهم يحبّون علياً ويدعون كذا أنّهم يسيرون على نهجه؛ لأنّهم لم يفهموا منطقه، فما أبعدهم عنه، وما أبرأه منهم!.

ثانيًا: مقياس الموقع أو (الموضع):

هو القسم الآخر من مقياس المنطق العلائقي: (الوظيفة x الموقع)، وترجع أهميته إلى أنّ عناصر النظام الواحد لا تؤدي وظائفها الإيجابية إلاّ إذا أخذت موقعها الخاص، وإذا تبدلّت مواقعها في النظام المستقر فإن وظيفتها تتعطّل أو تنقلب إلى وظائف سلبية ضارة، وذلك ما عبّر عنه المتنبي (ت 345 ه) تعبيرًا واضحًا بقوله:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ٭٭٭ مضرّ کوضع السيف في موضع الندى(30)

ص: 400

وقد سبق الإمام علي (عليه السلام) إلى بيان أهمية الموقع في المنطق العلائقي، حيث لحظ أنّ ملكة الحس التي تعمل بمبدأ الصيرورة تحول الأشياء من حال إلى أخرى، وبهذا تتبدّل وظائفها باستمرار نتيجة لتبدل مواقعها، فالطفل له موقع التطفّل على الأسرة، وحين يشبُّ، ويكبر والداه تُصبح له وظيفة أخرى معاكسة بالنسبة لأبويه، إذ يصبحان هما المتطفلان عليه. وهذا يخالف منطق العقل الأرسطي الذي يعمل بمبدأ ثبوت الأشياء وعزلها في مواقع مستقلة، بحيث لا تستطيع العبور من ذو على هذا الأساس أوضح الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك بن الأشتر أن يلحظ التغيّر في الأشياء، ويرعی وضعها في مواقعها المناسبة ولا يتعجّل بذلك قبل الأوان، وذلك قوله (عليه السلام): ((وإِيَّاكَ والْعَجَلَةَ بِالأمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ)) (31).

يدلُّ هذا الكلام على أهمية معرفة المواقع الصحيحة للأشياء التي تؤدي فيها وظائفها بصورة مثالية من جهة، وأهمية معرفة المواقع المغلوطة أيضاً التي تؤدي فيها الأشياء عكس الوظائف المرغوب فيها، والتي يمكن الاستدلال عليها وتجنبها استنادًا إلى معرفة الأَوْلَى، وذلك قوله (عليه السلام): ((مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ)(32) .

وقد عرف الإمام (عليه السلام) وجوه الآراء، وعرف أنّ التغييرات في النظام تحتاج إلى تغيير في المواقع التي يتبعها تغيّر في الوظائف؛ لذلك عزم على استبدال محمد بن أبي بكر (33) (رضي الله عنه) بمالك الأشتر واليا على مصر نظرًا لصعوبة إدارة هذا البلد الذي يحتاج الى خبير مُحنّك، وهو ما أثار حفيظة محمد بن أبي بكر فخاطبه مبينًا أسباب استبداله بالأشتر، متعهدا أن يضعه في موقع يناسبه. وبهذا يمكن أن يؤدي فيه الوالیان وظيفتهما كلُّ واحد من موقعه، وذلك قوله: ((أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الأشْتَرِ إِلَی عَمَلِكَ وإِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجَهْدَ ولا ازْدِيَاداً لَكَ فِي الْجِدِّ ولَوْ نَزَعْتُ مَا

ص: 401

تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً وأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلايَةً...)) (34).

لكنّ الأشتر اغتيل قبل وصوله إلى مصر (35)، فكتب الإمام علي (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر أن يبقى والياً على مصر، وقد ثار عليه بعض المصريين وقتلوه، ما يدلّ على معرفة الإمام (عليه السلام) بأهمية الموقع بمقياس المنطق العلائقي الذي يؤدي فيه الرجل المناسب في المكان المناسب وظيفته في معالجة المواقف الصعبة، لكن الأحداث كانت تجري سريعا بعكس ما هو مخطط له بسبب فساد الخوارج، وهم عناصر داخلية خرجت بفكرها فأفسدت النظام السياسي في الكوفة.

وقد حثَّ الإمام مالكًا على حسن اختیار معاونيه للمواقع التي يؤدون بها وظائفهم بأكمل وجه، وذلك قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ

فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ ولا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ولا يَحْصَرُ مِنَ

الْفَيْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ ولا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ... وأُولَئِكَ قَلِيلٌ))(36).

وقد أجاد الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر في تسليط الضوء على أهمية النظر في إعادة ترتیب عناصر النظام الاجتماعي المتنوّع تنوّعاً لا نهائيًا، والمُرتب ترتيباً أفقياً في أروع المقولات الإنسانية قاطبة، بدلاً من ترتيبه العمودي الذي يضع الوالي المُسلم على رأس الهرم، يليه تفضيل المسلمين، فأهل الذمة (نصاری ویهود) وسواهم.

لكنّ الإمام (عليه السلام) رأى أنّ الترتيب الأفقي هو ترتیب وظيفي، يجعلنا نفكر تفكيرا علائقيا، بعكس التفكير الذي يرتِّب العناصر ترتيبا عموديا يجعل الشرف متوارثا، والعبودية متوارثة، وهذا خطأ؛ لأنّ ((قيِمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ))(37)، فوظيفة المسلمين الذين هم أكثرية وهم الذين يحكمون، تكمن في حماية حقوق الأقليات ولا تتسلط عليهم وتؤذيهم، وإنّ الدولة الإسلامية عليها أنْ تفتخر في أداء هذه الوظيفة، كذلك الوالي الذي بيده مصادر القوة (السلاح والمال)، يجب أن يؤدي وظيفة العدل والمساواة بين كلّ أصناف الرعية المتنوعين بالألوان

ص: 402

والأديان والمذاهب، وليست وظيفته التسلط والتجبر والتمييز الطائفي والديني والعرقي، والانتقام وإبادة المعارضة السياسية.

وهذا ما أكده الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر بمقولته الشهيرة: ((ولا تَكُونَنَّ

عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، ويُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَأِ. فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ الله مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ،

فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، ووَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، واللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَ...)(38).

نلحظ أنّ الترتيب العمودي الذي يُنبئنا خطاً بأنَّ الأعلى هو الأفضل، قد انقسم على قسمين:

أولهما: الخالق فوق جميع مخلوقاته الأثيرة وهم جنس الإنسان.

ثانيهما: المخلوقات البشرية المتساوية المنزلة بوصفهم عبيدًا لإله واحد، وإنْ تنوَّعت ألوانهم وأديانهم وعقائدهم، فكلّهم من دم ولحم واحد، ومشاعر واحدة مصطَّفون على صعيد واحد، يفرط منهم الزلل خطأً وعمداً، وعليه يجب معاملتهم بالرحمة التي تعرفها عن طريق وضع نفسك في موقع صاحب الخطيئة الذي لا يرغب إلا بالعفو، وعلى النفوس الكبيرة أن تعفو وتغفر، فأنت إنْ لم تغفرْ فلن تنالَ غفران الله.

ومثلما لحظ الإمام أهمية المواقع الصحيحة التي تؤدي فيها العناصر الداخلة في نظام علائقي وظائفها كاملة، لحظ أنّ تبديل المواقع الصحيحة يجعل العناصر تؤدي عكس وظائفها التي تُوقع الأضرار على الغير وعلى النفس أيضاً، وذلك ما خاطب بهِ مالك الأشتر محذرًا إيّاه بقوله: ((إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ))(39).

ص: 403

وقد أكدَّ الإمام أهمية اختيار العناصر المناسبة للأماكن المناسبة في أماكن كثيرة في عهده لمالك بن الأشتر، ولاسيما في المواقع الحساسة، حذرًا من تغيّر النفوس في تلك المواقع ما يجعلها تصاب بالشذوذ الوظيفي، لذلك ركَّز في اختيار الأفضل أخلاقاً، وذلك قوله: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ واخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي

تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الأخْلاقِ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلأِ))(40).

تشير هذه الوصية إلى تفنيد فكرة الوظيفة المطلقة التي تقول: ((ينطلق التحليل الوظيفي للثقافة من مبدأ قوامه أنّه في كلّ نماذجه الثقافية، تؤدي كلّ عادة، وكلّ شيء مادي، وكل فكرة، وكل معتقد وظيفة حيوية ما))(41).

فالوظيفة المطلقة تحصل في حال توازن النظام الاجتماعي العام واستقراره، ولا تشمل الأنظمة المعقدة الخاصة، إذ يعطي العنصر الشرير أو الجاهل في النظام الاجتماعي العام قيمة للعنصر الخيّر أو العالِم؛ لأنّه يجعل الخيّر والعالِم يمارس وظيفته في إصلاح الأشرار وتعليم الجهلة، لذلك يوادع العقلاء الجهلة بكلمة (السلام عليكم)(42)، کیلا يقطعوا الصلة بهم، ويخسرون بذلك وظيفة إصلاحهم، وذلك قوله تعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ» (43).

فكلمة (السلام علیکم) تحافظ على علاقة التخاطب اللسانية الاجتماعية بين الجاهل والعاقل، بمعنى أنّ العاقل يجب أنْ يستوعب الجاهل في محيطه الاجتماعي؛ لأنّ قيمة العاقل تكمن في وظيفة الإصلاح التي لا تتحقق على أرض الواقع إلا بوجود الجاهل.

ومثل هذا التسامح والموادعة التي يلحّ عليها الإمام علي (عليه السلام) كثيرًا في الحياة الاجتماعية، يبدو أنّها لم تسبب أضرارَا مادية، فهي تدور في إطار اللغة مما يسمى

ص: 404

ب(اللغو)، وهو السبّ والبذاءة والهجاء والطعن بالأعراض، إلى غير ذلك، مما لا يضرّ ضررًا ماديًا أو أمنيًا للدولة، بخلاف الغلط اللساني عند كتاب المراسلات ولاسيما السريّة منها، فهو مختلف تمامًا ولا يسامح عليه في النظام الاجتماعي العام؛ لذلك لا يجوز احتقار الجاهل؛ لأنّه رصيد العالِم، ولا يجوز احتقار الكافر؛ لأنّه رصيد المؤمن الذي يهيئ له تفعيل الإيمان على نطاق موضوعي كلّي، وإلاّ أصبح الإيمان محصورًا في جزئية المؤمن فحسب. ومن ذلك قول الحكيم الصيني (لاوتسي):

الخيّر معلِّمُ الشرير

والشريرُ رصيد الخيّر

ومَن لا يحترمْ مُعلِّمه

ولا يحافظ على رصيده

إنسان ضلَّ إلى أبعدِ حدّ (44)

وهكذا يقدِّم المنطق العلائقي معرفة جديدة بالأشياء كنّا نجهلها من قبل، وربما جعلتنا هذه المعرفة المغلوطة نحتقر كثيرًا من الأشياء ونشمئز منها حين كنّا نعتمد على التصورات العقلية أو (رياضيات العقل) المنفصمة عن الواقع. لكنّ المنطق العلائقي بمقياسه (الوظيفة x الموقع) زوّدنا بِعِلْمٍ جديد له أصول قرآنية ونبوية فضلاً عما أنتجه العقل العربي تحت خيمة هذه النصوص المعتبرة التي تأسست عليها الحضارة العربية بعد الإسلام، ما يجعلنا نعيد النظر في (تقييم الأشياء) لنرفع كلّ من يؤدي وظيفته في النظام من موقعه الخاص مَهْما كانت التصورات المجردة تحطّ من شأنهم، نحو عامل النظافة التي ترميه التصورات المزيفة واللغة بلفظ دوني فنسميه (زبالاً) في الوقت الذي يكشف المنطق العلائقي بأنَّ (الزّبالون) صيغة مبالغة للذي يُكثر من رمي الأزبال وهم نحن، في

ص: 405

حين الذي يخلصنا من نفاياتنا النتنة هو هذا الشخص الرائع الذي يؤدّي أشرف وظيفة يكسب منها رزقا لعياله، ويحافظ على جمال المدينة ونظافتها، التي لولاها لأصبحت المعيشة في المدينة لا تطاق. مقابل هذا علينا الحط من شأن الذين تبوءوا مناصب عليا ولم يؤدُّوا وظائفهم المنوطة بهم في مواقعهم تلك، إلى ما دون (عامل النظافة) الذي يودي وظيفته على أكمل وجه، بعد أنْ كنّا نعظِّم أولئك باطلاً، ونسبغ عليهم صفات الله، نحو: جلالة الملك، وصاحب السمو، وفخامة الرئيس، حتى لو كان ذلك الملك أو الرئيس جاهلاً مستبدًا أو فاسدًا يتحكّم بمصائر الناس ومقدِّراتهم ويصادر حرياتهم ويمتهن کرامتهم.

ص: 406

الخاتمة:

توصل البحث إلى جملة من النتائج لعلّ أهمها ما يأتي:

1 - يُمثل عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه على مصر - الذي اغتيل قبل وصوله إلى عمله، وثيقة سياسية مُهمة لإدارة الدولة. والدولة كيان علائقي معقّد متكوِّن من مجموعة من العناصر المترابط بعضها ببعض بحلقات بحيث يؤثر بعضها ببعض، ما يجعل النظر إليها معزولةً يؤدي إلى أخطاء معرفية كثيرة؛ لأنّ كلّ عنصر في هذا النظام المعقّد يؤدي وظيفة معينة للنظام كله، ولا يمكن غضّ الطرف عن التعريف الوظيفي الى جانب التعريف الحدّي. وعلى هذا الأساس لابدّ من منطق جدید يسلط الضوء على (الوظيفة) بدلا من تسليط الضوء على العناصر المنفردة، وهذا المنطق يسمى (المنطق العلائقي) ومقياسه (الوظيفة x الموقع)، وقد ورد هذا المقياس بكثافة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، ما يجعل المنطق العلائقي أفضل منهج يمكِّننا من اكتشاف المعاني الجديدة التي بقيت غير مكتشفه من قبل بطريقة سهلة منظمة، وتلك هي وظيفة المنطق بوصفه آلة تعصم الفكر من الوقوع بالأخطاء.

2 - لقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) المنطق العلائقي من دون الاصطلاح عليه؛ لأنّ مهمة الاصطلاح ليست من مهام الشخصيات التاريخية، وإنّما هي مُهمة المفکِّر الذي يجرِّد من النصوص التاريخية الإبداعية منطقا يصوغه بمصطلحات تقنية واضحة وقليلة تسهل اكتشاف المعاني بطريقة آلية تسمى منطقا، وإذا كان المنطق جديدا فإنّه يغني الفكر العربي الذي إذا بقي يفکِّر بوساطة منطق واحد هو المنطق الأرسطي كآلة يشتغل بموجبها العقل بمسنن واحد. وإذا كانت علامة المنطق الأرسطي الرياضية الرئيسة هي علامة المساواة (=) وهي علامة الهوية (أ هو أ)،

ص: 407

فإنّ علامة المنطق العلائقي هي علامة المفاضلة أكبر من (>)، التي تجعل (الكل > مجموع الأجزاء) في كلّ نظام علائقي. وهذا ما جعلنا نكتشف معاني جديدة لم تكن تخطر على بالنا من قبل.

3 - في مقياس المنطق العلائقي طرفان هما: (الوظیفة × الموقع)، وأحدهما يؤلف برهانا للآخر، فقيمة العنصر في النظام العلائقي تكمن في وظيفته التي يؤديها للنظام، ولا يؤدي العنصر وظيفته ما لم يُوضع في موضعه أو موقعه الخاص. ولما كانت الأشياء تتطور في الواقع المعيش؛ لذلك تتطور وظائفها، وعلى هذا الأساس رأى الإمام علي (عليه السلام) أن يُبدِّلَ مواقع الأشياء في نظامه الإداري المدوّن في العهد، إذا أصبحت الأشياء مؤهلة لأداء وظيفة جديدة، وقد رأى أنّ بعض الأشياء تتطور إلى الوراء وتؤدي وظائف مفسدة للنظام؛ لذلك أوصى بمعالجتها بحسب كمية الضرر الذي تسببه، فمنها من عالجه بالإصلاح؛ لأنّها تسببت بأضرار يسيرة غير مقصودة، ومنها من أوصى بمعالجته بالعزل واستبدال بعض العناصر بغيرها في خطوة استباقية اعتمادا على معلومات استخبارية؛ لأنّ بقاءها يمكن أن يسبب خطرا كبيرا، ومنها ما سبب أضرار كبيرا فعلا، لذلك كان علاجها بإقامة الحدّ عليها والتنكيل بها.

ص: 408

هوامش البحث:

1. مالك بن الحارث بن عبد يغوث الأشتر النخعي، أمير من قادة الشجعان والفرسان، رئیس قومه سكن الكوفة وكان من أقرب المقربين إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، شهد معه الجمل وصفين، ولاه على مصر، قتله معاوية بن أبي سفيان بالسم قبل أن يصل إليها عام 37 ه. ظ: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني: 5 / 53..

2. سورة البقرة: 26..

3. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 5..

4. الاستقراء الرياضي: هو أحد أنواع البرهان الذي يعتمد على مبدأ وقوع أحجار الدومينو، ويتمّ على مرحلتين: أولاهما: يبرهن أنّ أول رقم في المجموعة يحقق المطلوب، وثانيتهما: نفرض أنّ المطلوب يتحقق لعدد ما من المجموعة، نحو ثلاثة. ثم يعمم من ذلك مقدمة كلية كبرى تعبّر عن علاقات التضمّن وفحواها: (خصائص الجزء موجودة في الكل). ظ: استقراء رياضي، متاح على الموقع:.WWW Wikipedia.org

5. الكشاف، الزمخشري: 1 / 337.

6. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 42.

7. مستدرك نهج البلاغة، الهادي کاشف الغطاء: 163.

8. ظ: مقاییس اللغة، ابن فارس: 5 / 471 (نکت).

9. ظ: نظرية النحو العربي القديم، دراسة تحليلية للتراث اللغوي العربي من منظور علم

ص: 409

النفس الإدراكي، د. كمال شاهين: 265.

10. ظ: أرسطو، ألفرد أدوارد تایلور: 42.

11. المنطق، نظرية البحث، جون ديوي: 17.

12. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 2، 2 - 3، 2.

13. سورة الإسراء: 29.

14. تُرجم هذا المثل العربي إلى الانجليزية بلفظه ومعناه؛ لأنّه يحمل فكرة منطقية جدلية عامة كالآتي: The strew that broke camel's back. ظ: القشة التي قصمت ظهر البعير، متاح على الموقع:

WWW.wikipdia.org .

15. قصة الفلسفة، وِل ديورانت: 342.

16.ظ: آفاق الفلسفة، د. فؤاد زكريا: 381.

17.ظ: نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي، مفاهيم أساسية، د. تومان غازي الخفاجي، ود. خالد کاظم حمیدي، بحث منشور في مجلة كلية الشيخ الطوسي الجامعة، السنة الأولى، العدد (2)، 16، 2 م: 216.

18. ظ: علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزمیله، ترجمة د. ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، الجزائر، ط 1، 2٫12م: 112.

19. سورة الحجر: 19 - 22.

20. صحیح مسلم: 4 / 1999، ح:2585.

21. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 547.

22. See :Feed back from:wikipedias the free wikipedia

ص: 410

23. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 55. - 551.

24. م.ن: 551.

25. م.ن: 553.

26. م.ن: 553.

27. م.ن: 559 - 56..

28. م.ن: 73.

29. م.ن:32.

30. العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي: 387.

31. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 616.

32. م.ن: 635.

33. محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه): ولد بين المدينة ومكة سنة 1. ه، في حجة الوداع، ونشأ بالمدينة في حِجر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وشهد معه وقعتي: الجمل وصفين، وولاه علي إمارة مصر، فدخلها سنة 37 ه، إلا أنّ نعاوية بعث جيشا بقيادة عمرو بن العاص من أهل الشام إلى مصر، فدخلها حربا بعد معارك شديدة. واختفى ابن أبي بكر، فعُرِف مكانه فقبض عليه وقُتِل وأُحرِقَ بتهمة مشاركته في مقتل عثمان بن عفان. مدة ولايته خمسة أشهر توفي سنة 38 ه. ظ: الأعلام، الزركلي: 6 / 219.

34. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 516.

35.ظ: تاريخ الأمم والملوك، الطبري: 4 / 553.

36. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 518 - 519.

ص: 411

37. م.ن: 623.

38. م.ن: 545.

39. م.ن: 546.

40. م.ن: 558.

41. علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزميله: 183 - 184.

42. الكشاف، الزمخشري: 3 / 426.

43. سورة القصص: 55.

44. الطريق والفضيلة، لاوتسي: 62.

ص: 412

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1. آفاق الفلسفة، د. فؤاد زکریا، دار مصر للطباعة، (د.ت).

2. الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 ه)، دراسة وتحقیق وتعلیق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان، ط 3، 2..5 م.

3. الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بیروت، لبنان، ط 5، 2..2 م.

4. أرسطو، ألفرِد إدوارد تایلور، ترجمة د. عزت قرني، دار الطليعة، بیروت، لبنان، ط 1، 1992 م.

5. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت).

6. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، حقق نصوصه وصححه ورقمه وعدّ كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة (د.ت).

7. الطريق والفضيلة، للحكيم الصيني لاوتسي، ترجمة عبد الغفار مکاوي، دار المعارف، القاهرة، (د.ت).

8. العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، للعالم العلامّة اللغوي الشاعر المشهور، ناصيف اليازجي، دار القلم، بیروت، لبنان، ط 2، (د.ت).

ص: 413

9. علم الاجتماع المعاصر، جان بیار دوران وزميله، ترجمة د. ميلود طواهري، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، الجزائر، ط 1، 12، 2 م.

10. قصة الفلسفة، ول ديورانت، مكتبة المعارف، بيروت - لبنان، ط 1، 197. م.

11. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (ت 538 ه)، حققها على نسخة خطية: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، (1421 ه / 1.2 م).

12. مستدرك نهج البلاغة، جمع هادي كاشف الغطاء، منشورات مكتبة الأندلس، (د.ت).

13. نظرية النحو العربي القديم، دراسة تحليلية للتراث اللغوي العربي من منظور علم النفس الإدراكي، د. كمال شاهين، دار الفكر العربي، القاهرة، 2.2 م.

14. نظرية علم النقطة في تجديد الفكر العربي، مفاهيم أساسية، د. تومان غازي الخفاجي، ود. خالد كاظم حميدي، بحث منشور في مجلة كلية الشيخ الطوسي الجامعة، السنة الأولى، العدد (2)، 2.16 م.

15. نهج البلاغة، ضبط نصه وأبتكر فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، مطبعة رسول، قم، إيران، ط 1، 1426 ه.

ص: 414

المواقع الالكترونية:

16. الاستقراء الرياضي، متاح على الموقع: www.wikipedia.org.

17. التغذية الراجعة Feed back، متاح على الموقع: www.wikipedia.org.

18. القشة التي كسرت ظهر البعير، ترجم هذا المثل بلفظه ومعناه إلى الانجليزية:

.The strew that broke camel's back

متاح على الموقع: www.wikipdia.org.

ص: 415

ص: 416

المُحتَوَیات

الآثار الدّنيويّة للأعمال

في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

المقدمة...7

المبحث الأول: الآثار الدنيويّة للأعمال الصالحة...10

المبحث الثاني: الآثار الدنيوية للأعمال السيئة...18

الخاتمة...25

قائمة المصادر والمراجع...26

الهوامش...29

الفلسفة الاخلاقية ومبادئ حقوق الانسان في فكر الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية على ضوء عهد الامام علي بن ابي طالب الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

خلاصة البحث:...39

فرضية البحث:...40

منهجية البحث:...40

المقدمة...41

الامام نبراس ومشعل الحرية:...42

الرأفة بالرعية:...43

التجارة والحياة الاقتصادية:...44

ص: 417

حقوق الانسان عند الامام علي (عليه السلام)...47

اما الجرائم التي حكم الإمام بان عقوبتها الاعدام فهي لجملة افراد هم:...58

أثر الحاكم في النظام الاجتماعي...64

الحرب وانتهاك الحقوق عند الامام علي(عليه السلام):...69

قانونٌ اجتماعيٌّ خَطير:...74

حقائق ثابتة:...76

حُريّة الإنسان في المُجتمع:...78

الحزمُ واللِينُ:...79

الرعايّةُ للجُمَيع:...81

ثِقلُ المُوازنةَ:...81

عِلمُ النَفس الاجتِماعي والعلاقاتُ العامّة مَعَ المُجتَمَع:...84

التَقسّيم العِلمي أو المعرفي:...86

التقسيم الإنساني:...87

أهلُ الذِمّة والإسلام:...90

الدفاعُ عنِ المُعاهدين:...91

التقسيم الإيماني:...92

التقسيم الإداري:...94

علم النفس الاجتماعي في تعامل علي (عليه السلام) مع جنده...100

العلاقة الإنسانية ومودة الامة...101

حسن الثناء ورفع معنويات الجند:...102

الوالي والنظر في المظالم والأثر الإيجابي:...103

شرائط النظر في المظالم:...106

علي مع الحق والحق مع علي:...110

ص: 418

النظرة العلوية إلى الظلم:...112

الخاتمة:...118

المصادر:...119

المواطنة والتنمية في حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ملخص البحث...127

المقدمة:...129

المواطنة:...130

التطور التاريخي لمفهوم المواطنة :...130

الحكم الصالح (الحكم الرشید):...135

تعريف التنمية البشرية:...140

التطور التاريخي لمفهوم التنمية:...141

نظرة الإمام علي (عليه السلام) للتنمية:...143

الخراج (التنمية الاقتصادية):...143

جهاد العدو (التنمية الأمنية):...148

التنمية البشرية:...150

1 - الحقوق السياسية...151

2 - عدالة التوزيع...155

أ - الإعانات المالية:...155

ب - تخصيص مورد مالي ثابت:...157

3 - إشاعة ثقافة العمل:...159

الخاتمة:...163

الهوامش...165

ص: 419

ثبت المصادر والمراجع...173

القيادة الاخلاقية في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

مقدمة:...183

من هو مالك الأشتر؟...184

تحديد المصطلحات:...185

دوره في القضاء على انقلاب أشراف الكوفة...186

دوره في هزيمة جيش الشام وقتل عبيد الله بن زياد (معركة الخازر)...187

السمات القيادية في الشخصيه:...188

سمات القيادة في شخصية مالك الاشتر:...189

التوصيات:...191

الهوامش:...192

المصادر...193

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ لمالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه)

مقدمة...197

المبحث الأول: حقوق الإنسان في الفكر الغربي...200

مواثيق الحقوق:...201

إعلانات الحقوق الدولية:...204

المبحث الثاني: حقوق الإنسان في الفكر والشريعة الإسلامية...209

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر:...216

المبحث الثالث: دراسة مقارنة بين الفكرين الغربي والإسلامي...219

ص: 420

المبحث الرابع: الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحقوق الإنسان من خلال عهدهِ إلى مالك بن الأشتر النُخعي (رضي الله عنه).. الخصائص وسِمَات التميز...228

نهجُ البَلاَغَة.. بين صِحَّة الانتساب وأهمية المضمون...230

حقوق الإنسان في عهدِ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر...234

الهوامش:...245

دروس ملهمة من الفكر الإسلامي إلى الفكر العالمي في مجال القيمة الروحية للإنسان (وصايا الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) أنموذجا)

مقدمة:...269

أولا: - حقوق الإنسان وأزمة الفكر العالمي المعاصر...270

ثانيا: - مركز الإنسان وحقوقه في فكر الإمام علي (عليه السلام)...273

(عالمية الفكر السياسي العلوي)...273

ثالثا: - مقومات حقوق الكانسان في نص رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه)...279

الخاتمة:...287

الهوامش:...288

حق المواطنة والحريات العامة في الدولة العراقية في مدة العهد الملكي (دراسة مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر)

ص: 421

الملخص...295

المقدمة...297

حقوق المواطنة والحريات في الدستور العراقي 1925...298

حقوق المواطنة والحريات في برامج الأحزاب السياسية (1922 - 1958)...301

حقوق المواطنة والحريات في برامج الوزارات العراقية...305

مقارنة في ضوء عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر...306

الخاتمة...313

الهوامش...315

المصادر...323

المواطنة وحقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام)

الملخص...331

ماالمواطنة؟...332

الحقوق المدنية...333

الحقوق السياسية...334

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية:...334

اولاً: حقوق الانسان عند الامام علي ابن ابي طالب...339

مفهوم الحق:...339

ثانيا: الحقوق عند أمير المؤمنين (عليه السلام):...341

ثالثا: أنواع الحقوق:...342

أولاً: الحقوق الشخصية:...342

ثانياً: الحقوق الاقتصادية...347

ثالثاً: الحقوق الاجتماعية...350

ص: 422

رابعاً: الحقوق السياسية:...352

1 - حق المشاركة في بناء الدولة...353

2 ۔ حق المعارضة، والاعتراض والشكوى:...354

3 - السماح للتجمعات السلمية بمارسة طقوسها:...355

4 - الحقّ في المساواة:...356

خامساً: الحقوق الدينية:...357

سادساً: الحقوق القضائية:...359

القسم الأول: الحقوق التي يجب مراعاتها قبل إصدار الحكم. وهي:...359

القسم الثاني: الاعتراض على قرار القاضي...363

الاستنتاجات: تستنتج الباحثتان الآتي:...367

التوصيات: توصي الباحثتان بالآتي:...368

المقترحات: تقترح الباحثتان اجراء الدراسات الآتية:...369

المصادر والمراجع:...370

الهوامش...372

المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر من منظور منطق نظرية علم النقطة

ملخص:...381

مقدمة:...383

المبحث الأول: تعريف منطق علم النقطة العام وموقع المنطق العلائقي منه:...385

المبحث الثاني: استعمال المنطق العلائقي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه):...394

أولاً: الوظيفة:...395

ص: 423

ثانياً: مقياس الموقع أو (الموضع):...400

الخاتمة:...407

هوامش البحث:...409

المصادر والمراجع:...413

ص: 424

المجلد 7

هوية الکتاب

أعمال

المؤتر العلمي الوطني المشترك الأول

لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراست الکوفة

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

ISBN 978-9933-582-39-5

9789933582395

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1212 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيفLC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد و تفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعية الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق). عنوان اضافي: عهد مالك الاشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1)

أعمال

المُؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول

لمؤسسة علوم نهج البلاغة مركز دراسات الكوقة

لسنة 1438 ه - 2016 م

(المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان) الجزء السابع

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني:

www.inahj.org

الايميل:

Inahj.org@gmail.com

الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله).

الجهة الراعية للمؤتمر: الامانة العامة للعتبة الحسنينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 22 - 24 من شهر ربيع الأول

من العام 1438 ه

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1212 لسنة 2018 م.

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة الفنية: وحدة الاخراج الفني في مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي (رضي الله عنه)

اشارة

أ.م.د.هادي عبد النبي التميمي جامعة الكوفة - كلية الآداب - قسم التاريخ

أ. م. د. ختام راهي مزهر الحسناوي جامعة الكوفة - كلية التربية للبنات. قسم التاريخ

ص: 5

ص: 6

المقدمة

إن للراعي في الدولة الإسلامية أثرٌ بالغ في إدارة المجتمع وتنظيم حياته في مختلف الجوانب المادية والمعنوية، وعلى صلاحه يتوقف صلاح الرعية واستقامة حياتها والعكس بالعكس، تدلنا على ذلك كلمة الإمام علي (عليه السلام) الخالدة: (الملكُ كالنهر العظيم، تستمدُّ منه الجداول؛ فإن كان عذباً عذُبتْ، وإن كان ملحاً مَلحتْ (1))، وقوله (عليه السلام): (إذا تغيّر السلطان، تغيّر الزمان)(2)؛ ولذلك اعتنى الإمام علي (عليه السلام) بتربية وبناء مَن يتولى هذه المسؤولية الخطيرة، قيمياً وتقوائياً، لما لذلك من أثر في بناء شخصية الراعي الإنسانية من جهة، وتعزيز أدواته وقدراته القيادية بما يضمن رصانة الفعل السياسي من جهة أخرى، ومن ثمَّ ضمان حسن سيرته، واستقامة العدل، وظهور مودة الرعية ورضاها، وكسب تأييدها ومساندتها التي ستؤدي حتماً إلى استقرار البلاد وتطورها.

وتبدو أهمية دراسة (عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي)، والوقوف على مضامینه؛ لما انطوى عليه من عبقرية في الفكر الإنساني السياسي الإسلامي، ولما تجسد فيه من تجلي حقيقي وعميق للقيم الإسلامية، القابلة للتطبيق في مختلف مجالات الحياة وإدارة العلاقات الاجتماعية، بما يؤمن التفاعل بين طبقات المجتمع بكل تراكيبه تفاعلاً واعياً مثمراً، يحقق هدف استخلاف الإنسان في الأرض.

وقد ركز هذا البحث على (البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي للأشتر النخعي) وقُسم إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، اختص المبحث الأول ببحث القيمة والتقوى لغةً واصطلاحاً، ودرس الثاني عهد الاشتر من ناحية كونه برنامجاً حكومياً علوياً لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية، وتطرق الثالث إلى ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الاشتر، وانقسم هذا المبحث إلى خمسة محاور بيّنت العلاقات الأساسية

ص: 7

للراعي التي حرص الإمام علي (عليه السلام) على تنظيمها على وفق المعايير التقوائية والقيمية، وهذه المحاور هي:

المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع الله.

المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه.

المحور الثالث: تنظيم علاقة الراعي مع الرعية بعامة.

المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه المشتركين معه في إدارة الدولة.

المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو.

ثم جاءت الخاتمة لتلخص نتائج البحث، وقد استعان الباحثان بجملة من المصادر والمراجع المهمة، ولاسيما كتابي (نهج البلاغة)، (غرر الحكم) التي حوت كلمات الإمام علي (عليه السلام) مدار البحث، مع جملة من المراجع المهمة المتخصصة في شرح وبیان مغزى التراث الفكري للإمام علي (عليه السلام)، والله الموفق.

ص: 8

المبحث الأول القيمة والتقوى مدخل معرفي

(القيمة) كلمة مشتقة من (ق و م)؛ بمعنى ما يقوم مقام الشيء وقد أُستخدم لُغوياً لإفادة معانٍ متعددة مثل (3):

1. قيمة الشيء وثمنه؛ تقول: تقاوموه فيما بينهم(4)، وماله قيمة : إذا لم يَدُم على شيء (5) وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة.

2. الثبات والدوام والاستمرار: فكل مَنْ ثبت على شيء فهو قائم عليه(6).

3. العدل والاستقامة: أي الاعتدال، فيقال: استقام له الأمر، ومنه قوله تعالى: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» (7)، أي في التوجّه إليه دون غيره. وقام الأمر واستقام: اعتدل واستوى، وقد تأخذ القيم أحياناً هذا المعنى للاستقامة.

ويقال: قَوَّمتُه: عدَّلته، فهو قویم ومستقیم. فيكون القوام هو العدل، كما في قوله تعالى: «وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا» (8).

4. المحافظة والإصلاح، كقوله تعالى: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ» (9)، وكذلك قوله تعالى: «إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا» (10)، أي: ملازماً ومحافظاً.

وكما لكلمة القيمة حضور في المجال التداولي اللغوي، فإنَّ مشتقاتها قد استعملت في القرآن الكريم، كقوله تعالى: «ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (11)، إذ يُشير المعنى إلى مفهوم الاستقامة، وكذلك قوله تعالى: «دِينًا قِيَمًا» (12)، أي له القيومية على تقويم الاعوجاج عبر آلية شرعية، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (13).

إن مفهوم القيم اصطلاحاً يحكي تلك المعايير الحاكمة على المنظومة الدينية بما فيها

ص: 9

النظام الأخلاقي والاجتماعي وكذا النسق الثقافي والسياسي، وللعقل الإنفراد بإدراك حُسنها بنحو الموجبة الجزئية في مقام الثبوت. وبلحاظ ما تنطوي عليه القيمة من فعلية يمكننا القول: إنها حافز للأفراد من أجل تشخيص الأفضل من بين المفضولات. أما وفقاً للمنظور الاجتماعي فالقيم تُساهم في ترقية الحس الاجتماعي عند الفرد، و تمدّه بالتصور العام لما فيه خير وصلاح مجتمعه (14).

ويستعمل لفظ القيمة استعمالين: استعمال معياري مطلق، واستعمال معیاري نسبي، ويتجلى الاستعمال المعياري النسبي في الاقتصاد خصوصاً(15)، وأما الاستعمال المعياري المطلق فيرتبط بالأخلاق، ولا تتوقف القيمة في هذا المجال على المنفعة أو الحاجة أو الظروف، وإنما هي مستقلة عن كل اعتبار أي أنها قيمة في ذاتها «واقعية (16)».

وإذ نبحث الجانب القيمي في رؤية الحكم عند الإمام علي أو علاقة الراعي بالرعية، فإننا بلا شك نعني المدلول القيمي المطلق وليس النسبي لأن رؤيته في السياسة هي فرع رؤيته في الأخلاق والدين وهي رؤية مطلقة في كل تعبيراتها.

تشكل القيم قضية مهمة شغلت الفكر الإنساني عامة، واهتمت فيها الديانات والفلسفات والتنظيمات الاجتماعية، وكانت مركز اهتمام الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ الإنساني؛ لأنها تمثل جانباً رئيسياً من الثقافة في أي مجتمع، لذلك لا يمكن أن ينهض مجتمع ويزدهر دون أن يعتمد على مجموعة من قيم الأخلاق التي تؤيده وتدعمه، فتنمية المجتمع مرهونة بتنمية الثروة البشرية فيه، فالإنسان هو أساس ودعامة المجتمع ووسيلة تطويره(17).

ولندرك الدور الذي أدّاه الإمام علي (عليه السلام) في إتمام وترقية المنظومة القيميّة أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً، لابد من الوقوف عند أبعاد هذه المنظومة في الدين الإسلامي (18):

ص: 10

1. البُعد التوحيدي: وهو بُعد يُشير إلى (قيمة التوحيد المطلق) التي تترشح عنها باقي القيم، بل أن كل قيمة تتعارض معها تكون خارجة تخصصاً عن المنظومة القيمية الإسلامية.

2. بعد الثبات والاستمرارية: والمراد به هنا الدوران حول محور ثابت هو (التوحید) وكل قيمة تكتسب مصداقيتها عند قربها من هذا الأصل الثابت، وما دام هذا الأصل حاكم على الصيرورة الزمانية، فإن القيم التي تدور حوله سيكون لها الوصف نفسه؛ أي أنها صالحة لكل زمان ومكان.

3. بعد التعميم: ونعني به تجلي القيم وشمولها لكل مفاصل الحياة الفردية والاجتماعية، بدءاً من علاقة الإنسان بربّه وبنفسه، وصولاً إلى علاقته بالكون.

4. بعد الواقعية: القيم التي نادى بها الإسلام ليست قيماً مصطنعة مثالية، إنما هي قيم تلمس الواقع الوجودي والموضوعي، وهي - في الوقت ذاته - واقعیات مثالية، بمعنى أنها ترقى بالإنسان إلى أرفع درجات التكامل الوجودي.

وجدير بالذكر أن السياسة الإسلامية تؤمن بقضية (حكومة القيم الأخلاقية في الغایت وفي الوسائل)... وأن الممارسات السياسية في عهد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) هي التطبيق الحقيقي لمبدأ أخلاقية الغايات والوسائل في أكثر من مجال (19).

إن دعوة الإسلام إلى التزام المبادئ الأخلاقية في التعامل السياسي، ومطلق أنحاء السلوك الاجتماعي، لا تهدف إلى تحقيق مصالح سياسية وإنما هي دعوة قائمة على أساس الإيمان بضرورة تحكيم المبادئ الأخلاقية في الحياة، ومن هنا فإن الالتزام الأخلاقي الذي يطبع السياسة الإسلامية ليس التزاماً نفعياً وصولياً وإنما هو التزام رسالي مبدئي، لا يخضع لحسابات المصالح يجرها أو يطردها، وبالتأكيد أن الالتزام الأخلاقي لا يخلو من عطاءات اجتماعية، وفي صالح العمل الإسلامي (20)، إلاّ أنه لا يرى فيها جوهر القضية

ص: 11

ولا يعتبرها أساس دعوته وحثه على التزام المبادئ الأخلاقية... بل أن المبادئ الأخلاقية يجب أن تُلتزم لواقعيتها وموضوعيتها، وإنسانيتها (21).

وكيفما كان، فإن الوجه الشاخص للقيم النبيلة التي نادى بها الدين الإسلامي هي انطواؤها على مصالح أكيدة ترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً وعليه يكون خرق تلك القيم من خلال غيابها أو تغييبها هو إبطال لمصلحتها الواقعية في زمان ومكان معين، لكنه لا يعني أبداً الخرق للنظام القيمي التكويني الذي يستمد قدسيته من الكينونة الفطرية؛ لذا كانت محاولات الإصلاح وترسيخ مبدأ العود لتلك القيم الفطرية والواقعية حقاً مشروعاً؛ بل ملاكاً للتمييز بين ما هو تكويني وما هو تقنيني (22).

أما التقوى: فهي اتخاذ الوقاية من المعاصي ومزلاتها، وتأخذ معاني متعددة، إلاّ أنها لا تخرج عن كونها طاعة الله والاحتراز من الاعمال المنحرفة، وحماية النفس من عواقبها الدنيوية والأخروية، والطاعة بالاخلاص لله، والحذر وترك كل ما يُدخل في المعصية وما یُبعد الإنسان عن الله عزّ وجل، والتمسك بكل ما يحفظ آداب الشريعة، والاتقاء من كل ما يدخل في أتباع هوى النفس ومعاصيها ومنحرف الأعمال (23).

وليست التقوى كبتاً للنفس، ولا حظراً على الإنسان من الاستجابة لرغبات النفس ومشتهياتها، وإنما هي ضبط النفس فقط على حدود الله من الحلال والحرام، وفرض سلطان الحدود الإلهية على النفس... والتقوى بهذا المعنى معنی ايجابي وهو التمكن من النفس وانتزاعها من سلطان الهوى والشهوات وليس معنىً سلبياً بمعنی ترك الحرام(24).

وهي بهذا المعنى الشوط الأول لحركة الإنسان إلى الله.

ص: 12

مخطط رقم (1)

حركة الإنسان إلى الله (الارتباط بالمحور الإلهي)

التحرر من الأنا الدخول إلى دائرة

العنصر المشترك (الطاعة)

الأداة التقوى الأداة ذكر الله

مخطط مستفاد مما ورد لدى الآصفي، في كتابه رحاب عاشوراء، عن رحلة الإنسان إلى الله، ص 43 - 66.

فإن العقبة الكبرى التي يواجهها الإنسان في حركته إلى الله هي الهوى، قال تعالى:

«... وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (25).

ويقول أمير المؤمنين: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وأَمَّا طُولُ الأمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ) (26).

وكما أن تجاوز الهوى هو المرحلة الأولى والأهم في حركة الإنسان التكاملية إلى الله، كذلك في الاستجابة للهوى السقوط والتردي الكامل للإنسان، ودرجة سقوط الإنسان وانحطاطه الروحي والخلقي تتناسب طردياً مع درجة استجابته واستسلامه للهوى (27)، إذ يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنكم إن أمرتم عليكم الهوى أصمكم واعماكم وأرداكم) (28).

ص: 13

وقد عدّ الإسلام مكافحة (الهوى) الجهاد الأكبر، في الوقت الذي يعد فيه مكافحة الطاغوت الجهاد الأصغر (29).

إن المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام علي هو التقوى(30)، فقلَّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوی (31)، تقوى الله، وقلَّ أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى (32).

وروي عن النبي i أنه قال: (جماع التقوى في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (33)(34).

فالتقوى هي الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها، وهي الإيمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه (35).

فإذا حققت التقوى في نفسك؛ وعیت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تُلمّ به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أني كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حيّة، تعمل بحرارة واخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرتَ في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، وتكون قد حققت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الإسلام... وتعاليم الإسلام صريحة تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (36)... فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع (37).

وقد انطوت مضامين التقوى التي دعا إليها الإمام علي (عليه السلام) في كثير من

ص: 14

کلماته (38) إلى الاتجاه نحو التماسك والانتظام على الحق والطمأنينة والاستقرار والتعاون، وتولید روح الأُلفة والتماسك الاجتماعي، لا من أجل الحياة الزائفة والزائلة، بل استقامة الأفكار والنفس السوية، لإستقامة الأعمال والأنشطة في الحياة الزائلة لحياة أبقى، وبه تكون الاستراتيجيات أبعد وأعمق وأوسع لهدف أسمى ما بعد الدنيا، والكيفية والحتمية استقامة الدنيا، بلا أنانية وضياع الحقوق، وبلا فوضوية تنفيذ الأداء، وبلا بطش ولا خيانة ولا نفاق ولا دجل... الخ، فحث الإمام علي (عليه السلام) على التقوى لكونها صمام أمان اجتماعي - حضاري فاعل، له أهميته في بناء الشخصية للفرد والمجتمع (39).

والتقوى بما تمثله من قمة العبودية لله والسعي نحو مرضاته، فهي من الوسائل المؤثرة لدفع الإنسان المسلم نحو عمارة البلاد، وتحقيق هدف استخلاف الإنسان في الأرض (40).

وإن القراءة المعصومة لسياسة الحكم تتجلى في عهد أمير المؤمنين لمالك الاشتر حين ولاه مصر؛ من خلال تأصيل التقوى وجعلها الملاك الوحيد للحكم والحاكم (41) إذ يقول له: (إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللِّهَ فِي عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ)(42).

فقد دأب الإمام علي (عليه السلام) على أن يصلح ما يفتقر إلى الإصلاح في شؤون الناس (43) ولم تكن سياسته في هذا المجال (شيئاً مرتجلاً اصطنعه لنفسه يوم ولي الخلافة، وإنما كانت خططاً مدروسة ومنتزعة من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي آنذاك، ومعدة لأن تبلغ بهذا المجتمع خطوات إلى الأمام، ومهيّأة لنيل هذا المجتمع المطامح التي كان يحلم بها ويصبو إليها)(44).

إن صعوبات الفترة الزمنية للخلافة، وطلاسمها، وتعتیماتها، وتشويهات الحروب - علاوة على مآسيها - لم تستطع طمس معالم تلك التجربة الرائدة في العدل الإسلامي

ص: 15

والبشري، تجربة علي بن أبي طالب؛ ... مما يدعونا إلى مدّ النظر إلى الماضي البعيد وإلى معطيات تلك التجربة، وإلى المخطط النظري والتطبيقي لعليّ، ذلك المخطط الذي كان فلتةً مثل صاحبه، الذي كان فلتة الإبداع العظيم، التي اغتالها الأهل: الناس أنفسهم (45).

ص: 16

المبحث الثاني عهد الأشتر برنامج حكومي واقعي لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية

أرسل الإمام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (46) أحد صحابته الأجلاء، والياً على مصر سنة 38 ه / 658 م (47) وزوده بوثيقتين على درجة من الأهمية والقيمة التاريخية؛ الأولى: كانت رسالةً موجهةً إلى الناس في مصر تبين فاعلية البناء القيادي الذي كان عليه الاشتر، وتوحي بمسوغات انتخابه من أمير المؤمنين (عليه السلام) ليكون راعياً لهذا الجزء من الدولة، وتوصي هذه الرسالة الناس بطاعته ودعمه لتسهيل ما جاء به من تنظیم اداري وما سيقوم به من أنشطة وفعاليات، وقد جاء فيها: (فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً

مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ ولا يَنْكُلُ عَنِ الأعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَی الْفُجَّارِ مِنْ

حَرِيقِ النَّارِ وهُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ لا كَلِيلُ الظُّبَةِ ولا نَابِي الضَّرِيبَةِ فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لا يُقْدِمُ ولا يُحْجِمُ ولا يُؤَخِّرُ ولا يُقَدِّمُ إِلا عَنْ أَمْرِي وقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَی نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ وشِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَی عَدُوِّكُمْ)(48).

ويظهر من النص المبارك أن الاشتر كان يتحلى بسمات الشخصية المتعددة المواهب والسريعة البديهة، والحازمة، ويمتلك صفة الإقدام والثبات أمام الهجمات والمؤثرات الخارجية دون خوف أو جبن أو نكوص، ويتصف بالوقائية العلاجية على اختلاف الأصعدة، وله قابلية السيطرة على الاتجاهات المختلفة بكل استيعاب وحزم، مما دفع الإمام عليّ أن يخص به مصراً المتميزة بأرضها ومكوناتها الاجتماعية، وأنشطتها المتداخلة، وطلب من المجتمع طاعته ليتسنى له تنفيذ ما مخطط له بروحية جماعية (49).

أما الوثيقة الثانية التي زود بها مالك الاشتر فهي - بلا مغالاة - تمثل لنا الخطبة المتكاملة التي يُحدّد بها هدى الإسلام ما ينبغي أن تكون عليه سيرة المتبوع بين الاتباع،

ص: 17

والياً من قبل السلطة الشرعية الحاكمة، أو امرءاً هيأه وضعه الاجتماعي لقيادة الناس... فهي الخطة الشاملة العامة التي يسعها أن تستوعب في نطاقها كل راعٍ مسؤول من ذوي رأي أو سلطان... وهي الخطة المحكمة التي تبين بجلاء ما يجدر بكل إنسان أن يمتثله في حدود ما أتيح له من نفوذٍ جَلَّ أو هان(50)، أنه اطول عهدٍ كتبه الإمام علي لأحد ولاته في بلدان الخلافة (51)، يشتمل على جملة من التوجيهات والقرارات العامة التي تتصل بمجال التنظيم لعمل أجهزة الدولة والخدمة العامة (52)، مما يصح أن نسميه ب (عهد النظام التدبيري) (53)، واشتهر باسم (عهد الأشتر)(54).

وكما وُصفَ عهد الاشتر بأنه أطول وثيقة كتبها الإمام علي (عليه السلام) لأحد عماله، فقد وصف كذلك بأنه أجمعها لحقوق الرعية (55)، وقد أجمل هذه الحقوق اجمالاً فقال: (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا) (56)، ثم فصّلها بعد ذلك (57):

فأفاض أولاً في بيان وظيفة العسكريين وواجباتهم والسبيل الذي يحسن بالحاكم أن يتبعه للاستفادة منهم.

ثم فصل في جهاز الحكم: الولاة والوزراء والقضاة، فوضع أسس الحكم العادل التقدمي الواعي.

وتكلم بعد ذلك عن الزراع والتجار والصناع والفقراء، فبيّن حقوقهم على الحاكم من توفير المجالات لهم، وإعداد أحسن الفرص لنجاحهم في أعمالهم.

ثم تحدث عن حالة البلاد العمرانية فأفاض في الحديث وبيّن خطورة هذه الناحية في أمن الرعية ورفاهها واطراد تقدمها (58).

وقد اجتهد بعض الباحثين لبيان السبب الذي حمل الإمام علي (عليه السلام) على كتابة هذا العهد بهذه الصورة من البسط والتفصيل، فأرجعوا ذلك إلى أن مصر بلاد

ص: 18

عريقة في التنظيم المجتمعي والحضارة منذ عشرات القرون، وأن تقاليدها في السياسة والإدارة عريقة في القدم، وأن مجتمعها الأصلي، مجتمع مكتمل التكوين في عاداته وتقاليده وفئاته الاجتماعية،... ومن المعلوم أن هذا الواقع يستدعي ملاحظة جميع وجوه حياة المجتمع وأنشطته، وتركيبه الداخلي، وتفاعلات القوى الاجتماعية في داخله؛ لأجل وضع خطوط کبری ثابتة في سياسة هذا المجتمع تؤمن له الاستقرار والازدهار من جهة وتنقله من جهةٍ أخرى برفق من مناخه الثقافي القديم إلى المناخ الثقافي الجديد... وفقاً لمبادئ الإسلام وتشريعاته (59)، كما أن إطالة الخطب ضرورة تفرضها الحاجة أحياناً، وكذا الكتب، وبخاصة ذات المناهج الموضوعة للحكم، فالإمام علي (عليه السلام) والذي جاء بظروف ثورية جاءت على اعقاب تردي الأوضاع، واستهتار من الحاكمين بشعوبهم، وبخاصة الولاة، لا يمكن أن يترك لولاته الأمر يتصرفون به كيف يشاؤون، وإن كانوا من الحنكة والحزم والعدالة كمالك الاشتر وغيره. وكأن الإمام (عليه السلام) أراد لشعبه أن يكون رقيباً على تصرفات الولاة برسم مناهج للحكم يحاسبون لها من قبلهم، فرسمها لتُقرأ على الرأي العام - أولاً - ولتكون مرجعاً للحساب مع الولاة - ثانياً -، ومثل مالك الاشتر مهما قيل في حَذقه السياسي فهو يحتاج إلى ارشاد الإمام (عليه السلام) وتوجيهه في جملة تصرفاته (60).

وإن الاغراض الإدارية والسياسية والاقتصادية التي جاءت في العهد العلوي الذي حرره أمير المؤمنين لعامله الأشتر سنة 38 ه / 658 م لا يزال آية من آيات التفكير العربي ومعجزة من معجزات الثقافة الإسلامية العالية على كر الدهور وتعاقب الأجيال (61).

إذ أن الجانب الأخلاقي والقيمي لهذا العهد قد طبع جميع نصوصه وفصوله بحيث أصبح كل جانب من جوانبه وكل فقرة من فقراته تشع بالبعد الأخلاقي المتميز؛ لأن الأخلاق ليست مفاهیم مجردة عن الواقع، فهناك الأخلاق السياسية، والأخلاق الاقتصادية، والأخلاق على صعيد المجتمع في آفاقه ومجالاته المختلفة، كل ذلك من أجل

ص: 19

إحياء القيم الحضارية والمثل العليا التي يجب أن تحكم الحياة والإنسان (62).

وقد كانت محاولة الإمام علي (عليه السلام) لتطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة الإنسانية على المجتمع في سبيل بناء الإنسان المتكامل، وكانت هذه المحاولة هي همّه الكبير كقائد رسالي بعد رسول الله i.

لقد فكر الإمام علي - بوصفه حاكماً عادلاً - في المجتمعات التي حكمها، وفي أفضل الطرق والوسائل التي تنمي حياتها الاجتماعية وترتفع بها إلى الذروة من الرفاهية والقوة والأمن، مع ملاحظة أنها تدين بالإسلام وأن شؤون اقتصادها، وحربها، وسلمها، وعلائقها الاجتماعية، تخضع لقوانين الإسلام، وأنها يجب أن تأخذ سبيلها إلى النمو في إطار إسلامي بحت (63)، وكان (عليه السلام) راغباً بشدة طيلة فترة ولايته ببعث نموذج قيمي وروحي تعلمه من النبي محمد i وتلمسه في مجتمع المدينة (64).

ولذلك وضع الإمام علي بين يدي واليه على مصر مالك الاشتر خلاصة تجارب الحكم الإسلامي خلال أربعين عاماً، واخرج معها عُصارة تجارب الحكومات السابقة واللاحقة، وحشر جميع تلك التجارب في نسق منتظم وعلى صورة قطعة أدبية هي من أروع ما أنتجه الفكر البشري من فنون الحكم والإدارة؛ فهو لا يضع بين يدي واليه نظرية يمكن أن تُصيب أو تخطئ بل يَنصب أمامه قواعد في الحكم هي أقرب ما تكون ب(فن الحكم) منها ب(نظرية الحكم)... فهو يوازن في كل قاعدة من قواعد الحكم بين مصالح الأمة ومصالح الدولة، ويأخذ بنظر الاعتبار حق الوالي وحق الرعية، ويرسم كل تلك القواعد بأُفق الماضي والحاضر والمستقبل، وتُطرح جميع تلك الأفكار والقواعد من زاوية قرآنية منسجمة تماماً ومتطلبات الواقع؛ فكل كلمة قالها الإمام في هذا المضمار حرص أن تأتي منسجمة مع القرآن ومع روح الرسالة الإسلامية (65).

إن القيمة الاعتبارية لمجمل تقریرات الإمام علي (عليه السلام) وتوجيهاته في الجانب السلوكي العام من عمل التدبير القيادي في الفترة القصيرة لتولية مسؤولية الدولة وما

ص: 20

صاحبها من مواجهات مستمرة لأعدائها، والمرتدين عن منهجها، وقد مثل ذلك الحالة الأكثر تعقيداً، والأكثر وضوحاً في الوقت ذاته لِتَقابل الاعتبارين الايجابي والسلبي في سلوك الناس، وقد تجسدت خلال ذلك مواقف الحزم والجرأة، وثبات الإرادة والموقف العقلاني للإمام (عليه السلام)، وهو ما يؤشر حالة معتبرة من سكينة النفس واستقرارها على الحالة الايجابية عند الإمام (عليه السلام) تمثلت في قراراته وتوجيهاته لأُولي الأمر خاصة، ولشعبه وأُمته عامة، ولم يشهد عهد من العهود الإسلامية مثل ما قد صاغ الإمام علي (عليه السلام)، وانجز من ذلك وهو في الذروة من المسؤولية الكبيرة والمعقدة، وقد مضى في مجالات التحديد للعلاقات المتكافئة والمتوازنة لمتولي الشؤون العامة، ولما ينبغي من إدراك الغاية في الوقوف على احتياجات الناس ورغباتهم والسعي لتحقيقها من منطلق المسؤولية العامة والتي كان يُلحّ عليها إلحاحاً لم يسبق لقائد أن ألحَّ عليها ومضى في متابعتها كمثل ما قد فعل (66).

ولم تكن العلاقة بين أفكار عليّ وتطبيقاته، ذات بُعد زمني تتخلّله مؤثرات متعددة، تفرض على التطبيق مساراً آخر لا صلة له بالأفكار؛ ذلك لأنه كان يقرن الفكرة بالممارسة فوراً، نظراً إلى طبيعته الشخصية التي كانت كذلك، فهو لم يعتمد المسافة بينه وبين نفسه، بما يكفل له القدرة على التأجيل - تأجيل بعض آرائه - أو المناورة، أو المداورة، أو التخلي، استجابةً لضغط بعض المقتضيات أنه - بسبب طبيعته - كان يقرن النظرة، بالفكرة بالممارسة، ويجعل لرابطة الفكر والعمل ينبوعاً متدفقاً يغني الآراء والأفكار على حد سواء، ويغني تجربة المجتمع بالمكشوف المباشر (67).

إن الإمام علي في عهده العظيم إلى مالك الاشتر قد وضع الأسس المتينة لانشاء جهاز حكم يعمل للشعب وللشعب فقط، غير ملقٍ بالاً إلى منافع طبقة خاصة تسعد على حساب الشعب وتنعم بجهوده(68).

فكانت المنظومة القيمية العلوية منظومة عقيدية تشريعية تُصان فيها الحقوق والقيم

ص: 21

من الانتهاك، وتتضمن التوعية لمفاهيم العدل والحرية والمساواة وتقدير الإنسان لقدراته الذاتية وتنميتها، وبالتالي مواجهة التسافل الإنساني والطغيان البشري عبر حركة منظمة قوية واعية لهدف الاستخلاف واستعمار الأرض فهذه المنظومة تجديد لروح الإنسان، ووعيه بذاته في اطار حركة المجتمع والتاريخ.

وقد كان الإمام عليّ في إدارته للدولة وتدبير شؤونها ينطلق من فلسفة قرآنية إسلامية خاصة في الإدارة، فمع كون الإدارة في الإسلام تشترك مع المفهوم العام للإدارة في معظم عناصرها لكنها تنفرد عنها بالبعد الديني والعقدي الذي ينبع من نظرية الاستخلاف الكبرى في الإسلام، فالإدارة الإسلامية لا تقتصر على تدبير الأعمال العامة وإنما ترتبط أصلاً بالغاية التي وجد المسلم لها وهي عبادة الله وطلب رضاه والانخراط في مشروع الاستخلاف وعمارة الكون، وهي في الإسلام عبارة عن طاعة جماعية منظمة تشترك فيها جميع مكونات المجتمع وأفراده وهيئاته، وهذه الصفة الجماعية تجعل نجاح الإدارة في اجواء الفرقة والخلاف وتفشي الروح الفئوية والأنانية في المجتمع عملاً مستحيلاً وضرباً من ضروب الخيال (69).

فالأسلوب التنظيمي الذي اتبعه الإمام عليّ (عليه السلام) من أعمق وأدق الأساليب التنظيمية الفعالة والرافدة لحقيقة الوضع البنائي الفكري والنفسي والسلوكي للإنسان، ومستقبله ولأجيال قادمة، واتخاذ التنظيم القويم بأوجهه المختلفة سبيلاً، كما هو عليه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي والأمني والثقافي والحضاري وبنظرة أعمق في أمور الدين والدنيا، على مختلف المديات (70).

ص: 22

المبحث الثالث ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الاشتر

انطوى عهد الإمام عليّ للاشتر على نظرة فلسفية شاملة للحياة والإنسان والتاريخ، واحتوى على العديد من الأفكار والمبادئ والقيم الإنسانية، والمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية (71).

بل أن توجيهاته (القيميّة) في هذا العهد الشريف لل(راعي) في الدولة الإسلامية يمكن أن تكون (نظرية إدارية راسخة لا تتعارض مع مختلف الأديان والحضارات (72).

ويُفسر هذا التركيز من أمير المؤمنين (عليه السلام) - في عهد الاشتر - ببناء رعاة الدولة وحكامها (ولاتها) قيمياً وأخلاقياً؛ بأنهم الجهة التي تتولى تنفيذ والاشراف على تنفيذ الدستور الإسلامي (القرآن والسُّنة النبوية) وما يتصل به من قوانين وإجراءات من جانب، وهم الجهة التي ترعى وتدير وتنظم أمر المجتمع بطبقاته وعلاقاته المختلفة من جانبٍ آخر.

وقد حرص الإمام عليّ على تربية وإعداد الراعي الذي يتصدى لإدارة الشؤون العامة على وفق المعايير التقوائية والأخلاقية، وكان مدار برنامجه هذا بناء علاقات الراعي الأساسية قيمياً، وتنتظم هذه العلاقات في شعبٍ خمس هي:

1 - علاقات الراعي مع الله.

2 - علاقة الراعي مع نفسه.

3 - علاقة الراعي مع الرعية عامة.

4 - علاقة الراعي مع أعوانه وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة.

5 - علاقة الراعي مع العدو.

وفيما يأتي بيان لهذه المحاور:

ص: 23

المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع الله:

ويكون تنظيمها على أساس أنها علاقة ارتباط وعبادة وطاعة، ومعنى الارتباط بالله أن يجعل الإنسان وجه الله تعالى هدفاً له في كل أعماله وتصرفاته، ويُخلص له في كل أعماله، ويجعل مرضاة الله محوراً ثابتاً لكل حياته وتصرفاته، وأن يدخل بشكل كامل في دائرة ولاية الله فلا يكون له رأي أو حكم، أو هوى أو حب، أو بغض، أو عمل أو حركة، أو كلمة، في غير ما يحكم الله تعالى ویرید... والأداة المفضلة والمؤثرة في تحکیم وتوثيق هذا الارتباط والصلة بين العبد وربه، وربط الإنسان بهذا المحور الرباني في الحياة وإخلاص عمله وجهده لله تعالى هو الذكر، إذ هو استحضار لسلطان الله وحضوره الدائم، وهذا الاحساس والوعي لحضور الله يعمق في النفس حالة المراقبة الدائمة والانتباه الدائم ويحجز الإنسان عن الإنزلاق مع الشهوات والأهواء إلى معصية الله (73).

فقال الإمام علي (عليه السلام) للأشتر: (وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ واجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ اللِّهَ أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وأَجْزَلَ تِلْكَ الأقْسَامِ وإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلِّهَ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ)(74)، فإن أعمال الإنسان كلها إذا قُصد بها وجه الله، وتضمنت النفع للناس يمكن أن تكون عبادة لله تعالى. وأوصاه بأن يحافظ على نشاطه الروحي، وأن لا يهمل في ذلك أو يتسامح، وأن لا تشغله مهمات الحكم عن الاتصال بالله في كل وقت يمكنه ذلك (75) فقال (عليه السلام): (ولْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ للهِ دِيِنَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِيِ هِيَ لَهُ خَاصَّةً فَأَعْطِ اللهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ ونَهَارِكَ ووَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اللهَ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ ولا مَنْقُوصٍ بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ)(76)، فالصلة الدائمة ب الله عن طريق العبادة هي التي تنمي في الإنسان الضمير الديني الذي يمنعه من البغي والظلم(77).

ص: 24

ومن مؤشرات الارتباط بالله، القدرة على ضبط النوازع الذاتية، وربطها بمشيئة الله ولذلك أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإليه على مصر مالك الاشتر ب (بِتَقْوَى اللَّهِ وإِيْثَارِ طَاعَتِهِ واتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وسُنَنِهِ الَّتِي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلا بِاتِّبَاعِهَا ولا يَشْقَى إِلا مَعَ جُحُودِهَا وإِضَاعَتِهَا وأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ ويَدِهِ ولِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ)(78).

إن التقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى وخشيته سر النجاح وتجاوز الفساد والإفساد في إدارة المنظمات الإنسانية سواء أكانت عامة أم خاصة؛ فالتقوى تمثل المحور المركزي في إطلاق فاعلية الفرد والجماعة نحو تحقيق الأهداف العامة أو الخاصة برؤية صادقة وثقة مطلقة قاعدتها الفكرية والفلسفية متوازنة في اعتماد روح التقوى ومخافة الله وخشيته في السر والعلانية، لذا فإن التقوى تُعد الوظيفة الأولى والأساسية التي ينبغي على الراعي أن يلتزم بها سلوكياً ويعتمدها في التعامل مع الآخرين على وفق سياقات هادفة إلى تدعيم البناءات القيمية للمجتمع، وأن التقوى التي ينبغي أن يعتمدها الوالي بالتعامل تستند في رؤية الإمام علي (عليه السلام) على وفق قاعدتين رئيسيتين هما:

أ. إتباع ما أمر الله به في كتابه الكريم الذي يشكل الاطار الفكري والفلسفي للعقيدة الإسلامية ومادته الأساسية.

ب. سنة النبي الكريم التي تشكل الاطار التنظيمي عملياً وسلوكياً لرؤيا الإسلام الحنيف (79).

ولابد للحاكم المتصدي لقيادة الأمة أن يكون مستقيماً في سلوكه، ثابتاً في نهجه، ورعاً في أحكامه وتصرفاته، محتاطاً في قضايا الناس وأمورهم، وأن ينصر الله في كل حركة من حركاته، أي أن ينصر دين الله، ويشفق على عباده بقلبه، وعزيمته، ويده، وقوته، ولسانه وكل جوارحه (80) فإن نصرة الله هي تحقيق إرادة الله في المجتمع، وذلك بالسعي إلى بناء

ص: 25

مجتمع تسوده العدالة والطمأنينة والرحمة (81).

والارتباط بالله، وحسن عبادته، والاستقامة في السلوك يقود الراعي حتماً إلى طاعة الله وإقامة حدوده، فيكون بمنأى عن مخالفة الشريعة بالظلم والجور وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين ب(حرب الله) فقال للاشتر: (ولا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللِّهَ فَإِنَّهُ لا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ ولا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ ورَحْمَتِهِ) (82).

المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه:

وقد أكد الإمام عليّ على تنظيمها على أساس (التقوى) التي تشكل رقيباً داخلياً يُقوّم سلوك الإنسان عن الافراط في الزيغ والانحراف، وعلى أساس (سيطرة العقل) على الأهواء والشهوات والعواطف والميول والرغبات، فإذا تمادى الإنسان في إتباع هواه وغرائزه ورغباته الجامحة، وأطلق لنفسه عنان الشهوات، بعيداً عن التعقل والتقوى، فقد يصل الأمر به إلى الخروج عن دائرة الإيمان (83)، فصدر توجيه أمير المؤمنين لواليه الاشتر (وأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ اللَّهُ) (84).

إن الحاكم محكوم بشهواته، وجمحات نفسه، وعليه بحكم المسؤولية الكبيرة التي يقوم بها أن يتجاوز شهواته وعواطفه وأن يتعالى على نفسه ليستطيع أن يمارس مهمة الحكم بجدارة (85).

وإن سياسة النفس عند الإمام عليّ هي منطلق لنجاح الحاكم، وهي من واجبات من ينهض لقيادة الأمة، فيدرك بها مقومات السياسة العادلة، فتسقط حُجج الرعية في المعارضة وتثبت حُجة الحاكم بعدالته وكفاءته على شعبه (86).

ص: 26

فالسلطة وظيفة ربانية، وهي في الإسلام إمامة عن الأمة، أي أن يكون في مقدمة الناس في كل الصفات الخيّرة (87)، (ومَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ للِناَّسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيِمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ ولْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ ومُعَلِّمُ نَفْسِهِ ومُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ ومُؤَدِّبِهِمْ)(88) كما يقول الإمام علي (عليه السلام).

فلا يكون صلاح الرعية بما فيهم الموارد البشرية ضمن كل المستويات التنظيمية داخل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، إلاّ بصلاح القائد أو الوالي، وهو الوجه والقوة الحازمة والمؤثرة والفاعلة والمهمة للحيلولة دون ظهور الفساد بكل أشكاله، ومنه الفساد الإداري والمالي (89).

ومما ينبغي ذكره أن ممارسة السلطة - بحد ذاتها - إغراء بالتسلط، وهو إغراء ليس وهمياً، بل قائم في الممارسة والفعل، وأن مجموعة القوانين والمراسيم والتعليمات والأوامر الإدارية، ومجموع الأجهزة الإدارية والشرطة، ودوائر الموظفين والجباة وغيرهم، تخلق انموذج السلطة الآمرة(90)، ولذلك شخص الإمام علي (عليه السلام) امكانية طغيان الراعي، فقال للاشتر: (ولا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ)(91).

فالاغترار بالسلطة يؤدي إلى إفساد فعل الراعي وانحرافه اخلاقية ودينية، ويكون بدايةً لنشوب مشكلات الصراع الاجتماعي، وتبدل الدول (92).

إن نزعة التسلط أمر تشجعه أُبهة السلطة وعظمتها من جهة، وبطانة السوء من جهة أخرى، فأُبهة السلطة تورث المخيلة، والإعجاب بالنفس، وِحدة الطباع، والانغماس في لذة هذه الشهوة، وبطانة السوء التي تكثر وتبالغ في الثناء بالباطل - تقرباً إلى السلطان - تُحدث زهواً في نفسه، وتَزيّداً في فعله، يدنُيه من الطغيان والبغي، فالإمام عليّ وهو يشخص هذه المغريات لا يفوته أن يحذر الراعي منها، ويصف له الدواء الناجع

ص: 27

بقوله: (وإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَی مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ ويَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ ومُسَامَاةَ اللِّهَ فِي

عَظَمَتِهِ والتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ ويُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ) (93).

(وإِيَّاكَ والإعْجَابَ بِنَفْسِكَ والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ الإطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ)(94).

وقال له بعد أن أمره بنبذ بطانة السوء، وتقريب أقْوَلَهم بمُرّ الحق: (والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلا يُطْرُوكَ ولا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الإطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ)(95).

ص: 28

مخطط رقم (2)

غرور السلطة

مظاهر الداء

الأبهة والكبرياء الخيلاء والعُجب جده الطباع الثقة الفارغة حب الاطراء

آثار الداء

افساد القلب اضعاف الدين بتغليب الهوى الاستبداد والطغيان والبغي

ظُلم

زوال المُلك

مخطط يبين أثر الاغترار بالسلطة في زوال المُلك على وفق ما ذكره الإمام علي (عليه السلام)

فمن عظمة الفكر وصلابته العقائدية أن نرى تجسيداً رائعاً في تدعيم التواضع والتنديد بالغرور والكبرياء والترفع على الرعية والمرؤوسين وهذا التأطير الفلسفي والعقائدي يتجلى بوضوح من خلال مقارنة المرء بعظمة الله وقدرته، إذ أن الراعي مهما تعاظمت قدراته وقابلياته فإنه ينبغي أن ينظر لعظمة الخالق القدير عزّ وجل حتى لا

ص: 29

يعزب عنه رشده وعقله ويتواضع إجلالاً لله خالق الكائنات وصاحب السطوات (96).

ولا يختلف الولاة عن الرعية، في كون الاثنين بشراً يُصيبون ويخطئون، لكن خطأ الوالي أكبر ضرراً، وأشدّ مفعولاً، لأنه يُلحق الضرر بالمحكومين بأكبر نسبة منهم كذلك فإن خطأ الوالي مرئي من قبل الناس وقد ينظرون إليه بعين المبالغة، فتكون لتلك المبالغة تأثيراتها المضافة، فمَنْ يُلزم الوالي بعد هذا من عدم الانجراف في التسلط والإكراه والمغاضبة والعدوان؟ ومن يستطيع أن يقاوم نشوء بطانة السوء أو يحد من نشاطها السلبي؟ أن الوالي نفسه يستطيع ذلك عبر شيئين متلازمين:

أولهما: أن يملك نفسه عن الهوى، ويضعها في خدمة العمل الصالح.

وثانيهما: أن تكون محبته للرعية حقيقية، طبيعية، ثابتة، لا محبة شعار، أو محبة مصلحة، أو محبة مرحلة(97).

فجاء توجيه أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك: بأن يكون (أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ)(98).

إن الإمام علي (عليه السلام) يرفض الحكومة بصفتها نظاماً دنیوياً يشجع غريزة حب الجاه والتسلط في الإنسان، بل يعرّف الحكومة بأنها هدف للحياة، فهي لا تساوي في نظره شيئاً إذا لم تُحقق الهدف (99)، والهدف هو غايتين ترتبط احداهما بالأخرى وهما إحقاق الحق ومواجهة الباطل (100)، وأن وعي حقيقة السلطة، وإدراك وظيفتها على هذا النحو من الإدراك يمنع الحاكم من الاغترار بها ويحول بينه وبين الاتجاه بها إلى جانبي الاستئثار والاستبداد(101).

ص: 30

فالإمام علي (عليه السلام) يشجع رقابة الوالي على نفسه تارةً ضمن الشعور بالرقابة الإلهية، وتارةً من أجل حماية وصون الذات من الانحراف في الأداء، فيبني الردع الذاتي على وفق حاسب نفسك بنفسك (102)، وتارة ضمن الشعور بالرقابة الشعبية (وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيِهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ويَقُولُونَ فِيِكَ مَا كُنْتَ

تَقُولُ فِيهِمْ وإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ)(103).

المحور الثالث: تنظيم وبناء علاقة الراعي مع الرعية:

ترتكز فلسفة الحكم في الإسلام على معرفة التركيبة الاجتماعية لأفراد المجتمع وتطلعات الرعية على جميع الأصعدة؛ بغية تقليص المسافة بين الراعي والرعية، إذ لا شكّ في أن استحضار المعية الإلهية تبرّز جلياً من خلال القرب المادي والمعنوي بين الحاكم والمحكوم، وتكون ملاكاً لصلاح أمرهما، وبالعكس كلما كبرت الهوّة بينهما دَلّ ذلك على فتور استحضار تلك المعيّة التي تُكوَّن العامل الأساس في ظهور الفساد بجميع مستوياته (104).

فالدولة عند الإمام علي (عليه السلام) کیان تدبيري عام تنبثق فيه المسؤولية من الإرادة العامة للمجتمع (الرعية)، وتحدّد وظائف الدولة وسلطاتها والتي يتولاها المسؤول العام (الراعي) طبقاً لمبادئ الدستور (الشريعة)، وتكون العلائق في ذلك تضامنية، وقد جسد الإمام (عليه السلام) وفي الفترة التي ولى فيها المسؤولية العامة في الدولة، الدور الاجتماعي العام وفي معادلة تكافأت فيها الحقوق والواجبات ما بين الدولة ومواطنيها، وتجسدت فيها آفاق ومعالم الفكر والنشاط التدبيري المثابر (105).

وقد عبّر الإمام (عليه السلام) عن ذلك الدور المسؤول للعلاقة ما بين الدولة

ص: 31

ومواطنيها في تطبيق القوانين، واستقرار الدولة بقوله: (فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَی الْوَالِي حَقَّهُ وأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ واعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وجَرَتْ عَلَی أَذْلالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ ويَئِسَتْ مَطَامِعُ

الأعْدَاءِ) (106).

ويبيّن النص أن آثار هذه العلاقة ونواتجها ينسجمان بدقة مع طبيعتها واتجاهها، کما يدل عليه التفصيل الآتي (107):

أ. الآثار:

1 - أثر قيمي: (عزّ الحق بينهم).

2 - أثر دیني: (وقامت مناهج الدين).

3 - أثر سیاسي - أخلاقي: (واعتدلت معالم العدل).

4 - أثر اجتماعي: (وجرت على اذلالها السنن).

ب. النواتج:

1 - ناتج اجتماعي - تاريخي: (فصلح بذلك الزمان).

2 - ناتج سياسي - نظمي: (وطُمع في بقاء الدولة).

3 - ناتج أمني - عسكري: (ويئست مطامع الأعداء).

وبذلك يجعل الإمام علي (عليه السلام) التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم الأساس الذي يتكئ عليه الكيان الاجتماعي وبالشكل الذي يضمن علاقة عادلة بين الطرفين.

والرعية عند الإمام علي (عليه السلام) جزءٌ مكمل للراعي، فلم نجد استعمالاً للكلمة منسلخة عن الراعي، إذ لا رعية بلا راعٍ، كما وأن لا قدرة للراعي أن يعمل شيئاً

ص: 32

بدون الرعية، وهناك حقوق متبادلة بينهما، وتشكل هذه الحقوق نظام العلاقة المتينة بين القاعدة والقمة (108)، يقول الإمام علي (عليه السلام): (وأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ

تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَی الرَّعِيَّةِ وحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ

لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وعِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلا بِصَلاحِ الْوُلاةِ ولا تَصْلُحُ الْوُلاةُ إِلا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ)(109).

أما حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها، ولا تلبي دعوته إذا دعا، أو حين تفعل ذلك كله ولكن الوالي يستغله في رعاية مصالح نفسه، ويهمل مصالح رعيته فإن ذلك مؤذن بشیوع الظلم وسيطرة الظلمة وفساد الدولة (110).

(وإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وكَثُرَ الإدْغَالُ فِي الدِّينِ وتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وعُطِّلَتِ الأحْكَامُ وكَثُرَتْ عِلَلُ النُفُّوسِ فَلا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيِمِ حَقٍّ عُطِّلَ ولا لِعَظِيِمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُناَلِكَ تَذِلُّ الأبْرَارُ وتَعِزُّ الأشْرَارُ وتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللِّهَ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ

وحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ)(111).

وعلى أساس هذه المقدمة السياسية والاخلاقية العميقة التي انطلق منها الإمام علي (عليه السلام) في تصوير العلاقة الحقوقية المتوازنة بين الحاكم والمحكوم، فإنه رأى أن التكامل الحقوقي المبني على الحق والحق المقابل هو الأساس الوحيد الذي يضمن التناسق الاجتماعي بين أفراد الأمة ومجموعاتها من جانب والسلطة القائمة من جانب آخر، وأن اختلاف كلمة الأمة وظهور معالم الجور بينها ليسا إلاّ نتاجاً لتهشم العلاقة بين السلطة والمجتمع وهبوطها إلى أدنى مستوى ممكن، ومن ذلك يتبين حجم الدور الذي يمكن أن تلعبه السلطة في صيانة الواقع الاجتماعي العام وتلبية مطالبه(112).

ص: 33

وفيما يأتي نورد أهم المعايير القيمية والأخلاقية والتقوائية التي اهتم الإمام علي ببناء علاقة الراعي بالرعية على هديها:

1 - تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية على وفق معيار الحق، واحترام دستور الدولة.

ويتضمن هذا المعنى التزام الراعي أولاً برد ما يضلعه من الخطوب، ويشتبه عليه من الأمور إلى الله ورسوله والأخذ بمحكم كتابه، وسنة نبيه الجامعة غير المفرقة (113)، فضلاً عن السيرة العملية للحاكم العادل الذي كان قبله، فإنها محترمة ومرضية عند الله وعند الناس، وشرط عليه في العمل بما شاهده من عمل وتطبيق الإمام علي (عليه السلام) للقوانين على موضوعاتها، ليأمن من الاشتباه في التفسير وفهم المقصود، ومن الخطأ في التطبيق (114) إذا ردَّ الأمور إلى هواه؛ فقال: (والْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ

تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا i أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللهَ فَتَقْتَدِيَ

بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ... لِكَيْلا تَكُونَ لَكَ

عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا)(115) فلن يعصم من السوء ولا يوفق للخير إلاّ الله تعالى.

ولا شك أن شخصية الإمام عليّ هي مرجعية نافعة ومنقذة إذا ما أراد الراعي أن يتلمس على هداها معالم النظرية الإسلامية القرآنية - فكراً وتطبيقاً - في شروط ومباني الاجتماع والحضارة وإقامة الدولة وحقوق المواطنة لاشتمالها على ركنين رئيسيين هما(116): الأول: الأساس المعرفي والفكري في كل نظرية، وتمثل ذلك بما جادت به شخصيته من أفكار وأصول نظرية محكمة وغنية وواضحة ضمتها خطبه وأقواله حول مفهوم الدولة والمواطنة - الراعي والرعية -بغزارة لا نجدها عند غيره من أبناء هذه الأمة... وتعد تلك الأفكار تفسيراً وتعضيداً للأصول والمبادئ النظرية التي جاء بها القرآن

ص: 34

الكريم، ف ((عليٌّ مع القرآنِ والقرآنُ مع عليّ لن يتفرّقا حتى يردا علىَّ الحوض)(117) کما اخبر رسول الله i.

الثاني: وهو التطبيق العملي لتلك الأفكار والأصول النظرية، فقد قدمت لنا سيرته الشريفة بجميع أدوار حياته تطبيقات عملية مخلصة وفريدة لما رسخ في ضميره من مبادئ أصيلة أخذها من القرآن الكريم، ومن طول صحبته لرسول الله i وملازمته إياه، وقد أكد ثباته على تلك المبادئ مع اختلاف ظروفه التي مرَّ بها، أكد أصالتها وصلاحيتها للتأسيس من جهة وإخلاصه في تبنيها من جهة أخرى. ولذلك كله نفهم وصية الإمام علي للاشتر خاصة ولكل راعٍ باقتفاء أثر سيرته المباركة، والاقتداء بسنته العادلة بعد كتاب الله وسنة رسوله، فبذلك يصل بالأمور إلى (أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ)(118).

ودعا الإمام علي في هذا الاتجاه إلى أن تتوثق رابطة الراعي برعيته على أساس التزامه الصارم - أمام الرعية - بتطبيق القانون والحق بلا محاباة، إذ قال: (وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ

الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ وكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ

وابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ) (119). وبذلك يكون الحق معیار السياسة لديه في كل ما يتصل بها ويمت إليها بصلة، وأشار في السياق نفسه إلى أنه لا شيء يبرر للراعي انتهاج سلوك مضاد للحق في سياسته مع الرعية بأي عنوان کان وتحت أية ذريعة(120).

ص: 35

2 - تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية على وفق معايير الانصاف، والعدالة، والمساواة. أ. الانصاف:

وفيه يقول موجهاً الاشتر: (أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلا تَفْعَلْ تَظْلِمْ ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ ومَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لَّلِهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ) (121).

فإن بناء الأخلاقية الإنسانية للراعي تبدأ من المقدرة والعفو والانصاف، وبناء عدالة التنظيم والتوزيع والمساواة في الحقوق والواجبات، كل على قدر واجباته وقدراته، مما يبني أواصر المحبة ووحدة القلوب بين القائد ورعيته والعاملين بأمرته، وتواصل تقییم وتقویم كل الاتجاهات والسلوكيات في ذكر الله تعالى والشعور بقدرته، الواقي والرادع لجموح الظلم لدى الإنسان، ولاسيما الحد من تمادي الشخص القيادي بسلطته وجبروته، والحد من تمادي ما دونه ممن هم أدني في تسلسل السلطات والمخولين بالصلاحيات، مهما كان قربهم الاجتماعي أو النفسي من الرئيس أو القائد الأعلى (122).

والانصاف والعدل عند الإمام علي حالة نفسية تنطلق من الجوارح أولاً، فلابد للراعي من أن يبدأ بنفسه أولاً، فيعدل بين نفسه وبين الناس، وبين نفسه وبين الله، وفي المرحلة التالية يعدل بين الناس وبين اقرب الناس إليه، فعندما لا يرسو الانصاف على شاطئ النفس أولاً لا يستطيع أن يتحرك ليسود المجتمع، فتكون النتيجة هي انتشار الظلم (123).

فبالاضافة إلى كون الانصاف من مبادئ الدين، فإن له فوائد اجتماعية جمّة منها نزع الحقد وإطفاء النائرة وتشجيع المعاندين والمتغطرسين على العودة عن غيّهم، وهذه المكاسب كم فيها من صلاح ونجاح للمجتمع؟ (124)، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله: (الانصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف) (125).

ص: 36

ب. العدالة:

وهي احترام حقوق الآخرين واعطاء كل ذي حق حقه(126)، والعدل السياسي في فلسفة الإمام علي الحكمية والسياسية أوسع من الأرض، فهو أساس الحكم، وبه قوام العالم، وفرح الرعية، وخصب الزمان، والعدل فضيلة السلطان، وجُنّة الدول، وطريق اعمار البلاد، وإصلاح الشعوب، واستمرارية الملك... هذه المضامين هي عناوین حکم علوية (127) ترسم صورة واضحة للعدالة، بمداها الوسيع، فهي أوسع من الأرض بل روح الأرض والحياة (128).

ويرتبط العدل عند الإمام عليّ مع أصله الايماني إلى المستوى الذي يكون التعبير الأبرز عنه أن يكون (رأس الإيمان وجماع الاحسان) (129)، ومنه يتبين أن العدل يحتل مرتبة الصدارة بين قيم الإيمان إلى الحد الذي لا تدانيه قيمة أخرى؛ وما ذلك إلاّ لأنه المبدأ الذي ينبغي أن تتشكل علاقة الإنسان بكل الوجود بموجبه (130).

لقد حرض الإمام علي (عليه السلام) أصحاب المسؤوليات بل أغراهم بالعدل، ليكون زينةً لهم، وفضائل تجعلهم جديرين بمراكزهم، فالراعي هو المصدر الذي يفيض عنه العدل أو الظلم في مملكته أو ولايته وبقدر قوة هذه العدالة وشموليتها تزدهر البلاد ويتطور عمرانها (131).

فتارةً يوجه الإمام علي الاشتر لتكون (أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ) (132) فمن العمل الصالح الرغبة الدائمة في منح كل شخص ماله، وإيقاف الإنسان عند حده، واعطاء كل ماله بمقتضى القواعد التي رسمها القانون، وذلك هو إقامة العدل، وذلك من أهم قواعد الأخلاق التي تحتم بقاء الحقوق في يد أصحابها وصونها من العبث، وخير فعال لتحقيق الحرية والمساواة إنما هو العمل الصالح؛ إذ هو من أبرز الآثار لعدالة النفس وأسطع صفات العدالة الاجتماعية (133).

ص: 37

وتارةً ينبه إلى أهمية هذا المبدأ (ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ) (134)، فمعیار الحق والعدل ورضى الناس هي القاعدة التي ينبغي أن ينطلق منها كل راعٍ في رسم سياساته في مختلف شؤونه التنفيذية، والحصيلة هي انتشار العدل (135).

لقد جعل الإمام علي (عليه السلام) أُسساً موضوعية للعدالة التي ينبغي أن يطبقها الراعي على رعيته فمنها:

أ. التساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع.

ب. إدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء.

ج. التساوي في مجال إجراء العدالة.

أ. التساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع:

كان من أولى مهمات الإمام علي (عليه السلام) هو إلغاء التمايز الطبقي والعرقي بين الناس، إذ إن مكانتهم في الدولة والمجتمع تحددها خدماتهم التي يقدمونها، ومدی التزامهم بالأنظمة والقوانين، ... ولهم - قبل ذلك - جميع الحقوق المدنية في العيش والأمن والسكن والتنقل والعمل، وكانت تلك المهمة شاقة على أمير المؤمنين (عليه السلام) جرّت عليه سخط الكثيرين الذين كانوا يتمتعون بمكاسب ذلك التمييز (136)، فمع أن المساواة والعدل كانت من أولى مقررات الإسلام ومطالبه، إلاّ أن ذلك لم يُفلح في اجتثاث النعرات الطبقية والعرقية والطائفية من نفوس الناس بصورة كلية وبقيت المحاباة والإثرة تتحكم في أهواء الناس وميولهم، مما ولد الحنق والسخط في نفوس المستأثر عليهم والمستضعفين، وجرّ على المجتمع ويلات الفتنة (137).

ولذلك وجه الإمام علي الاشتر إلى أن الراعي ينبغي أن يرى في القسط والعدل حقاً

ص: 38

أصيلاً وثابتاً لكل فرد من أفراد المجتمع مهما كان وضعه... ولا يُشترط فيه وحدة الدين والفكر والعرق والعقيدة (138) فقال: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ...)(139).

إن وصية الإمام علي هذه تكتسب قيمة خاصة، ونادرة من الوهلة الأولى، لاسيما وأن العصر - حينذاك - كان لا يخلو من نظرة التعالي على أهل الذمة، والتجاسر عليهم أحياناً من قبل بعض الجباة، وبعض أفراد الرعية، بالاستناد - غير الواقعي - إلى أفكار دينية؛ فكان تأكيد الإمام علي (عليه السلام) على فكرة (النظير في الخلق) لتُضاهي فكرة (الأخوة في الدين) وتضع أساساً لديمقراطية العلاقة بين جميع الناس من مختلف الملل والنحل والأحزاب والطوائف والأقليات القومية، وتحدد الاطار الحقوقي لحرية الاعتقاد تلك الحرية التي لا يمكن قهرها(140).

كان حلّ الإمام علي الذي قدمه بمواجهة مشكلة (التمييز)، بصورتها الحسية حينذاك، حلاً تاريخياً لكل مشكلة من هذا النوع، فهو في جوهره، وفي آفاقه دستور أخلاقي - سیاسي لحل مشكلة العلاقات بين القوى والفصائل والأطراف المختلفة ايديولوجياً وسياسياً ويقوم الحل على ركنين (141):

الأول: ركن الأخوة الايدلوجوية والسياسية، وهو يتضمن وحدة المنطلقات ووحدة العلاقة وما يترتب على ذلك من تضامن.

الثاني: وهو الأهم، تذكير السلطة المذهبية، أن (الإنسان) من مذهبٍ آخر هو نظير (إنسان السلطة) في الخلق، وليس ثمة ما يتعالى به عليه، فتكون له به حجة لقمعه.

فالإمام عليّ قد حاول - في وصيته هذه - أن يرسخ مبدأ إسلامياً أصيلاً يؤكد على (الانتماء إلى الإنسانية)، فالولاء والانتماء للأمة لا يعني إفرازها عن الكتلة الإنسانية

ص: 39

كلها، إنما يعني:

1. تركيز الولاء العام للإنسانية في هذه المجموعة الخاصة.

2. وتكثيفه نحوها بالخصوص.

لأن الإنسانية أصبح يرتبط معها ولائين:

1. ولاء عام للإنسانية كلها.

2. وولاء خاص للأمة التي يشترك معها في العقيدة والأخلاق.

فالإسلام يحاول تنمية الحس الإنساني دائماً على حساب الحس الشخصي، والحس القومي، ويحاول دائماً أن يركز في الإنسان شعوره بالانتماء إلى المجموعة الإنسانية كلها وأنه عضو فيها... ومن هنا نجد القرآن الكريم يخاطب الإنسان عموماً، ويخاطب المؤمنين أيضاً بإثارة العنصر الإنساني فيهم قائلاً: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» (142)، «يَا بَنِي آدَمَ» (143). لأن ولاء الإنسان لأمته يعتمد في النظرية الإسلامية على العنصر الإنساني وبالذات على الأخلاق التي هي جوهر الإنسان (144).

ولكن ينبغي التنبيه إلى أصل مهم يبتني عليه تعيين الحقوق للناس، فإذا كانت المساواة والتآخي أصل إسلامي - مال إليه كل الشعوب في العصور الأخيرة وأُدرج في برنامج حقوق الإنسان - فهي لا تعني تساوي الأفراد في النيل من شؤون الحياة: الصالح منهم والطالح، والجاد منهم والكسلان على نهج سواء، بل المقصود منه نيل كل ذي حقٍ حقه من حظ الحياة على حسب رتبته العلمية وجده في العمل، وقد شرح الإمام علي (عليه السلام) هذا الأصل عندما نبّه الاشتر إليه بقوله: (ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَ ولا تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئٍ إِلَی غَيْرِهِ ولا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ ولا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً ولا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظيِماً) (145)، فأمر الإمام علي كل راعٍ - عبر عهده للاشتر - بإيصال حق الجهد والاخلاص إلى

ص: 40

صاحبه وعرفان هذا الحق بما یوجبه من الرتبة والامتياز، وفسّر التبعيض ببعض الأمور:

1 - إضافة جهد رجل إلى غيره واحتسابه لغير صاحبه.

2 - عدم استيفاء حق المجاهد الجاد، والتقصير في رعاية حقه على ما يستحقه.

3 - احتساب العمل الصغير من رجل شریف کبیراً رعايةً لشرفه.

4 - استصغارُ عملٍ كبير من رجلٍ وضيع بحساب ضعته.

فهذه هي التبیعضات الممنوعة التي توجب سلب الحقوق عن ذوي الحقوق (146).

فمن مظاهر العدل أن يُنصف الراعي بين المحسن والمسيء، فقال الإمام علي (عليه السلام): (ولا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإسَاءَةِ عَلَی الإسَاءَةِ وأَلْزِمْ كُلاً مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ (147).

فليس للإنسان إلاّ ما سعى والتزم به من قيم المجتمع وآداب التعامل الهادف، إذ «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (148)، ولذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) يركز على أهم الجوانب النفسية في الإدارة وهو (التحفيز) الذي يتضمن مبدأ العقاب والثواب مع الرعية، والتأثير على سلوكهم بحوافز مادية أو معنوية هادفة في ضوء الاعتبارات الموضوعية العامة (149).

فعدالة الراعي تصنع الأجواء المناسبة لتربية الرعية وتعويدها على عمل الخير(150)، فقال (عليه السلام) للاشتر (واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شيْءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِإِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَی مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ) (151).

ص: 41

ب. إدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء.

إن النمو والازدهار - لأي بلد - لا يتحقق باستنزاف الموارد واستهلاكها بل باستثمارها وتنميتها،... وأن عمارة البلاد واستصلاح العباد هما الهدف الأسمى وراء كل حركة عامة ونشاط اداري في الإسلام، فليس غريباً أن يبتدئ الإمام علي (عليه السلام) أمره للاشتر بتثبيت هذين الهدفين الساميين (152): (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللِّهَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ

الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ

أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا) (153).

إن (عمارة البلاد) قد تساوي في الأدبيات الاقتصادية الحديثة: التنمية الاقتصادية، ولكن لو أضفنا لها (استصلاح الشعب) فإنها تعني التنمية ببعديها الاجتماعي والاقتصادي، وكلا البعدين يكمل الآخر ويؤثر فيه،... إن عناية الإمام علي بعمارة البلاد، إنما هو لتحقيق إرادة السماء في الأرض إذ يقرر الإسلام بأن اشباع الجانب المادي متزامناً مع التقوى، لهو خير معين على الارتقاء بالروح، ولا يوجد تنازع إطلاقاً بين تلبية مطالب الجسد والسمو الروحي عند الإمام عليّ، بل أن الإمام يراهما متلازمتان،... لذا فإن التنمية عند الإمام عليّ ليست مجرد زيادة في الناتج القومي، ورفع متوسط دخل الفرد فقط - كما يجد الباحثون في الكثير من الأدبيات الاقتصادية الحديثة (154) -، بل أن مفهوم التنمية عنده يشمل (عدالة توزيع الدخل، ورفع مستوى الاستهلاك لجميع أفراد المجتمع سواء منهم من لديه القدرة على تحقيق ذلك لنفسه أم من يعجز عن ذلك؛ إذ على الدولة أن تقوم بتحقيق هذا المستوى للصنف العاجز من الناس) (155).

ولذلك جاء في وصيته للاشتر - ومن خلالها للرعاة كافة -: (اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ

قَانِعاً ومُعْتَرّاً واحْفَظِ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ

ص: 42

وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ للِأقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للِأدْنَى وكُلٌّ

قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ولا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإحْكَامِكَ الْكَثيِرَ الْمُهِمَّ فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ

فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فيِهِمْ بِالإعْذَارِ إِلَی اللهَ يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی الإنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللِّهَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ولا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وذَلِكَ عَلَی الْوُلاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ) (156).

فمن خصائص الإسلام الفريدة أنه حمل على كاهله هموم جميع مواطنيه وضمن حقوقهم في المال صغيرهم وكبيرهم، اناثهم ورجالهم، غنيهم وفقيرهم، عاجزهم وقادرهم (157).

فقد ساوى الإمام عليّ الطبقة السفلى مع سائر الناس في الحقوق، وهذه الطبقة تشمل العاجزون عن الحيلة والاكتساب، والمساكين والمحتاجون ممن يسأل لرفع حاجته (القانع)، ويعرض نفسه في مظان الترحم بلسان الحال دون أن يعرض حاجته بلسانه (المعتر)، أو من اعتزل في زاوية بيته دون أن يسأل بلسانه، ولا يعرض نفسه على مضان قضاء حوائجه إما لرسوخ العفاف وعزة النفس فيه، أو لعدم قدرته على ذلك (کالز منی) وقد وصى الإمام علي الراعي فيهم بأمور (158):

1 - حفظ حقوقهم والعناية بهم طلباً لمرضاة الله وحذراً من نقمته لأنهم لا يقدرون على الانتقام ممن يهضهم حقوقهم.

2 - جعل لهم قسماً من بيت المال العام الذي يجمع فيه الصدقات الواجبة والمستحبة

ص: 43

وأموال الخراج الحاصل من الأراضي المفتوحة عنوة.

3 - جعل لهم قسماً من صوافي الإسلام في كل بلد... وهي الارضون التي لم يوجف عليها بخیل ولا ركاب وكانت صافية لرسول الله i، فلما قبض صارت لفقراء المسلمين، ولما يراه الإمام من مصالح الإسلام.

4 - أن لا يصير الزهو بمقام الولاية موجباً لصرف النظر عنهم وعدم التوجه إليهم مغتراً باشتغاله بأمور هامة عامة، فقال الإمام (عليه السلام): أحكام الأمور الهامة الكثيرة لا يصير كفارة لصرف النظر عن الأمور الواجبة القصيرة.

5 - الاهتمام بهم وعدم العبوس في وجوههم عند المحاضرة والمصاحبة لاظهار الحاجة.

ثم أوصى بالنفقد عن القسم الثالث المعتزل، بوسيلة رجل موثق من أهل الخشية والتواضع وخصص طائفتين من العجزة بمزيد التوصية والاهتمام:

أ. الايتام الذين فقدوا آبائهم وحرموا من محبة والديهم الذين يلمسونهم بالعطف والحنان دائماً.

ب. المعمّرون إلى أرذل العمر الذين أنهكتهم الشيبة واسقطت قواهم فلا يقدرون على إنجاز حوائجهم بأنفسهم (159).

فهؤلاء الضعفاء والذين يمنعهم الحياء وشرف النفس من إظهار فقرهم، ومن نَصبِ انفسهم للمسألة، يموتون جوعاً إذا لم يبحث عنهم الحاكم ويرعى أمورهم، ولذلك أمر الإمام الراعي بتفقد هؤلاء وأمثالهم، وأن يوكل بهم من يتفقدهم.

((ولا أظن أن حكومة من الحكومات الحديثة بلغ فيها التشريع العمالي، والتأمين الاجتماعي من النضوج والوعي للمسؤولية الاجتماعية إلى حد أن تؤلف هيئة تبحث عن ذوي الحاجة والفاقة فترفع حاجتهم بأموال الدولة، كما نرى ذلك في عهد الإمام ولا أظن أن قلوب المشرعين وعقولهم اجتمعت على أن تُخرج للدنيا تشریعاً عمالياً فأفلحت في أن

ص: 44

تخرجه أنبض من تشريع الإمام بالشعور الإنساني العميق) (160).

ومن نافل القول أن الضرائب - في الإسلام - إنما وضعت لسد بعض النفقات العامة للدولة، ولكن في فلسفتها الأصيلة فيه قامت على تحقيق الضمان الاجتماعي للطبقات الفقيرة في المجتمع وتجنيبها العوز والفاقة والتذلل في مسألة الناس، حتى يأتيها رزقها رغداً من بيت مال المسلمين دون منّة أو أذىً من أحد... ومع الاعتراف بأهمية أموال الضرائب في رفد الخزينة العامة إلاّ أن همّ الدولة يجب أن لا يكون منصرفاً بصورة أساسية نحو تحصيل الضرائب، وخطتها المالية والاقتصادية يجب ألا تكون قائمة عليها، فنماء الاقتصاد العام وتحصينه إنما يقوم على العمارة والاستثمار والتنمية المستدامة (161)، (ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ

إلِا بِالْعِمَارَةِ ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبلِادَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ ولَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلا

قَلِيلاً) (162).

غير أن عمران الأرض - نفسه - مرتبط أصلاً بمكانة الإنسان وقيمته؛ فالإنسان الحر الكريم غير المكبل بالقيود، قادر على إعمار الأرض والعناية بها، أما الإنسان السجين بقيود الظلم الاجتماعي، فهو غير قادر على اعمار أية أرض - إن كانت له أرض(163) - ولذلك يوجه الإمام عليّ الاشتر برعاية أصحاب الأراضي الزراعية والفلاحين فيقول: (فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ ولا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ

الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ وتَزْيِينِ وِلايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ والثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ ورِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الأمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا

ص: 45

حَمَّلْتَهُ وإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاةِ عَلَی الْجَمْعِ وسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ)(164).

فمن الأمور المهمة التي ينبغي للراعي التركيز عليها هي البعد الأخلاقي للاقتصاد في الإسلام، فلا يقوم الفكر الاقتصادي في الإسلام على أن الهدف هو مجرد مضاعفة وزيادة الثروة، بل تسخير الإنتاج لزيادة ثروة المجتمع والفرد من جهة، ولجعل أهداف إنسانية في الاقتصاد تأخذ بالحسبان الأشخاص والجماعات التي تعاني من الضيق الاقتصادي من جهة ثانية، وتأخذ بالحسبان عدم استغلال الطبيعة على نحو يؤثر على توازن الحياة ويؤدي إلى استهلاكها بما يضر بمصلحة الإنسان على المدى البعيد من جهة ثالثة (165).

وتبرز وحدة الأُفق بين (الإنسان، وعمارة الأرض، والخراج، وبناء الدولة) في ذلك التصوير العادل لوحدة العلاقة الاقتصادية بمضمونها الإنساني بين تلك الأطراف (166) فقال (عليه السلام): (وتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلاحِهِ وصَلاحِهِمْ صَلاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ ولا صَلاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلا بِهِمْ لأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَی الْخَرَاجِ

وأَهْلِهِ) (167).

ج. التساوي في مجال إجراء العدالة:

تعد المساواة أمام القانون من العوامل عظيمة الأثر على التماسك الاجتماعي، إذ إن سيادة القانون تعطي انطباعاً يبعث على الطمأنينة، فيندفع الناس كادحين ومستثمرين لا يخافون ظلمَ مُتنفذ وصاحب مكانة، ولا عدواناً و تمييزاً أمام القانون (168).

فبدخول الجميع تحت عنوان (مساواة الجميع أمام القانون) يتكرس مبدأ اللا فارق بينهم ومن ثم التساوي في الحقوق لأنهم كلهم مشمولون بلفظ الناس (169)، فقال الإمام

ص: 46

علي في هذا المضمون لواليه الاشتر: (وأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ وكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ) (170) .

ويرى بعض الباحثين أن هذا النص يشير إلى أن للمدعي وللمدعى عليه نفس الحقوق القضائية قبل اتضاح الحكم وأما عند اتضاحه وثبوت الإدانة بحق المتهم فيجب انزال العقوبة بحقه دون النظر إلى صفته أو مكانته ومن هنا تُصبح المساواة القضائية أهم تطبيق للمساواة القانونية التي يتمتع بها الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) (171).

3 - سياسة الانفتاح على الرعية:

ويتم ذلك على وفق أسس متعددة منها:

أ. اشراك الرعية في شؤون الحكم عبر المشاورة.

ب. مخالطة الراعي للرعية (التواصل وعدم الاحتجاب - تعايش وحوار).

ج. المشاركة الوجدانية للرعية والإدارة الأبوية.

د. المكاشفة.

أ. اشراك الرعية في شؤون الحكم عبر المشاورة:

من الممكن أن تعمل الحكومات المختلفة في سبيل تأمين الحوائج المادية للحياة بصورةٍ واحدة، ولكنها لا تتساوى في رضا الناس عنها، إذ يفي بعضها بقضاء الحوائج النفسية والروحية، بينما لا تفي بها الحكومة الأخرى(172).

ومن هنا فقد سعى الإمام علي (عليه السلام) لتوجيه الراعي بأن لا يغفل عن إشراك رعيته في بعض شؤون الدولة عبر المشاورة؛ ففيها إبعاد الأمة عن الاستبداد، وبالتالي التسلط الظالم، وتدريب للحاكم بالرجوع إلى أهل الحل والعقد وأهل العقل، وأهل الاختصاص والانتفاع من تجارب الأمة وخبرتها وقدرات ابنائها، وإشعار الرعية

ص: 47

بقيمتها وقدرتها، وإشعارها بالمسؤولية الاجتماعية وأنهم شركاء فيها، كما أن في التشاور تصعیداً لحالة التلاحم بين القيادة وقواعدها(173).

فوجّه الإمام علي واليه الاشتر لهذا المعني بالقول: (ولا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ ولا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأمُورِ ولا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ) (174).

فالمشورة مع هؤلاء (البخيل والجبان والحريص) لا تصل إلى رأي صالح مصیب باعتبار ما ركز في طباعهم من مساوئ الأخلاق التي تؤثر في رأيهم وتكدره (175).

وبدلاً من هؤلاء أرشده إلى أن يتقرب من أهل الصدق (والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ والصِّدْقِ) (176). ويتقرب من أهل العلم والحكمة والمعرفة فقال (عليه السلام): (وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ

بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)(177). لأن في ذلك شرفاً، وتنويراً، وتطويراً، وإبداعاً، وإضافة تقوي الصلاح وتزيل الباطل، وتحلّ محله الصالح، وتزود النظام بعوامل القوة والتقدم،... إن الإكثار من مدارسة العلماء وذوي المروءات والانصاف يجلو البصيرة، ويرفع الغشاوة، ویُبعد سحب الفتنة، ويعري زيف الأدعياء ممن ينصبون أنفسهم -زوراً - أعمدةً لسياسة النظام...، ففي السياسة منعطفات ومزالق ودهاليز، يغفل عنها مَنْ لم يشارك العقول رأيها وعقلها وحكمتها، فتحدث العواقب السيئة، وتستعصي المعالجة(178).

ولا شك أن الكبر والغلظة وإعجاب الراعي بنفسه ستحمله على الاستبداد برأيه وترك مشاورة الرجال، فإذا ما فعل ذلك يكون قد فوّت على نفسه الكثير من المعرفة فيظل يدور في فلك نفسه وأفكاره، ولذلك كانت الشورى من مظاهر اللين والرفق والمشاركة للرعية (179).

ص: 48

وهذه المشاركة لا تقتصر على أولياء الراعي ومريديه، وإنما وجه الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أن يؤثر الراعي من رعیته ورجالاته (أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ) (180)، لأنه لو اقتصر في استشارته على أهل ولايته لم يكن وإياهم إلاّ كالناظر في المرآة لا يرى سوى صورته ولا يسمع غير صوته (181).

ب. مخالطة الراعي للرعية - (التواصل وعدم الاحتجاب - تعايش وحوار).

تتطلب القيادة والإدارة للمجتمع عدم احتجاب الراعي عن رعيته، وهو يعني بناء نظام للعلاقات العامة والعلاقات الإنسانية، لكونها تبلور الرأي العام، وبمعنى آخر كما هو الحاصل اليوم في الإدارة المعاصرة ضمن ما يسمى ب(الباب المفتوح) للشخص القيادي مع العاملين أو الرعية (182) وعدم احتجاب الراعي هو حق من حقوق الرعية على راعيها، على اعتبار أنه يحقق الجانب العياني للتقييم والتقويم، ومراعاة متطلبات الوضع وتصوير الأمور ميدانياً لجانبي الاتصال، وبناء العلاقات الرسمية وغير الرسمية، لئلا تُنقل المعلومات والصور بشكل غير متكامل وغير دقيق، ومشوهة ومشوشة، أو على الأقل ليست على شكل الهيئة العامة لها، وهو مما يؤثر على أخذ المواقف والقرارات المناسبة لها (183).

فمن مظاهر الغلظة والجفاء أن يحتجب الراعي عن رعيته بالأسوار والجُدر والحرس والبطانة، وهو مِن أدخل الخلال في هدم السلطان، وأسرعها خراباً للدول، فإذا احتجب السلطان فكأنه قد مات، لأن الحجب تمنعه من معرفة أحوال شعبه، وما يدور في مملكته ولا يصله من ذلك شيء إلاّ عن طريق بطانته التي تعبث بأرواح الخلائق وحريمهم وأموالهم، لأن الظالم قد أمن أن لا يصل المظلوم إلى السلطان (184).

فأبدى الإمام علي احترازاً نظرياً وسلوكياً ضرورياً لمجابهة هذه الظاهرة بأن رأى أن العلاقة الحيّة والصحيحة مع الناس وجهاً لوجه هي الضمانة الكبرى لجريان الحق في

ص: 49

مجارية الواضحة، فكان يرفض (السفراء) و (الحجاب) و(الوسطاء) بين الوالي وشعبه، لتربية الولاة على نسق العلاقة المباشرة، کیما تُصبح نهجاً إسلامياً ثابتاً، تُصنع من خلاله قرارات الحق والعدل (185).

فقال للأشتر في عهده: (فَلا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وقِلَّةُ عِلْمٍ بِالأمُورِ والاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ ويَعْظُمُ الصَّغِيرُ ويَقْبُحُ الْحَسَنُ ويَحْسُنُ الْقَبِيحُ ويُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمُورِ ولَيْسَتْ عَلَی الْحَقِّ سِمَاتٌ «علامة» تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ وإِنَمَّا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ باِلْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيِهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ

أَوْ مُبْتَلًی بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ الناَّسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ

النَّاسِ إِلَيْكَ مِمَّا لا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ)(186).

وإن عقد مجالس لذوي الشكاوي والتظلمات من صلب وظائف الراعي في فكر الإمام علي (عليه السلام)؛ لأنه الراعي مسؤول عن إسعاد الناس والرأفة بهم، ومن خلال مجالس (الرعاة والرعية) تكتسب الدولة مضمونها الشعبي، وصفتها الشعبية باستمرار، وفي سياق تلمس مشاكل الرعية وحاجاتها، والاطمئنان على حسن القيام بخدمتها، فإن من الأمور المهمة للراعي القيام بتفقد شؤون الرعية بنفسه، كلما دعت الحاجة لذلك، وعدم الاعتماد فقط على المقربين، فلا يتكل على بطانته بشكل مطلق؛ ذلك لأن البطانة إذا اطمأنت إلى اعتماد الوالي على أقوالها فإن المنافع والمصالح الفردية تتنازعها، فتميل عن الحق، وتشوّه الحقائق، وتزين كل خطوة تصب في مصالحها الخاصة، فضلاً عن أن حضور قوة الراعي وبطانته لمجالسه مع الرعية ذا أثر سلبي يفقد اللقاءات المباشرة الكثير من ضرورتها، والكبير من نفعها؛ لأنه يقلص من حرية الرعية في ممارسة دورها في تلك

ص: 50

المجالس المشتركة، وقد لا يستطيع عدد من ذوي الحاجة من الجهر بحاجته إلاّ عبر الصلة المباشرة بالراعي، ولذلك حث الإمام عليّ الولاة على التفرغ للناس بأشخاصهم (187) في كل زمان ومكان، فقال للأشتر:

(واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً

فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى

يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله i يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ

لا يُؤْخَذُ للِضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالأنَفَ يَبْسُطِ الله عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنيِئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإعْذَارٍ ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُباَشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْياَ عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ)(188).

فمن شروط هذه المجالس التي ينبغي للراعي الالتزام بها (189):

1 - أن يجلس لهم في مكان بلا مانع يصلون إليه ويأذن للعموم من ذوي الحاجات في الدخول عليه.

2 - أن يتلقاهم بتواضع وحسن خلق مستبشراً برجوعهم إليه في حوائجهم.

3 - أن يمنع جنده وأعوانه من التعرض لهم وينحّى الحرس والشرط الذي يرعب الناس منهم عن هذه الجلسة ليقدر ذو الحاجة من بيان مقاصدهم وشرح مآربهم ومظالمهم بلا رعب وخوف وحصر في الكلام.

4 - أن يتحمل من السوقة والبدويين خشونة آدابهم وكلامهم العاري عن كل ملاحة وأدب.

5 - أن لا يضيّق عليهم في مجلسه ولا يفرض عليهم آداباً تصعب مراعاتها ولا يلقاهم

ص: 51

بالكبر وأبهة الولاية والرياسة.

6 - أنه إن كانت حاجاتهم معقولة ومستجابة فأعطاهم ما طلبوا لم يقرن عطاءه بالمنِّ والأذى والخشونة والتأمّر حتى يكون هنيئاً، وإن لم يقدر على إجابة ما طلبوا يردهم رداً رفيقاً جميلاً ويعتذر عنهم في عدم إمكان اجابة طلبتهم.

والإمام علي (عليه السلام) بإصراره على ضرورة الصلة الحيّة بين الراعي والعامة من رعيته، يبرر ذلك بأن الأضرار التي تؤدي إلى فشل إدارة الدولة إنما يحصل من الخاصة وليس العامة، فالعامة هم المصدر الدائم للواردات الاجتماعية المتجددة... التي تمد المجتمع بالعطاء البشري والانتاجي والثقافي، ويترتب على ذلك أن التعامل المبدئي مع عامة الأمة يُصبح حتماً تعاملاً تاريخياً بعيد المدى، لأنه ينطوي على عوامل الاستمرارية والثبات والقوة، فالعامة من الرعية هم عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء - حسب تحليل الإمام علي (عليه السلام) - لذلك دعا الراعي إلى الميل معهم (190) عندما قال للأشتر: (ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ وأَكْرَهَ لِلإنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإلْحَافِ وأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإعْطَاءِ وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وأَضْعَفَ

صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ والْعُدَّةُ لِلأعْدَاءِ

الْعَامَّةُ مِنَ الأمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ ومَيْلُكَ مَعَهُمْ)(191).

وإن الإمام علي (عليه السلام) يُشير في النص إلى قضيتين مترابطتين (192):

الأولى: أن الحق وبالرغم من كونه جوهراً واحداً ومطلقاً من حيث القيمة، إلا أن له أكثر من مستوى، والمستوى الذي يجب التركيز عليه في مجال الحكم السياسي هو المستوى المتوسط لأنه أعم في العدل، وأجمع لرضا الرعية.

ص: 52

الثانية: ضرورة الاهتمام بالقيمة الواقعية للانتشار الاجتماعي الذي تُشكل العامة الجزء الأكبر منه، وهذا منظور معقول من زاوية ما تقضي به العدالة من ناحية، ومما تتطلبه مصلحة الدولة من ناحية أخرى، وبالذات إذا كانت الأكثرية ساحقة، والأقلية فئة صغيرة وتحديداً في المواضع التي تتقاطع فيها مصلحة الفئتين، بيد أن الإمام علي لا يعد رضا الأكثرية مقياساً في بناء السياسة من غير أن يكون منظوراً فيه مدى ملائمته لما يقضي به شرطا الحق والعدل، إذ قال: (رضا الناس غاية لا تدرك، فتحرَّ الخير بجهدك، ولا تبال بسخط من يُرضيه الباطل) (193).

ج. المشاركة الوجدانية للرعية والإدارة الأبوية:

من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية، إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم، وأن يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم ويضع كل شيء مما يصلحهم موضعه، ويشعرهم ذلك برعايته لهم، وحیاطته لأمورهم، وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه بحبهم وإيثارهم له، ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء، ولا يحصل شيء من هذا إذا ما اغلق الحاکم دونهم قلبه، وأغمض عنهم عينه (194)، قال (عليه السلام) لمالك الأشتر: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ...)(195).

فالرحمة مفتاح وموجه النفس لأداء الواجبات بكل ما تتطلبه وتتكامل به، وبالرحمة أداء الحقوق المتبادلة بين العقلاء، وأداء حقوق حتى البيئة والجماد، وحينما تكون المسؤولية في عنق الشخص على مستوى السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، يتوجب الشعور بالمسؤولية تجاه الرعية والأداء بالرحمة والمحبة واللطف، وهنا تتحقق الإدارة الأبوية، ورعاية أداء الإدارة بقائدها الإنساني بما تحويه من بنود حقوق الإنسان(196).

فأول لازمة من لوازم الحكم والقيادة هو تألیف قلوب الناس والتقرب إليهم،

ص: 53

وما تكبر حاکم على رعيته إلاّ وكان ذلك إيذاناً بذهاب ملکه(197) (فالملك مع الكبر لا يدوم، وحسبك به من رذيلة تسلب السيادة، وأعظم من ذلك أن الله تعالى حرم الجنة على المتكبرين، فقال سبحانه وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (198) فقرن الكبر بالفساد... واعلم أن الكبر يوجب المقت، ومن مقته رجاله لم يستقم حاله، ومن أبغضته بطانته كان كمن غص بالماء، ومَنْ كرهته الحماة تطاولت إليه الأعداء) (199). ولذلك كانت وصية الإمام علي للاشتر أن يقترب من رعیته باللين والمحبة وأن لا يتباعد عنهم بالجفاء والغلظة.

مخطط رقم (3)

الكبر و الاستبداد و الاحتجاب التفاف السفلة والسوقة حوله الظلم

الرحمة و الشورى المخالطة والتفقد للرعية التفاف الأشراف وذوي المروءات وأهل البيوتات الصالحة والناس عامة العدل

يبين الاعتبارات القيمية التي تحكم سلوك الراعي وتقوده إلى العدل أو الظلم

د. المكاشفة:

وتهدف المكاشفة إلى رفع اللبس والظنون التي قد تكون وسيلة لنشر الدعايات المغرضة ضد الحاكم، فتضعف الثقة بينه وبين الشعب، وتفسد العلاقة بينهما، والمكاشفة ركن أساسي وصفة ضرورية من صفات الحكم الرشيد أو الصالح عند الإمام علي (عليه السلام) (200).

يقول الإمام مالك الأشتر: (وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ

ص: 54

بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ) (201).

وسياسة مصارحة الشعب بشؤون الحكم، ضرورة لتصحيح الأوضاع الخاطئة، والحاكم العادل لا يخشى أن يرجع إلى الصواب في حال الخطأ، ولا يخشی مکاشفة الناس بأمور الدولة لأنه لا ينوي سرقتهم، فهّمه الرئيس خدمتهم والقيام بأمور الولاية بالعدل والانصاف (202).

1. إرساء دعائم التعامل القيمي للراعي مع الرعية:

دعا الإمام علي (عليه السلام) كل راعٍ إلى أن يلتزم في برامج حكمه، صفات تعاملية قيمية، وهي بمجموعها (تؤكد بشكل كبير أهمية القيم وإرساء دعائمها بالشكل الذي يحقق لولي الأمر دوره الرائد في قيادة المجتمع وإدارته بالصورة المثلى التي من شأنها أن تُتيح لكل الرعية الدور المناط بها في تحقيق أهداف المجتمع) (203).

وفيما يأتي استعراض لأبرز ما ورد منها في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر:

أولاً: تحذير الراعي من سفك الدماء بغير حِلّها:

لقد اعتبر العهد الشريف (عهد الإمام علي (عليه السلام) للاشتر) الإنسان قيمة حضارية كبرى لا تعادلها قيمة، فلا يجوز المساس بدمه وعرضه وأمواله، وأن سفك دم المسلم أو غيره دون وجه حق، يُعد من أكبر الجرائم التي يهتز لها العرش، ويحاسب عليها الشرع والقانون بالقصاص وعدم الرأفة (204).

فجاء التوجيه العلوي للأشتر مبيناً عواقب أي انتهاك لحق الحياة المقدس فقال: (إِيَّاكَ

والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ ولا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ ولا أَحْرَى بِزَوَالِ

نِعْمَةٍ وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا واللُّهَ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا

تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ

ويُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ ويَنْقُلُهُ ولا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ الله ولا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لأَنَّ فِيِهِ قَوَدَ الْبَدَنِ

ص: 55

وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَأٍ وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)(205).

وتضمن هذا التحذير القيمي:

1 - الاهتمام بالبعد التشريعي الإنساني، والتذكير بأن الحساب الأخروي والحكم الإلهي يطال من يعتدي بسفك الدم الحرام.

2 - تأثير سفك الدماء على واقع الدولة ومستقبلها عكس ما يرجوه القاتل، فكلما ارتفع مستوى اعداد الناس الذين تُسفك دمائهم بلا مسوّغ وبلا حق ويغيّر حِلّها، سيكون هناك تهدیدات ومخاطر على مستقبل الدولة والحكم والحكام والحضارة،... فعندما يكون طغيان مؤثرات الظلم قد ينجح بناء الدولة والحكم - ظاهرياً -، لكن مستقبله کالنار تحت الرماد سرعان ما يُلهب ويُحطم كل شيء بلهيبه عندما تُسفك وتهدر الدماء بغير حِلّها(206).

3 - تحمل الراعي للتبعات القضائية لأن القتل العدواني (قتل العمد) لا عذر فيه لراعي الدولة، فإذا أقدم على ارتكاب هذه الجريمة، فلابد أن يناله القصاص العادل، وأن يعاقب عليها بالقتل، دون نظر إلى اختلاف رتبته الاجتماعية، أما (قتل الخطأ) فإذا حدث من الراعي أو بأمره فلابد من أن يتحمل تبعاته بدفع الدية إلى أولياء المقتول، ولا تكون السلطة ذريعةً للتملص من أداء حقهم إليهم (207).

ثانياً: تعزيز الثقة بين الراعي والرعية عبر قاعدتين ذهبيتين تفضيات إلى تحقيق الانسجام، واستتباب الأمن والاستقرار وهما:

أ. مكافحة الأحقاد، فقال للاشتر: (أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَضِحُ لَكَ ولا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ

غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ) (208).

ب. الاحسان إلى الرعية، فقال: (واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شيْءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ

ص: 56

مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وتَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَی مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ

فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ وإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ) (209)، وحذّر الإمام علي (عليه السلام) الراعي من المنّ باحسانه، وإظهار الزيادة في الأعمال بشكل يفوق ما هي عليه في الواقع افتخاراً على الناس بفعله لأن المن يبطل الاحسان، وحثه على الوفاء بوعوده للرعية (210).

إذ أن خلف الراعي لوعده یعني إكبار نفسه وتحقير الرعايا إذ إنه لم يعتنِ بانتظارهم ولم يحترم تعهدهم وخلاف الوعد وإن كان قبيحاً ومذموماً على وجه العموم، ولكنه من الأمراء والولاة، بالنسبة إلى الرعية أقبح وأشنع؛ لاشتماله على العجب والكبر وتحقير طرف التعهد (211).

ثالثاً: صفح الراعي وعفوه عن خطايا الرعية، وملازمة الحلم والاجتناب عن بادرة الغضب تجاه الرعية عندما (يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ ويُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ والْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ

اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ ووَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ واللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَ وقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وابْتَلاكَ بِهِمْ)(212).

فالإمام عليّ (عليه السلام) يذكر الراعي بوجود قوة أعلى من قدرة وقوة المخلوق، وهي قدرة الله عزّ وجل التي لا حدود لها، ليكون هذا التذكير صعقة رادعة له، فيخاطبه بما هو نفسي بالتوازي مع مقارنة ما ترضاه ولا ترضاه النفس لذاتها، وما يتوجب عمله بالمقابل تجاه الآخرين، فمن الانصاف تذكر ذلك والعمل على وفقه، وهو أمر لابد منه لبناء الدواخل التربوية - النفسية بالبعد الإنساني (213).

ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن العفو هو التطبيق الأسمى لسياسة الرفق ولكن

ص: 57

حين يكون أجدى في التأثير من العقوبة، إذ قال: (ولا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ ولا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً ولا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ) (214).

وبهذا يكون قد أكد على ضرورة أن يكون الحكم لصالح الناس وليس عبئاً عليهم، وأن يدير الحاكم السلطة من منطلق الشعور بالمسؤولية التي تفترض عدم إصدار القرار الذي تحكمه حالتا الغضب والتسرع، والابتعاد عن الاستكبار على المجتمع أو إمتهانه اغتراراً بامكانات السلطة إذ السياسة بهذا تقود حتماً إلى انعكاسات وخيمة لا يسلم منها المجتمع ولا الحاكم ذاته(215)، فعندما يحكم الراعي بقلبه الكبير وليس بسوطه الطويل يُصبح حاكماً على القلوب قبل أن يكون حاكماً على الابدان، ويتكون على شاطئ هذه العلاقة، مستوى عالٍ من الديناميكية بين الراعي والرعية(216).

رابعاً: حسن سيرة الراعي مع رعيته بأن يستر على عيوب الناس، ولا يفتش عنها، والوسيلةُ إلى ذلك إبعاد أهل النميمة، وطلاب العيوب فقال للاشتر: (ولْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ

سَتَرَهَا فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ واللُّهَ يَحْكُمُ عَلَی مَا

غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللُّهَ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَطْلِقْ عَنِ

النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وتَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لا يَضِحُ لَكَ ولا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)(217).

فالتفتيش عن عيوب الناس يوجب خوفهم ونفورهم، وعلى الراعي التجاهل عن أمور لا يصحّ له الدخول فيها من أحوال الناس الخصوصية مما لا يصح ويظهر له (218).

ص: 58

خامساً: إشباع حاجات الرعية المعنوية والاعتبارية لكسب حسن ظنهم بسياسة الراعي، والولاء للمجتمع، فجاء في وصيته (عليه السلام) للاشتر: (فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ ووَاصِلْ فِي حُسْنِ الثنَّاَءِ عَلَيْهِمْ وتَعْدِيدِ مَا أَبْلَی ذَوُو الْبلَاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَالذِّكْرِ لِحُسْنِ

أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) (219).

سادساً: النهي عن خُلق الاستئثار، و تخصیص نفسه بالزيادة من دون الناس فقال: (وإِيَّاكَ والاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ والتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ

مِنْكَ لغَيْرِكَ وعَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الأمُورِ ويُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ) (220)، وقد يأتي هذا الاستئثار والتطاول على حقوق الناس من الحاشية المحيطة بالراعي فأوصى الإمام علي (عليه السلام) بقطع أسباب تعديهم، بالأخذ على أيديهم ومنعهم من التصرف في شؤون العامة وأملاكهم فقال: (ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ

اسْتِئْثَارٌ وتَطَاوُلٌ وقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الأحْوَالِ ولا تُقْطِعَنَّ لأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ قَطِيعَةً ولا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيِهَا مِنَ الناَّسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَی غَيْرِهِمْ

فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ)(221).

سابعاً: النهي عن الاستكبار والبطش: وقد بيّنا - فيما تقدم - أن الإمام علي (عليه السلام) قد خصّ الراعي بمزيد نصح يكفه عن عُقد الزهو بالسلطة والإعجاب بالنفس (222)، والثقة بالإطراء الكاذب، والتعالي على الرعية، وحذره من الغضب، وجعل مفتاح التوقي من فُرص الشيطان هذه: تدريب النفس على الإكثار من ذكر الله، والتفكّر في عواقب فعله عندما تعرض إلى الحكم العادل، فقال: (امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وسَوْرَةَ حَدِّكَ وسَطْوَةَ يَدِكَ وغَرْبَ لِسَانِكَ واحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاخْتِيَارَ ولَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَی رَبِّكَ)(223).

ص: 59

فضلاً عن أن الإمام علي (عليه السلام) وضع نصب عين الراعي بعض المحددات القيمية التي ينبغي أن تحكم شخصيته ومن ثمَّ تعاملاته ومنها:

1. الصبر في إدارة الدولة على ما خفَّ من أمورها وما ثقل، فقال في عهده للاشتر: (ولَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلا بِالاهْتِمَامِ والاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وتَوْطيِنِ نَفْسِهِ عَلَی لُزُومِ الْحَقِّ والصَّبْرِ عَلَيْهِ فيِمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ) (224)، ف (الْحَقُّ كُلُّهُ

ثَقِيلٌ) (225)، وإلزامهِ الحق لكل الناس من القريب والبعيد يحتاج من الراعي أن يكون (صَابِراً مُحْتَسِباً) (226)، ثم حذره من (الْعَجَلَةَ بِالأمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ

مَوْضِعَهُ وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ) (227)، فالصبر لا يعني التواني عن إمضاء الأمور إذا حان وقتها، وتيسرت مخارجها، والاهتمام بالانجاز لا يكون مع اللجاجة إذا صعبت وتنكرت، ففي كل الأحوال يكون مقياس النجاح بوضع الأمور في نصابها.

2. تنظيم الراعي لوقته، ومباشرة أعماله:

والتنبيه إلى القيمة القصوى التي يمثلها عامل الزمن في مجال الحكم والإدارة إذ يقول الإمام علي: (وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ) (228) ويشتمل هذا أكثر من دلالة أهمها(229):

1.ضرورة إنجاز الاعمال في وقتها المحدد وعدم اهمالها أو تأجيلها إلى الحد الذي يؤدي إلى تراكمها، إذ من المؤكد أنها لو تراكمت فسوف لن يكفي الزمن للقيام بها جميعاً وفي وقت واحد، فضلاً عما لذلك من تأثير سلبي على مضاعفة الاعمال والرفع من جودتها.

2. إن التنظيم الجيد يتطلب أن تكون هناك محددات زمنية لانجاز الأعمال بحيث تتناسب كمية العمل مع كمية الزمن المستغرق.

ص: 60

3. ضرورة الجاهزية لانجاز الأعمال المستقبلية، فكما أن لكل يوم سابق ضروراته، فإن لكل يوم لاحق استحقاقاته، ولا شك أن التنظيم حين يكون بهذه الدقة الزمنية، فإنه سيفسح المجال واسعاً أمام (الراعي) المسؤول لمتابعة ما بعهدته من أعمال واعادة النظر في ما يحتاج إلى إعادة النظر حسب مقدار الأهمية والأولوية ووجوه المصلحة.

وقد وجّه الإمام عليّ الراعي إلى أن يباشر بنفسه الأعمال التي تختص بالأمور العامة والهامة التي ترد من أقاليم (الولايات)، وتقتضي إجراءات سريعة بشأنها، وبعيداً عن صيغ المكاتبات التي من شأنها أن تطيل من مجرى المعاملات وتعيق سبيل الانجاز، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب (230)، فقال: (ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ

مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ) (231).

المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة.

واعتمد الإمام علي (عليه السلام) في ذلك على عدد من الخطوات:

أ. الاختيار الدقيق لكبار موظفي الدولة بالذات:

فقد أولى الإمام عليّ (عليه السلام) مسألة اختيار الأشخاص الذين تناط بهم المراكز القيادية في الحكم اهتماماً بالغاً، فرأى ضرورة أن يجري انتقائهم على أساس مواصفات دقيقة يرتبط بعضها بالجانب الأخلاقي كالتقوى والورع والأمانة، ويختص بعضها الآخر بالجانب العملي کالجدارة والكفاءة(232)، ونهى أن يكون الاختيار وفقاً لمقياس شخصي يتحكم فيه الحدس والظن (233)، وإنها وفقاً لمقياس الاختبار بالتجربة، فقال: (ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ واسْتِنَامَتِكَ وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ

ص: 61

يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والأمَانَةِ شيْءٌ ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وأَعْرَفِهِمْ بِالأمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَی نَصِيحَتِكَ للهِ ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ) (234).

ب. تقسيم العمل:

فطالما كان للحكم وظائفه التي يرتبط بعضها بالاقتصاد وبعضها بالأمن وبعضها بالجانبين الإداري والتنفيذي بشكل عام، فقد رأى الإمام علي (عليه السلام) ضرورة أن يكون لكل جانب من هذه الجوانب إدارته المختصة التي تكون مسؤولةً عنه، وأكد في هذا السياق على ضرورة أن تتولى كل إدارة نطاق مسؤوليتها بشكل كامل دون أن تسمح باختراقه أو التطفل عليه من قبل أصحاب الاختصاصات الوظيفية الأخرى (235)، وقد توقف أكثر من باحث عند قوله (عليه السلام): (واجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا ولا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا)(230)، فوصفه بعضهم بالثورة في الإدارة الحكومية بالقياس إلى العصر الذي صدر فيه؛ إذ كانت الإدارة آنذاك تقتصر على شخص الحاكم، يعاونه شخص أو جملة من الأشخاص دون مراعاة لتقسيم المهمات المتنوعة، وتصدر القرارات النهائية من الحاكم وحده (237)، ورأى آخرين أنه يشير إلى ضرورة تقسيم العمل من الناحية الإدارية والتنظيمية (238).

ج. تطبيق سياسة المتابعة والمراقبة:

التي هي محاولة لمنع حدوث الاخطاء أو علاجها بشكل مباشر في حال حدوثها لتجنب أكبر قدر من آثارها السلبية... وقد استهدفت سياسة الإمام علي الرقابية مختلف السلطات والدوائر الرسمية، فشملت موظفي الدولة كالولاة والعمال على الخراج والقضاة والجنود، ومختلف أصحاب المناصب العليا، وذلك انسجاماً مع رؤيته للحكم، والتي تجعل من الراعي أميناً وحارساً يعمل من أجل مَنْ نصبه حاکماً - أي الرعية - وليس

ص: 62

مالكاً للحكم، فهو إذن يتجسس ويراقب لحساب الأمة ولضمان صون مصالحها، وليس عليها (239) فقال في عهده للاشتر موجهاً اياه لمراقبة الجند: (...ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،... ولا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَی جَسِيمِهَا)(240).

وقال له لتتبع واستكشاف حال القضاة: (... ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ...)(241). وأكد على تعيين الرقباء على العمال بعامة فقال: (...ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ) (242). وتوخي في الرقباء أن يكونوا من أهل الصدق والصلاح لا من فاسدي الذمم.

وقد حث الإمام عليّ الراعي لانشاء شبكة من المراقبين والمدققين لمتابعة أعمال الموظفين كباراً وصغاراً؛ للاطمئنان على صحة ما یرده من أخبار حتى ينزل العقوبة بالجاني بلا تردد (243)، فقال للاشتر: (وتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَی خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ...)(244).

د. تفعيل مبدأ الثواب والعقاب:

وهو نتيجة حتمية من نتائج المراقبة، وتفعيلاً حقيقياً لدورها الايجابي، فقد كان الإمام عليّ يحث الراعي على إتباع أسلوب الثواب لمن أحسن وأجاد عمله، وهو بهذا الأسلوب يحفز الموظفين لأن يستمروا على ما هم عليه من الاستقامة والأمانة، ويزدادوا في البذل في عملهم (245)، إذ يقول: (ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی)(246)، فلا يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء فيزهد أهل الاحسان بالاحسان، ويتمادى أهل الاساءة بالإساءة (247)، ومن أساليب التحفيز التي يعم خيرها المحسن وغيره: مواصلة الثناء على من يُحسن البلاء فإن (كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وتُحَرِّضُ النَّاكِلَ) (248).

ص: 63

وقد وجه الإمام علي الراعي إلى محاسبة ومعاقبة الأعوان والموظفين عما يرتكبونه من جرائم أو خيانة في أعمالهم بعد ثبوت التهمة، وأن تكون العقوبة مادية ومعنوية، فقال للاشتر: (... فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَ خِيَانَةٍ ... فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ)(249).

ه. اعتماد أساليب تضمن أو تساعد الموظف على الاستقامة والصلاح.

كبذل العطاء الواسع لهم مثلاً، والتوسعة في رواتب ومعاشات كبار الموظفين مثل (قادة الجند والقضاة وعمال الخراج)(250)؛ ليتعففوا به عن المرافق والرشوات وضمان الاستقامة فيهم، لأنه يصعب ضمان الاستمرار على ذلك مع وجود المال تحت أيديهم وهم يعيشون الضنك والحاجة (251)، بل أن التوسعة في البذل ينبغي أن تشمل الموظفين كافة كما أشار إلى ذلك الإمام علي في عهده للأشتر قائلاً: (ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ) (252).

المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو:

إن العلاقة السياسية - في فكر الإمام عليّ - التي ينبغي أن تتبناها الدولة الإسلامية هي علاقة منتظمة قائمة على مبادئ، وتتحكم بها ضوابط وقواعد، ولا يمكن للحاکم الانفلات منها متى شاء نتيجة رغبة قصيرة العمر أو مصلحةٍ مؤقتة (253).

ولذلك وجّه الإمام علي (عليه السلام) الاشتر إلى الالتزام بالعقود والعهود التي يبرمها معالعدو، والتي يجب أن تكون مرعية على كل حال، بلا غدرٍ أو إفساد أو خيانة، فقال: (وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ

ص: 64

وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأمَانَةِ واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شيْءٌ

النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وقَدْ

لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلا تَغْدِرَنَّ

بِذِمَّتِكَ ولا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ولا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلَی اللِّهَ إِلا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وقَدْ

جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَی مَنَعَتِهِ ويَسْتَفِيضُونَ

إِلَی جِوَارِهِ فَلا إِدْغَالَ ولا مُدَالَسَةَ ولا خِدَاعَ فِيهِ ولا تَعْقِدْ عَقْداً تَجُوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ ولا تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ ولا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللِّهَ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِيهِ طِلْبَةٌ لا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ ولا آخِرَتَكَ) (254).

إن إدارة العهود والمواثيق التي أشار إليها الإمام علي (عليه السلام) يعبر بوضوح على أن الفكر الإداري الإسلامي يضع على الصعيد الإسلامي قيماً ودلالات تتسم بروح الصدق وعدم خيانة الموقف ابتغاء لرضا الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقائق قد تغرب عن بال العديد ممن يرون أن السياسة تتسم بالتضليل والمخادعة وعدم رعاية الذمم، بل أن العكس هو الصحيح إذ أن الفكر السياسي السديد ما اتسم بعمق الوفاء بالعهود والذمم والمواثيق وعدم انتهاج سبل الخيانة والتدليس والمخادعة، مهما كانت النتائج، فالقرارات المبنية على المبادئ الحميدة والأسس النبيلة ترتقي باستراتيجياتها وتحقيق أهدافها المرسومة، فالأسس لا تتقاطع مع البناء الفعلي الاستراتيجي، وهكذا هو الإسلام الرافض لكل انحراف في مفاصل الحياة، بما فيه الإنسان، فما كان مبني على الصحيح نتائجه محمودة، وما كان مبني على الخطأ نتائجه العاجلة أو الآجلة مدمرة للذات والمحيط الخارجي (255).

وفي مجال السياسة العسكرية يأمر الإمام علي (عليه السلام) الراعي بأن لا يرفض أية دعوة إلى الصلح تُوجه إليه إذا كان فيها مصلحة، ورضا لله تعالى، أي أنها تحقق السلام

ص: 65

القائم على العدل فقال للأشتر: (ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ وللهِ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي

الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لبِلِادِكَ ولَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِفَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ)(256).

فالإمام عليّ يشير إلى أن الحرب ضرورة وليست خياراً، وأن البديل لها هو أولى منها، وهو السلم، وأن الحرب لا تكون استجابةً لشهوة الحاكم، وإنما تكون لأجل المجتمع والدفاع عن مصالحه، وليس لها أهداف عدوانية، ومن هنا تبدو أولوية السلم في نظر الإمام علي (عليه السلام)، فضلاً عن أن الحرب تقوم على أخلاق الحرب، التي هي الوفاء و ایثار السلم وحقن الدماء كلما أمكن، لأن الإسلام هو دين السلام الذي يؤثر التعايش السلمي على الحرب والقتال والعداء بكل وسيلة ممكنة، فعلى الراعي الصالح في دولة الإسلام ألا يترك وسيلةً تقرب من السلام إلاّ ويستعملها لينهي حالة الحرب والقتال، وفي الوقت نفسه يستعمل الحذر، فلا يستنيم إلى عقود السلام والصلح، فيهمل الاستعداد، لأن الدعوة إلى السلام قد تكون خديعةً من عدوه يراد منها الغدر، فينبغي ألا يترك له فرصة يستفيد منها من غدره إذا كانت دعوته إلى الصلح والسلام ناشئة عن نيةٍ سيئة (257).

ص: 66

الخاتمة

انتهى البحث في مضامين العهد الشريف (عهد الإمام علي (عليه السلام) للاشتر النخعي) إلى جملة من النتائج منها:

1. إن المنظومة القيمية العلوية بامتدادها الزماني والمكاني، منظومة حيّة ومتكاملة، تستمد أساسها من القرآن الكريم وسُنة رسول الله أ، وهي منظومة واقعية قابلة للتطبيق على مرّ العصور والأجيال؛ فهي بذلك (منتج عقدي حضاري) - إن صحّ التعبير -.

2. تحتل قيمة التقوى موقع الصدارة في تسلسل القيم التي تؤلف في مجموعها رؤية الإمام علي للكون والحياة، وقد مثّلت أسمى تجلٍ للعلاقة بين العبد وربّه، أو الانعکاس الأساسي لما يقتضيه التوحيد في رأيه، فهي حجر الزاوية في تصوره الفكري والمعرفي والسياسي على صعيد ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

3. إن عهد الاشتر هو أطول وثيقة كتبها الإمام عليّ لأحد ولاته، وتضمنت تفصيلاً وشمولاً لقواعد الحكم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية التي ينبغي أن يلتزمها الراعي في إدارة شؤون رعيته، لتطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة للحياة الإنسانية على المجتمع في سبيل بناء الإنسان الكامل، وكانت هذه القواعد بمثابة الخطط المدروسة المنتزعة من واقع المجتمع الإسلامي، ومُعدة لتبلغ به المطامح التي كانت يصبو إليها.

4. كان إعداد الإمام عليّ للراعي وبناءه قيمياً وتقوائياً يستلزم تنظيم علاقاته الأساسية، ومنها تنظيم علاقته مع الله سبحانه وتعالى، واستشعار المعيّة الإلهية في كل حين مما يحجز النفس عن الانزلاق مع الشهوات والأهواء، ولا يكون هذا الاستحضار إلاّ بإدامة الذكر والعبادة والطاعة، وعدم المسامحة في النشاط الروحي للراعي، أما

ص: 67

تنظيم علاقة الراعي مع نفسه فتكون على أساس التقوى، وسيطرة العقل على الميول والنزعات المختلفة، وأول تلك الرغبات الجامحة التي ينبغي لجمها هي نزعة التسلط والطغيان التي يمكن أن تتسرب إلى نفس الراعي بفعل زهو السلطة واُبهتها، وعلاج ذلك بتذكر عظمة الخالق عزّ وجل وقدرته عليه، ووعي حقيقة السلطة وإدراك وظيفتها في إحقاق الحق ومواجهة الباطل، وإصلاح حياة الناس ومعايشهم، وإقامة الدين والمحافظة على الشريعة.

5. إن العلاقة بين الراعي والرعية تضامنية تعاونية تفاعلية يتكيء على توازنها الكيان الاجتماعي برمته، وقد تطلب ذلك اهتمام الإمام علي (عليه السلام) ببناء هذه العلاقة على وفق معايير الحق و الانصاف والعدل والمساواة واحترام دستور الدولة، والانفتاح على الرعية، ومخالطتها، والتواصل معها، ومکاشفتها بشؤون الحكم، وإحاطتها بالرعاية الأبوية.

6. إن للعدالة التي يطبقها الراعي على رعيته أُسساً موضوعية، تشمل: مساواتهم في الحقوق والواجبات، وإدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء، وتساويهم أمام القضاء، وكانت الحلول التي أرشد إليها الإمام علي (عليه السلام) في هذه المجالات حلولاً تاريخية وموضوعية وقيمية تضع أُسساً لديمقراطية العلاقة بين الناس على مختلف القوميات والطوائف والملل والنحل.

7. اعتمدت توجيهات الإمام عليّ للراعي لبناء العلاقة القيمية بينه وبين أعوانه من الموظفين والعمال المشتركين معه في إدارة الدولة على: حسن اختيار هؤلاء الموظفين وفقاً لمواصفات ترتبط بالجانب الأخلاقي والعملي، وتقسيم العمل بين هؤلاء الموظفين من الناحية الإدارية والتنظيمية، وتطبيق سياسة الإشراف والمتابعة والمراقبة المستمرة لصون مصالح الأمة، وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب تبعاً لذلك، ناهيك عن استعمال الأساليب التي تساعد الموظف على الاستقامة مثل التوسعة

ص: 68

عليهم في معاشاتهم ورواتبهم.

8. حرص الإمام علي على أن تكون علاقة الراعي مع العدو علاقة قيمية، فوجّه إلى الضوابط والقواعد التي تحكم هذه العلاقة، وهي ضوابط تستند إلى المبادئ الحميدة والأسس النبيلة التي ترفض الانحراف في مفاصل الحياة كافة.

والحمد لله رب العالمين

ص: 69

قائمة المصادر والمراجع

أولاً: المصادر الأولية.

1 - الآمدي، عبد الواحد التميمي (من علماء القرن الخامس الهجري)، غرر الحکم و درر الكلم، تحقیق: السيد مهدي الرجائي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م.

2 - الثقفي، إبراهيم بن محمد بن سعيد (ت 283 ه / 896 م)، الغارات أو الاستنفار والغارات، ط دار الاضواء، بیروت، 1407 ه / 1987 م.

3 - الجرجاني، أبو الحسن علي بن محمد بن علي (ت 816 ه / 1413 م)، التعريفات، طبغداد، (بلا.ت).

4 - الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه / 1002 م)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور، ط 4، بیروت، 1407 ه / 1986 م.

5 - الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المستدرك على الصحيحين، ط دار الفكر، بیروت، 1422 ه / 2002 م.

6 - ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله المدائني (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط إيران، 1421 ه / 2001 م.

7 - ابن حنبل، أحمد الشيباني (ت 241 ه / 855 م)، مسند أحمد، ط دار إحياء التراث، بیروت، (بلا.ت).

8 - ابن أبي طالب، الإمام علي (ت. 40 / 660 م)، نهج البلاغة، جمع: الشريف الرضي، أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسي (ت 406 ه / 1015 م)، تعلیق و فهرسة: الدكتور صبحي الصالح، تحقیق: الشيخ فارس تبریزیان، ط 3، دار الهجرة، قم، 1425 ه / 2004 م.

9 - الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل (من علماء القرن 6 ه)، مجمع البيان

ص: 70

في تفسير القرآن، وضع حواشیه و خرج آیاته وشواهده: إبراهيم شمس الدين، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 ه / 1997 م.

10 - الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، تاريخ الطبري - تاریخ الأمم والملوك، ط دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1429 ه / 2008 م.

11 - الطرطوشي، أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري (ت 520 ه / 1129 م)، سراج الملوك، طبعة حجرية، الإسكندرية، 1289 ه / 1872 م.

12 - الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه / 1414 م)، القاموس المحيط، إعداد وتقديم، محمد عبد الرحمن المرعشلي، ط بیروت، 1424 ه / 2003 م.

13 - ابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 ه / 889 م)، المعارف، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1626 ه / 2003 م.

14 - المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه / 1999 م)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط 3، بیروت، 1403 ه / 1983 م.

15 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم الافريقي (ت 711 ھ / 1311 م)، لسان العرب، مراجعة وتدقيق: يوسف البقاعي وآخرون، ط بیروت، 1426 ه / 2005 م.

16 - المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه / 827 م)، وقعة صفين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط 3، قم، 1422 ه / 2001 م.

17 - الواسطي، أبي الحسن علي بن محمد الليثي (ت في ق 6 ه)، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسيني البيرجندي، ط قم، 1417 ه / 1996 م.

ص: 71

ثانياً: المراجع الثانوية:

1 - الآصفي، محمد مهدي، في رحاب عاشوراء، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران، 1419 ه / 1998 م.

2 - الأعرجي، زهير، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) السيرة الذاتية والاجتماعية، ط 2، بیروت، 1430 ه / 2008 م.

3 - بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، منشورات ذوي القربی، قم، 1427 ه / 2006 م.

4 - التميمي، الدكتور مهدي حسين، الإمام علي (عليه السلام) التدبير القيادي للدولة، طالنجف الأشرف، 1426 ه / 2015 م.

5 - جرداق، جورج، الإمام علي (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانية، طقم 1423 ه / 2002 م.

6 - الجنابي، میثم، الإمام علي القوة والمثال - التراجيديا السياسية للطوباوية الثورية، ط دار المدى، دمشق-بيروت، 1416 ه / 1995 م.

7 - الحكيم، محمد تقي، مع الإمام علي (عليه السلام) في منهجيته ونهجه، ط المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، 1423 ه / 2002 م.

8 - حمود، خضیر کاظم، السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بين الأصالة والمعاصرة، ط بیروت، (بلا.ت).

9 - الخوئي، المحقق میرزا حبیب الله الهاشمي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ط دار المحجة البيضاء، بیروت، 1434 ه / 2013 م.

10 - الزبيدي، عبد الرضا عبد الأمير، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) دراسة في ضوء نهج البلاغة، ط قم، 1426 ه / 2005 م.

11 - السيد جاسم، عزیز، علي سلطة الحق، تحقیق وتعلیق: صادق جعفر الروازق، ط

ص: 72

قم، 1428 ه / 2007 م.

12 - الشامي، حسين بركة، البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام عليّ مالك الأشتر، ط 2، دار السلام، بغداد، 1429 ه / 2008.

13 - الشريفي، محمد رضا مطر، الأصول النظرية للدولة والمواطنة في القرآن الكريم وتطبيقاتها عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، دار الكفيل، كربلاء، 1437 ه / 2016 م.

14 - شمس الدین، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ط 4، بیروت، 1422 ه / 2001 م.

15 - شمس الدين، محمد مهدي، عهد الاشتر، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه / 1984 م.

16 - شهاب، السيد عباس هاشم علوي، معالم الفكر التنموي الإسلامي (الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) نموذجاً، ط دار العصمة، البحرين، 1428 ه / 2007 م.

17 - صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ط إيران، 1426 ه / 2007 م.

18 - عبد المقصود، عبد الفتاح، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ط 2، دار الصفوة، بیروت، 1433 ه / 2012 م.

19 - العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام، ط بيروت، 1416 ه / 1996 م.

20 - الفكیكي، توفيق، الراعي والرعية، ط 3، شركة المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، (بلا.ت).

21 - قرباني، زين العابدین، میثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر، تعريب: قاسم البيضاني، تحقيق: محمد صالح الحلفي وأحمد عبد الحسين، ط قم، 1434 ه / 2012 م.

22 - القزويني، د. محسن باقر، علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجل المعارضة والدولة،

ص: 73

ط دار العلوم، بیروت، 1425 ه / 2004 م.

23 - المتوكل، محمد عطاء المذهب السياسي في الإسلام، ط 2، بیروت، 1405 ه / 1985 م.

24 - المحنك، هاشم حسين ناصر، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ط النجف، (بلا.ت).

25 - المحنك، هاشم حسين ناصر، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ط دار أنباء للطباعة والنشر، العراق، 1412 ه / 1991 م.

26 - المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، ط 2، دار التعارف، بیروت، 1400 ه / 1980 م.

27 - مغنية، الشيخ محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ط 3، دار العلم للملايين، بیروت، 1400 ه / 1979 م.

28 - الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الأئمة - مکاتیب الإمام علي (عليه السلام)، تحقیق ومراجعة: مجتبی فرجي، ط دار الحديث، قم، 1426 ه / 2005 م.

29 - نصر الله، حسن عباس، جمهورية الحكمة في نهج البلاغة، ط دار القارئ، بیروت، 1427 ه / 2006 م.

ثالثاً: البحوث في المجلات العلمية:

1 - جاسم، سنان سعيد، المنظومة القيمية والأخلاقية في النهضة الحسينية، دورية وقائع مؤتمر الإصلاح الحسين، ط النجف، 1438 ه / 2016 م.

2 - سیساوي، السيد خالد، تغييب القيم وانتهاكها في سياسات الحكم الأموي، مجلة الإصلاح الحسيني، العدد 11، 1436 ه / 2015 م.

3 - العطار، مهدي، الشورى في الإسلام - تأملات في النظرية والواقع التطبيقي، (مجلة قضايا إسلامية)، ع 6، 1419 ه / 1998 م.

ص: 74

رابعاً: الرسائل الجامعية.

1 - مزهر، ثائر حسن ضاحي، اطروحة الحكم عند الإمام علي (عليه السلام)، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1637 ه / 2019 م.

الهوامش:

1. ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله المدائني (ت 656 ه / 1258 م)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط إيران، 1421 ه / 2001 م، 20 / 231.

2. المصدر نفسه، 16 / 94.

3. السيساوي، السيد خالد، تغييب القيم وانتهاكها في سياسات الحكم الأموي، مجلة الإصلاح الحسيني، العدد 11، 1436 ه / 2015 م، ص 158.

4. ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين بن مکرم الأفريقي (ت 711 ه / 1311 م)، لسان العرب، مراجعة وتدقيق: يوسف البقاعي وآخرون، ط بیروت، 1426 ه / 2005 م، مادة قوم؛ الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه / 1002 م)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور، ط 4، بیروت، 1907 ه / 1989 م، مادة قوم.

5. الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه / 1414 م)، القاموس المحيط، إعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، ط بيروت، 1424 ه / 2003 م، مادة قوم.

6. ابن منظور، لسان العرب، مادة قوم، الجوهري، الصحاح، مادة قوم.

7. سورة فصلت، الآية 6.

8. سورة الفرقان، الآية 67.

9. سورة النساء، الآية 34.

ص: 75

10. سورة آل عمران، الآية 75.

11. سورة التوبة، الآية 36.

12. سورة الأنعام، الآية 161.

13. سیساوي، تغييب القيم، ص 158.

14. سیساوي، تغييب القيم، ص 159؛ جاسم، سنان سعيد، المنظومة القيمية والأخلاقية في النهضة الحسينية، دورية وقائع مؤتمر الإصلاح الحسيني الأول، ط النجف، 1438 ه / 2019 م، المجلد الأول، ص 602 - 603؛ وينظر: بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، منشورات ذوي القربی، قم، 1427 ه / 2006 م، 3 / 216 - 217.

15. إذ تتوقف القيمة على المنفعة التي تكون مقياساً للشيء المقوّم، والمنفعة أمر نسبي تماماً ويتوقف على عوامل عديدة كالحاجة والعرض والطلب... الخ.

16. بدوي، موسوعة الفلسفة، 3 / 216 - 217.

17. جاسم، المنظومة القيمية، 1 / 603.

18. سیساوي، تغييب القيم، ص 161 - 162.

19. المتوكل، محمد عطاء المذهب السياسي في الإسلام، ط 2، بیروت، 1405 ه / 1985 م، ص 188.

20. كما في قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» سورة آل عمران، الآية 159؛ وقوله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» سورة فصلت، الآية 34.

21. المتوكل، المذهب السياسي، ص 190 - 191.

22. سیساوي، تغييب القيم، ص 162.

23. الجرجاني، أبو الحسن علي بن محمد بن علي (ت 816 ه / 1413 م)، التعريفات،

ص: 76

ط بغداد، (بلات)، ص 41؛ المحنك، هاشم حسين ناصر، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ط النجف، (بلا.ت)، ص 431.

24. الآصفي، محمد مهدي، في رحاب عاشوراء، مؤسسة نشر الفقاهة، إيران، 1419 ه / 1998 م، ص 61 - 62.

25. سورة ص، الآية 26.

26. نهج البلاغة، جمع: الشريف الرضي، أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسی (ت 406 ه / 1015 م)، تعلیق و فهرسة: الدكتور صبحي الصالح، تحقيق: الشيخ فارس تبریزیان، ط 3، دار الهجرة، قم، 1425 ه / 2004 م، الكلام رقم 42، ص 84.

27. الآصفي، في رحاب عاشوراء، ص 60.

28. الآمدي، عبد الواحد التميمي (من علماء القرن 5 ه)، غرر الحکم و دُرر الكلم، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م، ص 270.

29. ينظر: المجلسي، بحار الأنوار، 17 / 116.

30. شمس الدين، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ط 4، بیروت، 1422 ه / 2001 م، ص 155.

31. ينظر: سورة البقرة، الآية 2، سورة البقرة، الآية 177، سورة آل عمران، الآية 133، سورة المائدة، الآية 8.

32. ينظر على سبيل المثال: نهج البلاغة، الخطبة 75، ص 111؛ الخطبة 82، ص 116، ص 121، ص 125، ص 126، ص 127؛ الخطبة 113، ص 206؛ الخطبة 132، ص 239؛ الخطبة 157، ص 270؛ الخطبة 161، ص 281؛ الخطبة 191، ص 353؛ الخطبة 195، ص 389.

33. سورة النحل، الآية 90.

ص: 77

34. الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل (من علماء القرن السادس الهجري)، مجمع البيان في تفسير القرآن، وضع حواشيه وخرّج آياته وشواهده: إبراهيم شمس الدين، ط دار الكتب العلمية، بيروت، 1618 ه / 1997 م، 1 / 51.

35. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 158.

36. سورة الحجرات، الآية 13.

37. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 159 - 160.

38. ينظر: نهج البلاغة، ص 121، ص 125، ص 206، ص 270 - 271، ص 281.

39. المحنك، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ص 435.

40. شهاب، السيد عباس هاشم علوي، معالم الفكر التنموي الإسلامي (الإمام علي بن أبي طالب a نموذجا)، ط دار العصمة، البحرين، 1928 ه / 2007 م، ص 118 - 119.

41. سیاوي، تغييب القيم، ص 173.

42. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53، 548.

43. وهو القائل: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولا الْتِمَاسَ شيءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإصْلاحَ فِي بِلادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ» نهج البلاغة، نص رقم 131، ص 232.

44. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 365.

45. السيد جاسم، عزیز، علي سلطة الحق، تحقیق وتعلیق: صادق جعفر الروازق، ط قم، 1428 ه / 2007 م، ص 439، ص 440.

46. مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، حضر حروب الفتح، فأصيبت عينه في معركة اليرموك فاشتهر بالأشتر، كان يعيش في الكوفة، وكان المزاياه

ص: 78

الأخلاقية ومرؤته ومنعته وأبهته وحياته، تأثير كبير في نفوس الكوفيين، نفي مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيام عثمان بسبب اصطدامه بوالي الكوفة، واشترك في الثورة على عثمان بن عفان، كان من رجال الإمام علي البارزين أيام خلافته، إذ اشترك في حرب الجمل، وكانت له مواقف مشهودة في صفين، وولي الجزيرة للإمام عليّ ومن ثمَّ ولاه مصراً بعد أن اضطربت على محمد بن أبي بكر، وكان معاوية قد عزم على الاستيلاء على مصر، فخاف من وصول الأشتر إليها لما عرف عنه من كفاءة ودأب واستماتة وخبره في العمل، فقضى معاوية عليه قبل وصوله إلى مصر بطريقة غادرة، بعدما تناول من العسل المسموم بسم فتاك، فحزن الإمام عليّ لفقده، حتى عَدّ موته من مصائب الدهر.

لمزيد ينظر: المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه / 827 م)، وقعة صفين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط 3، قم، 1422 ه / 2001 م، ص 12، ص 62، ص 154، 173، 175، 250، 258، 289، 364، 440، 467، 525، 506، 544، ابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 ه / 889 م)، المعارف، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424 ه / 2003 م، ص 324؛ الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)، (389 - 389، 5 / 63 - 64، الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الأئمة، مكاتيب الإمام علي a، تحقیق ومراجعة: مجتبی فرجي، ط دار الحديث، قم، 1629 ه / 2005 م، 1 / 460 - 471.

47. ينظر: الثقفي، إبراهيم بن محمد بن سعيد (ت 283 ه / 896 م)، الغارات أو الاستنفار والغارات، ط دار الأضواء، بیروت، 1407 ه / 1987 م، ص 166 - 171؛ الطبری، تاریخ، 5 / 63.

48. نهج البلاغة، الكتاب رقم 38، ص 523.

* الظبة: حد السيف والسنان ونحوها.

* نابي الضريبة: النابي من السيوف الذي لا يقطع.

ص: 79

49. ينظر: المحنك، علم الاجتماع في نهج البلاغة، ص 339 - 337.

50. عبد المقصود، عبد الفتاح، الإمام علي بن أبي طالب، ط 2، دار الصفوة، بیروت، 1433 ه / 2012 م، 7 / 132 - 133.

51. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص 545.

52. التميمي، الدكتور مهدي حسين، الإمام علي a في التدبير القيادي للدولة، ط النجف الأشرف، 1436 ه / 2015 م، ص 115.

53. المرجع نفسه، ص 115.

54. أصبح هذا العهد موضع العناية منذ صدوره وإلى يوم الناس هذا عند كثير من رجال العلم، وأعلام الأدب، وأساتذة القانون، لذلك نراهم قد تناولوه درساً وبحثاً وأوسعوه شرحاً وتعليقاً وافردوا فيه المؤلفات، وترجموه إلى بعض اللغات، هذا مضافاً إلى ما تعرض له عامة شراح (نهج البلاغة) بشروح مبسوطة ومختصرة كل بحسب طريقته في شرح نهج البلاغة ولو انتزعت من تلك الشروح لكانت عدة مجلدات. لنماذج من عناوين تلك الشروحات التي عنيت بعهد الأشتر. ينظر: شمس الدين، محمد مهدي، عهد الأشتر، ط 2، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه / 1984 م، ص 46 - 51.

55. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 285.

56. نهج البلاغة، كتاب رقم 53، ص 546.

57. ينظر: الملحق رقم (1) عهد الأشتر.

58. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 285.

59. ينظر: شمس الدين، عهد الأشتر، ص 38 - 39؛ الخوئي، المحقق میرزا حبیب الله الهاشمي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ط دار المحجة البيضاء، بیروت، 1434 ه / 2013 م، 20 / 292.

ص: 80

60. الحكيم، محمد تقي، مع الإمام علي a في منهجيته ونهجه، ط المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، 1423 ه / 2002 م، ص 120 - 121.

61. الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، ط 3، شركة المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، (بلا.ت)، ص 66.

62. الشامي، حسين بركة، البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام علي لمالك الأشتر، ط2 ، دار الإسلام، بغداد، 1429 ه / 2008 م، ص 144.

63. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 141 - 142.

64. الشريفي، محمد رضا مطر، الأصول النظرية للدولة والمواطنة في القرآن الكريم وتطبيقاتها عند الإمام علي بن أبي طالب a، دار الكفيل، كربلاء، 1437 ه / 2016 م، ص 179.

65. القزويني، د.محسن باقر، علي بن أبي طالب a رجل المعارضة والدولة، ط دار العلوم، بيروت، 1425 ه / 2004 م، ص 216 - 217.

66. التميمي، الإمام علي a التدبير القيادي للدولة، ص 167 - 168.

67. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 438.

68. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 274.

69. الشريفي، الأصول النظرية للدولة والمواطنة، ص 266.

70. المحنك، هاشم حسين ناصر، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ط دار انباء للطباعة والنشر، العراق، 1412 ه / 1991 م، ص 305.

71. الشامي، البرنامج الأمثل، ص 143.

72. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 308.

73. الآصفي، في رحاب عاشوراء، ص 64 - 65.

74. نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 565.

ص: 81

75. شمس الدين، عهد الأشتر، ص 164.

76. نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 566.

77. شمس الدين، عهد الأشتر، ص 164.

78. نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 546.

79. حمود، خضیر کاظم، السياسة الإدارية في فكر الإمام عليّ بين الأصالة والمعاصرة، ط بیروت، (بلا.ت)، ص 12، ص 13.

80. الشامي، البرنامج الأمثل، ص 154.

81. شمس الدين، عهد الأشتر، ص 69.

82. نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 547.

83. قال تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» سورة الفرقان، الآية 43؛ شمس الدين، عهد الأشتر، ص 68؛ الشامي، البرنامج الأمثل، ص 160، 161.

84. نهج البلاغة، الكتاب 53 (عهد الأشتر)، ص 546.

85. شمس الدين، عهد الأشتر، ص 69.

86. نصر الله، حسن عباس، جمهورية الحكمة في نهج البلاغة، ط دار القارئ، بیروت، 1427 ه / 2009 م، ص 70.

87. القزويني، الإمام علي، ص 195.

88. نهج البلاغة، الحكمة رقم 68، ص 614.

89. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 252.

90. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 460 - 461.

91. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 57. الادغال = ادخال الفساد، والغِير: حادثات الدهر بنقلب الدول.

ص: 82

92. ينظر: شمس الدين، عهد الأشتر، ص 75.

93. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 548.

94. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 570.

95. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551.

96. حمود، السياسة الإدارية، ص 22 - 23.

97. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 461.

98. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546 - 547.

99. العطار، مهدي، الشورى في الإسلام - تأملات في النظرية والواقع التطبيقي، (مجلة قضايا إسلامية)، ع 6، ص 1419 ه / 1998 م، ص 440.

100. ينظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم (3)، ص 39، الخطبة 33، ص 79.

101. مزهر، ثائر حسن ضاحي، اطروحة الحكم عند الإمام علي، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1437 ه / 2016 م، ص 72-73.

102. ينظر: المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 78.

103. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546.

104. سیساوي، تغييب القيم، ص 171.

105. التميمي، الإمام علي، ص 110 - 111.

106. نهج البلاغة، الخطبة رقم 216، ص 419.

107. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 165؛ الزبيدي، عبد الرضا عبد الأمير، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي a في دراسة في ضوء نهج البلاغة، ط قم، 1426 ه / 2005 م، ص 108.

108. القزويني، علي بن أبي طالب، ص 189.

109. نهج البلاغة، الخطبة رقم 216، ص 418 - 419.

ص: 83

110. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 293.

111. نهج البلاغة، رقم الخطبة، 216، ص 419.

112. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 166؛ الجنابي، ميثم، الإمام علي القوة والمثال - التراجيديا السياسية للطوباوية الثورية، ط دار المدى، دمشق - بيروت، 1416 ه / 1995 م، ص 133.

113. ينظر: نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 556.

114. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 363.

115. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 572.

116. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 15.

117. الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 ه / 1014 م)، المستدرك على الصحيحين، ط دار الفكر، بيروت، 1422 ه / 2002 م، 3 / 337.

118. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549.

119. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 567 - 568.

120. مزهر، أطروحة الحكم عند الإمام عليّ، ص 90 - 91؛ وينظر: نهج البلاغة، 9 - 91؛ الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 569 - 570.

121. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 548.

122. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 202.

123. القزويني، الإمام علي، ص 207.

124. الشريفي، الأصول النظرية للدولة والمواطنة، ص 170.

125. الواسطي، أبي الحسن علي بن محمد الليثي (ت في القرن 6 ه)، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسيني البيرجندي، طقم، 1417 ه / 1996 م، ص 26.

126. صليبا، د.جميل، المعجم الفلسفي، ط إيران، 1426 ه / 2005 م، 2 / 59.

ص: 84

127. ينظر: الآمدي، غرر الحکم، ص 39، ص 43، ص 46، ص 47، ص 102، ص 298، ص 335، ص 354، ص 555، ص 690.

128. نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 151.

129 .الآمدي، غرر الحکم، ص 90.

130. نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 148؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 95.

131. نصر الله، جمهورية الحكمة، ص 152؛ وينظر في أقوال الإمام علي a: (العدل جُنة الدول)، (ما حصن الدول مثل العدل)، (بالعدل تصلح الرعية)، (ما عُمرت البلدان بمثل العدل) الآمدي، غرر الحکم، ص 102، ص 298، ص 688، ص 690.

132. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546.

133. الفكیكي، الراعي والرعية، ص 40 - 41.

134. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549.

135. القزويني، الإمام على، ص 206 - 207.

136. ينظر: الثقفي، الغارات، ص 44 - 49.

137. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 192 - 193.

138. المرجع نفسه، ص 195.

139. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547.

140. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 464، ص 467.

141. المرجع نفسه، ص 466.

142. سورة فاطر، الآية 3.

143. سورة يس، الآية 60.

144. المتوكل، المذهب السياسي، ص 114.

ص: 85

145. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 عهد الأشتر)، ص 556.

146. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 319.

147. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551.

148. سورة الحجرات، الآية 13؛ و(لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى) كما قال رسول الله أ. ابن حنبل، أحمد الشيباني (ت 241 ه / 855 م)، مسند أحمد، ط دار إحياء التراث، بیروت، (بلات)، الحديث رقم 2305.

149. حمود، السياسات الإدارية، ص 34.

150. القزويني، الإمام علي، ص 207.

151. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551.

152. الشریفی، الأصول النظرية للدولة، ص 237.

153. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 546.

154. شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 115 - 117؛ والمتتبع لكليات الإمام علي يجد أن أهداف التنمية عنده تتركز في أربع نقاط رئيسية لخصها أمره لمالك الأشتر ب(استصلاح أهلها) وهي: 1 - بناء مجتمع متعلم. 2 - بناء مجتمع خال من الأمراض. 3 - بناء مجتمع الكفاية. 4 - بناء مجتمع المتقين الذي يتوفر على تلكم الأهداف جميعاً. المرجع نفسه، ص 117.

155. العسل، إبراهيم، التنمية في الإسلام، ط بیروت، 1416 ه / 1996 م، ص 90.

* أهل البؤس: الذين يعانون شدة الفقر.

* الزمني: أرباب العاهات المانعة لهم عن الاكتساب.

* القانع: السائل.

* والمعتر: المتعرض للسؤال بلا عطاء.

ص: 86

* تقتحمه العيون: تنظر إليه احتقاراً وازدراءً.

156. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 563 - 564.

157. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 254.

158. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 343 - 344.

159. المرجع نفسه، 20 / 344.

160. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة ص 247.

161. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 253 - 254.

162. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559.

163. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 423، ص 324.

164. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559 - 560.

* شكو ثقلاً أو علة: أي شكوا من مال الخراج المضروب على الأرض أو من علّة ساوية أضرّت بزرعهمز

* انقطاع شرب: انقطاع ماء في بلاد تسقى بالأنهار.

* انقطاع بآلة: ما يبل الأرض من مطر وندى، للأراضي التي تسقى بالأمطار.

* إحالة أرض: تحويل الأرض البذرو إلى فساد بالتعفن بعد أن غلبت عليها الرطوبة.

* التبجح: السرور بما يرى من حسن عمله بالعدل.

* الاجمام: الترفيه والراحة.

165. شمس الدين، عهد الاشتر، ص 135.

166. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 324.

167. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 559.

168. شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 251.

169. جرداق، جورج، الإمام علي a صوت العدالة الإنسانية، طقم، 1423 ه / 2002 م،

ص: 87

1 / 348.

170. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 567.

171. الأعرجي، زهير، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): السيرة الذاتية والاجتماعية، ط 2، بیروت، 1430 ه / 2008 م، ص 719؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 99 - 100، وللتوسع في القضاء في فكر الإمام عليّ ينظر: عباس الملا، فاضل، الإمام عليّ ومنهجه في القضاء، ط دار الرافدين، بيروت، 1432 ه / 2010 م.

172. المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، ط 2، دار التعارف، بیروت، 1400 ه / 1980 م، ص 97.

173. العطار، الشورى في الإسلام، ص 377.

174. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 550.

175. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 303.

176. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551.

177. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 552.

178. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 470 - 471؛ القزويني، الإمام علي، ص 202 - 203.

179. فليس غريباً أن يأتي ذكرها في الآية نفسها التي حثت على اللين والرفق وهي قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...» آل عمران، الآية 159؛ الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 216.

180. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551.

181. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 217.

ص: 88

182. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 256.

183. المرجع نفسه، ص 257.

184. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 217.

185. السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 453.

186. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 566 - 567.

187. ينظر: شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 332 - 333؛ السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 454 - 455.

188. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 564 - 565.

* متعتع: التردد بسبب العجز والعي، والمراد: غير الخائف.

* الخُرق: العنف.

* الأنف: ضيق الصدر بسوء الخلق، والاستنكاف والاستكبار.

189. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 345.

190. حمود، السياسة الإدارية، ص 28؛ السيد جاسم، علي سلطة الحق، ص 451 - 452؛ وينظر: المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 255.

191. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549.

192. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 113.

193. ابن أبي الحديد، شرح النهج، 20 / 251.

194. شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، ص 274.

195. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547.

196. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 201.

197. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 214.

198. سورة القصص، الآية 83؛ وينظر: سورة آل عمران، الآية 159؛ سورة الشعراء،

ص: 89

الآية 215.

199. الطرطوشي، أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري (ت 520 ه / 1126 م)، سراج الملوك، طبعة حجرية، الاسكندرية، 1289 ه / 1872 م، ص 56؛ الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 214.

200. شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 234.

201. نهج البلاغة، ص 568.

202.شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 235؛ مغنية، الشيخ محمد جواد، في ظلال البلاغة، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1400 ه / 1979 م، 4 / 111.

203. حمود، السياسة الإدارية، ص 29.

204. الشامي، البرنامج الأمثل، ص 147.

205. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 570.

206. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 259.

207. شمس الدین، عهد الاشتر، ص 185.

208. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 550.

209. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 551 - 552.

210. المصدر نفسه، ص 571.

211. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 362.

212. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547.

213. المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 202.

214. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 547.

215. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي (عليه السلام)، ص 102؛ قرباني، زين العابدين، ميثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر،

ص: 90

تعريب: قاسم البيضاني، تحقيق: محمد صالح الحلفي وأحمد عبد الحسين، ط قم، 1434 ه / 2012 م، ص 151 - 152.

216.القزويني، الإمام علي، ص 235.

217. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 549 - 550.

218. الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 303.

219. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 555 - 556.

220. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 571.

221. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 567.

222. ينظر: الملحق رقم (1).

223. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 572.

* سورة حدِّك: حِدة البأس.

* غَرب لسانك: حد اللسان، تشبيهاً له بحد السيف.

* البادرة: ما يبدو من اللسان عن الغضب من سباب ونحوه.

224. نهج البلاغة، ص 554.

225. المصدر نفسه، ص 564.

226. المصدر نفسه، ص 567.

227. المصدر نفسه، ص 571.

228. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 565.

229. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 105.

230. التميمي، الإمام علي، ص 116.

231. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 565.

232. ينظر: الملحق رقم (1) (عهد الأشتر)، شروط اختيار قادة الجند، والقضاة، وعمال

ص: 91

الخراج، والوزراء والمستشارين، والكُتّاب وغيرهم.

233. مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 107.

234. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 561.

235. مزهر، أطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 106.

236. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 561.

237. شمس الدين، عهد الاشتر، ص 141.

238. حمود، السياسة الإدارية، ص 70 - 71؛ مزهر، اطروحة الحكم عند الإمام علي، ص 106.

239. ينظر: شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 260 - 265.

240. نهج البلاغة، ص 554 - 555.

241. المصدر نفسه، ص 557.

242. المصدر نفسه، ص 558.

243. الشريفي، الأصول النظرية للدولة، ص 293؛ شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 265.

244. نهج البلاغة، ص 558.

245. ينظر: شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 266 - 267؛ الفكیكي، الراعي والرعية، ص 113.

246. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 556.

247. المصدر نفسه، ص 551.

248. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 555 - 556.

249. نهج البلاغة، ص 508 - 509.

250. ينظر: الملحق رقم (1) (عهد الأشتر)، أمر الإمام علي الراعي بالتوسعة على قادة

ص: 92

الجند، والقضاة، وعمال الخراج.

251. شهاب، معالم الفكر التنموي، ص 254.

252. نهج البلاغة، ص 558.

253. القزويني، الإمام علي، ص 246.

254. نهج البلاغة، الكتاب رقم 53 (عهد الأشتر)، ص 568 - 570.

255. حمود، السياسة الإدارية، ص 91 - 92؛ المحنك، الإدارة والأسلوب القيادي في نهج البلاغة، ص 210.

256. نهج البلاغة، ص 568.

257. شمس الدین، عهد الاشتر، ص 177 - 178.

ص: 93

ص: 94

المشورة في فكر الإمام علي (عليه السلام) عهد مالك الاشتر (رضي الله عنه) إنموذجاً

اشارة

م. د عقيل عبد الله ياسين العابدي

كلية التربية / جامعة واسط

ص: 95

ص: 96

المقدمة

كثيرة هي المفردات الحضارية التي اكد على ضرورتها المنطق العقلي والشرع الاسلامي، ومنها المشورة فهي عرف دأب العرب على ممارسته في حياتهم العامة، لما له من أهمية في الحياة العامة على وجه العموم والحياة السياسية على وجه الخصوص، وتعززت مكانة ذلك العرف أكثر حينما ظهر الاسلام وعلم بحقيقة ما يتمخض عنه من تسديد الآراء وتأليف القلوب ومعرفة ما يدور في أذهان العقول، حينها أقره وحث الحكام على ممارسته تحت صورة التكافل الفكري والتضامن الاجتماعي بين المسلمين، أكد على تحقيقه والعمل بها بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وصيه الامام علي (عليه السلام)، فقد أشار الى المشورة في مناسبات عديدة ومنها عهده لمالك الاشتر (عليه السلام)، لأهميتها في إنصاف حقوق الرعية وتعزيز حكم الشرع، وإشارته في العهد لم تكن موجهة لمالك (رضي الله عنه) فحسب بل كانت موجهة لجميع الحكام، لحثهم على العمل بها وتحذيرهم من مغبة الصفات الذميمة التي يحملها بعض المستشارون في مشوراتهم للحكام، لا سيما وان لتلك الصفات انعكاسات سلبية على واقع القرارات الصادرة للرعية.

مما سبق تتضح جلياً أهمية الموضوع ومما دعانا الى دراسته قلة الدراسات المتوفرة عنه الى جانب حيويته، فالمشورة تكون بمثابة الروح التي تبعث الاستقرار والازدهار الى الحياة العامة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

لقد اقتضت طبيعة الموضوع جعله في ستة محاور تتقدمها مقدمة وتستأخرها خاتمة، المحور الاول كان بعنوان المشورة لغة واصطلاحاً، وخصص لتعريف المشورة لغة واصطلاحاً، المحور الثاني عنون بالمشورة في مصادر التشريع الاسلامي، وبحث بيان اثر المشورة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريف، المحور الثالث اتخذ عنوان

ص: 97

المشورة عند الامام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، وتناول بحث المشورة في فكر الامام علي (عليه السلام)، المحور الرابع عنون الأئمة (عليه السلام) والحكماء الذين وافقوا الامام علي (عليه السلام) في طروحاته حول المشورة، وتضمن بحث اقوالهم التي وافقت فكر الامام علي (عليه السلام) في المشورة، أما المحور الخامس فقد اتخذ عنوان أهل المشورة والموضوعات التي يتشاورون بها، وبحث حكم الفقه الاسلامي من أهل المشورة إن كانوا مسلمين او غير مسلمين، فضلا عن الموضوعات التي يحق لهم التشاور بها.

اولاً: مفهوم المشورة لغة واصطلاحاً:

المشورة لغةً:

إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية لبحث مدلول كلمة المشورة نجد أن كلمة المشورة أو الشورى أو المشاورة أو الاستشارة ما هي إلا مصادر مأخوذة من الفعلين شور وشار، اللذين يعنيان في معناهما العام الاستخراج أو الاستظهار في الأمر، قيل: طلبت رأيه، أي: استخرجت ما عنده وأظهرته، وقيل: استشار أمره إذا تبين واستنار(1).

وقد استخدم العرب كلمة الشورى والمشورة في أكثر من موضع، فهي وردت للدلالة على استخراج العسل من مواضعه، قيل: شار العسل، أي: جناه من خلاياه ومواضعه، کما جاءت بمعنی بیان هيئة الشخص وصورة لباسه، قيل: أقبل رجل وعليه شورة حسنة، أي: حسن الهيئة واللباس، وقيل أيضاً: فلان حسن المشوار، أي: حسن المنظر، كما وردت بمعنی تفحص بدن الدابة عند الشراء والبيع، قيل: شرت الدابة أجريتها لتعرف قوتها، وقيل: شار الدابة يشورها، أي: إذا عرضها لتُباع، إلى جانب ما ورد جاءت كذلك بمعنى إظهار تجربة الشخص وقوة الرأي، قيل: حسن المشوار، أي:

ص: 98

مُجرَّبَهُ حسن حين تجربة، وقيل: فلان جيد المشورة، أي: إذا ما وجه الرأي(2).

وتبعاً لذلك يمكن القول أن المشورة والشورى والمشاورة والاستشارة كلمات متقاربة في المعنى والمدلول، وإن تعددت الاستخدامات واختلفت، فجميعها تعني في مفهومها العام الاستخراج والاستظهار، وهذا في واقع الحال يصب في مصلحة المعني الحقيقي الذي نبحث عنه في تعريفنا للمشورة من الناحية اللغوية.

المشورة اصطلاحا:

لا يختلف المعنى الاصطلاحي للمشورة عن المعنى اللغوي كثيراً، فهناك مجموعة تعريفات نجدها مبثوثة هنا وهناك تدور جميعها تقريباً حول مفهوم استخراج واستظهار أراء الآخرين، بعد التعرف عليها وإمعان النظر فيها، فقال بعض العلماء أنها: (استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض)(3)، وقال بعض آخر أنها: (الاجتماع على الأمر، ليستشير كل واحد صاحبه، ويستخرج ما عنده )(4)، في حين ذهب بعض منهم على أنها: (المفاوضة في الكلام، ليظهر الحق)(5)، كما عدها بعضهم: (استخراج آراءهم (الأخرون) و إعلام ما عندهم)(6)، وهي عند بعض كذلك: ((مطالعة ذي العقل الراجح)(7).

کما عرفت اصطلاحاً عند المُحدَثين بأنها: (استطلاع الرأي من ذوي الخبرة للتوصل إلى أقرب الأمور للحق)(8)، كما وصفها بعضهم بقوله: (والمشورة ما ينصح به رأي وغيره)(9) وعدها بعضهم بأنها: (اجتماع أهل الرأي في مكان وتداولهم في الأمر النازل بهم، ليصدروا فيه عن رأي واحد)(10).

أما البعض الآخر منهم فقال: (هي عرض المعضلة أو المعضلات في أمور الدنيا والدين، على الذين عرفوا بالتجربة العملية والرأي السديد، سماع الآراء المختلفة،

ص: 99

واستخلاص كل المناسب لتلك المعضلة أو المعضلات من تلك الآراء المعروضة والقرار على تنفيذ كل المناسب)(11)، وذهب بعضهم إلى القول بأنها: (تبادل وجهات النظر وتقليب الآراء مع آخرين في موضوع محدد، للتوصل إلى الرأي الأصوب)(12).

ويتضح من هذه التعريفات أن المراد من المشورة من الناحية الاصطلاحية كما بينا سابقاً هو التداول مع الآخرين لمعالجة موضوع ما، بقصد استخراج واستخلاص رأي يكون سبيلاً للخروج بحل مناسب له.

ثانياً: المشورة في مصادر التشريع الاسلامي:

المشورة في القرآن الكريم:

تبعاً للمكانة السامية التي تمتعت بها المشورة في التراث الإنساني والعربي(13)، أهميتها في صنع القرارات السديدة التي تهم الرعية فقد أَولى الإسلام لها المكانة ذاتها في شريعته، وحرص على ممارستها وإيجادها في جميع شؤون الحياة، وممن نادى بذلك بعد النبي (عليه السلام) الامام علي(عليه السلام)(14)، وبما ان الامام(عليه السلام) مع القرآن :»والقرآن مع علي»(15)، على حد قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فأن القرآن الكريم الذي يكون بمثابة الدستور الذي اعتمده الإسلام في تنظيم حياة الإنسان قد أشغل حيزاً مهماً للمشورة بين صفوف سُوَره وآياته الكريمة، وذلك بشكل يناسب الأهمية التي حظيت بها في التراث الإنساني والمجتمع.

لقد وردت المشورة بصيغة الشورى في القرآن الكريم في مواضع عدة وبصيغ مختلفة دلت على المعنى نفسه الذي ورد في اللغة وفي الاصطلاح، وسنذكر هذه المواضع مع بيان قول المفسرين فيها.

ص: 100

ففي ما يتعلق بذكر السور الواردة فيها لفظة الشورى بصريح العبارة تكون سورة الشورى(16) ممن يمثلها القرآن الكريم، وهي مكية(17)، عنوانها يبين مفهومها بوضوح.

أما ما يتعلق بالآيات التي ضمت بينها لفظة الشورى، فيأتي على رأسها قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(18)، قال الطوسي (ت 460 ه / 1067 م) في معرض تفسيره للآية: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» :(وقيل في وجه مشاورة، النبي (صلى الله عليه واله وسلم) إياهم (أصحابه) مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال: أحدهما على وجه التطيب لنفوسهم والتأليف لهم، والرفع من أقدراهم إذ كانوا من يوثق بقوله: (ويرجع إلى رأيه)، والثاني: وجه ذلك لتقتدي به أمته بالمشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة کما مدحوا بأن أمرهم شوری بینهم، والثالث: أنه للأمرين، لإجلال الصحابة واقتداء الأمة به في ذلك)(19).

هذا وقد أوضح الطوسي في تفسيره ذلك جواز الاستعانة برأي الصحابة في بعض أمور الدنيا، ممن لم ينزل به الوحي حكماً يذكر، کمکائد الحرب، كما أنه بين في أثناء تعليله لبعض الأسباب التي كانت وراء حصول الشورى أنه مارسها ليمتحن بعض أصحابه اليميز الناصح منهم من الغاش(20).

ومن وافق هذا التفسير في أغلب مضامينه الطبرسي (ت 548 ه / 1153 م)(21)، وابن الجوزي (ت 597 ه / 1200 م)(22)، والقرطبي (ت 171 ه / 1272 م)(23)، والفيض الكاشاني، (ت 1091 ه / 1980 م)(24) في تفسيرهم لهذه الآية المباركة، وإن اختلفوا في حكمها الشرعي إن كان وجوبياً أو استحبابیاً(25).

أما الموضع الثاني الذي وردت فيه لفظة الشورى، ففي قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا

ص: 101

لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(26)، ذكر الطبري (ت 310 ه / 922 م) في تفسيره للآية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، والتي فيها بين الله تعالى الصفات الواجب توفرها عند المؤمنين: (أي إذا حزبهم أمر تشاوروا بينهم)(27)، كما فسرها الطبرسي بقوله: (أي لا يتفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه)(28)، أما الرازي (ت 606 ه / 1209 م) فتفسيره للآية يختلف في المضمون عما ذكره الطبري والطبرسي، يقول: (إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه)(29).

وقد نزلت هذه الآية في الأنصار كما يذكر المفسرون، إذ كانوا إذا أرادوا أمراً قبل الإسلام، وقبل قدوم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) اجتمعوا وتشاوروا، ثم عملوا عليه، فأثنى الله عليهم بذلك، وقيل هو في تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وورود النقباء عليه، حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب (رضي الله عنه) على الإيمان به أو النصرة له(30).

ومن الآيات القرآنية الأخرى التي لمّحت إلى مفهوم الشورى قوله تعالى في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ(31) وقصتها مع النبي سليمان (عليه السلام): (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِ فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ)(32)، قال الطوسي في تفسيره للاية: (إن المرأة لما وقفت على كتاب سليمان: ووصَفَته.. وعرفتهم ما فيه قالت لأشراف قومها: أفتوني في أمري، أي أشيروا عليَ)(33).

والجدير بالذكر أن الإفتاء الذي طلبته ملكة سبأ من الملا أي أهل الحل والعقد من قومها ما هو إلاّ لبيان الاستعانة برأيهم في أمر هام ألمَّ بهم؛ وذلك لمواجهته بشكل مقبول لا يخرج عن نطاق الحكمة، وقد حققت ذلك على الرغم من أن المشورة التي قُدمت إليها من قومها كانت تقضي باستخدام القوة لمواجهة نفوذ النبي سليمان (عليه السلام)

ص: 102

المحدق، إذ اتجهت إلى رأي طمحت من خلاله إلى مواجهة ذلك الخطر بطريق دبلوماسي يقضي بكسب ود سليمان من خلال مراسلته وإبعاث الهدايا إليه، والخطوة التي تقدمت بها ملكة سبأ في معالجة الأمر إن دلت على شيء فإنما تدل على أن المشورة في بعض الأحيان لم تكن ملزمة في التطبيق للمستشير إذا كانت ضعيفة في معالجة الواقع المشكل.

ويتضح مما سبق إن مفهوم المشورة الذي جاء بصيغة الشورى في القرآن الكريم بشكله الصريح وغير الصريح شغل مكانة مرموقة في القرآن الكريم، وهذا الأمر لم يأتِ اعتباطا بل جاء طبقاً للأهلية الكبيرة التي حظي بها في تنظيم الشؤون الحياتية المختلفة، لاسيما وأن القرآن الكريم حث على ضرورة تحسين الواقع الذي يعيشه الإنسان، من خلال الالتزام بتطبيق المبادئ والقيم التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، والتي تكون المشورة واحدة من مفرداتها الحضارية، إذ إن اعتمادها من قبل أي جماعة يحملها على التفكير في إصلاح شؤونها المختلفة، بما يؤدي إلى تقدمها ورقيها.

المشورة في السنة النبوية الشريفة:

إن المتتبع لسيرة الامام علي (عليه السلام) يجدها مرآة عاكسة لسيرة النبي عليه السلام)، وسيرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كما هو معلوم ترجمة عملية لما ورد في القرآن الكريم من قيم وأفكار ومُثُل وأخلاق، وعلى ذلك الاساس آن تأكيد الامام (عليه السلام) على المشورة في عهده المالك الأشتر (رضي الله عنه)(39) يتوجب أن يكون لها أصل في سنة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وبعد البحث وجدنا الاصل حاضر في تلك السنة، فكما يذكر ان المشورة كانت واحدة من القيم التي مارسها (صلى الله عليه واله وسلم) قولاً وفعلاً في حركته(35)، وأكد على تطبيقها لما فيها من أهمية على مستقبل المجتمع الإسلامي في جميع شؤونه، فهي نظام حكم، وشرعة دين، ومنهج حياة،

ص: 103

وتکافل مجتمع.

لقد تعرضت السنة النبوية الشريفة للمشورة کما تعرض لها القرآن الكريم، وقد جاء ذلك في أحاديثه الشريفة المختلفة مع أهله (عليه السلام) وأصحابه (رضي الله عنه)، وللتعرف على ذلك يمكن لنا إيراد بعضها بالأقوال الآتية:

1 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) لأبن عمه الإمام علي (عليه السلام) حين ولاه اليمن وهو يوصيه بالتزام المشورة في عمله باعتبارها أساس النجاح في الإدارة والقيادة، قال الإمام (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه واله وسلم): ((لما ولاّني النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على اليمن قال لي وهو يوصيني، يا علي ما حار مَن استخار ولا ندم مَن استشار)(36).

2 - حدیثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يظهر المسؤولية الملقاة على عاتق المستشار: (المستشار مؤتمن)(37).

3 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يُبرز أهمية المشورة في هداية الناس إلى أصلح أمورهم: (ما تشاور قوم قط إلاّ هُدوا لأرشد أمرهم)(38).

4 - حدیثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يبين استحباب المشورة ومباركة الرأي المشاور فيه: (مَن أراد أمراً فشاور فيه مسلماُ وفقه الله لأرشد أموره)(39).

5 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يعكس الضرورة المُلحة لممارسة المشورة بالنسبة للفرد: (ما يستغني رجل عن مشورة)(40).

6 - حدیثه (صلى الله عليه واله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) وهو يعد المشورة بمثابة المناصرة والمؤازرة: (لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير)(41).

7 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يحذر المستشير من مغبة عدم الأخذ بمشورة العاقل الناصح: (استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا)(42).

ص: 104

8 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يشبّه المشورة بالحصن المنيع من الندامة والملامة المرافقة لسوء التدبير: (المشاورة حرز من الندامة وأمن من الملامة)(43).

9 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يرد على سؤال عن معنى الحزم، قيل له (صلی الله عليه واله وسلم) ما الحزم، فقال (صلى الله عليه واله وسلم): (مشاورة ذوي الرأي وإتّباعهم)(44).

10 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يحدد هوية المستشار وأهميتها في درء الأخطار: (مَن شاور الأودّاء أمن الأعداء)(45).

11 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يشبه المشورة بالمؤازة: (نِعْم المشاورة المُؤازرة)(46).

12 - حديثه (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يظهر الأثر السلبي للاستبداد بالنسبة للأثر الإيجابي للمشورة: (ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة)(47).

من ذلك الاستعراض الذي شبه فيه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في أحاديثه الشريفة الاستشارة بأروع الصفات الإنسانية كالمؤازرة والأمانة والرشد، يمكن الاستدلال على المكانة الرفيعة التي تبوأتها في السنة النبوية (القولية)، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى عناية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بها ومدى التزامه في تطبيقها في مختلف الأمور المهمة وغير المهمة، كونها البوابة التي يدخل من خلالها الصلاح للفرد والمجتمع.

ص: 105

ثالثاً: المشورة عند الامام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه):

في الوقت الذي أخذت فيه المشورة حيزاً مناسباً من الذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كان لها حصة في الشأن نفسه في فكر الامام علي (عليه السلام)، وكيف لا يكون ذلك والامام (عليه السلام) الصورة الناطقة للقرآن والنفس المثالية للنبي (صلى الله عليه واله وسلم)، ومرد اهتمامه بها لم يكن اعتباطاً بل جاء لدورها في تسديد الرأي وتأليف القلوب، وقد ورد ذكره للمشورة في مناسبات عديدة ولعل ابرزها في اثناء تولية مالك الاشتر (رضی الله عنه) ادارة مصر سنة 38 ه / 661 م وعهده له في السياسية التي تعينه على ادارة البلاد، وإلى ذلك أشار (عليه السلام) لمالك (رضي الله عنه) بقوله: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور فان البخل والجبن والحرص غرائز شتّی يجمعها سوء الظن باللهّ)(48).

وقصد من ذلك ابعاد المستشارين الذين يتصفون بخصال ذميمة عن صنع القرار، لتأثير تلك الصفات على مضمون القرار نفسه، مما ينعكس سلباً على السياسة التي يعتمدها الحاكم في التعاطي مع الرعية، بالشكل الذي يؤدي في النهاية إلى خروج الحاكم عن طاعة الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم)، وفشله في عمله المناط اليه.

وتولى الإمام (عليه السلام) عرض الصفات الذميمة لدى المستشارين بحسب أهميتها على واقع سياسة الدولة تجاه الرعية، فهو جعل المستشارين الذين يتصفون بالبخل على رأس المستشارين الواجب تجنبهم عند صنع القرار، لما لها من أهمية كبرى في التأثير على القرارات الاقتصادية التي لها صلة بمعاشات الناس وأعمالهم، وقد اشار الإمام (عليه السلام) الى ذلك بقوله:» ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر»، أي عليك تجنب المشورات التي تؤثر على سلباً على الواقع الاقتصادي للرعية،

ص: 106

لتداعياتها الوخيمة على حياة الرعية، فهي قد تكون سبباً في افقارهم وتجويعهم وتمردهم على سلطة الدولة، وجاء تحذير الإمام (عليه السلام) رداً على ما ذهب اليه هذا الصنف من المستشارين في تزيين مشوراتهم للحكام من ناحية بيان مردودها الايجابي على اقتصاد البلاد، ومما لا شك فيه أن الأهمية السلبية التي حظيت بها تلك الصفة في فكر الإمام (عليه السلام) مردها إيمانه بأثرها في نشوء الفقر وما يترتب على ذلك من مخاطر على صلاح الفرد، وقد اشار الامام الى تلك المخاطر بمقالات عدة أوضحت اثارها، ولعل ابرزها قوله :» الفقر الموت الاكبر»(49)، ولم تأتي تلك المخاطر بمعزل عن حكم الله وسنة نبيه بل جاءت بموازاتهما، قال تعالى:» الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف»(50)، فهنا قدم جانب الامن الغذائي على الأمن المجتمعي، لخطورة الفقر على حياة الفرد العامة كما أن النبي (ص واله) حذر من الفقر وأعده باباً لاقتراف الذنوب العظام ومنها الكفر بالله تعالى، قال (صلى الله عليه واله وسلم):» بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرائض ربنا«(51).

الصفة الثانية التي أشار الإمام (عليه السلام) إلى مراعاتها في اختيار المستشارين الجبن، قال (عليه السلام): (ولا جباناً يضعفك عن الأمور)، فهو في هذا المقام اوجب على الحاكم ضرورة عدم اشراك المستشار الجبان في صنع القرار، لان اشراكه يجبن الحاكم على مواجهة التحديات التي تهدد أمن واستقرار الدولة، مما يتيح المجال للأخرين لإثارة الفوضى في البلاد، بما يؤدي في النهاية إلى ضياع الأمن وتعطيل مصالح الرعية، والامور التي قصدها الإمام (عليه السلام) في قوله عديدة، منها: ما تكون حركة تمرد ضد الدولة، او قوة طامحة في السيطرة على حكم البلاد، او قوة سياسية منافسة لسلطة البلاد، او جهات تريد العبث بمصالح الرعية.

ص: 107

وجاء تأكيد الإمام (عليه السلام) على تجنب المستشارين الذين يتصفون بالجبن لضمان بسط الأمن، والامن كما هو معلوم جاء من حيث الأهمية بعد مكافحة الجوع، قال تعالى: «الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، مما يدلل على توافق طروحات الإمام (عليه السلام) مع الطروحات التي دعت اليها الشريعة والمنطق في عرض حاجات الرعية الملحة.

الصفة الاخرى التي استلزم الامام (عليه السلام) عدم توفرها في شخص المستشار الحرص، قال (عليه السلام) في معرض حديثه عن الصفات الذميمة الواجب خلوها من نفس المستشار: (ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور)، وقصد (عليه السلام) من ذلك بیان الأثر السلبي للمستشار الحريص على القرار الذي يصدره الحاكم تجاه التحديات التي تعترض البلاد، ويوضحها اكثر في انعکاس تطلعات المستشار الحريص على قرارات الحاكم تجاه الرعية، فهو غالباً ما يسعى الى اقناع الحاكم على اتخاذ القرارات التي تضمن بقاءه في سدة الحكم بغض النظر عن تأثيراته الظالمة للرعية، ولما تلقى إذناً صاغية من الحاكم للوهلة تكون محبذه عنده في النهاية كونها تكون متماشية مع رغبته في البقاء في السلطة.

وبما أن عمل المستشار مشابه إلى حد ما مع عمل الوزير من ناحية تقديم النصح والارشاد للحاكم فقد حذر الإمام (عليه السلام) الحاكم من اتخاذ الوزراء الذين كانت لهم سابقة في نصرة الحكام الظلمة، وإلى ذلك أشار بقوله: «إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا فاتخذ أولئك

ص: 108

خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة»(52)، وجاء تحذير الامام (عليه السلام) من هؤلاء بسبب ممارستهم للظلم سابقاً تجاه الرعية مما يجعلهم مهيئين لممارسته لاحقاً مع أي حاکم اخر، ومما يساعدهم على ذلك نفاقهم وانانيتهم، فهم لم يأملوا الخير للرعية بقدر ما ياملوا ظلمها في مشوراتهم للحكام، عبر مجاملتهم وتأمين الظروف التي تضمن بقاءهم وبقاء الحكام في السلطة.

هذا وقد عزز الإمام (عليه السلام) تأكيده على اهمية ممارسة الحاكم للمشورة الصالحة في مناسبات عديدة حثت الحاكم على اعتماد المشورة في رسم القرارات المختلفة، ومنها كانت وصاياه لأصحابه (رضي الله عنه)، قال (عليه السلام): و ((مَن شاور ذوي الألباب دل على الصواب)(53)، أي من لزم مشاورة اصحاب العقول من العلماء والعارفين وغيرهم لم يزل عن سبيل الصواب في قوله وفعله، وقال (عليه السلام): (شاور في حديثك الذي يخافون الله)(54)، إشارة إلى انتقاء المستشارون المتقون عند طلب المشورة، بقصد تقديم النصح في الرأي وكتمان الأمر المستشار فيه، وقال (عليه السلام) مندداً بالاستبداد: ((مَن استبدّ برأيه هلك ومَن شاور الرجال شاركها في عقولها)(55)، وقصد (عليه السلام) في القول مصير المستبد وحال المستنير بآراء الآخرين، وكيف يكون متضامن مع عقولهم في مواجهة التحديات الى تعترضه، ولم يخصص الإمام (عليه السلام) في القولين هوية المستشير في ما لو كان حاکماً او کان فرداً من العوام، لكنه قصد الحاكم فيها أثر من الفرد، لان اهميتها على الحاكم تكون أكثر من العامي، اذ ان مردود وقوعها عند الحاكم يكون على العوام اكثر من مردود وقوعها لدى الفرد الواحد، وقال (عليه السلام): (الاستشارة عين الهداية وقد خاطر مَن استغنی برأيه)(56)، أي أن في ممارستها مسايرة لهدى الباري

ص: 109

تعالى والاستغناء عنها يعني اختيار السبيل المؤدي إلى الوقوع في المخاطر، والمخاطر التي قصدها الإمام (عليه السلام) القرارات الخاطئة التي يصدرها الحاكم تجاه الرعية، واثرها السلبي على سير حياتهم، كما قال (عليه السلام) في مناسبة اخرى: (ما عطب امرء استشار)(57)، وهنا (عليه السلام) جزم بصحة قرارات الفرد الذي لا ينفك عن ممارسة المشورة، ومما لاشك فيه الأولوية في ممارستها تكون للحاکم دون المحكوم، وقال (عليه السلام): (لا مظاهرة أوثق من المشاورة)(58)، والمظاهرة هنا تأتي بمعنى النصرة، والنصرة تكون للحاكم بمثابة الجماعة التي تقف معه ضد اعداءه، ووقوفها معه يكون في نظر الإمام (عليه السلام) أوثق من نصرة اتباعه، وقال (عليه السلام) وهو يظهر عظم النتائج المترتبة على ترك المشورة: (مَن لم يستشريندم)(59)، أي أن الندم والخسران سيكونان حليفا المستبد في رأيه بغض النظر عن هويته إن كان حاكماً او محکوماً، وقال (عليه السلام) وهو يظهر محاسن المشورة ومكارمها على الحاكم والمحكوم في أي واحد: (في المشورة سبع خصال استنباط الصواب واكتساب الرأي والتحصن من السقطة وحرز الملامة ونجاة الندامة وألفة القلوب واتِّباع الأثر(60)، ومفهوم الخصال السبعة التي قصدها (عليه السلام) في قوله: استنباط الصواب أي الاجتهاد مع الاخرين في الوصول الى الرأي الصحيح، أما مقصده من واكتساب الرأي أي في الحصول على الرأي السديد، وأما قوله والتحصن من السقطة أي الوقوع في مزالق الخطأ، وقوله وحرز الملامة أي انها المأمن من الملامة التي يجريها الاخرين على الحاكم إزاء المهالك الواقعة عليهم من جراء ما يرد من القرارات الخاطئة، وعني با ونجاة الندامة أي فيها الفلاح من هاجس الندم الذي يرافق الحاكم بعد الوقوع في هاوية الخطأ، كما انه اراد من وألفة القلوب أي ما يرد من ممارستها من توادد وتكافل تؤدي الى تألیف قلوب الاخرين وهذا ما لم يحصل في الاستبداد، اما ما قصده من اتباع الأثر أي الاستنان بسنة مارسها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وحرص على اتباعها.

ص: 110

رابعاً: الصحابة والائمة والحكماء الذين وافقوا الامام علي (عليه السلام) في المشورة:

مما لاشك فيه أن الفكر الذي حمله الامام علي (عليه السلام) ودعا اليه المسلمين وغير المسلمين لم يأت من مصدر مجهول بل جاء من معين خازن علم الأولين والآخرين النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وبما إن ذلك الفكر لا يقبل التفسير الذي لا يوافق العقل في جزيئة ما فمن غير الممكن لا يحظى بقبول أفكار الاخرين، وعلى ذلك الاساس أقر الأئمة (عليه السلام) والحكماء في أقوالهم ووصاياهم بصحة جميع أفكار الامام علي (عليه السلام) في المشورة، ودعوا اليها من خلال تصريحهم بمكانة المشورة ومنزلتها السامية والصفات الواجب توفرها عند المستشار، وقد اتخذت تلك الدعوة في الغالب جانب التلميح إلى فكر الإمام (عليه السلام) في المشورة دون جانب التصريح لكن الذي دل على وجوده التشابه الواضح في الأفكار، ومما يعزز ذلك عظم علم الإمام (عليه السلام) فهو دون ادنى شك أعلم المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهذا يجعله بمثابة المدرسة التي يتعلم منها الأئمة والصحابة والحكماء فنون العلم والمعرفة الأصيلة، وقد صرح بعض الصحابة بذلك، لا سيما عمر بن الخطاب بقوله: «لولا علي الهلك عمر»، وقوله: «ما أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن» ولكثرة مقالاتهم المطروحة في هذا الجانب ارتأينا عرضها بحسب التسلسل الزمني لوفيات أصحابها، منها:: كان قول عمر بن الخطاب (ت 23 ه / 644 م) وهو يظهر أصناف الرجال بالنسبة لموقعهم من المشورة: (الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشداً ولا يطيع أمراً)(61)، وقوله وهو يبين عدم مقبولية الرأي المسدي دون المشورة: (مَن دعي إلى يسارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل)(62)، وقوله وهو يظهر قوة الرأي النابع من

ص: 111

المشورة: (الرأي الفرد کالخيط السحيل والرأيان كالخيطين والثلاثة الآراء لا تكاد تنقطع)(63)، وكان للإمام الحسن بن علي (عليه السلام) (ت 50 ه / 670 م) قول في المشورة أظهر فيه البركة التي يحلها الله تعالى بين المستشیرین نصه: (ما تشاور قوم قط بينهم إلاّ هداهم الله لأفضل ما يحضرهم)(64)، وقوله وهو يصنف الرجال بحسب منزلتهم من المشورة: (الناس ثلاثة فرجل، ونصف رجل، ولا شيء، فأما الرجل التام فالذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف رجل فالذي ليس رأي وهو يستشير، وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي وهو لا يستشير)(65).

اما الأحنف بن قيس (ت 67 ه / 686 م) فبين قيمة المشورة والعقل في تحكيم الرأي السديد بقوله(66): ((أضربوا الرأي بعضه ببعض يتولد منه الصواب وتجنبوا منه شدة الحزم، وانتهوا عقولكم، فإن فيها نتائج الخطأ، وذم العاقبة)(17).

كما أشار الإمام الباقر (عليه السلام) (ت 114 ه / 732 م) وهو يعكس قيمة المشورة عند أهل الكتاب: (في التوراة أربعة اسطر: مَن لا يستشر يندم، والفقر الموت الأكبر، کما تدين تدان، ومَن ملك استأثر)(68).

وأورد ابن المقفع(69) (ت 142 ه / 759 م) في آدابه اقوال دعا فيه الأفراد إلى تجاوز فكرة التحرج من استشارة الآخرين، باعتبارها عقبة تحول أمام عملية تصحيح الرأي: (لا يقذفن في روعك إنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر، ولكن للانتفاع به، ولو أنك أردته للذكر، لكان أحسن الذكر عند العقلاء)(70).

وأظهر الإمام الصادق (عليه السلام) (ت 148 ه / 765 م) في المشورة مقالات مختلفة أكد فيها على أهميتها في سداد الرأي ومعاضدة الفرد ونصرته من مداحض الوقوع في الخطأ: (المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل)(71)، و((لا غنى أخصب من

ص: 112

العقل، ولا فقر أحط من الحمق ولا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه)(72)، و((لن يهلك امرؤ عن مشورة)، و((إذا نزلت بك نازلة فلا تشکها إلى أحد من أهل الخلاف، ولكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنك لن تعد خصلة من أربع خصال: إما كفاية بمال وإما معونة بجاه أو دعوة فتستجاب أو مشورة برأي)(73).

أما الإمام الكاظم (عليه السلام) (ت 181 ه / 797 م) فقد صنف موقف الحاكم من الرأي المشاور فيه إن كان صحيحاً أو خاطئاً بقوله: (من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادحاً، وعند الخطأ عاذراً))(74).

وأورد الإمام الرضا (عليه السلام) (ت 203 ه / 818 م) قولا أشاد فيه بالحرص الذي يوليه أبوه الإمام الكاظم (عليه السلام) لمبدأ المشورة في تعامله مع الآخرين رغم متانة فكرة ورجاحة عقله: (كان عقله لا يوازن به العقول وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن شاء الله تبارك وتعالى ربها فتح على لسانه، قال، فكانوا ربما أشاور علیه بشيء فيعمل به)(75).

اما مقالات الحكماء في المشورة فهي كثيرة لا يمكن الإحاطة بها لكثرتها، نذكر منها النُزْر اليسير، منها: (مشاورة الحكماء ثبات)(76)، أي إن الآراء المسداة منهم فيها السداد والثبات، ومنها (مَن استغنى بعقله ضل ومَن أستبد برأيه زل، ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومَن استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول)(77)، يعني ذلك أن مصير الاستبداد الخطأ والزلل في حين التشاور في الأمور يكون واقعه الصواب والفلاح، (إذا أشكلت عليك الأمور أو تغير لك الجمهور، فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة العلماء، ولا تأنف من الاسترشاد ولا تستنكف من الاستمداد، فلأن تسأل وتسلم خير من أن تستبد وتندم)(78)، أي أنه إذا اشتبهت عليك الأمور فاحتكم إلى أهل الرأي والتجربة لمعالجتها دون الاستنكاف من ذلك أو الاستبداد في الرأي.

ص: 113

وقال الحكماء أيضاً: (من شيم العاقل عند النائبة تنوبه، أن يشاور عاقلاً ناصحاً ذا رأي ثم يطيعه وليعترف للحق عند المشورة)(79)، (مَن استشار استبصر)(80)، وقال الحكيم وهو يعكس أثر المشورة في نجاة الفرد من ملامة الاستبداد: (ما غُبنت قط حتى يغبن قومي، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم)(81).

وقد جاءت تلك المقالات بألوانها المختلفة وأشكالها المتنوعة لتؤكد حقيقة مفادها أن المشورة شِرعة إلهية وسنة نبوية لا يمكن الاستغناء عنها، كونها أداة أودعها الله لسعادة الإنسان ورقيه في شؤون حياته المختلفة.

خامساً: أهل المشورة ومجال الموضوعات التي يتشاورون فيها:

أهل المشورة:

بما ان الامام علي (عليه السلام) لم يشر في العهد الى أهل المشورة بشيء من التفصيل، بسبب عدم تخصص العهد لذلك الموضوع حرصنا على بيانه بشيء من الموضوعية والشمولية، لعل في ذلك إكمالاً لصورة المشورة التي يريدها الامام علي (عليه السلام) في فكره ونهجه، مستعينين على ذلك بنصوص تشريعية، ودلائل عقلية، و شواهد تاريخية تدلل على ما نذهب اليه من الحقائق والآراء، ابتداءً عند التطرق إلى أهل المشورة تتبادر إلى أذهاننا مجموعة من التساؤلات تكون بحاجة إلى إجابات تفي بالغرض المنشود من الدراسة، منها ما يتعلق بمفهوم الشورى، ومنها ما يتعلق بالتنظيمات التي تكونه، إلى جانب الإطار الزمني لأصل نشأته ومكونات أعضائه، فضلاً عن المؤهلات الواجب توفرها عندهم والآداب الواجب مراعاتها عند أخذ المشورة منهم.

وللإجابة على تلك التساؤلات كان لزاما علينا أن نُفصل في عرض الإجابات المناسبة

ص: 114

لها، بقصد إعطاء صورة واضحة عنها تفي بالغرض المنشود، ففي ما يتعلق بمفهوم أهل الشورى فالذي يُراد به تلك الجماعة التي تتوافر فيها مزايا اجتماعية وعلمية(82)، تؤهلها التولي مهمة تنظيم شؤون المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، من خلال مساهماتهم الفاعلة في صياغة القرارات المؤدية إلى ذلك التنظيم عن طريق المشورة، وتتم عملية وصول تلك الجماعة التي يمثلها العلماء ووجهاء الناس وأهل الخبرة إلى المكانة تلك عن طريق الثقة التي تمنحها لهم الأمة في النيابة عنها في التعاطي مع الشؤون المختلفة التي تواجهها، تحقيقاً لمصالحها العامة، وخير من يمثل تلك الجماعة النقباء الإثنا عشر الممثلون عن سكان أهل المدينة المنورة، الذين أخرجهم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بعد بيعة العقبة الثانية سنة (12 ب / 121 م)، وذلك ليكونوا له مستشارين في اتخاذ القرارات بعد هجرته إلى المدينة(83).

والظاهر من النصوص التاريخية أن المشورة لم يكن وجودها محصوراً عند تلك الجماعة بل لها حضور عند جهات أخرى يمكن بيانها على مستويين آخرين هما: أهل الشورى بالمعنى الواسع أي جمهور الأمة، فكل مسلم بالغ عاقل يكون من أهل الشوری، قال تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (84)، فالضمير هنا للجميع، أي لجميع المسلمين(85)، واستشارة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لعامة أصحابه بشأن قتال قريش بعد صد المسلمين لقوافلهم التجارية المارة بحدود المدينة خير مثال على ذلك، والذي فيه يقول: (أشيروا عليَّ أيها الناس)(86).

أما المستوى الثاني للحصول على المشورة فهو الشورى الخاصة (الفردية)، وتكون عند أهل الاختصاص من العلماء وأهل الخبرة في مختلف مجالات الحياة، ويشترط في هؤلاء توافر ميزة التخصص الدقيق والخبرة الخاصة في أي مجال من المجالات العامة، ومصداق على ذلك مشورة الصحابي سلمان الفارسي (المحمدي) (رضي الله عنه) على

ص: 115

النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بحفر الخندق حول المدينة المنورة سنة (5 ه / 626 م(87).

أما الإطار الزمني لنشأة فكرة أهل الشورى بمستوياتهم المختلفة فتعود إلى عصور موغلة في القدم، إذ وُجدت بوجود التمدن عند العراقيين القدماء والمصريين واليونان والرومان والفرس، ووجدت كذلك عند العرب في دار الندوة.

أما زمان ظهور مصطلح أهل الشوری بمنظوره الإسلامي، فيمكن القول إلى أنه بدأ ببداية مبدأ الشورى الذي دعا إليه القرآن الكريم وأمر بتطبيقه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على أصحابه، إذ بادر (صلى الله عليه واله وسلم) قبل الهجرة بالتنسيق مع زعماء المدينة في بيعة العقبة الثانية إلى تشكيل أول مجلس شورى في الدولة مكون من أثنی عشر رجلاً من وجوه المهاجرين الأنصار، يرجع إليهم في مهام الأمور(88).

أما بالنسبة إلى الأعضاء التي يتكون منه مجلس الشورى فمنهم المسلمون وغير المسلمين ومنهم الذكور والإناث استناداً إلى قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، إذ إنه تعالى لم يحدد في الآية المذكورة الهوية الدينية للشخص المستشار، ولم يحدد جنسه إن كان ذكراً أم أنثى، ومع ذلك فأن الأمر مختلف عليه، إذ اختلف العلماء المسلمون في بيان الحكم الشرعي في مسألتي إشراك الذمي والمرأة في المشورة وجعلهم ضمن دائرة أهل الشورى.

ففي ما يتعلق بالحكم الشرعي للمسألة الأولى (إشراك غير المسلمين في المشورة) طرح الفقهاء المسلمون في ذلك رأيين لكل منهما دليل يثبت صحته، الرأي الأول أظهر عدم جواز الاستعانة برأي الذمي، وهو قول المالكية والحنبلية(89)، وقد استدلوا في صحة ما ذهبوا إليه بآيات عدة من القرآن الكريم وبأحاديث شريفة من السنة النبوية، أبرزها: قوله تعالى: «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ»(90)، وقد فسرت الموالاة هنا بالمعونة والمظاهرة والنصرة(91)،

ص: 116

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»(92)، وقد جاءت البطانة في هذه الآية بمعنى الخواص، قيل بطانة الرجل خاصته أي المقربين له، أما معنى من دونكم فهو من غيركم أي من أهل الأديان الأخرى(93).

قال الرازي في تفسير هذه الآية: (إن الذين نهى الله المؤمنين من مخالطتهم... اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم، ويؤانسوهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله)(94).

إلى جانب ذلك استدل أصحاب هذا الرأي بقول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (لا تستضيئوا بنار أهل الشرك ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً)(95)، قيل إن المراد بالاستضاءة هنا الاستشارة في الأمور، أي لا تستشيروا المشركين في أموركم، فتعملوا بآرائهم(96).

أما قول الرأي الثاني في تلك المسألة فقد أجاز الاستعانة برأي غير المسلمين في مواطن ولم يجوزها في مواطن أخرى، وهو ما تذهب إليه الحنفية(97)، والزيدية(98)، والشافعية(99)، والشيعة الإمامية(100)، وبعض الحنابلة(101) وقد استدل أصحاب هذا الرأي على صحة قولهم المتعلق بجواز الاستعانة برأي غير المسلمين بآيات من القرآن الكريم، وبأفعال من السنة الشريفة نذكر أهمها: قوله تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(102).

ص: 117

قال البغوي في تفسير: (أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم أن تعدلوا فيهم بالإحسان والبر)(103) ولعل الرجوع إليهم للاستنارة برأيهم في مهام الأمور من ألوان ذلك البر الذي أوصى الله تعالى به المسلمين.

ومن الآيات الأخرى قوله تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»(104) وقد وردت هذه الآية في أهل الكتاب ولا سيما اليهود والنصارى، كما ذهب إليه أغلب المفسرين، قال القرطبي وهو يفسر الآية: (يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي قال سفيان سماهم أهل الذكر لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب، وكان کفار قریش پراجعون أهل الكتاب في أمر محمد (صلى الله عليه واله وسلم))(105).

کما استدل أصحاب هذا الرأي على صحة قولهم باستعانة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بعد هجرته بيهود المدينة المنورة ضد مشركي قريش في وثيقة المدينة، وقد حصل ذلك بعد المشاورة التي حدثت بين الطرفين، واستمر الاتفاق إلى يوم الأحزاب سنة (5 ه / 626 م)، إذ نقض اليهود الاتفاق المبرم من خلال تحالفهم مع القرشيين على حرب المسلمين(106).

فضلاً عن ذلك فقد استدلوا على صحة قولهم باستعانة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بصفوان بن أمية يوم حنين سنة (8 ه / 629 م)، وذلك عندما أعار الأخير النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بعد المشاورة أدرعاً وسلاحاً لقتال هوازن، ففي رواية ابن هشام (ت 213 ه / 828 م): (لما أجمع رسول الله، فأرسل إليه وهو يومئذ مشركاً، فقال: يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا تلق عدونا غداً، فقال صفوان: أغصباً یا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح)(107).

ص: 118

ومن الأدلة والشواهد الأخرى التي طرحها أصحاب هذا الرأي استعانة الخلفاء بأهل الذمة في إدارة شؤون الدولة، فمن ذلك أن عمر بن الخطاب جعل موظفي دواوین الدولة في عهده من الروم(108).

أما الأمور التي يجوز فيها مشاورة غير المسلمين في نظر أصحاب هذا الرأي فهي القضايا التي تعالج المسائل الدنيوية مثل الجوانب الاقتصادية كالتجارة والصناعة والزراعة، والجوانب السياسية العامة، کشؤون الحكم والحرب، أما المسائل التي لم يجوّزوا فيها مشاورة غير المسلمين، فهي القضايا التي تخص الأمور الدينية كالإمامة والقضاء وشؤون العبادات إلى غير ذلك، التي يشترط لمن يتدخل في شأنها صفة الإسلام(109).

ولم يذكر أصحاب هذا الرأي شواهد تاريخية تدلل على مشاركة غير المسلمين في التداولات التشاورية الخاصة بالدين، كالأحكام الشرعية، والعبادات، والعقائد، واختيار الإمام، والقاضي، مما يعزز رأيهم.

والجدير بالذكر أن مؤيدي هذا الرأي حددوا شروطاً لمن جوزوا له حق المشاورة في الجوانب الدنيوية، وذلك من باب حماية المصالح العامة الخاصة بالإسلام والمسلمين من جهة ولكي تكون المشورة ذات جدوى قيمة يمكن الاستفادة منها من جهة أخرى، ومن تلك الشروط الأمانة(110)، فضلاً عن الشروط الأخرى كالعلم، والتجربة، إلى غير ذلك، والأمانة هنا تحمل معاني كثيرة، مجملها عدم إشراك النوازع النفسية (السلبية) في التأثير على الرأي المستشار فيه، بقصد إضعافه، ومنها العداء، والتعصب، والحقد، والموالاة إلى غير ذلك.

وقد قدم هذا الشرط (الأمانة) على الشروط الأخرى بسبب سلبية النظرة السائدة بين المسلمين تجاه أهل الذمة، إذ أنهم غالباً ما كانوا يضعونهم في خانة الاتهام، وهذه النظرة مبررة بإطارها العام، ومما يؤكد صحتها الواقع التاريخي، إذ أن المؤامرات التي

ص: 119

كانت تُحاك ضد الدولة الإسلامية في مراحلها الأولى تدبر بعضها بخيوط غير إسلامية، وذلك من أجل الإيقاع بها وبدعوتها(111).

ومن خلال قراءاتنا للرأيين نرى أن الرأي الثاني هو الأرجح والأصوب في تلك المسألة، وذلك لأنه الأقرب إلى العقل والشرع والواقع التاريخي، بالنسبة إلى قربه من العقل، يجوّز المنطق الاستعانة بأي رأي يقود الفرد إلى الأمر الصائب، بمعزل عن الهوية الدينية التي يحملها صاحب الرأي، أما الشرع، فقد أقر ما يتوافق مع العقل، ووضع لذلك ضوابط تنظم الأمر، لأن العقل حجة لصواب عمل الإنسان من عدمه، أما الواقع التاريخي فلم يثبت إشراك غير المسلمين في التشاور في القضايا التي خصت الجوانب الدينية، كالأحكام الشرعية، والعقائد، والعبادات، إلى غير ذلك.

أما ما يتعلق بالرأي الأول فله أسبابه ومبرراته عند من ذهب إليه من العلماء، إذ جاء على وفق تلك المبررات بسبب عدم قبول غير المسلمين بالواقع الجديد الذي عاشه المسلمون بعد ظهور الإسلام وقيام دولته في المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وهذا الأمر جعلهم يعيشون حالة عدم الانصهار مع المجتمع الإسلامي، على الرغم من تودد المسلمين إليهم في الوثيقة التي رسمها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في المدينة لحفظ حقوقهم العامة، مما ولّد نوعاً من الشك والريبة عند المسلمين تجاه ولائهم للدولة الإسلامية، لكن يمكن القول إن هذه المرحلة الانتقالية التي عاشها المسلمون مع أهل الذمة من غير المسلمين على وفق الظروف آنفة الذكر قد مرت وولت فلا يمكن لنا أن نعمم موقفهم السلبي في هذه المرحلة على المراحل اللاحقة التي عاشها المسلمون عبر دولهم الأخرى، ولاسيما أن الوقائع التاريخية تثبت لنا إيجابية بعض مواقفهم تجاه المسلمين، على سبيل المثال الموقف الايجابي للأقباط النصارى مع المسلمين تجاه تحریر مصر سنة (20 ه / 640 م) من الروم البيزنطيين، من خلال تقديمهم يد العون والمساعدة

ص: 120

للمسلمين لتحقيق أمر الفتح(112)، كذلك موقف اليهود الإيجابي في فتح الأندلس سنة (91 ه / 790 م)(113)، وعليه يمكن أن نعد هذا الرأي ضعيفاً وغير واقعي.

هذا وقد حدد العلماء شروطاً وجب على المستشير مراعاتها عند أخذ المشورة، ولم تكن الشروط تشكل حاجزاً يقف أمام طريق المشورة، بل جاءت من أجل تنظيمها وإخراجها بالشكل الذي يقبله العقل والشرع.

وبما أن أهل الشورى ينقسمون على مستويين كما بينا سابقاً، فقد ارتأينا أن نبين الشروط الواجب توفرها عند كل من أعضاء مجلس الشورى (الجماعي) وعند الجمهور العام الذي يمثله الأفراد، وقد تجنبنا ذکر شرط إسلام المستشار الذي حصل عليه اختلاف بين العلماء المسلمين، ذلك أن المؤيدين منهم لفكرة التمييز بين أهل الشورى وأهل الحل والعقد يرون ضرورة توفره عند أهل الحل والعقد(114)، في حين نجد أن الرافضين لتلك الفكرة يرون عكس ذلك، إذ لا ضرورة لتوفره عندهم (115)، لذا ركزنا على ذكر الشروط المتوافق عليها بين العلماء والتي كان منها:

1 - العلم: وهو العمود الذي تقف عليه الصفات الحميدة عند الفرد، يقول الماوردي (ت 450 ه / 1058 م) وهو يصف قيمته وقيمة حملته بالنسبة لولاة الأمر ومن تبعهم باعتبارهم المسؤولون عن إدارة مصالح العباد: (العلم هو عصمة الملوك والأمراء ومعقل السلاطين والوزراء، لأنه يمنعهم الظلم، وليردهم إلى الحلم ويصدهم عن الأذى ويعطفهم، وكما أن الملك الحازم لا يتم حزمه إلاّ بمشاورة الوزراء والأخيار، كذلك لا يتم عدله إلاّ باستفتاء العلماء الأبرار)(116).

وقد جعل الإمام الصادق (عليه السلام) للعلم مرتبة متقدمة في الشروط الواجب توفرها عند المستشار، قال (عليه السلام): (إن المشورة لا تكون إلاّ بحدودها، فمن عرفها بحدودها وإلاّ كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأدها أن يكون

ص: 121

الذي يشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حرّاً متديناً، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً، والرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يسر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته، وإذا كان حرّاً متديناً جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقاً مواخياً كتم سرك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان به كعلمك، تمت المشورة وكملت لك)(117).

وقد أوصى الحكماء بضرورة ملازمة صفة العلم مع صفة التجربة والذكاء، قيل: (العقل الكامل بطوال التجربة مع الفطنة والذكاء، قيل لأن الحمق الجاهل إذا استشرته زاد في لبسك وأدخل عليك التخليط في رأيك ولم يقم بحقيق نصحك، وقيل بكثرة التجارب تصلح الروية)(118).

وقد حذر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من عدم الأخذ بمشورة العالم العاقل في قوله (صلى الله عليه واله وسلم): (استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا(119)).

2 - التقوى والورع: ومنزلة التقوى لا تقل شأنا من منزلة العلم عند المستشار، إذ لا قيمة المشورة دون تقوی، وذلك لأن صاحب الرأي قد يكون غير ناصح، قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في مكانة التقوى عند المشورة: (مَن أراد أمراً فشاور فيه امرءاً مسلماً وفّقه الله لأرشد أموره)(120)، وقال الإمام علي (عليه السلام): (شاور في حديثك الذي يخافون الله)(121)، وللإمام الصادق (عليه السلام) حديثاً يقول فيه: (استشر العاقل من الرجال الورع، فإنه لا يأمر إلا بخير، وإياك والخلاف، فإن خلاف الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا)(122)، وقال (عليه السلام) في موضع آخر: (شاور في أمور مما يقتضي الدين من فيه خمس خصال عقل و علم و تجربة ونصح وتقوى وإن تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكل على الله تعالى فإن ذلك يؤدي إلى الصواب)(123).

ص: 122

3 - التجربة: التجربة أداة قيّمة لصقل المواهب وتصحيح الأفكار، وتأتي بعد واقع یُعاش على مر السنين، ولها أهمية عند مَن يستشير، وذلك لأن حاملها يعالج المستقبل بالماضي، وحصولها مقرون بطول العمر، قال لقمان الحكيم وهو يوصي ولده: (شاور مَن جرّب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما كان عليه بالغلاء، وأنت تأخذه بالمجان(124))، وقال الإمام علي (عليه السلام): (رأي الشيخ خير مَن مشهد الغلام)(125)، وقال المأمون لوِلْدِه موصياً: ( استشيروا ذوي الرأي والتجربة والحيلة فإنهم أعلم بمصارف الأمور وتقلبات الدهور)(126).

وقال الحكماء: (عليك برأي الشيوخ، فقد مرت على وجوههم عيون العبر وتصدعت الأسماعهم آثار الغيَر)(127)، وقالوا أيضاً: (يختار للمشورة أهل العقول الغريزية والتجارب الكثيرة والحلو الرزينة)(128).

ومما يذكر هنا أن الحث على مشورة الكبار لا يعني بالضرورة التخلي عن مشورة الصغار، إذ إن أمر الحث يعني فيه التفضيل، ولاسيما أن البعض من الصغار يملك من الفطنة والذكاء والعناية الإلهية ما يؤهله لإسداء المشورة، قال الحكماء: (عليكم بآراء الأحداث ومشاورة الشباب، فإن لهم أذهاناً تقل الفواصل وتتحطم الذوابل)(129).

4 - الأمانة والكتان: وهما صفتان متلازمتان إحداهما تكمل الأخرى، فالأمانة تعني النصح والكتمان يعني الحفظ، والنصح أمر مقرون بالحفظ، إذ أن الأمانة القولية فيها الحتمية اللازمة لحفظ الرأي من الشياع من جهة وفيها خلاص النصح من الغش من جهة أخرى، قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (المستشار مؤتمن)(130)، أي أمين على أن لا يخون فيما ائتُمن عليه من الرأي، ولا يغش فيما يُستنصح فيه عند المشورة، وقال الإمام علي (عليه السلام): (مَن غش المسلمين في مشورة فقد برئت منه)(131)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَن استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي

ص: 123

سلبه الله عزَّ وجل رأيه)(132)، وقال (عليه السلام) وهو يوصي أحد أصحابه: (إن كنت تريد أن تستتب لك النعمة وتكمل لك المودة، وتصلح لك المعيشة، فلا تستشر العبد والسفلة في أمرك، فإنك إن ائتمنتهم خانوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن نكبت خذلوك، وإن وعدوك موعداً لم يصدقوك)(133)، وقالوا: (مَن شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة)(134)، وقيل: (إذا استشرت فانصح، وإذا قدرت فاصفح)(135).

أما الكتمان فقال به النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يعدّه باباً من أبواب نجاح المشورة: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان)(131)، وقد جعل الإمام الصادق (عليه السلام) لصفة الكتمان منزلة مهمة بين الصفات الواجب توفرها عند المستشار، حيث قال وهو يضعها في المرتبة الرابعة، بعد العلم، والتقوى، والوفاء: (الرابعة أن تطلعه على سرك، فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثم يسر ذلك ويكتمه، فإذا كان صديقاً مواخياً كتمك سرك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان به كعلمك)(137)، وذكر الطرطوشي (ت 520 ه / 1126 م) إن بعض ملوك العجم استشار وزیریه، فقال أحدهما: (لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحداً إلا خالياً به، فإنه أموَت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفی)(138)، وقال المأمون العباسي: (الملوك تحتمل كل شيء إلاّ ثلاثة أشياء القدْح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم)(139).

ولصعوبة حفظ القضايا المعروضة على المستشارين لغرض أخذ المشورة، فضّل الحكماء سترها من دون إفشائها، تجنباً من مخاطر إعلانها، قال بعضهم: (صدرك أوسع السرك من صدر غيرك)، وقالوا: (سرك من دمك)، وقيل كيف کتمانك للسر، قال: ((ما قلبي له إلاّ قبر)(140).

ص: 124

ومخاطر إعلان الرأي عند المستشار تتمثل في أن رأي المستشير إذا اطلع عليه بعض الأصدقاء أو غيرهم من جلساء المستشير أخبر كل صديق صديقه، وفاه كل جلیس جليسه حتى أمره إلى عدوه فيبتغي الغوائل ويفسد الرأي قبل إحكامه(141).

5 - الحزم: الجدية صفة رفيعة وجب توفرها عند المستشار عند أخذ المشورة، إذ إن الجاد في رأيه ومشورته يجنب المستشير من التهاون واللهو والعبث الذي يصاحب هوى المستشار الغير الحازم، مما يؤثر سلباً على ضعف رأيه ومشورته: سُئل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) عن الحزم، فقيل له: (ما الحزم: قال: مشاورة ذوي الرأي وإتّباعهم)(142)، وقيل: (إن الملك الحازم يزداد برأي الوزراء الحَزَمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار)(143).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) (114 ه / 732 م): (اتّبع مَن يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون على الله جميعاً فتعلمون)(144).

6 - التخصص: وهذه الصفة وجدت الحاجة بعض المشورات إلى التخصص في الموضوعات المختلفة المشار فيها، لذلك وجِبَ على المستشار أن يكون من أصحاب الاختصاص والخبرة في المسائل التي تحتاج إلى نوع من المعرفة، قال القرطبي: (واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها)(145).

هذا وقد وضع الأئمة والحكماء في وصاياهم آداباً وجب على المستشير مراعاتها عند طلب المشورة، وقد ارتأينا أن نذكرها بشيء من الاختصار تجنباً للإطالة التي لا يسع المجال لبيانها، قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يوصي الإمام علي (عليه السلام): (يا علي لا تشاور جباناً فإنه يضيّق عليك المخرج، ولا تشاور البخيل فإنه يقصر بك غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنه يزين لك شرها، واعلم يا علي إن الجُبن والبخل

ص: 125

والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن)(146).

وقد حذّر الحكماء من مشاورة أصحاب الهوى، قيل في المستشار: (أن لا يكون له في الأمر المستشار فيه فرض يتابعه، ولا هوى يساعده، فإن الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد)(147)، وقيل للمستشير في إتّباع الهوى: (اعدل عن مشورة من قصدوا موافقتك متابعة هواك، واعتمدَ مخالفتكَ انحرافاً عنك، واعتمدْ على مَن توخي الحق والصواب لك وعليك)(148)

وقد أكد الحكماء على ضرورة سلامة قلب المستشار من نزعة الحسد، وجعلوا خلو صدر المستشار من هذه الخصلة شرطاً أساساً لنجاح المشورة، قالوا: (سلامته من غائلة الحسد، قيل لأن الحسد يحث أهل المحبة على البغضة، وذوي الولاية على البعد والفرقة، وحينئذ يتعمد ضرك بجميع الوجود التي تتقيها على نفسك، وتكون داعية إلى فساد رأيك)(149).

إلى جانب ما ذكر فقد حرص الحكماء على الامتناع عن مشورة سبعة أشخاص: (قيل سبعة لا ينبغي لذي لب أن يشاورهم جاهل، وعدو، وحسود، و مراء، وجبان، و بخیل، وذو هوى، فإن الجاهل يضل، والعدو يريد الهلاك، والحسود يتمنى زوال النعمة، والمرائي واقف مع رضا الناس، والجبان من رأيه الهرب، والبخيل حريص على جمع المال فلا رأي له في غيره، وذو الهوى أسير هواه)(150)، كما حذّر الحكماء من مشورة الصبيان والنساء بداعي ضعف عقولهم وآرائهم، قالوا: (لا ينبغي أن يُستشار النساء ولا الصبيان، لنقص عقولهم وضعف آرائهم)(151).

ولم يكتفِ الحكماء في ذكر الصفات الواجب توفرها عند المستشار، والاحتياطات الواجب توخيها عند أخذ المشورة، بل تطرقوا إلى ضرورة مراعاة الظروف المحيطة بفكر المستشار، وذلك لما لها من أثر إيجابي على واقع الرأي المستشار فيه، قال ابن

ص: 126

الأزرق: (سلامة الفكر من مكدرات صفوه، وذكروا ممن عرض له ذلك أصنافاً، فالجائع حتى يشبع، والعطشان حتى يقنع، والأسير حتى يطلق، والضال حتى يجد، والراغب حتى يمنح وصاحب الخف الضيق، وحاقف البول، وصاحب المرأة السليطة، وقالوا في مشاورة الشباب: (ومَن قال باستشارة الشبّان شرط أن تكون أمزجتهم صحيحة، و قرائحهم (152) سليمة، وعلومهم غزيرة)(153).

مما سبق يمكن القول ان ما طرح بشأن اهل المشورة يمكن أن يكون موافقاً لطروحات الامام علي (عليه السلام) في هذا الشأن، ومما يعزز ذلك موافقته للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والمنطق العقلي.

موضوعات المشورة:

مما لا شك فيه ان الامام علي (عليه السلام) لم يكن قاصداً في عهده المالك الاشتر(رضي الله عنه) التزام المشورة في الجوانب الدينية، لعدم خضوع تلك الجوانب لآراء الأشخاص، وخضوعها لمشيئة الله تعالى، وقد اثبت الكثير من العلماء ذلك وليس الجميع، لأن المسألة تعد من المسائل الخلافية والمسائل الخلافية كما هو معلوم غالباً ما تستدعي الاجتهاد في النص القرآني، وذلك لعدم وجود نص صریح يقطع الأمر المختَلف عليه، وأصل الخلاف يعود إلى الآية الكريمة: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»، أي إلى كلمة الأمر، إذ لم يحدد في الآية نوع الأمر المشاوَر عليه، إن كان يخص القضايا العامة التي تتعلق بجميع شؤون المسلمين - السياسية والاقتصادية وحتى الدينية - التي لم ينزل فيها حكماً شرعياً، أم قضايا الحرب وما شابه.

وعلى هذا الأساس حصل الاختلاف بين العلماء في المسألة، إذ انقسموا على قسمين، قسم منهم يؤيد القول الذي يرى عمومية مجال الموضوعات المشاوَر فيها، أي جميع

ص: 127

شؤون المسلمين، والقسم الآخر يؤيد القول الذي يجعل خصوصية مجال الموضوعات المشاوَر فيها، أي الأمور التي تخص الجانب الحربي (العسكري).

ويستند أصحاب القول الأول (عمومية الشوری) على نصوص تاريخية تثبت صحة قولهم منها: ما رواه الترمذي عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً»، قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): ما ترى؟ دینار، قلت: لا يطيقونه، قال: نصف دینار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟، قلت: شعيرة، قال: إنك زهيد، فنزلت «أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ»(154)، قال: فَبيَ خفف الله عن هذه الأمة(155).

کما استندوا فيها ذهبوا إليه على أحد أحاديث النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، الذي جاء رداً على سؤالٍ وُجِّه إليه (صلى الله عليه واله وسلم) من الإمام علي (عليه السلام)، نصه: (قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك، لم ينزل به القرآن ولم يسمع منك فيه شیئا؟ قال: اجمعوا له العابدين من المؤمنين، واجعلوه شوری بینکم، ولا تقضوا فيه برأي واحد)(156).

کما استدلوا على صحة قولهم بقضية مشاورة الصحابة بعضهم مع بعض في المسائل الشرعية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، کمسألة قتال مانعي الزكاة، ومسألة حد شارب الخمر، ومسألة إملاص(157) المرأة الحامل(158).

كما أسندوا رأيهم المقولة عدد من الفقهاء والعلماء في هذا الإطار، ومنهم سفيان أبن عيينة(159) في قوله وهو يفسر الآية: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، يقول: (هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فيه أثر)(160)، وقد أيّد هذا الرأي من العلماء المسلمين، الحسن البصري، والضحاك بن مزاحم، وابن جرير الطبري، والدسوقي(161).

ص: 128

أما أصحاب القول الثاني فيرى أن المشورة خاصة بالمسائل الحربية ونحو ذلك من القضايا الدنيوية، وكان على رأس مؤيديه قتادة بن دعامة، والربيع بن أنس، وابن إسحاق الشافعي(162)، والطوسي(163)، فقد استدلوا على صحة ما ذهبوا إليه على أقوال العلماء المسلمين في هذا الشأن، والواقع التاريخي لنوع المسائل المطروحة على التشاور.

أما يخص أقوال العلماء المسلمين فهي كثيرة تحت هذا الإطار، ولا يمكن الوقوف عليها جميعاً، لكثرتها وسعة دلالاتها، لذلك ارتأينا أن نعرض نماذج محددة منها، منها قول الإمام الشافعي (ت 204 ه / 819 م) في تفسيره للآية: (وَشَاوِرْهُمْ فِی الأَمْرِ)، فقال: (على معنی استطابة أنفس المستشارين أو المستشار منهم، والرضا بالصلح على ذلك ووضع الحرب بذلك، لا إن برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حاجة إلى مشورة أحد، والله عزَّ وجل يؤيده بنصره بل لله ورسوله المَن والطَوْل على جميع الخلق)(164)، وقال الطبري في معرض تفسيره للآية الكريمة السابقة، قال أمر الله النبي: (بمشاورة أصحابه في مکاید الحروب، وعند لقاء العدو، تطييباً منه بذلك أنفسهم، وتآلفاً لهم على دينهم وليرَوا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عزَّ وجل أغناه بتدبيره له أمروه وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم)، وقال في موضع آخر: (إن الله عزَّ وجل أمر نبيه (صلى الله عليه واله وسلم) بمشاورة أصحابه، فيما حزبه من أمر عدوّه و مکاید حربه(165)).

كما قال الطبرسي في تفسيره للآية الآنفة الذكر: (يعني في أمر الحرب و نحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي، لتطيب نفوسهم، ولتستظهر برأيهم)، وقال في موضع آخر: (إن ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب، ولقاء العدو، وفي مثل ذلك يجوز أن نستعين بآرائهم)(166).

ص: 129

أما بالنسبة للواقع التاريخي لنوع المشورة التي اعتمدها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، فلم تذكر المصادر التاريخية - كما يقول أصحاب هذا الرأي - إنه (صلى الله عليه واله وسلم) شاور أصحابه في المسائل التي تخص الجانب الديني کما يدعي أصحاب القول الأول، إذ إنه (صلى الله عليه واله وسلم) غالباً ما كان يشاور أصحابه في أمور الحرب والسياسة(167)، وهذا الأمر (نوع المشورة) عضد من رأي الفريق هذا، وقوّى حججه فيما طرحه من قول.

وبعد هذا الاستعراض ومن خلال قراءتنا للرأيين نرى أن الأرجحية تكون لصالح الرأي الثاني، وذلك لقوة الحجج التي ذكرها أصحابه للتأكيد على صحة قولهم، فضلاً عن أن الله تعالى غني عن مشاورة عقول خلقه في المسائل التي تخص أحكام الدين، ولو أجاز ذلك لكان الأنبياء وبضمنهم سيدنا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الأولى بتلك المشورة، لكنه تعالى على الرغم من المكانة السامية التي تمتع بها الأنبياء استغني عن مشاورتهم وجعلهم مبلغين ومنذرين ليس إلاّ في إيصال أحکام شریعته إلى عباده، هذا حال الأنبياء فكيف بحال عباده الذين يزعمون مشاورته تعالى لهم.

أما ما ذكره أصحاب الرأي الأول - الذي يقول بجواز مشورة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأصحابه في الأحكام الدينية - ففي ما يتعلق بمشورته (صلى الله عليه واله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) في مسالة مقدار الصدقة المفروضة على المسلمين مقابل التناجي معه (صلى الله عليه واله وسلم)، فالخبر متواتر وصحیح سنداً و متناً بعد مراجعته(168)، أما الاحتجاج به في مشورة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأصحابه في الأحكام فأمر غير صحيح، ذلك أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لم يشاور أحداً من الصحابة، وإنما كان (صلى الله عليه واله وسلم) پشاور نفسه في المقدار الذي يناسب إمكانية المسلمين بعد أن ترك له تعالى مجال تحديدها، والمقصود بنفسه هنا الإمام

ص: 130

علي (عليه السلام)، استناداً إلى قوله تعالى في حديث مباهلة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مع نصاری نجران: (فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ)(169)، إذ جعل الحسن والحسين (عليهما السلام) بمثابة أبناء النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وجعل فاطمة (عليه السلام) بمثابة نسائه، وجعل علي (عليه السلام) بمثابة نفسه (صلى الله عليه واله وسلم)(170).

أما قضية مشورة الصحابة بعضهم لبعضهم الآخر في الأحكام بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، فقد جاءت من باب ضعف معرفة بعضهم بتلك الأحكام، وهي موجودة أصلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد عرفها وفهمها العلماء من الصحابة، ولا تحتاج إلى المشورة، وإن كانت مستحدثة تطلب الاجتهاد، وخير مثال على ذلك مشورات عمر بن الخطاب للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، التي جسد حجمها عمر بن الخطاب بأقواله العديدة، منها: (لولا علي لهلك عمر)(171)، و ((لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن)(173).

ص: 131

الخاتمة

بعد دراسة الموضوع بجوانبه المختلفة تبينت لنا مجموعة من النتائج عكست المضامين التي خرجت منها الدراسة، وكانت في واقعها عديدة ومتنوعة إلا أننا ارتأينا إجمالها بالنقاط الآتية:

1 - بما ان الاسلام قد أقر الاعراف الحميدة عند العرب قبل الاسلام فقد تولى الامام علي (عليه السلام) التأكيد على ممارستها بعد الاسلام، ومن تلك الاعراف كانت المشورة التي حرص (عليه السلام) على ممارستها، باعتبارها كانت بالنسبة لعرب الجزيرة عرفاً اجتماعياً سليماً وتقليداً قبلياً متداولاً، وقد حظيت بمنزله مرموقةً عندهم، لملائمتها طبيعة شخصياتهم التي تأنف ما فرض عليهم من القول وتحبذ ما تشاوروا فيه من الأمر، إلى جانب شعورهم بأهمية ممارسة ذلك العرف، لما له من أثر في تسديد الأمور وصوابها.

2 - إن كان الظرف لم يسمح للأمام علي (عليه السلام) بيان أحكام المشورة في عهده لمالك الاشتر (رضي الله عنه) فقد خصص لها الفقه الاسلامي حيزاً يناسب أهميتها، حدد فيه حكم ممارستها، والأشخاص الذين يتولون إسداءها، والموضوعات الواقعة في ضمن نطاقها، ولما كان البحث في ذلك الموضوع يحمل اوجه متعددة في الشريعة فقد حرصنا على ترجيح الاحكام التي تناسب العقل والشرع بغية التقرب الى ما يدور في فكر الامام (علیه السلام).

3 - تأكيد الامام علي (عليه السلام) للحكام على ممارسة المشورة في عهده لمالك الاشتر (عليه السلام) ومناسبات اخرى لم يكن عن فراغ بل جاءت لأهميتها في تسديد الآراء وتأليف القلوب وممارسة السنة النبوية، ومما عزز ممارستها عندهم هو ممارسة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لها مع أصحابه، وكان ما يأمله منها

ص: 132

ليس الحصول على العلوم والمعارف بل تألیف قلوبهم ومعرفة ما يدور في أذهانهم فضلاً عن تأدیب نفوسهم على اعتمادها، ومما يدل على ذلك العلم الوافر الذي ألهمه به الله تعالى، والمعرفة الواسعة التي كسبها من واقع حياته العامة، وقد تجلى ذلك واضحاً بقوله (صلى الله عليه واله وسلم): ((أنا مدينة العلم) وينطبق الحال على الإمام علي (عليه السلام)، الذي مارس المشورة للمقاصد التي قصدها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ليس إلا، بحكم العلم الوافر الذي عرفه من النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، والمعرفة الواسعة التي كسبها من واقع حياته العامة، وقد دلل على ذلك قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها).

4 - الصفات التي وضعها الامام علي (عليه السلام) للحكام في اختيار مستشاريهم في عهده المالك الاشتر (عليه السلام) جاءت بحسب أهميتها، فهو حينما جعل المستشار البخيل على رأس المستشارين الواجب تجنبهم جاء بسبب تأثيره السلبي على الجانب المعاشي للرعية، وهذا الجانب كما هو معلوم يكون من أخطر التحديات التي تهدد الايمان ونفوذ الدولة عند الرعية.

5 - لقد كان العلماء القدامى والمحدثين في طروحاتهم حول المشورة متأثرین كثيراً بما ذكره الامام علي (عليه السلام) حولها، وكيف لا يكون ذلك واقعاً وهو قد استوحی(علیه السلام) مبادئها من معين علم النبي (ص واله).

ص: 133

الهوامش والتعليقات:

1. الأزهري، تهذيب اللغة، ج 11 / ص 277 - 278؛ الجوهري، الصحاح، ج 2 / ص 704 - 705؛ الزمخشري، أساس البلاغة، ج 1 / ص 340؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 4 / ص 343 - 347؛ الرازي، مختار الصحاح، ص 185؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج 2 / ص 65؛ الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس ج 7 / ص 61 - 65.

2. الأزهري، تهذيب اللغة، ج 11 / ص 277 - 278؛ الجوهري، الصحاح، ج 2 / ص 704 - 705؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 4 / ص 434 - 437؛ الرازي، مختار الصحاح، ص 185؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ج 2 / ص 65؛ الزبيدي، تاج العروس، ج 7 / ص 61 - 62.

3. الميداني، مجمع الأمثال، ج 1 / ص 52؛ الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ج 25 / ص 46.

4. ابن العربي، أحكام القرآن، ج 1 / ص 390.

5. الطبرسي، مجمع البيان لعلوم القرآن، ج 9 / ص 57.

6. الكفومي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ج 1 / ص 542.

7. الماوردي، أدب الدنيا والدین، ص 260 - 261.

8. عبد الخالق، عبد الرحمن، الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي، ص 14؛ الأنصاري، عبد الحميد، الشورى وأثرها في الديمقراطية، ص 4.

9. أنيس، إبراهيم وآخرون، المعجم الوسيط، ج 1 / ص 499.

10. الفرفور، محمد، خصائص الفكر الإسلامي، ص 143.

11. الخطاب، محمود شیت، الشورى العسكرية في الإسلام، ص 865.

ص: 134

12. ضیاء الدین، حسن، الشورى في ضوء القرآن والسنة، ص 31.

13. للمزيد ينظر: باقر، طه، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج 1 / ص 102؛ سلیمان، عامر والفتيان، أحمد مالك، محاضرات في تاريخ العراق القديم، ص 84؛ كريمر، صموئيل، من ألواح سومر، ص 100، علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب، ج 5 / ص 227؛ البكر، منذر عبد الكريم، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 145 علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب، ج 2، ص 108 - 109، ج 5 / ص 227؛ البكر، منذر عبد الكريم، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 145؛ سالم، عبد العزيز، دراسات في تاريخ العرب، ص 105 - 106؛ عرفة، محمود، العرب قبل الإسلام، ص 114؛ مغنية، أحمد، تاريخ العرب القديم، ص 44؛ العسلي، خالد، دراسات في تاريخ العرب، ج 1 / ص 23؛ سليم، أحمد أمين، جوانب من تاريخ وحضارة العرب، ص 89؛ الحداد، محمد يحيى، تاريخ اليمن السياسي، ج 1 / ص 40.

14. خطب الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87.

15 ()الطبراني، المعجم الصغير، ج 1، ص 255، الخوارزمي، المناقب، ص 177.

16.سورة الشورى، أية: 42.

17. مقاتل بن سلیمان، تفسير مقاتل، ج 3 / ص 172.

18. سورة آل عمران، آية: 159.

19. التبيان في تفسير القرآن، ج 3 / ص 30 - 32.

20. التبيان، ج 3 / ص 30 - 32.

21. تفسير جوامع الجامع، ج 1 / ص 343 - 344.

22. زاد المسير في علم التفسير، ج 1 / ص 488.

23. الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 252 - 253.

ص: 135

24. التفسير الآصفي، ج 1 / ص 180.

25. سنتطرق لمناقشة هذا الموضوع في المباحث القادمة من هذا الفصل.

26. سورة الشورى، آية: 38.

27. جامع البيان في تأويل القرآن، ج 25 / ص 48.

28. مجمع البیان، ج 9 / ص 59 - 57؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 64 / ص 265 - 266.

29. التفسير الكبير، ج 23 / ص 177.

30. مجمع البیان، ج 5 / ص 56 - 57.

31. ما يذكر في هذا الشأن إن القرآن الكريم لم يتعرض إلى اسمها، أما ما ذكره المفسرون بالقول بتسميتها ببلقيس فقد جاء من باب الخلط بينها وبين بلقیس ابنة شرحبيل إحدى النساء اللواتي حكمن قومهن في اليمن، والمتتبع بدقة بين مدة حكم الأخيرة ومدة حكم النبي سليمان (عليه السلام) يجد فارقاً زمنياً كبيراً بين حكم الطرفين. ينظر: الطبري، جامع البیان، ج 19 / ص 185؛ السمعاني، تفسير السمعاني، ج 3 / ص 39؛ البغوي، تفسير البغوي، ج 3 / ص 413.

32. سورة النمل، آية: 32.

33. التبیان، ج 8 / ص 93.

34. خطب الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87.

35. للاطلاع على بعض مشورات النبي (ص واله) و الامام علي (عليه السلام). ينظر: ابن هشام، السيرة، ج 2 / ص 302 و 447 - 448؛ الواقدی، المغازی، ج 1 / ص 44 - 45؛ ابن سعد، الطبقات، ج 2 / ص 19؛ الجاحظ، العثمانية، ص 56 - 57؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 2 / ص 90 و 140؛ الطوسي، مجمع البیان، ج 4 / ص 32؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 14 / ص 112، الحر العاملي، وسائل الشيعة،

ص: 136

ج 28 / ص 208؛ وينظر: المجلسي، بحار الأنوار، ج 76 / ص 190.

36. الحراني، تحف العقول في معرفة آل الرسول، ص 207؛ الطوسي، الأمالي، ص 136؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 100. وقد ورد الحديث بشكل (ما خاب مَن استخار ولا ندم مَن استشار)، الطبراني، المعجم الأوسط، ج 6 / ص 365؛ ابن سلامة، مسند الشهاب، ج 2 / ص 70؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 3 / ص 266؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 54 / ص 3؛ أبن طلحة الوزير، العقد الفريد للملك السعيد، ص 41، الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 2 / ص 280؛ السيوطي، الجامع الصغير، ج 2 / ص 492؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 7 / ص 265؛ العجلوني، کشف الخفاء، ج 2 / ص 189.

37. ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 5 / ص 274؛ ابن ماجه، سنن ابن ماجه، ج 2 / ص 1233؛ أبو داود، سنن أبي داود، ج 2 / ص 504؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج 4 / ص 14؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 4 / ص 131؛ الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 94؛ البيهقي، السنن الکبری، ج 10 / ص 112؛ الهيثمي، موارد الظمآن، ج 6 / ص 296.

38. ابن أبي شيبة، المصنف، ج 6 / ص 208؛ النسفي، تفسير النسفي، ج 1 / ص 188؛ الزيلعي، تخريج الأحاديث، ص 233.

39. الطبراني، المعجم الأوسط، ج 8 / ص 181؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 8 / ص 96؛ السيوطي، الجامع الصغیر، ج 2 / ص 564؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 3 / ص 409؛ المناوي، فيض القدير، ج 4 / ص 4.

40. البيهقي، السنن الکبری، ج 10 / ص 109؛ المزي، تهذيب الكمال، ج 15 / ص 208؛ السيوطي، الجامع الصغیر، ج 2 / ص 3؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 9 / ص 7؛ المناوي، فيض القدير، ج 4 / ص 4.

ص: 137

41. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601 - 602؛ الكليني، الكافي، ج 8 / ص 20؛ الصدوق، التوحيد، ص 376؛ المفيد، الاختصاص، ص 246؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 13 / ص 256، المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 101.

42. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج / ص 100؛ الكراجكي، كنز الفوائد، ص 194؛ الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 95؛ الطوسي، الأمالي، ص 153؛ السيوطي، الجامع الصغير، ج 1 / ص 149؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 1 / ص 96.

43. الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص 12؛ المقريزي، إمتاع الأسماع، ج 13 / ص 50؛ المناوي، فيض القدير، ج 1 / ص 354؛ الحلبي، السيرة الحلبية، ج 3 / ص 374.

44. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ المجلسى، بحار الأنوار، ج 72 / ص 100؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 39.

45. الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 46.

46. المصدر نفسه، ج 1 / ص 44.

47. الماوردي، درر السلوك، ج 1 / ص 73؛ أبن طلحة الوزير، العقد الفريد للملك السعيد، ص 41، العجلوني، كشف الخفاء، ج 1 / ص 422؛ السخاوي، المقاصد الحسنة، ج 1 / ص 579.

48. خطب الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 87.

49. الشريف الرضي، خصائص الائمة / ص 108.

50. سورة قريش، آية: 4.

51. الكليني، الكافي، ج 5 / ص 73.

52. خطب الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، ج 3 / ص 88.

53. المفيد، الإرشاد، ج 1 / ص 301؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105.

ص: 138

54. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 42.

55. ابن الليثي الواسطي، عيون الحكم، ص440؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 / ص 41؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 40.

56. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 / ص 48؛ ابن الجوزي، زاد المسير، ج 2 / ص 47؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 11 / ص 209؛ هاشم البحراني، غاية المرام، ج 7 / ص 71؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 16 / ص 410.

57. الصدوق، الخصال، ص 621، الحراني، تحف العقول، ص 111؛ المستخيري العاملي، الدر النظيم، ص 374.

58. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 600؛ الكليني، الكافي، ج 8 / ص 20؛ الصدوق، التوحید، ص 376؛ الحراني، تحف العقول، ص 94؛ المفيد، الاختصاص، ص 246؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 13 ص 257؛ الذهبي، میزان الاعتدال، ج 3 / ص 602.

59. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحراني، تحف العقول، ص 8؛ المفيد، الاختصاص، ص 226.

60. ابن طلحة الوزير، العقد الفريد، ص 42.

61. ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، ج 2 / ص 772؛ ابن قتيبة، غریب الحدیث، ج 1 / ص 275؛ الميداني، مجمع الأمثال، ج 1 / ص 52 - 53؛ الماوردي، أدب الدنيا والدین، ص 260 - 291، البائر في القول يعني الفاسد الذي لا خير فيه؛ الزبيدي، تاج العروس، ج 10 / ص 254.

62. الصنعاني، المصنف، ج 5 ص 445؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 12 / ص 136.

ص: 139

63. الطرطوشي، سراج الملوك، ص 78.

64. ابن عطية، المحرر الوجيز، ص 534؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 4 ص 252؛ القلعي، تهذیب الرياسة، ج 1 / ص 183؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج 13 / ص 283.

65. البيهقي، السنن الکبری، ج 10 / ص 110؛ الأبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف، ج 1 / ص 166.

66. هو صخر بن قيس بن معاوية بن حصين السعدي التميمي المكنى بأبي حجر، لقب الأحنف لأنه ولد أحنف الرجلين، كان من سادات الناس وعقلاء التابعيين و فصحاء أهل البصرة وحكائهم، وكان من قواد جيش الإمام علي (عليه السلام) يوم صفين، وممن فتح على يده الفتوح الكثيرة للمسلمين، توفي بالكوفة سنة (67 ه / 686 م) في إمارة ابن الزبير. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1 / ص 145؛ ابن حبان البستي، مشاهير علماء الأمصار، ص 143.

67. ابن عبد البر، بهجة المجالس، ج 2 / ص 456.

68. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 40؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 13 / ص 357.

69. هو عبد الله بن المقفع، ویکنی قبل إسلامه، أبا عمر، ولما أسلم اکتنی بأبي محمد، وسمي المقفع لأن الحجاج بن يوسف الثقفي ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان فتقفعت يده، واصله من خوز إحدی کور فارس، واشتهر بالكتابة وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، وقد عمل في بلاط المنصور العباسي تبعاً لذلك وله مؤلفات عديدة شملت رسائل أدبية مختلفة. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2 / ص 128؛ ابن النديم، الفهرست، ص 132؛ الذهبي، سير إعلام النبلاء، ج 6 / ص 209.

ص: 140

70. ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 / ص 31؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 11 / ص 107.

71. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، ج 17 / ص 121؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 105.

72. الكليني، الكافي، ج 1 / ص 29.

73. المصدر نفسه، ج 8 ص 170؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2 / ص 632.

74. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 18 / ص 383؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 104.

75. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 45؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 101.

76. المصدر نفسه، ج 1 / ص 480.

77. ابن الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 429؛ وينظر: المناوي، فيض القدير، ص 625؛ الجبرتي، تاریخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 1 / ص 21.

78. الماوردي، درر السلوك، ج 1 / ص 73.

79. ابن حبان البستي، روضة العقلاء، ج 1 / ص 193.

80. القلعي، تهذيب الرياسة، ج 1 / ص 182.

81. الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2 / ص 210؛ وينظر: ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 / ص 32؛ الطرطوشي، سراج الملوك، ص 79.

82. ينظر: الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، ص 16.

83. ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2 / ص 303؛ ابن سعد، الطبقات، ج 3 / ص 602، اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 297 - 298. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 2 / ص 93.

ص: 141

84. سورة آل عمران، آية: 159.

85. الطبري، جامع البیان، ج 4 / ص 152؛ السيوطي، الدر المنثور، ج 2 / ص 358.

86. ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2 / ص 447 و266.

87. الدينوري، الأخبار الطوال، ص 203؛ الطوسي، إعلام الوری، ج 1 / ص 191.

88. ينظر: ابن هشام السيرة، ج 2 / ص 303؛ ابن سعد، الطبقات، ج 1 / ص 223؛ ابن الأثير، الکامل، ج 2 / ص 99.

89. ابن الجوزي، زاد المسير، ج 2 / ص 21؛ الشوكاني، نيل الأوطار، ج 8 / ص 43 - 44.

90. سورة آل عمران، آية: 28.

91. الطبري، جامع البیان، ج 3 / ص 228.

92. سورة آل عمران، آية، 118.

93. الرازي، التفسير الكبير، ج 8 / ص 172.

94. المصدر نفسه والصفحة.

95. ابن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 3 / ص 99.

96. الشريف الرضي، المجازات النبوية، ص 268.

97. الشوكاني، نيل الأوطار، ج 8 / ص 43 - 44

98. المرتضى، الغيث المدرار شرح الأزهار، ج 4 / ص 534.

99. الشافعي، کتاب الأم، ج 4 / ص 279؛ المارودي، الأحكام السلطانية، ص 47.

100. العلامة الحلي، تحرير الأحكام، ج 2 / ص 139؛ العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، ج 9 / ص 50؛ العلامة الحلي، قواعد الأحکام، ج 1 / ص 487.

101. أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، ص 61.

102. سورة الممتحنة، آية: 8 - 9.

103. لباب التأويل في معالم التنزیل، ج 4 / ص 331.

ص: 142

104. سورة الأنبياء، آية: 7.

105. الجامع لأحكام القرآن، ج 11 / ص 272.

106. ابن هشام، السيرة، ج 3 / ص 700؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 2 / ص 65؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 50؛ الأربلی، کشف الغمة عن هذه الأمة، ج 1 / ص 196.

107. السيرة النبوية، ج 4 / ص 892؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 62؛ المسعودي، التنبيه والأشراف، ص 234.

108. الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 311.

109. الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ج 1 / ص 49؛ أبو يعلى الفراء، الأحكام السلطانية، ص 461؛ الشوكاني، نيل الأوطار، ج 8 / ص 42 - 46.

110. العلامة الحلي، تحرير الأحكام، ج 2 / ص 139؛ العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، ج 9 / ص 50.

111. خير مثال على ذلك موقف اليهود من غزوة الأحزاب. ينظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 50 - 55.

112. ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 1 / ص 7.

113. السلاوي، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج 3 / ص 61.

114. غازي، مؤسسة أهل الحل والعقد، ص 1026.

115. طالب، عبد الهادي، الديمقراطية والشوری، ص 1160 - 1161.

116. نصيحة الملوك، ص 28.

117. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602.

118. الحاكم النيسابوري، المدخل إلى كتاب الإكليل، ج 2 / ص 42؛ ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 309.

ص: 143

119. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ وينظر: الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 261؛ ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير المالك، ص 110.

120. ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 309.

121. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 601؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 42.

122. البرقي، المصدر نفسه، ج 2 / ص 602؛ الطوسي، مكارم الأخلاق، ص 319.

123. الإمام الصادق، مصباح الشريعة، ص 152.

124. القلعي، تهذیب الرياسة، ج 1 / ص 188.

125. ابن عبد ربه، العقد الفرید، ج 1 / ص 67.

126. الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 95.

127. أبو القاسم الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 44.

128. الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 97.

129. المصدر نفسه: ج 1 / ص 313.

130. ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج 2 / ص 1223؛ ابن داود، سنن ابن داود، ج 2 / ص 504؛ ابي جمهور الإحسائي، عوالي اللئالی، ج 1 / ص 104.

131. الصدوق، عیون أخبار الرضا (4)، ج 2 / ص 29.

132. الكليني، الكافي، ج 2 / ص 363؛ العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 44.

133. الصدوق، علل الشرائع، ج 2 / ص 559؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 99.

134. الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1 / ص 43.

135. البيهقي، المحاسن والمساوئ، ج 2 / ص 52.

136. الطبراني، المعجم الصغیر، ج 2 / ص 149؛ ابن عبد البر، التمهيد، ج 10 / ص 153؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1 / ص 316.

137. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 602؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 102.

ص: 144

138. سراج الملوك، ص 79.

139. ابن عبد ربه، العقد الفرید، ج 1 / ص 70.

140. المصدر نفسه، ج 1 / ص 69 - 70، الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 266.

141. ابن الأزرق، بدائع الصنائع، ج 1 / ص 312.

142. البرقي، المحاسن، ج 2 / ص 600.

143. ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 / ص 27؛ الطرطوشي، سراج الملوك، ص 78.

144. الطوسي، تهذیب الأحکام، ج 6 / ص 378؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 103.

145. الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 250.

146. الصدوق، الخصال، ج 57 / ص 101؛ الصدوق، علل الشرائع، ج 2 / ص 559؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12 / ص 47؛ المجلسي، بحار الأنوار، ج 72 / ص 98.

147. الحاكم النيسابوري، المدخل إلى كتاب الإكليل، ج 4 / ص 43؛ الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 262.

168. الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 99.

169. ابن الأزرق، بدائع السلك، ج 1 / ص 312.

150. ابن طلحة الوزير، العقد الفريد، ص 43.

151. الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 100.

152. القريحة: ما خرج عن الطبيعة. ابن هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص 336.

153. الثعالبي، تحفة الوزراء، ص 94.

154. سورة المجادلة، آية: 13 - 14، والنجوى في الآية تعني الكلام الخفي؛ أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص 533.

ص: 145

155. الترمذي، السنن، ج 5 ص 81.

156. ابن عبد البر، جامع بیان العلم وفضله، ص 59؛ ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج 3 / ص 78. ولم نجد للحديث أي اثر عند كتب الشيعة الإمامية، بسبب التشكيك الذي وقع عليه، كونه يتعارض مع معارف الإمام علي (عليه السلام) في دقائق الأمور وصغائرها، أما ذكره عند الآخرين فربما قيل وهو موجه في مضمونه للأمة الإسلامية، من باب إياك أعني واسمعي يا جاره، لاسيما وإن السؤال عُرض بصيغة الجمع.

157. الإملاص: يعني الإسقاط. الفراهيدي، العین، ج 7 / ص 131.

158. سنبحث هذه المسائل، بشكل مفصل في المباحث اللاحقة من الموضوع.

159. هو سفیان بن عیینه بن أبي عمران مولى لقوم من ولد عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة رهط میمونة زوج النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، ويكنى أبا محمد، كان محدثاً وحافظاً ولد في الحجاز سنة (107 ه / 725 م) وتوفي سنة (198 ه / 813). ابن قتيبة، المعارف، ص 507.

160. الطبري، جامع البیان، ج 4 / ص 203.

161. المصدر نفسه، ج 4 / ص 203 - 206، حاشية الدسوقي، ج 2 / ص 212؛ وللمزيد ينظر: الجصاص، أحكام القرآن، ج 2 / ص 51 - 52.

162. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 4 / ص 250.

163. الطوسي، المبسوط، ج 8 ص 98.

164. كتاب الأم، ج 6 / ص 218.

165. جامع البیان، ج 14 ص 203 - 204.

166. جوامع الجامع، ج 1 / ص 343.

ص: 146

167. يمكن معرفة ذلك في المباحث اللاحقة التي نتطرق فيها إلى مشورات النبي (صلى الله عليه واله وسلم) مع صحابته.

168. للمزيد ينظر: النسائي، السنن، ج 5 / ص 153؛ الأربلی، کشف الغمة، ج 1 / ص 167؛ محب الدين الطبري، ذخائر العقبی، ص 109.

169. سورة آل عمران، آية: 61.

170. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2 / ص 82؛ المفيد، الارشاد، ج 1 / ص 167؛ أبو نعيم الأصبهاني، الجامع بين الصحيحين، ص 534؛ ابن طاووس الحسيني، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، ص 44؛ العلامة الحلي، کشف اليقين، ص 13؛ ابن تیمیه، علم الحديث، ص 267؛ السيوطي، مسند فاطمة، ص 3؛ المباركفوري، الرحيق المختوم، ص 414.

171. القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، ج 1 / ص 89، القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج 2 / ص 319؛ الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص 85؛ ابن عبد البر، الاستعیاب في معرفة الأصحاب، ج 3 ص 1103؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1 / ص 312.

172. ابن سعد، الطبقات، ج 2 / ص 258؛ البلاذري، أنساب الأشراف، ص 100؛ الخوارزمي، المناقب، ص 96 - 97؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 12 / ص 101؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج 2 / ص 182؛ ابن الصباغ، الفصول المهمة، ج 1 / ص 199؛ المتقي الهندي، کنز العمال، ج 5 / ص 832.

ص: 147

ص: 148

مبادئ حقوق الإنسان في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م.م رباح صعصع عنان الشمري

كلية الإمام الجواد (عليه السلام) - جامعة المصطفى (صلى الله عليه واله وسلم) العالمية

ص: 149

ص: 150

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:

الحديث عن حقوق الإنسان والإمام علي (عليه السلام) حديث طويل له بداية وليس له نهاية؛ كونه مرتبط بشخص يعطي حقاً للنملة التي ندوسها على الأرض ولا ندري ولا نلتفت لها، وهي مسحوقة تحت الأرجل، هل ماتت أو مازالت حيّة؟ بينما هو: «وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَكِهَا، عَلَی أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُ»(1).

والسؤال الساذج هنا الذي قد يُطرح من البعض لغموضٍ شابَهُ الزمن المتراكم، وهو إن العهد مخصصٌ لمالك في حكمه على مصر، ومالك الاشتر استلم الكتاب من الإمام علي (عليه السلام) ولم يصل مصر، ولم يطبق ويستفيد من محتوى العهد فكيف لنا أن نستفيد منه في الوقت الحاضر؟

هذا العهد وهذا الكتاب وما جاء فيه من وصايا تاريخية ودستور واضح، يعجز الدهر على الاتيان به، فهو وإن كان الخطاب موجهاً فيه الى شخص مالك الأشتر إلا إنه خطاب عالمي موجه لجميع الحكام مسلمين وغير مسلمين الى يوم القيامة؛ لأن المورد لا يخصص الوارد - كما يعبرون في علم أصول الفقه - وإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ملاحظة ثانية: وهي هناك فرق بين حقوق المواطن بصورة خاصة في بلد معين تحت إمرة سلطان وبين حقوق الإنسان بصورة عامة، لأننا لو أردنا استنباط حقوق الإنسان من عهد الامام (علیه السلام) لمالك الاشتر قد نلاقي صعوبة، أما لو اعتبرنا أن هذا الخطاب وإن كان موج موجهاً له كحاكم، نعتبره موجهاً له كإنسان يعيش وسط باقي الناس فله حقوق

ص: 151

وعليه واجبات.

يعني لو أردنا أن نجري قول الإمام في عهده (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم) على كل فرد وإنسان في المجتمع، ألا يمكن ذلك؟ أم هل هو خطاب فقط موجه للحاكم أمام رعيته؟ ألا يمكن أن يكون للأخ مع أخوته، للأب مع أولاده للفرد مع جيرانه، للموظف مع الباقين، وغيرهم.

سبب اختيار الموضوع:

السبب لبيان ما جاء في هذا العهد من حقوق الإنسان، التي طالما ينادي بها العالم بأعلى صوته دون جدوى، ولعدم وجود الاهتمام الكافي من قبل الحكام والزعامات لهذا العهد والابتعاد عنه واقعياً.

أهمية البحث:

تكمن أهمية هذا البحث في كونه مرتبط بمعاناة وهموم وحقوق أكرم المخلوقات التي أبدعها الله تعالى، وهو الإنسان «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» الاسراء: 70.

وكذلك لارتباطه بدستور وضعه أشرف ما خلق الله بعد نبيه، نفس رسول الله ووصیه وربيبه وحامل لوائه، ألا وهو سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين ويعسوب الدين، ذاك علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فكرة البحث:

تسليط الضوء على أهم الإشارات الموجودة في هذا العهد المبارك لحقوق الإنسان وعرضها عرضاً جديداً يتوافق ومتطلبات الثقافة المعاصرة، من خلال التحليل والشرح لتلك الكلمات المباركة، وربطها بالآيات القرآنية المتضمنة ذلك، ومدى علاقتها بمواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) مع باقي الناس، ومدی علاقتها بالواقع المعاش.

ص: 152

منهجية البحث:

منهجية البحث تحددت بمنهجين التاريخي والتحليلي، تاريخي كون هذا العهد يشكل حقبة من التاريخ السردي، و تحليلي حيث سيتم الوقوف على كل مفردة يتناولها الباحث بالتحليل الدقيق الذي من شأنه بيان الجوانب المشرقة لهذا العهد. وكذلك الاستفادة من المنهج المقارن عند الحاجة إليه.

السؤال الأساسي للبحث: هل أن حقوق الإنسان التي ينادي بها العالم اليوم قد لامست الحقوق التي لهج بها أمير المؤمنين (عليه السلام) و تجسدت اليوم مثلما تبلورت في سلوك علي (عليه السلام)؟

الأسئلة الفرعية للبحث:

1. هل بالإمكان تطبيق حقوق الإنسان كما أرادها علي (عليه السلام)؟

2. هل قاربت تلك الحقوق ما جاء من حقوق في القرآن الكريم والديانات السماوية؟

3. هل يُعد هذا العهد خاصاً بالك الأشتر، أو خاصاً وموجهاً لشريحة الحكام ورؤساء الدول فقط، أم أنه خطاب لجميع الناس؟

فرضية البحث: تنطلق فرضية البحث من كون (حقوق الإنسان ظلت شعارات معلقة على (يافطة المثالية) - إن صح التعبير - لم تتجسد ولم يترجمها واقعياً غير عليٍ (عليه السلام)، فهو المرتكز الأساس لحل مشكلة حقوق الإنسان المعاصرة).

هيكلية البحث العامة: الخطة قائمة على تقسيمه الى عدة مطالب بعد المقدمة والتمهيد:

1. المقدمة والتي نتجول فيها الآن، هي مرآة البحث العاكسة لمحتواه، فسیری من خلالها القارئ مضامين البحث، والأسباب والأهداف ومشكلة البحث وفرضية المعالجة، وخطة تفصيلية والدراسات السابقة، والسؤال الأساسي للبحث وكذل. الأسئلة الفرعية، التي من شأنها تثير حفيظة أفكار الباحث والقارئ بنفس الحين.

ص: 153

وكذلك ذكر بعض المصادر الأساسية التي استعملها الباحث لبيان قوة ورصانة البحث ومدى سعة اطلاع الباحث.

2. التمهيد ويحتوي على:

أ. ما يعرف بالكلمات المفتاحية الرئيسة لعنوان البحث (Keywords) وبيانها لغة واصطلاحاً من قبيل كلمة (حقوق، الإنسان).

ب. لمحات موجزة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)وتعاطيه في مجال حقوق الإنسان؛ لأنه لدى الإمام وقفات ومناسبات أخرى في هذا المجال.

ج. نبذة مختصرة جداً عن حياة مالك الأشتر، نظرة تاريخية مختصرة عن حياة مالك الأشتر وعهده.

د. مجمل مضامين العهد، وسبب اختيار مالك لولاية مصر.

3. متن البحث ويتضمن مطالب مهمة، منها: حق التعايش السلمي للإنسان.

والمطلب الثاني: حق الإنسان في الحرية، منها: حرية العقيدة وحرية عبادة الله تعالى. ومنها: الحرية الشخصية للفرد. وكان المطلب الثالث: حق الإنسان في حرية التعبير، وتضمن المطلب الرابع: حق الإنسان في العدل والمساواة، والمطلب الخامس: حق الإنسان في الحياة.

ومن ثَمَّ كما العادة هناك خاتمة فيها زبدة المقال، وهناك قائمة المصادر والمراجع.

وأخيراً، ولكن ليطمئن قلبي، لأن هفوات قلمي وأخطائه، ستمر عبر نخبة من الكفاءات العالية المختصة، ومهتهم المقدسة بتصحيح هذا البحث ليخرجَ بحُلّةٍ علميةٍ صحيحةٍ، وأتمنى أن ينظروا في تصحيحه وتنقيحه بعين العناية والرضا؛ لأنّ:

عينَ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة *** وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

ص: 154

التمهيد

أولاً - ما يعرف بالكلمات المفتاحية الرئيسة لعنوان البحث (Keywords) وبيانها لغةً واصطلاحاً. تعريف الحقوق لغةً، الحقوق: جمع حق.

الحَقُّ: (نقيض الباطل وجمعه حُقوقٌ وحِقاقٌ، وليس له بِناء أدني عدَد وفي حديث التلبية لبَّيْك حَقّاً حقّاً، أي غير باطل، وهو مصدر مؤكد لغيره، أي أنه أكَّد به معنی ألم طاعتَك الذي دلّ عليه لبيك، كما تقول: هذا عبد الله حقّاً، فتؤَكِّد به وتُكرِّرُه لزيادة التأْكيد).(2)

وجاءت تعريفات لعلماء المسلمين تتضمن الصبغة الشرعية والفقهية والأخلاقية، منه تعريف الجرجاني قال: الحق في اللغة هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وفي اصطلاح أهل المعاني: هو الحكم المطابق للواقع. يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك.(3)

تعريف العيسوي قال هو: مصلحة ثابتة للشخص على سبيل الاختصاص والاستئثار يقررها الشارع الحكيم.(4)

الإنسان: الإِنسانُ أَصله إِنْسِيانٌ لأَن العرب قاطبة قالوا في تصغيره: أُنَيْسِيانٌ، فدلت الياء الأَخيرة على الياء في تكبيره، إِلا أَنهم حذفوها لما كثر الناسُ في كلامهم. وإِنْسانٌ في الأَصل إِنْسِيانٌ، وهو فِعْليانٌ من الإِنس والأَلف فيه فاء الفعل، والإِنْسُ: البشر، الواحد إِنْسِيٌّ وأَنَسيٌّ أَيضاً، بالتحريك. ويقال: أَنَسٌ وآناسٌ كثير.(5)

تعریف مفهوم مجموع حقوق الإنسان: ليس لها تعريفاً محدداً بل هناك العديد من التعاريف التي قد يختلف مفهومها من مجتمع إلى آخر أو من ثقافة إلى أخرى، لأن مفهوم حقوق الإنسان أو نوع هذه الحقوق يرتبطان بالأساس بالتصور الذي نتصور به الإنسان،

ص: 155

لذلك سوف يعرض الباحث مجموعة من التعاريف لتحديد هذا المصطلح:

يعرفها (رينية كاسان) وهو أحد واضعي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها:

فرع خاص من الفروع الاجتماعية يختص بدراسة العلاقات بين الناس استناداً إلى كرامة الإنسان وتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كل كائن إنساني، ويرى البعض أن حقوق الإنسان تمثل رزمة منطقية متضاربة من الحقوق والحقوق المدعاة.

أما (کارل فاساك) فيعرفها بأنها: علم يهم كل شخص ولا سيما الإنسان العامل الذي يعيش في إطار دولة معينة، والذي إذا ما كان متهماً بخرق القانون أو ضحية حالة حرب، يجب أن يستفيد من حماية القانون الوطني والدولي، وأن تكون حقوقه وخاصة الحق في المساواة مطابقة لضرورات المحافظة على النظام العام).

في حين يراها الفرنسي (ایف مادیو) بأنها: (دراسة الحقوق الشخصية المعرف بها وطنياً ودولياً والتي في ظل حضارة معينة تضمن الجمع بين تأكيد الكرامة الإنسانية وحمايتها من جهة والمحافظة على النظام العام من جهة أخرى).(6)

ص: 156

تعریف مصطفى الزرقا: هي مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال.(7)

فبناء على ذلك، يمكن القول ان (حقوق الإنسان) هي: مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته والتي تظل موجودة، وان لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى ان انتهكت من سلطة ما.(8)

ثانياً - لمحة عن الامام (عليه السلام) وتعاطيه مع حقوق الإنسان خارج هذا العهد:

الحق مقابل الكون:

لم يترك شيء في هذا الكون لم يعطه حقه، بدليل قوله (صلى الله عليه واله وسلم):(وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَاَليِمَ السَّبْعَةَ بِمَ تَحْتَ أَفلَاكِهَا، عَلَی أَنْ أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعيِرَة مَا فَعَلْتُ)(9) يُروى في (الخصال) في عنوان (الدنيا سبعة أقاليم) عن الامام الصادق (عليه السلام) بأن الدنيا سبعة أقاليم،(10) لقد أقسم (عليه السلام) هذا القسم الشرعي، لو أُعطي تلك الأقاليم بما تضم من خيرات أقسم من أجل أضعف المخلوقات في الكون، أقسم ألاّ يعصي الله تعالى بماذا؟ بقشرة شعير، وليس شعيرة كاملة، بأن يسلبها من النملة، لم يفعل، هذا عليٌ مع النملة، فكيف لو كان حق إنسان لدى علي (عليه السلام)، تُرى ماذا كان يفعل؟

جوع علي مع جوع الإنسان:

الامام (علیه السلام) وحق الحياة للإنسان، فمن حقوق الانسان أن يحيا حياة كريمة، لا أن يموت من شدة الجوع أو العطش فهذا يُعدّ ظلماً، من قبل الذين شبعوا ولم يعطوه، ومن الذين ارتووا ولم يروه، هكذا كان حق الحياة عن أمير المؤمنين (وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ

ص: 157

يَغْلِبَنيِ هَوَايَ وَ يَقُودَنِ جَشَعِي إِلَی تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ؟ باِلْجَازِ؟ أَوْ؟ اَلْيَمَامَةِ؟ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَلا عَهْدَ لَهُ باِلشِّبَعِ أَوْ أَبيِتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِ بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَ قَالَ اَلْقَائِلُ: وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبيِتَ بِبِطْنَةٍ... وَحوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَی اَلْقِدِّ)(11) فهناك فرق بين حق الانسان وحق المواطن، والامام هنا قوله، لعل هناك انسان موجود في أقصى الأرض، سواء كان مواطن ينتمي لبلده و تحت سلطانه أم لم يكن.

الامام علي (عليه السلام) مع أخيه عقيل:

هو لم يرضَ أن يعطي لأخيه عقيل فوق حصته و مقدار عطائه؛ لأنه سوف ينقص من حقوق الناس، فما أحوجنا اليوم لعدل علي صلوات الله عليه، مع إن أخاه عقيل محتاج وأولاده جوعی، (واللهّ لأن أبيت على حسك السعدان مسهّدا، وأُجرّ في الأغلال مصفّدا، أحبّ إليّ من أن ألقى اللهّ ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصباً لشي ء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثّرى حلولها.

واللهّ لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعثَ الشّعور غبرَ الألوان من فقرهم كأنّما سوّدت وجوههم بالعظام، وعاودني مؤكّدا وكرّر عليّ القول مردّدا فأصغيت إليه سمعي فظنّ أني أبيعه دیني وأتّبع قياده مفارقا طريقي، فأحمیت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من میسمها. فقلت له ثكلتك الثّواكل یا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه. أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من الظى)(12).

الحق عند علي بن أبي طالب ليس أسطورة تُحكي ولا نظرية تُدرس ثم تطبق، ولا

ص: 158

حلمٌ افلاطوني لم يدخل حيز التنفيذ، بل هو سلوك جرى به القلم، لذا لم يحتج إلى لحظة تفکیر کي يقرر بها مع من الحق، مع عقيل الذي طلب صاعاً، أم مع حق الناس المؤتمن عنده.

ثالثا - نظرة تأريخية مختصرة عن حياة مالك الأشتر وعهده:

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة إلى جده النخع، ولقد اشتهر مالك (بالأشتر) حتی یکاد يطغى على إسمه الحقيقي ولا يعرف إلا به، وكنيته أبو إبراهيم. وقد لُقب بالأشتر وكبش العراق، وهناك روايتان في كيفية شُتر عينه، الاولى: أن عينه شُترت في حروب الردة في جهاده عن الاسلام عندما ضربه أبو مسیكمه على رأسه. والرواية الثانية أن عينه شُترت في وقعة اليرموك، عند مبارزته لرجل مشرك من الروم وقتله.. ولربما تكون عينه قد فقئت في حروب الردة ثم اُصيبت ثانية في معركة اليرموك. ولُقب كذلك (بكبش العراق)، وقد أورده الرازي في مختار الصحاح ونصر بن مزاحم في كتابه وقعة صفين.(13)

ولا يُعرف تاريخ مولد الأشتر بدقّة، لكن كتّاب السِّيرَ اتفقوا على أنه رأى النور في عهد الجاهلية، وربما بين عامي 25 - 30 قبل الهجرة.

اسلامه: أسلم على عهد الرسول و ثبت على إسلامه ووصل في إيمانه درجة شهد بها الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وسلم. ولكن هل كانت له صحبة ودور في عصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)؟

هناك رأي يعتقد أن مالك الأشتر عاصر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وسلم، ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه، وذُكر عند النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقال فيه النبي

ص: 159

(صلى الله عليه واله وسلم): إنه المؤمن حقاً.

أما أبن حجر فذكر: أن مالك الأشتر سمع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وسلم وجعل له صحبة، وكان ممن شهد بايع تحت الشجرة.(14)

وكان شجاعاً معروفاً بشجاعته بين يدي سيده وشخصية مالك الأشتر شخصية الرجل الشجاع الذي يفرض نفسه في كل موقف، وهو الذي لم تُرد له راية او ينكسر له جیش.(15) وقد قال فيه ابن أبي الحديد: (قلت الله أم قامت عن الأشتر لو أن إنساناً يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه (عليه السلام) لما خشيت عليه الإثم والله در القائل وقد سئل عن الأشتر ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام وهزم موته أهل العراق. وبحق ما قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)).(16)

لذلك ذكره الإمام أكثر من مرة في أكثر من مناسبة كما في عهده له إلى أهل مصر، حين جعله والياً على هذا الإقليم: (أما بعد، فقد بَعثتُ إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيّامَ الخوف، ولا يَنكُل عن الأعداء ساعاتِ الرَّوع، أشدُّ على الفُجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مَذْحِج، فاسمَعوا له وأطيعوا أمرَه فيما طابَق الحقّ، فإنّه سيفٌ من سيُوف الله، لا كليلُ الظُّبّة، ولا نابي الضَّريبة. فإن أمَرَكم أن تَنفِروا فانفِروا، وإن أمَرَكم أن تُقيموا فأقيموا؛ فإنّه لا يُقدِم ولا يُحجِم ولا يُؤخِّر ولا يُقدِّم إلاّ عن أمري).(17)

كما أن الأمام علي (عليه السلام) ذكره بقول يبين رأيه فيه، وهي شهادة على ما كان يتصف به من صفات حيث جاء في كتاب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى أميرين من أُمراء جيشه: (وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَعَلى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارثِ الاْشْترِ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعاً، واجْعَلاَهُ دِرْعاً وَمَجِنّاً، فَإِنّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ، وَلاَ سَقْطَتُهُ، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الإسراع إِلَيْهِ أَحْزَمُ، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَی مَا الْبُطءُ عَنْهُ أَمْثَلُ).(18)

ص: 160

فأما ثناء أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل، ولعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك، كان شديد البأس جواداً رئيساً حليماً فصيحاً شاعراً وكان يجمع بين اللين والعنف فيسطو في موضع السطوة ويرفق في موضع الرفق.(19)

شهادته: بعد أن انتهت معركة صفين عاد الأشتر إلى الجزيرة، فلمّا اضطربت الأوضاع في مصر قرّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عزل الأشتر عن ولاية نصيبين وتعيينه والياً على مصر لمعالجة الوضع المضطرب هناك.(20) فلمّا علم جواسيس معاوية بذلك كتبوا إليه نبأ انتصاب مالك الأشتر والياً على مصر من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام)، حينها شعر معاوية بصعوبة الموقف فيما إذا وصل الأشتر إلى مصر التي كان معاوية يروم السيطرة عليها في عهد واليها محمد بن أبي بكر، فبعث معاوية إلى رجل من أهل الخراج في (القلزم) يثق به، وقال له: إن الأشتر قد ولي مصر فان كفيتنيه - وقضيت عليه - لم آخذ منك خراجاً ما بقيت، فاحتال في هلاكه ما قدرت عليه. فاحتال هذا القلزمي في أن تظاهر له بحبّ علي (عليه السلام)، وأتاه بطعام حتى إذا طعم سقاة شربة عسل قد جعل فيها سماً، فلمّا شربها مات.(21)

وقال ابن أبي الحديد: ومات الأشتر في سنة تسع وثلاثين متوجهاً إلى مصر والياً عليها لعلي (عليه السلام) قيل سقي سماً، وقيل إنّه لم يصح ذلك وإنما مات حتف أنفه.(22)

وقال عليه السّلام وقد جاءه نعي الأشتر وقد دخلوا جماعة على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ثم قال: (الله در مالك، وما مالك لو كان من جبل لكان فندا ولو كان من حجر لكان صلدا أما والله ليهدّنّ موتك عالماً وليفرحن عالماً، على مثل مالك فلتبك البواكي وهل مرجو كمالك وهل موجود كمالك. قال علقمة بن قيس النخعي فما زال علي يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا وعرف ذلك

ص: 161

في وجهه أياما).(23)

مضامين العهد: لقد تضمن العهد حوالي أربعين فقرة تناولت عدة عناوين، منها:

السيرة الحسنة، العلاقة مع الرعية، عدم التكبر، الانصاف، العدل، الوشاة، الاستشارة، دور الوزراء وصفاتهم، الاحسان، السنة، دور العلماء، العلاقة بين طبقات المجتمع، دور قادة الجيوش والعلاقة بهم، اختيار القضاة، الشبهات، اختيار العمال والولاة، خيانة العمال، الخراج ومالية الدولة، الكتاب وأصحاب الديوان، فنون الكتاب، التجار والاحتكار، الاهتمام بالفقراء، اصحاب الحاجات والمصالح، واجبات الحاكم، أداء الفرائض، عدم الاحتجاب عن الناس، دور الحاشية، الاستفادة من العلماء، العلاقة بالأعداء والعهود معهم، وصفات خاصة.(24)

تاريخ العهد وسبب اختيار مالك لولاية مصر:

كان هذا العهد عندما ولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) مالك الاشتر على مصر بعدما عزل محمد بن ابي بكر حين اضطرب وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن، فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها: (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنيِ مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ اَلْأَشْتَرِ إِلَی عَمَلِكَ وَ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اِسْتِبْطَاءً لَكَ فِي اَلْجَهْدَ وَ لاَ اِزْدِيَاداً لَكَ فِي اَلْجِدِّ وَ لَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَأَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلاَيَةً إنَّ اَلرَّجُلَ اَلَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً وَعَلَی عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً فَرَحِمَهُ اَللَّهُ فَلَقَدِ اِسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ وَ لاَقَى حِمَامَهُ وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ أَوْلاَهُ اَللُّهَ رِضْوَانَهُ وَضَاعَفَ اَلثَّوَابَ لَهُ(25)).

ص: 162

المطلب الأول: حق التعايش السلمي للإنسان

قال (عليه السلام) في عهده يرشده على معاملة الناس: ((فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(26)

التعايش السلمي الذي دعا إليه القرآن، هو ذاته الذي أقرّه الإمام علي (عليه السلام)؛ لأن القرآن وعلياً، وجهان لنورٍ واحد - إن صح التعبير - لا فرق سوى أن القرآن كتاب – الله الصامت وعليٌ (عليه السلام) قرآن الله الناطق المتجسد عملياً على الأرض، تأويل ينطق لنا بما لا قدرة لنا على فهمه ودركه من كلمات بحروف تلملمت فصارت معانٍ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13 والمعنى حسب الميزان: إنا خلقناكم من أب وأم تشتركون جميعاً فيهما، من رجل وامرأة فكل واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، من غير فرق بين الأبيض والأسود والعربي والعجمي وجعلناكم شعوبا وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض، بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا ويتم بذلك أمر اجتماعكم؛ فيستقيم مواصلاتكم ومعاملاتكم، فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع؛ انفصم عقد الاجتماع وبادت الإنسانية، فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب وتتباهوا بالآباء والأمهات.(27)

فحق الإنسان عند علي صلوات الله عليه في التعايش السلمي، سواء كانوا مسلمين أم غيرهم، يوجبُ - لا أعني به الوجوب الشرعي الفقهي، وإنما الوجوب الأخلاقي الإنساني - عدم الاعتداء عليه أبداً وفق هذين المبدأين: مبدأ الأخوة الدينية والنظير الإنساني الخلقي الترابي، فالأخوة الدينية منبعثة من قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» الحجرات: 10، لكن أي إيمان هنا؟ هل تعني مطلق الإيمان بالله، أم المراد الإيمان بالمعنى

ص: 163

الخاص؟ وهو الإيمان بجميع وبجميع الرسل، وبالبعث الروحي والجسدي، والإيمان بلقائه تعالى، كما يروى إنه (كان النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بارزاً يوما للناس فأتاه جبريل فقال ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالعبث... )(28) وكذلك الإيمان الذي هو بضع وسبعون أو وستون شعبة والحياء شعبة منها، والمؤمنون الموجه لهم الخطاب الديني حصراً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ»النساء: 59. أم هو الإيمان الذي يدخل فيه كل من اتصف بروحه وقلبه أنه مؤمن بتوحيدٍ يجعله يتجه صوب المقدس الغيبي بلا شعور بآخر مع الله عزّ وجل، دون الالتفات الى مسميات نمطية تصنيفية: مسلم، يهودي، مسيحي، صابئي، وغيرهم «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» البقرة: 62.

ذكر صاحب الميزان: تكرار الإيمان في الآية ثانياً (مَنْ آَمَنَ) وهو الاتصاف بحقيقته کما يعطيه السياق، يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية، هم المتصفون بالإيمان ظاهراً المتسمون بهذا الاسم؛ فيكون محصّل المعنى: أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجراً ولا أمناً من العذاب، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة، حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة؛ لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى.

وهذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة والكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلا مع لزوم العبودية.

ص: 164

في الدر المنثور، عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وسلم) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية.(29) ذلك لأن (الدين عند الله الإسلام) لا بالمعنى الأخص، بل مطلق التسليم والانقياد لله تعالى في الطاعة والاستجابة، يعني أن الله تعالى حاشا له أن يخلق البشر من أجل أن يعذبهم ويدخلهم جهنم، إنما يحتج الى الظلم الضعيف وحاشاه.

والمبدأ الآخر: الذي ينطلق منه حق التعايش السلمي للإنسان، هو السنخية وتساوي الخلق في البشر، وهذا ما أكده القرآن الكريم «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» آل عمران: 59 وقوله تعالى: «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ» يحاججه بوحدة الخلق وأنه نظير له في الخلق وهو التراب، «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» الروم: 20

وقال الإمام (عليه السلام) أيضاً في العهد المبارك: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلاً قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه، عهداً منه عندنا محفوظاً)(30).

يمكن القول إن هذا المقطع من عهده المبارك يخص التعايش السلمي بين الناس بمختلف طبقاتهم فبين طبقات النّاس والرّعيّة، وليس المقصود من ذلك إثبات نظام الطبقات وتأييده فإن نظام الطبقات مخالف للعدل والديمقراطية الحاكمة بتساوي الرّعيّة في الحقوق.

ص: 165

فالبشر في تحوّله الاجتماعي شرع من النظام القبلية والاسرة المبني على أنّ الحكم المطلق ثابت لرئيس القبيلة، فلا حياة للفرد إلاّ في ضمن القبيلة ويشترك معها في الخيرات والشرور على ما يراه صاحب الاسرة ورئيس القبيلة، وهذا أدنى نظام اجتماعي وصل إليه البشر في تكامله الاجتماعي، فنظام الطبقات يحصل للأمم بعد التحوّل من النظام القبلي ومرجعه إلى اعتبار الامتيازات بين الأفراد والأصناف ويبتنى على التبعيض في الحقوق العامّة، فنظام الطبقات يخالف التساوي والتآخي بين الأفراد والتساوي في الحقوق كما نادى به الإسلام في القرآن الشريف حيث يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13 وقد تعلّق العرب على النظام الطبقاتي واعتبار الامتياز من وجوه شتّى: منها عدم تزويج بناتهم مع غير العرب وعدم تزويج القبائل بعضها مع بعض باعتبار علوّ شأنه، و قد اهتمّ النبيّ (صلّى اللهّ عليه وآله) بمحو النظام الطبقاتي و لیا الا إلقاء هذه الامتيازات المتوهّمة بكلّ جهده.

ومقصوده عليه السّلام من قوله (واعلم أنّ للرّعيّة طبقات) ليس اثبات الطبقات بهذا المعنى بل بيان اختلاف الرّعيّة فيما تتصدّيه من شئون الحياة البشريّة حيث إنّ الانسان مدني بالطبع يحتاج إلى حوائج كثيرة في معاشه من المأكل والملبس والمسكن ولا يقدر فرد واحد بل أفراد على إدارة كلّ هذه الامور فلا بدّ وأن ينقسم الرّعيّة بحسب مشاغله إلى طبقات ويتصدّى كلّ طبقة شأناً من الشؤون وشغلاً من المشاغل، ثمّ يتبادل حاصل أعماله بعضهم مع بعض حتّى يتم أمر معيشتهم ويكمل حوائج حياتهم وجعل الرّعية طبقات:

1. الجنود المحافظون للحدود والثغور والمدافعون عن هجوم الأعداء.

2. كتّاب العامة المتصدّون لكتابة العقود والمعاهدات والحقوق وغيرها من المراسلات.

ص: 166

3. قضاة العدل ورؤساء المحاكم المتصدون للترافع بين النّاس والنظر في الدّعاوى.

4. عمال الامور الحسبيّة المحافظون على الانصاف والرّفق بين النّاس وهم الّذين يجرون الأحكام القضائية وينفذونها.

5. أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة النّاس.

6. التجار وأهل الصناعات والحرف الكثيرة الّتي عليها مدار حياة البشر.

7. الطبقة السّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، والتعبير عن هذه الطبقة بالسفلى باعتبار أنها لا تقدّم عملا نافعا في الاجتماع تتبادل به مع أعمال الطبقات الآخر فلا بدّ وأن تعيش من عمل الطبقات الاخر.(31)

8. فالمسلم أخو النصراني شاء أم أبى، لأن الإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره. ولو لم يكن الدنو من الفضيلة والبعد عن نقيضتها الرذيلة هو الأصيل في دستور الإمام في الحرية، ولو لم تكن الحرية الفاضلة حقاً مقدساً لديه لَما امتدح مَن يسيرون على منهاج المسیح، كما امتدح مَن يسيرون على منهاج محمد.(32)

المطلب الثاني: حق الإنسان في الحرية

بدايةً عندما بدأ أمير المؤمنين (علیه السلام)کتابه، نسب نفسه الى الله تعالى، وهنا الدقة والحبكة بالتعبير، فهي أعظم وأفضل نسبة لعبودية الله، فقال: «هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِىٌ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِينَ» کما انتسب النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الى الله تعالى «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» الاسراء: 1 وكأنه أراد هذا تطبيقاً عملياً لما سيتضمنه الكتاب من وصايا ودروس أخلاقية كبيرة، في العبودية الحقة لله تعالى هي ذاتها الحرية الحقيقية التي لا مثيل لها.

إذاً فالحرية من حقوق الإنسان المكفولة أصلاً في نهج الإمام ودستوره لكافة الناس،

ص: 167

يكفلها الوجدان الإنساني بوصفها قوة لا تعمل بالإكراه.

فأنت لا يمكنك أن تقضي على نور الشمس إلا إذا منعته عن غايته في الإنارة وإشاعة الدفء بحاجز تقيمه بين أشعته وبين غايته، إذاً فقد أخرجته الى نطاق من الاماتة والإفناء. فكل ما في الكون حرٌ بأصوله وشروط وجوده لا يقبل إلا بالحرية قانوناً وإلا تعطل وانتهى.

لكن حرية الفرد لدى الإمام ليست الحرية الإباحية الرعناء بل هي مقترنة أبداً بالشعور بالمسؤولية. لم يلجأ شأنه في ذلك شأن الفلاسفة والمفكرين الأقدمين الى التضييق على الناس في معنى الحرية، بل لجأ الى توسيع معنى الحرية في مدارك الناس، وفي الوقت نفسه لجأ الى توسيع معنى الشعور بالمسؤولية. ومن آياته في ذلك، أمره مع أهل القرية الذين شاؤوا أن يحفروا مجرى النهر الذي عفا ودرس؛ فطلبوا الى عامله على قريتهم أن يسخّرهم في العمل؛ فأمره عليّ بألا يسخّرهم، بل يطلب إليهم أن يعملوا في الحفر ويتقاضوا على ذلك أجراً، ثم يكون الأجر والنهر فيما بعد لمن عملوا بملء حريتهم، ولمن شعروا بأنهم مسؤولون عمّا عملوه.

وكأن الإمام يُحيي منذ بضعة عشر قرناً هذه العاطفة التي صورها العبقري الفرنسي جان جاك روسو منذ قرنين مضت إذ قال: إن ايماننا بالإنسان وولائنا للإنسانية هما اللذان يثيران في طبيعتنا الخيرة أعمق الدوافع لان نجعل من البليد المسخر انساناً بشرياً نابها.(33)

ص: 168

أولاً - حرية العقيدة وعبادة الله تعالى:

من أهم حقوق الإنسان، هي حرية العبادة؛ لأنها محطة معنوية مهمة في حياة الفرد، بل أهم المحطات والمحاور في ذات الإنسان، ومن حق الإنسان أن يعبد الله تعالى بما يقف ويقوده الدليل الى ذلك، لا أن يُجبر على سلوك قناة وطريق غير مندفع ومقتنع به، أو أن يُجبر على عبادة غير الله تعالى، كعبادة السلطان والشيطان، والنساء، وغيرها من العبادات الموجودة غير الصحيحة كما جاء في اليهود والنصارى «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» التوبة:31. كيف اتخذوهم أرباباً يعبدونهم؟ كانوا يسمعون ويطيعون لهم.

حيث قال صلوات الله عليه في عهده: (أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه)(34) هذا ظاهره أمرُ بالتقوى وإيثار الطاعة، إلا أن حقه الحرية في الاختيار بلحاظين:

الأول: لأنه ذكر الاتباع والطاعة لأوامر الله تعالى ببعده الإيجاب، لا ببعده السلبي، نظير قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» آل عمران: 64 أي إن هناك مشتركاً بيننا تعالوا لنتمسك بحبله ونعضده، وهي كلمة التوحيد، هذا هو البعد الإيجابي بالدعوة، ولم يقل لهم أنتم لستم على شيء وأنكم مصيركم الى النار مثلاً، حيث قال (فإنَ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي إذا رفضوا الدعوة ولم يقبلوا، ماذا تقولون لهم، هل تقولون لهم أنتم كفرة وفساق وفجرة ولا تهتدوا بعد اليوم ومصيركم جهنم،

ص: 169

بهذا الأسلوب والبعد السلبي؟

انظر الى القرآن: (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فقط البعد الإيجابي دون السلبي. والثاني: بلحاظ النتائج المرجوة العظيمة المتوخاة عن اتباع أوامر الله، التي ذكرها الإمام النص الآنف: التي هي السعادة عند اتباع الفرائض، والشقاء عند إضاعتها، وإن الله تعالى سوف ينصره ويعزه. وإلا لو كان إجباراً على شيء لم تذكر ولم تعرض الفوائد والآثار الجيدة. (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) وهي التوحيد، ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

قال صاحب الميزان: والذي تختتم به الآية من قوله: (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) يؤيد المعنى الأول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله (الخ) لأنها مقتضى الإسلام الله الذي هو الدين عند الله، والمراد بقوله: (ألا نعبد إلا الله) نفي عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الإشارة إليه في معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله: أن لازم كون إلا الله، بدلا لا استثناء كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله، فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الإله وحقيته مفروغاً عنه.... قوله تعالى: (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) استشهاد، بأنهم وهم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ومن اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام، قال: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ» * آل عمران - 19 فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.)(35)

فحرية العقيدة الدينية حقٌ من حقوق الناس كفلها دستور الامام علي (عليه السلام)، فبما أن الحرية لا تُجزأ، فإن الانسان لا يمكنه أن حراً من جانب ومقيّداً من جانب آخر(36).

وهذا الحق عند الامام علي (عليه السلام)، للإنسان في حرية العبادة، ينسجم مع قوله تعالى «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ

ص: 170

بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» البقرة: 256 أيضاً نلاحظ حرية الحق وذكر النتائج المترتبة على الايمان بالله.

وهو القائل في مناسبة ثانية، أن تتحرر من كل القيود والقبليات النفسية وتنطلق صوب الحق المطلق وتكون حراً بشكره وعبادته: (إن قوماً عبدوا الله سبحانه رغبة فتلك عبادة التجا، وقوما عبدوه رهبة فتلك عبادة العبيد وقوما عبدوه شکراً فتلك عبادة الاحرار)(37).

وقد ورد إن بعض المنافقين كانوا يأتون إلى مسجد الكوفة ولم يصلوا مع الإمام (عليه السلام) الجماعة، بل كانوا يصلّون فرادى في وقت صلاة الإمام (عليه السلام) تعرضاً بالإمام، فقيل للإمام أن يمنع هؤلاء عن هذا العمل.

وكان بيده الحق في نهيهم، مع ذلك قال الإمام: اتركوهم وشأنهم، ثم تلا هذه الآية المباركة: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّی» العلق: 9 - 10.(38)

نعم الإمام (عليه السلام) طبق هذه الآية المباركة حتى على صلاة المنافق، لأنه كان يريد إعطاء الحرية للناس جميعاً.

ثانياً - الحرية الشخصية:

فقال (عليه السلام) في العهد الميمون: (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنوهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك).(39)

ص: 171

يمكن القول ان الامام اعطي حرية الخطأ مع عدم الإصرار، عليه مع الالتزام بعدم علانية ذلك الخطأ، فضلاً عن انه يرفض نموذج الدولة الشمولية التي تجعل من نفسها جهاز تجسس ومراقبة ضد ابناء الأمة بل يريد من الدولة أن تكون اداة اصلاح ووسيلة لحل الازمات يجب أن تعامل المواطنين كبشر تلازمه حتمية الخطأ، ويجب أن يمنح الانسان فرصة الإصلاح الذاتي لذلك الخطأ ما دام لم يتجاوز القانون العام.(40)

المطلب الثالث: حق الإنسان في حرية التعبير

حيث جاء في عهده (عليه السلام) (ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّ قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا

كُنْتَ تَنْظُرُ فيِهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فيِكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فيِهِمْ، إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ).(41)

هذا الحق من حقوق الإنسان في حرية التعبير، كفله الإمام (عليه السلام)، فمثلما أنت تبحث عن متنفس في التعبير لهمومك التي قد تنفجر إذا بقيت داخل صدرك ولم تخرج بحسرة من الحسرات وبزفرة من الزفرات، وتريد أن تعبّر عمّا في داخلك من رأيٍ صريح أنت مقتنع به؛ كذلك أيها الإنسان يجب أن تعطي للإنسان الآخر في المقابل هذه الفسحة والفرصة لإطلاق فيض المشاعر والأحاسيس التي تعانق الأضلاع داخل صدر الإنسان.

فلا تؤاخذهم با تجود حسراتهم وزفراتهم لو أرادوا الكلام، وقد جاء عنه (عليه السلام) في مناسبة وهي يكفل حق الكلام والتعبير (رُوِيَ أَنَّهُ (عليه السلام) كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِهِ فَمَرَّتْ بِهِمُ اِمْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا اَلْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقَالَ (عليه السلام) إِنَّ أَبْصَارَ هَذِهِ اَلْفُحُولِ طَوَامِحُ وَ إِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابَهِا فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَی اِمْرَأَةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ

ص: 172

أَهْلَهُ فَإِنَّمَا هِيَ اِمْرَأَةٌ كَامْرَأَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلْخَوَارِجِ؟ قَاتَلَهُ اَللهَّ كَافِرِاً مَا أَفْقَهَهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ (عليه السلام) رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ)(42) ما أعظمها من حرية في التعبير، أي إما أن أردَّ عليه هذا السب والشتم، أو من حقي أن أعفو عنه إن شئت، ولا يستحق ما فعله جريرة القتل؛ فلا يجوز قتله. مع أن هذا كان من الخوارج وكان يختلف معه في العقيدة، فحق حرية التعبير مكفول بدون تفريق بين أحد و آخر.

وحرية التعبير عند أمير المؤمنين لا تقتصر على مجرد الكلام، بل على الوضع النفسي أن يكون المتكلم مطمئناً ومستقراً، ويُخصص له الوقت الكافي حتى یُوصل فكرته التي يريد، بل وتشجيع من عدة نواحي، حيث قال في عهده (عليه السلام): (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غيرَ متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول في غير موطن: لن تُقدس أمة لا يُؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع)(43) فإن كان الخوف يسيطر على الإنسان لا يستطيع التعبير حقيقةً، وسيكون تعبيره بها لا يوجد في سريرته؛ (حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع).

المطلب الرابع: حق الإنسان في العدل والمساواة

قال (عليه السلام) في عهده: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق).

المساواة والتآخي أصل إسلامي مالَ إليه كلّ الشعوب في هذه العصور الأخيرة المنيرة بالتفكير والاختراع، وأدرج في برنامج الحقوق العامّة البشريّة، ولكن المقصود

ص: 173

منه ليس تساوي الأفراد في النيل من شئون الحياة: الصالح منهم والطالح والجادّ منهم والكسلان على نهج سواء، بل المقصود منه نيل كلّ ذي حقّ حقّه من حظّ الحياة على حسب رتبته العلمية و جدّه في العمل، فهذا الأصل يبتني على تعيين الحقوق،(44) وقد شرّح عليه السّلام في هذا الفصل من كلامه هذا الأصل فقال: (أعرف لكلّ امرىء منهم ما أبلی)، وقال أيضاً: (فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه)(45)

المساواة في اللغة تعني: التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص.(46)، أما العدالة، فإن فلان يعدل فلان يساويه،.. وعادلت بين الشيئيين وعدلت فلان بفلان اذ سویت بینهما.(47) والعدل: ما قام في النفوس انه مستقیم وهو ضد الجور والعدل اسم من اسماء الله الحسنی... والعدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم... والعدل الحكم بالحق.(48)

الكلام هنا هل أن العدل مرادف للمساواة بمعنى أن كل مساواة هي عدل وأن كل عدل تعني المساواة؟ ببداهة لا يصح ذلك إذ ليس كل مساواة هي عدل وهذا ما استنكره القرآن الكريم بالاستفهام الانکاري في قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ» الزمر: 9 وكذلك قوله تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» صاد: 28 فلا تحقق للعدالة في المساواة بينهم بالثواب والعقاب معاً.

لكن هناك مساواة بين هؤلاء على اختلاف مشاربهم واستعداداتهم وقابلياتهم، في جوانب معينة، مثلاً في إرسال الأنبياء والرسل للبشر كافة على حدٍ سواء «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» الأعراف: 158 وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا» البقرة: 168 هنا الخطاب للناس جميعاً بالتساوي.

وهناك مساواة تحقق بضمنها العدالة، كما في قوله تعلى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ

ص: 174

أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13 فلا تفضيل ولا فرق بين الناس إلا بتقوى الله تعالى. لكن مساواة علي (عليه السلام) مساواة عادلة لا تبخس أحداً.

فعدلُ عليّ (عليه السلام) لا يرضى بمساواة بين المحسن والمسيء لأن في ذلك ظلماً وبخساً لأهل الاحسان وتشجيعاً لأهل الإساءة حيث قال في عهده (عليه السلام): (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه).(49)

جاء في كتاب (بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة): من كلام له (عليه السلام) کلم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة وقد عتبا عليه وكرها مبدأ المساواة بالعطاء مع الرعية: (وأما ما ذكر تمامن أمر الأسوة) أي المساواة بين النّاس في قسمة الغنيمة (فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي ولا ولّيته هوى مني، بل وجدت أنا و أنت ما جاء به رسول اللهّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد فرغ منه، فلم احتج إليكما فيما قد فرغ اللهّ من قسمه وأمضى فيه حكمه) وفي موضع آخر ((إنّ كتاب اللهّ وسنّة نبيّه على التسوية فكيف يمكن إعمال الرأي في قبالهما)(50) فهذه هي المساواة العادلة عند علي بن أبي طالب (عليه السلام). فقد جرت العادة أنهم يفرقون في العطاء من بيت المال، فحصة الأعيان والوجهاء كانت أكثر من حصة الطبقة الكادحة والفقيرة.

لأن القرآن الكريم أكد على مفردة العدل «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» النساء: 58 وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» النحل: 90 لأن بعض من المساواة في الظلم بعينه بتعبير القرآن «لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا» الحديد: 10.

وفي عهده لمالك (فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه)(51) فلم يفرق في حق المساواة بالعطاء المعنوي، بين أسود وأبيض ولا بين

ص: 175

عربي وأعجمي ولا بين سيد وعبد، ولا بين غني أو فقير، بأن يكون مختص فقط لأقرانه وجلسائه وخاصته.

حيث أكد هذا المعنى في رسالة أخرى: (فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجور عوض من العدل)(52) بل هناك مساواة مطلوبة عند الإمام (عليه السلام)، وهي المساواة العادلة ففي عهده المبارك: (وإياك والاستئثار بها الناس فيه أسوة)

المطلب الخامس: حق الإنسان في الحياة

جاء في العهد المبارك: (إياك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن).(53)

فإن حق الإنسان أن يحيا ولا يجرؤ أحد على قتله، فصفة الإنسانية فقط كفيلة بأن تضمن عدم سفكه عند الإمام علي (عليه السلام)، وهذا ما أكده القرآن الكريم قتل الناس بغير حق، ولم يقيد القرآن هذا القتل يحرم فقط على المسلمين «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» المائدة: 32

ونلحظ قول الإمام (بغير حلِّها) أي هناك موارد القتل يكون فيه حياة للآخرين «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة: 179 إذن (ليس هذا مجرد نهي وبيان لحكم القتل عن عمد، لأن تحريمه ثابت و معروف بمنطق الحياة والفطرة، ويستوي في معرفته العالم والجاهل، والمؤمن والكافر، ولا يحتاج بعد هذا إلى توضيح وبيان.

ص: 176

أما النصوص على تحريمه من السماء وأهل الأرض فهي انعكاس وتعبير عما هو كائن بالفعل، لا توجيها إلى ما ينبغي أن يكون.

ويجوز القتل لحماية أرواح الناس و مصالحهم أي أن منطق الحياة الذي حرّم القتل هو بالذات يسوّغ قتل من اعتدى على الحياة، صونا لها وحرصا عليها، وبكلام آخر: لا يجوز قتل أحد من الناس إلا بحق وعدل، وذلك بأن يباشر الجاني بملء ارادته السبب الموجب لقتله بحيث يصدق عليه قوله تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» النحل : 33)(54)

والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن تلمسها في هذا النص، منها:

1. تأكيد حرمة الدماء وان حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

2. المساواة بين الناس حاكماً، محكوماً سيداً كان أو عبداً، من حيث لا ضمانات للمنصب او شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

3. إن سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الناس مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للعداوات والتباغض والتحاقد لأن (لكل دم ثائرٌ، ولكل حق طالبٌ)(55) على وفق وصف الإمام.

وبناء على احترام الإمام لحق الحياة نلاحظ أنه حكم على جريمة التحريض او الأمر بالقتل أو بعقوبة أخرى تتناسب مع الجرم والشكل القانوني للجريمة وكان (عليه السلام) يقول: (من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام)(56) وأشار الإمام كذلك إلى عملية القتل المعنوي وذلك بهدم كرامة الإنسان وسمعته وعُدَّ ذلك بمثابة اغتيال له اذ يقول(57) لمالك: (فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عمّا غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك)(58)

ص: 177

الخاتمة

وما توصل إليه الباحث من نتائج:

1 - لا يوجد تعریف ثابت لمفهوم حقوق الإنسان؛ فيتغير باختلاف وتغير متطلبان الإنسان على مدى العصور والأزمان.

2 - إذا كانت هذه هي حقوق الإنسان كما أرادها الإمام (عليه السلام)؛ فحقوق الإنسان لم ولن تُطبق ولم تجد لها مصداقاً غيرَ اهل البيت عليهم السلام.

3 - توصل الباحث إلى أن هناك فرق بين حقوق الإنسان بصورة عامة، وحقوق المواطن بصورة أخص.

4 - هذا العهد وهذا الكتاب وما جاء فيه من وصايا تاريخية ودستور واضح، خطاب عالمي موجه لجميع الحكام مسلمين وغير مسلمين الى يوم القيامة، بل أكثر من ذلك، هو متوجه لكل إنسان بكل ألوانه؛ لأن المورد لا يخصص الوارد - کما يعبرون في علم أصول الفقه - وإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والإمام علي (عليه السلام) هو القرآن الناطق فكلامه يجري في الماضين والباقين، فعن الامام الباقر (عليه السلام) في حديث (... إن القرآن حيٌ لا يموت، والآية حيةٌ لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الاقوام و ماتوا ماتت الآية، لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين کما جرت في الماضين)(59)

5 - إن حق حرية الفكر والعقيدة، وحق التعايش السلمي المتمثل بقول الإمام (عليه السلام) ((إمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ) أثبتا أن ميثاق حقوق الإنسان للأمم المتحدة، لم يتوصل إلى هذا المستوى وهذا المعنى، شعاراً وتطبيقاً، وقصة الإمام (عليه السلام) مع النصراني المكفوف مما يؤيد هذا ذلك: حيث كان الإمام (عليه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (عليه السلام) متعجباً وقال (صلى الله عليه واله وسلم): ما هذا؟ ولم

ص: 178

يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي إنه (عليه السلام) رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟

قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف.

فقال الإمام (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بیت المال راتباً. (راجع وسائل الشيعة: ج 11 ص 49 باب 19 ح1).

ص: 179

ثبت المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

* الأمين، محسن.

1. أعيان الشيعة، تح: حسن الأمين، دار التعارف، بیروت، 1983 م.

* ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه / 1258 م).

2. شرح نهج البلاغة، تح: محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية 1959.

* أبن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 ه).

3. الإصابة في معرفة الصحابة، دار العلوم الحديثة، القاهرة، 1328 ه.

* ابن منظور: محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي المصري ت 711 ه.

4. لسان العرب، دار صادر، بیروت - لبنان، ط 1، (د.ت).

* البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم أبو عبد الله الجعفي، ت 256 ه.

5. الجامع الصحيح المختصر المعروف بصحيح البخاري، تح: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن کثیر، اليمامة - بيروت، ط 3 - 1987 م.

* البيهقي: علي أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر (ت 458 ه).

6. السنن الکبری، بیروت، دار الفكر، د.ت.

* التستري، الشيخ محمد تقي بن كاظم بن محمد علي بن الشيخ جعفر التستري.

7. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، مؤسسة نهج البلاغة، 1397 ه. مصدر الكتاب: المكتبة الشاملة.

* الجرجاني، السيد الشريف علي بن محمد، ت 816 ه - 1413 م.

8. معجم التعريفات، تحقیق محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة - القاهرة.

*: جرداق، جورج،

ص: 180

9. علي صوت العدالة الإنسانية، الأندلس، بیروت - لبنان، ط 1، 2010 م

* حسون، نجاح عبید.

10. مالك الأشتر، سيرته والحضارة الاسلامية في عصره، أطروحة دكتوراه، جامعة سانت کلمنت، مکتب کرکوك، 2010.

* خوئي، هو العلاّمة المؤيد المسدّد المتبحر الأديب الحاج میر حبیب اللهّ بن السّيد محمّد الملقب بأمين الرعايا ابن السّيد هاشم بن السّيد عبد الحسين، ت 1324 ه.

11. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر الكتاب: المكتبة الشاملة.

* الزرقا، مصطفى أحمد.

12. المدخل الفقهي العام، دار الفكر - دمشق، ط 9، 1967 - 1968.

* السعد، غسان، معاصر.

13. حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، الطبعة الثانية، بغداد - 2008.

* الشريف الرضي: أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسی بن محمد بن موسی بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)ت 406 ه.

14. نهج البلاغة: وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الاستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

* الصدوق، أبی جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمی، ت 381 ه.

15. الخصال، صححه وعلق عليه على اكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة، 1403 ه.

* الشيخ عيسوي، أحمد.

16. المدخل للفقه الإسلامي، مطبعة دار التأليف - مصر، ط 1 - 1963.

* الطباطبائي: محمد حسين، ت 1402 ه.

ص: 181

17. الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بیروت، ط 1، 1997 م.

* مجذوب، دكتور محمد سعيد.

18. حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لبنان، جروس برس، 1980.

* مغنية، محمد جواد.

19. في ظلال نهج البلاغة، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان ط: 3، 1979.

مواقع شبكة الانترنت

1. موقع ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki

2. موقع ویکي، شیعة، http://ar.wikishia.net/view

3. موقع شیرازي، http://alshirazi.com

الأقراص والكتب الإلكترونية

1. قرص المكتبة الشاملة

ص: 182

الهوامش

1. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من کلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، ج 2، ص 218.

2. ابن منظور، لسان العرب، ج 10، ص 49.

3. ظ: الجرجاني، علي بن محمد، معجم التعريفات: ص 79.

4. ظ: للشيخ عيسوي، أحمد، المدخل للفقه الإسلامي، ص 338، وينظر: الإسلام وحقوق الإنسان، د. القطب محمد، ص 38.

5. ظ: ابن منظور، لسان العرب، ج 6، ص 10.

6. موقع ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki

7. انظر: الزرقا، مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام»: 3 / 9 - 10.

8. (د. مجذوب، محمد سعید، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ص 9

9. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من کلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، ج 2، ص 218.

10. الصدوق، الخصال 2: 357 ح 40.

11. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من کلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، ج 3، ص 72.

12. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، و هو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، ج 2،

ص: 183

ص 217.

13. حسون، نجاح عبید، مالك الأشتر، سيرته والحضارة الاسلامية، ص 30 - 33

14. ابن حجر العسقلاني، الإصابة، ج 4، ص 281.

15. ظ: حسون، نجاح عبید، مالك الأشتر: سيرته والحضارة الاسلامية، ص 38.

16. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج، 18، ص 95.

17. المصدر نفسه، نهج البلاغة، ج 3، ص 14.

18. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من کلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، ج، 3، ص 14.

19.ظ: المصدر نفسه ج 3، ص 102.

20. ظ: الأمين، أعيان الشيعة، ج 9، ص 38.

21. ظ: المصدر نفسه، ج 9، ص 38 - 39.

22. ظ: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 101.

23. المصدر نفسه، ج 13، ص 77.

24. ظ: موقع ويكي شيعة، http://ar.wikishia.net/view

25. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج، 16، ص 142.

26. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 84، يُذكَر إن الأمين العام السابق للأمم المتحدة (كوفي عنان) دعا لوضع هذا الشعار الدال على التعايش السلمي في منظمة الأمم، ويقول: قول علي ابن أبي طالب (يا مالك إن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية)، وبعد أشهر اقترح (عنان)

ص: 184

أن تكون هناك مداولة قانونية حول (کتاب علي إلى مالك الأشتر).

واللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد مدارسات طويلة، طرحت: هل هذا يرشح للتصويت؟ وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.

وكلامه باللغة الانجليزية:

Kofi Annan، the UN Secretary states =:

= (The words of Ali ibn Abi Talib. 'O Malik! The people are either brothers in religion or your equal in creation must be adhered to by all organisations and it is a statement that all humanity must embrace.)

27. ظ: الطباطبائي، تفسير الميزان، 18 - 172 الشاملة.

28. صحيح البخاري، ج 1، ص 27، رقم الحديث 50.

29. ظ: الطباطبائي، تفسير الميزان، 1 - 110.

30. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 89.

31. ظ: خوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ص 197 - 198.

32. ظ: جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، ص 194.

33. ظ: جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، ص 155 - 158.

34. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 84.

35. الطباطبائي، تفسير الميزان، 3 - 138 / 140 الشاملة.

36. ظ: جرداق، جورج، علي صوت العدالة الإنسانية، ص 194.

37. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 53.

ص: 185

38. ظ: موقع الشيرازي، http://alshirazi.com

39. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 86.

40. ظ: د. السعد، غسان، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، ص 115.

41. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 83.

42. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 4، ص 98.

43. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج3 ، ص 102.

44. ظ: خوئي، حبيب الله، میر، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج، ص 226.

45. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 84.

46. ابن منظور، مصدر سابق، ج 4، ص 410.

47. المصدر نفسه، ج 11، ص 413.

48. ظ: ابن منظور، مصدر سابق، ج 11، ص 430.

49. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 88.

50. التّستري، الشّيخ محمّد تقي، مبهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج، ص 548.

51. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 84.

52. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ص 116.

53. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 108.

54. مغنية، محمد جواد، في ظلال نهج البلاغة، ج 4، ص 115 - 116.

55. نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مصدر سابق، ج 1، ص 20

56. ينظر: البيهقي، ابو بکر احمد السنن الکبری، ج 2، ص 365.

57. ظ: د. السعد، غسان، حقوق الانسان عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

ص: 186

رؤية علمية، ص 62 - 63.

58. الامام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 3، ص 86.

59. العياشي، المحدث الجليل ابي النضر محمد بن مسعود بن عياش، تفسير العياشي، ج 1، ص 204.

ص: 187

ص: 188

المبادئ الأخلاقية في عهد الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ.م.د. وحيدة حسين الركابي

الجامعة المستنصرية / كلية التربية

قسم العلوم التربوية والنفسية

ص: 189

ص: 190

المقدمة

من المؤكد أن مسلك أهل البيت (عليهم السلام) والطريقة التي يتعاملون بها مع شرائح المجتمع المختلفة كانا على أساس أيمان وأخلاص وأنسانية ذلك المجتمع، ولم يكونا أبداً على أساس معايير وأعتبارات اخرى مثل كثرة المال، او علو، او قوة القبيلة

ان هذا النحو من التعامل لم يكن موجوداً الا عند جماعة قليلة من الناس، يأتي في طليعتها الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أما أولئك الذين أستلموا مقاليد الأمور في عهود مختلفة فأن كل من حكم فيها صرف جل أهتمامه ليحتضن في فريق حكومته الشريحة الغنية والقوية المقتدرة محاباة لها، مع العلم أن كثيراً من الولاة والمسؤولين لم يكن ذَا خبرة وكفاءة تؤهله المشاركة في شؤون البلاد والعباد.

وامام هذه الصورة القائمة من الحرمان والأستضعاف لشريحة من المسلمين، كان أهل البيت (عليهم السلام) المتنفس الصادق والوحيد للأمة، والصوت الهادر الذي مازال يلقي بظلاله الخيرة على الرعية، لاسيما الطبقة الفقيرة، ولعل من أهم المواثيق في أنصاف الرعية ماعهد به الأمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر سیدنا مالك الأشتر (رضوان الله عليه) ولعل هذا من أبرز مايهدف اليه البحث الحالي في تسليطه الضوء على المضامين الأخلاقية في ذلك العهد، فيما يتعلق بأمور الحكم والأدارة

وفيما يخص ولاء مالك الأشتر العظيم للأمام علي (عليه السلام) وتفانيه في حبه وإخلاصه.

من هو مالك الأشتر...؟؟

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع. ومن أشهر ألقابه (الأشتر) و(كبش العراق) وقد أسلم في زمن الرسول

ص: 191

الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) وظل راسخاً في أسلامه، ونال درجة في الأيمان بلغت حداً شهد له فيه النبي الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) بالأيمان بشكل قاطع، وعبر عنه في حديث شريف بأنه (مؤمن) أو (مؤتمن)

سيرة مالك الحسنة

خطى مالك منذ بدء أسلامه على نهج السنة النبوية والسيرة العلوية، رغم رحيل النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وتولي ثلاث من الحكام، فلم يتخلى يوماً عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) الورثة الحقيقين للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) کما كان من المدافعين الشرسين عن حقهم، وقد هيأ الأرضية المناسبة لأنصاف المظلومين، والأستجابة لشكاوى المظلومين من خلال أعتراضه على كثير من الولاة الذين كانوا يتولون الحكم عن غير جدارة، حتى نفي إلى الشام، وكان المالك دور كبير في أنتصار جيش أمير المؤمنين خلال حرب الجمل وصفين حيث أطبقت شهرته الأفاق على مر التأريخ

وقد حكى الأمام علي (عليه السلام) وتفانيه في حبه وإخلاصه له، وقد حكى الأمام مدى تعاطفه له بقوله (كان مالك لي كما كنت لرسول الله) وقد تحدث الأمام علي عن شجاعته وإقدامه وإخلاصه له وأوصى الناس بالأستماع اليه وتنفيذ مايقول في القتال او السلم، ويمكن القول بان مالك كان يتميز بمايلي: -

1. عظیم شجاعته وشدة بأسه في أيام الرعب فهو لايهاب الأعداء ولا يلين لهم.

2. شدته على الكفار، أذ وصفه الأمام بانه أشد عليهم من حريق النار.

3. انه سيف من سيوف الله كما كان الأمام علي (عليه السلام)

وقد لازم مالك الأمام علي (عليه السلام) فكان عضده ومستشاره في تخطيط سیاسته

ص: 192

وأدارة شؤون دولته، وكان معه في أحلك الظروف، وأشدها بلاءً، واقساها محنة.

شهادته

أثناء الصراع بين الأمام علي (عليه السلام) ومعاویه کانت أبصار الأمام تتجه نحو مصر التي بدأ يحرك فيها معاویه أنصاره بدعم من عمر و بن العاص الذي قد أتفق مع معاويه على ان يعطيه ولاية مصر مقابل الوقوف إلى جواره ضد الآمام، وكان الأمام قد عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر وأقام مكانه محمد بن أبي بكر، الا أن الواضح من سير الأحداث بأن محمد هذا لم تكن لديه القدرة التي تعينه على مواجهة مثيري الفتنة والمتآمرين لحساب معاوية، وهنا قرر الأمام أن يرسل مالك إلى مصر لحسم الصراع الدائر هناك وتسلم زمام القيادة من محمد بن أبي بكر، وقد أحدث هذا القرار هزة كبيرة لمعاوية وأبن العاص اللذان كانا يخشیان مالك أشد الخشية واضعين في حسابهم الأثار المترتبة على وصوله الى مصر وتسلمه زمام القيادة فيها، خاصة وان الأمام قد سلمه میثاقاً وعهداً يستعين به في حكم مصر. لقد كان معاوية يدرك تماماً ان وصول مالك بن الأشتر الى مصر يعني ضياعها وخروجها عن دائرة نفوذه، ومن ثم سعى أبن العاص الى تحريضه للعمل على الحيلولة دون وصول مالك الى مصر. ولم يكن هناك من حل لمعاوية وأبن العاص سوى التخلص من مالك فكان آن حرض معاوية رجل من إهل الخراج على مصر الذي لقي الأشتر وهو في طريقه إلى مصر وأستضافه عنده وسقاه عسلاً مسموماً مات (رحمه الله) بعده كان حزن الأمام علیه شدیداً، وكانت فرحة معاوية أشد فرحة وقد قال مقولته الشهيرة عند سماعه خبر وفاته (ان الله جنوداً من عسل)

ص: 193

الملامح الأخلاقية في وصايا الأمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر

لقد تضمن العهد الذي عهده الأمام علي إلى مالك، الخطوط العامة والأمور المفصلية للحكم والأدارة بما يرضي الله ويحفظ حقوق الرعية، خصوصاً تلك المغبونة حقها دائماً، فهو بحق دستور رصين، و قانون متكامل ينبع من صلب و صميم الدين، فقد الزم الأمام بتطبيق هذه الرسالة حيث يقول (هذا ما أمر به عبدالله، علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين، مالك الأشتر في عهده اليه، حين ولاه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، وعمارة بلدها. حرص الإمام علي (عليه السلام) أن يعالج المنظومة الأخلاقية والمعرفية والفكرية الأجتماعية، ويقرن صلاحها بصلاح ذات الوالي وسلامة منظومته المعرفية وذلك من خلال التقسيمات الأجتماعية التي يتكون منها المجتمع وتتمثل هذه المعالجة بمايلي

معايشة أهل العامة: -

يؤكد الإمام في عهده على الأهتمام بحياة العامة من خلال النظر بأمورهم صغيرها وكبيرها وعدم الأعتزال عنهم، لأن هذا يعني مفسدة في الحكم، تؤدي الى تراكم المشاكل وحقد العامة، ورضا الخاصة، ومارضا الخاصة الا شكلا من أشكال الحكومات الفاسدة لان الخاصة لاترضى الا بالأستئثار بمصالح العامة فيحدث الأنعزال بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، فتحل الفوضى والتناحر بديلاً عن الأستقرار والتكامل.

أرضاء العامة: -

وهي الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف فالحكومة مدعوة لإرضائهم، وتنفيذ رغباتهم المشروعة، ويقول الإمام (عليه السلام)؛ - [ليكن أحب الأمور إليك أوسطها، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا العامة] فالعامة هم ذخيرة

ص: 194

الدولة وهم عماد الدين الحنيف المبني على تقديس المبادئ الخلقية، فلا بد من الأحسان اليهم والرفق بهم والعفو عنهم في مواقف الزلل، هذه الرحمة التي تشمل الجميع بأختلاف الميول والمذاهب

تجنب ذكر معايب الناس: -

كان من رحمة الأمام بالناس أبعاد الساعين لذكر معايبهم وطردهم، ولزوم ستر عيوب الناس، قال (عليه السلام)؛ - [ليكن أبعد رعيتك، وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فأن في الناس عیوباً والوالي أحق في سترها، فلا تكشفن عنها فأنما عليك تطهير ماظهر لك والله يحكم على ماغاب عنك، فأستر العورة يستر الله عنك ماتحب ستره عن رعيتك، أطلق عن الناس عقدة كل حقد وأقطع عنك سبب كل وتر ولا تعجلن إلى تصدیق ساع، فأن الساعي غاش وان تشبه بالناصحين]

مصاحبة العلماء وذوي الأخلاق الحميدة: -

عهد الأمام إلى مالك بالأبتعاد عن بعض الأشخاص المصابين بأخلاقهم، سيما في سمات (البخل والجبن والحرص) حيث أنهم يجلبون الويل والعطب لولاة الأمور. کما أكد الأمام على مصاحبة العلماء والحكماء للتذاكر معهم في شؤون البلاد ومايصلحها أقتصادياً، وهذا يدل على سياسة الإمام الهادفة لأصلاح المجتمع في جميع طبقاته، فقد حرص الأمام على أشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الأجتماعي بين الناس وهي ما توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم فيما يصلح أمور البلاد.

تعزيز مكانة الجند وتكريمهم: -

عهد الأمام ل مالك بتكريم المخلصين من الجند، فأن ذلك مدعاة إلى أخلاصهم للحكومة والذب عنها، وقد كان الأمام عميق التفكير في سياسته ودراسته لنفوس

ص: 195

الجيش والوقوف على طاعتهم تفانيهم لقادتهم، ولم يحفل اي دستور عسكري في وضع قادة الجيوش بمثل هذه الدراسة الوثيقة لطبائع نفوس العسكر، وكيفية أخلاصهم، وقد أوصى الأمام بأشاعة ذكر المخلصين من الجند فأن ذلك يهز عواطف الشجعان منهم، ويحرص على الطاعة ويضيف الأمام مؤكداً بقوله؛- (ثم أعرف لكل أمرئ منهم مابلی، ولا تضيفن بلاء أمرئ الى غيره، ولا به دون غاية بلائه، ولا يدعوك شرف أمرئ إلى أن تعظم من بلائه، ما كان صغيراً ولا منعة امرئ الى أن من بلائه ماكان عظيماً) حكى هذا المقطع بعض الوصايا الذهبية في تكريم المخلصين من الجيش، وانه ليس له أن يعظم الأشراف على مصادر منهم من خدمات ما كان قليلاً، ويستهين بالفقراء ما صدر منهم من خدمات جليلة وأن الواجب عليه الإشادة بهم وذكرهم بأطيب الذكر وانداه.

معيارية أختيار الحكام: -

من الأمور بالغة الأهمية هو أنتخاب هو أنتخاب الحكام بحيث لا يكون خاضعاً للمؤثرات التقليدية وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة من شؤون الحكم على ضوء الشريعة المقدسة وهذا حديث الأمام ((أنظر في أمور عمالك فأستعملهم أختباراً ولا توهم محاباة وأثرة فأنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من البيوتات الصالحة، والقدم في الأسلام فأنهم أكرم أخلاقاً، وأصلح أعراضاً، وأقل في المطامح أشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، فأسبغ عليهم الأرزاق، فأن ذلك قوة لهم، على أستصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ماتحت أيديهم، وحجة عليهم أن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك ثم تفقد أحوالهم وأعمالهم، وأبعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، وتحفظ في الأعوان فأن أحداً منهم بسط يده الى خيانة أجتمعت به عندك أخبار عيونك أكتفيد بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في

ص: 196

بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام الذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة)) ويلقي الأمام الأضواء على العمال في أجهزة الحكم واولادهم المزيد من الأهتمام لأنهم العصب في الدولة وكان مما أولاهم به.

2. أن الوظيفة يجب أن تكون عن استحقاق ودراية وليس محاباة وأثرة

3. أن العمال في عهده يجب أن يكونوا أمثلة للنزاهة والشرف وليس كما كان من جور في الحكومات السابقة

4. أن الوظيفة لا تمنح لأي شخص الا بعد أختباره ومعرفة سلوکه

5. أن يكون العمال من ذوي البيوتات الشريفة فأنهم يكونون بعيدين عن أقتراف الأثم ومايخل بالكرامة

6. أن توفر الوظيفة لهم المال فأنها ضمان من الرشوة

7. أن يجعل عليهم العيون والرقباء خشية أنحرافهم عن الحق

8. اذا بدت منهم خيانة فعلى الوالي أن يأخذهم بالعقاب الصارم

مبادئ أختيار الكتاب: -

وهم من أهم الموظفين في جهاز الدولة فهم يتولون كتابة مايصدر عن الوالي من قرارات وشؤون أقتصادية وعسكرية، وقد ولاهم الأمام المزيد من الأهتمام لأن قرارات الدولة ومهام الأمور بأيديهم فلابد أن تتوفر فيهم الصفات الفاضلة من الأمانة والضبط وعدم التهاون في أعمالهم وأن يكون اختيارهم وثيقاً فلايصح الأعتماد على الفراسة وحسن الظن ولا على ما يبدونه من الخدمات لجلب مودة الوالي لأن ذلك ليس له أي وزن في ترشيحهم لهذه الوظيفة المهمة فلابد من أن يكون أختيارهم غير خاضع للرغبات الشخصية

ص: 197

مراقبة التجار: -

نظر الأمام بعمق الى شؤون بعض التجار الذين يبلغ بهم الطمع الى أحتكار بعض السلع ومنعهم من ذلك، ومراقبة السوق خشية الأحتكار، وعلى الوالي أن يمنع المحتكر فأن أصر على أحتكاره فيعاقبه من غير أسراف، فالأحتكار يؤدي إلى شُل الحركة الأقتصادية في البلاد ويلقي الناس في ضائقة أقتصادية

طبقة الفقراء ورعايتهم: -

ليس في تأريخ ألأسلام مثل الأمام في أهتمامه بالفقراء، فقد شاركهم في خشونة العيش واللباس، فهو ابو الفقراء وصديق المحرومين، وملاذ البائسين والمحتضن لهم، وهم من أهم مسؤولياته وواجباته، لأن رعاية الفقراء والبر بهم والأحسان اليهم عند الأمام جزء من رسالة الأسلام التي أكدت على محو الفقر وأزالة شبحه ونشر السعة والرخاء بين المسلمين

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن: -

أكد الأمام على ضرورة تفقد الأيتام والطاعنين في السن من الذين لا حيلة لهم، فقد قال (عليه السلام) ((وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله - عز وجل - على أقوام طلبوا العاقبة، فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله تعالى لهم)) كان الأمام أباً عطوفاً للأيتام، وكان يجمعهم ويعتني بهم ويعطف عليهم، وهناك كوكبة من أحاديثه (عليه السلام) تحث على رعاية اليتيم والبر به، وتذكر ما أعد لهم من الأجر الجزيل للقائم بذلك.

ص: 198

بطانة الوالي وخاصته: -

حذّر الأمام في عهده من أتباع بعض الذين يتخذهم الوالي خاصة له، فأن فيهم تطاولاً وقلة أنصاف، وعليه أن يحسم شرورهم وأطماعهم، ولا يقطعهم قطيعة أرض، فيكون الوزر عليه. لقد كان أمر الأمام حاسماً، في خاصة الولاة وبطانتهم فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال، وأضاف الأمام يأمر الولاة بأتباع الحق قائلاً ((والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وأبتغ عافيتك، بما يثقل عليك، فأن معية ذلك محمودة)) فالحق هو المنهج الواضح في سياسة الأمام وسيرته وليس للباطل أي التقاء به حاشا لله.

الدعوة الى السلام: -

يدعو ألأسلام إلى السلم وتحریم سفك الدماء وأزالة جميع وسائل الخوف والأرهاب، وقد أكد الامام على ضرورة الآستجابة إلى الصلح اذا دعا اليه العدو، وذلك حفاظًا على أمن البلاد وعدم تعرضها للأزمات، ولكن يجب على الوالي أن يراقب العدو بيقظة بعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه، للكيد من المسلمين، وعلى الوالي بعد أَبْرَام الصلح أن يحيط العهد بالوفاء والأمانة، فالوفاء بالعهد من صميم مبادئ الأسلام، والغدر ونكث العهد يتنافى مع أخلاق المسلمين فقد جعل الله تعالى للوفاء بالعهد نصاً وثيقاً ی ليس لأحد أن يقتحمه.

التواضع وتفادي الغرور: -

أوصى الأمام في عهده بأن يكون الوالي متواضعاً فلايعجب بنفسه وولايته ولايحب الأطراء والمديح، قال عليه الأمام ((وأيام والأعجاب بنفسك، والثقة بمايعجب منها، وحب الأطراء، فأن ذلك من أوثق فرص الشيطان، وإياك والمن على رعيتك بأحسانك فأن المن يبطل الأحسان، والتزايد يذهب بنور الحق.))

ص: 199

تأمل الأمور والتروي في حكمها:-

حذّر الأمام من العجلة بالأمور قبل أوانها فأن ذلك لا يليق بالوالي، فيقول الأمام ((وأيام والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو اللجاجة فيها، اذا تنكرت، أو الوهن عنها اذا أستوضحت فضع كل شيئ موضعه)) لقد أوصى الأمام بعهده أن يضع كل شيئ من أموره الأجتماعية والسياسية في موضعه دون عجلة فأنها تهبط بمستوى الوالي شعبياً، وتؤدي الى اضطراب سلوکه و عدم توازنه.

الأستئثار:-

يحذر الأمام (عليه السلام) من الاستئثار بما فيه الناس سواء كما في قوله؛- (أياك والاستئثار بما الناس به أسوة) يؤكد الأمام على التحلي بمكارم الأخلاق وليس له أن يستأثر لنفسه بما للناس فيه سواء، وإنما عليه أن يتركه لهم لينظروا نزاهة حكمه، وشرف ولايته

ترسيخ العدالة في الحكم:-

يؤكد الأمام على الأقتداء بالحكومة العادلة خصوصاً سنة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، أو فريضة من كتاب الله تعالى وأنتهى هذا العهد في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته، خلقته الأنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والأدارة بمنتهی الحكمة والدقة، بوقت لم يكن فيه المسلمون وغيرهم يعرفوا هذه الأنظمة الخلاقة، وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبقريته التي لا تخدعك، وحسبه علواً أنه وصي الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وباب مدينة علمه، ومن كان بمنزلة هارون من موسی.

ص: 200

الأستنتاجات

يمكن الخروج بمجموعة من الأستنتاجات التي ميزت عهد الأمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر:

1. دستور عظیم بحد ذاته لكل شخص يريد الوصول الى الله تعالى، بما فيه من التهذيب والتأديب والزهد والعدل.

2. تمجيد العمل الصالح الذي هو أحب الذخائر لكل مؤمن يعمل على مرضاة الله تعالى، ويملك هواه ويشح بنفسه عما لا يحل له.

3. محبة الرعية واللطف بهم والصفح عنهم في مواقف الزلل.

4. التواضع للناس وتجنب الغرور، والكف عن مساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته.

5. تأكيد قيم الأنصاف والعدالة بين أفراد الأمة، ونبذ الظلم، وذب الأذى عن الأخرين من البسطاء مقارنة بخاصة الوالي او بطانته.

6. الحفاظ على خصوصية كل فرد من أفراد المجتمع، وسد الطريق على كل ساع يكشف العيوب، فالساع غاش وأن تشبه بالناصحين

7. العمل على أبقاء كل سنة صالحة وأثابة من يعمل عليها.

8. العناية بالعلماء ومجالسهم ومناقشتهم في تثبیت ما صلح عليه أمر البلاد، وأقامة ما أستقام عليه أمر الناس.

9. عدم الأستعانة بمن كان يعمل مع حكومات جائرة ووزراء أشرار.

10. لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلح أمرهم، كما أنه يقيم حاجة التجار، وذوي الصناعات والكتاب كذلك الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم

ص: 201

ومعاونتهم.

11. توطين النفس على لزوم الحق والصبر عليه فيما يخف أو يثقل، في ولاية الجند ممن يبطئ عنه الغضب، ويستريح اليه العذر، ولايقغد به الضعف، واصطحاب أهل المرؤوة والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة والسماحة

12. الركون على الشواهد المتقدمة من حكومة عادلة او سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا (صلى الله عليه واله وسلم)، او فريضة في كتاب الله خير مثل للاقتداء بها، وعدم مجاراة النفس في هواها

التوصيات

يوصي البحث بما یتيسر له من التوصيات:-

1. أجراء بحوث تتناول سير أهل البيت (عليهم السلام) وتركيز المحتوى العقائدي والفكري والتربوي الذي كان يتبدى في سلوكهم القويم

2. الأستفادة من مبادئ النمذجة التي يخضع لها السلوك الإنساني من خلال تضمين سير آلِ البيت الأطهار في المناهج الدراسية والندوات والمؤتمرات العلمية

3. التأكيد على المنظومة القيمية التي يتمتع بها أصحاب و محبي آلِ البيت الذين لازموهم ونهلوا من نبعهم النقي.

4. التواصل مع أساتذة الجامعة والباحثين بأعتبارهم علماء وحکماء الحاضر، وطرق مناهج الإصلاح الأجتماعي والأرتقاء بالمجتمع.

ص: 202

المنهجية الأخلاقية في القيادة السياسية للدولة عهد مالك الاشتر (رضي الله عنه) انموذجاً علاء رزوقي

اشارة

ص: 203

ص: 204

الإمام علي (عليه السلام) أنموذج الإنسان الكامل

كان ولا يزال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) النموذج الإنساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامة، والشجاعة؛ رجل الإنسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة من ابن عمه سيد الانبياء والمرسلين الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال: خير الناس من نفع الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، لا فرق بين اعجمي وعربي الا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، لقد تربی سید الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عمليا في أفعاله وأقواله، ويقدم لنا وللتأريخ البشري قناديل مضيئة ومشاعل يقتدى بها.

فالحاكم يمثل الجموع بلا استثار أو فردانية أو استغلال بل يعمل لصالح الرعية وحفظ مصالحها وتحقيق العدالة.. لا كما تقوله الميكافيلية من أجل مصلحتك فليسحق الآخرين، التي أرست قيم السياسة المشوهة التي تستبيح الكرامات، والحرمات لمآرب ذاتية (الغاية تبرر الوسيلة) تخص الحاكم وكيفية قيادته وكأنما الناس - قطيع وليس ببشر. أو السياسة الغربية والشرقية بمبادئها التي تدعي کما شرعها فلاسفة اللبرالية بسياسة الخطوة خطوة، أو خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، أو خذ وطالب، أو إكذب وإكذب حتى يصدقك الناس، أو بديما غوجية الاعلام المضلل والمصالح الاستعمارية والاستعبادية التي جلبت مئات الحروب في تأريخنا الانساني وملايين الضحايا والمعاقين والمشردين والجياع، وهذه صورة العالم البائسة أمام مرآی و مسمع الامم المتحدة والجمعية العامة والمنظمات الدولية، فأين العدالة في توزيع الثروات وحقوق الانسان، والفقراء في معظم بقاع الارضولا أحد يسمع صرخاتهم وحشرجات الالام المتكسرة بصدورهم؟!!

ص: 205

الامام علي (عليه السلام) رائد القانون البشري

أن النظرية السياسية التي شرعها وقننها أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحكم والعدالة والمساواة والاخلاص بالعمل من خلال عهده لمالك الاشتر النخعي حين ولاه على مصر يعد من أروع وأعظم التشريعات والتعليمات والوصايا والعهود في التأريخ البشري، حيث تضمن أرقى القوانين والاطر الإنسانية لحياة يسودها الرخاء وينعم بها الإنسان بالسعادة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي دون حروب أو عنف أو تسلط. وقد إستقى منها الغرب والشرق دروس وعِبر في الكيفية التي يتولى فيها الحاكم وشرعيته وتعامله مع شعبه والانسانية.

كوفي عنان وعهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر

عندما وصل العهد إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة، ولكن لم يكن هذا التوصيل بفعل الإعلام الشيعي إنّما وصل إليه، كما ينقل بعض الإخوة المتتبّعين عبر زوجته السويدية، ويقول هذا الأخ: إنّ في السويد يعتمدون في دستورهم في أُمور كثيرة على نهج البلاغة، فالسويديون لهم صلة ثقافية بنهج البلاغة، وزوجة كوفي عنان ذكرت له هذه الفقرة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، وقد ذكرتُ في موضع سابق أنّ هذا العهد لا يتناول مباحث التشريعات عامّة، وإنّما هو فقه نظمي، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة: إنّ هذه العبارة من عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، والعبارة هي: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سُبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»، وهذه العبارة من ضمن المقاطع النظمية القانونية استهوت الأمين العام للأمم المتحدة.

ص: 206

وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وهذا إقرار من البشرية لعملقة أمير المؤمنين (عليه السلام) في القانون بعد مضي أربعة عشر قرناً (1). وهذا التصويت لم ينجزه العرب ولا المسلمون ولا الشيعة، بل أنجزه كوفي عنان، وهو ليس بمسلم ولا عربي ولا شيعي، وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة غير عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر کمصادر للقانون الدولي، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ هذا أحد معاجز أهل البيت (عليهم السلام)، وأنّهم بشر متّصلون بالغيب، وأنّهم مصدر سعادة البشرية، ولكن للأسف نحن مقصرون كثيراً في نشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)، فعن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسی الرضا (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدا أحيا أمرنا فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن کلامنا لاتبعونا» (2).

مالك بن الحارث الاشتر

بما أن العهد سمي باسم مالك الأشتر رأينا من الفائدة أن نُطلع القارىء الكريم بإيجاز على أهم الجوانب في حياة مالك، وهو ولاؤه العارم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وتفانيه في حبه، والإخلاص له، خاصة وقد حكى الإمام مدى تعاطفه وإخلاصه له بقوله: (رحم الله مالکا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)) (3).

ومن المؤكد أنه ليس أحد من أرحام النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه أشد

ص: 207

ولاءً ولا أكثر حباً ولا تمادياً في الإخلاص له من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد كان القوة الضاربة التي حمته من ذئاب طغاة القريشيين الذين جهدوا على تصفية جسده وإقصاء قيمه ومبادئه و حينما أحاطوا بداره لتصفيته وقاه الإمام بنفسه وبات في فراشه فكان الفدائي الأول للنبي (صلى الله عليه وآله)، وبهذه المنزلة الرفيعة من الوفاء والإخلاص كان الزعيم مالك للإمام فقال له: (أنت لي كما كنت لرسول الله).

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) خالصاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لا لأنه ابن عمه ومن أقرب الناس إليه نسباً ولحمة بل لأنه النبي الصادق الأمين الذي جاء بالحق من عند الله تعالى فصدع به، وبلغه، وهكذا يقضي التشبيه لمالك، ويدل عليه مأثور فعله وقوله في حالتي الغضب والاطمئنان والشدة والرخاء، وهو وإن لم يبت على فراش علي، ولكنه عرض نفسه مشهير للفداء في كل موقف وقفه، وشهد شهده، ومغالاته في التضحية عنه.

وقد تحدث الإمام (عليه السلام) عن سمو شخصية مالك وعظيم شأنه في رسالته التي بعثها لأهل مصر حينما ولاه عليهم جاء فيها:

((أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله تعالى لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق فإنه سيف من سيوف الله تعالى لا كليل الظبة ولا نابي الضريبة فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا فإنه لا يقدم، ولا يحجم، ولا يؤخر، ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم)).

ص: 208

المقطع من حديث الإمام (عليه السلام) يبين بعض الجوانب من شخصية الزعيم مالك كان منها:

1- عظیم شجاعته وشدة بأسه في أيام الرعب والخوف، فإنه لا يهاب الأعداء ولا يلين لهم

2- شدته على الكفار، وقد وصفه الإمام بأنه أشد عليهم من حريق النار، وهو وصف من أروع الصفات.

3- انه سيف من سيوف الله تعالی کما کان الإمام (عليه السلام).

وقد لازم مالك الإمام (عليه السلام)، فكان عضده ومستشاره في تخطيط سیاسته وإدارة شؤون دولته، وكان معه في أحلك الظروف وأشدها محنة، و أقساها بلاءاً، وعسى أن يساعدنا التوفيق، ويمنحنا الله تعالى الصحة لدراسة حياته والتعرف على مواقفه وجهاده في نصرة الإمام (عليه السلام).

شهادته

قلد الإمام (عليه السلام) مالك ولاية مصر وقال (ليس لها غيرك فأخرج إليها فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بالله واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ وتشدد حين لا يغني إلا الشدة.

فخرج الأشتر يتجهز إلى مصر وأتت معاوية عيونه بذلك فعظم عليه، وكان قد طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر فبعث معاوية إلى المقدم علي أهل الخراج بالقلزم وقال له إن الأشتر قد ولي مصر فإن كفيتنبه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت فخرج الحابسات حتى أتي القلزم وأقام به وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهي إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل

ص: 209

عنده فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه) (4)، ولم يلبث إلا قليلاً حتى طويت حياته التي كانت صفحة من الشرف والكرامة والجهاد في سبيل الله، وكانت شهادته على يد أقذر مجرم لم يعرف التأريخ الإنساني نظيراً له في موبقاته وجرائمه، وقد جعل الخبيث يردد (إنّ الله تعالى جنوداً من عسل).

تأبين الإمام لمالك

ولما انتهى النبأ المفجع بشهادة مالك ذابت نفسه أسي وحسرات، وأخذ يذرف الدموع قائلاً: «انا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني احتسبه عندك فان موته من مصائب الدهر، ثم قال: رحم الله مالكا فقد كان وفيا بعهده وقضى نحبه ولقي ربه. مع انا قد وطنا أنفسنا أن تصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله، فإنها من أعظم المصائب» (5).

وحدث أشياخ النخع قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: «لله در مالك وما مالك؟! والله لو كان من جبل لكان فندا ولو كان من حجر لكان صلدا، أما والله ليهون موتك عالما وليفرحن عالما، على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجود کمالك» (6).

قال علقمة بن قيس النخعي: فما زال يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياما. ومن أقوال أمير المؤمنين فيه: (كان لي كما كنت لرسول الله) (7) وسئل بعضهم عن الأشتر فقال: (ما أقول في رجل هزمت حياته اهل الشام وهزم موته اهل العراق) (8).

فقد خسر أعظم شخصية تساعده على محن الدنيا وكوارث الأيام.

ص: 210

سرور معاوية

وسر معاوية بسمه لمالك، وخطب الناس قائلاً: «أما بعد فإنه كانت لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين يعني عمار بن یاسر وقطعت الأخرى اليوم يعني الأشتر» (9)، لقد انطوت حياة مالك ورزقه الله تعالى الشهادة على يد أخبث مجرم اقترف كل محرم. رحم الله تعالى مالكاً وأجزل له المزيد من الأجر لنصرته أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

عهد مالك الاشتر

تناولنا في هذا البحث تحليل وعرض لبعض محتويات عهد الإمام مالك الأشتر واليه على مصر وقد أنطوى هذا العهد على أهم وأدق قضايا الحكم والإدارة.

الفقرة الأولى من العهد:-

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ - حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا - وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا - أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللّهِ وَإِیْثَارِ طَاعَتِهِ - وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ - الَّتِی لَایَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا - وَلَا یَشْقَی إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا - وَأَنْ یَنْصُرَ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَیَدِهِ وَلِسَانِهِ - فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَکَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ یَکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ - وَیَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ - فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللّهُ) (10).

ص: 211

اسس الاخلاقية للحاكم

اول فقرة نبه عليها الإمام (عليه السلام) مالك في العهد تعود إلى إصلاح نفسه أوّلا وتقسم الى خمسة أقسام هي:

أحدها: تقوى الله وخشيته، وقد سبق بيان كونها أصلا لكلّ فضيلة.

الثاني: اتّباع أوامره في كتابه من فرائضه وسننه. ورغَّب في ذلك بقوله: لا يسعد. إلى قوله: إضاعتها. وتكرّر بيان ذلك.

الثالث: أن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه في جهاد العدوّ. وإنكار المنكرات. ورغَّب في ذلك بقوله: قد تكفّل. إلى قوله: أعزّه. كقوله تعالى «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد: 7).

الرابع: أن يكسر من نفسه عند الشهوات. وهو أمر بفضيلة العفّة.

الخامس: أن يكفّها ويقاومها عند الجمحات. وهو أمر بفضيلة الصبر عن اتّباع الهوى وهو فضيلة تحت العفّة، وحذّر من النفس بقوله: فإنّ النفس. إلى آخره، وهو من قوله تعالى «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (يوسف: 53) الآية و - ما - بمعنی - من وهي نصب على الاستثناء: أي إلَّا نفسا رحمها الله.

من الاسس الاخلاقية التي يستند حكم أي حاكم هي علاقته بالله تعالى والاعتقاد به والایمان بدينه وهو الاساس الأول لكي يكون الحكم بما يرضي الله تعالى فالدين الاسلامي يحتم على أن الولاء السياسي يجب ان يكون تابع للولاء العقائدي.

ومن الأصول المقرّرة في علم القانون تبعية النظام السياسي للنظام القانوني وتبعية النظام القانوني لنظام المعرفة والاعتقاد، فالتفكيك بين هذه الأنظمة غير متصوّر وكلّ حلقة من حلقات أيّ نظام مرتبطة بمجموعة منظومة ذلك النظام وتَتبَع بتبعية ذلك النظام إلى النظام المتبوع؛ فأيّ إطار وموقف ولون من الولاء السياسي يعكس الإطار

ص: 212

القانوني ويكشف عنه وذلك الإطار القانوني يكشف عن الإطار العقائدي وهذه التبعية بين النظامات الثلاثة ليس يقرّها علم القانون فقط وعلوم مدارس المعارف المختلفة، بل قام عليها البرهان العقلي والفلسفي أيضاً؛ إذ هذه النظامات الثلاثة هي محاذية لجهاز خلقة روح الإنسان و بدنه، فإنّ إذعان الإنسان يتصدر التحكّم في بقيّة قوى الإنسان، فإنّها تابعة لكيفية نوع الإذعانات التي لدى الإنسان ومن ثمّ تتولّد فيه الصفات الخُلُقية وهي بدورها تولّد أنماط السلوك وتدبير الإنسان لأفعاله، فكلّ سلوك وليد خُلُق وكاشف عنه، كما أنّ كلّ خُلُق وليد إذعان و کاشف عنه، فَتَلازمُ هذه الأمور الثلاثة بعضها مع بعض ضروري لا محالة.

ومن ثمّ صحّت هذه المقولة القائلة بأنّ أكثر المذاهب الاعتقادية كانت وليدة سياسات وقتية ونزاع القُوى المتصارعة، فإنّ هذه المقولة المذكورة في العلوم الاجتماعية وكتب التراجم قد تفسّر بعدّة تفاسير و على أيّ تفسير منها فإنّها متضمّنة لبيان التلازم بين هذه الأمور الثلاثة، فإنّ مَن يريد أن يُشَر عِنَ خطواته السياسية مضطرّ لتبريرها بخَلفية قانونية وأطر تشريعية، كما أنّ تَبَنّي الأطر التشريعية والقانونية المبتدعة والمستحدثة يستدعي تبنّي أطر ورُوی عقائدية منسجمة مع تلك الإطارات التشريعية الجديدة؛ فعملية التغيير العقائدي قد تبدو من المواقف السياسية وطبيعة التحالفات السياسية لتكتسب صبغة قانونية، ثمّ تكتسب تلك القوانين صبغة عقائدية و هذا التداعي بين الأمور الثلاثة في موارد التغيير مُؤشّر على توالد الأمور الثلاثة بعضها من بعض وتأثيرها على بعضها الآخر.

ومنه يظهر مدى الخطورة في الولاء السياسي والتحالف في المواقف السياسية وانعكاسها على المتبنيّات القانونية الفقهية وبالتالي على المسار العقائدي لدى أيّ حاکم أو طائفة.

ص: 213

تطلع الرعية إلى عدل الولاة

أنه شيء بالغ الأهمية عند الإمام (عليه السلام) وهو تطلع الرعية إلى عدل الولاة، فقد مرت عليهم ولاة في الحكومات الظالمة قبل حکومته فأمعنوا في ظلم الناس وإرهاقهم، معهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك أن يريهم صنوف العدل ويسو سهم سیاسة قوامها الحق المحض وهذا كلامه:

(ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ - أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ - مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ - وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ - فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ - وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ - وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ - بِمَا یُجْرِی اللّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ - فَلْیَکُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَیْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ - فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَایَحِلُّ لَكَ - فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِیمَا أَحَبَّتْ أَوْ کَرِهَتْ).

هذه المثل العليا في سياسة الإمام فقد أكد فيها على بسط العدل وإشاعته بين الناس، وأن يعتبر مالك نفسه مواطناً لا زعيماً فيرجو من الوالي تحقيق ما يصبو إليه من العدل وبما تسعد به الرعية، وأكد الإمام على ضرورة العمل الصالح، والسيطرة على نزعات النفس، ونشر الإنصاف بين الناس.

وقد أوصاه (عليه السلام) أن يملك هواه في شهوته وغضبه فلا يتّبعهما، ويشحّ بنفسه عمّا لا يحلّ لها من المحرّمات.

وقوله: فإنّ الشحّ. إلى قوله: کرهت. تفسير لذلك الشحّ بما يلازمه وهو الانصاف والوقوف على حدّ العدل في المحبوب فلا يقوده شهوته إلى حدّ الإفراط فيقع في رذيلة الفجور، وفي دفع المكروه فلا يقوده غضبه إلى طرف الإفراط من فضيلة العدل فيقع في رذيلة الظلم والتهوّر. وظاهر أنّ ذلك شحّ بالنفس وبخل بها عن إلقائها في مهاوي الهلاك.

ص: 214

الرحمة بالرعية

وعرض الإمام في عهده لمالك إلى ضرورة الرحمة بالرعية والإحسان اليها والرفق بها، والعفو عنها في موارد الزلل، وأن بها مهما استطاع لذلك سبيلا استمعوا لقوله:

قال (عليه السلام): (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ - وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ - وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ - فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ - أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ - یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ - وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ - فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ (11) - مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ - فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ - وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ - وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ - وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ - فَإِنَّهُ لَا یَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ - وَلَا غِنَی بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ)

وليس في قواميس الأديان و مذاهب السياسة مثل ما سنه قائلاً: من الرفق بالرعية على اختلاف میوها وأديانها، فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها، وأن لا يشمخ عليهم بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم، وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أو زلل، ويمنحهم العفو والرضا لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها ويستمر

الإمام (عليه السلام) في عهده بالرفق بالرعية قائلاً:

(وَلَاتَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَلَاتَبْجَحَنَّ (12) بِعُقُوبَةٍ - وَلَاتُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ (13) وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً (14) - وَلَاتَقُولَنَّ إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ - فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ (15) فِی الْقَلْبِ - وَ مَنْهَکَةٌ (16) لِلدِّینِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیرِ - وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِیلَةً (17) - فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ - وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَی مَا لَا تَقْدِرُ عَلَیهِ مِنْ نَفْسِكَ - فَإِنَّ ذلِكَ یطَامِنُ (18) إِلَیكَ مِنْ طِمَاحِكَ (19) - وَیکُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ (20) - وَیفِیءُ إِلَیكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ).

ص: 215

حکی هذا المقطع الأساليب التي يجب أن تتوفر في الولاة من عدم الندم على عفو اصدر على مواطن، وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد، وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم، فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين، وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله، الى عليهم فإنه المالك لهم، هذه بعض محتويات هذه الكلمات.

إنصاف الناس

وفي عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له، فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته، وهذه كلماته

قال (عليه السلام): ((إِیاكَ وَمُسَامَاةَ (21) اللَّهِ فِی عَظَمَتِهِ وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِی جَبَرُوتِهِ - فَإِنَّ اللَّهَ یذِلُّ کُلَّ جَبَّارٍ وَ یهِینُ کُلَّ مُخْتَالٍ أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ - وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ - وَمَنْ لَكَ فِیهِ هَوًی مِنْ رَعِیتِكَ - فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ - وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ کَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ - وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ - وَ کَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّی ینْزِعَ (22) أَوْ یتُوبَ - وَ لَیسَ شَیءٌ أَدْعَی إِلَی تَغْییرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِیلِ نِقْمَتِهِ - مِنْ إِقَامَةٍ عَلَی ظُلْمٍ - فَإِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِینَ - وَ هُوَ لِلظَّالِمِینَ بِالْمِرْصَادِ)).

حكى هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام التي تسعد بها الأمم والشعوب وتكون آمنة من الظلم والاعتداء.

إرضاء العامة

وشيء بالغ الأهمية في سياسة الإمام والحق، في رضاء العامة من المشروعة، الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من الشعب من ذوي المهن والحرف وغيرهم فإن الحكومة مدعوة لإرضائهم وتنفيذ رغباتهم المشروعة، يقول الإمام (عليه السلام):

ص: 216

(وَلْیکُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَیكَ أَوْسَطُهَا فِی الْحَقِّ - وَ أَعَمُّهَا فِی الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِیةِ - فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ یجْحِفُ (23) بِرِضَی الْخَاصَّةِ - وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ یغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ - وَلَیسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِیةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِی مَؤُونَةً فِی الرَّخَاءِ - وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِی الْبَلَاءِ - وَ أَکْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ (24) - وَأَقَلَّ شُکْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ - وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ (25) - مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ - وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّینِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِینَ (26) - وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ - فَلْیکُنْ صِغْوُكَ (27) لَهُمْ وَمَیلُكَ مَعَهُمْ)

حکی هذا المقطع مدى أهمية العامة عند الإمام وأن رضاهم موجب لنجاح الحكومة وسخطهم موجب لدمارها، وأن العامة هم الذخيرة للدولة بخلاف الخاصة الذين هم أكره للإنصاف وأقل شكراً عند العطاء، وإن عماد الدين وقوام السلطة إنما هو بالعامة دون الخاصة.

إبعاد الساعين لمعائب الناس

وكان من رحمة الإمام بالناس إبعاد الساعين لذكر معائبهم، وطردهم، ولزوم ستر معائب المواطنين، وهذا جزء من سياسته العامة، وهذا نص كلامه:

قال (عليه السلام): (وَلْیکُنْ أَبْعَدَ رَعِیتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ (28) عِنْدَكَ - أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ - فَإِنَّ فِی النَّاسِ عُیوباً الْوَالِی أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا - فَلَا تَکْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا - فَإِنَّمَا عَلَیكَ تَطْهِیرُ مَا ظَهَرَ لَكَ - وَاللَّهُ یحْکُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ - فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ - یسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِیتِكَ - أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ کُلِّ حِقْدٍ - وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ کُلِّ وِتْرٍ (29) - وَتَغَابَ (30) عَنْ کُلِّ مَا لَایضِحُ لَكَ - وَلَاتَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِیقِ سَاعٍ - فَإِنَّ السَّاعِی غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِینَ)

ص: 217

إن من مناهج سياسة الإمام إبعاد السعادة في ذكر مثالب الناس الأمر الذي يؤدي إلى إسقاط کرامتهم، وتحطيم منزلتهم، وهذا مما يرفضه الإمام الذي جهد على تهذیب المجتمع وحسن سلوكه.

الابتعاد عن بعض الأشخاص

وعهد الامام الى مالك بالابتعاد عن بعض الأشخاص المصابين بأخلاقهم وهم:

قال (عليه السلام): (وَلَاتُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بَخِیلاً یعْدِلُ عَنِ الْفَضْلِ - وَ یعِدُكَ الْفَقْرَ - وَلَاجَبَاناً یضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ - وَلَاحَرِیصاً یزَینُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ - فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی - یجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)

لقد حذّر الأمام من مزاملة هؤلاء الأشخاص لأنهم يجلبون الويل والعطب لولاة الأمور.

إقصاء الوزراء في الحكومات السابقة

وأمر الإمام في عهده بإقصاء الوزراء في الحكومات السابقة لأنهم كانوا أشراراً وخونة خصوصا في حكومة عثمان، ولنستمع إلى حديثه.

قال (عليه السلام): (إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ کَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِیراً - وَ مَنْ شَرِکَهُمْ فِی الْآثَامِ فَلَا یکُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً (31) - فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ - وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیرَ الْخَلَفِ - مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ - وَلَیسَ عَلَیهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ (32) وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ - مِمَّنْ لَمْ یعَاوِنْ ظَالِماً عَلَی ظُلْمِهِ وَلَا آثِماً عَلَی إِثْمِهِ - أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَیكَ مَؤُونَةً وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً - وَأَحْنَی عَلَیكَ عَطْفاً وَأَقَلُّ لِغَیرِكَ إِلْفاً - فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلَاتِكَ (33) - ثُمَّ لْیکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ - وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِیما یکُونُ مِنْكَ مِمَّا کَرِهِ اللَّهُ لِأَوْلِیائِهِ - وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَیثُ وَقَعَ وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ -

ص: 218

ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلَّا یطْرُوكَ - وَلَا یبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ - فَإِنَّ کَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَتُدْنِی مِنَ الْعِزَّةِ - وَ لَا یکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ - فَإِنَّ فِی ذلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ - وَتَدْرِیباً (34) لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَی الْإِسَاءَةِ - وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَیسَ شَیءٌ بِأَدْعَی - إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِیتِهِ - مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَیهِمْ وَ تَخْفِیفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَیهِمْ - وَ تَرْكِ اسْتِکْرَاهِهِ إِیاهُمْ عَلَی مَا لَیسَ لَهُ قِبَلَهُمْ - فَلْیکُنْ مِنْكَ فِی ذلِكَ أَمْرٌ - یجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِیتِكَ - فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ یقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِیلاً - وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ - وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ).

حكى هذا المقطع أسمى ما تصل إليه الحكومة من التطور في خدمة الشعب، فقد عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك أن لا يتخذ وزيراً قد شارك في وزارة الحكومة السابقة التي جهدت في ظلم الشعب ونهب ثرواته كما كان في أيام حكومة عثمان بن عفان عميد الأمويين فقد وهب ثروات الأمة وما تملكه من قدرات اقتصادية لبني أمية وآل بني معيط، کما صحح المناصب المهمة في الدولة، وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الإطاحة بحكومته.

لمّا كان من الأعمال الصالحة اختيار الوزراء والأعوان نبّهه على من لا ينبغي استصلاحه لذلك ليجتنبه ومن ينبغي ليرغب فيه. فمن لا ينبغي هو من كان للأشرار من الولاة قبله وزيرا ومشاركا لهم في الآثام، ونهاه عن اتّخاذه بطانة وخاصّة له، ونفّر عنهم بضمير صغراه قوله: فإنّهم: إلى قوله: الخلف. وتقدير كبراه: وكلّ من كان كذلك فلا تتّخذه بطانة.

وقوله: ممّن له مثل آرائهم. تمیز لمن هو خير الخلف من الأشرار وهم الَّذين ينبغي أن يستعان بهم، وبيان لوجه خيريّتهم بالنسبة إلى الأشرار، وهو أن يكون لهم مثل آرائهم

ص: 219

ونفاذهم في الأمور وليس عليهم مثل آصارهم ولم يعاون ظالما على ظلمه. ثمّ رغَّب في اتّخاذ هؤلاء أعوانا بضمير صغراه قوله: أولئك أخفّ. إلى قوله: إلفا. أمّا أنّهم أخفّ مئونة فلأنّ لهم رادعا من أنفسهم عمّا لا ينبغي لهم من مال أو حال فلا يحتاج في إرضائهم أو ردعهم ممّا لا ينبغي إلى مزيد كلفة بخلاف الأشرار والطامعين فيما لا ينبغي. وبحسب قربهم إلى الحقّ ومجانبتهم للأشرار کانوا أحسن معونة وأثبت عنده قلوبا وأشدّ حنّوا عليه وعطفا وأقلّ لغيره إلفا، وتقدیر کبراہ: وكلّ من كان كذلك فينبغي أن يتّخذ عونا ووزيرا ولذلك قال: فاتّخذ أولئك خاصّة لخلوتك وحفلاتك. ثمّ ميّز من ينبغي أن يكون أقرب هؤلاء إليه وأقواهم في الاعتماد عليه بأوصاف أخصّ: أحدها: أن يكون أقولهم بمرّ الحقّ له. الثاني: أن يكون أقلَّهم مساعدة له فيها يكون منه ويقع من الأمور الَّتي يكرهها الله لأوليائه. وانتصب قوله: واقعا على الحال: أي في حال وقوع ذلك القول منه والنصيحة وقلَّة المساعدة حيث وقع من هواك سواء كان في هوى عظيم أو يسير، أو حيث وقع هواك: أي سواء كان ما تهواه عظيما أو ليس، ويحتمل أن يريد واقعا عظيما أو ليس ويحتمل أن يريد واقعا ذلك الناصح من هواك ومحبّتك حيث وقع: أي يجب أن يكون له من هواك موقعا.

ثمّ أمره في اعتبارهم واختيارهم بأوامر:

أحدها: أن يلازم أهل الورع منهم والأعمال الجميلة وأهل الصدق. وهما فضیلتان تحت العفّة.

الثاني: أن يروضهم ويؤدّبهم بالنهي عن الإطراء له، أو يوجبوا له سرورا بقول ينسبونه فيه إلى فعل ما لم يفعله فيدخلونه في ذمّ قوله تعالى «وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا» و نفّره عن كثرة الإطراء بضمير صغراه قوله: فإن كثرة الإطراء إلى قوله: الغرّة. واستلزام الإطراء للرذيلتين المذكورتين ظاهر، وتقدير الكبری: وكلَّما كان

ص: 220

كذلك فيجب اجتنابه. الثاني: نهاه أن يكون المحسن والمسئ عنده بمنزلة سواء، ونفّر عن ذلك ببيان وجه المفسدة في ضمير صغراه قوله: فإنّ ذلك. إلى قوله: الإساءة. وسرّه أنّ أكثر فعل الإحسان إنّما يكون طلبا للمجازاة بمثله خصوصا من الولاة وطلبا لزيادة الرتبة على الغير وزيادة الذكر الجميل مع أنواع من الكلفة في ذلك. فإذا رأى المحسن مساواة منزلته لمنزلته المسيئ كان ذلك صارفا عن الإحسان وداعيا إلى الراحة من تكلَّفه، وكذلك أكثر التاركين للإساءة إنّما يتركون خوفا من الولاة وإشفاقا من نقصان الرتبة عن النظر. فإذا رأى المسيئ مساواة مرتبته مع مرتبة المحسنين كان التقصير به أولى: وتقدير الكبری: وكلّ ما كان فيه تزهيد للإحسان وتدريب على الإساءة فينبغي أن يجتنب. ثمّ أكَّد ذلك بأمره أن يلزم كلَّا من أهل الإحسان والإساءة بما ألزم به نفسه من الاستعداد بالإحسان والإساءة لهما فيلزم المحسن منزلة الإحسان ويلزم المسئ منزلة الإساءة.

السادس عشر: نبّهه على الإحسان إلى رعيّته وتخفيف المؤونات عنهم وترك استكراههم على ما ليس له قبلهم بما يستلزمه ذلك من حسن ظنّه بهم المستلزم لقطع النصب عنه من قبلهم والاستراحة إليهم، وذلك أنّ الوالي إذا أحسن إلى رعيّته قویت رغبتهم فيه وأقبلوا بطباعهم على محبّته وطاعته، وذلك يستلزم حسن ظنّه بهم فلا يحتاج معهم إلى كلفة في جمع أهوائهم والاحتراس من شرورهم، وأكَّد ذلك بقوله: وإنّ أحقّ من يحسن ظنّك به. إلى قوله: عنده.

(وَلَاتَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الْأُمَّةِ - وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَیهَا الرَّعِیةُ وَلَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَی ءٍ مِنْ مَاضِی تِلْكَ السُّنَنِ - فَیکُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا - وَالْوِزْرُ عَلَیكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا).

ص: 221

نهاه أن ينقض سنّة صالحة عمل بها السلف الصالح من صدور هذه الأُمّة واجتمعت بها الألفة وصلاح الرّعية، وذلك مفسدة ظاهرة في الدين.

نهاه أن يحدث سنّة تضرّ بشيء من ماضي السنن. وأشار إلى وجه الفساد فيها بضمير صغراه قوله: فيكون. إلى قوله: سنّها. والضمير في منها يعود إلى السنن الَّتي دخل عليها الضرر فيكون الأجر لمن سنّ السنّة الماضية الَّتي أضرّت بها سنّتك الحادثة والوزر عليك بما نقضت منها، وتقدیر کبراہ: فكلّ ما كان كذلك فينبغي أن يجتنب وینفر عنه.

الاتصال بالعلماء

وأكد الإمام في عهده على ضرورة الاتصال بالعلماء والحكماء للتذاكر في شؤون البلاد وما يصلحها اقتصادياً و أمناً وغير ذلك، قال (عليه السلام):

(وَ أَکْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُکَمَاءِ - فِی تَثْبِیتِ مَا صَلَحَ عَلَیهِ أَمْرُ بِلَادِكَ - وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ) (35).

وهذا أنموذج من سياسة الإمام الهادفة لإصلاح المجتمع بجميع ما يحتاج إليه طبقات الشعب، ونظر الإمام بعمق إلى طبقات الشعب التي يرتبط بعضها ببعض وهي:

1. الكتاب: ذي به قوام الدولة والشعب.

2. الكتاب: وهم كتاب العامة والخاصة.

3. قضاة العدل، وهم الرفق، يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم من خلاف.

4. عمال الإنصاف والرفق، وهم صنف من العمال يلاحظون أمور الناس.

5. الذين يأخذون الجزية التي هي من مداد الاقتصاد في الإسلام.

6. التجار وهم الذين يمثلون العصب الاقتصادي في البلاد.

7. أهل الصناعات: وهم الذين يقومون بما يحتاج إليه المجتمع في شؤونه الاقتصادية.

ص: 222

8. الفقراء والمحتاجون وقد وضع لكل صنف منهجاً خاصاً، وأوصى بمراعاة هذه الأصناف لأنهم هم المجتمع في البلاد.

الاتصال بالأشراف والصالحين

من بنود عهد الإمام أنه أمر مالك بالاتصال بالأشراف والصالحين الذين يمثلون القيم الكريمة ليستعين بهم في إصلاح البلاد، وهذا قوله:

(ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِی الْمُرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ - وَأَهْلِ الْبُیوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ - ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ - فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْکَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا یتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا - وَ لَا یتَفَاقَمَنَّ (36) فِی نَفْسِكَ شَیءٌ قَوَّیتَهُمْ بِهِ - وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ - فَإِنَّهُ دَاعِیةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِیحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ - وَلَاتَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِیفِ أُمُورِهِمُ اتِّکَالاً عَلَی جَسِیمِهَا - فَإِنَّ لِلْیسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً ینْتَفِعُونَ بِهِ - وَلِلْجَسِیمِ مَوْقِعاً لَایسْتَغْنُونَ عَنْهُ).

حکی هذا المقطع أصالة ما ذهب إليه الإمام من إشاعة الفضيلة وتوطيد أركان الإصلاح الاجتماعي بين الناس، وهذه النقاط المهمة التي أدلى بها الإمام (عليه السلام) توجب التفاف المصلحين حول الولاة وتعاونهم معهم فيما يصلح أمر البلاد.

تكريم المخلصين من الجند

وعهد الأمام لمالك بتكريم المخلصين من الجند فإن ذلك مدعاة إلى إخلاصهم للحكومة والذب عنها ولنستمع إلى قوله.

قال (عليه السلام): (وَلْیکُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ - وَ أَفْضَلَ عَلَیهِمْ مِنْ جِدَتِهِ - بِمَا یسَعُهُمْ وَ یسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ (37) أَهْلِیهِمْ - حَتَّی یکُونَ هَمَّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ - فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَیهِمْ یعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیكَ - وَ إِنَّ

ص: 223

أَفْضَلَ قُرَّةِ عَینِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ وَ ظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیةِ وَ إِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَ لَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ (38) عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ - وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ - وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ - فَافْسَحْ فِی آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیهِمْ - وَ تَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ - فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ - وَ تُحَرِّضُ النَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)

أرأيتم هذا العمق في سياسة الإمام ودراسته لنفوس الجيش، والوقوف على إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم، ولم يحفل أي دستور عسکری وضعه قادة الجيوش بمثل هذه الدراسة الوثيقة لطبائع نفوس العسكر، وكيفية إخلاصهم وطاعتهم لقادتهم وقد أوصى الإمام (عليه السلام) بإشاعة ذكر المخلصين من الجند فإن ذلك يهز عواطف الشجعان منهم، ويحرض الناكل على الطاعة والإخلاص لدولته ويضيف الإمام مؤكداً برعاية المخلصين من الجند قائلاً:

(ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی - وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیرِهِ - وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایةِ بَلَائِهِ - وَ لَا یدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ - إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ صَغِیراً - وَلَاضَعَةُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ عَظِیماً)

بين هذا المقطع بعض الوصايا الذهبية في تكريم المخلصين من الجيش، وأنه ليس له أن يعظم الأشراف على ما صدر منهم من خدمات ما كان قليلاً ويستهين بالفقراء ما صدر منهم من خدمات جليلة وأن الواجب عليه الإشادة بهم وذكرهم بأطيب الذكر بها وأنداه.

ص: 224

اختيار الحكام

وشيء بالغ الأهمية في عهد الإمام وهو أن يكون انتخاب الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية، وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة، وهذا حديث الإمام.

ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَینَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیتِكَ فِی نَفْسِكَ - مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّکُهُ (39) الْخُصُومُ - وَ لَا یتَمَادَی فِی الزَّلَّةِ - وَ لَا یحْصَرُ (40) مِنَ الْفَیءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ - وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ - وَ لَا یکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ - وَ أَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ - وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً (41) بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ - وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ - وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ - مِمَّنْ لَا یزْدَهِیهِ (42) إِطْرَاءٌ (43) وَ لَا یسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ - وَ أُولئِكَ قَلِیلٌ - ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ - وَ افْسَحْ لَهُ فِی الْبَذْلِ مَا یزِیلُ عِلَّتَهُ - وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ - وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَیكَ مَا لَا یطْمَعُ فِیهِ غَیرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ - لِیأْمَنَ بِذلِكَ اغْتِیالَ (44) الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ - فَانْظُرْ فِی ذلِكَ نَظَراً بَلِیغاً - فَإِنَّ هذَا الدِّینَ قَدْ کَانَ أَسِیراً فِی أَیدِی الْأَشْرَارِ - یعْمَلُ فِیهِ بِالْهَوَی وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْیا)

يبين في هذا المقطع شأن القضاة أموراً بالغة الأهو ورعه، منها:

أولاً: أن يكون الحاكم أفضل الرعية في تقواه وورعه، وأن تتوفر فيه هذه الصفات:

أ- أن يكون واسع الصدر لا تضيق به محكمات الناس، ويمل منها.

ب- أن يمعن وينظر بجد في القضايا التي ترفع إليه، ويتبع سبيل الحق فيما يحكم به.

ج- أن لا يتمادى في الزلل والخطأ فإنه يكون ضالاً عن الطريق إذا لم يعن بذلك.

د- أن يتبع الحق فيما يحكم به.

ه- أن يكون شديداً في حكمه إذا اتضح له الحق.

ص: 225

ثانياً- أن يتعاهد الوالي قضاء الحاكم خشية الزلل فيما حكم به.

ثالثاً- أن يوفر له العطاء ولا يجعله محتاجاً لأحد حتى يخلص فيما يحكم به.

رابعاً- أن تكون للحاكم منزلة كريمة عند الوالي لا يطمع بها غيره.. هذه بعض النقاط في هذا المقطع.

العمال

نظر الإمام بعمق إلى العمال في جهاز الدولة فوضع منهجاً لاختيارهم في هذا الجهاز وأن يكون انتخابهم غير خاضع للمؤثرات الخارجية، بل لابد من البحث عنهم والفحص عن سيرتهم، وهذا نص عهده.

قال (عليه السلام): (ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً - وَ لَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً (45) وَ أَثَرَةً (46) - فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ (47) مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِیانَةِ - وَ تَوَخَّ (48) مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَیاءِ - مِنْ أَهْلِ الْبُیوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ - فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً - وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً - ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَیهِمُ الْأَرْزَاقَ - فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ - وَ غِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَیدِیهِمْ - وَحُجَّةٌ عَلَیهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ - وَابْعَثِ الْعُیونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَیهِمْ - فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِی السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ - حَدْوَةٌ (49) لَهُمْ عَلَی اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِیةِ - وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ - فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ یدَهُ إِلَی خِیانَةٍ - اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَیهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُیونِكَ - اکْتَفَیتَ بِذلِكَ شَاهِداً - فَبَسَطْتَ عَلَیهِ الْعُقُوبَةَ فِی بَدَنِهِ - وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ - ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِیانَةِ - وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ).

ص: 226

ألقى الإمام الأضواء في هذا المقطع على العمال في أجهزة الحكم، وأولاهم المزيد من الاهتمام لأنهم العصب في الدولة، وكان مما أولاهم به:

أولاً: إن الوظيفة لا تمنح لأي شخص إلا بعد اختباره ومعرفة سلوكه وإدارته.

ثانياً: أن منح الوظيفة يجب أن لا يكون محاباة أو اثرة، وإنما يكون عن استحقاق ودراية.

ثالثاً: إن العمال في الحكومات السابقة كانوا شعباً من الجور وفي عهده يجب أن يكونوا أمثلة للنزاهة والشرف.

رابعاً: أن يكون العمال من ذوي البيوتات الشريفة فإنهم يكونون بعيدين من اقتراف الإثم وما يخل بالكرامة.

خامساً: أن يوفر لهم المال فإنه ضمان لهم من أخذ الرشوة.

سادسا: أن يجعل عليهم العيون والرقباء خشية انحرافهم عن الحق.

سابعاً: إذا بدت منهم خيانة فعلى الوالي أن يأخذهم بالعقاب الصارم. الخراج: الإجراءات مع العمال تضمن للأمة العدل، وتشيع فيها الإخلاص للحكم.

الخراج

أما الخراج فهو شرايين اقتصاد الأمة حكومة وشعباً في عصورها الأولى، وقد أمر الإمام في عهده بمراقبته وتفقده والاهتمام به، حيث قال (عليه السلام): (وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا یصْلِحُ أَهْلَهُ - فَإِنَّ فِی صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ - وَ لَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ - لِأَنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِیالٌ عَلَی الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ).

أن الحياة الاقتصادية للأمة في تلك العصور منوط بالخراج الذي تأخذه الدولة من المزارعين، وقد أمر بتفقده وتفقدهم رعاية للمصلحة العامة.

ص: 227

عمران الأرض

وأولى الإمام المزيد من اهتمامه بعمران الأرض، وما تحتاجه من الماء وغيره، وقد ادلى بذلك بقوله: (وَ لْیکُنْ نَظَرُكَ فی عِمارَةِ الْأَرْضِ - أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فی اسْتْجلابِ اْلَخَراجِ - لِأَنَّ ذلِكَ لَا یدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ - وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَیرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادِ - وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ وَ لَمْ یسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِیلاً).

بين في هذا المقطع مدى اهتمام الإمام بعمارة الأرض وتوفير جميع الوسائل لإصلاحها لأنها مصدر الحياة الاقتصادية في الأمة.

وصيته بالمزارعين

اهتم الإمام بالمزارعين فأوصى برعايتهم والعناية بهم، وتصديقهم فيما يقولون في شأن الخراج، وإقصاء كل لون من ألوان الضغط عنهم، وهذا قوله: قال (عليه السلام):

((فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوْ انْقِطَاعَ شِرْبٍ (50) أَوْ بَالَّةٍ (51) أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ (52) اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ - أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ - خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ یصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ - وَ لَا یثْقُلَنَّ عَلَیكَ شَیءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ ذُخْرٌ یعُودُونَ بِهِ عَلَیكَ فِی عِمَارَةِ بِلَادِكَ - وَ تَزْیینِ وِلَایتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ - وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِیهِمْ - مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ - بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ (53) لَهُمْ - وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَیهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ - فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ - مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِیهِ عَلَیهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ - طَیبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ - فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ - وَ إِنَّمَا یؤْتَی خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ (54) أَهْلِهَا - وَإِنَّمَا یعْوِزُ أَهْلُهَا لِإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَی الْجَمْعِ - وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ...)).

ص: 228

بين هذا المقطع مدى اهتمام الإمام بتنمية الاقتصاد القومي الذي يمثله قطاع الفلاحين فقد أوصى بعمارة الأرض، وتوفير ما تحتاجه من المياه، وإصلاحها فيما إذا غمرتها المياه وغير ذلك من وسائل الإصلاح، وقد فقد المسلمون هذه الرعاية أيام الحكم الأموي والعباسي، فقد شكا والي مصر إلى عاهل الشام سوء حالة المزارعين وتخفيف الخراج عنهم فكتب إليه بعد التأنيب ((احلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم)) وقد اضطر المزارعون إلى هجر مزارعهم فراراً من ظلم الولاة وجورهم کما حكى هذا المقطع البر بالمزارعين والإحسان إليهم، ومراعاة حياتهم الاقتصادية بما لم يألفوا مثله في الحكومات السابقة.

الكتّاب

وهم من أهم الموظفين في جهاز الدولة، فهم يتولون كتابة ما يصدر من الوالي من قرارات وشؤون اقتصادية وعسكرية، وغير ذلك مما يتعلق بأمور الدولة والمواطنين وقد أولاهم الإمام المزيد من الاهتمام وهذا نص حديثه:

قال (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِی حَالِ کُتَّابِكَ - فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَیرَهُمْ - وَ اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِی تُدْخِلُ فِیهَا مَکَائِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ - بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْکَرَامَةُ - فَیجْتَرِئَ بِهَا عَلَیكَ فِی خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَأٍ - وَ لَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِیرَادِ مُکَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَیكَ - وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَی الصَّوَابِ عَنْكَ - فِیما یأْخُذُ لَكَ وَ یعْطِی مِنْكَ - وَ لَا یضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ - وَ لَا یعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَیكَ - وَ لَا یجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِی الْأُمُورِ - فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ یکُونُ بِقَدْرِ غَیرِهِ أَجْهَلَ - ثُمَّ لَا یکُنِ اخْتِیارُكَ إِیاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ - وَ اسْتِنَامَتِكَ (55) وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ - فَإِنَّ الرِّجَالَ یتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ - بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ خِدْمَتِهِمْ - وَ لَیسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ النَّصِیحَةِ

ص: 229

وَالْأَمَانَةِ شَیءٌ - وَ لکِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِینَ قَبْلَكَ - فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ کَانَ فِی الْعَامَّةِ أَثَراً - وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً - فَإِنَّ ذلِكَ دَلِیلٌ عَلَی نَصِیحَتِكَ لِلَّهِ وَلِمَنْ وُلِّیتَ أَمْرَهُ - وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ کُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ - لَا یقْهَرُهُ کَبِیرُهَا وَلَا یتَشَتَّتُ عَلَیهِ کَثِیرُهَا - وَمَهْمَا کَانَ فِی کُتَّابِكَ مِنْ عَیبٍ فَتَغَابَیتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ))

بين هذا المقطع مدى أهمية الكتاب لأن قرارات الدولة، ومهام الأمور بأيديهم، ولابد أن تتوفر فيهم الصفات الفاضلة من الأمانة والضبط، وعدم التهاون في أعمالهم وأن يكون اختبارهم وثيقاً، فلا يصح الاعتماد على الفراسة، وحسن الظن ولا على ما يبدونه من الخدمات لجلب مودة الوالي لأن ذلك ليس له أي وزن في ترشيحهم لهذه الوظيفة المهمة، فلا بد أن يكون الاختبار وثيقاً غير خاضع للرغبات الشخصية.

التجار وذوو الصناعات

يشكل القطاع من التجار وذوي الصناعات دوراً مهماً في إدارة الشؤون الاقتصادية في البلاد وقد أوصى الإمام برعايتهم والاهتمام بشؤونهم، وهذا قوله:

((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَیراً - الْمُقِیمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ (56) بِبَدَنِهِ - فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ - وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَالْمَطَارِحِ (57) - فِی بَرِّكَ وَبَحْرِكَ وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ - وَحَیثُ لَایلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا - وَلَایجْتَرِؤُونَ عَلَیهَا - فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَاتُخَافُ بَائِقَتُهُ (58) - وَصُلْحٌ لَاتُخْشَی غَائِلَتُهُ (59) - وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِی حَوَاشِی بِلَادِكَ..)).

عرض الإمام (عليه السلام) إلى دور التجار في جلب ما تحتاج إليه الناس من المناطق البعيدة والأماكن النائية ليوفروا لهم ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة، والواجب على الوالي رعايتهم وتسهيل أمورهم.

ص: 230

مراقبة التجار

نظر الإمام بعمق إلى شؤون بعض التجار الذين يبلغ بهم الطمع إلى احتکار بعض السلع ومنعهم عنه، وهذا قوله:

قال (عليه السلام): (وَ اعْلَمْ مَعَ ذلِكَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً - وَشُحّاً قَبِیحاً - وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَتَحَکُّماً فِی الْبِیاعَاتِ - وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ - وَعَیبٌ عَلَی الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الْإِحْتِکَارِ (60) - فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم مَنَعَ مِنْهُ - وَلْیکُنِ الْبَیعُ بَیعاً سَمْحاً بِمَوَازِینِ عَدْلٍ - وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَینِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ - فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیكَ إِیاهُ فَنَکِّلْ بِهِ - وَعَاقِبْهُ فِی غَیرِ إِسْرَافٍ).

عرض الإمام إلى مراقبة السوق خشية من الاحتكار الذي يفر بالعامة، وعلى الوالي أن يمنع المحتكر فإن أصر على احتكاره فيعاقبه من غير إسراف، الاحتكار يودي إلى شل الحركة الاقتصادية في البلاد ويلقي الناس في ضائقة اقتصادية.

الطبقة السفلى

وليس في تأريخ الإسلام وغيره مثل الإمام أمير المؤمنين في اهتمامه بالفقراء، فقد شاركهم في جشوبة العيش وخشونة اللباس، فهو أبو الفقراء، وصديق المحرومين وملاذ البائسين، وهذا نص حديثه في عهده:

(ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ - مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی (61) وَالزَّمْنَی - فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً (62) وَمُعْتَرّاً (63) - وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ - وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیتِ مَالِكَ - وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِی (64) الْإِسْلَامِ فِی کُلِّ بَلَدٍ - فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی - وَ کُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ - فَلَایشْغَلَنَّكَ

ص: 231

عَنْهُمْ بَطَرٌ - فَإِنَّكَ لَاتُعْذَرُ بِتَضْییعِكَ التَّافِهَ (65) لِأَحْکَامِكَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ - فَلَاتُشْخِصْ هَمَّكَ (66) عَنْهُمْ وَلَاتُصَعِّرْ خَدَّكَ (67) لَهُمْ - وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَایصِلُ إِلَیكَ مِنْهُمْ - مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ (68) الْعُیونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ - فَفَرِّغْ لِأُلئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیةِ وَ التَّوَاضُعِ - فَلْیرْفَعْ إِلَیكَ أُمُورَهُمْ - ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ یوْمَ تَلْقَاهُ - فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَینِ الرَّعِیةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیرِهِمْ - وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیةِ حَقِّهِ إِلَیهِ).

بين هذا المقطع العطف والحنان على الفقراء والضعفاء، فقد احتضنهم الإمام (عليه السلام) وجعلهم من أهم مسؤولياته وواجباته إن رعاية الفقراء والبر بهم والإحسان إليهم عند الإمام (عليه السلام) جزء من رسالة الإسلام التي أكدت على محو الفقر وإزالة شبحه، ونشر السعة والرخاء بين المسلمين.

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن

أكد الإمام في عهده على ضرورة تفقد الأيتام والطاعنين في السن من الذين لا حيلة لهم. فقال (عليه السلام): ((وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ - مِمَّنْ لَاحِیلَةَ لَهُ وَلَا ینْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ - وَذلِكَ عَلَی الْوُلَاةِ ثَقِیلٌ - وَ الْحَقٌّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ وَقَدْ یخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ - طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ - وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ)

كان الإمام (عليه السلام) أباً عطوفاً للأيتام، وكان شديد العناية بهم والرعاية لهم والعطف عليهم، وكان من ذاتياته وعظيم أخلاقه، وأثرت عنه وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام كوكبة من الأحاديث تحث على رعاية اليتيم والبر به، وتذكر ما أعد الحاجات من الأجر الجزيل للقائم بذلك.

ص: 232

تفريغ وقت لذوي الحاجات

ومن بنود عهد الإمام (عليه السلام) أنه حث على أن يجعل لذوي الحاجات وقتاً لينظر فيها وهذا قوله: قال (عليه السلام): (وَ اجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ - وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً - فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ - وَ تُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ (70) - حَتَّی یکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیرَ مُتَتَعْتِعٍ - فَإِنِّی سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم یقُولُ فِی غَیرِ مَوْطِنٍ - لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَایؤْخَذُ لِلضَّعِیفِ فِیهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِی - غَیرَ مُتَتَعْتِعٍ - ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ (71) مِنْهُمْ وَ الْعِی - وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّیقَ وَ الْأَنْفَ (72) - یبْسُطِ اللَّهُ عَلَیكَ بِذلِكَ أَکْنَافَ (73) رَحْمَتِهِ - وَ یوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ - وَ أَعْطِ مَا أَعْطَیتَ هَنِیئاً وَامْنَعْ فِی إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ).

وهذا منتهى العدل الذي أسسه رائد الحضارة والعدالة في الإسلام أذ أنه كان يعين وقتاً للنظر في قضايا ذوي الحاجات، فكان يأخذ بحق الضعيف من القوي و بحق المظلوم من الظالم، وكذلك عهد إلى ولاته مثل ذلك، وقد أمر (عليه السلام) في عهده بتنحية الشرطة والجنود حتى يتكلم ذو الحاجة غير متعتع ولا خائف.

مباشرة الولي بعض القضايا بنفسه

وكان من بنود عهد الإمام (عليه السلام) أن يتولى الولاة بعض القضايا بأنفسهم تحقيقاً للعدل وهذا نص كلامه: (عليه السلام) ((ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا - مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا یعْیا عَنْهُ کُتَّابُكَ - وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ یوْمَ وُرُودِهَا عَلَیكَ - بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ - وَأَمْضِ لِکُلِّ یوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِکُلِّ یوْمٍ مَا فِیهِ: وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِیما بَینَكَ وَ بَینَ اللَّهِ - أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِیتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ - وَ إِنْ کَانَتْ کُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِیهَا النِّیةُ - وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِیةُ).

ص: 233

يبين هذا المقطع أموراً يتعين على الوالي القيام بنفسه في مباشرتها منها:-

1. إجابة العمال فيما إذا عجز الكتاب عن القيام بها.

2. تنفيذ كل عمل من أعمال الدولة بنفس اليوم من دون تأخير لأن التأخير يضر بالمصلحة العامة.

3. أن يخصص الوالي لنفسه وقتاً للاتصال بالله تعالى بإخلاص، هذه بعض النقاط في هذا المقطع.

إقامة الفرائض

وعهد الإمام لمالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص، وإذا أقيمت صلاة الجماعة فعليه أن يلاحظ المصلين فلا يطيل في صلاته وإنما يصلي کما يصلي أضعف الناس، وهذا حديث الإمام:

((وَلْیکُنْ فِی خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِینَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ - الَّتِی هِی لَهُ خَاصَّةً - فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِی لَیلِكَ وَنَهَارِكَ - وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اللَّهِ - مِنْ ذلِكَ کَامِلاً غَیرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ - بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ - وَ إِذَا قُمْتَ فِی صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ - فَلَا تَکُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لَا مُضَیعاً - فَإِنَّ فِی النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ - وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَ آلِهِ وَ سلَّم حِینَ وَجَّهَنِی إِلَی الْیَمَنِ - کَیفَ أُصَلِّی بِهِمْ؟ فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ کَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ - وَ کُنْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِیماً..)).

شملت تعاليم الإمام (عليه السلام) للولاة الحث على الصلاة وكيفية أدائها جماعة، ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده.

عدم الاحتجاب عن الرعية

وكان من وصايا الإمام (عليه السلام) لمالك أن لا يحتجب عن الرعية وأن يكون على

ص: 234

اتصال دائم بهم فإن الاحتجاب له مضاعفاته السيئة التي تحدث عنها الإمام بقوله:

(وَ أمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِیتِكَ - فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِیةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ - وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ - وَ الْإِحْتِجَابُ مِنْهُمْ یقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ - فَیصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ وَ یعْظُمُ الصَّغِیرُ - وَ یقْبُحُ الْحَسَنَ وَ یحْسُنُ الْقَبِیحُ - وَ یشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ - وَ إِنَّمَا الْوَالِی بَشَرٌ - لَا یعْرِفُ مَا تَوَارَی عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ - وَ لَیسَتْ عَلَی الْحَقِّ سِمَاتٌ - تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْکَذِبِ - وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَینِ - إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِی الْحَقِّ - فَفِیمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِیهِ - أَوْ فِعْلٍ کَرِیمٍ تُسْدِیهِ (74) أَوْ مُبْتَلًی بِالْمَنْعِ - فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ - إِذَا أَیسُوا مِنْ بَذْلِكَ - مَعَ أَنَّ أَکْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَیكَ - مِمَّا لَا مَؤُونَةَ فِیهِ عَلَیكَ - مِنْ شَکَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ).

يبين هذا الخطاب ضرورة الانفتاح مع الشعب وعدم الاحتجاب عنه، فإن الوالي الذي يدافع عن شعبه ويكون بمعزل عنهم يعود بالأضرار البالغة عليه، والتي منها فتح أبواب المعارضة عليه، ونقمة المجتمع منه، وكراهيتهم لحكمه، وسلطانه.

بطانة الوالي وخاصته

حذر الإمام (عليه السلام) في عهده من إتباع بعض الذين يتخذهم الوالي خاصة له فإن فيهم تطاولاً وقلة انصاف، وعليه أن يحسم شرورهم وأطماعهم، ولا يقطعهم قطيعة أرض فيكون المهنأ لهم والوزر عليه، وهذا كلامه (عليه السلام):

(ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِی خَاصَّةً وَ بِطَانَةً - فِیهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أُولئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ - وَلَا تُقْطِعَنَّ لاِحَدٍ مِنْ حَاشِیتِكَ وَحَامَّتِكَ (75) قَطِیعَةً - وَلَایطْمَعَنَّ مِنْكَ فِی اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ (76) - تَضُرُّ بِمَنْ یلِیهَا مِنَ النَّاسِ - فِی شِرْبٍ أَوْ

ص: 235

عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ - یحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلَی غَیرِهِمْ - فَیکُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ - وَ عَیبُهُ عَلَیكَ فِی الدُّنْیا وَالْآخِرَةِ).

لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم، فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة وأضاف الإمام يأمر الولاة بإتباع الحق قائلاً:

(وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِیبِ وَالْبَعِیدِ - وَکُنْ فِی ذلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً - وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَاصَّتِكَ حَیثُ وَقَعَ - وَابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا یثْقُلُ عَلَیكَ مِنْهُ - فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذلِكَ مَحْمُودَةٌ).

إن الحق هو المنهج الواضح في سياسة الإمام وسيرته وليس للباطل أي التقاء به.

الرفق بالرعية

أكد الإمام (عليه السلام) في عهده على الرفق بالرعية ومراعاة عواطفها، وإذا ظنت به حيفاً فعليه أن ينطلق إلى ساحتها، ويقدم لها الاعتذار، وهذا قوله: (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیةُ بِكَ حَیفاً فَأَصْحِرْ (78) لَهُمْ بِعُذْرِكَ - وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ - فَإِنَّ فِی ذلِكَ رِیاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِیتِكَ وَإِعْذَاراً - تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِیمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ).

بين هذا المقطع مدى العمق في سياسة الإمام (عليه السلام) في وسائل ارتباط الحكومة مع الشعب، وجعلهما جسداً واحداً.

الصلح مع العدو

إن الإسلام يدعو الى السلم وتحريم سفك الدماء وإزالة جميع وسائل الخوف والإرهاب، وقد أكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة الاستجابة إلى الصلح إذا دعا إليه العدو، أذ قال (عليه السلام):

((وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَیهِ عَدُوُّكَ وَ لِلَّهِ فِیهِ رِضًا - فَإِنَّ فِی الصُّلْحِ دَعَةً (79)

ص: 236

لِجُنُودِكَ - وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ - وَ لَکِنِ الْحَذَرَ کُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ - فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِیتَغَفَّلَ - فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِی ذلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ - وَ إِنْ عَقَدْتَ بَینَكَ وَ بَینَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً - أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً - فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ - وَ اجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَیتَ - فَإِنَّهُ لَیسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَیءٌ - النَّاسُ أَشَدُّ عَلَیهِ اجْتِماعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ - وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ - مِنْ تَعْظِیمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ - وَ قَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِکُونَ فِیما بَینَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِینَ - لِمَا اسْتَوْبَلُوا (80) مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ - فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لَا تَخِیسَنَّ (81) بِعَهْدِكَ - وَ لَا تَخْتِلَنَّ (82) عَدُوَّكَ - فَإِنَّهُ لَا یجْتَرِئُ عَلَی اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِی - وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ (83) بَینَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ وَ حَرِیماً یسْکُنُونَ إِلَی مَنَعَتِهِ وَ یسْتَفِیضُونَ إِلَی جِوَارِهِ - فَلَا إِدْغَالَ (84) وَ لَا مُدَالَسَةَ (85) وَلَا خِدَاعَ فِیهِ - وَلَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِیهِ الْعِلَلَ - وَ لَا تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ (86) بَعْدَ التَّأْکِیدِ وَ التَّوْثِقَةِ - وَ لَا یدْعُوَنَّكَ ضِیقُ أَمْرٍ - لَزِمَكَ فِیهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیرِ الْحَقِّ - فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِیقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ - خَیرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ - وَ أَنْ تُحِیطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ فِیهِ طِلْبَةٌ - لَاتَسْتَقْبِلُ فِیهَا دُنْیاكَ وَلَا آخِرَتَكَ)).

يبين هذا الخطاب المناهج العسكرية، وهذه شذرات منها:

أولاً: أن الإمام أكد على ضرورة قبول الصلح إذا دعا إليه العدو، وذكر فوائده: إن فيه راحة للجيش لأنه يستريح من الجهد العسكري.

ثانياً: امنة للوالي من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية في الصلح وأمناً للبلاد وعدم تعرضها للأزمات.

ثانياً: على الوالي أن يراقب بيقظة العدو وبعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه للكيد من المسلمين.

ثالثاً: إذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بالإسلام، بالوفاء والأمانة ولا يخيس بأي شيء

ص: 237

منه فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام، والغدر ونكث العهد يتجاني مع الإسلام فقد جعل الله تعالى الوفاء بالعهد حصناً وثيقاً من حصونه ليس لأحد أن يقتحمه.. هذه بعض البنود في هذا المقطع.

حرمة سفك الدماء

أكد الإمام في عهده على وجوب احترام الدماء وحرمة سفكها بغير حق، وهذا ما أعلنه الإمام وقال (عليه السلام):

((إِیاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْکَهَا بِغَیرِ حِلِّهَا - فَإِنَّهُ لَیسَ شَیءٌ أَدْنَی لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ - وَ لَا أَحْرَی بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ - مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیرِ حَقِّهَا - وَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُکْمِ بَینَ الْعِبَادِ - فِیما تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ یوْمَ الْقِیامَةِ - فَلَا تُقَوِّینَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ - فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا یضْعِفُهُ وَ یوهِنُهُ بَلْ یزِیلُهُ وَ ینْقُلُهُ - وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَاعِنْدِی فِی قَتْلِ الْعَمْدِ - لِأَنَّ فِیهِ قَوَدَ الْبَدَنِ - وَإِنِ ابْتُلِیتَ بِخَطَأٍ - وَ أَفْرَطَ عَلَیكَ سَوْطُكَ أَوْ سَیفُكَ أَوْ یدُكَ بِالْعُقُوبَةِ - فَإِنَّ فِی الْوَکْزَةِ (87) فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً - فَلَاتَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ - عَنْ أَنْ تُؤَدِّی إِلَی أَوْلِیاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)).

إن سفك الدم بغير حق من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام، فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً وإطلاق النفس شامل لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية وغيرهم، كما أعلن القرآن أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه نار جهنم خالداً فيها، وقد شدد الإمام في عهده على ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها، وحذر أن يقوى سلطان ولاته بإراقة الدماء، کما دية قتل العمد أن فيه وهو قتل القاتل، كما ذكر دية المقتول خطأ وهو الدية ولايته، ما يكون التحذير من سفك الدماء.

ص: 238

الإعجاب بالنفس

وأوصى الإمام في عهده بأن لا يعجب الوالي بنفسه وولايته، وأن لا يحب الإطراء وهذا حديثه أذ قال (عليه السلام):

((وَإِیاكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ - وَالثِّقَةَ بِمَا یعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الْإِطْرَاءِ - فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ (88) الشَّیطَانِ فِی نَفْسِهِ - لِیمْحَقَ مَا یکُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحسِنِینَ - وَ إِیاكَ وَ الْمَنَّ عَلَی رَعِیتِكَ بِإِحْسَانِكَ - أَوِ التَّزَیدَ فِیما کَانَ مِنْ فِعْلِكَ - أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ - فَإِنَّ الْمَنَّ یبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَیدَ یذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ - وَ الْخُلْفَ یوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ - قَالَ اللَّهُ تَعالی: (کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

يبين هذا المقطع تحذير الإمام لواليه من أمرين، وهما:

أولاً: أن يمن على رعيته بما يسديه من إحسان عليهم فإن ذلك واجب عليه ولا مجال للتبجح بأداء الواجب. ثانياً: أن يعدهم بالإحسان ثم يخالف ما وعده فإن ذلك مما يوجب مقت الله تعالى ومقت الناس.

العجلة في الأمور

حذر الإمام من العجلة بالأمور قبل أوانها فإن ذلك مما لا يليق بالوالي، وهذا ما قال (عليه السلام): (وَإِیاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا - أَوِ التَّسَقُّطَ فِیهَا عِنْدَ إِمْکَانِهَا - أَوِاللَّجَاجَةَ فِیهَا إِذَا تَنَکَّرَتْ - أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ - فَضَعْ کُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ، وَ أَوْقِعْ کُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ).

لقد أوصى الإمام (عليه السلام) بعهده أن يضع الوالي كل شيء من أموره الاجتماعية أو السياسية في موضعه من دون عجلة فإنها تهبط بمستوى الوالي شعبياً فإنه يتم عن عدم توازنه في سلوكه.

ص: 239

الاستئثار

حذر الإمام (عليه السلام) الوالي من الاستئثار بما فيه الناس سواء ولنستمع إلى قوله (عليه السلام):

(وَإِیاكَ وَالْإِسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِیهِ أُسْوَةٌ - وَالتَّغَابِی عَمَّا تُعْنَی بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُیونِ - فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَیرِكَ - وَعَمَّا قَلِیلٍ تَنْکَشِفُ عَنْكَ أَغْطِیةُ الْأُمُورِ - وَینْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ - امْلِكْ حَمِیةَ أَنْفِكَ وَسَوْرَةَ (89) حَدِّكَ - وَ سَطْوَةَ یدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ (90) - وَاحْتَرِسْ مِنْ کُلِّ ذلِكَ بِکَفِّ الْبَادِرَةِ (91) وَتَأْخِیرِ السَّطْوَةِ - حَتَّی یسْکُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الْإِخْتِیارَ - وَ لَنْ تَحْکُمَ ذلِكَ مِنْ نَفْسِكَ - حَتَّی تُکْثِرَ هُمُومَكَ بِذِکْرِ الْمَعَادِ إِلَی رَبِّكَ).

لقد عهد الإمام (عليه السلام) إلى واليه التحلي بمكارم الأخلاق، وليس له أدبياً أن يستأثر بما الناس فيه سواء، وإنما عليه أن يتركه لهم لينظروا إلى نزاهة الحكم، وشرف الوالي، لقد أوصاه الإمام (عليه السلام) بكل فضيلة تخلد له الذكر الحسن، وتكون له وسام شرف.

الإقتداء بالحكومات العادلة

وختم الإمام (عليه السلام) حديثه في عهده لمالك بهذه الوصية القيمة التي يسمو بها إلى أرقی درجات الكمال قائلاً:

((وَالْوَاجِبُ عَلَیكَ أَنْ تَتَذَکَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ - مِنْ حُکُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ - أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِینَا صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم أَوْ فَرِیضَةٍ فِی کِتَابِ اللَّهِ، فَتَقْتَدِی بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِیهَا - وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِی اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَیكَ فِی عَهْدِی هذَا - وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِی عَلَیكَ - لِکَیلَا تَکُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا: وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ - وَعَظِیمِ قُدْرَتِهِ عَلَی إِعْطَاءِ کُلِّ رَغْبَةٍ - أَنْ یوَفِّقَنِی وَإِیاكَ لِمَا فِیهِ رِضَاهُ - مِنَ

ص: 240

الْإِقَامَةِ عَلَی الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَیهِ وَإِلَی خَلْقِهِ - مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِی الْعِبَادِ وَجَمِیلِ الْأَثَرِ فِی الْبِلَادِ - وَتَمَامِ النِّعْمَةِ وَتَضْعِیفِ الْکَرَامَةِ - وَأَنْ یخْتِمَ لِی وَلَكَ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ - (إِنَّا إِلَیهِ رَاجِعُونَ) - وَالسَّلَامُ عَلَی رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم الطَّیبِینَ الطَّاهِرِینَ وَسَلَّمَ تَسْلِیماً کَثِیراً وَ السَّلام).

وانتهى هذا العهد الذي يمثل العدل في السياسة والحكم بجميع رحابه ومكوناته وهو من هجرية، خلفته الإنسانية من تراث عالج فيه قضايا الحكم والإدارة بمنتهی الحكمة والدقة، في وقت لم يكن فيه المسلمون وغيرهم يعرفوا هذه الأنظمة الخلاقة وهي جزء من مواهب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعبقرياته التي لا تحد و حسبه علواً أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وباب مدينة علمه، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسی.

ص: 241

الهوامش:

1. السند، محمّد، بحوث معاصرة في الساحة الدولية (مركز الأبحاث العقائدية، العراق - النجف الأشرف، 1428 ه) ص 364

2. الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، عيون أخبار الرضا، صححه حسين الأعلمي (ط 1، مؤسسة الأعلمي، لبنان، بیروت، 1404 ه - 1984 م) ص 275

3. ابن أبي الحديد، شرح النهج البلاغة، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 1، بیروت، دار الحياء الكتب العربية، 1378 / 1959 م) ج 15، ص 98

4. ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ (دار صادر للطباعة والنشر، لبنان، بیروت، 1385 ه/ 1965 م)، ج 3، ص 352

5. الأمين، محسن، أعيان الشيعة، حققه وأخرجه: حسن الأمين (دار التعارف للمطبوعات، بیروت) المجلد التاسع، ص 39

6. الأمين، المصدر السابق، المجلد التاسع، ص 39

7.الأمين، المصدر السابق، المجلد التاسع، ص 39

8. الأمين، المصدر السابق، المجلد التاسع، ص 39

9. ابن الأثير، الكامل في التاریخ، ج 3، ص 352

10. الشريف الرضي ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة، ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلميّة: صبحي الصالح (لبنان - بيروت 1387 ه - 1967 م) ص 427 - 444 أحمد بن عبد الله القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، الرابع، ج 3، ص 6

11. الصفح: الإعراض عن الذنب.

ص: 242

12. البجح - بسكون الجيم -: الفرح والسرور.

13. البادرة: الحدّة.

14. المندوحة: السعة.

15. الإدغال: إدخال الفساد في الأمر.

16. النهك: الضعف.

17. الأبّهة، والمخيلة: الكبر

18. يطامن: يسكن

19. طماح النفس: جماحها. وطمح البصر: ارتفع.

20.غرب الفرس: حدّته، وأوّل جريه.

21. المساماة: مفاعلة من السموّ.

22. ينزع: يرجع.

23. أجحف به: ذهب به.

24. الإلحاف: شدّة السؤال.

25. ملمّات الدهر: ما يلمّ من خطوبه.

26.جماع المسلمين: جمعهم.

27. الصغوة: الميل.

28. أشنأهم: أبغضهم.

29. الوتر: الحقد.

30. التغابي: التجاهل والتغافل.

31. بطانة الرجل: خاصّته.

32. الآصار: الآثام.

33. حفلاتك: أي جلساتك في المحافل والمجامع.

ص: 243

34. التدريب: التعويد.

35. الشريف الرضي، نهج البلاغة، ضبط نصّه، ص 427 - 444.

36. وتفاقم الأمر: عظمه.

37. الخلوف: المتخلَّفون جمع - خلف بالفتح-.

38. الحيطة: الشفقّة.

39. المحك: اللجاج.

40. الحصر: العيّ والعجز.

41. التبرّم: التضجّر.

42. الازدهاء: افتعال من الزهو وهو الكبر.

43. الإطراء: كثرة المدح.

44. الاغتيال: الأخذ على غرّة.

45. المحاباة: المعاطاة والمقاربة فيها.

46. الأثرة: الاستبداد.

47. الجماع: الجمع.

48. التوخّي: التقصّد.

49. الحدوة: الحثّ.

50. الشرب: النصيب من الماء.

51. البالَّه: القليل من الماء يبلّ به الأرض.

52.أحالت الأرض: تغيّرت عمّا كانت عليه من الاستواء فلم ينحبّ زرعها ولا أثمر نخلها.

53. الإجمام: الإراحة. ومعتمد: قاصد.

58. الإعواز: الفقر.

ص: 244

55. استنام إلى كذا: سكن إليه.

56.المترفّق: طالب الرفق من التجارة.

57. المطارح: جمع مطرح وهي الأرض البعيدة.

58. البائقة الداهية.

59. الغائلة: الشرّ.

60. الاحتكار: حبس المنافع عن الناس عند الحاجة إليها.

61. البؤسي: الشدّة.

62. القانع: السائل

63. المعترّ: الَّذي يتعرّض للعطاء من غير سؤال

64. الصوافي: - جمع صافية - وهي أرض الغنيمة

65. التافه: الحقير.

66. أشخص همّه: رفعه.

67. تصعير الخذّ: إمالته كبرا.

68. تقتحمه: تزد ریه.

69. أعذر في الأمر: صار ذا عذر فيه.

70. الشرط: قوم يعلمون أنفسهم بعلامات الخدمة يعرفون بها.

71. الخرق: ضدّ الرفق.

72. الأنف: الأنفة وهي خصلة تلازم الكبر.

73. الأكناف: الجوانب

74. الإسداء: الإعطاء

75. الحامّة: القرابة.

76. العقدة: الضيعة، والعقدة أيضا: المكان كثير الشجر والنخل، واعتقد الضيعة:

ص: 245

اقتناها.

77. المغبّة: العاقبة.

78. أصحر: أي أظهر.

79. الدعة: الراحة.

80. استوبلوا الأمر: استثقلوه، والوبال: الوخم، يقال: استوبلت البلد: استوخمت فلم يوافق ساکنها

81. خاس بالعهد: نقضه.

82. اختل: الخداع.

83. أفضاه: بسطه. واستفاض الماء: سال.

84.الإدغال: الإفساد. والدغل: الفساد.

85. المدالسة: مفاعلة من التدليس في البيع وغیرہ کالمخادعة.

86. لحن القول: كالتورية والتعريض من الأمر.

87. الوكزة: الضربة والدفعة، وقيل: هي بجمع اليد على الذقن

88. الفرصة: النوبة، والممكن من الأمر.

89. سورة الرجل: سطوته وحدّة بأسه.

90.غرب اللسان: حدّته.

91. البادرة: سرعة السطوة والعقوبة

ص: 246

المصادر:

1- أعيان الشيعة محسن الأمين

2- بحوث معاصرة في الساحة الدولية محمّد السند

3- شرح النهج البلاغة ابن أبي الحديد

4- عيون أخبار الرضا أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق

5- الكامل في التاريخ عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم ابن الأثير

6- نهج البلاغة ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي الشريف الرضي

7- مآثر الإنافة في معالم الخلافة أحمد بن عبد الله القلقشندي

ص: 247

ص: 248

حقوق الإنسان في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

م. د. أحمد علي عبود الخفاجي كلية الدراسات الإنسانية الجامعة / النجف الأشرف

ص: 249

ص: 250

ملخص البحث

إنَّ الإسلام كان له فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية، في تناوله لحقوق الإنسان، وتأصيله، وتحديده لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقات والوثائق الدولية مما فيه مصلحة مُحقّقة للإنسان، وللمجتمع الإنساني ما هو في حقيقته إلا تردید لبعض ما تضمنه الإسلام في هذا الخصوص، الذي تميز عنها بكفالته لكافة حقوق الإنسان وحمايته لها؛ فجاءت تشريعاته في هذا الخصوص جامعةً مانعةً؛ فاقت بذلك كل ما عرفته، وتعرفه المدنية بكل هيئاتها ومنظماتها وفروعها.

وليس أدلُّ من ذلك عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي لما ولّاه على مصر، فقد جمعت هذه الوثيقة أمهات السياسة وأصول الإدارة في قواعد حوت من فصاحة الكلم وبلاغة الكلام وحسن الأسلوب ما لا يمكن وصفه، کما تضمنت طائفة واسعة من الحقوق والحريات التي تتعلق بالإنسان وتضمن له العيش الرغيد، وقد تناول هذا البحث بعض هذه الحقوق بالدراسة والتحليل لبعض الحقوق الأساسية مثل حق الإنسان في الحياة وحق الإنسان في أن يُحكم بالعدل والحقوق السياسية مثل حق الإنسان في اختيار عناصر صالحة لحكمه وحق الإنسان في حرية الرأي والتعبير والحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل حق العامل في أجر يكفيه وحق الإنسان في الضمان الاجتماعي.

ص: 251

Abstract Islam has the virtue head start on all the covenants, declarations and international conventions, in dealing with human rights, and rooting it, and determined those rights for more than fourteen centuries ago, and came in the Universal Declaration of Human Rights, and international agreements and documents which it realized the man's interest, and the community humanitarian what is in fact only repeating some of the contents of Islam in this regard, which was marked by its respect for all human rights and protect them came legislation in this regard exhaustive outweighing all I knew, civil and you know all the bodies and organizations and their affiliates.

The best evidence of that era of Imam Ali bin Abi Talib (peace be upon 1 LL.

11.

him) to Malik Ashtar Nakha'i what made him to Egypt, has this document compiled mothers politics and asset management in the rules included the VIL eloquence of speech and eloquence of speech and good method what can't be described, also included a wide range of the rights and freedoms that are related to human beings and ensure his well-off, and this research has addressed some of these rights study and analysis of some basic rights such as the right to life and the human right to be judged justly and political rights, such as the human right to choose suitable for his elements and the human right to freedom of opinion and expression and social and economic rights such as the right of the worker to pay enough human right social security.

ص: 252

مقدمة

إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، فما تجاوز ذلك أو خالفه، أو انحرف عنه، فهو الظلم بعينه؛ لأنه خلاف ما شرع الله من الأحكام لعباده، الذي هو أعلم بها، وبما يصلح حالهم «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (1)، ليس على المسلمين إلاّ أن يتمسكوا بدينهم، ويعملوا بأحكامه وشرائعه وآدابه، ويجعلوها حَکَمَاً بينهم، فسيجدون الأمن والعافية، والطمأنينة، والعدل، والسعادة، والرضا، والقوة، والتقدم، وستأتي إليهم الدنيا راغمة، وسيأتيهم رزقهم رغداً؛ لأن الله عز وجل خلق كل شيء من أجل الإنسان، وخلق الإنسان لعبادته، قال تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (2).

إنَّ الذين يتفاخرون بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 م، ويعدونه المثل الأعلى في الروابط الإنسانية، ويعتقدون أنه لم ينسج على منواله شيء من قبل، وينظرون إليه على أنه قمة الحضارة؛ إن أولئك يتجاهلون الإسلام، ومعاملته الكريمة للإنسان، وحفظه لحقوقه، وتنظيم شؤون حياته، على نحو يكفل له الحياة الكريمة، ويهدیه سبيل الرشاد، ويجنبه مهاوي الرّدى والهلاك، كما أنهم يتجاهلون الدور البارز لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في إرساء دعائم حقوق الإنسان وحرياته في ضوء تعليمات القرآن الكريم، ومن خلال معطيات الدين الإسلامي الحنيف، من أجل ذلك ينبغي الكشف لأولئك الجهلة أو المتجاهلين عن وجه الإسلام الناصع، والدور الكبير لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المجال، وبطبيعة الحال فلا وجه للمقارنة بين ما في الإسلام من ذلك، وبين إعلانهم الذي يتشدقون ويتفاخرون به.

ومما لاشك فيه أنَّ الإسلام كان له فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات، والاتفاقيات الدولية، في تناوله لحقوق الإنسان وتأصيله وتحديده لتلك الحقوق منذ أكثر

ص: 253

من أربعة عشر قرناً من الزمان، وما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات والوثائق الدولية مما فيه مصلحة مُحقّقة للإنسان، وللمجتمع الإنساني ما هو في حقيقته إلا تردید لبعض ما تضمنه الإسلام في هذا الخصوص، الذي تميّز عنها بكفالته لكافة حقوق الإنسان وحمايته لها؛ فجاءت تشريعاته في هذا الخصوص جامعةً مانعةً؛ فاقت بذلك كل ما عرفته و تعرفه المدنية بكل هيئاتها ومنظماتها وفروعها.

وليس أدلُّ من ذلك عهد سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي لما ولاّه على مصر، فقد جمعت هذه الوثيقة أمهات السياسة وأصول الإدارة في قواعد حوت من فصاحة الكلم وبلاغة الكلام وحسن الأسلوب ما لا يمكن وصفه، ولكن قد يُدهش المرء إذا ما علم أنه ليس لهذه الوثيقة تداولاً على ألسن المتكلمين بالعربية، مع أنه كان من الواجب أن مثل هذه الوثيقة تحفظ في الصدور لا في السطور، وقد يكون السبب في ذلك أنه يرجع إلى أحد أمرين أولهما ندرة وجود المصادر التي تشتمل على هذه الوثيقة وعدم تیسر الحصول عليها، ثانيهما ما اعتدناه من التكاسل عن مطالعة الكتب إذا كانت كبيرة الحجم، فأخذت على نفسي أن أزيل هذين المانعين وأتناول بشيء من الإيجاز أهم الحقوق الواردة في هذه الوثيقة العظيمة.

ص: 254

المبحث الأول الحقوق الأساسية عند الإمام علي (عليه السلام)

إن حقوق الإنسان منظومة متكاملة وكل جزء منها لا يتجزأ كونها تصب لصالح الإنسان، ولكن هذه الحقوق تتفاوت من حيث الأولوية والأهمية، فالمهم منها يعدّ أساساً لغيره، فإذا فُقد الأساس والأصل فُقد البناء والفرع، وعليه فسنتطرق من خلال هذا المبحث إلى ما يمكن عدهُ حقوق أساسية للإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في هذه الوثيقة العظيمة، لذلك سنقسم هذا المبحث على مطلبين، نتناول في الأول (حق الإنسان في الحياة)، ونبحث في الثاني (حق الإنسان في أن يُحكم بالعدل).

المطلب الأول: حق الإنسان في الحياة

شدّدت الوثيقة على احترام الحق في الحياة، وحذّر الوالي من أن يعتدي على هذا الحق، أو يتهاون في معاقبة من يسلبه من أحد من الناس، فإن الحياة في فكر الإمام علي (عليه السلام) لها قيمة عليا تتغلب على الموت، وأن أي اعتداء لإزهاق حياة إنسان، هو اعتداء على الإرادة الإلهية الموجدة والمانحة الوحيدة للحياة من جهة وجريمة بحق الإنسانية جمعاء، وسلب لحق أساس من حقوق الإنسان ألا وهو (حق الحياة) من جهة أخرى، لذا فان الإمام (عليه السلام) نظر إلى القتل أنه جريمة كبرى فيحذر (عليه السلام) الأشتر قائلاً (ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأن فيه قود البدن) (3).

بل أن الإمام (عليه السلام) وقف بالضد من التهديد باستخدام القتل وما دونه من تعذيب وإهانة وما شابه من وسائل انتقاص الإنسان وتحت أي ذريعة ليقر بذلك (حق الأمن) للمجتمع (4)، فقد أشار (عليه السلام) إلى أنَّ من سلبيات مجتمع الجاهلية، قبل

ص: 255

عهد الرسالة الإسلامية، هو تفشي ظاهرة انعدام الأمن وشيوع سفك الدماء فيتوجه بخطابه إلى العقول أين ما كانت أو وجدت فيقول: (فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله)، وأن سمات الدنيا في ظل انعدام الأمن تكون (متجهمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة وطعامها الجيفة وشعارها الخوف ودثارها السيف) (5).

وقد كان (عليه السلام) على الصعيدين الفكري والعملي حاسماً في موضوع القصاص من الدماء على وفق تفاصيل فقهية قانونية متعددة من جهة، والمساواة في حق الحياة للجميع من جهة أخرى، إذ أعلن الإمام أن رئيس الدولة وولاته وكبار موظفيه وصغارهم يخضعون على حبي سواء لقانون صيانة الدماء، أي القصاص فيقول (عليه السلام) في عهده للأشتر ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء ادعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة)) (6).

والحقيقة هناك جملة من الأمور يمكن استنتاجها من هذا النص، منها:

1. تأكيد حرمة الدماء وأن حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

2. المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لا ضمانات للمنصب أو شاغله في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

3. إن سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي إلى الاضطراب وهو من الأسباب المهمة للثورات لأن (لكل دم ثائراً، ولكل حق طالباً) (7) على وفق وصف الإمام.

وبناءً على احترام الإمام الحق الحياة نلاحظ انه حكم على جريمة التحريض أو الأمر

ص: 256

بالقتل أو بعقوبة أخرى تتناسب مع الجرم والشكل القانوني للجريمة (8) وكان (علیه السلام) يقول: (من أعان على مؤمن فقد برئ من الإسلام) (9) وأشار الإمام كذلك إلى عملية القتل المعنوي وذلك بهدم كرامة الإنسان إذ تضمنت هذه الوثيقة: (وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعني به. مما قد وضح للعيون؛ فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم).

ومن بين المميزات الرئيسة للرؤية العلوية لحقوق الإنسان تبرز مسألة تقديسه (عليه السلام) للحياة وانعكاس ذلك على إقراره مبدأ مسؤولية الحكومة والمجتمع اتجاه حياة الإنسان وأنه (لا يبطل دم امرئ مسلم) (10) وأن (الدم لا يبطل في الإسلام) (11)، فإن الانعكاس النظري لهذا المبدأ كان على صعيدين: الأول حفظ دماء المسلمين وان كانوا في غير بلاد الإسلام، والثاني حفظ دماء من هم تحت حكم الإسلام كافة، وبغض النظر عن ديانتهم وانتماءاتهم.

وأما على الصعيد العملي فإن النموذج العلوي في الحكم کرس مبدأ حق الحياة وجعل منه حقا للشعب إزاء الحكومة، إذ تعامل مع حفظ الحياة، كمبدأ وليس عملية يمكن له استغلالها سياسياً أو تتدخل فيها عوامل ذاتية لحادث الاعتداء على الحياة ومن ثم تخرج عن الهدف المتمثل بصيانة الدماء ابتداءً.

ووفقاً لما تقدم يمكننا القول إن حفظ الدماء، وصيانتها وإلحاق القصاص بالمعتدين مهما كانت أسماؤهم أو مناصبهم كان من الروافد المهمة للسياسة العلوية على أرض الواقع، ولابد من الإشارة في هذا المجال إلى مبدأين على جانب من الأهمية بشأن حفظ الحياة وهما مسألة التقية، وأن حفظ النفس الإنسانية أولى من تطبيق النصوص الشرعية.

إن هذين المبدأين يتشكلان نتيجة للفهم العلوي العميق للإسلام، فقد روي عن الإمام (عليه السلام) قوله: (التقية ديني ودين أهل بيتي) (12)، والتقية - كمبدأ أول -

ص: 257

بمعناها العام هي (التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل أو قول مخالف للحق (13) وهي أداة لحفظ النفس والعرض والمال من الملكة من قبل العدو سواء كان مسلماً وغيره (14).

ويستمد مبدأ التقية أهميته في حفظ الحياة، ولاسيما في وقت الاضطهاد ووجود الخطر والتحدي مع ضعف القدرة أو انعدامها للتصدي له، من كونه رخصة شرعية (15) فضلاً عن كونها رخصة عقلية أيضاً، فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله موصياً رجلاً من شیعته: (و آمرك أن تستعمل التقية في دينك، فإن الله عز وجل يقول «لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً» (16)).

وأما المبدأ الثاني فليس بعيدا عن الأول، بل هو امتداداً له، فحينما يوجد تقاطع بين نصوص الشريعة مع الوجود الإنساني، فالأولوية تكون اضطراراً لحفظ الحياة عند الإمام علي (عليه السلام).

ومن هذا كله يتضح أن حق الحياة هبة من الله تعالى إلى الإنسان، وقد أجمعت عليه الشرائع والأديان، وهو مأخوذ من الحديث النبوي الشريف (كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه) وهو ما جاء في خطبة الوداع (إنَّ دمائكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وينبني على هذا الحق مجموعة من الأحكام الشرعية المهمة، منها تحريم قتل الإنسان، لقوله تعالى: «...وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (17)، وأن هذا الحق يتساوى فيه الناس جميعاً بمجرد الحياة لا فرق بين شریف ووضيع وبين عالم وجاهل وبين عاقل ومجنون وبين بالغ وصبي وبين ذكر أو أنثى وبين مسلم وذمي.

ص: 258

المطلب الثاني: حق الإنسان في أن يُحكم بالعدل

تعدّ العدالة إحدى القيم الرئيسة التي يجب أن تحققها للناس أي حكومة ناجحة، ولا يمكن أن يكون هناك حكم ناجح إلاّ إذا كان عادلاً، وانتشرت في عهد الإمام علي (عليه السلام) أفكار العدالة وضرورة تحقيقها في أكثر من موضع، لذا يمكن القول إن حق الإنسان في أن يُحكم بالعدل يعدّ أحد أهم الحقوق التي وردت في هذه الوثيقة.

ويجد هذا الحق أساسه في ضرورة أن ينعم الإنسان بها كون القضاء العادل هو انعکاس مهم لحق الإنسان في المساواة العادلة من جهة، وأداة لرفع الظلم والحيف عن المظلومين واسترداد حقوق المستضعفين من جهة ثانية، فضلاً عن أن القضاء العادل هو الضمانة الإجرائية في مواجهة أي انتهاك لتلك الحقوق من جهة ثالثة.

لقد أبرز الإمام علي (عليه السلام) التقاضي كضرورة وحق مهم من حقوق الإنسان، وحمّل (عليه السلام) الحاكم الشرعي مسؤولية صيانة (حق التقاضي) بكل تفرعات هذا الحق ومتطلباته المادية والمعنوية، لذا نجده (عليه السلام) ينبه الأشتر في بداية الوثيقة إلى أنه سيحكم مصر، وهي بلد كبير سبق أن حكمها قبله حضارات وأمم سابقة يجب التنبه إلى كيف ساسوا هذه البلاد ليتعظ بتجربتهم ويحكم بخبرتهم وبالذات في مسائل العدل والإنصاف، وتقول الوثيقة: (اعلم، يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت... (وهنا يأمر الإمام (عليه السلام) الأشتر أن يشح بنفسه، وفسّر له الشح ما هو؟ فقال (عليه السلام): (أن تنتصف منها فيما أحبّت وكرهت، أي لا تمكنها من الاسترسال في

ص: 259

الشهوات، وکُن أميراً عليها، ومسيطراً وقامعاً لها من التهوّر والانهماك) (18).

إن تأكيد الإمام (عليه السلام) على ضرورة وجود القاضي هو المدخل لمعرفة الشروط الدقيقية التي وضعها الإمام (عليه السلام) لمن يتبوأ هذا المنصب، فالسلطة القضائية (من أعظم سلطات الدولة، بها يفرق بين الحق والباطل وبها ينتصف للمظلوم من الظالم، وإذ تجنح الظروف بهذه السلطة إلى الأسفاف فإنها لا تنزل إلى الحضيض وحدها وإنما تجر معها المجتمع كله أو بعضه، حين تسف وتصير في عون الظالم وتعضد المجرم و حيث أنها تنطق باسم العدالة فإنها تسكت كل فم وتطفئ جذوة الحياة في كل إنسان يتصدى لها، وماذا يحدث حينئذ؟ يستشري الفساد ويعظم الجور وتعم الفتنة ويكون المظلوم في الخيار بين أن يرفع أمره إلى هذه السلطة فيسلب حق باسم العدل بعد أن سلبته إياه القوة وبين أن يسكت حتى تحين الفرصة فيستعيد حقه عن طريق العنف وفي بعض هذا شر عظيم) (19) وحتى لا يصل الأفراد داخل المجتمع إلى هذه النتيجة وضع الإمام نظاماً تُصان من خلاله المؤسسة القضائية ومن ثم تحفظ حقوق الأفراد.

لقد دعا (عليه السلام) إلى صيانة منصب القضاء واستقلاله فإذا لم يكن القاضي مستقلاً في حكمه لا يخضع لتأثير هذا وإرادة ذاك لم تكن هناك سلطة قضائية مستقلة بالمعنى الصحيح، لذلك بعد أن وضح الإمام الشروط التي ينبغي توافرها في القاضي فقد بيّن (عليه السلام) ضرورة توافر الوضع المتميز لمنصب القضاء، إذ يوصي (عليه السلام) الأشتر قائلاً: (ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال عندك) (20) وفي هذا النص يضع الإمام (عليه السلام) ثلاث ضمانات لمنصب القضاء وهي:

أولاً. أن يتعاهد الحاكم قضاء قاضيه، وينظر فيما يصدره من أحكام فإن ذلك (كفيل أن يمسك القاضي عن الانحراف ويستقیم به على السنن الواضح لأنه حينئذ يعلم

ص: 260

أن المراقبة ستكشف أمر الحكم الجائر ووراء ذلك ما وراءه من عار الدنيا وعذاب الآخرة) (21)، ومن الواضح أن الإمام أنشأ عملية توازن بين السلطة السياسية والسلطة القضائية من جهة فبيّن أهمية أن يخضع جميع أبناء الأمة للسلطة القضائية بما فيهم الحاكم نفسه، كما فعل الإمام ذلك عملياً عندما وقف أمام القضاء وهو الخليفة مع شخص من أهل الذمة - غير مسلم ولكنه مواطن - حول ملكية درع ومن ثم كان الحكم لغير صالحه بسبب انعدام البينة (22) ويذهب محمد مهدي شمس الدين إلى (إن الإمام أقر مبدأ فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية وأعطى للقضاء شخصية مستقلة ومنفصلة عن شخصية الحاكم السياسي أو الحاكم الإداري، وهذه خطوة متقدمة في تنظيم الدولة والاجتماع السياسي في الإسلام) (23).

ثانياً. تحقيق الكفاية المادية والاقتصادية لمن يتولى مركز القضاء من جميع النواحي لينقطع الطمع من نفسه فيجلس للقضاء وليس في ذهنه شيء من أحلام الثروة والمال أو يلقي خوف الفقر بظلاله على فكر القاضي وسلوكه، لذلك جاء في عهده (عليه السلام) للأشتر: (وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس) (24) وقد أجزل (عليه السلام) العطاء لولاته الذين يؤدون وظائف القضاة ورفع حاجتهم الاقتصادية (25) کما أن تأكيد الإمام على ضرورة تحقيق اکتفاء مادي ومستوى اقتصادي جيد للقضاة إنما كان لإزالة أي تبرير أو تسويغ أو دافع لأخذ رشوة في الحكم، إذ عدّ الإمام الرشوة بآثارها السلبية أداة لتحطيم المجتمع وقيمه، ولاسيما في مجال القضاء، إذ يقول (عليه السلام): (إنما اهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه) (26) وحين سُئل عن تفسير قوله تعالى «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» (27)، قال (عليه السلام): (السحت في الآية الرشا، فقيل له في الحكم؟ قال ذاك الكفر) (28).

ثالثاً. تعزيز المكانة المعنوية للقاضي، إن القاضي في رؤية الإمام (عليه السلام) إنسان

ص: 261

يخاف على ماله أن ينهب ويخاف على مكانته أن تذهب، ويخاف على كرامته أن تنال، ويخاف على حياته أن يتعدى عليها بعض من حكم عليهم من الأقوياء، فإذا لم تكن لديه ضمانات تؤمنه من كل ذلك اضطره الخوف إلى أن يصانع القوي لقوته والشرير لشره، وحينئذ يطبق القانون من جهة واحدة يطبق على الفقراء والضعفاء الذين يؤمن جانبهم (19).

ولقد أكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة تحقيق العدل القضائي لأصحاب الديانات الأخرى في ظل الدولة الإسلامية، وكان الإمام (عليه السلام) يوصي الأشتر قائلاً: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم)، وقد لجأ الإمام إلى القضاء حين كان خليفة مع رعايا الدولة من أصحاب الديانات الأخرى سواءً كانوا يهوداً أو نصاری (30). وكان النظام القضائي في عهد دولة الإمام يساوي بين رعايا الدولة مع مراعاة الخصوصية الدينية لهم (31) حتى روي أنه (عليه السلام) (كان يستحلف اليهود والنصارى في كنائسهم والمجوس في بيوت نيرانهم) (32)، ولعل من أهم سبل تدعيم العدالة القضائية هو المبدأ الذي دعا إليه (عليه السلام) وهو تقنين الجرائم والعقوبات، إذ يعد هذا المبدأ مطلباً مهماً للفئات الاجتماعية المضطهدة وقد رفع كشعار لمنع التحكم الكيفي وإنزال العقوبات الانتقامية بالناس، ولاسيما ضد المعارضين منهم للأنظمة الحاكمة (33).

وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أسس العدالة، المساواة بين الناس، والإحسان إلى المحسن، والإساءة إلى المسيء وأخذه بذنبه لذا ينبّه سيد البلغاء والمتكلمين (عليه السلام) الأشتر إلى أنه (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة! وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه)، ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الفقرة: (وإذا لم يكن للمحسن ما يرفعه، وللمسيء ما يضعه، زَهِد المحسن في الإحسان، واستمرّ المسيء على الطغيان) (34).

ص: 262

المبحث الثاني الحقوق السياسية عند الإمام علي (عليه السلام)

يقصد بالحقوق السياسية هي تلك الحقوق التي تنظم علاقة الإنسان بالدولة، أو بالمجتمع باعتبار أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه لذلك فإن ظاهرة الحكم هي حالة إنسانية وأن الحقوق السياسية هي حقوق الإنسان بشكل عام، وإن تطلبت بعض الشروط الخاصة لممارستها، وميدان الحقوق السياسية واسع جداً وسيقتصر بحثنا في هذا المبحث على مطلبين تناول كل منها حقاً سياسياً من حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) فالمطلب الأول تناول (حق الإنسان في اختيار عناصر صالحة لحكمه)، أما المطلب الثاني فانفرد ب (حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير).

المطلب الأول: حق الإنسان في اختيار عناصر صالحة لحكمه

مع ما دعا إليه الإمام علي (عليه السلام) حول حق الحرية والمشاركة السياسية، إلاّ أنه تمیز باهتمام خاص بمسألة (الحاکم) و (الحكم) والتي يمكن أن نفهمها بشكل أوسع التعني (کيان الدولة وكامل مؤسساتها وتشمل تعبئة جهازها بالكفاءات وتطبيق شريعتها وإدارة أمورها بالشكل الذي يجعلها محققة لغايات وجودها في النظام السياسي (35). وقبل أن نتناول ماهية هذا الحق في وضع ضوابط خاصة لمن يشغل منصب الحاكم الأعلى في الدولة لابد لنا أن نتطرق إلى أهمية الحاكم والحكومة عند الإمام (عليه السلام).

هنالك عدة أبعاد يمكن من خلالها تلمس أهمية الحاكم والحكومة - عند الإمام - لعل أولها مسألة وجود الحاكم، إذ أن من موارد الاتفاق بين المسلمين وجوب تنصيب

ص: 263

الحاكم إلا من شذ عن ذلك منهم (36) وفي ذلك الوجوب قال الإمام: (أنه لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي. حتى يستريح بر ویستراح من فاجر) (37) وعلى الرغم من السلبيات المرفوضة للحكومة الظالمة إلاّ أن الإمام بعد هذه الحكومة مع الاضطرار أفضل من استمرار الفوضى التي قد تحدث جراء انعدامها فيقول: (أسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم (38)).

وينطلق الإمام بتأكید مهم على ضرورة الحكومة ووجوبها في عهده للأشتر (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل...).

ولأهمية قيام علاقة الحاكم بالمحكومين على أساس حسن الظن فإن الإمام (عليه السلام) في هذه الوثيقة يوصي الأشتر قائلاً: (واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم (وقد روي أن الإمام سأل الرسول (صلى الله عليه وآله) (وهذا السؤال مع ما تشوبه الرغبة بالمعرفة إلاّ أنه يحوي إثارة الموضوع وترسيخه في أذهان الأمة حتى يستوعب البعد السياسي في الدين الإسلامي) حين قال الإمام: (یا رسول الله بأبي أنت وأمي ما منزلة إمام جائر معتي لم يصلح لرعيته ولم يقم فيهم بأمر الله تعالى؟ أجاب الرسول (صلى الله عليه وآله): هو رابع أربعة من أشد الناس عذاباً يوم القيامة إبليس وفرعون وقاتل النفس ورابعهم الإمام الجائر) (39).

وبعد أن عرفنا بإيجاز أهمية السلطة الحاكمة عند الإمام، فإن مسألة الشروط التي يجب أن يتمتع بها من يشغل هذا المنصب غاية في الأهمية عند الإمام، بل أن النظر إلى هذه الشروط المفترضة - فضلاً عن كونها مؤهلات ومتطلبات لقيادة امة صاحبة رسالة

ص: 264

إنسانية عالمية - فإنها حق للأمة أن لا يحكمها إلا أشخاص يمتلكون هذه المؤهلات. وهذه ميزة أخرى تضاف لصالح منهج الإمام في مجال حقوق الإنسان، ألا وهو اهتمامه بمن يحكم كأساس لمعرفة كيفية الحكم.

ويمكن إجمال أهم الصفات التي طالب الإمام أن يتحلى بها خاصةً الإمام وأهل شورته بما يأتي:

1- من الذي يقول لك الحق ولو كان مراً، (ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك).

2- من لا يساعدك على ما تهوى مما يكره الله، (وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما کره الله لأوليائه واقعا (ذلك) من هواك حيث وقع).

3- أن يكون من أهل الورع والصدق، (وألصق بأهل الورع والصدق).

وقد عبّر عن ذلك الإمام السجاد (عليه السلام) في رسالته للحقوق، إذ قال (وأما حق رعيتك بالسلطان: فإن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم. فما أولى من كفاکه ضعفه وذله - حتى صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذا، لا يمتنع عنك بعزة ولا قوة، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله - بالرحمة والخياطة والأناة) (40).

ولعل الجزء الأهم من عملية الوعي السياسي والتي شدد عليها الإمام هو مسألة اختيار مكونات وعناصر المجموعة الحاكمة من شاغلي الوظائف المهمة وهم رؤساء الهياكل الرئيسة لإدارة البلد والذي أطلق عليهم اسم العمال والذين هم بمثابة المحافظين ورؤساء الدوائر العامة في البلد والمشرفين على الأعمال الإدارية والقريبين من الحاكم في إدارة البلاد بتنوعاتهم كافة (41).

إن تكامل هذه الأبعاد في الوعي السياسي للسلطة الحاكمة سيؤدي بالنتيجة إلى النهوض بالأمة لتحقيق الحقوق الأخرى كافة، لذا نرى أن سيد البلغاء والمتكلمين

ص: 265

(عليه السلام) يضع خبرته في الناس لوليه على بلد هام كمصر، ويعطيه خصائص من يتولى مشورته فيستبعد هؤلاء من المشورة: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله).

المطلب الثاني: حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير

من السمات الواضحة في تجربة الإمام علي (عليه السلام) السياسية، هو سعيه (عليه السلام) الحثيث نحو إيجاد وتوسيع دائرة الحرية السياسية وفتح سبل التعبير سواء بحرية القول والفكر والرأي أم بالعمل وتبني المواقف إزاء الأحداث السياسية. فقد كَفَلَ (عليه السلام) حق اختيار الخط السياسي لكل مواطن في أصقاع دولته وشملت هذه الحرية حتى مناوئيه في ظل مبدأ: «دعوهم وما اختاروا لأنفسهم) (42)، إذ كتب (عليه السلام) في عهده للأشتر: (وألزم كل منهم [المحسن والمسيء] ما ألزم نفسه) (43) ويشير البعض إلى هذا البعد في مسيرة الإمام أنه (عليه السلام): (كان يفتح باب الحوار أمام الأفراد والجماعات حرصاً منه على حرية المجتمع وأسباب تطوره، بمعنى أنه لم يعزل الحرية الفردية عن الحرية العامة في مجری قيادته لشؤون المجتمع الإسلامي. وفي أصعب المحن التي مرت بها خلافة الإمام علي ظل تمسكه المبدئي الصارم بالحرية ورفضه الحاسم للإكراه من أي نوع كان) (44).

لقد أكد الإمام (عليه السلام) بأقواله وخطبه وأدائه سواء كمواطن أم كحاكم على مسالة الحرية السياسية، الذي يعد حرية الرأي والتعبير جزءاً منها، ومناهضته الاستبداد والظلم والتجبر.

ففي هذه الوثيقة العظيمة يفتح الإمام (عليه السلام) باب حرية الرأي على

ص: 266

مصراعيه وكذلك النقد والمحاسبة أمام جماهير الأمة، بل أن الإمام يدعو إلى توفير الأمن للمجاهرين بالحق ويجعل من تقبل الرأي الآخر دعوة لمراجعة الذات بالنسبة للحاكم وتصحيح الخطأ وتغير مسيرة العمل نحو الحق والعدل، فتراه (عليه السلام) يمجد الداعين للحق بقولهم وفعلهم، ويطالب بمعاملتهم، بأقصى سبل الاحترام کونهم المرآة الكاشفة عن مواطن الضعف في العملية السياسية فيوصي (عليه السلام) الأشتر قائلاً: (ثم ليكن أثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله الأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع) (45).

وهنا يبرز الإمام ويؤكد حق الأفراد في إبداء آرائهم والتعبير عن معتقداتهم وأفكارهم السياسية في ظل جو من الأمن واحترام الرأي الآخر إشاعته حكومة الإمام، حتى أنه كان يأمر عماله بإيجاد و تغذية روح النقد وحرية الرأي کرکيزة رئيسة في تربية الأمة فيوجه رسالته إلى أحد ولاته حول صيغ التعامل مع الأمة في عصر دولة الإمام وتطبيق الإسلام قائلاً: (احلل عقدة الخوف عن راهبهم بالعدل والإنصاف إن شاء الله تعالى) (46).

وفي سبيل تجاوز الأبعاد السلبية وما يترتب عنها من آثار، وضع الإمام بعض القيود المحددات على حرية الرأي والتعبير تتجسد بالاتي:

1- صيانة حقوق الآخرين، إذ أن حرية القول والفعل تقف عند خط لا يمكن أن يتعداه، إلا من كان ظالما، وهو الكيان المادي والمعنوي للإنسان ف (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه إلاّ بالحق) (47)، على وفق قول الإمام.

2- العلم، أي الإحاطة والتعمق بالشيء أو الشخص قبل إطلاق الأحكام والآراء فيؤكد الإمام مسألة العلم إذ قول: (لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم) (48) والجهل آفة من آفات النقد والآراء الخاطئة، فيقول (عليه السلام): «من جهل شيئاً عابه) (49) (ولا خير في القول بالجهل) (50) بل قد تصل حالة الجهل إلى إيجاد نوع من

ص: 267

العداء في «الناس أعداء ما جهلوا) (51) على وفق رؤية الإمام.

3- الإنصاف في إطلاق الآراء واتخاذ المواقف، فيقول الإمام (قلما ينصف اللسان في نشر قبيح أو إحسان) (52).

4- الأسلوب، بما أن الرأي حقٌ فإن عرضه بنحو مناسب هو من شروط نجاح توظيف الحرية لصالح المجتمع. فيجب أن يراعی نوع التعامل واللفظ وأسلوب التعبير والظروف الزمانية والمكانية والمخاطب والمتغيرات الأخرى، فإن (من أسرع للناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون) (53) ويحذر الإمام كذلك من الاندفاع فيقول (هذا اللسان جموح بصاحبه) (54) و (اخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة) (55) وينصح الإمام كذلك بتجنب الإطلاقية في اتخاذ المواقف والآراء فيقول (عليه السلام): (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) (56).

وأجاز الإمام حرية تبني المواقف السياسية للأفراد والجماعات، فكان يقول لمعارضيه، وهم تحت سلطانه: (كن من أمرك ما بدا لك) (57) وفي ضمن حرية الرأي والكلمة، مع مراعاة الضوابط السابقة وكانت الساحة السياسية لدولة الإمام تعج بعملية تساؤل وشفافية في شتى القضايا التي قد تهم الفرد والجماعة (58).

ص: 268

المبحث الثالث الحقوق الاجتماعية والاقتصادية عند الإمام علي (عليه السلام)

تعد الحقوق الاجتماعية والاقتصادية من المواضيع المهمة في منظومة حقوق الإنسان كونها أسلوباً لحياة الفرد وآلية لتنظيم المجتمع وسنتناول أهم هذه الحقوق عند الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر وذلك في مطلبين، إذ سنخصص المطلب الأول لدراسة (حق العامل في أجر يكفيه) وندرس في المطلب الثاني (حق الإنسان في الضمان الاجتماعي).

المطلب الأول: حق العامل في أجر يكفيه

وهو من حقوق الإنسان الآن، ويرتبط تماماً بالحق في العمل، والحق في أجر يكفي الحاجة، وخطاب الإمام علي (عليه السلام) ينبه إلى أهمية هذا الحق، وإلى ضرورة أن يعطي للوالي لمن يقومون على أمر الناس حقهم من بیت المال، تقول الوثيقة: (واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله (له) سهمه. ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عهدا منه عندنا محفوظاً)، فلقد دعا الإمام (عليه السلام) في عهده للأشتر إلى تهيئة الأحوال المساعدة على إنشاء فرص العمل واحتضان طاقات الأمة فعلى الدولة الإسلامية تنمية كل الطاقات الخيرة لدى الإنسان وتوظيفها لخدمة الإنسان... واستئصال الدولة الإسلامية لكل علاقات الاستغلال التي تسود مجتمعات الجاهلية وبتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان

ص: 269

في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية ستوفر للمجتمع طاقتين للبناء إحداهما طاقة الإنسان المستغل الذي تم تحريره لأن طاقته كانت تهدر لحساب المصالح الشخصية للآخرين، والأخرى طاقة المستغل الذي كان يبدد إمكاناته في تشديد قبضته على مستغليه بينما تعود هذه الإمكانات بعد التحرير إلى وضعها الطبيعي وتتحول إلى إمكانات بناء وعمل (59).

ومن الجدير بالذكر أن العمل يعدّ العنصر الأساس والفعّال في عملية الإنتاج فبالجهد البشري سواء كان ذهنياً أم بدنياً يمكن للإنسان من السيطرة على أجزاء من الطبيعة عبر مراحل تطوره الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثمّ تمكن من سد حاجاته الضرورية في المأكل والملبس والمسكن وغيرها وكان العمل هو السمة البارزة لهذه المسيرة وتطورها والأساس الذي تقوم عليه مهمة عمارة الأرض التي تطيب بها حياة الإنسان فيحقق وعيه وحريته وحاجاته بل ويحقق ذاته الإنسانية والحضارية، وان استمرار العمل يعني استمرار الإنتاج وديمومة التطور ولاسيما إذا ما كان العمل مخططا له ویسنده العلم ويسعى لخدمة البشر.

ولأهمية العمل في المسيرة البشرية، أكد القرآن الكريم القيمة العليا للعمل ودوره في النشاط الاقتصادي، فقد قال تعالى «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (60)، فالعمل بالمفهوم الاقتصادي الإسلامي الذي يؤكده القرآن الكريم هو (العمل الصالح) الذي يأتي قرين الإيمان دائما والذي هو بجوهره (العمل المنتج) ذلك أن كل (عمل صالح) يتضمن بالضرورة (عملاً منتجاً)، إلاّ أنه ليس كل (عمل منتج) بالمفهوم الوضعي هو بالضرورة (عمل صالح) وهنا ينفرد الاقتصاد الإسلامي في مفهومه (للعمل المنتج) وذلك نابع من طبيعة الارتباط بين العمل - لیس کنشاط اقتصادي فقط وإنما كفعل عبادي - وبين (عمارة الأرض) التي ليست هي إنجازاً دنيوياً مجرداً، وإنما إنجاز مرتبط ببعد أخروي كذلك (61).

ص: 270

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإمام (عليه السلام) يكن للعمل المنتج الصالح احتراماً عميقاً ذلك الاحترام انعكس على عدة أوجه إذ يبين (عليه السلام) في هذه الوثيقة أهمية العمل الصالح بقوله (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح) وأن الإسلام هو دعوة للعمل وفقاً لقول الإمام: (لأنسبن الإسلام نسبةً لم ينسبها أحدٌ قبلي: الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل) (62)، ويصف (عليه السلام) المؤمنين أن (قلوبهم في الجنان وأبدانهم في العمل) (63).

والبعد الاجتماعي للعمل، كان حاضراً عند الإمام (عليه السلام) إذ سعى للرفع من شان العمل كقيمة اجتماعية عليا، فإن من عوامل الافتخار عند الإمام (صناعة لا يُستحي منها) (64) وعند ما سئل (عليه السلام) عن الصنعة قال هي: (أخت النبوة وعصمة المروءة) (65)، ويرفض الإمام المعيار الأسري الذي يتخذه بعضهم حائلاً من دون العمل إذ يقول (عليه السلام): (من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه) (66).

ويضع الإمام (عليه السلام) مبدأ (خلق المجتمع المنتج) للتغلب على العوائق التي تقف ضد الارتقاء بالعمل بالنسبة للأفراد إذ (إن الأمة الإسلامية ليست مجرد تجميع عددي للمسلمين وإنما تعني تحمل هذا العدد لمسؤوليته الربانية على الأرض فالأمة الإسلامية مسؤولة داخلياً أن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر أي أن تحول عقيدتها إلى عملية بناء.. فالإيمان ليس هو العقيدة المحنطة في القلب بل الشعلة التي تتقد وتشع بضوئها على الآخرين) (67).

ومهما يكن من أمر فهنالك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد هذا الحق، ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه).

ص: 271

المطلب الثاني: حق الإنسان في الضمان الاجتماعي

كذلك تولي هذه الوثيقة الطبقة الضعيفة عناية خاصة ويوجب أن يعطوا ما يكفيهم من بيت المال، إذ لكل فئة حقوق فيه وهذه عبارة الوثيقة: (ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام الاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خفَّ عليه أو ثقل)، فهذا هو الحق في الضمان الاجتماعي يجب على الوالي أن يعطيه للفقراء والمحتاجين، فهو إذن ليس حقاً مستحدثاً وإنما له أصل في الإسلام منذ وقت طويل، وبذلك يقتحم الإمام علي (عليه السلام) میداناً آخراً في معركته للدفاع عن حقوق الإنسان، وينبري (عليه السلام) مؤكداً (حق الضمان الاجتماعي)، شارحاً أبعاده ومدافعاً ومعززاً لوجوده.

وينبع حق الضمان الاجتماعي عند الإمام علي (عليه السلام) من نظرة الإسلام للإنسان واحترامه له، وفلسفته للحياة وسر وجود الإنسان على هذه الأرض ومهمته الأساسية التي تتمثل بالعبادة وما يتبع ذلك من أسس ووسائل تجعل الإنسان مستعداً لتجسيد الهدف الإلهي والحكمة الإلهية في وجوده وحياته، لذلك فقد فرض الإمام (عليه السلام) على الحكام والولاة والموظفين مساعدة المجتمع وأفراده لتحقيق الأهداف الإلهية والأخذ بيده نحو الكمال والتحرر والرفاه، ومن هذه المسؤولية تنطلق كل الأسس والقرارات التي تتخذ في جميع الأصعدة والتي تصب لصالح إنجاز حق الضمان الاجتماعي (68).

لقد عزز الإمام (عليه السلام) حق الضمان الاجتماعي وذلك في ضمن عدة أبعاد هي:

أولاً. البعد الشرعي الإسلامي (69)، إذ يقول (عليه السلام): (ثم تفقد من أمورهم ما

ص: 272

يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل).

وعدّ الإمام الأموال التي تصرف في سبيل انجاز حق الضمان الاجتماعي جزء من الأموال التي فرضها الله تعالى لصالح بعض فئات الأمة، فهي ليست هبة أو منحة من أحد، إنما هي حقوق يجب أن يُعطوها، وكانت أوامره (عليه السلام) للأشتر عندما ولّاه على مصر تكرس هذه الحقيقة.

ثانياً. البعد الإنساني، يهدف الإمام (عليه السلام) من السعي لتحقيق الضمان الاجتماعي إلى تخفيف العبء عن المحرومين والبؤساء من أبناء الأسرة البشرية كمعيار لتقييم الإنسان وسموه النفسي، إذ يقول (عليه السلام) في عهده للأشتر: (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع).

ويجعل الإمام (عليه السلام) من تحقيق الضمان الاجتماعي أسلوب لتفعيل التماسك بين فئات المجتمع بل هو السبيل لتحقيق العلاقة السامية بين أبناء الأسرة البشرية بأجمعها، فيقول (عليه السلام): (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا وأفضلهم حلما: ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء) (70) ولعل خير من يجب أن يمتلك هذا الحس الإنساني هم قادة المجتمع وحكامه، وهنا سيظهر لنا البعد السياسي.

ثالثاً. البعد السياسي يذهب الإمام إلى أن القيام بحق الضمان الاجتماعي من واجبات الحاكم الأساسية، إذ يقول (عليه السلام) في عهده للأشتر محدداً أهم واجباته ب

ص: 273

(استصلاح أهلها)، ويقول (عليه السلام): (حقاً على الوالي إلاّ يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عباده وعطفاً على إخوانه) (71).

ويجعل الإمام (عليه السلام) من تعزيز حق الضمان الاجتماعي أحد محاور حركته السياسية إذ يقول (عليه السلام): (وتعهد أهل اليتم وذي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسالة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل... واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك)، ويعدّ هذا الجزء من العهد الذي كتبه الإمام (عليه السلام) للأشتر من أوضح وأدق ما في تراث الإمام علي (عليه السلام) بشأن حق الضمان الاجتماعي، ويمكن أن نستنتج من خلاله أكثر من إشارة هامة، وعلى النحو الآتي:

1- رسم آلية وصيغ تنفيذ حق الضمان الاجتماعي ونقله من النظرية المثالية إلى الواقع العملي الملموس.

2- تحديد الفئات الاجتماعية المستفيدة من حق الضمان الاجتماعي، والمساحات التي يعمل فيها والأهداف التي يسعى لانجازها هذا الحق (72).

ولعل من أهم صيغ حفظ کرامتهم هو إعطائهم حقوقهم من دون أن يستشعروا لآخرين بضعفهم وهنا تبرز فلسفة صدقة السر التي شجّع عليها الإمام بوصفه لها (تطفئ الخطيئة وتطفئ غضب الرب) (73) ويعطي الإمام المثال العملي لصيانة الكيان المعنوي للمحتاجين للضمان الاجتماعي، فحين قال له رجل أحتاج إلى مساعدة أجابه الإمام: (اكتب حاجتك على الأرض، أني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك) (74) ويقول (عليه السلام): (الموت أهون من ذل السؤال) (75) في (السؤال يضعف لسان المتكلم ويكسر قلب الشجاع ويوقف الحر العزيز موقف العبد الذليل ويذهب بهاء الوجه) (76).

ص: 274

إن فلسفة الضمان عند الإمام (عليه السلام) هي لصيانة حياة الإنسان المادية والمعنوية، والرفع من شانه وليس الإساءة إليه أو إهانة كرامته، ويوجز الإمام (عليه السلام) مفهومه لآلية العمل في تحقيق الضمان الاجتماعي بقوله (عليه السلام): (المعروف کنز من أفضل الكنوز وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف کفر من كفره وجحد من جحده.. إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله فإذا صغرته فقد عظمته وإذا سترته فقد أتممته وإذا عجلته فقد هنأته) (77) وهذا العمل الضخم المراد إنجازه في المجتمع يستدعي متطلبات مادية توظف لصالح هذا الهدف وهذا ما كان حاضراً عند الإمام (عليه السلام).

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الحق عُرِف في الفكر الإسلامي المعاصر تحت عنوان (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أو (التكافل الاجتماعي في الإسلام)، ويُذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلن حق التكافل الاجتماعي بقوله (ما آمن بيّ من بات شبعاناً وجاره جائع).

ص: 275

خاتمة

وهكذا حاولنا أن نستخلص ما ورد في الوثيقة من الحقوق ولكن الوثيقة في الواقع من أبلغ الوثائق معنی ولفظاً ويجب أن تدرس هي وغيرها ويركز على ما فيها من قواعد ومبادئ أخرى، لا تتصل بالضرورة بحقوق الإنسان وحرياته، وإنما تتصل بدستور العلاقة بين الحاكم والمحكوم بشكل عام، وهي تتناول فنوناً واضحة للتعامل تنبع من تعاليم الإسلام وأسسه ويدخل غالبها في باب السياسة الشرعية، وعبر ما تطرقنا إليه يمكننا التوصل إلى جملة من الاستنتاجات والتوصيات:

أولاً. الاستنتاجات:

1- إن أهم ضمان للحقوق هو تقوى الله سبحانه وتعالى والإحساس أنه يراقبنا في السر والعلن، وتقوية المحكومين بالثقة فيهم والبِّر بهم وتعويدهم على مجاهرة الحاكم بالخطأ، وأهم من كل ذلك الحكم فيهم بشريعة الله سبحانه وتعالى.

2- اتضح بكل جلاء من خلال هذا العهد العظيم (وغيره من الوثائق) أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعد تجسيداً حياً للشريعة الإسلامية برافديها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مضافاً إليهما إبداع الإنسان المتميز في تطبيق النص على أرض الواقع ولاسيما في مجال حقوق الإنسان إذ شملت رؤيته مساحة واسعة من تلك الحقوق دعا إليها وجسدها في ميدان التطبيق العملي.

3- دعا الإمام علي (عليه السلام) في عهده للأشتر إلى أن ينعم الإنسان بحق المساواة العادلة في أبعاده كافة سواء البعد الإنساني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو القضائي إلاّ أن الدعوة النظرية والممارسة العملية للإمام (عليه السلام) لترسيخ هذا الحق لم تكن على حساب المعايير الموضوعية للتفاضل بين الناس والتي عمل

ص: 276

بموجبها استناداً إلى الشريعة الإسلامية.

4- في إطار حقوق الإنسان ذات البعد السياسي يبرز حق حرية الرأي والتعبير سواء في رؤية الإمام النظرية أو ممارسته العملية، مؤكداً (عليه السلام) في عهده للأشتر جملة من الضمانات لهذا الحق بهدف تفعيله كونه مقصداً إلهياً شرعياً وآلية مهمة لاطلاع الحكومة على سلبياتها وأخطائها، وإنشاء وترسيخ الوعي السياسي، والتخلص من سبات العقل والركود الفكري للوقوف بالضد من ظهور الاستبداد في الواقع السياسي الإسلامي والإنساني على حد سواء.

5- لقد منح الإمام علي (عليه السلام) الإنسان في هذه الوثيقة حق المشاركة السياسية في شؤون وطنه واختيار حكامه وتقديم الشورى والنصيحة وتبادل الآراء بين الحاكم والمحكوم لإيجاد أفضل الوسائل الممكنة وصياغتها عبر قرارات تخدم الإنسان والمجتمع، بالإضافة إلى حق الأمة في قبول أو رفض السياسات العامة والتي تتكامل مع حقها الأصيل بالرقابة الشعبية لعمل السلطة والقائمين عليها.

6- إن العمل حق من حقوق الإنسان على وفق رؤية الإمام علي (عليه السلام) لذلك دعا (عليه السلام) في هذه الوثيقة إلى احترام العمال، وخلق المجتمع المنتج، والسعي الجاد لتوفير فرص العمل عبر ضبط الحياة الاقتصادية، وتعزيز دور القضاء الاقتصادي، وتنظيم العمل في المجتمع، وتشجيع العمران والتخطيط الاقتصادي، ومنع السخرة وضرورة حصول العمال على حقوقهم بالأجور العادلة والحياة الكريمة.

7- يعد حق التقاضي من ابرز الحقوق التي دعا إليها الإمام علي (عليه السلام) من خلال هذه الوثيقة، مؤكداً (عليه السلام) ضرورة أن ينعم الإنسان بحتمية إيجاد القضاء العادل من خلال تحديد مواصفات مميزة للقضاة تتمثل بالعدالة والعلم وجملة من السمات الشخصية النبيلة. ومن جهة أخرى فإن الإمام أكد نزاهة القضاء وحياديته عبر الموازنة بين السلطة السياسية الحاكمة والسلطة القضائية، وتحقيق الكفاية المادية،

ص: 277

وتعزيز المكانة المعنوية لمن يتولى منصب القضاء مؤكداً (عليه السلام) على شرط العدالة وتطوير القضاء ومراعاة آدابه، وكل ذلك صيانة للإنسان ورعايته في شتى شؤون الحياة.

ثانياً. التوصيات:

1- إن إشاعة وتعميم تجربة الإمام علي (عليه السلام) ورؤيته لحقوق الإنسان ببعديها النظري والعملي، عبر نشرها والأخذ بها كمنهج عمل في المؤسسات الرسمية والدينية والاجتماعية في مجتمعنا ستسهم بلا شك في تطور الوعي والممارسة لحقوق الإنسان من أجل تقديم نموذج حضاري.

2- نحتاج إلى الكشف عن كنوزنا واستخدام بضاعتنا بدلاً من الجري وراء غيرنا، واستخدام معايير لحياتنا تختلف عن الأصالة التي نجدها في تاريخنا وتراثنا.

3- نقترح فتح باب هام لدراسات وثائق هامة موجودة بكثرة في تاريخنا وتحتاج إلى كثير من الصبر للكشف عن معانيها ولبيان ما فيها من أحكام تفصل المجمل من أحكام الكتاب والسُنة، وترينا كيف فَهِم الأئمة والعلماء والقادة هذه النصوص، وكيف قاموا بتطبيقها في حياة الأمة الإسلامية.

ص: 278

الهوامش

1. سورة الملك، الآية 14.

2. سورة الذاريات، الآية 56.

3. أية القصاص.

4. عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة (تاریخ الخلفاء)، ج 1، تحقیق علي الشيري، مطبعة أمير، إيران، ط 1، 1413 ه، ص 174.

5. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 1380 ه خطبة 88، ص 140.

6. المصدر نفسه، کتاب 53، ص 41.

7. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج 1، شرح محمد عبدة، دار الذخائر، قم، 1412 ه، ص 201.

8. ينظر: أبو بکر احمد بن الحسن البيهقي، السنن الکبری، ج 8، دار الكتب العلمية، بیروت، 1434 ه، ص 41.

9. كاظم مدير، الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ج 2، مؤسسة الطبع والنشر التابعة للأستانة الرضوية المقدسة، مشهد، 1417 ه، ص 365.

10. لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام)، سنن الإمام علي (عليه السلام)، نور السجاد، قم، طا، 1420 ه، ص 475.

11. المصدر نفسه، ص 475.

12. میرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، ج 21، تحقیق مؤسسة آل البيت، مؤسسة آل البيت، بیروت، 1987، ص 252؛ وحول جملة من أقوال

ص: 279

الإمام (عليه السلام) حول التقية ينظر: حسن القبانجي، مسند الإمام علي (عليه السلام)، ج 9، تحقيق الشيخ طاهر السلامي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 2000، ص 73 - 160.

13. أبو القاسم الموسوي الخوئي، مصباح الفقاهة، ج 1، إعداد وتحقيق محمد علي التوحيدي، المطبعة الحيدرية، النجف، 1954، ص 453.

14. محمد حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، ج 5، تحقیق مهدي المهريزي، دار الهادي، إيران، 1419 ه، ص 75.

15. ينظر: سورة النحل، الآية 106 وسورة المؤمن، الآية 28 وسورة آل عمران، الآية 28 إضافة إلى أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) وسيرة الأنبياء (عليهم السلام) والصحابة حول هذه التفاصيل ينظر: محمد حسن القزويني، الإمامة الكبرى والخلافة العظمی، ج 1، تعليق: مرتضى القزويني، مطبعة النعمان، النجف، 1958، ص 165 - 196؛ مرتضى الأنصاري، التقية، تحقيق فارس الحسون، مؤسسة قائم آل محمد، قم، 1412 ه، ص 24 وما بعدها.

16. سورة آل عمران، الآية 28.

17. سورة الأنعام، الآية 151.

18. ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 17، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، ط 2، 1425 ه، ص 23.

19. محمد مهدي شمس الدین، دراسات في نهج البلاغة، دار الزهراء، بيروت، ط 2، 1972، ص 60.

20. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، کتاب 53، ص 557.

21. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 64.

ص: 280

22. محمد طي، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، بیروت، 1997، ص 103.

23. محمد مهدي شمس الدين، عهد الأشتر، المؤسسة الدولية، بيروت، ط 2، 2000، ص 120.

24. حسن القبانجي، مسند الإمام علي (عليه السلام)، ج 9، مصدر سابق، ص 496.

25. ينظر: باقر شريف القرشي، موسوعة الإمام أمير المؤمنين، ج 9، تحقيق مهدي باقر القرشي، مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية، قم، 1422 ه، ص 28، وما بعدها.

26. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، کتاب 79، ص 600.

27. سورة المائدة، من الآية 42.

28. باقر شريف القرشي، مصدر سابق ج 3، ص 65. وكذلك ينظر: میرزا حسین النوري، مصدر سابق، ج 17، ص 354؛ حسن القبانجي، مصدر سابق، ج 6، ص 495 - 496.

29. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 65. وحول هذه الفكرة ينظر أيضاً: د. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الإمام علي عليه السلام، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 2004، ص 58.

30. حول هذه المواقف والحوادث ينظر: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي، المجموع، ج 2، دار الفکر، بیروت، 1419 ه، ص 129؛ علي بن الحسن الشافعي ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، ج 7، دراسة وتحقيق علي الشيري، دار الفكر، بیروت، 1995، ص 487؛ أبو الفدا إسماعيل ابن کثیر، البداية والنهاية، ج 8، تحقیق وتعليق علي الشيري، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ط 1، 1988، ص 5.

31. حول بعض تفاصيل الخصوصية القضائية ينظر: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن

ص: 281

اسحاق الكليني، الكافي، ج 8، تصحیح و تعليق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1388 ه، ص 215.

32. لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام)، مصدر سابق، ص 486.

33. محمد طي، مصدر سابق، ص 117.

34. عز الدين بن هبة الله بن محمد ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، ط 2، 1967، ص 33.

35. أحمد حسين يعقوب، النظام السياسي في الإسلام، مؤسسة أنصاریان، قم، ط 3، 1424 ه، ص 189؛ ومن الجدير بالذكر أن النظام في اللغة هو الخيط الذي ينظم فيه اللؤلؤ ونحوه ينظر: محيي الدين الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس في جواهر القاموس، ج 17، دار الفكر للنشر والطباعة والتوزيع، بیروت، 1994، ص 689.

36. حول هذا الموضوع ومن شذ عنه ينظر: أبو محمد علي بن احمد (ابن حزم)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 1975، ص 87؛ علي بن إسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ج 2، تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة، القاهرة، 1950، ص 133؛ عبد القاهر بن طاهر البغدادي، أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 1981، ص 277 - 278. ومن الكتب الحديثة التي تناولت الموضوع بشيء من التفصيل ينظر: محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1967، ص 145 وما بعدها؛ وحول أدلة الجوازات ينظر: علي عبد الرزاق، الإسلام وأصول الحكم، دراسة محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972، ص 113 وما بعدها.

37. لبيب بیضون، تصنیف نهج البلاغة، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط 3،

ص: 282

1417 ه، ص 325، وفي المعنى نفسه ولكن باختلاف يسير ينظر: أحمد بن يحيی بن جابر البلاذري، أنساب الأشراف، تحقیق و تعليق الشيخ محمد باقر المحمودي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1974، ص 351.

38. محمد الريشهري، میزان الحکمة، ج 1، دار الحدیث، قم، ط 1، 1416 ه، ص 98؛ أبو عبد الله بن سلامة، دستور معالم الحكم ومآثر مکارم الشيم، المكتبة الأزهرية القاهرة، 1980، ص 17.

39. محمد الريشهري، مصدر سابق، ج 4، ص 3383.

40. رسالة الحقوق، الحق رقم (18).

41. عبد الرضا الزبيدي، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي، مكتبة فدك، بیروت، ط 1، 1998، ص 236؛ وينظر كذلك: توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، ط 3، 1990، ص 106.

42. خالد محمد خالد، في رحاب الإمام علي (عليه السلام)، دار الإسلام، القاهرة، 1997، ص 124 - 125. حول هذا المبدأ ينظر: ابن أبي الحديد، مصدر سابق، ج 13، ص 309 - 311.

43. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، کتاب 53. ص 551.

44. محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، تحرير صادق اليعقوبي، دار الملاك، بیروت، ط 1، 2003، ص 6.

45. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، کتاب 53، الصفحة 551. ولشرح هذه الفقرة بشيء من التوسع ينظر: توفيق الفكيكي، مصدر سابق، ص 133 - 143.

46. أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، مصدر سابق، ص 158.

ص: 283

47. المصدر نفسه، ص 702.

48. المصدر نفسه، ص 705.

49. محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأبرار، ج 66، مؤسسة الوفاء، بیروت، ط 2، 1983، ص 79.

50. لبیب بیضون، مصدر سابق، ص 705.

51. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 28، ص 696.

52. عبد الواحد بن محمد بن تميم الأمدي، تصنیف غرر الحکم و درر الكلم، تحقیق المصطفى الدرايتي، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط 1، 1416 ه، ص 213.

53. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 31، ص 609.

54. لبيب بیضون، مصدر سابق، ص 705.

55. ويقول (عليه السلام): «هانت عليه من أمر عليها لسانه» محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 2، ص 602.

56. المصدر نفسه، حكمة 259، ص 661.

57. ابن قتيبة الدنيوري، مصدر سابق، ج 1، ص 74.

58. فقد سأل الإمام (عليه السلام) من قبل مختلف الأشخاص عن شتى القضايا، مثل موقفه من الحكام الذين سبقوه، والحروب التي خاضها، ومستقبل الأمة، وشرعية حکومته.... الخ من مسائل السياسة. ينظر: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ص 97؛ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، ج 2، دار

ص: 284

الفكر، دمشق، 1979، ص 55 وما بعدها؛ نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، تحقیق عبد السلام محمد هارون، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، ط 2، 1382 ه ص 321.

59. محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ص 93.

60. سورة التوبة، من الآية 105.

61. جاسم محمد شهاب البجاري، دراسات في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي، مطبعة الجمهور، الموصل، 1990، ص 38.

62. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 120، ص 627.

63. المصدر نفسه، خطبة 192، ص 379.

64. میرزا حسين النوري، مصدر سابق، ج 21، ص 92.

65. محمد تقي التستري، قضاء الإمام علي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، 1992، ص 123.

66. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 29، ص 605.

67. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، وزارة الإرشاد الإسلامي، إيران، ط 2، 1403 ه، ص 97.

68. فاضل الموسوي الجابري، العدالة الاجتماعية في الإسلام، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1421 ه، ص 264.

69. هناك آيات قرآنية تحارب الفقر وتدعو إلى تحقيق الضمان الاجتماعي، سورة البقرة، الآيات (177، 261)، سورة الحشر، الآية 14؛ سورة المعارج، الآية 24.

70. کافي الدين أبو الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، تحقیق

ص: 285

حسين الحسيني، دار الحديث، قم، 1376 ه، ص 28.

71. كاظم مدیر، مصدر سابق، ج 1، ص 193.

72. د. خضیر کاظم حمود، السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بن أبي طالب، مؤسسة الباقر، بیروت، 1999، ص 11. ويقول محمد مهدي شمس الدين في حديثه من طبقات المحرومين في المجتمع: (لقد لاحظ الإمام هذه الفئات جميعاً وأمر بإنشاء مرجعية خاصة لهم في الدولة... «ينظر: محمد مهدي شمس الدين، عهد الأشتر، مصدر سابق، ص 152.

73. محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج 8، تحقیق عبد الرحیم رباني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983، ص 523.

74. محمد باقر المجلسي، مصدر سابق، ج 17، ص 407.

75. کافي الدين أبو الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي، مصدر سابق، ص 32.

76. کاظم مدير ، مصدر سابق، ج 1، ص 528.

77. أحمد بن يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، دار صادر، بیروت، 1973، ص 210 ويقول (عليه السلام): (لا يستقیم قضاء الحوائج إلاّ بثلاث: باستصغارها التعظم، وباستكتامها لتظهر، وبتعجيلها لتهنأ). يراجع: محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، مصدر سابق، حكمة 95، ص 621.

ص: 286

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، ط 2، 1425 ه.

2. أبو الفدا إسماعيل ابن کثیر، البداية والنهاية، تحقيق و تعليق علي الشيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1988.

3. أبو القاسم الموسوي الخوئي، مصباح الفقاهة، إعداد وتحقيق محمد علي التوحيدي، المطبعة الحيدرية، النجف، 1954.

4. أبو بکر احمد بن الحسن البيهقي، السنن الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424 ه.

5. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك (تاریخ الطبري)، دار الفكر، دمشق، 1979.

6. أبو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني، الكافي، تصحیح و تعليق علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1388 ه.

7. أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي، المجموع، دار الفکر، بیروت، 1419 ه.

8. أبو عبد الله بن سلامة، دستور معالم الحكم ومآثر مکارم الشيم، المكتبة الأزهرية، القاهرة، 1980.

9. أبو محمد علي بن احمد (ابن حزم)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 1975.

10. أحمد بن يحيى بن جابر البلاذری، أنساب الأشراف، تحقیق وتعليق الشيخ محمد باقر المحمودي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1974.

ص: 287

11. أحمد بن يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بیروت، 1973.

12. أحمد حسين يعقوب، النظام السياسي في الإسلام، مؤسسة أنصاریان، قم، ط 3، 1424 ه.

13. باقر شريف القرشي، موسوعة الإمام أمير المؤمنين، تحقيق مهدي باقر القرشي، مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية، قم، 1422ه.

14. توفيق الفكیكي، الراعي والرعية، المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد، ط 3، 1990.

15. جاسم محمد شهاب البجاري، دراسات في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي، مطبعة الجمهور، الموصل، 1990.

16. حسن القبانجي، مسند الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق الشيخ طاهر السلامي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 2000.

17. خالد محمد خالد، في رحاب الإمام علي (عليه السلام)، دار الإسلام، القاهرة، 1997.

18. د. خضير کاظم حمود، السياسة الإدارية في فكر الإمام علي بن أبي طالب، مؤسسة الباقر، بیروت، 1999.

19. عبد الرضا الزبيدي، في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي، مكتبة فدك، بیروت، ط 1، 1998.

20. عبد القاهر بن طاهر البغدادي، أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 1981.

21. عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة (تاریخ الخلفاء)، تحقیق علي الشيري، مطبعة أمير، إيران، ط 1، 1413 ه.

22. عبد الواحد بن محمد بن تميم الأمدي، تصنیف غرر الحکم و درر الكلم، تحقیق المصطفى الدرايتي، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط 1، 1416 ه.

ص: 288

23. عز الدين بن هبة الله بن محمد ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، ط 2، 1967.

24. علي بن إسماعيل الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقیق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة، القاهرة، 1950.

25. علي بن الحسن الشافعي (ابن عساکر)، تاریخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق علي الشيري، دار الفکر، بیروت، 1995.

26. علي عبد الرزاق، الإسلام وأصول الحكم، دراسة محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972.

27. فاضل الموسوي الجابري، العدالة الاجتماعية في الإسلام، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1421 ه.

28. کاظم مدير، الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، مؤسسة الطبع والنشر التابعة للأستانة الرضوية المقدسة، مشهد، 1417 ه.

29. کافي الدين أبو الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، تحقیق حسين الحسيني، دار الحديث، قم، 1376 ه.

30. لبيب بیضون، تصنیف نهج البلاغة، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، ط 3، 1417 ه.

31. لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام)، سنن الإمام علي (عليه السلام)، نور السجاد، قم، ط 1، 1420 ه.

32. محمد الريشهري، میزان الحكمة، دار الحديث، قم، ط 1، 1416 ه.

33. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، وزارة الإرشاد الإسلامي، إيران، ط 2، 1403 ه.

34. محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأبرار، مؤسسة الوفاء، بیروت، ط 2، 1983.

ص: 289

35. محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقیق عبد الرحیم رباني، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1983.

36. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبریزیان، مؤسسة دار الهجرة، إيران، 1380 ه.

37. محمد بن الحسين الموسوي البغدادي الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، دار الذخائر، قم، 1412 ه.

38. محمد تقي التستري، قضاء الإمام علي، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1992.

39. محمد حسن البجنوردي، القواعد الفقهية، تحقيق مهدي المهريزي، دار الهادي، ایران، 1419 ه.

40. محمد حسن القزوینی، الإمامة الكبرى والخلافة العظمی، تعليق: مرتضى القزوینی، مطبعة النعمان، النجف، 1958.

41. محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، تحرير صادق اليعقوبي، دار الملاك، بيروت، ط 1، 2003.

42. محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، دار المعارف، القاهرة، ط 4، 1967.

43. محمد طي، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، بیروت، 1997.

44. محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، دار الزهراء، بيروت، ط 2، 1972.

45. محمد مهدي شمس الدين، عهد الأشتر، المؤسسة الدولية، بيروت، ط 2، 2000.

46. محيي الدين الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس في جواهر

ص: 290

القاموس، دار الفكر للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت، 1994.

47. مرتضى الأنصاري، التقية، تحقيق فارس الحسون، مؤسسة قائم آل محمد، قم، 1412 ه.

48. ميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت، مؤسسة آل البيت، بيروت، 1987.

49. نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، ط 2، 1382 ه.

50. نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتب العلمية، بیروت، 1988.

51. د. نوري جعفر، فلسفة الحكم عند الإمام علي عليه السلام، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2004.

ص: 291

ص: 292

اخلاقيات السياسة الاسلامية بين النظرية والتطبيق عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه) انموذجا

اشارة

د. الشيخ حسن كريم ماجد الربيعي النجف الاشرف /جامعة الكوفة كلية الفقه / قسم العقيدة والفكر الاسلامي

ص: 293

ص: 294

المقدمة

هذا بحث بعنوان: (اخلاقيات السياسة الاسلامية بين النظرية والتطبيق عهد الامام علي عليه السلام لمالك الاشتر انموذجا)، اخترته اولا: تلبية للدعوة الكريمة من القائمين على مؤتمر: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر حين ولاه مصر، وثانيا: لبيان جينولوجيا السياسة في الاسلام واحكامها الاخلاقية المترابطة التي دعا اليها الامام علي في ادارة الدولة، والاخلاقيات التطبيقة من اهم الفلسفات العالمية التي تدعو اليها الدول المتطورة.

كم كتبنا من كتب على هذا العهد العظيم في معاهدنا وجامعاتنا وحوزاتنا؟، القليل ولم نعمق بحوثنا من تراثنا، وتعد هذه المبادرة مهمة جدا على ان تتحول البحوث ذات الجدوى الى مسار عمل في بناء الدولة لا ان تترك هذه البحوث للسمة الاعلامية فقط.

يتحقق جدوى البحث في التمييز بين النظم الاسلامية بشكل خاص والنظم الاخرى بشكل عام، كخصائص تميز النظام الاسلامي لانظم المسلمين وفق القانون والعقيدة والاخلاق، والعامل الاخلاقي متداخل في العلوم النظرية والعملية تداخلا بلا انفكاك في النظرية الاسلامية، وتترابط الافكار والاعمال في المنظومة السياسية الاسلامية وهي ممارسة الامام علي في ادارة الدولة والعهد هو السياسة العملية في الادارة، نجد في العهد مفردات اخلاقية تهم المسؤول وترشده الى العمل الصالح وتطبيقه على ارض الواقع.

قسم البحث الى مبحثين: الاول: الكلمات المفتاحية للبحث، والاخر: السياسية الاخلاق تأصيل نظري و عملي، نتمنى ان نعطي صورة يقينية عن سياسة الاسلام ودور الاخلاق فيها كمرتكز فعلي يميزها.

البحث بحاجة الى فتح الافاق له كبنية اساسية في الدراسات السياسية والتاريخية للغور في اعماقه وتحويله الى الادارة المعاصرة لكل مسؤول يدير الامور ويتصدى لها، فعلي عليه السلام النموذج في المعارضة و النموذج في السلطة.

ص: 295

المبحث الاول الكلمات المفتاحية

وردت في العهد عدة الفاظ مهمة تمس المسؤول والامام يعطي التصدي للمسؤولية عناية خاصة و يوسع ما ينبغي فعله تمازجا مع السياسة والسياسي.

نحاول هنا التركيز على الاهم بما تضمنه العنوان: اي السياسة، الاخلاق.

اولا: السياسة:

ساس الامر يسوسه سياسة دبره وقام بامره (1)، التدبير وتولي الامور سياسة، وربما تنظيم الاشياء باي اتجاه سياسة ايضا وفق هذا التعريف.

وجاء التعريف المصطلحي للسياسة منذ اقدم الازمنة،ما قبل ارسطو ربما زمن الحضارة البابلية وقبلها لحاجة الانسان للتدبير و القيام بالامر منذ زمن الاسرة الاولى

لقد وصفت السياسة بانها امتداد للحكم والحكومة، وفن علاقة الحكم او مجموعة الشؤون التي تهم الدولة في اطارها الوطني (2).

تطور المصطلح كثيرا اذ تشعبت لفظة سياسة في مضامين حسب القيدية في الدولة و الضبط و المال و المجتمع والقانون و غيرها ففي الدولة يشير الى الادارة المدنية لضبط منتظم و راسخ او شكل من اشكال الحكم،و في اوربا توحي بالادارة المدنية او الحكومة المنظمة (3) وهذا غير بعيد عن تنظيم الولاية او الدولة في سياق العهد.

وانا اقرأ (لغة السياسة في الاسلام) لبرناد لويس استغربت حيث يقرأ السياسة بالمقلوب من الدولة العثمانية الى ما قبل الاسلام و الاعتيادي و المنطقي ان نقرأ الاصل ومدى تطوراته المختلفة و المطابقة لنظم الاسلام لا لنظم المسلمين، و لكن ربما هي قراءة

ص: 296

جديدة لواقع مع حضرياته والتنقيب عنه، فالسياسة قد عرضها العرب قبل الاسلام ثم انتظم العرب في دولة الاسلام و الخلافة و السلطة.

يذكر لويس هدف الدولة التي اسست من قبل الله (4)، التحقيب التاريخي للمفردات و المفردات المقاربة في ثقافة برنارد لويس غير كافية في معرفة حقيقة السياسة في الاسلام، فدراسة النماذج العلمية والمقارنات مع نظم الاسلام و سياسته النظرية والعملية تعرف الاشياء على واقعها، لم يتعرض الكثير من المستشرقين وغيرهم الى طبيعة فهم السياسة عند الامام علي عليه السلام، اذ يرى مشاركة الحاكم والمحكوم في تدبير الدولة والولايات التابعة لها، الحاكم باخلاقه ومراعاته، والمحكوم بتفهم قرارات الحاكم وتنفيذها للصالح العام او الخاص.

من الغريب قول الكثير عن غياب النص السياسي (5)، ووظائفه في السياسة، اذا كانت السياسة إدارة الدولة فالحاكم يمكن توصيفه وتمكينه، يؤكد الاسلام بالاجماع عن البحث عن عدالة الراوي والشاهد والقاضي والمحتسب وغيرها من العنوانات، فكيف بالحاكم الاول او الرئيس؟، فالوصف: عنوان يحدد الوظيفة ومؤهلات الموصوف في مكانه الاصلي، وها هي النبوة ثم الامامة سواء السياسية او الدينية او كلاهما، فالشيعة يعتقدون بإدارة النبي او المعصوم او من يخول عنهما.

ص: 297

فسياسة النبي او سياسة المعصوم (الانسان الكامل، الانسان الارقى) البحث عن مفهوم العدالة وتحقيقها، ان مصطلح الانتخابات لدى الناس او البحث عن توافق في الاختيار وفي الاصل البحث عن عدالة المنتخب، وفعلا تم في خلافه الامام علي عليه السلام، بالانتخاب الجماهيري حكم الامام وليس بالنص سنة 35 ه.

لو كان البحث عن صفات الحاكم ونصوصه لما حدثت الفتن، فالسياسة الاسلامية تعني تطبيق الاسس والمبادئ التي جاء بها الدين خدمة للمجتمع والانسانية، في النظر والعمل، الفعل التأسيسي لصياغة دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي طبق الاصل النظري، اي الاصول ثم التفريع طبق الاصل واطاره لا خارجه كما حصل في الواقع.

ربما السؤال والاشكالية تطور السياسة الى نزاع وصراع داخلي، وربما هو نتاج فهم خاطئ لادارة الدولة، او الهيمنة والغاء الآخر؟، لماذا تطورت السياسة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لجملة من الصراعات بين الجيل الاول والثاني؟، بعد صعود الهيمنة والانفكاك عن مستلزمات موازية لها (الاخلاق).

وكذلك القوة في موقع المنصب، القوة العادلة اي قوة العدالة في الادارة الحقة، ولكن يبدو ان الثقافة المهيمنة لقوة قريش والتكوينات بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دعمت ظهور القوة بدافعها ليس بدافع السياسة الاسلامية الخالصة، بإعتقاد ان الاجتهاد حل من الحلول في إدارة الدولة، ولكثرة الاخطاء رتبت القاعدة (إجتهد فإخطأ) فعصمت الحاكم بهذه الايديولوجيا السياسية. كان النص والتعيين في السياسة الاسلامية يحقق اليقين الامتدادي للرسالة بلا شائبة مبتدعة او المسامحة في الحكم بقاعدة (إجتهد فأخطأ).

ص: 298

فالنص والتعيين هو الامتداد الطبيعي لاصل النظرية، لذلك احتاج من لم ينص عليه اختيار لقب خليفة، لذلك عبر علي اومليل في كتابه (السلطة الثقافية والسلطة السياسية): احتياج الحاكم لهذا اللقب للتواصل مع الرسول وعدم الخروج عن سلطانه سلطانه ويعد نفسه القيم على الوصل بين السياسة والشريعة (6).

ثانيا: الاخلاق

خلق: الخُلُق، وقد يقال: رجل خليق اي: تم خَلقُهُ، وهذا رجل ليس له خلاق، اي: ليس له رغبة في الخير والخلوق: من الطِّيب، وفعلُه: التخليق والتخلق (7) في حين يعرفه الراغب الاصفهاني (ت 5,2 ه) في مفرداته: خص الخُلُقُ بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: ((وإنك لَعَلَى خُلُقٍ عظيم)) (8)، والخَلاقُ ما اكتسبه الانسان من الفضيلة بخلقه (9).

ربما يظهر من هذين التعريفين انه سلوك مكتسب يتعلمه الانسان ويفعله ولا ينفع الکلام به بلا سلوك ناتج من تربية خاصة اسرية او مجتمعية اصلها العقل او الدين، ومع هذا فإن الاخلاق قوة اجتماعية ونفسية يسعى اليها والى تكوينها الجميع وهي في السياسة اولى واهم، وعلم الاخلاق علم موضوعه الاحكام القيمية التي تتعلق بالاعمال التي توصف الحسن او القبح، وفي ضوء ذلك تكون واجبة في الحكام دون المحكوم، الوجوب العقلي و الشرعي، و الشرعي ارشادي، وهذه الحالة للنفس تكون راسخة تصدر الافعال من خير او شر من غير حاجة الى فكر و روية (10)، لذلك نقول: هذه هي اخلاقه سواء صدر منه الخير او الشر.

وفي التعريف الاصطلاحي: الاخلاق: مجموعة قواعد السلوك مأخوذة من حيث هي غير مشروطة، او هي نظرية عقلية في الخير و الشر (11)، ربما ان البحث الاخلاقي قد

ص: 299

هيمنت عليه الفلسفة باعتباره يرجع الى العقل و الحس المشترك ولكن البحث الدقيق يجد ان اهم مصادره الاديان التي تدعو الى الفضيلة والاخلاق، بل ربما طغت على تعاليم الاديان باجمعها الفكرة الاخلاقية، تجد ذلك واضحا في كل نصوص الاديان، ولكن لازال البحث الاخلاقي بحثا فلسفيا، و مع الاسف منه، مع ان الاحكام جرد البحث الفقهي الفقهية و السياسية متلازمة بل اثر من اثاره.

يقول احمد بن مسکویه (ت 421 ه)، في كتابة (تهذيب الاخلاق): غرضنا في هذا الكتاب ان نحصل لانفسنا خلقا تصدر به عنا الافعال كلها جميلة (12)، و الاخلاق: هي خيرات، و فضائل، و اطرافها التي هي شرور ورذائل (13)، والخير هو غرض افعال الانسان، فان كل الفنون، وكل الابحاث العقلية المرتبة، و جميع افعالنا، وجمیع مقاصدنا الاخلاقية يظهر ان غرضها شيء من الخير نرغب في بلوغه، وهذا هو ما يجعل تعريفهم للخير تاما اذ قالوا: انه هو موضوع جميع الامال (14) قال تعالى: (واوحينا اليهم فعل الخيرات) (15).

يؤكد النص القرآني على وحي الخيرات كاصل عقلي وارشادي ديني، بل غرض الوجود فعل الخيرات في الادارة او في غيرها.

الافعال الاخلاقية ربما تخضع لقانون اجتماعي او ديني او حتى سياسي اي تقنين الاخلاق لحفظ المجتمع بالفعل السياسي.

يعتمد الامام علي عليه السلام الفعل الاخلاقي الى الامر به و هو ربما التقنين الاخلاقي للحاكم، لذلك جاء في صدر العهد: (هذا ما امر به عبد الله علي امير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده اليه) (16)، تعرض الامام عليه السلام الى الالفاظ الاخلاقية بعنوان فعليتها عند الحاكم:

ص: 300

1. التقوی.

2. ایثار الطاعة.

3. اتباع القران من فرائضه وسننه (تحقيق السعادة بهما).

4. الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5. الأمر بكسر الشهوات.

ثالثا: اخلاقيات السياسة في النظرية الاسلامية

يربط العهد ربطا وثيقا بين الحاكم والاخلاق، فقد تطرق للعلاقة بين الاخلاق والسياسة اذ امر الاشتر بعدة اوامر باعتبار منصبه وهي مقومات يتسلح بها لادارة الحكم باخلاق (17):

6. العمل الصالح والخوف من الله (السياسة الدينية).

7. تهذيب النفس دائما (التطبيق).

8. الرحمة بالناس (رعاية المجتمع).

9. الانصاف (الاخلاق).

10. اللطف (الحاكم ومجتمعه).

11. الانسانية (شرائح اجتماعية مختلفة).

12. الابتعاد عن الظلم (تحقيق القانون).

13. الابتعاد عن الاغترار والاستئثار (الحاكم القدوة).

14. وغيرها من المقومات التي ذكرها في عهده تعبر عن اصالة السياسة في الاسلام: اي مشروطة بالتمازج مع الاخلاق بالفعل التطبيقي.

لم تكن السياسة في الاسلام عبارة عن فن الممكن او آلیات مفتوحة للحصول على السلطة باي ثمن كان، وان كان الوصول للسلطة غير معيب، وقد تصل الى السعي الواجب اذا كان الهدف اسمي في تحقيق العدالة.

ص: 301

يريد الاسلام تحقيق الأهداف: السعادة والسياسة عن طريق العدل والإنصاف اي شیوع السعادة الاخلاقية في اوساط المجتمع، مع هذا فلا نجد في سياسة المسلمين بعد مقتل الامام عليه السلام الا القتل و التشريد و الهيمنة و التسلط و الاستغلال حتى انتهت الخلافة في مؤتمر انقرة و لم تحقق للمسلمين اي سعادة، لانها في الواقع انفصلت وانفكت عن هذه المبادىء العظيمة، لابد من جمع السياسة والاخلاق، وان لم يتح للامام تحقيق ذلك في مصر.

هل يريد الامام تحقيق السعادة عن طريق السياسة، فعلا كنا نقرأ أن الاسلام اذا حكم يحقق العدالة الاجتماعية، لان الحاكم في الاسلام هذا هو نظامه فلا وجود لفساد اخلاقي او اداري او مالي او كل اشكال الفساد، و لكن الثقافة و عولمتها غيرت النفوس و اصبحنا تحمل الاسلام اسما بلا محتوی.

تحولت السياسة الى ايديولوجيا حزبية وتكتلية مقيتة في عصرنا اليوم، خالية من الجمع المستفاد من ثقافة أن السياسة اخلاق، مثلما ان الدين اخلاق و معاملة.

حول الفكر الغربي المنظومة الاخلاقية الى قانون اجتماعي واصبح ثقافة تجد ذلك واضحا في الدول الاوربية. ربما يشكل بان السياسة و الياتها قد تغيرت كثيرا، اقر بذلك ولكن الاخلاقيات الاساسية لن تتغير، فقد تغيرت تقنيات السلطة و نظرياتها، الا ان الاخلاقيات دائمة عقلا ونقلا، يعاني عصرنا بعد وصول التيارات الاسلامية التي كان يحلم بها المسلم في عصر القوميات والايديرلوجيات المختلفة، ولكن خاب امله وظهرت هذه التيارات على حقيقتها الزائفة وفشلت في ادارتها، لان عنصر الخلق الديني الاسلامي و الاخلاق قد ضاع او استلب تماما فكثرت السرقات وظهر الفساد بابشع صوره، وعادت المجتمعات تحن الى الماضي بعد ما فقدت الأمل بالحاضر والمستقبل.

ص: 302

المبحث الثاني السياسة والاخلاق

اولا: التأصيل النظري

يؤكد النص القراني على الاستقلالية السياسية، بل الاستقلالية الاكتفائية لانها تشكل قوة لهم (للمسلمين) قال تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (18)، وهذا النص يشير الى الدولة وقيادة المسلمين لانفسهم تشكل القوة والارادة مبدأ اساس في فلسفة الدولة الاسلامية ولكنها قوة عدالة لا قوة بغي واعتداء، بعيدا عن المعنى الفقهي و استفادة الفقهاء معاني اخر غير الذي نذكره، و أنه ربما يتحمل عدة معان، يحفز هذا النص على الاكتفاء و الاستقلال وعدم التبعية اي سياسة بلدهم بانفسهم بما يرضي اوامر الله الموجهة لصلاح الناس، ومنه قوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ» (19)، يدل هذا النص على وجوب دفع الظلم و الامر بالمعروف و الحكم بالعدل و غير ذلك و هو النظام السياسي الاسلامي اي مقارعة الظلم (20)، وهنا امتزج السياسي بالاخلاقي ومن هذه النصوص وغيرها، يؤصل الاسلام لنظامه السياسي و الاخلاقي، فان غاية السلطة و الحكم تحقيق العدالة و السعادة ونکر ان الذات والمصالح الشخصية، قال الامام علي عليه السلام: (أَمَرَهُ بتقوى الله) (21)، والتقوى فضيلة أخلاقية وسجية سلوكية، فقد ربط الامام عليه السلام الحكم والادارة بالتقوى وبيَّن عليه السلام لمالك الاشتر اهمية العمل الصالح: (فليكن احب الذخائر اليك ذخيره العمل الصالح...) (22).

عندما تستعرض الآيات القرانية والنصوص الحديثية تجد الربط الواضح بين

ص: 303

السياسة والاخلاق، يذكر الإمام في عهده: (فإن في الناس عيوبا الوالي احق من سترها) (23)، (لاتدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل) (24)، وهنا يمكن ان ننقط الاطار التنظيري في الجمع بين السياسة والاخلاق:

1- قوة الدولة في الاسلام.

2- قوة الدولة بعدالتها.

3- دفع الظلم ومقارعته.

4- العمل الصالح ذخيرة الحاكم.

5- التقوی در جة مقومة لسلوك الحاكم.

6- الحاكم والمجتمع (الستر، والفضل).

والقول بالفصل بين السياسة والاخلاق هو خطأ محض وكبير لذلك سعت الشعوب لاختيار حكامها وفق القيم الاخلاقية وبسط عدالة الحاكم وفق نظريات عدالة الحكم السياسي، والعدل والإنصاف قیم اکسيولوجية تحقق الاهداف والاغراض، وهو ما اكد عليه الامام علي عليه السلام من بداية عهده الى نهايته وربط بين المفهومين اللذين يحققان الحكومة والادارة الناجحة، وبإختيار الحاكم العادل والمنصف تتحقق المعاني السامية في الدولة.

لقد رد الامام علي عليه السلام على الخوارج لما سمع قولهم: (لا حكم الا لله): كلمة حق يراد بها باطل، نعم انه لاحكم الا الله، ولكن هؤلاء يقولون: (لا أمرة الا الله) (25)، حقا لابد من حكومة تحكم بحكم السياسة ليس بحكم واهواء الاشخاص او تكفيرهم، السياسة والاخلاق لا التكفير والقتل وفرض الامر الواحد والثقافة الواحدة، الله سبحانه قد اعطى الطريق في الاشياء واوعز ذلك الى حكم الاختيار والعقل والاخلاق في إدارة الدولة والافراد والمساواة وغيرها من شؤون السياسة.

ص: 304

وعلى الحاكم ان يقرب العلماء في المدارسة والمناقشة، وهنا يطرق الامام عبارة مهمة في التأصيل السياسي والاخلاقي، (و اکثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبیت ما صلح عليه امر بلادك واقامة ما استقام به الناس قبلك) (26).

يؤكد الامام في هذا النص على رفض الاستبداد السياسي والديني وان المستبد هالك وان كانت له بقية في الحكم نتيجة استبداده وعدم سماعه النصائح التي تخدم المجتمع وتطوره، و من يفهم بطلان نظرية الحكم المطلق أو بالحق الالهي كما تأسس في فكر الدولة الاموية والعباسية التي ادعت بالوصية والقرابة والدول التي ظهرت في الاسلام في اغلبها افردت السياسة والحكم عن الدافع الأخلاقي وابعدته قهرا.

وقديما قال ارسطو: (في حقيقة الامر علم السياسة والتدبر هما استعداد اخلاقي واحد بعينه، ولكن صورة وجودهما ليست واحدة) (27)، وفي العهد نجد تدبيرا نفسيا وتدبيرا اجتماعيا وسياسيا واخلاقيا، يؤسس لادارة نموذجية لو تحولت الى مسلك عملي وفعلي.

هذا التأصيل النظري لبناء الدولة لم ير النور في اغلب دول الاسلام، لانه فعلا يحتاج الى نماذج خاصة مثل مالك الاشتر او غيره، وصناعة النماذج وان كانت غير مستحيلة الا انه لم تحفل بسياسة تحاكي الاطر النظرية.

يعطينا الامام صورة رائعة في الاقتداء بنموذجه المصطفى فهو نموذج المعارضة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، و نموذج السلطة بعد خلافته علّم الناس كيف ينقد الحاكم ويسمع لمناصريه ومناوئيه، هذه الصورة ومبادئها العظيمة تشجعنا على البحث عن الاطر النظرية في الحكم وكيف يكون عليه الحاكم او ما تسمى في التراث بالسياسة الشرعية، فقد تشعبت الاراء وتناقضت في الفهم السياسي والاخلاقي للاسلام.

ص: 305

نشأت دول ادعت النظام الاسلامي وهي بعيدة كل البعد عن الجمع بين الفكر السياسي الممزوج بالفكر الاسلامي لقيادة المجتمع الاسلامي.

نموذج التأصيل في النقد كان حاضرا في دولته، فقد خرجت عليه الخوارج، وناقشه عدة من أصحابه واشاروا عليه، بل نقدوه في بعض سلوكياته وخاصة في المساواة في العطاء، وكان يسمع لهم انطلاقا من روح النظرية القرآنية، وقد مارس هو النقد من منطلق المسؤولية، وهو من المواضيع التي طرحتها مرارا وتكرارا لعلّي اجد من يدرس هذا الموضوع، ليكشف لنا عن علاقة الدولة بالمجتمع وهدف اصلاحه او ما يعرف بالنقد الاجتماعي.

ثانيا: التأصيل العملي

هذا العهد وان كان اطاراً نظريا لان مالك الاشتر لم يصل الى ولايته المصرية فقد تعرض للاغتيال بالسم اودى بحياته قرب دخوله مصر، ولكن هذا العهد قد مارسه الامام في ظل خلافته (35 ه - 4.ه) في الكوفة والامصار التابعة للدولة.

يؤكد الامام علي عليه السلام ان السياسة ليست حرفة بل هي مرتبطة بتطبيق العدل والعدالة وتمكين امر الله في ادارة الدولة، وربما ترقى السياسة الى نوع من العبادة، اي يربط بين السياسة والعقيدة والاخلاق متداخلة بينهما.

تحولت السياسة المعاصرة والحديثة بإنها مهنة وحرفة، يذكر ماكس فيبر في محاضرته (السياسة بوصفها حرفة): ومع جعل كل العمليات العقلية عمليات آلية بانه: خواء عقلي، وکذب اخلاقي، وفراغ فني، فقد صارت مهمة الاحتراف السياسي: فناً مخيفا مزيفا، وبالنتيجة يجدر بالعلماء اليوم في المانيا القيام بعمل افضل بدلاً من استهلاك انفسهم في خدمة العمل السياسي اليومي (28).

ص: 306

تبدأ نظرية ماكس فيبر بأهمية العمل، والعلم، واعتبر الشغل وتقديسه من نتائج النمو الاقتصادي في الرأسمالية، سبقه الاسلام بتقديس العمل والكد، وفي المقاربات تلتقي البروستانتية مع الاسلام في تبجيل العمل وتنظيمه، اما السياسة والحكم فلا تعد مهنة او حرفة في الاسلام بل هي واجبة في اقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وردع الظلمة والطواغیت فالتصدي لها خدمة.

كانت خلافته (عليه السلام) من سنة 35 ه الى سنة 4. ه وكان يقول: (يا اهل الكوفة اذا انا خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن) (29)، وكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة من ينبع (30)، وهو خليفة يحكم وبيده الامور والولايات والاموال، فالسياسة في نظره لیست حرفة او مهنة او بحث عن راتب فقد ساوى نفسه بالناس في العطاء باعتبار حقوقهم وهو احدهم.

اعطى امرأة عربية نفس عطاء امرأة اعجمية، وقال: اني لا اجد لبني اسماعيل في هذا الفيء فضلا على بني اسحاق (31)، وربما هذا من باب المثال، روح التساوي في الحقوق هي فكرة المواطنة المعاصرة، فقد غير ثقافة التفضيل التي كانت سائدة قبل خلافته وهذا العمل السياسي افقده الكثير من المناصرة في مجتمع تعود على التفضيل و اعترض عليه طائفة من أصحابه في هذه القضية و حاولوا معه ان يعمل بالتفضيل الذي عمل به معاوية وغيره، وكان جوابه: اتامروني ان اطلب النصر بالجور؟ والله لا افعل ماطلعت شمس وما لاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسیت بینهم فكيف وانما هي أموالهم (32).

هذه هي السياسة و هذه هي الاخلاق وهذا هو الدين الذي جعل الامام يقسم بان يتم التوزيع بالتساوي مما جعل الكثير من رؤساء القبائل في الكوفة يتركوه ويذهبوا الى معاوية، وهنا لابد من التمييز بين السياستين، مجرد التفضيل يصنع النصر کما صنع لمعاوية، لكن المبادىء الدينية التي حكمت السياسة و الاخلاق في الاسلام وليس

ص: 307

العكس، السياسة غاية وهدف بل ان التطبيق الفعلي للاطر النظرية هو الهدف و هو الغاية من الوصول إلى سلطة الحكم وسياسة المجتمع الفعلية.

لقد ادرك الامام المشكلة المالية و السياسية و الاستبداد، المال يصنع الاستبداد، لكن السياسة الاسلامية تؤكد وضع الاشياء في مواضعها لذلك جاء عنه: ((من كان له مال فاياه والفساد)) (33)، كان شديدا في الاموال يقسمه بالسوية، و قد اعطى الناس في عام واحدا ثلاثة اعطية ثم قدم عليه خراج اصفهان، فقال: ايها الناس اغدوا فخذوا، فو الله ما انا لكم بخازن، ثم امر بیت المال فكنس ونضح (34).

كان يتأسی بالنبي لانه نموذجه، هذه هي سيرته السياسية والاخلاقية، فقد جمع بينهما و لانكاد نستطيع التفريق بينهما.

دخل عليه احد اصحابه (عقبة بن علقمة) (ينقل ما شاهده): فاذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين اتاكل مثل هذا؟ (35)، اجابه: رایت رسول الله یا کل ایبس من هذا، ويلبس اخشن، فاذا انا لم آخذ بما اخذ به خفت ان لا الحق به (36).

هذا ما كان يوصي به نفسه و الاخرين ممن عينهم ولاة و على راسهم مالك الاشتر في عهده، فكل ما كان يعمله جاء في العهد أنه ربما يصح لنا ان نقول العهد سيرته السياسية والاخلاقية في الحكم بل هو جينولوجيا الحكم السياسي في الاسلام.

لن يتميز الامام عن مجتمعه حتى في الماكل او الملبس بل اقل منهم لان معياره الفقير في الماكل والملبس، مع انه ليس فقيرا كما يتصور البعض، انها المسؤولية و التاسي بسيرة الرسول ودولته في المدينة المنورة.

فعن سويد بن غفلة قال: دخلت عليه فاذا بين يديه قعب (لبن) اجد ريحه من شدة

ص: 308

حموضته و في يده رغيف ترى قشار الشعير على وجهه، و عاتب سويد اهله، فاخبروه هو امرهم، فاجاب الامام: بابي وامي من لم يشبع ثلاثا متوالية من خبز بر حتى فارق الدنيا ولم ينخل دقیقه، قال: يعني رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (37).

هكذا يصنع الاسلام نماذجه و ديمومتها، هم السياسة وهم الاخلاق و هم المسؤولية، هذا هو معجم السياسة و الاخلاق في الاسلام هذه سیاسته مع نفسه و المجتمع و رفض التمايز بين الحاكم و المحكوم العيش وسط المجتمع، رفع الحواجز عنهم حتى في ماکله و ملبسه، هذه السيرة الفعلية في ظل السلطة و الحكم و الحكومة، هذا هو عهده الذي مارسه و اعطاه الى مالك الاشتر، وربما يقولون لانظرية سياسية في الاسلام.

کما کتب في العهد حرصه على استقلال القضاء و الاهتمام بالقاضي، مارس ذلك فعلا في قضية الدرع، و كانه ليس بخليفة امام القضاء (38)، و قد قضى شريحا للنصراني في ظل دولة المسلمين، ولضمان حفظ المجتمع و فرض القانون الاسلامي اسس السجن، فعن سابق البربري قال: رایت عليا عليه السلام اسس المحبس و هو خص (القصب)، و كان يفرجونه ويخرجون منه فبناه بالجص و الاجر (39).

لم يكن العهد الذي اشتهر بالقرينة لمالك الاشتر فقد كان هناك عهدا اخر سبقه الى اهل مصر ايضا يسمى عهد محمد بن ابي بكر الى اهل مصر وهو لايقل اهمية عن العهد المشهور جاء فيه التنظيم العبادي و السياسي و الاداري و لكنه انتهى به ان اخذ هذا العهد الى معاوية و كان ينظر فيه و يعجبه، و قد اشار عليه الولید بن عقبة أن يحرق، الا ان معاوية عرف اهميته و صرح لخواصه: انا لانقول: ان هذه من كتب علي بن ابي طالب، و لكنا نقول: ان هذه من كتب ابي بكر كانت عند ابنه محمد فنحن نقضي بها و نفتي، فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني امية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي اظهر انها من احاديث علي بن ابي طالب (40) (عليه السلام)، ولاهمية هذا العهد العظيم

ص: 309

المنظم لادارة الدولة والولاية لما بلغه أن ذلك الكتاب صار لمعاوية اشتد ذلك عليه، وقال: اني استعملت محمد بن ابي بكر على مصر فزعم انه لا علم له بالسنة، فكتبت اليه كتابا فيه السنة، فقتل واخذ الكتاب (41)، ويبدو انها مجموعة كتب كتبت، فقد جاء في بعضها: اوصيك بسبع هن جوامع الاسلام، اخش الله ولا تخش الناس في الله، فان خير القول ماصدقه العمل......... الخ (42)، لو دققنا العبارة الاخيرة اي: القول والعمل هو نفسه بالمقاربة النظرية والتطبيق.

وفي نظري ان هذا الكتاب بحاجة الى دراسة معمقة كما درس العهد عدة دراسات، وخاصة من جهة الفكر السياسي في الاسلام وفي عبارة مهمة في بناء الحضارة والثقافة - جاءت في عهد مالك - يحذر الامام من سقوط الدول وزوالها اذا فقدت العمران: (فإن العمران محتمل ما حملته وانما یؤتی خراب الارض من اعواز اهلها، وانما يعوز اهلها لاشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر (43)، العمران هنا اختصاراً لكل المشاريع التنموية للبلاد وهو حث على ان لا يعطل اي مشروع يفيد العباد والبلاد. (44) وكلامه في العمارة يحتاج إلى دراسة معمقة

لربطه بين العمارة وصلاح السياسة، والعمارة والدولة، فقد جاء: (وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم امره الا قليلا (45)، يؤكد في هذا النص على ان العوائد تنعكس على المجتمع وتطوره حضارياً وثقافيا، كالضرائب التي تأخذها الدول اليوم فتنعكس على ازدهارها وتطورها اقتصاديا وثقافيا، وخاصة في الدول المتطورة وعلى العكس منها في الدول النامية والفقيرة، بسبب استغلال السياسة في الإثراء بلا سبب، و ظهور مصطلح السياسي التاجر، والاثراء بالسياسة، وقد اشار الامام في النص السابق: (لاشراف انفس الولاة على الجمع) (46).

ص: 310

الخلاصة:

بعد هذه الجولة السريعة في هذا البحث توصلنا إلى النتائج الآتية:

1- اقتران السياسة بالاخلاق في الفكر السياسي الاسلامي.

2- لمعرفة ذلك تنصب الدراسات على نموذجي الرسول في دولته والامام في خلافته.

3- يمكن تقعيد الفكر الاسلامي وانشاء الدولة الكريمة في الاطر النظرية.

4- اثر النقد الاجتماعي في اصلاح الحاكم والدولة في الاسلام.

5- صلاح السياسة بالعمران.

ص: 311

الهوامش:

(1) الفيومي، احمد بن محمد بن علي المقري (ت. 77 ه)، کتاب المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، (القاهرة: المطبعة الايرية، 1928 م)، ج 1، ص 4,1.

(2) ناظم عبد الواحد الجاسور، موسوعة المصطلحات و السياسية و الفلسفية و الدولية، (بيروت: دار النهضة العربية، 1432 ه / 2٫11م) ص 349.

(3) طوني بينت - لورانس غرو سبيرغ و ميغان موریس، مفتاح اصطلاحية جديدة، معجمم مصطلحات الثقافة و المجتمع، ترجمة: سعيد الضانمي، (بیروت: المنظمة العربية للترجمة، 1 ,2.م)، ص 412.

(4) برنارد لويس، لغة السياسة في الاسلام، ترجمة: ابراهیم شتا، دار قرطبة 1993 م، ص 51.

(5) عبد الاله بلقزيز، النبوة والسياسة، (بیروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2٫11 م)، ص 46.

(6) علي او مليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، (بیروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2,11م)، ص 12.

(7) الفراهيدي، ابو عبد الرحمن الخليل بن احمد (ت 175 ه)، کتاب العين، (بیروت: دار احیاء التراث العربي، 1426 ه/ 2..5م)، ص 265.

(8) اتعلم / 4.

(9) الراغب الاصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، ضبط: هيثم طعيمي، (بيروت: دار احیاء التراث العربي، 1423 ه/ 2002 م)، ص 164.

(10) ابراهيم مصطفی و اخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ص 285.

(11) مراد وهبة، المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979)، ص 12.

(12) مسکویه، احمد بن محمد بن يعقوب الرازي، تهذیب الاخلاق وتطهير الاعراق،

ص: 312

تحقق وشرح: نواف الجراح، (بیروت: دار صادر، 1427 ه/ 2..6م)، ص 9.

(13) المصدر نفسه، ص 28.

(14) ارسطو طاليس، علم الاخلاق الى نيقو ماخوس، ترجمة: بارتلي سانتھلیر، نقلة الى العربية: احمد لطفي السيد، (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1343 ه/ 1924 م) ج 1، ص 167.

(15) الانبياء / 73.

(16) الشريف الرضي، ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف من كلام امير المؤمنين ابي الحسن علي بن ابي طالب عليه السلام، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: صبحي الصالح، (قم: دار الاسوة، 1425 ه)، ص 589.

(17) للمزيد ينظر: نهج البلاغة، ص 589 - 591.

(18) النساء/ 141.

(19) المائدة / 49.

(20) سجاد ایزدهي، افاق الفكر الساسي عند صاحب الجواهر (الشيخ محمد حسن النجفي)، ترجمة: احمد ابو زيد، (بیروت: مركز الغدیر، 1433 ه/ 2٫12 م)، ص 5.

(21) نهج البلاغة، ص 589.

(22) المصدر نفسه، ص 59.

(23) المصدر نفسه، ص 593.

(24) المصدر نفسه، ص 594.

(25) (1) نهج البلاغة، ص 79.

(26) (2) نهج البلاغة، ص 596.

(27) (3) ارسطو، الاخلاق، ج 2، ص 133.

ص: 313

(28) (1) ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة: جورج كتورة، (بیروت: المنظمة العربية للترجمة، 11، 2 م)، ص 2٫7- 1٫8.

(29) (1) الثقفي، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد (ت 283 ه)، الغارات، تحق: عبد الزهراء الحسيني، (دار الكتاب الإسلامي، 141. ه / 199. م)، ص 44.

(3) (2) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

(31) (3) الفارات، ص 46.

(32) (4) المصدر نفسه، ص 48.

(33). الغارات، ص 48.

(34) المصدر نفسه، ص 55.

(35) المصدر نفسه، ص الصفحة نفسها.

(36) المصدر نفسه، ص 56.

(37) المصدر نفسه، ص 57.

(38) ينظر: الغارات، ص 74 - 75.

(39) المصدر نفسه، ص 79.

(4) المصدر نفسه، ص 16.

(41) المصدر نفسه، ص 161.

(42) المصدر نفسه، ص 158.

(43) نهج البلاغة، ص 6,3.

(44) عباس نور الدين، عهد امير المؤمنين عليه السلام الى القادة والمسؤولين، (بیروت: مرکز بقية الله الاعظم، 1998 م) ص 87.

(45) نهج البلاغة، ص 6,2.

(46) المصدر نفسه، ص 6,4.

ص: 314

المصادر والمراجع

القرآن الكريم هو القول الفصل.

ابراهيم مصطفى وآخرون.

1- المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية.

ارسطو طاليس.

2- علم الاخلاق الى نيقوماخوس، ترجمة: بارتلمي سانتھلیر، نقله الى العربية: احمد لطفي السيد، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، 1343 ه/ 1924 م).

برنارد لويس.

3- لغة السياسة في الاسلام، ترجمة: ابراهیم شتا، دار قرطبة 1993.

الثقفي، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد (ت 283 ه).

4- الغارات، تحقیق: عبد الزهراء الحسيني، دار الكتاب الإسلامي، 141 ه/ 199.م. الراغب الاصفهاني، ابو القاسم الحسين بن محمد (ت 5,2ه).

5- المفردات في غريب القرآن، ضبط: هيثم طعيمي، (بیروت: دار احیاء التراث العربي، 1423 ه/ 2002 م).

سجاد ایزدهي.

6- آفاق الفكر السياسي عند صاحب الجواهر (الشيخ محمد حسن النجفي)، ترجمة: احمد ابو زيد، (بیروت: مركز الغدير، 1433 ه/ 2٫12م).

الشريف الرضي، ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي (ت 4,6ه).

7- نهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف من كلام امير المؤمنين ابي الحسن علي بن ابي طالب عليه السلام، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: صبحي الصالح، (قم: دار الاسوة، 1425 ه).

طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ وميغان موريس.

8- مفاتیح اصطلاحية جديدة معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ترجمة: سعید

ص: 315

الغانمي، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 1 20. م).

عبد الاله بلقزيز.

9- النبوة والسياسة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2٫11م).

علي اومليل.

10- السلطة الثقافية والسلطة السياسية، (بیروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2٫11م).

الفيومي، احمد بن محمد بن علي المقري (ت 77.ه).

11- کتاب المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، (القاهرة: المطبعة المنيرية، 1928 م).

الفراهيدي، ابو عبد الرحمن الخليل بن احمد (ت 175 ه).

12- کتاب العين، (بیروت: دار احیاء التراث العربي، 14269 ه/ 2..5 م).

ماكس فيبر.

13- العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة: جورج كتورة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 11 ,2م).

مراد وهبة.

14- المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديد، 1979 م).

مسکویه، احمد بن محمد بن يعقوب الرازي (ت 421 ه).

15- تهذیب الاخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق وشرح: نواف الجراح، (بيروت: دار صادر، 1427 ه/ 2..6 م).

ناظم عبد الواحد الجاسور.

16- موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية، (بيروت: دار النهضة العربية، 1432 ه/ 11 ,2م).

ص: 316

مفاهيم وتطبيقات حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي (عهد الامام علي «عليه السلام» الى مالك الاشتر (رضوان الله عليه) انموذجا)

اشارة

م. د حيدر غانم عبد الحسن / مركز دراسات الكوفة م. م محسن عدنان صالح / مركز دراسات الكوفة

ص: 317

ص: 318

الملخص

لاشك في ان موضوع حقوق الانسان بات مقياس رقي الأمم وتمدن شعبها بمقدار صونها لحريات الفرد ومن هنا قدح في ذهن الباحثين تساؤل مهم عن «تأصيل هذا المفهوم»، هل هو وليد الثقافة الليبرالية، ام ان هناك ثقافات أخرى سابقة، وما سبب رعاية الغرب لهذا المشروع بفرض وجود ثقافات سابقة صاغت قواعد هذا المفهوم.

اقتضت الإجابة على هذا التساؤل البحث في مصادر الفكر الإسلامي، اذا ما سلمنا بأن المشروع الإسلامي «مشروع حضاري متكامل» ينبغي ان تكون حقوق الانسان وحريات الفرد من أولوياته، بدءاً من القران الكريم بوصفه منبع التشريع الإسلامي، ومن ثم دستور الأمة الإسلامية الأول الذي صاغه النبي الكريم، وصولاً الى عهد امیر المؤمنين الى واليه على مصر مالك بن الحارث الاشتر التي تتجاوز كونها وثيقة سياسية الى خلاصة النظرية الإسلامية الهادفة الى صون حقوق الفرد والأمة، تلك النظرية التي لم تستطع الثقافات الأخرى بلوغها الا بعد مخاض عسير و تحولات مهمة مع مطلع القرن العشرين.

وقد اتضح ان مشروع حقوق الانسان مشروعاً إسلامياً في نشأته بل في تطبيقاته أيضاً، تلك التطبيقات التي سمت على عموم الثورات الاجتماعية، لانها لم تقف عن حدود الدين او العرق بل نادت بصون حقوق وحريات افراد الأمة جميعاً.

ولوحظَ أيضا ان المشروع الإسلامي الإنساني لم يقف عن حدود إرساء قواعد هذا المفهوم فحسب، بل عكف على صياغة قوانين تحمي تلك الحقوق من سلطة الحاكم، تلك القوانين التي صاغها امام الإنسانية الامام علي بن ابي طالب في عهده لمالك الاشتر.

ولابد لنا من الإشارة هنا إلى ان الامام علي (عليه السلام) قد رام من وراء صياغة

ص: 319

هذه القواعد الإنسانية بناء المجتمع الفاضل الذي تتجسد فيه اسمى معاني الإنسانية، ليثبت بذلك وبما لا يقبل الشك ان نظرية حقوق الانسان لهي نظرية إسلامية في نشأتها وتطبيقاتها.

المقدمة

شغل موضوع حقوق الانسان اهتمام الباحثين سواء الاكاديميين او سواهم نظراً لأهمية الموضوع في بناء الانسان وتوصيف الامم بعد ان اضحت مسألة حقوق الانسان معیاراً لرقي الامم ومدی تمدن الشعب بمقدار صونها لحريات الفرد.

بدى اهمية البحث من خلال مدى تأصيل مفهوم حقوق الانسان، وهل ولد من رحم الليبرالية؟ ام ان هناك ثقافات اخرى متراكمة، وما سبب رعاية الغرب لمشروع حقوق الانسان، لذا تطلب الاجابة عن هذه التساؤلات ضرورة العودة الى الفكر الاسلامي خاصة ان المشروع الاسلامي مشروع حضاري متكامل برز في الوقت الذي كان فيه الغرب غارق بلجج الظلام وكان من الطبيعي ان يكون لحقوق الانسان وحريات الفرد في مقدمة الحقوق التي بشر بها الدين الاسلامي.

طرح الباحثان تساؤلات عدة حول حقوق الانسان في مدة خلافة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) بدأت بكيفية حق الحياة؟ وهل كان الامن والامان من اولويات الحقوق في فكر امير المؤمنين؟ وكيف صاغ تلك الحقوق بدءاً بحقوق المراءة والطفل وحق التربية والتعليم؟ كل هذه التساؤلات طرحت لتكون اجاباتها ضمن متون البحث.

استند الباحثان على مصادر عدة لوضع اجابات للتساؤلات المطروحة سابقاً تقدمها القران الكريم وبعض المصادر الاسلامية التي كانت خير معين لترجمة بعض الشخصيات الاسلامية وعدد من المراجع الحديثة التي اسهمت في اغناء فقرات البحث فضلاً عن

ص: 320

البحوث المنشورة التي ادلى الباحثين فيها بدلوهم حول هذا الموضوع.

مفاهيم وتطيقات حقوق الانسان في الفكر الإسلامي (عهد امير المؤمنين الى مالك الاشترانموذجا).

حقوق الإنسان لغةٍ واصطلاحاً:

الحقوق لغةٍ: المفرد بالعربية هو (الحق) ضد الباطل، وهو بمعنى الثابت والواجب المقتضي والجمع (حقوق) (1)، والفعل منه (حق) ثبت ووجب، يقال (هو أحق به) بمعنی أجدر ويقال (كان حقاً له في مال أبيه) أي نصيبه وحظّه من ذلك المال، فالحق في المال تعني النصيب، و (الحاقة) هي القيامة لأنها بالحق وتحق كل مجادل في دين الله بالباطل فتحقه أي تغلبه (2).

وعليه فأن المادة اللغوية لكلمة الحق تدور على معاني عدة، منها الثبوت والوجوب واللزوم ونقيض الباطل والنصيب و (حق) الأمر، حَقاً، وحقه. وحقوقاً: صح وثبت وصدق و وجاء في قوله تعالى: «لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ» (3) ويقال يحق عليك (يجي عليك) (4).

الحق اصطلاحاً:

اختلف مفهوم الحق تبعاً لطبيعة المجتمع الانساني وكيانه، فالحق کاصطلاح قانوني يعني السلطة او القدرة التي يقررها القانون لشخص ويكون له بمقتضاها ميزة القيام بعمل معين، واهم ما يميز الحقوق انها قدرة عمل شيء والحماية القانونية التي تكفل احترام و حماية هذه القدرة في مواجهة الغير والحقوق انواع:

1. حقوق سیاسية مثل، حقوق الانتخاب، حق الترشيح، حق تولي الوظائف العامة، حق الملكية.

ص: 321

2. حقوق خاصة، وهي الحقوق التي تنشأ طبقاً لقواعد القانون الخاص بفروعه المختلفة وتشمل حقوق الاسرة التي تقررها قوانين الاحوال الشخصية، والحقوق المالية التي تقررها قواعد المعاملات (5)،

3. يقصد بها الميزات أو المصالح أو الحريات التي يتوقعها الفرد أو الجماعة من المجتمع، أو من الدولة وبما يتفق مع معاييرها. والحقوق من وجهة نظر القانون هي السلطة التي يخولها القانون لشخص لتمكنه من القيام بأعمال معينة تحقيقاً لمصلحة له يعترف بها القانون، كما يمكن تعريفها على أنها المعايير الأساسية التي لا يمكن للبشر أن يعيشوا من دونها بكرامة كأناس، وعليه تكون حقوق الإنسان هي أساس الحرية والعدالة والسلام، وإن من شأن تفعيلها واحترامها أن يتيح إمكان تنمية الفرد والمجتمع تنمية كاملة (6).

واضاف أصحاب القانون الوضعي بأنه: «رابطة قانونية بمقتضاها يخوّل القانون شخصاً من الأشخاص على سبيل الانفراد والأستئثار للتسليط على شيء أو أقتضاء أداء معين من شخص أخر، وقيل الحق هو قدرة أو سلطة إدارية يحولها القانون شخصاً معيناً یرسم حدودها، وقیل الحق مصلحة يحميها القانون، أما علماء المسلمين القدامى فقد ذهب بعضهم إلى تقسيمه الى نوعين:

النوع الأول: حق لله، وهو أمره ونهيه.

النوع الثاني: حق العبد، وهو مصالحه (7).

ويمكننا ان نصوغ جملة من المفاهيم لحقوق الانسان منها انه علم يختص بدراسة الروابط والقيم الاجتماعية لأجل حفظ الكرامة الإنسانية من خلال إقرار وحماية الحقوق (8).

وانها تلك الحقوق المتأصلة لجميع البشر، على اختلاف أجناسهم وقومياتهم أو

ص: 322

أعراقهم أو الوانهم أو أديانهم جميعاً على قدم المساواة في الحقوق الإنسانية من غير تمييز، وتلك الحقوق مترابطة وقابلة للتجزئة، و معنی اخر أنها ضمانات قانونية عالمية يمكن من خلالها حماية الأفراد والمجموعات من إجراءات الحكومات، أن القانون العالمي لحقوق الإنسان يلزم الحكومات بعدم فعل أشياء معاكسة للقانون، كما أن حقوق الإنسان لا تشتري ولا تكتسب ولا تورث، فهي ببساطة ملك الناس لأنهم بشر، فحقوق الإنسان متأصلة في كل فرد وأنها ثابتة ولكل البشر (9).

جاءت اول محاولة واضحة في الموروث العربي الإسلامي لتعريف مفهوم حقوق الانسان على يد (أبو إسحاق الشاطبي) (10) من علماء القرن الخامس الهجري ومن اعمدة علم الأصول اذ كتب في كتاب «الموافقات» (11) في المجلد الثاني تحت عنوان الضروريات الخمسة (حفظ النفس، حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ المال، حفظ العرض)، ليؤكد ابن القيم الجوزية) (12) في القرن الخامس الهجري على تأسیس حقوق الفرد في المجتمع على أساس المصلحة اذ قال «أينما وجدت المصلحة فثمة شرع الله» (13).

وفي ضوء ذلك تكون جذور هذا المفهوم إسلامية وسابقة للمحاولات الغربية التي توجت بالإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان في القرن السابع عشر التي عنت بتقديس الفرد ودوره في بناء المجتمع والضمان الاجتماعي وتأسيس المجتمع الديمقراطي وحرية تكريس رأس المال واحياء الأرض والمساواة (14).

ساهمت الديانات السماوية في تأسيس الوعي بحرية الإنسان اذ انها تعتبر الحياة هبة من الله، وأن الإنسان مجبول على الحفاظ والمثابرة على حياته، فلا يجوز أن يحرم أحد منها ولا يجوز أن ينتهك في شيء حامل الحياة وحاويها وهو الجسم، لأن كل انتهاك أو تأليم أو تعذيب، أو فناء للجسم یعد حرمانا من الحياة أو تنقيص من قداستها، وان المساواة بالحقوق يجب أن تكون متساوية (15).

ص: 323

تكفل الإسلام بإعلان حقوق الإنسان، منذ معرفة وحدانية الله سبحانه وتعالى، اذ خلق البشر وكرمهم أفضل واحسن تكريم على جميع مخلوقاته بقوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (16) ووضع لهم المنهج الذي يسيرون عليه في هذه الحياة، جاعلاً من الإنسان المحور المركزي للمسيرة الإنسانية بحيث تصب كل معطياتها وانجازاتها وطموحاتها في محصلة نهائية هي خير هذا الإنسان، الكون كله، بسماواته وارضه وجماده ونباته وحيوانه، مسخرة لخير الإنسان، أكرم خلق الله عند الله بقوله تعالى «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ» (17).

يمكننا ان نجد تعليلا لهذا الامر هو للواقع المظلم الذي عاشه الفرد قبل الإسلام الذي يمكننا ان نسميه واقع امتهان الكرامات واستباحت الحرمات، فكان من الضروري ان ينهض الإسلام بوصفه مشروعا اصلاحيا بحاية تلك الحقوق سواء كانت للفرد او المجتمع.

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي:

اعترفت الشريعة الإسلامية منذ فجرها الأول بحقوق الإنسان وحريته الأساسية في وقت لم يكن للإنسان حق أو حرية أو كرامة في ذلك المحيط اذ التمايز بين الرجال والنساء والأحرار والعبيد بصورة تنتهك فيه حرية الإنسان بالنسبة للمرأة والعبد، فکان دیدن العرب في الجاهلية هو الاعتداء على أموال وممتلكات بعضهم البعض بل كان ذلك من الصفات المميزة للعرب قبل هداية الإسلام لهم، ولان الشريعة الإسلامية جاءت لتنتشل الناس من ذلك الواقع المرير، اعلن القرآن الكريم الثورة الأولى للحقوق الإنسانية ووضع القواعد الأساسية للأحكام الدينية والمدنية التي يخضع لها المجتمع والدولة ولم يكتف الإسلام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله وحفظ حريته والمنع من العدوان،

ص: 324

وإنما أرسى قواعد العمل على تأكيد وحماية هذه الكرامة ومتطلباتها بإطار حقوقي فيه من الشمولية يفتقر اليه أي نظام قانوني وضعي معاصر، فهو إضافة لتأكيد الكرامة الإنسانية بمفهومها المادي، فقد أعطى للكيان المعنوي للإنسان المتعلق بكرامته حماية أيضاً، فتحریم القتل بغير حق هو تأكيد للحق في الحياة كما جاء في قوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» (18)، کما حرم الإسلام إهانة وإذلال الإنسان (19).

واستكمالاً لهذه الرسالة أعلن الإسلام المساواة بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة، وفي الحقوق المدنية والشؤون والمسؤوليات والجزاء والحقوق العامة، كما ساوى الإسلام في الحقوق المدنية بين الرجل والمرأة واعترف لها بإنسانيتها كاملة ومنحها الأهلية الكاملة في جميع التصرفات کما ساوى الإسلام في الحقوق المدنية بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع، فأعطى الإسلام حقوق للذميين والمعاهدين في بلد الإسلام نفس تلك الحقوق التي يتمتع بها المسلمين، وتطبق عليهم القوانين نفسها التي تطبق على المسلمين، وليصبحوا غير المسلمين في المجتمع الإسلامي أمانة في أعناق المسلمين ومن هنا جاءت تسميتهم بالذميين من ((الذمة)) أي الأمانة التي هي لدى المسلم (20).

فقه الحقوق بعد اصدار الوثيقة:

أن صحيفة المدينة أو دستور المدينة هي الوثيقة المنظمة التي أطلقها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وأعلنها لتنظيم العلاقات الأجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية لمجتمع المدينة بمختلف فئاتهم وقد أورد أبن إسحاق نص الكتاب الذي كتبه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بين المهاجرين والأنصار واليهود والذي يتألف من (5.) فقرة وهي موضع ثقة بين الباحثين لأنها وردت في مصادر مختلفة مع سندها مما يعزز صحتها ويستبعد أن تكون هذه الوثيقة معاهدة تمت بين الرسول واليهود بقدر ما هي إعلان صادر من الرسول بصفته رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ورئيس

ص: 325

دولة المدينة فهي تفتقر الى ذكر الأطراف التي عقدت المعاهدة وعدم الإشارة الى كتابها والموقعين عليها كما هو الأمر في معاهدات الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) التي وقعها مع قريش وغيرهم ومنها صلح الحديبية وغيرها (21).

لقد نظرت وثيقة المدينة الى مجتمع المدينة على انهم أم واحة لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم من خلال فهم دقيق لحقوق الإنسان، فجاء في أحد نصوصها [هذا كتاب محمد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس] (22)، كما جاء: (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود) وعلى هذا يظهر من النصوص الآنفة الذكر أن الأمة في المدينة قد تشكلت من المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب أي من المهاجرين والأنصار ولكنها لم تكن مقصورة عليهم، بل إنها أتسعت لتشمل من تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أي كل من أرتضى أن يكون معهم من أهل المدينة وبذلك شملت الوثيقة المشركين من أبناء قبيلتي الأوس والخزرج أمة من المؤمنين وذلك لأنهم أرتضوا أن يعيشوا في إطار الأمة على وفق المبادئ التي جاءت بها الوثيقة، وبذلك أوجدت هذه الوثيقة حقاً للإنسان أن يعيش في هذا الإطار سواء كان مؤمناً أو مشركاً يهودياً أم غير ذلك طالما أرتضي أن يعيش في إطار النظام الإسلامي الذي يوفر له الحق دون اعتداء عليه، فهذا الإطار السياسي والإجتماعي تعيش فيه جميع الفئات التي ارتضت أن يمثل الإنسان فكرة الإطار الذي تمارس فيه حياتها السياسية وهذا دليل أكدته الوثيقة على مرجعية واحدة لحل المنازعات الداخلية سواء أكانت سياسية أو اجتماعية، فكل حدث أو اشتجار (اختلاف) يمكن أن يتطور ويتحول الى فتنة داخلية يجب عرضه على شخص الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) لمعالجته بالعدل والحكمة كي لا تكون فتنة بين المتخاصمين ولضمان السلم والتعايش والمصالحة بين مكونات المجتمع (23).

ص: 326

كما اكدت وثيقة المدينة على حقوق الأفراد فقد نصت على بقاء التزامات هذه القبائل على ما كانت عليه سابقاً من حيث تكافل افراد كل قبيلة في دفع فدية اسراها ودية من يرتكبون جناية من أفرادها فجميع افراد الأمة متساوون في حق منح الجوار لان ذمة الله واحدة يجير عليهم ادناهم، وحرمت الوثيقة على ان لا يحاسب الفرد الا على اعماله ولا يؤاخذ بجريرة غيره، كما ضمنت حياة الفرد وامواله من ان يقع عليها اعتداء و تجعل واجب الدفاع عنه وحمايته من مسؤوليات الامة بجميع فئاتها، كما نصت على وجوب تعاون الجميع من اجل إيقاع العقاب على الجاني وبذلك تجاوزت مبدأ العصبية القبلية الذي كان قائماً على مناصرة القبيلة لأبنائها ظالمين كانوا او مظلومين (24).

حقوق الإنسان عند الأمام علي (عليه السلام):

نظرة الأمام علي بن أبي طالب الى الوجود لا يتعطل فيها حدّ من حدود العقل والقلب والجسد، ولا يطفئ فيها تأمل الإنسان في الكون والاندماج في كماله، على النظر في حقوق الإنسان المرتبط بالأرض ارتباط عیشٍ وبقاءٍ أو على النظر في حقوق الجماعة المتعاونة في سبيل البقاء وما يقتضيه من مقومات فهو كما دعا الى الإعجاب بروعة الوجود وعجائب الخلق دعا في الحين ذاته الى توجيه الأفراد والجماعات توجيهاً صحيحاً يسير بهم في طريق التعاون الاقتصادي والتكافل المادي الذي يضمن لهم الوصول الى الخير الأكبر، الى المحافظة على كرامة الإنسان المركب من فكر يعمل وعاطفة تتحرك، وجسد له عليك حق ولك بها المعنى المادي من معاني وجودك وهو في سعيه الى تطهير الضمير وتقديس الشوق وسماحة الوجدان، راح في الوقت نفسه يسعى في تنظيم مجتمع عادل له قوانين وضعية هي بمثابة الأساس من البناء، ولعل من المفيد ان نبين هنا ان الأساس الذي بنى الأمام سیاسته عليه، وأقام دستوره فقد تجسد هذا الأساس بصيانة حقوق الناس في دولة الأمام وتوفير أسباب عيشهم وبإشاعة العدل بينهم ويراعي فيهم

ص: 327

حق المساواة، وبهذا يسود الأمن في الناس ويظهر قبولهم لحكوماتهم صاحبة السلطة، وان هذه السلطة لا يقبلها علي (عليه السلام) إلا أن تكون ممثلة لإرادة الشعب والأمة وفي ذلك يقول (والزموا السواد الأعظم فان يد الله مع الجماعة) ويقول في القائمين على السلطة: ( إنهم خزان الرعية ووكلاء الأمة) فهم يتولون خدمة الناس، وهم بذلك خدام الشعب ومصرفين أعماله والمحافظون على مصالحه وأمواله وحقوقه، ولا عمل لهم غير ذلك، ووكلاء الأمة هم نوابها الذين نثق بهم فينابون عنها في رعاية شؤونها والدفاع عن حقوقها (25).

وبما أن مصدر السلطة هو الشعب وحده عند الأمام فان وجودها لا يعني أكثر من تحقيق هذه الإرادة العامة فاذا استقام أمر الناس بأصحاب السلطة استقامت السلطة وبقي أصحابها على مناصبهم، وإلا فليعزلوا في الحال (ولا تصلح الولاة إلا باستقامة أمر الرعية) (26)، وكذلك فإن الأمام علي (عليه السلام) هو اول من مثل علاقة الدولة بالناس بمنزلة الوالد لأبنائه قائلاً لعاملة على مصر: (تفقد امورهم كما يتفقد الوالدين لولدهما)، ويأمر اتباعه بمقاومة الظلم والاضطهاد قائلاً (كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً) و (خذوا على يد الظالم السفيه) (إلا إن لكل دم ثائراً ولكل حق طالب) وان (الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله)، (وان العامل بالظلم والعين عليه والراضي به، شرکاء ثلاثة). ولقد أدرك الأمام الحقيقة الكبرى في تكوين المجتمع الطبقي فصاغها بهذه الكلمات القلائل (ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني) بهذه الحقيقة التي بنت عليها الأنظمة العادلة اليوم قواعدها في العلاقات المادية بين الناس، سبق الأمام أن أدركها منذ خمسة عشر قرناً تقريباً، وفصلها ووضع قواعدها وأصولها بما ينسجم مع زمانه (27).

ص: 328

تكفل الأمام بصون حقوق جمّه.... أهمها:

اولاً: حق الحياة

ان حياة الإنسان في ظل التشريع الإسلامي محفوظة ومصونة، صغيراً كان أم كبيرا ذكرا كان أم انثى لا يجوز الاعتداء عليها الا بالحق، قال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا» (28)، وقال سبحانه وتعالى: «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» (29)، وقال تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا» (30).

وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرءٍ مسلم) فالمسلم وغيره سواء في استحقاق الحياة وحرمة الدم ما لم يكن معلناً عداءه للإسلام والمسلمين، قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من قتل قتيلاً من أهل الذمة حرّم الله عليه الجنة)، بل بلغ به الأمر انه توعد من يؤذي أهل الذمة بأن يكون صلى الله عليه واله وسلم الخصيم عنهم يوم القيامة اذ يقول صلى الله عليه واله: (من يؤذي ذمياً كنت خصمه يوم القيامة) ويبني على حق الحياة:

1. تحریم قتل النفس: «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» (31).

2. تحريم الانتحار.

3. تحريم الأذن بالقتل (أي تحريم أذن شخص لأخر بأن يقتله).

4. تحريم المبارزة.

5. تحريم قتل الجنين (تحريم الأجهاض أو الأسقاط).

وهكذا وضع الأمام الحفاظ على الحياة في أساس دستوره، وحارب من أجل ذلك

ص: 329

بلسانه وبسيفه وهو معتصم بذمته في ذلك حتى أستشهد عظيماً! ولو أستوت قدماه من مزالق دهره لغير أشياء كثيرة (32).

ثانياً: الحرية وينابيعها في دولة الأمام:

إن مفهوم الحرية عند الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يستنبط من دستوره العام الذي نرى منه وجوهاً في معظم أقواله وعهوده ووصاياه، فإن كلمة الحرية ومشتقاتها جميعاً لم يكن لها مدلول في عصر الأمام الا ما يقوم منها في معارضة الرق، فالحرية ضد العبودية. والحر ضد العبد أو الرق، فهذا علي بن أبي طالب (عليه السلام) يتوجه الى كافة الناس ليخبرهم بأنهم أحرار، ويجعل الأمر مرهوناً بإراداتهم هم، لا بإرادة الأسياد إذا شاءوا استعبدوا وإذا شاءوا اعتقوا ونلاحظ هنا عمق نظرة الأمام الى مفهوم الحرية، فالحرية في نصه هذا نابعة من أصولها الطبيعية: من الناس الذين لهم وحدهم الحق في ان يقرروا مصيرهم إستناداً الى أنهم أحراراً حقاً لا رأي في ذلك لمن يريد أن يسلبهم هذه الحرية أو (يمنحهم) ایاها ومن عمق هذه النظرة العلوية الى الحرية، يلاحظ ان الأمام يقرر بقوله هذا ان الحرية عمل وجداني خالص ملازم للحياة الداخلية التي ترسم بذاتها الخطوط والحدود والمعاني فلا تقسر عليها، لأنها نابعة من الذات وهي إذا كانت كذلك فليس لأحد أن يُکِره الأخر أو يجبره في هذا النطاق (33).

ثالثاً: حق الأمن والأمان في دولة الأمام:

حق الأمن وفقاً لرؤية الأمام علي (عليه السلام) هو المعيار الأول والاساس لتقييم حالة الدولة وأداء الحكومة وتطور المجتمع، اذ قال (شر البلاد بلدُ لا أمن فيه ولا خصب)، بل أن بقية النعم تتلاشى عنده مع وجود حالة الخوف والاضطراب في المجتمع إذا قال: (لا نعمة اهنأ من الأمن). ويتمثل الامن عند الأمام بعدة أبعاد لعل أهمها الامن الخارجي والامن الداخلي وأخيراً الامن المعنوي.

ص: 330

فالامن الداخلي لدى الأمام هو ذلك الامن الذي تعمل القوة العسكرية على تحقيقه، وبذلك فأنه يمتدح هذه القوة بقوله: (فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن ولا تقوم الرعية الا بهم)، ومن واجبات الحكومة والحاكم ان تؤمن فيه السبل، اما الامن الخارجي هو استتباب السلام الذي جعله الأمام علي (عليه السلام) هدف لسياسة الحكم وحق الشعب اذ يقول: «لا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك. لله فيه رضا، فأن الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك» (35).

في حين الامن المعنوي والروحي لدى الأمام يأخذ جانبيه الأول: في السعي لإشاعة مفاهيم وسلوكيات التقوى والهداية. اذ قال الأمام: (فان جار الله أمن وعدوه خائف)، اما الجانب الثاني: فيؤكد على مبدأ التعويض عن الاضرار التي تصيب الإنسان نتيجة الهلع والخوف والروع ويبدو ذلك واضحاً في ممارسته له عندما ارسله الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) لدفع الديه لبعض القتلى من قبيلة جذيمة من الذين لم يجز قتلهم اذ قال لهم بعد ان فرغ من إعطاء الأموال لذوي الضحايا (هل تبقى لكم بقية من دم او مال لم يؤد لكم؟ فقالوا لا، فقال: اني اعطيكم مالاً لروعة الخيل -ان الخيل لما وردت عليهم راعت نسائهم وصبيانهم - وقال، هذه لكم بروعت صبيانكم ونسائكم)، وهنا يتجسد الامن لدى الأمام برضا الناس عن حكوماتهم ولما يصان من حقوقهم وبتوفر من أسباب عيشهم ويشبع بينهم من عدل ويراعي فيهم من حق المساواة. وبهذا وحده يسود الامن بين الناس وتظهر مودتهم لحكوماتهم صاحبة السلطة، وان هذه السلطة لا يقبلها الأمام علي (عليه السلام) الا ان تكون ممثلة لإرادة الشعب او الامة (35).

المطلب الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دولة الأمام

ان جيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية هو جيل حقوق فردية مقترنة بحقوق جماعية مثل حقوق المرأة والطفل، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في الصحة، والحق

ص: 331

في التربية والتعليم، اما الحقوق الثقافية بما فيها الحق في المشاركة بحياة المجتمع الثقافية والمساواة في التمتع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، هناك مثل معروف يقول: (الكرامة الاقتصادية تورث الكرامة الاجتماعية) وهذه حقيقة ثابتة لم يتغافل الأمام علي (عليه السلام) الاهتمام بها لكي لا يكون المؤمنون والاخبار لا يعبأ بهم ولا يقدر جانبهم. ومن اجل ذلك نرى التحريض الكبير، والأكيد في المتواتر من روایات اثبتها التاريخ في دولة الأمام في تحصيل الكرامة الاقتصادية.

ومن هنا نبقى مع الأمام علي (عليه السلام) لندخل الى مدرسته و نتعلم منه مفاهیم حركتنا في الحياة، لأن الأمام في كلاته كلها كان يريد للإنسان أن يعيش في وضوح من الرؤيا لكل مفردات حركته في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بحيث انه عندما يدخل في أي موقع من المواقع او يخرج منه، فلا بد أن ينطلق من قاعدة ومن مفهوم واضح.

ونتساءل هنا. هل الجيل الثاني للحقوق او ما يطلق عليه بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متحققة ومتوفرة بشروطها في دولة الأمام؟ سوف نجيب على هذا التساؤل من خلال:

اولاً: حقوق المرأة والطفل في دولة الأمام

وثانياً: حق الضمان الاجتماعي في دولة الأمام وأخيراً سوف نتطرق الى: الحق في التربية والتعليم في دولة الأمام.

ص: 332

أولاً: حقوق المرأة (36) والطفل في دولة الأمام:

نظر الأمام علي (عليه السلام) الى المرأة كانسان، فهو موقفه من الرجل كانسان، لا فرق في ذلك ولا تمييز، فالأمام يعترف بقيمة المرأة كإنسان له كل حقوق الإنسان وعليه كل واجباته. أضف الى ذلك ان الأمام الذي يعطف على الناس عموماً، والضعفاء منهم خصوصاً، يفرض على الخلق الكريم أن يكون أشدّ حناناً على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة، فيقول: (وأنصروا المظلوم وخذوا فوق يد الظالم المريب وأحسنوا الى نسائكم). و (آمركم بالنهي عن المنكر والإحسان إلى نسائكم). وفي خطبة توجه الأمام فيها الى موضع الحمية من السامعين ليثير العزيمة والنخوة في نفس كل مسلم والأمام (عليه السلام) يعلم من المسلمين من لا يبذل نفسه الا للحفاظ على سمعة امرأة وعلى شرف فتاة، فإذا هو يعتق هؤلاء القوم عن القعود دون نصرة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، ما نال رجلاً منهم طعنة ولا أريق لهم دم بقوله: (وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها، وقلبها، ورعاتها ثم أنصرفوا وافدين، ما نال رجل منهم كلمٌ، ولا أريق لهم دم، فلو أن أمرؤا مسلماً مات من بعد هذا اسفاً، ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً).

ويتابع الأمام سيرة الصاعد الرحب في حقوق الإنسان فيقرر للمرأة والطفل حقوقاً عديدة تُخوم حقوقهما في المعاش، حقوق لا يكتمل العيش بكرامته الا بها ويتجاوز كل النقاط الى الحدود الإنسانية البعيدة التي لا تقف عند عقيدة معينة ولا تنتهي عند تخوم العنصرية الضيقة، وذلك تأكيداً لكرامة الجنس البشري بكافة عناصره ومقوماته المادية والأخلاقية (37).

ص: 333

ثانياً: الحق في الضمان الاجتماعي في دولة الأمام:

هناك دائماً طبقات محكومة في المجتمع بحاجة الى الرعاية الدائمة والاهتمام المستمر، ويتّحمل الأمام النصيب الأكبر من المسؤولية في رعاية شؤون هؤلاء وهم أصحاب الحاجات والفقراء واليتامى والضعفاء وقد شدّد الأمام علي (عليه السلام) على ذلك حتى ندر أن تجد له كلاماً أو وصية أو عهداً الا ضمّنه اذ ارسی قواعد تكوين المجتمع الطبقي وهذا المعنى هذا ما عبر عنه (جورج جرداق) (38) بقوله:

«ولقد أدرك الأمام علي الحقيقة الكبرى في تكوين المجتمع الطبقي، فصاغها بهذه الكلمات القلائل، في ذاك العهد البعيد، بعد أن فصّلها وأوضحها في أكثر من مكان من عهوده ووصاياه، قال : «ما جاع فقيرٌ إلا بها مُتّع به غنيّ!» هذه الحقيقة الكبرى، التي تقيم عليها الأنظمة العادلة اليوم، قواعدها في العلاقات المادية بين الناس، سبق لابن ابي طالب أن أدركها منذ بضعة عشر قرناً، وأن فصلها بما يسمح به زمانه من قواعد وأصول» (39).

وقوله: (تفقد أمور من لا يصل اليك منهم من تقتحمه العيون، وتحقّره الرجال ففّرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع اليك أمور م ثم أعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه، فأن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الأنصاف من غيرهم) (40)، وقوله: (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن الشيوخ والعجزة من لا صلة لهم) (41). وقوله (......الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة و المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسی الزمني - ذوي العاهات – فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام...) (42).

لذا نجد ان الفقر في دولة الأمام كاد ان لا يرى لنفسه مجالاً حتى اذا رأى الأمام علي (عليه السلام) فقيراً واحداً كان يستغرب ويعتبره ظاهرة غير طبيعية وغير ملائمة مع المجتمع الإسلامي، ثم يجعل له من بيت مال المسلمين مرتباً يرتزق به مع انه نصراني لكي

ص: 334

لا يكون في البلد الإسلامي مظهر واحد للفقر والجوع ولكي يعرف العالم والمسلمين انفسهم ان الأمام علي (عليه السلام) كان يقضي على الفقر ويرفع مستوى الفقراء لا بالنسبة للمسلمين فحسب، بل ينفي الفقر عن كل من كان في رعاية الدولة الإسلامية.

ثالثاً: الحق في التربية والتعليم في دولة الأمام.

ندب الأمام الى العلم، وكم قدر من العلماء، ورفع من شأنهم، اذ سعى الأمام ان يكون الإنسان في دولته قد استطاع ان يربي نفسه ويثقفها، لينير طرقه في ظلمات الجهل والتخلف والشبهات وما الى ذلك، فاذا واجهته الشبهات وضغطت عليه كل غشوات الظلال، واغشت عيونه عن النظر إلى الحق فانه يتحمل عناء کشف هذه الغشاوة.

فبالعلم يمكن للإنسان ان يعرف الله، وبالعلم احدنا يعرف نفسه، ويعرف الناس من حوله، وبالعلم يتعرف على ظواهر الكون كلها، لينفذ اليها من خلال العلم تارة، ومن خلال التجربة التي يتحرك العلم في كل مواقفها تارة أخرى، فيستطيع ان يفهم الكون وظواهره، وقد ركز الأمام علي (عليه السلام) على مصدرين للمعرفة أحدهما التأمل العقلي والثاني، التجربة فيقول الإمام (ومن التوفيق حفظ التجربة) في إشارة الى حفظ التجربة الخاصة وتجربة الآخرين، واستحضارها يعد من علامات التوفيق والنجاح، لقد قال الأمام (في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال) وفي کتاب له الى (ابي موسى الأشعري) (43) قال (فان الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة) وقوله: (اشرف الأشياء العلم، والله تعالى عالم يحب كل عالم) وقوله (لا حسب التواضع ولا شرف كالعلم ولا قرين كحسن الخلق)

وفي تقدير الأمام (عليه السلام) للعلماء أقوال مأثورة وخالدة منها قوله (اذا جلست الى عالم فكن الى ان تسمع احرص منك الى ان تقول) و (الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك) و (العالم حي وان كان ميتاً، والجاهل میت وان كان حياً) و (یا حملة

ص: 335

العلم اتحملونه؟ فإنما العلم من عُلم ثم عمل بها عُلم ووافق عَمله عِلمُه) و (ان العلم بغير علمه کالجاهل الحائز الذي لا يستفيق من جهله. بل الحجة عليه اعظم).

فاذا أمعنا النظر في هذه العبارات ادركنا انها أصول عميقة في بناء كل مجتمع صحیح تحفظ فيه حقوق العلم والعلماء، وتراعي فيه مكانتهم في أروع معانيها واوسعها والناس لدى الأمام ان لم يكونوا علماء فهم اموات، والاموات لا حق لهم في الحياة، فالحياة ينسجم معها الأحياء ولا ينسجم معها الأموات، لأن كل شيء ينسجم مع مجانسه، وفي قول له من أروع التعبير عن ذلك (الناس أموات واهل العلم احياء).

ولابد لنا هنا ان نعمد الى استعراض وتحليل تلك الأسس والقواعد التي شيدها امیر المؤمنين النظرية حقوق الانسان، لاجل تقديم دليلاً جلياً على ان نظرية حقوق الانسان جزء لا يتجزأ من الإرث الإسلامي المعطاء.

مضامین حقوق الانسان في عهد امير المؤمنين المالك الاشتر

ان قراءة متمعنة لنصوص عهد امير المؤمنين الى مالك الاشتر، تكشف لنا حرص الامام (عليه السلام) على حماية حقوق الانسان، بل مقاومة محاولات السلطة المساس بتلك الحقوق کونها حقوق وليست منحه يمكن لأي نظام سياسي حجبها او خدشها، بهدف الوصول الى مجتمع سامٍ خالٍ من كل عوامل النفرة والاحقاد، وان هذه الأسس والمضامين التي ارسی قواعدها امير المؤمنين لم تظهر الا بعد صرار مرير في اوربا في أواخر القرن العشرين اثر انقلابات اجتماعية وتحولات اقتصادية ليكون بذلك المشروع الإسلامي مشروعا ريادياً في مجال تشريع واحترام قوانین حقوق الإنسان، لقد تكفل امير المؤبنين بحقوق عدة للفرد والمجتمع يمكننا اجمالها ی:

ص: 336

مراعاة الناس

«ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ، أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ، وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ، وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ، وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ».

فَليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك (ابخل بنفسك عن الوقوع في غير الحل، فليس الحرص على النفس إيفاءها كل ما تحب، بل من الحرص أن تحمل على ما تكره) عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحببت وكرهت» (44).

اضطلعت هذه الوصية في تحديد آلية التعامل وبيان العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأن يكون جوهرها العمل الصالح وان يكون الحاكم مثالا لرعيته في اجتناب الرذيلة والمعاصي، تلك الرعية التي تنتظر من حاكمها الرأفة والحسنی بهم لاسيما وان رضا الناس الحق له ديل جلي على عدالة الحاكم، واستكمالاً لهذه القضية قضية مراعاة حقوق الامة وبقصد توكيد احترام تلك الحقوق دعا الامام صراحة الى:

محبة الناس

«وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط (يسبق) منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، يؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فانك فوقهم، و والي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك (طلب منك كفاية

ص: 337

أمرك والقيام بتدبير مصالحهم) أمرهم، وابتلاك بهم ولا تنصبن نفسك لحرب الله (مخالفة شریعته بالظلم والجور)، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته» (45).

لتكون بديلا لمشاعر الكراهية والضغينة، وقدم لنا امامنا (عليه السلام) في هذه الوصية مثالا رائعا تفتخر به الإنسانية، بأن مشاعر المحبة والفضيلة ليست حكرا على المسلمين بل كل مواطن يعيش على ارض المسلمين، كونه مخلوق کرمه الخالق بل فضله على سائر مخلوقاته، كما امر الامام الحاكم السياسي ان يتأسى بالله سبحانه وتعالى الذي اختار لذاته العفو والرحمة، وان تكون هذه الأسس هي معايير النظام السياسي لتحيا الامة بسلام ووئام.

لاشك في ان أسس ومفاهیم حقوق الانسان لا يمكن تطيقها الا بتكريس مبادئ وقيم التعاطف الامر الذي جعل امير المؤمنين يصوغ لنا قاعدة إنسانية جديدة:

العفو والرأفة

«ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن (تفرح) بعقوبة، ولاتسر عن الى بادرة (القول والفعل ساعة الغضب) وجدت منها مندوحة (المخلص)، ولا تقولن: اني مؤمر (مسلط) آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال (ادخال الفساد) في القلب، ومنهكة (ضعف) للدين، وتقرب من الغير (عاديات الزمن)» (46).

ابطل امير المؤمنين في وصيته الخالدة هذه كل ذرائع السلطة في جنوحها نحو التعسف والبطش، لانها توغر قلوب الناس وقد تحملهم للابتعاد عن قيم ومفاهيم الدين الإسلامي الحنيف، نحو أفكار تنادي بصون الحريات وكرامة الفرد وان كانت مارقة او معادية للدين الحق، ولا مناص للحاکم او حتى المنظومة السياسية للوصول الى هذه المضامين الا بمحارية آفة العظمة وداء التكبر، لذلك لم يغفل أمامنا كيفية مواجهة

ص: 338

هذه الآفة الخطرة بإرسائه قاعدة جديدة هي:

التحصن من الغرور والظلم

«وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبيهة (العظمة) أو مخيلة (العجب)، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن (مخفض) إليك من طماحك (جموحك)، ويكف عنك من غربك (الحدة)، يفيء (يرجع) اليك بما عزب (غاب) عنك من عقلك! إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال.

أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی (میل) من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حرباً (خصماً) حتى ينزع (يقلع عن ظلمه) ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المظلومين، وهو للظالمين بالمرصاد» (47).

نتلمس هنا معاني الإنسانية اجمعها، ففي الوقت الذي يؤكد الامام على التواضع وانصاف الرعية والرأفة بهم، يحذر كذلك من مغبة مجافاة ذلك لان الخصم لن يكون مجرد فرد او شعب معين وانما خصمه الله جلت قدرته، وما من امر يعجل في غضبه سبحانه ونقمته اكثر من ارتكاب المعاصي وانتشار الظلم، لان العلي القدير «رؤوف بالعباد».

وتعهد لنا أمير المؤمنين حال تمسكنا بهذه القواعد الأخلاقية سنحظى بتأیید عموم الأمة، التي نبه الامام الى ضرورة السهر على رعاية مصالحها، لذلك وجه سلام الله عليه

ص: 339

رضا الجميع او رضا الأكثرية الساحقة

«وليكن أحب الأمور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف (يذهب) برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية، أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للانصاف، وأسأل بالالحاف (الالحاح)، وأقل شكراً عند الاعطاء، وابطا عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين، وجماع (جماعة) المسلمين، والعدة للاعداء، العامة من الأمة، فليكن صغوك (میلك) لهم، وميلك معهم» (48).

فسر لنا الامام بوضوح جدوى ميل الحاكم نحو الجماعة بوصفهم حماة قبضة الإسلام، لذلك اختار الامام لهم اسم «عمود الدين»، ولانهم يتكفلون بصون شرف الامة، فضلا عن انهم الاصدق والأثبت في الشدائد، إذ لا مصلحة لهم مع الحاكم الى حماية مصالح الامة وهم اكثريتها.

ومن الراجح ان هذه المفاهيم والقواعد ليس من شأنها العمل على صون حقوق الافراد فحسب، وانما ستعمل على بلوغ هدف منشود تسعى الأمم ان لم تكن تحلم به وهو الوصول الى مجتمع يجافي كل مظاهر الفتن والاحقاد ومن يروج لها وهو ما يمكننا تسميته بالمجتمع الفاضل، وقد صاغ لنا الإمام (عليه السلام) قاعدة عريضة لهذا المبدأ:

خلق المجتمع الفاضل

«وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم (ابغضهم) عندك، أطلبهم لمعائب (الاشد طلبا) الناس، فإن في الناس عیوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت

ص: 340

يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك، أطلق (أحلل) عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر (العداوه)، وتغاب (غفلة) عن كل ما لا يضح (لا يظهر) لك، ولا تعجلن الى تصدیق ساع، فإن الساعي (النمام) غاش، وإن تشبه بالناصحين» (49).

بینت هذه الوصية ان وظيفة الحاكم تجاه الرعية تنصب على معالجة عيوب الامة أولا وليس من خلال التعزیر بل المعالجة الناجعة، ومن ثم الانطلاق نحو تربية الفرد والمجتمع على أسس وروح الفضيلة والتسامح بدل مفاهيم الدسائس والضغائن والانتقام، والتحذير من تسليط فئة على فئة والعمل على مواجهة ارباب هذه الصفة وان تتظاهروا بحرصهم على سلامة الامة فهم معول هدام في جدار الدولة والأمة، فضلاً عن انهم كاذبون ولو كانوا بحق حريصون على سلامة الامة كان عليهم التصدي لمعالجة تلك العيوب والنواقص بين ابناء المجتمع قبل الوشاية بهم للتقرب من الحكام وتحقيق المنافع.

وحرصا من الامام على مواجهة هذه السياسات الخطرة، لم يكتف بمنعها فحسب بل صاغ قاعدة مهمة من شأنها العمل على جمع الكلمة ونبذ كل نفرة، والتي كثير من المجتمعات في تاريخنا المعاصر تفتقر لها:

مبدأ حسن الظن بالمواطنين

«واعلم أنه ليس بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استکراهه إياهم على ما ليس له قبلهم (عندهم)، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً (التعب) طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده» (50).

نجد هنا دعوة صريحة في ان يكون أساس تعامل الحاكم مع شعبه على أساس حسن

ص: 341

الظن وعدم الشك في ولاءاتهم، لانها ستؤدي الى نفور الشعب عن حاکميته اولاً وارهاق الدولة كذلك، ولا يختلف اثنان على ان هذه القواعد تحتاج الى إرساء بل ترصين الأعراف والسجايا الحميدة التي دعا لها من خلال:

ترصين الأعراف الحميدة في المجتمع

«ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، لا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الاجر بمن سنها، والوزر عنك با نقضت منها» (51).

يتعين هنا على الحاكم ان يحترم عادات وتقاليد المجتمع الطيبة وان لا يسارع الى محارية تلك الأعراف والقيم الاجتماعية بهدف تعزيز سلطانه، اذ شدد الامام على ضرورة التمسك بالقيم الاجتماعية وعدم نقض أي سنة صالحة اجتمعت بها الالفة واصلحت الرعية، فضلا عن عدم الاجتهاد بسنة جديدة تنسخ او حتى تخدش تلك السنن الصالحة.

شرع لنا امیر المؤمنين كذلك أسس أخرى من شانها صون حقوق الانسان، ليست ذا طبيعة ثنائية بين الحاكم والمحكوم فحسي يل بين أبناء المجمع أيضا، من خلال:

التقسيم الوظيفي للمجتمع

«واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، منها كُتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله سهمه، ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً، فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن،

ص: 342

وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما أصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد (العقود)، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (المنافع)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق (التكسب) بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو أثقل» (53).

يبدو لنا ويشكل جلي ان الامام قد اختط لنا تقسیم اقل ما يقال عنه انه تقسیم انساني، تجاوز كل الدراسات الحديثة التي تجتهد في تقسيم المجتمع سواء كان الى طبقات الى فئات، اذ وضع الامام تصنیفا ساميا يحترم كل الفئات عندما بين لنا سلام الله عليه وظيفة كل فئة لأجل خدمة الأخرى أي انه خلق قاعدة التكامل الاجتماعي ان صح التعبير، وشدد امامنا على قضية في غاية الأهمية مفادها ان ليس لأي فئة مهما كان حجم مشاركتها في بناء المجتمع ان يكون لها سيف مسلط على بقية فئات المجتمع الأخرى، بل على العكس تعمل لأجلها فمهمة الجيش «سور الأمة» حماية الأموال والانفس، واموال التجار واصحاب الحرف والصناعات التجهيز ذلك السور وهكذا، موضحاً ايضاً أساس عمل كل فئة فعلى الجيش «مخافة الله» والقضاة «العدل» والكتبة «الأمانة» والولاة والحكام «الانصاف والرأفة».

ص: 343

وتجدر بنا الإشارة الى قضية مهمة اخرى حرص على امير المؤمنين ترصينها وهي الاعتراف بالأخر، فهذه الأسس والتصنيفات للمجتمع ليست حكرا على ابناء المسلمين فحسب بل لعموم الرعية وان اختلفت معتقداتهم والوانهم والسنتهم، فقد حرص الامام على وضعهم ضمن ذلك النسيج الاجتماعي الذي اسميناه المجتمع التكاملي، الذي سيبقى تكامله مجروحاً مالم ينعم بالعدالة، التي افرد لها امير المؤمنين وصية كفيلة بتحقيق العدالة وصون الحقوق وهي:

القوة القضائية

«ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحکه الخصوم (تجعله لجوجا)، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر (لا يعيا في المنطق) من الفيء (الرجوع) إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه (لا تتطلع) على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه (اقرب الشيء وابعده)، أوقفهم في الشبهات (ما لا يتضح الحكم فيه بنص) وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً (الضجر) بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الامور، وأصرمهم (أمضاهم) عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء (لا يستخفه زيادة الثناء)، ولا يستميله إغراء، اولئك قليل، ثم أكثر تعاهد (تتبعه) قضائه، وأفسح له في البذل (اجزل له العطاء) ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان اسيراً في أيدي الاشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا» (53).

عالجت هذه الوصية قضية في غاية الأهمية وهي وضع معايير القضاة من الأمانة والكفاءة والحزم والتأني، فضلاً عن واجبات السلطة تجاه القضاء من الاحترام وایفاء الحاجة.

ص: 344

عكف امير المؤمنين بعهده الكريم هذا على متابعة قضايا الفرد المجتمع كلها، لذلك شدد على مراعاة حقوق الانسان ليس الاجتماعية فحسب بل الاقتصادية، اذ منح امیر المؤمنين عليه السلام حيزا واسعا من اهتمامه لأبناء الفئات الفقيرة لاسيما المعدمة منها، موصيا بالسهر على ايفاء حاجاتها بوصفه حقا وليس منة من الحاكم، الذي اوجب عليه عدم التواني عن قضاء حوائجهم، محذرا في الوقت ذاته من مغبة التكبر عليهم، لذلك أوصى سلام الله عليه بإيلاء هذه الشريحة اهتماما كافيا، اذ امر الحاكم ب:

حقوق اصحاب الدخول المحدودة والاحتياجات الخاصة

«م الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسی (شديدي الفقر) والزمني (ذوي العاهات)، فإن في هذه الطبقة قانعاً (السائل) ومعتراً (المتعرض للعطاء بلا سؤال)، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقس من غلات صوافي (ارض الغنائم) الاسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه (الحقير) لاحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك (لاتصرف اهتمامك) عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون (تكره العيون النظر اليه ازدراءا)، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك (اجعل اشخاص ميهتمون بمتابعة احوالهم) من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك امورهم، ثم اعمل فيهم بالاعذار (بما يقدم لك عذر) الى الله تعالى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله تعالى في تأدية حقه إليه، و تعهد أهل اليتم وذوي الرقة (المتقدمون) في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم» (54).

ص: 345

تجدر بنا هنا الإشارة الى قضية مهمة وهي ان الأنظمة السياسية الحديثة التي تدعي مناصرة حقوق الانسان بدعوتها الى الرفق بكبار السن، قد سبقهم امير المؤمنين بقرون عدة، ليمسي بذلك اأمامنا هو الرائد الشرعي لمشروع حقوق الانسان، اذ وضع الامام عليه السلام في مقدمة مشروعه الإنساني أولئك الفقراء والضعفاء الذين لاحول ولا قوة لهم الا العلي القدير، وخشية تنكر الأنظمة السياسية لحقوقهم، نبه صراحة ان لا عذر لهم امام الله تعالى الذي سيكون خصمهم، وانطلاقا من أهمية وخطورة هذه القضية، عكف الامام على بيان الالية العملية التي يمكن من خلالها متابعة هذه القضية من خلال:

ضرورة الاتصال الدائم والمباشر بين الحاكم والمواطنين

«واجعل لذوي الحاجات (المتظلمين) منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع (متردد بسبب خائف)، فإني سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول في غير موطن: «لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع »، ثم احتمل الخرق (العنف) منهم والعي (العجز عن النطق)، ونح عنك الضيق (ضيق الصدر) والانف (التكبر) يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار (امنع بلطف واحسان)» (55).

اكد امامنا عليه السلام سمو مشروعه الإنساني الذي تفتقد اليه الكثير من الأنظمة السياسية في تاريخنا المعاصر، حتى تلك التي تنادي بحريات وصون حقوق الانسان، فأي حاكم بشرع أبواب مجلسه لشكايا المواطنين من دون حجاب او كل ما يمنع صاحب الحق من المطالبة بحقه خوفا او مهابة لمجلس الحاكم، وأين دعاة حقوق الانسان من الزام امير المؤمنين بالاستماع الى مطالب اضعف الناس شأنا، والم يسبق أمامنا بدعوته

ص: 346

للاهتمام بأصحاب العاهات جميع منضمات المجتمع المدني المعاصرة التي تروم متابعة احوالهم، من خلال الاتصال بالناس.

البرنامج اليومي للحاكم

«ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيا (يعجز) عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك مما تحرج (تضيق) به صدور أعوانك، وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الاقسام، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية وليكن في خاصة ما تخلص لله به دينك: إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليل ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنك ما بلغ وإذا قمت في صلاتك للناس، فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً (أي لا تُطِل الصلاة فتكرّه بها الناس ولا تضيع منها شيئاً بالنقص في الاركان، بل التوسط خير)، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال: «صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيماً»

وأما بعد هذا، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل کریم تسديه، او مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا (قنطوا) من بذلك!

ص: 347

مع أن أكثر حاجات الناس اليك (م) ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة فأحسم (اقطع أسباب تعدیهم) مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال» (56).

لقد سمي بذلك مشروع امير المؤمنين عليه السلام بذلك المشاريع والأفكار التي ترنو الى صون كرامة الانسان، ويتجلى ذلك السمو ليس في دعوة احترام حق الانسان بوصفه حق من الله وليس منحة من الحاكم، بل توضیح الالية التي يمكن من خلالها حماية حقوق الفرد والمجتمع، ذلك المجتمع الذي تتجلى فيه أروع صور العدالة الاجتماعية، فضلاً عن تحذيراته المتكررة من مغبة مجافاة تلك الحقوق، مما يؤكد امتلاكه رؤية مستقبلية لطموحات السياسة واعتمادهم مبادئ تغليب فئة على أخرى ونكران لتكريس سلطاتهم، لذلك افرد الامام عليه السلام تحذيرا للحاكم من مغبة التكبر والجبروت والمن على الامة، والحرص على التأني في الأحكام كي لا يظلم احد وينفرط عقد الامة:

انها بحق لقيم اقل ما يقال عنها انها قيم انسانية استمدت الثقافات الحديثة الكثير منها، وبذلك فهي تعد منهل جميع الثقافات المعاصرة، فهي مصدرها الاول، وهذا يؤكد بل يثبت ان مشروع حقوق الانسان ليس وليد الثقافات الغربية كما تغرد بذلك وسئل اعلامها بل هو مشروع إسلامي بحث في جذوره وتطبيقاته، بين للامة دستوره القران الكريم، وشرع بتطبيقاته اولاً النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، لتكتمل ابهی صور ذلك المشروع على يد مهندس اركانه امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الذي صاغ للإنسانية مشروعا حضاريا متكاملاً يهدف أولا الى بناء الانسان بوصفه انسانا، وان يكون قادرا على المطالبة بحقوقه الشرعية التي وهبها له الخالق، وبهدف تسهيل تطبيق هذا المشروع، اقر قواعد عدة لم تغفل أينما قضية من قضايا الفرد والمجتمع مهما صغرت، مزدانة ببيان مفصل لتطبيقاته.

ص: 348

الخلاصة وابرز الاستنتاجات

1. بعد الرجوع الى الموروث الإسلامي ومقارنة ما ورد فيه بخصوص حقوق الانسان التي وقفنا على احدث تعريفاته الذي صاغته الثقافات المعاصرة، وجدنا ان مشروع حقوق الانسان مشروع إسلاميا في نشأته وتطبيقاته.

2. اكدت لنا مصادر التاريخ الإسلامي تطبيقات عدة لحقوق الانسان في عصر الرسالة بدأت مع لحظة إقرار الرسول الكريم مشروع وثيقة المدينة، الذي يعد اول مشروع إسلامي واضح المعالم ينادي بصون حريات وحقوق الإنسان، ليس للمسلم فحسب بل للجميع بمعنى انه يخاطب الامة، ليثبت بذلك المشروع الإسلامي انه مشروع انساني.

ومن خلال مطالعة مواد العهد نتلمس قضايا عدة منها:

1. ان المصدر الحقيقي لتلك التشريعات هو القران الكريم والحديث النبوي الشريف.

2. لم يستثني مشروع الامام علي (عليه السلام) الإنساني أي احد مهما اختلف دینه او لونه او مكانته الاجتماعية او الاقتصادية.

3. يروم المشروع امير المؤمنين تحقيق هدف واضح وهو المجتمع الفاضل، الذي ارسی أولى لبناته النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم).

4. أوضح الامام علي (عليه السلام) وبين الأساليب كلها التي تمكن الحاكم السياسي من الوصول الى هذا المجتمع.

وعليه فان المشروع الذي اختطه امير المؤمنين هو مشروع انساني شامل متكامل واضح المعالم، وصالح للتطبيق في أي عصر، وهو سابق للمشروع الغربي بكثير.

ص: 349

الهوامش:

1. محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، (الكويت: دار الرسالة، 1982)، ص 146.

2. شير زاد احمد عبد الرحمن، التطور التاريخي لحقوق الانسان، (مجلة) «مجلة كلية التربية الأساسية»، مجلد 18، 2٫12، ص 265.

3. سورة يس، اية (7.).

4. عاصم إسماعيل كنعان وحسن تركي عمير، حقوق الانسان في وثيقة المدينة (قراءة معاصرة)، (مجلة) «جامعة الانبار للعلوم الانسانية»، العدد 2، حزيران 2٫12، ص 177 - 178.

5. عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، ط4، (بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2..1)، ج 2، ص553.

6. شير زاد احمد عبد الرحمن، المصدر السابق، ص 265 - 266.

7. عاصم إسماعيل كنعان وحسن ترکي عمير، المصدر السابق، ص 178 - 179.

8. مجموعة باحثين، سلسلة المائدة الحرة صلاح حسن مطرود، العولمة وقضايا حقوق الانسان وحرياته، (بغداد: بيت الحكمة، 1999)، ص 216.

9. شير زاد احمد عبد الرحمن، المصدر السابق، ص 266 - 267.

10. ابو اسحاق الشاطبي: ابراهيم بن موسی بن محمد اللخمي، الغرناطي، ابو اسحاق الشهير بالشاطبي لم تذكر المصادر زمان ولادته ولا مكانها سوى من قال انه نشأ بغرناطة وترعرع فيها اما نسبه للشاطبي نسبة الى مدينة شاطبة فالأظهر ان ولادته بغرناطة ولا تذكر له اسفار او رحلات، من شيوخه ابو الاجفان، ابن الفخار البيري، ابو جعفر الشقوري وغيرهم له: الموافقات، الاعتصام ومن كتبه الغير مطبوعة كتاب المجالس. احمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي، ط 5،

ص: 350

(فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 2..7)، ص 3، 1 - 9، 1.

11. اهم ما خلفه الشاطبي وتضمن خمسة اقسام. للتفاصيل. ينظر: المصدر السابق، ص 1٫7.

12. ابن قيم الجوزية (691 - 751 ه) محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي المشهور بابن قيم الجوزية اذ كان ابوه قیماً (مدیراً) للمدرسة الجوزية بدمشق، اخذ علم الفرائض على ابيه والاصول عن الصفي الهندي، حضر على مشايخ عصره کالقاضي تقي الدين سليمان، عيسى المطعم وغيرهم عني بالحديث ومتونه ومعرفة رجاله اشتغل بالفقه واجاد تقريره اشهر كتبه مدارج السالكين بين منازل «اياك نعبد واياك نستعين» توفي ليلة الخميس الثالث عشر من رجب ودفن في مقبرة الباب الصغير. محمد بن ابي بكر بن ایوب لبن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل «اياك نعبد واياك نستعين»، تحقيق: رضوان جامع رضوان، (القاهرة: مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، 2..1)، ج 1، ص 10 - 12.

13. حمید موحان الموسوي وشذی حسن زلزلة، حقوق الانسان بين العولمة والعالمية، (مجلة) «مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية»، العدد 27، 2..9، ص 124 - 125؛ اکرام هادي حمزة، التطور التاريخي لحقوق الانسان، (مجلة) «كلية التراث الجامعة»، العدد 17، 2,15، ص 298 - 299.

14. المصدر نفسه، ص 127.

15. شيرزاد احمد عبد الرحمن، المصدر السابق، ص 262.

16. سورة الاسراء، آية رقم (7).

17. سورة الحج، آية رقم (65).

18. سورة الاسراء، آية رقم (33).

19. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، (مجلة) «مجلة العلوم الانسانية»، كلية التربية - صفي الدين الحلي، العدد 7، 2٫11، ص 180 - 181.

ص: 351

20. المصدر نفسه، ص 181 - 182.

21. مؤيد جاسم حمیدي، حقوق الانسان وتطبيقاته في العصر النبوي الشريف، (مجلة) «مجلة تكريت للعلوم القانونية والسياسية»، العدد18 ، 2٫13، ص 163 - 164.

22. للاطلاع على مواد وثيقة المدينة المنورة. ينظر: الاعمال الكاملة للمؤتمر العلمي لمركز دراسات الكوفة (وثيقة المدينة المنورة)، (النجف الاشرف: مطبعة النبراس، 2012)، ج 1، ج 2، ج 3.

23. عاصم إسماعيل کنعان و حسن تركي عمير، المصدر السابق، ص 183.

24. مؤيد جاسم حمیدي، المصدر السابق، ص 172.

25. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، المصدر السابق، ص 182.

26. السيد محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، (قم: دار الملاك: 302)، ص 126 - 129.

27. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي المصدر السابق، ص 183.

28. سورة الاسراء، اية 33.

29. سورة المائدة، اية 23.

30. سورة النساء، اية 93.

31. سورة المائدة، اية 23.

32. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، المصدر السابق، ص 183.

34. مركز دراسات الكوفة، عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لمالك ااشتر رضي الله عنه، (د. م، 2,11)، ص 36.

35. محسن الموسوي، دولة الامام علي، (بیروت: دار البيان، 1993)، ص 197 - 198.

36. حقوق المرأة يقصد بها الحقوق التي انفرد بها الرجل حيناً الى ان حصلت عليها المرأة وذلك تحقيقاً لمبدأ المساواة. احمد عطية الله، القاموس السياسي، ط 3، (القاهرة: دار

ص: 352

النهضة العربية، 1968)، ص 47.

37. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي المصدر السابق، ص 185.

38. جورج جرداق (1931 - ...) جورج سجعان جرداق، ولد في مرجعيون بلبنان، درس فيها اللغة العربية والفرنسية، انتقل الى بيروت لمتابعة دراسته في الكلية البطريركية، زاول التعليم في معاهد بيروت وكتب في صحف لبنانية وعربية عدة له: علي وحقوق الانسان، بين علي والثورة الفرنسية، علي وسقراط، علي وعصره، علي والقومية العربية، له دواوين شعرية منها: انا شرقية، ابدع الاغاني وغيرها. عبد العزيز سعود البابطين واخرون، معجم البابطين، (د. م، 1995)، مج 1، ص 71؛ کامل سلمان الجبوري، معجم الادباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2..2، (بیروت: دار الكتب العلمية، 2..3)، مج 2، ص 91.

39. شيرزاد احمد عبد الرحمن، المصدر السابق، ص 266 - 267.

40. المصدر نفسه، ص 267.

41. جورج جورداق، الامام علي صوت العدالة والانسانية، (بیروت: دار الفكر العربي، د. ت)، ص 212 (ج 1/ 238).

42. مركز دراسات الكوفة، المصدر السابق، ص 3.

43. ابو موسى الأشعري (...-42 ه) عبد الله بن قيس بن سُلیم بن حضار بن حرب، استعمله الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) ومعاذاً على زبید وعدن، وولاه عمر بن الخطاب الكوفة سنة 22 ه والبصرة، كما ولاه عثمان بن عفان الكوفة 34 ه حتى آلت الخلافة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) سنة 36 ه، كان احد الحكمين بعد معركة صفين التي دارت بين امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومعاوية بن ابي سفيان. محمد بن احمد بن عثمان بن قایماز الذهبي، سير لعلام النبلاء (بيروت: دار الافكار الدولية، 2..4)، ج 2، ص 2456 - 246؛ محمد علي آل خليفة، أمراء الكوفة وحكامها، (طهران: مؤسسة الصادق للطباعة

ص: 353

والنشر، 2..4)، ص 59

44. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، (جامعة الكوفة: مركز دراسات الكوفة، 2,11)، ص 9.

45. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 9 - 1 ...

46. المصدر نفسه، ص 1.

47. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 11 - 12.

48. المصدر نفسه، ص 12 - 13.

49. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 13.

50. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 16.

51. المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

52. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، (جامعة الكوفة: مركز دراسات الكوفة، 2٫11)، ص 17 - 18.

53. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، (جامعة الكوفة: مركز دراسات الكوفة، 2,11)، ص 22 - 23.

54. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، (جامعة الكوفة: مركز دراسات الكوفة، 2,11)، ص 30 - 31.

55. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 31 - 32.

56. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)، ص 33.

ص: 354

ثبت المصادر والمراجع

اولاً: القران الكريم

ثانياً: المصادر الاسلامية

1. محمد بن احمد بن عثمان بن قایماز الذهبي، سير لعلام النبلاء (بیروت: دار الافكار الدولية، 2..4)، ج 2. محمد بن ابي بكر بن ایوب لبن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل «اياك نعبد واياك نستعين»، تحقیق: رضوان جامع رضوان، (القاهرة: مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، 2..1)، ج 1.

2. محمد بن ابي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، (الكويت: دار الرسالة، 1982)

ثالثاً: المراجع الحديثة

3. احمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي، طه، (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 2..7).

4. احمد عطية الله، القاموس السياسي، ط 3، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1968).

5. السيد محمد حسين فضل الله، علي ميزان الحق، ط 3 (قم: دار الملاك، 2,13).

6. شير زاد احمد عبد الرحمن، التطور التاريخي لحقوق الانسان

7. عبد العزيز سعود البابطين واخرون، معجم البابطين، (د. م، 1995)، مج 1، ص 71؛ کامل سلمان الجبوري، معجم الادباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002، (بیروت: دار الكتب العلمية، 2..3)، مج 2.

8. عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، ط 4، (بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2..1)، ج 2.

9. کامل سلمان الجبوري، معجم الادباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002، (بیروت:

ص: 355

دار الكتب العلمية، 2..3)، مج 2.

10. مركز دراسات الكوفة، عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لمالك الاشتر رضي الله عنه، (د. م، 2,11).

11. محسن الموسوي، دولة الامام علي، (بیروت: دار البيان، 1993).

12. مجموعة باحثين، سلسلة المائدة الحرة صلاح حسن مطرود، العولمة وقضايا حقوق الانسان وحرياته، (بغداد: بيت الحكمة، 1999).

13. محمد علي آل خليفة، امراء الكوفة وحكامها، (طهران: مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، 2..4).

رابعاً: البحوث

14. اکرام هادي حمزة، حقوق الانسان في العصور القديمة، (مجلة) «مجلة كلية التراث الجامعة»، العدد 17، 2,15.

15. حمید موحان الموسوي وشذى حسن زلزلة، حقوق الانسان بين العولمة والعالمية، (مجلة) «مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية»، العدد 27، 2..9.

16. شیرزاد احمد عبد الرحمن، التطور التاريخي لحقوق الانسان، (مجلة) «مجلة كلية التربية الأساسية»، مجلد 18، 12، 2.

17. عاصم إسماعيل كنعان وحسن تركي عمير، حقوق الانسان في وثيقة المدينة (قراءة معاصرة)، (مجلة) «جامعة الانبار للعلوم الانسانية»، العدد 2، حزیران 12، 2.

18. منى محمد عبد الرزاق وصلاح هادي علي، حقوق الانسان في دولة الامام دراسة مقارنة، مجلة العلوم الإنسانية، كلية التربية - صفي الدين الحلي، العدد 7، 11، 2.

19. مؤيد جاسم حمیدي، حقوق الانسان وتطبيقاته في العصر النبوي الشريف، (مجلة) «مجلة تكريت للعلوم القانونية والسياسية»، العدد 18، 13، 2.

ص: 356

الجوانب الاخلاقية والانسانية في عهد الامام علي عليه السلام والاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948

اشارة

م. د خالد جعفر مبارك دكتوراه / أدب إسلامي الباحث عبد الكريم جعفر الكشفي بكالوريوس آداب شريعة الكلية التربوية المفتوحة ديالى - مدير عام تربية ديالى السابق

ص: 357

ص: 358

المقدمة

إنَّ الإسلام المحمدي لم يكن كغيره من الديانات التي حصرت اهتمامها بالمعابد دون اهتمام بشؤون الحياة وتفاصيلها، بل كان للإسلام فضل عن الجانب العبادي وله رؤية نافذة في مسائل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية والتعليم وغيرها وكانت القيم الاخلاقية والانسانية آمراً جوهرياً أهتم به الدين الحنيف سواءاً على صعيد الفكر و الممارسة، وقد تجلى ذلك في مباحث الامامة والشورى والحكومة والدستور والعدل وشرعية الحاكم والعلاقة بينه وبين المحكومين وغير ذلك مما هو مطروق في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وروايات الأئمة عليهم السلام وشروح الفقهاء وأبحاث مفكري السياسة القدامى والمعاصرين ورغم وجود عدد من الوثائق في هذا الخصوص والتي عالجت بدرجات متفاوتة الشؤون الاخلاقية والانسانية في تاريخ الاسلام قديماً وحديثاً الا ان عهد الامام علي عليه السلام الى الصحابي مالك الأشتر ورسائله الأخرى الى ولاته تبقى وثائق مهمة في هذا المجال كانت تنبع من الاسلام المحمدي الاصيل...

إنَّ رسالة القضاء للإمام علي عليه السلام من الرسائل المهمة، التي أرست هذه الأسس والتي يستند إليها النظام القضائي و تعد من أكثر الرسائل إصالة وسعة في بناء هذا النظام. ولم نجده في غيرها من الرسائل الأخرى بالرغم مما يمتلكه أصحاب هذه الرسائل من هالة القدسية والعظمة في نفوس المسلمين. وأصبحت أفضلية هذه الرسالة من المسلمات التي لا يستطيع أحد إنكار حقيقتها. ولا يبدو ذلك الأمر غريباً؛ لأن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكد على أن (أقضى أمتي علي). وقد أوضحت لنا رسالة الإمام علي عليه السلام الشروط والصفات الاخلاقية والانسانية التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي تسند إليه وظيفة القضاء، وقدمت لنا الوسائل الكفيلة لضمان هذه الوظيفة والتقاضي أمامها وقد تضمنت هذه الرسالة قيم اخلاقية وانسانية خالدة

ص: 359

ولا غرابة حين اعتمتها منظمة الامم المتحدة ضمن وثائقها المهمة.

لقد اكد اسلامنا المحمدي ورسالة الامام علي عليه السلام ان البشر يختلفون في الجنس والعرق واللون والثقافة واللغة والدين والمذهب، لكنهم يتفقون على حسن ما هو حسن من القيم الخلقية والانسانية وقبح ما كان ضدها، ولا شك في أن القيم الأخلاقية والانسانية من خلال الإسلام أوسع أثرا وأعمقَ تأثيرا؛ إذ يتميز الإسلام بالحث على جملة من الأخلاق والانسانية لا تعرف في غيره، كالإخلاص والورع والتوكل والخشوع، والخشية، والتسامح والحرية واحترام الراي وما ذاك إلا أن مثل هذه القيم تنبع من الإيمان الحق بالله تعالى وتوحيده ... ولأهمية هذا العهد ارتأينا دراسة من الجانب الاخلاقي والانساني ومقارنته بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو وثيقة حقوق دولية تمثل الإعلان الذي تبنته الأمم المتحدة 1. ديسمبر 1948 في قصر شايو في باريس. والإعلان يتحدث عن رأي الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان المحمية لدى كل الناس ويتألف من 3. مادة ويخطط رأي الجمعية العامة بشأن حقوق الإنسان المكفولة لجميع الناس، ويعدُّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة، 1948 من بين الوثائق الدولية الرئيسية لحقوق الإنسان والتي تم تبينها من قبل الأمم المتحدة، ونالت تلك الوثيقة موقعاً هاماً في القانون الدولي وقد دار بحثنا على ثلاثة محاور هي:

1- المحور الاول نظرة عامة للإعلان العالم لحقوق الانسان الصادر عام 1948.

2- المحور الثاني الجوانب الاخلاقية في عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر.

3- المحور الثالث الجوانب الانسانية في عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر.

ص: 360

المبحث الاول نظرة عامة على حقوق الانسان

تعد حقوق الانسان من الحقوق الأصلية والطبيعية التي وجدت قبل ان يوجد الانسان، فهي ليست وليدة نظام قانوني، وإنَّما هي لصيقة بالوجود الانساني على الارض، ولا يمكن للإنسان أن يتمتع بالكرامة والقيمة الاصلية الانسانية بدون هذه الحقوق التي تميز بوحدتها وجماليتها من كلِّ انتهاك، او تعسف لأنَّها جوهر ولب كرامة الانسان، وهي الحق في الحياة، والحق في الحرية، والامن الشخصي، والحق في التعليم، والحق في العمل، والحق في المحاكمة العادلة، والحق في الفكر والدين وغيرها. وقد اكدت المادة الأولى من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اقرته الامم المتحدة في عام 1948 م على أن ((يولد جميع الناس احراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم البعض بروح الاخاء)) (1)، كما اكدت المادة الثانية على ((ان لكل انسان حق التمتع بكافة الحقوق الواردة في الاعلان دون اي تمييز)) (2)، وكذلك المادة الثالثة التي نصت على ((ان لكل فرد الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية)) (3)، وكذلك المادة الثلاثون على ضرورة الاعتراف والالتزام القانوني بهذه الحقوق، ولا يسمح لأي دولة مهما كانت ان تعمل بما يخالف ذلك، او القيام بأي عمل يهدف الى هدم الحقوق والحريات العامة (4).

كما جاء في ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ((لمَّا كان تجاهل حقوق الانسان وازدراؤها قد افضيا الى اعمال اثارت بربريتها الضمير الانساني، وكان البشر قد نادوا ببزوغ عالم يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة وبالتحرر من الخوف والفاقة كأسمى ما ترنوا اليه نفوسهم، ولمَّا كانت من الاساسي ان تتمتع حقوق الانسانية يحاميه النظام القانوني)) (5).

ص: 361

ولمَّا كانت شعوب الامم المتحدة قد اعادت تأكيد إيمانها بحقوق الانسان الاساسية وبكرامة الانسان، وقدرت وبتساوي الرجال والنساء في الحقوق، امرها على النهوض بالتقدم الاجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جو من الحرية أفسح، ولما كان التقاء الجميع على فهم مشترك لهذه الحقوق والحريات امراً بالغاً لإتمام الوفاء بهذا التعهد، فان الجمعية العامة تنشر على الملا هذا الاعلان العالمي لقوق الانسان بوصفه المثل الأعلى المشترك، الذي ينبغي ان تبلغه كافة الشعوب وكافة الامم، كما يسعى جميع افراد المجتمع وهيئاته واضعين هذا الاعلان نصب اعينهم على الدوام من خلال التعليم والتربية التي تؤدي الى احترام الحقوق والحريات، وكما يكلفوا بالتدابير المطردة الوطنية والدولية اللاعتراف العالمي بها حراكاً فعلياً بين الشعوب والدول الاعضاء ذاتها وقيما بين الشعوب والاقاليم الموضوعة تحت ولايتها على السواء (6).

لقد تضمن الاعلان العالمي لحوقوق الانسان على ثلاثين مادة، وهو خطوة هامة على انصاف الانسان المظلوم و تثبیت حقوقه ولو نظرياً، بغض النظر على التحفظات الشرعية وتحفظاتنا على بعض بنوده.

لقد تقدمت الحكومات خطوات مهمة في تطبيق حقوق الانسان في مجتمعاتها، لكنهم ما زالوا يعانون من مشكلات جمة تحول دون التطبيق العادل والشامل لحقوق الانسان، ومن أهم هذه المشكلات التمايز بين الفقراء والاغنياء والاسود والابيض وبين مواطن ومواطن..، كما ان رؤوس الاموال المحرك لوسائل الاعلام ورسم السياسات، وكذلك فقد المصداقية والتناقض والكيل بمكيالين وغيرها.

لم تعرف حقوق الانسان بشكل كامل حقيقة وواقعاً، وبشكل صادق وعملي الا بظهور الاسلام ودعوته الانسانية العالمية بموجب النصوص الواردة في القرآن والسنة النبوية، وما ورد فيها من تکریم بنو البشر وتفضيله على سائر المخلوقات، وتسخير كلُّ ما

ص: 362

على الأرض والسماء لخدمة الانسان ایماناً وعقيدةً وعبادةً والتزاماً في الأحكام والشرائع وتقرباً لله.

لم تظهر فكرة حقوق الانسان بشكل رسمي الا في القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد نزول القرآن بسبعة قرون، وذلك نتيجة الثورات والحروب التي حدثت في أوربا في القرن الثامن عشر في امريكا لمقاومة التمييز الطبقي والتسلط السياسي والظلم، ومن هنا فأن الاسلام قدم قانوناً مثالياً لحقوق الانسان منذ اربعة عشر قرناً، يهدف من ذلك الى اضفاء الشرف والكرامة الانسانية والدعوة الى تصفية الاستغلال والقمع والظلم وكلُّ ما هو لا أنساني.

إنَّ حقوق الانسان في الاسلام تنبع من الاقتناع والاعتقاد بالله، وهو مصدر الحقوق والشرائع والقوانين، وهو المشرع لكل حقوق الانسان..، لقد أكد الاسلام و نظام حقوق الانسان؛ أنَّه لا يجوز لأي فرد كائناً من كان حتى لو كان ملكاً، او سلطانا، او قائداً، او سیاسياً، او حکومة، او مجلس شوری، او هيئة أن يضيق من هذه الحقوق والشرائع التي وهبها الله تعالى للإنسان أو يعدل بها او يلغيها.

فالدين الإسلامي منظومة متكاملة من التعاليم التي لم تكن لتكتفي بجانب مما ذكرنا على حساب الجانب الآخر، إنما ((يؤمن بأن الحياة يجب تنظيمها - ليس بالإيمان فحسب ولكن أيضا - بالعلم والعمل، والذي تتسع رؤيته للعالم بحيث يستوعب، بل يدعو إلى قيام المسجد والمصنع جنبا إلى جنب،... يرى أن الشعوب لا يكفي إطعامها وتعليمها فقط، وإنما يجب أيضا تيسير حياتها، والمساعدة على سموها الروحي)) (7).

إنَّ حقوق الانسان هي التي تنظم علاقة الإنسان بالدولة، او علاقة الإنسان بالمجتمع باعتبار ان الانسان مدني اجتماعي بطبعه، ولا يمكن ان يعيش الا ضمن مجتمع بداً بالعشيرة والمجتمع والدولة.

ص: 363

إنّ ميدان حقوق الانسان واسع جداً، وتشمل اركان الدولة وأسس المجتمع والنظام الحكم، وتوزيع السلطات ومدى اشراك الشعب في الحكم، والحدود الفاصلة بين حقوق الافراد، وحق المجتمع وحسن الراي، والعبادة وحق السكن..، وكلُّ هذه الامور تدرس في نظام الحكم والقانون الدستوري، والقانون الاداري ونظام القضاء والحقوق السياسية وحق تقرير المصير للشعوب.. وغيرها.

ص: 364

المبحث الثاني الجوانب الاخلاقية في عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر

إنَّ مبادئ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب التي نهلها من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كانت هي منهجه في الحياة، لم يهادن الظالمين الذين انتَهَبوا بیت المال وحقوق المسلمين، ولم يعط أي امتيازات للطامعين في السلطة، ولذا امتدت إليه يد الغدر والعدوان. كان عليه السلام إنموذجاً للحاكم العادل الصالح الذي ساوى بين الرعية، وبين الحاكم والمحكوم، وقد أوصى بعض عماله بوصايا قائلاً: ((أنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم وأسُدُّ به لهاة الثغر المخوف. فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإشارة والتحية، حتى لا يطمع العظماء في حیفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك)) (8).

إنَّ هذا العهد السياسي الأخلاقي و الإداري يمثل منهج الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في إقامة دولة العدل الإلهية في الأرض، ذلك المنهج الذي استقاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن مبادئ القرآن الكريم.

والحركة الإسلامية العالمية المعاصرة بكل أطيافها وتياراتها سنة وشيعة جدير بها أن تتخلق بهذا المنهج الإسلامي، وتتخذ عهد أمير المؤمنين لمالك الأشتر وصايا سياسية في عملها وتحركها من أجل الإسلام، وحوارها مع الآخر، والرد على من يدعي أنَّ السياسة الإسلامية هي سياسة استبدادية ظالمة لا تطيق الرأي الآخر.

وقد وجدنا في هذا العهد الرائع مبادئ السياسة العادلة للإسلام الصحيح، إسلام

ص: 365

أهل البيت سلام الله عليهم، حيث تلمسنا أموراً هي غرض الولاية وأساسها، وشروط الوالي الصالح الذي لا تفارقه تقوى الله، مع عدله بالرعية، والرفق بالمساكين وأهل الحاجة. وكذلك شروط المستشارين والكتاب والقضاة والتجار، والاهتمام بالجند، وإصلاح الأرض بالعمران والمدنية، والانتصاف للمظلوم، والوفاء بالعهد مع الغير وعدم دفع الصلح مع الأعداء.

ويعلق محمد عمارة على وثيقة عهد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قائلاً: ((ولعل في وثيقة العهد الإداري الذي كتبه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إلى واليه على مصر الأشتر النخعي (37 ه / 357 م) الصيغة الاجتماعية لهذه الفلسفة الإسلامية المتميزة في العلاقة بين الطبقات التمايز الطبقي - الذي تتساند فيه ومعه الطبقات، بإطار جامع الأمة الواحدة)) (9). وتضمن عهده عليه السلام جوانب اخلاقية عدة نوجزها:

1. العدالة

لقد عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر جملة أمور مستنداً فيها إلى مبدأ العدالة والحرية في الإسلام، موضحاً فيه أنَّ أساس الحكم في الإسلام هو العدل بالرعية، فأول ما استهدفته الشريعة في أحكامها وحدانية الله سبحانه وتعالى، وتحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والجور.

إنَّ العدل هو هدف إسلامي في سائر الأحوال والأوقات، لأنه الغاية المقصودة من الشريعة الإسلامية، حيث أمر الله تعالى المسلمين أن يطبقوا العدل حتى مع العدو وغير المسلم، وأن يقوموا بالقسط ولو على أنفسهم فقال العزيز في محكم كتابه المجيد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» سورة النساء الآية 135.

ولذا فإنَّ مفهوم العدالة في الإسلام مفهوم واسع وشامل، حيث نجده في القرآن

ص: 366

الكريم بألفاظ عديدة وغايات متنوعة: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ» البقرة 48، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58.

ویروی عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها، وصيام نهارها)) (10). ((العدل ميزان الله في الأرض فمن أخذه قاده إلى الجنة، ومن تركه ساقه إلى النار) (11). (أشد أهل النار عذاباً، من وصف عدلاً ثم خالف إلى غيره)) (12).

وهكذا فإنَّ العدل هو جوهر الإسلام، وقيمته العليا التي لا يجوز تجاوزها مع الناس كافة مسلمين وغير مسلمين في السلم والحرب، وقد قال الحق في محكم كتابه المجيد: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» البقرة 19.

ومن أوجه العدالة في الإسلام الوفاء بالعهد مع البر والفاجر، والمسلم والكافر، وإشاعة بين الناس. وعن أبي مالك قال: قلت لعليّ بن الحسين عليهما السلام: أخبرني بجميع شرائع الدين، قال: ((قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد)) (13).

ولذا فإنَّ تعبير العدالة غير ملائم كمصدر للأحكام، لأن الإسلام كله عدل ورحمة، والقاضي المسلم ملزم بتحقيق العدالة في أحكامه سواء كانت أحكاماً ثابتة أم أحكاماً استنباطية اجتهادية، أما القاضي الوضعي فهو ملزم بالتطبيق النصي للقانون، وإن لم يحقق العدالة في القضايا المعروضة عليه. ولقد كان لمبادئ العدالة دور بارز ومهم في القانون الدولي العام الوضعي سابقاً، حيث خول القاضي الدولي سلطة واسعة في تسوية المنازعات المعروضة عليه وفقاً لمبادئ العدالة والإنصاف (14).

ص: 367

وعليه فإنَّ القواعد الدولية الإسلامية تتسم بالعدل والقسط مع المسلمين وغير المسلمين، والوفاء بالعهد لهم، وتحقيق مصالح الناس، ورفع الضرر والظلم عنهم، والسعي للصلح مع الاعداء إذا كان في ذلك رضا الله، فالمسلمون لاينظرون للحرب على أنها غاية بحد ذاتها، وإنما شرعت لتبليغ الدعوة الإسلامية دون إكراه واضطهاد للآخرين. وقد تضمن القانون الدولي في فقراته العدل وتساوي الناس في الحقوق والواجبات وضرورة مراعاة العدالة في تطبيق القوانين وعدم الكيل بمكيالين في التعامل مع الرعية حتى يتم سيادة الحياة السليمة الخاضعة لسلطة واحدة. وقد نصت المادة العاشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 ((لكل انسان الحق على قدم المساواة مع الأخرين)) (15).

2. الصلح والإيمان

تأتي مشروعية الصلح والأمان في الإسلام من قوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» الأنفال 61، وقد بين الإمام عليّ بن أبي طالب في عهده إلى مالك الأشتر ذلك، وأورد أيضاً سلامة عقود الصلح التي تبرمها الدولة الإسلامية، بحيث لا يكون فيها إيغال ولا مدالسة ولا خداع، وليس فيها علل، أي الأحداث المفسدة لها، وهي كناية عن إحكام عقد المعاهدات وعقود الصلح، والابتعاد عن لحن القول والمواراة في الأمان والعهود، لكي يكون كل شيء واضحاً وصريحاً دون لبس وخداع وتدليس.

3. اصلاح المجتمع

لقد اولى الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مشروع تأسيس الحكم الرشيد أهمية بالغة في فلسفة الحكم، واتضحت معالم هذا المشروع بشكل واضح وجلي في عهده (عليه السلام) الى مالك الاشتر، عندما ولاه حكم مصر، وأول ملامح هذا المشروع وتجلياته

ص: 368

الإيديولوجية تتضح في برنامجه (عليه السلام) المتضمن اعادة اصلاح منظومة الشعب المصري (استصلاح اهلها)، (جباية خراجها)، (عمارة أرضها)، (جهاد عدوها)، كأن الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في هذه الرباعية يعطي البناء المعرفي الفردي والمجتمعي والسياسي أهميته البالغة في عملية التأسيس لفلسفة الحكم الرشيد، بل تمثل البنية المعرفية للمجتمع أولوية بالنسبة له، كما ويشترط في عملية البناء الفكري هذه ضرورة الاهتمام بالجوانب الاخرى الكفيلة بتعمیق فلسفة الحكم الرشيد واهمها الجانب الاقتصادي، والجوانب الاجتماعية والخدمية، فضلا عن الجوانب العسكرية.

4. الأخلاق

وحرص الامام عليه السلام ان يعالج المنظومة الاخلاقية والمعرفية والفكرية الاجتماعية العامة (للمجتمع العام)، ويُقرن صلاحها بصلاح ذات الوالي وسلامة منظومته المعرفية والاخلاقية بل يعتبر الاولى مقومة للثانية، وفي علم الاجتماع السياسي الحديث، يسمى هذا الطرح (التكامل المنهجي)، وفي مصادر اخرى (التكامل المعرفي)، او (التكامل الأيديولوجي) الذي لابد منه في أي عمل اصلاحي، وكذلك التعاقد الذي هو اساس الوضعي في تشكيل مفهوم الحق (16).

يأتي ذلك التأصيل في اشارة منه (عليه السلام ) الى ضرورة الشروع بتأصيل حالة الانسجام بين الفلسفة الفردية (ثقافة الفرد)، و (الفلسفة الجمعية)، و (الفلسفة السياسية للحاکم) ويعتبر هذه الثلاثية (فرد - مجتمع - حاکم) من الضرورات الأساسية التي لابد منها لتأسيس او تشکیل مبدأ الانسجام والتكامل المعرفي العام.

ويمثل مبدأ الأخلاق التكامل المعرفي والأيديولوجي، المحور الأساس لمشروع الحكم الرشيد، لأنه يفرض صيغة التفاهمات بين الحاكم والمحكوم، وعندما يحل التفاهم والتكامل المعرفي والفكري محل التناحر والتشظي، فانه حتما سوف يتجه المجتمع الى

ص: 369

تطبيق سياسة اصلاحية بإمكانها تغيير الواقع الذي يعيشه أي مجتمع من المجتمعات، بل سوف يكون المجتمع مهيأ لتطبيق الفلسفة الرشيدة.

5. مراعاة الحقوق والواجبات

ويؤكد (عليه السلام) في عهده الى مالك الاشتر على ضرورة مراعاة التقسيمات الاجتماعية التي يتكون منها او يتشكل من خلال التقائها المجتمع، بحيث يتضمن هذا التقسيم مراعاة دقيقة للحقوق والواجبات لكل فئة اجتماعية فالجند والولاة واهل الدواوين والمواطنين (العامة) واهل الرأي والمشورة والفقراء والمساكين، والخاصة من الوزراء وغيرهم من التقسيمات الاجتماعية، لها برنامجها التكميلي لمشروع الحكم الرشيد فلكل فئة من هذه الفئات منظومة اخلاقية وفكرية ومعرفية يشترط وجودها، وهذه المنظومة هي التي تؤهله لكي يتولى مهام مجتمعية يصل من خلالها الى تحقيق الرشد الاجتماعي والفكري والسياسي العام، فيضع عليه السلام برنامجا او منظومة اخلاقية للجند على سبيل المثال مشترطا تحقق عدة شروط في صاحب هذه الوظيفة، وعندما استقرئنا الشروط لم نجد تحققها في الوقت الراهن، حتى في ارقى جيوش العالم النظامية التي شهدها ويشهدها العالم الحديث والمعاصر، فيضع الخلق القويم واحترام المواطن، والشكيمة امام الاقوياء والمتنفذين، واللين والعطف امام المظلومين والمضطهدين والضعفاء، واعتبر هذه الشروط اساسيات اخلاقية وطبيعية لتولي هذه الوظيفة. وقد أكد الاعلان على ((إنَّ حقوق الانسان لاتمارس بشكل مطلق منفلت بل تمارس بشكل محدد ومشروط)) (17).

وكذلك الامر لباقي وظائف الدولة وحتى طريقة اختيار المستشارين منظمة ومعقدة للغاية لأنه يعتبرهم قرائن للحاكم تنعكس رؤيتهم على اخلاقيات الحاكم وسلوكه، وبالتالي تتحول الى سلوك سياسي عام يصدر من الحاكم فاشترط في المستشار عدد من

ص: 370

الشروط اهمها ان لا يكون جبانا ولا بخيلا، بل اشترط ان يكون المستشار والرفيق شجاعا کریما رحوما بالناس، حتى مرافقة الامير للناس اشترط عليه ان يرافق ذوي الاحساب والانساب واهل البيوتات الحسنة الذين يتخذهم الناس قدوة و فريضة لهم اذا أصابتهم مظلمة او ألمت بهم المصائب لانهم اهل الصعاب الذين تنصقل بصفاتهم واخلاقهم نفسية الحاكم وصفاته واخلاقه.

كما يشترط على الحاكم ان يؤسس لعملية البناء المعرفي للمجتمع العام، ويؤسس عليه السلام الى ضرورة مساندة الافكار التي من شأنها أن تزيد تماسك المجتمع، وتحد من عملية تشظيته وتناحره بين بعضه البعض.

6. رعاية حياة العامة

ومن اهم الارشادات التي وجهها الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر قضية معايشة حياة العامة والنظر بأمورهم صغيرها وكبيرها، وينهاه عن العزلة عن امور الناس ومعايشهم وحياتهم، لان ذلك يعتبره شكلا من اشكال الحكم الفاسد الذي يؤول بأمر صاحبه الى الزوال، اي يؤدي الى فساد الحكم والتعجيل بأمر الحاكم ودولته الى السقوط، كما وتتسبب هذه السياسة وفق نظرية الامام الى تراكم مشاكل الناس وهمومهم مما يؤدي الى حقد العامة - ورضا الخاصة، ويعتبر علیه السلام حقد العامة - ورضا الخاصة شكلا آخر من أشكال الحكومات الفاسدة لان الخاصة لا ترضى الا بالاستئثار بمصالح العامة فيحدث (الانعزال) بين الطبقة الحاكمة، والطبقة المحكومة فتحل الفوضى والتناحر بديلا للاستقرار والتكامل.

ان أجمل مبدأ من مبادئ الحكم الرشيد الذي تتضح معالمه في عهد الامام علي (عليه السلام) اإلى مالك الاشتر هو مبدأ التكامل، بمعنى ادق ان عملية التنمية والبناء والتغيير عبر الحكم الرشيد، عملية مشتركة تبدأ وكأنها ثقافة فردية من الضروري أن يتحلى بها

ص: 371

الجميع (الحاكم والمحكوم)، (الخواص والعوام)، (الغني والفقير) بمعنى أدق أن يتحقق الرشد وكأنه فلسفة اجتماعية توجه سلوك المواطن أينما كان موقعه، وكيفما كانت فئته ومستواه بحيث يكون المجتمع متهيئاً لاستيعاب الرشد على كافة المستويات، وهذا تأصيل قديم لمفهوم حديث يسميه علماء الاجتماع السياسي (المواطنة الواعية) الذي يفهم من خلاله كل عنصر من عناصر البناء السياسي دوره في المشروع العام المراد تطبيقه على المجتمع لينتقل المجتمع من حالة الجهل والرذلة الى حالة الرشد والوعي والفضيلة. وقد نصت المادة (23) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 على ((لكل انسان حقه بالانتفاع بالانتاج العالمي الثقافي والفني والتقني)) (18).

ص: 372

المحور الثالث الجوانب الإنسانية في عهد الامام علي (عليه السلام ) الى الاشتر وحقوق الانسان.

أرى أن الحديث عن سياسة الإمام علي عليه السلام وعن مواقفه الخالدة في مجال حقوق الإنسان لابدّ أن يتنزل ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبرة أصدق تعبير عن هذه الرؤية، مستميتاً في الدفاع عنها قولاً وعملاً إلى آخر لحظة في حياته، ولما تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وأصبح الناس کما وصفهم صديقه الوفي الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، رحمه الله قائلاً: (كان الناس ورداً بلا شوك، فأمسوا شوكاً بلا ورد)، ازداد تمسكه الشديد بهذه الحقوق، والذود عنها، وخصوصاً بعد بيعته بالخلافة، وقد اتضح ذلك من خلال ممارسته اليومية للسلطة، ومن خلال تربيته للمسلمين، وغرس مبادئ الإسلام في نفوسهم، وفي مقدمتها مبادئ حقوق الإنسان، ولما ظهرت محاولات الحزب الأموي لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك عضوض يحرم الناس حقوقهم، ويسلط عليهم ألواناً من القهر والعسف تفطّن الإمام علي عليه السلام إلى محاولات الانحراف، وإلى الخطر الداهم فازداد تمسكه بمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها، ولا غرابة في ذلك فقد تشبّع بروحها من القرآن الكريم، ومن السيرة النبوية الشريفة، وهو أعلم الناس بهما دون منازع، وهذا هو الامام علي عليه السلام في بعده الخالد السرمدي يبقى اماما بالرغم من كل شيء حتى ولو غلب وابيد هو واسرته واهل بيته فليكن من يكون فهو امام يقود مسيرة البشرية وحركة الانسان وتتعطش اليه القلوب التي تحترم الانسانية والحرية والعدالة والطهارة والانسان الكبير العظيم والروح الجميلة النزيهة (19).

وقد تجسدت حقوق الانسان في هذا العهد العظيم من خلال جوانب كثيرة عرجنا على اهمها:

ص: 373

1- العقيدة:

قال (عليه السلام) في عهد الاشتر: (ولاتَنْقُضْ سُنّةً صالِحَةً عَمِلَ بها صدورُ هذِهِ الاُمَةِ، وَاجْتَمَعَتْ بِها الاُلْفَة، وَصَلُحَتْ عليها الرعِيَّةُ. وَلاتَحْدُثَنَّ سنّةً تَضُرُّ بشىء مِنْ ماضى تلكَ السُّنَنِ، فيكونُ الأجْرُ لِمَنْ سَنَّها وَالوِزْرُ عليكَ بِما نَقَضْتَ مِنها) لقد اكدت الشريعة الإسلامية على أهمية مبدأ المساواة وعدم التمييز، وعلى مبدأ الحرية آونها حق إنساني لكل البشر الذين خلقهم الله، فجميع البشر خلقهم الله تعالى من تراب ومن نطفة أمشاج لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً» (النساء - 1).

لقد أمر الامام علي عليه السلام الاشتر بتقوى الله، وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في کتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلاّ بإتباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنّه جل اسمه، قد تكفّل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه، و أمره أن يكسر نفسه من الشهوات، وينزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلاّ ما رحم الله. وعهد الإمام مالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص، وإذا أقيمت صلاة الجماعة فعليه أن يلاحظ المصلين فلا يطيل في صلاته وإنما يصلي کما يصلي أضعف الناس، وشملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة الحث على الصلاة وكيفية أدائها جماعة ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده. (والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدتُ إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على

ص: 374

العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون). وعهد الإمام لمالك أن يقيم فرائض الله شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة الحث على الصلاة وكيفية أدائها جماعة ولم يعرض لذلك من ولي أمور المسلمين قبله وبعده، والاقتداء بسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ماعهدتُ إليك في عهد به من الحجة لنفسي عليك؛. انه التوحيد الخالص والابتعاد عن التكبر والخيلاء والتواضع لله وحده لا شريك له فمن تواضع لله رفعه ومن تشبه بجبروت الله فان الله عزیز ذو انتقام بذل الجبارين وستكون نهايتهم مخزية على صفحات التأريخ. ثم أمض لكل يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه. واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقیت وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلّها لله إذا صحّت فيها النيّة وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصّ ما تخلص لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصّة فأعطِ الله من بدنك في وليكن في خاصة ما تُخلص به لله دينك: إقامة فرائضه التي هي له خاصة فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك کاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ، وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكوننَّ مُنفراً ولا مضيعاً؛ فإن في الناس من به العلة وله الحاجة.

إن الكفاح من أجل الحرية الدينية قائم منذ قرون؛ وقد أدى إلى كثير من الصراعات المفجعة. وعلى الرغم من أن مثل هذه الصراعات مازالت قائمة إلا أنه يمكن القول بأن القرن العشرين قد شهد بعض التقدم حيث تم الإقرار ببعض المبادئ المشتركة الخاصة بحرية الديانة أو المعتقد. وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن (لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في

ص: 375

أن يدين بدین ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره) وقررت الجمعية العامة ادراج هذه الحقوق في اتفاقية حقوق الانسان، (20) تلى اعتماد هذا الإعلان محاولات عدة لوضع اتفاقية خاصة بالحق في حرية الدين والمعتقد إلا أن كافة تلك المحاولات قد باءت بالفشل. كما أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، بالحق في حرية الدين أو المعتقد وذلك من بين ما اقره به من حقوق وحريات.

2- المساواة:

قال عليه السلام في عهده: (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی، مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ: مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی، شدة الفقر، وَالزَّمْنَ،، أصحاب العاهات، فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً. وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ)، ثمَّ دعاه إلى أن لا يميز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بيت المال؛ لأنَّ المسلمين سواءٌ في تناول الحقوق المالية من بيت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء أثناء العهد السابق، فكان ذلك من الأسباب التي دعتهم إلى الثورة على عثمان بن عفان ، وعهد الإمام لمالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص ويدعو الى الحرية الحقة والمساوات العادلة.

لقد شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة على المساواة في العطاء وفي كل شيء وانه لا فرق بين غني وفقير وبين اسود وابيض وبين عربي وعربي فالناس متساويان كأسنان المشط. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بسنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما عهدتُ إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك؛ لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها، وليكن من اهم مشاريع الانسان الاهتمام بالإنسان وحقوق الإنسان والشعوب... وقد أقر مبدأ المساواة في المادة

ص: 376

الثالثة من الباب الأول، وجاء في مشروع حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي في الباب الأول في المادة 11 التي نصت على: (الناس متساوون أمام القانون، ولا تمييز بينهم بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الميلاد أو الجنسية أو اللغة أو الدين أو الرأي) (21).

3- الايثار والتضحية:

قال (عليه السلام): (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)، الإيثار وهو خصلة كريمة ترفع الإنسان إلى أعلى مراتب الإيمان، فحينما يرتفع الإنسان فوق الاَنا ويضع مصلحة الآخرين فوق مصلحته الخاصة، فلا شك أنه قد قطع شوطاً إيمانياً يستحق بموجبه الدَّرجات الرَّفيعة. وقد مدح تعالى أولئك الذين يخرجون من دائرة الاَنا الضيقة على الرغم من ضيق ذات اليد إلى دائرة أسمى هي دائرة الاِنسانية، فقال عزَّ من قائل: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الخلق حرصاً على تلك الفضيلة السامية، حتى ورد في الخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع ولكنه كان يؤثر على نفسه.

وفي وصية الاِمام علي عليه السلام القمة في الاِيثار، وقد ثمنت السماء الموقف الفريد والمضحي الذي قام به عندما بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:.. فأوحى الله إلى جبرئیل و میکائیل إني آخیت بینکما وجعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر فأیُكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار کلاهما الحياة. فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهما أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة فأنزل الله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ» البقره 207، فالإيثار يرفع الإنسان إلى أعلى الدرجات الإيمانية

ص: 377

كما رفع الإمام عليّاً عليه السلام بحيث أنّ ربِّ العزة يفاخر به ملائكته المقربين، ومن الإيثار ما يكون معنوياً كإيثار الصدق على الكذب مع توقع الضرر، وذلك من أجلى علامات الإيمان، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (الإيمان أن تؤثر الصدق حيثُ يضرك على الكذب حيثُ ينفعك) وان تفضل الشهادة والموت في سبيل حياة الاخرين وصولا لسعادة الانسان وان الانسان لا بد ميت لكن الجود بالنفس اقصى غاية الجود ومن رغب الموت في سبيل اسعاد الاخرین کتبت له الحياة؛ لان الانسان صاحب المبدأ يكون الاجل له حارسا حيت يقول الامام علي علية السلام: (كفى بالأجل حارسا) وقال لاحد أصحابه في صفين: (ويحك لعلك ظننت قضاء الله لازما وقدرا حاتما، ولو كان كذلك البطل الشواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد) (23).

وللإيثار فوائد عظيمة وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخُلُق العظيم منها عما وردت في القران واحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وآله وعن اهل البيت عليهم السلام فكانت مواقفهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثَار، وجعلهم من المفلحين؛ لأن الإيثَار طريق إلى محبَّة الله تبارك وتعالى، تحقيق الكمال الإيماني، فالإيثَار دليلٌ عليه، وثمرة مِن ثماره. ومن أعظم الثِّمار والفوائد: أنَّ التَّحلِّي بخُلُق الإيثَار فيه اقتداءٌ بالحبيب محمَّد صلى الله عليه واله وسلم... أنَّ المؤثر يجني ثمار إيثاره في الدُنيا قبل الآخرة وذلك بمحبَّة النَّاس له وثناؤهم عليه، كما أنَّه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذِّكر، فيكون بذلك قد أضاف عمرًا إلى عمره، وان الإيثَار يقود المرء إلى غيره مِن الأخلاق الحسنة والجِلال الحميدة كالرَّحمة وحبِّ الغير والسَّعي لنفع النَّاس، كما أنَّه يقوده إلى تَرك جملة من الأخلاق السَّيِّئة والخِلال الذَّميمة كالبخل وحبِّ النَّفس والأَثَرَة والطَّمع وغير ذلك، كما ان الإيثار جالب للبركة في الطَّعام والمال والممتلكات. وجود الإِيثَار في المجتمع دليلٌ على وجود حس التَّعاون والتَّكافل والمودَّة، وفقده مِن المجتمع دليلٌ

ص: 378

على خلوِّه مِن هذه الركائز المهمَّة في بناء مجتمعات مؤمنة قويَّة ومتكاتفة، بالإيثَار تحصل الكفاية الاقتصاديَّة والماديَّة في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثَّلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر مِن أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا.

واكدت انظمة حقوق الانسان وفي باب.. التضحية والايثار وحق الشعوب مقاومة الطغيان الذي ينتهك حقوقهم وحرياتهم الأساسية. وتأخذ مقاومة الشعوب وسائل متعددة منها رفض الامتثال للقوانين والإجراءات الماسة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وهذا يضع السلطة في المحك لتغيير إجراءاتها. وإذا استمرت السلطة بخرق القانون وحقوق الإنسان فللشعب حق العصيان المدني وإذا استنفذت كافة الوسائل لإقناع السلطة بالتوقف عن انتهاك حقوق وحريات الإنسان وبذا يصبح من واجب الشعب الإيثار ومقاومة السلطة الطاغية باعتباره مصدر لكافة السلطات وصاحب السيادة الفعلية، وأن هذا الحق منصوص عليه في القوانين التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأكد ذلك إعلان حقوق الإنسان لعام 1949 ((حق الشعب في مقاومة الحكومة)) (23).

4- صحبة الأخيار:

دعا الإمام (عليه السلام ) الأشتر لأن يختار لوزارته طاقماً جديداً ممَّن لم يخدم الأنظمة الظالمة، وممَّن يثق بهم الناس، أُمناء على مستقبلهم وحياتهم، قال عليه السلام: (إِنّ شَرّ وُزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلَكَ وَزِيراً، وَ مَن شَرِكَهُم فِي الآثَامِ، فَلَا يَكُونَنّ لَكَ بِطَانَةً؛ فَإِنّهُم أَعوَانُ الأَثَمَةِ، وَ إِخوَانُ الظّلَمَةِ)، فان شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنّهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم

ص: 379

وأوزارهم وآثامهم، ممّن لم يعاون ظالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك، ثمّ ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وان يكون منك ممّا کره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثمّ رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة. ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة! وألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه.

يؤكد الامام في هذا الخطاب بناء الهرم السياسي الجديد للدولة الجديد باختيار اصحاب الكفاءات والنزيهين والابتعاد عن اصحاب العقول الملوثة بأفكار الأنظمة الظالمة السابقة اهمية العمل الصالح، وكذلك حذر الإمام في عهده من إتباع بعض الذين يتخذهم الوالي خاصة له فإن فيهم تطاولاً وقلة انصاف، وعليه أن يحسم شرورهم وأطماعهم - ولا يقطعهم قطيعة أرض فيكون المهنأ لهم والوزر عليه، وهذا كلامه. لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم - فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة وأضاف الإمام الحياة الإنسانية تمتاز عن العجماوات بالعقل وبالألفة وروح التفاهم والعلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة فمصاحبة الكرام ممن نشأوا في بيوت المجد ومجالس الفضل تشجع على الفضل والفضيلة وترغب الولاة في مکارم الاخلاق (24).

ص: 380

وأنّ عالم الصحبة والأصدقاء الذي له دعائم وأُسس خاصّة لا تقوم ولا تدوم إلّا بتوافرها وتعضّدها بسنن و آداب خاصّة، وقد اهتمّ علماء الاجتماع والنفس والأخلاق بتشييدها وبيانها ودراستها في كلّ جوانبها وحقولها، وإن كان القدر الجامع لتلك الاُسس هو عبارة عن المحبّة والتمسّك بالأخلاق الحميدة والآداب المجيدة. فصنّف العلماء في وادي الصداقة والأصدقاء مصنّفاتهم القيّمة ومؤلّفاتهم الثمينة، كلّ واحد ينظر إليها من منظاره الخاصّ، ولما يحمل من خلفيّات ثقافيّة، ربما تنحرف عن الحقائق والواقع، لعدم إحاطتهم بمكنونات الإنسان وزوايا ضميره وجوانحه، فيحسب أنّه عرف الإنسان، وقدّم له ما يصلحه ويعالج أمراضه الفردية والاجتماعيّة، ولكن كالظمآن الذي يحسب السراب ماء.

واكد اسلامنا ومنهج نبینا واهل بيته على اهمية الصحبة والجيرة وقد ورد ذلك باحاديث كثيرة وقد وضع الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق منهجاً شاملاً للتعامل مع الجيران، متکاملاً في أُسسه وقواعده، مؤكداً فيه على تعميق أواصر الاخوة، مجسداً فيه السير طبقاً لمكارم الأخلاق التي بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل إتمامها، فقال عليه السلام: (وأمّا حق الجار فحفظه غائباً، وكرامته شاهداً ونصرته ومعونته في الحالين معاً، لا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولاتكلف، کنت لما علمت حصناً حصيناً وستراً ستيراً، لو بحثت الأسنة عنه ضميراً لم تتصل إليه لانطوائه عليه. لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة ولا تحسده عند نعمة، تقبل عثرته، وتغفر زلته، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ولا تخرج أن تكون سلماً له ترد عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه کید حامل النميمة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا قوة إلاّ بالله)، فقد ورد في الاثر ان مصاحبة الاخيار وحسن الجوار کمال قال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (حسن الجوار

ص: 381

يعمر الديار وينسي في الاعمار) ای يزيد الرغبة فيها لساكنها ولمؤجرها ولبائعها والشاربها وغير ذلك (25).

5- الرق والعبودية:

قال (عليه السلام): ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ یَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ وَ لاَ غِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ)) ليس فقط بسبب كونها إحدى مظاهر الحياة الفعلية لكثير من الناس، بل لأن هناك رأيين في النظرة إلى أصلها. فبينما يرى فريق من الناس إن استخدام الخدم، حالة مترفة ينبغي أن يتنزه عنها المؤمن، خصوصا إن الخادم متساو تماما مع المخدوم، و قيامه بأعمال الخدمة يجعله في منزلة أدني و أدون من نظيره. و ما ورد من وجود خادم لدى أهل البيت عليهم السلام فإنما يفسر بأنهم كانوا يريدون أن يحرروا أولئك الموالي الذين يشترون من الأسواق، فكانوا يبقون مدة تحت خدمتهم لتربيتهم تمهيدا لتحريرهم. و بالتالي فإن ذلك الاستخدام إنما كان حالة استثنائية لا تكتسب صفة القاعدة ولا يمكن التأسيس عليها. و لعلنا نجد في ما ينقل عن عمل الإمام السجاد صورة كاملة عن هذا الاتجاه، ذلك انه كان يشتري العبيد و يقوم بتربيتهم خلال سنة کاملة، و يسجل عليهم أخطاءهم و إشكالات عملهم دون أن يعاقبهم عليها في نفس الوقت، إلى أن يأتي رأس السنة الأخرى فيقوم بتقريرهم عن تلك الأخطاء، و بعد أن يقروا بتلك الأفعال منتظرين العقاب يعفو عنهم و يطلب منهم أن يدعوا الله له بالمغفرة كما عفا هو عنهم بعد أن استحقوا العقوبة وحثت السنة النبوية على الغاء التمايز بين بني البشر وحرمت العبودية والاتجار بالبشر والعبيد وهذا ما ورد في القانون العراقي ايضا فقد جاء بالمادة 37 من الدستور العراقي النافذ الفقرة ثالثا: (يحرم العمل القصري،، السخرة،، والعبودية وتجارة العبيد ويحرم الاتجار بالنساء والأطفال والاتجار بالجنس) (26).

لقد كان اهل البيت عليهم السلام ضد العبودية ومع الحرية للجميع واكدوا على

ص: 382

تجنب تكليف العبد بأمر فوق طاقتهم، ذلك ان كون هذا الشخص خادما لا يعني أن تهلكه بالعمل على مدار الساعة بل ينبغي التخفيف عنه سواء بملاحظة قدرته على انجاز کامل الأعمال المكلف فيها. أو بمساعدته في انجازها، وقد جاء في رسالة الحقوق للامام زین العابدين عليه السلام في باب، حق مملوكك عليك: (واما حق الملوك فان تعلم انه خلق ربك وابن ابيك وابن امك ولحمك وان الله سخرة لك وائتمنك عليه واستودعك اياه ليحفظ لك ما تأتيه من خير اليه فاحسن اليه کما احسن الله اليك، وان کرهته استبدلت به، ولا تعذب خلق الله عز وجل) (27).

6- الحرية:

قال علي عليه السلام في العهد: (وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ)، ان مشكلة الحريات وصيانتها من أقدم المشكلات الفلسفية وأدقها التي واجهت الحكام من قديم الزمان وكذلك الباحثين والمفكرين كفلاسفة اليونان وغيرهم. ولا توجد مرحلة زمنية في تاريخ الفكر البشري لم تطرح فيه هذه المشكلة على طاولة البحث، وتتحول تلك المشكلة الى جدل حاد بين الفقهاء والمفكرين والادباء والحكام وتتباين فيها الآراء ووجهات النظر. ومشكلة الحريات وصيانتها من أكثر المسائل الفلسفية إتصالاً بعلم الاخلاق والاجتماع والسياسة. والحريّة هي من المبادئ والقيم الإنسانية التي ارسى الاسلام قواعدها وطبقها اهل البيت عليهم السلام وهي المناخ الإنساني الذي يشعر فيه الإنسان بإنسانيته، وهي ليست مطلباً إنسانياً فحسب، بل هي حق طبيعي لكل المخلوقات من غير الإنسان تطالب بها ولو غريزياً. وهذا ما يتجسد في سلوك الطائر عندما يغرد في الهواء حراً طليقا دون سواه من يكون في القفص، ولا يمكن فصل الحريات عن شخصية وحياة وسيرة الإمام علي؛ لأنه تجسد في مفهومها وشرب من نخب القيم الانسانية التي تشكل الاطار الجامع والحافظ المعاني الحرية الانسانية. وللإمام أقوال وعبر مأثورة إلى قيام الساعة تشير

ص: 383

الى قيمة الحياة الحرة من خلال كلماته الرائعة التي تناول فيها الحرية كبعد إنساني وحق طبيعي. حيث قال عليه السلام: (الحرية منزهة من الغل والمكر).

والحريات عند الامام واهل البيت ومن خلال هذا العهد هو مفهوم وسلوك تعني أن يعيش الناس أحرارا كما ولدتهم اماتهم ولهم الحق في ممارسة طاقاتهم الابداعية والعلمية في مناخ حر خالي من الطغيان والفساد، لان مناخ الحرية يزيد حالة الابداع ويجدد الثقة في النفس ويزيد من طموح الناس في الحياة والعمل والابداع. على العكس من التسلط والطغيان الذي يفقد الانسان القدرة على الابداع والانتاج ويقزم تفكيره. وقد نصت المادة التاسعة من العهد الدولي للحقوق المدنية الصادر في 11 تموز 1991 على: (لكل فرد حق في الحرية وفي الأمان على شخصه) (28).

ص: 384

الخاتمة ونتائج البحث

بعد هذا العرض الواسع والمفصل للجوانب الأخلاقية والانسانية في عهد الامام علي عليه السلام والاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، نصل الى الخاتمة التي نوجزها بما يلي:

1. يمثل عهد الامام علي عليه السلام العدالة التي تعد مصدر للأحكام المنبثق من دین الله الإسلام.

2. إن عهد الامام عليه السلام يمثل القواعد الدولية الإسلامية التي تتسم بالعدل والقسط مع المسلمين وغير المسلمين، والوفاء بالعهد لهم، وتحقيق مصالح الناس، ورفع الضرر والظلم عنهم، والسعي للصلح مع الأعداء إذا كان في ذلك رضا الله.

3. وحرص الامام عليه السلام ان يعالج المنظومة الاخلاقية والمعرفية والفكرية الاجتماعية العامة للمجتمع العام).

4. ان أجمل مبدأ من مبادئ الحكم الرشيد الذي تتضح معالمه في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر هو مبدأ التكامل، بمعنى ادق ان عملية التنمية والبناء والتغيير عبر الحكم الرشيد، عملية مشتركة تبدأ وكأنها ثقافة فردية من الضروري أن يتحلى بها الجميع (الحاكم والمحكوم).

5. لقد أمر الامام علي عليه السلام الاشتر بتقوى الله، وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلاّ بإتباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه.

6. عهد الإمام مالك أن يقيم فرائض الله تعالى بإخلاص ويدعو الى الحرية الحقة والمساوات العادلة.

7. لقد شملت تعاليم الإمام عليه السلام للولاة على المساواة في العطاء وفي كل شيء

ص: 385

وانه لا فرق بين غني وفقير وبين اسود وابيض وبين عربي وعربي فالناس متساويان كأسنان المشط.

8. دعا الإمام مالك الى الايثار في الحكم، لان الإيثَار طريق إلى محبَّة الله تبارك وتعالى، تحقيق الكمال الإيراني.

9. دعاه لأن يختار لوزارته طاقاً جديداً ممَّن لم يخدم الأنظمة الظالمة، وممَّن يثق بهم الناس، أُمناء على مستقبلهم وحياتهم.

10. يؤكد الامام عليه السلام في عهده بناء الهرم السياسي الجديد للدولة الجديد باختيار اصحاب الكفاءات والنزيهين والابتعاد عن اصحاب العقول الملوثة بأفكار الانظمة الظالمة السابقة أهمية العمل الصالح.

11. لقد كان اهل البيت عليهم السلام ضد العبودية ومع الحرية للجميع واكدوا على تجنب تكليف العبد بأمر فوق طاقتهم، ذلك أن كون هذا الشخص خادما لا يعني أن تهلکه بالعمل على مدار الساعة بل ينبغي التخفيف عنه سواء بملاحظة قدرته على انجاز كامل الأعمال.

ص: 386

الهوامش:

1. ينظر: الإسلام وحقوق الانسان، الدكتور القطب طبلية، دار الفكر العربي، القاهرة ط: 2، 1984: 33.

2. موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية، الدكتور ناظم عبد الواحد الجاسور، دار النهضة العربية ، بيروت لبنان، 2008: 273.

3. المصدر نفسه: 273.

4. المصدر نفسه: 273.

5. المصدر نفسه: 273.

6. ينظر: الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اقرته الجمعية العامة للامم المتحدة في 01 / ديسمبر/ 1948.

7. الإعلان الإسلامي، علي عزت بيكوفيتش، دار الشروق، القاهرة، ترجمة محمد یوسف عدس، ط 1، 1999،: 66.

8. شرح نهج البلاغة تأليف: العلامة كمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الاولى 1999 - 5/ 118.

9. الإسلام والتعددية - محمد عمارة، نهضة مصر للطباعة والنشر 1997: 149.

10. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، العلامة النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت الأحياء التراث، 14,8 ه قم المقدسة، 11 / 317.

11. المصدر نفسه، 317/11 وما بعدها.

12. المصدر نفسه، 321/11.

13. المصدر نفسه، 11 / 316.

14. القانون الدولي العام دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - الدكتور عبد الباقي نعمة عبد الله - دار الأضواء بيروت 1990 م: 94.

ص: 387

15. نفسه: 123.

16. الشرائع السماوية كمصدر لحقوق الانسان، د. عبد الهادي ابو طارق، مکتبة دار بيروت القديمة، بیروت 1976: 114.

17. حقوق الانسان في الميزان، عبد الامير شمخي، دار الرواد المزدهرة، بغداد 2,13: 27.

18. المفاهيم القانونية لحقوق الانسان عبر الزمان والمكان، د. سامي سالم الحاج، القاهرة 1995: 278.

19. الامام علي في محنه الثلاث،،، الشهيد علي شريعتي.. دار الامير.... بیروت، 2001: 168.

20. حقوق الانسان دراسة مقارنة.. باسل يوسف، دار الرشید، بغداد، 2001: 263

21. حقوق الانسان، محمد شريف بسيوني، دار العلم للملايين، بیروت، 1988: 389

22. الامام علي القوة والمثال، میثم الجنابي، دار میزو بوتاميا، بغداد، 151:2٫10

23. القانون الدستوري، د. محمد الشافعي ابو راس، مكتبة النصر الزقازيق، مصر. 1984: 22.

24. مع الامام علي في عهده لمالك الاشتر - محمد باقر الناصري، دار الصادق... بیروت - لبنان - 7:1973

25. شرح رسالة الحقوق - للعلامة الساعدي - دار المرتضی - بيروت - 611:2005

26. قانون المحكمة الجنائية العليا - وزارة العدل العراقية، رقم - 10 لسنة 2005: 127

27. حقوق الانسان عند اهل البيت - الشيخ علي الكوراني - مركز المصطفى للدراسات الاسلامية - بيروت - 2007: 83

28. حقوق الانسان المدنية، الاستاذ المساعد الدكتور محمد ثامر، المكتبة القانونية، بغداد. 20:2٫12

ص: 388

المصادر

1. القرآن الكريم

2. الإسلام والتعددية - محمد عمارة، نهضة مصر للطباعة والنشر 1997.

3. الاسلام وحقوق الانسان، الدكتور القطب طبلية، دار الفكر العربي، القاهرة ط: 2، 1984.

4. الإعلان الإسلامي، علي عزت بيكوفيتش، دار الشروق، القاهرة، ترجمة محمد يوسف عدس، ط 1، 1999،.

5. الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اقرته الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 / دیسمبر/ 1948.

6. الامام علي القوة والمثال، میثم الجنابي، دار میزو بوتاميا، بغداد، 2٫10.

7. الامام علي في محنه الثلاث، الشهيد علي شريعتي، دار الامير، بیروت، 2001

8. حقوق الانسان المدنية، الاستاذ المساعد الدكتور محمد ثامر، المكتبة القانونية، بغداد، 12، 2.

9. حقوق الانسان دراسة مقارنة، باسل يوسف، دار الرشید، بغداد 2001.

10. حقوق الانسان عند اهل البيت، الشيخ علي الكوراني، مركز المصطفى للدراسات الاسلامية، بيروت، 2007.

11. حقوق الانسان في الميزان، عبد الامير شمخي، دار الرواد المزدهرة، بغداد 2,13.

12. حقوق الانسان، محمد شريف بسيوني، دار العلم للملايين، بيروت، 1988.

13. الشرائع السماوية كمصدر لحقوق الانسان، د. عبد الهادي أبو طارق، مکتبة دار بيروت القديمة، بیروت 1976.

14. شرح رسالة الحقوق، للعلامة الساعدي، دار المرتضی، بیروت، 2005.

ص: 389

15. شرح نهج البلاغة تأليف: العلامة كمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى 1999

16. القانون الدستوري، د. محمد الشافعي ابو راس، مكتبة النصر الزقازيق مصر، 1984.

17. القانون الدولي العام دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي - الدكتور عبد الباقي نعمة عبد الله - دار الأضواء بيروت 199.م

18. قانون المحكمة الجنائية العليا، وزارة العدل العراقية، رقم، 1. لسنة 2005.

19. مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، العلامة النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت الأحياء التراث، 14,8 ه قم المقدسة.

20. مع الامام علي في عهده لمالك الاشتر، محمد باقر الناصري، دار الصادق، بیروت، لبنان، 1973.

21. المفاهيم القانونية لحقوق الانسان عبر الزمان والمكان، د. سامي سالم الحاج، القاهرة 1995.

22. موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية، الدكتور ناظم عبد الواحد الجاسور ، دار النهضة العربية، بيروت لبنان، 2008.

ص: 390

المحتويات

البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي (رضوان الله عليه)

المقدمة...7

المبحث الأول: القيمة والتقوى مدخل معرفي...9

المبحث الثاني: عهد الأشتر - برنامج حكومي واقعي لتأصيل المعايير القيمية والأخلاقية...17

المبحث الثالث: ركائز البناء القيمي والتقوائي للراعي في عهد الاشتر...23

المحور الأول: تنظيم علاقة الراعي مع الله:...24

المحور الثاني: تنظيم علاقة الراعي مع نفسه:...26

المحور الثالث: تنظیم وبناء علاقة الراعي مع الرعية:...31

أ. التساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع:...38

ب. إدارة أموال الدولة وتنميتها على أساس العدل وكفالة الفقراء...42

ج. التساوي في مجال إجراء العدالة:...46

المحور الرابع: تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة...61

أ. الاختيار الدقيق لكبار موظفي الدولة بالذات:...61

ب. تقسيم العمل:...62

ج. تطبيق سياسة المتابعة والمراقبة:...62

ص: 391

د. تفعيل مبدأ الثواب والعقاب:...63

ه. اعتماد أساليب تضمن أو تساعد الموظف على الاستقامة والصلاح...64

المحور الخامس: تنظيم علاقة الراعي مع العدو:...64

الخاتمة...67

قائمة المصادر والمراجع...70

المشورة في فكر الامام علي (عليه السلام) عهد مالك الاشتر (رضي الله عنه) إنموذجاً

المقدمة...97

اولاً: مفهوم المشورة لغة واصطلاحاً:...98

المشورة لغةً:...98

المشورة اصطلاحا:...99

ثانياً: المشورة في مصادر التشريع الإسلامي:...100

المشورة في القرآن الكريم:...100

المشورة في السنة النبوية الشريفة:...103

ثالثاً: المشورة عند الامام علي (عليه السلام) في عهده المالك الاشتر (رضي الله عنه):...106

رابعاً: الصحابة والائمة والحكماء الذين وافقوا الامام علي (عليه السلام) في المشورة:...111

خامساً: أهل المشورة ومجال الموضوعات التي يتشاورون فيها:...114

أهل المشورة:...114

موضوعات المشورة:...127

الخاتمة...132

الهوامش والتعليقات:...134

ص: 392

مبادئ حقوق الانسان في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...151

التمهيد...155

أولاً- ما يعرف بالكلمات المفتاحية الرئيسة العنوان البحث (Keywords) وبيانها لغةً واصطلاحاً. تعريف الحقوق لغةً، الحقوق: جمع حق...155

ثانياً - لمحة عن الامام (عليه السلام) و تعاطيه مع حقوق الإنسان خارج هذا العهد:...157

ثالثا - نظرة تأريخية مختصرة عن حياة مالك الأشتر وعهده:...159

تاريخ العهد وسبب اختيار مالك لولاية مصر:...162

المطلب الأول: حق التعايش السلمي للإنسان...163

المطلب الثاني: حق الإنسان في الحرية...167

أولاً - حرية العقيدة وعبادة الله تعالى:...169

ثانياً - الحرية الشخصية:...171

المطلب الثالث: حق الإنسان في حرية التعبير...172

المطلب الرابع: حق الإنسان في العدل والمساواة...173

المطلب الخامس: حق الإنسان في الحياة...176

الخاتمة...178

وما توصل إليه الباحث من نتائج:...178

ثبت المصادر والمراجع...180

الهوامش...183

ص: 393

المبادئ الأخلاقية في عهد الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الواليه على مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...191

من هو مالك الأشتر...191

سيرة مالك الحسنة...192

شهادته...193

الملامح الأخلاقية في وصايا الأمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر...194

معايشة أهل العامة...194

أرضاء العامة...194

تجنب ذکر معایب الناس...195

مصاحبة العلماء وذوي الأخلاق الحميدة...195

تعزيز مكانة الجند وتكريمهم...195

معيارية أختيار الحكام...196

مبادئ أختيار الكتاب...197

مراقبة التجار...198

طبقة الفقراء ورعايتهم...198

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن...198

بطانة الوالي وخاصته...199

الدعوة إلى السلام...199

التواضع وتفادي الغرور...199

تأمل الأمور والتروي في حكمها...200

الأستئثار...200

ص: 394

ترسيخ العدالة في الحكم...200

الأستنتاجات...201

التوصيات...202

المنهجية الاخلاقية في القيادة السياسية للدولة عهد مالك الاشتر (رضي الله عنه) انموذجاً

الإمام علي (عليه السلام) أنموذج الإنسان الكامل...205

الامام علي (عليه السلام) رائد القانون البشري...206

كوفي عنان وعهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر...206

مالك بن الحارث الاشتر...207

شهادته...209

تأبين الإمام لمالك...210

سرور معاوية...211

عهد مالك الاشتر...211

الفقرة الاولى من العهد:...211

اسس الاخلاقية للحاكم...212

تطلع الرعية إلى عدل الولاة...214

الرحمة بالرعية...215

الإمام (عليه السلام) في عهده بالرفق بالرعية قائلاً:...215

إنصاف الناس...216

إرضاء العامة...216

إبعاد الساعين لمعائب الناس...217

ص: 395

الابتعاد عن بعض الأشخاص...218

إقصاء الوزراء في الحكومات السابقة...218

الاتصال بالعلماء...222

الاتصال بالأشراف والصالحين...223

تكريم المخلصين من الجند...223

اختيار الحكام...225

العمال...226

الخراج...227

عمران الأرض...228

وصيته بالمزارعين...228

الكتّاب...229

التجار وذوو الصناعات...230

مراقبة التجار...231

الطبقة السفلى...231

رعاية الأيتام والمتقدمين في السن...232

تفريغ وقت لذوي الحاجات...233

مباشرة الولي بعض القضايا بنفسه...233

إقامة الفرائض...234

عدم الاحتجاب عن الرعية...234

بطانة الوالي وخاصته...235

الرفق بالرعية...236

الصلح مع العدو...236

ص: 396

حرمة سفك الدماء...238

الإعجاب بالنفس...239

العجلة في الأمور...239

الاستئثار...240

الإقتداء بالحكومات العادلة...240

الهوامش:...242

المصادر:...247

حقوق الإنسان في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث...251

مقدمة...253

المبحث الأول: الحقوق الأساسية عند الإمام علي (عليه السلام)...255

المطلب الأول: حق الإنسان في الحياة...255

المطلب الثاني: حق الإنسان في أن يُحكم بالعدل...259

المبحث الثاني: الحقوق السياسية عند الإمام علي (عليه السلام)...263

المطلب الأول: حق الإنسان في اختيار عناصر صالحة لحكمه...263

المطلب الثاني: حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير...266

المبحث الثالث: الحقوق الاجتماعية والاقتصادية عند الإمام علي (عليه السلام)...269

المطلب الأول: حق العامل في أجر يكفيه...269

المطلب الثاني: حق الإنسان في الضمان الاجتماعي...272

خاتمة...286

ص: 397

أولاً- الاستنتاجات:...276

ثانياً- التوصيات:...278

الهوامش:...279

المصادر والمراجع...287

اخلاقيات السياسة الاسلامية بين النظرية والتطبيق عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) انموذجا

المقدمة...295

المبحث الأول: الكلمات المفتاحية...296

أولاً: السياسة...296

ثانيا: الاخلاق...299

ثالثا: اخلاقيات السياسة في النظرية الاسلامية...301

المبحث الثاني: السياسة والاخلاق...303

اولا: التأصيل النظري...303

ثانيا: التأصيل العملي...306

الخلاصة:...311

الهوامش:...312

المصادر والمراجع...315

مفاهيم وتطبيقات حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي (عهد الامام علي «عليه السلام» الى مالك الاشتر (رضي الله عنه) انموذجا)

الملخص...319

ص: 398

المقدمة...320

مفاهيم وتطيقات حقوق الانسان في الفكر الإسلامي (عهد امير المؤمنين الى مالك الاشتر انموذجا)...321

حقوق الإنسان لغةٍ واصطلاحاً:...321

الحق اصطلاحاً:...321

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي:...324

فقه الحقوق بعد اصدار الوثيقة:...325

حقوق الإنسان عند الأمام علي (عليه السلام):...327

تكفل الأمام بصون حقوق جمّه.... أهمها:...329

اولاً: حق الحياة...329

ثانياً: الحرية وينابيعها في دولة الأمام:...330

ثالثاً: حق الأمن والأمان في دولة الأمام:....330

المطلب الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دولة الأمام...331

أولاً: حقوق المرأة (36) والطفل في دولة الأمام:...333

ثانياً: الحق في الضمان الاجتماعي في دولة الأمام:...334

ثالثاً: الحق في التربية والتعليم في دولة الأمام...335

مضامین حقوق الانسان في عهد امير المؤمنين المالك الاشتر...336

مراعاة الناس...337

محبة الناس...337

العفو والرأفة...338

التحصن من الغرور والظلم...339

رضا الجميع او رضا الاكثرية الساحقة...340

ص: 399

خلق المجتمع الفاضل...340

مبدأ حسن الظن بالمواطنين...341

ترصين الأعراف الحميدة في المجتمع...342

التقسيم الوظيفي للمجتمع...342

القوة القضائية...344

حقوق اصحاب الدخول المحدودة والاحتياجات الخاصة...345

ضرورة الاتصال الدائم والمباشر بين الحاكم والمواطنين...346

البرنامج اليومي للحاكم...347

الخلاصة وابرز الاستنتاجات...349

الهوامش:...350

ثبت المصادر والمراجع...355

الجوانب الاخلاقية والانسانية في عهد الامام علي عليه السلام والاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948

المقدمة...359

المبحث الاول: نظرة عامة على حقوق الانسان...361

المبحث الثاني: الجوانب الاخلاقية في عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر...365

المحور الثالث: الجوانب الإنسانية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى الاشتر و حقوق الانسان...373

الخاتمة ونتائج البحث...385

الهوامش:...387

المصادر...389

ص: 400

المجلد 8

هوية الکتاب

نظام الحکم وادارة الدولة فی ضوع

عهد الامام امیر المؤمنین علیه السلام لمالك الأشتر رضی الله عنه

أعمال

المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول

لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1213 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLIrda = رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 N5 2018

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعية الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

(1)

نظام الحکم وادارة الدولة فی ضوع

عهد الامام امیر المؤمنین علیه السلام لمالك الأشتر رضی الله عنه

أعمال

المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول

لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

لسنة 8341 ه - 6102 م

(المحور الأخلاقي وحقوق الإنسان)

الجزء الثامن

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني:

www.inahj.org

الايميل:

Inahj.org@gmail.com

الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله).

الجهة الراعية للمؤتمر: الامانة العامة للعتبة الحسنينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 22 - 24 من شهر ربيع الأول من العام 1438 ه

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1213 لسنة 2018 م.

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة الفنية: وحدة الاخراج الفني في مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في عهد مالك الأشتر (قراءات في نماذج)

اشارة

م. د. خمائل شاكر الجماليّ

جامعة بغداد - مركز إحياء التراث العلمي العربي

ص: 5

ص: 6

مقدمة

لقدّ شرف الله تعالى الإنسان وحباه بصنوف التوقير والاعزاز، والوان الدعم والتأييد، فضمن حقوقه، وحفظ وكرامته، وصان عرضه، وحرم ماله ودمه، ووالي اليه الطافه، حتى اعلن في كتابه الكريم عنايته بالإنسان ورعايته له في الحياة وعلى كافة المستويات، وتأتي حقوق الإنسان كخطوة أولى في تحقيق العدالة في المجال السياسي. وأن موقف الإمام علي (عليه السلام) من حقوق الإنسان في الحرية البناءة المقيدة لا المفرطة، وهي حفظ حقوقه الإنسانية وكرامته، وصون النفس البشرية. الطرح الذي اوجده الإمام (عليه السلام) في هذا الجانب، أن الناس في نظره لهم حقوق بأجمعهم ولا يسوغ أن يكونوا عبيد غيرهم، وأن يُجر الانسان إلى نير العبودية، ويدفع الأنظمة إلى التجبر والتسلط والطغيان، فإذا ما أراد المجتمع الإسلامي أن يرتقي ذُرى الحرية ويبلغ الاستقلال الحقيقي، فيحتم عليه في البدء أن يحكم الارتباط بالله ويقوم بشروط العبودية لله لا عبودية احد بحسب تعبير الإمام (عليه السلام)، فشروط العبودية لله، هي في الحقيقة قوانين حقوق الإنسان الواقعية للناس، وإذا لم تذعن الإنسانية إلى هذه الشروط، فستغدوا حقوقها واستقلالها الخارجي حالة مؤقتة، وهي عائدة إلى العبودية الأخرى، الإنسان للإنسان حتماً.

فهي اعتناق الإنسان لحقوقه وتحرره من اسوار الرق والطغيان، وتمتعه بحقوقه المشروعة، وهي من اقدس الحقوق واجلها خطراً، وابلغها في حياة الناس، لذلك اقر الإسلام هذا الحق وحرص على حمايته وسيادته في المجتمع الإسلامي، وليست الحقوق كما يفهمها الاغرار، هي التحلل من جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم المجتمع، واصلاحه وصيانة حقوقه وحرماته، فتلك هي حقوق الغاب والوحوش، الباعثة على فساد المجتمع وتسيبه، وإنما الحقوق الحقة هي التي تمتع الإنسان بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم؛ فالحقوق البناءة إذا منحت من قبل الحاكم

ص: 7

للرعية؛ إنما تدل على عدل الحاكم ونظامه السياسي، لأنه سائس للرعية، وولي امرهم فهو اجدر الناس للعدل في حقوقهم واولاهم التحلي به، وعدل الحاكم هو اسمي المفاهيم الاخلاقية في النظام السياسي الإسلامي واروعها مجالاً وبهاءً، وابلغها اثراً في حياة الناس، وبعدل الحاكم يستتب الأمن وتسود الحقوق والرخاء وتسعد الرعية.

إن الحقوق هي من أهم المسالك العدل الحاكم سياسياً تجاه شعبه؛ مما يضمن استقرار ورفاهية المجتمع. فالحقوق التي سنها الإسلام للمسلمين، هي تلك الحقوق البناءة المشروعة المنضبطة، إذ لم يرى التاريخ الطويل للعالم لها نظيراً ولا مثيلاً، فإن الإسلام يعطي لكل فرد من المسلمين ولغير المسلمين من سائر البشر كامل الحقوق في جميع المجالات المشروعة، ما دام لا يضر بحقوق غيره. وأول ما يبدأ الإسلام بحقوق الإنسان فيه، حق الفكر واختيار الدين، فالإنسان له الحق بنظر الإسلام في مزاولة كل انواع الاعمال بمختلف أشكالها واحوالها في أي زمان ومكان، وله الحق في جميع تصرفاته، في نفسه وامواله وتصرفاته الشخصية، في جميع ابعاد الحياة الإنسانية. وإن الإنسان يولد وله الحق؛ ولقدّ قدس الإسلام حقوق الإنسان واعتبرها من أهم القيم الإنسانية على الاطلاق، وإنه اعظم الحقوق الإنسانية فهي حقوقه، ومن المفترض أن يتمتع الإنسان بحقوقه فيه کاملاً کما اراد الله ذلك قال تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ». الاعراف : 157

لقدّ سار الإمام علي (عليه السلام) بمبادئ الإسلام، التي هي مبادئ الرحمة والاخلاق الإنسانية؛ ولذا فإن الإمام (عليه السلام) جذر مصادیق الحقوق بأحب مفاهيمه، فقدّ منح الإمام علي (عليه السلام) الحقوق حتى لإعدائه وخصومه الذين تخلفوا عن بيعته، وقدّ منح الحقوق للخوارج ولم يحرمهم عطائهم، مع العلم أنهم كانوا يشكلون اقوى تكتل معارض لحكومته، فلما اذاعوا الذعر والخوف بين الناس، انبرى إلى قتالهم، حفاظاً على النظام العام.

ص: 8

المبحث الأول: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في عهد مالك الأشتر

قدّ جهد الإسلام في حماية الإنسان وضمان حقوقه، وحفظ كرامته فرداً ومجتمعاً، مادياً ومعنوياً وادبياً، فشرع الحدود والديانات صيانة لا رواحهم واموالهم وحرماتهم، وردعاً للعابثين بأمن المجتمع ومقدراته.(1)

يقول عز الدين سليم: يتبين من مجريات التاريخ وحقائقه أنها كشفت بدون ادنی شك إلى أن انعطافاً كبيراً قدّ ترسخ بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وهذا الانعطاف والتغيير هو ليس لصالح حقوق الإنسان البشرية، ولا لكرامته واهدافه العليا، ولكن انقياد السلطة والخلافة الاسلامية للإمام علي (عليه السلام)، جعلت من اولويات خطوط سياسته وأهدافها، ارساء قواعد الحقوق الإنسانية كما قدرها الله عز وجل. (2)

ويذهب محمد الريشهري: إن من دعائم ومرتكزات مواجهة الإمام علي (عليه السلام) للانحرافات السابقة وعدم مهادنتها، هي مداراة الناس حقوقهم الإنسانية، وصون كرامتهم، وجعل هذه الدعامة من الصفات التي يجب على مركز الخلافة أن تتقمصها وتدرجها على أرض الواقع. لذلك بدأ (عليه السلام) بمقارعة الاخطاء التي كانت تهدد أساس الإسلام وكيان الإنسان وضرب کرامته، منذ اليوم الأول من خلافته (3)

هذا وكان عصر الإمام علي (عليه السلام) عصراً نعم فيه الناس بالحقوق الإسلامية الواسعة، وهي اشبه بالحقوق التي منحها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) للناس في صدر الإسلام، فكان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون، بل كل البشر يعيشون في ظل الإسلام حياة محترمة هانئة في عزة ورفاه في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، فهو واضع الاُسس العميقة للحقوق بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بأقواله ومنفذ ومطبق للحرية بأعماله وممارساته في اوساط الاُمة. (4)

ص: 9

ويمكن القول أن مبادئ حقوق الإنسان وغيرها التي جسدها الإمام علي (عليه السلام) في فترة خلافته، ما هي إلا انعكاساً لتقدير وتكريم الإمام علي (عليه السلام) للإنسان لحقوقه الإنسانية، ورفع شأنه، والسمو بمقامه، وكيانه المادي والمعنوي.

إذ سعی (عليه السلام) إلى جعل قيمة حقوق الإنسان بقيمة الجنة عند الله، يقول: ((إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها))(5). وفي مجال آخر، يوصي (عليه السلام) الولاة والملوك؛ بأن نفس الإنسان كريمة على الله وينبذ مخاصمة هذه النفس وظلمها، لأن في ذلك وقوعه خصماً مع الله تعالى، يقول: ((دارِ عن المؤمنين ما استطعت، فإن ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله فلا يكون خصمك))(6).

إن حقوق الإنسان في الإسلام، تقوم على أساس الإيمان بمساواة افراد المجتمع في تحمل اعباء الأمانة الإلهية وتضامنهم في تطبيق احكام الله تعالى. ومن ثم اضطلاع النظام السياسي الإسلامي بكفالة الحقوق البناءة لكل البشرية، وهذا ما قام عليه النظام السياسي عند الإمام علي (عليه السلام) بضمان تنمية الحقوق البناءة والمشروعة.

هذه هي ابرز الحقوق الإنسانية التي جسدها الإمام علي (عليه السلام) والتي تعكس التزام الإمام (عليه السلام) بتعاليم الإسلام وسنة الرسول بهذا المبدأ، وابرزت بُعداً انسانياً عميقاً ایام خلافته وقبله، مما تعكس أُسس العدالة الاجتماعية في حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) بكافة المجالات(7).

لقدّ امتدت حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) إلى المجال الانساني بعمق، فهي صيانة للكيان المادي والمعنوي للإنسان، وتكاملت وتفاعلت مع مجموعة من المجالات الاُخرى التي مرت بنا سابقاً والتي آمن بها ودعى اليها الإمام علي (عليه السلام)، فضلاً عن تجسيدها بصورة حية وفاعلة في سلوكه العملي قبل وابان مدة حكمه.

ص: 10

فقد ارسی (عليه السلام) عنايته الشاملة بالإنسان وحقوقه واهتمامه بالنفس الإنسانية، التي تعد مدخل للتربية الوجدانية وجعلها الهدف الأساسي لخلافته، من اجل الارتقاء بالإنسانية جمعاء صوب التكامل الذي نشده الإسلام(8).

من هذا المنطلق الإسلامي، أهتم الإمام علي (عليه السلام) لعهده لمالك الأشتر بالإنسان في ضمان حقوقه، وصون كرامته ورعايتهما، وصيانة مشاعره الدينية.. وتجسيد واعلاء ابعاد النفس الإنسانية. فقدّ سعى (عليه السلام) لعهده لمالك الأشتر إلى رفض كل ما يبعث على الاستهانة بالإنسان وحقوقه، ويخدش كرامته ويلوث سمعته بسبه او التنابز بالألقاب واللمز والنميمة والتحقير الموجه ضده، سعياً منه (عليه السلام) لإشاعة حقوق الإنسان في العزة والكرامة في نفوس ابناء الاُمة وفي ثنايا المجتمع(9).

ويعتبر عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر من أطول العهود ومن أهمها؛ ليس فقط لأنه يكشف العقلية الفذة التي يملكها الإمام علي (عليه السلام) في إدارة الأمور بل في القانونية، والشمولية، والإنسانية التي طبعت بنود العهد، ومما لاشك فيه أن العهد يعتبر وثيقة إسلامية رائعة في أهم القطاعات الحياتية التي هي إدارة الدولة، ومن هنا فإن دراسة العهد وتفكيك نصوصه ومحاولة فهم نظرية الحكم والإدارة في نظر الإمام علي (عليه السلام) الذي هو نظر الإسلام يعتبر مسألة في غاية الأهمية (10).

وقدّ وردت التعاليم والقيم بعضها يتعلق بالأمور الاقتصادية، وبعضها بالأمور السياسية العسكرية والاجتماعية وبعضها تعاليم لمالك الأشتر بوصفه حاكماً إسلاميا(11).

إن عهد الإمام علي لمالك الاشتر تعتبر أول وثيقة قانونية مفصلة تعالج واجبات الحاكم ووظائفه والعلاقات بين الشعب وبين الحاكم، وكما يفصل في الحديث عن السلطات الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية)، ويضع الضوابط لأشخاصها(12).

الإسلام يرفض السياسات الطبقية التي تعتمد في إدارة شؤون البلاد على طبقة خاصة

ص: 11

ومن ثم توزع مغانم الحياة بين أفراد هذه الطبقة دون بقية افراد الأمة فالحكم الإسلامي يجب أن يعتمد على القاعدة الواسعة من الشعب. الحل الوسط في الأمور بشرط أن يكون حقاً كي لا يجحف بحقوق الآخرين(13).

ثم أعلم يا مالك، أني قدْ وجهتك إلى بلادٍ قدْ جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون منْ أموركَ في مثلِ ما كنتَ تنظرُ فيهِ منْ أمورِ الولاةِ قبلك، ويقولون فيكَ ما كنتَ تقولُ فيهمْ، وإنما يستدل على الصالحينَ بما يجري الله لهمْ على ألسنِ عبادهِ، فليكنْ أحب الذخائر إليك ذخيرة العملِ الصالحِ، فآملك هواكَ، وشحَّ بنفسكَ عما لَا يحلُّ، فإن الشحَّ بالنفسِ الأنصاف منها فيما أحبتْ أو كَرِهت. هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاهُ مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها(14).

ص: 12

المبحث الثاني: قراءات في نماذج لحقوق الإنسان

- وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ،

فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ.

وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة لهُ في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحافِ، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عُذراً، عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عمادُ الدين، وجماع المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة؛ فليكن صغوك لهم، وميلك معهم(15).

- وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ والخطأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الاْمْرِ

عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ (16).

- واجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّى يُكَلِّمَكَ

مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: نْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع(17).

- إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى بزوال نعمةٍ، وانقطاع مدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها. والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسفكوا من الدماء يوم القيامة؛ فلا تقوين سلطانك بسفك دمٍ حرامٍ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في

ص: 13

قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وأن ابتليت بخطاءٍ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة؛ فإن في الوخزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم(18).

- يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يدخل في الباطل ولا يخرج من الحق(19).

- وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، إِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ (20).

- إن الله لم يخلق الإنسان عبثاً وإنما خلقه حرماً في ارضه وامناً بين خلقه، وجمع الفتنكم فنشرت النعمة عليكم(21).

- وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيِهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ،

وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَی مَا لاَ تَقْدرِ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَأمِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ

عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!(22)

- أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ

خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمه الله وتعجيل نقمته منْ إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد(23).

- دارِ عن المؤمنين ما استطعت، فإن ظهره حمى الله، ونفسه كريمة على الله، وله يكون ثواب الله، وظالمه خصم الله فلا يكون خصمك(24).

- إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها(25).

- وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة؛ او البسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة: فلا تغدرن بذمتك ولا تبخسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ

ص: 14

على الله إلا جاهل شقي (26).

- الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوفى منه(27).

- واوفوا بالعهد اذا عاهدتم، وادوا الامانات اذا ائتمنتم(28).

- واياك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته اماناً امضاء بين العباد برحمته، والصبر على ضيق ترجوا انفراجه، خير من عذر تخاف وسوء عاقبة(29).

- وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ،

وَأَكْرَهَ للأنصاف، وَأَسْأَلَ بالإلحاف، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ للأعداء، الْعَامَّةُ مِنَ الاُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ(30).

- ولا تتركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى الله الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم(31).

- وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ(32).

- أطلق عن الناس عقدة كل حقدٍ، واقطع عنك سبب كل ونزٍ وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساعِ، فإن الساعي غاشَّ، وإن تشبه بالناصحين (33).

- ولا تنقضن سُنة صالحة عمل بها صدور الأمة، واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها - الرعية، ولا تحدثن سُنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن؛ فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك با نقضت منها(34).

ص: 15

- ولا تنقضن سُنة صالحة عمل بها صدور الاُمة، واجتمعت بها الاُلفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سُنة تضر بشيء من ماضي تلك السُنن؛ فيكون الاجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها(34).

- ولا تنصبنَّ نفسكَ لحربِ اللهِ فأنه لا يد لك بنقمتهِ، ولا غنى بكَ عنْ عفوهِ ورحمتهِ، ولا تندمنَّ على عفوٍ، ولا تبجحن بعقوبةٍ، ولا تسرعنَّ إلى بادرةٍ وجدتَ منها مندومةً، ولا تقولنَّ: إني مؤمر آمر فأطاعُ، فأطاعُ، فإنَّ ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. وإذا أحدثَ لكَ ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فأنظر إلى عظم ملك اللهِ فوقكَ، وقدرتهِ منكَ على ما لا تقدر عليه من نفسكَ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحكَ، ويكفُّ عنكَ من غربِكَ ويفيُ إليك بما عَزَبَ عنك من عقلك(35).

- أمرهُ بتقوى الله، وإيثار طاعته، وأتباع ما أمر بهِ في كتابهِ من فرائضهِ وسننهِ، التي لا يسعدُ أحدُ إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جُحُودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فإنه، جل اسمه، قدْ تكفل بنصر من نصرهُ، وإعزاز منْ أعزهُ.(36)

- إياك ومساماة الله في عظمتهِ، والتشبهَ به في جبروتهِ فإن الله يذل كل جبارٍ، ويهين كل مختالٍ (37).

- ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأُمور، ولا حريصاً يزين لك الشرهَ بالجور، فإن البخل والحرص غرائز شتى يجمعها سُوء الظن بالله (38).

- وإياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين (39).

ص: 16

- وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس. قال تعالى: (كَبُرَ مقتاً عندَ الله أن تقولوا ما لاَ تفعلونَ)(40).

- إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمرٍ موضعه، وأوقع كل أمر موقعهُ (41).

- وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم املك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار: ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك.(42)

- واعلم ان افضل عباد الله عند الله، إمام عادل هدي وهدى، فأقام سُنة معلومة، وامات بدعة مجهولة، وأن السُنن لنيرة لها أعلام، وأن البدع الظاهرة لها اعلام))(43).

والواجب عليك أن تتذكر ما مضى امن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فريضة في كتاب الله، فتفدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبةٍ، وأن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، (إنا إليه راجعون).

ص: 17

الخاتمة:

أن حقوق الإنسان وصلاح النفس وتعزيز قيمة الإنسان واشعاره بإنسانيته، ورفض سياسة التسقيط والتسطيح للكيان المعنوي للإنسان، لأن تعاليم وقيم الإسلام، تؤكد على حفظ حقوق الإنسان وصون الكرامة الإنسانية. وأن احترام الإمام علي (عليه السلام) لحقوق الإنسان، إنما هو جانب من جوانب ترسيخ الوحدة الإنسانية والاخوة الإيمانية. إذ أن من ركائز المجتمع السياسي الإسلامي النظرة الثابتة للوحدة الإنسانية بين جميع البشر، والرابطة الاسلامية بين جميع من يعتنق الإسلام، فالبشر كلهم من آدم، فلا بدّ أن يقوم بينهم تعاون مشترك على أساس القيم العليا الثابتة، من أجل الحفاظ على المسيرة البشرية من الانحراف عن اإرادة الله، والرابطة الإسلامية هي إنسانية تمحو كل رابطة وصلة وعلاقة من نسب أو جنسية أو وطن أو لغة أو عنصر أو لون، وهذه الرابطة اختارها الله تعالى. ومن أجل تفعيل هذا كله تقف مسألة صون وحفظ واحترام حقوق الانسان، عنصراً فاعلاً في تحقيق الرابطة الإنسانية والأخوة الإيمانية.

على الرغم من تصلب الإمام علي (عليه السلام) في احقاق الحق، إلا أنه ادرك على أن منطق الحنان ارفع من منطق القانون، وأن عطف الأنسان على الإنسان وسائر الكائنات، إنما هو حجة الحياة على الموت والوجود على العدم. وإن الإمام علي (عليه السلام) يقرر أن المجتمع الصالح، هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها واشرف اشكالها، إنما احد طرق ذلك هو سن القوانين أو ما هو من باب القانون، ولكن هذا القانون لا ينجلي في ذهنه ولا يصبح ضرورة، إلا إذا كان انبثاق طبيعي عن حقوق الإنسان الكونية الشاملة، التي تفرض وجود هذا القانون، لذلك ترى أن الإمام (عليه السلام) مُلحاً شديد الالحاح على النظر فيما وراء القوانين، وعلى رعايتها بما هو اسمى منها بالحق الإنساني، وإذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح للحاكم الإسلامي أن

ص: 18

يحارب المتآمرين والمنابذين والمخالفين، فإن عليه أن لا يفعل بعد أن يراعي كل جوانب الإنسانية في نفسه وقلبه ويستشير كل روابط الآخاء البشري في نفوس مقاتليه وقلوبهم، فإن الرأفة بالإنسان، وهي لديه وراء كل قانون تحمله، على أن يقول رأس العلم الرفق.

ويبدو مما تقدم أن الإمام علي (عليه السلام) اهتم بحق الإنسان، واعتبره قيمة اساسية لا تقل اهمية عن قيم الإنسان الاُخرى. والإمام (عليه السلام) حدد الحقوق الإنسانية بامتلاك الإنسان بما هو إنسان من العزة، والشرف، والتوقير، فلا يجوز انتهاك حرمته وامتهان كرامته لأن الانسان في نظر الإمام (عليه السلام) مكرم وقدّ فضله الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..».الأسراء : 70

لذلك فأن حقوق الإنسان الإسلامية المشروعة هي الشرف والعزة وقيمة الوجود التي تحقق الاحترام للإنسان واثبات الحقوق في النوع الإسلامي، كما اثبتت ذلك الآيات القرآنية فهو يحكم بشكل قطعي بأن حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي موجودة في أي زمان ومكان حتى بعد موته وقتله وانزال القصاص الثابت به، ولا يحق لأحد أن ينزل الإهانة بالإنسان. فحق الإنسان الإنسانية يرتبط بحق الحياة، واذا لم يستطع النظام السياسي كفالة حقوق الإنسان، فلن يستطيع اثبات حق الحياة الطبيعية، الواجب مراعاتها لجميع الخلق٭.

ص: 19

الهوامش

(1) الصدر. محمد مهدي. أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، د.م، د.ن، د.ت)، ص 465.

(2) عز الدین سليم. المعارضة السياسية في تجربة امير المؤمنين (عليه السلام)، ط 1، بيروت، دار الهادي للنشر، 2003، ص 69.

(3) الريشهري، محمد.القيادة في الإسلام، تحقيق وتعريب: علي الاسدي، قم، مؤسسة دار الحديث الثقافية، د.ت، ص 246.

(4) صادق الحسيني الشيرازي.السياسة من واقع الاسلام، ط 4، بيروت، دار المجتبى لتحقيق والنشر، 2003، ص156 - 157.

(5) لبيب بيضون. تصنيف نهج البلاغة، ط 3، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1417 ه، ص 719.

(6) الطبرسي، ميرزا النوري.مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ط 11، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1408 ه، ص 220.

(7) غسان عكلاوي، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2005، ص 293.

(8) الريشهري، المصدر السابق، ص 257.

(9) الطبرسي، المصدر السابق، ص 243.

(11) ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (ت 630 ه - 1233 م).الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987، ص 287 - 289.

ص: 20

(12) لبیب بیضون، المصدر السابق، ص 665.

(13) ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبه الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه - 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقیق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959، ص 321 - 323.

(14) جرذاق، جورج، الإمام علي (عليهم السلام) صوت العدالة الإنسانية، ط 2، قم، دار ذوي القربی، 1424 ه، ص 187.

(15) الطبرسي، أبي الفضل بن الحسن، مکارم الأخلاق، تصحیح وتعلیق: علاء الدين الطالقاني، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1376 ه، ص 143 - 145.

(16) جرذاق، المصدر السابق، ص 165.

(17) العاملي، جمال الدين. الدر النظيم، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، د.ت، ص 376.

(18) الدينوري، أبي محمد بن مسلم بن قتيبة. الإمامة والسياسة (تاریخ الخلفاء)، تحقيق: محمد الزيني، (د.م)، مؤسسة الحلبي للطباعة والنشر، د.ت، ص 133.

(19) العاملي، المصدر السابق، ص 378.

(20) الحراني، ابن محمد. تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، تصحيح وتعليق: علي اکبر الغفاري، ط 2، (قم مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه، ص 176.

(21) الدينوري، المصدر السابق، ص 376 - 377.

(22) الدينوري، المصدر نفسه، ص 377.

(23) الحسني، هاشم معروف، سيرة ألائمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ط 2، بیروت، دار القلم، 1987، ص 149.

(24) الحكيم، محمد باقر، العلاقة بين القيادة والأمة من خلال رؤية نهج البلاغة، ط 1، قم، انتشارات الإمام الحسين (عليهم السلام) للطباعة والنشر والتبليغ، 1425 ه،

ص: 21

ص 139.

(25) حمید الله، محمد، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط 3، (بیروت، دار الإرشاد، 1969، ص 284.

(26) الحراني، المصدر السابق، ص 182.

(27) الحلي، أبو الحسين بن يوسف المطهر. کشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليهم السلام)، تحقيق: حسين الدرکاهي، ط 1، طهران، د.ن، 1411 ه، ص 356.

(28) ابن أبي الحديد، المصدر السابق، 326.

(29) الحلي، نجم الدين جعفر، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تحقیق وتعليق : عبد الحسين محمد علي، بیروت، دار الأضواء، 1983، ص 194.

(30) السند، محمد، أسس النظام السياسي عند الامامية، جمع وتقرير: مصطفی الاسكندري ومحمد الرضوي، ط 1، (قم، باقيات للنشر، 1326 ه، ص 298.

(31) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، تاریخ الخلفاء، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، قم، مطبوعات الشريف الرضي، 1411 ه، ص 177.

(32) أبن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 ه). الإصابة في معرفة الصحابة، دار العلوم الحديثة، القاهرة، 1328 ه، ص 213.

(33) طي، محمد. «مبادئ نظام الحكم السلامي بين الإلغاء والتطبيق»، مجلة المنهاج، بیروت، العدد 2، 1996، ص 265.

(34) السند، المصدر السابق، ص 301.

(35) عبد الحميد، صائب. « أساس نظام الحكم في الإسلام»، مجلة تراثنا، قم، العدد 41، 1416 ه، ص 293.

(36) العسل، إبراهيم. «الفكر الإنمائي عند الإمام علي (عليهم السلام)»، مجلة المنهاج، بیروت، العدد 5، 1997، ص 311.

ص: 22

(37) ابن حجر، المصدر السابق، ص 213.

(38) فضل الله، محمد حسين. «تأملات في الحرية الفكرية والسياسية في الإسلام»، مجلة الثقافة الإسلامية، دمشق، العدد 16، 1408 ه، ص 247.

(39) زهیر، محمد تقي. «النظام السياسي في الإسلام»، مجلة التوحيد، طهران، العدد 9، 1404ه، ص 264.

(40) زیتون، علي مهدي، «العدالة السياسية عند الإمام علي (عليهم السلام) بين الحكومة والشعب»، مجلة الثقافة الإسلامية، دمشق، العدد 88، 2003، ص 219.

(41) سلسلة العلوم والمعارف الإسلامية، «الحياة السياسية لائمة أهل البيت (عليهم السلام)» مؤسسة المعارف الإسلامية، الكتاب 14، د.ت، ص 87.

(42) الشيرازي، المصدر السابق، ص 321.

(43) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، ج 2، ص 276، وابن کثیر، البداية والنهاية، مصدر سابق، ج 7، ص 68.

ص: 23

المصادر

- القرآن الكريم

1 - ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين المدائني (ت 656 ه - 1258 م). شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، د.م، 1959.

2 - ابن الأثير، عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري (ت 630 ه - 1233 م). الكامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987.

3 - أبن حجر، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 ه). الإصابة في معرفة الصحابة، دار العلوم الحديثة، القاهرة، 1328 ه.

4 - جرذاق، جورج. الإمام علي (عليهم السلام) صوت العدالة الإنسانية، ط 2، قم، دار ذوي القربی، 1424 ه.

5 - الحراني، ابن محمد. تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، تصحیح وتعلیق: علي اكبر الغفاري، ط 2، قم مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه.

6 - الحسني، هاشم معروف. سيرة ألأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ط 2، بیروت، دار القلم، 1987.

7 - الحكيم، محمد باقر، العلاقة بين القيادة والأمة من خلال رؤية نهج البلاغة، ط 1، قم، انتشارات الإمام الحسين (عليهم السلام) للطباعة والنشر والتبليغ، 1425 ه.

8- الحلي، أبو الحسين بن يوسف المطهر. کشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليهم السلام)، تحقيق: حسين الدرکاهي، ط 1، طهران، د.ن، 1411 ه.

ص: 24

9 - الحلي، نجم الدين جعفر، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تحقیق وتعلیق:

عبد الحسين محمد علي، بیروت، دار الأضواء، 1983.

10 - حمید الله، محمد. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ط 3، بیروت، دار الإرشاد، 1969.

11 - الدينوري، أبي محمد بن مسلم بن قتيبة. الإمامة والسياسة (تاریخ الخلفاء)، تحقيق: محمد الزيني، د.م، مؤسسة الحلبي للطباعة والنشر، د.ت.

12 - الريشهري، محمد. القيادة في الإسلام، تحقیق وتعريب: علي الاسدي، قم، مؤسسة دار الحديث الثقافية، د.ت.

13 - زهير، محمد تقي. «النظام السياسي في الإسلام»، مجلة التوحيد، طهران، العدد 9، 1404 ه.

14 - زیتون، علي مهدي، «العدالة السياسية عند الإمام علي (عليهم السلام) بين الحكومة والشعب»، مجلة الثقافة الإسلامية، دمشق، العدد 88، 2003.

15 - سلسلة العلوم والمعارف الإسلامية، «الحياة السياسية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)» مؤسسة المعارف الإسلامية، الكتاب 14، د.ت.

16 - السند، محمد، أسس النظام السياسي عند الامامية، جمع وتقرير: مصطفی الاسكندري ومحمد الرضوي، ط 1، قم، باقیات للنشر، 1326 ه.

17 - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، تاریخ الخلفاء، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، قم، مطبوعات الشريف الرضي، 1411 ه.

18 - الشيرازي، صادق الحسيني. السياسة من واقع الإسلام، ط 4، (بیروت، دار المجتبی التحقيق والنشر، 2003.

19 - الصدر. محمد مهدي. أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، (د.م)، (د.ن)، (د.ت).

20 - الطبرسي، أبي الفضل بن الحسن، مکارم الأخلاق، تصحیح و تعلیق: علاء الدين

ص: 25

الطالقاني، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1376 ه.

21 - الطبرسي، میرزا النوري. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ط 11، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1408 ه.

22 - طي، محمد. «مبادئ نظام الحكم السلامي بين الإلغاء والتطبيق»، مجلة المنهاج، بیروت، العدد 2، 1996.

23 - العاملي، جمال الدين. الدر النظيم، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، د.ت.

24 - عبد الحميد، صائب. « أساس نظام الحكم في الإسلام»، مجلة تراثنا، قم، العدد 41، 1416 ه.

25 - عز الدين سليم. المعارضة السياسية في تجربة امير المؤمنين (عليه السلام)، ط 1، بیروت، دار الهادي للنشر، 2003.

26 - العسل، إبراهيم . «الفكر الإنمائي عند الإمام علي (عليهم السلام)»، مجلة المنهاج، بیروت، العدد 5، 1997.

27 - غسان عكلاوي، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2005.

28 - فضل الله، محمد حسين. «تأملات في الحرية الفكرية والسياسية في الإسلام»، مجلة الثقافة الإسلامية، دمشق، العدد 16، 1408 ه.

29 - لبيب بیضون. تصنیف نهج البلاغة، ط 3، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1417 ه.

ص: 26

ركائز التضامن والوحدة في العراق بين الماضي والحاضر عهد الإمام علي (عليه السلام) أنموذجاً

اشارة

د. دريد موسى داخل الأعرجي

د. محمد أحمد زكي المرزوك

جامعة بابل - كلية التربية الأساسية - قسم اللغة العربية

ص: 27

ص: 28

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد:

إن الحديث عن التضامن والوحدة الوطنية والإسلامية هو في حقيقته ومعناه حدیث عن الإسلام، وعن الأمة العربية والإسلامية.

إذ أن التضامن كما يقال على وزن (تفاعل) والذي يفيد (المشاركة) ولا يكون إلا بين أطراف متعددة تعمل متضامنة على تحصيل ما يضمن لها تحقيق سعادتها ويكفل لها متطلبات حياتها في عزة وكرامة، وحرية إرادة، وإقامة مجتمع فاضل تسوده العدالة وتظله الحرية ويعمره الأمن والرخاء.

وعليه فإن التضامن والوحدة الوطنية والإسلامية بهذا المعنى هو بعينه الدعوة إلى الإسلام بكل معانيه وتعاليمه ومناهجه.

بل إن مفهوم التضامن هو نتيجة حتمية لدعوة الرسل جميعاً الذين دعوا أممهم لعبادة الله وحده والالتفاف حول ما دعوهم إليه، والالتزام بما جاء وهم به من عند الله کما قال صلى الله عليه وآله وسلم «نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد»(1). وقوله سبحانه في دعوة إبراهيم - عليه السلام - وإسماعيل في رفع بناء البيت: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ

ص: 29

اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)» البقرة.

وبعد محاجة اليهود والنصارى وابطالها، أمر سبحانه المؤمنين أن يعلنوها صريحة: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)» البقرة.

فالدعوة إلى التضامن الإسلامي والوحدة الوطنية دعوة إلى الإسلام الذي دعت إليه جميع الرسل في جميع الأمم.

تعدد الدعوات المعاصرة:

والدعوة إلى التضامن والوحدة الوطنية في بلدنا الحبيب قد جاءت في هذا العصر الذي كثرت فيه الدعوات وتميزت فيه التكتلات، واختلفَت فيه مناهج الحياة، وكل حزب بما لديهم فرحون. وقد غشيت المجتمع العراقي والعالم الإسلامي من هذا كله سحب معتمة حجبت عن الكثيرين أضواء الحقيقة. وغزت عقولَ المسلمين حملات فكرية مشككة أوقعت العوام في حيرة وتركتهم في متاهة. تشتت فيها الصفوف و تفرقت فيها الكلمة وضاعت فيها الشخصية الإسلامية السليمة فطمع فيهم العدو وعجز عن مساعدتهم الصديق.

فاغتصبت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، ودنست مقدساتهم. وعجز العالم كله ماثلاً في المنظمة العالمية (هيئة الأمم) أن يفعل لنا شيئاً مهما كان الحق واضحاً والظلم فادحا. وأصبحنا على كثرة عددنا نكاد لا يُعبأ بنا فتخلفنا عن مكانتنا المرموقة وتخلينا عن مواقع

ص: 30

قيادتنا الحكيمة؛ بل أصبحنا تبعا لغيرنا وبدون اختيارنا. الأمر الذي جعل المخلصين من علمائنا الرّبانيين يبحثون عن الشخصية الإسلامية الضائعة، وعن المنهج العملي الصالح، ويتطلبون أقوم السبل التي تعيدنا إلى ما كنا علَيه، وترد لنا حقوقنا، وتخلصنا من تبعيتنا لغيرنا، ونصبح حيث وصفنا الله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» آل عمران 110.

فأيقن أولئك المخلصون أن لن يصلح آخر هذه الأمة إلا الذي أصلح أولها ألا وهو العودة إلى الإسلام السمح، وليست تلك الدعوات الزائفة ولا المتفلسفة التي تدعو للطائفية، والقومية، والمذهبية، والعرقية، فدعوا إلى التضامن الإسلامي والوَحدة الوطنية الحقيقية.

ثم يأتي هذا المؤتمر العلمي الهادف الذي يهدف لتوجيه الدعوة، وإعداد الدعاة فينعقد في هذه الجامعة العلمية المباركة التي انطلق منها العلماء والدعاة والقادة على السواء.

وموضوعه الآن: سبل تعزيز السلم المجتمعي في بلدنا العراق الحبيب ويدعو إلى تحقيق التضامن الإسلامي ووحدة المسلمين والعراقيين وقد حددت أهداف هذا المؤتمر في أهداف نبيلة بناءة واضحة وافية وهي كالآتي:

أهداف المؤتمر من وجهة نظرنا:

جاءت أهدافه محددة في خمس نقاط وهي:-

1 - تبصير العراقيين والأمة بالطريق الذي رسمته الدعوة الإسلامية النقية لتحقيق التضامن والوحدة لتعود كما كانت وكما يريد لها دينها أن تكون «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» آل عمران 103. «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)» الأنبياء.

2 - تعميق الانتماء والولاء للبلد العراق وللأمة الواحدة عقيدة وسلوكا، والتجاوب

ص: 31

مع مقوماتها من الأخوة والولاية، والتضامن، والاعتزاز بما اختصها الله به من الخيرية (كنتم خير أمة أخرجت للناس). «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» البقرة 143.

3 - إيجاد رأي عام وطني وإسلامي قوي يعي عن إيمان وبصيرة على هدى القرآن والسنة النبوية حقيقة التضامن والوحدة، ويربط حركته بهما في كل جوانب الحياة واتجاهاتها.

4 - تحكيم المنطق السليم وشريعة الإسلام بين جميع العراقيين والمسلمين والتسليم بما يحكمان به.

5 - أن يتحقق للوطن والأمة الإسلامية ما تسعى إليه من التقدم والقوة، وأن يراها العالم في مكانتها التي يجب أن تكون فيهَا لكي تعطي ذلك المكان ما هو مفتقر إليه لتصحيح أوضاعه وإصلاح حياته.

وهذه الأهداف كلها تلتقي مع العمل الجاد الأكيد الشامل لكل الأفراد وعلى مختلف المستويات للانضواء تحت راية الدعوة إلى التضامن والوحدة الوطنية وتطبيقه عملياً على واقع حياتنا وفي منهج سلوكنا.

وقد شاركت في هذا المؤتمر العلمي المبارك عناوين لمواضيع مختلفة كفيلة بتحقيق هذه الأهداف بلغ عددها الكثير الكثير...

ومنها هذا الموضوع بعنوان ركائز التضامن والوحدة وبما أن المرتكزات في كل شيء وهي جمع ركيزة ما تكون بمثابة القواعد والأسس التي يقوم عليها، وظهرت لي أهمية العناية بهذا الموضوع أحببت الكتابة فيه آملا التوفيق والسداد ومن الله تعالى العون والتأييد...

ص: 32

تمهيد بين يدي الموضوع

إن المتأمل لتاريخ الدعوات التي ظهرت في المجتمع الإنساني أيا كان شعارها وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في دول المنطقة فإن لكل دعوة مرتكزات ترتكز عليها، ومنطلقات تنطلق منها. وقد تزيف أو تفلسف بما يوهم العامة ويغريهم بها.

من ذلك الدعوة إلى القومية فإنها ترتكز على الجنس والعنصر ولا تبالي بالمبادئ ولا بالعقائد، ولا بالمواطنة، والسلم الأهلي والمجتمعي، وهي أشبه ما تكون بدعوى الجاهلية من التعصب للقبيلة، ويكفي لفساد هذه الدعوة أنها كانت ولا تزال السبب في تمزيق الأمم التي تظهر فيها وأول خطر منها على الناس ضياع الدولة ومؤسساتها إذ عمل الطائفيون على إثارة الأحقاد بين الطوائف والأديان والأعراق حرضوهم على اختصاص البلد بطائفة أو عرق معين، فكان الخراب وضياع مقومات الدولة القوية، وتمزيق أوصال البلد إلى دويلات.

وفي أوروبا القومية الجرمانية وغير ذلك.

وآخر الويلات التي جاءت بها دعوة الطائفية والقومية تقسيم قبرص بين الجنسية التركية والجنسية اليونانية.

ومما يندى له الجبين ما سمعته أن في نيجيريا أثناء الحرب الفلسطينية جهزت سفينة حربية لتتجه إلى فلسطين لإنقاذ القدس فسمع المسؤولون التنادي بالقومية العربية وأن على العرب حماية القدس وعليهم مسؤوليتها، فقال المسؤولون هناك إذا كانت القضية الفلسطينية قضية عربية وليست إسلامية فلسنا بعرب وأمروا السفينة بالعودة، إلى غير ذلك مما شهده العالم أخيرا.

وكل تلك الدعوات مع خطورتها فإنها محدودة الأفق محصورة الموطن مهزوزة المرتكزات لم تلبث أن تنهار فتنهدم بأصحابها.

ص: 33

وبعض تلك الدعوات قد تأباها فطر البشر فتفرض عليهم بقوة السلطة كالاشتراكية المتشددة، والتمييز العنصري، فتسلب الفرد أخص خصائص الإنسانية وهي حرية الاختيار، وتعطيل الإرادة وإهدار الكرامة.

أما دعوه التضامن والوحدة الوطنية والإسلامية:

فهي دعوة تتفق تماماً مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، وتساير طبيعته كل المسايرة وتتجاوب مع جبلته إلى أعماق نفسه.

ولهذا فلقد لمست شغاف القلوب واستجابت معها العواطف، فبرزت بين تلك الدعوات العديدة وكتب لها البقاء، وقوبلت بقبول حسن لأنها ارتكزت على مرتكزات أصيلة وعميقة وعملية واقعية لم تخرج عن طبيعة الإنسان، ولم تغاير عقيدته أو انتمائه الوطني والإسلامي، ولم تصطدم مع واقع حياته التي يحياها في هذا العالم. وهذا هو الإطار الكلي للفرد العراقي الوطني وللمجتمع.

وتتلخص تلك الركائز في نظري في أمور ثلاثة: -

(1) سُنّة الحياة وتكوين الإنسان.

(2) احترام وتطبيق منهج التشريع أو الدستور والقانون الوضعي والإسلامي جملة وتفصيلا.

(3) الواقع السياسي والوضع الاجتماعي الذي نعيشه مع العالم من حولنا...

ولكل ركيزة من هذه الركائز معطياتها، وفعاليتها لو تأملها كل عاقل ووطني لما حاد عنها ولبادر إلى الانتماء إليها، ولعرف أنها هي السبيل الوحيد التي تحقق له كل ما يتطلع إليه من استرجاع حقوقه المسلوبة، وتحقق له الأمن والسلم المجتمعي.

وسنحاول بعون الله تعالى وتوفيقه بيان كل ركيزة من هذه الثلاثة ومدى عطائها لدعوة التضامن والوحدة الوطنية...

ص: 34

وإني لآمل أن أكون بهذا العمل المحدود وجهد الطاقة أن أسهم ولو بالشيء اليسير في سبيل وحدة هذا البلد الحبيب أرضاً وشعباً، وأن أكون من بين العديدين من أفاضل المؤتمرين الذين تمكنهم ظروفهم من الاستيفاء والاستقصاء وبالله التوفيق...

الركيزة الأولى: تكوين الإنسان وسنن الحياة.

قام تكوين الإنسان على أن يكون تعاونياً متضامناً مع غيره لا إنعزالياً منفرداً بنفسه. ولعل معنى (إنسان) قد جاء من (الإيناس أو الأُنْس).

ففي تاريخ هذا الإنسان لم يستطع الإنسان الأول وهو أبو البشر آدم عليه السلام أن يعيش وحده ولو كان في جَنة الفردوس. فخلقَ الله له من نفسه زوجة يسكن إليها «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا» الأعراف: 189.

قال ابن كثير في تفسيره: { ويقال إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة كما قال السُّدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها من أنت؟

قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟. قالت: لتسكن إلي...}(2).

وذلك ما يشعر بأن تكوين الإنسان أساساً تكويناً جماعياً تعاونيا.

ثم بعد هبوطه إلى الأرض كانت حاجته أشد إلى من يعاونه فيها فبدأ بالإنجاب وتزاوج الأولاد، وإيجاد الأجيال والحفاظ على بقاء النوع. ومن ثم تقاسم أعباء الحياة.

ثم كانت الجماعة البشرية أمام العوامل الكونية التي اضطرتها اضطراراً على التضامن والتعاون والاتحاد لتواجه مجتمعة تلك العوامل التي لا يستطيع الفرد أن يواجهها كحماية أنفسهم من المخلوقات المتوحشة، وكتذليل الصعاب في الأرض لاستنبات نباتها،

ص: 35

واستحصاد زرعها، واستخراج كنوزها، وتصنيع موادها مما يحتاجونه في حياتهم على هذه الأرض.

ثم بعد انتشار الجماعة وتكاثر الجماعات جاءت التنظيمات الجماعية التي تميزت فيها التخصصات الميدانية وتخصص لها بعض أفراد الجماعة، ومن هذه التميزات أو التخصصات ما يأتي:

1 - التميز مثلاً في مجال الاقتصاد من مأكل وملبس ومسكن، وتخصص له رجال يعملون وينتجون ما يوفر للجماعة حاجاتها الاقتصادية.

2 - وتميز مجال الدفاع وحفظ الأمن، وتخصص له عسكريون ومدافعون عن الجماعة.

3 - وتميز مجال الطب والعلاج، وتخصص له أطباء ومعالجون.

4 - وتميز مجال التعليم وغير ذلك من المجالات بقدر ما تستجد حاجة الجماعة، وهكذا.

5 - ومن وراء ذلك كله السياسة والحكم والحكام والسياسيون مما هو في حكم الضرورة للجماعات البشرية، ولا يمكن أن تقوم كلها ولا بعضها إلا بتعاون الأفراد بعضهم البعض؛ بل إن كل تلك المجالات ذات الاختصاصات لا يمكن أن تقوم واحدة منها منفردة بدون معاونة مع الآخرين.

وإنا لنلمس ونشاهد ذلك في عالمنا المعاصر في جميع مؤسساته وفي مجموعها فيما بينها. ففي جميعها نجد أن كل مؤسسة تشتمل رئيساً ومرؤوسين وجميعهم من القاعدة إلى القمة كل في موقعه يؤدي واجبه أو هذا ما هو المفروض. ولا غنى لرئيس عن مرؤوس، أو العكس.

وكذلك فيما بين تلك المؤسسات كل منها تؤدي دورها في خدمة المجتمع مما لا تؤديه غيرها. وكل منها خادم ومخدوم في دائرة التعاون والتضامن کما قیل:

الناس للناس من بدو وحاضرة ٭٭٭ بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

ص: 36

فسنة الحياة تلزم الأحياء أفراداً وجماعات بالتضامن معا، وقد امتدت فشملت هذه الركيزة الطبيعية جميع دول العالم كله اليوم طوعاً أو كرهاً سواء أكان في السلم أو في الحرب.

عن طريق تبادل منافعهم فيما بينهم فعند هذه سلع وإنتاج ولتلك حاجة ماسة إليها وقد قامت السوق الأوربية بين دول أوربا بتنظيم هذه العلاقة بسبب تفاوت الثروات الطبيعية والكفاءات البشرية. فالسلعة التي تفيض عند هذه تحتاجها تلك وكذلك العكس وهلمّ جرا.

ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش في معزل عن العالم حيث ارتبطت كلها بمصالح مشتركة فهي تسير في نظام تضامن إلزامي تمليه ظروف الحياة وتطورات العالم، وعلى سبيل المثال ترابط العالم في تسيير الخطوط الجوية والخدمات البريدية، والأعمال المصرفية، والإصدارات المالية، والتمثيل الدبلوماسي وغير ذلك مما له الصبغة العالمية.

ولا يبعد من يقول إن هذه السنة الكونية التعاونية ليست قاصرة على الإنسان بل هي أيضا موجودة في عالم الحيوانات والحشرات ولا أدل على ذلك من عالم النحل والنمل.

وعلى هذا فإن هذه الركيزة التضامنية فطرية كونية وهي إلزامية جبرية ليس للإنسان فيها اختيار ولا له عنها استغناء.

فإذن كانت هذه الركيزة الفطرية يجب أن تُقر في إطار قانوني منظم، وكانت دعوة التضامن من هذا المنطلق دعوة فطرية تساير الفطرة وتساندها طبيعة الحياة.

وإذا كان لابد للإنسان أن يتضامن مع غيره ولكل جماعة أن تتعاون مع غيرها على أي مبدأ كان سواء كان عنصريا بالجنس أو عقائدياً باسم الدين أو المذهب، أو اقتصادياً بالإنتاج أو عسكريا بالأحلاف فلأن يكون باسم ومنهج الوطن والمواطنة من باب أولى حيث أنه منهج التعاون على البر والتقوى. وأن الخلق كلهم عباد الله والأرض كلها له سبحانه...

ص: 37

الركيزة الثانية: منهج القانون والتشريع الإسلامي السمح.

ولكي نحدد معالم هذا المنهج نعود إلى مدلول التضامن والغرض منه وهو أن يجد الإنسان فرداً كان أو جماعة ما يضمن له حياة أفضل يتوفر له فيها ما ينقصه، ويسلم فيها مما يضره، ومعلوم أن هذين المطلبين جلب النفع ودفع الضرر هما مطلب كل عاقل کما قيل:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ٭٭٭ يراد الفتى كيما يضر وينفع

أي یضر عدوه أو ينفع صديقه

والقانون يجب أن يشمل هذين المطلبين ومعهما الحث على مكارم الأخلاق وهو مطلب إنساني كما قال أكثم بن صيفي حين بلغه أمر ظهور دعوة الإسلام فأرسل ولده ليأتيه بخبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يدعو إليه، فرجع إليه وقال له: إنه يأمر بصلة الرحم وصدق الكلم، وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وينهى عن كذا وكذا...

فقال أكثم: إنه والله يا بني إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق.

وقد شرّع الإسلام عقود المعاملات لجلب النفع وتبادل المصالح لتوفير حاجيات الإنسان. من مطعم وملبس ومسكن آمن في صناعة وزراعة وتجارة.

کما شرّع لدفع الضر تحريم كل ضار بجواهر الحياة الخمسة - الدين - النفس - العقل - النسب والعرض. والمال. وجعل فيها حدوداً رادعة وزاجرة، وكذلك القانون والدستور.

كما أرشد ووجه لمكارم الأخلاق في الروابط الاجتماعية ابتداء من حقوق الزوجين وبر الوالدين. وحسن المعاشرة من العفو عن المسيء والإحسان والإيثار على النفس وغير ذلك، وكذلك روابط الجوار وصلة الأرحام، وكفالة الأيتام ومساندة الضعفاء، وعموم التعاون على البر والتقوى. وتظهر صور التضامن والوحدة في منهج الإسلام مفصلة ابتداء من العقيدة السليمة ثم

ص: 38

العبادات التي هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس كما قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)» الذاريات. فجميع المسلمين يلتقون على عبادة الله تعالى وحده وبالوجه الذي يرضاه.

وهذا المنهج قد ربط بين جميع الأمم الإسلامية كما قالي تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» الشورى 13. فهي وحدة دينية تربط الحق بالخلق في إطار التشريع الإسلامي.

والمواطنة هي المرتكز والتي يجتمع عليها العراقيون جميعاً، ويستوي فيها الغني والفقير والكبير والصغير، ويلتقي عليها من بالشمال بمن بالجنوب. وهى الركيزة التي تحرر الإنسان من استعباد الاستبداد، ومن طغيان الساسة وعوامل الطغيان لأن الفرد بإحساسه بأن جميع الناس مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات يجعله في حالة من الرّضا تدفعه لأن يكون متعاوناً ومعطاءاً في كل المجالات.

وأما ما يجمع المسلمين ولا يفرقهم فعوامل كثيرة ففي العبادات تتجلى هذه الصور عملياً بصور ملموسة وذلك كالآتي:-

(1) ففي الصلاة:

أ - وحدة التوقيت مرتبطة بحركة كونية من طلوع الشمس إلى غروبها.

ب - واستجابة النداء حي على الصلاة حي على الفلاح الله أكبر.

ج - وحدة الوجهة إلى مركز العالم كله إلى البيت الحرام: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» البقرة 144.

تبدأ هذه الوحدة في استدارة حول الكعبة ثم تتسع حتى تشمل أقطار العالم شرقاً وغرباً شمالاً وجنوبا.

ص: 39

(2) وفي الصيام:

أ - وحدة الزمن في الصوم بشهر واحد للجميع: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» البقرة 185.

ب - وحدة الشعور بالتعاطف والتراحم - يبدأ بالإمساك وينتهي بالإطعام وإخراج الفطرة طعمة للمساكين وطهرة للصائمين.

(3) - أما الزكاة:

أ - فهي تضامن إلزامي يربط مختلف الطبقات بعضها ببعض ويقارب بين من باعدت بينهم المادة ويجمع بين من فرق بينهم الغنى والفقر حيث يلتزم الغني بإخراج زكاة ماله: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)» الذاريات. «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» التوبة 103.

فالزكاة طهرة للنفوس من شح الأغنياء وحسد الفقراء، وزكاة للمال فلا تنقص وتصون المجتمع من حرب الطبقات وغزو الدعايات.

أما الحج وهو الركن الأعظم:

فهو عين التضامن ومظهر الوحدة في أظهر الصور وأقوى المعاني يفد الحجيج من كل فج عميق ملبين الداعي لحج بيت الله العتيق. مجددين العهد القديم مستجيبين نداء إبراهيم - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - يخرج الحاج من أهله ودياره مفارقاً زوجه وصغاره حتى يأتي الميقات فيتجرد من ثيابه متخلياً عن مظاهر دنياه. مُتدثراً رداءه وإزاره متهيأً لحال أخراه.

هناك يعود الحجيج على مختلف ألوانهم وتباعد أقطارهم وتعدد لغاتهم يعودون

ص: 40

إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها. وتعود إليهم فطرتهم التي ابتعدوا عنها فطرة الوحدة والإخاء والمساواة. فيستوي غنيهم وفقيرهم وأميرهم ومأمورهم. ويستوي عربيهم وعجميهم. وقاصيهم ودانيهم وحدة في الشكل والصورة ووحدة في الهدف والغاية يهتفون لبيك اللهم لبيك.

ب - وفي أرض عرفات في ذلك المشهد الفريد في تاريخ البشرية حاضرها وماضيها حواضرها وبواديها. مشهد يذكر بالماضي في عالم الذرة، حين أخرج الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم.

مشهد ينبههم لمستقبلهم يوم يجمع الله الخلائق ويحشرهم حفاة عراة. مشهد تذوب فيه فوارق الجنس والعنصر واللون وتتجلى فيه وحدة الأصل (كلكم لآدم وآدم من تراب). مشهد تفتح له حدود الأقاليم والأقطار والدول: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» الحج.

مشهد تلتقي فيه الأشباح وتتعانق فيه الأرواح {ليشهدوا منافع لهم}.

أمانة الوحدة والمواطنة: ومن هنا نتحمل أمانة الدعوة والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث حملها أصحابه لمن بعدهم: «بلغوا عني ولو آية». «رب مبلغ أوعى من سامع »(3) (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذه هي وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للناس جميعاً.

الاجتماعيات:

وكما ظهر مدى التضامن والوحدة الوطنية في العبادات يظهر كذلك وبقوة في مجال الاجتماعيات لأن القانون والالتزام به يقيم المجتمع على قواعد مثالية عالية ترتفع عن مقاییس المادة والمعاوضة إلى حد البذل والإيثار.

أ - ففي أصل تكوين المجتمع توجد المساواة في المبدأ فلا فرق بين مواطن وآخر: {لا

ص: 41

تحقرن أحداً فإما أن يكون أخاً لك في الدين أو نضيراً لك في الخلق}. ففيها وحدة المواطنة جمعاء.

ب - وفي تكوين الأسرة التي هي لبنة بناء المجتمع. أقامها على روابط المودة والرحمة.

فإذا جاء الأولاد: قابل بين عاطفة الأبوة بإيجاب بر البنوة وجعلها وفاء بحق قد استوفاه الأولاد من قبل ثم أظهر مدى حق الوالدين حين قرنه بحقه سبحانه في قضاء مبرم. ثم إن الولد سیستوفي مثل هذا الحق من أولاده إن هو أداه لأبويه. وهكذا دواليك.

ج - ثم هو يراعي هذا الصنف من الناس الذي حرم رعاية الأبوين وذاق بؤس القطيعة وذل العزلة ألا وهو اليتيم فكفله بالرعاية وأحاطه بالحنان وقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم لكافله أعلى المنازل في الجنة.

وهذا من أقوى دلائل الوحدة الوطنية والتضامن الإسلامي في المجتمع الإنساني.

لأنه يطيب نفس الأب على ولده إذا حضرته الوفاة بأن المجتمع كافل له ولده.

ثم إن هذا الولد اليتيم المكفول اليوم سيصبح غدا رجلا ويكفل يتيماً غيره.

د - ثم يفسح المجال خارج نطاق الأسرة فيأتي للجوار فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«الجار أحق بصقبه». «ولا يزال جبریل - عليه السلام - يوصيه بالجار حتى ظن صلى الله عليه وسلم أنه سيورثه»(4).

و - فتكون النتيجة ترابط الناس كالبناء الحصين «مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد». «المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا» (5)، فأي تضامن بعد هذا وأي وحدة بعد هذا وأي وحدة تضاهي ذلك.

ومن هنا حمّل الالتزام بالقانون وأخلاق الإسلام العراقيين جميعاً مسؤولية الحفاظ على تلك الوحدة وعلى هذا التضامن في السلم وفي الحرب أفراد أو جماعات.

«كلكم راع وكل مسئول عن رعيته».

ص: 42

{وتعاونوا على البر والتقوى}.

وفرض حقوقاً عامة على كل مواطن لأخيه المواطن: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا عطس فحمد فشمته . وإذا استنصحك فانصح له. وإذا مرض فعده. وإذا مات فشیعه »(6).

وتلك حقوق متبادلة بين الأفراد يتقاضونها فيما بينهم وقد استوعبت کامل وضع الإنسان من أول لقائه بالسلام عليه إلى آخر وداعه بالتشييع إلى مثواه الأخير.

ربط الإيمان بالمحبة والمودة والعاطفة والرحمة بينهم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

وحرم الجنة عليهم حتى تسودهم المحبة: «لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا».

فالوطنيون إذا ما ركزوا دعوتهم إلى الوحدة الوطنية والتضامن الإسلامي على وفق القانون كان تركيزا قويا ينطلق من عواطف وشعور كل مواطن حيث يحقق للجميع أفراداً وجماعات كل ما يسمو إليه دون أن تعترضه العقبات ولا تكدره الشبهات.

وهناك مجال الحكم في سلطاته الثلاث:

السلطة التشريعية. والسلطة القضائية. والسلطة التنفيذية، وهذه السلطات الثلاث وإن كانت بصورها موجودة في كل دولة إلا أنها في العراق تجربة جديدة تتميز بصبغة خاصة تنتعش أحياناً، وتتعثر أحياناً أخرى.

فالسلطة التشريعية في كل أمة هيئة متخصصة تنظر في ظروف وملابسات حياة الأمة فتشرع لها ما تراه صالحا.

ومهما يكن من شأن هذه الهيئة وتخصصاتها فهو عمل بشري جائز عليه الخطأ والصواب وهو ما يشهده العالم من طروء التغيير والتبديل فقد يكون ما رأوه اليوم يكون غير صالح في الغد.

ص: 43

وإن ما يطرأ على تلك الهيئات من سياسة داخلية واتجاهات فكرية قد تؤثر عليها إلى غير ذلك.

وقد نوّه القرآن الكريم إلى أصل هذه السلطات وإلى تميزها عما سواها. في قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)» الحديد، فإرسال الرسل بالبينات من ربهم، وإنزال الكتاب لتشريع مناهجهم والميزان للعدالة...

والسلطة القضائية، ليقوم الناس بالقسط إذ القضاء تطبيق للمنهج التشريعي والقانوني.

وأنزل الحديد إشارة إلى السلطة التنفيذية وأداة لتطبيق التشريعات والقوانين فيكون المجتمع تحت سلطة حكم عادلة قوية حكيمة.

ومن هذا المنطلق في الحكم كان الظلم في غيره محققاً، أي في غير وجود هذه السلطات الثلاث أو في حال تعطيلها.

وفي مقابل ذلك لا تتم المواطنة إلا باحترام هذه السلطات من قبل الكبير قبل الصغير.

ومن هذا المنطلق فان ارتکاز دعوة التضامن والوحدة الوطنية إلى القانون، وفي ظل الحكم الديمقراطي لا تلاقيها صعوبات ولا تعطلها عقبات وهي دعوة مضمون لها النصر، مضمونة نتيجتها للمجتمع سعادة في الدنيا وفلاحا في الآخرة.

ص: 44

الركيزة الثالثة: واقع الحياة الذي نعيشه والتيارات السياسية التي حولنا.

من الواضح البين حالة العالم السياسي والسياسة التي فرضت على الجميع وألزمت العالم كله العيش ضمن تكتلات سياسية، وأحلاف عسكرية واتفاقيات اقتصادية. وليس بوسع أي دولة أن تعيش وحدها في معزل عن هذا العالم بعيدة عن تلك التكتلات لقوة ترابط الدول بعضها مع بعض شاءت أم أبت.

ولم تعد السياسة مجرد تنظيم العلاقات الدولة في الخارج بل أصبح الداخل مرتبطا بالخارج في السلم وفي الحرب عن طريق الإنتاج والتسويق. فهي منافع مشتركة ومصالح متبادلة. توثقت باتفاقيات عالمية أو ثقافية وأحلاف عسكرية. وأهم ذلك كله الأحلاف العسكرية لأنها لحماية الدولة بكل مرافقها والداعي لكل ذلك من اتفاقيات وأحلاف هو شعور تلك الدول بالضعف وبالحاجة إلى تضامنها بعضها مع بعض وذلك منذ الحرب العالمية الأخيرة حيث كانت عصبة الأمم لدولة أوروبا ضد هتلر والنازية لعجز تلك الدول منفردة عن مقاومتها.

وبعد عصبة الأمم جاءت هيئة الأمم وضمت دول العالم على أمل الحياة في أمن وطمأنينة. ولكن هيئة الأمم لم تحقق للعالم ما أمله فيها حيث أقيمت في بادئ أمرها على التخصيص والامتياز فمنحت الدول الكبرى حق النقض (الفيتو).

ومن العجب أن يمنح هذا الحق للدول القوية التي تستطيع أن تظلم وأن تتعدى مما يصعب معه استخلاص حق المظلوم أو استرجاع حق مغصوب.

وكان الأولى لو أجيز ذلك أن يعطى للدول الضعيفة لترد به عن نفسها.

وأن أحداث التاريخ وخاصة في الدول النامية لتشهد بذلك.

فقامت جامعة الدول العربية وكان قيامها مظهراً من مظاهر تضامن دول المنطقة مهما قيل عن أسباب قيامها.

ص: 45

وكل تلك الهيئات والمؤسسات العالمية لم تستطع استتباب الأمن ولا منح الطمأنينة للعالم فنشأت تكتلات وأحلاف عسكرية انطلقت في سياق التسلح النووي بما يهدد العالم كله بالدمار. وذلك في حلفي الناتو وحلف شمال الأطلسي.

وانقسم العالم إلى معسكرين اقتصاديين شيوعي في الشرق، ورأسمالي في الغرب وما بقي من العالم يدعی بدول عدم الانحياز.

ولكن عدم انحيازه لم يعزله عن غيره ولم يبعده عن الخطر ومن ثم أوجد لنفسه ارتباطات فيما بينه وعقدت له عدة مؤتمرات لدراسة وضعه ووضع التدابير لصالحه.

وآخر ما يكون ما حدث في المنطقة من قيام مجلس تعاون دول الخليج دفع قيامه واقع العالم السياسي وحاجة دول المنطقة إلى التعاون الأخوي وقد شمل عدة مجالات عامة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وثقافياً وإعلاميا. فهو أصدق صورة لما نرجوه لبلدنا العراق الحبيب من التضامن والوحدة الوطنية.

ومع هذا كله فان هذه المؤسسات الدولية على اختلاف مناهجها وأشكالها فهي إما إقليمية محدودة وإما عالمية غير عادلة.

أما التضامن والوحدة الوطنية المنشودة في بلدنا الحبيب العراق فليس هو بالتضامن المادي النفعي وإنما هو تضامن أخوي عاطفي إنساني ديني دعَا إليه الإسلام والتزم الوطنيون بمضمونه ولا غنى لهم عنه.

«المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يسلمه، المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(7).

وتحت هذا الشعار واستجابة لهذا النداء: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) يدعوا الوطنيون إلى التضامن والوحدة الوطنية الحقيقية بكل قوة ووضوح في عراقنا الغالي.

ص: 46

وحدة العراق المنشودة:

إن الوحدة الوطنية والتضامن متلازمان ويلزم من وجود كل منهما وجود الآخر لأن البلد المتحد المتضامن، والأمة المتضامنة، متحدة.

والوحدة الوطنية في نظر الإسلام وتعاليمه ترتكز على مرتكزين رئيسين:

(1) وحدة الجنس.

(2) وحدة العقيدة .

ومن ورائهما عناية الله وإنعامه على عباده وامتنانه.

(1) أما وحدة الجنس ففي إرجاعهم إلى أبيهم آدم عليه السلام وأمهم حواء: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) ومن وراء هذا التعارف إخاء وتراحم: وقد صور الإمام علي عليه السلام معنى وحدة الجنس فقال في أبيات له:

الناس من جهة التمثيل أكفاء ٭٭٭ أبوهم آدم والأم حواء

(ب) أما وحدة العقيدة فهي الوحدة المعنوية التي تقابل الوحدة الحسية لأن العقيدة عمل القلب لا علاقة لها بالجنس ولا باللون ولا بالمكان ولا بالزمان فيرتبط فيها جميع أبناء البلد الواحد فيؤمن أنه وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وسكن في جوارك، شعر يقينا أن كل من اتصف بذلك أنه أخ له في دينه، أو في انسانيته، وملتزم معه في تكاليفه فيرتبط آخر الأمة بأولها بل صالح هذه الأمة بصلحاء الأمم.

(ج) أما عناية الله في هذه الوحدة وإنعامه على هذا البلد فهو من تأليف هذه القلوب وتقارب هذه النفوس يلقي العراقي أخاه العراقي من أقصى الأماكن فيؤويه بعد أن هُجِّر من دیاره. فإذا هو يبادله المشاعر ويواسيه في أهله وماله ويتبادل معه التعاطف. وذلك تحقيقاً لقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» آل عمران 103.

ص: 47

وبعد امتنانه بها شرع ما يحفظها. وما يديمها فبعد قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ».

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» 11 الحجرات.

کما نهی عن سوء الظن وعن التجسس والغيبة. وهي كلها عوامل فرقة وتمزيق الوحدة الوطنية بينما دعا إلى تقوية هذه الوحدة بالتراحم والتعاون وحسن الجوار وكل ما فيه معاني الإنسانية من عفو وتسامح إلى حد الإحسان إلى المسيء.

وهنا نربط بين ما ذكر من ركائز ودعامات وبين ما جاء من أسس راقية لبناء المجتمعات الصالحة والموحدة القوية في عهد الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر مالك الأشتر.

فنقول:

أولاً: التعريف بمالك الأشتر:

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة بن ربيعة بن جزيمة ابن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن علة بن مالك بن أدد، وكان فارساً شجاعاً، ومن أصحاب الأمام علي عليه السلام وقد قال فيه أمير المؤمنين بعد موته: «رحم الله مالكاً، فلقد كان لي کما کنت لرسول الله صلى الله عليه وآله »(8).

اما سبب لقبه بالأشتر، فالأشتر يعني اختلال في العين وقد حدث بضربة جاءته من عدو في احد ميادين القتال (9).

وقد ولد قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله بسنوات قليلة حسبما ذكر السيد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة. وقد عاصر النبي صلى الله عليه وآله ولكنه لم يره ولم يسمع

ص: 48

حديثه.

وقد نشأ مالك في بيئة عربية وقبيلة عريقة المكسب، وهي من قبائل اليمن التي انتقلت الى العراق، وقد دخل الاسلام وقاتل أيام الخليفتين أبو بكر وعمر؛ لكنه اختلف مع الولاة الذين عينهم عثمان بن عفان على الكوفة فنفي عدّة مرات إلى الشام وبايع الإمام علي عليه السلام وأيده وقاتل معه.

وعندما حصلت بعض الاضطرابات في مصر عينه الامام علي عليه السلام والياً عليها عام 38 ه وارسل معه وصایا سمیت بعهد الأشتر. ولكن مالك لم يصل إلى مصر لأنه قتل مسموماً قبل أن يصل اليها.

ظروف ومصادر وسند «عهد الأشتر»

ان عهد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى الأشتر بن الحارث النخعي يعتبر من أهم الوثائق السياسية التي تعالج قضايا الحكم والادارة وشؤون الدولة وعلاقتها مع الأمة والحقوق والوجبات المترتبة على الحاكم تجاه الأمة، وواجبات الأمة تجاه الحاكم، مما يؤدي للوحدة والتضامن بين افراد الوطن الواحد، ولقد اعتنى الباحثون والمحققون بهذا العهد بشكل كبير سواء من ناحية السند او الشرح او تأكيد نسبه إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وقد روي هذا العهد واشار اليه غير واحد من المحدثين والمؤرخين والعلماء وقد اشار اليه النجاشي والشيخ الطوسي وورد في نصه في نهج البلاغة (قسم الكتب الكتاب الرقم 53 وفي معادن الحكمة (ج 1 نص 109)) وفي تحف العقول ص 126 والعديد من كتب الأحاديث والمصادر.

کما جرى شرحه من قبل العديد من العلماء والباحثين وترجم الى لغات اخرى. ومن الكتب التي اشارت الى العهد:

1 - آداب الملوك للسيد الجليل نظام العلماء الميرزا رفیع الدین الطباطبائي التبريزي المتوفي

ص: 49

سنة 1326 ه.

2 - اساس السياسة في تأسيس الرياسة للواعظ الماهر الشيخ محمد بن المولى اسماعيل الكجوري الطهراني المتوفي سنة 1353 ه.

3 - شرح عهد أمير المؤمنين للعلامة المجلسي المولى محمد باقر الأصفهاني المتوفي سنة 1111 ه.

4 - مقتبس السياسة وسياج الرياسة وهو شرح للعهد مأخوذ من شرح الشيخ محمد عبده لنهج البلاغة.

کما صدرت کتب اخرى تحدثت عن العهد وتمت ترجمته للفارسية والتركية وتم التأكد من سنده ونسبه للإمام علي عليه السلام من خلال دراسات وأبحاث عديدة.

ثانياً: أهداف العهد وأهم موضوعاته

جاء في مقدمة العهد المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال عليه السلام «هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده اليه حين ولاه مصر:

1 - جباية خراجها: ويشير الى الوضع الاقتصادي الضروري لاستقرار الدولة فإذا استقرت الدولة تمكنت من الحفاظ على وحدتها وتضامنها.

2 - جهاد عدوها: ويشير الى بناء منظومة أمنية متخصصة في مجالات الأمن، وبناء جيش يكون هو المسؤول الأول عن الدفاع عن وحدة البلد وتماسكه.

3 - استصلاح أهلها: ويشير الى التضامن الاجتماعي الذي هو احد الضروريات التي جاء بها الاسلام، وتحسين العلاقات الاجتماعية، وبناء الشخصية المتوازنة للأفراد لينتج عنه مجتمعا متوازنا بأفكاره وتصرفاته، وترسيخ الوعي عند الأفراد بضرورة التمسك بوحدة المجتمع وتضامنه.

ص: 50

4 - عمارة بلادها: ويشير بذلك إلى العمل على بناء البنى التحتية للدولة لجعل الفرد مسؤولا هو الآخر من خلال توفير الخدمات اللازمة لحياة الانسان الكريمة، فإذا ما توفرت الخدمات للفرد صار لزاما عليه المحافظة عليها.

وهذا العهد دلیل عمل لمالك الأشتر في حكم مصر ويتضمن أربعة أهداف:

1 - الدفاع والأمن (جهاد عدوها).

2- الاصلاح الاجتماعي (استصلاح أهلها).

3 - التنمية الاقتصادية (عمارة بلادها).

4 - مالية الدولة التي تنفق على هذه الأبواب (جباية خراجها). وتقوم على جباية الخراج وسائر الضرائب.

وقد تضمن العهد حوالي أربعين فقرة تناولت الموضوعات التالية: السيرة الحسنة، العلاقة مع الرعية، عدم التكبر، الانصاف، العدل، الوشاة، الاستشارة، دور الوزراء وصفاتهم، الاحسان، السنة، دور العلماء، العلاقة بين طبقات المجتمع، دور قادة الجيوش والعلاقة بهم، اختيار القضاة، الشبهات، اختيار العمال والولاة، خيانة العمال، الخراج ومالية الدولة، الكتاب وأصحاب الديوان، فنون الكتاب، التجار والاحتكار، الاهتمام بالفقراء، اصحاب الحاجات والمصالح، واجبات الحاكم، اداء الفرائض، عدم الاحتجاب عن الناس، دور الحاشية، الاستفادة من الاعلام، العلاقة بالأعداء والعهود، وصفات خاصة، نصوص لها علاقة بحقوق الانسان والقضاء.

ولقد تضمنت نصوص العهد تعاليم واضحة ومحددة حول دور الحاكم وعلاقته بالرعية وكيفية اقامة العدالة وعدم الظلم ودور القضاء وسنختار بعض النصوص مع شرح بسيط لها.

ص: 51

ومما قاله الإمام علي عليه السلام في عهده:

«واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع (متردد) فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع، ثم احتمل الخرق (العنف) منهم والعي (العجز عن البيان) ونح عنهم الضيق والأنف (التكبر) يبسط الله عليك بذلك أكناف (أطراف) رحمته ويوجب لك ثواب طاعته. وأعط ما أعطيت هنيئا وامنع في إجمال وإعذار».

في هذه الفقرة يدعو الامام علي عليه السلام مالك الأشتر الى تخصيص وقت للقاء مع الناس ليستمع اليهم والى شكواهم بحيث يحدثونه بدون خوف او وجل وبعيداً عن الشرطة والحراس ويطلب منه ان يستجيب لمطالبهم وان يتقبل ما لديهم من مشاكل وان يجيبهم بهدوء وراحة واذا تعذر عليه الاستجابة ان يحدثهم بشكل محبب.

وبذلك يستطيع كل انسان ان يصل الى الحاكم دون وساطة ما يشكل احد اساليب الحكم المباشر بعيداً عن الوسائط والمحسوبيات.

تطبيق العدالة:

قال أمير المؤمنين عليه السلام «والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة (نتيجة) ذلك محمودة».

وفي هذا النص يؤكد الامام ان واجب الحاكم الكبير هو ان يتحرى تطبيق العدالة بدقة وامانة دون ان يراعي في ذلك اية اعتبارات عاطفية او عائلية او مصلحية خاصة.

ص: 52

فحين يحيد المقربون الى الحاكم عن الحق فيجب تطبيق العادلة عليهم کما تطبق على سائر افراد الشعب.

حول القضاء:

لقد تحدث الامام في عهده لمالك الأشتر عن القضاء في عدة فقرات فأشار لصفات القاضي والضمانات الواجبة لنزاهة القضاء.

ومما قاله: «ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحکه الخصوم (اي لا تجعله عسير الخلق) ولا يتمادى في الزلة (اي لا يستمر في الخطأ)...

وأصر مهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهیه (لا يؤثر به) إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل».

ومن خلال هذه الصفات يحرص الامام لضرورة اختيار القاضي النزيه والعادل لتطبيق العدالة وهذه اهم الوسائل لإحقاق الحق.

ملاحظة: من خلال استعراض هذا العهد والذي مضى عليه اكثر من حوالي 1400 سنة يمكن القول ان الإمام علي عليه السلام اراد ان يضع اسساً واضحة لإدارة الحكم وتطبيق العدالة وايصال الحقوق لأصحابها ومنع الظلم عن الناس وهذه هي اهم مميزات ما يسمى اليوم «الحكم الرشید» او مبادئ النزاهة والعدالة والشفافية والمحاسبة والتي تعتبر اهم اسس الحكم الصالح والصحيح، ولو ان المسؤولين والحكام والقادة يلتزمون بهذه المبادئ لعالجنا الكثير من المشاكل التي ادت الى الثورات والانتفاضات.

فهذه كلها روافد تصب في أصل أوجه الوحدة الوطنية المنشودة ترويها فتنمو على أثرها.

ص: 53

الخاتمة

وإذا كانت دعوة الوحدة الوطنية والتضامن كدعوة ظهرت في هذا العصر متميزة من بين الدعوات التي انطلقت في العالم وخاصة بين العراقيين. من وطنية ومدنية ديمقراطية وشعارات متعددة.

فإن الدعوة إلى التضامن والوحدة الوطنية والسلم المجتمعي في هذا الوقت بالذات صار ضرورة ملحة وهي أولى وأحرى للبلد لتعود به إلى صمیم وحدته والحفاظ على کیانه، وإثبات شخصيته، وتثبيت دعائمه على تلك الركائز الثلاث...

وإذا كانت في ظهورها ومنطلقها من وطنيينا ومثقفينا وعلمائنا، ومن جوار هذه الجامعة العريقة، فإنها بلا شك قد لامست شغاف القلوب المخلصة، وأيقظت شعور الشعب المقهور، ولا طفت عواطف كل مواطن غيور حريص على وحدة بلده وشعبه، فلقیت بحمد الله قبولاً لدى المثقفين الوطنيين واستقبلت بترحاب منهم.

ولا نزال نسمع كل حين وآخر بنتائج عظيمة حيث تنادي بعض الشخصيات المعتبرة إلى الوحدة الوطنية، ونبذ الفرقة والطائفية بكل أشكالها، والتزامها بتنفيذ القانون واحترامه والعمل بموجبه بما يضمن سيادة القانون.

ومن ثم يلتقي قادة هذا البلد بشعبهم ويلتف هذا الشعب حول قادته الوطنيين.

واليوم ومن رحاب الجامعة العراقية ومن أرض بغداد العلم مهد العلم والعلماء ومنطلق الوطنيين والمثقفين تتجدد تلك الدعوة للوحدة الوطنية، والسلم المجتمعي الذي يضمن العيش الكريم لجميع المواطنين.

وهذه الوحدة الوطنية والسلم المجتمعي المنشود بصفاء محاسنه بريء من كل شائبة نزيه عن كل غرض شخصي أو مادي بعيد عن أي اتجاه سياسي أو فكر أجنبي فإنه بحمد الله ليعلوا على الشبه ويسمو عن الشكوك فمصلحته للجميع.

ص: 54

كما أنها بارتكازها على تلك الركائز الثلاث التي أسلفنا وهي ركيزة طبيعة تكوين الإنسان وسنة الحياة. وركيزة احترام القانون. وركيزة الحالة السياسية والوضع الاجتماعي الذي نعيشه. فإنها ترتكز على عوامل قبولها وتحمل دواعي بقائها، وضمان السلم الأهلي والمجتمعي.

کما تحقق للعراقيين كل مطالبهم وتمكن لها، والوحدة الوطنية والتضامن لا يقتصر نفعه على مجموعة صغيرة فقط؛ بل على المواطنين كافة لو آمنوا بها وأيدوها.

ونحن لا نفرط في التفاؤل أو نتطلع إلى غير العراقيين وإنما ندعو إلى التضامن والوحدة الوطنية العراقية تحت شعار الوحدة والإخاء.

وإن دور الدعاة من الوطنيين والمثقفين والأكاديميين إبراز أهمية التضامن وضرورة الوحدة الوطنية على ضوء القانون وحكمة التشريع ما أمكن ذلك وإظهار محاسنها.

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)» التوبة.

ص: 55

کما إنا لنهيب بالجهات المختصّة أن تمد يد العون وتبذل كل الجهد لمساعدة دعاة الوحدة الوطنية الحقيقية بما يستطيعون به القيام بواجبهم وأداء عملهم على الوجه الذي يرونه وتتطلبه دعوتهم في مراكز عملهم.

وصلى الله وسلم وبارك على إمام المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم...

الهوامش

1 رواه الطبراني في المعجم برقم (2385).

2 ينظر تفسير ابن كثير 1 - 79.

3 رواه أحمد في المسند برقم (6520).

4 رواه مالك في الموطأ برقم (2371).

5 رواه أحمد في المسند برقم (4622).

6 رواه الطبراني في المعجم برقم (3112).

7 رواه الطبراني في المعجم برقم (3219).

8 شرح نهج البلاغة 326.

9 مالك الأشتر 82.

ص: 56

المصادر

بعد القرآن الكريم.

1 - أضواء على أوضاعنا السياسية، عبدالرحمن عبد الخالق، دار الهلال بغداد، ط 1، سنة 1978 م.

2 - أزمة العراق (رؤية من الداخل)، السيد حسين الشامي الموسوي، لندن، 1991 م.

3 - أعيان الشيعة، محسن الأمين، دار التعارف.

4 - تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي ت 774 ه، المحقق: محمد حسین شمس الدين، دار الكتب العلمية - بیروت، ط 1، 1419 ه.

5 - شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد.

6 - عهد الأشتر، شمس الدين محمد مهدي، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط 2، 1421 ه - 2000 م.

7 - مالك الأشتر، محمد تقي الحكيم.

8 - المُعْجَمُ الكَبِير للطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني ت 360 ه، تحقیق: فريق من الباحثين بإشراف وعناية د. سعد بن عبد الله الحميد و د - خالد بن عبد الرحمن الجريسي، د.ت.

9 - المسلمون والعمل السياسي، عبدالرحمن عبد الخالق، الكويت، سنة 1985 م.

10 - مسند أحمد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ت 241 ه، المحقق: شعيب الأرناؤوط - عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة الكويت، ط 1، 2001 م.

11 - موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني ت 179 ه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 1985 م.

ص: 57

ص: 58

القيم الأخلاقية الفاضلة للقائد الرسالي في فكر الامام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) وتوظيفها في مؤسسات الدولة مستقبلا دراسة تحليليه

اشارة

أ. د. صباح حسن عبد الزبيدي

جامعه بابل - كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 59

ص: 60

الفصل الاول: مدخل عام شامل

مشكلة البحث واهميته: -

من المعلوم إن لكل مجتمع له ثقافته التي تمثل عاداته وتقاليده وقيمة ويحاول المجتمع تربية أبنائه في إطارها، وهو يرى عادة ان نقل الثقافة من جيل الى جيل اخر مهم جدا لأجل الحفاظ على تماسك المجتمع من هذه القيم الأخلاقية الفاضلة (البطولة والفروسية والشجاعة والإيثار والتضحية بالنفس والكرم والجهاد في سبيل الله، فالعادات والتقاليد والدين والأعراف والقيم المنتشرة في المجتمع تعد كلها من مصادر هامة في تعليم الإفراد الاتجاهات الايجابية وتعزيز الانتماء الى الوطن والتاريخ والأرض والاعتزاز بالقيم العربية الأصلية، والإسلامية

ومن المعلوم ايضا ان الانسان عنصر من عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين انماط ما خلقه الله سبحانه وتعالى، وبذلك جعله الله هذا الانسان خليفته في الارض وعرفه وميزه واعطاءه منزله رفيعة عن بقيه المخلوقات، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (الاسراء 70)

ومن ابرز مظاهره العناية الاليه انه أستخلف الانسان وتم اختياره کالأنبياء والرسل الى العباد لنشر مبادى الدين المتمثلة بالعبادة والتوحيد ونشر المبادي الإنسانية بين الناس لأجل اسعاد الانسان والبشر في الدنيا والاخر، وبذلك امرنا الله سبحانه وتعالى في الطاعة

ص: 61

والعبادة والتمسك بالعمل الصالح، وقوله تعالى «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا» (الفتح 17)

وبذلك كان الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) واهل بيته الطاهرون المثل الاعلى في الثبات على المبادي السامية والاخلاق الفاضلة، وكان الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالي (عليه السلام) (هو سر رسول الله ومثال حي في الثبات على المبادي التي جاء به القران الكريم والسيرة العطرة لنبينا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في هذه الارض.

وعليه ان وظيفية التربية الحديثة اليوم وهي بناء ومساعدة الفرد والمجتمع البشري في اعداده وتأهيلية وتدريبيه وتطويره لكي يساهم في العمل وزيادة الانتاج والإنتاجية التي تحتاجه التنمية الشاملة

وعلى هذا الاساس اخذت تهتم بناء الشخصية المتكاملة (العقلية + الجسمية + الوجدانية + المهاريه + الاجتماعية)

ان بناء الشخصية كما هو معروفه جاء من نتاج التفاعل المستمر بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية التي تؤثر على الفرد منذ ولادته وفي مختلف مراحل حياته وبهذا الصدد يؤكد أصحاب الاختصاص بناء الشخصية بقولهم (إن الحكم على الشخصية مسألة دقيقة وحساسة، تحتاج إلى استيعاب كبير لجملة النظريات ومعرفة عناصرها وديناميكية، فالقدرة في ضبط الشخصية يتم بضبط معايير تقيس القدرات والمهارات العقلية والجسمية والوجدانية والمهارية ليس عن طريق الملاحظة لتكوين انطباعات وصور حقيقة عن الشخصية ومن خلال المزج بين التربية وعلم النفس وتجاوبها مع ظروف المجتمع وتغيراته، وذلك لمسايرة التغيرات والتطورات بما يطلبه المجتمع وتطلعاته المستقبلية ومن المعلوم ایضا

ص: 62

وفي ضوء ما تقدم ان الدين والقيم الاخلاقية دعامة كل نهضة وتقدم المجتمع والحضارة فهي الحارس الوحيد الذي يحمي الامم من الانهيار والضياع.. بهذا الخصوص اكد علماء الاخلاق على اهمية الاخلاق بقولة ((لو بذل الانسان في سبيل السيطرة على كبح جماع نفسه بعض الشيء بقدر من الجهد على القوى الطبيعية لكان عالمنا اليوم عالم طهارة وسعادة.))

من المؤكد ان الاخلاق تعد من العلوم العملية التي يسعى علماء الاخلاق الى السعادة والكمال امام العوائق والتحلل الخلقي وتوضيح ماهي الاعمال الحسنه التي يجب القيام بها وماهيه الاعمال السيئة التي يجب تجنبها

وفي ضوء ما تقدم ففي القرون الأخيرة ظهرت العديد من الاتجاهات والدراسات الفكرية حول (النزعة الإنسانية ونحو الليبرالية، والتساهل والتسامح والإباحية...الخ) والتطور العلمي والتكنولوجي الذي جذب اللذة وتامين الرفاه والربح المادي مما دفع القوى العظمى الى بسط نفوذها في العالم

ومن هنا تظهر مشكلة البحث، من خلال طرح عدة تساؤلات وهي: - (من المعلوم ان العالم الذي نعيش فيه لازال غير منسجم ولا متزن من الناحية الاخلاقية فالتقدم المادي جعل حياتنا لا قيمة لها بسبب الفرق الشاسع بين الجانب المادي والاخلاقي مع العلم ان الاديان اتفقت على اختلاف انواعها على اهمية الاخلاق والقيم الاخلاقية الفاضلة لذلك نجد الدين الاسلامي مثلا يمجد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من خلال القران الكريم «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم 4) وكذلك حينما يقف الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ليوضح الدعوة الاسلامية ومبادئها الاخلاقية بقول (انما بعثت لأتمم مکارم الاخلاق) وبذلك يجعل المتخلقين بالأخلاق والقيم الفاضلة اقرب الناس اليه وفي قول (صلى الله عليه واله وسلم) (ان احبكم الي واقربكم مني منازل يوم القيامة

ص: 63

احسنکم اخلاق).

وتأسيسا على ما تقدم يقف في مقدمه بعد النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الامام الامير المؤمنين علي ابن ابي (عليه السلام) في تجسيد القيم الأخلاقية الفاضلة والتي یریدها تعزيزها في القائد الرسالي مالك الاشتر (رضي الله عنه)، وكيف يمكن تعزيزها في مؤسساتنا التربوية مستقبلا؟

اهمية البحث

التأكيد على القيم الأخلاقية الفاضلة التي جاء بها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) القناعة، الكرم، العفة، الأمانة، التأخي، اليقين، الكلم الطيب، محاسبه النفس، التوبة،. طاعة الله وتقواه، الثبات على المبدأ، الشكر... الخ

1. بناء شخصية قوية العقيدة، قوي في الفكر الاسلامي، متمسكة بتطبيق القيم الأخلاقية الفاضلة في مؤسساتنا المختلفة مقتديه بهذه القيم في عملها مستقبلا مستمدة من منابع القيم الإسلامية واهل البيت (عليهم السلام).

2. استنباط القيم الأخلاقية الفاضلة من منابعها الأساسية (القران الكريم والسيرة النبوية المطهرة والعترة الطاهرة ويقف في مقدمة ذلك سيدنا ومولنا الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

3. جعل هذه القيم خطوط عريضة في بناء الامة الإسلامية التي تستنير بقادتها ورموزها الدينية فب بناء الفرد والمجتمع.

4. استرشاد القائد الرسالي من منبع هذه القيم وتطبيقها في الحياه العامة ولاسيما من سيرة الائمه (علیهم السلام).

ص: 64

اهداف البحث: - يهدف البحث الإجابة على الاسئلة الانيه: -

1. ما مضمون القيم الأخلاقية الفاضلة بصورة عامة والاسلام بصورة خاصه؟

2. ما مضمون القائد الرسالي؟ وما هيه القيم الأخلاقية الفاضلة التي ينبغي ان يحملها في نظر الاسلام؟

3. ما مضمون القيم الأخلاقية الفاضلة للقائد الرسالي ملك الاشتر (رضي الله عنه) في فكر الامام أمير المؤمنين على ابي طالب عليه السلام؟

4. هل بالإمكان توظيفها في مؤسسات التربوية بالوقت الحاضر؟

5. حدود البحث: - يقتصر حدود البحث على الادبيات التي تناولت مفهوم القيم الأخلاقية الفاضلة بصورة عامه وفي نظر الاسلام بصورة خاصة القائد الرسالي المنشورة حتى عام 2015

6. تحديد المصطلحات: - سیتم تحديد المفاهيم والمصلحات التي وردت في متن البحث وهي (1 - القيم، 2: - الاخلاق 3 - القيم الأخلاقية 4: - القائد والقيادة 5 - القائد الرسالي 6 - الامام الامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) 7 - مالك الاشتر (رضي الله عنه)

7. اولا: - القيم. وتعرف بعدة تعاریف هي: -

8. القيم المادية - هي كالمعادن النفيسة.

9. القيم المعنوية - وهي الاستقامة وحسن السمعة.

10. القيم في نظر علماء الاجتماع - هي حقائق تعبر عن التركيب الاجتماعي يعتمد الافراد والجماعات على تطبيقها بغية الوصول اهداف ما. (النروه جي: 1990).

11. عرفها الخوري هي القواعد والسلوك التي يستطيع الناس من خلالها وبواسطتها ان يستمد امالهم ويجربوا تصرفاتهم (خوري: 1983).

12. عرفها احمد هي مجموعة من القوانين والمقاييس تنبثق من جماعة ما وتتخذها

ص: 65

معايير للحكم على الاعمال والافعال والتصرفات وتكون لها في القوة والتأثير على الجماعة بحيث يصبح لها صفة الالزام والضرورة والعمومية واي خروج عليها او انحراف عن اتجاهاتها يصبح خروجا عن المبادئ الجماعة واهدافها ومثلها العليا.

(برکات: 1982).

13. عرفها کنعان هي معيار للحكم على كل ما يؤمن به مجتمع ما ويؤثر في سلوك أفراده حيث يمكن خلالها الحكم على شخصية الفرد، من حيث صدق الانتماء نحو المجتمع لكل افكاره ومعتقداته واهدافه وطموحاته وقد تكون هذه القيم ايجابية او سلبية. (كنعان: 1999)

ثانيا: - الاخلاق Ethies. وتعرف بعدة تعاريف: ۔

1. ويعرفها مهدي واخرون هي الفعل السلوكي الذي يتضمن العادات والتقاليد والآداب والمثل المرعية في مجتمع ما. (مهدي واخرون: 2002).

2. ويعرفها عبد العزيز: - هي السلوك الذي يسلكه الانسان في الحياة (عبد العزيز: 1981)

3. يمكن تعريف الاخلاق اجرائياً: هي مجموع الصفات والخصائص التي يحملها الانسان والتي تدعوه الى سلوك معين طبقا للمعايير الاجتماعية المرغوبة والتي تستند بالأساس الى القاعدة الشرعية الاهية في عمل الخير والحق والجمال ومن ثم السعادة وتحدد منها عوامل كثيرة منها العوامل الوراثية والبيئية للسلوك الانسان ويمكن ان تظهر من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية وتهذيب بالدين والقانون الطبيعي للحياة.

ثالثا: - : - القيم الأخلاقية. وتعرف بعدة تعارف منها: -

1. عرفها احمد (بانها مجموعه من العادات والتقاليد والمعاير والاهداف العليا التي يؤمن بها المجتمع وتعمل على تنظيم الحياة الاجتماعية وتوجيه السلوك الاخلاقي نحو

ص: 66

وجهه الخير والفضيلة ودرء الاخطار والمشكلات التي تواجه المجتمع. (برکات، 1982)

2. تعرفها الطهطاوي: - بانها (مجموعه المبادئ والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها الناس ويتفقون عليها فيما بينهم ويتخذون منها ميزانا يزنون به اعمالهم ويحكمون تصرفاتهم المادية والمعنوية. (الطهطاوي، 1996)

رابعا: - القائد: ويعرف القائد ب

(وهو الشخص الذي يستخدم (اسلوب ووسائل) في التأثير على الاخرين، فالوسائل اما ديمقراطية واما دیکتاتوریه حسب طبيعة الموقف، ويقسم القادة الى نمطين حسب المواقف وحسب الاسلوب) وينقسم الى نمطين (قادة مواقف وقادة مبتکرین). (بدوي، 1977)

خامسا: - القائد الرسالي: - ويمكن تعريف اجرائيا

وهو الشخص الذي يتميز بخصائص وصفات شخصية متكاملة (عقلية + جسمیه + وجدانیه + مهاریه + اجتماعيه) عن بقية الاشخاص ويحمل رساله بناء هدفها بناء الانسان والمجتمع بعيدا عن التسلط والقوة.

سادسا: - الامام اميرالمؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

وهو الامام علي بن ابي طالب امير المؤمنين (عليه السلام) شخصيه عظيمه لا تنحصر على المسلمين فحسب بل هي شخصيه عالميه للناس کافه نستمد منها دروس وعبر في الحياه، ولد الامام في (13) من شهر رجب عام 23 قبل الهجرة النبوية الشريفة، وقد قدر له ان يولد في بيت الله الحرام واحتضنه ابن عمه الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه واله

ص: 67

وسلم) منذ صغره فقد غداه من علمه عندما بعثه الله سبحانه وتعالى، فكانت حياته مشترکه مع حياه الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فكان الشخصية الوحيدة التي يليق هذه المكانة والمنزلة، وقد عاشر حياه مجاهد في سبيل نشر الاسلام والحفاظ عليه حتى قتل مظلوما شهيدا المحراب على يد اشق الاشقياء عبد الرحمن ملجم في (19) من شهر رمضان سنة (40) ه ((سوادي 2010)

من المعلوم ان الدين الاسلامي، هو دين الاخلاق الكريمة، والمثل العليا وفي هذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ((لو كنا لا نرجو جنه ولا نخشی نارا ولا ثوابا ولا عقابا لكان ينبغي لنا ان نطلب مکارم الاخلاق، فأنها تدل على سبيل الناجح.

سابعا: - القائد الرسالي (مالك الاشتر) (رضي الله عنه): - وهو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمه بن ربيعة النخعي، ولد ما بين (5 - 30) قبل الهجرة، ولقب بالأشتر (لان احدى عينيه شترت، اي شقت في معركة اليرموك، وقد عاصر مالك الاشتر (رضي الله عنه) النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ولكنه لم يراه ولم يسمع حديثه، وقد شارك في حروب الرده في زمن ابي بكر وله دور كبير في معركة اليرموك التي دارت بين المسلمين والروم سنه (13) ه وعلى اثرها شقت احد عينيه ولقب بالأشتر، وعندما جاء الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعد تولى الخلافة عام (36 ه) جعله واليا على مصر وارسله الى مصر ومعه شهاده من الامام امير المؤمنين علي ابي طالي (عليه السلام) (اما بعد فقد بعثت اليكم عبدا من عباد الله لا ينام ایام الخوف ولا يتكل من الاعداء ساعات الروح، اشد على الفجار من حريق النار).

وفي ضوء ما تقدم كانت حياته حافله بالجهاد، وقد رزقه الله الشهادة علي يد معاوية، وقد دس السم عن طريق رجل من اهل الخوارج، فتوفي مسموما، صابرا محتسبا سنه (37) ودفن في مصر) (سوادي 2010).

ص: 68

رابعا: - منهجية البحث: -

اعتمد الباحث في منهجيته على البحث الوصفي التحليلي للأدبيات التي تحدثت عن القيم الأخلاقية الفاضلة في القائد الرسالي مالك الاشتر النخعي (رضي الله عنه) للرسالة الموجه له في فكر الامام امير المؤمنين (عليه السلام) وتعزيزها في مؤسساتنا التربوية مستقبلا.

الفصل الثاني: القيم الأخلاقية الفاضلة بصورة عامة ونظرة الاسلام لها بصورة خاصه

وشملت محورين هما: -

المحور الاول: - القيم الأخلاقية الفاضلة بصورة عامة: -

طبيعة القيم بصورة عامة: -

من المعلوم، ان القيم تحتل منزلة بالغة الاهمية في الفكر الفلسفي والفكر الأخلاقي كما هي تحظى باهتمام العلماء ولاسيما رجال الدين والتربية والاجتماع وسائر الناس نظرا لان فكرة القيمة وإحكامها من اكثر المسائل اتصالا بالإنسان

وفي ضوء ما تقدم، تنوعت المؤلفات التي تبحث عن موضوع القيم وأنواعها وطبيعتها ومصادرها، وكذلك تعددت المذاهب والتفسيرات حول ترتيبها وتصنيفها کما جاءت عليها الادبيات المنشورة والتي تؤكد ان فكرة القيمة قد انبثقت قديما عن الفلسفات اليونانية التي رأت ان قيم (الحق والخير والجمال) هي قيم ازليه خالدة ودلت عليها بأسماء والقيم تتضمن جملة من المعتقدات والأفكار والمشاعر التي تؤثر او تحدد للتقويم او الاختبار والتفضيل باتجاه افکار ومواقف الاشخاص وشخصياتهم لأنها تعبر عن السلوك المفضل، (زهران: 1985)

ص: 69

مكونات القيم: -

من الواضح ان القيم انتاج اجتماعي وأخلاقي ترتبط بالفرد والجماعات والمجتمع، فهي اطر مرجعية للسلوك وذلك من خلال عملية التنشئة الاجتماعية يتعلمها او يكتسبها الانسان من خلال القواعد او المعايير الاجتماعية المرغوبة لدى المجتمع،

ان اختلاف القيم وتنوعها يرتبط باختلاف المجتمعات التي ترتبط بقواعد السلوك، ویری (بارسونز وآخرون) من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ان مكونات القيم بأنها مكونة من العناصر، يؤكد علماء النفس والتربية والاجتماع والفلسفة والدين ان للقيم لها مكونات وهي: -

1. المكون العقلي: - الوعي -اي ان السلوك يرتبط بالقدرات العقلي التي تنمي القدرات العقلية - التفكير والتخيل والتصور، التقصي والبحث والاكتشاف والتعبير اللغوي.

2. المكون الوجداني - النفسي - التقدير اي السلوك يرتبط بالقيم الروحية والدينية والإنسانية والعاطفية التي تنمي القيم التعاون، المساعدة، الثقة بالنفس، حب الوطن، التسامح، احترام القانون، النظام.

3. المكون السلوكي - الفعل، اي ان السلوك يرتبط بالقدرات الحركية، البدنية، الجسمية، التي تنمي المهارات الحركية المختلفة عند الأنسان لمزاوله الأنشطة المختلفة.

وفي ضوء ما تقدم تساهم هذه المكونات الثلاثة في تحديد نوعية القيم ووظيفتها ومعناها التي تساعد الفرد في تخصیص طاقه القيم وشحذها وتوجيهها بين مظاهر الفعل، لذلك نقول ان هذه العناصر متداخلة ومتفاعله بينها يتأثر الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه، فهي تعكس ثقافته المجتمع والمعايير الاجتماعية، وعند ذلك تنتج القيمة وتترتب في التعليم (الشناوي، واخرون: 2001)

ص: 70

اهمية القيم: -

من الواضح ان للقيم لها دورا مهم في توجيه سلوك الفرد او الجماعة او المجتمع، فهي تقود الى اصدار الاحكام على الممارسات العلمية والتربوية التي يقوم بها، لذلك فهي الاساس السليم لبناء الشخصية الاعتبارية وتكمن اهميتها ب: -

من المعلوم ان للقيم اهميه تكمن ب

1. تزويد الفرد بشعور من التوجيه الداخلي النابع من صميم الذات

2. تمكن الفرد من ضبط نفسه وتحديد توقعاته من الاخرين

3. تعد وسيله للحكم على سلوك الافراد

4. تزويد الفرد بالوعي اللازم لمعرفه الامور ومحاكمتها والتمييز بين (الصواب والخطاء) والاخلاقي وغير الأخلاقي.

5. تشكل اطارا عاما للجماعة ونمط من انماط الرقابة الداخلية في حركتنا ومعايير تصرفنا. (هندي، صالح واخرون: 1990)

6. فهي مرجع الحكم هن سلوك الافراد

7. هي هدف يسعى الفرد او المجتمع الى تحقيقها

8. هي باعث على خلق الدافع

9. هي قدرة الفرد في تحمل المسؤولية تجاه حياته العامة مما تسعفه الاحساس بالأمان والرضا او الرفض

خصائص القيم: - يؤكد علماء النفس والتربية والاجتماع والدين الفلسفة بان للقيم عدة خصائص هي: -

1. انها انسانيه: - اي ان افکارها مرتبط بالفرد الانسان.

2. انها اجتماعيه: - اي انها تتطلق من اطار اجتماعي محدد يتم الحكم على سلوك الفرد

ص: 71

او الجماعة من حيث انها مرتبطة بالمجتمع.

3. انها ذاتيه: - اي ان لكل فرد يحس بها ذاتيا.

4. انها عمومیه: - اي انها تشكل طابعا عاما ومشترك بين ابناء المجتمع.

5. انها نسبيه: - اي انها تختلف من شخص لأخر ومن زمان لأخر ومن ثقافه لأخرى.

6. انها مثاليه: - اي انها ليست شيئيا تحمل معنى واحد.

7. انها تجريبيه: - اي انها لها تقدير خاص بها.

8. انها مرتبه هرميا: - اي بانها تترتب بشكل تدريجيا من الأهمية والتفصيل لكل فرد مرتبط بالتكوين النفسي الموجه للفرد.

9. انها وجدانیه: - اي انها تحمل الوعي والادراك والوجدان والنزعة النفسية.

10. انها ذات صبغه احکام تسير الراي والحكم على الشخص بالخير او الشر. (الشناوي واخرون: 2001)

انواع القيم: -

يؤكد علماء التربية والنفس والاجتماع والفلسفة والدين، ان للقيم انواع عدة وقد قام الباحث باستنباطها وعرضها بالشكل الاتي: -

القيم النظرية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد ويحاول ان يكتشفها متخذ وصفه للأشياء

1. القيم الاقتصادية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة التي ترتبط بالثروة، من حيث زیاتها في الانتاج، التسويق، استهلاك البضائع، استثمار الاموال.

2. القيم الجمالية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة التي ترتبط بما هو جميل من حيث الشكل، التواق، التنسيق.

3. القيم الاجتماعية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة التي ترتبط بما يساعد على تحقيق غايات اجتماعيه سليمه.

ص: 72

4. القيم السياسية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد والجماعة التي ترتبط بالسيطرة والحكم والتحكم في الاشياء او الاشخاص.

5. القيم الدينية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة التي ترتبط بالمعتقدات والعبادات والتعاليم الدينية التي تؤكد على وجدانيه الله سبحانه وتعالى وتعاليمه ونشرها عبر الملائكة الى الانبياء والرسل.

6. القيم المعرفية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة التي ترتبط باكتشاف الحقائق والمعارف والسعي الى اكسابها للمتعلمين.

7. القيم الخاصة: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية المعينة في منطقه معينه.

8. القيم العامة: - وهي بالقيم التي يهتم بها الفرد والجماعة ويمارسها شرائح المجتمع وهي تمثل الاعراق والتقاليد.

9. القيم الضمنية: - وهي القيم التي يهتم بها الفرد او الجماعة والت يستدل بها من خلال الاختبارات والاتجاهات المكونة للسلوك الخاص بالفرد او الجماعة ونمطيتها. (الشناوي واخرون: 2001)

نظريات اكتساب القيم: -

يؤكد علماء النفس والتربية والاجتماع والفلسفة والدين واللغة، ان هناك عدة نظریات تساهم في اكتساب القيم حسب وجهات منظريها هي: -

اولا: - نظرية التحليل النفسي: - وهي التي ترى ان عمليه اكتساب القيم (القيم والأخلاقية)

تبدا بمن مرحلة الطفولة المبكرة، حيث يقومان الوالدين بوضع القواعد الأخلاقية والقيم للطفل وتحديد فيما يفعل ومالا يفعله من خلال (اللذة) ومن هنا يتكون نظام القيم والقواعد، ويمثل هذه النظرية (الجانب الانا الاعلى) (الضمير) ومن منظريها هو فروید

ص: 73

ثانيا: - النظرية السلوكية: - وهي التي ترى ان عمليه اكتساب. (القيم والأخلاقية) تتم عن طريق التعزيز الايجابي او السلبي، وذلك من خلال تفاعل الفرد مع (المثيرات البيئية) ومن هنا يتعلم الطفل الاستجابات التي تدعم سلوكه، والمحرك للسلوك (المثير والاستجابة) من خلال بتعزيزها او انطفاها ومن منظريه هذه النظرية السلوكية - باقلوف - سکنر.. الخ ثالثا: -النظرية المعرفية: - وهي التي بتری ان عمليه اكتساب (القيم الأخلاقية) تتم عن طریق تفكير الطفل للمحاكاة النموذج الاجتماعي ثم التوازن والتكيف، اي ان تحقیق التوازن والتكييف للعلاقات الاجتماعية مع القدرات العقلية، ومن روادها (بياجيه) الذي درس تطور النمو الاخلاقي عند الطفل وطريقة تفكيره حو (الأسئلة الصواب والخطأ) لمفهوم القوانين الاجتماعية. (الشناوي، واخرون: 2001)

مراحل نمو القيم الأخلاقية: -

عندما نتحدث عن شخصية الفرد، فإننا نتحدث عن معتقدات وقيم وسلوك ذلك الفرد التي تظهر عبر المواقف المتغيرة وبالرغم من عدم وجود تعریف واحد متفق عليه لوصف شخصية الإنسان، فإننا نستطيع إن نذكر أكثر التعاريف شيوعا وقبلا، وهو التعريف الذي أكد على (البورت) الذي يعرف الشخصية بأنها تنظيم القوى المميزة للأنظمة النفسية والبدنية داخل الفرد والتي تقرر الطابع المميز لسلوك وأفكار الفرد

وفي ضوء ما تقدم، تعرف الشخصية بأنها مجموع الصفات والطباع الفردية التي يختص بها الفرد والتي تميزه عن غيره على الإفراد من الواضح إن أحد العلماء وهو (أريكسون) قسم مراحل نمو الشخصية إلى مراحل بدا من مرحلة الميلاد حتى الشيخوخة)،

1 - مرحلة الأولى: - وهي المرحلة التي تمد من الميلاد وحتى سنة تقريبا، حيث يكتسب الطفل في هذه المرحلة الثقة أو عدم الثقة بالاعتماد على مساعدة الآخرين في أوقات الضيق، وهذا يعتمد على كون يعتمد على إلام مستجيبة أو غير مستجيبة لبكاء الطفل.

ص: 74

2 - المرحلة الثانية: - وهي المرحلة التي تمتد بين (1 - 3) سنة يكتسب الطفل شعورا بالاستقلال لاسيما إذا كانت ألام والأب في ضبط النفس وبالعكس فانه يؤدي إلى الخضوع والاستسلام وبذلك ينتاب شخصية الطفل الشك والخجل.

3 - المرحلة الثالثة: - وهي المرحلة التي تمد من (3 - 5) سنوات وفيها يتعلق الطفل بوالديه ولهما الأثر في الرعاية لتوفير العواطف وإشباعها وبذلك فالطفل يكتسب الحب وصدق المشاعر، وبالعكس إذا كانت الرعاية غير علمية فإنها تنعكس عن شخصيته، بالجانب السلبي وهو الشعور بالذنب وروح المبالاة والصراعات الاجتماعية.

4 - المرحلة الرابعة: - وهر المرحلة التي تمتد بين (6 - 11) سنة وفيها يترك الفرد البيت ويذهب إلى المدرسة فالطفل يدرك المشاعر والرضا والاستحسان من خارج العائلة وبذلك ينشا عند الطفل في الشعور بالإنتاجية أو الشعور بالنقص.

5 - المرحلة الخامسة: - وهي المرحلة التي تمتد بين (12 - 18) سنة وفيها تظهر صراع مابين الفرد وتحقيق الهوية وتزداد القدرات والاستعدادات لدور الاجتماعي وفقدان اثر المجتمع، ونمو الرغبات الكثيرة وفق القدرات والاستعدادات.

6 - المرحلة السادسة: - وهي المرحلة التي تمتد بين (19 - 25) وفي بهذه المرحلة يشعر الفرد بالاختلاط والاندماج في المجتمع من خلال بناء علاقات جنسية تعتمد على الشعور المتبادل بالمحبة والاحترام ويشعر الفرد إن المجتمع يضغط عليه.

7 - المرحلة السابعة: - وهي المرحلة التي تمتد بين (25 - 50) وفيها يشعر الفرد في اختيار المهنة والمساهمة في حياة الأجيال اللاحقة وتكوين العائلة والإنجاب والتفكير بالمستقبل.

8 - المرحلة الثامنة: - وهي المرحلة التي تمتد بين (50 - فما فوق) فيها هذه يشعر الفرد بتكامل الشخصية وفهم الحياة الشاملة ويكون أكثر ايجابية في الحياة. (الربيعي: 1994)

ص: 75

تحديد منابع الاخلاق في الانسان: - يؤكد علماء التربية والنفس والاجتماع ان منابع الاخلاق في الانسان تكمن من خلال ما يلي

1 - منابع النمو الاخلاقي لدى الطفولة: -

من المعلوم ان النمو الاخلاقي لدى الطفل تتمثل بالرغبة في تحقيق اللذة والسعادة وهي مساية لمبادئ القيم الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيه وتتحكم فيها قوی رادعة (خارجية) سلطة الاباء المدرسين بالتالي ينمو (الضمير الاخلاقي) داخل الانسان وبذلك عد النمو الاخلاقي لدى الطفولة بالنمو (السلوكي) فالسلوك الخلقي الذي يقوم به الطفل هو خوفا من العقاب. (ويكون سلوك سلطوي)

2 - منابع النمو الاخلاقي لدى الراشد (الشباب)

ان نمو الضمير الاخلاقي لدى الراشد هو شعور الشباب بالواجبات والالتزام والمسؤولية وهو شعوره بالواجب، الولاء، الشفقة، الرحمة، الحب، فهي انفعالات وجدانية ويقول ان النمو الخلقي لدى الشباب هو سيكولوجي، ارادي) يرى الكاتب عبد العزيز انه يمكن استخلاص القيم الاخلاقية ومعرفتها من خلال:

1. دراسته الشخصية وتحليل عناصر الجسم من حيث الصيغة الكيمياوية.

2. دراسته الشخصية عن طريق تحليل تقاسيم الوجه والجمجمة.

3. دراسة الشخصية عن طريق الجانب الوجداني او الانفعالي.

4. دراسة الشخصية عن طريق مكامن النفس.

5. دراسة الشخصية بقياس الذكاء.

6. دراسة الشخصية بقياس رجاحة العقل. (عبد العزيز، 1981)

ص: 76

المحور الثاني: - القيم الأخلاقية الفاضلة في نظر الاسلام بصورة خاصة، وشمل:

نظرة الفلسفة الإسلامية للقيم الأخلاقية الفاضلة ومصادرها: -

من المعلوم، ان نظرة الفكر الاسلامي للقيم يقوم على اساس الايمان بان الله سبحانه وتعالى كحقيقيه مطلقه والتسليم بأحكامه التي هي قيم ربانيه روحيه، ولها تطبيقات ماديه في الحياه والتي تهدف الى بناء الانسان والمجتمع المسلم

مصادر القيم الأخلاقية الفاضلة في نظر الفلسفة الإسلامية: - وهي: -

1 - الوحي: - وهي القيم المتلوة من الله سبحانه وتعالى والتي اكد عليها القران الكريم والانبياء والمرسلين والاولياء الصالحين، وهذه القيم لا تخضع للتجربة وتأبى ان تختبر علميا، فهي صائبة لا تحتاج الى تصدیق او تصويب ولا تخضع لتجارب البشر.

2 - موضوعيه: - وهي القيم التي ليست ذاتيه وانما هي لا تخضع الى تأويل الفرد او مزاجه او هواه، ولا تتأثر بالظروف والاحوال ولا تكون مطيه لتحقيق مارب ومنافع شخصيه.

3 - مطلقه: - وهي القيم التي تكون ثابتة وليست نسبيه لا تتغير ولا تتبدل وانما تمثل اطار (حياه الفرد والمجتمع).

4 - متوازنه: - وهي القيم التي توازن بين (القيم الروحية) واساسها الايمان وبين القيم (المادية) متفرقه تساهم في تطبيقها في مجالات الحياه المادية في اطار (الفرد والمجتمع) من حيث العلاقة الفرد مع ربه مع نفسه مع الفرد الاخر مع المجتمع (هندي، صالح ذياب واخرون :1990)

ص: 77

القيم الأخلاقية الفاضلة في نظر الاسلام واهل البيت (عليهم السلام) بصورة خاصه: -

قام الباحث بعرض هذه القيم الأخلاقية الفاضلة والتي استمدها من امهات الكتب وعرضها بالشكل الاتي: -

اولا: - القناعة: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وهي تعني (الاكتفاء من المال بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (ولا تعجبك اموالهم ولا اولادهم) وقال تعالى (ولا تمدن عيناك الى ما متعانا به ازواجاتهم زهره الحياه الدنيا) وقال الباقر (علیه السلام) يصف القانع (لا من قتع بما رزقه الله فهو من اغنى الناس)

ثانيا الكرم: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (بذل المال او الطعام او اي ما نفع الناس، مشروع عن طيب نفس) وهي من اشرف وانبل السجايا واعز المواهب واخلد المأثر، وقد وصف الله سبحانه وتعالى النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» الدخان 17 وقال الامام جعفر بن محمد (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل بعيد عن الله، بعيدا عن الناس، قريب من النار).

ثالثا: - العفة: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني (الامتناع والترفع عما لا يحل او لا يحمل من شهوات البطن والجنس والتحرر من استرقاقها المذل) فهي من السمات الدالة على سمو الايمان وشرف النفس، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (اكثر ما تلج به امتي النار، الاجوفان البطن والفرج) وقال الامام الباقر (عليه السلام) (ما من عباده افضل عند الله من عفه بطن وفرج)

رابعا: - الأمانة: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (اداء ما ائتمن عليه الانسان

ص: 78

من الحقوق) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الامناء بقوله تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» المؤمنون 8 - وقوله تعالى ايضا «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» المعارج وقال الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (اداء الأمانة يجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر).

خامسا: - التأخي: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اوجدها الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ليطفئ بها نار التناكر والتناحر والفتن والتشتت بين افراد المجتمع وحل محلها السلام والوئام والرحمة لتكوين امه موحدة يسودها العدل المساواة والحرية، وقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (الحجرات 10)

سادسا: - اليقين: - وهو من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (الاعتقاد بأصول الدين وضراوته اعتقادا ثابتا، ومطابق للواقع لا تزعزعه الشبه) وكما هو معروف ان بالعمل الصالح، وقد وصف الله سبحانه وتعالى اصحاب اليقين بقوله «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (الذاريات 20 - 21) وقال الامام الصادق (عليه السلام) (ان الايمان افضل من الاسلام، وان اليقين افضل من الایمان، وما من شيء اعز من اليقين) ويقال ان صاحب اليقين، يرى الله سلو که من اقوال وافعاله الظاهر منها والباطن).

سابعا: - الشكر: - وهو من القيم الأخلاقية الفاضلة، ويعني (عرفان النعمة من المنعم وحمده عليها واستعمالها في مرضاته) وبذلك فالشكر واجب مقدس من المنعم وهو الله سبحانه وتعالى للمخلوقات، وبذلك دعت الشريعة الإسلامية التحلي بالشكر والثناء لله سبحانه وتعالى على هذه النعم، وصف الله سبحانه وتعالى الشكر «أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ» البقرة 152، وقوله تعالى «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ» سبا 15، ويقال عن الشكر انواع (شکر

ص: 79

القلب، وهو تصور النعمة، والشكر اللسان، حمد النعمة، والشكر الجوارح، اطاعه الله في استعمال، العين، اللسان، اليد... الخ

ثامنا: - الكلم الطيب: - وهو من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (صون اللسان عن تبادل المهاترات الباعثة على توتر العلاق الاجتماعية في اثارة الضغائن والاحقاد بين افراد المجتمع وذلك من خلال تعويد اللسان على الكلم الطيب والحديث المهذب النبيل، وبذلك امرنا الله سبحانه وتعالى بطيب الكلام وقوله تعالى «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا» الاسراء 53 وقوله تعالى «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» البقرة 83 وقال الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم)(نجاه المؤمن في حفظ لسانه).

تاسعا: - التوبة: - وهي من ى القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني تطهير النفس من الذنوب والدنس والآثام قبل تفاقم غوائلها، اي تداركها، وهي الاقلاع عن الشهوات العارمة والاهواء الجامحة، خوفا من عقابه وسخطه، وهناك تعريف اخر (هو الإنابة الى الله سبحانه وتعالى والعزم على طاعته ونبذ معصيته بحزم مستقر في اللسان والقلب) وبذلك جعل الله سبحانه وتعالى التوبة تخفيف من الذنوب ازاء المعاصر والعفو، وقد وصف الله سبحانه وتعالى التوابين بقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)» البقرة 222 وقوله تعالى «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» الانعام 54، وقال الامام الصادق (عليه السلام) (اذا تاب العبد توبه نصوحا، احبه الله تعالى فستر عليه في الدنيا والأخرة).

عاشرا: - محاسبة النفس ومراقبتها: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (محاسبه النفس كل يوم عما عملته من الطاعات والمعاصي. فان رجحت كفة الطاعات على المعاصي، والحسنات على السيئات عليه ان يشكر الله تعالى، وبالعكس فعليه ان

ص: 80

يحاسب نفسه بالتأنيب والتوبيخ، وبذلك تكون (المراقبة) هي ضبط النفس وصيانتها من الاخلال بالواجبات ومقارنته بالمحرمات وتريض النفس على المحاسبة والمراقبة، وقال الامام موسى الكاظم (عليه السلام) (ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فان عمل حسنه استزاد الله تعالى، وان عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب اليه).

احد عشر: - طاعه الله وتقواه: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة والدينية، وتعني (الخضوع لله سبحانه وتعالى والامتثال لأوامره ونواهيه) وما التقوى النفس عما يضرها في الا خره والدنيا وقوله تعالى «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا» الاحزاب 71 وقوله تعالى «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا» (الفتح 17) وقوله تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ؉ (الطلاق 1 - 3)(السيد مهدي الصدر: 2011)

ثانيا: - : - الثبات على المبدأ: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني (الاقرار بالمبادئ والقيم الفاضلة قولا وفعلا امام المحن والشداد)، لذلك كان الثبات على المبدأ من القيم المقدسة والواجب ادائها في الانسان والامه اتجاه نفسها وشعبها، ولنا هذا الصدد الامام الحسين (عليه السلام) وهو يقاتل الناكثين والمارقين اذ قال عليه السلام (اني لا ارى الموت الاسعادة والحياة مع الظالمين الا برما). (القزويني، بلا)

ص: 81

الفصل الثالث: القائد وطبيعة القيادة

وشملت محورين هما: -

المحور الاول: - القائد، من حيث سماته، سلوكه القيادي

اولا: - القائد، وهو الشخص الذي يستخدم (اسلوب ووسائل) في التأثير على الاخرين..

1. السمات الشخصية للقائد: - يؤكد علما التربية والنفس والاجتماع بان للقائد سمات عديدة منها: -

اولا: - البنيه الجسدية السليمة: - حيث يتميز القائد بصفات قوة التحمل، وضبط النفس في المواقف الصعبة والثقة بالنفس.

ثانيا: - المظهر الشخصي: - ان توفر المظهر الشخصي يليق بمكانه القائد من حيث الهندام والشكل والمزاج المرح وتعامله مع معيته.

ثالثا: - قدرة الذكاء والتركيز: - ان توفر قدره الدكاء والفطنة واستذكار واستنباط الحلول والآراء والحنكة، بعيدا عن الغفلة وضعف التركيز وفقدان القدرة على التأثير.

رابعا: - توفر النضج الانفعالي: ان توفر النضج الانفعالي، اي الاتزان الانفعالي في مسك زمام الامور بعيدا عن الغضب، وعدم تحمل المسؤولية، وعدم التوازن في الامور.

خامسا: - توفر الحماس والاندفاع المستمر: - ان توافر الحماس والاندفاع المستمر، اي ایمان القائد بالعمل والمنسق والمثابرة لإنجاز العمل بعيدا عن الكسل والتراخي والفشل.

سادسا: - توفر القدرة في الاقناع: - تنم توفر القدرة على الاقناع يساهم في نقل المعلومات والافكار والخطط مما يؤدي الى انجاز العمل او المهمة.

ص: 82

سابعا: - توافر البصيرة: - ان توفر البصيرة والادراك والانتباه في معرفه تفاصيل العمل او الواجب في جمع المعلومات والقدرة في استنباط التوقعات، بعيدا عن الغفلة والتراخي.

ثامنا: - توفر الجاذبية، ان توفر الجاذبية الذاتية يجعل الافراد متمسكين ومنظورين تحت لواء القائد مما يجعل القائد الانساني مقبول من قبل الجماعة (الصفار، 2002).

تاسعا: - البلوغ والعقل والرجولة والشجاعة والاسلام والعمل بفرائض الدين والتقوى، وعدم الضعف والسفاهة،: - اي عالم بالعبادات والسياسة والاحكام ومؤديا للفرائض كلها ومؤمن بها ومتجنب الكبائر ما ظهر ما بطن....الخ

السلوك القيادي: - لقد اهتم المشتغلون بالبحث في علم النفس والاجتماع بدراسة السلوك القيادي يؤكد علماء التربية والنفس والاجتماع، بان هناك سلوك قيادي يتسم بعدة خصائصه هي: -

1. المبادأة والمثابرة والطموح: - اي ان الجماعة تنظر الى القائد بان يكون صاحب مبادا بالعمل، واكثر قوة في الابتكار بالمواضع، فهو اول من تتوقع منه الجماعة ان يكون اكثر مثابرة واقوى اهتمام للطموح.

2. التفاعل الايجاب: - ان الجماعة تنظر الى القائد بان يكون صاحب نشاط وتفاعل ايجابي مع الجماعة وله القدرة في الذكاء الاجتماعي بحيث يظهر الود للجميع.

3. السيطرة: - ان الجماعة تنظر الى القائد بان يكون صاحب قوى ومكانه في الامتثال له بين الجماعة وفي بالمواقف المختلفة.

4. العلاقات العامة: - ان الجماعة تنظر الى القائد بانه صاحب علاقات اجتماعیه ناضجه بين اعضاء الجماعة ويعمل كحارس ورقيب على سلامة تماسك الاجتماعي.

5. التمثيل الخارجي: ان الجماعة تنظر الى القائد بانه له القدرة على تمثل الجماعة في الخارج وكسفير لها وناطق عن لسانها.

ص: 83

6. التكامل: - ان تنظر الجماعة للقائد بانه صاحب قدره في وحدة اهداف الجماعة ويعمل على تخفيف حدة التوتر ويحترم الجماعة ويعمل على تدعيم هذه العلاقات.

7. التخطيط العام: - ان الجماعة تنظر الى القائد بان صاحب نظرة في التخطيط والتنظيم والتوجيه والتركيز والانتباه على الهدف.

8. الاعلام: - ان الجماعة تنظر الى القائد بانه صاحب اعلام في ايصال المعلومات والافكار بتوجيهات ارشادیه اعلاميه الى الجماعة.

9. الاتزان المتبادل بين القائد والجماعة: ان الجماعة تنظر الى القائد بانه صاحب نظر الى اقامة العلاقات الإنسانية المتبادلة وتوحيد. (زهران، 1984)

10. الوعي: - ويقصد بالوعي -وعي القائد بمدى التأثير في الجماعة واتباع الاسلوب الافضل في ممارسته وكذلك وعي القائد بالعوامل والمحددات:

11. الاحساس والتعاطف: - اي قدره القائد على فهم حاجات ورغبات وشعور الجماعة، فالق درة في معرفه حاجات الافراد ورغباتهم تؤدي الى فهم المثيرات والسلوك الصحيح يؤدي الى التعامل مع معرفه ردود افعال الآخرين

12. الثقة: - ان ثقة القائد اولا بنفسه من خلال ما يمتلكه من قدرات واستعدادات تؤثر ايجابيا في قياده الجماعة، وكذلك ثقنه بجماعته يترتب عليه تحقيق او انجاز الواجب

13. القدرة على الاتصال: - اي قدره القائد على ايصال الاهداف ومخاطبه الجماعة بوضوح يؤدي الى عدم الفوضى في بعمليه بناء القيادة. (سام. فؤاد واخرون 1989)

ص: 84

المحور الثاني: - القيادة، من حيث المفهوم، طبيعتها، شروطها، نظرياتها، محدداتها، مهارات القيادة الفعالة، اهداف القيادة الرسالية، وتم عرضها بالشكل الآتي: -

طبيعية القيادة بصورة عامه: -

لقد فسر علماء النفس السمه على انها الصفة الشخصية المميزة للفرد والصفة بصورة عامه، اما تكون (ايجابيه وسلبيه) والذي يتحكم فيها الموقف والاموال في تغير هذه السمات ومن هذه السمات (متحرر، متحفظ، لديه ثقه بالنفس، شكوك، يعتمد على النفس، يعتمد على الاخرين، استنادا الى نظريات بناء الشخصية السوية، واصحاب هذه النظرية (البورت، ريموند كاتل) وبذلك تحدث علم النفس الحديث عن نظرية السمات وهي عبارة عن وصف لنماذج سلوكيه مألوفة في الشخص الواحد، كان يصف الشخص بانه (اجتماعي، مثابر، حيوي، عدواني، اتكالي، قلق، وسواس، رقيق، قاس، متشائم، متفائل، متغلب الخ)، وقد قام الباحث بعرض طبيعة القيادة حسب الادبيات بالشكل الاتي: -

من المعلوم ان قيادة المجتمع البشري امر ضروري والقائد ضروري لأنه يمثل الراعي لهذه الامه في السراء والضراء وبدون لا تصلح الاعمال، كما قال الامام الصادق (علیه السلام) (ان الارض لا تصلح الا بإمام). (الكافي 2: 21: -)

ومن الواضح ان القيادة تنبع من داخل الجماعة، وتظهر تلقائيا، وغالبا ما تكون مسبوقة بعمليه تنافس عليها من قبل عدد من الجماعة، والجماعة هي التي تحدد اهدافها وليس القائد والتفاعل الديناميكي بين الافراد زهو الشرط الاساسي ظهور القيادة وسلطه القائد وبخلعونها عليه افراد الجماعة الذين يختارون القائد لهم ويصبحون اتباعه.

وعلى الرغم من اهتمام الكثير من العلماء والكتاب والباحثين والفلاسفة بدراسة موضوع (القيادة) فلاتزال القيادة لغز محير وموضوع غامض ولم يتمكن العلماء والكتاب

ص: 85

من الاتفاق على تعريف موحد لمفهوم القيادة، وهنا نذكر بعض التعاريف (زهران 1984).

1. مفهوم القيادة: وهي دور اجتماعي رئيسي يقوم به فرد (القائد) اثناء تفاعله مع غيره من افراد الجماعة ويتسم هذا الدور بالقوة والقدرة على التأثير في الاخرين والتوجيه لبلوغ الاهداف.

2. وهي سلوك يقوم به الفرد - القائد لتحقيق اهداف الجماعة وتحريكهم نحو تحقيق الاهداف وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الجماعة. (زهران 1984)

اولاً: - شروط القيادة: - يرى الكتاب والباحثين ان هناك شروط للقيادة

أ - وجود الشخص القائد: -

ب - وجود مجموعه من الافراد المتجانسين وفق الاهداف والتطلعات: -

ج - ممارسه المهارات: -

د - وجود هدف اسمى: -

ثانياً: - محددات فاعليه القيادة: -

لقد اكدت جميع النظريات على (الشرطية والموقفيه والسمات) ان اسلوب القيادي يتأثر بعدة عوامل ومتغيرات وهي: -

1. عوامل تتعلق بالقائد نفسه: - لكل قائد قدراته، واتجاهاته، واعتقاداته، وميوله، واهتماماته، وتوقعاته، واهافه، وطموحاته، وفلسفته وقيمه، مما تجعل من السهل عليه اتباعها وتحقيق اهدافه بسهوله.

2. عوامل تتعلق بالجماعة التي يقودها: - من المعروف ان الجماعة لهم قيمهم وميولهم وكذلك قدرات وخبرات وقيم وميول واستعدادات في تحمل المسؤولية، واهتماماتهم بالمشكلة، ومدى تفهمهم والتزامهم بأهداف المنشودة، وبطبيعة الحال ان الاسلوب

ص: 86

القيادي المناسب لهم يتطلب من القائد (الحنكة، ومعرفه القبول والرفض).

3. الموقف: - من اهم المتغيرات التي تحدد وصوح العمل والاساليب والاجراءات في اتباع الاسلوب القيادي في خلق الموقف، ومدى خلق الموقف ومدى توفر مستلزمات النجاح.

4. عوامل تتعلق بالمنظمة والجماعة: - نلاحظ ان لكل جماعه او منظمة لها اهداف خاصه بها ترتبط بها القيم والعادات والتقاليد والمعايير الاجتماعية والبناء التنظيمي للجماعة، وعلى القائد ان يفهم هذا البناء الوظيفي.

5. عوامل بيئية:. - اي ان هناك عوامل بيئة (خارجه عن نطاقه المنظمة) وعلى القائد ان يعرف ثقافه المجتمع الساد والثقافات الفرعية والجماعة التي ننتمي اليها والاوضاع السياسية والاقتصادية التي يقررها المجتمع، (حريم 2009)

مهارات القيادة الفعالة: - تؤكد الدراسات فهذا المجال توفر مهارات القيادة وهي: -

1. المهارات الذاتية: وتمثل هذه في الشخصية المهارات (الدوافع، طاقه، الانجاز)، وكذلك اداره الوقت بشكل متكامل وقبول المخاطرة

2. المهارات النفسية: - وتشمل هذه في الشخصية وتشمل (تقمص الاخرون، التعامل بإنسانيه، حسن الخلق)

3. المهارات الإدارية: - وتشمل هذه في الشخصية وتشمل (توجيه ومراقبه والتقويم والتنبؤ الإدارة)

4. المهارات الفنية: - وتشمل هذه في الشخصية وتشمل (تشخيص وترتيب وان مبادى تكوين، وكيفيه اتخاذ القرار. (وهران، يحيى علي 2012)

ص: 87

اهداف القيادة الرساليه: - وقد قام الباحث بوضع اهداف للقيادة الرساليه.

5. ان يكون هدف القائد المسلم، هو وحدانية الله سبحانه وتعالى من خلال عبادته والاخلاص له

6. ان يكون هدف القائد المسلم، هو القرآن الكريم المصدر الوحيد للتشريع الاجتماعي في كل امور المجتمع في حل مشكلات الفرد والمجتمع وجوانب الحياه الاخرى (القانونية السياسية)

7. ان يكون هدف القائد المسلم، هو النموذج والأسوة الحسنه للرسول الاعظم والائمه (عليهم السلام) هم قاده المجتمع الاسلامي، فهو القدوة التي يستمد منها الفرد في اقواله وافعاله وانعكاسها في جوانب الحياه

8. ان يكون هدف القائد المسلم هو الفرد الانسان والنفس البشرية والمرتبط بالقيم الربانية الوسائل في تحقيق غايه الفرد والمجتمع

9. ان يكون هدف القائد المسلم هو (الجهاد في سبيل الله) لأبناء الانسان وبناء المجتمع الاسلامي.

ص: 88

الفصل الرابع: القائد الرسالي والقيم الأخلاقية الفاضلة التي ينبغي ان يحملها في فكر الاسلام

لقد نشر المسلمون اخلاق ومبادى الدين الاسلامي ولاسيما مبادى الحرية، الاخاء، المساواة والتسامح والتشاور في الامر... الخ في جميع بلدان العالم التي انتقلت اليها الحضارة الإسلامية ومنها الى اوروبا واسيا وافريقيا، وقد عرف المسلمون الاخلاق السامية، مثل التسامح، الشهامة والشجاعة والاقدام والمروءة والنبل، وان الشهامة العربية بين الاقوام الاخرى، وكانت المثل العليا

ويذكر الباحث (جوستان لوبون) في وصف الشهامة العربية بانها (من خصائص العرب والمسلمين العشر التأليه) سلامه القلب، البساطة، وخفه الروح، وملكه الشعر، البلاغة، القوة وحذق، ركوب الخيل، واداره الرمح، والسيف، والقوس.... وهذه الخصال معروفه بين المسلمين لا يستطيع ان ينكرها اح. (الابراشي 1074)

ان موضوع القيادة والزعامة في الاسلام ولاسيما في زمن الخليفة العادل الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كانت تحمل كل الصفات القيادة الناجحة ولكن بعد استشهاده تحولت الى تشويه حقيقي، ومن المعلوم ان القيم الاخلاق الفاضلة هي الاساس في بناء الشخصية الإسلامية وتنظيم المجتمع، وهي مصد سعادته واستقامته وتكامل شخصيته للإنسان السوي وكذلك السلوك الاخلاقي.

وفي ضوء ما تقدم نظر الاسلام الى التربية الأخلاقية من اهم عناصر التربية الإنسانية التي اعتنى بها الاسلام واكد على اهميتها في عدة مواضيع بالنسبة للفرد والمجتمع، ومن القيم الأخلاقية التي نظر اليها الاسلام واهتم بها هي: - ((الصدق،، الرحمة، العدل، الأمانة، المحبة، الايثار، الثقة بالنفس، الجد في العمل، الشجاعة، الفروسية، الكرم، احترام الجار، مساعدة الناس، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد في سبيل،

ص: 89

التقوى، اطاعه الله ورسوله... الخ

وعن الامام الصادق (علیه السلام) ان قال (ان الله عز وجل خص رسله ب(مکارم الاخلاق، فاتصفوا في بعشرة - اليقين، القناعة، الصبر، الشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء، الغيرة، الشجاعة، والمروءة... الخ)

وبناءا على ما تقدم بهذا الحديث تضمن قيم تربوية وأخلاقية للقائد الرسالي في تهذيب النفس وتحريرها من الرذائل لتنميه الروحة الإيمانية للإنسان كما ارادها الله سبحانه وتعالى في نبيه محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وقد وصفه جل القدير (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) وكذلك قول الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ((انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) ويرى الباحث ان هناك أخلاقية فاضله التي ينبغي ان يحملها القائد الرسائل وهي انظر الى الجدول رقم ( )

1 الكرم: - 2 الایثار: - 3 العفة: -

4 الأمانة: - 5 التفاني: - 6 العدل: -

7 الاخلاص: - 8 الیقین: - 9 الصبر: -

10 الشكر: - 11 التوکل علی الله: - 12 الخوف من الله: -

13 الرجاء في الله: - 14 الکلم الطیب: - 15 التوبة: -

16 محاسبه النفس: - 17 طاعه الله وتقواه 18 الثبات علی المبدأ: -

19 النصيحة في الله ورسوله 20 الحلم: - 21 الرأفة: -

22 السخاء: - 23 السماحة: - 24 الرجاء في الله: -

25 البصيرة: - 26 الصدق: - 27 کظلم الغیض: -

ملاحظة: - لا يمكن ان نتوسع في شرح هذه القيم الأخلاقية الفاضلة لا نها تحتاج وقت اکبر

ص: 90

الفصل الخامس: القائد والقيادة للأمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الفذة عبر التاريخ

المقدمة: -

ان الله سبحانه وتعالى بعث الانبياء والرسل عليهم السلام من اجل ان يوصلوا الخليقة للكمال الذي يستطيعون به ان يعبدوا الله تبارك وتعالى حق عبادته، وحق معرفته وهذه هي مهمه الانبياء والرسل وتنتهي مهمه الانبياء بالتتويج بمهمه الوحي الحاكم المهدي المنتظر (عليه السلام)

ومن المعلوم ان كل النبوات التي سبقت نبينا محمد (صلى الله عليه واله وسلم) اكدت وبشرت بالمهدي المنتظر (عليه السلام) الذي سوف يحقق العدالة الإلهية

لقد اختص النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهو وصي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والامام الذي فرض الله طاعته على المسلمين جميعا، فقد ادبه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فكان بكل ما يملك من الصفات المعنوية والنفسية والجسدية قادرا على ايصال الانسان وقيادته الى کماله وسعادته، اي لقد احاط الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بعلم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الوحي والاكتساب والتحصيل، بل من عند الله وهو لامجال للباطل ان يدخل بل هو الحق والصحيح والمطابق للواقع، وقال تعالى (ربي زدني علما)

وبناءا على ما تقدم، ان الامام علي بي ابي طاليه (عليه السلام) هو تلميذ الرسول

ص: 91

الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) الذي فرع علومه في صدره وعلمه ابواب العلم، حتى قال الامام علي بي ابي طالب (عليه السلام) (لانا اعلم بالتوراة من اهل التوراة، واعلم بالإنجيل من اهل الانجيل) وبذلك فهو عالم بالشريعة وتعاليم الاسلام والقضاء والفتوى ودرجات الايمان بالله ومعرفته نابعه من القران الكريم ومصاحبه رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم)

وفي ضوء ما تقدم امرنا الله ورسوله (التسمك بولايته، فهو المثال الالهي الذي كان مقدر له ان يقيم حكم الله في الارض لتغير شكل الحياه على الاض وقادر على ايجاد الحلول السليمة بكل المشاكل التي تعاني منها البشرية، وبذلك تبقى اقواله واقعا نموذجا حيا للإنسانية نستضئ به في لليها الطويل، وتبقی اقواله وحكمته ومواقفه مصباح هدي ينير الدرب للذين تهفو نفوسهم نحو الكمال

وبناءا على ما تقدم بعد المحنة العظيمة التي اصبت الامة الإسلامية بوفاة النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) اقتصر دور الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) على المعونة والمشورة طيلة المدة التي سبقت خلافته وكان هذه المدة حافلة بالإنجازات والانتصارات، هدفها هو الحفاظ على الاسلام وانقاذ البشرية، وبذلك اجتمع الناس حول الامام امير المؤمنين (عليه السلام) وبيعه بالخلافة امير المؤمنين وابتهجت الارض بعدالة، وطفق المؤمنون يرتلون يأت الشكر لله سبحان وتعالى، الا ان يد الظالمة لم تقطع انیابها فقد وقفت لتقطع طريق الحق والنور ودخل امير المؤمنين في صراع مرير مع الناكثين في حرب الجمل، ومع القاسطين في حرب صفين ومع الخوارج في حرب النهروان القائد والقيادة الفذة للأمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام. (الشيخ علي الفتلاوي 2012)

ص: 92

مضامين القيم الأخلاقية الفاضلة للقائد والقيادة في فكر الامام علي بن ابي طالي (عليه السلام) الفذة:

من المعلوم، ان الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كان حريصا على تثقيف الناس وتعليميهم علوم محمد واله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) لنكون لهم حصنا من الزيغ والضلال وكان هدفه ان ينشل الانسان من كل العقائد الزائفة وترسبات الجاهلية التي كانت تعصف بالنفوس ونردهم عن الاسلام وكان يعلم الناس عباده الله سبحانه وتعالى وتوحيده ويدعوهم الى (معرفة الله وعبادته) لأنه يعلم ان العبادة مع معرفه تكون حصنا من وساس الشيطان، ومن اهواء النفس، لذا فهو يعرف الدين بمعرفة الله تعالى فيقول عليه السلام (اول الدين معرفته) والعبادة لغة هي غايه التذلل والخضوع لذلك لا يستحقها الا المتعلم الاعظم الذي غايته الافضال والانعام وهو الله سبحانه وتعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» الذاريات 56 - 58.

وقد اكد على القيم الأخلاقية الفاضلة وتعزيزها ونشرها في المجتمع الاسلامي والمسلم وهي: -

1. الصدق: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (مطابقة القول للواقع)، وهو اشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية لخصائص الشخصية ولها اثر في حياه الفرد والمجتمع، وبذلك يعد رمز الاستقامة الصلاح وسبب النجاح والنجاة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» سورة المائدة 119، وقال الرسول محمد (صلى الله

ص: 93

عليه واله وسلم) في الصدق (زينه الحديث الصدق) وقال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) (الزموا الصدق فانه منجاه).

2. الحلم وكظم الغيظ: - وهما من القيم الأخلاقية الفاضلة في ضبط النفس ازاء مثيرات الغضب، ودليلا على سمو النفس وكرم الاخلاق وسبب للمودة والاعتزاز، وقدم مدح الله سبحانه وتعالى الحلماء والكاظمين الغيض في محكم كتابه العزيز «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» سورة ال عمران 134) وكذلك قوله تعالى «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» سورة الفرقان 63، وقال امير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) في الحلم (اول عرض الحليم من حلمه، وان النفس انصاره على الجاهل).

3. التواضع: - وهي من القيم الفاضلة وتعني (احترام الناس حسب اقدارهم، وعدم الترفع عليهم) وقد وصف الله سبحانه وتعالى النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»الشعراء 215، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (ان احبكم الي واقربكم مني يوم القيامة مجلسا، احسنکم خلقا واشدکم تواضعا، وان ابعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون وهم المستكبرون) وقال امير المؤمنين علي بن ابي طالي (عليه السلام) (ما احسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عند الله واحسن منه فيه الفقراء على الاغنياء انکالا على الله).

4. الايثار: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاجاد بالعطاء وهم بأمس الحاجه اليه) وقد وصف الله سبحانه وتعالى اهل البيت عليسهم السلام «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» الانسان 8 - 9 وقوله تعالى ايضا «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ

ص: 94

وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9، وقال الامام الصادق (عليه السلام) بحق امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (كان علي اشبه برسول الله. كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الخبر واللحم).

5. العدل: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (مناعة نفسيه تردع صاحبها عن الظلم، وتحفزه على اداء الحقوق والواجبات بشكل عادل) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل 90 وقال الله تعالى «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» الانعام 152 وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58، وقال الامام الرضا (عليه السلام) (استعمال العدل والاحسان مؤذن بدوام النعمة، وقال الامام امير المؤمنين (عليه السلام)، (لابنه الحسن (عليه السلام) (يابني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم کما لا تحب ان تظلم، واحسن کما تحب ان يحسن اليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب ان يقال لك).

6. الصبر: - وهو من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (احتمال المكره او المكاره من غير جزع، وهي قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل في اوامرها ونواهيها، وبذلك فهو من السمات البطولة في الظفر والنجاح، وقد امرنا الله سبحانه وتعالى التحلي بالصبر وقال تعال في محكم كتابه العزيز (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ال عمران

ص: 95

146 وكذلك قوله تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» الانفال 46 وقوله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر 10، وقال الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (من لم ينجه الصبر، اهلکه الجزع) وقال الامام الصادق (عليه السلام) (الصبر من الايمان بمنزله الراس من الجسد فاذا ذهب الراس ذهب الجسد، وكذلك اذا ذهب الصبر ذهب الایمان).

7. التوكل: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاعتماد على الله في جميع الامور وتفويضها اليه، والاعراض عما سواه، فهي قوة القلب واليقين) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» الطلاق 3 وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ال عمران 159 وقوله تعالى «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التوبة 51 وقال الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في وصيه لابنه الحسن (عليه السلام) (والجيء نفسك في الامور كلها الى الهك، فانك تلجئا الى كهف حریز ومانع عزیز).

8. الاخلاص: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني (صفاء الاعمال من الشوائب والرياء وجعلها خالصة لوجه الله تعالى) وقد صف الله سبحانه وتعالى (الخلص) بقوله تعالى «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» الكهف 110 وقوله تعالى «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» الزمر 2 - 3 وقال الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (من اخلص لله اربعين يوما، فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) وقال امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (الدنيا كلها جهل الا مواضع العلم، والعلم كله جهل

ص: 96

الا ما عمل به، والعمل كله رياء الا من كان مخلصا والاخلاص على خطر، حتى ينظر العبد بما يختم له).

9. الخوف من الله تعالى: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (تألم النفس خشیه من عقاب الله من جزاء عصیانه ومخالفته) فهي من القيم الأخلاقية الدينية التي تعني الابتعاد عن الشرور والآثام ما يغضب الله في القول والفعل، وبذلك وصف الله سبحانه وتعالى الخائفين من الله بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» الملك 12، وقوله تعالى «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» النازعات 40 - 41، وقال الامام امیر المؤمنين علي ابن طالب (عليه السلام) (لا يكون المؤمن موقنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجوا).

10. الرجاء في الله تعالى: - وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (هو انتظار محبوب تمهدت له اسباب الحصول عليه، كمن زرع بذره في ارض طيبه ورعاها بالسقي والمدارات، فرجاء منها الناتج والنفع) لذلك فالرجاء في الله تعالى هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن الى افاق طاعه الله والفوز بشرف الرضا، وفي ضوء ما تقدم، يعني الرجاء في الله تعالى (النهي عن الياس والقنوط) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذي يرجو الله تعالى «وقُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الزمر 53 وقوله تعالى «وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» يوسف 87 وقال الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) (لرجل اخرجه الخوف الى القنوط لكثره ذنوبه، ایا هذا باسك من رحمه الله اعظم من ذنوبك) وقال الامام الصادق (عليه السلام) (لا يكون المؤمن حتى خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف وير جو). (السيد مهدي الصدر

ص: 97

2011).

11. البصيرة: - وهي الوعي والتعقل، فالإنسان الواعي والعاقل هو الذي يفكر بالعواقب ويتجنب سخط الله وغضبه، لان الدنيا كما يقول امير المؤمنين علي ابن ابي الطالب (عليه السلام) (انما الدنيا دار مجاز والاخر دار قرارا، فخذوا من ممركم لمقركم) لذلك نقول ان الانسان العاقل هو الذي يميز عن المعاصي يبتعد عن الذنوب لان عقله يصونه من هذه المأثم والخطايا، وقد سئل الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ما العاقل يا رسول الله، قال (العمل بطاعة الله وان العامل بطاعة الله هم العقلاء) (القزويني، بلا).

ص: 98

الفصل السادس: القيم الأخلاقية الفاضلة الموجهه من قبل الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك الاشتر النخعي (رضي الله عنه) دراسة تحليليه.

قام الباحث بتحليل الرسالة ووجد ان هناك قيم اخلاقية فاضله اكد عليها الامام امير المؤمنين (عليه السلام) وهي، انظر الى القوائم (1 و2): -

قائمة رقم (1) القيم الأخلاقية الفاضلة التي يريدها الامام امير المؤمنين في القائد الرسالي مالك الاشتر (رضي الله عنه)

1. - المساواة - 2. الرحمة - 3.

المحبة

4. - اللطف - 5. العفو - 6. -الطاعة

7. - اقامة الفرائض والسنة النبوية المطهرة - 8. - مقاومه الشهوات - 9. - العدل

10. - العمل الصالح - 11. - احترام القانون - 12. - الانصاف

13. - حمد النعمة - 14. - الستر - 15. - المشاورة

16. - الصدق - 17. - الاحسان - 18. - العمل الجيد

19. - طلب العلم والحكمة - 20. - النصيحة لله ورسوله - 21. - الشجاعة

22. - السخاء - 23. - السماحة - 24. - الكرم

25. - العرف - 26. - الثناء على العمل - 27. - القبول بالقدر

28. - الاختیار - 29. - المراقبة - 30. - طلب الخراج

31. - الرعاية - 32. - مساعدة الناس - 33. - تنظيم العمل

ص: 99

قائمه رقم (2) واجبات ومسؤوليات مطلوبة في القائد الرسائل المالك الأشتر (رضي الله عنه) کما حددتها الرسالة

1 - التقيد بالقانون وضبط النفس - 2 - اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم - 3 - العمل الصالح الرحمة بالناس والعفو

4 - اطاعه القانون وعدم التكبر - 5 - العدل والإنصاف - 6 - الابتعاد عن سخط الناس

7 - الابتعاد عن المخبر الواشي - 8 - الابتعاد عن المستشار البخيل والجبان - 9 - عدم استخدام مسؤول سابق خان لشعبه

10 - استخدام التقاه الصادقين - 11 - الاحسان وحسن الضن - 12 - صنيع عملك

13 - ادامه العمل الجيد السابق - 14 - مجالس العلماء والخبراء - 15 - الاهتمام بالاجهزة الامنية والقضاء

16 - مراعاه التجار والكسبة - 17 - مراعاه المستضعفين من الناس - 18 - اخیار قياده الجيش

19 - رعاية وجهاء الناس - 20 - صفاه قاده الجيش برعاية الجنود - 21 - العدل والتواضع مع الناس

22 - اختيار المدراء والقضاة - 23 - اختيار الولاة - 24 - مراقبه اعمال المسؤول المقربين

25 - متابعه الضرائب واعمار البنى التحتية - 26 - توفير الخدمات للناس اولا ثم الضرائب - 27 - اختيار السكرتير والجهاز الاداري والمالي

28 - الاهتمام بالتجارة والصناعة - 29 - منع الاحتكار ومعاقبه المحتكر - 30 - رعاية الايتام والمسنين

31 - ضرورة لقاء المسؤول المباشر مع الناس وادامته - 32 - ضرورة اجابه المسؤولين في الدرجة السفلى - 33 - ضرورة جدوله العمل اليومي وبذل الجهد

34 - امامة الناس في الصلاة وبساطتها - 35 - عدم اطاله الاحتجاب عن الناس - 36 - الحذر من الحاشية ومراقبتهم

ص: 100

36 - الركن الى السلم والصلح ومنع الحرب - 37 - الحفاظ على العهد مع العدو - 38 - صفه وثيقه العهد

39 - حفظ حریه دم المواطن - 40 - عدم تكبر المسؤول والاعجاب بنفسه - 41 - عدم التسرع والاستئثار بالمسؤولية

42 - ضرورة الاتعاظ بسلوك الحكومات السابقة - 43 - التأكد على الصلاة، والزكاة، والثناء في العبادة واتمام النعم وتضعيف الكرامة، - 44 - والخاتمة بالشهادة

ملاحظة: -

لأجل استلهام المعاني السامية للرسالة التي وجهها الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالبه (عليه السلام) الى عامله مالك الاشتر (رضي الله عنه)

سيقوم الباحث باختيار (القيم الأخلاقية الفاضلة) التي اكد عليها الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) والذي يدعو فيها الى تعزيز القيم الأخلاقية الفاضلة انظر الى الجدول رقم () يمثل القيم الأخلاقية الفاضلة وتكرارها في الرسالة الموجه الى مالك الاشتر(رضي الله عنه)

ت - القيم الأخلاقية الفاضلة - تكرارها - ت - القيم الأخلاقية الفاضلة - تكرارها

1 - العدل والإنصاف 4 - 2 - المساواة - 1

3 - الاخلاص - 3 - 4 - الأمانة - 6

5 - التواضع - 5 - 6 - طاعة الله وتقواه - 3

7 - القناعة - 2 - 8 - المشورة - 3

9 - القدوة - 7 - 10 - الفساد 4

11 - الرعاية والاهتمام - 2 - 12 - الشكر - 1

ص: 101

ادناه القيم الأخلاقية الفاضلة كما مثبت بالجدول اعلاه

اولا: - العدل والانصاف: ۔

1 - الا مر بالتقيد بالقانون وضبط النفس: أَمرهُ بتقوى اللهِ، وإيثار طاعة، وَاِّتبَاعِ مَا أَمرَ بِهِ فِي كتَاِبهِ: مِنْ فَرَاِئضِهِ وَسُنَنِهِ، اَّلتِي لا يَسْعَدُ أَحَد إلا باتباعها، ولاَ يشقى الامع جُحُودِها واضاعتها وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَاَنهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلسَاِنهِ، فَإِّنهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ

تَكفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نصَرَهُ، وَإعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.

أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيزَعهَا) اي (يكفيها) عِنْدَ اْلجَمَحَاتِ(منازعات

النفس إلى شهواتها ومآربه)، ((فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلا مَا رَحِمَ اللهُ).

2 - العمل الصالح والرحمة بالناس والعفو: فَلْيَكُ احَبَّ الذَّخَاِئرِ إِليْكَ ذَخِيرَةُ اْلعَمَلِ الصَّاِلحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ (ابتعد) عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الا

انْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ لهم وَكَرِهْتَ.

وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَاْلمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، ولاَ تَكُوَنن عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُ مْ، فَإِّنهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإما نظير لكَ فِي اْلخَلْقِ، يَفْرُطُ) (يسبق) (مِنْهُمُ الزَّللُ، وَتعْرِضُ لَهُمُ اْلعِلَلُ، يُؤْتى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي اَلعَمْدِ والخطأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الذي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِّنكَ فَوْقَهُمْ،

وَوَاِلي الا مْرِ عَلَيكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاكَوَقَدِ اسْتَفَاكَ)(طلب منك كفاية أمرك والقيام بتدبير مصالحهم) أَمْرَهُمْ، وَاْبتَلاَكَ بهِمْ.

3 - إطاعة القانون وعدم التكبر: التكبر: وَلا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لَحِرْبِ اللهِ (مخالفة شريعته بالظلم

والجور)، فَإِّنهْ لاَيَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ (أي لا طاقة لك بها)، وَلا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْو، وَلا تَبْجَحَنَّ (تفرح بزهو)(بِعُقُوَبة، وَلا تُسْرِعَنَّ

إِلى بادرة)(يبدر من الحدة عند الغضب) وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً (متسعا)، وَ لا

ص: 102

تَقُوَلنَّ: إِّني مُؤَمَّرٌ (مسلط) آمر فأطاع، فَإِنَّ ذِلكَ إِدْغَالٌ (إدخال الفساد) فِي اْلقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ (مضعفة) لِلدِّينِ، وَتقرُّبٌ مِنَ اْلغِيَرِ (حادثات الدهر بتبدل الدول).

وَإذَا أَحْدَثَ لكَ مَا أَنتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَاِنكَ أُبَّهَةً (الكبرياء) أَوْ (مَخِيلةً (الخيلاء)، فَاْنظُرْ إِلى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتهِ مَنْكَ عَلَی مَا لا يقدر عليه مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذِلكَ يضامن (يخفض) (إِليْكَ مِنْ طِمَاحِكَ (النشوز والجماح)، وَيُكفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبكَ (الحدة)، يَفِيءُ (يرجع) إِليْكَ بِمَا عَزَبك (غاب) عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ.

4 - العدل والإنصاف، وظلم العباد: إِّياكَ وَمُسَامَاةَ (السمو) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي

جَبَرُوِتهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيهِينُ كُلَّ مُخْتَال.

أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لكَ فِيهِ هَوىً (تميل اليه) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِّنكَ الا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خصمة اللهُ أَدْحَضَ (أبطل) حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى ينْزعَ (يقلع عن ظلمه) (وَيتُوبَ.

وَليْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلى تغير نِعْمَةِ اللهِ وَتعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ

دَعْوَةَ اْلمضطهدِينَ، وَهُوَ للظَّاِلمِينَ باْلمِرْصَادِ

ثانيا: - المساواة

وقال (عليه السلام) (اشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف، بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم اكلهم فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين واما نظيرك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتي على ايديهم في العمد والخطاء، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه، فانك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك).

ص: 103

ثالثا: - الاخلاص:

1 - إدامة العمل الجيد: وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَاِلحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هذِهِ الامَّةِ، وَاجْتَمَعتْ

بِهَا ا الْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَ الرَّعِيَّةُ، لا تحدثن سُنَّةً تَضُرُّ بشيء مِنْ مَاضِي تِلكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الاجْرُ بمَنْ سَنَّهَا، وَاْلوِزْرُ عَلَيْكَ بمَا نقَضْتَ مِنْهَا.

2 - استخدام التقاة الصادقين: وَاْلصَقْ بِأَهْلِ اْلوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ (عوّدهم) عَلَی ألا يُطْرُوكَ وَلا يبجحوك (يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته) بِبَاطِل لمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كثْرَةَ اْلاطْرَاءِ تحْدِثُ الزَّهْوَ (العُجْب)، وَتدْني مِنَ اْلعِزَّةِ (الكِبْر).

3 - مجالسة العلماء والخبراء: وَأَ كثِرْ مُدَارَسَةَ اَلعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ (مجالسة) اْلحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا

صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بلاَدِكَ، وَإقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بهِ النَّاسُ قَبْلَكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلا بِبَعْض، وَلا غنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ الله منها كتَّابُ اْلعَامَّةِ وَاْلخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ اْلعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الانْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ اْلجِزْيَةِ وَاْلخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ

وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي اْلحَاجَةِ وَاْلمَسْكَنَةِ، وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ

سَهْمَهُ (نصيبه من الحق)، وَوَضَعَ عَلَی حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي أَوْ سُنَّةِ نبِيِّهِ عَهْدًا مِنْهُ عِنْدَنا مَحْفُوظاً

رابعا: - الأمانة:

1 - الحفاظ على العهد مع العدو: وَإنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً (عهدًا)، فَحُطْ عَهْدَكَ (احفظه وصنه) بِاْلوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بالأمانة، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ لجُنَّةً (ضحّ بنفسك دون عهدك) دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِّنهُ لَيْسَ مِنْ فَرَاِئضِ اللهِ عزوجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَاِئهِمْ، وَتشْتِيتِ آرَاِئهِمْ، مِنَ

تَعْظيمِ اْلوَفَاءِ بِاْلعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذِلكَ اْلمُشْرِكونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ اْلمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبلُوا مِنْ عَوَاقِبِ اْلغَدْرِ (وجدوها وَبيلة، مهلكة)، فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ

ص: 104

بَعَهْدِكَ (خاس بعهده: خانه ونقضه)، ولاَ تَخْتِلَنَّ (تخادع) عَدُوَّكَ، فَإِّنهُ لا يجترئ عَلَی

اللهِ الا جَاهِلٌ شَقِيٌّ.

2 - حفظ حرمة دم المواطن - : إِّياكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِّنهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى

لِنِقْمَة، وَلا أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلا حْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَاْنقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَاَنهُ مبتدئ بِاْلحُكْمِ بَيْنَ اْلعِبَادِ، فِيَما تسفكوا مِنَ الدِّمَاءِ يِوم القيامة فلا تقولن بسُلْطَاَنكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذِلكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ يوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَينْقُلُهُ،

وَلا عذر لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاعِنْدِي فِي قَتْلِ اْلعَمدِ، لان فِيهِ قَوَدَ (قصاص) اْلبَدَنِ، وَإنِ اْبتُلِيتَ بخطأ وَأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ (أَردت تأ ديباً فأعْقَبَ قتلاً)(سَيْفُكَ) أَوْ يَدُكَ

بِعُقُوَبة، فَإِنَّ فِي اْلوَكْزَةِ (اللكمة) فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ (ترتفِعَنّ بك) نَخْوَةُ سُلْطَاِنكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلى أَوْليَاءِ اْلمَقْتُول حَقَّهُمْ.

3 - صفة وثيقة العهد: وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ (أفشاه) بَيْنَ اْلعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً (ما حرم عليك أن تمسه) يَسْكُنُونَ إِلى مَنَعَتِهِ (ما تمتنع به من القوة) يَسْتَفِيضُونَ (يفزعون اليه بسرعة) إِلى جِوَارِهِ، فَلاَ إِدْغَالَ (افساد)، وَلا مُدَاَلسَةَ (خيانة)، وَلا خِدَاعَ فِيهِ، وَلا تَعْقِدْ عَقْدًا تَجُوزُ فِيهِ اْلعِلَلُ (وذلك يطرا على الكلام عند إبهامه

وعدم صراحته) ولا تعولن على لجنَ (ما يقبل التوجيه كالتورية والتعريض) بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثقَةِ، وَلا يَدْعُوَّنكَ ضِيقُ أَمْر لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ، إِلى طَلَبِ اْنفِسَاخِهِ

بِغَيْرِ اْلحَقِّ، فَإنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيق تَرْجُو اْنفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ، خَيْرٌ مِنْ غَدْر تَخَافُ

تَبِعَتَهُ، وَأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللهِ فِيهِ طَلِبَةٌ (مطالبة الله إياك بحقه في الوفاء الذي غدرت به)، لا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنيَاكَ وَ اَ آخِرَتكَ.

4 - توفيرُ الخدمات للناس أوّلا ثم الضرائب: فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلا أَوْ عِلَّةً (نزول علة سماوية بزرعهم أضرت بثمراته)، أَوِ اْنقِطَاعَ شِرْب) ماء السقي من الانهار) أَوْ بَاَّلة (ما يبلّ الارض من ندى ومطر - سقي الديم)، أَوْ إِحَاَلةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ (كالفيضانات)

ص: 105

أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ (الجفاف)، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ اْلمَؤُوَنةَ عَنْهُمْ، فَإِّنهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْ كَل فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ، وَتزْيينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاِبكَ حُسْنَ ثَنَاِئهِمْ، وَتبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ اْلعَدْلِ

فِيهِمْ (إدّ عاؤك بالنجاح في نشر العدل بينهم)، مُعْتَمِدًا فَضْلَ قُوَّتهِ (زيادة قوتهم عمادًا لك تستند اليه عند الحاجة)، بِمَا ذَخَرْتَ (وفّرْت) عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ (الترفيه والاراحة)، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِما عَوَّدْتهُمْ مِنْ عَدْلكَ عَلَيْهِمْ فِي رِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُّبمَا حَدَثَ مِنَ الامورِ مَا إِذَا فيه عليهم منْ بَعْد احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسهُمْ بِهِ، فإِنَّ اْلعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ

مَا حَمَّلْتَهُ، وَإَّنما يُؤْتى خَرَابُ الارْضِ مِنْ إِعْوَازِ (الفقر والحاجة) أَهْلِهَا، إِّنمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَ لا شْرَافِ أَنْفُسِ اْلوُ اَةِ عَلى اْلجَمْعِ (لتطلع أنفسهم إلى جمع المال، ادخارًا لما بعد زمن الولاية إذا عزلوا)، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ باْلبَقَاءِ، وَقِلَّةِ اْنتِفَاعِهِمْ باْلعِبَرِ.

5 - مراقبة أعمال المحافظ والمسؤولين المقربين: ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَاَلهُمْ، وَاْبعَثِ اْلعُيُونَ (الرقباء)

مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّر لا مُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ (سَوق لهم وحثّ) عَلَی اسْتِعْمَالِ الامَاَنةِ، وَالرِّفْقِ بالرَّعِيَّةِ.

وَتحَفَّظْ مِنَ الاعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلى خِيَاَنة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُوِنكَ، اْ كتَفَيْتَ بِذِلكَ شَاهِدًا، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اْلعُقُوَبةَ فِي بَدَنهِ، وَأَخَذْتهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اْلمَذَّلةِ، وَوَسَمْتَهُ بِاْلخِياَنةِ، وَقَلَّدْتهُ عَارَ التُّهَمَةِ.

6 - متابعة الضرائب وإعمار البنى التحتية: وَتفَقَّدْ أَمْرَ اْلخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاصَلاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ لا بِهِمْ، لانَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَی الخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.

وَليَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَة الارْضِ أبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، اِنَّ ذِلكَ لايُدْرَكُ لا بَاْلعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ اْلخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ اْلبلاد وَأَهْلَكَ اْلعِبَادَ، وَلمْ يسْتَقِمْ أَمْرُهُ إ اَّ قَلِيلاً

ص: 106

خامسا: - التواضع: -

الرعاية وجهاء الناس: ثُمَّ اْلصَقْ بَذَوِي اْلمُرُوءَاتِ وَالاحْسَان، وَأَهْلِ اْلبُيُوَتاتِ الصَّاِلحَةِ، وَالسَّوَاِبقِ اْلحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِّنهُم جِمَاعٌ مِنَ اْلكَرَمِ (مجموع منه)، وَشُعَبٌ (جمع شعبة) مِنَ اْلعُرْفِ (المعروف).

ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ اْلوَاِلدَانِ مِنْ وَلدِهِمَا وَلا يَتَفَاقَمَنَّ (يعظُم) فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيتَهُمْ بِهِ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً (تستصغر لطفا بسيطا) تعادتهمبه وان قل فانه داعيه لهم الى بذل النصيحة لك وجبن الظن بك ولا تدع تفقد لطیف امورهم اتكالا على جسيمها فان لليسر من لطفك موضعا ينتفعون به وللجسم موقعا لا يستغنون عنه.

2 - مراعاة التجار والكسبة: ولا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ (المنافع)، وَيقِيمُونه مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَيْكفُوَنهُ منَ التَّرَفُّقِ (التكسب) بأَيْدِيهِمْ ممّا اَ يبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ.

3 - مراعاة المستضعفين من الناس: ثُمَّ الطَّبَقةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ اْلحَاجَةِ وَاْلمَسْكَنَةِ اَّلذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ (مساعدتهم وصلتهم) وَمَعُوَنتُهُمْ.

وَفِي اللهِ لكُلّ سَعَةٌ، وَلكُلٍّ عَلَی اْلوَاِلي حَقٌ بقَدْرِ مَا يصْلِحُهُ. (وَليْسَ يَخرُجُ اْلوَاِلي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمهُ اللهُ مِنْ ذِلكَ إلا بِالاهْتِمامِ والاستعانة بِاللهِ، وَتوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَی لُزُومِ اْلحَقِّ،

وَالصَّبْرِ عَلَيهِ فِيَما خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثقُلَ).

4 - رعاية ذوي الدخل المحدود من الناس: ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقةِ السُّفْلَی مِنَ اَّلذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ وَاْلمَسَكِين ل وَاْلمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ اْلبُؤْسَى (شديد وا الفقر) وَالزَّمْنَى (جمع زمين وهو المصاب بالزَمانة بفتح الزاي أي العاهة)، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَاِنعاً (السائل) وَمُعْتَّرًّا (المتعرض للعطاء بلا سؤال)، وَاحْفَظْ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ. (طلب منك حفظه) مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَاِلكَ، وَقِسما منْ غَلات (ثمرات)

ص: 107

صَوَافِي (جمع صافية وهي أرض الغنيمة) الاسلام فِي كل بَلَد، فإِنَّ لِلا قْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ اَّلذِي لِلا دْنى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلا يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ (طغيان بالنعمة)، فَإِّنكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهَ (البسيط الحقير) اِحْكَامِكَ اْلَكثِيرَ اْلمُهِمَّ.

فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ) (اهتمامك عن ملاحظة شؤونهم) عَنْهُمْ، وَالا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ (أماله إعجاباً وكبرًا) وَتفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِليْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اْلعُيُونُ (تكره أن تنظر اليه احتقارًا وازدراءً)، وَتحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ اِلا ولئكَ ثِقَتَكَ) اجعل للبحث

عنهم أشخاصاً يتفرغون لمعرفة أحوالهم يكونون ممن تثق بهم (مِنْ أَهْلِ اْلخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُع،

فَلْيَرْفَعْ إِليْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بَا لأعذار إِلى اللهِ تَعَاَلى (بما يقدم لك عذرًا عنده) يَوْمَ

تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلاء مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلى الا انصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلى اللهِ تعَاَلى فِي تأْدِيةِ حَقِّهِ إَليهِ.

5 - رعاية الأيتام والمسنين: وتعهد اهل اليتم وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السّمن (المتقدمون فيه) مما

لأحيله له ولا يَنْصِبُ لْلمَسْالة نَفْسَهُ، وَذِلكَ عَلَی اْلوُلاة ثَقِيلٌ، وَاْلحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلى أَقْوَام طَلَبُوا اْلعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لهُمْ.

سادسا: - طاعة الله وتقواه: -

1 - إمامة الناس في الصلاة وبساطتها: وَإذَا قُمْتَ فِي صلاِتكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُوَننَّ مُنَفّرِا وَلا مُضَيِّعاً (لا تُطِل الصلاة فتكرّه بها الناس ولا تضيع منها شيئاً بالنقص في الاركان، بل التوسط خير)، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ اْلعِلَّةُ وَلهُ اْلحَاجَةُ. وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ حِينَ وَجَّهَنِي إِلى اَليمنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ

باْلمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.»

2 - الركون إلى السلم والصلح ومنع الحرب: وَلا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِليْهِ عَدُوُّكَ لله فِيهِ رِضىً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً (الراحة) لِجُنُودِكَ، ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ،

ص: 108

وَلكِنِ اْلحَذَرَ كُلَّ الحذر من عدوك بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ اْلعَدُوَّ رُّبمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ (يغدرك في غفله)، (فَخُذْ باْلحزمَ وَاَّتهِمْ فِي ذِلكَ حُسْ الظن.

3 - عليّ يذكّر مالكاً بوصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ

إليَّ رَسُوُلهُ فِي وَصَاَياهُ: (تحضيضاً عَلَی الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَاُنكُمْ»، فَبِذَلكَ أَخْتِمُ لَكَ مَا عَهِدَ، وَلا قُوَّةَ اَّلا بِاللهِ العَظِيمِ.

سابعا: - القناعة: -

1: - اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم: ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلى بِلاد قَدْ جَرتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عدل وَجَوْر، وَأَنَّ الناَّسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثلْكِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ اْلوُلاةِ قَبْلكَ، وَيقُوُلونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فيهم

2 - جدولة العمل اليومي وبذل الجهد: وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْم عَمَلَهُ، فإِنَّ لِكُلِّ يَوْم مَا فِيهِ، وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيَما بَيْنَكَ وَبيْنَ اللهِ تعالى أَفْضَلَ تِلْكَ اْلمَوَاقِيتِ، وَأَجْزَلَ (أعظم) تِلْكَ الاقْسَامِ، وَإِنْ كَاَنتْ كُلُّهَا لله إذَا صَلَحَتْ فيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ. وَليَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ لله بِهِ دِينَكَ: إِقَامَةُ فَرَاِئضِهِ اَّلتي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللهَ مِن بَدَنكَ

فِي لَيْلِكَ وَنهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبتَ بِهِ إِلى اللهِ مِنْ ذِلكَ كَاملاً غَيْرَ مَثْلُوم (مخدوش بشيء من التقصير ولا مخرق بالرياء) وَلا مَنْقُوص، باِلغاً مِنْ بدَنكَ مَا بلَغَ.

ثامنا: - المشورة: -

1 - المُخبِر والواشي: أَطْلِقْ عَنِ النّاسِ عُقدَةَ كُلِّ حِقْد (احلل عقد الحاقد من قلوب الناس

بحسن السيرة معهم)، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتر (العداوة) وَتغَابَ (تغافَلْ) عَنْ كلِّ مَا يَضِحُ (يظهر) لَكَ، وَلا تَعْجَلَنَّ إِلى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ) النمام بمعائب الناس غَاشٌ، وَإِنْ تشَبَّهَ بالنَّاصِحِينَ.

ص: 109

2 - المستشار البخيل والجبان: وَلا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتكَ بَخِيل يَعْدِلُ بِكَ عَنِ اْلفَضْل (الا حسان بالبذل)، ا وَيعِدُكَ اْلفَقْرَ (يخوفك منه لو بذلت) وَلا جَبَان يُضعِّفُكَ عَنِا امُورِ، وَلا حريصا ينُزن لَكَ الشَّرَه (اشد الحرص) بِاْلجَوْرِ، فَإِنَّ اْلبُخْلَ وَاْلجُبْنَ والحرص غرائز (طبائع متفرقه) حَرِيص اً باللهِ. نّ مَعُهَا سُوءُ الظَّ جْ (طبائع متفرقة) شَتَّى يجمعها سوء الظن بالله.

3 - عدم استخدام مسؤول سابق خائن لشعبه: شَرّ وُزَرَاِئكَ مَنْ كَانَ للأشرار قَبْلَكَ وَزِيرًا، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الا ثَامِ، فَلا يَكُوَن نَّلَكَ بِطَاَنة (خاصته وحاشيته) فَإِّنهُمْ أَعْوَانُ الاثَمَةِ (المذنبين) وَإخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُ خَيْرَ اْلخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَاِئهِمْ وَنفَاذِهِمْ، وَليْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ (الذنبوالاثم) (وَأَوْزَارِهِمْ (الذنوب) وآثَامِهِمْ، مِمَّنْ يُعَاوِنْ ظَاِلمًا عَلَی ظُلْمِهِ، وَلا آثِماً عَلَی إِثمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُوَنةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُوَنةً، وَأَحْنَى عَلَيكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلفاً (الالفة والمحبة) فَاَّتخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاِتكَ وَحَفَلاِتكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلهُمْ بمُرِّ اْلحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِه اَللهُ لأوليائه، وَاقِعاً ذِلكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ.

تاسعا: - القدوة: -

1 - استخدام التقاة الصادقين: وَاْلصَقْ بِأَهْلِ اْلوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ (عوّدهم) عَلَی ألا اّيطْرُوكَ وَلا يبجحوك (يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته) بِبَاطِل لمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كثْرَةَ اْلاطْرَاءِ تحْدِثُ الزَّهْوَ (العُجْب)، وَتدْني مِنَ اْلعِزَّةِ (الكِبْر).

2 - الإحسان وحسن الظن: ولا يَكُوَننَّ اْلمُحْسِنُ وَاْلمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذِلكَ تزهيد الأهل الاحْسَانِ فِي الا حسان تدريبا اِلاهل الاسَاءَةِ عَلَی الاسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نفْسَهُ.

اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى الى حُسْنِ ظن وال برعيته من احسانه اليهم وَتخْفِيفِهِ

ص: 110

اْلمَؤُوَناتِ عَلَيْهِمْ، وَترْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِّياهُمْ عَلى ما لَيْسَ له قبلهم (عندهم) فليكن مِنْكَ فِي ذِلكَ أَمر يجمعهمْ لك به حسن الظن برعيتك فان حسن الظن يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً (التعب)

(طَوِيلا، وَإنَّ أَحَقَّ مَنْ احسنّ الظَّنَ حُسْنَّ ظنك حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بلاؤُكَ عِنْدَهُ، وَإنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَن اسَاءَ بلاؤك (صنعك وفعلك) عنده.

3 - قيادة الجيش: فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلرَسُوِلهِ وَاِمَامِكَ، (وَأَنْقَاهُمْ

[جَيْباً] (مؤتمنا تقيا) وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً (العاقل) مِمَّنْ يبطئ عَنِ اْلغَضَبِ، وَيسْتَرِيحُ إِلى اْلعُذْرِ، وَيرافُ بِالضُّعَفَاءِ، وَينْبُو عَلَی الأقوياء (يتجافى عنهم ويبعد)، وَمِمَّنْ لا يثِيرُهُ اْلعُنْفُ، وَلا يقْعُدُ بهِ الضَّعْفُ

4 - صفاة قادة الجيش ورعايتهم للجنود: وَليَكُنْ آثَرُ (أفضل وأعلى منزلة) رُؤوسِ جُندِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ (ساعدهم بمعونته لهم) فِي مَعُوَنتِه، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتهِ) أفاض عليهم من غناه (بِمَا يَسَعُهُمْ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ) وهو من يبقى في الحي من النساء والعَجَزَة بعد سفر الرجال)، حَتَّيَ يكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِدًا، في جهاد العدوِ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يعْطِفُ قُلُوَبهُمْ عَلَيْكَ.

5 - اختيار المدراء والقضاة: ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ

لاتَضِيقُ بِهِ الامُورُ، وَ اَ تُمَحِّكُهُ اْلخُصُومُ (لجّ في الخصومة، وأصرّ على رايه) ولا يَتَمادَى (يستمر ويسترسل) فِي الزَّلةِ (السقطة في الخطأ) والا يَحْصَرُ (يعيا في المنطق) مِنَ اْلفَيْءِ (الرجوع إلى الحق) إذَا عَرَفَهُ، وَلا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَع، وَلا يكَتَفِي

بِأَدْن فَهْم دُونَ أَقصَاهُ (أقربه وأبعده) أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وآخذهم بالحجج، وَأَقَلَّهُمْ تَبَّرُماً (الملل والضجر) بِمُرَاجَعَةِ اْلخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَكَشُّفِ الامُورِ،

وَأَصْرَمَهُمْ (أقطعهم للخصومة وأمضاهم) عِنْدَ اِّتضَاحِ اْلحُكْمِ، مِمَّنْ اَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ (لا يستخفه زيادة الثناء عليه)، وَلا يسْتَمِيلُهُ إغراء أولئك قَلِيلٌ.

ثُمَّ أَ كثِرْ تَعَاهُدَ (تتبعه با استكشاف والتعرف) قَضَاِئهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي اْلبَذْلِ مَا يُزِيلُ

ص: 111

عِلَّتَهُ (أوْسِع له في العطاء بما يكفيه)، وَتقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ اْلمَنْزِلةِ لَدَيكَ

مَا الا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لهُ عِنْدَكَ.

فَاْنظُرْ فِي ذِلكَ نَظَرًا بِلِيغاً، فَإِنَّه ذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي ا اشْرَارِ، يعْمَلُ فِيهِ باْلهَوَى، وَتطْلَبُ بهِ الدُّنيَا.

6 - اختيار الولاة المحافظين: ثُمَّ اْنظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّاِلكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَارًا (با الامتحان)،

وَلا تُولهم مُحَاَباةً (من الميل الشخصي) وأَثَرَةً (استبدادًا بلا مشورة)، فَإِّنهُمَا جِمَاعٌا مِنْ

شُعَبِ اْلجَوْرِ وَاْلخِيَاَنةِ. وَتوَخَّ (اطلب وتحرّ) مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبةِ وَاْلحَيَاءِ، مِن أَهْلِ اْلبُيُوَتاتِ الصَّاِلحَةِ، وَاْلقَدَمِ (السابقون) فِي الاسْلامِ اْلمُتَقَدِّمَةِ، فَإِّنهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِي اْلمَطَامِعِ إشْرَافاً، وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ ا امُورِ نظَرًا.

ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الارْزَاقَ (أوسع لهم فيه)، فَإِنَّ ذِلكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَاَلفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثلَمُوا أَمَاَنتَكَ (نقصوا في أدائها أو خانوا).

7 - اختيار السكرتير والجهاز الإداري والمالي: ثُمَّ اْنظُرْ فِي حَالِ كتَّاِبكَ، فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ

خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَاِئلَكَ اَّلتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَاِئدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَاِلحِ الاخْلاق مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ (لا تطغيه) اْلكَرَامَةُ، فيجترئ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاف لك بِحَضْرَةِ املا (جماعة من الناس تملا البصر - مع الجمهور بغيابك) وَلا تُقَصِّرُ بِهِ ا اْلغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاَتبَاتِ عُمَّاِلكَ عَلَيْكَ، وَإصْدَارِ جَوَاَباِتهَا عَلَی الصَّوابِ عَنْكَ، وَفِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيعْطِي مِنْكَ، وَلا يُضعِفُ عَقْدًا اعتقاده لكَ (معاملة عقدها لمصلحتك)، ولا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ (إذا وقعت مع أحد في عقد كان ضرره عليك لا يعجز عن حل ذلك العقد)، ولا يَجْهَلُ مَبْلغَ قَدْرِ نفسِهِ فِي ا امُورِ، فَإِنَّ اْلجَاهِلَ بقَدْرِ نفْسِهِ يكُونُ بقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.

ص: 112

ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِّياهُمْ عَلَی فِرَاستِكَ (قوة الظن وحسن النظر في الامور) وَاسْتِنَامَتِكَ (السكون والثقة) وحسن الظن منك فان الرجال يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اْلوُ

اَةِ (أي يتوسلون اليها لتعرفهم) بِتَصَنُّعِهِمْ (بتكلفهم إجادة الصنعة) وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، لَيْسَ وَرَاءَ ذِلكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والامَاَنةِ شَيْءٌ، وليكن اخْتبارهم بما ولو لِلصَّاِلحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لا حْسَنِهِمْ كَانَ فِي ل اْلعَامَّةِ أَثَرًا، وَأَعْرَفِهِمْ بِا امَاَنةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذِلكَ دَليلٌ عَلَی

نَصِيحَتِكَ لله ولمن وَليتَ أَمْرَهُ.

وَاجْعَل لراس كُلِّ أَمْر من امورك راسا منهم لا يقهره كبيرها ولا بتثبيت عليه كثيرها ومهما كان فِي كَتاِبكَ مِنْ عَيْب فَتَغَاَبيْتَ (تغافلت) عَنْ أُلْزِمْتَهُ.

عاشرا: - الفساد - النزاهة: -

1 - سُخْط الناس: وَليَكُنْ أَحَبَّ الأمور إِليكَ أَوْسَطُهَا فِي اْلحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي اْلعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا للِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ اْلعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی اْلخَاصَّةِ (يذهب برضاهم)، وَإنَّ سُخْطَ اْلخَاصَّةِ يغْتَفَرُ مَعَ رِضَی اْلعَامَّةِ.

وَليْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَ لَ عَلَی اْلوَاِلي مَؤُوَنةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُوَنةً لَهُ فِي البلاء،

وَأَكْرَهَ للأنصاف، وَأَسْلَ بِا الَحْاف (الحاح والشدة في السؤال) وَأَقَلَّ شُكْرًا عِنْدَ العْطَاءِ، وَأَبْطَ عُذْرًا عِنْدَ اْلمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْرًا عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ اْلخَاصَّةِ، وَإَّنمَا عماد الدِّينِ، وَجِمَاعُ (جماعة) اْلمُسْلِمِينَ، وَاْلعُدَّةُ للأعداء، اْلعَامَّةُ مِنَ الامَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ (الميل) لهم وميلك معهم.

وَليَكُن أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ (أبغضهم) عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَاِئبِ النَّاسِ، فإنَّ في

النَّاسِ عُيُوباً، اْلوَاِلي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإَّنمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ

مَا ظَهَرَ لكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ اْلعوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما

تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ.

ص: 113

2 - منع الإحتكار ومعاقبة المحتكر: وَاعْلَم مع ذلكَ أَنَّ فِي كثِير مِنْهُم مْضِيقاً (عسر المعاملة) فَاحِشاً (كبيرا)، وَشُحّاً (بخلا) (قَبِيحاً، وَاحْتِكَارًا (حبس الطعام ونحوه عن الناس لا يسمحون به لا بأ ثمان فاحشة) لِلْمَنَافِعِ، وَتحَكُّماً فِي اْلبِيَاعَاتِ، وَذِلكَ بَابُ مَضَّرَة لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَی اْلوُ اَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاحْتكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ مَنَعَ مِنْهُ.َْ

ليَكُنِ اْلبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْل، وَأَسْعَار لا تُجْحِفُ بِاْلفَرِيقَينِ مِنَ اْلبَاِئعِ وَاْلمُبْتَاعِ (المشتري)، فَمَنْ قَارَفَ (خالط) حُكْرَةً ( الاحتكار) بَعْدَ ل نَهْيِكَ إَّياهُ فَنَكِّلْ (عاقبه) وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إسْرَاف (تجاوز حد العدل).

3 - النهي عن المِنّةِ وإعجاب المسؤول بنفسه: وَإَّياكَ والاعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا

يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاطْرَاءِ (المبالغة في الثناء)، فَإِنَّ ذِلكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إحْسَانِ اْلمُحْسِنِيِنَ. وَإَّياكَ وَاْلمَنَّ عَلَی رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَّيدَ (إظهار الزيادة في الاعمال للافتخار) فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ

فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ اْلمَنَّ يُبْطِلُ الاحْسَانَ، وَالتَّزَّيدَ يَذْهَبُ بنور الحق، وَالخُلْفَ يُوجِبُ اْلمَقْتَ (البغض والسخط) عند الله وَالنَّاسِ، قَالَ اللهُ سبحانه: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تقُوُلوا مَا لا تفْعَلُونَ.

4 - نهي المسؤول عن التسرّع والاستئثار: (و) إَّياكَ وَاْلعَجَلَةَ بِا الامُورِ قَبْلَ أَوَاِنهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَاِنهَا، أَوِ اَّللجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ (الاصرار على النزاع)، أَوِ

اْلوَهْنَ (الضعف) عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْر مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَل مَوْقِعَهُ.

وَإَّياكَ واْلاسْتِئْثَارَ (تخصيص النفس بزيادة) بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ (متساوون)، وَالتَّغَاِبيَ (التغافل) عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ، فَإِّنهُ مأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ، وَعَمَّا قَلَيل تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الامُورِ، وَينْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ، امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ (الشموخ والإباء)، وَسَوْرَةَ (الحِدة) حَدِّكَ (البأس)، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَاِنكَ (حَدّ اللسان

ص: 114

كحد السيف) وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذِلكَ يكفِّ اْلبَادِرَةِ (ما يبدو من اللسان عند الغضب من كسباب ونحوه)، وَتأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ اْلاخْتِيَارَ، وَلنْ تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك.

حادي عشر: - العناية والرعاية: -

1 - الاجهزة أ لمنية والقضاء: فَاْلجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَينُ اْلوُلاةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الامن، وَليْسَ تقُومُ الرَّعِيَّةُ اَّلا بهِمْ.

ثُمَّ الا قِوَامَ لِلْجُنُودِ اَّلا بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُ مْنَ اْلخَرَاجِ اَّلذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جهاد عدوهم، وَيعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيَما يصْلَحهُم، وَيكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ (يقضي حوائجهم). ثُمَّ لاقِوَامَ لِهذَينِ الصِّنْفَيْنِ اَّلا بِالصِّنْفِ الثَّاِلثِ مِنَ اْلقُضَاةِ وَاْلعُمّالِ وَاْلُكتَّابِ، لِمَ ا يُحْكِمُونَ مِنَ اْلمَعَاقِدِ (العقود القضائية)، وَيجْمَعُونَ مِنْ المنافع يؤتمنون عليه من خواص الامور وعوامها

2 - التجارة والصناعة: ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْرًا: اْلمُقِيمِ

مِنْهُمْ، وَاْلمُضْطَرِبِ بِمَاِلهِ (المتردد به بين البلدان)، وَاْلمُتَرَفِّقِ (المكتسب) بِبَدَنهِ، فَإِّنهُمْ مَوَادُّ اْلمَنَافع، وَأَسْبَابُ اْلمَرَافِقِ (ما ينتفع به من الأدوات وأنية)، وَجُلاُّبهَا مِنَ اْلمَباعِدِ وَاْلمَطَارِحِ (الأماكن البعيدة)، فِي بَرِّكَ وَبحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النّاسُ لِمَوَاضِعِهَ (لا يمكن وصول الناس اليها)، وَ لا يَحْتَرِوئنَ عَلَيْهَ فَإِّنهُمْ سِلْمٌ (أي أن التجار والصناع مسالمون) ولا اَ تُخَافُ بَاِ قَتُهُ (دهاؤه)، وَصُلْحٌ اَ تُخْشَى غَاِئلَتُهُ، وَتفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَت وَفِي حَوَاشِي بلاَدِكَ.

ص: 115

ثاني عشر: - الشكر: -

يدعو لنفسه ولمالك بالتوفيق وعاقبة الشهادة: وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتهِ عَلَی إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَة، أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإَّياكَ لِمَا فيهِ رِضَاهُ مِنَ الاقَامَةِ عَلَی اْلعُذْرِ اْلوَاضِحِ إِليْهِ وَإَلى خَلْقِهِ، مَعَ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي اْلعِبَادِ، وَجَمِيلِ الاثَرِ فِي اْلبَلاَدِ، وَتمَامِ النِّعْمَةِ، وَتضْعِيفِ

اْلكَرَامَةِ (زيادة الكرامة اضعافاً)، وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلكَ بالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، (قسم الشؤون

الثقافيه).

اولا: -

الاستنتاجات

1. ان القيم الأخلاقية الفاضلة لها منزلة كبيرة في فكر الاسلام ولاسيما الكتاب، ورجال الدين، القانون، علم الاجتماع، التربية، وعلم النفس ويقف في مقدمتهم (اهل البيت) (عليهم السلام) لأنها هي الاساس في بناء شخصية الانسان الفرد والمجتمع كما اكد القران الكريم «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم: 4) وكذلك قول الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ((انما بعثت لأتمم مکارم الاخلاق).

2. ان القيم الأخلاقية الفاضلة في نظر الاسلام، والائمه (عليهم السلام) تنبع من مصادرها الأصلية وهي (القران الكريم والسنوة النبوية المطهرة واهل البيت) (عليهم السلام) كما قال الامام الصادق (عليه السلام) قال (ان الله عز وجل خص رسله ب(مکارم الاخلاق، فاتصفوا في بعشرة - اليقين، القناعة، الصبر، الشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء، الغيرة، الشجاعة، والمروءة...الخ)

3. تنظر الفلسفة الإسلامية للقيم الأخلاقية الفاضلة بانها فطرية ومكتسبه، اي تكتسب من البيئة التي يعيش فيها الفرد والمجتمع وبذلك تكون هذه القيم بصورة عامة على نوعين هما (سلبية وايجابيه) يسير عليها المجتمع وبالتالي تكون معايير اجتماعية للفرد والمجتمع يسير بموجبها

ص: 116

4. ان القيم الأخلاقية الفاضلة في نظر الاسلام واهل البيت (عليهم السلام) عدیده ومنها لا الحصر (الكرم، العفة، الأمانة، التأخي، اليقين، الكلم الطيب، التوبة، محاسبة النفس ومراقبتها، طاعة الله وتقواه، الثبات على المبدأ، العدل، الاخلاص، المشورة، الشجاعة، النزاهة، التواضع، الايثار، السخاء، الرجاء في الله، البصيرة.... الخ.

5. ان القائد الرسالي وهو الشخص الذي يتميز بصفات وخصائص ويحمل القيم الأخلاقية الفاضلة كما يتصورها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) عديدة ومنها ((العدل والإنصاف، المساواة، الاخلاص، الأمانة، التواضع، طاعه الله وتقواه، القناعة، المشورة، القدوة، النزاهة، الرعاية والاهتمام، والشكر) كما جاء في الرسالة الموجه الى مالك الاشتر (رضي الله عنه).

6. ظهرت في الرسالة التي وجهها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) ان هناك واجبات ومسؤوليات تقع على عاتق القائد الرسالي وعددها (14) مسؤوليه وواجب: -

أ. تقيده بالقانون وضبط النفس

ب. اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم

ت. العمل الصالح للناس والعفو عنهم

ث. اعتماده المشورة بعيدا عن ( المخبر الواشي، البخيل، الجبنان، والمسؤول الخائن لشعبه)

ج. استخدام القادة الصالحين في الجيش والاجهزة الأمنية ولاسيما مسؤوليات الدولة

ح. الاهتمام بالعلماء والخبراء والحكماء والاهتمام بهم ولاسيما الامن والقضاء

خ. التواضع مع وجاء الناس والمستضعفين وذوي الحاجات الاخرى (الدخل المحدود)

د. ضروه اختيار الولاة والمدراء لأجل توفير الخدمات للناس ومراقبه اعمالهم

ذ. ضرورة الاهتمام في جدول العمل اليومي المنظم

ص: 117

ر. ضرورة امامه الناس في الصلاة وبساطتها

ز. ضرورة الحفاظ على العهد مع العدو وحرمه دم المواطن وممتلكاته

س. ضرورة استخدم قيم النزاهة عند التعامل مع الناس وبقيه الطبقات الاخرى في انجاز الواجب والمسؤوليات

ش. ضرورة الاهتمام بالحرف والمهن ولاسيما التجارة والصناعة لأنها تكمل الواحدة الاخرى

ص. ضروه ابعاد شبح الحرب والجنح الى السلم

ثانيا: -

التوصيات والمقترحات

1. التأكيد على وزارة التربية والتعليم العالي بتضمين المناهج الدراسية بدأ من مرحله رياض الاطفال حتى المراحل العليا الجامعية هذه القيم لأنها هي الاساس في بناء شخصية الانسان الفرد والمجتمع.

2. حث المدرسين واعضاء هيئه التدريس في تكريس هذه القيم في نفوس الطلبة من خلال الأنشطة العلمية والأدبية والاجتماعية لتكون منهج عمل لهم في المستقبل.

3. التأكيد على السلطة الرابعة ولاسيما القنوات الإعلامية أن تبرز مضامين القيم الأخلاقية السامية التي جاء بها الاسلام ولاسيما اهل البيت (عليهم السلام) لانها هي الاساس في التعايش السلمي.

4. اقامة مؤتمرات وندوات وحلقات نقاشية حول مضامين الرسالة كل حسب اختصاصه لترسيخ مضامين القيم والواجبات والمسؤوليات.

5. تكليف مراكز البحوث التربوية والنفسية والاجتماعية بالبحث عن مغزی هذه القيم وكيفية الاقتداء بها مستقبلا.

ص: 118

المصادر

1. الابراشي، محمد عطية، الاسلام منقذ للإنسانية، مكتبه مصر، مصر، 1974 م

2. برکات احمد لطفي بركات في الفكر التربوي الاسلامي ط -الرياض دار المريخ 1982

3. بدوي، احمد زكي، قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبه لبنان، 1977

4. حریم، حسين، السلوك التنظيمي، سلوك الافراد والجماعات في منظمات الاعمال، دار حامد، الاردن 2009

5. خوري توما المناهج التربوية ومرتكزات تطويرها وتطبيقاتها ط - بيروت 1983

6. زهران، حامد عبد السلام، علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة 1984

7. سالم، فؤاد الشيخ واخرون، المفاهيم الإدارية الحديثة، دار المستقبل للنشر والتوزيع، الاردن 1989

8. الشناوي، محمد واخرون، التنشئة الاجتماعية للطفل، دار صفاء للنشر والتوزيع، الاردن، 2001

9. صالح ذياب هندي واخرون، الثقافة الاسلامية، دار الفكر للطباعة والنشر، الاردن 2000

10. صالح ذياب هندي واخرون،، صالح ذياب واخرون، اسس التربية، دار الفكر للنشر والتوزيع، الأردن، 1990

11. الصفار، فاضل الشيخ، اداره المؤسسات من التأهيل الى القيادة، دار العلوم بيروت 2002.

12. الصدر، محمد مهدي، اخلاق اهل البيت مؤسسة دار الكتب الاسلامي قم 2008

13. الطهطاوي، سید احمد، القيم التربوية في القصص - القران الكريم، دار الفكر،

ص: 119

القاهرة 1996.

14. عبد العزيز صالح التربية وطرق التدريس دار المعارف بمصر 1981.

15. علي جابر الربيعي، شخصية الإنسان، تكوينها، طبيعتها واضطراباتها، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1994.

16.کنعان احمد على ادأب الاطفال والقيم التربوية دار الفكر دمشق 1999.

17. مهدي عباس علي واخرون اسس التربية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة الموصل 2002.

18. النوره جي، احمد خورشید مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغدادا 1990.

19. وهران، يحيى علي، مهارات الحياه وبناء المجتمع، جامعة المنصورة 2012 الكتب والبحوث والمراجع المعتمدة في هذا البحث وهي: -

20. العلامة السيد مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت، دار الكتاب الإسلامي، إيران 2008.

21.هاشم الموسوي، التربية الأخلاقية والاجتماعية، منظمة الإعلام الإسلامي، إيران 1993

22. الشيخ الجليل رضي الدين الطبرسي، .مکارم الاخلاق،، مرکز نشر کتاب

23. قمي، عباس، خمسون دراسا في الاخلاق، دار الجوادين، كربلاء المقدسة 2012

24. القزويني عبد الكريم الحسني - الوثائق الرسمية لثورة الامام الحسين مكتبه الشهيد الصدر بلا.

25. سوادي، فليح، عهد الامام علي ابن ابي طالي (عليه السلام) الى واليه على مصر، مالك الاشتر (رضي الله عنه)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية ط - 1، 2010.

ص: 120

26. سلطان محمد السيد مفاهیم تربوية في الاسلام مؤسسة الوحدة للنشر والتوزيع الكويت 1977.

27. الشيخ علي الفتلاوي، رساله في فن الالقاء والحوار والمناظرة، العتبة الحسينية المقدسة، سلسله (16).

28. الزبيدي، صباح حسن عبد القيادة الحسينية المجتمعية اسلوب ثوري في بناء المجتمع واصلاحه من خلال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحث مقدم الى مهرجان ربيع الشهادة العلمي الثقافي الخامس للمدة من (3 - 7) شعبان، کربلاء المقدسة.

29. الزبيدي، صباح حسن عبد، شخصية الإمام موسی بن جعفر (عليه السلام) تجسد للقيم الأخلاقية والتربوية، دراسة تعريفية، للمشاركة في المؤتمر الدولي الثالث تحت شعار، (الإمام موسی بن جعفر الكاظم، مصدر عطاء خالد للإنسانية) للمدة 25 - 26 - 5 - 2012.

30. الزبيدي، صباح حسن عبد، بناء منظومة قيم المواطنة الصالحة واثرها في المناهج الدراسية لتساهم في بناء شخصية الطالب العراقي، بحث مقدم الى المؤتمر العلمي الرابع لأبحاث الموهبة والتفوق، الجامعة الأردنية وبالتعاون مع المؤسسة الدولية للشباب والبيئة والتنمية للفترة من 11 - 12 - اب - 2015 الاردن.

ص: 121

ص: 122

صلاح الراعي وإصلاح الرعية قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م. د عبد الزهرة جاسم الخفاجي

الكلية الإسلامية الجامعة - النجف الأشرف

ص: 123

ص: 124

المقدمة

الحمد لله حمد الشاکرین، والشكر لله شكر الذاکرین، والصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.

فقد شهدت الفترة التي سبقت خلافة الامام علي (عليه السلام)، مزيجاً من الفتن واضطراباً في أنظمة الحكم التي اعتمدت القوة والقسوة للتوسع وتثبيت حكمها، کما اعتمدت مبدأ الأَثَرَة في توزيع الفيء بخلاف ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله). إذْ حصل ابتعاد عن نهج النبوة، وحصلت أوضاع لم يكن أكثر الصحابة يحبذونها ويرضون عنها، وقد بلغ الإنحراف أوجَه في خلافة عثمان لأن بطانة قد التفت حوله من أقربائه، الذين كانوا محل ثقته، وهؤلاء أساؤوا استغلال ثقة عثمان بهم، فتلاعبوا بالثروات والمناصب مما سبَّب حالة من الغضب في أوساط من الرعية، انتهى بمقتل عثمان بن عفان. وفي خِضَّم هذه المعطيات قبل الإمام علي (عليه السلام) اختيار الأمة له خليفة للمسلمين على أن تكون حريته مطلقة في الإصلاح والتغيير.

إنَّ أهم ما يتميز به الإمام علي (عليه السلام) أنه يمتلك أهم عناصر الإصلاح وهما: المبادرة والتصدي، كما أنَّه كان يُقرن القول بالفعل، وكان منهجه في الإصلاح يقوم على ثنائية ( الراعي والرعية): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ اَلْوُلاَةِ وَ لاَ تَصْلُحُ اَلْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ اَلرَّعِيَّةِ) ولذلك كانت أُولى خطواته في اصلاح ما أفسده الذين سبقوه على المستوى الإداري هو التغيير الشامل للولاة، وعلى المستوى الاجتماعي هو إلغاء مبدأ الأَثَرَة والعودة إلى مبدأ الأُسوة في توزيع الفيء مخاطباً الناس قائلاً: (فأما هذا الفيء فليس لاحد على أحد فيه أثرة وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله، وانتم عباد الله المسلمون).

ص: 125

وقد وجد الإمام علي (عليه السلام) أنَّ نجاح مشروعه الإصلاحي، يتطلَّب ثقافة تدعمه، وتشجع الناس على ترك ما اعتادوا عليه من عادات سيئة، وتُحصِّنهم من القِوى التي تقف بوجه الإصلاح. فأولى تثقيف الأُمة اهتماماً بالغاً، وكان متميزاً بهذا الجانب، ويكاد لا يخلو مصدر من مصادر التراث العربي والإسلامي من كلام له (عليه السلام). وقد بادر الشريف الرضي (ت 406 ه) رحمه الله فاختار من هذا الكلام وجَمَعَه في كتاب أسماه نهج البلاغة.

ويُعَدُّ عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه) لمّا ولاّه مصر من أهم وأطول كُتُبه (عليه السلام). ومع انّه (عليه السلام) أراد من العهد أن يكون توجيهاً لأحد ولاته في ممارسة ما عُهِد إليه من الأمور وبيّن له الإطار الإسلامي الذي يتكفّل بإرساء حكومة العدل الإلهي، والتأسيس لنظام إداري وحقوقي يبدأ من الحاكم نفسه، إلاّ أنّ الواقع يفيد شمول هذا العهد لكافّة الأفراد وفي كلّ عصر ومصر. وهذا ما جعله من أهمّ المصادر التي تُستسقی منه المبادئ التي تُنير طريق الولاة في إدارة ما تَولَّوه، في كلِّ زمان، وفي كلّ مكان.

ما يعانيه المجتمع الإنساني بشكل عام والمجتمع الإسلامي بشكل خاص وما في العراق بشكل اخص فيما يتعلق بولاة الأمور (الرعاة) والمجتمع (الرعية) من سوء إدارة صارت فيه مفردة الفساد تتردد على السن الجميع بشكل يؤشر على ان الفساد صار ظاهرة تنخر في اركان الإدارة والمجتمع. صارت الحاجة ملحة للعودة الى ذلك المعين الثر لاصلاح ما فسد.

في عهده لمالك الاشتر (رضي الله عنه) قدم الامام علي (عليه السلام) مشروعا متكاملا لاصلاح الراعي والرعية. رسم فيه اختيار (الراعي) الصالح وما يجب عليه لرعيته ووضع فيه تصورا للرعية ومشكلاتها ووضع الحلول الواقعية لتلك المشكلات.

لقد کُتِبَ الكثير بشان عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه) إلاّ

ص: 126

اننا نجد ان هذا الأثر الخالد ما زال يرفدنا بما نحتاج اليه كلما دعت الحاجة الى ذلك وفي مختلف مجالات الحياة. فهو دستور دائم يستمد ديمومته من فكر الامام علي (عليه السلام) الذي لم يبلغ احد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بلغه. يؤكد ذلك قول الامام الحسن (عليه السلام) يوم نعاه للناس: (قَدْ قُبِضَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ رَجُلٌ مَا سَبَقَهُ الْأَوَّلُونَ وَلَا يُدْرِكُهُ الْآخِرُونَ).

وقد خصص هذا البحث لجوانب من عهده لمالك الاشتر، لما فيه من فائدة للإنسانية بشكل عام وما تعانيه امتنا بشكل خاص، وفي هذا البحث محاولة لاعادة قراءة عهد الامام (عليه السلام) لمالك الاشتر، ودراسة لبعض ما جاء فيه خاصة فيما يتعلق بصلاح الراعي باعتباره يسوس الامة ومنهج الامام علي (عليه السلام) في اعداده لِيُصلِح من خلاله الرعية، ولذلك جاء البحث تحت عنوان [صلاح الراعي وإصلاح الرعية - قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه )] وليتحقق الهدف المنشود من البحث فقد جاء في مقدمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة، وعلى النحو الآتي:

المقدمة: للتعريف بالبحث

1. المبحث اول:- مدخل سُلِّط فيه الضوء على عناصر أساسية في البحث هي: مالك الاشتر، والعهد، وبيان أهمية مصر.

2. المبحث ثاني: - تعريف الصلاح ومن هو الراعي وتناول بعض ما جاء في العهد عن صلاح الراعي.

3. المبحث ثالث: - تعريف الإصلاح وبين المقصود بالرعية وإصلاحها من خلال ما جاء في العهد.

4. الخاتمة: - وفيها عَرْض ما توصل اليه الباحث.

ص: 127

المدخل

إنَّ بيان معاني الالفاظ ومدلولاتها من مضانها، يُعد من أهم المرتكزات التي تمكن الباحث من تشكيل تصور عام للأفكار التي يطرحها فَتتوضَّح لَديه الخطوط العريضة لموضوع الدراسة، كما تساعده على ديمومة التواصل مع موضوعه وفكرته الأساسية، لذلك تم تسليط الضوء في هذا المبحث على الالفاظ التي تشكل موضوع البحث وهي:

مالك الاشتر (رضي الله عنه):

هو (مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلّمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن سعد بن مالك بن النخع من مذحج)1.

ان التعرف على شخص مالك الاشتر ومعرفة أبعاد وخصائص هذه الشخصية، تمكننا من الوقوف على سبب اختيار الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) له لتولي إدارة مصر في مثل ذلك الوضع الصعب بدلاً من محمد بن أبي بكر، ولا بد ان يكون لمالك شخصية جديرة بثقة الامام علي (عليه السلام) وقد كان كذلك، فقد قال فيه عليه السلام (كان الاشتر لي كما كنت لرسول الله)(2). بهذه الكلمات نوَّه امير المؤمنين (عليه السلام) بِمَقام (مالك بن الحارث النخعي )(3) عنده. والنَخَعي نسبة إلى النخع(4).

لم يُعرَف الكثير عن مالك قبل الإسلام، كما لم تُحدد المصادر التي تناولت سيرته تاریخ میلاده واكتفت بالقول: «وُلِد قبل الإسلام بقليل.... قبل بعثة النبي بعقدين او ما يزيد عن ذلك قليلا»(5) واسلم على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله) ولكن لم يُذكر متی اسلم. فهو وإن عاصر النبي لكنه لم يره او يسمع حديثه، وقد عُدَّ من التابعين، وكان صاحب دین، وقد ذُكر عند رسول الله (صلى الله عليه واله) فقال فيه «انه المؤمن حقّاً»(6)، كما كان من الذين قال فيهم رسول الله «عصابة من المؤمنين» الذين شهدوا موت

ص: 128

ابي ذر الغفاري (7).

وقد شخص فيه الامام علي (عليه السلام) هذه الخصلة عندما قال له: «فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّينِ وأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأثِيمِ...»(8).

اشتهر (بالاشتر)(9) حتى غلب هذا اللقب على اسمه، وقد لحق به هذا اللقب جراء إصابة عينه في معركة اليرموك قرب حمص وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم سنة (13 ه)، وكان قد برز الى ماهان قائد جيش هرقل «فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينه، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر» (10). کما لقب «بكبش العراق»(11) لانه المقدم على جيش الامام علي عليه السلام وحامل رایته.

لم تكن علاقته مع الامام علي مبنية على أسس شخصية وانما كانت مبنية على أساس الايمان الصادق برسالة الإسلام وبنبوة محمد (صلى الله عليه واله)، وهذا ما عبر عنه مالك بنفسه قائلا: «فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك، وإنّا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبینا (صلى الله عليه وآله) نبياً سواه، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا »(12).

وكانت علاقة متميزة فقد ثبت مع الإمام علي (عليه السلام) عندما تخاذل أصحابه عنه وفر بعضهم الى معاوية فخاطبه حينها الامام قائلا «أنت من آمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله»(13).

ص: 129

وقد شخص فيه الامام علي (عليه السلام) خصالاً قلما تجتمع لغيره «كان ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل»(14)،

يعزز من هذه الصفات النصح في علاقته مع الامام فقد قال (عليه السلام) فيه: «كان رجلا لنا ناصحا وعلى عدونا شديدا »(15).

لم يكن مالك الاشتر في معزل عن الاحداث التي عصفت بالامة الإسلامية، فقد كان رافضاً للظلم أياً كان مصدره، وكان معارضاً لسياسة ولاة عثمان المتعسفة فكان رده بليغاً على سعيد بن العاص والي الكوفة يوم قال: « إِنَّمَا السواد بستان لقريش، فَقَالَ له الأشتر: أتجعل مراکز رماحنا وَمَا أفاء اللهَّ عَلَيْنَا بستانًا لَك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه»(16)، الامر الذي ترتب عليه نفي الاشتر واصحابه الى الشام، كما كتب اليه عثمان يتوعده: «إني لأراك تضمر شيئًا لو أظهرته لحل دمك، وَمَا أظنك منتهيًا حَتَّى تصيبك قارعة لا بقيا بعدها، فَإِذَا أتاك كتابي هَذَا فسر إِلَى الشام لإفسادك قبلك وأنك لا تألوهم خبالًا»(17). ولذلك كان من اشد المعارضين لسياسة عثمان بن عفان وكان من قادة وفد الكوفة الى عثمان سنة 35 ه(18)، وقد دعاه عثمان لمعرفة ما يريد الناس قائلاً له: « يَا أَشْتَرُ، مَا يُرِيدُ النَّاسُ مِنِّي؟ قَالَ: ثَلَاثٌاً، لَيْسَ لَكَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: يُخَيِّرُونَكَ بَيْنَ أَنْ تَخْلَعَ لَهُمْ أَمَرَهُمْ فَتَقُولَ: هَذَا أَمْرُكُمْ فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ شِئْتُمْ، وَبَيْنَ أَنْ تَقُصَّ مِنْ نَفْسِكِ، فَإِنْ أَبَيتَ هَاتَيْنِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَاتِلُوكَ، قَالَ: أَمَا مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ؟ قَالَ: لَا»(19). وانتهت الاحداث بمقتل عثمان.

بعد مقتل عثمان بن عفان تهافت الناس على الإمام علي (عليه السلام) يطلبون مبايعته، فامتنع قائلاً لهم: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا

ص: 130

أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب...»(20). ولكن بعد إصرارهم على مبايعته قبلها (عليه السلام) وكان قبوله مشروطاً فقد قال (عليه السلام): «إِنَّكُمْ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ إِلَيَّ وَأَتَيْتُمْ، وَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ قَوْلا إِنْ قَبِلْتُمُوهُ قَبِلْتُ أَمْرَكُمْ، وَإِلا فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ»(21).

قالوا: ما قلت قبلناه ان شاء اللهّ، فجاء فصعد المنبر فاجتمع الناس اليه فقال: اني قد كنت كارها لامركم فابيتم الا ان اكون عليكم الا وانه ليس لي امر دونكم، الا ان مفاتيح مالكم معي الا وانه ليس لي ان آخذ منه درهما دونكم، رضيتم؟. قالوا: نعم. قال: اللّهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك(22). فتمّت البيعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة.

لاشك ان إصرار الإمام علي (عليه السلام) على وضع امر مال المسلمين بيده اثار شكوك ولاة عثمان الذين سخّروا جهاز الحكم لمصالحهم الخاصّة، وأُثروا ثراءاً فاحشاً ممّا اختلسوه من بيوت المال، ووجوه بني أُميّة وعشائر قريش، وأيقنوا أنّ الإمام سيصادر الأموال التي منحها لهم عثمان بغير حقّ..

وسرعان مابدأت المؤآمرات تحاك للوقوف بوجه المشروع الإصلاحي للإمام علي (عليه السلام) فكانت بدايتها في مكة المكرمة بقيادة عائشة وطلحة والزبير؛ فنكثوا البيعة وخرجوا الى البصرة بمن معهم من بني امية ومَن حولهم. وكانت الأخبار تصل تباعاً الى الإمام (عليه السلام) بما دُبِّر في مكة، ثم بخروج عائشة بمن معها.

أمَرَ الإمام (عليه السلام) بأن يُنادى في الناس بالتأهب للمسير الى العراق. فأتاه من يعتذر إليه من الخروج، بحجة أن هذه فتنة، أو بأنهم لا يقاتلون مسلماً. وكان لمالك الاشتر موقف يختلف عن الآخرين، إذ لما بلغه نداء الإمام علي (عليه السلام) اسرع اليه وقال له: «يا أمير المؤمنين، إنا وإن لم نكن من المهاجرين والأنصار، فإنا من التابعين بإحسان.

ص: 131

وإن القوم وإن كانوا أولى بما سبقونا، فليسوا بأولى بما شركناهم فيه. وهذه بيعة عامة، الخارج منها طاعن مستعتب. فحُضّ هؤلاء الذي يريدون التخلف عنك باللسان، فإن أبوا فأدبهم بالحبس» (23).

ومن هنا صارت مواقف الأشتر واضحةً جَليَّة المعالم؛ فأصبح جُندياً مخلصاً لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يفارقه قطٌّ ولازمه في كل معاركه، فقد تولى امر تحشيد الناس في الكوفة بعد ان استأذن الإمام قائلا له: «فإن رأيت جُعلت فداك أن تبعثني في أثرهم فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة وإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم» (24). فأذِن له. وكانت مواقفه مشهودة في حرب الجمل، امّا في صفين فكادت تكون نهايتها على يديه لولا خدعة رفع المصاحف، فقد كان على (عدوة فرس) من النصر، ولكنه رضي بما رضي به أمير المؤمنين (عليه السلام)(25).

كان معاوية يحسب للاشتر حسابه. وكان يعده من اخلص أصحاب علي «فقد عده ضمن الخمسة الذين قنت عليهم وهم: علي والحسن والحسين - عليهم السلام - وعبد الله بن عباس، والاشتر ولعنهم»(26)، حتى انه قد ساءه ان سمع اخبار ارسال علي مالك الاشتر لولاية مصر، وكان معاوية يعتقد ان الاشتر لو وصل الى مصر لم يعد لمعاوية امل في استمالتها لجانبه لذلك بذل طاقته في منعه من الوصول اليها، وقد كان له ذلك على يد رأس اهل الخراج المقيم في(القلزم(27)) حيث بعث اليه معاوية كتابا جاء فيه: «أن عليا قد بعث بالاشتر إلى مصر وإن كفيتنيه سوغتك خراج ناحيتك ما بقيت، فاحتل في قتله بما قدرت علیه»(28).

فاحتال الدهقان «وحمل إليه طعاما دس في جملته عسلا جعل فيه سما، فلما شربه الاشتر قتله ومات من ذلك»(29)، عندها «قال عمرو بن العاص: إن الله جنوداً من عسل»(30)، وفي رواية ان معاوية هو الذي قال « إن الله جنوداً من عسل»(31)، في حين يقول ابن كثير

ص: 132

: «فلما بلغ ذلك معاوية وعمراً وأهل الشام قالوا: إن الله جنوداً من عسل»(32).

ولأهمية الاشتر فقد قال معاوية: «كان لعلي ابن ابي طالب يمينان قطعت احداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني مالك الاشتر»(33).

لقد صدق ابن ابي الحديد وهو يصف الاشتر: «لله أم قامت عن الأشتر، لو أن إنسانا يقسم أن الله تعالى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه (عليا) عليه السلام لما خشيت عليه الإثم»(34).

ولذلك قال فيه الامام وهو يخاطب أصحابه: «ليت فيكم إثنين مثله، بل ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي مثل رأيه »(35).

وقد أبَّنَه (عليه السلام) قائلا: «لله دَرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالمَا، ولَيُفرِحَنّ عالمَا، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي وهل موجود كمالك»(36).

وقال (عليه السلام): «لا أرى مثله بعده أبدا»(37). ولذلك تتوقف الأقلام في مدح مالك عند مدح الامام علياً (عليه السلام) فقد مدحه «ومَدْحُ الإمام إمام كل مَدْح، ومن تصدّى للقول بَعْدَه فقد تعرَّض للقدح»(38).

إن في ما تقدم من مشاهد سيرة مالك الاشتر يعطي صورة عن ان الرجل كان من ذوي الحزم والحسم والإعتداد بالرأي لا يتردد إطلاقاً في اتخاذ الإجراء الكامل والحاسم فيما يرى انه الصواب وما يجب ان يكون. هذه الصفات التي اهلته ليكون مرشح الامام علي لادارة ولاية تعد الأهم بين ولايات الدولة الإسلامية، وعلى وفق منهج كان انموذجا يتعدى حدود الدولة الإسلامية لو أتيح له التطبيق.

ص: 133

عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر:

معنى العهد لغةً:

العَهْدُ: «الوَصِيَّةُ والأَمر قال اللهُ عز وجلّ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يا بَنِي آدَمَ) وكذا قوله تعالى (وعَهِدْنَا إلى إِبراهيمَ وإِسماعيلَ) وقال البيضاويُّ أَي أَمرناهما لكونِ التوصيةِ بطريقِ الأمر. وقال شيخُنا: وجعل بعضُهُم العَهْدَ بمعنَى المَوْثِقِ إلا إذا عُدِّيَ بإِلى فهو حينئذٍ بمعنى الوصية»(39). «والعَهْدُ التقدُّم إِلى المرءِ في الشيءِ والعهد الذي يُكتب للولاة

وهو مشتق منه» (40).و «العَهْدُ... عَهِدَ إليه من باب فَهِم أي أوصاه ومنه اشتق العَهْدُ

الذي يُكتب للولاة»(41)

معنى العهد اصطلاحا:

قال الجرجانيّ: «العهد: حفظ الشّيء ومراعاته حالا بعد حال. هذا أصله ثمّ استخدم في الموثق الّذي يلزم مراعاته»(42).

اعتاد الإمام علي (عليه السلام) أن يكتب لولاته أوامر ووصايا يرجعون إليها في إدارة ولاياتهم بالرغم من معرفته الدقيقة لولاته إلاّ أنَّهُ كان حريصا على أنْ يُوجههم الوجهة الصحيحة من خلال رسم الخطوط العريضة لما يجب ان تكون عليه سياساتهم في إدارة ولاياتهم، «فقد كتب الى محمد بن ابي بكر برنامجاً أخلاقياً لتهذيب النفوس وتطهير القلوب وتقوية عنصر التقوى في الانسان»(43). وعهد الإمام علي (عليه السلام) هو كتاب كتبه لمالك الأشتر النخعي عندما قرر أن يوليه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر واليها محمد بن أبي بكر، وقد وصف بأنه أطول عهد كتبه الإمام وأجمعه للمحاسن (44). وما يلاحظ على العهد انه جاء على فقرات، تكون بدايتها على صيغة الأمر، وهذا يعني أنَّ الإمام علياً (عليه السلام) أراد بذلك إلزام الوالي بتنفيذ ما جاء بالكتاب، مشعرا إياه ان هناك عيناً تراقبه ولذلك تكررت عبارات التنبيه والتحذير في فقرات الكتاب. والعهد

ص: 134

«نسيج وحده، ومنه تعلم الناس الآداب والقضايا والأحكام والسياسة»(45).

يتبين مما جاء في العهد إن غرض الإمام (عليه السلام) هو اصلاح الحُكم والحاكم وجوهر هذا الإصلاح هو العدل المنصف المعزز بالعفو المبتعد قدر المستطاع عن العقوبة «ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة»(46) والذي عناه الامام علي (عليه السلام) أن العفو والنصح وتعريف المخطيء بخطئه افضل في بناء المجتمع السليم من العقوبة. مؤكدا على إنسانية العلاقة بين الراعي والرعية. القائمة على التسامح والرحمة والمواساة، مشعرا الوالي أنه تحت عين المراقبة في حركاته وسكناته.

وأهمية هذا العهد انه: «ناظر لجميع ابعاد وجهات الإدارة والتدبير لأمور الحكومة، ويحتوي على أصول ثابتة وقواعد متماسكة لايطر أعليها القدم، ولاتبلى أبداً وترسم في مضامينها كافة تفاصيل الحياة السياسية والإدارية في الحكومة الإسلامية»(47).

غير أنَّ العهد لم يصل إلى مصر وأنما «صار الى معاوية لمّا سَمَّ الأشتر ومات قبل وصوله إلى مصر فكان ينظر فيه ويعجب منه»(48). وقد كانت خسارة للإنسانية لأن الإمام علياً (عليه السلام) أراد من العهد ان يكون خطاباً للحكام مسلمين وغير مسلمين من خلال شخص مالك الأشتر، كما أنّ العهد كتب في زمن هو من أكثر ازمنة الدولة الإسلامية عدلاً للأنسان، وإنصافاً لحقوقه لأنه زمان خلافة الإمام علي (عليه السلام).

أهمية مصر:

كانت مصر غنيةً بجندها وثرية بخراجها فقد «جبا عمرو بن العاص مصر لعمر بن الخطاب أثني عشر ألف ألف دينار، فصرفه عنها عثمان بعبد الله بن أبي سرح فجباها أربعة عشر ألف ألف دينار»(49)، «واستقر خراج مصر في أيام معاوية على ثلاثة آلاف ألف دينار...»(50) وهو مبلغ كان يغطي العديد من النفقات التي كان يحتاجها معاوية في حربه مع الإمام علي (عليه السلام)، وفي تثبيت حكمه وشراء الذمم، وكانت مصر في

ص: 135

مقدمة الولايات التي انتفضت على عثمان فكان على رأس وفدها إليه «الغافقي بن حرب العكي»(51). وبعد ان تمت البيعة للإمام علي (عليه السلام) دخلت مصر في طاعته، فعين قيس بن سعد والياً عليها «وخرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر وقرأ عليهم كتاباً يعلمهم بمبايعته وطاعته وأنه أميرهم»(52)

وبدخول مصر في طاعة علي (عليه السلام)، وانتصاره على الناكثين في البصرة، وجد معاوية نفسه بين فكي كمّاشة؛ لذلك حاول استمالة مصر اليه بكل الوسائل فعرض على قيس ان ينقلب على الإمام علي «ويعظم قتل عثمان ويطوّقه عليًا، ويحضّه على البراءة من ذلك ومتابعته على أمره، على أن يوليه العراقين إذا ظفر ولا يعزله، ويولّي من أراد من أهله الحجاز كذلك ويعطيه ما يشاء من الأموال...»(53)، لم يفلح معاوية في ما سعى اليه وباءت كل محاولاته بالفشل.

وبعد انصراف الناس من صفين انتظاراً لنتائج التحكيم بايع اهل الشام معاوية خليفة، واختلف الناس بالعراق على الامام علي (عليه السلام)، فما كان لمعاوية هم إلاّ مصر فكان يرجو «أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي، لِعِظم خراجها، قال: فدعا معاوية كان معه من قريش.. ومن غيرهم... فقال لهم: أتدرون لِمَ دعوتكم؟ إني قد دعوتكم لأمر مهم أحب أن يكون الله قد أعان عليه... فقال عمرو بن العاص: أرى والله أمر هذه البلاد الكثير خراجها والكثير عددها وعدد أهلها، أهمك أمرُها، فدعوتنا إذن لتسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فاعزم وأقدم، ونِعم الرأي رأيت! ففي افتتاحها عِزُّكَ وعِز أصحابك، وكبت عدوك وذل أهل الخلاف عليك»(54). وكانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه. ولذلك ساوم معاوية عليها فقدقيل «كتب من

ص: 136

علي إلى عمرو، فأقرأه معاوية وقال: قد ترى (ما كتب إلي علي)، فإما أن ترضيني، وإما أن ألحق به، قال: ما تريد؟، قال: مصر، فجعلها له»(55). وهكذا فان «عمرو بن العاص بايع معاوية على قتال علي بن ابي طالب عليه السلام وان له مصر طعمة مابقي»(56). وقد حاول عدد من الكتاب ان يفندوا هذا الاتفاق باعتباره لايليق باصحاب رسول اللہ (صلی الله عليه وآله)؛ إلاّ أنَّ العقاد قال فيه: «ولو اجتمعت التواريخ قاطبة على نقضه، ان الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعونة على الملك والولاية، وان المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل الى كل منهما. ولولاه ما كان بينهما اتفاق»(57).

ولمّا اضطربت مصر على محمّد بن أبي بكر واشتدت الفتنة فيها كتب الى الامام علي يخبره بذلك ومما جاء في كتابه: «فإن كان لك في أرض مصر حاجة فامددني بالأموال والرجال» فلما قرأ الإمام كتاب محمد ساءه ذلك كثيراً وقال: «ما لمصر إلا أحد الرجلين صاحبنا الذي عزلناه عنها - يعني قيس بن سعد بن عبادة - أو مالك بن الحارث - يعني الأشتر هذا فانتدب الإمام (عليه السلام) مالكاً وولّاه عليها»(58). وكتب اليهم يعرفهم به «فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيّام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعة الرَّوع، أشدُّ على الفجّار من حريق النار، وهو مالك...»(59).

ص: 137

ألمبحث الأول: صلاح الراعي

الصلاح لغةً:

من المؤكد أنَّ الصلاح هو الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع السليم، وبغيره لا يمكن للحياة أن تستقيم؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش سعيداً في مجتمع يسوده الفساد، وتكمن أهمية الصلاح في كونه «جامعاً لكل خير، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مَرْتَبة عليا ولذا طلبها الأنبياء (60)»(61). ولذلك جاء تعريف الصلاح على أنه نقيض الفساد.

(صَلَحَ) «الصَّادُ وَاللَّامُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَی خِلَفِ الْفَسَادِ. يُقَالُ: صَلُحَ الشَّيْءُ يَصْلُحُ صَلَاحًا»(62). وفي تعريف آخر «الصَّلاَح: ضِدُّ الفَسَادِ»(63). وفي تعريف آخر أن الصَّلاح يعني: «الاستقامة، و- السَّلامة من العيب»(64).

الصلاح اصطلاحا:

«هو سلوك طريق الهدى. وقيل هو استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع. والصالح القائم بما عليه من حقوق العباد وحقوق الله تعالى»(65). وعرفه الالوسى قائلاً: «الصلاح هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي»(66).

الراعي: «الوالي.. وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم وهم رعيته»(67).

ان ما جاء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر يعكس رؤية الامام علي (عليه السلام) في كيفية ادارة دفة الحكم، فالإمام (عليه السلام) يؤكد على أهمية البعد الشخصي، والصفات الشخصية التي يجب أن تتوفر في من يتصدى للقيادة والتي تلعب

ص: 138

دوراً أساسياً في نجاح القائد أو فشله، ولذلك جاء العهد شاملا بكل مايتعلق بمؤسسة الحكم مبتدئاً بتحديد مسؤولية الراعي ومبينا خطورة منصبه وما يتطلبه من خصائص لابد أن يتحلّى بها من يتصدى لمسؤولية هذه الوظيفة، وأنَّ ضرورة هذه الخصائص تزداد کلّما كان المنصب مهماً. ولذلك فإن الإمام علياً (عليه السلام) كان يختار الرجل المناسب للمكان المناسب، ولم يحدث انه اختار من ولاته من لا يمتلك المؤهلات الذاتية للحكم التي تحفظ له توازنه في إدارة ما أوكل اليه من مهمة، كما جاء في قوله (عليه السلام): «إذا قوي الوالي في عمله حرَّكْته ولايته على حسب ما هو مركوز في طبعه من الخير والشر»(68). وهذا ماكان يتمتع به مالك الاشتر على حد وصف الامام علي (عليه السلام) قائلا له: «أما بعد، فانك مَن استظهر به على إقامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم، وأسدّ به ثغر المخوف»(69). فولاّه مصر وقال له: «ليس لها غيرك، أُخرج رحمك اللهَّ! فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك واستعن بِاللهِ عَلَى مَا أهمك، فاخلط الشدة باللين، وارفق مَا كَانَ الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة»(70)، وحدد له مهام وظيفته في مصر «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(71).

وكان الإمام علي (عليه السلام) يرى ان عملية الإصلاح تكاملية بين الراعي والرعية «فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ» (72)، وصلاح الوالي يبدأ من إصلاح ذاته، وعلى من يريد ان يتولى ادارة غيره ان يبدأ بادارة نفسه كما جاء في قول الامام علي (عليه السلام): «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ

يَبْدَأَ فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ»(73).

وبهذا الاتجاه جاءت وصاياه، وأوامره الى عماله والتي يهدف فيها الى اصلاح نفس (الراعي)، وقد تضمن عهده (عليه السلام) الى مالك الأشتر توجيهات واضحة لبناء شخصية الوالي أمره فيها بأمور هي على مايبدو اركان صلاح الراعي: «أمره بتقوى

ص: 139

الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله» (74).

والإمام علي (عليه السلام) عندما يأمر بذلك انما يريد أن يُخضع (ذات نفس) ولاته الى عملية إصلاح شامل لإن النفس هي الميدان الأول للإصلاح، وبها يبدأ الإصلاح الحقيقي، فالذي يقدر على اصلاح نفسه يكون على غيرها أقدر، وفلاح العبد في الدنيا والآخرة مرتبط بصلاح نفسه فقد قال تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (75). وهكذا حدد الامام علي (عليه السلام) أُسس صلاح الوالي: «أن يكون متقياً مطيعاً لله، متبعاً لأوامره، ناصراً له تعالى، قامعاً شهوته عن الحرام، مانعاً نفسه عن المعاصي »(76). وسيتناولها البحث كما يأتي:

1 - أن يكون متقياً مطيعاً الله تعالى: -

التقوى: «من الوقاية، وهي ما يحمي به الإنسان نفسه» (77). وقد وردت (التقوى) في القرآن الكريم بهذا اللفظ في خمس عشرة مرة كما وردت بصور بيانية أخرى في مواضع عدة(78). ولمفردة التقوى مساحة كبيرة في كلام الإمام علي (عليه السلام)، وتكاد لاتخلو منها خطبة من خطبه أو كتاب يوجهه الى عامل من عماله، ومما قاله في التقوى :«التَّقْوَى سِنْخُ الْإِيمَانِ»(79) أي اصله واساسه، وقال (عليه السلام): «إنَّ تَقْوَى اللّهِ مِفْتاحُ سَداد، وذَخيرَةُ مَعاد، وعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَة، وَنَجاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَة، بِها يَنْجُوالهارِبُ، وتُنْجَحُ

المَطالِبُ، وَتُنالُ الرَّغائِبُ»(80). وفي بيان علامات المتقين ماجاء في قول الله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى

ص: 140

وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (81). وفيما نقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لأهل التقوى علامات يُعرفون بها: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقّلة الفخر والبخل، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلّة المؤاتاة للنساء، وبذل المعروف، وحسن الخلق، وسعة الحلم، واتّباع العلم فيما يقرّب إلى الله عزّ وجلّ»(82)، والتقوى كما فسرها الامام الصادق (عليه السلام) «ان لايفقدك الله حيث امرك، ولايراك حيث نهاك»(83)، فالتقوى إذن: «قوة روحية تتولد من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب»(84). فهي حالة في الانسان تنمو بالمتابعة الفكرية والتربية الروحية، ولذلك كان الأمام علي (عليه السلام) ينمي التقوى في المجتمع من خلال الخطب والرسائل ومتابعة تنفيذ مايطرحه بنفسه ومن خلال جهاز رقابي واسع.

ولم تزل التقوى دعوة جميع الأنبياء الى الأمم التي بعثوا اليها فكانت هدفا تسعى الرسالات السماوية الى تحقيقها في نفوس الناس كما في قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا» (85). فالتقوى اذن «شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولاتبديل، بل هي وصية الله في الأولين والاخرين»(86). والتقوى تنتهي بصاحبها الى الجنة كما يقول الإمام علي (عليه السلام): «أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ»(87). وبين (عليه السلام) أهمية التقوى في الحياة الدنيا وعاقبة المتقين في الآخرة فقال: «فَإِنَّ الْتَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الحرْزُ وَالجُنَّةُ، وَفِي غَد الطَّرِيقُ إِلَی الجَنَّة»(88).

ص: 141

ويخلص الطباطبائي في تفسيره للآية الكريمة: «لَيْسَ عَلَی الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالَحِاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ

اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(89) إلى القول: «وأما تكرار التقوى ثلاث مرات، وتقييد المراتب الثلاث جميعاً به فهو لتأكيد الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعاً للتقوى الواقعي من غير غرض آخر غير ديني، وقد مر في بعض المباحث: أن التقوى ليس مقاماً خاصاً دينياً بل هو حالة روحية تجامع جميع المقامات المعنوية أي لكل مقام معنوي تقوى خاص يختص به» (90).

وقَرَنَ الإمام علي (عليه السلام) التقوى بالطاعة لله تعالى فقال: (وإيثار طاعته) على أن تُؤثَر هذه الطاعة عمّا سواها، فمن وصيته لأحد عماله: «واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها»(91)، كما اعتبر أنَّ طاعة الله وطاعة الإمام من فعل المتقين؛ فقد كتب الى سعد بن مسعود واليه على المدائن: «.. وأطعت ربك، وأرضيت إمامك فِعْلُ المُبِرِّ النقي النجيب»(92).

2 - أن يكون متبعاً لأوامر الله تعالى:

«واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها»(93).

ولاشك أنّ امر الإمام علي (عليه السلام) لمالك ومن خلاله لكل الولاة باتباع لله فرائض الله تعالى، لكي تكون حياتهم امتداداً لتلك الفرائض، وتعبيراً عن عبوديتهم لله تعالى، وتطبيقاً لما في تلك الفرائض من مفاهيم الإستعانة بالله والثقة به. وهنا يرسم الإمام علي (عليه السلام) لولاته طريق العلاقة بالله تعالى، ليكون الوالي على صلة دائمة مع الله تعالى، فيتجنب الزلل، أو الإنحراف عن طريق الحق من خلال استشعاره المستمر بوجود الرقيب معه.

ص: 142

وقد بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهمية إداء الفرائض: « قال إن الله تعالى يقول: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي حتى أحبه)»(94).

کما بين الإمام علي (عليه السلام) المقصود بالفرائض فقال: «أما ما فرضه الله سبحانه في كتابه فدعائم الإسلام، وهي خمس دعائم: وعلى هذه الفرائض الخمس بني الإسلام، فجعل سبحانه لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدا جهلها، أولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الولاية، وهي خاتمتها والجامعة لجميع الفرائض والسنن»(95). وقد اعتبر إداء الفرائض من أفضل العبادات فقال: «لا عبادة كأداء الفرائض» (96).

ومن كلام للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بين فيه ما أراد الله تعالى بفرض الفرائض يقول به: «إن الله بمنه ورحمته لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليكم بل برحمة منه لا إله إلا هو عليكم ليميز الخبيث من الطيب وليبتلي ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم لتسابقوا إلى رحمة الله ولتتفاضل منازلكم في جنته ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية»(97). وأداء الراعي لفرائض الله هو بمثابة الإعداد المعنوي له.

وأهم الفرائض المُقَرِّبة الى الله تعالى، عدل الراعي في رعيته كما جاء في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه مجلساً إمام عادل» (98)

ومن المؤكد ان الأنموذج الأمثل بالعدل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الإمام علي (عليه السلام)، ويكفي أن نسوق مثلاً لأهمية العدل عند الإمام علي بن ابي طالب ما جاء في كلام ابن الأثير المؤرخ المعروف في وصف عدالة الإمام (عليه السلام): «إنّ زهده

ص: 143

وعدله لا يمكن استقصاؤهما، وماذا يقول القائل في عدل خليفةٍ يجد في مالٍ جاءه من أصفهان رغيفاً فيقسِّمه أجزاءاً كما قسّم المال، ويجعل على كل جزء جزءاً، ويساوي بين الناس في العطاء، ويأخذ كأحدهم»(99).

3 - أن يكون ناصراً الله تعالى:

«وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه»(100). يوكد الامام (عليه السلام) ان على الراعي ان (ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه)، فالقلب يحيا بذكر الله لقول الله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (101). واهمية القلب تكمن في كونه المتصرف في الانسان ومنه يكتسب الاستقامة او سواها فقد قال رسول الله (صلى الله عليه واله): «أَلا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلَّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»(102). وقد تعهد الله تعالى نصْرِ من نَصَرَه في قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (103)، وهذا وعد من الله تعالى والله لا يخلف وعده. وقد بين الله تعالى صفات من يستحقون النصر فقال: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٭ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»(104). وفي نصر الله تعالى صلاح الراعي كما جاء في قول الراغب: «والنصر من الله معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدي إلى صلاحهم عاجلاً أو آجلاً وذلك تارة يكون من خارج بمن يقيضه الله فيعينه وتارة من داخل بأن يقوي قلب الأنبياء أو الأولياء أو يلقي الرعب في قلوب الأعداء»(105).

ص: 144

4 - أن يكون قامعاً شهوته عن الحرام:

«وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله»(106).

يعد اجتناب محارم الله تعالى ركناً من اركان العقل، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اجْتَنِبْ مَحَارِمَ اللهِ وَأَدِّ فَرَائِضَ اللهِ تَكُنْ عَاقِلا»(107)، وكان الإمام علياً (عليه السلام) حريصاً على تربية أتباعه على الكف عن المحارم، فمن وصية له لإبنه الحسن (عليهما السلام): «..ولا ورع كالكف عن محارم الله »(108).

«وشح بنفسك عما لا يحل لك»، الإنسان مجبول على حب الشهوات «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (109). ولكن الإمام علي (عليه السلام) يريد من عامله ان يكون ضنينا بنفسه لا يعطيها لمفاتن الدنيا بلا حساب ولا حدود وذلك بترويضها والتضييق عليها فيما تحب من الحلال حتى يتمكن منها وتنقاد اليه فيما ينهاها عن الحرام. وقد رسم الامام علي (عليه السلام) منهجا لترويض النفس فقال: «وَايْمُ اللهِ يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ عَزَّوَجَلّ لاَرُوضَنَّ نَفْسِي

رِيَاضَةً تَهشُّ مَعَها إِلَی الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَلاَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاء، نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا»(110).

ان من اصعب ما يُبتلى الانسان به هو ابتلاؤه بنفسه ويتحدد مستقبل الانسان في دنياه او في الاخرة على مدى نجاحه في هذا الامتحان. فقد قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى» (111). وقد اعتبر النبي (صلى الله عليه واله) منازعة النفس هواها هو الجهاد الأكبر فقد روي عن علي بن ابي طالب (عليه السلام): «أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث سريّة، فلمّا رجعوا، قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد

ص: 145

الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): (افضل الجهاد من جاهد نفسه بين جنبيه)»(112)، وفي حديث للإمام علي (عليه السلام) يقول: «أشجع الناس من غلب هواه»(113)، ویری (علیه السلام): «ان صلاح النفس مجاهدة الهوى»(114)، ويحذر من شهوات النفس ويعتبرها مفتاحاً لمعصية الله تعالى فيقول: «مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ شَيءٌ إلاَّ يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ. فَرَحِمَ اللهُ رَجُلاً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ، وَقَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ، فَإنَّ هذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً، وَإنَّهَا لاَ تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَی مَعْصِيَةٍ فِي هَوىً»(115). وكسر النفس عن الشهوات هي دعوة الى التعفف «إذ من المستحيل أن يكون عفيفاً متى استرسل مع شهواته»(116)، ويعرف ضبط النفس ومنعها من الاسترسال وراء رغباتها عند فلاسفة الأخلاق ب(الاعتدال)، وعرف ارسطو الإعتدال بأنه: «الوسط القيم في كل مايتعلق باللذّات»(117)، في حين ان عدم الاعتدال يعني: «افراطاً في اللذات وأَنَّه مذموم»(118).

ويرى الإمام علي في التقوى ترويضاً للنفس على كبح الشهوات والوصول الى ضفة الأمان؛ فتحدث عن نفسه قائلاً: «وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ

الاَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَی جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ»(119)

5 - أن يكون مانعاً نفسه عن المعاصي:

«فلیکن احب الذخائر اليك العمل الصالح». يوكد الامام علي (عليه السلام) في صلاح الراعي على العمل الصالح ويوصي مالكاً بان يكون أحب ما يكتنزه في حياته، لان العمل الصالح إذا اجتمع مع الايمان في شخص نفذ حب ذلك الشخص الى قلوب الناس وحظي بالقبول في أوساط رعيته ان كان راعيا، لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا» (120). وخير من جسد الايمان المقرون

ص: 146

بالعمل الصالح هو الامام علي (عليه السلام) ولذلك يذهب المفسرون الا ان هذه الاية قد نزلت بحقه (121).

وبين (عليه السلام) مقومات العمل الصالح للإنسان قائلاً:

«فاملك هواك». وفي اللغة: «الهَوى مقصوراً: هَوَى النَّفْس، وإِذا أَضفته إِليك قلت هَوايَ، والهوَى: العِشْق يكون في مداخل الخير والشر، والهَوِيُّ: المَهْوِيُّ، وهَوى النفسِ: إِرادتها والجمع الأَهْواء»(122). وقال الراغب: «الهوى: ميل النفس إلى الشهوة، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية، والهوي: سقوط من علو إلى سفل»(123).

في الاصطلاح: الهوى «ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشر»(124). أما المراد باتباع الهوى في الاصطلاح الشرعي «فهو السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي أو النزول على حكم العاطفة من غير تحكيم العقل أو الرجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة»(125).

والهوى واحد من أهم نوازع الإنسان الداخلية التي تلعب دوراً كبيراً في إفساد حياة الإنسان فتكون حائلاً بينه وبين الهداية. ولايعني نهي الإسلام الانسان عن اتباع الهوى أنه أراد حرمانه من التمتع بالملذات أو منعه من إشباع غرائزه؛ ف «الناس أبناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب أمه»(126). وإنما أراد له ان يمتلك إرادته في التحكم بر غباته وميوله حتى يستطيع توجيهها في الطريق السليم، دون أن يطلق لها العنان فتصبح مدمرة بدل أن تكون نافعة له وللجميع، وقد أشار الله تعالى لما يترتب على اتبع الهوى فقال: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..» (127). وتحكم الإنسان في هواه يؤكد لديه صفة الإنسانية لأن الذي يَملِكَهُ هواه لايختلف عن الحيوان لقوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

ص: 147

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (128). فالهوى حجاب بين المرء والواقع ومن يملكه هواه لا يرى الأمور الا بما يتناسب مع رغباته وان كان ذلك يخالف الواقع وبذلك فإنّه يغيب عقل الانسان ويفسده بإبعاده عن الواقع. وقد بين الامام علي (عليه السلام) دور الهوى في تغييب العقل في مناسبات عدة فقال: «العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما فايهما غلب كانت في حيزه»(129) و«سبب فساد العقل الهوى»(130)، ويبين (عليه السلام) أثر الهوى على العقل فيقول: «لاعقل مع هوى»(131).

فاتباع الراعي هواه يعني وجود والٍ يدير الأمور بغير عقل. ويربط الامام (عليه السلام) بين العدل وعوامل النفس كالهوى والعاطفة فيقول: «اما بعد فان الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل فليكن امر الناس عندك في الحق سواءاً فانه ليس في الجور عوض عن العدل فاجتنب ما تنكر امثاله»(132). وكان اكثر ما يخشاه الامام علي (عليه السلام) اتباع الانسان هواه فقد قال: «ان اخوف ما أخاف عليكم اثنان، اتباع الهوى وطول الامل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق»(133). واتباع الهوى يعمي البصيرة وهو واحد من المهلكات التي أشار اليها رسول الله (صلى الله عليه واله) بقوله: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه» وقد أشار الله تعالى الى خطورة اهواء النفس بقوله تعالى: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ» (134).

مما تقدم فإنَّ الإمام علياً (عليه السلام) أراد أن يربي ولاته على الفضيلة، وأن يعمل كل واحد منهم لخدمة رعيته، أن يكونوا أحراراً لاتستعبدهم الشهوات، ولا يتحكم فيهم الهوى، فينحرفوا عن جادة الحق، وأن يخلصوا العبادة لله وحده، مع أنه لم يطلب منهم ترك الدنيا، وانما أمرهم أن يأخذوها برفق، بالطريقة التي تجمعها بالآخرة. وقد ضرب لهم من

ص: 148

نفسه أُنموذجاً، مع علمه ان أحداً لا يستطيع أن يبلغ مبلغه حتى وإن كان من أصحابه فقال يحثهم على الاقتداء به: «أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ.

أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَی ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد، وَعِفَّة وَسَدَاد فَوَاللهِ مَا

كَنَزْتُ مِنْ دُنيْاَكُمْ تِبْرا،ً وَلا ادَّخَرْتُ مِنْ غَناَئِمِهَا وَفرْا،ً وَلا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْرا»(135).

المبحث الثاني: إصلاح الرعية

الإصلاح لغةً:

«إصلاح مشتق من الفعل أصْلَحَ، صَلَّحَ، صَلُحَ... والإِصلاح نقيض الإِفساد... وأَصْلَح الشيءَ بعد فساده أَقامه» (136) وأَصْلَحه: «ضِدّ أَفْسَدَه، وقد أَصْلَحَ الشِّيْءَ بعدَ فَساده» (137)، وفي معجم مقاييس اللغة: «استَصلَحَ الشيء ضِدَّ استَفْسَدَ»(138)، وجاء في مختار الصحاح: «أصلَحَ: أعادَ شيئاً الى حالة حسنة وأزال ما فيه من فساد»(139). والإصلاح هو الإتيان بالصلاح کما قال صاحب المصباح المنير: «أَصْلَحَ: أتى بالصَلاح وهو الخير والصواب»(140).

يتبين في ما سبق ذكره من تعريفات (للإصلاح) أنه يعني من الناحية اللغوية إزالة الفساد.

الإصلاح اصطلاحاً:

يختلف معنى الإصلاح باختلاف مورد مادة (أصْلَحَ) في القرآن الكريم؛ فقد ذَكَرَتْ التفاسير تعريفات للإصلاح حسب المقام الذي ذُكِرتْ فيه، فورد بعدة معانٍ منها: محو التباغض بين المتخاصمين: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا

ص: 149

وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(141). وما يقابل الفساد: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (142) و «فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ» (143) ومايقابل السيئة: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (144)، وتوفيق الله لعباده لعمل الصَّالحات «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(145)، و«سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ» (146). كما عرَّفَه صاحب مجالس التذكير بأنه: ارجاع الشيء الى حالة اعتداله بإزالة ماطرأ عليه من فساد» (147)، وفي روح المعاني: «انه الإستقامة على التوبة، ولعله مُندرِجٌ على التوبة ومكمل لها» (148).

يتبين من التعريفات السابقة ان اللغويين عرفوا الإصلاح بنقيضه على قاعدة تعريف الشيء بضده كما في قول المتنبي:

«وَنَذِيْمُهم وبِهم عرفنا فَضْلَهُ وَبِضِدِّها تتميَّزُ الأشياء»(149)

وفي الوقت الذي لا يحتاج فيه الإفساد الي كبير مجهود وكثرة في التفكير؛ فإن الإصلاح يتطلب جهدا كبيرا وتفكيراً عميقاً وإعداداً يعتمد على حجم الإصلاح المراد اجراءه. وبناءا على ذلك فان سهولة الإفساد يقابلها صعوبة الإصلاح.

والصلاح والإصلاح يشتركان بإزالة الفساد وكلاهما يحقق للإنسان مرضاة الله تعالى، والصلاح يعني تحقيق الاستقامة في ذات الشخص، في حين ان الإصلاح يتعدى صلاح نفسه الى غيره إذ الهمزة فيه للتعدية إلى مفعول واحد، والأصل صَلُحَ اللازم. ويمكن القول: لا إصلاح بدون صلاح، وبدون العودة إلى الذات وبدون تغيير ما بالنفوس فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (150).

ص: 150

الرعية:

تعريف الرعية لغة:

«اصل الرعي حفظ الحيوان اما بغذائه الحافظ لحياته، او بجذب العدو عنه، ثم جعل للحفظ والسياسة كما في قوله تعالى: «فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا» (151)، أي ما حافظوا عليها حق المحافظة»(152) والرعية: «العامة»(153)، وفي المصباح المنير الرعية: «عامة الناس الذين عليهم، راع يدير امرهم ويرعى مصالحهم» (154)، فالرعي يعني: «حفظ الغير لمصلحة»(155).

ومن ذلك فإن الرعية «كل من شمله حفظ الراعي ونظره» (156). فالناس راع وهو السائس ومرعي وهو المسوس.

وبعد ان تعرفنا على منهج الإمام علي (عليه السلام) في الوصول ب(الراعي) إلى مستوى الصلاح، نعرّج على الطرف الثاني في العملية الإدارية وهم (الرعية)، فقد كان الإمام علي (عليه السلام) يسعى لبناء مجتمع متكامل يرتقي إلى مستويات متقدمة من الرفاهية والنزاهة والأمان بتطبيق الصيغة الإسلامية الصحيحة، وهو في اهتمامه بالرعية انما يستمد ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يضع الاهتمام بالناس بمستوى إداء الفرائض فيقول: « أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(157). وقد كان منهج الإمام علي (عليه السلام) في إصلاح الرعية يقوم على ثنائية (الواجبات والحقوق) أي تعريف رعيته بما عليهم من واجبات، وبيان مالهم من حقوق على رعاتهم، ضمن دائرة الشرع، وفي اطار مصلحة الوطن والمواطن فيقول (عليه السلام): «ايها الناس ان لي عليكم حقا، ولكم عليَ حق، فأما حقكم على النصيحة لكم وتوفير فيئكم وكفايتكم فليس من حق الحاكم ان ينام ليلته وفي وطنه معوز واحد، وعلي تعليمكم كي لا تجهلواء أمّا حقي عليكم الطاعة حين آمركم والوفاء لي ولوطنكم»(158).

ص: 151

ومن الجدير بالذكر في هذا الموقف، ان الإمام علياً (عليه السلام) قد سبق وبقرون عديدة الأمم التي ما فتئت تكيل الاتهام للإسلام وتصفه بالتخلف، والتي تبهرنا بحضارتها، فهي لم تكن تعي دور الرعية في الأصلاح، فعلى سبيل المثل لا الحصر يقول غوستاف لوبون (1841 م - 1931 م) 159، ان الجماعة (الرعية) لم تكن صاحبة الدور الفاعل في رسم الاحداث التاريخية «ولم يكن لرأي الجموع وزن يُذكر بل لم يكن له قيمة في الغالب» (160)، ويعزو رسم الاحداث الى مايدور بين ملوكها، ولكن مع تطور الزمن تبدل الامر؛ فصارت «الغلبة لصوت الجماعات فهو الذي يرسم للملوك خططهم»(161)، مما يشير الى فهم متأخر لدور الرعية في إحداث الأصلاح، في حين أن ما ورد في عهد الامام علي (عليه السلام) يؤكد على أهمية دور الرعية في صناعة الاحداث، فأولاه اهتماماً، وقد كان منهجه عليه السلام في اصلاح الرعية يتوزع على محاور عدة، منها:

أولاً: علاقة الراعي بالرعية

وفي هذا الميدان فقد خصص الإمام علي (عليه السلام) الجزء الأكبر من عهده الى الأشتر بما اشتمل عليه من أوامر ونصائح لرسم العلاقة بين الراعي والرعية بما يضمن إصلاح الرعية، ومنها.

1 - حسن التعامل:

تدرج الامام علي (عليه السلام) في صلاح الراعي مبتدئاً بترتیب علاقة الراعي بالله تعالى ثم علاقته بنفسه لينتهي به الى ترتيب علاقته برعيته، والتعامل مع الرعية أمر في غاية الأهمية لأنه مهمة وواجب الراعي، وتكمن أهميته في ان الرعية تشمل جميع البشر ضمن حدود رعايته، وقد يكون منهم المسلم وغير المسلم، وكل من هؤلاء يحتاج معاملة حسب مقتضى الحال. ويأتي في مقدمة ما يجب ان يتحلى به الراعي هو حسن التعامل حيث

ص: 152

وصف الله تعالى رسوله الكريم (صلى الله عليه واله) في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (162). وتأتي الرأفة والرحمة في مقدمة حسن التعامل حيث قال تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (163) . كذلك كان الامام علي (عليه السلام) وهو ابن مدرسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتعامل مع رعيته على أساس من الرحمة والاخوة؛ فاذا كانت الرعية تخشى ظلم حكامها فان الامام علي (عليه السلام) على غير ذلك، اذ كان هو من يخشى أن يَظلم رعيته كما عبر عن ذلك في خطبته قائلا: «وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ

ظُلْمَ رَعِيَّتِي»(164) وفي هذا الإطار كانت وصاياه لولاته وعماله؛ ففي عهده لمحمد بن ابي بكر حين ولاه مصر يوصیه: «فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ حَتَّى لا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ولا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ»(165)، والامام علي (عليه السلام) وهو يستمد مفهوم السلطة من المفهوم القرآني والنبوي، نجده يدفع الكثير من توجيهاته ونصائحه في كيفية التعامل مع الرعية مؤكدا على أنَّ: «حسن السياسة يستديم الرياسة»(166)، وأنَّ: « رأس السياسة استعمال الرفق» (167)، وكما أنَّ: «حسن السياسة قوام الرعية»(168)؛ فإنَّ: «من حسنت سیاسته وجبت اطاعته»(169).

ولم يقتصر بوصيته لمالك الاشتر «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ» (170). بالرحمة لأهل مصر فقط وانما أراد هذه الرحمة ان تفيض على الإنسانية جميعا منطلقا (عليه السلام) من وحدة الخلق فهو خير من يعلم بما يريد الله تعالى في قوله: «

ص: 153

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (171)، وما يعنيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين يقول: «يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى» (172)، و«أَنْتُمْ بَنوُ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» (173). وبناءاً على ذلك كان الناس من وجهة نظر الإمام علي (عليه السلام) صنفين: «إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(174)، ومن منظار المساواة ولكي يضمن التعايش بين الراعي ورعيته لم يكتف (عليه السلام)، من الراعي بأن يتصف بالرحمة والمحبة، وإنما أمره بالتجاوز عن الخطأ والزلل؛ فقد يخطأ الإنسان، والخطأ صفة ملازمة له على حد قول رسول الله (صلى الله علیه و آله): «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (175)، فلابد من الصفح عن المسيء، والعفو عن المخطئ، والتماس العذر لهم فإنَّ: «أَعْرَف النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرُهُمْ لِلنَّاسِ وَإنْ لَمْ يَجِدْ لَهُمْ

عُذْرَاً»(176) وفي مقابل ذلك فإنَّ: «شر الناس من لا يقبل العذر ولايقيل الذنب» (177)، وإن من النتائج المترتبة على الإحسان تسهيل مهمة الوالي كما جاء في قول الإمام علي (عليه السلام): «احسن الى المسيء تملکه» (178). وهكذا فقد وضع (عليه السلام) أساسا رسم فيه طريقا واضحة المعالم بعيدة عن اللبس في العلاقة بين الراعي والرعية.

2 - خیلاء السلطة:

ثم ينتهي (عليه السلام) الى ما يصيب الراعي من خيلاء الغرور جراء امتیازات السلطة فيأمره بان يتذكر سلطة الله تعالى وعظم ملکه وقدرته الواسعة. «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في

ص: 154

جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال» (179).

ولعل أوضح صورة لعدالة السلطة هو التواضع وتعتبر السلطة من بين دواعي الغرور القوية لانها تبعث في نفوس المتسلطين الزهو والغرور فيتيهون على الناس تکبرا واذلالا، وأنجع علاجٍ لهذه الظاهرة كما يراه الإمام علي (عليه السلام) هو العودة الى الله تعالى والتفكر في عظمته كي يعرف الوالي قدر نفسه ويدرك ان ما يختال به من جاه منحته إياه السلطة انما هو نعمة من الله تعالى انعم به عليه.

ونجد من المفيد أن نقارن بين سلطة رسم معالمها الإمام علي (عليه السلام) مستمدة من القرآن الكريم وتعاليم الرسالة الإسلامية، وبين سلطة رسمت معالمها الفلسفات الحديثة التي تستند إلى الواقع كما يقول أصحابها وكيفية تعاملها مع الجماهير (الرعية) ففي الوقت الذي يأمر فيه الإمام علي (عليه السلام) الأشتر: «ولاتكونن عليهم سبعا ضارياً تغتنم أكلهم» (180)؛ فإنّ ميكافيلي ينصح اميره أن «يتصرف كالحيوان فهو يقلد الثعلب والأسد»(181). كما ينصحه بالتظاهر بالصفات الطيبة «أن يبدو رحيماً، وفياً حلو الصفات، صادقاً، متديناً»(182) أمام من يراه ويسمعه ويؤكد میکافيلي على التظاهر بالتدين فيقول: «وهذه الصفة الأخيرة ضرورية جداً لأن الناس يحكمون على مايرونه بأعينهم وليس على مایدر کونه... وفي كافة أعمال البشر - وخاصة الأمراء - فإنَّ الغاية تُبَرِّر الوسيلة»(183) حيث صور مكيافيلي سلطة الأمير بأنها منقطعة الصلة عن أي قواعد أخلاقية وأطلق مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) ورأى أن السلطة دائما قاسية وغاشمة وظالمة ومستَغِلَّة وأن هذا من حقها ولو لم تفعل ذلك لاستضعفتها الجماهير وسحقتها. ومن خلال هذه المقارنة يصير بالإمكان ان نحكم على اية سلطة وخاصة تلك التي توصف بالاسلامية على أي المنهجين تحكم.

ص: 155

3 - حلم الراعي:

ومن صلاح الراعي في تعامله مع الرعية أن لا يكون سريع الغضب شديد البطش بل أن يكون حليماً حكیماً ولذلك يأمر الإمام علي (عليه السلام) مالكاً قائلا: «إملك حمية انفك، وسورة حدك، وسطوة يدك وغرب لسانك» (184)؛ فالغضب الخارج عن سيطرة النفس يؤدي الى الهلكة وقد حذر من هذه النهاية فقال: «انكم ان اطعتم سورة الغضب اوردتم نهاية العطب» (185)، وعلى الانسان بشكل عام والراعي بصورة خاصة ان يتحرس مما يؤدي به الى الغضب وان يتجنب الانفعال ذلك «أنَّ الْغَضَبَ مِن الشَّيْطَانِ وَأنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ»(186) والغضب يعني فقدان العقل لأنَّ «من لم يملك غضبه لم يملك عقله» (187). ولذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينصح من يغلبه الغضب أن يرجع الى الله تعالى فيقول: «فاذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحلمه عنهم واذا قيل لك اتق الله فانبذ غضبك وراجع حلمك» (188). ولم يترك الامام علي (عليه السلام) أمر الغضب دون ان يضع له حلولاً تتضمن علاجه، ومما وَصّى به الامام علي (عليه السلام) قائلا: «داووا الغضب بالصمت والشهوة بالعقل» (189). واذا ما تناولنا الغضب من زاوية السلطة فان «أعظم الناس سلطاناً على نفسه من قمع غضبه وآفات شهوته» (190). ومن زاوية القوة فان الانسان القوي ليس الذي يمتلك القوة الجسدية وانما يمتلك القوة في السيطرة على نفسه عند انفجار غضبه كما قال رسول الله (صلى الله عليه واله): «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»(191).

ص: 156

ثانياً: علاقات الرعية مع بعضها (طبقات الرعية)

ورِث الإمام علي (عليه السلام) تركة ثقيلة من خلافة عثمان التي وإن حاول المودودي ان يجَمِّلها لكنه وصفها بأنها سياسة «غير مريحة للناس»(192)، وما أن بويع (عليه السلام) بالخلافة حتى اعلن عن هدفه من قبولها قائلاً: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ» (193)،

ومن المعالجات التي وضعها الأمام علي (عليه السلام) لتطبيق منهجه الإصلاحي أنَّه وضع هيكلاً صنَّف فيه الرعية الى طبقات، وبين أهمية كل طبقة وكيفية التعامل معها بما يصلحها؛ فقد جاء في عهده لمالك الأشتر «واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة» (194)، ان هذا التقسيم لايعني تمييز طبقة على حساب طبقة، فالطبقات في كلام الامام علي بمعنى «فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن»(195) . وإنّما هو تقسيم لغرض التعامل مع كل طبقة بما يناسبها، ويتفق مع حاجتها للإصلاح، لأنَّ مايصلح لطبقة قد لا يصلح للاخرى، ولم يكن ترتيب الطبقات الذي ورد في عهد الامام علي لمالك الاشتر على أساس قيمتها الاجتماعية، وإنما كان على أساس أهمية الخدمة التي تقدمها للمجتمع.

وفي دراسته لموضوع الطبقات في عهد الإمام علي (عليه السلام) يقسم محمد مهدي شمس الدين الطبقات الى مجموعتين:

ص: 157

المجموعة الأولى:

طبقات افترض الإمام علي (عليه السلام) وجودها وتحدث عنها كأهل الخراج والتجار والصناع والمعدمين.

1 - أهل الخراج:

كان الامام علي (عليه السلام) يَحمل عماله على ممارسة الحكم الذي يقوم من اجل الرعية. فيتحدث عن أهمية اهل الخراج والمراد بهم (الزُرّاع) ذلك لأن الخراج هو ضريبة الأرض ومصدر التمويل الرئيس إنْ لم يكن المصدر الوحيد الذي يُمول احتياجات الدولة المالية سواءاً كانت رواتب الجند أم إعانة أصحاب الحاجة من بقية المجتمع (196).

وكان اقتصاد مصر آنذاك يقوم على القطاع الزراعي مما يعني ان ازدهار النشاط الاقتصادي يتوقف على طبقة (اهل الخراج) ولذلك يؤكد الامام علي (عليه السلام) على الاهتمام بالخراج بما يصلح اهله فيقول لمالك: «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَصَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَلَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ

عِيَالٌ عَلَی الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ»(197). ان سياسة الامام علي (عليه السلام) في الخراج تهدف إلى اصلاح الزراعه بالشكل الذي يقود الى اصلاح طبقات المجتمع الأخرى.

وكان عليه السلام يكتب الى امراء الأجناد فيقول: «انشدكم الله في فلاحي الارض ان يظلموا قبلکم»(198) فإصلاح اهل الخراج (الزراع) يعتمد على مقدار مایؤخذ منهم کخراج، وبالتالي فان صلاح الرعيه يعتمد على صلاح اهل الخراج لأن «النَّاسَ كُلَّهُمْ

عِيَالٌ عَلَی الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ»(199).

حتى جباية الخراج كان الامام علي (عليه السلام) يراعي فيها صلاح الرعية فيؤكد

ص: 158

على جباة الخراج قائلا: «إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفا، ولا رزقا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو» (200). ولم يكتف (عليه السلام) بالوصية وانما يتبعها بتذکیر الجباة بمخافة الله، ثم يهددهم بالعزل إن لم ينفذوا ما أمرهم به «فَإِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ مَا

أَمَرْتُكَ بِهِ يَأْخُذُكَ الله بِهِ دُونِي، وَإِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ خِلافَ ذَلِكَ عَزَلْتُكَ...»(201).

2 - التجار والصنّاع:

ثم ينتقل (عليه السلام) الى فئة التجار وهي طبقة مهمة من طبقات المجتمع لها اثرها الكبير على المجتمع كله، واي اضطراب يصيب هذه الطبقة ينعكس على استقرار المجتمع، لأنها هي التي تتحكم بتوفير السلع وحركتها بين الناس، فإذا ماصلحت هذه الطبقة صلحت أحوال الرعية، ويكمل عمل التجار طبقة الصناع فالتجارة والصناعة على علاقة مهمة ببعضهما وفي صلاحهما يترفه المجتمع، ولأهمية هاتين الطبقتين يوصي بهما (عليه السلام) فيقول لمالك: «ثم استوصِ بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيراً» (202). والإمام علي (عليه السلام) يقسم التجار الى قسمين تاجر مقيم في بلده، وآخر متنقل بين البلدان، ومع انه (عليه السلام) يصفهم بقوله: «سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته»(203)، لكنه يُحَذِّر من خطر هذه الفئة فيما لو أصابها الإنحراف، لأن انحرافها يؤدي إلى اضطراب أمر الرعية سواءاً التحكم بعرض السلعة واحتكارها، أو التلاعب بأسعار السلع، أو التلاعب بالموازين والمكاييل فيقول: «واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة»(206)؛ فيوجهه الى كيفية التعامل مع هذا الانحراف كي تصلح الأمور قائلاً: «فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللِّهَ صلى الله عليه

ص: 159

وآله وسلم مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ»(205). ويأمره بمحاسبة من يخالف ذلك فيقول: «فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ» (206). هكذا كان الإمام علي (عليه السلام) يتعامل مع عناصر اقتصاد الأمة، ويهیِّيء كل السبل التي تجعل هذه العناصر في خدمة الرعية.

3 - الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ

حظيت هذه الطبقة باهتمام الإمام علي (عليه السلام) اكثر من غيرها من طبقات المجتمع الأخرى، لأنها تشكل القسم الأكبر من الرعية، لا في عهد الإمام علي فحسب وإنما في كل زمان ومكان. وكانت وصيته للأشتر: «اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی»(207)، وقد وَصَفَ من يقع تحت عنوان هذه الطبقة ب« الذين لا حيلة لهم»(208)، وعرَّفهم قائلاً: «مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَ والزَّمْنَ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً» (209)، ويؤكد الإمام علي (عليه السلام) على الولاة مباشرة هذه الطبقة بأنفسهم، وعلى الوالي ان يتولى بنفسه تنفيذ ما يترتب لها من حقوق في مختلف المجالات، فعلى المستوى المعاشي بين مصادر تخصیصاتهم المالية «واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ» (210)، ولم يكتفِ بالجانب الاقتصادي وإنما اهتم بالجانب المعنوي فقد أمَرَ واليه أن يخصص جزءاً من وقته يتفرغ فيه لهم شخصياً للإلتقاء بهم والجلوس معهم مذكراً إياه ان مايقوم به هو من باب التواضع لله «واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً

تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ للهَّ الَّذِي خَلَقَكَ»(211).

لاشك أنَّ معاملة الإمام علي (عليه السلام) لهذه الطبقة بهذه المعاملة يُعَدُّ بمثابة إصلاح لها. فقد جنبها الكفر لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كاد الفقر ان يكون کفراً»(212)، وعندما يكون الفقر «« أشدَّ من القَتْل»(213)، وأن «القبر خير من الفقر» (214)،

ص: 160

فانه يتحول الى عامل يؤدي الى الانحراف، وقد شَخَّصَ الإمام علي (عليه السلام) ماينتج عن الفقر من خصال فقال: «من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال بالضعف في يقينه والنقصان في عقله والدقة في دينه وقلة الحياء في وجهه فنعوذ بالله من الفقر» (215)، وان من يحمل هذه الصفات لا يكون بمقدوره ان «يكون فاضلا، وان من اللغوان يوعظ بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب وان انسانا كهذا ينقلب کافرا بالقيم والفضائل. وان معدته الخاوية وجسده المعذب ومجتمعه الكافر بانسانيته المتنكر له وشعوره بالاستغلال وميسم الضعة الذي يلاحقه انی کان، هذه كلها تجعله لصا وسفاحا وعدوا للانسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة»(216). وعلى ضوء ما تقدم علينا أن نتصور مجتمعاً تتصاعد فيه نسب الفقر كم سيكون مستوى الانحراف فيه.

المجموعة الثانية:

طبقات لم يفترض وجودها، إنما تكلم (عليه السلام) في كيفية انشائها وتكوينها، وهي: الجند، وكتّاب العامة والخاصة، وقضاة العدل، وعمال الإنصاف والرفق. وهذه المجموعة هي التي تدير المجتمع وتشرف على تصريف شؤونه وبالتالي يتعلق بها مصير المجتمع، ولكونها إرثاً من الحكم السابق، فهي تعاني من الفساد لذلك اولاها الإمام علي (عليه السلام) اهتماماً لإعادة بنائها من جديد. (217) ولذلك وضع الإمام علي (عليه السلام) منهاجاً متكاملاً في تغيير بنية كل طبقة منها.

ص: 161

1 - الجنود:

ولأهمية دور الجند في حماية أمن البلاد في الداخل والخارج «فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم»(218)، فقد أعاد الإمام بناء المؤسسة العسكرية مؤكداً على أهمية الولاء لله تعالى ورسوله والإمام کما جاء في أمره لمالك: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك»(219)، وينتقل الى المؤهلات الشخصية للجندي والتي تنعكس آثارها على الرعية فيختار: «أنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء. وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف»(220) .ثم يضع معايير تزكيته في تربيته ونشأته: «ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة»(221). وبعد ان يطمئن (عليه السلام) الى صلاح الجندي بما يحقق مصلحة الرعية، يضع المواصفات التي تتطلبها الجندية، حيث يرى الإمام علي (عليه السلام) ان الجندي يجب أن يكون من «أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف»(222).

2 - كتّاب العامة والخاصة:

وهم الموظفون في جهاز الدولة الذين يتولون كتابة مايصدر عن الولاة من توجيهات وأوامر، وقرارات تتعلق بأمور الدولة والرعية، ولأهمية هذه الفئة في كونها حلقة الوصل بين الراعي والرعية فقد أولاها (عليه السلام) أهمية أكد فيها على اختيار الأصلح «ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق»(223). وإصلاح هذه الفئة يقوم على: الإختيار السليم ممن يُشهَد له بالتجربة، وتكنُّ له الرعية احتراماً وله أثر في الامة حسن «ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرفون

ص: 162

لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ. ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً» (224)، أي أن اختيارهم يجب ان لايخضع للرغبات الشخصية، وهنا يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وبذلك يكون قد اجتث أهم أدوات الفساد الإداري والإجتماعي المتمثلة بالمحسوبية والوساطة، لإقامة مجتمع صالح خال من واقع الفساد الإداري، الذي تعاني منه المجتمعات بسبب سوء إدارة التوظيف.

3 - طبقة القضاة:

فإن الإمام علياً (عليه السلام) عندما يتحدث عنها، إنما يتحدث بصفته اقضى المسلمين لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخاطباً أصحابه: «أقضاكم علي» (225)، وفي قول آخر «أقضى أمتي علي» (226). و «عن عمر: أقضانا علي» (227) وفي كلام للإمام الباقر (عليه السلام) يصف قضاء الإمام علي (عليه السلام): «ليس أحد يقضي بقضاء يصيب في الحق الا مفتاحه قضاء علي». وفي اختياره للقضاة يؤكد (عليه السلام) على المزايا الخلقية الكريمة التي يجب أن يتحلى بها القاضي فيأمر مالك الأشتر قائلاً: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفي إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل»(228). ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بخُلِق القاضي بل أراد أن يحمي حُسن سير القضاء وضمان حقوق الخصوم وهم من الرعية، وعدم الإضرار بهم من خلال نزاهة القاضي بحمايته من نفسه والتي قد

ص: 163

تدفعه إلى التعسف باستعمال سلطته؛ فوضع له امتیازات وحقوقاً تجنبه ذلك فيقول (عليه السلام): «ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظراً بليغاً» (229). ثم يعود الإمام علي (عليه السلام) ليذكر بالإنحراف الذي أصاب مسيرة الامة الإسلامية في عهد من سبقه مما اوجب الإصلاح فيقول في إشارة الى قضاة عثمان وولاته حيث كانوا لايقضون بالحق بل يتحكم فيهم الهوى: «فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى، وتُطلب به الدنيا» (230). فاصلاح القضاء هو الطريق لإصلاح البلاد من الفساد.

4 - طبقة الولاة:

فما أن تسلم زمام الأمور حتى بادر إلى إعفاء ولاة عثمان على أقاليم الدولة، حتى انه رفض إقتراح إبقاء معاوية على الشام إلى أن يستقر له الحكم ثم ينحيه فيما بعد وكان سبب التغيير هو سوء سيرة ولاة عثمان لأنه عينهم بغير وجه حق. فكانوا فيما ارتكبوه من ظلم للرعية وعدم درایتهم بالسياسة واصول الحكم، من بين اهم أسباب ثورة الامصار عليه التي انتهت بمقتله، الأمر الذي دعا الإمام علياً (عليه السلام) أن يبدأ مشروعه الإصلاحي بتغييرهم، معللاً ذلك بقوله: «... وَلَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وَفُجَّارُهَا، فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللِّهَ دُوَلاً، وعِبَادَهُ خَوَلاً، وَالصَّالِحِينَ حَرْباً، وَالْفَاسِقِينَ حِزْباً؛ فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي قَدْ شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ، وَجُلِدَ حَدّاً فِي الإِسْلامِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَی الإِسْلامِ الرَّضَائِخُ» (231). حتى ابن تيمية لم يستطع ان يخفي مثالب خلافة عثمان وخاصة في تقريبه لعشيرته فيقول: «ونحن لا ننكر أن عثمان - رضي الله عنه - كان يحب بني أمية، وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة» (232)

وكان منهج الإمام علي (عليه السلام) في عملية تغيير الولاة كما جاء في عهده لمالك

ص: 164

الاشتر: «استعملهم اختباراً ثمّ تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم»(233)، وكان (عليه السلام) شديداً في محاسبتهم، فقد كتب الى زياد بن ابیه: «وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر»(234). وقد بين الإمام علي (عليه السلام) اثر الوالي على إصلاح الرعية في قوله: «وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج، والدماء، والمغانم، والاحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة»(235). وكان (عليه السلام) يرى أنه «لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع»(236). ولم يقف عند الاختبار بل کان (عليه السلام) يُمعن في مراقبة ولاته ففي كتابه إلى مالك بن کعب: «اخرج في طائفة من أصحابك حتّى تمرّ بأرض كورة السواد (237)، فتسأل عن عمّالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب (238)، ثمّ ارجع إلى البهقباذات (239) فتولّ معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاّك منها. واعلم أنّ كلّ عمل ابن آدم محفوظ عليه مجزيّ به، فاصنع خيراً صنع الله بنا وبك خيراً، وأعلمني الصدق فيما صنعت. والسلام» (240).

ص: 165

الخاتمة

تعد العلاقة السليمة بين الراعي والرعية، القائمة على معيار القرب من الله سبحانه وتعالى، من افضل أساليب الإدارة التي ترتقي بالامة الى افضل مستويات الحياة.

وان معیار الامام علي (عليه السلام) في هذا المجال كانت قائمة على ثنائية الراعي والرعية فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة، ولاتصلح الولاة الا باستقامة الرعية.

ولذا اكد الامام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر على اختيار الراعي ممن تتحقق فيه الموالاة والإخلاص، ووضع له برنامجا لتقويم شخصه أساسه التقوى ورضا الله، ثم بين له ما يتوجب عليه القيام به لتستقيم له الرعية، مُعزِزاً ذلك برقابة دائمة تضمن سلامة التنفيذ، وتصحح المسار في الوقت المناسب، ثم العقوبة لمن يتمادى في الخطأ، والعزل عن الوظيفة. وفيما يتعلق بالرعية فإنّه (عليه السلام) يؤكد على (استقامة الرعية)، وتتحقق هذه الاستقامة من خلال تثقيف يرتكز على بيان ما للرعية من حقوق على الدولة، وما عليها من واجبات. ولا يتحقق الإصلاح برفع الشعارات وإنَّما أساس نجاح عملية الإصلاح هو أن يمتلك (الرعاة) روح المبادرة والتصدي، وأن يقرن القول بالفعل.

وما احوجنا اليوم ونحن نعاني من أزمات في مختلف الميادين ولاسيما الاجتماعية الناجمة عن الخلل الإداري ان نرجع الى فكر الامام علي (عليه السلام) وان نتبناه عملا قبل القول كي نستطيع ان نعيد الأمور الى نصابها. وفي عهد الإمام (عليه السلام) لمالك ما يكفي لتحقيق ذلك.

ص: 166

الهوامش

1. ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري (ت 230 ه)، الطبقات الکبری، بیروت، دار صادر، 1957 م، 6 - 213؛ ابن حجر، احمد بن علي (ت 852 ه) الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت - المكتبة العصرية، ط 1 - 1433 ه، رقم 7660، ص 1312؛ الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 ه) سیر اعلاء النبلاء، تحقيق: شعیب الارنؤوط، بيرةت - مؤسسة الرسالة، ط 2 - 1982 م، 4 - 34.

2. القمي، عباس (ت 1359 ه) سفينة البحار، قم - دار الاسوة، ط 2 - 1416 ه، 4 - 388؛ ابن شهر آشوب، أبو جعفر محمد بن علي (ت 588 ه) مناقب آل أبي طالب، تحقيق: يوسف البقاعي، بيروت - دار الأضواء، ط 2 - 1412 ه، 1 - 291؛ ابن ابي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه) شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت - دار احياء الكتب العربية، ط 2 - 1965 م، 15 - 98؛ العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726 ه) خلاصة الاقوال، تحقيق: جواد القيومي، قم - نشر الفقاهة، ط 4 - 1431 ه، ص 277.

3. سیر اعلام النبلاء 4 - 34

4. النخع: وهي قبيلة يمانية من أكبر بطون بني مذحج، وكانت تسكن في وادي بيشة في اليمن، وقد دخلت في الإسلام ونبغ منها صحابة كبار، وكان أبرزهم مالك بن الحارث الأشتر. علي الكوراني سلسلة القبائل العربية، ج 10.

5. الأمين، محسن، اعیان الشيعة، تحقیق حسن الأمين، بيروت - دار التعارف، 1983 م، 9 - 41.

6. اعيان الشيعة 1 - 49.

7. شرح النهج 15 - 99؛ سفينة البحار 4 - 379.

ص: 167

8. سفينة البحار 4 - 384.

9. الشَّتَر: انشقاق جفن العين وبه سمي الاشتر النخعي. ابن درید، الاشتقاق ص 297.

10. الواقدي، عمر بن واقد (ت 207 ه) فتوح الشام، تصحيح: عبد اللطيف عبد الرحمن، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1997 م، 1 - 215؛ الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه) تاريخ الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر - دار المعارف، ط 2، 3 - 74.

11. المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه) و قعة صفين، تحقیق: عبد السلام هارون، بيروت - دار الجيل، 1990 م، ص 484.

12. البحراني، السيد هاشم (ت 1109 ه)، بغية المرام وحجة الخصام، تحقیق: علي عاشور، بیروت - مؤسسة التاريخ العربي، ط 1 - 2001 م، 4 - 318؛ العاملي، جعفر مرتضی، الصحیح من سيرة الامام علي، المركز الإسلامي للدراسات، ط 1 - 2009 م، 21 - 26.

13. سفينة البحار 4 - 379.

14. الاميني، عبد الحسين احمد، الغدير في الكتاب والسنة والادب، بيروت - الاعلمي، ط 1 - 1994 م، 9 - 10.

15. شرح النهج 6 - 124.

16. البلاذری، احمد بن يحيی (ت 279 ه)، انساب الاشراف، تحقیق: سهیل زکار وریاض زركلي، بیروت، دار الفكر، ط 1 - 1996 م، 6 - 2420..

17. م.ن.

18. تاريخ الطبري 4 - 349.

19. طبقات بن سعد 3 - 273؛

20. الصالح، صبحي، نهج البلاغة، القاهرة - دار الكتاب المصري، ط 4 - 2004 م،

ص: 168

ص 136.

21. العسكري، مرتضی، معالم امدرستين، القاهرة - مكتبة مدبولي، ط 5 - 1993 م، 1 - 142؛ المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت 975 ه) کنز العمال، تصحيح: صفوة السقا، بيروت - مؤسسة الرسالة، ط 5 - 1985، ح 2471، 3 - 161.

22. يُنظر: تاريخ الطبري 4 - 428.

23. الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 ه) الاخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، القاهرة - دار احياء الكتاب العربي، ط 1 - 1960 م، ص 143.

24. المفيد، أبو عبد الله محمد بن احمد (ت 413 ه) الجمل، ط 1 - 1403 ه، ص 135

25. يُنظر: المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه) وقعة صفين، تحقیق: عبد السلام هارون، بيروت - دار الجيل، 1990 م، ص 492.

26. شرح النهج 15 - 98.

27. القلزم بالضم ثم السكون ثم زای مضمومة وميم مدينة على ساحل بحر اليمن من جهة مصر ينسب البحر إليها. وفي هذا البحر بقرب القلزم غرق فرعون، وبينها وبين مصر ثلاثة أيام (المراصد)

28. المفيد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري (ت 413 ه) الامالي، دار التيار الجديد، 1 - 82.

29. امالي المفيد 1 - 83.

30. أبن عساکر، ابو القاسم علي بن الحسن (ت 571 ه) تاريخ مدينة دمشق، تحقیق: محب الدين العمري، بيروت - دار الفكر، 1995 م، 56 - 386؛ انساب الاشراف 3 - 166.

31. یاقوت الحموي، شهاب الدين ابي عبدالله (ت 626 ه) معجم البلدان، بيروت - دار صادر، 1956 م، 1 - 454.

ص: 169

32. أبن کثیر، ابي الفداء اسماعیل (ت 774 ه) البداية والنهاية، تحقیق: محيي الدين ادیب، بیروت - دار بن کثیر، ط 2 - 2010 م، 7 - 346.

33. الثقفي، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد (ت 283 ه) الغارات، تحقیق: عبد الزهراء الحسيني، بيروت - دار الأضواء، ط 1 - 1987 م، ص 169؛ سفينة البحار 4 - 386.

34.شرح النهج 1 - 424.

35. القمي، عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم (ت 1359 ه) منازل الآخرة، ترجمة: حسین کوراني، سوريا دار التعارف، 1993 م، ص 124.

36. الغارات ص 170.

37. الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (ت 413 ه) الإختصاص، تحقیق: علي اکبر غفاري، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2009 م، ص 87.

38. سفينة البحار 4 - 387.

39. الزبيدي، محمد بن محمد بن عبد الرزاق (ت 5 120 ه) تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق: مجموعة من المحققين، بيروت - دار الهداية.

40. ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة - دار المعارف،

41. عبد الحميد، محمد محيي الدين، المختار من صحاح اللغة، القاهرة - المكتبة التجارية، ص 361.

42. الجرجاني، علي بن محمد (ت 816 ه) معجم التعريفات، تحقیق: محمد صديق المنشاوي، القاهرة - دار الفضيلة، ص 134.

43. الشيرازي، ناصر مکارم، نفحات الولاية، اعداد: عبد الرحيم الحمراني، قم - سلیمانزاده، ط 2 - 1426 ه، 10 - 280.

44. يُنظر: صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 426.

ص: 170

45. نفحات الولاية 10 - 281

46.شرح نهج البلاغة، 17 - 32.

47. نفحات الولاية 10 - 280

48. الغارات، ص 160.

49. ابن حوقل، کتاب صورة الأرض، بیروت: مكتبة الحياة، 1992، ص 128 - 129.

50. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بیروت: دار صادر، د.ت، 2: 233.

51. تاريخ الطبري 4 - 348.

52. ابن خلدون، عبد الرحمن (ت 808 ه) تاریخ ابن خلدون، بیروت: دار الفكر، 2000، 2 - 623.

53. المصدر نفسه.

54. تاريخ الطبري 5 - 98.

55. ابن عساکر (13 - 261)

56. الغارات ص 173.

57. العقاد، عباس محمود، شخصيات إسلامية، بيروت - دار الكتاب العربي، 3 - 844.

58. امالي المفيد 4 - 49

59. صبحي الصالح، نهج البلاغة ص 411.

60. يُنظر الايات: يوسف: 101، الشعراء: 83، النمل: 19، القصص: 27، الصافات: 100.

61. الآلوسي، شهاب الدين السيد محمود (ت 1270 ه) روح المعاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1415 ه، 4 - 325.

62. أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه) معجم مقاییس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، بيروت - دار الفكر، 1979 م، 3 - 303.

ص: 171

63. الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه) تاج اللغة وصحاح العربية، تحقیق: احمد عبد الغفور عطار، بیروت - دار العلم للملايين، ط 2 - 1979 م، 1 - 383؛ الرازي، زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 666 ه) مختار الصحاح، بیروت - مكتبة لبنان، 1989 م، ص 22؛ لسان العرب، 27 - 2479.

64. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 4 - 2004 م، ص 520.

65. أبو البقاء، أيوب بن موسى الحسيني (ت 1094 ه) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، بيروت - مؤسسة الرسالة، ص 561؛ التهانوي، محمد بن علي ابن القاضي محمد (ت بعد 1158 ه) موسوعة کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقیق: علي دحروج، بیروت - مكتبة لبنان ناشرون، ط 1 - 1996 م، 2 - 1093.

66. روح المعاني 4 - 203.

67.لسان العرب 17 - 1677.

68. شرح نهج البلاغة 20 - 269

69. الغارات: 104، سفينة البحار: 4 - 384.

70. تاريخ الطبري 5 - 95.

71.شرح نهج البلاغة 17 - 30.

72. صبحي الصالح، نهج البلاغه، خطبة 216، ص 333.

73. صبحي الصالح، نهج البلاغة، حكمة 73، ص 480.

74. شرح نهج البلاغة 17 - 30.

75. الشمس: 7 - 10.

76. الراوندي، سعید بن هبة الله (ت 573 ه) منهاج البراعة، تحقيق: عبد اللطيف

ص: 172

الكوهكمري، قم - مطبعة الخيام، 1406 ه، 3 - 169.

77. لسان العرب 15 - 401.

78. يُنظر: الدبيسي، محمد، التقوى في القرآن الكريم، القاهرة - دار المحدثين، ط 1 - 2008 م ص 30.

79. الكافي، الأصول، 2 - 35.

80. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 351.

81. البقرة: 177.

82. الصدوق، ابو جعفر محمد بن علي (ت 381 ه) ؉کتاب الخصال، صححه: علي اکبر الغفاري، قم - الحوزة العلمية. لخصال، باب الاثني عشر، ص 483 ؉النيشابوري، محمد بن الفتال (ت 508 ه) روضة الواعظين، تحقيق غلام حسين المجيدي، قم - مطبعة نكارش، ط 1 - 1423 م، 2 - 383.

83. الحر العاملي، محمد بن الحسن (ت 1104 ه) وسائل الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت، قم - مطبعة مهر، ط 2 - 1414 ه، ح 20381، 15 - 239؛ الثعلبي، أبو اسحق احمد (ت 427 ه) الكشف والبيان، تحقیق: محمد بن عاشور، بيروت - دار احياء التراث العربي، ط 1 - 2002 م، 1 - 144.

84. المطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، بيروت - الدار الإسلامية، ط 1 - 1992 م، ص 136؛ الحائري، أيوب، قبسات من نهج البلاغة ص 84.

85. النساء: 131.

86. الرازي، محمد فخر الدين (ت 604 ه) تفسير الفخر الرازي، بيروت - دار الفكر، ط 1 - 1981 م، 11 - 71.

87. صبحي الصالح، نهج البلاغة، خ 16، ص 58.

88. صبحي الصالح، نهج البلاغة، خ 189، ص 284.

ص: 173

89. المائدة: 93

90. االطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت مؤسسة الإعلمي، طا - 1997، 6 - 128.

91. تاريخ اليعقوبي 2 - 109.

92.م.ن 2 - 104.

93. شرح نهج البلاغة 17 - 30.

94. ابن رجب، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن (ت 795 ه) جامع العلوم والحكم، تعلیق ماهر یاسین، بیروت - دار ابن کثیر، ط 1 - 2008، ح 38، ص 770.

95. وسائل الشيعة، ح 35، 1 - 28.

96. صبحي الصالح، حکَم 113، ص 488.

97. المامقاني، عبد الله (ت 1351 ه) تنقیح المقال في علم الرجال، تحقیق: محيي الدين المامقاني، قم - مؤسسة آل البيت، ط 1 - 1423 ه، 4 - 163.

98. الترمذي، محمد بن عیسی (ت 279 ه) سنن الترمذي، تحقيق: احمد محمد شاكر وآخرون، مصر - مصطفى البابي الحلبي، ط 2 - 1975 م ح 1329، 3 - 10.

99. محسن الأمين، اعیان الشيعة، 1 - 348.

100. شرح نهج البلاغة، 17 - 30.

101 - الرعد: 28.

102. البخاري، محمد بن اسماعیل (ت 256 ه) صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، ط 1 - 1422 ه، كتاب الإيمان، ح 52، 1- 20.

103. محمد: 7.

104. الحج: 40 - 41.

105. اللحجي، عبد الله بن سعيد محمد (ت 1410 ه) منتهى السؤل، جدة - دار

ص: 174

المنهاج 4 - 442.

106. شرح نهج البلاغة 17 - 30.

107. الهيثمي، نور الدين علي بن سليمان (ت 807 ه) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، تحقيق: حسين احمد صالح، السعودية - الجامعة الإسلامية، ط 1 - 1992 م، ح 829، 2 - 809.

108. القبانجي، السيد حسن، مسند الامام علي، تحقيق: طاهر السلامي، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2000 م، 4 - 475.

109. آل عمران: 14.

110. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 419.

111. النازعات: 40.

112. الحر العاملي (ت 1104 ه) وسائل الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت، قم - مؤسسة آل البيت، ط 2 - 1414 ه، ح 20216، 15 - 135.

113. الصدوق (ت 381 ه) معاني الأخبار تصحيح: علي اکبر الغفاري، قم - مؤسسة النشر الإسلامي، 1379 ه، ص 195

114. الريشهري، محمد، میزان الحكمة، قم - دار الحديث،، ط 1 - 1422 ه، ح 20503، 10 - 4399.

115. صبحي الصالح، نهج البلاغة، خ 176، ص 251.

116. الفكیكي، توفيق، الراعي والرعية، بغداد - مطبعة اسد، 1962 م، ص 62.

117. ارسطوطاليس، علم الاخلاق، نقله الى العربية: احمد لطفي السيد، القاهرة - دار الكتب المصرية، 1924 م، ص 316.

118. م.ن، ص 321

119. صبحي الصالح، خ 45، ص 417.

ص: 175

120. مریم: 96

121. ينظر: التستري، نور الله الحسيني المرعشي (ت 1019 م) احقاق الحق وازهاق الباطل 3 - 85

122. لسان العرب، مادة: ه وی، 51 - 4728.

123. الراغب، أبو القاسم الحسين بن محمد (ت 502 ه) المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سید گیلاني، بيروت - دار المعرفة، ص 548.

124. لتعریفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، 1 - 320، دار الكتاب العربي، بیروت، الطبعة الأولى، 1405 ه، تحقیق: إبراهيم الأبياري.

125. محمد نوح، آفات على الطريق 1 - 192.

126. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 529.

127. المؤمنون: 71

128. الفرقان : 43 - 44.

129. الآمدي، ناصح الدين أبو الفتح عبد الوحد (ت 550 ه) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، تدقيق: عبد الحسن دهيني، بيروت - دار الهادي، ط 1 - 1992 م، ص 48.

130. م.ن. ص 226.

131. م.ن. ص 430.

132. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 449.

133. شرح النهج 1 - 218.

134. محمد: 14

135. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 417.

136. لسان العرب 27 - 2479.

137. تاج العروس، 6 - 548.

ص: 176

138. معجم مقاییس اللغة ص 303.

139. مختار الصحاح ص 37،.

140. الفيومي، احمد بن محمد بن علي المقري (ت 770 ه) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مصر - مكتبة محمد عبد الواحد بك، ط 1 - 1322 ه، ص 132.

141. البقرة: 224

142. الأعراف: 56

143. يونس: 81

144. التوبة: 102

145. الأحزاب: 71.

146. محمد: 5

147. ابن باديس، عبد الحميد محمد الصنهاجي (ت 1359 ه) في مجالس التذكير من کلام الحكيم الخبير، تحقیق: احمد شمس الدين، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1416 ه، ص 73.

148. روح المعاني 7 - 482.

149. البرقوقي، عبد الرحمن (ت 1944 ه) شرح ديوان المتنبي، القاهرة - مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 119.

150. الرعد: 11.

151. الحديد: 27

152. تاج العروس 28 - 165

153. مختار ص 128؛ لسان العرب 17 - 167؛

154. المصباح المنير ص 356.

155. الكليات ص 484.

ص: 177

156. لسان العرب 17 - 1678.

157. الكافي: الكليني، محمد بن یعقوب (ت 329 ه) اصول الكافي، بيروت - منشورات الفجر، ط 1 - 2007 م، 2 - 117.

158. شرح نهج البلاغة 2 - 189 - 190.

159. هو طبيب ومؤرخ فرنسي، عمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الانثروبولوجيا، وعني بالحضارة الشرقية. من أشهر آثاره: حضارة العرب وحضارات الهند.

160. لوبون، غوستاف (ت 1931 م) روح الاجتماع، ترجمة: احمد فتحي زغلول، مصر - دار الجماهير، 1909 م، ص 12.

161. م.ن.

162. آل عمران: 159

163. التوبة: 128

164. صبحي الصالح، نهج البلاغة خطبة 97، ص 141.

165. م.ن.ص، 383.

166. الريشهري، محمد، میزان الحكمة، قم - دار الحديث، ط 1 - 1422 ه، 4 - 1838.

167. الواسطي، كافي الدين ابي الحسن (ق 6 ه) عيون الحكم والمواعظ، تحقیق: حسين الحسني، قم - دار الحديث، ط 1 - د.ت، ص 263.

168. م.ن.ص 227.

169. غرر الحكم ص 341.

170. شرح النهج 17 - 32.

171. الحجرات: 13

172. الغدير، 6 - 225؛ الألباني، أبو عبد الحمن محمد ناصر الدين (ت 1420 ه)

ص: 178

سلسلة الاحاديث الصحيحة، الرياض - مكتبة المعارف، ط 1 - 1996 م، ح 3700، 6 - 449

173. أبو داود، سلیمان بن الاشعث (ت 275 ه) سنن ابي داود، تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت - المكتبة العصرية، ح 5116، 4 - 331.

174. شرح نهج البلاغة، 17 - 30.

175. ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن یزید (ت 273 ه) سنن ابن ماجة، تحقیق: محمد فؤآد عبد الباقي، بيروت - دار احياء الكتب العربية، ح 4251، 2 - 1420.

176. غرر الحكم رقم 242، ص 111.

177. غرر الحکم، ص 234.

178. غرر الحكم رقم 42، ص 76.

179. شرح النهج 17 - 33.

180. م.ن.

181. ميكافيلي، كتاب الأمير، ترجمة: اکرم مؤمن، مكتبة ابن سینا، ص 89

182. م.ن. ص 90.

183. م.ن. ص 91.

184. شرح النهج 17 - 113.

185. غرر الحكم رقم 16 ص 149

186. سنن ابي داوود ح 4784، 4 - 249.

187. میزان الحكم 2 - 501

188. تحف العقول ص 14

189. غرر الحكم رقم 13 ص 204.

190. میزان الحکم 2 - 150

ص: 179

191. البخاري، محمد بن إسماعيل (ت 256 ه) صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر، ط 1 - 1422 ه، ح 6114، 8 - 28؛ مسلم بن الحجاج (ت 261 ه)، صحیح مسلم، تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت - دار احیاء التراث العربي، ح 2609، 4 - 2014.

192. المودودي، أبو الأعلى، الخلافة والملك، تعريب: احمد المدرس، الكويت - دار القلم، ط 1 - 1978 م، ص 69.

193. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 189.

194. شرح نهج البلاغة، 17 - 48.

195. شمس الدین، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، بيروت - دار الزهراء، ط 2 - 1972 م، ص 29.

196. ينظر: م.ن.

197. شرح شرح نهج البلاغة، 17 - 70

198. الحميري، عبد الله بن جعفر القمي (ت 300 ه) قرب الاسناد، تحقیق: مؤسسة آل البيت، قم - مهر، ط 1 - 1413 ه، ص 138.

199. شرح نهج البلاغة، 17 - 70

200. أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 183 ه) كتاب الخراج، بيروت - دار المعرفة 1979 م، ص 16.

201. م.ن.

202. شرح نهج البلاغة، 17 - 83.

203. بن حمدون، محمد بن الحسن بن محمد بن علي (ت 562 ه) التذكرة الحمدونية، بيروت - دار صادر، ط 1 - 1417 ه، 1 - 323.

204. م.ن.

ص: 180

205. شرح شرح نهج البلاغة، 17 - 83.

206. م.ن

207. شرح نهج البلاغة، 17 - 85

208. م.ن

209. م.ن.

210. م.ن.

211. شرح نهج البلاغة، ص 87

212. المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت 975 ه) کنز العمال، تصحيح: صفوة السقا، بيروت - مؤسسة الرسالة، ط 5 - 1985، ح 16682، 6 - 492.

213. میزان الحکمة، ح 15991، 8 - 3229.

214. م.ن، ح 15993، 8 - 3229

215. القبانجي، مصدر سابق، 9 - 308.

216. محمد مهدي شمس الدين، مصدر سابق، ص 390

217. يُنظر: م.ن، ص 57.

218. شرح نهج البلاغة، 17 - 49.

219. شرح نهج البلاغة، 17 - 51.

220. م.ن

221. م.ن

222. م.ن

223. م.ن. ص 75.

224. م.ن.

225. السخاوي، محمد عبد الرحمن (ت 902 ه) المقاصد الحسنة، تحقيق: محمد عثمان

ص: 181

الخشن، بيروت - دار الكتاب العربي، ط 1 - 1958 م، ح 142، ص 134.

226. م.ن. ص 135.

227. ابن شبة، عمر بن شبة بن عبيدة (ت 262 ه) تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، 1399 ه، 2 - 706؛ ابن حجر، احمد بن علي (ت 852 ه) فتح الباري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، 8 - 67.

228. شرح نهج البلاغة، 17 - 58

229. م.ن.، 17 - 59.

230. م.ن.، 17 - 60.

231. صبحي الصالح، نهج البلاغة الرسالة 62، ص 452.

232. ابن تيمية، احمد بن عبد الحليم، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط 1 - 1986 م، 6 - 356.

233. شرح نهج البلاغة 17 -68.

234. صبحي الصالح، نهج البلاغة، ص 377.

235. م.ن. ص. 189.

236. م.ن. ص 488.

237. السواد: أراضي وقرى العراق وضياعها، سمّي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار، معجم البلدان 3 - 272.

238. العذيب: ماء لبني تميم، وهو أوّل ماء يلقاه الإنسان بالبادية إذا سار من قادسية الكوفة يريد مكّة (تقويم البلدان 79)

239. بهقباذ: من أعمال سقي الفرات (معجم البلدان 1 - 516)

240. اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب (ت 284 ه) تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبد الأمير مهنا، بيروت - شركة الاعلمي، ط 1 - 2010 م، 2 - 109.

ص: 182

قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1 - أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه) معجم مقاییس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، بيروت - دار الفكر، 1979 م.

2 - ارسطوطاليس، علم الاخلاق، نقله الى العربية: احمد لطفي السيد، القاهرة - دار الكتب المصرية، 1924 م.

3 - الألباني، أبو عبد الحمن محمد ناصر الدين (ت 1420 ه) سلسلة الاحاديث الصحيحة، الرياض - مكتبة المعارف، ط 1 - 1996 م.

4 - الامدي، ناصح الدين أبو الفتح عبد الوحد(ت 550 ه) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم، تدقيق: عبد الحسن دهيني، بيروت - دار الهادي، ط 1 - 1992 م.

5 - الامين، محسن، اعیان الشيعة، تحقیق حسن الأمين، بيروت - دار التعارف، 1983 م

6 - الاميني، عبد الحسين احمد، الغدير في الكتاب والسنة والادب، بيروت - الاعلمي، ط 1 - 1994 م.

7 - ابن باديس، عبد الحميد محمد الصنهاجي (ت 1359 ه) في مجالس التذكير من کلام الحكيم الخبير، تحقیق: احمد شمس الدین، بیروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1416 ه.

8 - البحراني، السيد هاشم (ت 1109 ه)، بغية المرام وحجة الخصام، تحقيق: علي عاشور، بيروت - مؤسسة التاريخ العربي، ط 1 - 2001 م.

9 - البخاري، محمد بن اسماعیل (ت 256 ه) صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، ط 1 - 1422 ه.

10 - البرقوقي، عبد الرحمن (ت 1944 ه) شرح ديوان المتنبي، القاهرة - مؤسسة

ص: 183

هنداوي للتعليم والثقافة

11 - ابوالبقاء، أيوب بن موسی الحسيني (ت 1094 ه) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، بيروت - مؤسسة الرسالة.

12 - البلاذری، احمد بن يحيی (ت 279 ه)، انساب الاشراف، تحقیق: سهیل زکار ورياض زرکلی، بیروت، دار الفكر، ط 1 - 1996 م.

13 - الترمذي، محمد بن عیسی (ت 279 ه) سنن الترمذي، تحقيق: احمد محمد شاكر وآخرون، مصر - مصطفى البابي الحلبي، ط 2 - 1975 م.

14 - التستري، نور الله الحسيني المرعشي (ت 1019 م) احقاق الحق وازهاق الباطل.

15 - التهانوي، محمد بن علي ابن القاضي محمد (ت بعد 1158 ه) موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقیق: علي دحروج، بیروت - مكتبة لبنان ناشرون، ط 1 - 1996 م.

16 - ابن تيمية، احمد بن عبد الحليم، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط 1 - 1986 م.

17 - الثعلبي، أبو اسحق احمد (ت 427 ه) الكشف والبيان، تحقيق: محمد بن عاشور، بيروت - دار احیاء التراث العربي، ط 1 - 2002 م.

18 - الثقفي، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد (ت 283 ه) الغارات، تحقيق: عبد الزهراء الحسيني، بيروت - دار الأضواء، ط 1 - 1987 م.

19 - الجرجاني، علي بن محمد (ت 816 ه) معجم التعريفات، تحقیق: محمد صديق المنشاوي، القاهرة - دار الفضيلة.

20 - الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه) تاج اللغة وصحاح العربية، تحقیق: احمد عبد غفور عطار، بیروت - دار العلم للملايين، ط 2 - 1979 م.

ابن حجر، احمد بن علي العسقلاني (ت 852 ه):

ص: 184

21 - الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت - المكتبة العصرية، ط 1 -1433 ه.

22 - فتح الباري، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية.

23 - ابن ابي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه) شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت - دار احياء الكتب العربية، ط 2 - 1965 م.

24 - الحر العاملي، محمد بن الحسن (ت 1104 ه) وسائل الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت، قم - مطبعة - مهر، ط 2 - 1414 ه.

25 - العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726 ه) خلاصة الاقوال، تحقيق: جواد القيومي، قم - نشر الفقاهة، ط 4 - 1431 ه.

26 - ابن حمدون، محمد بن الحسن بن محمد بن علي (ت 562 ه) التذكرة الحمدونية، بيروت - دار صادر، ط 1 - 1417ه.

27 - الحميري، عبد الله بن جعفر القمي (ت 300 ه) قرب الاسناد، تحقيق: مؤسسة آل البيت، قم - مهر، ط 1 - 1413 ه.

28 - ابن حوقل، كتاب صورة الأرض، بيروت: مكتبة الحياة، 1992.

29 - ابن خلدون، عبد الرحمن (ت 808 ه) تاريخ ابن خلدون، بيروت: دار الفكر، 2000.

30 - ابوداود، سلیمان بن الاشعث (ت 275 ه) سنن ابي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت - المكتبة العصرية.

31 - الدبيسي، محمد، التقوى في القرآن الكريم، القاهرة - دار المحدثين، ط 1 - 2008 م.

32 - الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 ه) الاخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، القاهرة - دار احياء الكتاب العربي، ط 1 - 1960 م.

33 - الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 ه) سير اعلاء النبلاء، تحقيق: شعیب الارنؤوط، بيرةت - مؤسسة الرسالة، ط 2 - 1982 م.

ص: 185

34 - الرازي، زين الدين أبو عبد الله محمد بن ابي بكر (ت 666 ه) مختار الصحاح، بيروت - مكتبة لبنان، 1989 م.

35 - الرازي، محمد فخر الدين (ت 604 ه) تفسير الفخر الرازي، بيروت - دار الفكر، ط 1 - 1981 م.

36 - الراغب، أبو القاسم الحسين بن محمد (ت 502 ه) المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد کيلاني، بيروت - دار المعرفة.

37 - الراوندي، سعید بن هبة الله (ت 573 ه) منهاج البراعة، تحقيق: عبد اللطيف الكوهكمري، قم - مطبعة الخيام، 1406 ه.

38 - ابن رجب، زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن (ت 795 ه) جامع العلوم والحكم، تعلیق ماهر یاسین، بیروت - دار ابن كثير، ط 1 - 2008.

39 - الريشهري، محمد، میزان الحكمة، قم - دار الحديث،، ط 1 - 1422 ه.

40 - الزبيدي، محمد بن محمد بن عبد الرزاق (ت 1205 ه) تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق: مجموعة من المحققين، بيروت - دار الهداية.

41 - السخاوي، محمد عبد الرحمن (ت 902 ه) المقاصد الحسنة، تحقيق: محمد عثمان الخشن، بیروت - دار الكتاب العربي، ط 1 - 1958 م.

42 - ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري (ت 230 ه)، الطبقات الکبری، بیروت، دار صادر، 1957 م.

43 - ابن شبة، عمر بن شبة بن عبيدة (ت 262 ه) تاريخ المدينة، تحقیق: فهیم محمد شلتوت، 1399 ه.

44 - شمس الدین، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، بيروت - دار الزهراء، ط 2 - 1972 م

45 - ابن شهراشوب، أبو جعفر محمد بن علي (ت 588 ه) مناقب آل أبي طالب، تحقیق

ص: 186

: يوسف البقاعی، بیروت - دار الأضواء، ط 2 - 1412 ه.

46 - الشيرازي، ناصر مکارم، نفحات الولاية، اعداد: عبد الرحيم الحمراني، قم - سلیمانزاده، ط 2 - 1426 ه.

47 - الصالح، صبحي، نهج البلاغة، القاهرة - دار الكتاب المصري، ط 4 - 2006 م.

الصدوق، ابو جعفر محمد بن علي (ت 381 ه):

48 - معاني الأخبار تصحيح: علي اکبر الغفاري، قم - مؤسسة النشر الإسلامي، 1379 ه.

49 - کتاب الخصال، صححه: علي اکبر الغفاري، قم - الحوزة العلمية.

50 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بیروت مؤسسة الإعلمي، ط ا - 1997، 6 - 128.

51 - الطبري، محمد بن جریر (ت310 ه) تاريخ الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر - دار المعارف، ط 2.

52 - العاملي، جعفر مرتضی، الصحیح من سيرة الامام علي، المركز الإسلامي للدراسات، ط 1 - 2009 م.

53 - عبد الحميد، محمد محيي الدين، المختار من صحاح اللغة، القاهرة - المكتبة التجارية

54 - ابن عساکر، ابو القاسم علي بن الحسن (ت 571 ه) تاريخ مدينة دمشق، تحقیق: محب الدين العمري، بيروت - دار الفكر، 1995 م.

55 - العسكري، مرتضی، معالم امدرستين، القاهرة - مكتبة مدبولي، ط 5 - 1993 م.

56 - المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت 975 ه) کنز العمال، تصحيح: صفوة السقا، بيروت - مؤسسة الرسالة، ط 5 - 1985.

57 - العقاد، عباس محمود، شخصيات إسلامية، بيروت - دار الكتاب العربي.

58 - الفكیكي، توفيق، الراعي والرعية، بغداد - مطبعة اسد، 1962 م.

ص: 187

59 - الفيومي، احمد بن محمد بن علي المقري (ت 770 ه) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مصر - مكتبة محمد عبد الواحد بك، ط 1 - 1322 ه.

60 - القبانجي، السيد حسن، مسند الامام علي، تحقيق: طاهر السلامي، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2000 م.

القمي، عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم (ت 1359 ه):

61 - منازل الاخرة، ترجمة: حسين كوراني، سوريا دار التعارف، 1993 م.

62 - سفينة البحار، قم - دار الاسوة، ط 2 - 1416 ه.

63 - الكافي: الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه) اصول الكافي، بيروت - منشورات الفجر، ط 1 - 2007 م.

64 - ابن كثير، ابي الفداء اسماعيل (ت 774 ه) البداية والنهاية، تحقيق: محيي الدین ادیب، بيروت - دار بن كثير، ط 2 - 2010 م.

65 - اللحجي، عبد الله بن سعيد محمد (ت 1410 ه) منتهى السؤل، جدة - دار المنهاج.

66 - لوبون، غوستاف (ت 1931 م) روح الاجتماع، ترجمة: احمد فتحي زغلول، مصر - دار الجماهير، 1909 م.

67 - ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت 273 ه) سنن ابن ماجة، تحقيق: محمد فؤآد عبد الباقي، بيروت - دار احياء الكتب العربية.

68 - المامقاني، عبد الله (ت 1351 ه) تنقيح المقال في علم الرجال، تحقيق: محيي المامقاني، قم - مؤسسة آل البيت، ط 1 - 1423 ه.

69 - المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت 975 ه) كنز العمال، تصحيح: صفوة السقا، بيروت - مؤسسة الرسالة، ط 5 - 1985.

70 - مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 4 - 2004 م.

71 - محمد نوح، آفات على الطريق.

ص: 188

72 - مسلم بن الحجاج (ت 261 ه)، صحیح مسلم، تحقیق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت - دار احیاء التراث العربي.

73 - مطهري، مرتضي، في رحاب نهج البلاغة، بيروت - الدار الإسلامية، ط 1 - 1992 م

74 - الحائري، أيوب، قبسات من نهج البلاغة.

الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري (ت 413 ه):

75 - الامالي، دار التيار الجديد.

76 - الجمل، ط 1 - 1403 ه.

77 - الإختصاص، تحقیق: علي اکبر غفاري، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2009 م

78 - ابن منظور، لسان العرب، تحقیق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة - دار المعارف.

79 - المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه) وقعة صفين، تحقیق: عبد السلام هارون، بيروت - دار الجيل، 1990 م.

80 - المودودي، أبو الأعلى، الخلافة والملك، تعريب: احمد المدرس، الكويت - دار القلم، ط 1 - 1978 م

81 - ميكافيلي، كتاب الأمير، ترجمة: اکرم مؤمن، مكتبة ابن سينا.

82 - النيشابوري، محمد بن الفتال (ت 508 ه) روضة الواعظين، تحقیق غلام حسین المجيدي، قم - مطبعة نكارش، ط 1 - 1423 م.

83 - هيثمي، نور الدين علي بن سليمان (ت 807 ه) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، تحقیق: حسين احمد صالح، السعودية - الجامعة الإسلامية، ط 1 - 1992 م.

84 - الواسطي، كافي الدين أبي الحسن (ق 6 ه) عيون الحكم والمواعظ، تحقیق: حسين الحسني، قم - دار الحديث، ط 1 - د.ت.

85 - الواقدي، عمر بن واقد (ت 207 ه) فتوح الشام، تصحیح: عبد اللطيف عبد

ص: 189

الرحمن، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1997 م.

86 - الالوسي، شهاب الدين السيد محمود (ت 1270 ه) روح المعاني، تحقيق: علي عبد الباري عطية، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1415 ه.

87 - یاقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبدالله (ت 226 ه) معجم البلدان، بیروت - دار صادر، 1956 م.

88 - اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب (ت 284 ه) تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبد الأمير مهنا، بیروت - شركة الأعلمي، ط 1 - 2010 م.

89 - ابو يوسف، يعقوب بن إبراهيم (ت 183 ه) كتاب الخراج، بيروت - دار المعرفة، 1979 م.

ص: 190

الإمام علي (عليه السلام) يؤسس لأول دولة مدنية المبادئ والحريات والحقوق الإنسانية

اشارة

رسول عبد الزهرة النعمة

مدير منظمة طوى للتنمية وحقوق الانسان

ص: 191

ص: 192

مشكلة البحث:

يعالج موضوعة وضع الإسلام في اطر كلاسيكيه من قبل الجماعات المتطرفة وتسليط الضوء على الأنموذج الناصع الذي يعطي انطباع حقيقي عن جوهر الرسالات السماوية وعدم إغفالها حقوق الانسان وفي مشروع أول دوله مدنيه تبناها الإمام علي (عليه السلام).

فرضية البحث:

تقديم دراسة عقلائيه بما يتلاءم مع تطلعات الانسان المعاصر واثبات بالحجة والمصدر الموثوق ان أمير المؤمنين (عليه السلام) سبق الجميع في تطبيق حقوق الانسان حيث مثل الحاكم العادل والمؤسس للصبغة الإنسانية التي مثبت خلاقه السماء بحق.

مخطط البحث:

يقع البحث بفصلين الاول في مشروع الدولة المدنية:

1. المبحث الاول تمهيد.

2. المبحث الثاني أسس الدولة المدنية.

3. المبحث الثالث ملامح المدنية الجديدة.

4. المبحث الرابع مشروع السجون الإصلاحية.

5. المبحث الخامس الحكم الديمقراطي الإسلامي.

الفصل الثاني الحقوق والحريات في عهد الإمام علي:

1. المبحث الاول مدخل للحقوق والحريات وهي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

2. المبحث الثاني التعددية وقبول الآخر.

3. المبحث الثالث في حرية التعبير عن الرأي

ص: 193

4. المبحث الرابع في حق المعتقد.

5. المبحث الخامس العدالة الاجتماعية.

6. المبحث السادس في حقوق المرأة وحقوق أخرى.

7. المبحث السابع في الخاتمة.

تقدمة

الحمد لله رب العالمين وأتم الصلاة والتسليم على نبيه محمد واله الطيبين الطاهرين، وبعد:

من رحم البداوة والصحراء والوحشية والجهل والتعصب ولدت الرسالات والإنسانية متمرده على تلك البيئة القاسية والقلوب الغليظة لترسم للإنسان حقوقه بكل معاني المحبة والسلام والقوة في اخذ حقوق الفقراء وقد تمثلت بشخص علي ابن أبي طالب (عليه السلام) رجل العدالة والمبادئ السامية لعكس صورة طبق الأصل عن جوهر الإسلام الذي أرسلته السماء وتغذاه من خلق محمد الصادق الأمين (صلى الله عليه واله وسلم) خاتم الرسل السماوية ومتلازمته معه، لم تك الفطرة السليمة والأرحام المطهرة هي فقط من أوجدت هذه الشخصية المعطاء وإنما امتناعه عن كل ما كان يقوم به ذلك المجتمع المتخلف والمتوارث بالجهل والعادات السيئة والقديمة، فنشئ وهو يمقت كل ما يراه من ظلم وتفرقة وتشضي وقد ازدادت حكمته وتنامت إنسانيته وهو يرى البؤس والشقاء، فطهر لسانه وقوى ساعده بوجه الظلم والقبلية فمن هنا بدأت قصة الإصلاح تتنامى قبل تولي علي (عليه السلام) عرش الحكم فقد احترم الرأي الآخر ولم يشق جموع المسلمين حتى في موعد الشروع بواجبة المرصود والمقدس إلى ان سنحت له الفرصة ليطرز أرقى معاني الجمال من احترام الرعية والعطف على الأيتام والدفاع عن

ص: 194

المرأة والإنسان بكل اختلافاته فلا يوجد في التاريخ من يسجل عليه فساد أو ظلم نزولا إلى ولاته وعماله وكانت كلماته نهج مصنف للحقوق وتبيان لكل المفاهيم والنظم القيمة والطروحات البناءة فلم يشبع بطنا ولا يجلس مكتوف اليدين في قصر منيف وإنما يستمر بمتابعاته الرعية وكان مساره في تحقيق أسس حقوق الانسان ومشروع أول دوله مدنيه استمدت مقتنياتها من دوله الإسلام الأولى للرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) لتصل للخلافة الحقيقية التي صرحت بها السماء حيث عمل على استحداث المؤسسة بحسب العصر الجديد فكان بناء السجون الإصلاحية وتبني ثقافة الحوار واحترام المعتقدات غير الاسلاميه هي السياسة السائدة في دولته كما وقد اخذ مفهوم حقوق الانسان تطبقيه في فلسفه الإمام علي (عليه السلام) بطريقتين: الأولى جمعت في نهجه التوعوي إي بالحكم والإرشادات والكلمة المعبرة والمنحى الثاني كانت بالتطبيق العملي وهي التعامل مع الرعية والعمال بشكل ينسجم مع ما يتطابق مع مفاهيم حقوق الانسان المعاصرة.

ص: 195

الفصل الاول: أسس الدولة المدنية

تمهيد

لا يخفى علينا ان فجر الرسالة الإسلامية الذي جاء بمشروع سماوي خلص الانسان من الاستعباد والفوضى والقبلية وساوى بين كل الأصناف، الحر والعبد والرجل والمرأة معبرا بذلك بدستور سماوي اسمه القرآن الكريم كان رسالة كبيرة ومنعطف واعد في تاريخ البشرية، من الصعب توقف مسارها أو تلكئها، كما وان الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) كان يستن الأحاديث والمواقف الآنية التي يعالج بها كل مستحدث بما يتلاءم مع ما يريده الله جل شأنه للإنسانية إي وفق المعايير الدينية المنصوصة حيث لم تكن هناك دساتير تنظم حياة البشرية فكان الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) هو المنظم لذلك وهذا معروف أكيدا، الا إننا ما أردنا ان نوضحه في هذه العجالة ان مسيرة الإمام علي عليه السلام مع الرسول وشهادته لهذه البادئة الرسالي وما تلا الرسول من خلافة أصحابه جعلت الإمام علي إمام موقف تاريخي مهم وهو كيفيه صناعه إطار مدني يترج مع وضع الانسان المدني المعاصر فقد أصبح لزاما عليه استخدام قوالب جديدة في الدولة والحكم تتماشى مع العقلية الجديدة مستفيدا من أخطاء من سبقوه ورد فعل الانسان المختلف، إي بمعنى تبنى مفاهيم إنسانيه جيدة تسهم في قبول الآخر وتلاءم الجميع وترجع الإسلام إلى مساره الحقيقي الذي عرفه من متلازمته مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) وتشربه بإيمانه الصادق والذي نمت هذه الشخصية العظيمة منه إلى ان قال حبر ألامه ابن عباس لو ان الشجر أقلام والبحر مداد والإنس والجن كتاب وحسًاب ما أحصوا فضائل أمير المؤمنين(1)، من هنا كان من الواجب الوقوف

ص: 196

عند هذه الشخصية والتعرف على منجزاتها سيما وان الرسول الأكرم نفسه قال فيه يوم برز لعمرو ابن عبد ابن ود العامري ((خرج الإيمان كله إلى الشرك كله))(2) هذه هو من يحمل الصورة الناصعة والصادقة للإسلام الذي قام الكثيرين بتشويهه.

أسس الدولة المدنية

من اثر تربيته الإمام علي على يدي الرسالة السامية التي تبناها خاتم الرسل محمد (صلی الله عليه واله وسلم) كان جل ما يطمح إليه عليّ (عليه السلام) إقامة دولة إسلامية عادلة راشدة حدد معالم أسسها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ الأيام الأولى لاستلامه الخلافة، وكان أول أسسها وصيته لرجالاته الذين كلفهم بقيادة أمور المسلمين في الأمصار، كوصيته (لمالك بن الأشتر) عندما ولاه مصر، هذه الوصية التي اعتبرت منعطف تاريخي لدى الكثير من السياسيين ووثيقة لمشروع تأسيس دولة مدنية معاصرة تحترم الجميع وأن رؤيته لمفهوم الدولة بصيغتها العقلانية المطروحة في (وصية الأشتر) تجلت كرؤية دولتيه عقلانية منذ اليوم الأول لوفاة الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وأثناء حادثة السقيفة التي ترك فيها صحابة الرسول (عليه الصلاة والسلام) على فراش الموت مع علّيَ وأهله، راحوا يتفاوضون ويتبايعون على الخلافة، بغض النظر هنا عن النيات الحسنة أو السيئة لمن تواجد في السقيفة آنذاك وراح يفاوض في أمور السلطة، مثلما تجلت أيضا عبر حكم أبو بكر وعمر وعثمان كما سمي، حيث كان عليّ المرجع الحكيم الذي كثيرا ما لجأ إليه الحكام لاستشارته عند الضرورات من أمور سياستهم لشؤون الدولة ثم سارت باعتراضاته على بعض الأحكام وتصحيحاته الدائمة للدولة وهو يمثل دور الناشط المدني والسياسي الذي يمتاز بالموقف والاهتمام حينها كان يمثل (عليه السلام) المنظمة المدنية التي ترجع الدولة له في العديد من الاستشارات والمواقف وصاحب الدراية المتكاملة وقد اكتشف نقاط الخلل واضعا في نضره مدنية

ص: 197

الرسول الأكرم الأساس الصلب التي كان من معالمها وثيقة المدينة واللبن الإدارية الأولى في المنطقة.

ملامح المدنية الجديدة

ان أول ملامح الدولة المدنية المعاصرة التي أسسها الإمام علي (عليه السلام) هي ترك كل ما يشوب حياة الانسان المدني المعاصر ومن ذلك إيقاف الفتوحات والتوسعه في الدولة الإسلامية لوجهة نضر أو وجود مآخذ ترافق تلك الفتوحات قد تحدث في ظل حكومته يمكن ان تقاس بمقاسات أخرى تشبه العادات الجاهلية التي كانت تشوب حياة الانسان القديم ومنه العربي خصوصا كالسلب والنهب والغنائم والسبايا وضعها ضمن خراج الدولة أو ما تسمى بالواردات في العصر الحديث أي انه جمد هذا المشروع ليبدأ بإعادة صقل وإصلاح ما موجود وكان كفيل بنجاح فكرة التكافل الاجتماعي والتي تزينت بها معاجم الكتب والسير وهي انه وجد سائل فتعجب في حكومته فقيل هذا غير مسلم وأمر بصرف راتب له إذن كان يتعامل مع الانسان بشكله لا نوعه بالإضافة إلى موضوعنا وهو ان تعجب بوجود متسول أي انه وفق في مشروعه الاقتصادي حتى ذكر أصحاب السير انه استطاع ان يسيطر على توازن الأسعار في السوق وخلق مساواة في المتاجر بطريقه اقتصادیه اعتمدها بدون اللجوء للقوة والتشريع الا وهي الإشراف المباشر من قبل الدولة على التجارة بل وما يهمنا هنا هو كلمته المشهورة وهي انثروا القمح على اسطح الجبال وهي تقودنا إلى جانبين مهمين الا وهما هو وصول الدولة إلى مرحله من الاكتفاء والاستقرار الاقتصادي والنوعي بشكل ملحوظ والجانب الأخر هو اهتمامه قد تعدى الانسان وهذا من أهم المفاهيم والقيم المعاصرة بل وتعداها بجدارة وليس باللوائح والمآثر الكلامية وإنما بالتطبيق الميداني برعاية حقوق الحيوان كذلك.

ص: 198

مشروع السجون الإصلاحية

من المؤكد ان فكرة السجون هي بحد ذاتها تعتبر موقع تعذيب وانتقام أو مصادرة رأي أو تغييب من اتهم أو ثبت عليه جرم أو جنحة موجهه الا ان الإمام علي (عليه السلام) اعتمدها كإصلاحيات للمجرمين والمذنبين بحق المظالم أي هم الأشخاص الخطرين والمجرمين بحق الناس باختلاف أنواعهم أي هم ليسوا سجناء رأي أو أعداء للسلطة ولا يوجد أي مصدر تاريخي يشوب ذلك بالعكس وسنتناول هذا الموضوع في المبحث الثاني بالأحداث التاريخية ان الأمام علي قد وردت عشرات القصص على من يكيل عليه التهم والسب وأمام الناس وفي السوق وفي المسجد وهو يخطب دون ان يأمر باعتقاله معبرا عن فكره الديمقراطي المعاصر ومحترما لكل رأي مختلف وان كان هذا الشخص عليه شائبة، كان علي (عليه السلام) ملتزما بجميع الضمانات الإنسانية للسجناء. فكان يخرج فئات من أهل السجن ليشهدوا الجمعة بشروط معينة ثم يعيدهم(3).

وفي الموضوع ذاته انه قام بتقنين مادة في دستوره تنهى عن الأخذ بالأقوال التي تنتزع تحت التعذيب كان نصها: (من اقر عن تجريد أو حبس أو تخويف أو تهديد فلا حد عليه(4)).

حيث ان فكرة السجن كمؤسسة إصلاحية علاجية تأهيلية لم تتبلور في الفكر القانوني الإنساني المعاصر إلا بعد مخاضٍ طويل، غير أنها وجدت تطبيقاً لها في بدايات الدولة الإسلامية، ولاسيما في فكر الفقيه الكبير والمفكر العظيم علي بن أبي طالب (عليه السلام) على نحوٍ سبق فيه الأفكار الحديثة بمئات السنين، وانه ما كان يبقي أحدا في السجن دون حق فقد كان يعرض السجون كل يوم جمعة، فمن كان عليه حد أقامه عليه ومن لم يكن عليه حد خلى سبيله(5) وعلى ذلك سنتولى عرض فكرة السجن الإصلاحي في الفكر القانوني الإنساني أولاً، وفي الفكر الإسلامي الذي يمثله الإمام (عليه السلام)

ص: 199

ثانياً، إما موضوعه السجن بشكل عام قبل وبعد الإمام علي كان هدف السجن في العصور القديمة: ويتمثل بالهدف من العقوبة ذاتها وهو الانتقام من الجاني وتعذيبه، إما هدف السجن في العصور الوسطى فالسجن في هذه الفترة يوافق أفكار الكنيسة حول العقوبة والذي تمثل بتطهير المجرم من الذنوب والخطايا من خلال الاقتصاص التطهيري، فعقوبة السجن لم تكن تستهدف سوى الانتقام والإرهاب بداعي تطهير المجرم لان هدف العقوبة كان آنذاك هو الردع فقط دون الإصلاح، لذا نجد أن السجون كانت عبارة عن قلاع أو حصون قديمة يودع المجرمون فيها بسراديب مظلمة مكبلين بالسلاسل مع التعذيب وإجبارهم على القيام بأعمال السخرة(6) الا ان السجون في فلسفة علي ((أي دوله المدنية الإسلامية الحقيقية)) كان لا يسجن الشخص الا بعد معرفة الحق وإنزال الحدود لان الحبس بعد ذلك ظلم (عليه السلام) كما ذكرنا والسجون (7) هي إصلاحيات تنوب عن أحكام قديمة وتم توقيف الأحكام القديمة والتقليل منها وهي الرجم والتعزير والجلد وقطع اليد وما إلى ذلك الا ان الملاحظ ان التعامل مع المواقف يكون بحسب الحالة فإذا كان يمكن إصلاحها بالسجون كان اختيارها أولى وهذا وما يؤيد بطلان الفكرة التي تعتمدها بعض الجهات المتخلفة التي تلسق نفسها بالإسلام معتبرة ان هذه الوسائل العقابية هي الوحيدة التي لا تستحدث بحسب التطبيق القديم للمشرع الإسلامي وعلى ذلك يمكن القول أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو أول من وضع قواعد الحد الأعلى وليس الأدنى لمعاملة المسجونين وتنظيم السجون باعتبارها مؤسسة إصلاحية تأهيلية علاجية، ثم انتشرت بعد ذلك فكرة السجون في الدولة الإسلامية وخاصة في العهدين الأموي والعباسي غير أن الغاية منها قد ابتعدت عن الإصلاح والتأهيل والتهذيب لتتحول إلى التنكيل والانتقام من السجناء، ولم يطبق الفكر الإصلاحي للسجن إلا في عهد الخلفية عمر بن عبد العزيز، الذي أكد في كتبه إلى عماله ما جاء به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) (8) هناك حقيقة واضحة

ص: 200

لا غبار عليها وهي أن الإسلام يعد المنبع الرئيس لكل النظريات التي تهدف إلى حفظ حقوق وحريات الإنسان وصيانة كرامته بما هو إنسان وان كان مجرماً، لذلك اهتم الفقه الإسلامي بالسجن والسجين، ومن الملاحظ أن لفظة السجن كمؤسسة عقابية وكعقوبة قد وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف في ثمانية مواضع، والسجن كعقوبة وان عرف في زمان الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير انه لم يكن هناك مكان يحبس فيه الشخص المجرم، فكان الحبس يتم أما بساحة المسجد النبوي أو في الدهاليز أو في البيوت ومنها بیت المضرور وجدير بالذكر أن السجن لم يكن سوى عقوبة من نوع التعازير وليست من نوع الحدود أو القصاص أو الديات وظل عدم وجود مكان معين يحبس فيه الأشخاص وهذا ما لا يخفى على الجميع من موضوع الأسرى من الحروب وهاتيك الموضوعات (9) وكانت أصلا بداية فكرة السجون بحسب المؤرخين حينما تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة اهتم بالسجن أیَّما اهتمام فبني سجناً في الكوفة من قصب وسماه (نافعاً) فنقبه اللصوص وهربوا منه، ثم بني سجناً آخر من مدر وسماه (مخیساً) وتلاحظ النزعة الإصلاحية لهذين السجنين من اسميهما فالسجن الأول اسمه (نافع) والنفع ضد الضرر، أما الثاني فقد سماه (عليه السلام) مخيس والتخسيس يعني التليين والمرونة، هذا من حيث الاسم، أما من حيث المعاملة العقابية فقد عمد الإمام (عليه السلام) إلى وضع قواعد خاصة في معاملة المسجونين ترمي إلى الحفاظ على كرامة الإنسان بما هو إنسان أولاً وكونه مسلماً ثانياً. فنجد أن هناك عناية بالسجين من نواحي الجسد والروح والفكر، فكان الإمام علي (عليه السلام) يتابع طعامهم وشرابهم وكان يصرف لهم كسوة صيفية وأخرى شتوية وفي حال مرض احد السجناء فكان يعالج داخل المؤسسة العقابية وان لم يكن له خادم يقوم بخدمته قوَّم له واحداً، وان كان مرضه لا يرجى شفائه أو خطراً على حياته فينقل إلى بيته لعلاجه ومن ثم يصدر قراراً بإعفائه من مدة محكوميته، وكان يسمح للمسجونين بالخروج والمشي داخل المؤسسة العقابية،

ص: 201

بل نجد أن الإمام (عليه السلام) قد أقر للسجناء بحق الخروج لأداء صلاة الجمعة والعيدين، مع حق ذويهم وأهلهم في زيارتهم، ثم نجد أن الإمام (عليه السلام) قد أقر تعليم السجناء القراءة والكتابة والأحكام الدينية والعقائدية والمواظبة على ممارستها، ثم أكد على ضرورة معاملة السجناء (النزلاء) بالحسني من قبل القائمين على إدارة المؤسسة العقابية وذلك كله يتم تحت إشرافه ورقابته المباشرين، بل كان يوصي عماله في الأمصار الأخرى بذلك كله، هذا الفكر الإصلاحي أصبح نقطة الانطلاق فيما بعد للفكر الجنائي الإسلامي (والإنساني) عموماً في الاهتمام بالسجن والسجين (10).

أسس الحكم الديمقراطي الاسلامي

من أهم المفاهيم المعاصرة هو مفهوم الديمقراطية ولسنا هنا بصدد التعريفات الا ان جل ما نود الإشارة له هو ان حكم الإمام علي (عليه السلام) كان يمثل هذا النوع من الحكم بنضرة المستشرقين والباحثين بشكل عام وان لم يشيروا لهذا المصطلح بصورة مباشرة الا انه لا يوجد ذكر عكس ذلك وإنما احترام الحريات العامة هو السائد في نضر علي ومنها يقول الإمام (عليه السلام) في ذلك ضمن كلام واضح وجميل ((يا أيها الناس إن ادم لم يلد عبدا ولا امة، وان الناس كلهم أحرارا)) (11). وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) (الناس كلهم أحرارا، إلا من اقر على نفسه بالعبودية) ومن هذا وغيره ومن المبادئ التي أراد تحقيقها الإمام علي (عليه السلام) احترام الجميع وإرساء العدالة اللاهية وكفالته الشهيرة للأديان غير المسلمين وما يتعلق مباشرة بموضوع الأقليات وهو مبدأ المساواة بين البشر وهو ما يعزز المفهوم الديمقراطي للحياة العامة والسياسية. فموضوع الأقليات في العصر الحديث يجد إطاراً مرجعياً في مبدأ المساواة بالصيغة التي أشارت إليها حقوق الإنسان، واعتبرت لدى كثيرين مرجعاً عالمياً معاصراً لهذا المبدأ إلا انه يسهل القول بأن الإسلام سبق هذه الوثائق في تقرير جملة المبادئ التي تضمنتها حماية

ص: 202

لحق الإنسان في العيش الحر الكريم، وعلى رأس تلك المبادئ وأخصها مبدأ المساواة بين البشر. فالقرآن الكريم يشير إلى وحدة المنشأ للناس كافة عندما يخاطبهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثی) (12) کما إن الواقع العربي الذي عاشه العرب كمثال هو كأنموذج ساد الشرق الأوسط والعالم الثالث عامه حيث إن الأنظمة المبنية على مفاهیم عضوية قد فشلت بشكل كبير في توفير الرفاهية عبر ادعائها الديمقراطية (13) ولان المعايير المدنية مفتوحة على مصراعيها فقد يتبناها أي شخص أو مذهب فكري عکس الإسلام الذي يستمد جذوره من السماء وهذا التشخيص ينبغي ان لا يثير فينا الاستغراب (کون ان الإعلان الأصلي لحقوق الإنسان وضع عام 1948 يوم كان عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لا يتجاوز 56 عضوا معظمهم من الدول الغربية، يضاف إلى هذا ان اللجنة الخماسية التي وضعت الإعلان كان كل أعضائها من أصحاب النزعة الليبرالية.

ص: 203

الفصل الثاني: الحقوق والحريات في عهد الأمام علي عليه السلام

مدخل

ان جل ما يطمح له الإمام علي (عليه السلام) هو عالم مليء بالسلام والتسامح والحب والوئام ويحترم الانسان بذاته الطبيعية لا صفاته فيما انه استخدم النظام الإسلامي کدستور الهي متأصل لتوحيد الجهد البشري وفي الوقت الذي كان يتيح المعلومة والمعرفة والخزين العلمي الذي حصل عليه من فجر الرسالة ومعرفته العامة لطبيعة ذلك النوع من البشر ومتغيراتهم كان (عليه السلام) لا ينَضر فقط وإنما كان يطبق هذه المضمونات بشكل عملي وما أردنا الإشارة له في هذه العجاله ان مقتصر الحريات والمفاهيم المعاصرة التي تناولناها هي فقط من يكثر اللغط عنها في العصر الحديث وتمثل فيها الحريات فنحن لم نتطرق إلى كل مواد لائحة حقوق الانسان التي تضمنت 30 مادة فلا يهمنا أكثرها فهي حق الحياة والزواج والتنقل وهي بديهیه وإنما الحريات التي تتصدر المحافل والمنظمات والسياسات والمدافعين عن حقوق الانسان كالدفاع عن الطبقات الهشة والمهمشه وهي الأطفال والنساء والتعددية وحقوق الأقليات والعدالة الاجتماعية وقبول الأخر وحرية التعبير وما إلى ذلك والتي يمكن التعبير عن أكثرها بالاجتماعية والاقتصادية وقد تناولنا في هذا المبحث فقط ذات الأهمية كما ذكرنا وكيف ان الإمام علي قد تناولها في المجالين العملي والنظري.

ص: 204

التعددية وقبول الآخر

مع ان الإمام كان يرى انه الأحق بالخلافة بعد رسول الله وان الرسالة العظيمة التي صنعت منها السماء أعظم دوله في تاريخ البشرية لا يمكن ان تنتهي بوفاة النبي الأكرم دون ان تستمر برجل يراه مناسبا لإكمال المسيرة وعلى الرغم من كل ذلك فقد احترم رأي طيف من المجتمع ولم يشق صف المسلمين متقبلا للرأي الآخر، وإن أكثر ما اشتهر عن الإمام علي (عليه السلام) هو احترامه للجميع حتى انه أكرم السيدة عائشة خير إكرام رغم أنها البت عليه جموع المسلمين، ولم يقم بأي عمل ضدها بل هيأ لها حين انتهاء الحرب 20 خادمة يقمن بواجبها وكل الذي بدر منه عتاب في قول إذ قال لها (ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم وأبرزوك).(14)

وان أهم مثال لقبوله للتعددية هو عهده المالك الأشتر الذي أشار فيه :( إن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نضير لك في الخلق) (10) ما يعني أنه يقبل أي إنسان حتى وان لم يك مسلم ويوجه باحترامه وتقبله، وما دل على ذلك كذلك هو ساعه لصوت الناقوس في الكنائس والأديرة وهم في دولته وقد أشكل عليه البعض الا انه قال لهم هل تعلمون ماذا يعني صوت هذا الناقوس أو يدل قالوا ماذا قال انه يقول لا اله الا الله إلى تكملة الحديث (16).

وان أهم نص يبين ان الإمام علي رجل كما يسمى باليوم بالمثقف والمعاصر ينفتح على الجميع وينضر للأمور بطريقه مدنيه جديدة ويتعامل مع الناس على ما هم عليه وليس ما يريده هو وصية لمالك الاشتر في عهده له لأهالي مصر قوله ((ثم اعلم یا مالك إني وجهتك إلى بلاد قد جرى عليها دول قبلك من عدل وجور وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك...)) (17) في إشارة واضحة لاحترامه لحرية الناس وعدم التأكيد على تطبيق سياسة الإمام علي أو الدين الإسلامي

ص: 205

وتشريعاته، وما يوضح هذا المعنى أكثر انه رغم ان بينه وبين الخوارج دما الا ان ذلك لم يمنعه في ان يمدهم بالعطاء من بيت مال المسلمين وهذا مؤشر أخر على مدى تمسك علي بالحق والإنصاف والعدل. كما وانه لم يمنعهم من دخول المساجد وعاملهم معاملة المفتونين المشتبهين رغم أنهم تطاولوا على حكمه وحكومته بل راح أكثر من ذلك يلتمس لهم الأعذار وفد أكد إن من لديه دعوى مع شخص اللجوء للقضاء ونلاحظ ذلك في قوله (ان الحدود لا تستقيم الا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينة)(18).

حرية التعبير عن الرأي

من الموضوعات الحديثة والمدنية ذات الأهمية هو حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي کجز من حريات الانسان المعاصر وفي مجمل أبحاثنا عن هذا الموضوع في المنطقة العربية وجدنا ان الإمام علي كان هو بحد ذاته يؤكد على ان يكون الانسان شجاع في تعزيز حريته في كل المجالات حيث يقول ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)) (19)، حيث جسد الإمام علي (عليه السلام) احترامه لحرية التعبير عن الرأي مصداق لخلافه السماء كانسان ناهيك عن كونه حاكم يحمل فكر أزلي فمنذ إن رفض إبليس السجود لكائن خلقه الله من الطين بدأت حرية احترام الرأي من الله جل شأنه وناقشه بصورة عادلة ولم ينكل به بل تركة وهو القادر على كل شيء ومن هنا أصبح لزاما على أصحاب الرسالات الالتزام بهذا النهج فعلي (عليه السلام) لم يستخدم السيف لكل ناقد ولكل متمرد على الحكم ولم يستخدم السلاح متذرعاً بالحفاظ على أمن الدولة أو أن الدولة تمر بحالة استثنائية أو حالة طوارئ ليقوم بتصفية كل المعارضين للحكم ولو معارضي الرأي لكنه يأبى لنفسه ذلك، ولأنه رجل ينطلق من منطلقات التشريع الإلهي معتمدا على القاعدة الشرعية (أن لا استخدام للسيف إلا باستخدامه من الطرف الآخر) أما إذا كانت المعارضة في ضمن الأطر السلمية والنقد فلا يجوز التعاطي معها بالقمع

ص: 206

والتجاوز على الحريات. لذلك عندما كان يخطب من على منبر الكوفة انبری له رجل ممن يكفرونه وقال قاصدا الإمام (لله أبوه كافرا ما أفقهه) فانبرت له جماعة تريد قتله فمنعهم الإمام ناهيا إياهم (اتركوه فهو إما سب بسب أو عفو عن ذنب) (20). وكأنه بذلك أراد ان يؤسس لحرية التعبير ويقنن حرية النقد حتى لرأس السلطة فهو ليس فوق النقد واكبر من ان ينتقد، وهناك العديد من الروايات التي تؤكد على تبني الإمام علي هذا المفهوم التحرري، إما حق التظاهر فكان واضح وجلي في رده على عمر بن الخطاب أول صعوده المنبر متسائلا إذا ما اخطأ فأجاب الإمام ((إذن لقومناك بسيوفنا)) (21).

حرية المعتقد

کان (عليه السلام) يشار له بحرية المعتقد وبشواهد عده واقرب دليل هو الرواية التي تذكر سماع الأمام علي صوت أجراس الكنائس والأديرة في الحيرة بالقرب من الكوفه (22) إما وثيقة الإمام لمالك فقد تضمنت عددا من الحقوق والحريات العامة، أهمها حرية العقيدة وذلك نلحظه في موقفه المتسامح مع أهل الذمة رغم أنهم أقليات ولا يمثل عنصر ضغط على الدولة الا ان الإمام كان يراعي حقوقهم بل جاء في الروايات التاريخية (انه لما أقدم بسر بن ارطأة بالهجوم على الأنبار وقام بسلب المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة تألم الإمام لكلاهما دون ان يفرق بينهما فقال: (ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلائدها ورعاثها... فلو ان الرجل مات بعد ذلك أسفا لما كان عندي ملوما بل كان عندي جديرا..)(23). فالإمام كان يتألم للمسلمة وما جرى عليها كما تألم للمعاهدة دون تفريق. هذا مما يدلل لنا مدى شمولية الإنسانية بالإسلام في فلسفة الإمام علي كما ان المسلم محترم في الدولة الإسلامية کمواطن كذلك أيضا المواطنون الآخرون من أصحاب الديانات الأخرى ان لهم حقوقا وواجبات كما للمسلمين حقوق وواجبات. وكان موقفه مستمدا من موقف القران مع

ص: 207

أهل الذمة بقول الله في كتابه «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» (24)، فيما بدأ ذلك واضحا في حق الملكية الخاصة: [ولا تمسن مال احد من الناس مصل ولا معاهد]، (25) مشيرا في المساواة بين بني البشر: [يا أيها الناس ان ادم لم يلد عبدا ولا امة ان الناس كلهم أحرارا] (26). وكما ذكرنا في مورد سابق، وتجد ذلك واضحا وجليا في موفقه مع احد من الأنصار عندما اعترض عليه بمساواته في العطاء بينه وبين عبده الذي اعتقه منذ فترة وجيزة حيث أعطى الإمام کلاهما 3 دنانير فساوي بين العبد ومولاه فاحتج المولى عليه قائلا: (يا أمير المؤمنين هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا). (27) وأخيرا فلقد ندد علي بمعاوية عندما كان يأمر بالإغارة على أطراف العراق دون ان يفرق بين المسلمين أو النصارى، فقال الإمام: (ويحك ما ذنب أهل الذمة في قتل عثمان) (28).

العدالة الاجتماعية

من أكثر ما يطمح له الانسان المعاصر هو الحكم الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية بين كل بني البشر ولعل أجمل قصه في هذا السياق هي في خلافة الإمام علي (عليه السلام) كان المسيحي مواطن له ما للمسلم من حقوق، بل الحاكم يضع نفسه مقابل أي مسيحي عادي، ويشهد موقفه (عليه السلام) عندما ضاع درعه وهو قاصد حرب صفين، وعندما وجده عند رجل مسيحي، وطلب الإمام (عليه السلام) القضاء في الموضوع ذهب مع خصمه إلى القاضي (شريح)، فوقف الخليفة الحاكم مع الرجل المسيحي أمام القاضي بدون أي تميز. قال (عليه السلام) المدعي إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل القاضي الرجل المسيحي ما تقول فيما يقوله (عليه السلام) فقال ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب فالتفت شريح القاضي إلى أمير المؤمنين قائلاً هل من بينة يا علي تشهد ان الدرع لك فضحك علي وقال أصاب شريح ليس لي بينة

ص: 208

فقضى شريح بالدرع للمسيحي فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه الا ان الرجل لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فاشهد ان هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين يدنيني إلى قاض يقضي عليه ثم قال: الدرع درعك والله وقد كنت كاذباً فبما ادعيت، وفي نفس مسار العدالة يروى أنه تحاكم الإمام عليٌّ أمام عمر، وكان الخصم يهودیًّا، وكان عمر ينادي عليه قائلاً: يا أبا الحسن، وهو يتحاكم أمامه، ظهر الغضب على وجه عليّ، فظن عمر أن عليًّا يتبرم من وقوفه مع اليهودي على قدم المساواة، فقال عمر لعلي: أكرهت أن يكون خصمك بیهودیًّا؟ فقال علي (عليه السلام): إنما غضبت لأنك لم تسوِّ بيني وبين خصمي اليهودي إذ ناديته باسمه، وناديتني بکنیتي.

حقوق المرأة

كان أكثر من حفظ حق المرأة وعزز ووجودها الإنساني هو الإمام علي فكان يتعامل مع الذکر کما الأنثي ومن أدبه الكامل تسليمه على النساء من قومه، ومشيه مع المرأة لقضاء شأن من شؤونها، حتى وإن جلب له الأمر مشقة، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: رجع الإمام علي (عليه السلام) إلى داره في وقت القيظ، فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني، وأخافني، وتعدي علي. فقال الإمام: يا أمة الله! اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء الله، فقالت: يشتد غضبه علي. فطأطأ الإمام (عليه السلام) رأسه ثم رفعه و هو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع! أين منزلك؟ وحيث وقف الإمام (عليه السلام) على باب المنزل قال: السلام عليكم) فخرج شاب مفتول الجسم. فقال له الإمام (عليه السلام): (يا عبد الله، أتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها فقال الفتى: وما أنت وذاك؟ وأخذ يتوعد بتعذيبها فقال أمير المؤمنين: (آمرك بالمعروف، وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟) فأقبل الناس من الطرق يلقون التحية على الإمام (عليه السلام) ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين! فسقط في يديه،

ص: 209

فقال: يا أمير المؤمنين! أقلني عثرتي، فو الله لأكون لها أرضا تطأني. فالتفت الإمام إلى المرأة قائلا) يا أمة الله! ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك إلى مثل هذا وشبهه (وما يؤكد احترامه لمكانة المرأة والفخر بها قوله (عليه السلام) ((ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما)) (29) وما يؤكد تذكرة للمرأة كذلك ويفخر الإمام علي عدوه معاوية في مقارنة يراد منها توضیح حقه وما يسعى إليه من خير للمجتمع إذ يقول (عليه السلام): ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة الحطب))(30) وفي تقبله لشهادة المرأة واحترامه لمكانتها روي إن شکت امرأة تسمى سوده بنت عمارة الهمدانية إلى الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أحد ولاته الكبار وهو والي صدقاته على الأهواز وكانت تحت سلطته منطقة واسعة تقول سوده: () لقد جئت إلى علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في رجل ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني أنفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى الإمام (عليه السلام) ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج قطعة جلد كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام، ثم دفع الرقعة إلىَ، فو الله ما ختمها بطين ولا خزمها فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً. في هذه الواقعة التاريخية الكثير من الدروس البليغة في السياسة والحكم والإدارة والتعاطي مع أمور الناس حتى ولو كانت بسيطة أو صغيرة فالإمام علي (عليه السلام) كان ينظر من زاوية مختلفة وحساسة جداً حيث أن التهاون في الأمور الصغيرة والتي قد تبدوا عادية في نظر البعض هو ما يؤدي إلى الفساد والظلم، وما إلى ذلك، إما ما نسب إليه عن حديثه عن النساء ونعته لهن بناقصات العقول وما إلى

ص: 210

ذلك فقد أسهب في هذا الموضوع كثيرا السيد محمد حسين فضل الله في كتاباه دنيا المرأة وكذلك كتابه تأملات إسلامية حول المرأة فبعض هذه المعاني ظاهرية في حال تحققت الروايات فيها ولنا ان نختم هذا المجال بوصيته عند مماته قوله اتقوا الله في الضعيفين الأيتام والنساء (31).

أخريات

لعلنا في هذه العجالة ممرنا على بعض الشواهد وبالاختصار لان وفرت الأخبار والمآثر لشخصية الإمام علي لا تسع المقام فلا يفوتنا إن نذكر بعض المواد التي لا تخلو من الأهمية فيما يجدر الذكر هنا هو إنسانيته ورفقه بالحيوان وقد وجدنا الكثير من المواقف والقصص انطلق على في تشريعه لحقوق الحيوان من قوله تعالى: ((وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون)) ان علي ابن أبي طالب أول من أسس لحماية الحيوان في التأريخ فينقل له مواقف متعددة تعكس البعد الإنساني والقيم الرفيعة له (عليه السلام) ويتمثل بالواجب الحقوقي لبني البشر وبقيه المخلوقات فلقد نقل لنا التأريخ انه أمر ببناء مربدا للضوال من الحيوانات يقوم بإطعامهم. ويقيها قرص البرد وحر الصيف ويطعمها ويعلفها من بیت المال فينفق عليها إلى ان يمر عليها زمن من يدعيها يقدم البينة وإلا فتستخدم ان أمكن الاستفادة منها وإلا تترك في مكانها. - كما كان يوصي المصدقين (جامعي الزكاة) ان لا يطلعوا بالحيوان بالضاحية، أو بالهجیر کما وكان يوصي كثيرا عماله بالرفق بالحيوان ((لا تفصلوا الناقة عن فصيلها))، ((لا تنهكوا الأم بالحلب، فلا يبقى شيء لوليدها)) کما ويوصي عماله كما جاء في وصيته لمالك الأشتر في دستوره العظيم ((فإذا أتيتها فلا تدخل دخول متسلط عليه ولا عنيف به ولا تنفرن بهيمة، ولا تفزعنها ولا تسوء صاحبها منها ..)) إما الرواية الشهيرة التي يقول فيها انشروا القمح على أسطح الجبال... في دلاله واضحة على رعاية الحيوان (32).

ص: 211

الخاتمة

مع إننا أوجزنا كثيرا ولم نقتفي الكثير من الروايات التي تشعبت في كتب المذاهب عامه والمدنيين من مستشرقین ومهتمين في مجال حقوق الانسان ولم نتطرق لكل الحقول الاجتماعية والاقتصادية بشكل كامل وفقط أخذنا الأكثر أهمية في الإعلام في الوقت الحاضر ومن هذا المنطلق تجد أن تراثنا الإسلامي يسبق التشريعات الحديثة بمئات السنين في تقنين مبادئ حقوق الانسان، فلم يذكر التاريخ غير بعض المهتمين بحقوق الانسان وقد تغاضوا عن سفر الإمام علي الإسلامي بدأ من وثيقة [مانحنا کارتا] الذي أصدره الملك الانجليزي جون [1215 م] والتي تعتبر أقدم وثيقة دستورية في التاريخ الانجليزي في حين أن الوثيقة الدستورية لعلي بن أبي طالب في عهده لمالك الأشتر تعتبر من أقدم الوثائق الحقوقية والتي تحمل في جنباتها الكثير من الحنان الإنساني العميق الذي يحيط به الإمام دستوره في المجتمع والتي سبقت (مانحنا کارتا) بقرون عدة، ترى فيها أبعاداً إنسانية كبيرة وعمقا في الرؤية ورشادا في الفكرة. فهل يوجد أعمق من هذا المعنى دلالة على الشمول الإنساني والإحاطة لكل بني البشر من هذه العبارة، التي سجلها الإمام في دستوره العلوي إذ قال: [وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم والألفة إليهم ولاتكن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فأنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق](33). وكتبت مجلة الحقوق العراقية في عددها الثاني سنة 1941 م قائلة [لا مراء بأن عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر عامله على مصر من أنفس الوثائق التاريخية الزاخرة بمبادئ الحكم وأساليب الإدارة وأصول التشريع، وأخلاق المسئولين، وإذا كانت الحضارة اليونانية تفخر على عالم العصر الحاضر بشريعة سولون، والتاريخ الانجليزي يباهي حضارة اليوم بوثيقة [المانحنا کارتا]، والثورة الفرنسية تزهو بين تاريخ الثورات [بإعلان حقوق الانسان]، الذي لم يفتئ حتى زال بسرعة

ص: 212

بعد إن تغير لفض مواطن إلى مسيو بعدة سنوات وقبل حتى موت نابليون، فحسب الحضارة العربية الزاهرة مجداً وسموا أنها قدمت للأجيال المتعاقبة منذ أربعة عشر قرناً هذا العهد الأميري الخالد على الدهر بأعدل المبادئ المقررة في فقه السياسة والتشريع). وفي نفس السياق يقول المفكر المسيحي جورج جرداق في تعليقه على الدستور العلوي لعلي بن أبي طالب (فلیس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلا في دستور ابن أبي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ویزید) مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني بين الوثيقتين، وأن الأولى كانت نتاج عقول كثيرة من بني البشر والثانية كانت نتاج عبقري واحد هو علي بن أبي طالب. ولعل المفارقة الأكبر هي ان وثيقة الأمم المتحدة كتبت وقليلا ما طبقت موادها في الواقع فما زال العالم والمجتمعات البشرية تلحظ الفارق الكبير بين موادها ونظريات ميكافيلي أو المنطق الذرائعي [البراغماتي] الذي يسوغ للدول انتهاك هذه الحقوق، في حين أن عليا جسدها على الواقع بعدالته والقوانين التي سنها في ذلك الوقت مع رعيته حتى بقت مقولته التي لم يقلها حاكم غيره تثير استغراب وتعجب الكثيرين من ناقدي التاريخ أو مؤرخي تاريخ الأمم والتي قال فيها: (لقد أصبحت الأمم تشكوا ظلم رعاتها وأصبحت أشكوا ظلم رعيتي، ولقد كنت بالأمس أميراً واليوم مأمورًا، وكنت ناهيا واليوم منهياً) (34)، وما أردنا بصدق الإشارة بهذه البحث المختصر تسليط الأضواء على سيرة الإمام علي الإصلاحية الحافلة بالمبادئ والحقوق في الوقت التي يغظ الطرف العالم غير المتدين عن هذا الرجل العظيم ويحفل بلائحة حقوق الانسان التي لم تنتج الا بعد إن تيقظ العالم من حربين عالميتين انتهكت فيها الحقوق الحريات وبعد إن أقرت عصبت الأمم المتحدة مجموعه من الاتفاقات الشكلية تم إقرار لائحة حقوق الانسان في 10 - 12 - 1948 ولا زالت هذه الحقوق التي اشتملت على 30 مادة نضريه لا يلتزم بها كل الدول التي وقعت عليها ومن يتحدون بها كأنها أعجوبة العصر الا إن علي (عليه السلام) أسس لأول دوله

ص: 213

مدنيه معروفه المعالم ودستورها القران الكريم المنزل من السماء سابقا الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يقارب 14 قرن وقد رسخ طروحاته بصورة عمليه وبصدق تام مع العذر لكثر الهفوات والاقتصار.

الهوامش والإحالات

1. القران الكريم

2. نهج البلاغة للشريف الرضي شرح علي دخيل

3. تحف العقول عن آل الرسول أبو محمد الحسن الحراني

4. ترجمه الإمام علي أبي القاسم ابن الحسن ابن عساکر

5. حقوق الانسان عند الإمام علي د غسان السعد

6. من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق محمد ابن علي القمي

7. الأمالي للشيخ الطوسي

8. غرر الحکم ودرر الكلم عبد الواحد بن محمد بن تمیم

9. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة محمد باقر

10. أهل البيت تنوع أهداف ووحدة هدف محمد باقر الصدر

11. الجمل والنصرة في حرب البصرة

12. بحار الأنوار ج 2 للعلامة المجلسي

13. الأخبار الطوال للدنيوري

14. السياسة الجزائية في فقه العقوبات الاسلاميه لأحمد الحصيري

15. المواطنة والهوية الوطنية لمعهد الأبحاث دار العارف للمطبوعات

16. علم العقاب د محمد معروف

17. الجريمة والعقوبة والمؤسسات الاصلاحية د حسن طالب

ص: 214

18. إحكام السجون بين الشريعة والقانون د احمد الوائلي

19. المستدرك على الصحيحين د يوسف المرعشي

20. وسائل الشيعة الحر العاملي

21. دنيا المرأة محمد حسين فضل الله

22. علي میزان الحق محمد حسين فضل الله

الهوامش

1 .نذكره الخواص ص 8 وكذلك أورده علي دخيل في نهج البلاغه ج 1 ص 6.

2. نفس المصدر السابق.

3. المستدرك 431.

4. الوسائل ج 1 ص 111.

5. نفس المصدر السابق المستدرك ج 88 ص 36.

6. علم العقاب د محمود معروف عبد الله ص 19.

7. المستدرك 17 - 403.

8. الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية د حسن طالب ص 172 وكذلك وردت في المصدر السابق.

9. أحكام السجون بين الشريعة والقانون د احمد الوائلي ص 45.

10. السياسة الجزائية في فقه العقوبات الإسلامي المقارن د احمد ألحصري ص 389 کما ورد في المصدر السابق.

11. غرر الحكم ص 445 - حكمة 10371 للقاضي ناصح الدين الامدي.

12. سورة الحجرات أيه 13.

ص: 215

13. المواطنة والهوية الوطنية لمعهد الأبحاث دار المعارف للمطبوعات 108.

14. الجمل والنصرة في حرب البصرة للمفيد 206.

15. تحف العقول ص 90.

16. بحار الأنوار ج 2 ص 322.

17. تحف العقول ص 90 للحسن بن علي الحراني.

18. الدينوري الأخبار الطوال ص 130.

19. نهج البلاغة للشريف الرضي ص 140.

20. نفس المصدر السابق 197.

21. أهل البيت تنوع ادوار ووحده هدف لباقر الصدر ص 89.

22. بحار الأنوار ج 2 ص 322.

23. نهج البلاغة ص 13.

24. سورة البقرة 265.

25. النهج ص 149.

26. غرر الحكم 447.

27. الكليني في الروضة ج 8 ص 69.

28. نهج السعادة ج 5 ص 308.

29. النهج 103.

30. نفس المصدر السابق 134.

31. أمالي الطوسي ص 370.

32. من لا يحضرة الفقيه للصدوق 349.

33. تم ذكر المصدر سابقا - تحف العقول 90.

34. النهج 186.

ص: 216

حقوق الانسان في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م. د. غادة علي هادي

جامعة بغداد - كلية التربية للعلوم الانسانية ابن رشد كلية

م. د. عهود سامي هاشم

التربية وعلوم الرياضة للبنات

ص: 217

ص: 218

ملخص البحث:

يهدف هذا البحث الى بيان اهم حقوق الانسان في عهد الامام علي لواليك على مصر مالك الاشتر ولتحقيق مرمى البحث اتبعت الباحثة المنهج الاستقرائي وقد جاء البحث بمباحث اربع خصص الاول منها لتحديد مفهوم حقوق الانسان وخصائصها، وكرس الثاني لبيان حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية في حين خصص المبحث الثالث لبيان حقوق الانسان في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الاشتر وقد توصل البحث النتائج عدة منها:

1. ان للشريعة الاسلامية السمحاء الدور الاول في رعاية الانسان ومراعاة انسانيته بالدرجة الاولى.

2. ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) كان من أوائل الدعاة للمحافظة على حقوق الانسان وخير ما يجسد ذلك عهده لعاملة على مصر مالك الاشتر.

3. تضمن عهد الامام علي تفصيلاً دقيقاً لواجبات الحاكم تجاه الرعية ولم يغفل الامام عن أي تفصيلية من تفصيلات واجبات الحاكم.

4. قسم الامام (عليه السلام) المجتمع لطبقات وفئات عدة واصفاً كيفية التعامل مع كل طبقة وهو بعهده هذا يجسد ما على الوالي تطبيقه حقاً تجاه الرعية.

5. جسد الامام سماحة الدين الاسلامي بالتعامل مع غير المسلمين والمحافظة على حقوقهم مع انهم يعيشون في مجتمعات غير اسلامية وهو ما يضمن حق عامة الناس وخاصتهم وان اختلفت ديانتهم، وهو بذلك يقر مبدا التعايش السلمي بين ابناء المجتمع الواحد.

6. يؤكد الإمام (عليه السلام) على ضرورة ان ياخذ الوالي المشورة من اصحاب الخبرة والحلم والحكمة وان يبتعد عن اهل التفرقة والبغضاء والشحناء.

ص: 219

7. يؤكد على الامام على ضرورة متابعة الوالي لامور رعيته والتعامل معهم بالرفق والرافة والرحمة عامة ومع الفقراء منهم بنحوٍ خاص.

التوصيات:

1. ضرورة اتباع مبادئ العهد وبنوده من اصحاب السلطة وصناع القرار فو عمل أي منهم بمبادئ هذا العهد وواجباته لوجدنا مجتمع يزدهر ويبدع افراده.

2. ضرورة ان يدرس عهد الامام علي بن ابي طالب في كليات القانون والسياسة لينهل سیاسيو الغد من عبق الفكر العلوي المطهر.

3. تنظيم دورات تدريبي لكل المعنين بالسياسة تتضمن مبادئ العهد واجراءات تطبيقية.

ص: 220

المبحث الأول: حقوق الانسان مفهومها وخصائصها

مفهوم حقوق الانسان:

يمكن القول ان حقوق الانسان (مجموعة البندوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته والتي تظل موجودة وان لم يتم الاعتراف بها، بل اكثر من ذلك حتى ان انتهكت من سلطة ما)(1).

ويعرفها مطرود بأنها (البندوق اللصيقة بالإنسان والمستمدة من تكريم الله له وتفضيله على سائر مخلوقاته والتي تبلورت عبر تراکم تاريخي من خلال الشرائع والأعراف والقوانين الداخلية والدولية ومنها تستمد وعليها تبنى حقوق الجماعات الإنسانية في مستوياتها المختلفة شعوبا وامماً ودولاً)(2).

او هي مجموعة المعايير الأساسية للحياة الكريمة، التي تعد أساس الحرية والعدالة والسلام في المجتمعات، واحترام هذه البندوق وتعزيزها في المجتمع يسهم في تنميته وأفراده على حد سواء، إذ إن هذه البندوق تعتبر حجر الأساس في استقرار المجتمعات ومقياسا لتقدم الدول(3).

نشأة حقوق الانسان:

1. في الحضارات القديمة:

لا يمكن معرفة التاريخ البنديق لنشاة حقوق الانسان فبتتبع الحضارات القديمة نجد ان حضارة وادي الرافدين قد تضمنت صورة تقريبية للواقع السياسي انذاك حيث

ص: 221

(وصفت السيادة بأنها مطلقة وتفتقر الى الاقرار بالبندوق والحريات للإفراد، فقد وصف الملك بأنه صاحب السلطان المطلق ويحيط به جو من الخوف والعنف وكان الحكام ممثلين للالهة انْ لم يكونوا هم آلهة والبندوق والحريات العامة بأشكالها كافة، كانت في حكم العدم)(4). بيد ان القوانين كقانون حمورابي، قد اقرت باحترام الملكية وحق التقاضي وبعض الامور التنظيمية الاخرى(5).

وبالتوجه نحو حضارة وادي النيل، فان الفرعون كان (يتمتع بصفة الألوهية وهو يتلقى هذه الصفة من ابيه الإله المختلق ومنه يستمد حقه الإلهي في الحكم المطلق)(6). ومع ما عاانه الشعب المصري في تلك المرحلة من (اذلال كبير للشعب فکان افراد رعيته يضعون انوفهم في موضع قدميه يستنشقون رائحتها ومن كان مقربا كان يسمح له بشم قدميه مباشرة، ولم تكن لحياة الإنسان العادي في نظر الفراعنة اية قيمة تذكر وذلك مما جعلهم لا يترددون عن التضحية بها لمجرد نزوة تنتابهم) (7) الا اننا نجد بعض النصوص القانونية في هذه الحضارة تشير احيانا الى حقوق التقاضي وابطال بعض انواع الرق (8).

وعلى الرغم من الاشارة لهذه القوانين الا ان حقوق الانسان لم تكُ واضحة المعالم في تلك المرحلة وفي تلك المرحلتين، وتعتقد الباحثة ان العلة في ذاك تعود الى خوف الحاكم من ثورة الشعب ضده خاصة وانه كان يمثل الاله والمتفرد بالسلطة وما يؤيد هذا الراي القائل (ان البندوق الانسانية لم يكن لها وجود على الصعيد النظري او الصعيد العملي في تلك الفترة)(9).

وبالانتقال الى الحضارة اليونانية فاننا نجد ان حقوق الانسان قد شهدت تطوراً ملحوظاً وفي الحضارة اليونانية اذ (كانت مدينة اثينا انموذجاً للمدنية الحديثة التي يعيش فيها المواطنون متساويين لا يفرق في حقوقهم الغني او الفقر، فالجميع سوية في الحصول على الخدمات المدنية، ولكن اخذ على هذه المدينة انها قصرت المساواة على طبقة المواطنين

ص: 222

فقط دون الطبقات الاخرى) (10)، (حتى انها لم تشمل اناسا يقيمون في اراضيها منذ اجيال احيانا) (11).

فضلا عن ذلك يسجل للحضارة اليونانية مسالة احترام القوانين، ولكن هذه الحضارة لم ترق لدرجة تدرك بها وجود قانون اخلاقي يشمل الجنس البشري بأكمله، إلا آراء بعض المدارس الفكرية(12)، اضافةً الى احترام للملكية والارث فضلاً عن مظاهر ايجابية اخرى (13).

2. في الفكر الغربي:

اما في اوربا فقد ظهرت بعض التطورات المهمة نسبيا في مجال حقوق الإنسان مردها عوامل فكرية واقتصادية واجتماعية، ففي انجلترا صدر في عام 1215 الشرط الكبير (الماكناکارتا) الذي فرض فيه امراء الاقطاع (البارونات) على (الملك جان) توقيع هذا الشرط للاعتراف بحقوقهم وامتيازاتهم. وفي الاعوام 1627 و1628 و1679 صدرت عدة اعلانات لتأكيد جزء من الحريات والبندوق وفي سنة 1688 صدرت وثيقة البندوق في اعقاب ثورة سنة 1688 البيضاء.

کما ان فكرة حقوق الإنسان ظهرت في اعلان الاستقلال الامریکی عام 1776 وفيه بعض البندوق كحق الحياة، والحرية، ومبدأ المساواة بين الناس وان صلاحية الدولة مستمدة من الشعب ثم جاء بعد ذلك اعلان (الدستور الامریکی) عام 1787 حيث تعدل عدة مرات مع ما يحتوي عليه من حقوق مهمة مثل حرية العقيدة وحرمة النفس والمال والمنزل وحرية التقاضي وتحريم الرق لغاية سنة 1789.

وفي العام نفسه 1789 صدرت في فرنسا وثيقة حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي التي بدأت بعبارة (يولد الناس احراراً ومتساوين في البندوق) وقد حرص الفرنسيون على هذا الاعلان وما تضمنه من حقوق ووضعوه في مقدمة دستورهم عام 1791(14).

ص: 223

ثم جاءت المؤسسات الدولية في القرن العشرين فاعلنت حقوق الإنسان في مواثيقها سنة 1919 م في عصبة الامم، ثم في ميثاق الامم المتحدة سنة 1945 (المادة 55) وتم تأسيس لجنة حقوق الإنسان وعملت على صياغة حقوق الانسان، واصدرت (الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948) (15)، والذي احتل في العالم المعاصر مكانة مهمة اذ تبنته الامم المتحدة وعدته المثل الاعلى المشترك الذي ينبغي ان تصل اليه الشعوب والامم كافة (16).

3. الملابسات التاريخية لنشوء حقوق الانسان:

ان الصراع الذي دار بين الطبقة البرجوازية الحاكمة وعامة الشعب ادى الى ظهور طبقة جديدة اخذ اناسها على عاتقهم المناداة بحقوق الإنسان الاتية:

1 - البندوق المستمدة من طبيعته الانسان بحيث لا يجد سلطان لملك ولا رجل دين ولا إله.

2 - إزالة سلطان الكنيسة والدعوة إلى إقامة أوطان قومية تقوم فيها المواطنة على أساس لا صلة له بالدين، إن لم يكن مناوئا له.

3 - ازالة الحواجز التي فرضتها الطبقات القديمة على أعمال التجارة والصناعة، حتى إن بعض الفلاسفة عرف الحرية بأنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات (17)، وقد تطور هذا الفكر إلى أن وصل في وقتنا الحاضر إلى جعل المحدد الأساسي والوحيد للحريات والبندوق هو ما يسمى: (موازين القوى)، أي: القوة والسيطرة والثروة، (18) وهي اليوم لصالح الغرب، أصحاب الفلسفة المادية الفردية.

الأمر الذي جعل الإطار الغربي لمفهوم حقوق الإنسان، وما صدر من التشريعات الدولية لحقوق الإنسان من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تلاه من الاتفاقيات هو المرجعية الأولى والأساسية في تحديد تلك البندوق ولا مجال لمراجعته أو لتمحيص المعاني

ص: 224

التي يرمي إليها؛ لأنه بحسب ما قصد منه هو المعيار المشترك الذي تقيس به الشعوب والأمم كافة منجزاتها، وهو مدونة للسلوك الدولي فيما يتصل بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية ومصدرها العام بلا منازع. (19)

المبحث الثاني: حقوق الانسان في الشريعة الاسلامية

لقد جاء الإسلام بنظام جديد للدولة هو الدولة الخاضعة لقانون الشريعة، (فجعل منها دولة قانونية بجميع أركانها وضماناتها: من وجود دستور هو المرجعية للسلطة والأفراد، ينظم السلطة ويضع القيود عليها لمصلحة حقوق الإنسان التي اعترف بها، وحرص على إيجاد ضمانات تحقيقها، وفصل بين السلطات، ونظم الرقابة القضائية، وقرر مبدأ اختيار الحاكم، ومراقبته، وعزله، وجعل أحد أهداف الدولة الأساسية هو تحقيق حقوق الإنسان، كل هذا جعل بعض كبار علماء القانون العام يصرح بأن الدولة الإسلامية كانت أول دولة قانونية في الأرض، يخضع فيه الحاكم للقانون ویمارس سلطاته ضمن دستور هو أحكام القرآن والسنة، دون أي اعتداء من الحكام أو المحكومين على السواء)(20) ودون إهمال لأي جانب من الجوانب التي تهم الفرد والمجتمع، أو أي حق من البندوق، بل إن الإسلام قد بلغ في تقديس حقوق الإنسان إلى الحد الذي تجاوز بها مرتبة (البندوق) عندما اعتبرها (ضرورات)، ومن ثم أدخلها في إطار (الواجبات)(21).

لقد كان الإسلام أول من عرّف البشرية بفكرة حقوق الإنسان ولفت الأنظار إليها، وبإجراء مقارنة بسيطة بين ما ورد في وثائق حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وبين النظام الإسلامي يتضح ما يلي:

أولا: أقر نظام التشريع الإسلامي للإنسان جميع البندوق منذ البداية، ولم يصنف البندوق

ص: 225

إلى أجيال وفئات كما جاء في المنظور الغربي للحقوق الإنسانية.

فحقوق الإنسان السياسية والمدنية، مرتبطة بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، كذلك الأمر بالنسبة للحقوق البيئية والثقافية والتنموية، وهي ليست أجيالا ثلاثة تم استحقاقها على ثلاث مراحل، كما ورد في الوثائق الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة.

فأول إعلان لحقوق الإنسان كان قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الاسراء: 70) ذلك أن تكريم الآدميين هو أصل البندوق الإنسانية في الشريعة الإسلامية، وفي الشرائع كلها، ثم إن إقرار المساواة بين الناس جميعا مما أكدته نصوص القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وأن لا تمايز بين الناس إلا بالتقوى، قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13).

وقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) في حجة الوداع: (إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى)(22).

وتشير وثيقة امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى ضرورة العدل الذي هو سبيل التوازن بين طبقات الأمة، ويوصيه بالصبر على ذلك فيقول: (والبند کله ثقيل وقد يخففه الله تعالى على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله الهم). (23)

مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:

1 - خلق الانسان في أحسن تقویم: قال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» [التين: 4].

2 - نفخ فيه من روح الله: قال تعالى: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» [السجدة: 9].

ص: 226

وقال تعالى: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» [ص: 72]

3 - أمر الملائكة بالسجود لآدم: قال تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» [البقرة: 34].

4 - علم آدم الأسماء كلها: قال تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ». [البقرة: 31، 32].

5 - جعل الإنسان خليفة في الأرض: قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» [البقرة: 30]

6 - تفضيل الإنسان على كثير من المخلوقات: قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» [الإسراء: 70]

7 - تسخير المخلوقات الإنسان: قال تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [الجاثية: 13].

ص: 227

خصائص حقوق الإنسان في الإسلام:

يمكن ان نوجز خصائص حقوق الانسان في الاسلام بما ياتي:

1 - حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية:

إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة، وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله هو منطلق كل البندوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على البندوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد، فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله تعالى وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.

2 - حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:

إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، یمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان.

3 - حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع البندوق:

من خصائص ومميزات البندوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع البندوق، سواء البندوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. كما أن هذه البندوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك البندوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.

ص: 228

4 - حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل:

من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية. إن وثائق البشر قابلة للتعديل غير متأبية على الإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرضوه على الدساتير لم يحجمها من التعديل بالأغلبية الخاصة. وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله صلى الله عليه واله خاتم النبيين، ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله فهو باق ما دامت السماوات والأرض.

5 - حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية:

ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها.

مقارنة بين المواثيق الدولية وحقوق الانسان في الشريعة الاسلامية:

أولاً: من حيث المصدر.

حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية مصدرها الإنسان، الذي هو مركب النقص، وهو يخطئ أكثر مما يصيب؛ إن إحاط بجزئيةٍ، غفل عن أكثرها، وإنْ أدرك أمراً: قصر عنه آخر، كما أن الإنسان بطبيعته يغلب عليه الهوى، فيرى البند ولا يتبعه، يدل على ذلك أن المجتمعات الغربية تسمح بالزنا وتسمح بشرب الخمر وغير ذلك من الأمور التي لا يشك عاقل في أنها مضرة بالمجتمع.

ص: 229

أمَّا في الإسلام: - فمصدر حقوق الإنسان كتاب الله المعجز، وسنة رسول (صلی الله عليه واله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى. لذا تشريعات ربانية، لا خلل فيها، ولا نقص، ولا تقصير، ولا ضيق نظر، فهي متوازنة، وتراعي مصلحة الفرد - كفرد في مجتمع - وتراعي مصلحة المجتمع.

ثانياً: من حيث الإلزامية.

هذا الفرق يترتب على الفرق الأول:

فالوثائق الوضعية التي وضعها الإنسان ليست إلا مجرد تصريحات، وتوصيات صادرة عن الأمم المتحدة، لا إجبار وإلزام فيها، ولا يترتب على الإخلال بها أي جزاء قانوني.

أما في الإسلام فهي أبدية، ثابتة، إلزامية، لا تقبل: الجزئية، والحذف، والتبديل. وعلى الفرد: الأخذ بها؛ راجياً ثواب الله، خائفاً من عقابه، ومن تُسوّل له نفسه العبثَ بها، فإن مِن حق السلطة العامة في الإسلام، إجباره على تنفذيها، وإيقاع العقوبة الشرعية عليه، في حال إخلاله بها.

ثالثاً: من حيث الأسبقية.

نقول في صدد المقارنة بينهما الآتي: في الوثائق الوضعية أول وثيقة لحقوق الإنسان، كانت ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في القرن الثالث عشر الميلادي، سنة (1215 م).

أما في الإسلام فبدأت بظهور الإسلام نفسه، وقد اشتملت على: حقوق ثابته لله، وحقوق للعباد، كحقوقه المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، إلى غيرها من البندوق الأخرى.

ص: 230

وما كانت الآيات القرآنية، وأحاديث الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في حقيقتها إلا مواثيق وقوانين. ويُعَدُّ من أشهر المواثيق في الإسلام لحقوق الإنسان ما جاء على لسان الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) في حجة الوداع، وخطبته المشهورة في تلك المناسبة العظيمة.

رابعاً: من حيث حماية حقوق الإنسان وضماناتها في الإسلام، وفي الوثائق الدولية.

وتتضح الفروق بينهما في المقارنات التالية:

1 - في الوثائق الدولية حقوق الإنسان - البشرية المصدر - وكذلك الحماية الدولية لها لا تعدو كونها توصيات أدبية، ومحاولات لم تصل إلى حد التنفيذ. وعلى كلٍ فهي تقوم على أمرين :

أ - محاولة الاتفاق على أساس عام ومعترف به بين الدول جميعاً.

ب - محاولة وضع جزاءات ملزمة، تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان. وهذه التوصيات في حقيقتها - كما يقال -: حبر على ورق، يتلاعب بها واضعوها حسبما تملية عليه أهوائهم، وشهواتهم، ومصالحهم، وإن كان فيه الضرر البالغ على الأفراد، بل وعلى الأمم.

أمَّا في الإسلام فالبندوق التي منحها الله للإنسان محمية مضمونة، وذلك لأنها:

أ - مقدسة قد أُلبست الهيبة والاحترام؛ لأنها منزلة من عند الله، وهذا يُشَكّلُ رادعاً للأفراد والحكام على السواء عن تعديها و تجاوزها.

ب - احترامها نابع من داخل النفس المؤمنة بالله.

ج - لا يمكن إلغاؤها، أو نسخها، أو تعديلها.

د - أنها خالية من الإفراط، والتفريط.

ص: 231

وزيادة على ذلك وحتى تُحمي حقوق الإنسان وتحفظ شرع الله (عز وجل) إقامة الحدود الشرعية. وإقامة الأنظمة القضائية، لحماية حقوق الإنسان.

رابعاً: من حيث الشمول.

الإسلام يتميّز عن غيره بالشمولية، ونذكر هنا بعض حقوق الإنسان التي لم يذكرها مشرعو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي كالآتي:

1 - حقوق الیتامی: ففي الميثاق العالمي أشار إلى حق رعاية الطفل فقط.

أمَّا الإسلام: فقد تميز بإعطاء عناية خاصة لليتامی، وحَفِظَ حقوقهم، وأمر بالإحسان إليهم، بكافة أنواع الإحسان، بل ورتَّبَ على ذلك الأجر، والثواب.

قال تعالى -: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ» [البقرة: 121].

وقال تعالى: «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا» [النساء: 2].

فرتَّب العقوبة الشديدة على من أكل أموالهم، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» [النساء: 10].

2 - حق ضعاف العقول: كفل لهم الإسلام حق الرعاية والاهتمام، وأمر بحسن معاملتهم، كما قال - تعالى -: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا». [النساء: 5].

3 - حق الميراث: وهذا البند قد غفلت وتغافلت عنه الوثائق البشرية، بينما نظم الإسلام، وأقرّ هذا البند، في أروع صوره، وأبطل ما كان عليه الناس قبل الإسلام، من إسقاط حق المرأة في الميراث؛ قال - تعالى -: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ

ص: 232

وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا» [النساء: 7].

وقد أفاض الإسلام في هذا الأمر، وبيّن مقدار الأنصبة في كثير من الآيات، كما حثت السنة المطهرة على ذلك في قوله (صلى الله عليه واله وسلم) «البندوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»(24).

4 - حق الدفاع عن النفس: أيضاً هذا البند من البندوق التي لم يذكرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما وردت العديد من الآيات والأحاديث، التي تقرّ هذا البند وتنظمه كما في قوله - تعالى -: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» [البقرة: 194].

بل أمر الله سبحانه وتعالى - بالجهاد، وبالإعداد له، فقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ..» [الأنفال: 60].

5 - حق العفو: الإسلام دين رحمة، وتسامح، وعفو، وإحسان، من غير استسلام، أو ذل، أو تمكين للأشرار، وهذا ما لم يهتم به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فمن الآيات التي تقرّر هذا البند، قوله - تعالى -: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» [فصلت: 34]. وقوله: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [التغابن: 14].

ص: 233

المبحث الثالث: حقوق الانسان في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)

لواليه على مصر مالك الاشتر.

مسند عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر:

روی هذا العهدَ قبل الشريف الرضي، الشيخُ الثقة الجليل أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة المتوفي سنة «381 ه» في تحف العقول، باب ما رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تحت عنوان «عهده (عليه السلام) إلى الأشتر حين ولّاه مصر وأعمالَها»، وذكر العهد بزيادة بعض الفقرات واختلاف في بعض الألفاظ مما يدل على أن الشريف الرضي نقل ما اختاره من هذا العهد عن غير هذا الكتاب؛ کما روی منه القاضي النعمان المتوفي «363 ه» في كتاب دعائم الإسلام (25)

ورواه النويري في نهاية الأرب باختلاف بسيط جداً ولكنه يدل على أنه منقول عن غير نهج البلاغة. وقد مهد له النويري بقوله: «لم أرَ فيما طالعته في هذا المعنى أي وصایا الملوك أجمع في الوصايا ولا أشمل من عهدٍ كتبَه علي بن أبي طالب إلى مالك بن الحارث الأشتر حين ولاه مصر، فأحببتُ أن أورده على طوله وآتي على جملته وتفصيله؛ لأن مثل هذا العهد لا يهمل، وسبيل فضله لا يجهل»، ثم ذكر العهد.(26)

وذكَر أسانيد هذا العهد الشيخُ النجاشي في فهرسته عند ذكر الأصبغ بن نباتة المجاشعي(27) وذكره الشيخ الطوسي أيضاً في الفهرست عند ذكره الأصبغ بن نباتة، فقال:

كان الأصبغ بن نباتة من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعُمِّر بعده، وروى عهد

ص: 234

مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين لما ولاه مصر، وروى وصيّته إلى ابنه محمد بن الحنفية، أخبرنا بالعهد ابن أبي جبد عن محمد بن الحسين عن الحميدي عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (28).

بداية العهد وبنوده

أمر امير المؤمنين (عليه السلام) مالك الاشتر بتقوى اللهِ واتّباع ما أمَر به في كتابه من فرائضه وسُننه التي لا يسْعَدُ أحدٌ إلا باتّباعها. ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها. وأنْ يَنْصُرَ اللهَ سبحانه بيدهِ وقلبِه ولسانهِ. فإنّه جلَّ اسمُه قد تكفّل بنصرِ مَن نصَره وإعزازِ مَن أعزّه.

ومن الملاحظ ان جميع وصايا الإمام (عليه السلام) وكتبه وعهوده لا تخلو من نقطة مهمة وهي ذكر الله جلّ وعلا وإيصاؤه أصحابه بتقوى الله واتباع أوامره وهذا العهد ليس بمستثنىً من هذه القاعدة. عند النظر في فاتحتي العهدين نرى أنهما يُستَهلان بذكر الله وتقواه مشيرين إلى المعاد إلا أن أسلوب البيان يختلف؛ فالإمام (عليه السلام) لا يشير إلى المعاد مباشرةً بل يوحي إليه بهذه العبارة: «لا يسْعَدُ أحدٌ إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها»، أما طاهر بن الحسين فيصرح بذلك بقوله:

... والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسؤول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عزّ وجلّ ويُنجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه».

دقة المعاني وفخامة اللفظ ورقته ووحدة الموضوع باديةٌ في فاتحة كلامه 4؛ انظر إلى کلام طاهر كيف فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بإتيان صفتين لله تعالى وكيف

ص: 235

يتحدث عن وظائف ابنه أمام رعيته في أثناء ذكر وظائفه إزاء الله تعالى: «أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة سخطه، واحفظ رعيتك في الليل والنهار والزم ما البسك الله من العافية بالذكر المعادك ...».

بعد أن ذكر (عليه السلام) للأشتر ما يجب أن يتصف به، أشار إلى تاريخ مصر وما تقلّب فيها من الأحوال وما مرّت عليها من القرون الحافلة بالحوادث بقوله: «ثم اعلمْ يا مالك أني قد وجّهتُك إلى بلاد قد جرتْ عليها دول قبلك من عدل وجور؛ وأنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنتَ تنظر فيه من أمور الولاة قبلك...». أوصى الإمام عامله أن يضع أمام عينيه ماضي مصر ليأخذ منه ما يصلح به حاضرها، مشيراً إلى أن الأعمال الصالحة هي التي يجب أن تكون غرض كل امرئ في الحياة «وإنما يُستدلّ على الصالحين بما يُجري الله لهم على ألسُن عباده؛ فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح...».

فالإمام (عليه السلام) قال له: «قد کنت تسمع أخبار الولاة وتعيب قوماً وتمدح قوماً؛ وسيقول الناس في إمارتك الآن نحو ما کنت تقول في الأمراء، فاحذر أن تُعاب وتُذمّ كما كنت تعیب وتذُمّ من يستحق الذمَّ...». وكان يقال: «ألسنة الرّعية أقلام البند سبحانه إلى الملوك»(29)

اذا كان البند الاول الوارد في هذا العهد هو تقوى الله والتزام حدوده لان من يخشی الله في عمله سيتقنه ويخلص فيه وهذا مراد الامام عليه السلام، فمراعاة حقوق الله عز وجل يقود الى سبل البر والنجاة.

ثم يوصي الامام الاشتر بان يقدم مصلحة مصر على أي مصلحة أخرى، وان يعمل على الحفاظ عليها وان يعمل صالحاً خدمة لهذا البلد وهنا يبرز البند الثاني وهو البند العام بالحفاظ على مصالح البلد والعمل على استقراره.

ص: 236

بنود في العهد

البند الاول: التقوى: أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا من جحودها وإضاعتها وأن ينصر الله سبحانه بیده وقلبه ولسانه فانه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من اعزه وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات وينزعها عند الجمحات فان النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله.

البند الثاني: السيرة الحسنة: ثم اعلم يا مالك إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما کنت تقوله فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده فليكن احب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت.

البند الثالث: تقديم العناية للرعية والترفق بهم: واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فانهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ویؤتی على أيديهم في العمد والخطأ. فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه، فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم فلا تنصبن نفسك لحرب له، فانه لا يدمي لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فان ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير.

ص: 237

البند الرابع: تجنب الكبر والاستعلاء: وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فان ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فان الله يذل كل جبار ويهين كل مختال. الإنصاف: انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك هوى فيه من رعیتك فانك ان لا تفعل تظلم. ومن ظلم عبدالله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيء ادعى إلى تغيير نعمة الله وتعجیل نقمته من إقامة على ظلم. فان الله يسمع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.

البند الخامس: اتباع العدل مع الرعية: وليكن احب الأمور إليك أوسطها في البند وأعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة وليس أحد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء واقل معونة له في البلاء واكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف واقل شكرا عند الإعطاء وأبطأ عذرا عند المنع واضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامه، فليكن صفيك لهم وميلك معهم.

البند السادس: الابتعاد عن الوشاة وعدم تصديقهم: وليكن ابعد رعيتك منك واشنأهم عندك اطلبهم لمعایب الناس فان في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك وأطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يصلح لك، ولا تعجلن

ص: 238

على تصدیق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين.

البند السابع: استشارة اصحاب العلم والحكمة: ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا یزین لك الشره بالجور فان البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله.

البند الثامن: حق التعليم: واکثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك. طبقات المجتمع: واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة. وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهدا منه محفوظا فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاء والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويأتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. الاستعانة بالله (تعالى): وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الزمه الله تعالى من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم البند والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل.

ص: 239

البند التاسع: قادة الجيش: فول من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله وإمامك وأنقاهم جیبا وأفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فانهم جماع من الكرم وشعب من العرف.

البند العاشر: حق رعاية الرعية: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وان قل فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فان لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. سیاسته معهم: وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته. وافضل عليهم من جدته بما يسعهم من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعدید ما أبلی ذوو البلاء منهم فان كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل ان شاء الله تعالى ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ولا تقصرن به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ولا ضعة امرئ إلى أن تصغر من بلائه ما كان عظيما. الرجوع للمصادر الشرعية: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه وتعالى احب إرشادهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول

ص: 240

الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

البند الحادي عشر: شروط اختيار القضاة: ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحکه الخصوم ولا يتمادي في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى البند إذا عرفه. ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج واقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل. ثم اكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا.

البند الثاني عشر: الابتعاد عن الشبهات: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه وتعالى احب إرشادهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطیعوا الرسول وأولي الأمر منکم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. اختيار العمال والولاة: ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة فانهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فانهم اكرم أخلاقا واصح أعراضا واقل في المطامع إشرافا وابلغ في عواقب الأمور نظرا ثم اسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم ان خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فان تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان.

البند الثالث عشر: خيانة العمال: فان أحدا منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها

ص: 241

عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.

البند الرابع عشر: الخراج ومالية الدولة: وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا فان شکوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحالة ارض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد اجتملوه طيبة أنفسهم به فان العمران محتمل ما حملته وإنما یؤتی خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.

البند الخامس عشر: التعامل الكتاب وأصحاب الديوان: ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عالك عليك و إصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك و يعطي منك ولا يضعف عقدا اعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل بقدر نفسه

ص: 242

يكون بقدر غيره اجهل ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا واعرفهم بالأمانة وجها. فان ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره.

البند السادس عشر: . فنون الكتابة: واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره کبیرها ولا يتشتت عليه كثيرها. ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت عنه ألزمته.

البند السابع عشر: التعامل التجار والاحتكار: ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فانهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح فيبرك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فانهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيفا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير إسراف.

البند الثامن عشر: التعامل الفقراء: ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني فان في هذه الطبقة قانعا ومعترا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعیت

ص: 243

حقه ولا يشغلنك عنهم بطر فانك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمة العيون وتحتقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسالة نفسه وذلك على الولاة ثقیل والبند كله ثقيل وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العافية فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. أصحاب الحاجات والمصالح واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته. الإعطاء والمنع وأعط ما أعطيت هنيئا وامنع في إجمال وإعذار.

البند التاسع عشر: واجبات الوالي المباشرة: ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. عدم إدخال عمل يوم في يوم وامض لكل يوم عمله، فان لكل يوم ما فيه.

البند العشرين: أداء الفرائض: واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقیت واجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصة ما تخلص لله به دینك إقامة فرائضه التي هي له خاصة فأعط

ص: 244

الله من بدنك في ليلك ونهارك ووف ما تقربت به إلى الله سبحانه من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا فان في الناس من به العلة وله الحاجة وقد سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجهني إلى اليمن كيف اصلي بهم فقال صل بهم صلاها ضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما. الاحتجاب عن الناس: وأما بعد هذا فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب البند بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على البند سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في البند ففیم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل کریم تسديه أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع ان اكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

البند الواحد والعشرين: التعامل مع الخاصة والحاشية: ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعه ولايطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة والزم البند من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة ذلك محمودة. جانب إعلامي: وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك واعذار تبلغ به حاجتك من تقويمهم على البند.

ص: 245

البند الثاني والعشرين: . العدو والعهد: ولا تدفن صلحا دعاك إليه عدوك لله فيه رضى فان في الصلح دعه لجنودك وإراحة من همومك وأمنا لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فان العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن النية وان عقدت بينك وبين عدو لك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فانه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد علیه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرن بذمتك ولا تخیسن بعهدك ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته وحریما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل ولا تعولن على لحن القول بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير البند فان صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وان تحيطه بك من الله طلبة لا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك.

البند الثالث والعشرين:. سفك الدماء: وإياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام فان ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن وان ابتليت بخطأ وإفراط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة فان في الوكزة فما فوقها مقتله فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تودي إلى أولياء المقتول حقهم.

ص: 246

البند الرابع والعشرين: آداب عامة: وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.

البند الخامس والعشرين: المن والوعد: وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور البند والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه وتعالی کبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون.

البند: السادس والعشرين: العجلة: وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه.

البند السابع والعشرين: الاستئثار والتغابي: وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما تعنی به مما قد وضح للعيون فانه مأخوذ منك لغيرك وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ينتصف منك للمظلوم. الحلم: املك حمية انفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو اثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله) أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكي لا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.

ص: 247

الخاتمة:

وأنا أسال الله بسعة رحمته وعظیم قدرته على إعطاء كل رغبة ان يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه من حسن الثناء في العباد وجمیل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وان يختم لي ولك بالسعادة والشهادة أنا إلى الله راغبون والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

حقوق الانسان الواردة في العهد:

1. العدل الاجتماعي:

يؤكّد الإمام (عليه السلام) في عهده على وجوب اعمام العدل الاجتماعي مع الاجتهاد في رضا العامة من الأمة ويقول: «أنصفِ الله وأنصفِ الناسَ من نفسك ومن خاصّة أهلك ...» (30).

ثم ذكر صفات الخاصة المذمومة:

الأولى: كونهم أثقل مؤونة على الوالي في الرخاء، لتكلّفه لهم ما لا يتكلّفه لغيرهم؛ والثانية: كونهم أقلّ معونة له في البلاء لمحبتهم الدنيا؛

والثالثة: كونهم أكره للإنصاف لزيادة أطماعهم في الدنيا على ما تطلبه العامة؛

والرابعة: كونهم أسأل بالإلحاف لأنهم عند الحاجة إلى السؤال أشد جرأة على الوالي؛

والخامسة: كونهم أقلّ شكراً عند الإعطاء، لاعتقادهم أنهم أحق بالإعطاء لحاجة الوالي اليهم؛

والسادسة: كونهم أبطأ عذراً للوالي إن منعهم؛

والسابعة: كونهم أضعف صبراً عند ملمّات الدهر لتعوّدهم الرفاهيةَ والنعيم.

ص: 248

أما صفات العامة من السواد الأعظم:

فالأولى: كونهم عمود الدين؛ لأنّ قيام الدين لا يكون إلا بهم.

والثانية: كونهم العدّة للاعداء لكثرتهم ولقوّة سواعدهم. والثالثة: كونهم جماع المسلمين؛ لأنهم الأغلب والأكثر والسواد الأعظم.

هذه الصفات للفريقين تستلزم وجوب حفظ قلوب العامة وتقديمه على حفظ قلوب الخاصة.

وهو حق العدل الاجتماعي لعامة الناس والرأفة بهم والتعرف على احوالهم فلا يثقل عليهم وقت الشدة وان يخفف عنهم وقت البلاء وان يراعي ان الرعية دوما اقل صبراً من الوالي عليهم فلا يجدون عذرا للوالي في حال اخفق او قصر او سها، ولم يفت امير المؤمنين (عليه السلام) من تذكير الاشتر بانهم الاكثر والاغلب فهم عمود الدين وفي حال نفروا من الوالي سيكونوا سواعد بید اعداء الدين لذا طلب منه الرافة بهم والترفق باحوالهم.

ينصح الإمام (عليه السلام) مالكاً بستر عيوب الناس وبالابتعاد عن بعض الرعية بقوله: «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعایب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحقُّ مَنْ ستَرها...»(31).

2. حقوق الرعية وتشمل:

أ - ستر العيوب: ستر عيوب الرعية والابتعاد عن من يطلب عيوب الناس والتشهير بهم ويذكر مالكاً بان الاحری به ان يستر عيوبه.

ب - المشورة من الرعية: يشدّد الإمام علي (عليه السلام) على مالك الأشتر في النهي عن إدخال البخيل والجبان والحريص في مشورته بقوله: «ولا تُدخِلَنّ في مشُورَتِك

ص: 249

بخيلاً يُعدِلُ بك عن الفضلِ، ويعِدُك الفقرَ، ولا جباناً يُضعِّفُك عن الأمورِ، ولا حريصاً يُزيّنُ لك الشَّرَه بالجَوْرِ، فإن البخلَ والجبنَ والحرصَ غرائزُ شتّى يجمعها

سوءُ الظَّنّ بالله»(32).

ج - حق الموظف الاداري: وفي مكان آخر يأمره بأن يكسر نفسه عن الشهوات التي تحيط بالموظف الإداري، خاصة ذلك الذي يعتلي أعلا المناصب في الدولة لأنها هي والتعفف على طرفي نقيض، إذ من المستحيل أن يكون عفیفاً متی انساق وراءَ شهواته وهواه وأعطى نفسَه الأمّارة بالسوء زمام أموره، فأمره بامتلاك هواه وردع شهواته والشحّ بنفسه عما لا يحل لها بقوله: «فاملِكْ هواك وشُحَّ بنفسك عما لا يحلّ لك؛ فإن الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبَّتْ أو كرهتْ».

د - الثقة بين الوالي والرعية: يشير الإمام (عليه السلام) في عهده إلى عوامل الثقة الاجتماعية بين الراعي والرعية، ويذكر منها حسن ظن الراعي برعيته، وعدم نقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، وعدم إحداث سنّة تضرّ بماضي تلك السنن، ومدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، فيقول:

واعلم أنه ليس شيءٌ بأدعى إلى حسن ظن والٍ برعيته من إحسانه إليهم... ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة... ولا تُحدِثَنَّ سنّة تضرّ بشيء من ماضي تلك السنن... وأكثِرْ مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبیت ما صلَح عليه أمرُ بلادك، وإقامةِ ما استقام به الناسُ قبلَك.

هذه العوامل التي جعلها الإمام (عليه السلام) من عوامل الثقة الجماعية بين الراعي والرعية، يشير إليها طاهر بن الحسين معتبراً أنّ حسن الظن بالله وبالرعية يزيد الثقة بين الراعي والرعية، حيث يقول:

أحسن الظنّ بالله يستقمْ لك رعيتُك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدمْ الليا

ص: 250

به النعمة عليك. ولا تتّهمنّ أحداً من الناس فيما تُوليه من عملك قبل أن تكشف أمرَه بالتهمة؛ فإن التّهم بالبُرَآء والظنون السيئة بهم مأثمٌ. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرُد عنك سوء سوء الظن هم وارفضه عنهم يُعنْك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ... واعلم أنك تجد بحسن الظن قوةً وراحةً.

وفي ختام عهده يوصيه بمجالسة العلماء بقوله: «وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم».

ه - اقسام المجتمع: قسم الإمام (عليه السلام) في عهده المجتمع إلى طبقات فقال:

واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلُح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض؛ فمنها جنود الله، ومنها كُتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عُمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذِّمَّة ومُسْلِمةِ الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وكلٌّ قد سمّى الله له سهمه.

ط - طبقات المجتمع:

3. شروط اختيار القضاة:

ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى البند إذا عرفه. ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج واقلهم تبرما بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء وأولئك قليل. ثم اكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا فان هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا.

ص: 251

4. الجنود والخراج

ثم ذكر أعمال هذه الطبقات، فقال الجند للحماية، والخراج يُصرف إلى الجند والقضاة والعمال والكتاب لما يحكمونه من المعاقد، ويجمعونه من المنافع. ولا بدّ لهؤلاء جميعاً من التجار لأجل البيع والشراء الذي لا غناء عنه، ولا بدّ لك من أرباب الصناعات كالحداد والنجار والبناء وأمثالهم. ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى، وهم أهل الفقر والحاجة الذين تجب معونتهم والإحسان إليهم(33).

الجندية عند الإمام تبثّ روحَ الثقة الاجتماعية بين الأفراد، وحبَّ الطاعة للنظام العام، والكراهةَ للتفرقة والانقسام، والحثَّ على الأخوّة والتعاون والتكاتف في سبيل مصلحة المجموع، وتقديس الواجب، وهذا الخُلق الروحي هو جوهر ما ترمي إليه تعاليم الجندية ونظامها (34).

من هنا نرى الإمام (عليه السلام) خصّص فصلاً من عهده فيما يتعلق بأمراء جيشه، فأمره أن يؤمّر على جيشه مَن كان أنصحهم لله في ظنه، وأطهرهم جيباً، ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات وأهل الشجاعة والسخاء في اختيار جيشه.

5. قادة الجيش:

فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ولرسوله وإمامك وأنقاهم جيبا وأفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فانهم جماع من الكرم وشعب من العرف.

ص: 252

6. تفقد احوال الرعية:

أمره الامام مالكاً أن يتفقد جسيم أمورهم وصغيرها، أمره ألا يعظِّمَ عنده ما يقويهم به وإن عظم، وألا يستحقرَ شيئاً تعهدهم به وإن قلَّ، وألا يمنعَه تفقّدُ جسيم أمورهم عن تفقّد صغيرها، وأمره أن يكون آثر رؤوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه مَن واساهم في معونته... ثم أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم؛ فإن ذلك مما يُرْهِف عزم الشجاع ويحرّك الجبان(35).

7. القضاء

لقد احتوى كلام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فيما كتبه لعامله الأشتر على قواعدَ وأصول مهمة تتعلق بالقضاء والقضاة، يصور فيه شخصية الحاكم وكيف يجب أن يكون؛ يقول: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحِّكه الخصوم. ولا يتمادى في الزّلّة ...»؛ وهكذا يعدّد صفات الحاكم إلى أن لا يأمره بأن يتطلع على أحكامه وأقضيته، وأن يفرض له عطاء كافياً يملأ عينه، ويتعفّف به عن المرافق والرشوات، وأن يكون قريب المكان منه، كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به وتقبيحهم ذكر ذكره عنده.

8. الابتعاد عن الوشاة وعدم تصديقهم

وليكن ابعد رعيتك منك واشنأهم عندك اطلبهم لمعايب الناس فان في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك وأطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يصلح لك، ولا تعجلن على تصديق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين.

ص: 253

9. خيانة العمال

فان أحدا منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.

10. الخراج ومالية الدولة:

وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولاصلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا فان شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحالة ارض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد اجتملوه طيبة أنفسهم به فان العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.

11. أداء الفرائض:

واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقيت واجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصة ما تخلص

ص: 254

لله به دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ووف ما تقربت به إلى الله سبحانه من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا فان في الناس من به العلة وله الحاجة وقد سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجهني إلى اليمن كيف اصلي بهم فقال صل بهم صلاها ضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما. الاحتجاب عن الناس: وأما بعد هذا فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب البند بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على البند سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في البند ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسديه أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع ان اكثر حاجات الناس إليك ما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

12. التعامل مع الخاصة والحاشية:

ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعه ولايطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة والزم البند من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فان مغبة ذلك محمودة. جانب إعلامي: وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم

ص: 255

باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك واعذار تبلغ به حاجتك من تقويمهم على البند.

13. المن والوعد:

وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور البند والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله سبحانه وتعالى كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون.

14. العجلة:

وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه.

15. الاستئثاروالتغابي:

وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون فانه مأخوذ منك لغيرك وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور ينتصف منك للمظلوم. الحلم: املك حمية انفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو اثر عن نبينا (صلى الله عليه وآله) أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكي لا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها.

ص: 256

ك - اتباع العدل مع الرعية: وليكن احب الأمور إليك أوسطها في البند وأعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة وليس أحد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء واقل معونة له في البلاء واكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف واقل شكرا عند الإعطاء وأبطأ عذرا عند المنع واضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامه، فليكن صفيك لهم وميلك معهم.

م - حق التعليم: واكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك. طبقات المجتمع: واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة. وكل قد سمى الله له الله له سهمه ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهدا منه محفوظا فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاء والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويأتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة و

ص: 257

لكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. الاستعانة بالله (تعالى): وليس يخرج الوالي من حقيقة ما الزمه الله تعالى من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم البند والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل.

س - حق رعاية الرعية: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وان قل فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها فان لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. سياسته معهم: وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته. وافضل عليهم من جدته بما يسعهم من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وانه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم فان كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل ان شاء الله تعالى ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ولا تقصرن به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ولا ضعة امرئ إلى أن تصغر من بلائه ما كان عظيما. الرجوع للمصادر الشرعية: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه وتعالى احب إرشادهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

ص: 258

ش - الخراج ومالية الدولة: وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا فان شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو أحالة ارض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المئونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد اجتملوه طيبة أنفسهم به فان العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.

ص - التعامل الكتاب وأصحاب الديوان: ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك ولا يضعف عقدا اعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فان الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فان الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك 260

ص: 259

فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا واعرفهم بالأمانة وجها. فان ذلك دليل على نصيحتك الله ولمن وليت أمره.

و - التعامل الفقراء: ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمني فان في هذه الطبقة قانعا ومعترا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه ولا يشغلنك عنهم بطر فانك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحتقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسالة نفسه وذلك على الولاة ثقيل والبند كله ثقيل وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العافية فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. أصحاب الحاجات والمصالح واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته. الإعطاء والمنع وأعط ما أعطيت هنيئا وامنع في إجمال وإعذار.

ص: 260

ي - واجبات الوالي المباشرة: ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك ومنها إصدار حاجات الناس عند ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. عدم إدخال عمل يوم في يوم وامض لكل يوم عمله، فان لكل يوم ما فيه.

من كل ما تقدم نجد ان الامام علي بن ابي طالب عليه السلام قد سبق الاعلان العالمي لحقوق الانسان بنيف والف من الاعوام في احترام حقوق الانسان، وهو ما يؤكد سماحة الشريعة الاسلامية اذ ان الامام يمثل رسول الامة (صلى الله عليه واله) والذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى.

ص: 261

المبحث الرابع: النتائج والتوصيات

لقد توصل البحث للنتائج الاتية:

1. ان للشريعة الاسلامية السمحاء الدور الاول في رعاية الانسان ومراعاة انسانيته بالدرجة الاولى.

2. ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) كان من أوائل الدعاة للمحافظة على حقوق الانسان وخير ما يجسد ذلك عهده لعاملة على مصر مالك الاشتر.

3. تضمن عهد الامام علي تفصيلاً دقيقاً لواجبات الحاكم تجاه الرعية ولم يغفل الامام عن أي تفصيلية من تفصيلات واجبات الحاكم.

4. قسم الامام (عليه السلام) المجتمع لطبقات وفئات عدة واصفاً كيفية التعامل مع كل طبقة وهو بعهده هذا يجسد ما على الوالي تطبيقه حقاً تجاه الرعية.

5. جسد الامام سماحة الدين الاسلامي بالتعامل مع غير المسلمين والمحافظة على حقوقهم مع انهم يعيشون في مجتمعات غير اسلامية وهو ما يضمن حق عامة الناس وخاصتهم وان اختلفت ديانتهم، وهو بذلك يقر مبدا التعايش السلمي بين ابناء المجتمع الواحد.

6. يؤكد الامام (عليه السلام) على ضرورة ان ياخذ الوالي المشورة من اصحاب الخبرة والحلم والحكمة وان يبتعد عن اهل التفرقة والبغضاء والشحناء.

7. يؤكد على الامام على ضرورة متابعة الوالي لامور رعيته والتعامل معهم بالرفق والرافة والرحمة عامة ومع الفقراء منهم بنحوٍ خاص.

ص: 262

التوصيات:

1. ضرورة اتباع مبادئ العهد وبنوده من اصحاب السلطة وصناع القرار فو عمل أي منهم بمبادئ هذا العهد وواجباته لوجدنا مجتمع يزدهر ويبدع افراده.

2. ضرورة ان يدرس عهد الامام علي بن ابي طالب في كليات القانون والسياسة لينهل سیاسيو الغد من عبق الفكر العلوي المطهر.

3. تنظيم دورات تدريبي لكل المعنين بالسياسة تتضمن مبادئ العهد واجراءات تطبيقه.

ص: 263

مصادر البحث:

القران الكريم

1. ادوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج 3 (القرون الوسطى)، مصدر سابق ص 20 وما بعدها، ج 4، (لغاية القرن 18).

2. ایمار، اندرية وجانين ابوایه، تاريخ الحضارات العام، ترجمة فرید داغر، بیروت، دار عويدات، 2003

3. البخاري، ابو عبد الله بن اسماعیل، صحيح البخاري، (بیروت، دار الفكر، 1981)

4. الحسینی، هاشم معروف، دراسات في الحديث والمحدثين (دراسات في الكافي للكلینی والصحيح للبخاري)، ط 2، (بیروت، دار التعارف، 1978).

5. د. احمد جمال ظاهر، حقوق الإنسان ، عمان، مركز النهضة للخدمات الفنية، 1988.

6. د. جهاد الحسني، «واقع السلطة السياسية ومفهومها في مصر القديمة» مجلة العلوم القانونية والسياسية، العدد 1 - 2، بغداد، 1984.

7. د. عبد الكريم علوان، الوسيط في القانون الدولي العام، (الكتاب الثالث - حقوق الإنسان)، (عمان، دار الثقافة، 2004).

8. د. محمد سعید مجذوب، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، لبنان، جروس برس، 1980.

9. د. محمد عمارة، الفكر الاجتماعي لعلي بن ابي طالب، ط 1، (القاهرة، دار الثقافة، 1977)

10. د. نبيل احمد حلمي، «حقوق الانسان في التنمية»، مجلة السياسة الدولية، العدد 68، 1982.

11. دیورانت، ول، الحضارة، ترجمة محمد بدران، القاهرة، مطبعة لجنة التالیف، 1968

12. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد المعتزلي، تحقيق: محمد ابراهيم، دار الكتاب العربي - دار الاميرة للطباعة والنشر والتوزيع، 2007

13. صلاح حسن مطرود، السيادة وقضايا حقوق الإنسان وحرياته الاساسية، اطروحة دكتوراه، غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1995.

14. الطبراني، ابو القاسم سلیمان بن محمد بن ایوب، المعجم الاوسط، تحقیق ابراهيم الحسيني، (د.

ص: 264

م، دار الحرمين، د.ت).

15. الطبراني، ابو القاسم سلیمان بن محمد بن ایوب، المعجم الصغير، (بیروت، دار الكتب العلمية، د.ت).

16. الطبراني، ابو القاسم سلیمان بن محمد بن ایوب، المعجم الكبير، تحقیق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 2، (القاهرة، مكتبة ابن تيمية، د. ت).

17. علي محمد جعفر، تاريخ القوانين ومراحل التشريع الاسلامي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986

18. عمارة، د. محمد، الخلافة ونشأة الاحزاب الاسلامية، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984).

19. عمارة، د. محمد، الفكر الاجتماعي لعلي بن ابي طالب، ط 1، (القاهرة، دار الثقافة، 1977).

20. عمارة، د. محمد واخرون، علي بن ابي طالب (نظرة عصرية جديدة)، (بيروت المؤسسة العربية، 1974).

21. الغنوشي: راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، ص 23 نقلا عن عبد الوهاب الكيالي (وآخرون)، موسوعة السياسة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979.

22. الفكيكي، توفيق، الراعي والرعية، ط 3، (بغداد، المعرفة للنشر والتوزيع، 1990).

23. المركز الوطني لحقوق الإنسان، موقع دائم عبر الإنترنت www.nchr.org.jo

24. مؤتمر حقوق الإنسان في الشريعة: الحديثي: خليل، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ملاحظات في نقد الفكر الغربي.

25. مؤتمر حقوق الإنسان في الشريعة والقانون: البياتي: حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون.

ص: 265

الهوامش

1. د. محمد سعید مجذوب، حقوق الإنسان والحريات الأساسية، (لبنان، جروس برس، 1980)، ص 9.

2. صلاح حسن مطرود، السيادة وقضايا حقوق الإنسان وحرياته الاساسية، اطروحة دكتوراه، غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1995، ص 39

3. المركز الوطني لحقوق الإنسان، موقع دائم عبر الإنترنت www.nchr.org.jo

4. صلاح حسن مطرود، السيادة وقضايا حقوق الإنسان وحرياته الاساسية، اطروحة دكتوراه، غير منشورة، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، 1995، ص 59

5. علي محمد جعفر، تاريخ القوانين ومراحل التشريع الاسلامي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1986، ص 23 وما بعدها.

6. مطرود، مصدر سابق، ص 63 - 65

7. د. جهاد الحسني، «واقع السلطة السياسية ومفهومها في مصر القديمة» مجلة العلوم القانونية والسياسية، العدد 1 - 2، بغداد، 1984، ص 142

8. ایمار، اندرية وجانين ابوایه، تاريخ الحضارات العام، ترجمة فرید داغر، بیروت، دار عويدات، 2003، ج 1، ص 44 - 72.

9. د. احمد جمال ظاهر، حقوق الإنسان، (عمان، مركز النهضة للخدمات الفنية، 1988)، ص 77.

10. د. نبيل احمد حلمي، ««حقوق الانسان في التنمية»، مجلة السياسة الدولية، العدد 68، 1982 ،ص 88.

11. ایمار، مصدر سابق، ج 1، ص 327.

12. ديورانت، مصدر سابق، ج 3، ص 12.

ص: 266

13. ایمار، مصدر سابق، ج 2، ص 696 - 699.

14. ادوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج 3 (القرون الوسطى)، مصدر سابق ص 20 وما بعدها، ج 4، (لغاية القرن 18)، ص 38.

15. الزحیلی، مصدر سابق، ص 102 - 108.

16. د. عبد الكريم علوان، الوسيط في القانون الدولي العام، (الكتاب الثالث - حقوق الإنسان)، (عمان، دار الثقافة، 2004)، ص 25.

17. الغنوشي: راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، ص 23 نقلا عن عبد الوهاب الكيالي ( وآخرون)، موسوعة السياسة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، ج 2، ص 244

18. المصدر السابق، ص 34.

19. مؤتمر حقوق الإنسان في الشريعة: الحديثي: خلیل، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ملاحظات في نقد الفكر الغربي، ص 30.

20. مؤتمر حقوق الإنسان في الشريعة والقانون: البياتي: حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون، ص 133.

21. عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان، ص 164

22. مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 570 - الطبراني أبو القاسم سلیمان بن أحمد، توفي 360 ه، المعجم الأوسط، کتاب آداب النفوس، وقال: تفرد به سهل بن عثمان، ولم يروه عن الجريري إلا أبو المنذر.

23. عمارة: الإسلام وحقوق الإنسان، ص 177

24. الحديث رواه البخاري (12 - 11 - فتح)، برقم: 6732، کتاب: الفرائض، باب: میراث الولد من أبيه وأمه، ومسلم (11 - 52 - نووي)، کتاب: الفرائض.

ص: 267

25. الحسيني الخطيب، 1405ه، ص 431.

26. النويري، د. ت، ص 19 32.

27. الحسيني الخطيب، 1405ه، ص 431.

28. المصدر نفسه، ص 431.

29. ابن أبي الحديد، 1387 ه، ص 31.

30. المصدر نفسه.

31. شرح نهج البلاغة لابي حديد.

32. المصدر نفسه

33. شرح ابي حديد، ص 50.

34. الفكیكي، 1402 ه، ص 94.

35. شرح ابي حديد ص 54.

ص: 268

الفقراء وذوو الاحتياجات الخاصة بين عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

اشارة

م. د شهيد كريم محمد الكعبي

جامعة ميسان - كلية التربية

أ. م. د نعمة ساهي الموسوي

جامعة ميسان - كلية التربية

ص: 269

ص: 270

ملخص البحث

حاول هذا البحث رصد تأسيس الإمام علي (عليه السلام) لمفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان في عهده لواليه مالك الأشتر حين ولاه على مصر عام (38 ه - 658 م)، وقد ركز البحث على حقوق الطبقة السفلى التي ينضوي تحتها الفقراء والبؤساء وذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام والعجزة، وكيف أن الإمام (عليه السلام) سجل في هذا العهد سبقاً زمنياً للحقوق التي أقر مبادئها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948 م)، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عام (2008 م)، بمسافة زمنية تصل إلى (14 قرن). وكذلك حاول البحث بيان أصالة المشروع الذي تمثله الإمام (عليه السلام)، وصدوره من المبادئ التي أقرها القرآن الكريم والأسس الإسلامية في إدارة الدولة والمجتمع، وكذلك تبيان مدى شموليته ومثاليته، وتشربه بالروح الإنسانية، وكيف عکس من خلاله سعيه لتأسيس دولة المؤسسات والمواطنة، التي لم تنتبه لها المدنيات الحديثة إلا في وقت متأخر.

ص: 271

حقوق الإنسان بين الإمام علي (عليه السلام) الإعلان العالمي.

صدر الإمام علي (عليه السلام) في تحديده طبيعة التعامل الإنساني الأسمى والأمثل مع الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة - في عهده لواليه مالك الأشتر - من حقيقة نفسه وروحه التي استحوذ عليها البعد الإنساني حتى تغلغل في كل ذرة من ذراتها، وصاغ ذلك الضمير العملاق وتلك الكينونة الفريدة التي عكست معنى العظمة الإنسانية عبر التاريخ. على أن صدوره ذاك لم يكن مجرد ترف فكري أو مجرد بوح بمكنونات نفسية وتعاطف شعوري مع تلك الطبقة، إنما هو أيضاً طبيعة سلوكية قارة جُبلت عليها شخصيته المثالية، وممارسة عملية دائمة تفرد بها عن غيره من عظماء الفكر الإنساني وحكام الشعوب، بمعنى أنه من القلائل الذين شفعوا النظرية بالعمل عبر مسار الإنسانية الطويل.

وهو بذلك يمثل تکاملاً - على مستوى النظرية والتطبيق - وسبقاً زمنياً للعبقريات الأوربية التي تتباهی وتتبجح بتقنينها لحقوق الإنسان، ففي الوقت الذي قررها الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر عام (38 ه - 658 م) اي في القرن السابع الميلادي، ظلت هذه المبادئ والحقوق مجهولة وغير معترف بها في أوربا حتى نهايات القرن الثامن عشر!، فمن الثابت تاريخياً أن العبقريات الأوربية بدأت تشق طريقها في العمل على ترويض وتمرين الفكر والعقل الأوربي على تقبل مفاهیم حقوق الإنسان وحرية الأفراد وتساويهم أمام القانون في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

على أن تلك البدايات كانت تتحرك بخطى وئيدة وحذرة جداً، بدليل أنها أُريد لها التسلل للعقل والفكر الأوربي عبر القصص أو الروايات الرسائلية التي كتبها أدباء ومفكري أوربا في القرن الثامن عشر أمثال: صامويل ريتشاردسون (1689 - 1761 م) في روايتيه: (بامیلا 1740 م وكلاريسا 1747 - 1748 م)، وجان جاك روسو (1712 -

ص: 272

1778 م) في روايته: (جولي أو إلواز الجديدة 1761 م) التي أراد منها أن تكون تمهیداً لإصدار كتابه العقد الاجتماعي الذي أصدره عام (1762 م)، وكان خط الشروع لشياع استخدام مصطلح (حقوق الفرد) في فرنسا بعد وروده في هذا الكتاب (1). فقد تعلم قُراء الروایات توسيع نطاق تعاطفهم، وتمكنوا عبر التفاعل مع تلك الروايات والقصص - التي تعكس الواقع الإنساني المؤلم آنذاك - أن يشعروا بالتعاطف بما يتجاوز الحدود التقليدية بين طبقتي النبلاء والعامة، وبين السادة والعبيد، وبين الرجال والنساء، بل ربما أيضاً بين الصغار والكبار، ونتيجة لذلك بدأوا ينظرون إلى آخرين - أشخاص لم يعرفوهم معرفة شخصية من قبل - على أنهم مشابهون لهم، ولهم نفس المشاعر والأحاسيس الداخلية، وبدون هذا الشعور ما كان لمفهوم الحقوق أن يحقق تقدماً أو نتيجة سياسية تذكر، فقبل القرن الثامن عشر، كان من السهل على المسيحين تقبل مفهوم تساوي الأرواح في السماء ولكن لم يكن من السهل عليهم أن يتقبلوا أو يقروا بالحقوق المتساوية على الأرض أو في العالم الأرضي الدنيوي. لقد أحدثت الروايات الرسائلية والقصص الاجتماعية حراكاً واضحاً في الذوق الأوربي، سيما مع تزايدها وتزايد الاقبال عليها في ستينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، ولا شك أنها أحدثت نقلة على مستوى الآثار النفسية المرتبطة ببزوغ مفاهیم حقوق الإنسان وتصوراتها (2). ولكن هذه النقلة ظلت مجرد أفكار تخامر عقول ومشاعر بعض القراء والمثقفين والفلاسفة، فاستبداد السلطة والنبلاء والطبقات العليا وأصحاب المال لم يكن ليخضع بسهولة أمام العاطفة والمشاعر والكلمات.

وعليه حتى ذلك الوقت، ومع الجهود التي بذلها فلاسفة أوربا ومفكريها، ظلت كل القارة حتى نهايات القرن الثامن عشر وعشية الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الانسان والمواطن، ترتع بأقسى حالات استعباد الإنسان وإذلاله وامتهان كرامته وحريته وإنسانيته، وإهدار حقوق الضعفاء والفلاحين والطبقات الكادحة والمهاجرين وسحقهم، لإشباع رغبات الملوك وطبقات الأشراف والنبلاء ورجال الدين، فقد كتب

ص: 273

أحد الفلاحيين الفرنسيين عام (1788 م) رسالة لوزير المالية في عهد لويس السادس عشر (جاك نكير = Jacques Necker (1732 - 1804 م) قال فيها: «إن الفقراء يقاسون البرد والجوع بينما يرتع كهنة الكاتدرائيات في رغد من العيش، ولا يفكرون إلا في تسمين أنفسهم، كأنهم خنازیر ستذبح للفصح»(3).

ومع أن حقوق الإنسان في أوربا كانت نتاج أجيال متعاقبة من الفلاسفة والمفكرين ورجال الإدارة والسياسة، حتى صيغت أولاً في (إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 م) ومن ثم (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) عقب نجاح الثورة الفرنسية عام (1789 م) فإنها ظلت قاصرة عن بلوغ سمة العالمية، بل إنها أهملت حقوق الاطفال والمختلين العقليين، والمساجين، وعديمي الأهلية (المرضى والمعاقون وكبار السن) والفقراء، والرقيق والأحرار السود والأقليات الدينية والنساء(4). ولذلك خضعت تلك الحقوق لقرابة قرنين من الزمان المزيد من التعديل والتنقيح، سيما في الجنبة القضائية والجدل المرير حول قضية التعذيب القضائي، الذي كان أحد أدوات انتزاع الاعترافات من المتهمين والمسجونين، عبر سحق العظام بآلات الشد والبكرات والضرب بأعمدة الحديد، والكي بالحديد المحمي، والحرق والخصي وتقطيع الأيدي وتمزيق الأجساد، وغيرها من المشاهد المرعبة للتعذيب والموت المؤلم البطيء(5). وهكذا فإن حقوق الإنسان في أوربا عانت مخاضاً عسيراً جداً حتى ولادتها - بشكل مرضٍ نسبياً - في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة عام (1948 م)، والذي غدى تجسيداً لوعد حقوق الإنسان العالمية، كما تعبر لين هانت(6).

هذا في الوقت الذي كان الإمام علي (عليه السلام) قد شرع قبل الفكر الأوربي بستة قرون في إرساء مبادئ حقوق الإنسان وحرية الأفراد وتساويهم في المنحى الإنساني عبر تنظيره لإدارة الدولة وممارساته السلوكية. وعليه أمام هذا المخاض العسير الذي خاضته

ص: 274

حقوق الإنسان في أوربا مع تأخرها تاريخيا يجدر بالإنسانية أن تفخر بأن الإمام علي (عليه السلام) قد أقر حقوقها بشكلها المتكامل والأمثل قبل ذلك بهذه المساحة الزمنية الهائلة، فقد تخطت مبادئه وممارساته الإنسانية حدود الممكن، وراحت تحلق به في عالم المثال الفرد.

وهنا يجدر الانتباه إلى أمور مهمة هي:

1 - أن حقوق الإنسان الأوربية على نقصها كانت نتاج عقلیات متعددة، وأجيال متعاقبة، في حين كانت الحقوق الإنسانية التي قررها أمير المؤمنين (عليه السلام) على کمالها ومثاليتها، وليدة فكره الخاص، ولم يستغرق إقرارها إلا وقت إملاء العهد على کاتبه، أو وقت کتابته إن كان كتبه بيده. أي أنه أقرها بغضون لحظات قلائل، وذلك لأنه كان يعيشها فكراً ومضموناً، وممارسة سلوكية متأصلة ودائمة.

2 - حقوق الإنسان الأوربية كانت نتيجة لحراك الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والمثقفين من فلاسفة ومفكرين وأدباء..، فقد وصلت هموم الطبقات الفقيرة والمسحوقة حداً لا يطالق، بمعنى أن تلك الحقوق أقرت على أثر الثورة والمسيرة الطويلة من التضحيات والمطالبة بالعدالة والمساواة الإنسانية. في حين كانت الحالة معكوسة تماماً في المبادئ التي أقرها الإمام (عليه السلام) فقد كان هو رأس السلطة الحاكمة، وهو من بادر إلى تقرير تلك المبادئ بمجرد تسلمه الخلافة، فقد خطب في اليوم الثاني من بيعته معلناً عن مبدئ المساواة والعدالة التي سينتهجها في الحكم فقال: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق»(7). هذا على الرغم من صيحات الاعتراض والرفض التي جابهته بها الارستقراطية

ص: 275

الإسلامية، بل وبرغم محاربتها له سيما في معركتي الجمل وصفين. وذكر أنه (عليه السلام) عوتب على سياسة التسوية في العطاء، سيما وأن خصمه معاوية كان يعطي بالتفضيل وحسب المصلحة والفائدة والقيمة العملية للشخص فتجتمع إليه الناس، بينما الإمام (عليه السلام) يقسم بالسوية فيعطي الحر كما يعطي العبد ويعطي الفقير والوضيع كما يعطي السيد والشريف، فتفرق عنه أكثر شيوخ القبائل والأشراف وطالبي الرياسة والمال والوجاهة ومن يرون وجوب تفضيلهم على الموالي والفقراء والعبيد..، وقد ذكر في هذا الصدد أن مجموعة من أصحابه قالوا له: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس وفراره. فقال (عليه السلام): أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟!. والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم. والله لو كان المال لي لواسیت بینهم فكيف وإنما هي أموالهم(8).

3 - في الوقت الذي كانت ظروف إعلان حقوق الإنسان والمواطن بعد الثورة في فرنسا، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مواتية أو مشجعة من الناحية السياسية والاجتماعية، كانت الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بخلافة الإمام (عليه السلام) في غاية الحساسية والتعقيد والخطورة، ولكنها مع ذلك لم تثنه عن تقرير مبادئه، بل لم تتمكن من جعله يفكر مجرد تفكير في تأجيل الإعلان عنها.

4 - في الوقت الذي خضعت حقوق الإنسان الأوربية لتعديلات وتنقيحات وإضافات امتدت لأكثر من قرنين من الزمان، دون أن تنضج بما يلائم هذه المدة الزمنية الطويلة والجهود الجماعية القائمة عليها، كانت الحقوق والمبادئ التي أقرها الإمام (عليه السلام) بمفرده وخلال لحظات تمثل منتهی ما يمكن أن يبلغه تشريع قانوني في هذا المجال. فقد بلغ من مثالية تشريعاته الإنسانية أن شدد على أولاده في الإحسان لقاتله ابن ملجم فقال: «أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره»(9). وعندما جيء له بإناء فيه

ص: 276

لبن شرب منه قليلاً ثم دفعه لأولاده وطلب منهم أن يحملوه إلى قاتله ابن ملجم، وطلب منهم أن يطيبوا مطعمه ومشربه، وأن يطعموه مما يأكلون ويسقوه مما يشربون وأن يرفقوا به، ولا يتعرضوا له بسوء ولا يعذبوه ولا يمثلوا به بعد موته(10).

وقد ذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) بمبادئه الإنسانية إلى أبعد حد، واراد لها أن تعم أرجاء دولته كلها، فكان يوصي عامله على مصر محمد بن أبي بكر أن يكون حذراً وعادلاً بين الناس حتى على مستوى إثارة مشاعرهم وأحاسيسهم حين يجلسون للتخاصم بين يديه: «إذا أنت قضيت بين الناس فاخفض لهم جناحك، ولين لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظ والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك»(11). وكان من وجازة قوله: (وآس بينهم في اللحظة والنظرة) ومعناه العميق أن تمثله أحد الشعراء فقال:

أقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ ٭٭٭ لعنوان ما تجن الصدور (12)

فأين هذه المثالية العليا التي يطلب فيها الإمام (عليه السلام) من أولاده أن يرفقوا بقاتله وأن يرحموه ويحسنوا إليه، ويطلب فيها من واليه بأن يواسي بين المتخاصمين حتى في نظره إليهم، أين هي من حقوق الإنسان الأوربية التي لم تستطع وضع حد لظاهرة التعذيب القضائي؟، وأين هذا الأخير من اعتراض الإمام علي (عليه السلام) على عمر بن الخطاب حين كناه أمام أحد خصومه، فقد ورد أن رجلاً استعدي عليه عند عمر بن الخطاب فالتفت عمر إليه، فقال: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك، فقام فجلس معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع الإمام إلى محله، فتبين عمر التغير في وجهه، فقال: يا أبا الحسن. مالي أراك متغيرا؟، أكرهت ما كان؟. قال نعم. قال: وما ذاك؟. قال: کنیتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم ياعلي فاجلس مع خصمك»(13).

وأين هو من قوله (عليه السلام) لمالك الأشتر حين ولاه على مصر: «أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بالإحسان إليهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا

ص: 277

تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق»(14). وهي عبارة استحوذت على قلوب الملايين، حتى أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان تحمس لعبارة (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) أيما حماسة وقال أنها عبارة يجب أن تعلق على جميع المنظمات الدولية والعالمية، وأنها عبارة يجب أن تنشدها جميع البشرية (15).

5 - ظلت حقوق الإنسان الأوربية على الدوام وصولاً إلى الوقت الحاضر، من هموم الشعب سيما الطبقات الفقيرة والمعدمة المطالبة بتلك الحقوق ومن يساندهم من دعاة التنوير والطبقة المثقفة في المجتمع، وبصورة عامة (الشعب) أو الطبقة المحكومة لا الطبقة الحاكمة أو السائدة، فهذه الأخيرة لم تكن واضعة في الحسبان أن تتماثل أو تتساوى أو تقاس مع غيرها من طبقات المجتمع سيما الدنيا منها، بل إن بعض شخصيات الطبقة المثقفة لم تكن تنظر لطبقات المجتمع السفلي على أنهم بشر، حتى أن مدام إيميلي دو شاتيليه (1706 -1749 م) الرياضية والفيزيائية الفرنسية، لم تكن تتردد في التجرد من ملابسها أمام خدمها غير معتبرة أن كون الخدم من الرجال حقيقة ثابتة(16).

في حين كانت تطبيقات مبادئ حقوق الإنسان وحرية الأفراد في عهد الإمام (عليه السلام) من أولى أولويات الحكومة والجهاز الإداري للدولة، فقد ألزم الإمام علي (عليه السلام) نفسه وعماله وولاته بتطبيق هذه المبادئ وممارستها عملياً، بل إن ذلك الإلزام كان شديداً جداً ويتوخى أدق التفاصيل حتى التي لم تنتبه لها أو تستشعرها أرقی الديمقراطيات العالمية الحديثة، فقد كان يرقع ثوبه ويلبسه ويأكل الطعام الخشن مع قدرته على لبس الثياب الجيدة وأكل الطعام اللذيذ ومع حليتهما له، ولكنه حين سئل عن ذلك قال: «لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة،

ص: 278

ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حری؟!، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة ٭٭٭ وحولك أكباد تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(17).

وقد قرع ووبخ عامله على البصرة ثمان بن حنيف عندما بلغه استجابته لدعوة طعام دعاه إليها أحد أثرياء البصرة، فكتب إليه: «بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا وإن لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضاء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعقة وسداد. فو الله ما كنزت من دنیاکم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا»(18). وهنا يتضح أن الإمام (عليه السلام) أراد لكل حکومته أو الجهاز الإداري فيها أن يستشعروا معاناة الطبقات الضعيفة، وأن يروضوا نفوسهم لمواساة فقراء الشعب.

إهمال الاعلان العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة.

خلت السبعة عشر بنداً لإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر في فرنسا عام (1789 م) والثلاثون بنداً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة عام (1948 م) من أي إشارة لذوي الاحتياجات الخاصة (19). وظلت هذه الطبقة مع الفقراء والأشخاص غير المؤهلين عقلياً وبدنياً غير منظورین، ويعيشون على هامش الحياة الأوربية المادية، يقتاتون البؤس والشقاء ويلتحفون الأماني والأحلام بيوم يُلتفت

ص: 279

إليهم فيه، وطال انتظار هذه الشريحة الاجتماعية الواسعة دون أن تبصرها عين الإنسانية العالمية وإنسانيتها المتبجحة، لتحفظ لها إنسانيتها وکرامتها وحقها في العيش الكريم فكان ذوو الإعاقة وتلك الفئات البائسة يتعرضون كل يوم لألوان من التمييز والعوائق التي تقید اندماجهم في الحياة ومشاركتهم في المجتمع، وحرموا من حقوقهم في التعليم والتوظف، والعيش المستقل، وحرية التنقل، والتصويت، والمشاركة في الأنشطة الحياتية والمجتمعية الأخرى، وظلوا غير منظورین ومهمشين في النقاشات المتعلقة بالحقوق الإنسانية حتى صدور اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عام (2006 م)، التي كانت عبارة عن معاهدة دولية تهدف إلى حماية حقوق وكرامة هذه الفئة المجتمعية، وقد اعتمد نص هذه المعاهدة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في (13 ديسمبرة 2006 م) وفتح باب التوقيع عليها في (30 مارس 2007 م)، ومن ثم دخلت حيز التنفيذ في (3 مایو 2008 م)، متحولة بذلك من إطار الأعمال الخيرية القائمة على الأساس الطبي إلى نهج قائم على حقوق الإنسان (20). بمعنى أن حقوق هذه الفئة أو الشريحة الواسعة من المجتمع ظلت مهملة لستة عقود كاملة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!.

قبالة هذا التكاسل العالمي المروع لمنظمات حقوق الإنسان في إقرار حقوق هذه الفئات الاجتماعية التي إنما تتجلى أروع صور حقوق الإنسان في خدمتها وحفظ حقوقها وكرامتها، نجد الضمير العملاق والإنسانية المثالية للإمام علي (عليه السلام) قبل (14 قرن) تضع حقوق هذه الفئات في أول سلم أولوياته، فيحمل آلامها وأمالها هاجساً يؤرقه، فلا يقر له قرار حتى يحفظ لها إنسانيتها وكرامتها، وهو المبدأ الأساس الذي ترسمه في أدائه السياسي، إذ كان حريصاً على تحسس آلام الفقراء والمعدمين ومواساتهم في مأكله وملبسه، فأرسى هذا المبدأ الإنساني العالي في سلوكه وقوله (عليه السلام): «هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد

ص: 280

حری؟!، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة ٭٭٭ وحولك أكباد تحن إلى القد

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»(21).

وقد احتل ذوو الاحتياجات الخاصة والبؤساء سلم الصدارة في اهتمامات الإمام (عليه السلام) في عهده لواله مالك الأشتر، ذلك العهد الذي صاغ بحق مبادئ حقوق الإنسان وإدارة الدولة والمجتمع بما يضمن تحقيق العدالة المثالية والمساواة الكاملة، ولذا قال عنه ابن حمدون (ت 562 ه): «جمع فيه بين حاشيتي التقوى والسياسة على بعد أقطارهما، وجدته يغني عن كثير من كلام الحكماء والقدماء، وهو مع فرط الإطالة مأمون الملالة، لجمعه بين البلاغة البارعة والمعاني الرائعة، ولولا رغبة الناس في تغاير الكلام وميل النفوس إلى التنقل في الألفاظ، لاكتفيت بإيراد هذا العهد عن غيره، إذ كان حاويا لأشتات الآداب والسياسات، جامعا للأسباب التي تلزم الملوك والولاة»(22). وقال عنه ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه): «هو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن» (23). وقال عنه النويري (ت 733 ه) خلال حديثه عن وصايا الملوك وما يجب أن يكون عليه الحكم وشخص الحاكم وإدارة الدولة والمجتمع: ولم أر فيما طالعته من هذا المعنى أجمع للوصايا ولا أشمل من عهد علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر، فأحببت أن أورده على طوله وآتي على جملته وتفصيله، لأن مثل هذا العهد لا يهمل وسبيل فضله لا يجهل (24). وقال عنه القلقشندي (ت 821 ه): «هو من العهود البليغة، جمع فيه بين معالم التقوى وسياسة الملك» (25). وقال عنه الباحث والدبلوماسي الأمريكي السابق في الشرق الأوسط (Michael Hamilton Morgan = مایکل هاملتون مورغان) في كتابه (-Lost His =tory: The Enduring Legacy of Muslim Scientists, Thinkers, and Artists

ص: 281

تاریخ ضائع: التراث الخالد لعلماء الاسلام ومفكريه وأدباءه) الصادر عام (2007 م) والذي أراد منه أن يكون محاولة لإلقاء الضوء على الفترات الزاهرة في تاريخ المسلمين وما قدموه في مجال العلوم النظرية والتطبيقية والفنون والآداب والموسيقى، مقابل اتهامهم في وسائل الإعلام الغربية بالعنف والإرهاب وعدم قبول الآخر خاصة بعد أحداث (11 - سبتمبر - 2001 م)، فتحدث فيه عن وصايا أو تراث الأدباء والمفكرين والعلماء والحكام المسلمين وإنجازاتهم في إثراء الحضارة العالمية، ونص على أن الإمام علي (عليه السلام) قدم أفضل صورة عن مبادئ القيادة وإدارة الدولة والمجتمع، وذلك في وصاياه أو بياناته التي جعلته خالداً، وأنه قدم في رسالته المطولة لواليه على مصر مالك الأشتر قالباً مفصلاً للإدارة المستنيرة، وأن بعض آرائه الإدارية اعتمدت في أوقات لاحقة من قبل الأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم في مصر، وكذلك السلاجقة في بلاد فارس والأناضول، وحتى السلاطين المغول في الهند والامبراطورية العثمانية. وقد اقتبس بعض فقرات العهد ونقلها في كتابه (26).

الفقراء وذوو الاحتياجات الخاصة في عهد الإمام علي (عليه السلام).

أخذ الفقر والبؤس الذي كان يعاني منه المجتمع مساحة واسعة من هموم أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل وبعد خلافته، فقد كانت مشكلة الفقر هاجساً يؤرقه على الدوام، وهو ينظر سعة هذه المشكلة المستشرية وهي تلتهم جسد الأمة وروحها وإنسانيتها، وقد ألمح لهذا الألم الذي يجتاحه بسبب هذه المشكلة في خطبة له فقال: «اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا» (27). ولذا عمل جاهداً على مدار حياته لتخليص المجتمع من مساوئ هذه الآفة المرعبة، وتقليص مساحة تواجدها، وكان كثيراً ما تحدث في خطبه وكلماته القصار عن الآثار السيئة المترتبة على الفقر

ص: 282

ومن ذلك قوله (عليه السلام): «الفقر الموت الأكبر»(28). وقوله (عليه السلام): «الفقر يخرس الفطن عن حجته، والمقل غريب في بلدته» (29). وقوله (عليه السلام): «لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته» (30)، وغيرها من الأقوال التي تحكي هذا المعنى، کما کان (عليه السلام) شديد الحرص على معالجة حالات التشرد والتسول، فقد روي أنه (عليه السلام) مر بشیخ کبیر مکفوف البصر يسأل الناس، فقال: ما هذا؟. فقال أصحابه: يا أمير المؤمنين، إنه رجل نصراني - فتوجع من هذه الكلمة وتلك الصورة ورد موبخاً ومؤدباً لهم - استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!، انفقوا عليه من بيت المال» (31). وهنا تتجلى أروع وأبهى وأصدق صور حقوق الإنسان وأكثرها مثالية وسموا، إذا تحلق خارج مدارات الانتماء الديني والعقدي والعرقي...، وتسبح في فضاء إنسانية علي (عليه السلام) الواسع والشاسع الامتداد بسعة عبارته الملهمة التي ضمنها عهده العالمي (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

ومن الملفت للنظر أن خطاب أمير المؤمنين (عليه السلام) المتعلق بذوي الاحتياجات الخاصة في عهده لمالك الأشتر (رض) انماز عن غيره من فقرات العهد المتعلقة بطبقات المجتمع الأخرى، وقد جاءت الإشارة إليهم تحت مسمى الزمني ومفردها زمين، وهم من أصابتهم الزمانة، وهي العاهة الباقية على مرور الوقت، كالعرج والعمى والصمم والتشوه والتخلف العقلي، وغيرها من العاهات البدنية (32). وهو بذلك يؤسس لخصوصية العناية بهذه الفئة المجتمعية وتوفير احتياجاتها وضمان العيش الكريم لها، وهذا ما لم يدرك العالم أهميته ومساحته الإنسانية إلا في أوقات متأخرة من عصور التطور والحضارة، فقد أدركت المدنية الحديثة ضرورة تحقيق هذه النقلة النوعية في مجال الإدارة المجتمعية والتنمية البشرية، عبر إقامة المراكز والمنظمات الصحية والنفسية الخاصة للعناية بهذه الفئة من المرضى، مما يفصح عن مدى عمق المشروع الإسلامي الذي تمثله أمير المؤمنين (عليه السلام) وشموليته ودقته في معالجة الأمور المجتمعية ومشاكل الحياة، ومدى أصالته ونزعته الإنسانية، وتقدمه الحضاري، وتجاوزه لأطر الزمان و المكان،

ص: 283

وانفتاحه على المجال الإنساني الرحب، ولذا رشح هذا العهد لأن يكون أحد مصادر التشريع الدولي، بعد أن اقترح الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان احالته للجنة القانونية لمناقشته، وفعلاً صوتت عليه الدول المشتركة، وتم اعتماده كمصدر من مصادر التشريع الدولي (33).

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) موصياً مالك الأشتر: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني فإن في هذه الطبقة قانعا ومعتراً. احفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم. واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعیت حقه. ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمة العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم. ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم»(34).

ويمكن تناول تمیز وخصوصية هذا المقطع والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي أرساها الإمام (عليه السلام) من خلاله عبر المحاور التالية:

1 - يظهر أن الإمام (عليه السلام) يريد من واليه أن يكون في أعلى مستويات التنظيم في إدارة الدولة والمجتمع، فقد تحدث في هذا العهد عن الفئات المجتمعية كلها، بدءً من السلطة الإدارية من وزراء ومشاورین وکتاب وعمال خراج وصدقة...، مروراً

ص: 284

بالجند والتجار والفلاحين والعمال، واصحاب الصناعات والحرف..، وعامة الناس كل حسب طبقته وحسب أولوية الاصلاح، وصولاً إلى الطبقة السفلى. بمعنى أن تأخير الحديث عن هذه الطبقة لا يعني الخضوع لواقع الترتيب الطبقي للمجتمع وإقراره، بقدر ما يعني ضرورة التفصيل في بيان خطوات الإصلاح وتراتبها المنطقي والعملي، وإلا فالإمام (عليه السلام) يحسم هذه المسألة على انفراج قوسيها بمحددين لا ثالث لهما عبر كلمته الشهيرة الواردة في هذا العهد (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، أي أن هذا التراتب الطبقي إنما يراد منه الإفضاء لتراتب خطوات أو حركة مشروع الإصلاح، بما يكفل تناسقها وانسيابها وتنظيمها الأمثل، فتحقق الإصلاح في الطبقات المتقدمة يضمن تحقق الإصلاح في الطبقات التي تليها بصورة منطقية وسهلة.

2 - ولعل الدليل على أولوية الطبقة السفلى مع تأخر الحديث عنها، أنها كانت الوحيدة من بين الفئات المجتمعية التي تحدث عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا العهد، وخصها بالتشديد على رعاية حقوقها، وهذا ما تؤكده عبارة (ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنی)، فهذا التأكيد بتكرار اسم الله (جل وعلا) لم يرد إلا في هذا المقطع من العهد ولم يستخدم إلا مع الفئات المجتمعية المنضوية تحت عنوان هذه الطبقة.

بل إن الإمام (عليه السلام) كرر هذا التأكيد في قوله: (احفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم. اعمل فيهم بالإعذار إلى الله سبحانه يوم تلقاه)، وبين أن مرد هذا الاهتمام متأت من أن هذه الطبقة أولى بالاهتمام والرعاية من غيرها (فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم) وهنا يبدو البون شاسعاً إلى درجة انعدام المقايسة والمقابلة، بين تشديد الإمام (عليه السلام) على رعاية حقوق هذه الطبقة قياساً بغيرها من طبقات المجتمع، وبين إهمال وثائق وإعلانات الحقوق العالمية لها حتى عام (2008 م).

ص: 285

3 - يركز أمير المؤمنين (عليه السلام) في تشديده على رعاية حقوق هذه الطبقة، أحد المبادئ القرآنية التشريعية المهمة لمعالجة أوضاع الفقر والبؤس التي تعيشها هذه الفئة مع حفظ کرامتها، إذ يقول: (فإن في هذه الطبقة قانعا ومعتراً)، وهو بذلك يصدر من مفهوم أن قيام الوالي أو المسؤول الإداري بمتابعة شؤون هذه الطبقة وتوفير العيش الكريم لها هو واجب شرعي عليه وبغير تفضل أو منة منه، قال تعالى: «وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» الحج - 28. وقال تعالى: «وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» الحج - 36.

4 - عمل الإمام (عليه السلام) على تقرير ما يعرف اليوم بمبدأ (الضمان الاجتماعي)، ومسؤولية الدولة في إعالة الفرد وتوفير حد الكفاية له، وبيان أحقية هذه الفئات كغيرها من المسلمين في موارد الثروة، لأن هذه الموارد سيما الطبيعية منها قد خلقت لعموم الجماعة الإسلامية، لا لفئة دون فئة وعليه فلهؤلاء حق الانتفاع بهذه الثروات، فمن كان من المسلمين قادراً على العمل أو الكسب، كان على الدولة تهيئة فرصة العمل أو ضمان إمكاناتها له، ومن قعد به الضعف أو المرض أو العجز عن العمل، فعلى الدولة أن تضمن حقه في الاستفادة من ثرواتها، وتوفير مستوى الكفاية من العيش الكريم له.

وقد أُقر مبدأ الضمان الاجتماعي في المادة (22) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونص على أن كل شخص، باعتباره عضوًا في المجتمع، له الحق في الضمان الاجتماعي وله الحق في أن يتم توفيره له، من خلال الجهد القومي والتعاون الدولي وبما يتفق مع التنظيم والموارد في كل دولة، من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها من أجل كرامته والتنمية الحرة لشخصيته (35).

على أن تطبيقات الإمام (عليه السلام) لمبدأ الضمان الاجتماعي لم تكن محصورة في عهده لمالك الأشتر فقط، وإنما أراد منها أن تعم أرجاء دولته كلها، ولذلك نجده يكتب لعاملة على مكة قثم بن العباس قائلاً: «انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه

ص: 286

إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا»(36). وفي كتاب له (عليه السلام) لأحد عماله على الصدقة أنه قال: «وإن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا، وحقا معلوما، وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة. وإنا موفوك حقك، فوفهم حقوقهم، وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة، وبؤسي لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين، والسائلون والمدفوعون، والغارمون وابن السبيل»(37). وكتب لمخنف بن سليم الأزدي، بمثل هذا الكتاب حين بعثه على الصدقة (38).

فضلاً عن ذلك فقد بين الإمام (عليه السلام) الطريقة التي يمكن من خلالها للدولة أن تضمن هذا الحق وحمايته للجماعة الإسلامية كلها بما فيهم الفقراء والعاجزين..، فقال: (واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد). بمعنى تخصيص رواتب ثابتة لهم، نظير ما يعرف اليوم (بشبكة الرعاية الاجتماعية)، ويضاف إلى ذلك أن ترصد لهم بعض منتجات أو موارد الصوافي الإسلامية، أي الأراضي التي غنمها المسلمون فصارت ملكاً للدولة وبالتالي فهي ملك لجميع المسلمين ومن حق الجميع التمتع بخيراتها، قال تعالى: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» الحشر - 6 - 7. وغيرها من الموارد القرآنية والفقهية التي قننت آليات التكافل الاجتماعي الإسلامي، وأبواب الصرف لضمان الرعاية الاجتماعية والعيش الكريم لهذه الفئة، مثل: الخمس والزكاة والصدقات وغيرها.

5 - لم يكتف الإمام (عليه السلام) بتقرير مبدأ الضمان الاجتماعي للفئات المجتمعية المصنفة في هذه الطبقة، ولا بتخصيص موارد الانفاق عليهم، بل أراد أيضاً

ص: 287

تكوين هيأة بمواصفات خاصة جداً من حيث الوثاقة والأمانة والتدين والتواضع والإنسانية (ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم)، وتكون مهمة هذه الهيأة هي السهر على رعاية حقوق هذه الطبقة وتفقدهم بصورة دائمة والسعي الجدي في توفير ما يحتاجون إليه، ونقل صورة حية للوالي عن أحوالهم وكل ما يتعلق بأوضاعهم، ليكون على اطلاع دائم وتماس مباشر معهم. بل إنه (عليه السلام) يشدد في تحقيق هذه النقلة النوعية بمزيد من الوعي والتلطف والتواضع والنظرة الإنسانية الرحيمة، حتى لا يُشعر هذه الفئات بضعفها وقلة حيلتها، وهامشيتها في الحياة، أو أنه متفضل عليهم بأن تفقد أحوالهم!، قال (عليه السلام): (ولا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييع التافه لأحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمة العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم).

وحقيقة الحال نحن مع هذا المقطع من عهده الشريف، نقف على غاية المثالية التي يمكن أن تحقق في يوم من الأيام، وعلى أنصع الصور الإنسانية عبر التاريخ، ونستطيع القول بكل اطمئنان، أنه ليس هناك ثمة ديمقراطية حديثة أو قديمة، أو تشريع لحقوق الإنسان قديم أو حديث، بلغ هذا النضج والوعي للمسؤولية الاجتماعية، وعمل على تحقيق هذه النقلة النوعية في مجال إدارة المجتمع، وإلا فالمتسولون والمتشردون والعجزة والهاربون من الفقر والحرب وغيرهم، يملؤون الأرصفة والطرقات العامة، ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء في أرقى المدنيات والديمقراطيات الحديثة في أوربا وأمريكا، دون أن تمتد لهم أيدي منظمات حقوق الإنسان أو الصحة العالمية، في حين لو قدر لمبادئ أمير المؤمنين (عليه السلام) أن تطبق لكانت الدولة هي من تبحث عن هذه الفئات لتسد عوزها وتحفظ حياتها وكرامتها.

ص: 288

6 - ولا يكتف الإمام (عليه السلام) بحفظ حقوق المعروفين والمعلومين أو العينات المشخصة من هذه الفئات، بل يلح على واليه بالتفتيش عن غير المعرفين والمعينين منهم. أي البحث عن العينات المضمرة التي تخجل أو التي لا تستطيع إيصال صوتها للمسؤول أو السلطة الإدارية للدولة، (وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمة العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم). والإمام (عليه السلام) هنا يريد أن يحقق مبدأ الضمان الاجتماعي بأعلى مستوياته ودرجات نضجه، عملاً بمقتضى المبدأ والقاعدة القرآنية التي يصوغها قوله تعالى: «وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» البقرة - 272 - 273.

وقد تعددت تطبيقات الإمام (عليه السلام) لهذه القاعدة، بل إنه كان يحب أن يؤدي النفقة ليلاً، وسراً لا علانية حتى لا يخدش إنسانية أولئك الفقراء والبؤساء، فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية، بعث تسابق بعض الصحابة للإنفاق على أهل الصفة، فبعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة حتى أغناهم، وبعث الإمام (عليه السلام) في جوف الليل بوسق من تمر (ستون صاعا) فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقة الإمام علي (عليه السلام) فأنزل الله تعالى بحق الإمام (عليه السلام) وصدقته تلك (39)، قوله الكريم: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» البقرة - 274. وذكر أنها نزلت بحقه عندما تصدق بدراهم أربعة كانت عنده لا يملك سواها، فتصدق بدرهم سراً وبدرهم علانيةً، وبدرهم ليلاً، وبدرهم نهارا(40).

ص: 289

7 - اختتم الإمام (عليه السلام) حديثه عن الفئات المجتمعية المنضوية تحت هذ الطبقة بتشديد أخير، خص به مالك الأشتر نفسه وذلك لخصوصية الفئة الأخيرة التي تحدث عنها، والتي كانت على الدوام تشكل هاجساً يؤرق حياته ولا يكاد يفارقه، وهي فئة الأيتام وكبار السن: (وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل، وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم).

فهنا نجد الإمام (عليه السلام) يؤكد على واليه مالك الأشتر أن يباشر هو بنفسه هذه المهمة (تعهد..) أي أنت بنفسك، هذا في الوقت الذي نجده مع الفئات الأخرى يطلب منه أن يفرغ لهم أشخاص بمواصفات خاصة لمتابعة شؤونهم (ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم). ولعل هذا التمييز هذين الفئتين متأت من أن الوالي يقوم مقام الخليفة، والأخير يقوم مقام الأب والمتكفل الأول بالرعية، هذا فضلاً عن أن مباشرة الخليفة أو من يقوم مقامه للاهتمام بالأيتام يعكس في نفوسهم أبوة الدولة والمسؤول المباشر فيها لهم، وهو ما يبعث في نفوسهم الاطمئنان والأمن على حياتهم ومستقبلهم بالشكل الذي لا يمكن ان يعكسه لو قام بهذه المهمة شخص آخر، كما يعكس في نفوس كبار السن أنهم في أعين الدولة وضميرها ووجدانها

وأنها تراعاهم وتساندهم، كما رعوها وساندوها في أيام شبابهم وقوتهم، عرفاناً لهم بجميل ما قدموا لها، ولأنهم في مرحلة الشيخوخة والعجز يحتاجون للعناية والاهتمام کما الأطفال الصغار، والإمام (عليه السلام) هنا يسجل أعلى مستوى في إدارة المجتمع، إذا أن يعكس في نفوس هؤلاء أن الدولة ترعاهم وتقوم على تأمين راحتهم وعيشهم الكريم على امتداد مراحلهم العمرية (صغاراً وكبارا). وهذا ما انتبهت له المدنيات الحديثة عبر مؤسسات الرعاية ودور الأيتام والعجزة.

ص: 290

وحقيقة الحال إن الإمام علي (عليه السلام) كان على الدوام يباشر عملية التفتيش عن الأيتام والفقراء والمعوزين بنفسه، فقد روي أنه كان في ليلة من الليالي يتفقد شوارع الكوفة، فنظر إلى امرأة ضعيفة القوى تحمل قربة ماء، فطلب منها أن يحملها عنها - وكانت المرأة لا تعرفه - فأوصلها لبيتها وسألها عن حالها، فأخبرته أن زوجها أستشهد في أحد الثغور، وأن عندها صبية جياع وأن الفقر ألجأها للخدمة في البيوت، فذهب الإمام (عليه السلام) وجاءها بالطعام، وسجر لها التنور وطلب منها أن تهيئ لهم الخبز، وأخذ هو يداعب الصبية ويطعمهم بيده وكلما ناول أحدهم لقمة قال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما مر في أمرك، وبينا هو كذلك جاءت جارة لتلك المرأة، فرأت أمير المؤمنين (عليه السلام) وكانت تعرفه، فقالت لتلك المرأة: ويحك هذا امير المؤمنين في بيتك!. فبكت المرأة وقالت: واحيائي منك يا أمير المؤمنين. فقال (عليه السلام): بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك (41).

وذكر أنه (عليه السلام) مر على بيت من بيوت الكوفة فسمع بكاء أطفال صغار، فطرق الباب وعرف أن في البيت امرأة مسكينة لها أطفال صغار يبكون من الجوع، وأنها وضعت على النار قدر فيه ماء لتلهيهم وتشاغلهم به حتى يناموا، فأسرع إلى منزله وحمل التمر والأرز والخبز وبعض الشحم، ورجع إلى بيت المرأة، وقد طلب منه قنبر (رض) أن يحمل الطعام عنه فرفض ذلك، ثم إنه طبخ الأرز والشحم وأطعم الأطفال وأخذ يدور في البيت ويداعبهم، فلما خرج قال له قنبر: لقد حملت الطعام وأطعمت الصبية طلباً للثواب، فما الذي حملك على مداعبتهم بتلك الصورة؟. فقال (عليه السلام): يا قنبر إني دخلت على هؤلاء الأطفال وهم يبكون من شدة الجوع، فأحببت أن أخرج عنهم وهم يضحكون مع الشبع فلم أجد سببا سوى ما فعلت (42).

وروي أنه (عليه السلام) جيء له بعسل وتين من همدان وحلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها، وهو يقسمها للناس قدحا،

ص: 291

قدحا، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟. فقال: إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقهم هذا برعاية الآباء (43). وكان من شدة حبه للأيتام وتعلقهم به ورعايته لهم، أن رآه أحد أصحابه يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، فقال: لوددت أني كنت يتيماً (44). وهكذا هي أخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) بتعهد الأيتام والفقراء والمساكين والتفتيش عنهم والإنفاق والعطاء مستفيضة في كتب التاريخ والسير حتى أنه (عليه السلام) كانت غلَّته السنوية من أرضه (40000 ألف دينار) فجعلها كلها صدقة (45).

ص: 292

الخاتمة

من خلال ما تقدم تبين أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يتغيا في عهده لمالك الأشتر، تقديم مشروع إصلاحي شامل لإدارة الدولة والمجتمع، وتبين أن تأخيره الحديث عن الطبقة السفلى التي تضم الفقراء والبؤساء وذوي الاحتياجات الخاصة على أهميتها وأولويتها والتشديد الذي خصها به دوناً عن الفئات الأخرى، إنما فرضه تراتب مراحل أو خطوات المنهج الإصلاحي في مؤسسات الدولة ومرافق الحياة المجتمعية، وأن هذا التراتب يمثل خارطة طريق عملية مبنية وفق منظور علمي منطقي يند عن اطار زمانه ليحاكي تنظيم أرقى الديمقراطيات والمدنيات الحديثة، وإنه أراد من خلاله ترسيخ قواعد ومبادئ قرآنية، كان من شأنها لو طبقت بصورتها المثلى لما حدث الانحدار الذي وصلت إليه الجماعة الإسلامية حينها وأدى لتقاتلها وتصفية بعض زعاماتها.

ومن هنا يمكن الولوج إلى تقرير أن عهد الإمام (عليه السلام) بمجمله، كان يمثل استجابة لضرورة وخصوصية الظرف الذي صدر فيه العهد، فقد ابتعدت سياسات الحكام السابقين عن المبادئ الإسلامية في إدارة الدولة والمجتمع، سيما بعد توسع رقعة الدولة الإسلامية على أثر الحروب التي شنتها الخلافة تحت مسمى الفتوح الإسلامية، وابتداع سياسة التفضيل في العطاء، التي كانت آثارها وخيمة جداً على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية، فقد خلقت مجتمعاً طبقياً، يمزقه التفاوت الواسع في تحصيل العطاء والأرزاق، فبينما كان بعض الصحابة يخلف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، ومن الأموال والضياع والبساتين ما يفوق واردات قبيلة متكاملة، وفي اسطبلاته ومراعيه آلاف من الخيول والأغنام والجمال، كان هناك من لا يجد ما يسد به رمقه، وما يشبع به جوع أطفاله!، وقد اعترف عمر نفسه بفساد هذه السياسة، وتندم

ص: 293

أيما ندم على انتهاجها فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء (46). وقد أدت هذه السياسة في نهاية المطاف بحسب الظاهر إلى طعن عمر بن الخطاب نفسه وقتله من قبل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. فقد طلب أبو لؤلؤة من عمر بن الخطاب أن يكلم المغيرة بن شعبة ليخفف عنه الضريبة المفروضة عليه فلم يفعل، فطعنه بسكين عدة طعنات في بطنه فمات بسببها (47)، فربما لو كان العطاء متساوياً بين المغيرة بن شعبة وأبو لؤلؤة، لما أصبح أبو لؤلؤة مضطراً لامتهان كرامته وتحمل ضغط الضرائب التي فرضها عليه المغيرة.

ومن ثم اتساع الهوة بين المسلمين في عهد عثمان وتسلط بني أمية على رقاب المسلمين، وسرقتهم اموال المسلمين وتبذيرها على بذخهم وملذاتهم، وهو ما استحضره الإمام (عليه السلام) في خطبته التي بين فيها مصاعب مشروعه الإصلاحي الإسلامي فقال: «إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه - كناية عن التكبر والتعاظم والخيلاء (48) - بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع»(49).

هذا فضلاً زج آلاف من الناس من شعوب وقوميات وعرقيات مختلفة بصورة مفاجئة في حضيرة الدولة الإسلامية، دون الالتفات لتنظيم طبيعة التعامل العربي المعروف بالفوقية والتعالي معها، ولذا كانت الدولة الإسلامية كلما توسعت في سياسة الفتوحات، كلما وسعت من صراع متباينة السائد والمهمش، أو السائد والمسود، وقد تغولت المشكلة بشكل كبير في العهد الأموي الذي امتهن الموالي وغير العرب إلى أبعد الحدود، حتى أنزلوهم بمنزلة الكلاب والحمير فكانوا يفتون بأنه: لا يقطع الصلاة إلا ثلاث كلب أو حمار أو مولى، وكانوا لا يكنوهم بالكني، ولا يدعوهم إلا بأسمائهم أو القابهم، وكانوا لا يمشون معهم في الصف، وإن أطعموهم أجلسوهم في طرف المائدة تحقيراً لهم، وقد أراد معاوية أن يبيد نصفهم بعد أن رأى كثرتهم قبالة العرب، ويبقي

ص: 294

النصف الآخر لعمارة الأرض والطريق وإدامة الأسواق، لأن العرب يستنكفون من مزاولة الحرف في السوق(50).

بسبب هذه الانحرافات الخطيرة في إدارة الدولة والمجتمع، حرص الإمام (عليه السلام) على وضع برنامج إصلاحي شامل لكافة مرافق الحياة في الدولة الإسلامية عبر عهوده التي وجهها لولاته، والتي كان أشملها وأطولها عهده لصاحبه وواليه مالك الأشتر حين ولاه على مصر بعد عزل محمد بن أبي بكر عنها، وهذا ما يؤشر لخصوصية مالك الأشتر وتميزه عن جميع صحابة وولاة الإمام (عليه السلام) واطمئنانه وثقته بقدرة مالك على تنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي خطه له في العهد، وإلا لكان عهد به لمحمد بن أبي بكر، كما يؤشر خصوصية لمصر، بعدها من الأقاليم الغنية والواسعة والمتنوعة عرقيا وعقائدياً في تكوينها السكاني، ومن ثم للصراع الدائر بينه وبين معاوية عليها، ومحاولة الأخير بسط نفوذه عليها لكثرة خيراتها، ويمكن أن يضاف لذلك أن الإمام (عليه السلام) أراد محاصر معاوية ووضعه بين كماشتين قويتين هو في جبهة العراق والمشرق واتصالاتها بالشام، ومالك الأشتر في مصر، وبذلك يكون قد وضع معاوية بين قوتين ضاغطتين تسدان عليه الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها لضرب حدود دولة الإمام (عليه السلام)، عبر حرب العصابات والغارات التي كان يشنها، كما يمكن أن يضاف لخصوصية مصر، أنها كانت من أهم الأمصار التي شارك أهلها في الانتفاضة على عثمان وقتله، وبالتالي فإن المصريين بحاجة لمشروع إصلاحي شامل يعيد ثقتهم بالخلافة الإسلامية.

ص: 295

نتائج البحث

خلص البحث إلى تقرير نتائج متعددة، سجل بعضها فيه ضمناً، ويمكن أن يضاف هنا بعض النتائج على نحو العموم:

1 - خلص البحث إلى أن الإمام (عليه السلام) كان يتغيا من مشروعه في إدارة الدولة والمجتمع، تأسيس دولة مؤسسات قائمة على الأسس الإسلامية الرصينة والروح الإنسانية المثلى، عاكساً بذلك تبلور مفهوم دولة المواطنة بشكل كبير في مشرعه الإصلاحي.

2 - تبين من خلال البحث سبق الإمام (عليه السلام) في التأسيس لمبادئ حقوق الإنسان بصورتها المثالية والكاملة، سيما ذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء والبؤساء والأيتام، بمسافة (14 قرن)، عن العالم الغربي الذي تكاسل في إقرار حقوق هذه الفئات حتى عام (2008 م)!.

3 - تبين من خلال البحث أن خصوصية الظرف الذي عاشه الإمام (عليه السلام)، وما شاهد فيه من معاناة للمسلمين - سيما الطبقة السفلى من العرب والموالي - جراء السياسات الخاطئة للخلفاء السابقين، جعلته ينوء بهموم طبقات المجتمع الإسلامي بمختلف أصنافها، ويبحث عن حلول ناجعة لإقامة إصلاح سياسي وإداري ومجتمعي شامل لتحقيق تنمية الدولة والمجتمع على حد سواء، فكان نتاج إعمال فكره في تلك المشاكل والبحث عن الحلول أن صاغها في هذا العهد الذي يمثل بحق برنامجاً متكاملاً لإدارة الدولة والمجتمع بشكل علمي وعملي، يحاكي منظور الدولة والمجتمع في المدنيات الحديثة، بل ويتغلب عليها في تطبيقاته العملية الدقيقة، وروحه الإنسانية المثالية.

ص: 296

هوامش البحث

1. تنظر. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 22 - 49. وينظر أيضاً. ويل ديورانت: قصة الحضارة، مج 9 - 270 - 276.

2. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 34 - 36.

3. ويل ديورانت: قصة الحضارة، مج 10 - 397.

4. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 17 - 18.

5. تنظر. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 59 - 90، 113.

6 . نشأة حقوق الإنسان، 17.

7. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 1 - 269.

8.الثقفي: الغارات، 1 - 75؛ المفيد: الأمالي، 175 - 176؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 2 - 203.

9. الشافعي: كتاب الأم، 4 -229؛ المسند، 313؛ البيهقي: السنن الكبرى،8 - 56؛ معرفة السنن والآثار، 6 - 285؛ القاضي النعمان المغربي: شرح الأخبار، 2 - 431؛الطوسي: المبسوط 7 - 268.

10. المجلسي: بحار الأنوار، 42 - 289.

11. ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 177؛ الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 27؛ ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 341؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 15 - 163.

12. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 17 - 3 - 4. وقد حاول البعض نسبة هذه العبارة لعمر بن الخطاب وتضمينها في كتاب بعث به إلى معاوية. ينظر. الجاحظ: البيان والتبيين، 289. وما يرد ذلك أن هذا الكتاب ورد في مصدرين آخرين وهو موجه إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو خالٍ من هذه العبارة. ينظر. ابن عساكر: تاريخ مدينة

ص: 297

دمشق، 44 - 279؛ المتقي الهندي: كنز العمال، 5 - 777.

13. ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 84؛ الخوارزمي: المناقب، 98؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 17 - 65؛ ابن العديم: بغية الطلب، 4 - 1710؛ الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، 1 - 177.

14. ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 127؛ الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 84؛ ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 316؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 17 - 32؛ النويري: نهاية الإرب، 6 - 20؛ القلقشندي: صبح الأعشى، 10 - 10 - 11؛ مآثر الإنافة في معالم الخلافة، 3 - 7.

15. الشرهاني: التغير في السياسة المالية، 340.

16. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 23.

17. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 71 - 72؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 - 286 - 287.

18.الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 70 - 71؛ الزمخشري: ربيع الأبرار، 3 - 241؛ ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 98 - 99؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 - 205.

19. تنظر. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 179 - 188.

20. ويكيبيديا: الموسوعة الحرة (اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة: .-www.wiki (pedia.org-wiki

21. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 71 - 72؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 16 - 286 - 287.

22. التذكرة الحمدونية، 1 - 316.

23. شرح نهج البلاغة، 17 - 30.

ص: 298

24. نهاية الإرب في فنون الأدب، 6 - 21.

25. صبح الأعشى، 10 - 10؛ مآثر الإنافة في معالم الخلافة، 3 - 6.

Lost History .255-257 ,.26

27. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 2 - 11 - 12؛ الزمخشري: ربيع الأبرار، 1 - 465؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 8 - 244؛ الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، 2 - 514 - 515.

28. ابن شعبة الحراني: تحف العقول، 111؛ الشريف الرضي: نهج البلاغة، 4 - 41؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 18 - 386؛ الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف، 2 - 483.

29. ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 250 - 251؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 18 - 88.

30. باقر شريف القرشي: النظام السياسي في الإسلام، 247.

31. الطوسي: تهذيب الأحكام، 6 - 293.

32. ابن منظور: لسان العرب، 13 - 199؛ الزبيدي: تاج العروس، 18 - 263.

33. حسين الشرهاني: التتغير في السياسة المالية في خلافة الإمام علي، 340.

34. ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، 1 - 323 - 324؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 17 - 85 - 86؛ النويري: نهاية الإرب في فنون الأدب، 6 - 27 - 28.

35. لين هانت: نشأة حقوق الإنسان، 186.

36. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 3 - 128؛ ابن حمدون: التذكرة الحمدونية،1 - 351؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 18 - 30.

37. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 382 - 383؛ ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، 15 - 158.

ص: 299

38. القاضي النعمان المغربي: دعائم الإسلام، 1 - 252.

39. الثعلبي: الكشف والبيان، 2 - 279 - 280؛ الحاكم الحسكاني: شواهد التنزيل، 1 - 148؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 1 - 345 - 346؛ ابن البطريق: عمدة صحاح الأخبار، 350.

40. الثعلبي: الكشف والبيان، 2 - 279؛ الواحدي النيسابوري: الوجيز، 1 - 191؛ الحاكم الحسكاني: شواهد التنزيل، 1 - 146؛ابن البطريق: عمدة صحاح الأخبار، 349؛ خصائص الوحي المبين، 204.

41. ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 1 - 382.

42. الحلي: كشف اليقين، 115 - 116.

43. الكليني: الكافي، 1 - 406.

44.البلاذري: أنساب الأشراف، 2 - 136؛ الزمخشري: ربيع الأبرار، 2 - 305؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 1 - 349.

45. البلاذري: أنساب الأشراف، 2 - 117؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 1 - 346.

46. الطبري: تاريخ، 3 - 291؛ ابن حزم: المحلى، 6 - 158.

47. ابن سعد: الطبقات، 3 - 347؛ ابن عبد البر: الاستيعاب، 3 - 1154؛

48. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث، 5 - 89؛ ابن منظور: لسان العرب، 381 - 2؛ الزبيدي: تاج العروس، 3 - 503.

49. الشريف الرضي: نهج البلاغة، 1 - 35.

50. ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، 3 - 361؛ جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 2 - 341 - 342.

ص: 300

مصادر ومراجع البحث

٭ القرآن الكريم.

٭ الأبشيهي: شهاب الدين محمد بن أحمد (ت 852 ه - 1448 م).

1 - المستطرف من كل فن مستظرف. قدم له وضبطه وشرحه: صلاح الدين الهواري (ط 1، دار ومكتبة الهلال: بيروت - لبنان، 1421ه - 2000 م).

20م).

٭ ابن البطريق: يحيى بن الحسن الأسدي الحلي. ت (600 ه - 1203 م).

2 - خصائص الوحي المبين. تح: مالك المحمودي (ط 1، دار القرآن الكريم: قم - إيران 1417ه - 1996 م).

3 - عمدة عيون صحاح الاخبار (مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1407ه - 1986 م).

٭ البلاذري: ابو جعفر احمد بن جابر. ت (279 ه - 892 م).

4 - أنساب الاشراف. تح: محمد حميد الله (دار المعارف. مصر - القاهرة ط 1 - 1379 ه - 1959م).

5 - جمل من أنساب الاشراف. تح: سهيل زكار ورياض زركلي. (ط 1، دار الفكر. بيروت - لبنان 1417 ه - 1996 م).

٭ البيهقي: أبو بكر احمد بن الحسين. ت (458 ه - 1065 م).

6 - السنن الكبرى. (دائرة المعارف النظامية: حیدر آباد الدكن - الهند - 1344 ه - 1925 م).

7 - معرفة السنن والآثار. تح: سيد كسروي حسن (دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان د. ت).

٭ ابن الأثير: أبو السعادات مجد الدين بن محمد عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (ت 606 ه - 1209 م).

8 - النهاية في غريب الحديث. تح: طاهر أحمد ومحمود الطناحي (ط 4، مؤسسة إسماعيليان: قم - ایران 1364 ه - 1944 م).

ص: 301

٭ الثعلبي: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري. ت (427 ه - 1035 م).

9 - الكشف والبيان. تح: محمد بن عاشور، تدقيق: نظير الساعدي (ط 1، دار إحياء التراث العربي: بيروت - لبنان 1422 ه - 2001 م).

٭ الثقفي: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد. ت (283 ه - 896 م).

10 - الغارات. تح: جلال الدين الأرموي الحسيني (مطبعة بهمن: إيران 1395 ه - 1975 م).

٭ الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر. ت (255 ه - 868 م).

11 - البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون (ط 7، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1418 ه - 1998 م).

٭ جرجي زيدان. ت (1332 ه -1914 م).

12 - تاريخ التمدن الإسلامي (ط 2، دار الحياة بيروت - لبنان 1387 ه - 1967 م).

٭ ابن أبي الحديد، عز الدين ابو حامد بن هبة الله محمد. ت (656 ه - 1258 م).

13 - شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم (ط 1، دار احياء الكتب العربية: القاهرة - مصر 1378 ه - 1959 م).

٭ ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد. ت (456 ه - 1063 م).

14 - المحلى (ط 1، دار الفکر: بيروت - لبنان، د.ت).

٭ الحاكم الحسكاني: عبيد الله بن أحمد الحذاء الحنفي النيسابوري من أعلام القرن الخامس الهجري.

15 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل. تح: محمد باقر المحمودي (ط 1، مجمع أحياء الثقافة الإسلامية: طهران - إيران 1411 ه - 1990 م).

٭ الحلي: الحسن بن يوسف بن المطهر (726 ه - 1325 م).

16 - كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين. تح: حسين الدركهاي (ط 1، طهران - إيران، 1411 ه - 1991 م).

ص: 302

٭ ابن حمدون: محمّد بن الحسن بن محمد بن علي (ت 562 ه - 1166 م)

17 - التذكرة الحمدونية. تح: احسان عباس وبكر عباس (ط 1، دار صادر: بيروت - لبنان 1417 ه - 1996 م).

٭ أبن حنبل: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد. ت (241 ه - 855 م).

18 - المسند. (المطبعة الميمنية، القاهرة- مصر 1313 ه - 1895 م).

٭ الخوارزمي: الموفق بن أحمد بن محمد المكي. ت (568 ه -1172 م).

19 - المناقب. تح: مالك الحمودي (ط 2، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1411 ه - 1990 م).

٭ الزبيدي: أبو فيض محب الدين محمد مرتضى الحسيني الواسطي الحنفي. ت (1205 ه - 1790 م).

20 - تاج العروس. دراسة وتحقيق: علي شيري (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1414 ه - 1994 م).

٭ الزمخشري: جار الله أبو القاسم محمود بن عمر. ت (538 ه - 1143 م).

21 - ربيع الأبرار ونصوص الأخبار. تح: عبد الأمير مهنا (ط 1، مؤسسة الأعلمي: بيروت - لبنان 1412 ه - 1992 م).

٭ ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع. ت (230 ه - 941 م).

22 - الطبقات الكبرى، تح: علي محمد عمر (ط 1، مكتبة الخانجي: القاهرة - مصر 1421ه - 2001 م).

٭ الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس. ت (204 ه - 819 م).

23 - كتاب الأم. (ط 2، دار الفكر: بيروت - لبنان 1403 ه -1983 م).

٭ الشرهاني: حسين علي عبد الحسين.

24 - التغير في السياسة المالية للدولة العربية الإسلامية في خلافة الإمام علي (ط 1، مطبعة تموز: دمشق - سوريا 1434 ه - 2013 م).

ص: 303

٭ الشريف الرضي: أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي البغدادي. ت (406 ه - 1015 م)

25 - نهج البلاغة - خطب الإمام علي 7. شرح: محمد عبده (ط 1، دار الذخائر: قم - إيران 1412ه - 1991 م).

٭ ابن شعبة: أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين الحراني. من أعلام القرن الرابع الهجري.

26 - تحف العقول عن آل الرسول. تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري (ط 2، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين: قم - إيران 1404ه - 1983 م).

٭ ابن شهر آشوب: مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي. ت (588 ه - 1192 م).

27 - مناقب آل أبي طالب. تصحيح: لجنة من أساتذة النجف الأشرف (المطبعة الحيدرية: النجف - العراق 1376 ه - 1956 م).

٭ ابن أبي شيبة: ابو بكر عبد الله (235 ه - 849 م).

28 - المصنف في الاحاديث والاخبار. ضبط وتعليق: سعيد اللحام (ط، دار الفکر: بيروت - لبنان 1409 ه - 1989 م).

٭ الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير. ت (310 ه - 922 م).

29 - تاریخ الرسل والملوك. تح: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط 2، دار المعارف: القاهرة - مصر 1387ه - 1967 م).

٭ الطوسي: أبو جعفر محمد بن الحسن. ت (460 ه - 1067 م).

30 - المبسوط في فقه الإمامية. تصحيح وتعليق: محمد تقي الكشفي (ط 1، المكتبة المرتضوية: طهران - إيران، 1387 ه - 1963 م).

٭ ابن عبد البر: أبو عمر يوسف أحمد بن عبد الله أحمد بن محمد. ت (463 ه - 1070 م).

31 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب. تح: علي محمد البجاوي (ط 1، دار الجيل: بيروت - لبنان 1412 ه - 1991 م).

٭ ابن عبد ربه الأندلسي: أحمد بن محمد. ت (328 ه - 939 م).

ص: 304

32 - العقد الفريد. تح: مفيد محمد قميحة (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1404 ه - 1983 م).

٭ ابن العديم: كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة. ت (660 ه - 1261 م).

33 - بغية الطلب في تاريخ حلب. تحقيق وتقديم: سهيل زكار (ط 1، دار الفكر: بيروت -لبنان 1408 ه - 1988 م).

٭ ابن عساكر: أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله. ت (571 ه - 1175 م).

34 - تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها تح: علي شيري (ط 1، دار الفكر: بيروت - لبنان 1415 ه - 1995 م).

٭ القرشي: باقر شريف.

35 - النظام السياسي في الإسلام (ط 2، دار التعارف: بيروت - لبنان، 1398 ه - 1987 م).

٭ القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي. ت (821 ه - 1418 م).

36 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا. شرحه وعلّق عليه وقابل نصوصه: محمد حسين شمس الدین (ط 1، دار الکتب العلمية: بيروت - لبنان، 1409 ه - 1988م).

37 - مآثر الإنافة في معالم الخلافة. تح: عبد الستار أحمد فراج (ط 1، وزارة الإرشاد والأنباء:

الكويت، 1384 ه - 1964 م).

٭ الكليني: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق. ت (329 ه - 950 م).

38 - الكافي. صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري (ط 5، دار الكتب الاسلامية: طهران - إيران 1363 ه - 1943 م).

٭ لين هانت.

39 - نشأة حقوق الإنسان - لمحة تاريخية. ترجمة: فايقة جرجس حنا (ط 1، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة: مصر - القاهرة، 1435 ه - 20013 م).

٭ المتقي الهندي: علاء الدين علي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري. ت (975 ه - 1567 م).

ص: 305

40 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. ضبطه وفسر غريبه وصححه ووضع فهارسه ومفتاحه: بكري حياني وصفوة السقا (ط 1، مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان 1409 ه - 1989م).

٭ المجلسي: محمد باقر. ت (1111 ه - 1699 م).

41 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (ط 2، مؤسسة الوفاء: بيروت - لبنان 1403 ه - 1983 م).

٭ المفيد: محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي. ت (413 ه - 1022 م).

42 - الأمالي. تح: حسين الأستاذ ولي وعلي أكبر الغفاري (ط 1414، 2 ه - 1993 م).

٭ ابن منظور: أبو الفضل جمال الدین محمد بن مكرم. ت (711 ه - 1311 م).

43 - لسان العرب. تقديم: أحمد فارس (ط 1، أدب الحوزة: قم - إيران 1405 ه - 1984 م).

٭ النعمان المغربي: أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد. ت (363 ه - 973 م).

44 - دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام. تح: آصف علي أصغر (ط 1، دار المعارف: القاهرة - مصر 1383 ه - 1963 م).

٭ النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب. ت (733ه - 1332 م).

45 - نهاية الإرب في فنون الأدب. تح: مفيد قميحة وحسن نور الدين (ط 1، دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان 1424 ه - 2004 م).

٭ الواحدي النيسابوري: أبو الحسن علي بن أحمد. ت (468 ه - 1075 م).

46 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (ط 1، دار القلم: دمشق - سوريا 1415 ه - 1994 م).

٭ Michael Hamilton Morgan 47-Lost History: The Enduring Leg acy of Muslim Scientists, Thinkers, and Artists. Washington. 2008

٭ ويكيبيديا: الموسوعة الحرة (اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة: (-www.wikipe dia.org-wiki

ص: 306

حقوق الإنسان.. جدل النظرية وإشكالية الممارسة (حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) إنموذجا)

اشارة

د. محمد علي محمد رضا الحكيم

ص: 307

ص: 308

المقدمة

شهد العالم في مرحلته المعاصرة حقبة جديدة في مجال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إذ حظي هذا الموضوع باهتمام الدول الغربية التي تتمتع بحضارة مادية راقية، وتظافرت جهود المنظمات الدولية في متابعتها وتدعيمها، بهدف تحقيق حياة حرة كريمة للإنسان يتمتع فيها بحقوق معترف بها.

في هذه الأثناء كان المجتمع الإسلامي يعيش حالة من الانقسام والتجزئة، إذ لم تعد هناك دولة تمثله وإنما هناك دويلات ذات طابع علماني بعد أن ركنت الشريعة وراءها ظهريا، وعلى رأسها أنظمة استبدادية لا تهتم أكثر من توكيد سلطتها ومصالحها وان جاءت على خلاف مصالح شعوبها، وأصبحت الشعوب الإسلامية تعاني الحرمان من أبسط الحقوق.

ذلك قد وضع الإنسان المسلم أمام تحدي صعب، إذ هو من جهة يواجه باستمرار تهديدا قويا لوجوده وانتهاكا صارخا لحقوقه من قبل الأنظمة المتسلطة، ومن جهة أخرى فان الصيغة التي تطرحها الدول المتقدمة والمنظمات الدولية وتسعى إلى تعميمه، هو النموذج الليبرالي الغربي الذي يحظى بمنظومة فكرية تتناقض مع متبنياته الإسلامية. وهكذا اضطربت نظرة الإنسان المسلم إلى معيار حقوقه بين تناقضات واقعه المر وما تتوفر عليه الدول الغربية المتقدمة، وتناقضات مرجعيته الفكرية وقيم العالم الحرة.

من هنا تطلب النظر في تجربة الإمام علي (عليه السلام) الغنية والمميزة في تاريخنا الإسلامي، فهي غنية على صعيد التنظير الفكري والقيمي، كما أنها غنية في حدود الممارسة الفعلية التي تتجلى فيها مستويات مختلفة سواء أكانت في مستوى المواطن المعارض للحكم القائم، أم كان الخليفة والقائد للدولة الإسلامية. وهي مميزة لما تمثله

ص: 309

شخصية الإمام في واقع العالم الإسلامي، إذ هو أحد الخلفاء الأربعة لعموم المسلمين وهو الإمام المعصوم لبعضهم، ولذا فان لقوله وفعله بعد تشريعي مهم في أدبيات الفكر الإسلامي عموما.

وتتوفر الدراسة على مبحثين، الأول تناول لمحة عن حقوق الإنسان على مدى التاريخ الإنساني، بدءا من الفكري الشرقي القديم في الصين والهند حتى بلاد الرافدين ووادي النيل، وشملت الأديان السماوية الثلاث وصولا إلى العصر الحديث. أما المبحث الثاني فقد ركز على استعراض حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده إلى عامله على مصر.

ص: 310

المبحث الأول: لمحة في تاريخ حقوق الإنسان

أولا: تعريف حقوق الإنسان

قبل أن نقلب صفحات التاريخ البشري من أجل التنقيب على بعض الإشارات في أقوال وأفعال الماضين مما يتعلق بحقوق الإنسان، لابد أن نحدد مفهوم الحق والمقصود من حقوق الإنسان. (يعرف القانونيون الحق بأنه الرابطة القانونية التي بمقتضاها يخول لشخص على سبيل الانفراد والاستئثار التسلط على شيء أو اقتضاء أداء معين من آخر. ويقسمون الحقوق إلى سياسية ومدنية. والحقوق المدنية إما عامة وهي الحقوق اللازمة للفرد کحماية شخصه وكفالة حريته، وإما خاصة وهي حقوق الأسرة والحقوق المالية(1).

لقد ذاع مصطلح حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية، وذلك بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات المتصلة به. وكان المقصود منها مجموعة القواعد والمعايير ذات المضمون الإنساني السامي. وعلى أساس هذه الحقوق التي اعترفت بها دساتير الدول، تعهدت حكوماتها للشعوب بالعمل بها ورعايتها. وبالرغم من صعوبة حصر تلك الحقوق إلا انه يمكن استنتاجها من مجمل القوانين المدونة ودساتير الدول، واعتبارها من مصادیق حقوق الإنسان. كحرية الضمير، وحق انتخاب العمل ومحل الإقامة والسكن والسفر، والمساواة أمام القانون، والحصانة من التعذيب أو الاعتقال التعسفي(2).

وتؤكد بعض المصادر على أن تلك الحقوق مستمدة من طبيعة الإنسان نفسه، وبناء عليه تكون: مطالب أخلاقية أصيلة وغير قابلة للتصرف مكفولة لجميع بني البشر بفضل

ص: 311

إنسانيتهم وحدها، فصلت وصيغت هذه الحقوق فيما يعرف اليوم بحقوق الإنسان، وجرت ترجمتها بصيغة الحقوق القانونية،... وتعتمد هذه الحقوق على موافقة المحكومين بما يعني موافقة المستهدفين بهذه الحقوق(3).

فيما تستنتج مصادر أخرى بعض اللوازم عن تلك الحقيقة، وبالتالي يمكن تعريفها على إنها: مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته، والتي تظل موجودة وان لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى إن انتهكت من سلطة ما(4).

على أن تأصيل حقوق الإنسان بإرجاعها إلى الطبيعة البشرية هي محاولة اتجاه فكري، أراد من خلالها تعميم تلك الحقوق وجعلها لصيقة بشخصه، وقد واجهة نقدا من اتجاهات فلسفية أخرى.

ثانيا: حقوق الإنسان في الفكر الشرقي القديم

ولو عدنا إلى التاريخ للبحث عن بعض المؤشرات لاحترام الحقوق الإنسانية، لوجدنا أن البوذية وهي العقيدة الثانية من حيث الانتشار في الهند، وقد تجاوزت حدودها مولدها إلى الدول المجاورة. والواقع أنها مثلت ثورة على العقيدة الهندوسية التي أقرت نظام الطبقات، إذ لا فرق بين إنسان وإنسان آخر، وان الطبيعة في الأصل فارغة، وهذا يزيل عن البشر كل أصناف الحواجز فيما بينهم، ويجعل من أحقر الديدان قرين للأدميين؛ ولذا جاءت تعاليمها عامة لجميع الطبقات والشرائح، لا فرق بين الأمير والفقير ليس في الجسم فحسب بل بالروح أيضا، وهي للمرأة كما للرجل، ولو كان هناك انقسام فعلي لبني البشر، فهو على أساس الصلاح فهناك فريق صالح وآخر شرير. وقد نسبوا إلى بوذا وصايا هي في مجملها قضايا أخلاقية ذات صلة بالمثل العليا للحق الإنساني، کرفض القتل والسرقة وحرمة السكر والعلاقات الجنسية غير المشروعة. ولكن تعاليمها الأولى شوهت وزيد عليها فيما بعد حتى أصبحت لا تختلف كثيرا عن التعاليم الهندوسية التي ثارت عليها(5).

ص: 312

أما في الصين فتتجلى العقيدة الكونفشيوسية التي تدعو إلى الأمن والسلام والإخاء بين الناس كافة. وفي هذا الصدد تؤكد على أن الحل الوحيد لإصلاح المجتمع يكمن في إصلاح الحكم، ولا يتحقق ذلك إلا من قبل حكام يستعينون بوزراء وإداريين مستنيرين ومتحلين بأخلاق فاضلة. وفي هذه الحالة يملك الملوك ولا يحكمون، لأنهم يتركوا شؤون الحكم لأولئك الوزراء الذين عليهم أن لا يداهنوا الحاكم أو يخدعوه، ولهم أن يعارضوه علنا اذا اقتضى الأمر، لان إساءة الحاكم مع عدم وجود الناصح يؤدي لا محالة إلى الثورة وتدمير الدولة. وبهذا المعني كان كونفشيوس يؤمن بالنظام الطبقي، إلا أن الانتماء إلى طبقة معينة يكون بموجب کفايته الشخصية التي تتحدد من علمه وحكمته وأخلاقه الفاضلة وليس بموجب الإرث الأسري، وبالتالي فان انتشار التعليم كفيل بتحقيق التوافق الاجتماعي والقضاء على الفوارق الطبقية(6).

واذا ساد التماثل الاجتماعي حينئذ يصبح مجمل العالم جمهورية واحدة، يختار فيها الناس حكامهم من ذوي المواهب والفضائل، ويعملون على تدعيم قواعد السلم الشامل. وفي هذه الحالة تتوسع العلاقات الاجتماعية حتى تكاد لا يرى فيها الأفراد أن آباءهم من ولدوهم دون غيرهم ولا أبناءهم من ولدوا لهم، وإنما يسعون إلى تهيئة سبل العيش للجميع من دون استثناء، فيتكفلون بالمسنين حتى يستوفون آجالهم، ويهيئون سبل النماء للصغار والعيش الكريم للأرامل والأيتام والمقعدين من المرضى. هناك فقط يكون لكل إنسان حقه، وتصان شخصية المرأة فلا يعتدي عليها (7).

فالعقيدة الكونفشيوسية التي ما فتأت تؤكد على التمييز بين البشر، غير أن ذلك لم يستدعي لديها التقسيم الطبقي على أساس الوراثي، وإنما يقوم على التعرف على الإمكانات الحقيقية للبشر، والاستفادة منها لقيام مجتمع إنساني شامل وفق التصور الاشتراكي.

ص: 313

ودعا زرادشت إلى تحقيق العدل بين الناس ووضع الفواصل بين الحقوق والواجبات للفرد والجماعة واحترامها. وكان ينادي بتحقيق المعروف واجتناب الشرور التي هي برأيه الجهل والفقر والظلم والبغضاء، التي هي عقبات في طريق سعادة الإنسان. ويعتقد أن العلم يرفع من مرتبة الإنسان، لأن من يمتلك زمامه يصبح بإمكانه نشر الفضيلة بين الناس، فيخدم نفسه وبلده، وليس ذلك فحسب وإنما يرضي ربه أيضا. كما أن الإحسان إلى المحتاج هي أهم فضيلة يكتسبها الإنسان، ذلك لأن مساعدة الفقير البائس تساهم في إقامة إرادة الإله في الدولة، وتكسب صاحبها القرب منه. ولكن عندما اعتلى الأكاسرة عرش فارس تغيرت النظرة إلى عامة الناس وحورت العقيدة الزرادشتية فأقروا نظام الطبقات (8).

وينقل أن الكتب الزرادشتية القديمة كانت تتضمن أجزاء مخصصة للشريعة والقانون، تتناول الجرائم التي ترتكب تجاه الدولة، الملك، الجار.. الخ. ولكن الامتهان والتعذيب من اجل الاعتراف بالذنب وإظهار البينة يبدو أنها كانت أمرا مألوفا عند الساميين (9).

ولعل اشهر ما وصلنا من قوانين تتعلق بالحقوق في العصور القديمة كانت شريعة حمورابي، التي يبدو أنها كانت نسخة مطورة عن الشرائع السومرية السابقة بما يتناسب مع ذلك العصر. وكان حمورابي قد سطر في مقدمتها: حمورابي الملك الكامل أنا، من أجل البشر الذين منحهم الرب إنليل وولاني رعايتهم مردوك، لم أكسل ولم أقعد مكتوف اليدين، بحثت لهم عن مواقع الخير، فرجت الضيق عنهم، نشرت النور فوقهم، .... أؤمن لهم العيش بسلام، وأطمئن عليهم في أعماق معرفتي، لا أسمح للقوي يسلب حق الضعيف، أضمن حق الأرامل واليتامى في بابل التي رفع كل من الاله آنو وإنليل رأسها عاليا في اسانجيلا، البيت الأزلي ثابت الأركان مثل السماء والأرض، من أجل

ص: 314

تثبیت حقوق البلاد وتقرير مصيرها، وإعادة الحق إلى أهله، كتبت كلماتي العذبة هذه أمام صورتي كملك يقيم العدل، الملك الشامخ بين الملوك (10).

ومن الأحكام التي تضمنتها شريعة حمورابي أن العين بالعين والسن بالسن. ومن بينها عقوبات تتعلق بالسرقة والنهب والاغتصاب، والاعتداء على الوالد، واختلاس الساحر لأموال الناس والإضرار بهم. وأكدت حقوقا للمرأة حين وضعت عقوبة للشخص الذي يرمي امرأة بالفحشاء ولم يثبت عليها ذلك، كما حددت عقوبة الشخص الذي يدلي بشهادة كاذبة تتعلق بتهمة القتل. وتنظم شريعة حمورابي ظاهرة الرق في المجتمع البابلي، ففيها فقرات تفصل حدود الرق حقوقهم وواجباتهم(11).

وفي الحضارة المصرية القديمة كانت كثير من المثل المرتبطة بحقوق الإنسان تقدم من المعلمين والحكماء في اطار التربية والتعليم إلى الناشئة على قطع من الخزف والحجر الجيري. وكشفت تعالیم اخناتون الذي قال بنوع من التوحيد عن دعوة إلى السلام والتسامح والمساواة. فالإله الواحد لا يتجلى في الوقائع الحربية ولا في الانتصارات وإنما في الزرع والخصب. وطالب بتوفير العلم للجميع من دون تمييز. كما ألغي المراسيم والتقاليد الملكية الخاصة بالفراعنة، وأكثر من ذلك نزل إلى الطرقات مع عائلته كسائر أفراد المجتمع (12).

يظهر مما تقدم أن هناك إضاءات إنسانية متطورة ظهرت في مراحل تاريخية مبكرة، وعبرت من دون شك عن مؤشرات تقدير للحقوق الإنسانية، وان اختلفت في مستوياتها وفي توجهاتها. ولكن المعيار الفعلي والحقيقي الذي يحكم على تلك التجارب ويقيمها سلبا وإيجابا، لا يتعلق بقيمة الفكرة ومدی ترابطها المنطقي والعقلي، فالمحك الأساسي لها يكمن في مدى انعكاسها على ارض الواقع، وبروزها كقیم حاكمة على البشر سواء كانوا في السلطة أم خارجها. نعم هي في مجال التقييم الأخلاقي يمكن أن تجد لها محلا

ص: 315

فيه، أما في مجال الممارسة العملية فهي ليست حاكمة ولا محددة للنشاط الإنساني. ولو نظرنا إلى شريعة حمورابي على سبيل المثال لوجدنا أنها في الحقيقة (لیست شريعة بالمعنى المعتاد للكلمة. إذ هي لا تحاول أن تغطي جميع الحالات الممكنة، فكثير من الحالات المحذوفة ذات أهمية عظيمة، ومحاولات تنظيمها قليلة جدا... تتألف هذه القوانين ظاهريا من سلسلة مختلطة من القرارات اتخذها قضاة في حالات مستقلة. وليس هناك ما يدعو للافتراض بأن لهذه القرارات أية سلطة كحجج قانونية ملزمة لأحكام تالية كما في القانون الإنكليزي... ولم يكن النص المكتوب للقانون ملزما ولا بأي معنى من المعاني، وإنما كان مجرد مذكرة تسجل قرارا يعتمد على المفاهيم البابلية للعدل) (13). ولو قلنا أن هذا الحكم فيه نوع من التعسف، إذ كيف يتسنى للفكر الإنساني في تلك المرحلة التاريخية إحصاء جميع الحالات وتغطيتها قانونيا؟! كما أنه ليس صحيحا مقارنة التزام القضاة بمقتضى نص القانون بين مرحلة شريعة حمورابي والقانون الإنكليزي الذي حظت فيه البشرية بمستوى تطور ملحوظ لا يمكن قياسه بتلك المرحلة. ومع ذلك يمكن القول أن الإنسان يميل إلى الحقوق بشكل فطري، فالعدالة نابعة من الذات الإنسانية وان المساواة قائمة على أساس الفطرة، فلا خلاف في ضرورة العدل، ولم يشاهد طوال التاريخ دکتاتورا أو متعسفا رفع شعار أنه جاء من أجل الظلم والجور، ولم يجرؤ حتى الجبابرة والفراعنة على الإعلان الصريح عن معارضتهم للمفاهيم الراسخة في ضمير الإنسانية كالعدل والحرية، وإنما يزعم الجميع أنهم يهدفون إلى إقامة العدل ورفع الظلم، على الرغم من أنهم عملوا على ترسيخ كل ما يناقضها (14)؛ والنتيجة التي أريد أن أتوصل إليها هي أن ما شهده الشرق القديم بل العالم أجمع من تسلط الدكتاتوريات و الفراعنة طوال التاريخ، وما شهده من امتهان لحقوق الإنسان وكرامته كان يجري تحت عناوین الحق والعدل والمصالح العليا للبلاد وما إلى ذلك من خلال إفراغها من محتواها الحقيقي. وإن الظهور الحقيقي لمفهوم الحقوق والحريات كان في العصر الحديث بعد أن شهد الغرب ثورات

ص: 316

کبری، نتجت عنها تحديد سلطة الحكام ووضعها تحت الرقابة الصارمة. ولذا فان كل ما سبق قوله من مفاهیم سامية تتعلق بالحق الإنساني، فإنها كانت حقائق أخلاقية ومثل سامية تطمح إليها النفوس السليمة، ولم ترق إلى أن تكون ممارسات فعلية إلا في أوقات قليلة أو ربما نادرة بالقياس إلى عموم التاريخ الإنساني.

ثالثا: حقوق الإنسان في الأديان السماوية

هناك فارق أساس في مصدرية الحقوق بين الرؤية الدينية والرؤية الوضعية. ففي الوقت الذي تستمد الأديان الحقوق من شرائعها، فنصوص الشريعة وقواعدها الكلية هي التي تقرر الحقوق الإنسان. والشريعة وفق هذا المنظور هي أساس الحق ومصدره، وهي سنده وضمانه وجوده في المجتمع. في حين أن الرؤية الوضعية تجعل من الحق أساسا للتشريع، أما مصدره فهو تصور مفکر او قرار لحاكم أو فلسفة جماعة معينة. ومهما كانت الأسس الحقوقية فطرية ونابعة عن طبيعة الإنسان إلا أن تفاصيلها وتفرعاتها ومصادقيها ليست كذلك، إذ هي خاضعة لخصوصيات الزمان والمكان؛ وبالتالي فإن معيارية الحقوق في التصور الوضعي نسبي، وقابل للتغير بحسب الزمان والمكان، وباختلاف الميراث الثقافي للجماعة الإنسانية، بل قد تنقسم الجماعة على نفسها بالرؤية للحق، ومن ثم يلجأ إلى مبدأ الأكثرية في تحديده، بخلاف الشريعة الدينية فإن الاعتقاد بربانيتها والإيمان بذلك، يخضع الجميع للحقوق المقررة فيها.

فالقوانين العبرية تضاد القوانين السابقة، فبينما كانت القوانين الحيثية وقوانين بلاد ما بين النهرین علمانية بطبيعتها تدون قرارات المشرعين أو مراسيم الملوك، كان يعتقد العبرانيين يعتقدون أن الله نفسه يملي عليهم القوانين، والتي تبدي انسجاما مع مطالب الدين العبري، وتلك طبيعة أخلاقية ثابتة مفقودة لدى تشريعات الشعوب المحيطة بهم. القوانين العبرية مأخوذة من أسفار العهد القديم المعروفة عند اليهود بالتوراة (القانون)،

ص: 317

وإن الأقسام الأكثر قدما للقوانين تعود إلى عهد موسی (علیه السلام)، حينها كان العبرانيون مجموعة من القبائل الرحّل وكان عليها أن تكتسب وجودا مستقرا من خلال تشکیل دولة، ثم أضيفت إليها قوانين جديدة خلال مرور السنين، كما أعيد تفسير القوانين القديمة (15).

لقد أشارت تلك الشرائع إلى الأحكام المتعلقة ببعض القيم الأخلاقية في تنظيم العلاقات الإنسانية وفرض العقوبات على المتعدي بما يتناسب وأسس العدل، حيث أقرت القصاص فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن وكذا اليد والرجل والكي والجرح والرض. وميزت التشريعات بين الفعل المتعمد عمن سواه، والتعدي المؤدي إلى القتل عن سائر الضرر، وتناولت عقوبات الاعتداء على الوالدين أو العبيد، حتى الجنين الذي لم يولد بعد، وفصلت موقف ولي الدم وكيفية أخذ القصاص من الجاني والأداة التي تستخدم في القصاص، وشملت بعض فقراتها اعتداء الحيوانات ومحاسبة مالكيها(16). وثبتت كيفية الشهادة أمام القضاء وحدودها، وحرمة الكذب وشهادة الزور والرشي (17).

أضف إلى ذلك نجد أحکام نلمس منها شيئا من الحقوق الإنسانية، مثل اللوم الموجه إلى الغني والمقتدر اللذين يضران الفقير ويسيئان استعمال ما أوتيا من سلطة، وتدعو إلى الرأفة والرحمة بالفقراء والدخلاء ودفع استحقاقاتهم. فقد ورد في سفر التثنية لا تهضم أجرة الفقير والدخيل الذي يعمل في الأرض، وأنه إذا نسيت حزمة من حصادك فلا ترجع عليه، وإن فرطت الزيتون أو الكرم في حقلك فلا تراجع ما بقي منه؛ لأنه من حصة الغريب واليتيم والأرملة. (18)

غير أن التشريع التوراتي تطور على أيدي الربانيين المنتسبين لليهود، ويمكن أن نلمس ذلك في كتاب التلمود وهو الكتاب المعتمد أكثر من التوراة لدى أتباع الديانة اليهودية،

ص: 318

وفيه جرى التفريق بين اليهودي وغيره من البشر، فجسد اليهودي يختلف كليا عن أجساد الآخرين من حيث أكلهم وشربهم وطينتهم، وما يصح على الجسد (المادة) يصح على النفس (الروح)، إذ أن أصل أرواح سائر شعوب العالم هو من طبقات النجاسات الثلاث بينما أصل أرواح بني إسرائيل هو من الروح القدس ذاتها، وهو شعب الله المختار. واستنتجوا من ذلك أن روح اليهودي تستحق الحياة، فيما أن أرواح الآخرين لا تستحق ذلك، لان روحهم ليست ذات قيمة إلا كقيمة أدنى الحيوانات كالخنزير، ولذا فسر قوله لا تقتل إنه تعالى نهى عن قتل شخص من بني إسرائيل، وأصبح من العدل أن يقتل اليهودي الأجنبي لأنه من المحتمل أن يكون من نسل الشعوب التي سكنت أرض كنعان ولابد أن يقتلوا عن آخرهم، ومن قتل مسيحيا أو أجنبيا أو وثنيا يكافأ بالفردوس (19). وأضحت أحكامهم التشريعية تأمروهم بحروب إبادة، يقتل فيها جميع من تقع أيديهم عليهم من الأطفال والنساء والشيوخ والبهائم. لقد نذر بنو إسرائيل لله تعالى إذا حقق لهم طلباتهم أن يبيدوا جميع الشعب والمواشي، ولم يرد أنهم سعوا إلى إصلاح أعدائهم أو التفاوض معهم في شؤون الصلح (20).

وكرست المسيحية جل اهتمامها في الاعتناء بالحياة الروحية للإنسان، وكان ذلك على حساب تنظيم الحياة الاجتماعية، التي اقتصرت فيها على جوانب ضيقة تتعلق بطقوس الزواج والطلاق وإجراءات الصلح وما إلى ذلك. ويرجع السبب في هذا القصور إلى كون المسيحية قد ظهرت في محيط اجتماعي انتشرت فيه الشريعة اليهودية أو العهد القديم كما يطلق عليه المسيحيون. ويعتبر العهد القديم بالإضافة إلى العهد الجديد الذي سطر ما يتعلق بتعاليم السيد المسيح، الكتاب المقدس للديانة المسيحية ومصدرا لإيمان النصارى(21). فعلى الرغم من (أخذ المسيحية بالشرائع اليهودية التوراتية في طقوس العبادة وغيرها، إلا أن الدافع إلى قيام المسيحية كان دينيا خالصا غرضه تحقيق الخلاص الذي تنشده كل الديانات، ومقت سلوك اليهود وتصرفاتهم، فكانت صورة الخلاص

ص: 319

المنشودة تتمثل بمجموعة من القيم الإنسانية والمثل العليا تضمن الحقوق الإنسانية والحريات للجميع) (22).

لقد قدست المسيحية الإنسان ووضعته في مكانة مميزة لم تضعه فيها أي من الديانات السماوية السابقة أو اللاحقة لها، أي الديانة اليهودية والديانة الإسلامية. فإن الإنسان في العقيدة المسيحية، هو صورة لله رب الكون، وهذا ما يجعله مميزا عن باقي المخلوقات سواء من حيث التكوين، أو من حيث الدرجة أو المنزلة التي من المفروض أن يتمتع بها لأنه مخلوق مبارك ذو شأن وقيمة عليا. ولما كان الأمر كذلك، فإن الإنسان ينفرد بالتمتع بالكرامة الإنسانية التي تتأصل فيه ولصيقة بشخصه لمجرد كونه إنسانا، مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه.... وما إلى ذلك. ومن هنا نجد أن الكرامة الإنسانية في المسيحية هي خصوصية أو ميزة عالمية يتسم بها جميع أعضاء الأسرة البشرية، وهذا ما يذكرنا بالفقرة الأولى من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (23).

لكن إضفاء صفة (المحورية) على الأنسان مبدأ فلسفي قديم أكدته الأساطير الإغريقية القديمة، إذ تدور حركة الإلهة وحوادث العالم حول محور الإنسان ورغباته، واعتمده سقراط والمذاهب الفلسفية التي جاءت بعده، ثم تسلل هذا اللون من التفكير إلى المسيحية الأوربية، فحلت محورية الإنسان بدلا من محورية الله، وأصبح (الله) على وفق هذا التصور في خدمة الإنسان وحاجاته. إن تصور الذنب على أنه أمر فطري في الإنسان، والاعتقاد بضرورة النجاة منه، أديا إلى ظهور آلية لاهوتية توجب تضحية الرب الذي تحول إلى إنسان في هيئة السيد المسيح. وهكذا أضحى الرب في خدمة الإنسان. وبهذه الطريقة حلت محورية الإنسان الغربية محل محورية الله التي هي مبدأ الدين السامي(24).

ثم أن الكنيسة المسيحية كانت في بداية الأمر محامية عن حقوق المظلومين والمهمشين، حاملة بذلك إلى الحضارة الغربية بوادر قانون حقوق الإنسان. وقد ذهب القديسون إلى

ص: 320

القول أن الحاكم مكلف بمراعاة القوانين الإلهية لأنه يتلقی سلطانه من الرب، فاذا ما خرج عن تلك القوانين فأنه سوف يخرج عن سلطان الرب ولا يمثل إرادته، فيصبح حاکما جائرا تسقط طاعته وتجب مقاومته وعزله. وعندما قويت شوكة المسيحيين في الدولة الرومانية بعد أن كانوا مستضعفين فيها، اتخذوا موقفا حاسما في حقهم بمقاومة الطغيان ونجحوا في ذلك واستقامت الأمور لهم بعد أن تحولت روما إلى الديانة المسيحية. ولكنهم تنكروا لما دعوا إليه في بداية ظهور المسيحية من الحرية والإخاء، واعتبروا حق الغير في الاعتقاد باطلا يجب مقاومته واضطهدوا كل من يخالفهم الرأي (25). وكان مما يميز العصور الوسطى التي ظهرت فيه الكنيسة كقائد للمجتمعات الغربية، هو الانقسام الحاد إلى ثلاث طبقات، ولكل طبقة عدة درجات، فكان البون شاسعا بين الناس والخضوع هو القاعدة العامة. ومن مخلفاته ظهور محاكم التفتيش التي عملت على نشر المذهب الكاثوليكي واضطهاد الفئات والمذاهب والأديان المخالفة له. كما شهد التاريخ الحروب الصليبية وممارساتها الشنيعة تجاه الأسرى والأطفال والنساء. (26)

أما في الإسلام فأن الشريعة أساس الحق ومصدره، وهي ربانية ومتعالية على حدود الزمان والمكان، وهي أمانة في عنق الناس عليهم رعايتها والتمسك بها. وقد أكدت على كثير من القضايا التي ارتبطت بحقوق الإنسان. فالإنسانية كلها ترجع إلى اصل واحد، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً» (النساء: 1)، وان هذا التنوع والاختلاف بين الناس مدعاة للتواصل والترابط، وأن لا مزية لبعضكم على بعض إلا بالتقوى، فطاعة الله والقرب منه هو معيار التفاضل فيما بينكم، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: 13). ولا يجوز التعدي على حياة الناس، (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.. الأنعام: 151)، كما أن الجزاء مقرر لمن ينتهك هذا الحق، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

ص: 321

عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى» (البقرة: 178). وحق التكافل منصوص عليه، «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (الذاریات: 19) (27).

ولا مجال للتسلط في الإسلام، فبعد أن استبعد استعلاء العرق والجنس والطبقة، استبعد (الكهنة) أيضا، فلم يعرف المجتمع الإسلامي طبقة (رجال الدين) تحوطهم العصمة ويزعمون لأنفسهم صلة بالله غير سائر البشر، ويدعون ترفعا عن شئون الدنيا وعامة الناس. إلى جانب ذلك لم يتخذ الإسلام موقفا معارضا ضد الديانات الأخرى، «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الممتحنة: 8)، ولذا ظل أتباع الديانات محتفظين بعقيدتهم وطقوسهم ويتمتعون بعلاقات طبيعية مع أفراد المجتمع الإسلامي، عدا أولئك الذين يتخذون موقفا عدائيا تجاه المجتمع الإسلامي، «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (الممتحنة: 9) (28).

غير أن مراجعة بسيطة للتاريخ الإسلامي تكشف أن القيم الإسلامية سرعان ما تبدلت، وأن معاوية والأمويين لما هیمنوا على مقدرات الأمة الإسلامية، ابدلوا مقوماتها التي قامت عليها كالتراحم والأخوة الإيمانية وإنكار الذات، لتظهر محلها روابط النسب وتعلو نعرة العصبية العربية، والتعالي على باقي الأجناس بل وتفضيل العرب بعضهم على بعض. كما أنهم غيبوا الأسس التي قامت عليها الخلافة، ولذلك أتهموا أنهم طغاة مستبدون سلبوا الحكم ووأدوا الشوری، وجعلوا الخلافة ملكا، وأقصوا الموالي وجعلوهم بمنزلة الأرقاء وسفكوا الدماء وانتهكوا المقدسات ولم يرعوا الحرمات (29).

وبذلك كان أغلب المسلمين ينظر إلى الأمويين على أنهم مغتصبين وغير أهل لمركز الخلافة الروحية والزمنية، وكان من جانب الأمويون أن تكون لهم (عقيدة تسند حكمهم

ص: 322

إلى جانب القوة، ولم تكن هذه العقيدة أو الأيديولوجية بمعنى أدق إلا الجبر، فما من عقيدة تمسك زمام الأمر وتصرف الناس عن الثورة عليهم وعلى ولاتهم مثل عقيدة الجبر، إن وصولهم إلى الحكم وأعمالهم ليست إلا نتيجة لقدرة من الله قد قدر) (30).

رابعا: حقوق الإنسان في العصر الحديث

يمكن أن نلمس جذور الفكر الأوربي الحديث في مجال حقوق الإنسان بالتصورات الذهنية المجردة والأفكار العامة، التي ظهرت في الفلسفة اليونانية وانتقلت فيما بعد إلى القانون الروماني، وتتحدث عن القانون الثابت الذي لا يعتريه التغيير، فيعد نموذجا أعلى يجب أن تنسج على منواله مجمل قوانين المجتمع، لأنه قائم على مبادئ لم تأخذ من کتاب محدد ولا من تقاليد متواضعه، وإنما مصدره الطبيعة الإنسانية ويكتشفه العقل من روح المساواة والعدل الكامنة في النفس. ولذا أطلق على هذا القانون بالقانون الطبيعي. وقد انتقلت فكرة القانون الطبيعي إلى أوربا عن طريق الأدب اليوناني والقانون الروماني، وبرزت فكرة العدالة في إنكلترا والتي تقول أن العدالة ينبغي أن تتفوق على القانون الحرفي المتشدد کما وصف أحيانا، والذي يرشد إلى مبادئها الضمير والوجدان ممثلا بضمير الملك الذي يختص بامتياز توزيع العدالة بين رعاياه بمختلف الوسائل (31).

غير أنه سرعان ما هب أشراف الدولة ورجال الكنيسة وأهل المدن معلنين الثورة على حكم الطاغية ملك إنكلترا لما فرضه من ضرائب باهظة. وفي عام 1215 م استطاعوا تقیید حکمه المطلق وطغيانه عندما أجبر على توقيع وثيقة (الماجنا کارتا) أو العهد الأعظم، الذي تقرر بموجبه أن لا ضريبة إلا بقانون من البرلمان. ومع أن الوثيقة كانت ترمي إلى خدمة مصالح نبلاء الإقطاع إلا أن الشعب الإنكليزي استطاع أن يفيد منها في استرجاع حقوقه المسلوبة. وقد عدت هذه الثورة أول احتجاج ضد الحاكم الفاسد في تأريخ إنكلترا، كما اعتبرت الوثيقة حجر الزاوية في بناء الحرية فيها (32).

ص: 323

وفي عام 1776 م أعلن الشعب الأمريكي المتألف من مختلف الأجناس البشرية وثيق الاستقلال من الاستعمار الإنكليزي، وقد تضمنت هذه الوثيقة على مبادئ حقوق الإنسان كحق الحياة والحرية والمساواة، التي صاغها توماس جيفرسون وأكدت على أن الخالق منح الناس حقوقا متساوية في الحياة والحرية لا تنتزع. ولتأمين هذه الحقوق وجدت الحكومات التي تستمد سلطانها من رضى الشعب، فأن قضت الحكومة على تلك الغاية صار من حق الشعب استبدالها بأخرى جديدة تعتمد أسس ومبادئ يراها أجدى لصون سلامته وسعادته. وأثرت أفكار الثورة الأمريكية في المجتمع الفرنسي، فثار على الحكم الملكي الفاسد وشكل الجمعية الوطنية الفرنسية، التي أقرت وثيقة حقوق الإنسان المكتوبة من قبل امانول جوزیف سییس، ثم سجلت هذه الوثيقة في الدستور الفرنسي الذي أصدرته الثورة سنة 1791 م (33).

وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948 م مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعد أن ظهرت القناعة بأن ما ورد في ميثاقها لم يكن كافيا، وقد تناول الإعلان حقوق أعضاء الأسرة الإنسانية على إنها حقوق غير قابلة للانتهاك، وتمثل معیارا مشترکا تقيس على أساسه الشعوب والأمم منجزاتها على هذا الصعيد، وإن كان لا يتضمن إلزاما للدول الأعضاء في الأمم المتحدة ولا يتوفر على الضمانات الكافية لعدم انتهاکه. ولذا اتجهت المنظمة إلى مهمة تحويل المبادئ التي جاء بها الإعلان إلى معاهدات تفرض التزامات على الدولة المصدقة بها(34).

ويقسم الدكتور عامر حسن فیاض الوثائق الدولية لحقوق الإنسان إلى: الجيل الأول يتمثل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الفردية البعد، ثم الجيل الثاني المتمثل بالعهود الدولية السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية التي شملت حقوق فردية مطعمة بحقوق جماعية واجتماعية مثل إعلانات حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق

ص: 324

السكان الأصليين، ثم مع التسعينات تدخل حقوق الإنسان الجيل الثالث من حيث التركيز على حقوق مثل التنمية والحق في البيئة النظيفة، والأمر يحتاج أكثر إلى أجيال رابعة وخامسة تعزز الحقوق الجماعية وبشكل متوازن مع الحقوق الفردية (35).

وقد وجهت انتقادات قوية للتفسير الغربي لحقوق الإنسان، الذي جرى فيه التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطن. ولكن من هو هذا الإنسان المتميز عن المواطن؟ إنه الإنسان الأناني المنفصل عن المجتمع، إنه عضو المجتمع البرجوازي في نظر مارکس. فالحرية تتحدد حسب وثيقة الحقوق الصادرة عن الأمم المتحدة أن الإنسان باستطاعته أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين. فهي لا ترتكز على علاقات الإنسان بالإنسان الآخر، وإنما على انفصال الإنسان عن الإنسان، إنها الحق في هذا الانفصال. والتطبيق العملي للحرية يجري في حق الملكية الفردية، إذ هي حق الإنسان في التمتع بثروته والتصرف بها وفق مشيئته، من دون الاهتمام بسائر الناس وبصورة مستقلة عن المجتمع؛ إنه الحق الأناني، الذي يتجلى فيه الآخر ليس محل لتحقيق الحرية، وإنما مقيد لها. وهكذا بالنسبة لسائر الحقوق. فالأمن وهو أسمى مبدأ اجتماعي يقوم على الحماية التي يمنحها المجتمع لكل عضو لحفظ حياته وحقوقه وحريته، وبالتالي فهو الضمان للحفاظ على فرديته وأنانيته (36).

إذن ليس ثمة أي حق من حقوق الإنسان يتخطى الإنسان الأناني، بمعنی فردا مفصولا عن المجتمع ومنطويا على ذاته ومنشغلا بمصلحته الشخصية فقط. وإن غاية التجمع السياسي هي الحفاظ على حقوقه الطبيعية التي لا يمكن إلغاؤها. (فالإنسان ليس منظورا إليه في هذه الحقوق بمثابة كائن بشري اجتماعي؛ بل على العكس تماما، فأن الحياة البشرية نفسها، أي المجتمع تظهر بمثابة إطار خارجي عن الفرد، بمثابة تحديد حريته الأولية. والرابطة الوحيدة التي توحد بينهما إنما هي الضرورة الطبيعية، حاجة المصلحة الخاصة) (37).

ص: 325

من هنا يمكن القول بأن مفهوم حقوق الإنسان في العالم الغربي لا يمكن تعميمه، ذلك لأنه في الحقيقة مرتبط بتصور خاص بالإنسان وحياته الاجتماعية، وبالتالي فمن غير الصواب الادعاء بأن قیم حقوق الإنسان في النظر الغربي مطلقة، إذ لا يمكن اعتبارها مفاهیم علمية صارمة، تخضع في التقويم لمعايير واحدة، في كل المجتمعات على اختلاف أسسها النظرية ومرجعيتها الفكرية.

أما في مجال الممارسة فقد أصبحت قضية حقوق الإنسان أحد أسلحة السياسة الخارجية للدول الكبرى، ذلك من خلال استخدامها معيارا في تقديم المساعدات الدولية للدولة النامية. ولا يخفى ما يترتب على تنفيذه من مشكلات في الواقع المعقد لنظام عالمي لم يتفق على اتجاهاته وقيمه الأساسية وموازینه، مما يفتح الباب لصور من التدخل غير المسوغ في الشؤون الداخلية للدول تحت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، خصوصا مع دخول أطراف غير حكومية أصبحت بمقتضى أهدافها وأنشطتها ذات صلة كبيرة بالموضوع، مما يفتح المزيد من الاقتناع بالحق في التدخل الخارجي في السياسة الداخلية للدول، طبعا يجري ذلك وفق معيار النموذج الغربي، ومن دون اعتبار للخصوصية الثقافية والاجتماعية والدينية للمجتمعات (38).

فضلا عن اتخاذ موضوع الدفاع عن حقوق الإنسان كسلاح ضد الدول، من أجل تمرير الدول الكبرى لمصالها السياسية. ويمكن النظر إلى ازدواجية المعايير في الحكم والتطبيق في قضايا عديدة حدثت في العالم، مثل القضية الفلسطينية والمشكلة البوسنية وغيرها التي جرت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان أفزعت الضمير الإنساني، إلا إنها لم تواجه بموقف عادل من الدول الكبرى للدفاع عن حقوق الإنسان ورد العدوان عليها. وشمل هذا الموقف المنظمات الدولية التي اكتفت بمجرد الإدانة الباهتة التي لا تتناسب مع حجم المجازر والتشريد، فلم تلاحق المسؤولين عن هذه الجرائم الكبرى بنفس الحماس الذي تظهره في شأن أحداث أقل أهمية تجري في دول أخرى(39).

ص: 326

المبحث الثاني: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

جاءت خلافة الإمام علي في ظروف عصيبة مرت بها الأمة الإسلامية، حيث شهدت ثورة عارمة اشتركت فيها مختلف الأمصار، حين قدمت وفودها إلى المدينة لتعبر عن سخطها على عثمان بن عفان الذي لم يف بمسؤولياته في إقامة العدل، فقتل على أثرها الأمر الذي احدث فتنة عمياء هزت كيان الأمة الإسلامية، وكانت بمثابة الزلزال الذي أضعف أساسات البناء السياسي الإسلامي، وبالتالي كان من العوامل التي عجلت بأنهاء مرحلة الخلافة باستشهاد الإمام ثم تسلط بني أمية على الدولة الإسلامية (40).

إن تلك الظروف المضطربة والملابسات التي أحاطت بخلافة الإمام، قد سلطت الضوء على عظم شخصية الإمام وثراء سيرته، فكانت المشكلات الكبرى والصراعات العنيفة التي حلت بالأمة الإسلامية تتطلب قرارا حاسما وموقفا صلبا، لا يقوم به إلا الأفذاذ من الناس، وكشفت عن سيرة ثرية تبدت فيها القرارات والمواقف كمنار تضيء الطريق لمن جاء بعده، ينهل منها ما شاءت قدرته وموهبته الاستفادة من ذلك المنهل الرحب والعطاء الثر.

كما أن شخصية الإمام قد أحيطت بهالة قدسية نادرة، وجد فيها الأبعدون صوتا للعدالة الإنسانية، ولمس فيها الأقربون صحابيا جليلا زق العلم من صاحب الرسالة الأعظم، منذ أن ربّي في حجره إلى خليفة لأمته، وتمسك بها الأدنون لأنها طهرت من الجليل الأعلى الذي أراد لها أن تكون هاديا لرسالته ومنارا لبلاده.

أما البحث عن موضوع حقوق الإنسان لدى الإمام فهو بحث شيق وعمیق، تتداخل فيه الأقوال والأفعال، وتتجانس فيه العقائد والمواقف. والأسئلة التي تستوجب الإجابة

ص: 327

عنها هي: هل يمكننا أن نعثر على متبنیات لحقوق الإنسان في أقوال الإمام؟ وإن كانت كذلك فهل التزم بها الإمام کمبادئ عمل في سيرته العملية؟ وإن صح ذلك فهل اعتمدت کمنهج عمل للدولة حين أصبح على قمة الهرم السلطوي؟ ومن ثم أيمكننا الادعاء بأن الإمام ليس كآخرين، الذين إذا قالوا نقضوا وإذا عاهدوا نکلوا. بل تبدو سيرته بقوله وفعله وتقريره مزيجا واحدا يعكس صورة من صور الكمال المتفرد، والتمسك المعصوم بثوابت الشرع الذي يعز فصله ويستحيل نقضه، مهما جاءت النتائج وغلت التضحيات؟

أولا: الحقوق المدنية

حق العمل والملكية الخاصة:

مع أن الإمام كان يستشف من بعض حديثه تلك النظرة الدونية إلى الحياة، إلا أن ذلك لم يمنعه من التأكيد على أهمية العمل والكسب ورفض الرهبانية والاقتصار على العبادة، فهو (عليه السلام) يأمر واليه ب (استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيرا،... فأنهم مواد المنافع) (41). ولم يكتف بالحث على العمل الذي ينفع الجماعة ورعاية العاملين، ولإعلاء من شأن هذا العمل، اشترط ألا يجبر العامل على عمله، فالعمل الذي لا يواكبه رضا وجداني عميق من قبل العامل، فيه إساءة للحرية والعمل نفسه؛ وإنصافا للشخص يحرم إكراهه على عمل من غير مبرر، كما لابد أن تكون ثمرة العمل من حق العامل وحده (42). وكمثال تطبيقي على ذلك نذكر أهل القرية الذين طلبوا من حاكمهم إعادة فتح مجرى نهر سابق قد اندثر، وذلك بأمر القادرين على العمل بالسخرة، ولكن الإمام رفض ذلك، وطلب منه، أن يدعو الناس إلى حفر النهر، ثم يكون الأجر والنهر فيما بعد لمن عملوا بمليء إرادتهم (43).

ولا تعني حرية العمل عند الإمام أن يكون السوق مفتوحا على مصراعيه لجشع بعض التجار، كما هو حال السوق في الدول الرأسمالية، وإنما لابد للدولة من مراقبة

ص: 328

حركة السوق، وتنظيمها وفقا لموازين التكافؤ في الفرص وتحقيق العدالة. فقد نبه الإمام في العهد: (وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع [المشتري]، فمن قارف [خالط] حكرة [الاحتكار] بعد نهيك إياه فنکّل [عاقبه]، وعاقب في غير إسراف [تجاوز حد العدل]) (44).

ويركز الإمام في سياق توصياته إلى عامله أن يكون هدفه الأساس البناء والأعمار ولا يكون مبلغ همه أخذ الضرائب، فيقول: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة) (45). ويضيف الإمام بضرورة مراعات الناس في أخذ الضرائب: (فأن شكو ثقلا أو علة... خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم) (46). لان ذلك فيه صلاح الحاكم والمحكومين، (فأنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم) (47).

وقد ورد عن الإمام (عليه السلام) في رواية مفصلة أنه بعث أحد عمال جباية الزكاة، وأوصاه بتقوى الله ورعاية حقوقه، فأن وصل لتلك المنطقة نزل بعيدا عن البيوت، ثم يأتيها وهو على سكينة ووقار فيسلم على أهلها ويقول لهم، أرسلت إليكم لأخذ منكم حق الله في أموالكم، فأن قال قائل ليس علىّ حق، فلا تراجعه، وإن أنعم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيرا، ولا تدخل إلا بأذنه، وإن دخلت فلا تدخل دخول متسلط عليه ولا عنف به، ثم أقسم المال قسمين وخيره في أحدهم وخذ الآخر، وهكذا حتى يبقى ما فيه حق الله (48). وفي الحقيقة فأن هذا التعامل مع المواطنين عند أخذ الضريبة المفروضة عليهم، هو أرقی تعامل يمكن أن يتصور في نظام ضريبي حضاري.

ذلك لان للمسلم حرمة في نفسه وأهله وماله لا يجوز التعدي عليها، بل تمتد هذه الحرمة لتشمل كافة مواطني الدولة الإسلامية سواء من المسلمين وغيرهم، فقد جاء في

ص: 329

نهج البلاغة، (لا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدی به على أهل الإسلام) (49). حينئذ يخرج المرء من كونه مواطن ويصبح معادي يستحق العقوبة والردع. بل نجد أن الإمام قد حث الناس على الجهاد حينما بلغه (أن رجلا منهم [الأعداء] كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها... ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن أمرأ مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جدير) (50).

الضمان الاجتماعي:

يؤكد الإمام علي في عهده إلى عامله على ضرورة إحاطة الطبقة الفقيرة من المحتاجين والمرضى وذي العاهات بالرعاية الأزمة، حيث يقول: (الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي... والزمني... واحفظ الله ما استحفظك.. من حقه فيهم) (51). وضرورة عدم التقصير في ذلك بحجة الانشغال بالمصالح العليا للمجتمع، (فلا يشغلنك عنهم بطر [طغيان النعمة]، فأنك لا تعذر بتضييع التافه [البسيط الحقير] لأحكامك الكثير المهم) (52). ثم يشير الإمام إلى شريحة أخرى من الشرائح الاجتماعية التي هي بحاجة إلى رعاية خاصة من الدولة، (وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن [المتقدمون فيه] ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل) (53).

أما في مجال الممارسة العملية، فقد كان شديد الحرص على مراعات هذه الشرائح الضعيفة ومواساتها، وقد نزلت فيه آيات من التنزيل تقديرا لعطاءه، فقد ذكر الواحدي أن عليا (عليه السلام) حصل على كمية من الشعير أجرا على عمل قام به، فأتی به إلى بيته فأخذوا ثلثه وعملوا منه خبزا ليأكلوه، فجاءهم مسكين فدفعوه إليه، فعملوا الثلث

ص: 330

الثاني وأتاهم يتيما فأعطوه إياه، ثم عملوا الثلث الثالث فسألهم أسير فأطعموه ذلك. فطووا في كل ذلك الوقت من غير طعام، فنزلت هذه الآية: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا» (الانسان: 8) (54).

ولم يستثني من العطاء أحد من رعايا الدولة الإسلامية، ففي زمن خلافته عليه السلام مر به شیخ کبیر مکفوف يسأل الناس، فسأل الإمام ما هذا؟ فقالوا له نصراني، فقال الإمام: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال (55). وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أن أمير المؤمنين جاء يوما إلى السوق فابتاع ثوبين أحدهما بثلاث دراهم والآخر بدرهمين، فدفع الأول إلى عبده قنبر، فقال له قنبر، أنت أولا به، لأنك تصعد المنبر وتخطب الناس، فأجابه الإمام: أنت شاب ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أكون أفضل منك لباسا، لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون(56).

كما كان شديد المحاسبة لعماله عندما يلمس منهم شيء من التقصير في ذلك، وفي سيرته كثيرا مما يصح أن يكون مثالا في هذا المقام. ومنها أنه سلام الله عليه بلغه أن عامله عبد الله بن العباس قد تجاوز على بعض الأموال العامة، وهذا الشخص من أقرب المقربين إلى الإمام، أولا لأنه ابن عمه، وثانيا لأن ابن عباس کان لصيقا بالأمام كونه أحد مستشاريه وقادته، فبعث إليه كتابا يذكر فيه خاصية القرب لهذا الرجل، فيقول: (أما بعد فأني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن من أهلي رجل أوثق منك في نفسي) (57). وفي نفس الوقت فأن ذلك لم يمنعه من غض الطرف على جرأته على المال العام فيوبخه، وقد جاء في الكتاب: (أيها المعدود عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما، وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما، وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال...

ص: 331

والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل عن مظلمتهما) (58).

ومنها أيضا أنه أتته العيون بخبر عن عامله في البصرة عثمان بن حنیف، حيث بلغه أنه دعي إلى وليمة فأجاب الدعوة!! ولمجرد أنه شك في مصدر هذه الأموال وضرورة الاحتراز من الشبهات، كتب إليه كتابا طویلا ينتقده فيه نقدا مرا، ويحذره من عاقبة الوقوع في الشبهات، هذه فقرة منه: (فانظر إلى ما تقضمه من هذ المقضم فان اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه) (59). ثم يذكره بسيرته ومواساته للفقراء، إذ يقول: (ألا وإن إمامكم قد أكتفي من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون رثي وأكباد حری... أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) (60).

حرية التنقل والسكنى:

فقد ورد في نص العهد في سياق الحديث عن أصحاب الأعمال والحرفيين، وضرورة رعايتهم من قبل السلطة فضلا عن اعتراضهم ومنعهم وهم يسعون حثيثا طلبا للرزق في أطراف البلاد المترامية، حيث يقول: (وجلابها [الأرزاق] من المباعد والمطارح [الأماكن البعيدة]، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها [لا يمكن وصول الناس إليها] ولا يجترئون عليها، فأنهم سلم [أي التجار والصناع] لا تخاف بائقته [دهاؤه]، وصلح لا تخشى غائله، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك) (61).

ص: 332

يظهر من كلام الإمام أن توصيته بهذه الشريحة، لكونها أولا لأنها تقدم في حركتها وتنقلها الخدمات للمجتمع، وثانيا لأنهم أناس مسالمين لا يخشى من جانبهم، فتكون حركتهم نافعة على العموم. ولكن سيرة الإمام تبين أنه لم يمنع أحد حتى حين شك في نواياهم. فقد استأذن طلحة والزبير الإمام في الخروج إلى مكة معتمرين، ولكن الإمام أظهر لهما شيئا من الشك فيما صمما عليه، فأكدا له أنهما لا يريدان غير العمرة، فسمح لهما في الخروج، مع أنه لم يزايله الشك في نواياهما (62). وتذكر المصادر التاريخية أنه أكد عليهما البيعة له، لتكون الحجة عليها أوثق فيما لو انقلبا عليه. وفعلا كان شك الإمام في محله ولم يتجها إلى مكة، وإنما كانت وجهتهما إلى البصرة، التي حثوا أهلها على الخروج عن طاعة الإمام، وحدوث معركة الجمل (63).

بل إن فلسفة الإمام اقتضت عدم منع الأشخاص من التنقل حتى في الظروف العصيبة، فقد بلغه أن رجالا من أهل المدينة يخرجون خلسه للانضمام إلى صف معاوية، فكتب إلى عامله على المدينة، لا ليأمره بمنعهم عن الخروج والانضمام إلى العدو، وإنما كتب له بأن لا تأس لفراق مثل هؤلاء الذين مالوا إلى الطمع، فرجحوا الباطل على الحق. وجاء فيه: (أما بعد، فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك مددهم، فكفى لهم غيا ولك منهم شافيا فرارهم من الهدى والحق، وإيضاعهم إلى العمى والجهل... فهربوا إلى الأثرة) (64).

ص: 333

حرية الاعتقاد:

يأمر الإمام عامله بقوله: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان أما أخو لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق). (65) ويمكن أن نستفيد من هذا النص حرية المعتقد؛ ذلك لان الرعية بحسب النص هم صنفان، والصنف الأول هم المسلمون، الذين ينتظمون مع الحاكم المسلم تحت عنوان (الأخوة الإسلامية)، أما الصنف الثاني فأنه يشمل كل من لا ينتمي إلى صنف المسلمين. ولما كان الإسلام دين وعقيدة، فأن الصنف الثاني يشتمل على كل من له دين وعقيدة غير إسلامية من مواطني الدولة الإسلامية. إذن فأن رعايا الدولة الإسلامية ومواطنيها هم من ديانات وعقائد مختلف، وهي معروفة ومشخصة وليست خافية على الحاكم الإسلامي، وإن الإمام سلام الله عليه حين وجه حاکمه على مصر ليس السماح لهم وغض الطرف عنهم في ممارسة دينهم وعقائدهم بحرية، وإنما يتوجب عليه أن يتوجه لهم جميعا بمختلف انتماءاتهم الدينية والعقائدية بالمحبة والرحمة عليهم واللطف بهم.

ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي، وعددنا حركة الخوارج حركة عقائدية تصحيحية (طبعا من وجهة نظرهم)، وليست سياسية لأنهم كانوا لا يستهدفون الوصول إلى السلطة، وإنما تصحيح مسار الأمة، وذلك ما نبه إليه الإمام حين قال: لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدرکه(66).

ولكن معارضة الخوارج للأمام لم يقابها (عليه السلام) إلا بمنتهى الروية في محاولة لاستيعابهم. لقد كان الإمام خليفة وكانوا هم من رعاياه، وكان بإمكانه أن ينفذ فيهم أشد أنواع العقوبات، ولكنه لم يسجنهم ولم يجلدهم، ولم يبادرهم بحرب. فأرسل إليهم أقرب معاونيه وأعلم مستشاريه كعبد الله بن عباس وصعصة بن صوحان يجادلونهم من

ص: 334

أجل عودتهم إلى صفوف الأمة، ثم حاورهم بنفسه ما استطاع لهدايتهم سبيل (67).

وكان يعرف الإمام أن أحدهم يهم بالخروج والانضمام إليهم، فلا يستكرهه ولا يستبقيه، ويفسح لهم المجال لان يتوجهوا حيث يشاؤون، ويحسن معاملة من أقام منهم، ولا يرضى أن يتعرض له من أصحابه أحد، . ثم أنه كان يعطيهم نصيبهم من الفيء أسوة بسائر الناس. فالناس أحرار في ما يرون من قول وعمل، وموالاة ومعاداة، إلا أن يتجاوزوا على الناس ويعتدوا عليهم ويفسدوا في الأرض، حينذاك يتوجب على الإمام إلزامهم بالحدود في غير لين (68).

حق الحياة:

ومن وصايا الإمام لمالك الأشتر حرمة حياة الإنسان وعدم سفك الدماء، فكتب: (إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها (69).

ولست أدعي أمرا هو بحاجة إلى برهان حين أقول أن الإمام رجل حرب وبطل معارك، فقد شارك في حروب المسلمين والمشركين وغزواتهم، وقتل في تلك الحروب والمغازي أبطال المشركين، وبطش بأعلام قریش وكبار بيوتاتها. وكانت بدر وأحد والخندق شواهد على ما أقول. ولكن لو تساءلنا عن تلك السيرة المليئة بالحروب والتاريخ المضمخة بالدماء، هل كان ذلك كاشف عن عدم رعاية حق الإنسان في الحياة أم كان ناتج عن عقيدة راسخة بشرعية الجهاد؟ بداية يصرح الإمام في النص السابق على تحذيره عامله من مقاربة سفك الدماء بغير حق. ثم يردف ذلك بما يكشف عن فلسفته الخاصة التي تذهب إلى أن سفك الدماء من غير وجه حق، هي أكبر جريمة يمكن أن يقترفها إنسان، وهي مدعاة أكثر من أي شيء آخر للنقمة، التي توجب زوال النعمة وانقطاع مدتها.

ص: 335

ولو عدنا لسيرة الإمام (عليه السلام) لنبحث عن الشواهد حية، التي لا سبيل إليها بتأويل، ولا يتطرق إليها شك. إذ تذکر کتب التاريخ أن رجلا من الخوارج سمع حديث الإمام وهو يعض بعض جماعته، فبهره حديثه فصاح معجبا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرا ما أفقهه. فانتفض بعض اتباع الإمام ليقتلوه، فنهاهم الإمام وقال لهم: إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب (70).

كما أن تاريخ الإمام يتحدث عن بعض المشاغبين في جماعته، الذين يعترضون عليه في كل خطوة، ويثقلون عليه باللجاجة في مواقف تضيق فيها الصدور. (ولم يكن الأشعث بن قيس بالوحيد في هذا الباب، بل كانوا له شركاء من الخوارج وغير الخوارج، يظهرون بالعنت في غير موضعه ويذهبون به وراء حده... ألا يخطر على البال هنا، أن ضربة من الضربات القاضية كانت تنجع في هذا العنت المكرب، حيث لا تنجع العقوبة الشرعية أو الاحاييل السياسية؟ ماذا لو أن الإمام جرد سیفه بين أولئك المشاغبين، وأطاح برأس الأشعث بن قيس قبل أن يفيق أحد إلى نفسه، ثم ولى على الفور من يقوم مقامه...؟ أكان بعيدا أن تفعل الرهبة فعلها، فيسكن المشاغب ويهاب المتطاول ويجتمع المتفرق، ويقل الخلاف بعد ذلك على الإمام؟) (71). هذا المنهج اعتمدته الميكافيلية، واستساغته البرغماتية، واعتبرته الاشتراكية ضرورة لحفظ المجتمع. ولكن هيهات فليس ذلك في فلسفة الحكم عند الإمام، ولا طريقته في التعامل مع موضوع الدماء، مع علمه بنجاعته، وعدم غيابه عن نظره.

حتى قتال العدو عند الإمام له أصوله وأخلاقياته، (فليس الغدر قتالا، ولا المباغتة دون الإعذار جائزا عنده، بل لابد من الالتزام بالأصول الأخلاقية. ومن هنا فأن الإمام حينما أرسل الأشتر في مقدمة الجيش إلى مناوئيه أوصاه قائلا: إياك أن تبدأ بقتال إلا أن يبدؤوك، حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم، ولا يحملك بغضهم على قتالهم

ص: 336

قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة) (72). فليس البغض أو العصبية ما يحمل على القتل عند الإمام، وإنما الحجة والإعذار بالنصيحة مرة تلو الأخرى، حتى إفراغ الوسع وقيام الحجة على القتال. وليس قوله السابق لمالك نصيحة خاضعة لاشتراطات الحرب وتقلباتها، وإنما هي فلسفة عمل وضوابط شرع لا يمكن تجاوزه. فحين سمع أن جماعة الخوارج (خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون. وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت، ووضح فيها عداء العدو أو غمض، يدعوهم إلى السلم وينهي رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط، إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام) (73).

العدالة:

جاء في نص العهد: (وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية) (74).

لقد ركز الإمام على موضوع العدل أيما ترکیز، سواء على مستوى توجيهه ونصحه ومواعظه للآخرين، أم على مستوى عمله الفعلي وممارساته العملية، حين كان خارج السلطة أم حينما تسلم مقاليد خلافة المسلمين؛ ذلك لان العدل أولا قيمة من قيم الدين ومعیار للشريعة، فكان تمسك الإمام بهذه القيم بمقدار تمسكه بدينه وشريعتها المقدسة. كما أن تشدده في التزام قيم العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة، ورفضه التام لأي ممارسة أو تطبيق عملي يحيد عنها ولو بصورة آنية، اقتضاء للمصالح العليا ولاعتبارات السياسة ومتطلبات الظروف التي تحيط بالدولة؛ كون أن خلافة الإمام جاءت بعد ثورة عارمة لم يشهدها المجتمع الإسلامي من قبل، نتيجة ابتعاد سياسة الدولة عن قيم الإسلام الأصيلة التي قامت على العدل والمساواة، فظهر خلالها انقسام ملحوظ للمجتمع إلى طبقات متمايزة على أسس عرقية ومادية، فكان تشدد الإمام في التمسك بتلك القيم من

ص: 337

أجل إعادتها وإحيائها في نفوس الناس من جديد. لذا جاء تأكيده على واليه إلى مصر بالنص السابق، على إقرار الحق شريعة بين الناس وتحقيق العدالة يجب أن تكون القيمة العليا للحاكم، وفي ذلك توفير الأرضية الصحيحة لكسب رضا المواطنين وجلب مودتهم، وهي في الوقت ذاته تحقق رضا الله تعالى.

ولما بويع الإمام على الخلافة ونهض بأعبائها، كان عازما على إعادة الحق إلى نصابة مهما كلفه الأمر، فقام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا لا يقولن رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعملون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا. ألا وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملتنا ودخل في ديننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فانتم عباد الله والمال مال الله يقسم بینکم بالسوية، لا فضل لاحد على أحد) (75). بل وأقسم على نفسه أن يعيد كل الحقوق التي اغتصبت إلى مستحقيها، إذ يصرح: والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فأن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (76).

وطلب من الإمام تفضیل بعض الأشراف ممن يتخوف منه مخالفته ويحتمل افتراقه عن جماعته، لان الناس أصحاب دنیا ولما رأوا ما يفعله معاوية بمن انقطع إليه منهم، فأن استتب الأمر لك عدت إلى سيرتك إلى أحسن ما كنت عليه من العدل في الرعية والقسم بالسوية. فأجابهم: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام، والله ما أطور به ما سمر سمير وما أم نجم في السماء نجما، ولو كان مالهم مالي لسويت بينهم فكيف وإنما هي أموالهم(77).

وكان الإمام (عليه السلام) إذا عين واليا على إقليم من أقاليم أو مدينة من مدن الدولة

ص: 338

الإسلامية، أعطاه عهدا يقرأه على الناس، فأن أقره الناس، كان ذلك العهد بمثابة العقد بينه وبين الناس، لا يجوز لهم أن ينحرفوا عنه، ولا يجوز للحاكم أن يتأوله أو يخالفه، وإن خالفه وانحرف عنه في شيء قليل أو كثير، كان ذلك موجبا للحساب والعقوبة. لقد ربط الإمام ولاته وعماله بالشعب بمثل ما أرتبط به، فكان شديد المراقبة لهم، فكانت تلك الخطوة الرائعة منسجمة مع دستوره العام في الحقوق والواجبات، وهي تنسجم مع أرقی دساتير الأمم في وقتنا الحاضر، حين جعل من المحكوم نفسه رقيبا أعلى على الحاكم (78). وهكذا فعل حين ولى الإمام مالك الأشتر على مصر.

فكانت أولى الفقرات من وصايا الإمام إلى واليه هي المحافظة على القانون والالتزام به، ف (أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها) (79). فالوالي ليس حرا في تصرفه مع الناس، وإنما هو مقید بسنن الشريعة وقوانينها فيما يخص الحقوق والواجبات بين المواطنين. وفي ذات الوقت فأن طاعة المواطنين للحاکم مشروطة بالتزامه بالشريعة، ففي كتاب الإمام إلى أهل مصر (فاسمعوا له، أطيعوا أمره فيما طابق الحق) (80). ذلك لان إقامة الحق أساس السعادة، (وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على الظلم) (81).

ومن وصاياه سلام الله عليه لمالك الأشتر: (انصف الله وانصف الناس من نفسك، ...، فإنك إن لم تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) (82). وفي هذا الباب روي أن امرأة اسمها (سودة) جاءت إلى الإمام، تشكو رجلا قد ولاه عليهم لجمع الصدقات فجار عليهم، وكان يصلي فلما انتهى من صلاته، سألها ما حاجتك، فأجابته بخبره، فبكى وقال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وأني لم آمرهم بظلم خلقك. ثم كتب كتابا على ورقة من الجلد، ودفعه إلى المرأة من دون ختم، فدفعته إلى صاحبه

ص: 339

فانصرف عنهم معزولا. وهذا نصه: (بسم الله الرحمن الرحیم. قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلك خير لكم إن کنتم مؤمنين، فإذا قرأت كتابي هذا فاحفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام) (83).

ويتحدث الإمام عن قضية هي في غاية الأهمية بالنسبة للحكام وذوي النفوذ، لأنها كثيرا ما كانت محل ابتلاء وامتحان لهم، وغالبا ما فشلوا في ذلك، وهي أن قواعد العدالة توجب أن تكون عامة شاملة لكل الرعایا من غير استثناء، فلا إثرة لاحد من الناس مهما كانت له صلة القربی معه، أو كانت له حظوة لديه، بل يوصیه بعدم الأثرة حتى مع نفسه، فيقول: (وإياك والاستئثار [تخصيص النفس بزيادة] بما الناس فيه إسوة [متساوون]) (84). ثم يذكره بضرورة الأنصاف مع الأهل والمقربين، بقوله: (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى [تميل إليه] من رعیتك، فإنك إن لم تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) (85). ويؤكد على هذا المعنى بعبارة أخرى: (وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع) (86). ولكنه (عليه السلام) ينبه إلى أن قواعد العدالة قد لا تقتضي المساواة في المعاملة بين الناس، حيث يقول: ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه (87). ثم يضيف: (وإن ظنت الرعية بك حيفا [ظلما]، فأصحر لهم بعذرك [بين لهم عذرك فيه]). (88)

ولابد من القول أن شخصية الإمام كانت تتجسد فيها مؤهلات قوية في تطبيق العدالة الاجتماعية، وكان إلتزامه بها بالغا ما بلغ هو السبب الذي أبعد عنه ذوي الأطماع والأغراض الذين يمنون أنفسهم بالأثرة، وأخاف ذوي المناصب والكنوز، وقطع آمال

ص: 340

حواشي السلاطين، وهدد الفجرة الذين استحقوا إقامة الحدود الإلهية. فاجتمعت هذه العوامل على التأجيج ضد الإمام وجرت عليه النوائب والحروب.

ثانيا: الحقوق السياسية والقضائية

الحقوق السياسية:

من أصعب القضايا التي تتناول في مجال حقوق الإنسان وأكثرها حساسية، هي القضايا التي تتعلق بالحقوق السياسية للمواطنين، خاصة وأن البحث يتناول مرحلة تعود إلى مرحلة سابقة بأكثر من ألف عام، ولعل ذلك يرجع إلى أنها ترتبط ارتباط مباشر بموضوع السلطة وصلاحيات السلطان، وهم حسب الفرض الراعي الأول للحقوق. فالحاكم قد لا يعسر عليه أن يكون كريما في عطائه، ومنصفا في توزيع المال، وأريحيا في تقبله لأشخاص يحملون عقيدة مخالفة، ولكن حينما يصل الأمر إلى صلاحياته في ممارسة سلطته وتقبله للمعارضة أمر ليس باليسير باسط عبارة يمكن أن تقال.

بداية نقول أن الإمام كان يرى أنه أحق بالخلافة بعد النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، لأنه ربيب النبي وأخوه وصهره، وصاحب السابقة في الإسلام والبلاء الحسن في المشاهد كلها. وقد صرح النبي في حقه الكثير من الأقوال، ومنها قوله (صلى الله عليه واله وسلم): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأيضا قوله: من کنت مولاه فهذا علي مولاه. ومن أجل ذلك طلب العباس عمه حين قبض النبي البيعة منه، هو وأبو سفيان الذي أراد بيعة علي عصبية لبني عند مناف. ولكن الإمام أبي البيعة مخافة الفتنة. ولما بويع الحكام الثلاثة قبله، طابت نفسه بما كان يراه حقا له، فبايعهم مكرها، وصبر مخافة الفتنة وحفظا للدين وحقنا لدماء المسلمين (٭)، وكان ناصحا لهم (٭٭). وحين قتل عثمان كان طبيعيا إذا أن يفكر في نفسه وما غلب عليه من حقه، ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم ينصب نفسه للبيعة، إلا حين استكره على ذلك، حين فزع

ص: 341

إليه المهاجرون والأنصار يلحون عليه في تولي أمور الأمة، وإخراجهم من تلك الفتنة المظلمة التي عمت بعد مقتل عثمان، وهدد بالقتل من قبل بعض الثوار في حال عدم إجابته لهم(89). وهو يقول في وصف تلك الحال: (فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل [الأنثى صاحب الأولاد] على أولادها، تقولون: البيعة البيعة! قبضت كفي فبسطتموها ونازعتكم يدي فجاذبتموها) (90). ويكشف الإمام سر طلبه للحكم، وقبوله للخلافة بقوله: (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك) (91).

ثم أنه عليه السلام لما بويع لم يكره أحدا عليها، وإنما قبل البيعة ممن بايعه وترك من لم يرد أن يبايعه، فترك عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاس ومحمد بن مسلمة الأنصاري (92).

ولما أراد بعض الثوار أن يرغموا أولئك النفر المتخلفين عن البيعة، ويحملوهم قسرا عليها، أبى الإمام ذلك أشد الإباء، لان قاعدته العامة في شأن البيعة تستند إلى حرية الأفراد، فمن بايع قبلت منه، ومن أبى فهو حر في رأيه. كما أن عبد بن عمر لما أبي البيعة للإمام أراد نفر أن يقدم كفيلا لئلا يثير الفتنة، فأبی أيضا من تقديم الكفيل، فقال لهم الإمام خلو سبيله، وأنا كفيله(93).

وإن كانت فلسفة الإمام تستلزم الحرية السياسية والمسؤولية الشرعية، في وقت السلم وفي قضية البيعة، التي هي عقد وحرية الاختيار فيه ركن أساس، فما هو موقفه من حرية الرأي في وقت الحرب؟ إذ إن الدول الديمقراطية الحديثة تعلن فيها حالة الطوارئ، التي تضيق فيها كثير من حالات الحرية المعتادة. أما عند الإمام فالأمر مختلف. فقد جاء حبيب بن مسلم الفهري إلى الإمام حين اشتدت الفتن وسعرت نار الحرب، وطلب منه أن يعتزل الخلافة ويكون الأمر شوری بين المسلمين، فأشار عليه الإمام بأن هذا ليس محلك

ص: 342

ولا أنت له أهل، فقام حبيب وقال: والله لتريني بحيث تكره. وليس بخاف ما في هذا القول من التهديد الصريح، لأعلى قمة في هرم الدولة وفي زمن الحرب. فماذا يكون الرد على مثل هذا التهديد؟ هل أمر بسجنه والحيلولة دون تحقيق مبتغاه في صریح تهدیده؟ ألم يكن الإمام قادر على منعه؟ ماذا كان جواب الإمام؟ إنه لم يفعل شيء من هذا القبيل، وإنما نظر إليه وقال بلهجة الواثق من عدالته المعترف بحق الناس في القول والفعل: اذهب فصوب وصعد ما بدا لك (94).

وتتخذ الدول بصورة عامة موقفا موحدا فيما إذا داهمها خطر، إذ تستحث الجميع وتسوقهم بكل السبل لدرء ذلك الخطر، أما الإمام فقد كان طريق التعبة لديه من خلال القناعة وحدها، فعندما خرج إلى حرب الجمل، بعث كتابا للناس يستحثهم، أورد فيه: (وأنا أذكر الله من بلغه کتابي هذا لما نفر إليّ، فإن کنت محسنا أعانني وإن كنت مسيئا استعتبني) (95). حيث لم يكن الإمام ليلجأ في ذلك إلى أي نوع من القهر المادي أو المعنوي، فالقهر بمختلف ألوانه مناف لأصول رؤية الإمام إلى الحرية وشروطها. لقد كان يتوجه إلى عقول الناس بمنطق العقل وبما يملكه من حجة وبرهان، ويتوجه إلى قلوبهم وضمائرهم بمنطق القلب والضمير، فيلحق به من يلحق ويتخلف من يتخلف. فالأمام لا يقبل الإكراه ولا يجيزه، وهو يأبى أن يلحق به أحد من الناس من غير بصيرة وإيمان، لذلك لم يجبر أحدا من الناس على اللحاق به في حرب الجمل وحرب صفين وحرب الخوارج (96). وتذكر المصادر التاريخية أن الإمام لم يتخذ موقفا ضد جماعة رفضت محاربة الخوارج، منهم عبيدة السلماني والربيع بن خثيم ومعهما نحو أربعمائة رجل، قالوا للأمام إنا شككنا في قتال هؤلاء، مع علمنا بفضلك وسابقتك. فلم يفرض عليهم الخروج لحرب الخوارج (97).

وكان الحكام يعتبرون الدولة بسكانها وأرضها ملكا خاصا لهم، يتصرفون به کما

ص: 343

يشاؤون دون حسب أو رقيب، وكانت أموال الدولة وأموالهم شيئا واحدا ينفقون منها كما يرون، وكانت مراكز الدولة والمسؤوليات العامة ملكا لهم، يعينون فيها ويعزلون على هواهم. أما الإمام فقد أقام نظاما إداريا محكما، حدد فيه الوظائف العامة وطرق تعيين المسؤولين، وبين واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتیشا دقيقا، ووضع أسس الثواب والعقاب (98).

وفي نص عهده سلام الله عليه إلى مالك الأشتر تفصيل دقيق لتلك الأسس والقواعد والشروط الإدارية، لا مجال لذكرها هنا، لأنها تدخل في بحث النظام السياسي والإداري عند الإمام. أما الوصايا التي ترتبط بموضوعنا حقوق الإنسان، فكانت تدور حول توجيه الإمام بضرورة تمسك الحاكم بقواعد القانون والشرع في تعامله مع الناس، (ولا تقولن إني مؤمّر [مسلط] آمر فأطاع) (99)، الأمر الذي يفرض عليه الخروج عن إطار الفعل الفردي المحكوم بالنظرة الشخصية والالتزام بقواعد الشرع، لأن ذلك كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية، ويستلزم رضا الرعية. ويمكن القول أن الأسس الدستورية في فلسفة الحكم عند الإمام علي تقوم على ثلاثة أمور هي: الحق، العدل، رضا القاعدة الشعبية، (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية) (100). الذين هم الدعائم الأساسية للدولة. حيث يقول: (وإنما عماد الدين وجماع [جماعة] المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صفوك [الميل] لهم، وميلك معهم) (101). كما إن (سخط العامة يجحف برضى الخاصة [يذهب برضاهم]، وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة) (102). وبالتالي فأن معیار صلاح الحكام في دستور الإمام، يستشف من رضى العامة، إذ يقول: (إنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده) (103). ورفضه التام لأساليب العنف والبطش من قبل الحكام في توطيد دعائم حكمهم، (فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فأن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله) (104).

ص: 344

وفي هذا المجال أيضا يطالب الإمام من الحاكم أن يفرغ جزء من وقته لاستماع قضایا الناس وشکایاهم، ويصف آداب التعامل معهم، إذ يقول: واجعل لذوي الحاجات [المتظلمين تتفرغ لهم فيه بشخصك للنظر في مظالمهم] منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك [لا يتعرض لهم جندك] وأعوانك من حراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع [غير متردد أو خائف عن التعبير بما عنده]،..... ثم احتمل الخرق [العنف ضد الرفق] منهم والعي [العجز عن النطق]، ونح عنك الضيق (105).

ومن أجل تطبيق هذه القواعد الدستورية، ولأهمية وخطورة مواقع المسؤولية (العامل) في النظام الإداري الإسلامي، يضع الإمام شروطا مشددة في عملية اختيارهم، فيقول: (ثم أنظر في أمور عمالك فأستعملهم اختبارا [بالامتحان]، ولا توهم محاباة [من الميل الشخصي] وإثرة [استبدادا بلا مشورة]،... وتوخ [اطلب وتحر] منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقدم [ السابقون] في الإسلام) (106). وفضلا عن ذلك يجب وضعهم تحت المراقبة، (وابعث العيون [الرقباء] من أهل الصدق والوفاء عليهم) (107).

وقد طبق الإمام تلك الشروط بدقة وصرامة، ولم يرض أن يتنازل عنها، مهما كانت الأسباب وجاءت النتائج، إذ كانت لتلك الأسس والشروط قيمة عليا في نظر الإمام، لا تقوم مقامها ضرورات الظروف ولا تعادلها مقتضيات المصلحة السياسية. فعندما بويع الإمام للخلافة أقبلا طلحة والزبير عليه وبایعاه راضيين طائعين، ولكنهما بدا لهما بعد ذلك من الإمام ما لم يكونا ينتظران، فقد كانا يقدران أن الإمام محتاج إليهما أشد الاحتياج، إذ كانت لطلحة مكانة عند أهل الكوفة، وللزبير مثلها عند البصريين، فكانا يطمحان في أن الإمام سيعرف لهما مكانتهما وسلطتهما على أهل الكوفة وأهل البصرة،

ص: 345

وسيشركهما في أمره ويقاسمهما الخلافة، التي ستكون ثلاثية لهؤلاء النفر من أصحاب الشورى. وبالتالي يكون أمر الشام هينا عليه. ولما لم يريا ما كان يتوقعانه من الإمام، وأن أمرهما سيكون كأمر غيرهما من أعلام المهاجرين، وسيأخذان عطاءهما بالتساوي كل عام، ولم يلقيا منه ما كان يمنحهما عثمان من الرفق واللين والتسامح، فدبرا أمرهما في رؤية وأناة (108).

وتبدو الصورة أكثر وضوحا لما جاءه عليه السلام المغيرة بن شعبة وبايعه على الخلافة، قال له (إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وأن الضياع اليوم تضيع به ما في غد. أقرر معاوية على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو ترکت. فأبي وقال: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال المغيرة: فأن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فأن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع له، ولك حجة في إثباته، إذ كان عمر قد ولاه الشام. فقال علي: لا والله.. لا أستعمل معاوية يومين) (109).

وكان نتيجة الرفض الشديد لمقتضيات المصالح السياسية ومتطلبات الظروف، وتمسكه الصارم بقيمه ومبادئه، التي لم يتنازل عنها ولو آنیا؛ شاع الرأي القائل أن الإمام رجل شجاع، ولكن لا علم له بخدع الحرب والسياسة بين أصحابه ومناوئيه، معززین قولهم هذا بمخافته نصائح الدهاة من أنصاره، وما آلت إليه أحوال الأمة وعدم استقامة الأمر له (110).

وكان جواب الإمام على ذلك: (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)(111).

ص: 346

الحقوق القضائية

عند مراجعة سيرة الإمام نجد أن أكثر ما تكلم به هو حث الناس على طاعة الله تعالى والعمل بأوامره والانتهاء عما نهى عنه في سننه وشرائعه، وقد جرت عادة الإمام أن يبتدأ بالحديث في ذلك والتأكيد عليه في كل فرصة سانحة. تلك الشرائع (التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها) (112)، ولعل أهم جزء منها ما يتعلق بالقضاء بين الناس، وضرورة تطبيقها في الفصل في الخصومات وتحقيقا للعدالة، (فأنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده) (113)؛ وذلك لكي يكون (الإنسان على بينة من قانونية أو عدم قانونية تصرفه، ومن العقوبات التي قد يستحقها إذا ما اقترف جرما ما، وليحضر على الحاكم أن يصدر قوانين تعاقب على أفعال لم تكن تعبر جرائم عند إتيانها، أو تضع عقوبات معينة على جرائم لم تكن توضع على مرتكبيها من قبل) (114).

ولأهمية المؤسسة القضائية في الدولة الإسلامية، فقد سلط الإمام الضوء عليها في عهده إلى عامله على مصر، وجاء تأكيده على أهم مفاصلها وهو القاضي وكيفية اختياره، وما هي المواصفات التي يجب أن يتمتع بها، إذ ذكر: (أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم [لج في الخصومة وأصر على رأيه]، ولا يتمادی [یستمر ويسترسل] في الزلة [السقطة في الخطأ]، ولا يحصر [لا يعيا في المنطق] من الفيء [الرجوع إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه [اقربه وأبعده]، أوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما [الملل والضجر] بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم [أقطعهم للخصومة وأمضاهم] عند اتضاح الحكم) (115).

ص: 347

ولم يترك الإمام جانب أخر مهم في حديثه عن القاضي، وهو ما يرتبط بشخصه وحياته الخاصة، حيث يقول: (وأفسح له في البذل ما يزيل علته [أوسع له في العطاء بما يكفيه]، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمل بذلك اغتيال الرجال له عندك) (116). وبعد ذلك يؤكد الإمام على أن يكون تحت المراقبة الشديدة، فيقول: (أكثر تعاهد [تتبعه بالاستكشاف والتعرف] قضائه) (117)؛ وبذلك يأمل الإمام تحصيل الإنسان لحق التقاضي، بالصورة التي تحقق له العدالة في الحكم والتكافؤ والمساواة بين الناس.

وعلى صعيد السيرة العملية للإمام، فقد ورد أنه عليه السلام حينما كان خليفة للمسلمين وجد درعه عند أحد النصارى، فأخذه إلى القاضي ليخاصه عليها، فسأله القاضي: هل لك من بينة يا أمير المؤمنين؟ ولم يجد الإمام بينة على ما ادعاه، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشی والإمام ينظر إليه، إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد ليقر للإمام بأحقيته بالدرع، وأن هذه هي أحكام الأنبياء، ثم أسلم على يديه (118).

أما على صعيد القضاء في موضوع الدماء فقد كان موقف الإمام حاسما، وعلى وفق تفاصيل فقهية قانونية متعددة. إذ أشار على عمر بن الخطاب بقتل أكثر من شخص ثبتت جنایتهم بقتل رجل واحد، بعد تردد بعضهم في الحكم بالقضية. وروي عن الإمام أخذ القصاص من ثلاثة أشخاص اشتركوا في قتل واحد. واقتص من حرا قتل عبدا متعمدا، ومن رجل اعتدى على امرأة فقتلها. بل يروي عن الإمام أن من رأيه الاقتصاص من المسلم الذي يقتل یهوديا أو نصرانيا (119). هذه الآراء للإمام تكشف عن مضامين إنسانية عالية، من حيث أنها تنطوي على رؤية تساوي بين البشر، إذ لا فرق بين الرجل والمرأة، وبين الحر والعبد، وبين المسلم والمعاهد من النصارى واليهود.

ص: 348

ولم يقتصر النظام القضائي الإسلامي على أخذ القصاص في القتل العمد أو الخطأ، إذ سن للولي الدم التخيير بين القصاص أو أخذ الدية على تفصيل. وقد طور الإمام هذه التشريعات وكشف عن الكثير من تفصيلاتها. ومنها أن المسلم والمعاهد والمستأمن في الدية سواء. ويعد هذا المبدأ مبدءا إنسانيا في غاية السمو، لأنه ينظر إلى الإنسان كإنسان من دون النظر إلى معتقده أو مكانته في المجتمع (120).

ولم تتغير مواقف الإمام حتى وهو على فراش الموت بعد أن ضربه قاتله غدرا، حيث أوصى أن تطبق بحقه الإجراءات القانونية، فيوصي أهله بالقول: يا بني عبد المطلب لا ألفيكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين. ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فأني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور(121).

ص: 349

الخاتمة

وفي ختام هذه الدراسة نأتي على توكيد بعض الأمور التي انطوت عليها، تتضمنها النقاط الآتية:

1. شهدت الحضارات الشرقية المختلفة التي ظهرت في مراحل تاريخية مبكرة من عمر الإنسانية، تبلور طروحات تكشف من دون شك عن مؤشرات تقدير للحقوق الإنسانية، وان اختلفت في مستوياتها وفي مرجعيتها الفكرية. ولكن إلى جانب ذلك شهد الشرق القديم تسلط دکتاتوریات وفراعنة امتهنت حقوق الإنسان وكرامته؛ مما يدلل على أن المعيار الحقيقي الذي يحكم على التجارب ويقيمها سلبا أو إيجابا، لا يتعلق بقيمة الفكرة أو تماسكها المنطقي، بقدر ما تكون قيمة حاكمة على سلوك البشر، ولذا فان كل ما سبق قوله من مفاهیم سامية تتعلق بالحق الإنساني، فإنها كانت حقائق أخلاقية ومثل سامية تطمح إليها النفوس السليمة، ولم ترق إلى أن تكون ممارسات فعلية إلا في أوقات قليلة أو ربما نادرة بالقياس إلى عموم التاريخ الإنساني.

2. وتضمنت التوراة اليهودية مؤشرات مهمة في مجال حفظ حقوق الإنسان وصيانة کرامته، غير أن التشريع التوراتي قد جرى تطويره على يد الربانيين اليهود، ويمكن أن نلمس ذلك في كتاب التلمود وهو الكتاب المعتمد أكثر من التوراة لدى أتباع الديانة اليهودية، وفيه جرى التفريق بين اليهودي وغيره من البشر، فاليهودي (روحا وجسدا) يختلف كليا عن الآخرين؛ واستنتجوا من ذلك أن اليهودي فقط يستحق الحياة، فيما الآخرين لا يستحقونها، وفي ضوء ذلك فسر قوله لا تقتل أنه تعالى نهی عن قتل شخص من بني إسرائيل حصرا، شعب الله المختار، وأصبح من العدل قتل اليهودي للأجنبي لأنه قد يكون من نسل الشعب الذي سكن أرضهم المقدسة،

ص: 350

وأضحت أحكامهم التشريعية تأمرهم بحروب إبادة ضد الشعوب الأخرى.

3. وقدست المسيحية الإنسان ووضعته في مكانة مميزة لم تضعه فيها أي من الديانات السماوية الأخرى. فإن الإنسان في العقيدة المسيحية، هو صورة لله رب الكون، وهذا ما يجعله مميزا عن باقي المخلوقات، ولما كان الأمر كذلك، فإن الإنسان ينفرد بالتمتع بالكرامة الإنسانية التي تتأصل فيه ولصيقة بشخصه لمجرد كونه إنسانا. وبهذه الصورة حلت محورية الإنسان محل محورية الله التي هي مبدأ الأديان السماوية، وأدت إلى ظهور آلية لاهوتية توجب تضحية الرب - الذي تحول إلى إنسان في هيئة السيد المسيح - من أجل سلامة الإنسان.

4. ثم أن المسيحيين لما هیمنوا على الدولة الرومانية بعد أن كانوا مستضعفين فيها، تنكروا لما دعوا إليه في بداية ظهور المسيحية من الحرية والإخاء، واعتبروا حق الغير في الاعتقاد باطلا يجب مقاومته واضطهدوا كل من يخالفهم الرأي، واتخذوا موقفا حاسما في حقهم بمقاومة الطغيان. وكان مما يميز العصور الوسطى التي ظهرت فيه الكنيسة وهي تقود المجتمعات الغربية، هو الانقسام الحاد إلى ثلاث طبقات والبون الشاسع بين الناس، وظهور محاكم التفتيش التي عملت على نشر المذهب الكاثوليكي واضطهاد المذاهب فضلا عن الأديان المخالفة. كما شهد التاريخ الحروب الصليبية وممارساتها الشنيعة بالضد من حقوق الإنسان.

5. وشهد العالم الغربي في العصر الحديث ثورات کبری، نتجت عنها تحديد سلطة الحكام ووضعها تحت الرقابة الصارمة لصيانة حقوق الإنسان وحفظ كرامته، وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يمثل معیارا مشترکا تقيس على أساسه الأمم منجزاتها على هذا الصعيد، واتجهت المنظمة إلى مهمة تحويل المبادئ التي جاء بها الإعلان إلى معاهدات تفرض التزامات على الدول.

ص: 351

6. غير أن مفهوم حقوق الإنسان في العالم الغربي لا يمكن تعميمه، إذ لا يمكن اعتبارها مفاهیم علمية صارمة، تخضع في التقويم لمعايير واحدة، في كل المجتمعات على اختلاف أسسها النظرية ومرجعيتها الفكرية؛ ذلك لأنه في الحقيقة مرتبط بتصور خاص بالإنسان وحياته الاجتماعية. أما في مجال الممارسة العملية فقد اتخاذ موضوع الدفاع عن حقوق الإنسان كسلاح ضد الدول، من أجل تمرير الدول الكبرى لمصالها السياسية، وأصبحت أحد أسلحة السياسة الخارجية من خلال استخدامه معیارا في تقديم المساعدات للدولة النامية.

7. أما في الإسلام فالإنسانية كلها ترجع إلى اصل واحد، وان هذا التنوع والاختلاف بين الناس مدعاة للتواصل والترابط، وأن لا مزية لبعضكم على بعض إلا بالتقوى. ولا يجوز التعدي على حياة الناس وأموالهم، كما أن الجزاء مقرر لمن ينتهك هذا الحق. غير أنه سرعان ما تبدلت، حيث أن معاوية والأمويين لما هیمنوا على مقدرات الأمة الإسلامية، ابدلوا مقوماتها التي قامت عليها كالتراحم والأخوة الإيمانية وإنكار الذات، لتظهر محلها روابط النسب وتعلو نعرة العصبية العربية، والتعالي على باقي الأجناس وجعلوهم بمنزلة الأرقاء، هذا فضلا عن سفك الدماء وانتهاك المقدسات والحرمات.

ولكن تيارا إسلاميا آخر ظل متمسكا بمبادئ الإسلام قاده الإمام علي، الذي تكشف سيرته بكل تفاصيلها، سواء أكان في مستوى المواطن (الذي يوصف بالتعبير الحديث بأنه معارض للحكم)، أم كان خليفة للمسلين وقائدا للدولة الإسلامية، تكشف سيرته عن التزام صارم بالقيم الرفيعة، التي تتضمن احتراما لكرامة الإنسان وحفظا لحياته، وإيمانا عمیقا لحريته في التعبير عن رأيه وعقيدته، وتعبر عن تضامنها المطلق مع المحرومين والمعوزين. تترابط فيها الأقوال والأفعال، وتتجانس فيها العقائد والمواقف، بصورة من صور الكمال المتفرد، والترابط المعصوم الذي يعز فصله ویستحیل نقضه. فهو عليه

ص: 352

السلام ليس كآخرين، الذين إذا قالوا نقضوا وإذا عاهدوا نکلوا. بل تبدو سيرته بقوله وفعله وتقريره مزيجا واحدا، تتجلى فيها القيم الإنسانية بأبهى صورها.

ولما كانت شخصية الإمام تحوطها هالة من الاحترام والتقديس لعامة المسلمين، كونه خليفة لهم، وإماما معصوما لدى بعضهم، كان لتلك السيرة قوة تشريعية. فإلى أي مدى استلهم فقهاء المسلمين من تلك السيرة حقوقا تصون حياة الإنسان وكرامته وحريته؟ هذا التساؤل يمكن أن يجاب عليه في بحث مستقل آخر إن شاء الله تعالى.

ص: 353

الهوامش

1. عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 15.

2. الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 83.

3. حسونة، نسرین محمد عبده، حقوق الإنسان.. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر.

4. السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 36.

5. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص21 - 22.

6. عبد الحي، د. عمر، الفلسفة والفكر السياسي في الصين القديمة، ص 190.

7. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 23.

8. المصدر السابق، ص 26 - 27.

9. سعفان، د. کامل، معتقدات أسيوية (موسوعة الأديان)، ص 188.

10. المصدر السابق، ص 75.

11. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 28 - 29.

12. المصدر السابق، ص 32 - 33.

13. مجموعة مؤلفين، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ص 10 - 11.

14. الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 85 - 86.

15. مجموعة مؤلفين، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ص 14 - 15.

16. المصدر السابق، ص 43 - 45.

17. المصدر السابق، ص 31.

ص: 354

18. الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 51.

19. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 42.

20. الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 69.

21. طالبي، سرور، حقوق الإنسان في ضوء المسيحية.

22. الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 109 - 110.

23. طالبي، سرور، حقوق الإنسان في ضوء المسيحية.

24. الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، ص 97.

25. الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، ص 110

26. المصدر السابق، ص 122.

27. التركي، د. عبد الله بن عبد المحسن، حقوق الإنسان في الإسلام، ص 25، 18.

28. عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 22 - 23.

29. نوار، د. صلاح الدين محمد، نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني، ص 89 - 90.

30. صبحي، د. احمد محمود، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، ص 156.

31. عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، ص 11 - 12.

32. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، ص 105.

33. المصدر السابق، ص 107 - 108.

34. حسونة، نسرین محمد عبده، حقوق الإنسان.. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر.

ص: 355

35. السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 46.

36. دفاتر فلسفية (نصوص مختارة)، حقوق الإنسان (7)، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، ص 53، 51

37. المصدر السابق، ص 54.

38. التركي، د. عبد الله بن عبد المحسن، حقوق الإنسان في الإسلام، ص 9 - 10

39. المصدر السابق، ص 20.

40. نوار، د. صلاح الدين محمد، نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني، ص 87 - 88.

41. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 24.

42. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 144.

43. المصدر السابق، ص 157.

44. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25.

45. المصدر السابق، ص 23.

46. المصدر نفسه.

47. المصدر نفسه.

48. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 155.

49. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 566.

50. المصدر السابق، ص 69.

51. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25.

ص: 356

52. المصدر نفسه.

53. المصدر السابق، ص 26.

54. الواحدي، أبي الحسن علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، ص 470.

55. العاملي، الحر، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، ج 11، ص 49.

56. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 142.

57. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 545 - 546.

58. المصدر السابق، ص 547 - 548.

59. المصدر السابق، 552.

60. المصدر السابق، 552 - 554.

61. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 25.

62. حسين، طه، الفتنة الكبرى.. علي وبنوه (2)، ص 25.

63. الدينوري، أبي حنيفة بن داود، الأخبار الطوال، ص 144.

64. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 618.

65. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15 - 16.

66. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 103.

67. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 290 - 291.

68. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 152.

69. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 29.

70. العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 19.

71. المصدر السابق، ص 144.

ص: 357

72. المدرسي، هادي، أخلاقيات أمير المؤمنین، ص 45.

73. العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 19.

74. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 21.

75. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 247.

76. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 50.

77. الحراني، بن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، ص 114.

78. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية،، ص 137.

79. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15.

80. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 543.

81. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 17.

82 المصدر السابق، ص 16.

83. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد إلى اللحد، ص 157.

84. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 30.

85. المصدر السابق، ص 16.

86. المصدر السابق، ص 28.

87. المصدر السابق، ص 18.

88. المصدر السابق، ص 28.

89. حسين، طه، الفتنة الكبرى.. علي وبنوه (2)، ص 17 - 18.

(٭) حيث يقول عليه السلام: (فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت

ص: 358

يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دین محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما، تكون مصيبته به علي أعظم من فوت ولايتكم). نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 604.

(٭٭) مع أن الإمام كان يعتقد بأحقيته في الخلافة، وقد اغتصبت منه، ولكنه كان ناصحا (وهو بحسب الاصطلاح الحديث معارضا) لمن تصدی منهم للخلافة، وكان عمر كثير ما يستشيره في القضايا الكبرى فيشير عليه وينصحه بما يلزم ذلك، ومنها استشارته في أمر خروجه بنفسه لغزو الروم، فأشار عليه الإمام بعدم الخروج بنفسه (). نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 252.

90. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 255.

91. المصدر السابق، ص 248.

92. الدينوري، أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 2، 1، ص 53.

93. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 136.

94. المصدر السابق، ص 150.

95. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 599.

96. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص 153.

97. الدينوري، أبي حنيفة بن داود، الأخبار الطوال، ص 165.

98. طي، د. محمد، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ص 171.

99. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 16.

100. المصدر السابق، ص 17.

101. المصدر نفسه.

102. المصدر نفسه.

ص: 359

103. المصدر السابق، ص 15.

104. المصدر السابق، ص 29.

105. المصدر السابق، ص 26.

106. المصدر السابق، ص 22.

107. المصدر السابق، ص 23.

108. حسين، طه، الفتنة الكبرى.. علي وبنوه (2)، ص 20.

109. العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 122.

110. المصدر السابق، ص 120.

111. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 421.

112. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 15.

113. المصدر السابق، ص 16.

114. طي، د. محمد، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، ص 117.

115. عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، ص 26.

116. المصدر السابق، ص 22.

117. المصدر نفسه.

118. العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، ص 46.

119. السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، ص 61.

120. المصدر السابق، ص 67.

121. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، ص 562 - 563.

ص: 360

المصادر:

1. الباش، حسن مصطفی، حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، ط 1، 1426، بنغازي.

2. التركي، د. عبد الله بن عبد المحسن، حقوق الإنسان في الإسلام، نسخة pdf، الموقع الإلكتروني:

https://islamhouse.com/ar/books

3. جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، دار الأندلس، ط 1، 2010، بیروت، لبنان.

4. الحراني، بن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، منشورات الفجر، ط 1، 2008، بیروت لبنان.

5. حسونة، نسرين محمد عبده، حقوق الإنسان.. المفهوم والخصائص والتصنيفات والمصادر، نسخة pdf، 2015، شبكة الالوكة، الموقع الإلكتروني: .

www.alukah net

6. حسين، طه، الفتنة الكبرى.. علي وبنوه (2)، دار المعارف، ط 13، القاهرة.

7. الداماد، مصطفی محقق، الحقوق الإنسانية بين الإسلام والمجتمع المدني، دار الهادي للطباعة والنشر، ط 1، 2002.

8. دفاتر فلسفية (نصوص مختارة)، حقوق الإنسان (7)، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار طوبقال للنشر.

9. والدينوري، ابي حنيفة بن داود، الأخبار الطوال، تحقیق عبد المنعم عامر، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1960، القاهرة.

10. الدينوري، أبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج 2، 1، مطبعة

ص: 361

البابي الحلبي، ط 3، مصر، 1963.

11. السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي بن أبي طالب (دراسة علمية)، مركز الأبحاث العقائدية، نسخة doc مأمنة، الموقع الإلكتروني:

www.aqaed.com/book/595/1.htm

12. سعفان، د. كامل، معتقدات أسيوية (موسوعة الأديان)، دار الندی، ط 1، 1999، القاهرة.

13. صبحي، د. احمد محمود، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، دار المعارف، ط 2، القاهرة.

14. طالبي، سرور، حقوق الإنسان في ضوء المسيحية، الموقع الإلكتروني: com .http://jilrc

15. طي، د. محمد، الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير، ط 1، 1997، بيروت، لبنان.

16. العاملي، الحر، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، ج 11، باب 19، تحقیق محمد الرازي، دار إحياء التراث، بيروت، لبنان.

17 .عبد الحي، د. عمر، الفلسفة والفكر السياسي في الصين القديمة، المؤسسة الجامعية للدراسات، ط 1، 1999، بيروت.

18. عثمان، د. محمد فتحي، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، دار الشروق، ط 1، 1982

19. العقاد، عباس محمود، عبقرية الإمام علي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1967.

20. عهد الإمام علي بن أبي طالب الى واليه على مصر مالك الأشتر، إعداد المستشار فليح سوادي، قسم الشؤون الفكرية والثقافية - العتبة العلوية المقدسة، ط 1، 2010.

ص: 362

21. القزويني، محمد کاظم، الإمام علي من المهد الى اللحد، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، ط 3، 2009، بیروت، لبنان.

22. مجموعة مؤلفين، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ترجمة أسامة سراس، دار علاء الدين، ط 2، 1993، دمشق.

23. المدرسي، هادي، أخلاقيات أمير المؤمنين، مؤسسة الأعلمي، ط 1، 1991، بیروت، لبنان.

24. الموحي، عبد الرزاق رحيم صلال، حقوق الإنسان في الأديان السماوية، دار المناهج، تقديم أ. د. سعدون محمود الساموك.

25. نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين، تحقيق فارس الحسون، مركز الأبحاث العقائدية، ط 1، 1419، النجف الأشرف، العراق.

26. نوار، د. صلاح الدين محمد، نظرية الخلافة أو الإمامة وتطورها السياسي والديني، منشأة المعارف، 1996، الإسكندرية.

27. الواحدي، أبي الحسن علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، تحقيق ودراسة كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، ط 1، 1991، بیروت، لبنان.

ص: 363

ص: 364

حقوق الانسان في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م. د. غصون مزهر حسين

مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية

ص: 365

ص: 366

المقدمة

لنا في حياة العظماء معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والايمان والامل فهم القمم التي نتطلع بشوق اليها ولهفة ومنارات الطريق، وهم الذين يجددون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة وأهدافها البعيدة والسعيدة، ومن هؤلاء العظماء أو لعله اهمهم هو الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي انبتته ارض عربية وفجر ينابيع مواهبه الاسلام فكان باب مدينة العلم للرسول الاكرم (صلى الله عليه وسلم).

وبطولات الامام علي (عليه السلام) لاتقتصر على ميادين الحرب فقد كان بطلا في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بیانه، وعمق انسانيته، وحرارة ایمانه، ونصرته للمظلوم وتعبده للحق اینما تجلى له الحق، وهذه البطولات ومهما تقادم بها العهد، لاتزال منجماً غنياً نعود اليه اليوم وكل يوم كلما احتجنا الى بناء حياة صالحة.

وهذا البحث يسلط الضوء على الاسس التي دعا اليها الامام علي (عليه السلام) في سبيل تحقيق حياة حرة كريمة بمعنى اخر حقوق الانسان الاساسية التي جاء الاسلام لترسيخها، وكان الامام علي (عليه السلام) من دعاتها لحفظ كرامة الانسان وتحقیق احلامه وطموحاته في هذه الحياة، لذا يعتبر عهد الامام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك بن الحارث الاشتر من اطول العهود ومن اهمها، ليس لانه یکشف العقلية الفذة التي يملكها الامام في ادارة الامور بل في القانونية والشمولية والانسانية التي طبعت بنود العهد.

أن هذا العهد يعتبر اول وثيقة قانونية مفصلة تعالج واجبات الحاكم ووظائفه والعلاقات بين الشعب وبين الحاكم، وكما يفصل الحديث عن السلطات الثلاث (التشريعية - القضائية - التنفيذية) ويضع الضوابط لانجازها.

ص: 367

اهمية حقوق الانسان

تكتسب قضية حقوق الإنسان أهمية متزايدة في واقعنا العربي والاسلامي، بسبب أن معظم الحكومات هي في قائمة الدول المنتهكة لحقوق مواطنيها وشعوبها، أما في المجال الدولي فنحن نجد أن انتهاك حقوق الإنسان يمارس بصورة أوضح نتيجة لثنائية القيم بين الداخل والخارج، أو نتيجة للتكتلات الدولية أو المصالح السياسية أو النزعات العنصرية... فحقوق الإنسان نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته وخدمة مصالحه القومية وهو يستغل ذلك سياسياً، كما يحدث في العلاقات الدولية وفي الدفاع عن حقوق بعض الأقليات بهدف زعزعة وضرب النظم السياسية المخالفة لقيمه وتوجهاته أو الخارجة عن الشرعية الدولية والنظام الدولي المنعوت بالجديد، من ناحية اخرى، فإن التركيز الأساسي في موضوع حقوق الإنسان بالمفهوم العربي، ينصب على العلاقات داخل المجتمع الواحد، علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة الأغلبية بالاقلية، دونما نظر إلى العلاقات بين هذا المجتمع وسواه من المجتمعات أو بين هذه الدولة وتلك.

فالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان لم تعن بعلاقة الدولة القوية بسواها من الدول الضعيفة على الرغم من تصاعد استغلال مفهوم حقوق الإنسان في صورته الأولى، علاقة الداخل، في النظام الدولي الجديد، من أجل التدخل في شؤون الدول مما يعيد إلى الأذهان سوابق تاريخية مماثلة حيث استخدم شعار مكافحة تجارة الرقيق لاستعمار أفريقيا وهدم بنيتها التحتية ووقف تطورها الطبيعي. ويلاحظ في ظل النظام الدولي الجديد أن فكرة حقوق الإنسان قد اكتسبت قوة جديدة من خلال الهيمنة الأمريكية المغلفة بغلاف إنساني لا يمكنه الصمود أمام أي اختبار حقيقي. هذا بالإضافة إلى أن مضمون حقوق الإنسان كما هو وارد في المواثيق الغربية والدولية ليست حقوق إنسان وإنما هي حقوق

ص: 368

مواطن.

ذلك أن ما يرد في سياق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من نصوص إنما يربط ما بين حقوق معينة وبين المواطن المنتمي لمجتمع بعينه مما يمنع الإنسان الآخر (الأجنبي) من ممارسة مثل هذه الحريات ومن التمتع بمثل هذه الحقوق وهو ما يقيد شمولية هذه الحقوق بقيود واعتبارات سياسية. إن هذه التحفظات على التصور الغربي لحقوق الإنسان ضرورية من أجل إبراز خصوصية التصور الإسلامي لهذه المسألة حيث الغاية الأساسية هي تحرير الإنسان الذي هو أكرم المخلوقات، جعله الله خليفة في الأرض وزوده بالعقل وأراد من خلال الإسلام ومبادئه ونظمه، تحريره وحمايته وتكريمه.

فالإسلام بهذا المعنى، ينظر إلى الحقوق باعتبارها ضرورات فطرية بل واجبات.. فالأكل والملبس والسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبد والتعلم والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع والمراقبة ومحاسبة أولياء الأمور... واجبات لا يجوز إهمالها ولا يجوز لأحد أن يحول بين الإنسان وبين قيامه بهذه الواجبات والحقوق.

إن هذه الحقوق ليست هبة من مخلوق، يعطي متى شاء ويمنع متى شاء، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بها، فهي لأجل ذلك ثابتة ودائمة فالاستناد إلى شريعة الله، کما نری، يرفع من قيمة هذه الحقوق المستمدة منها ويجعل الالتزام بها طاعة لله سبحانه مما يكسبها قداسة تمنع المؤمنين من تجاوزها، وهذا بحد ذاته يفرض منهجاً مختلفاً في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان، لابد من تربية الإنسان الفرد والجماعة والسلطة على احترام هذه الحقوق بما يكفل قوة تأثيرها في الفرد والمجتمع والسلطة.

ص: 369

حقوق الانسان لدى الامام علي (عليه السلام)

ان للامام علي (عليه السلام) نظرياته التي سبقت العالم بمئات السنين في مجال حقوق الانسان وفي ترسيخ النظام الشوروي کھیكلية تقوم عليها المؤسسة الحاكمة. فمن خلال مواقف الإمام علي (عليه السلام) أقواله يلحظ المتتبع لتراثنا الإسلامي البون الشاسع مابين نظرات الامام القائمة على احترام الانسان وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة والحرية مابينها وبين الحكم الفردي الشمولي الاستبدادي القائم على إلغاء الآخر واختزال الدولة في ذات الملك، وتغييب دور الشعوب وجعلها مجرد کانتونات هامشية موزعة على الجغرافيا السياسية على قاعدة (إن السواد الأعظم ملك لقريش)، دون أن يكون لها أي دور في صياغة القرارات السياسية أو حق المشاركة في تحديد المصير أو بناء الدولة، أو أن يكون لها دور رقابي على مؤسساتها، أو المال العام.

جميع هذه الحقوق لم تقر ولم يعترف بها إلا في عصور متأخرة من التاريخ الإنساني وبعد فترات من الظلم والقهر، عقب ثورات من الشعوب رافقها إراقة دماء لا حصر لها. فالدستور الأميركي صدر عام 1787 م، وأقدم وثيقة لحقوق الإنسان في أوروبا صدرت عام 1215 م. وكانت في الأساس لحماية حقوق الأشراف واللوردات في إنكلترا في مواجهة الملك، ولم يشمل هذا العهد الذي فخر به الإنكليز حقوق عامة الشعب، أي فلاحي الإقطاع. فلم ينل المواطن العادي هذه الحقوق إلا بعد خمسة قرون على الأقل من ذلك التاريخ.

أن تراثنا الاسلامي يسبق التشريعات الحديثة بمئات السنين في تقنين مبادئ حقوق الانسان، فإذا علمنا أن أقدم وثيقة لحقوق الانسان هي في العهد الأعظم (المكناکارتا) الذي أصدره الملك الانجليزي جون (1215) والذي يعتبر أقدم وثيقة دستورية في التاريخ الانجليزي كما ذكرنا، في حين أن الوثيقة الدستورية لعلي بن أبي طالب (عليه

ص: 370

السلام) في عهده لمالك الأشتر تعتبر من أقدم الوثائق الحقوقية والتي تحمل في جنباتها الكثير من الحنان الانساني العميق الذي يحيط به الامام دستوره في المجتمع والتي سبقت (المكناکارتا) بقرون عدة، ترى فيها أبعاداً إنسانية كبيرة وعمقا في الرؤية ورشادا في الفكرة. فهل يوجد اعمق من هذا المعنى دلالة على الشمول الانساني والاحاطة لكل بني البشر من هذه العبارة، التي سجلها الامام في دستوره العلوي اذ قال:

(وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم والالفة اليهم، ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغنم أكلهم فانهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)

كان علي بن ابي طالب (عليه السلام) شخصية خصبة، انه كان مظهرا من مظاهر التكامل الانساني، بعد ان انتخبه المسلمون خليفة للمسلمين، بدا بتطبيق برنامجه الاصلاحي في اشاعة العدل والمساواة بين ابناء الامة الاسلامية بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم ولغتهم ولون بشرتهم واتجاهاتهم السياسية والاجتماعية. لقد امر الولاة ان يكونوا رحماء مع رعاياهم كما تجلى ذلك في رسالة الامام الى واليه على مصر مالك الاشتر.

أن عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر عامله على مصر من أنفس الوثائق التاريخية الزاخرة بمبادئ الحكم وأساليب الادارة وأصول التشريع، وأخلاق المسؤولين، وأذا كان التاريخ الانجليزي يباهي حضارة اليوم بوثيقة (المكناکارتا)، والثورة الفرنسية تزهو بين تاريخ الثورات بمبادئها في الحرية والاخاء والمسأواة، فحسب الحضارة العربية الزاهرة مجداً وسموا أنها قدمت للأجيال المتعاقبة منذ أربعة عشر قرناً هذا العهد الاميري الخالد على الدهر بأعدل المبادئ المقررة في فقه السياسة والتشريع، وفي نفس السياق يقول المفكر المسيحي جورج جرداق في تعليقه على الدستور العلوي لعلي بن أبي طالب (فليس من أساس بوثيقة حقوق الإنسان التي نشرتها هيئة الأمم المتحدة إلا وتجد له مثيلا في دستور ابن أبي طالب ثم تجد في دستوره ما يعلو ويزيد...)، مع الأخذ بعين الإعتبار

ص: 371

الفارق الزمني بين الوثيقتين، وأن الأولى كانت نتاج عقول كثيرة من بني البشر والثانية كانت نتاج عبقري واحد هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ولعل المفارقة الأكبر هي ان وثيقة الأمم المتحدة كتبت وقليلا ما طبقت موادها في الواقع فما زال العالم والمجتمعات البشرية تلحظ الفارق الكبير بين موادها ونظریات ميكافيلي أو المنطق الذرائعي (البراغماتي) الذي يسوغ للدول انتهاك هذه الحقوق، في حين أن عليا جسدها على الواقع بعدالته والقوانين التي سنها في ذلك الوقت مع رعيته حتى بقت مقولته التي لم يقلها حاكم غيره تثير استغراب وتعجب الكثيرين من ناقدي التاريخ أو مؤرخي تاريخ الأمم والتي قال فيها: (لقد أصبحت الأمم تشكوا ظلم رعاتها وأصبحت أشكوا ظلم رعيتي، ولقد كنت بالأمس أميراً واليوم مأمورًا، وكنت ناهيا واليوم منهياً).

وعرض الإمام في عهده لمالك إلى ضرورة الرحمة بالرعية والإحسان اليها والرفق بها، والعفو عنها في موارد الزلل، وأن بها مهما استطاع لذلك سبيلا استمعوا لقوله:

قال عليه السلام: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط بينهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤثر على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب أن يعطيك الله تعالى من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله تعالى فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله تعالى، فإنه لابد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته..)).

وليس في قواميس الأديان ومذاهب السياسة مثل ما سنه قائلاً: من الرفق بالرعية على اختلاف ميولها وأديانها، فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها، وأن لا يشمخ عليهم

ص: 372

بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم، وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أوزلل، ويمنحهم العفو والرضا لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها ويستمر الإمام عليه السلام في عهده بالرفق بالرعية قائلاً:

((ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن: أني مؤمرٍأُ امرُ فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير، وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكن عنك من غربك، ويفي إليك بما عزب عنك من عقلك..)).

حکی هذا المقطع الأساليب التي يجب أن تتوفر في الولاة من عدم الندم على عفو اصدر على مواطن، وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد، وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم، فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين، وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله، الى عليهم فإنه المالك لهم، هذه بعض محتويات هذه الكلمات.

وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك الأمر بإنصاف الناس في سياسته وإنصافهم من خاصة أهله والتابعين له، فإن ذلك من أسمى ألوان العدل الذي تبناه الإمام في حكومته، وهذه كلماته

قال عليه السلام: ((أنصف الله تعالى، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله تعالى، كان الله عز اسمه خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله تعالى أدحض، وكان لله تعالى حرباً حتى ينزع أويتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله تعالى وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله تعالى سميع دعوة المضطهدين وهوللظالمين بالمرصاد..)). حکي هذا المقطع العدل الصارم في سياسة الإمام التي تسعد بها الأمم والشعوب وتكون آمنة من

ص: 373

الظلم والاعتداء.

وفي هذه العجالة نحاول ان نقترب قليلا من ملامح حكومة علي (عليه السلام) ومدى ترسيخها لمبادئ حقوق الانسان، فنبدا بأول الحقوق، الحق في الحياة، كان علي (عليه السلام) وكما ينقل لنا التأريخ احرص الخلفاء على دماء الرعية وكان السلم والعفو هما الخيار الذي يلتجئ اليه الامام في حله لمشاكل الدولة الداخلية او الخارجية. وكانت انطلاقته وفق المعاير الاسلاميه لا وفق الهوى منطلقا من الايات التي تحرم قتل الناس من دون حق «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً...» سورة النساء اية 92 «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» المائدة 32 «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» الأنعام 151، هذه الايات كانت شاخصة امام الامام علي وهو يحكم الرعية وفي تثبيت نظامه وحكومته، لذلك ما كان ليرمي سهما في الحرب او يبتدأ بحرب الا اذا ابتدئ بها فهو القائل: (لا نقاتلهم أي - اصحاب الجمل - حتى يقاتلونا).

کما وكان حريصا في ترسيخ هذا المبدأ فباشر تفعيله عمليا من خلال ممارساته وأدائه السياسي مع معارضيه ونظريا وثقه في دستوره الذي ارسله الى عامله مالك الاشتر. فقد قال له موصيا: (أياك والدماء وسفكها بغير حلها، فأنه ليس شيء ادعي لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا احری بزوال النعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير خقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوية سلطانك بسفك دم حرام، فأن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن))، والحقيقة هناك جملة من الامور يمكن تلمسها في هذا النص منها:

تأكيد حرمة الدماء وأن حق الحياة مكفول للجميع، إذ كان الحديث عن الدماء

ص: 374

بصورة عامة وليس دماء المسلمين دون غيرهم.

المساواة بين الحاكم والمحكوم، من حيث لاضمانات للمنصب أو شاغليه في موضوع التعدي على الدماء والحياة.

أن سفك الدماء يثير الغضب والنقمة بين الشعب مما يؤدي الى الاضطراب وهو من الاسباب المهمة للثورات لان «لكل دم ثائراً، ولكل حق طالباً»، على وفق وصف الامام.

وفقاً للفكر العلوي، فأن الحياة قيمة عليا تغلب على الموت، وأن أي اعتداء لازهاق حياة انسان، وبغض النظر عن ماهية ذلك الانسان، هو أعتداء على الارادة الالهية الموجدة والمانحة الوحيدة للحياة من جهة وجريمة بحق الانسانية جمعاء، وسلب لحق اساسي من حقوق الانسان الا وهو (حق الحياة) من جهة اخرى، لذا فأن الامام نظر الى القتل بأنه جريمة كبرى فيقول (عليه السلام) أن من «الكبائر الكفلا بالله، وقتل النفس ......».

يمكن ذكر عدة مميزات اساسية لمبادئ حقوق الانسان لدى الامام علي (عليه السلام):

أولاً: امتزاج مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) بحقوق الأمة، فلا يمكن أن تحترم حقوق الإنسان وتصان إلا في مجتمع الحق والحرية والعدل الاجتماعي. ومن هنا فإن السلطة لم تكن أبداً في نظره غاية في حدّ ذاتها، ولم يسعَ إليها في يوم من الأيام، بل كان من أزهد الناس في السلطة، ولما جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية (أي الخلافة) لتكون أداة المقاومة مظاهر الحيف والانحراف ولإرجاع الحقوق إلى أصحابها، دخل عليه صفيه وتلميذه عبد الله بن عباس يوماً فوجده يخصف نعله فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم،

ص: 375

فقال لابن عباس:

(ما قيمة هذه؟) - مشيراً إلى نعله - قال: لا قيمة لها.

فقال الإمام: (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).

فالسلطة تعني عنده - إذن - إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله.

ثانياً: قد يقول قائل: إن الإمام علي (عليه السلام) قد خاض حروباً طاحنة، وقاتل طيلة أربعين سنة، وأصاب سيفه مئات الناس فكيف نوفّق بين هذا وبين دفاعه عن حقوق الإنسان؟ قد يشتبه الأمر عند البعض، وأقول إجابة على مثل هذا التساؤل:

1 - إن الدفاع عن حقوق الإنسان اقتضى بالأمس، ويقتضي اليوم أيضاً مقاومة أهل الظلم والبغي وكل قوى الشر المعادية للإنسان ولحقوقه.

2 - تُجمع الروايات التاريخية على أن الإمام لم يقاتل إلا دفاعاً عن العدل ليقيم الحق ويقاوم الظلم بشتى مظاهره، وبخاصة الظلم السياسي والاجتماعي.

ثالثا: إن نموذج الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان يتجاوز المجتمع الإسلامي ليشمل المجتمع البشري كله، فإذا أصبح موضوع حقوق الإنسان اليوم معروفاً (ويخطئ البعض عندما يربطه بالثورة الفرنسية) ويتجاهل تراث الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية وهي حضارة تفخر بأنها أنجبت نموذجاً نادراً في مقاومة جميع مظاهر الحيف، ونصرة حقوق الإنسان، هذا النموذج القدوة هو الإمام علي (عليه السلام). سيسجل تاريخ الإنسانية المواقف الخالدة التي وقفها الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان. رحمك الله يا أبا الحسن فقد عشت ما يربو عن أربعين سنة حاملاً لواء العلم والسيف في مقاومة البغي والظلم، وفي الذود عن حقوق الإنسان.

إن الدارس لمواقف الإمام علي (عليه السلام) من قضايا حقوق الإنسان يلمس بسهولة بأن جل أقواله، والقيم التي آمن بها، وعلمها المسلمين تخدم حقوق الإنسان

ص: 376

وحريته، وتناهض كل سلطة تحاول أن تظلم الإنسان، وتغتصب حقوقه، وخصوصاً حقوقه السياسية والاجتماعية، وهو ما يوضح لنا صرامة المدرسة السياسية الفكرية التي أسسها في نضالها من أجل بناء مجتمع العدل السياسي والاجتماعي، ولقد نبّه المسلمين إلى خطر الانحراف الذي بدأت تبرز معالمه في خلافة عثمان، فقد خطب الإمام في المدينة إثر بيعته قائلاً:

(.. ألا وإن بليتكم قد عادت کهیئتها يوم بعث الله نبيه والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلکم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سباقون كانوا سبقوا).

وأعود إلى الاستشهاد ببعض أقوال ومواقف الإمام في الدفاع عن حقوق الإنسان الفردية والجماعية منها فقد رأينا مفهومه النبيل السامي للسلطة، وهو مفهوم نادر في تاریخ نظم السلطة السياسية بالأمس واليوم، فنَعْله أحب إلى نفسه من الخلافة أو الإمارة، وهي قمة السلطة إلا أن يقيم حقاً، أو يدفع باطلاً، فأي نظام في الدنيا بلغ هذه النظرية السامية للسلطة؟

وقد كان (عليه السلام)، حريصاً كل الحرص على حماية حقوق كل فرد من أفراد الرعية بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو دينه. فقد سيّر يوماً ما جنداً لمقاومة قوى الشر فكتب إلى أمراء بلاده التي سيمر بها الجند کتاباً يقول فيه:

(من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الضرائب وعمال البلاد أما بعد، فإني سيرت جنوداً هي مارة بكم إن شاء الله، وقد أوصيتهم بما يجب عليهم من كف الأذى وصرف الشذی (الشر). وأنا أبرأ إليكم، وإلى ذمتكم من معرة (أذي) الجيش إلا من جوعة المضطر الذي لا يجد عنها مذهباً إلى شبعه فنكلوا (عاقبوا) من تناول منهم شيئاً ظلماً عن ظلمهم، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم، والتعرض لهم فيما استثنيناه

ص: 377

الخاتمة

أن للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية مميزة لحقوق الانسان تتسم بالشمولية والعمق والتطبيق العملي لتلك الحقوق من جهة، ويمكن الاستفادة من هذه الرؤية لمعالجة اشكالية حقوق الانسان في واقعنا المعاصر من جهة اخرى، حيث يتضح بكل جلاء ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يعد تجسيداً حياً للشريعة الاسلامية برافديها القرأن الكريم والسنة النبوية، مضافاً اليهما ابداع الانسان المتميز في تطبيق النص على ارض الواقع ولاسيما في مجال حقوق الانسان حيث شملت رؤيته مساحة واسعة من تلك الحقوق دعا اليها وجسدها في ميدان التطبيق العملي.

تعد الحياة قيمة عليا في الرؤية العلوية ينبغي أن تصان عبر زيادة الوعي بخطورة سلبها من الانسان وعظم هذه الجريمة وانعكاسها السلبي في الدنيا والاخرة من جهة، وفرض العقوبة العادلة على منهك حق الاخرين في الحياة من جهة اخرى، الا ان احترام حياة الانسان لا يلغي تشريع القصاص العادل الذي قد يصل الى القتل أذا ما اقدم الفرد على هدم وجود الانسان.

امتازت الرؤية العلوية لحقوق الانسان بأبراز حق ضمانة ضبط الحكام وذلك لاهمية منصب الحاكم وتأثيره الواسع في المجتمع، لاسيما مع عظم المهمات الملقاة على عاتقه والمتمثلة بالواجبات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، واشاع الامام حالة من الوعي بحقوق الانسان، إذ على الرغم مما تعرض المؤروث الفكري للامام (عليه السلام) من محاربة واقصاء، الا ان ما وصلنا يؤكد اعتماده اسلوب نشر ثقافة حقوق الانسان سواء على الصعيد النظري، وهذا ما يدل عليه غزارة وتعدد النصوص التي تطرقت الى شتی انواع حقوق الانسان ام على الصعيد العملي للتجربة العلوية، حيث جعلت من حقوق الانسان منارة شامخة امام بصر وبصيرة الانسانية مجسدة في المجتمع

ص: 378

الاسلامي انذاك، وليكون ذلك جزءاً من رسالته الحضارية للبشرية في كل زمان ومكان ولاسيما مع ما امتازت به الرؤية والتجربة العلوية لحقوق الانسان من شمولية وواقعية وبعد انساني مميز.

ان اشاعة وتعميم تجربة الامام علي (عليه السلام) ورؤيته لحقوق الانسان ببعديها النظري والعملي، عبر نشرها والاخذ بها كمنهج عمل في المؤسسات الرسمية والدينية والاجتماعية في مجتمعنا ستسهم بلاشك في تطور الوعي والممارسة لحقوق الانسان، اجل تقدیم نموذج حضاري متميز لاتنضوي تحت لوائه الامة الاسلامية فحسب وانما تنهل منه البشرية بأسرها.

ص: 379

المصادر

1. ابن أبي الحديد، عز الدين بن هبة الله بن محمد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهیم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1990، ط 2.

2. عهد الامام علي ابن ابي طالب لمالك الاشتر، مطبعة الرياضي، بغداد، لا. ت.

3. جورج جرداق، الامام علي صوت العدالة الانسانية (علي وعصره)، الطبعة الاولى، دار الاندلس (نجف - بیروت) ، 2010.

4. غسان السعد، حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، طبعة ثانية، بغداد، 2008.

ص: 380

حق المواطنة والحريات العامة

في ضوء عهد الامام امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

ا.م.د. صبا حسین مولى

رئيس قسم التاريخ / مركز المستنصرية للدراسات العربية والدولية

أ. م. د. لمياء حسين

معهد الادارة

ص: 381

ص: 382

المقدمة

ثمة حقيقة تاريخية لا يختلف فيها اثنان بان الامام علّي ( علية السلام) سعى لا قامة دولة إسلامية عادلة راشدة كان قد حدد معالم أسسها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ الأيام الأولى لاستلامه الخلافة، وبخاصة فيما كان يوصيه لرجالاته الذين كلفهم بقيادة أمور المسلمين في الأمصار، کوصيته (لمالك بن الأشتر)، عندما ولاه مصر، هذه الوصية التي اعتبرت تاريخيا لدى الكثير من السياسيين وثيقة لمشروع تأسیس دولة - نقول بالرغم من طموحه هذا - إلا أن رؤيته لمفهوم الدولة بصيغتها العقلانية المطروحة في (وصية الاشتر) كانت قبل ذلك بكثير، حيث تجلت هذه الرؤية الدولتية العقلانية منذ اليوم الأول لوفاة الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وأثناء حادثة السقيفة التي ترك فيها الصحابة الرسول (عليه الصلاة والسلام) على فراش الموت مع علّيَ وأهله، وراحوا يتفاوضون ويتبايعون على الخلافة - بغض النظر هنا عن النيات الحسنة أو السيئة لمن تواجد في السقيفة آنذاك وراح يفاوض في أمور السلطة -، مثلما تجلت أيضا عبر حكم أبو بكر وعمر وعثمان، حيث كان الامام عليّ المرجع الحكيم الذي كثيرا ما لجأ إليه الحكام الثلاثة لاستشارته عند الضرورات من أمور سیاستهم لشؤون الدولة.

ومن هذا المنطق، اهتم البحث بعرض حق المواطنة والحرياات العامة في اهم واطول العهود التي اكتسبت اهميتها من الرؤية السياسية للامام علي (عليه السلام)، الى جانب شمولیتها وانسانيتها في ادارة امور الرعية.

ص: 383

المواطنة والحريات العامة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضى الله عنه).

المواطنة هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية ومن أخطر التحديات التي تواجه بناء المجتمع الداخلي وتؤثر في وحدته الوطنية الطائفية والقبلية والمذهبية ويجب على المواطن أي كان انتماؤه الطائفي أن يكون ولاؤه للوطن لا للقبلية أو الحزب أو التكتل الذي ينتمي له لأنهم زائلون لا محالة والوطن باقي على مدى الدهر وهذا لا يتحقق سوى من خلال إحساسه بأن الدولة وليست القبلية هي مصدر الثواب والعقاب والمانحة والمانعة له الأمر الذي يعني الحد من هيمنة أي منهم فكرا وسلوكا على أفراد الشعب (1).

وتتجلى هذه الصفة بشكل واضح في عهد الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام) لمالك الاشتر ( رضي الله عنه). وذلك من خلال ما اوصى به لمالك الاشتر في الاهتمام بالرعية وتأمين حقوقهم وتحقيق العدل بينهم وسوف نعمل على توضيح هذه الحقيقة من خلال مراجعة الحدث التاريخي.

أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر، الذي عيّنه والياً له على مصر، أن يكون محبَّاً للرعية ، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى. ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه المشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة.

قال (عليه السلام): (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ) (2).

ص: 384

ثمَّ أوصاه أن يعفو ويصفح عمَّن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته، قال (عليه السلام): (فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَی أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وصَفْحِهِ).

ودعاه إلى أن لا يميّز بين القريب والبعيد في عطاءاته من بيت المال؛ لأنَّ المسلمين سواءٌ في تناول الحقوق المالية من بيت المال، وقد عانى الناس من التمييز في العطاء أثناء العهد السابق، فكان ذلك من الأسباب التي دعتهم إلى الثورة على عثمان بن عفان.

قال (عليه السلام): (أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فيِهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ ، فَإنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ ، ومَنْ ظَلَمَ عِباَدَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ) (3).

ثمَّ ذكّره بأن يكون هدفه وغايته إقامة العدل، وإحياء الحق، الغاية والهدف الذي من أجله أُرسل الأنبياء والرسل، حتى ينعم الناس بالعدالة والمساواة، فبالعدل فقط تقوم الأنظمة وتستمر، ويصير للحياة مفهومها ومعناها. أما الحياة في ظل حاكمٍ ظالم، فهي بمثابة السجن، قال (عليه السلام): (ولْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ).

ثمَّ أوصاه بأن يكون جلّ اهتمامه جلب رضا العامة؛ لأنَّ رضا العامة يعني ثبات النظام، وإيجاد الدرع الواقي له من كيد الأعداء والمتضرِّرين من وجوده، ومع رضا العامة لا قيمة لسخط الخاصة، فإنّ الخاصة يمكن لك أن تتخلَّى عنهم. أمَّا العامة، فلا.

قال (عليه السلام): (وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رضا الْعَامَّةِ، ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ، وأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ... مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ، وجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، والْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ. فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، ومَيْلُكَ مَعَهُمْ) (4).

ص: 385

ثمَّ دعاه لأن يختار من يساعدة في إدارة شؤون البلاد، أشخاصاً تتوفَّر فيهم الخصال الطيبة الحميدة، التي يستدعي التحرُّك من خلالها تنشيط حركة البلاد سیاسياً، وتقويتها اقتصادياً وحتى عسكرياً.

قال (عليه السلام): (ولا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ، ولا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ، ولا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ؛ فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ).

ثمَّ دعاه لأن يختار لوزارته طاقماً جديداً ممَّن لم يخدم الأنظمة الظالمة، وممَّن يثق بهم الناس، أُمناء على مستقبلهم وحياتهم، قال (عليه السلام): (إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، ومَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَاَانَةً؛ فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ).

ثمَّ قال له بأنَّ الناس فيهم المحسن والمسيء، فلا تجوز المساواة بين الصنفين؛ لأنَّ في ذلك قطعاً لسُبُل الإحسان، وتقليلاً للفاعلين له، وتشجيعاً للمسيئين على الإساءة، وهذا خلاف المباني الإلهية والإسلامية؛ لأنَّ الله يأمرُ بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (5).

قال (عليه السلام): (ولا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ

تَزْهِيداً لأَهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإسَاءَةِ عَلَی الإسَاءَةِ).

ثمَّ دعاه إلى المحافظة على ما سنّه السلف الصالح، وحذّره من نقض السُّنن الصالحة؛ لأنَّ في ذلك إماتة لشعائر الله وإحياءً لغيرها، والأُمّة تغار على دينها وسننها الصالحة؛ لأنَّها جاهدت وناضلت من أجل بقائها.

قال (عليه السلام): (ولا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الأُمَّةِ، واجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ، وصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ. ولا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ؛

ص: 386

فَيَكُونَ الأجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا والْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا) (6).

ثمَّ تعرَّض (عليه السلام) لأقسام الرعية وأصنافها، وبيّن أن كل قسمٍ منها يحتاج للقسم الآخر ومرتبط به ارتباطاً عضوياً، حيث إنَّ كل تلك الأقسام تشكِّل نظاماً متكاملاً متماسكاً، فهي بمثابة الجسم الواحد، وعيّن لكل صنف مسؤوليته ومهمته حتى لا تتداخل الأمور وبالتالي تسود الفوضى.

وفي حديثه عن كل صنفٍ من الأصناف، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكِّد على ضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، ويؤكِّد على اختيار أصحاب الكفاءات، وحذره من الاختيار القائم على المحاباة والذي تجرع الناس منه الغُصص والويلات.

قال (عليه السلام): (واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ، لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ، ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْهَا: جُنُودُ اللَّهِ، ومِنْهَا: كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ، ومِنْهَا:

قُضَاةُ الْعَدْلِ، ومِنْهَا: عُمَّالُ الإنْصَافِ والرِّفْقِ، ومِنْهَا: أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ

الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ، ومِنْهَا: التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، ومِنْهَا: الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ، وكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ ووَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَو

سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلَّی الله عليه واله) (7).

وأكثر ما تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه للأشتر (رضوان الله تعالى عليه) عن الطبقة السُّفلي أو الفقيرة، وهذه الطبقة تشكِّل القسم الأكبر من المجتمع في كل زمان ومكان، ولهذا جعل كل تلك الطبقات لحماية ومساعدة هذه الطبقة؛ حتى تنهض ممَّا هي فيه وتنعم بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولو یُصار إلى تأدية حقوقها كاملة في كل زمان لنهضت، ولكن هيهات!! فما إن ينتهي عهدٌ، حتى يأتي عهدٌ جديد يعمّق هوة الفقر والمسكنة، وهكذا تتوسَّع هذه القشرة وتكبر وتتأٌّصَّل جذورها أكثر فأكثر.

ص: 387

وقد سعى أمير المؤمنين (عليه السلام) جاهداً لرفع الغُبن والحيف عن هذه الطبقة، خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها، وهي خمس سنوات، وقد نجح إلى حدٍ بعيدٍ في هذا الاتجاه، وإن كانت المدة التي حكم فيها غير كافية لقلع جذور الفقر والاستضعاف.

يقول احد الباحثين: إنَّ لعلي بن أبي طالب في حقوق الإنسان أصولاً وآراء، تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع.

وقال في مكان آخر من الكتاب: له شأنٌ أيُ شأنٍ، وآراؤه فيها (حقوق الإنسان) تتَّصل اتصالاً كثيراً بالإسلام يومذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد والقضاء على التفاوت الطبقي.

ومَن عرف علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع، أدرك أنَّه السيف المسلَّط على رقاب المستبدِّين الطُّغاة، وأنَّه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وحكومته وسياسته.

قال (عليه السلام): (ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِيژ الطَّبَقَةِ السُّفْلَی، مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ: مِنَ

الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَ (شدة الفقر) والزَّمْنَ (أصحاب العاهات)؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً. واحْفَظِ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ) (8).

وقد ذكر لهذه الطبقة حقوقاً مفصَّلة كحقوق العامة، إلاّ أنَّها أكثر إلحاحاً هنا. والملاحظ أنَّ الأمير (عليه السلام) طلب من واليه على مصر أن يُشرف بنفسه على أوضاع هذه الفئة، مضافاً إلى الإشراف العام، وحذَّره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم، وأداء حقوقهم المالية والقانونية والشرعية.

قال (عليه السلام): (واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي

الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ)، ثمَّ قال (عليه السلام) في موضعٍ آخر: (واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيِهِ شَخْصَكَ، وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيِهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ).

ص: 388

ثمَّ قال (عليه السلام): (إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، ولا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، ولا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا... وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ، وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَو سَيْفُكَ أَو يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي

الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْليَاءِ الْمَقْتُولِ

حَقَّهُمْ).

وقد ذكر لهذه الطبقة حقوقاً مفصَّلة كحقوق العامة، إلاّ أنَّها أكثر إلحاحاً هنا. والملاحظ أنَّ الأمير (عليه السلام) طلب من واليه على مصر أن يُشرف بنفسه على أوضاع هذه الفئة، مضافاً إلى الإشراف العام، وحذَّره من التهاون في تنفيذ حاجياتهم، وأداء حقوقهم المالية والقانونية والشرعية.

قال (عليه السلام): (واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ)، ثمَّ قال (عليه السلام) في موضعٍ آخر: ( واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيِهِ شَخْصَكَ، وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيِهِ للهِ الَّذِي خَلَقَكَ).

ثمَّ قال (عليه السلام): (إِيَّاكَ والدِّمَاءَ وسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، ولا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، ولا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا... وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ، وأَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَو سَيْفُكَ أَو يَدُكَ باِلْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي

الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ

حَقَّهُمْ) (9).

ص: 389

الخاتمة

يمكن القول ان الامام علي (عليه السلام) وضع الأسس السليمة والرصينة لمفهوم المواطنة التي ساد مفهومها حديثا، ولعل قيام المستشارين القانونيين للأمم المتحدة باعتماد على رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر ومقولة (الخلق صنفان، إما أخ لك في الدين او نضير لك في الخلق) كمصادر للتشريع القانوني لهيئة الأمم المتحدة، خير دليل على ذلك. فهذا امامي علي (عليه السلام) قمة الإنسانية والنبل والصفات الرائعة مختصرة برجل عبارة عن نور مخلوق وعبد مرزوق. ولعل قول الامام علي في وصف حال الدنيا خير برهان على ذلك.

لنفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت ٭٭٭ أن السعادة فيها ترك ما فيها

لا دارٌ للمرءِ بعد الموت يسکُنها ٭٭٭ إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها

فإن بناها بخير طاب مسكنُه ٭٭٭ وإن بناها بشر خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعُها ٭٭٭ ودورنا لخراب الدهر نبنيها

أين الملوك التي كانت مسلطنةً ٭٭٭ حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

فكم مدائنٍ في الآفاق قد بنيت ٭٭٭ أمست خرابا وأفنى الموتُ أهليها

لا ترکِنَنَّ إلى الدنيا وما فيها ٭٭٭ فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها

لكل نفس وان كانت على وجلٍ ٭٭٭ من المَنِيَّةِ آمالٌ تقويها

المرء يبسطها والدهر يقبضُها ٭٭٭ والنفس تنشرها والموت يطويها

إنما المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ ٭٭٭ الدين أولها والعقل ثانيها

والعلم ثالثها والحلم رابعها ٭٭٭ والجود خامسها والفضل سادسها

والبر سابعها والشكر ثامنها ٭٭٭ والصبر تاسعها واللین باقيها

ص: 390

والنفس تعلم أني لا أصادقها ٭٭٭ ولست ارشدُ إلا حین اعصيها

واعمل لدارٍ غداً رضوانُ خازنها ٭٭٭ والجار احمد والرحمن ناشيهاقصورها

ذهب والمسك طينتها ٭٭٭ والزعفران حشیشٌ نابتٌ فيها

ص: 391

الهوامش

1 - امل هندي الخزعلي، جدلية العلاقة بين الديمقراطية والمواطنة والمجتمع والمدني:

العراق نموذجا، العدد 32، بغداد 2006، ص 131.

2 - الشيخ محمد عسيران، المواطنة في فكر الامام علي (عليه السلام)، بيروت، 2013، ص 36.

3 - عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، وثيقة اسلامية ذات ابعاد قانونية - سياسية - اجتماعية - ادارية - اقتصادية عسكرية، د. ت، د. م، ص 10.

4 - الشيخ محمد عسيران، المصدر السابق، 37.

5 - عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)...، المصدر السابق، ص 12.

6 - میزان الحكمة، ج 2، 1778.

7 - نهج البلاغة، ج 2، ص 218.

8 - الشيخ محمد عسيران، المصدر السابق، 37.

9 - المصدر نفسة.

ص: 392

حقوق الإنسان في الإسلام

عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (انموذجا)

أ.م.د. خديجة حسين سلمان

قسم العلوم التربوية والنفسية / كلية التربية

الجامعة المستنصرية

ص: 393

ص: 394

الملخص

لقد أخذت حقوق الإنسان بعداً عالمياً واسعاً، فمنذ أن صدر میثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى له تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها.

فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان حتى أمريكا، أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية، والتي شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود وإذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلا ثلاث مسائل: الأولى: مسألة تعدد الزوجات، وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات. والثانية: مسألة الرق والاسترقاق. والثالثة: مسألة الجهاد والقتال.

وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان، فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبداً رقيقاً يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه، هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم. ورغم كثرة الآيات المباركة والأحاديث النبوية الشريفة التي بينت حقوق الانسان في الإسلام. إلا ان الباحثة اختارت عهد الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر مالك الأشتر ليكون انموذجا لحقوق الإنسان في الاسلام.

لذا هدف البحث الحالي إلى التعرف على أهم المضامين التي تبين حقوق الإنسان في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر. حيث تميزت ولاية مالك الأشتر في عهد

ص: 395

الامام علي (عليه السلام). بمبادئ وقوانين إتسمت بالإنصاف والعدالة والتواضع للرعية من طبقات الشعب المختلفة من خلال وصايا الأمام لمالك الأشتر والتي تحتكم لأبلغ صورة لمبادئ حقوق الانسان. وقد تحدد البحث ببعض المقتطفات من ذلك العهد والتي تركز على حقوق الرعية، وما كتب عنه في هذا المجال من المصادر العلمية والتاريخية الرصينة والمعتمدة والتي تتميز بالموثوقية والموضوعية. وقد اتبع البحث المنهج التاريخي الوصفي لغرض تحقيق اهدافه.

وقد اشتمل البحث على عدة مباحث تضمنت ما يأتي:

1. مقتطفات من حياة مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه.

2. السمات العامة لعصر الإمام علي عليه السلام

3. مقتطفات من عهد الإمام علي عليه السلام ومحاكاتها مع الواقع الذي نعيشه في وقتنا الحاضر.

وقد استنتج البحث أهمية توظيف المبادئ والوصايا الواردة في العهد لما نراه اليوم من زيادة الإهدار لحقوق الإنسان ففي الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت - أيضاً - بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه.

ص: 396

واوصى البحث بالإكثار من اجراء مثل هذه البحوث لبيان الاسهامات الفكرية والتربوية الكبيرة لائمة اهل البيت (عليهم السلام) بصورة عامة والإمام علي عليه السلام بصورة خاصة كونه المعني بالبحث والعمل على الاستفادة منها وتوظيفها للارتقاء بالمجتمع.

أولاً: مشكلة البحث

منذ أن قتل قابيل هابيل، والإنسان يبحث لنفسه عن حقوقه، عن كرامته، عن حقه في الحياة، عن حقه في المأكل، عن حقه في الملبس، عن حقه في المسكن، عن حقه في الحرية، عن حقه في التعلم.... الخ، فقد عانت الإنسانية منذ أن ظهر الظلم على الأرض ألواناً من الهدر لكرامة الإنسان، والاستلاب لإرادته، والمصادرة لحرياته، الذي كثيراً ما كان يأخذ أبعادا مأساوية دموية، تنتهي إلى قتل الآلاف بل الملايين من البشر، وتشريد أضعافهم وهتك أعراضهم (التسخيري، 1995، ص 5).

وقد أدت تلك المظالم إلى الحروب، والى ظهور ثورات على مرِّ التاريخ، سواء كانت دينية، أم فكرية، أم سياسية، أم عسكرية، من اجل الحفاظ على كرامة الإنسان وحريته، فلم تأتِ حركة حقوق الإنسان لتنافس أي عقيدة أو فكر، وإنما جاءت للنهوض بمن هم بحاجة إلى التخلص من الفقر والتشرد والإضطهاد، جاءت هذه الحركة من اجل كرامة الإنسان والحرية، جاءت من كل مكان، من اجل عالم أفضل عالم يعطي معنى وقيمة لحياتنا (عمر، 2000، ص 1).

وتزعم بعض الأمم التي تبنت النهج الديمقراطيّ في الحكم والسياسة ک (بريطانيا، فرنسا، وأمريكا) أنها كانت من أوائل المسهمين في وضع حقوق الإنسان وتتويجها لهذه الحقوق من خلال الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان عام 1948 م، الذي يضمن وجود الإنسان وحريته وكرامته بغض النظر عن جنسه ولونه ومعتقده (صالح 2003، ص

ص: 397

303). وقد تناسوا، أو لم يعرفوا دور الإسلام في هذا الصدد، وبأنه هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورها وأوسع نطاقها، منذ عهد رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وعلى آله) وحتى الآن، أي منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان، فالإسلام قرر منذ بداية عهده أن للإنسان حقوقاً، وهذه الحقوق منحة من الله (سبحانه وتعالى)، أي انه لا فضل فيها لمخلوق يستبد بها ويتحكم فيها، ويمنحها لمن يشاء، ويمنعها عمن يشاء، ومن ثم فإن الحقوق والحريات لیست حقوق طبيعية، وإنما هي منح من الله العليّ القدير، تستمد من أحكام الشريعة وتستند إلى العقيدة الإسلامية، وهذا ما يكسبها قدرا من الهيبة والاحترام والقدسية، والتي تشكل ضمانة أساسية ضد تغول السلطات عليها (عبد الحميد، 2005، ص 93).

والحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام ليس حديثا جديدا، بل هو حديث قدیم من حيث العموم الفكريّ والتأسيس النظريّ المبثوث في مفردات التشريع الإسلامي هنا وهناك (صالح، 2003، ص 303) ولعل ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه حين ولاه مصر خير دليل على دفاعه المشهود عن حقوق الإنسان حيث كان الشخص الاول بعد النبي الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) الذي وضع القواعد الدستورية الاسلامية الحقة في موضعها الصحيح واتباعه اقوم الانظمة العادلة لحفظ التوازن بين طبقات المجتمع وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم او بين الراعي والرعية وكذلك ضمان حقوق الانسان على اساس العدل الاجتماعي والحق والمساواة وكان ذلك ملاصقاً لشخصيته وسيرته العملية في حقوق الإنسان التي مازالت محط الأنظار ومصدر البحوث الإنسانية والعلمية بشكل مباشر أو غير مباشر. ويأتي البحث الحالي محاولة لتسليط الضوء على اهم ما جاء في عهد الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه في ما يخص حقوق الانسان.

ص: 398

ثانياً: أهمية البحث:

موضوع حقوق الإنسان ليس وليد العصر الحاضر، وإنما هو قديم قد الإنسانية نفسها، ويشكل جزءً لا يتجزأ من تاريخها، فقد ارتبط بالمجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة، وتأثر سلبا وإيجابا بالظروف الزمانية والمكانية لتلك المجتمعات وبالتيارات الفكرية، والتقاليد السائدة فيها، كما ارتبط بالشرائع السماوية (الطعيمات، 2001، ص 36).

وقضايا حقوق الإنسان والدعوة لاحترامها في الوقت الراهن من الموضوعات ذات الأهمية القصوى فيما يخص العالم أجمع، ويحظى هذا الموضوع باهتمام بالغ في المجتمعات الديمقراطية عامة وفي دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية خاصة، وذلك انطلاقا من المفاهيم والأفكار الغربية المستندة إلى القوانين الوضعية والمستمدة من فكرة القانون الطبيعي لحماية الحقوق الطبيعية للإنسان (الراجحي، 2004، ص 14). حيث بات الحديث عن حقوق الإنسان حديث الساعة حتى غدى الاهتمام به واضحا من خلال عقد المؤتمرات والندوات، وإبرام المواثيق والاتفاقيات على المستويين: الإقليمي والدولي، وذلك من أجل معالجة جميع الجوانب والظروف التي تسهم في تعزيز حقوق الإنسان التي تعد معيارا لمعرفة مدى التزام دولة ما بمبادئ العدل والإنصاف وحماية حقوق مواطنيها وحرياتهم كما أنه يعد معيارا لقياس مدى إدراك ووعي تلك الشعوب بالتمتع بها، بل هو عنصر مهم في الأنظمة الديمقراطية (الشنقيطي، 2001، ص 45). إلا أن الاهتمام الغربي المعاصر، بهذا المجال على مستوى التنظير والممارسة، وصولا إلى تقنينه في مواثيق وإعلانات عالمية، جعل هذا الاهتمام يأخذ بعدا عالميا لم يسبق له مثيل من قبل، وكان من نتائجه المهمة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة سنة 1948 م (دكير، 1998، ص 190).

فحقوق الإنسان كانت في الماضي مسألة فردية أو محلية تعنى بها التشريعات أو

ص: 399

الممارسات الداخلية لدولة ما، ولكنها أصبحت اليوم قضية تتصف بالعالمية وليس من المبالغة القول بأنها غدت شأناً إنسانياً مشتركاً يحتضن كل حقوق الإنسان أني وجد، وإلى أي دين أو عرق انتمى (خلف، 2004، ص 1). حيث باتت موضوعاً يمس حياة كل الشعوب والدول، وتطورها باختلاف حضاراتها ومواقعها الجغرافية وأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي مسألة تمس حياة كل إنسان كفرد بحكم طبيعته وتكوينه، فطبيعة الإنسان ذات الصفة المزدوجة، كونه كائنا فرديا وكائنا اجتماعيا في آن واحد، هي التي أدت إلى ظهور حقوق الإنسان، وتطور حرکتها العالمية والوطنية، فالحقوق لا وجود لها إلا في مواجهة الآخر (هادي، 2000، ص 9).

ولأهمية حقوق الإنسان وتأثيرها في المجتمعات، صيغت عدة وثائق دولية، لعل أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تمتع عند اعتماده بتأیید دولي عريض القاعدة فعلى الرغم من أن الدول الأعضاء الثماني والخمسين التي شكلت الأمم المتحدة في ذلك الوقت كانت تختلف فيما بينها من حيث أيديولوجيتها ونظامها السياسي وخلفياتها الدينية والثقافية ونماذج تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد مثل بيانا مشتركا بالأهداف والتطلعات التي تتقاسمها، وهي رؤية للعالم كما يود المجتمع الدولي أن يكون عليه (دي ميلو، 2003، ص 3).

ص: 400

ولقد شهدنا في العقود الأخيرة وكمظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية، وبحث أمتنا الإسلامية عن هويتها الإسلامية، وعن هويتها الحضارية المتميزة في تراثها الفكري والحضاريّ، شهدنا كتابات طيبة وجيدة تبرز حديث الإسلام وسبقه في التقنين لحقوق الإنسان وهو ميدان خصب ومهم، ما زال ينتظر كثيراً من الجهود التي يمكن أن تسلح إنساننا المسلم ضد الاستيراد والقهر والاستلاب من جهة، وتثري الفكر الإنساني الخاص بهذه القضية المحورية، من جهة أخرى، وتنصف حضارتنا الإسلامية، وفكرنا الإسلامي وديننا الحنيف من جهة ثالثة، إنه ميدان مهم من ميادين البحث والاجتهاد، ومن الضروري أن يهتم به الباحثون (عمارة، 1985، ص 14).

إن الحقوق في الدين الإسلاميّ نظرية وتطبيق، وإذا كان التطبيق لا يعطي الصورة الواضحة فإنه يصبح من الواجب العودة إلى النظرية (طي، 2001، ص 107). فالحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام ليس حديثاً جديداً، بل هو حديث قديم من حيث التأصيل الفكريّ والتأسيس النظريّ المثبت في مفردات التشريع الإسلاميّ (صالح، 2003، ص 303). لقد تبنى الإسلام بصورة جادة وموضوعية جميع حقوق الإنسان، ورصد له أروع الأحكام التي تنتظم بها حياته، وقومياته ولغاته ومذاهبه، فليس في تشريعاته ما يشذ عن سنن الطبيعة ويخالف مناهج الكون (القرشيّ، 2005، ص 7).

لقد نظر الإسلام بعمق وشمولية إلى الإنسان، ووقف على جميع إبعاد حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فوضع له المناهج السليمة التي توفر له حقوقه التي لا غنى له عنها، ومن أبرزها أن تسود العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها في الأرض، بحيث لا يبقى أي ظل للبؤس والحرمان، ويعيش الإنسان حياة وادعة آمنة مطمئنة، يعمها الرخاء والأمن والاستقرار والسلام، إن حقوق الإنسان التي أعلنها الإسلام هي التي توفر للمجتمع الحياة الكريمة في ظل نظام آمن مستقر، لا طغيان فيه ولا ظلم ولا استبداد،

ص: 401

ولا تسلط للحاكم على المحكومين، فالسيادة للقانون الذي شرعه الإسلام، وتسري نظمه على الحاكم والمحكوم على حد سواء، فلا ميزة لأحد على احد إلا بالتقوى التي هي المقياس في التفاوت بين الناس، وتعني نكران الذات وعمل الخير وصنع المعروف (القرشي، 2005، ص 7 - 8).

لقد حملت الأمة الإسلامية مشعل الحضارة، وكانت الإنسانية مدينة لها في مختلف العلوم والمعارف، وحسبك ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مخطوطة موزعة في مختلف أنحاء العالم (فهد، 1988، ص 5). ويوجد في المكتبة الوطنية في لندن (13095) مخطوطة إسلامية تُعدّ من أنفس المخطوطات في مختلف صنوف العلوم والمعارف (baker، 2001).

هناك مؤشرات متزايدة تدلل على أن الإنسان المعاصر غدى مهيئاً لتقبل الإسلام وتفهمه واعتناقه، ومن ثم إمكانية الشروع بفتوحات إسلامية جديدة من طرف المسلمين، إذا تحلوا بالكفاءة والجدارة اللازمة لهذا الدور التاريخي (آل نجف، 1999، ص 57).

لقد جاء الإسلام خاتم لكل الأديان والرسالات حيث جاء الإسلام من أجل تحرير الإنسان من الرق والعبودية وظلم الإنسان للإنسان، جاء من أجل كرامة الإنسان جاء من أجل سعادة الإنسان، وكذلك نبيه خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وعلى آله) فقد ضرب لنا الإسلام أروع الأحكام والتشريعات التي تلبي حاجات الإنسان المادية والروحية، وتمثلت تشريعاته بالقرآن الحكيم، والسنة النبوية الشريفة، من قول النبي الأكرم (صلى الله عليه وعلى آله) أو فعله أو تقريره، ثم الأئمة الاثنا عشر من أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم اجمعين، كما نص عليهم رسول الله (صلى الله عليه

ص: 402

واله وسلم)(1).

فجاء ابن عمه علي بن أب طالب (سلام الله عليه) ليكٌمل ما جاء به الرسول وثٌبت دعامته الأساسية، إذ أن حقوق الإنسان موجودة منذ القدم وان لم يتطرق إليهٌا بصورة واضحة وتحت هذا المسمى من قبل ولكن كل الأديان السماوية نصت عليها وأكدت على وجوب تحقيقٌها وصياٌنتها.

ونحن هنا في مسار بحثنا هذا سنتطرق إلى مفردة حقوق الإنسان وتفرعاتها عند الإمام علي بن أبي طالب لنؤكد مره أخرى بان الإمام أكمل ما جاء به الرسول والدين الإسلامي من خلال الإنسان والحفاظ على حقوقه عندما ساوى بين الناس جميعا. ولعل ذلك يتضح جليا من خلال عهده لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه حينما ولاه عليه السلام مصر.

ص: 403


1- قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي) (سنن الترمذي، 1983، ج 5 ص 328)، وقال: (2: (إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (مسند أبن الجعد، 1996، ص 397، المسند لابن حنبل، د.ت، ج 3 ص 17، مسند أبي يعلي الموصلي، 1992، ج 2 ص 297)، وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس) (المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، د.ت، ج 3 ص 149) وقال (ص): (لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثنى عشر خليفة، كلهم من قريش) (سنن أبي داود، 1990، ج 2 ص 309، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، 1985، ص 95)، وقال (صلى الله عليه واله وسلم): (لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش) (التاريخ الكبير للبخاري، د.ت، ج 8 ص 411، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، د.ت، ج 3 ص 618)، وقال: (2: (بعدي اثني عشر خليفة كلهم من بني هاشم) (ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، 1977، ج 2 ص 315)

ثالثا: اهداف البحث

يهدف البحث الى محاولة التعرف على ما يأتي:

1. مقتطفات من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر رضوان الله عليه والتي تتضمن الاشارة الى حقوق الانسان.

2. امكانية توظيف تلك النصوص في وقتنا الحاضر.

رابعا: حدود البحث:

تحدد البحث ببعض ما نقل من مقتطفات لعهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه من الموروث التاريخي وما كتب عنه في هذا المجال من المصادر العلمية والتأريخية الرصينة والمعتمدة والتي تتميز بالموثوقية والموضوعية.

خامسا: منهج البحث:

استخدم البحث المنهج التأريخي الوصفي الذي يتسم بالدقة والموضوعية والموثوقية في عملية العرض والتحليل للمباحث التي تضمنها.

سادسا: مباحث البحث:

يشتمل البحث على المباحث الاتية:

ص: 404

المبحث الاول: مقتطفات من حياة مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه

في السيرة الذاتية: لمالك بن الحارث الأشتر النخعي

اسمه: مالك، ولقبه «الأشتر» وكنيته «أبو ابراهیم». وقد أورد أكثر المؤرخين وعلماء علم الأنساب سلسلة نسبه كالتالي: هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلّمة بن ربيعة بن خزيمة (خديمة) بن سعد بن مالك بن نخع ومن أشهر ألقابه اثنان: «الأشتر» و «كبش العراق». ولا يُعرف تاريخ مولد الأشتر بدقّة، لكن كتّاب السِّيَر اتفقوا على أنه رأى النور في عهد الجاهلية، وربما بين عامي 25 - 30 قبل الهجرة (شرح نهج البلاغة: 6 / 315، سفينة البحار:

4 / 379).

إسلام وایمان مالك وشهادة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) له بذلك: مما لاشك فيه أن مالك الأشتر قد أسلم في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) وظل راسخاً في إسلامه. وقد نال درجةً من الايمان بلغَتْ حداً شهد له فيه النبي الأكرم (صلی الله عليه واله وسلم) بالایمان بشكل قاطع، وعبّر عنه في حديث شريف بأنه «مؤمن» أو «مؤتمَن». ويُروى كذلك أنه حينما ذُکِرَ مالك عند رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: «إنه المؤمن حقّاً».

الأشتر نصير علي (عليه السلام) والمدافع عن حكمه: لم يقصِّر مالك الأشتر ملامَةَ ظفر من أجل تهيئة الأجواء لقيام الحكم العلويّ، وعاش سنين طوالاً بأمل إقامة هذا الحكم. وعندما قامت خلافة الإمام علي (عليه السلام) كان مالك مطيعاً إطاعة تامّة ومسلّماً تسليماً محضاً لأوامره (عليه السلام)، كما لعب دوراً رئيسياً وحيوياً في جميع الأحداث والوقائع الأساسية والهامّة التي حصلت أثناء خلافة أمير المؤمنين (عليه

ص: 405

السلام). فقد كان لمالك دور كبير في انتصار جيش أمير المؤمنين خلال حرب الجَمَل، من خلال بناء جيش الإمام وجنده، وعبر المشاركة العسكرية الشجاعة فيها. ويروي صاحب «روضة الصفا» إن مالك الأشتر حمل ثلاث مرات على المحيطين بِجَمَلِ عائشة أثناء حرب الجَمَل، وكان يقطع في كلِّ مرّة واحدة من أرجل ذلك الجمل.

ولمبادرات مالك الشجاعة دور كبير في فتح الرِّقة وحرّان، وطرد عمّال معاوية منها، وكذلك جهاده وقتاله البطولي في صفين، فقد صنعت منه بطلاً تاريخياً أطبقت شهرته الآفاق على مرّ التاريخ. لقد استحقّ مالك وبجدارة لقب بطل صفّين الكبير بعد الإمام علي (عليه السلام) نظراً لشجاعته النادرة وتضحياته في تلك الحرب.

استشهاد مالك الأشتر المؤلمة: كان الإمام علي (عليه السلام) يعتبر مالك الأشتر جديراً بحكم مصر، فلذلك فقد دعاه الى الكوفة وأعطاه عهده المعروف، وبعث به إلى هناك. فما كان من معاوية الذي كان يُدرك أنه لو دخل مالك الأشتر مصر فانها ستتحول الي قاعدة قوية وراسخة للخلافة العلوية، فدبّر خطة لاغتياله، وهو ما تحقّق له في نهاية المطاف. فقد استشهد مالك الأشتر في أرض القلزم بمصر على يد نافع مولى عثمان بن عفان - الذي سقاه شراباً مزيجاً من السَّم والعسل.

تاريخ إستشهاده ومحل دَفنه: ذكر بعض المؤرخين أن مالك الأشتر استشهد في رجب عام 37 ه (657 م)، ولكن يبدو أن الصواب هو الخامس والعشرون من ذي القعدة عام 38 للهجرة. ومن الأدلة المتوافرة يمكن تخمين عمره بأكثر من سبعين عاماً. أما فيما يتعلّق بمحل دفن جثمانه الطاهر، فقد ذهب بعض المؤرخين إلى أنه دُفِنَ في القلزم ذاتها، ولكن كثيرون يعتقدون أيضاً أن جثمانه حُمل من القلزم ودُفِنَ في المدينة المنورة، حيث يوجد قبره المعروف والمشهور الآن. وسبب ذلك هو أن مرافقيه لم يدفنوه في القلزم خشيةً من أن يأمر معاوية - لشدّة معاداته له - بنبش قبره وإهانة جثمانه الطاهر.

ص: 406

حُزن أمير المؤمنين على مالك: كان الإمام علي (عليه السلام) ينتظر على أحرِّ من الجمر أن يبعث إليه في الكوفة واليه على مصر تقريراً حول الفوضى الحاصلة في تلك الديار، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، مما أقلق الإمام وأثار هواجسه، حتى بلغه نبأ استشهاد الأشتر في العشرين من ذي الحجة الحرام عام 38 للهجرة، مما أدى الى حزن الإمام (عليه السلام) حزناً بالغاً والبكاء عليه كثيراً، ثم ارتقائه المنبر دامع العين، وقوله: «الله درّ مالك، لو كان من جبل لكان أعظم أركانه، ولو كان من حجر كان صلداً. أما والله ليهدن موتك عالماً، فعلى مثلك فلتبك البواكي» ثم قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون والحمد لله ربّ العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك، فان موته من مصائب الدهر، فرحم الله مالكاً، فقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطّنا أنفسنا أن نصبر بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فإنها من أعظم المصيبة». ثم نزل (عليه السلام) من المنبر كسير الخاطر محزون القلب وتوجّه الى بيته. وفي هذه الأثناء، تشرّف مشايخ قبيلة نَخَع (وهم أبناء عمومة مالك) بزيارة بيت الإمام لتعزيته، فوجدوه يتلهف ويتأسف عليه وهو يقول: «لله درّ مالك، وما مالك لو كان من جبل لكان فنداً، ولو كان من حجر لكان صلداً. أما والله ليهدنّ موتك عالماً وليفرحنّ عالماً، على مثل مالك فلتبك البواكي وهل موجود كمالك». قال علقمة النخعي: فما زال علي (عليه السلام) يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياماً. وجاء بعدها جمع من رجال قريش للتعزية أيضاً. وظل أمير المؤمنين حزيناً متألماً، فقال رادّاً على تعازي القرشيين: «مالك وما مالك، لو كان جبلا لكان فندا، ولو كان حجراً لكان صلدا، لا يرتقيه الحافر ولا يوفي عليه الطائر» وقال: «لا أرى مثله بعده أبداً».

لمحات من مناقب وفضائل مالك الأشتر ناصر الإمام عليّ وحبيبه: قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وصف مالك: «ليت فيكم مثله إثنان، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه». وقد علّق المحدِّث القمّي (رحمه الله) على هذه الرواية في الهامش قائلا: «إن عمرو بن الحمق الخزاعي الذي كان من حواري أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 407

ومشهوراً بالجلالة والفضل، بل قيل في حقه أنه كان من أمير المؤمنين بمنزلة سلمان من رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ليت أن في جندي مائة مثلك». لكنه قال في الأشتر: «ليت فيكم مثله واحد» فتأمل في ذلك ليدلك على مرتبة رفيعة وجلالة عظيمة للأشتر رضوان الله عليه.

المبحث الثاني: السمات العامة لعصر الإمام علي عليه السلام

لمّا قتل عثمان بن عفان أطبقت الاُمّة علي بيعة الإمام علي (عليه السلام) خليفة لها، ولكن الإمام ردّ عليهم بقوله: «دعوني والتمسوا غيري»، ولكنّهم أصروا عليه مراراً وبصورة إجماعية وحينئذ قال: «واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب». فسارعوا إلى قبول تلك الشروط وبايعوا الإمام على السمع والطاعة، وكانت المهمّة الاُولى له (عليه السلام) أن يزيل صور الانحراف المختلفة التي طرأت على الحياة الاسلامية، وأن يعود بالاُمة إلى منهج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فنراه (عليه السلام) حدّد صفات ولاة الأمر وموظّفي الدولة بقوله: «أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته؛ ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائِفْ للدُوَلِ فيتخذ قوماً دون قوم؛ ولا المرتشي في الحكم فيُذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيُهلك الاُمة».

هذا في الميدان السياسي والاداري، وأمّا في الميدان الاقتصادي فإنه (عليه السلام) سارع إلى إلغاء طريقة توزيع المال القائمة على التمييز في العطاء، وأبدلها بطريقة المساواة في التوزيع التي قد انتهجها رسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد اوضح بأنّ السابقة في الاسلام والتقوى والجهاد وصحبة الرسول (صلى الله عليه وآله) اُمور لا تمنح أصحابها

ص: 408

مراتب أو مميّزات في الدنيا، وإنّما لتلك المزايا ثوابها عند الله في الآخرة. وقد بين (عليه السلام) هذه الاُمور في كلام له تضمّن ما تقدّم، وجاء في آخره: «... وإذا كان غداً - إن شاء الله - فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم ولا يتخلّفنَّ أحد منكم عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلاّ حضر إذا كان مسلماً حرّاً».

وهكذا قرن (عليه السلام) القول بالفعل، ولمّا صار الغد دعا كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وقال له: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، واعط كل رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ثم ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن حضر من الناس كلهم: الاحمر والاسود فاصنع به مثل ذلك. إنَّ نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدالته مع الناس جميعاً، وعهده السياسي والإداري إلى مالك الأشتر يدعونا إلى تسليط الضوء على ذلك العهد وخصوصا فيما يرتبط منه بحقوق الانسان ذلك المصطلح الجديد القديم.

ص: 409

المبحث الثالث: مقتطفات من عهد الإمام علي عليه السلام ومحاكاتها مع الواقع الذي نعيشه في وقتنا الحاضر. ويتضمن عدة مطالب:

الأول: نبذه عن حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب (عليه السلام) وقد كانت له مكانة مرموقة في الإسلام اعز به الإسلام وأهله وأذل بها الكفر وأهله فهو عليه السلام ابن أبي طالب عم الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وجده عبد المطلب أميرٌ مكة وسيدٌ البطحاء وكان نسبه يعٌود إلى قبيلٌة بني هاشم وكانت من أعظم القبائل فهي المغرس المبارك ومعدن العلم ونٌبوعه فمنها كان الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وهو ابن عم علي (عليه السلام) وقد زوجه الرسول ابنته سيدٌة النساء فاطمة الزهراء أم الحسن والحسينٌ عليهٌم السلام، وقد لازم الإمام علي (عليه السلام) الرسول (صلى الله عليه وعلى اله وسلم) في صباه منذ كان فتيا ياٌفعا في غدوه ورواحه وفي سلمه وحربه، حتى تخلق بأخلاقه واتسم بصفاته فقد أكد ذلك الرسول (صلى الله عليه وعلى اله) عندما قال (أنا مدينٌة العلم وعلي بًابها فمن أراد المدينةٌ والحكمة فليأتها من بابها ) وفي هذا القول تأكيد على مدى رسوخ القيمٌ الإسلاميةٌ الساميةٌ لديه (عليه السلام) والتي اقتبسها من شخصية الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) (زویر، 2015، ص 516).

الثاني: الإمام علي (عليه السلام) وتطور مفهوم حقوق الإنسان.

أن مفردة حقوق الإنسان تمثل مجموعة القواعد التي تصان من خلالها الحقوق والحريات وبذلك نرى أن حقوق الإنسان صارت متعارفا عليهٌا بصفتها حقوقاً وحريات يجٌب التمتع بها من قبل جميع الإفراد في علاقاتهم مع غيرهم من الأشخاص أو مع الدولة، وان حقوق الإنسان لا تمثل مفهوما عاما مجردا ولكنها.

ص: 410

مرتبطة إلى حد كبير بطوائف فكرية وعقائدية وتاريخية ومن ثم لا يمكن الزعم بان ضمانات حقوق الإنسان في أوربا وأمريكا تمثل مفهوم الضمانات في الدول النامية ذلك أن العوامل السياسية والاقتصادية والعقائدية السائدة في الدول على اختلاف) أشكالها تؤدي أيضاً إلى تباينٌ واضح في تطبيق المبادئ العالمية لحقوق الإنسان والإسلام لم يغٌفل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان بل إننا لا يسٌعنا أن نفكر بأساسيات وأصول حقوق الإنسان دون الرجوع إلى ديننا الحنيف الذي أكد في أساسه الإنسان وحريته وكرامته وصونها من إي اعتداء عليها، وهو بذلك قد أضاف لتلك الحقوق طابعا اجتماعياٌ وجعلها أهدافاً حضاريةٌ يٌسعى الجميعٌ إلى تحقيقٌها فضلاً عن طابعها الديني (زوير، 2015، ص 517).

الثالث: مفهوم حقوق الانسان

الإنسان منذ ولادته ولدت معه حقوقه، ومادام الإنسان المخلوق الوحيدٌ القادر على الإبداع والتفكير فالحقوق ظهرت بوجوده وتطورت بتطور عقله، وبنضال الإفراد وشجاعتهم وعملهم الدؤوب من اجل حماية حقوقهم والحفاظ عليها خصوصا بعد إن أكدت عليها الكثير من الشرائع السماوية والحضارات القديمة فقد عمل الإنسان على الحفاظ على تلك الحقوق بالرغم من الانتهاكات الكثيرة التي تعرضت لها على مر التاريخ ولمعرفة ماه ةٌ مفردة حقوق الإنسان لابد من تجزئتها إلى مفردة) الحق (أولا والإنسان ثانيا فالحق هو كل مركز شرع من شأنه إن ينٌتفع به صاحبه او غيره، والحق هو قدرة شخص من الأشخاص على القيام بعمل معين منحه له القانون وكل حق يقابله واجب. فحقوق الإنسان هي: مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمٌتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته والتي تظل موجودة وان لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى وان انتهكت من قبل سلطة ما، وهناك من عرفها على أنها فرع خاص من الفروع

ص: 411

الاجتماعية تختص بدراسة العلاقات بينٌ الناس استنادا إلى كرامة الإنسان وهي تجديد للحقوق والرخص الضرورية لازدهار شخصية كل كائن إنساني، وكذلك تعرف بأنها: قدرة الإنسان على اختيار تصرفاته بنفسه، وممارسة نشاطاته المختلفة دون عوائق مع مراعاة القيود المفروضة لصالح المجتمع (نفس المصدر السابق).

الرابع: بعض المقتطفات من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه) والتي تركز على حقوق الانسان

كان الإمام أمير المؤمنين يحسم الحكم ككيان مجتمع الاطراف، معقود الحواشي حيث الإنسان الصالح للتطبيق الصالح وحيث الفرد الصالح في المجتمع الصالح فلا يوجد في حکومته الا من كانت لديه اللياقة الذاتية للحكم حسب سلوكه الطبيعي والاجتماعي وحسب ایمانه العقائدي فيما او كل اليه القيام به وفي ذلك قوله كما جاء في نهج البلاغة [اذا قوى الوالي في عمله حركته ولايته على حساب ما هو مركوز في طبعه من الخير والشر].

ويرى الامام ان المجتمع الفاضل موكول بالحكم الفاضل ولا يتأتى الحكم الفاضل بدون ولاة امر فضلاء يدركون موضعهم ويعملون بما يدركون وكما قال [من اراد ان يكون اماماً لغيره فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعلیم غيره ولیبدأها بسيرته قبل لسانه].

وكما يقال في أغلب الاحيان ان الناس على دين ملوكهم وسيرة ولاة امرهم فاذا تسامح الحاكم مع نفسه ولم يتقيد بما فرضه على الناس من واجب تسامح الرعية في العدل اتكالاً على سيرة ولي الامر، ولم يجعل الامام سلطته مطلقة ولا حكمه لازماً بلا قيد أو شرط وانما قيد نفسه بأكثر مما فرضه على غيره واطلق للناس حرية النقد والتعبير وبالطبع ان ذلك وارد لنزاهة الوالي بإفساحه المجال للامة على نقده وبهذا يصلح الراعي ولم يجعل للوالي من الحق الا بمقدار ما عليه من الواجب ومن اجرى الحق في الرعية جرى اليه، والحق لازم به ولازم عليه، وعلى ذلك هذا ما ورد في كلام امير المؤمنين في «نهج البلاغة

ص: 412

ص 223 شرح محمد عبده» وجاء فيه [اما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقاً بولاية امركم ولكم علىَّ من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق اوسع الاشياء في التواصف واضيقها في التناقض ولا يجري لاحد الا جرى اليه ولا يجري عليه الا جرى له] وكما هو ذكره مما جاء عنه في نهجه [أتأمروني ان اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه.] (الحاج مسلم).

ولعل عهد امير المؤمنين (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الاشتر (رضي الله عنه) من اكبر المصادیق على مراعاته عليه السلام لحقوق الانسان وبما ان التسميات التي اتسمت بها حقوق الإنسان قد اختلفت فالبعض صنفها على أنها حقوق أساسية وأخرى ثانوية وذلك بحسب أهميتها بالنسبة للإنسان، والبعض الأخر صنفتها على أنها حقوق فردية وحقوق جماعية وذلك حسب ما تمثله من أهمية ارتباط الفرد مع الآخرين داخل المجتمع. فإننا سنركز هنا على أهم الحقوق الأساسية في فكر الإمام علي (عليه السلام) ومفهومه لحقوق الإنسان فقد وضع الإسلام القواعد التي تضمن للإنسان حقوقه وتحافظ عليها ومن ابرز تلك الحقوق:

3. الحق في الحياة:

كان علي (عليه السلام) وكما ينقل لنا التأريخ احرص الخلفاء علي دماء الرعية وكان السلم والعفو هما الخيار الذي يلتجئ اليه الامام في حله لمشاكل الدولة الداخلية او الخارجية. وكانت انطلاقته وفق المعاير الإسلامية لا وفق الهوى منطلقا من الآيات التي تحرم قتل الناس من دون حق «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً...» سورة النساء اية 92 «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» المائدة 32 «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» الانعام 151. هذه الآيات كانت شاخصة امام الامام علي (عليه السلام) وهو يحكم الرعية وفي تثبيت نظامه وحكومته، لذلك ما كان ليرمي سهما في

ص: 413

الحرب او يبتدأ بحرب الا اذا ابتدئ بها فهو القائل: (لا نقاتلهم أي - اصحاب الجمل - حتى يقاتلونا). كما وكان حريصا في ترسيخ هذا المبدأ فباشر تفعيله عمليا من خلال ممارساته وأدائه السياسي مع معارضيه ونظريا وثقه في دستوره الذي ارسله الى واليه على مصر مالك الاشتر فقد قال له موصيا: [ولا تقوین سلطانك بسفك دم حرام]. و [ولا تكن عليهم سبعا ضاريا]. والذي يزيدك يقينا في حرصه على الدماء دون سفكها انه اعتاد ترويض شعبه ورعيته على انتقاد حتى الحكومة اذا ما تجاوزت حدودها واخذت تسفك الدماء بغير حق لمجرد المعارضة السلمية. (نهج السعادة ج 2 ص 485).

4. حق المساواة:

من اهم النصوص التي وردت في ذلك العهد والتي تبين بشكل جلي مراعاة امير المؤمنين (عليه السلام) للمساواة في الرعية ((واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكن غليهم سبعا ضاربا تغتنم اكلهم. فانهم صنفان اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق. وقد وضعت الفقرة الاخيرة من هذا القول على جدار في الامم المتحدة للدلالة على المساواة في الحقوق، والابتعاد عن التمييز.

5. حق العدالة:

واوضح مصداق لذلك قوله عليه السلام (وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية، وانهم لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم.. فافسح في امالهم، واوصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما ابلی ذووا البلاء منهم، فان كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل (الجبان) ان شاء الله.

ص: 414

6. حق الضمان الاجتماعي:

ونراه في قوله عليه السلام ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين، واهل البؤس والزمني، فان في هذه الطبقة قانعا ومعتزا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد، فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المهم. ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امرهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار الى الله يوم تلقاه فان هؤلاء من الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم، وكل فاعذر الى الله في تادية حقه اليه))

7. حق السكن واحترام الملكية الخاصة:

حيث اوصى مالكا بقوله (ولا تمسن مال احد من الناس مصل ولا معاهد) کما أشار عليه السلام الى اهمية اعمار الارض ((وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة اضر بالبلاد واهلك العباد، ولم يستقم امره الا قليلا.. فان العمران محتمل ما حملته.

8. حق التعبير والاجتماع وحرية الراي:

حيث اشار عليه السلام ((يا أيها الناس ان ادم لم يلد عبدا ولا امة ان الناس كلهم احرار)) اما وصيته لمالك الاشتر في هذا الجانب فقد قال عليه السلام (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما، فتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك واعوانك، احراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع) فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يقول: ((لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع)).

ص: 415

سابعاً: التوصيات

بعد هذا العرض الموجز لاهم المقتطفات التي تؤكد الدور البارز لأمير المؤمنين عليه السلام في التأكيد على حقوق الإنسان من خلال عهده المالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه لا يسعنا إلا القول بأننا بأمس الحاجة إلى تفعيل تلك الوصايا في وقتنا الحاضر خصوصا ونحن نرى ما نرى من انتهاك لحقوق الانسان ويمكن ان يتم ذلك في خلال:

1. النقد للحاكم إذا ما ارتكب خطأً، وهو دليل أيضاً على إعطاء الإسلام مساحة للرأي الآخر في ضمن الإطار والحد الإسلامي ان لا احد فوق القانون. والدفاع عن حقوق الفرد في العيش الكريم في ظل دولة عادلة لا يخشی بطشها.

2. عدم التساهل في الدماء وعدم الالتجاء إلى السيف والقبضة الحديدية في التعاطي مع من يعارضون الحكم مالم يلتجؤوا إلى العنف كوسيلة للتعبير عن الرأي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن يكون الحاكم عادلاً ومسلماً كعلي وأن لا يلزم من ذلك التهريج والفوضى أو عدم وجود التكافؤ أو المصلحة العليا للإسلام، وكل هذه القيود الاحترازية تحتاج معرفتها إلى عقول استراتيجية وعقول فتوائية تجتمع للوصول إلى الحكم في الأمر والبت في القضايا.

3. تحقيق العدالة والمساواة بين افراد المجتمع جميعا.

4. ابتعاد السلطة عن الترهيب والقمع وسياسة تميم الافواه.

5. ضمان حقوق الافراد في السكن الذي يحفظ کرامته.

6. العدالة في توزيع الثروات.

7. المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات.

8. أهمية اعداد فلسفة حديثة لمؤسساتنا التعليمية تستمد افکارها من الوصايا التي جاءت في عهد امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه) ليس فقط

ص: 416

فيما يتعلق بحقوق الانسان وانما تتناول كل الجوانب التي تطرق اليها عليه السلام في ذلك العهد حيث يعده الباحثون والمنصفون دستورا متكاملا لبناء الدولة على اساس العدل والمساواة.

9. توجيه القنوات التلفزيونية الفضائية والبرامج التعليمية ببيان الاثر الكبير لفكر أمير المؤمنين عليه السلام في هداية البشرية والارتقاء بها على مر العصور.

10. اقامة دورات تدريبية وعقد ندوات تخصصية لكل المعنيين بدراسة القانون الدولي والدساتير لحثهم وتوجيههم على الاستفادة من الافكار الواردة في ذلك العهد. لما له من مضامين فکرية فذة.

ثامناً: المقترحات

استكمالا لهذا البحث وتعميما للفائدة يقترح البحث اجراء بحوث ودراسات ضمن نفس المجال لغرض الاستفادة من التراث الكبير للدين الاسلامي الحنيف والافكار الربانية الخالدة لائمة أهل البيت عليهم السلام والتي تنبع من الخالق العظيم سبحانه وتعالى لغرض الاستفادة منها في تطوير المجتمع وبنائه على اسس رصينة لا ظلم فيها ولا تفرقة ولا استئثار بالمال والسلطة لفئة على حساب الفئات الاخرى.

وفي الختام فقد تناولت باختصار جانباً من سلطة الحق وحقوق الانسان في حكومة امير المؤمنين والتي كانت المثل الاعلى لإرساء قواعد العدل وبسط سلطة الحق ورعاية حقوق الانسان ونسأل الله ان يثيبنا اجراً على كتابة هذا المجهود المتواضع بحق مولانا اسد الله الغالب علي ابن ابي طالب (عليه السلام) انه سميع مجيب.

ص: 417

مصادر البحث:

1. القرآن الكريم

2. آل نجف، عبد الكريم (1999): الدولة الإسلامية دولة عالمية، مجلة المنهاج، العدد 14، بيروت.

3. التسخيري، محمد علي (1995): حقوق الإنسان بين الإعلانيين الإسلامي والعالمي، دار الثقلين، بيروت.

4. الجزائري، علي فاخر محسن (2010): رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان - دراسة تربوية مقارنة - رسالة ماجستير غير منشورة كلية التربية (ابن رشد) جامعة بغداد.

5. الحاج مسلم، سعدي جواد (ب.ت): اضواء على سلطة الحق والحقوق في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام).

6. خلف، حسام عبد الأمير (2004): دور المنظمات الدولية في حماية حقوق الإنسان، رسالة ماجستير غير منشورة، المعهد العالي للدراسات الدولية، الجامعة المستنصرية.

7. دکیر، محمد (1998): حقوق الإنسان في الإسلام من التأهيل إلى التقنيين، مجلة المنهاج، العدد 11، بیروت.

8. دي ميلو، سیر جو فيرا (2003): مبادئ تدریس حقوق الإنسان أنشطة علمية للمدارس الابتدائية والثانوية، جنيف.

9. الراجحي، صالح بن عبد الله (2004): حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في الشريعة الإسلامية والقانون والوضعي، مكتبة العبيكان، الرياض.

10. زویر، انتظار رشید (2015): الإمام علي عليه السلام ومفاهیم حقوق الانسان (حقوق المرأة انموذجاً)، مجلة واسط للعلوم الانسانية، المجلد 11،

ص: 418

العدد 30.

11. صالح، نبيل على (2003): رسالة الحقوق الأثر الخالد، مقال في مجلة المنهاج، العدد 31، بيروت.

12. الطعيمات، هاني سلیمان (2001): حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، دار الشروق، عمان - الأردن.

13.طي، محمد (2001): حقوق الطفل في الإسلام، مجلة المنهاج، العدد 22، بيروت.

14. عبد الحميد، عبد العظيم عبد السلام (2005): حقوق الإنسان وحرياته العامة وفقا لأحدث الدساتير العالمية والمواثيق الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة.

15. عمر، عماد (2000): سؤال حقوق الإنسان، عمان، الأردن.

16. فتحي، محمد (ب.ت): الفكر القانوني الاسلامي بين أصول الشريعة وتراث الفقه صفحة 304 - 306.

17. فهد، بدري محمد (1988): تاريخ الفكر والعلوم العربية، جامعة بغداد، كلية الآداب.

18. القرشي، باقر شریف (2005): الإسلام وحقوق الإنسان، دار الهدى.

19.هادي، رياض عزیز (2000): العالم الثالث وحقوق الإنسان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد.

ص: 419

ص: 420

المنطلقات الإنسانية والأخلاقية في رسالة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ.م.د خميس غربي حسين

العراق - جامعة تكريت - كلية الآداب

ص: 421

ص: 422

المقدمة

من المسلم به أن الإسلام نظام ايجابي، يدعو إلى إقامة دولة تكون في غاية العدالة، تقوم سياستها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبتعد نظامها عن كل ما يؤدي إلى استغلال الإنسان أو استعباده، ويبيح الإسلام للإنسان حرية القول والفعل في تغيير كل منکر يراه، والروح الإنسانية والأخلاق القويمة هي الأساس التي يقام عليها المجتمع، وهي كذلك المعيار الحسن لصلة الإنسان بربه وحسن تعامله مع أخيه الإنسان وتمام انسجامه مع نفسه.

وفق هذه المعايير، فإن الإسلام دين الإنسانية والمثل الأخلاقية السامية، جاء برسالة تفيض بالمحبة والإخاء والدعوة الصارخة لتحقيق إنسانية الإنسان، وقد ظهر أدب الوصايا في فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، فكان الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) أول من بدأ تحرير الرسائل والكتب إلى عدد من ولاة أمر المسلمين، وكان (عليه الصلاة والسلام) يوصي من تسند إليه وظيفة أو ولاية عامة، على ضرورة التعامل بالحسني والأخلاق الفاضلة مع من هم في إمرته.

واستمر هذا الأمر في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يشددون على حکام الولايات الإسلامية، وأمراء الجيش، أن يكون المعيار الأخلاقي والإنساني هو السبيل الوحيد لسياسة الرعية وقيادة الدولة، ولم يكن هذا المنهج ليطبق مع الرعية من المسلمين فحسب، بل امتد ليشمل جميع أفراد المجتمع على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وألوانهم وأعراقهم، مما يبين حالة إنسانية وأخلاقية في منهج الإسلام وسلوك أفراده ممن يؤتمن عليهم مسؤولية القيادة في الدولة الإسلامية.

تأتي أهمية الموضوع من كون رسالة الإمام علي (عليه السلام) تعد دستوراً عظيماً بحد ذاته، تضمنت الكثير من الأطروحات الناضجة في مجال السياسة، والإدارة، والقضاء،

ص: 423

فضلاً على ما حوته من منطلقات إنسانية وأخلاقية تمثل الأفكار الأساسية في المنهج الإسلامي القائم على سمو الروح الإنسانية والأخلاق الفاضلة، وهذه كانت صفة ملازمة لشخصية الإمام علي (عليه السلام)، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها عند الحديث عن أخلاق المسلمين ومنطلقاتهم الإنسانية.

عندما وصلت الخلافة إلى الإمام علي (عليه السلام) وارث الدوحة المحمدية، وهو الذي اشتهر ومنذ وقت مبكر من حياته بعدالته وصدق إيمانه، كانت المعايير الإنسانية والأخلاقية هي التي ترسم سلوكه في الحياة العامة، وسياسته مع الرعية، يتضح ذلك من عديد الوصايا والرسائل التي كان يوجه بها العمال والولاة على الأمصار الإسلامية. ولأن سياسة الدولة في مفهوم الإمام علي (عليه السلام) ليس في إطارها أضيق الذي يبغي تحقيق غاية ما، مهما كانت الوسيلة إلى ذلك، بل أن مفهوم القيادة والإدارة في منطلقات الإمام (عليه السلام) تبدأ من حيث الحفاظ على القيم السامية التي دعا إليها الإسلام، والمساهمة في مواجهة الانحرافات التي بدأت تظهر في المجتمع الإسلامي، ومن ثم تقويمها واستبدالها بقيم تتوافق مع روح الدين الإسلامي.

من المعلوم أن نصائح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) نابعة من إيمانه بمبادئ الإسلام الإنسانية والأخلاقية والتي كانت في معانيها تهدف إلى إقامة نظام اجتماعي يتصف بالعدل، كما تجعل الإنسان غاية سامية بعيداً عن الأطر الضيقة التي كانت تعيشها البشرية، ولأن هذا الدين، دين التناصح والأخوة والمحبة وهو، أي الإسلام، يعمل على توجيه الإنسان والأخذ بيده إلى طريق السعادة وتحقيق إنسانيته، وحيث أن كل إنسان لا يستطيع أن يعرف أخطاءه، أو قد يتغافل عنها لطبيعة في تركيب نفسيته؛ فإن الله تعالى ورحمة بعباده جعل من حق الأخ على أخيه أن يبصّره بعيوبه، وأن يكون له مرآة يرى من خلالها ما به من نقص، کما جعل مبدأ النصيحة شعار المجتمع

ص: 424

الإسلامي (1).

وانسجاماً مع ما سبق ذكره، فإن المؤسسات الإدارية والسياسية والقضائية والاقتصادية في منظور أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يمكن أن توضع فيها الأفكار والقضايا السياسية والقانونية والإدارية والخطط والبرامج والتوجيهات التي تحدد سياسة الدولة وترسم ملامحها وبأدق التفاصيل وهي تنحوا إلى هدف مهم وجوهري، ألا وهو خدمة الرعية وتحقيق سعادتهم، وهي كذلك، لا تخرج عن كونها قوانين وقرارات ومواقف واتجاهات تأخذ طريقها نحو التطبيق، في الواقع السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، من قبل الجهات المختصة بالتنفيذ والتطبيق في المجتمع، وعلى ذلك، يوصي الإمام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (2) (رضي الله عنه) ((فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأطهرهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبوا عن الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف))(3).

وكما هو معلوم، أن غاية الدولة في الفكر السياسي للإمام علي (عليه السلام) هي خدمة الرعية والسهر على راحتهم وليس في أن يتسلط الوالي أو الأمير على رقاب الناس أو كبحهم بالخوف، ولكن الغاية الأخيرةُ منها هو تحرر كل إنسان من الخوف طالما كان غير مقترف لذنب أو معصية أو اعتدى على الآخرين، كما يتضح من وصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) واليه على مصر بقوله: ((واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فأنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ))(4) وعند ذاك يعمل الفرد في دولة الإسلام بجو من الطمأنينة والأمن، ويعيش في وئام مع نفسه، وممن يحيط به من الناس، وهذه الفكرة التي كانت

ص: 425

في سلم أولويات القيادة عند الإمام علي (عليه السلام) نجد صداها عند الكثير من المفكرين الغربيين، كما ذهب إلى ذلك (وِل ديورانت) بقوله: ((إن الغاية الدولة ليست تحويل الناس إلى وحوش آلات صماء، ولكن الغاية تمكين أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن واطمئنان، وان ترشدهم إلى حياة تسودها حرية الفكر والعقل، كي لا يبددوا قواهم في الكراهية والغضب والغدر، ولا يظلم بعضهم بعضاً، وهكذا فإن غاية الدولة هي الحرية في المجتمع ))(5).

إن القارئ المدقق، والمتأمل للرسالة التي بعثها (عليه السلام)، إلى والي مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه)، سيجد أن الجوانب الإنسانية والأخلاقية تكاد تطغى على ما سواها، ولأن الجوانب الإنسانية والأخلاقية من هواجس الإمام علي (عليه السلام)، فكان الإمام (عليه السلام) يحاول أن يزرع في نفوس الولاة مبادئ وقيم الدين الإسلامي، التي تتضمن حب الخير، والتطلع للأفضل، فيما يرتبط بالعلاقات بين الولاة والرعية من المسلمين وغير المسلمين، والتي يجب أن تتحلى بالسلوك الحسن الذي يضمن السعادة لأبناء المجتمع. وهذا هو الذي صاغ الحياة الإسلامية، والفكر الإسلامي، وهو الذي قامت عليه حضارة الإسلام يوم قدر لها أن تسود العالم، وأن ترف راية الإسلام في الشرق والغرب.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الوثيقة ذات أبعاد عمومية، لأن هذه الرسالة وأن كانت موجهة إلى والي أحد الأمصار بعينه، إلا أنها تشمل كل من تسنم منصب، أو تولى أمر المسلمين في دولة الإمام علي (عليه السلام)، من هنا تتضح أهمية هذه الدراسة على المستوى الأكاديمي، والعلمي، والفكري، كون أن هذه الوثيقة تشکل دستوراً لبناء دولة الإنسانية، ومن هنا أيضا توجب على الدارسين والباحثين وقادة المسلمين المعاصرين أن يستفيدوا من دراسة هذا السفر السياسي الاجتماعي والقضائي والاقتصادي.

إن كلمة (منطلقات) التي جعلناها أحد مفردات عنوان هذا البحث نعني بها، كيف

ص: 426

أن الإمام علي (عليه السلام) كان يؤسس لبناء منظومة قيمية ذات منهج يرتكز في أساسه على الجانب الإنساني والأخلاقي، ويتجه قادة المسلمين وأولي الأمر لتكون الأخلاق الفاضلة عنوان فاصل بين دولة الإسلام ذات التعاليم الربانية، وبين دول التعاليم الوضعية، وهذا يعني أن الإمام علي (عليه السلام) كان ينطلق في تفكيره وأقواله وأفعاله ودعواته إلى منهج الإسلام بمصدريه: القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد اتضح ذلك في مفردات الرسالة التي خص بها أمير المؤمنين (عليه السلام) واليه على مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه).

اقتضت طبيعة هذه الدراسة تقسيمها على ثلاث مباحث، سبقتها مقدمة وانتهت بخاتمة، تضمنت المقدمة بيان أهمية الموضوع والإشارة إلى المنهج السياسي الإسلامي كذلك تكلمنا عن الأسلوب التي اتخذه الإمام علي في قيادة الدولة الإسلامية، من خلال الوصايا والرسائل والتوجيهات التي كان يسديها إلى الولاة وعامة الناس، أما المبحث الأول، فقد تضمن بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام)، وتطرق المبحث الثاني، إلى الجوانب الأخلاقية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، وتكلمنا في المبحث الثالث، إلى الجوانب الأخلاقية في العهد، وانتهت الخاتمة إلى بيان أهم النتائج التي توصلنا إليها في البحث.

ص: 427

المبحث الأول: بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام)

من المعلوم أن الدراسات التي تختص بفكر الإمام علي (عليه السلام) ولا سيما في الجانب السياسي تكتسب أهميتها ونوعيتها لأن الإمام علي (عليه السلام) من الشخصيات التي تركت أثراً كبيراً وعميقاً في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي(6)، وقد بين الإمام (عليه السلام) في أكثر من مناسبة أن قيامه بالأمر لم يكن ليحصل لولا أنه يريد إقامة العدل، ولم ينظر إلى منصب الخلافة على أنه منصب تشریف(7)، بل منصب تكليف لتحقيق الجوانب الإنسانية والأخلاقية التي دعا إليها الإسلام.

وإن الدارس لسيرة الإمام علي (عليه السلام) سيجد انه قضى شطراً كبيراً من حياته محاولاً بناء دولة الإنسان التي جل اهتمامها ينصب في الحفاظ على كرامته محدداً ذلك بضوابط منها العدل والقدوة الحسنة، فضلاً عن المساواة بين أفراد المجتمع من المسلمين وغير المسلمين ضمن الدولة الإسلامية، تبين ذلك من خلال الأقوال والأفعال التي صدرت عنه (عليه السلام)، وكانت سياسته حتى مع المعارضين له قائمة على الحوار والنقاش الهادئ البناء، يقول المفكر العربي طه حسين: ((لم يكن الإمام علي (عليه السلام) يستبيح لنفسه مكراً ولا كيداً ولا دهاء، كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يتحمل الحق مهما ثقلت مئونته، لا يعطي في غير موضع للعطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يجب أن يستقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء الإمام علي (عليه السلام) المكر لكاد، ولكنه آثر دينه وأبى إلا أن يمضي في طريقه إلى المثل العليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصر لله وللمسلمين، عن رضي واستقامة، لا عن كيد والتواء))(8).

وتظهر مسألة بناء شخصية الإنسان في المجتمع الإسلامي وفق المنظور العلوي،

ص: 428

عندما كان الإمام علي (عليه السلام) قدوة للرعية كي يكون كلامه يوافق فعله وتصرفه، رأى أبن عباس الإمام علي (عليه السلام) وهو يخصف نعله ((فسأله الإمام علي (عليه السلام) ما قيمة هذا النعل؟ فقال أبن عباس: لا قيمة لها، فقال الإمام: والله لهي أحب إلىَّ من أمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو ادفع باطلاً))(9).

كان منهج الإمام علي (عليه السلام) يرتكز في أساسه على تعاليم القرآن والسنة النبوية، وكان (عليه السلام) يقرر هذا المنهج قولاً وفعلاً، ويمكن تلمس ذلك من خلال حرصه على تطبيق الأحكام الشرعية بشكل فعلي في إطار التنظيم المالي والإداري إبان خلافته والتي تظهر بشكل واضح في خطبه ووصاياه إلى عماله(10)، ففي رسالة إلى محمد بن أبي بكر عندما وليَّ مصر أوصاه الإمام علي (عليه السلام) بتقوى الله والإحسان إلى الرعية، بقوله (عليه السلام): ((واني أوصيكم بتقوى الله فيما انتم عنه مسئولون، وعما أنتم إليه صائرون، فإن الله قال في كتبه (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (11)، فعليك بتقوى الله فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها ويدرك بها ما الخير ما لا يدرك بغيرها، من خير الدنيا وخير الآخرة))(13).

والإمام علي في دعوته للإصلاح يؤكد على أهمية الوعي بأخبار السالفين، والاستفادة من تجارب السابقين والأخذ منها، فيصبح الإنسان كأنه عاش معهم، ففي وصية لولده الإمام الحسن (عليه السلام) يقول ما نصه: ((بابني إني وإن لم أكن قد عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمارهم، وفكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلىّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره، واستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخیت لك جميله)) (13).

ص: 429

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) حريص جداً، في تحقيق المبادئ الإنسانية في ظل الخلافة الإسلامية، واتبع أساليب متعددة في سبيل تحقيق هذا الهدف منها، سياسة إرسال العيون إلى الأمصار لمتابعة عماله، فيشجع المحسن ويعاقب المسيء، يقول الإمام في وصيته لمالك الأشتر (رضي الله) عنه: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كل منهم ما ألزم نفسه))(14).

والإمام علي (عليه السلام) يريد بناء شخصية الوالي، من خلال العلاقة الطيبة مع الرعية والقائمة على التفاهم والانسجام بين الطرفين، وهذا يتحقق من خلال حسن ظن الوالي برعيته كي تزداد الثقة بين الطرفين. يظهر ذلك في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)، يقول (عليه السلام): ((واعلم أنه ليس شيءٌ أدعى إلى حسن ظن والي برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفهِ المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم، على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمرٌ يجتمع ل كبه حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده)) (15).

ص: 430

المبحث الثاني: الجوانب الإنسانية

يقودنا الحديث عن الجوانب الإنسانية في وصايا ورسائل الإمام علي (عليه السلام) إلى تأكيد أمر في غاية الأهمية، وهو أن الإسلام جاء ليرسي القيم الإنسانية في الأرض، ويخرج الناس من قهر العبودية والتسلط إلى فضاء الحرية والعدل والتعامل على أساس الأخوة الإنسانية، ونجد الخليفة علي (عليه السلام) يجسد هذا المعاني في أقواله وأفعاله، لا سيما في رسائله ووصاياه إلى الولاة، وقد تجسدت القيم الإنسانية في هذه الوصايا وفق مفاهيم تربوية وأخلاقية وإنسانية، منها مساعدة الضعفاء والفقراء، والتأكيد على حسن معاملة الرعية حتى من غير المسلمين، وفق منهج الإسلام الذي بني على الروح الإنسانية، والتي تتمثل في حق الرعية على الوالي، وحق الوالي على الرعية، ولعل ذلك من أهم المبادئ التربوية والأخلاقية والإنسانية التي جاء بها الإسلام.

وليس أدل على الجوانب الإنسانية في نهج الإمام علي (عليه السلام) هو إلغاءه للتميز في توزيع العطاء، والذي كان جزءاً من سياسة إصلاحية بعيدة المدى تنسجم مع مبادئ الإسلام (16)، إذ رأى (عليه السلام) أن التقوى والسابقة في الإسلام، والجهاد والصحبة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أمور لا تمنح أصحابها مراتب أو مميزات في الدنيا، وإنما لتلك المزايا ثوابها عند الله في الآخرة، ومن كان له قدم فإن الله تعالى يتولى جزاءه، أما في هذه الدنيا فإن الناس سواسية في الحقوق المالية في القضاء الإسلامي، وفي الواجبات والتكاليف(17).

إن ما ذكرناه آنفاً قد تجسد في عهود الإمام إلى ولاته، ففي وصيته إلى محمد بن أبي بكر، والي مصر دعوة إلى ضرورة التعامل مع الرعية بالحسنى، سواء كانوا مسلمين أو من أهل

ص: 431

الذمة، كما يأمره بالعفو عن الناس، يقول الإمام علي (عليه السلام) ((آمرك بتقوى الله، والطاعة في السر والعلانية، وخوف الله في الغيب، وباللين على المسلم، وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفوِ عن الناس، وبالإحسان ما استطعت))(18).

ومن وصاياه إلى عماله في ضرورة التعامل بروح الإنسانية التي جاء الإسلام لتحقيقها في المجتمع قوله (عليه السلام) إلى عدد من عماله: ((أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظةً وقسوةً، واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لن يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فلبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء. إن شاء الله))(19). والإمام (عليه السلام) كان يتحرى في تطبيق أحكام الشريعة ومحاسبة عماله، وتظهر شدته أن عامله (مصقلة بن هبيرة) لما أحس الخطر المحدق به آثر الهروب من مواجهة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بسبب خطأٍ اقترفه هذا العامل(20).

والجوانب الإنسانية في وصايا الإمام علي (عليه السلام) إلى عماله تظهر واضحة لكل دارس لسيرته (عليه السلام)، ففي رسالة إلى والي البصرة زياد بن أبيه تحذير من الاستئثار بأموال الرعية، وخيانة الأمانة التي كلف بها على اعتبار أن الذي يقوم بخدمة عامة في دولة المسلمين يجب أن يتبنى الروح الإنسانية في كل ما هو مؤتمن عليه(21)، ومن الجوانب الإنسانية في شخصية الإمام علي (عليه السلام) شدته في الحق، كتب إلى ابن عمه عبدالله بن عباس عندما ولاه البصرة ما نصه: ((فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همك لما بعد الموت. فكان أبن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين))(22).

إن المنطلقات الإنسانية التي نجدها عند الإمام علي (عليه السلام) في السلم والحرب على حد سواء فهو يوصي أتباعه قبل لقاء العدو بقوله: ((لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم،

ص: 432

فإنكم بحمد الله على حجةٍ، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم عليهم، فغن كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مديراً؛ ولا تصيبوا مُعوِراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسبين أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والنفس والعقول؛ إن كنا لنؤمر بالكف عنهن وإنهن لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة، فيعير بها وعقبه من بعده))(23)، وهذا يظهر الأبعاد الإنسانية والأخلاقية في منهج الإمام (عليه السلام) في تربية أعوانه على محاسبة أنفسهم والخوف من الله في كل صغيرة وكبيرة.

وتظهر العدالة الاجتماعية والمعايير الإنسانية في تأكيد الإمام علي (عليه السلام) على ولاته في أن يجعلوا في حساباتهم أن لا يكون هم العمال جلب الخراج فقط، بل الإنفاق على عمارة البلاد كي لا يلحقها التدهور والخراب، يتضح ذلك من قوله (عليه السلام): ((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علةً، أو انقطاع شرب، أو بالة أو إحالة أرض أغتمرها غرقٌ، أو أجحف بها عطش، خففت منهم بما ترجو أن تصلح به أمرهم... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر))(24).

كانت وصيته في التخفيف عن الفلاحين من أجل إصلاح أمرهم، لما يصيب الأراضي الزراعية من آفات، وهي في الوقت نفسه تظهر الفكر الراجح لدى الإمام علي (عليه السلام) في بناء مجتمع وفق منظومة إنسانية قائمة على الأخلاق وليس استغلال أصحاب الأراضي بالخراج، لأن ذلك سوف يعوض في الازدهار المرتقب، مستقبلاً وسيشعر الناس أن الدولة مهتمة بهم، وتساعدهم في حل مشاكلهم، وبذلك تكون معهم في الضراء والسراء.

ص: 433

المبحث الثالث: الجوانب الأخلاقية

تظهر الأخلاق الفاضلة عند الإمام علي من خلال وصاياه وفي أحلك الظروف، فعندما طعنه أبن ملجم أوصى (عليه السلام) أولاده والمقربين بكلام كله مثل وأخلاق، توضح عظمة شخصية الإمام علي (عليه السلام) ورسوخ مبادئ الإسلام في نفسه، قال (علیه السلام): ((وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئاً، ومحمد صلى الله عليه وآله، فلا تضيعوا سنة، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلا كم ذم، أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم، إن أبقَ فأنا ولي دمي، وإن أفنى فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة))(25).

إن الأخلاق الفاضلة عند الإمام علي تتجلى في وصاياه لعمالة وولاة أمر المسلمين ليتمسكوا بالقيم الإسلامية التي تدعو إلى سموا الأخلاق ومراعاة حقوق الناس وعدم البذخ والإسراف من بيت مال المسلمين ففي إحدى وصاياه إلى عماله يقول (عليه السلام): ((فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجوا أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين، وتطمع في نعيم الآخرة، وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة))(26).

ومن نافلة القول أن نشير هنا، إلى أن الإمام علي (عليه السلام) قد اتبع سياسة حازمة تتسم بالإنسانية والأخلاق الفاضلة نابعة من فهمه للإسلام ومبادئه، فكان يختار أعونه ومساعديه في إدارة الدولة ممن تتوافر فيهم صفات العدل والصدق والأمانة(27)، ويكتب لمن يعينه في منصب عام عهداً يقرأه على الناس في بداية ولايته، فإن انحرف عنه وجبت عليه العقوبة، وكان يراقب العمال مراقبة دقيقة، من خلال العيون التي كانت تنقل له

ص: 434

الأخبار عن الوالي في كلِ مصرٍ على حدة (28). ففي رسالة بعثها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبدالله بن عباس على البصرة يتضح فيها حزم الإمام (عليه السلام) وشدته في ضرورة أن يكون الوالي حريصاً على العدل والحفاظ على المال العام وعدم الجور على الرعية، يقول (عليه السلام): ((وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً، لأشدن عليك شدَّة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر؛ ضئيل الأمر والسلام))(29).

ومن أخلاق الإمام علي (عليه السلام) عدله في القضاء، وهذه سمة لازمت الإمام علي (عليه السلام) قبل تولي الخلافة وبعدها، يروى عن الإمام علي (عليه السلام) لما بعثه الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) قاضياً على اليمن وهو لا يزال شاباً، قوله: ((بعثني الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأنا شاب اقضي بينهم، ولا ادري ما القضاء، قال فضرب صدري وقال: اللهم ثبت قلبه وثبت لسانه، فو الذي فلق الحبة ما شكلت بعد ذلك في القضاء بين اثنين))(30). وقد بين الإمام علي منهجه في القضاء بقوله: ((الذليل عندي عزيز حتى أخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى أخذ الحق منه))(31)، وعدل الإمام علي (عليه السلام) هو المثال الإنساني الخالد في التعبير عن كلية العدل ووحدة فروعه في الأفكار وفي الممارسة، وفي العلاقة على الصعيدين الفردي والجماعي(32).

وفي عهده (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) والي مصر، هناك جوانب أخلاقية منها الدعوة إلى إقامة سلطان الإسلام المبني على العدل، وعدم المساومة في إحقاق حق، أو إزهاق باطل، يقول الإمام (عليه السلام): ((أنصفِ الله وأنصفِ الناسَ نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك هوى فيه من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد اللهِ كان اللهُ خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ

ص: 435

على ظلم، فإن الله يسمع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد))(33).

والجانب الأخلاقي في الرسالة يظهر بوضوح، عندما ينطلق الإمام علي (عليه السلام) في توجيه مالك الأشتر (رضي الله عنه) من منهج إسلامي أخلاقي أصيل، وروح إنسانية وثابة، في الدعوة إلى ضرورة توخي الحذر في تعامله وسلوكه وإدارته للبلاد، والابتعاد عن الأبهة والكبر، لأن الله سائله يوم القيامة عن جميع أعماله وأفعاله، يظهر ذلك من قوله (عليه السلام): ((فأعطهم من عفوك وَصَفحِك، مثل الذي تحب وترضى أن يُعطيك من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمرِ عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب اللهِ، فإن هلا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته))(34).

يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على أهمية رضا الرعية عن الوالي، وهذه بطبيعة الحال، لا تأتي من دون العمل والسهر من قبل الوالي على مصالح الرعية، وفي هذا یوصي الإمام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضي الله عنه) بالتوسط في جميع الأمور بغية الوصول إلى الحق الذي هو جزء من الأخلاق ((وليكن أَحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعيةِ، فإن سخط العامةِ يجحف برضا الخاصة، وإن سخطَ الخاصةِ يغتفرُ مع رضا العامة))(35)، وعلق مؤلف كتاب شرح نهج البلاغة على هذه الخاصية في الوالي بقوله: ((ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة، فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة، فأمّا إذا سخط العامة لم ينفعه رضا الخاصة، وذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه، وذوي الثروة من أهله، يلازمون الوالي ويخدمونه ويسامرونه، وقد صار كالصديق لهم، فإن هؤلاء ومن ضارعهم من حواشي الوالي وأرباب الشفاعات والقربات عنده لا يغنون عنه شيئاً عند تنكر العامة له، وكذلك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة، وذلك لأن هؤلاء عنهم

ص: 436

غنى، ولهم بدل، والعامة لا غنی عنهم ولا بدل منهم، ولأنهم إذا سغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج واضطرب، فلا يقاومه احد، وليس الخاصة كذلك ))(36).

لا ينحصر المفهوم الأخلاقي الإنساني عند الإمام علي (عليه السلام) في علاقة الوالي الايجابية بالرعية بل يتعدى ذلك إلى إقامة علاقة مبنية على المحبة لهم، يقول (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه): ((أطلق عن الناس عقدةَ كل حقدٍ، واقطع عنك سبب كل وترٍ، وتغابَ عن كل ما لا يضحُ لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ، فإن الساعيَ غاشٌ وإن تشبه بالناصحين)) (37)

الخاتمة والاستنتاجات

بعد أن أكملنا هذا البحث لا بد أن نضع خاتمة نبين فيها أهم النتائج التي توصلنا إليها، وهي الآتي: -

أولاً: - ظهر أدب الرسائل والوصايا في الحقبة المبكرة من تاريخ الإسلام، إذ أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يوصي ولاة أمر المسلمين بضرورة مراعاة حقوق الرعية والخشية من الله، ومحاسبة أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة، فضلاً عن ذلك، فقد بعث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بعدد من الرسائل إلى ملوك الدول المجاورة، يطلب منهم الدخول في الإسلام، واستمر هذا الأمر في عهد الحكام الثلاثة الأول، وكان الإمام علي (عليه السلام) لورعه وتقواه وخشيته من الله، معروفاً بكثرة رسائله إلى ولاته ومعارضيه يحذرهم فيه على مراعاة أوامر الله ونواهيه، ويحث على التعامل مع الرعية من منطلق الإنسانية والأخلاق التي دعا الإسلام إلى التمسك بها.

ثانياً: - لقد كان في رسالة الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه مالك الأشتر (رضيًّ الله عنه) دروساً وعبراً أراد الإمام (عليه السلام) أن يبين من خلالها جملةً من المفاهيم والقيم

ص: 437

الإنسانية والأخلاقية النابعة من فهم الإمام علي (عليه السلام) للدين الإسلامي الحنيف، وهذا ما يتضح في معظم فقرات الرسالة، التي تفيض عدلاً ومحبةً وإنسانية، والدعوة إلى التمسك بتعاليم الإسلام في الإدارة وسياسة الرعية.

ثالثاً: - ولأن الجوانب الإنسانية والأخلاقية من هواجس الإمام علي (عليه السلام)، فكان الإمام (عليه السلام) يحاول أن يربي ويزرع في نفوس الولاة مبادئ وقيم الدين الإسلامي، التي تتضمن حب الخير، والتطلع للأفضل، فيما يرتبط بالعلاقات بين الولاة والرعية من المسلمين وغير المسلمين، والتي يجب أن تتحلى بالسلوك الحسن، والمبادئ الإنسانية والأخلاقية التي تحقق السعادة لأبناء المجتمع. وهذا هو الذي صاغ الحياة الإسلامية، والفكر الإسلامي، وهو الذي قامت عليه حضارة الإسلام يوم قدر لها أن تسود العالم، وأن ترف راية الإسلام في الشرق والغرب.

رابعاً: - يعد عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الوالي مالك الأشتر (رضيَّ الله عنه) برنامج عمل، يصلح لإدارة دولة الإسلام في الوقت الحاضر، ذلك لما تضمنته من مقاصد منها، سعة العدل التي تجعل المجتمع خالياً من الظلم، وذلك بإرجاع الحق إلى المظلوم بانتزاعه من الظالم، وكذا الإحسان الذي يعني في منهاج الإمام علي (عليه السلام) أن يطبق القانون على الجميع دون تمييز ولو كان من خاصة بيت الإمام علي (عليه السلام).

خامساً: - الحرص على أموال المسلمين وتوزيعها بالعدل دون النظر لقرابة أو عرق أو مذهب أو اتجاه فكري، كي لا تكون الأموال دولة بين طبقة محددة وطبقة من أبناء المجتمع، وهذا ما يحصل في الوقت الحاضر في العديد من الدول التي تدعي أنها تدين بالإسلام، دين الأخلاق الفاضلة والمبادئ الإنسانية وهذا المنهج طبقه الإمام (علیه السلام) على نفسه وأهل بيته وقرابته أولاً.

سادساً: - في عهد الإمام (عليه السلام) برنامج عمل، وخطط تنموية لبناء شخصية

ص: 438

الفرد المسلم، تصلح لسياسة وإدارة الدول الإسلامية في الوقت الحاضر، وعلى ولاة الأمر في هذه الدول الانتباه لما حوته هذه الرسالة واستنطاقها لأنها منطلق الإصلاح ودستور حياة، وإقامة ورش عمل وندوات تثقيفية، لا سيما في بلدِ مثل العراق تتقاذفه الأمواج، ولا يعرف ولاة الأمر فيه كيف السبيل للخلاص من هذه المحنة التي يعيشها أبناءه، ونحن هنا نرى أن يوزع كراساً من عهده على جميع المسئولين وأعضاء البرلمان في العراق ليطلعوا على هذه الوثيقة المهمة.

سادساً: - نجد في العهد أدلة تبين حرص الإمام علي (عليه السلام) في المحافظة على أموال المسلمين، وإقامة العدل بينهم، فضلاً عن زهده (عليه السلام)، والمساواة بين الناس على اختلافهم، ولا غرابة في ذلك، فالإمام علي (عليه السلام) لا يخضع لعاطفة، أو مساومة لأن منهجه مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

ص: 439

ثبت المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

أولاً: - المصادر الأولية.

1 - ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 2، (القاهرة / 1967 م).

2 - أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مراجعة وتحقيق: لجنة إحياء التراث منشورات دار مكتبة الحياة، (بيروت / د.ت).

3 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، المطبعة الحسينية، (القاهرة / 1917 م).

4 - الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن: ألآمالي، قدم له السيد محمد باقر بحر العلوم، مطبعة النعمان (النجف / 1964م).

5 - القلقشندي، أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد: معالم الأنافة في معالم الخلافة، تحقيق: أحمد عبد الستار فراج، وزارة الإرشاد، (الكويت / 1964 م)، ج 1، ص 103.

6 - اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي، مطبعة أمير، (طهران / 1952 م).

ثانياً: - المراجع.

1 - صمد محمد الصمد: نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، (بيروت / 1994 م).

2 - طه حسين: علي وبنوه، دار المعارف للطباعة، (مصر / 1965 م)

3 - عبد الرضا الزبيدي: في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي، ط 1، (لا.ب / 1998 م).

4 - عبد الزهرة عثمان: العدالة الاجتماعية عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - صور ومصاديق- المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخية، (البصرة / 2003 م).

ص: 440

5 - عبد الوهاب التازي سعود: الأخلاق الإسلامية، مراجعة: محمد المكي الناصري، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ط 2، (الرباط / 1991 م).

6 - عزيز السيد جاسم: علي سلطة الحق، منشورات الاجتهاد، (قم / 2007 م).

7 - محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار، دار المعارف للمطبوعات، ط 1، (بيروت / 1421 ه).

8 - محمد طي: الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط 2، (النجف / 1997 م).

9 - محمد عبده: شرح نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي، (بيروت / د.ت).

10 - وِل ديورانت: قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، ط 3، (بيروت / 2004 م).

ثالثاً: الرسائل والاطاريح الجامعية.

1 - علاء كامل صالح العيساوي: النظم المالية والإدارية في عهد الإمام علي، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة البصرة / 2005 م.

ص: 441

الهوامش:

1. عبد الوهاب التازي سعود: الأخلاق الإسلامية، مراجعة: محمد المكي الناصري، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ط 2، (الرباط / 1991 م)، ص 23.

2. هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك ابن النخع بن عمرو بن عٌلة بن خالد بن مالك بن أدد، وقد وصفه الإمام علي عند توليته الإمارة على الجيش بقوله: وقد أمرت عليکما وعلى من في حیز کما مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجنا، فإنه ممن لا يخاف وهنه، ولا سقطته، ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل. (ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط 2، القاهرة / 1967 م، ج 15، ص 98).

3. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مراجعة وتحقيق: لجنة إحياء التراث منشورات دار مكتبة الحياة، (بيروت / د.ت) مج 5، ص 38.

4. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 24.

5. قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، مكتبة المعارف، ط 3، (بيروت / 2004م)، ص 148.

6. عبد الرضا الزبيدي: في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي، ط 1، (لا.ب / 1998 م)، ص 207.

7. محمد طي: الإمام علي ومشكلة نظام الحكم، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط 2، (النجف / 1997 م)، ص 40.

8. علي وبنوه، دار المعارف للطباعة، (مصر / 1965 م)، ص 121.

9. ابن حديد: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 176.

ص: 442

10. علاء كامل صالح العيساوي: النظم المالية والإدارية في عهد الإمام علي، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة البصرة / 2005 م، ص 16.

11. سورة الحجر، آية: 91.

12. الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن: ألآمالي، قدم له السيد محمد باقر بحر العلوم، مطبعة النعمان (النجف / 1964م)، ص 25.

13. محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار، دار المعارف للمطبوعات، ط 1، بيروت / 1421 ه)، ج 74، ص 201.

14. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 33.

15. ابن أبي حديد: نهج البلاغة، مج 5، ص 34.

16. عبد الزهرة عثمان: العدالة الاجتماعية عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - صور ومصاديق - المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخية، (البصرة / 2003 م)، ص 11.

17. عبد الزهرة عثمان: العدالة الاجتماعية عند الإمام علي، ص 11.

18. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، المطبعة الحسينية، (القاهرة / 1917 م)، ج 3، ص 239.

19. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 137.

20. القلقشندي، أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد: معالم الأنافة في معالم الخلافة، تحقيق: أحمد عبد الستار فراج، وزارة الإرشاد، (الكويت / 1964م)، ج 1، ص 103.

21. اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي، مطبعة أمير، (طهران / 1952 م)، ج 2، ص 201.

22. اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 205.

23. شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 104.

ص: 443

24. نهج البلاغة، ص 556 - 558.

25. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 143.

26. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 19.

27. صمد محمد الصمد: نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، (بيروت / 1994 م)، ص 153.

28. صمد محمد الصمد: نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص 153.

29. شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 138.

30. جعفر النقدي: الأنوار العلوية والأسرار المرتضوية، المطبعة الحيدرية، ط 2، (النجف / 1961 م)، ص 91.

31. محمد عبده: شرح نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي، (بيروت / د.ت)، ج 1، ص 89.

32. عزيز السيد جاسم: علي سلطة الحق، منشورات الاجتهاد، (قم / 2007 م)، ص 417.

33. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 26.

34. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 24 - 25.

35. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 26.

36. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 27.

37. ابن أبي حديد: شرح نهج البلاغة، مج 5، ص 27.

ص: 444

المحتويات

حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام)

في عهد مالك الاشتر (قراءات في نماذج)

مقدمة...7

المبحث الأول: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في عهد مالك الأشتر...9

المبحث الثاني: قراءات في نماذج لحقوق الإنسان...13

الخاتمة:...18

الهوامش...20

المصادر...24

ركائز التضامن والوحدة في العراق بين الماضي والحاضر

(عهد الإمام علي عليه السلام) أنموذجاً

تعدد الدعوات المعاصرة:...30

أهداف المؤتمر من وجهة نظرنا:...31

تمهيد بين يدي الموضوع...33

أما دعوه التضامن والوحدة الوطنية والإسلامية:...34

ص: 445

الركيزة الأولى: تكوين الإنسان وسنن الحياة...35

الركيزة الثانية: منهج القانون والتشريع الإسلامي السمح...38

(1) ففي الصلاة:...39

(2) وفي الصيام:...40

(3) - أما الزكاة:...40

أما الحج وهو الركن الأعظم:...40

الاجتماعيات:...41

وهناك مجال الحكم في سلطاته الثلاث:...43

الركيزة الثالثة: واقع الحياة الذي نعيشه والتيارات السياسية التي حولنا...45

وحدة العراق المنشودة:...47

أولاً: التعريف بمالك الأشتر:...48

ظروف ومصادر وسند «عهد الأشتر»...49

ثانياً: أهداف العهد وأهم موضوعاته...50

تطبيق العدالة:...52

حول القضاء:...53

الخاتمة...54

الهوامش...56

المصادر...57

ص: 446

القيم الأخلاقية الفاضلة للقائد الرسالي في فكر الأمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (علیه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

وتوظيفها في مؤسسات الدولة مستقبلا / دراسة تحليليه

الفصل الاول: مدخل عام شامل...61

الفصل الثاني: القيم الأخلاقية الفاضلة بصورة عامة ونظرة الاسلام لها بصورة خاصه...69

الفصل الثالث: القائد وطبيعة القيادة...82

الفصل الرابع: القائد الرسالي والقيم الأخلاقية الفاضلة التي ينبغي ان يحملها في فكر الاسلام...89

الفصل الخامس: القائد والقيادة للأمام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)...91

الفذة عبر التاريخ

الفصل السادس: القيم الأخلاقية الفاضلة الموجهه من قبل الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (علیه السلام) الى مالك الاشتر النخعي (رضي الله عنه) دراسة تحليليه...99

الاستنتاجات...116

التوصيات والمقترحات...118

المصادر...119

صلاح الراعي وإصلاح الرعية قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...125

المقدمة: للتعريف بالبحث...127

ص: 447

المدخل...128

مالك الاشتر (رضي الله عنه):...128

عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر:...134

معنى العهد لغةً:...134

معنى العهد اصطلاحا:...134

أهمية مصر:...135

المبحث الأول: صلاح الراعي...138

الصلاح لغةً:...138

الصلاح اصطلاحا:...138

المبحث الثاني: إصلاح الرعية...149

الإصلاح لغةً:...149

الإصلاح اصطلاحاً:...149

الرعية:...151

تعريف الرعية لغة:...151

أولاً: علاقة الراعي بالرعية...152

ثانياً: علاقات الرعية مع بعضها (طبقات الرعية)...157

الخاتمة...166

الهوامش...167

قائمة المصادر والمراجع...183

ص: 448

الإمام علي (عليه السلام) يؤسس لأول دولة مدنية

المبادئ والحريات والحقوق الإنسانية

مشكلة البحث:...193

فرضية البحث:...193

مخطط البحث:...193

تقدمة...194

الفصل الاول: أسس الدولة المدنية...196

تمهید...196

أسس الدولة المدنية...197

ملامح المدنية الجديدة...198

مشروع السجون الإصلاحية...199

أسس الحكم الديمقراطي الاسلامي...202

الفصل الثاني: الحقوق والحريات في عهد الأمام علي عليه السلام...204

مدخل...204

التعددية وقبول الآخر...205

حرية التعبير عن الرأي...206

حرية المعتقد...207

العدالة الاجتماعية...208

حقوق المرأة...209

أخريات...211

ص: 449

الخاتمة...212

الهوامش والإحالات...214

الهوامش...215

حقوق الانسان في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)

لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث:...219

التوصيات:...220

المبحث الاول: حقوق الانسان مفهومها وخصائصها...221

مفهوم حقوق الانسان:...221

نشأة حقوق الانسان:...221

المبحث الثاني: حقوق الانسان في الشريعة الإسلامية...225

مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:...226

خصائص حقوق الإنسان في الإسلام:...228

1 - حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية:...228

2 - حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:...228

3 - حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع البندوق:...228

4 - حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل:...229

5 - حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية:...229

ص: 450

مقارنة بين المواثيق الدولية وحقوق الانسان في الشريعة الاسلامية:...229

أولاً: من حيث المصدر...229

ثانياً: من حيث الإلزامية...230

ثالثاً: من حيث الأسبقية...230

رابعاً: من حيث حماية حقوق الإنسان وضماناتها في الإسلام، وفي الوثائق الدولية...231

رابعاً: من حيث الشمول...232

المبحث الثالث: حقوق الانسان في عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)...234

لواليه على مصر مالك الأشتر...234

مسند عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر:...234

بداية العهد وبنوده...235

بنود في العهد...237

الخاتمة:...248

المبحث الرابع: النتائج والتوصيات...262

مصادر البحث:...264

الهوامش...266

الفقراء وذوو الاحتياجات الخاصة

بين عهد الإمام علي لمالك الأشتر والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

ملخص البحث...271

حقوق الإنسان بين الإمام علي (عليه السلام) الإعلان العالمي...272

ص: 451

وهنا يجدر الانتباه إلى أمور مهمة هي:...275

إهمال الاعلان العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة...279

الفقراء وذوو الاحتياجات الخاصة في عهد الإمام علي (عليه السلام)...282

الخاتمة...293

نتائج البحث...296

هوامش البحث...297

مصادر و مراجع البحث...301

حقوق الإنسان.. جدل النظرية وإشكالية الممارسة

(حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) إنموذجا)

المقدمة...309

المبحث الأول: لمحة في تاريخ حقوق الإنسان...311

أولا: تعريف حقوق الإنسان...311

ثانیا: حقوق الإنسان في الفكر الشرقي القديم...312

ثالثا: حقوق الإنسان في الأديان السماوية...317

رابعا: حقوق الإنسان في العصر الحديث...323

المبحث الثاني: حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده لمالك الأشتر (رضي الله عنه)...327

أولا: الحقوق المدنية...328

حق العمل والملكية الخاصة:...328

ص: 452

الضمان الاجتماعي:...330

حرية التنقل والسكنى:...332

حرية الاعتقاد:...334

حق الحياة:...335

العدالة:...337

ثانيا: الحقوق السياسية والقضائية...341

الحقوق السياسية:...341

الحقوق القضائية...347

الخاتمة...350

الهوامش...354

المصادر:...361

حقوق الانسان في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...367

اهمية حقوق الانسان...368

حقوق الانسان لدى الامام علي (عليه السلام)...370

الخاتمة...378

المصادر...380

ص: 453

حق المواطنة والحريات العامة

في ضوء عهد الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...383

المواطنة والحريات العامة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)...384

الخاتمة...390

الهوامش...392

حقوق الإنسان في الإسلام

عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) (انموذجا)

الملخص...395

أولاً: مشكلة البحث...397

ثانياً: أهمية البحث:...399

ثالثا: اهداف البحث...404

رابعا: حدود البحث:...404

خامسا: منهج البحث:...404

سادسا : مباحث البحث:...404

المبحث الاول: مقتطفات من حياة مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه...405

في السيرة الذاتية: لمالك بن الحارث الأشتر النخعي...405

المبحث الثاني: السمات العامة لعصر الإمام علي عليه السلام...408

المبحث الثالث: مقتطفات من عهد الإمام علي عليه السلام ومحاكاتها مع الواقع الذي

ص: 454

نعيشه في وقتنا الحاضر. ويتضمن عدة مطالب:...410

الأول: نبذه عن حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)...410

الثاني: الإمام علي (عليه السلام) وتطور مفهوم حقوق الإنسان...410

الثالث: مفهوم حقوق الانسان...411

الرابع: بعض المقتطفات من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) والتي تركز على حقوق الانسان...412

سابعاً: التوصيات...416

ثامناً: المقترحات...417

مصادر البحث:...418

المنطلقات الإنسانية والأخلاقية

في رسالة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...423

المبحث الأول: بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام)...428

المبحث الثاني: الجوانب الإنسانية...431

المبحث الثالث: الجوانب الأخلاقية...434

الخاتمة والاستنتاجات...437

ثبت المصادر والمراجع...440

الهوامش:...442

ص: 455

المجلد 9

هوية الکتاب

نظام الحکم و ادارة الدولة ضوء في عهد الامام امیر المؤمنین علیه السلام مالك الاشتر رضی الله عنه أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول المؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة

ص: 1

ISBN 9789933582395 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1214 لسنة 2018 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLIrda رقم تصنيف LC BP38.02.M8 N5 2018 المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1: 2016: كربلاء، العراق). العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الاول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله / بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة. بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجرافي في 10 مجلد مادي؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية: (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الأخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي. تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. موضوع شخصي:

الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير. مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: النظام الإداري في الاسلام - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات. مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات. مؤلف اضافي:

شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة. اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق). عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1) نظام الحکم و ادارة الدولة ضوء في عهد الامام امیر المؤمنین علیه السلام مالك الاشتر رضی الله عنه أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة لسنة 1438 ه - 2016 م (المحور اللغوي والأدبي) الجزء التاسع اصدار ا 7 مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الالكتروني: www.inahj.org الايميل: Inahj.org@gmail.com تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

استراتيجيّة الحجاج التواصلي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) (مقاربة تداولية)

اشارة

أ. د. علي كاظم المصلاوي أ. د. كريمة نوماس المدني جامعة كربلاء / كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 5

ص: 6

المدخل

مفهوم الحجاج التواصلي

إن اللُّغة لاتظهر خصائصها إلاَّ من خلال (المُنجز التلفظي) في سياق معين، فالتلفظ هو عبارة عن فاعلية اجتماعية تنشأ بين شخصين منتميين عضوياً الى مجتمع ما. هذا يقتضي ان يقع كل تلفظ في نمط إطار معين أو اكثر يُطلق عليه (خطاب).

ومن هنا عُرف إميل بنفنست (E-Benvensite) الخطاب إنّه: ((كل تلفظ يفترضُ متكلماً ومستعملاً، وعند الأوّل هدف التأثير على الثاني بطريقةِ ما)) (1).

ويُحاول بنفنست أن يجسّدّ العلاقة التأثيرية بين مُنتجِ الخطاب ومتلّقيه استناداً الى طريقةٍ ما، وهذه الطريقة هي ما نطلق عليها مُصطلح (الأستراتيجية)، ويُقصد بها: ((مجموع عمليات المعالجة الموّجهة الى هدف، والجارية عند وعي إنتاج الخطاب)) (2).

وكل محاولة للوصول الى أهداف معينة لا يتم إلاّ من خلال (فعل التلفظ) وهو فعل لغوي موّجه لشخص آخر تتضمنهِ خطة وأبعاد تأويلية وهذه العملية التفاعلية - الإجتماعية لا تتم إلاّ من خلال وظيفة التواصل.

ولذا تُعدُ الوظيفة التواصلية من أهمّ وظائف اللّغة كونها تسمح لمستعمليها بالدخول في علاقات مع بعضهم البعض؛ فهي تكون غالباً متعلقة: ((بالبُعد الاجتماعي للمتخاطبين، وفيها يتمُّ تحديد زاوية المتكلم ووضعه، وأحكامه، وتشفيره وهو لا لدور علاقته في المقام، وحوافز قوله لشيء ما في علاقته مع المخاطب)) (3).

ويرى علماء اللسانيات، ولعل من أبرزهم في هذا المجال هو العالم اللساني فيليب بروتون، إن الحجاج هو من أبرز أشكال التواصل مع الآخر من أجل التأثير، وهذا التأثير ينتجُ من خلال استعمال وسائل مختلفة، وذلك في قوله: ((الحجاج وسيلة

ص: 7

قوية يهدفُ الى تقسيم وجهة النظر مع الغير، والذي يمكن أن تكون نتائجه التأثير؛ مُستَبعِداً ممارسة العنف، مستعيناً بالإغواء أو البرهنة العلمية)) (4).

فالحجاج التواصلي يمثلُ دراسة العلاقة بين مصطلحي أو فهوميّ (الحجاج) و (التواصل) عبرَ دراسة أثرهما في الاستعمال التداولي، أي اننا ندرس الحجاج بعدهِ لغة تداولية - اقناعية، ولذا عُرّف الحجاج بأنه: ((حاملٌ نصیٌّ من مكونات مختلفة تتعلق بمقامٍ ذي هدف اقناعي)) (5). والتواصل هو الفاعلية الاجتماعية بين أطراف هذا التواصل، وقد عدّ دايفيد لوبیس التواصل انتاجاً و تأويلاً للمعطيات، فهو إجراء يضعُ طرفين في معالجة المعلومة، ولهذا سُمّي منوالاً استدلالياً زيادة على صفة الإفادة التي تلازم الحدث التواصلي بعده مبدأً مركزياً لتحقيق نجاعة الملفوظ (6).

فعملية التواصل التي تشمل أطراف مستعملي اللَّغة التداولية كل من: المرسل والمرسل إليه، والرسالة، والسياق. وهنا تكمن أهمية المنهج التداولي في احتوائِهِ أطراف العملية التواصلية، فدراسة العلاقة التخاطبية بين مستعملي هذه العلامات اللغوية يعني الجمع بين جانبين مهمين هما: التواصل والتفاعل، ولذا يُعدّ الحجاج عنصراً مهماً وشکلاً من أشكال التواصل والتخاطب.

فهو: ((ظاهرة اجتماعية وثقافية له علاقة بالاستدلال والمنطق ومحایث لنظام اللغة الداخلي، ومنفتح على العالم الخارجي، و مرتبط بدواعي القول)) (7).

وتقومُ العملية التواصلية بحسب تصوِّر جاكسبون على ستة عوامل هي (المرسل، الرسالة، المرسل اليه، السُنن المرجع، والقناة)، وكل عنصر تقابله وظيفة معينة (التعبيرية، الانتباهية، الإِفهامية، المرجعية، وظيفة ما وراء اللغة، و الوظيفة الشعرية) (8).

وتجدر الإِشارة الى أن السياقات القائمة على التواصل في الخطاب الحجاجي متنوعة ومتعددة، فهذا يستتبع بالضرورة تنوّعاً في الاستيراتيجيّات، فما يكون مناسباً

ص: 8

في سياق معين قد لا يكون كذلك في سياق آخر، وهكذا تأخذ الاستراتيجية بُعدين: (9) الأوّل: البُعد التخطيطي: وهو الذي يتحقق على مستوى الذهني.

الثاني: البُعد المادي: وهو الذي يتحقق على مستوى الفعل مجسداً الاستراتيجيّة.

ویری د. طه عبد الرحمن أنه كلما كان الحجاج تواصلاً، فاننا نحصل على ثلاثة نماذج تواصلية للحُجة وهي على النحو الآتي: (10)

أ- النموذج الوصلي للحُجة:

تكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة وصل، إذ يُعامل الحُجة معاملة البناء الاستدلالي المستقل الذي تكون عناصره موصولة وصلاً تاماً.

ب- النُموذج الإيصالي للحُجة:

وتكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة إيصال لانه يجعل من الحُجة فعلاً استدلالياً يتوجه به المتكلم الى المستمع.

ج- النموذج الاتصالي للحُجة:

تكون فيه الوظيفة التواصلية للحُجة وظيفة اتصال، اذ يُنظر في الحُجة بوصفها فعلاً مشتركاً، بين المتكلم والمستمع، جامعاً بين توجيه الأوّل، وتقويم الثاني.

وهذا يدلُّ على سعة العملية التواصلية للحجاج وعمقها وشموليتها ليشمل كل هذه الأطراف. فأنجع الحجاج ما وفِّق في جعل حدَّة الاذعان تقوی در جتها لدى المتلقي او المستمع بشكل يحمله على المطلوب انجازه، أو الامتناع عنه، وتحقيق الإقناع في منطقة وسطى بين الاستدلال والإقناع (11).

وإذا كان الإقناع مجال البحث الحجاجي، فان التواصل هو الفعل الانجازي

ص: 9

الأهم في الوظيفة الحجاجية حيث تتطلب وعياً بآليات من شأنها تحريك المعنيين بالكلام صوب الفعل وتغييره بما ينسجمُ مع المقام، وتتطلبُ مقاصد النصّ وطموحات الخطيب بوصفهِ مفكراً وحاملاً لرؤية معينة يسعى الى إرسالها أو جعلها راجحة في مواجهة أخرى مناوئة (12).

وتجسدّ في خطاب أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه على مصر، استراتيجيّات عدة أهمها، وأكثرها حضورا، الاستراتيجية التضامنية، والاستراتيجية التوجيهية.

ص: 10

المحور الاول: الاستراتيجية التضامنية:

وتُعرفّ بأنها: ((الاستراتيجيّة التي يُحاولُ المرسل فيها أن يجسّد درجة علاقته بالمرسل إليه ونوعها، وإن يعبر عن مدى احترامه لها ورغبته في المحافظة عليها أو تطويرها بإزالة معالم الفروق بينهما... والتقرب من المرسل إليه وتقريبه)) (13).

وفيها يكون طرف العملية التواصلية (المرسل - المرسل إليه) من الأقران لغة التأسيس العلاقة الودِّية بين طرفي الخطاب، ولتفعيل التضامن في علاقات المجتمع وكسب المحبة والتودد بينهم وبين حاكمهم، وتحسين صورة الخلفية أو راعي الرعية.

وتتجسد الاستراتيجيّة التضامنية من خلال علامات لغوية معينة تشير الى رغبة المرسل في التضامن مع المرسل إليه، مما يجعله يستنتج انَّ المرسل قدّم تنازلات عن سلطتِهِ التي يتمتع بنفوذها (14).

وتُعدُّ هذه العلامات اللغوية من الوسائل اللسانية التي يجعلها المرسل علامة لتوجيه الخطاب الى المرسل إِليه من الناحية النفسية والاجتماعية، وهذه تشملُ (الضمائر، الأسماء، الاعلام، الألقاب، الکُنی)، التي تمثلُ كلاً من علامات التضامن بين طرفي الخطاب.

ولعل من أبرز الأمثلة التي تضمنت الاستراتيجية التضامنية في كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر قوله (عليه السلام):

((ثم أعلم يا مالك، أنَّي قد وجهّتك الى بلادٍ قَد جرت عليها دُولٌ قبلك بين عدلٍ وجورٍ، وإنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ماکنت تقول فيهم، وإنما يُستدلُّ على الصالحين بما يجري الله لهم على

ص: 11

ألسنِ عباده)) (15).

إنَّ من شأن هذه الاستراتيجيّة ان تساوي بين درجات أطرافه وإنَّ تقلّص المسافات المتباعدة بين النفوس، فتؤثر في طبيعة العلاقة الاجتماعية بين الطرفين، وهنا تحقق للتضامن سمته الغالبة في الاحترام والتهذيب والتودد لكسب الطرف الآخر، وقد برز هذا النوع في الخطاب التضامني لأمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك حين بدأ قوله ((واعلم يامالك...،) فتوظيف الاعلام من آليات الحوار التضامني المتسم بالتخلق والتواضع من دون اعتبار للسلطة العُليا التي يتمتعُ بها.

فيقول (عليه السلام): ((يا مالك، وانَّ الناس ينظرون إليك في مثل ما کنت تنظر اليهم، وانما يستدل الله على ألسن عباده على الصالحين)).

كلها علامات إشارية تجسد درجة التضامن من التعامل الأخلاقي: ((لان للتعامل الأخلاقي الأولوية في الاستراتيجيّة التضامنية، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن ب (التخلّق)) (16).

ومن أمثلة الاستراتيجيّة التضامنية أيضاً ما ورَدَ في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يخصُّ الجنود الذين هم أساس السلطة وحُماة الرعية، إذ كتب (عليه السلام):

((وليكن آثُر رؤوس جندكَ عندكَ مَن واساهم في معونتِهِ، وأفضلَ عليهم من جدَّتِهِ، بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم حتّى يكون همّهم همَّا واحداً في جهاد العدوِّ، فإن عطفك عليهم يعطفُ قلوبهم عليك، وانَّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدلِ في البلاد...)) (17).

ففي الخطاب اعلاه يظهرُ حرص الإمام (عليه السلام) على البُعد التضامني في التخاطب، والاشارة الى أهمية هؤلاء الفئة (الجنود) والاهتمام بهم والتضامن معهم،

ص: 12

لانهم يشکِّلون العمود الفقري لبناء الدولة وحماية أمنها واستقرارها، ففي هذا الخطاب التضامني تبرز كفاءة المحاجج وغايته في بناء خططه القولية ورؤيته المنهجية القيام دولة اسلامية صحيحة الأسس.

ويظهر ذلك البُعد التضامني في العلامات الإشارية بقوله (عليه السلام): ((حتى یکون همهم هماً واحداً في جهاد العدوّ، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل)). ومن هنا أصبحت العبارة الأخيرة في الخطاب الحجاجي اعلاه نتيجة حجاجية لتجعل السلطة أداة حجاجية ناجعةً في نجاح المجمع، وهذه العلامات الاشارية: ((تُعدُّ تقنيات حجاجية وكيانات مجردة يشغلها المحاجج بجملة من القيم والحقائق حتى تصبح فاعلة في الخطاب الحجاجي موّجهة حركته)) (18).

ثم يختتمُ الإمام (عليه السلام) كتابه الى مالك الأشتر بدعوته التضامنية التي يبين فيها مدى حبه لصاحبه مالك بعيداً عن أمور السلطة والدنيا التي يرجو بها رضا الله (سبحانه) اذ يدعو بقوله (عليه السلام): ((وأنا أسألُ الله بسعةِ رحمتِهِ، وعظيم قُدرتِهِ على إعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإياك لما فيه رضَاه من الإقامة على العُذر الواضح وإليه والى خلقِهِ)) (19).

ولعل من أبرز الآثار الإيجابية التي دعت إليها الاستراتيجيّة التضامنية هو درجة التالف وتطابق الشعور والأهداف والتفكير، وهذا ما تبلور في خاتمة رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حین خاطبه بهذا الخطاب الذي يبرز فيه دلالته القريبة، وتقوّي أسباب الانتفاع العاجل به، لنفسهِ ولمخاطبِه، ومعلوم انَّ كل تبادل بين طرفين يكون مبناه أساساً على سعي كل منهما تحقيق أغراض تكون مشتركة أو متساوية... (20)

ص: 13

ولذا كان من أهداف هذه الاستراتيجيّة ومسوغاتها هو تأسيس الصداقة بين طرفي الخطاب، والعمل على تحرير العلاقة بين طرفين لهما علاقة دائمة، ونحن نعلم مدى العلاقة الطيبة بين الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين مالك الأشتر فهو صاحبه في الحروب وفي السراء والضرّاء ولذا قيل: ((ان التضامنية هي السبيل الى الصداقة، حيث تماثل ما ندعوه بالألفة)) (21).

ص: 14

المحور الثاني الاستراتيجية التوجيهية:

وهي النوع الثاني من أنواع الأستراتيجيّات التخاطبية وتُعرف بأنها: ((الاستراتيجيّة التي يرغب المرسل بها بتقديم توجيهات ونصائح وأوامر و نواهي، يُفترض أنها لصالح المخاطب أو المرسل إليه)) (22).

وتجدر الإشارة إلى أنَّ القيم التوجيهية بكل مسوغاتها لأتُعدُّ أفعالاً لغوية فحسب، وأنما تُعدُّ من وظائف اللغُّة التي تُعنى بالعلاقات الشخصية بحسب تصنیف هاليداي، اذا یُعدُّ اللغة هي ((تعبير عن سلوك المرسل وتأثيره في توّجيهات المرسل إليه وسلوكه)) (23).

ويمكن القول ان في دراسة الاستراتيجيّة التوجيهية اتجاهين مهمين: (24) الأتجاه الأوّل: يهتمُّ بالدراسات التي تحضُّ على التأدّب، ويمثله كل من (لتيش وروبين لاكوف، وبراون وليفنسون).

الاتجاه الثاني: ويهتم بالدراسات التي تبينُّ كيفية التلفظ بالخطاب وفقاً للتوجيهية مع عرض بعض آلياتها وأدواتها، ومَن مثّل هذا الاتجاه هو كل (جرایس وسيرل وبراون وليفنسون وباخ).

وقد صنَّف ((باخ)) الأفعال التوجيهية ضمن الأصناف الأربعة التي حدَّدها للأفعال الكلامية وهي الأفعال التقريرية أو الوصفية والتوجيهية والالتزامية وأفعال التعبير عن المشاعر، وتشملُ الأفعال التوجيهية عند باخ الأصناف الآتية: (25) 1. الطلبات: وتأتي على شكل سؤال أو تضرّع أو توسل أو مناشدة أو إلحاح أو دعوة، أو طلب، أو حثّ، أو استدعاء، أو ابتهال أو حجاج.

ص: 15

2. الأسئلة: وتأتي في الأمور الآتية (السؤال، الاستعلام، الاستجواب، التشكك).

3. المتطلبات: وتمثل (العرض، التكليف، الأمر، الطلب، الارشاد، المنع، التعليم، الغرض).

4. التحريمات: وتمثل (المنع، الحظر، التحريم، التقييد).

5. أفعال النصح: وتأتي على أشكال منها (الحثّ، النصح، التحذير، الاقتراح، الانذار، التوصيات).

وقد مثلَّت الاستراتيجية التوجيهية حضوراً مكثفاً في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر بتنوع وحضور أفعال الأمر والتوجيه والحث والطاعة والارشاد والنهي والالتزام بأوامر الله، ووصايا رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) والنهي عن الأمور الدنيوية.

وقد صنَّف العلماء المرسل إليه عند استعمال هذه الاستراتيجيّة صنفين، المرسل إليه (المتخيل) وهنا يكون المرسل على معرفة مستقيمة بالمرسل إِليه ويمتاز الخطاب في هذه الحالة بالعموم والديمومة والمناسبة لكل وقت.

أما الصنف الثاني فهو المرسل إليه الحاضر عند التلفظ بالخطاب هنا قد يكون الخطاب او التوجيه مقتصراً عليه، والسبب في ذلك هو ضيق السياق الذي يدور فيه الخطاب. مما يعطي للفعل التوجيهي قوته الانجازية هي (سلطة المرسل).

وقد يعتبر الفعل الانجازي - التوجيهي من خلال نتيجته إلزاماً للمرسل إليه لانه خاضع لسلطة المرسل؛ لأن الأفعال التوجيهية قائمة على علاقة سلطوية بين المرسل المرسلُ إليه، والسلطة في هذه الحالة هي مؤشر لنجاح هذه الأفعال.

ص: 16

أولاً: الأمر

أن الخطاب الأمري يستندُ عموماً إلى الإيعازات الاستدعائية التي يُطلقها المخاطب تعبيراً عن الوظيفة الإفهامية والادراكية (الطلبية) التي تمنحه طاقة وهيأة تأثيرية يخضعُ لها المُخاطَب بوصفِهِ المحور الثاني في العملية التخاطبية والمستجيب قولاً وفعلاً للإيعازات الصادرة من المخاطِب الذي يمثلُّ المحور الأول في العملية التخاطبية ذاتها، وبذلك يتأصّل الخطاب الأمري بعقد آصرة تواصلية بين الطرفين بحيث يشترطُ في الطرف الثاني الوجود الحضوري لإتمام الحلقة الحوارية التخاطيبة مما يُعينُ على فهم العلاقات الأكثر عمومية بين الطرفين (26).

وعُرّف الأمر بأنه: ((صِفة تستدعي الفعل، أو قول يُنبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء)) (27).

وقد أظهرَ لنا استقصاؤنا لصيغ الأمر بأنواعها في كتاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر ميلاً واضحاً نحو هذه الأفعال الأمرية وتوظيفها في سياقات توجيهية مختلفة.

وقد مثَّلث صيغ الأمر الصريحة المباشرة حضوراً فاعلاً وتوجيهياً عِبرَ تلك الرسالة الموجهة الى مالك الأشتر، وتتدرج غايات هذه الأفعال الأمرية بالتمسك بعبادة الله ورضاه وكسر شهوات النفس، والإرشاد والتوجيه والاهتمام بطبقات الرعية واختلاف مستوياتهم.

ومن أمثلة ذلك، ما بدأ به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الى مالك الأشتر حين ولاه مصر، بمجموعة أوامر توجيهية، وهذه الأفعال الأمرية بصيغها المتنوعة عبّرت عن مكنونات الخطاب الحجاجي ومقاصده الدلالية - التوجيهية إذ كتب (عليه السلام): ((أَمَرهُ بتقوى الله، وإِيثار طاعته، واتّباع ما أمرَ به في كتابِهِ من فرائضِهِ وسُنِنِه التي لا

ص: 17

يُسعد أحدٌ إلاَّ باتباعهِا، ولا يشقَىَ إلاّ مَعَ جحودِهِا وإضاعتها)) (28).

تُفصح الرسالة في بنيتِها الاستهلالية على مقدمات حجاجية متمثلةً بأفعال الأمر الإيعازية - الصريحة (المباشرة) لتوجيه الوالي في الالتزام بطاعة الله (سبحانه) والعمل بفرائضِهِ وكتابه وسنِنِه وبمخالفتها يكون الخسران والشقاء.

وهذه الحجة الكبرى التي تُبني عليها أسس الدولة الصحيحة وإدارة أمور الرعية بالعدل والتقوى ورضاء الله والبُعد عما يُغضبه، انَّ هذه الأوامر الإيعازية تمثلُ سلطة حجاجية على المتلقي فهي استراتيجية توجيهية - إقناعية يمارسها الباث على المتلقي.

ثم تبدأ القوة الإنجازية لأفعال الأمر الأخرى لأنَّها تستند عليها الحجة الكبرى التي استهّل بها مقدمة كتابه (عليه السلام)، إذ قال: ((وأمرُه أن یکسر نَفسَهُ من الشهواتِ، وينزعَهَا عند الجمحات، فانَّ النفسَ أمَّارةٌ بالسوء الا ما رحم الله)) (29).

وهنا تبدأ العملية التخاطبية ضمن هذه الاستراتيجيّة في التواصل مع (الذات) في السيطرة على هواها وقمع شهواتِهِا والابتعاد عما لا يُرضي الله (سبحانه)؛ فهذه الحجة ضمن هذا الفعل التوجيهي، يحيل بالضرورة إلى مجموعة أهداف منطقية يترتب عليها أمور كثيرة، وفي ذلك تعظيم الدولة والوقوف على الأسس القويمة التي يتحققُ بها أمن الرعية وسلامتهم واستقرارهم.

ثم نلحظ توالي أفعال الأمر الأنجازية والربط بين المقدّمات والآليات الحجاجية، التي سهَّلَت وظيفة المُحاجج.

فمن حُجية السلطة، ما أورده أمير المؤمنين (عليه السلام) في قولِهِ: ((فأعطهم مِن عَفوِكَ وصَفحكَ مثل الذي تُحبُّ أَن يُعطيكَ اللهُ من عفوه وَصفحِهِ، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقَكَ، واللهُ فوق مَن ولاّك .....)) (30).

إذ يتجلى واضحاً مفاد الحُجة التوجيهية في الفعل الأمر واعطهم في نسق لغوي يعكسُ

ص: 18

ترنماً وفضاء حجاجياً يمتدُ نحو الخضوع والإنصات لتلك الأوامر التي احتلت مساحة واسعة بين مفردات الرسالة، وقد أدّت فضلاً عن كونها صيغ أمر صريحة صدرت من سلطة (عليا) (الحاكم) الى (الوالي) وظيفة دلالية في انتاج معنى النصَّ، فنحن ((عندما نتكلمُ عن العلاقات الدلالية بين الجمل التتابع ما؛ فإنَّ المقصود في النتيجة هو وجود علاقات بين معاني هذه الجمل أو الأفعال و مراجعها)) (31).

ثم نراه في رسالته (عليه السلام) يدعم الحجج المتقدمة بحجة فعل انجازي أكبر في قوله (عليه السلام): ((أنصف الله؛ وأنِصفِ الناسَ من نفسكَ، ومن خاصةِ أهلكَ، ومن لكَ فيه هویً من رعیتك، فإنك إلاَّ تفعل تظلم، ...)) (32).

إذ نجد ان الإمام (عليه السلام) يوظَّف الحجج القائمة على العلاقات التواصلية مع الله (سبحانه - وتعالى)، ومع الناس (الآخر) ومع النفس (الذات)، اذ افتتح تلك الأوامر التوجيهية والوصايا بصيغة (فعل الأمر الصريح) التي شكلت سلسلة من الترابطات النسقية، أفصحت عن دلالات وأحداث مطابقة لمتطلبات الموقف بما يوحي باستكناه البنية العميقة للنصّ الحجاجي؛ لان فعل الأمر في أصله لا يصدر إلاَّ ممَنَّ كان الأمر فيه أقوى وأعلى من المأمور (33)، وموجّهة الى المتعلق مأمور وجبَ عليه تنفيذ الأوامر والوصايا.

ويوظَّفُ أمير المؤمنين (عليه السلام) الأسلوب الخبري مع الفعل الأمري لإنجاز الاستراتيجيّة التوجيهية، وذلك مما نراه في مقاطع كثيرة من الرسالة، إذ كتب (عليه السلام): ((وأعلم أن الرعيةَ طبقاتٌ لا يصلح بَعضُها إلاّ ببعض، ولاغنى ببعضها عن بعضٍ، فمنها جنودُ الله، ومنها كُتَّابُ العامّةِ والخاصة، ومنها قُضاةُ العدل، ومنها عُمّال الانصاف والرفقَ، ومنها أهل الجزية والخراج، ومنها أهل الذمة، ومسلمة الناس، ومنها التّجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجات

ص: 19

والمسكنة، وکُلاَّ قد سّمى الله سهمه)) (34).

انَّ قيمة التخاطبية للنصّ تكمن في مقدرتها على اختزال الخطاب وتشكيل قوة الانجاز الحجاجي على نحو ارتبط بوجود حُجية السلطة الذي لايمكن انُ يفصح عنه الا من يملك المسوّغ للتوجيه الفعلي الإنجازي مترادفاً معه الخبر الاسنادي، ولذا تؤدي حُجة السلطة هنا الى ((التقليل من المجازفة في استعمال هذه الاستراتيجية في انتاج الخطاب، وذات السبب هو ما يسوّغ استعمال الأمر والنهي الصريحة)) (35).

وتجدر الإشارة ان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يدعمُ حججه الكبرى باستشهادات قرآنية لتقوية تلك الحجج. إذ كتب (عليه السلام): ((واردد الى اللهِ ورسولِهِ ما يُضلُعكَ من الخطوب، واشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحبَّ إرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» (36)))(37).

ويمكن القول ان الميزة الرئيسة والمهمة للحجة حين تُدعم بنص قرآني تقّوي تلك الحُجة، فهي تُعدّ في الحقل التداولي - الحجاجي صورة تدعم الحجج وتوضحها، اذ يقول بيرلمان في هذا الصدد: ((لما كان الاستشهاد يهدفُ الى تقوية حضور الحُجة، بجعل القاعدة المجردة ملموسة بواسطة حالة خاصة، فقد نظر الى الاستشهاد على أنَّه صورة)) (38).

وهذه كلها تُعدُّ مؤشرات على الاستراتيجيّة التوجيهية للإمام علي (عليه السلام) للأخذ بمبادئ الدولة الصحيحة الأسس، ولقيام مجتمع اسلامي يتبنی قوانين القرآن الكريم وأسسه المستقيمة لبناء مجتمع سليم.

ومن صيغ الأمر التي وردت بكثرة في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر، صيغة لام الأمر الداخلة على المضارع، إذ بدأها بقوله (عليه السلام):

ص: 20

((وليكنَّ أحبَّ الذخائر إليكَ ذخيرةُ العمل الصالح)) (39)، وفي موضع آخر يقول (عليه السلام): ((وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحقَّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإنَّ سخط العامة يُجحف برضى الخاصة)) (40).

نرى انَّ دلالة (النصح والارشاد والتوجيه) التي حملتها هذه الأفعال الأمرية لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع في صيغة (ليكن) نجدها تتحرك في مجال الوظيفة الانفعالية وتتجه بؤرتها نحو المخاطب مع حضوره في الدائرة الحجاجية.

وفي موضوع آخر يكتب أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يخصُّ الجنود و طبقات المجتمع الأخرى، وبدأها بهذه الطبقة لانَّهم رُعاه أمن الدولة واستقرارها. إذ يقول (عليه السلام): ((وليكن آثرُ رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جندته، ...)) ثم يُوجه استراتيجيّته نحو عمارة الأرض والاهتمام بها اذ يقول: ((وليكن نظرك في عمارة الأرض، وأبلغ من نظرك في استجلاب الخراج وأهله؛ لأن ذلك لايُدرك إلاّ بالعمارة ...)) (41).

ثم يختتم رسالته في اسلوب الأمر ذاته اذ يقول (عليه السلام): ((وليكن في خاصة ما تخلص به الله دينك)) اذا شكَّلت هذه الأفعال الأمرية رابطاً صميمياً عدِلَ به الإمام (عليه السلام) عن دلالة لطلب الى دور توجيهي في اطار الوعظ تنضوي تحته كثير من الدلالات التي يسعى المحاجج الى تحقيقها.

وم-ن صيغ الأمر الأخرى (اسماء الأفعال) لا سيما (إياك) اذ شكّل رابطاً حججياً صميمياً عدل به الإمام (عليه السلام) عن دلالة الطلب الى دور توجيهي في اطار الوعظ والحذر والتنبيه تنضوي تحته كثير من الدلالات التي يسعى الواعظ او المحاجج الى تحقيقها. فمن أمثلة ذلك؛ ماكتبه الإمام (عليه السلام) ((إيّاكَ ومُساواة

ص: 21

الله في عظمتِهِ، والتشبه في جبروتِهِ، فإنَّ الله يَذلُّ كلَّ جبَّار، ويهينُ كلَّ مختال)) (42).

ففي النصّ اعلاه شكَّلت صيغة الأمر سلسلة من الترابطات النسقية التي خرجت الى اغراض مجازية أفصحت عن درجة العلاقة بين المخاطِب (الحاكم) والمخاطَب (الوالي) التي تعكسُ مدى اعتزاز الأمر بالمأمور ليرغبه في ذلك الأمر، لذا عُدَّ (الأمر المجازي) اسلوباً انشائياً طلبياً مهماً له قيمة إيحائية - وحجاجية في بنية النصّ.

وقد يكون الامر موجهاً (للتنبيه والتحذير)، ومن أمثلة ذلك ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) ((وإيّاك والدماء وسفكما بغير حِلِّهَا، فإنَّهُ ليس شيءٌ أدعى لنقمةٍ، ولا أعظمَ لتبعةٍ ولا أحرى بزوالٍ نعمةٍ، وانقطاع مُدةٍ من سفكِ الدماء بغير حقِّها)) (43).

اذ تفصحُ صيغة اسم فعل الأمر (إيّاك) عن بنية حجاجية أخذت دور المنبه الأسلوبي لتوجيه ذهنية المتلقي نحو ثيمة الخطاب التواصلي.

أمثلة ذلك أيضاً ما ورَدَ في كتابه (عليه السلام) في مسألة العُجب بالنفس؛ لانه فيها دمار للنفس، إذ قال: ((وإيّاكَ والاعجابَ بنفسكَ، والثقة بما يُعجبكَ منها، وحُبَّ الأطراء، فإنَّ ذلَك من أوثق فُرص الشيطان في نفسِهِ ليمحق ما يكون من إحسان المُحسنين)) (44).

ويمكن القول انَّ التنوع في صيغ أفعال الأمر بين الأفعال الأمرية الصريحة، والأفعال المضارعة الداخلة عليها لام الأمر، وأسماء الأفعال، أسهمت في توسيع دائرة التخاطب الحجاجي لتحقيق التوافق بين هذه الحجج المتنوعة وسياقاتها الدلالية تلك الأفعال الأمرية - الإيعازية التوجيهية المعبَّرة عن فكرة الرسالة التي كتبها أمير المؤمنين (عليه السلام) الى عامله مالك الأشتر على استشعار المسؤولية والطاعة لتلك الأوامر.

ص: 22

الخطبة - الملفظ - الفعل التوجيهي - الغرض التداولي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر لما ولاة على مصر وعُمالها أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباعه ما أمر بهِ كتابه - أمره، وايثار، واتباع - الوجوب أمره أن يكسر نفسه من الشهوات - أمره ان يكسرَ نفسه - النصح والإرشاد ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد - أعلم يامالك - أمر حقيقي فأملك هواك وشُحّ بنفسكِ - فأملك هواك وشُح بنفسك - توجيه وارشاد وأشعر قَلبكَ الرحمة للرعية - وأشعر - الاستعطاف فأعطهم من عفوك - فأعطهم - الوجوب والارشاد فانظر الى عظم ملك الله فوقك - فانظر - النظر والأعتبار أنصف الله وأنصف الناس - انصف - النصح والارشاد والتوجيه وأكثر من مدارسة العلماء - أکثر - التوجيه وأعلم ان الرعية طبقات - اعلم - التنبه والتحذير الصق بذوي الأحتساب وأهل البيوتات الصالحة - ألصق - توجيه

ص: 23

الخطبة - الملفظ - الفعل التوجيهي - الغرض التداولي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه مصر واردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب - وارددُ - وجوب واختر للحكم أفضل رعيتك - اختر - توجيه وتنبيه وأنظر في أمور عُمالِكِ - انظر - النصح والإرشاد والتوجيه وتفقد أعمالهمَ - تفقد - والتوجيه وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم - ابعث - التحذير والتنبيه استوصى بالتجارة وذوي الصناعات واوصِ بهم - استوصى، أوص بهم - الأستعطاف والرحمة واحفظ لله ما أستحفظك - أحفظ - الوجوب والتوجيه وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السنِ - تعهد - الأستعطاف والرحمة فاعَط الله من بدنكَ في ليلكَ ونهاركَ - اعطِ - التوجيه والأرشاد والزم الحقَ مَن لزمه - الزم - التوجيه والوجوب فليكنَّ أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح - فلیکنَّ - الارشاد والتوجيه وليكنّ آثر رؤوس جندك - لکفَّ - تنبيه وتوجيه وتحذير وليكن البيع بيعاً سمحاً - لیکنَّ - توجيه وتحذير

ص: 24

ثانياً: النهي

وهی أحدى آليات الاستراتيجيَّة التوجيهيَّة ويصدر من هو أعلى مرتبة الى من هو دونه، ويمثل (النهي) بنية حجاجية يُنسجُ منها المحاجج خطابه الإقناعي لأنَّه يتخذُ منه وسيلة اقناعية بما يخدم المقصد الذي يسعى إليه وتشكيل بنية النهي داخل السياق حُجة وعلى المرسل إليه ان يلتزم بها، وكلها تدخل في إِطار التوجيه والتحذير؛ فمن أمثلة ذلك ما كتبه (عليه السلام) الى مالك الأشتر، وردت فيه أفعال نهي تحمل التوجيه وهو قوله: ((ولا تندمَنَّ على عفوٍ، ولاتَبجَحَنَّ بعُقوبةٍ، ولاتُسر عَنَّ الى بادرَة وجدتَ منها مندُوحةً، ولا تقولنَّ إني مُؤمَّرٌ أمرُ فأطاعُ)) (45).

عبرَ هذا الفعل التوجيهي استطاع الإمام (عليه السلام) ان يماسكَ الشدّ النصيّ التركيبي الذي أحدثه فعل النهي بوصفه حجَّة برهانية - اقناعية تقتضيها العملية التواصلية بين المخاطِب والمخاطَب، وهي تسمى علاقات حوارية تشدّ الخطاب الى عوامل انتاجه وتجعله فعلاً خطابياً ديناميكياً وملتحماً بشروط تداولية)) (46).

الأمثلة الأخرى التي تُشير الى صُحبة السلطة والاخذ بأفعال التوجيه والنهي عنها، ما كتبه الإمام (عليه السلام) في باب النصح والارشاد وهو قوله: ((ولا تنقض سُنَّةً صالحةً عَمَلَ بها صُدورُ هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعيَّة، ولا تُحدِثَنّ سُنّةً تضرُّ بشيءً من ماضي تلك السَّنن فيكون الأجرُ لمن سنَّها، والوزرُ عليك بما نقضتَ منها)) (47).

فأفعال النهي الواردة في (لاتنقض، ولا تحدثن) أفادت قوة انجازية تكمنُ في عرض النصح والأرشاد والتنبيه وتبيين الحقائق والدعوة الى النهي عنها وقوتها التأثيرية في إقناع المتلقي بفكرة المرسل، فيتعظ المرسل إليه بما سيقَ له من ارشادات ومواعظ، وهذا ما نلحظه في سلطة الخطيب وهي إدارة النصح والارشاد وتوجيه

ص: 25

الخطاب وجهة نفعية، بحيث أن الخطاب يتمحور في منفعة المتلقي (48).

ومن أمثلة القوة الإنجازية الأخرى الاستراتيجيّة التوجيه - النهي - ما وردت في رسالته (عليه السلام): ((ولا يكونُ المُحسنُ والمُسيءُ عندكَ بمنزلةٍ سواء، فإنَّ ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كُلاً منهم ما ألزمَ نفسه)) (49).

إنَّ الفعل الخطابي التوجيهي التنبيهي لا يُنجز إلا في مواقف اجتماعية وتواصلية معينة تقتضيها العملية التواصلية، ففي النص المتقدم تكمن قوة انجاز الفعل في صورة التضاد التي وصف عبرها الإمام (عليه السلام) فكرة (الإحسان والإساءة) على مستوى البنية السطحية، ليؤسس حجته على بنية تضادية قائمة على المقارنة.

ص: 26

الفعل التوجيهي (النهي)

الملفظ الفعل التوجيهي الغرض التداولي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر حين ولاه مصر وعُمّالها ولا تكوننَّ عليهم سَبعاً ضارياً لا تكوننَّ النصح والأرشاد لاتندمنَّ على عفو و لاتبجحنَّ بعقوبةٍ لاتسرعنّ الى بادرة ولا تقولنَّ إني مُؤمرٌ أمرُ فأطاع لاتندمنَّ لاتبجحنّ لاتسرعنّ لاتقولنَّ تنبيه، وتوجيه تنبیه، توجیه تنبیه، توجیه توجيه وارشاد ولا تدخلنَّ في مشورتكَ بخيلاً يعدلُ بك عن الفضل لاتدخلنً النُصح، والأرشاد ولا تطولنَّ احتجابكَ عن رَعيتك لاتطولنَّ توجیه، تنبیه ولا تدفعنَّ صُلحاً دَعاكَ إليه لاتدفعنً نصح وتوجيه وتنبيه ولا تختلنَّ عدُوّكَ فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقيّ لاتختلنَّ تنبيه وتوجيه ولا تعولنَّ على لحن قولٍ بعد التأكيد والتوثيقة لاتعولنَّ تحذير وتنبيه لا تقوينَّ سُلطانك بنفسك دمَ حرام لا تقوين تنبيه وتوجيه وتحذير إياك والدماء إياك (النهي) تحذير وتنبيه

ص: 27

الخاتمة:

مثَّل نهج البلاغة في خطابه التداولي دستوراً تبليغياً مؤسساً لشؤون الدولة والمجتمع الإسلامي، إذ استطاع ان يؤثر في المتلقي لاعتماده استراتيجيّات تواجه روح المتلقي وعقله وضميره.

يمثلُ مصطلح (الحجاج التواصلي) فاعلية اجتماعية - تداولية انتاجية للمعطيات الخطابية - الإقناعية لتحقيق نجاعة الملفوظات وأهدافها الفكرية والدينية والسياسية.

اتضحت في رسالة أمير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر سعة العملية التواصلية للحجاج وعمقها، اذ تمثلت في استراتجيتين مهمتين هما (الاستراتيجيّة التضامنية) و (الاستراتيجيّة التوجيهية).

تنوَّعت أدوار الآليات التداولية الحجاجية، فكان لأفعال الكلام القوة الإنجازية في توجيه الخطاب لاسيما في أفعال الأمر والنهي.

أن الاسلوب التفاعلي - التداولي الناجع في كتاب امير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الأشتر يُكمن فيه السلوك الحميد الذي يتجلى في التأدب والتوجيه والقول السديد والنصح والارشاد والتنبيه والتحذير لكل والٍ يتولى المسلمين وقيادة شؤونهم لبناء دولة صحيحة الأسس.

ص: 28

الهوامش:

1. تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين: 19.

2. الاستراتيجيات التخاطبية في السنة النبوية (بحث منشور)، ادریس مقبول، مجلة كلية العلوم الاسلامية، العدد 2 - 15، السنة 2014، 541.

3. من لسانيات الجملة الى علم النص، بشير ابرير، مجلة التواصل باجي مختار، عنابة، الجزائر، عدد 14، سنة 2005، 17.

4. تاريخ نظريات الحجاج، فيليب بروتون وجيل جوتييه، ترجمة محمد صالح المغامدي: 85.

5. ينظر استراتيجية الخطاب الحجاجي (دراسة تداولية في الارسالية الاشهارية العربية)، د. بلقاسم دفة، مجلة المخبر جامعة بسكرة، الجزائر، العدد 10 السنة 2014، 496.

6. الحجاج في خطابات النبي ابراهيم (عليه السلام )، سعدية لكحل: 20.

7. عندما نتواصل نغير (مقاربة تداولية - معرفية لاليات التواصل والحجاج)، عبد السلام عشير: 505.

8. ينظر التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزبر: 35 - 36.

9. استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية)، د. عبد الهادي ظافر الشهري: 53.

10. التواصل والحجاج: 6.

11. ينظر: م. ن: 7 - 8.

12. ينظر: نظرية الحجاج عند بيرلمان: 38.

13. استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية): 257.

ص: 29

پ14. ينظر المصدر نفسه: 257.

15. نهج البلاغة: ج 3/ 572.

16. التواصل والحجاج: 7-8.

17. نهج البلاغة: ج3/ 580.

18. ينظر الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل (بحث في الأشكال والاستراتيجيات)، د.علي الشبعان: 263.

19. نهج البلاغة: ج 3: 596.

20. ينظر اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: طه عبد الرحمن: 218.

21. استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية- تداولية): 266.

22. ينظر استراتيجيات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية): 323.

23. ينظر الاستراتيجيات التخاطبية في السنة النبوية: 549.

24. ينظر الأفعال اللغوية عند أوستن وسيرل: 159 - 160.

25. ينظر الاستراتيجية وعلاقتها بالنصّ والخطاب: عبد الكريم جمعات ينظر استراتيجيات الخطاب الحجاجي في الحديث النبوي الشريف: 68.

26. ينظر المقاربة التداولية: 12، اللغة العربية في أطارها الإجتماعي: 231.

27. ينظر الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: 531.

28. نهج البلاغة: ج 3/ 571 - 572.

29. نهج البلاغة: ج 3/ 572. والجمحات ان يكفها عن مطامعها اذا جمحت عليه.

30. نهج البلاغة: ج 3/ 573 - 573.

31. العلاماتية وعلم النص: 156.

32. نهج البلاغة: ج 3/ 574.

33. ينظر دروس البلاغة العربية (نحو رؤية جديدة): 120.

ص: 30

34. نهج البلاغة : ج 3/ 577 - 578.

35. استراتيجيّات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية): 347.

36. سورة النساء: 59.

37. نهج البلاغة:ج 3/ 581.

38. نهج البلاغة: ج 3/ 581.

39. نهج البلاغة: ج 3/ 572.

40. نهج البلاغة: ج 3/ 574.

41. نهج البلاغة: ج 3/ 584.

42. نهج البلاغة: ج 3/ 573.

43. نهج البلاغة: ج 3/ 593.

44. نهج البلاغة:ج 3/ 594.

45. نهج البلاغة: 3/ 573.

46. نقد النقد: 52 مجلة الأقلام، العدد 26 السنة 25، بغداد، 1990، د. محمد الدعمومي، مدخل ابستمولوجي.

47. نهج البلاغة: 3/ 577.

48. ينظر الحجاج وتوجيه الخطاب مفهومه ومجالاته: 204.

49. نهج البلاغة: 3/ 576.

ص: 31

مصادر البحث

- القرآن الكريم.

1. الاستراتيجيّات التخاطبية في السُّنة النبوية أ. م. د. أدريس مقبول، مجلة كلية العلوم الإسلامية العدد 2 - 15، سنة 2014 - 1435 ه.

2. استراتيجيّات الخطاب (مقاربة لغوية - تداولية) د. عبد الهادي ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة ليبيا، ط 1، 2004 م.

3. استراتيجيّة الخطاب الحجاجي (دراسته تداولية في الاشهارية العربية)، د. بلقاسم دفة، مجلة المخبر، جامعة بسكرة - الجزائر، العدد 10، 2014 م.

4. الاستراتيجيّة وعلاقاتها بالنصّ والخطاب، عبد الكريم جمعان،...

5. تاریخ نظريات الحجاج، فليب بروتون، جيل جويتية، ترجمة محمد صالح ناجي الغامدي، ط 1، مركز النشر العلمي، مطابع الملك عبد العزيز، 2011 م.

6. تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين، ط 4، المركز العربي الثقافي، 2005 م.

7. التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزبر، ط 1، منشورات الاختلاف - الجزائر، 2007 م.

8. التواصل والحجاج، عبد الرحمن والحجاج، عبد الرحمن طه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط منتديات سور الأزبيكة.

9. الحجاج في خطابات النبي إبراهيم (عليه السلام)، سعدية لكحل، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري.

10. الحجاج والحقيقة وآفاق التأويل (بحث في الأشكال والأستراتيجيّات)، د. علي الشعبان، تقديم حمادي صمّود، دار الكتاب الجديد، ط 1، 2010 م.

11. الحجاج وتوجيه الخطاب (مفهوم و مجالاته وتطبيقات في خطب ابن نباته)، د، باسم خيري خضير، ط 1، دار نیبور، 2016 م.

ص: 32

12. دروس في البلاغة العربية (نحو رؤوية جديدة)، الأزهر الزناد، ط 1، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، بیروت، 1992 م.

13. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز العلوي بن حمزة (ت 754) مراجعة وضبط وتدقيق محمد عبد السلام شاهين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999 م.

14. العلاماتية وعلم النصّ، د. منذر عیاشي، مركز الانماء الحضاري، دمشق 1949 ه، 2009 م.

15. عندما نتواصل نغيّر (مقاربة تداولية معرفية الآليات، عبد السلام عشير التواصل والحجاج) أفريقيا الشرق، المغرب، 2006 م.

16. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبد الرحمن، ط 1، المركز الثقافي العربي، 1998 م.

17. اللغة العربية في أطارها الإجتماعي (دراسة في علم اللغة الحديث) مصطفی لطفي، ط 1، معهد الأناء، بیروت، 1976 م.

18. المقاربة التداولية، فرانسواز ارمینکو، ترجمة د. سعدية علوش، مركز الأنماء القومي، الرباط، 1986 م.

19. من لسانیات الجميلة الى علم النصّ، بشير إبرير، مجلة التواصل، عدد 14، باجي مختار عناية - الجزائر، 2005 م.

20. نظرية الحجاج عن بيرلمان، د. عبد الحسين بنو هاشم، ط 1، دار الكتاب الجديد، 2014 م.

21. نقد النقد (مدخل ابستمولوجي)، د. محمد الدعمومي، مجلة الإقلام، العدد 6، السنة 25 بغداد، 1999 م.

ص: 33

ص: 34

أثر المرجعيات الفكرية لشرّاح نهج البلاغة في شرحهم (العَهد العلويّ)

اشارة

د. ماهر خضير هاشم جامعة بابل

ص: 35

ص: 36

المقدّمة

هذا البحث يتناول فكرة أثر المرجعيات الفكرية لشُرّاح نهج البلاغةِ في شرحهم العهد العلويّ، فالذي يتابع سير الشُرّاح في كُتُبِ التراجم يجد واضحًا تعدّدَ مرجعياتهم الفكرية، ومنطلقاتهم، وأُصولهم، وهذا تعدّد أدى الى تعدّدِ وجهات نظرهم واختلافهم في عبارة الشّرح، ومن المعلوم أنَّ شرُوح نهج البلاغة قد تجاوزت المئة شرح وقراءة؛ غير أنّني في هذا البحث سأركز على المرجعيات الفكرية شيوعًا، والشرّاح الذين ينتمون لها.

وعليه وقع اختياري على ثلاثة شُروحٍ، وهم: شرح ابن أبي الحديد المعتزليّ (ت 656 ه) وهو ممثل الفكر الاعتزليّ، وشرح ابن میثم البحرانيّ (ت 679 ه) وهو ممثل الفكر الصّوفيّ، وشرح حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ (ت 1324 ه) وهو ممثل الفكر الامامي الاثني عشرية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنَّ هذه الشروح تتسم بالسّعة والشمولية في مادتها ومصادرها، وتأويلها علاوة على هذا أنَّ هذه الشّروح قد أهديت الى أمراء زمانهم، أنَّها کُتبت بطلب أو بإشارة من أولئك الأمراء الى هؤلاء الشُّرّاح.

وقبل البدء في بيان مرجعياتهم الفكريّة لهؤلاء الشرّاح وأثرها في شرحِهم العهد العلويّ، لا بدّ من ذكر سير موجزة لهم؛ لبيان منابعهم الفكرية والثقافيّة، وهم:

ص: 37

أولًا: ابن أبي الحديد المعتزليّ:

هو عزُّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمّد بن محمّد بن حسين بن أبي الحديد المدائنيّ البغداديّ المعتزليّ، وُلِد بالمدائن في اليوم سنة (586 ه)، وكان والده خریج المدرسة النظاميّة، وشيخًا من شيوخ الحديثِ في بغداد والمدائن، تولّى القضاء في المدائن مدّة طويلةً، وكان خطيبها، وأحد العدول فيها، وفقيهًا على المذهب الشافعيّ. وعليه أنّ ابن أبي الحديد نشأ من أسرة عربيّة، كان والده من رجال العلم والحديث، ومن متقلدي القضاء والتدريس وعلى المذهب الشافعيّ.

وكان ابن أبي الحديد المعتزلیّ عالماً شهيراً ذا رأي في ميدان التّاريخ، والأدب، والفقه، والكلام، جدّ في طلب العلوم المتداولة في عصره منذ نعومة أظفاره، ثمّ رحل إلى بغداد إبّان شبابه، وفي تلك الحاضرة التي كانت عاصمة العلم في العالم الإسلاميّ يوماً ما تعلّم الفقه والكلام، واشترك في أوساطها الأدبيّة، وتسنّم في بغداد مكانةً مرموقةً، وكانت له علاقات وثيقة بوزير المستعصم: ابن العلقميّ العالم، وأصبح في عِداد کتّاب دیوان دار الخلافة بفضله، فكان كاتب دار التّشريفات أوّلاً، ثمّ كاتب الخزانة، وبعد ذلك كاتب الدّيوان. وكان ناظر الحلّة في سنة (642 ه)، ثمّ وزيراً للأمير علاء الدين الطبرسيّ، وبعد ذلك صار ناظراً للمستشفى العضديّ، ثمّ ناظراً لمكتبات بغداد، وكان شاعراً مقتدراً وأديباً عالماً مع مزاولته للمناصب الحكوميّة المذكورة الّتي استمرّت حتّى آخر عمره. ونظم الشّعر في أغراض شعريّة متنوّعة من مدح، ورثاء، وحكمة، ووصف، وغزل، ومع ذلك كلّه غلب على شعره المناجاة والعرفان، وأورد بعض أشعاره في شرحه على النّهج، وكان شافعيّ الفقه والأصول، معتزليّ الكلام؛ إذ يُنسب إلى مدرسة بغداد في الاعتزال، ويرى رأيها في تفضيل عليٍّ على الحكام الثّلاثة، لكنه لا يعدّ الأفضليّة شرطاً للإمامة، مثلما قال في بداية شرحه

ص: 38

لنهج البلاغة: ((... وقدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف، واختصّ الأفضل من جلائل المأثر، ونفائس المفاخر...)).

ترك ابن أبي الحديد مصنّفات عديدة، وأورد محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على الشّرح أسماء خمسة عشر منها، هي:

1. الاعتبار على كتاب الذّريعة في أُصول الشّريعة، وهو شرح لذريعة الشّريف المرتضى.

2. انتقاد المستصفى، وهو نقد لكتاب (المستصفي في الأُصول) للغزاليّ.

3. الحواشي على كتاب المفصّل في النّحو.

4. شرح المحصّل، وهو شرح لكتاب المحصل الكلاميّ للفخر الرّازيّ.

5. شرح مشکلات الغُرَرر لأبي الحسين البصريّ، وقد أوضح فيه ما أشكل في الكتاب الكلاميّ المذكور.

6. ديوان شعره.

7. شرح نهج البلاغة.

8. شرح (الياقوت) لابن نوبخت في علم الكلام.

9. العبقريّ الحسان، وهو مجموعة من مختارات الكلام، والتّاريخ، والشّعر، ونظائرها.

10. الفلَك الدّائر على الملك السّائر، وهو نقد على كتاب (الفلك السّائر في أدب الكاتب والشّاعر) لابن الأثير الجزريّ.

11. القصائد السّبع العلَويّات أو السبع العلويّات، وهي قصائد في مدح النّبي صلّى الله عليه وآله، وعلي عليه السّلام، وفتح خيبر، وفتح مكّة، واستشهاد الإمام

ص: 39

الحسين عليه السّلام، نظمها سنة (611 ه).

12. المستنصريّات.

13. نظم فصيح ثعلب، وهو نظم لكتاب (الفصيح) لثعلب.

14.نقض المحصول في علم الأُصول، وهو نقد وردّ على كتاب (المحصول في علم الأُصول) للفخر الرّازيّ.

15. الوشاح الذّهبيّ في العلم الأبيّ.

ثانياً: ابن ميثم البحرانيّ:

اسمه میثم بن علي بن میثم وهذه التسمية أجمعت عليها المصادر التي تحدثت عنه، ولم تتناول هذه المصادر بالتفصيل مراحل حياته مثل: ولادته وتدرجه العلمي وأفكاره الشخصية. وما حصلنا عليه في المصادر التي تيسرت لنا بأن الشيخ سليمان البحراني هو الشيخ الوحيد الذي ذکر سنة ولادته وهي سنة 636 هجرية، إلا أنّه لم يشر إلى مكان ولادته. أما السيد خاتمي بروجردي مصحح شرح نهج البلاغة فقد أشار الى أنَّ الشيخ ميثم قد ولد في البحرين ولم يحدد القرية أو المدينة التي ولد فيها (5)، وبدأت حياته العلمية في سنٍّ مبكرة، وتتلمذ على علماء البحرين. انكبّ في أوائل حياته على طلب العلم مبتعداً عن مشاكل الحياة ومتاعبها، وعاش منعزلاً وانشغل في التحقيق في حقائق الأصول والفروع، وبعد هذه المرحلة اتجه إلى العراق وذلك من أجل البحث عن حياة أفضل إلّا أنه لم يذكر تاریخ سفره، ومكان إقامته ومدتها في العراق بشكل دقيق وواضح، وبناءً على القرائن والمؤشرات التي ظهرت في تلك الفترة يمكن القول بأن هذه الرحلة وقعت في المدّة بين سنة 665 و 675 هجرية، وكان من أهداف سفر الشيخ میثم إلى العراق هو اللقاء بالعلماء الذين يرفضون

ص: 40

آراءه حول المال ومدى تأثيره على حياة الإنسان والتباحث معهم، وفعلاً التقى بهم وشرح لهم وجهة نظره حول ذلك، فضلًا عن أنَّ الشيخ ميثم اطلع في العراق على الكتب العلمية، وهذه التحولات أسهمت في تعميق أفكاره، وهذا ما جعله يغيّر نظرته للظواهر بحيث جعله مثلاً ينظر إلى العرفان بمنظار أوسع، وهذا التطور ظهر بوضوح في كتبه خاصة في شرحه لنهج البلاغة الذي يحتمل أنَّه كتبه في العراق، كذلك يبدو أنَّ وضعه المعيشي قد تحسّن بعد أن توطّدت علاقته بالجويني والي بغداد آنذاك؛ لأن الجويني کان یکن احتراماً كبيراً للعلماء ويرعاهم، والشيخ ميثم أشاد بوالي بغداد في مقدمته لكتاب شرح نهج البلاغة (6).

ويعدّ الشيخ ميثم من أشهر فقهاء المذهب الإمامي الاثني عشري، فهو يحمل أفكارًا وعقائد ورؤي هذا المذهب ولا غرابة في ذلك؛ لأن البحرين تعدّ منذ القدم أحدى مراکز علماء الإمامية، وفقه أهل البيت عليهم السلام، والذين تناولوا سيرته يشيرون إلى مكانته وموقعه في الفكر الإمامي، وما نعتوه من صفات يعكس مدى عظمة هذه المكانة التي لم يبلغها من العلماء إلا النزر اليسير. ومما جاء في وصفه (7):

(شیخ صدوق ثقة)، و (علامة وفیلسوف مشهور)، و (قدوة المتكلمين وزبدة الفقهاء والمحدثين)، و (عالم فاضل مدقق و متکلم لامع)، و (فقيه وأديب إمامي وعالم بالأدب والكلام)، و (أديب حکیم و متکلم من فقهاء الامامية) يدل على أن له مكانة ومنزلة عالية لدى الباحثين والمؤرخين.

وتضمنت هذه الأوصاف مضامين تعكس المكانة العلمية في شخصية الشيخ ومن أبرزها: الفقه، والفلسفة، وعلم الكلام والعرفان، والأدب، من هنا نستطيع القول بأن الشيخ كان ضمن تأطره بإطاره المذهبي الفقهي ملماً بالعلوم بالإسلامية المعروفة آنذاك والتي تحمل في طياتها شيئاً من التجدد والحداثة.

ص: 41

ترك الأساتذة الذين تتلمذ الشيخ على أيديهم أثراً كبيراً في توسيع أفكاره وتطلعاته، وأنه لم يكن يدخر جهداً في كسب العلم والمعرفة من خلال مطالعاته ومتابعاته، ومن أساتذته (8):

الخواجة نصير الدين الطوسي أبرز أساتذة الشيخ ميثم، وهو فیلسوف و منجم، وعالم في الرياضيات و متکلم وصاحب العديد من المصنفات، وكان يمثل الفكر الفلسفي للشيعة آنذاك، والأستاذ الثاني هو علي بن سليمان البحراني المعروف الشيخ الفيلسوف الحكيم، والشيخ ميثم شرح أحد كتب أستاذه هذا وهو كتاب (الإشارات).

والأستاذ الثالث هو نجم الدين أبو القاسم جعفر بن حسين الحلي المعروف بالمحقق الحلي، وقد عرف هذا الشيخ بالفقاهة وكتابه المشهور (شرائع الإسلام) الذي يعدّ في مقدمة المناهج التدريسية في الحوزات العلمية (المؤسسة العلمية الدينية) في مجال الفقه الاستدلالي.

وآخر أساتذته هو أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الصفرعاني، صاحب المؤلفات الكثيرة منها: توجيه السؤالات لحل الإشكالات، وجامع الدلائل، ومجمع الفضائل، ومجمع البحرين ومطلع السعادتين.

أما تلامذته فهم: جمال الدين أبو منصور حسن يوسف المطهر الحالي الملقب بالعلامة، سید غیاث الدين أبو المظفر أحمد بن طاووس وهو ينتسب لأسرة علمية ويحظى بمكانة خاصة في مدينة الحلة، ويطلق عليه اسم الفقيه النسابة والنحوي والعروضي، و کمال الدين أبو الحسن علي بن شیخ شرف الدين حسين بن حماد بن خير الليثي الواسطي وهو فقيه وعالم وشاعر ومحدّث، والشيخ مفيد الدين محمد بن جهم الأسدي الحلي، ويسمی شیخ فقهاء الحلة، وهو عالم صدوق وفقيه وشاعر أديب.

ص: 42

تحتل علوم الفلسفة وعلم الكلام والعرفان مكاناً متميزاً في منظومة الشيخ العلمية والفكرية حتى غدت أفكاره تحمل خليطاً من هذه العلوم يصعب تصنيفها بل حتى دراستها بشكل منفصل عن بعضها.

مؤلفاته (9):

للشيخ ميثم مؤلفات عديدة في مواضيع مختلفة كالفقه، والفلسفة، والكلام، والتصوف، والأدب، وهي في ما يأتي:

1. شرح نهج البلاغة.

2. القواعد في علم الكلام.

3. رسالة في أدب البحث.

4. البحر الخضم.

5. النجاة في القيامة في تحقيق الإمامة.

6. أصول البلاغة.

7. رسالة في الوحي والإلهام.

8. شرح حديث المنزلة.

9. شرح المائة كلمة المرتضوية.

10. المعراج السماوي.

11. الاستقصاء والنظر في إمامة الأئمة الاثني عشر.

12. شرح إشارات علي بن سليمان البحراني.

ص: 43

ثالثًا: حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ:

وهو إيراني (آذري) ترجع أصوله إلى مدينة خوي التي يتكلّم أهلها اللغة الأذرية، واشتهر بكونه أحد شُرّاح کتاب نهج البلاغة (10)، وولد في مدينة خوي ثم هاجر إلى النجف؛ ليتتلمذ هناك عند حسين الترك، وعلي بن خليل الطهراني، وسافر في أواخر أيام حياته إلى طهران، وتُوفيّ بها سنة 1324 ه (11).

أما مؤلفاته فهي:

1. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ويقع هذا الكتاب في ثمانية مجلدات.

2. ترجمة نهج البلاغة. ترجمة فارسية لكتاب نهج البلاغة (12).

3. حاشية القوانين. حاشية على بعض أبواب کتاب القوانين.

4. منتخب الفن في حجة القطع والظن.

5. إحقاق الحق في تحقيق المشتق.

6. الجنة الواقية. هذا الكتاب مُخصّص في أدعية نهار شهر رمضان مع شرحها.

منهج شرّاح نهج البلاغة في الشّرح:

يتلخص منهج شُرَّاح نهج البلاغة في الشرح بنقطتين:

النقطة الأولى: شرح ابن أبي الحديد المعتزليّ يتلخص منهجه بذكر الأصل الّذي يقصد به نص كلام الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ يذكر الشرح الذي يتضمن به المعنى اللغويّ للكلمات التي تحتاج الى ايضاح معناها، والقضايا النحوية والصرفية، والوقائع التاريخية والأحداث التي تلازم مقام الشرح، كذلك یكثر من الشواهد الشعرية التي تناسب المقام. أما منهج شرح کمال الدين ميثم البَحرانيّ فهو أقل اختصارًا، وأقل اطنابًّا من شرح ابن أبي الحديد المعتزليّ، يذكر نص کلام الامام

ص: 44

ثُمَّ يعرج بالشرح اللغويّ والدلاليّ والنحويّ، أما منهج صاحب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) للميرزا حبیب الله الهاشميّ الخوئيّ فيذكر النَّص (المتن)، ثُمَّ يبدأ بالشَّرح، ويقسمه على أقسام: اللغة، والاعراب، والمعنى، والترجمة يقصد بها ترجمة المعنى الى اللغة الفارسيّة.

النّقطة الأخرى: وضع مؤلّفو هذه الشروح الثلاثة مقدمات لشروحهم، فابن أبي الحديد المعتزليّ وضع مقدمةً تحدث فيها عن ثلاثة أقوال (13):

القول الأوَّل: في ما يذهب اليه المعتزلة في الامامة والتفضيل والبغاة والخوارج.

القول الثاني: في نسب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وذكر لمع يسيرة من فضائله.

القول الثالث: في نسب شريف الرضيّ (رحمه الله) وذكر طرف من خصائصه، ومناقبه. أما مقدمة الشيّخ ميثم البحرانيّ فقد وضع ثلاث قواعد قبل البدء بالشرح، وهي (14):

القاعدة الأولى: في مباحث الألفاظ، وهي مرتبة على قسمين: الأول: في دلالة الألفاظ وأقسامها، وأحكامها، والقسم الآخر: في كيفيات تلحق الألفاظ بالنسبة الى معانيها، فتوجب لها الحسن والمزية، وتعدها أتم الاعداد لأداء المعاني وتهيئ الذهن للقبول، وقدّم لهذا القسم بحثين: الأول في حدِّ البلاغة والفصاحة، والأخر في موضوع علم الفصاحة والبلاغة، ثُمّ قسم هذا القسم على جملتين تحدث فيهما عن المفردات ودلالاتها، وعن النظم وحقيقتِه وأقسامه (التقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والاضمار، وفي أحکام ان وانما وما في حكمهما).

القاعدة الثانية: في الخطابة، وجعل لها أبحاثًا تضمّ (حقيقة الخطابة وفائدتها، وموضع الخطابة وأجزاءها، ومبادئ الخطابة، وأقسام الخطابة، وأنواع مشتركة للأمور الخطابية، تحسينات الخطابة).

ص: 45

القاعدة الثالثة: في بيان أن عليًا (عليه السلام) كان مستجمعًا ففضائل الانسانية، وفصّل القول في ثلاثة فصول: في فضائله اللاحقة له من خارج، وفي بيان فضائله النفسانيّة، وفي صدور الكرامات عنه.

وتضمنت مقدمة حبيب الله الهاشمي الخوئيّ لشرح نهج البلاغة حديثه عن اللفظ والمعنى، وعلوم البلاغة والبديع والفصاحة، ثمَّ تحدثّ عن نسب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبيان کناه الرفيعة، وألقابه الشامخة، وصفاته، كذلك عرض الى نسب الرضي (رحمه الله) (15).

أثر المرجعيات الفكريّة للشرّاح في شرحِهم العهد العلويّ:

قبل البدء في بيان أثر المرجعيات الفكرية للشرّاح، فلا بد من ایضاح مصطلح المرجعية الذي يتمثل في إطارين: الأول یعنی بالمراجع المعتمدة، ونوعها، وطرائق اختيارها، وكيفية الإحالة عليها أو عدم الإحالة عليها، أما الإطار الأخر فیکون بالخلفية الثقافية والعلمية التي تؤطّر وضع الأفكار والمصطلحات والأساليب (16)، وهذا الإطار هو الذي نقصد به هنا، أما في العُرف الاصطلاحي العام فتعني بأنها ((حقيقة غير لسانية تستدعيها العلامةُ)) (17)، أيضًا يقصد بها ((كلّ الطبقات المتعددة والمختلفة من البنى المعرفية المتجسدة في النّص، والسابقة في وجودها الجزئي عليه، وهي كذلك شبيهها أو مثليها عند القارئ)) (18)، ففي الاصطلاح الإجرائي نقصد بها أنّها هي المورد الذّي يستمد منه شارحُ نهج البلاغة أفكارَه، وآراءه، وأسلوبه، وفلسفته في كتابة شرحه.

ص: 46

ويمكننا اجمال أثر المرجعيات الفكرية للشرّاح في شرحِهم العهد العلويّ بما يأتي:

1- قسّم کمال الدين میثم بن علي بن میثم البحرانيّ العهد العلويّ على أربعة فصولٍ؛ من أجل بيان المحاور التي أراد الامام العمل بها في قيادة الدولة، وهذه الفصول هي: الفصل الأول: تضمن غرض الولاية وبيان مفهومه، أيضًا تضمن خمسة أوامر لمالك يلزم عليه في اصلاح نفسه من التأديب والحزم؛ ليقدر على اجراء أمر ولاية مصر، والفصل الثاني: في أوامره ووصاياه بالأعمال الصالحة المتعلقة بأحوال الولاية وتدبير الملك والمدينة، والفصل الثالث: ارشاده فيه الى ما يستصلح به النّاس وأمورهم، والتنبيه على طبقات النَّاس الذين ينتظم بهم أمر المدينة، ووضع كلّ على حدّة وطبقته التي يقتضي الحكمة النبويّة وضعه فيها، والاشارة الى تعلّق كلّ طبقة بالأخرى حيث لا صلاح لبعضهم الا بالبعض، وبذلك يكون قوام المدينة، ثُم بالإشارة إلى من يستصلح من كلِّ صنفٍ، وطبقةٍ يكون أهلًا لتلك المرتبة، والوصية في كلِّ ما يليق به، أما الفصل الرابع فيتعلق بالأوامر والنواهي المصلحية، والآداب الخلقيّة والسياسية، بعضها عامّة، وبعضها خاصّة يتعلق بعماله وبخاصته، وببطانته، وبنفسه وأحوال عبادته الى غير ذلك.

أما الميرزا حبیب الله الهاشمي الخوئيّ فقد توسع شرحه للعهد العلوي، فجعل العهد على أربعة عشر فصلًا، وهي:

الفصل الأوَّل: محوره عقد لمالك ولاية عامّة على كلِّ أمور مصر وجمعها في أربع: الأمور المالية والاقتصادية، والأمور العسكرية، والأمور الاجتماعيّة والنظم الحقوقية الراجعة الى كلِّ فردٍ.

الفصل الثاني: بیان روابط مالك مع رعيته، والمسوسين له العامّة والخاصّة.

الفصل الثالث: تضمن بیان طبقات النّاس والرعيّة، وأثبت الامام أن الرعيّة سبع

ص: 47

طبقات، وليس المقصود من ذلك اثبات نظام الطبقات وتأييده فان نظام الطبقات مخالف للعدل والديمقراطية الحاكمة بتساوي الرَّعية في الحقوق.

الفصل الرابع: محوره بیان ما يلزم أن يتّصف به الجندي من الأوصاف حتّى يستحق لمقام الولاية على السائرين، وهذا هو من أهم أمور النظام العسكري.

الفصل الخامس: يتعلق بالجند وأمرائه للعدالة؛ وذلك لارتباط اجراء العدل في البلاد بالجند؛ لكونه هو المالك والقائم بالسيف في الرعية بحيث يكون القوّة والقدرة على اجراء الأُمور بیدِه.

الفصل السادس: تعرَّض إلى القوّةِ القضائية، وما يلزم في القاضي من الأوصاف والألقاب؛ ليكون أهلًا لتصدّي منصب القضاء والحكم بين النَّاس.

الفصل السابع: تضمن بيان النّظام السياسيّ للبلاد، وكان النظام السياسي في صدر حكومة الاسلام بسيطاً جداً، فهو العِلة الرئيسة لتقدّم الاسلام، ونفوذه في الأمم والشعوب، فكان ينبعث قبل الخليفة لكلِّ ناحية عامل، والشغل الرئيس لهذا العامل مهما كان مدار عمله وسعيًا أمران: الأول: اقامة الصلاة للناس بإمامته، فكان حضور الجماعة والصلاة خلف العامل واجبًا على كلِّ المكلّفين، والأخر: جمع الخراج من الدهاقين والزارعين، ويدخل في ضمنه الجزية المفروضة على أهل الكتاب الداخلين في ذمة الاسلام من اليهود والنصارى، والمجوس.

الفصل الثامن: محوره نظام الديوان والكتّاب، وهو من الأنظمة الرئيسة في الدّول الراقية والمتمدّنة، وتضمن هذا الفصل تنظیم نظام الديوان، وألقاب الكتّاب اللائقين الأنجاب، وبيان ما يلزم من آداب الكتّاب.

ص: 48

الفصل التاسع: يتضمن ما يصلح به أمر الأمّة، وركنه التجارة والصناعة، والتجارة شغلٌ شریفٌ حثَّ عليها في الشرع الإسلامي؛ لكونها وسيلة لتبادل الحاصلات الأوليّة، والتوليدات الصناعيّة، وهذا التّبادل ركن الحياة الاجتماعيّة، ونظام الحيوية المدنيّة.

الفصل العاشر: أوضح فيه الامام الطبقة السّفلى، نظرًا الى ظاهر حالهم عند النَّاس حيث عاجزون عن الحيلة والاكتساب، وهم مساكين، ومحتاجون، والمبتلون بالبؤس، والزِمانة؛ لكن سوّاهم مع جميع النَّاس في الحقوق، وأظهر بهم أشد العناية، وقسّمهم على ثلاثة: القانع، وقد فسّر يمن يسأل لرفع حاجته، ويعرض حاجته على مظانّ قضائه، والمعترّ: وهو السيئ الحال الذي لا يسأل الحاجة بلسانه؛ لكن يعرض نفسه في مظان التّرحم والتوجّه اليه، فكان يسأل بلسان الحال، من اعتزل في زاوية بيته لا يسأل بلسانّه، ولا يعرض نفسه على مظانّ قضاء حوائجه، اما لرسوخ العفاف وعزّة النّفس فيه، واما لعدم قدرته.

الفصل الحادي عشر: يتضمن بیان ما يربط الوالي نفسه، وبيّنه الامام في ثلاثة أمورٍ:

الأوّل: ما يلزم على الوالي بشأن العموم من يرجع اليه من حاجة ويشكو اليه في مظلمة، ووصّاه بأن يعيّن وقتًا من أوقاته لإجابة المراجعين اليه.

الثاني: ما يلزم عليه في ما بينه وبين أعوانه وعمّاله المخصوصین به من الكتّب والخدمة. الثالث: ما يلزم عليه في ما بينه وبين الله فوصّاه بأن الولاية بما فيها من المشاغل والمشاكل، لا تحول بينه وبين ربّه، وأداء ما يوجب عليه من العبادة، والتوجّه الى الله. الفصل الثاني عشرة: محوره هو النهي عن غيبة الوالي من بين النَّاس وعدم الاختلاط معهم؛ اذ لا يعرف أحوالهم، فينتهز خواصّه هذه الفرصة فيموهوّن عليه الحقائق مثلما یریدون، ويعرضون عليه الأمور بخلاف ما هي عليه، فيستصغر عنده الكبير

ص: 49

بالعکس، ويقبح بإضلالهم عند الحسن و بالعكس، ولا يميّز عنده الحقّ من الباطلِ. الفصل الثالث عشر: يتضمن نواحي العدالة يجب أن تكون متساوية، وعليه يلزم الولاة، والحكّام، والسلاطين، والزعماء، العدالة في خصوص الأولياء، والأحبّاء، والأقرباء، والأرحام، من حيث منعهم عن الظّلم بالرعيّة اعتمادًا على تقرّبهم بالحاكم، ومن بيده الأمر والنهي.

الفصل الرابع عشر: هذا الفصل يتعلق في الرّوابط الحكوميّة الاسلاميّة الخارجيّة، وحثَّ على رعاية الصّلح، وقبول الدّعوة اليه، وهذا الدّستور ناشئ من جوهر الاسلام الذي كان شريعة الصّلح والسّلام، والأمن، فانّه نهض بشعارين ذهبيين وهو الاسلام والايمان، والاسلام مأخوذ من السّلم، والايمان مأخوذ من الأمن، وهذان الشعاران اللّذان نهض الاسلام بهما.

2- الاختلاف في تأويل کلام الامام، ومن أمثلة ذلك: قوله: ((... وأن ينصرَ الله سبحانَه بيدِه، وقلبِه، ولسانِه، فانَّه جلّ اسمه قد تكفَّل بِنصرٍ من نَصرَه، واعزاز مَن أعزَّ)) (19)؛ اذ شرح ابن أبي الحديد عبارة (نصرة الله بیده: بالسيف، وبالقلب الاعتقاد للحقِّ...) (20)، بينما توسع في معنى تأويل هذه العبارة الميرزا حبیب الله الخوئي؛ إذ قال: ((لا ينحصر نصرة الله باليد على الجهاد بالسيف، فإنّها تحقق كلِّ أعمال الجوارح المرضية لله تعالى، ومنها الجهاد بالسيف، اذا حان الوقت، وحظر شرطه)) (21).

كذلك اختلافهم في تأويل في دلالة العُمّال، في قول الامام: ((ثُمَّ انظر في أُمورِ عُمَّالِك، فاستعملهم اختبارًا، ولا تُولّيهم مُحابَاةً وأثرَةً، فانهما جِمَاعٌ من شُعَب الجورِ والخيانةِ)) (22)، فقد قال ابن أبي الحديد في دلالة العمّال: ((... وهم العُمَّال السّواد والصّدقات، والوقوف، والمصالح وغيرها...)) (23)، بينما توسّع في دلالة تأويل العُمّال، وردّ کلام ابن أبي الحديد؛ اذ قال: ((لا وجه لاختصاص بصنف من العُمّال،

ص: 50

بل المقصود منه مطلق العُمّال، ومن يلي أمر ناحية البلاد، والاثرة هو اظهار المحبّة لأحد، أو التعطّف له لتودُّده، أو حاجته، وغير ذلك من دواعي الخصوصيّة...)) (24).

واختلفوا في توجيه عبارة الامام: ((... وَوفِّ ما تقرَّبتَ به الى الله سُبحانك من ذلك كاملاً غيرَ مثلُومٍ، ولا منقوصٍ..)) (25)، اذ قال ابن أبي حديد في توجيه هذه العبارة: ((کاملاً غیر مَثلومٍ)، أي لا يحملنّك شُغُل السلطان على أن تختصرَ الصلاة اختصارًا، بل صلّها بفرائضها، وسُنتها، وشعائرها في نهارك وليلك....)) (26)، بينما الميرزا حبیب الله الهاشميّ الخوئيّ أخذ ظاهر التأويل؛ اذ قال: (الظاهر أن المقصود من قولِه (غير مَثلومٍ) هو النهي عن الاخلال بواجب في العبادة من شرط أو جزء، بحيث يوجب بطلان، والمقصود من قوله (غير منقوص) النهي عن النقصان غير المبطل کالاختصار، والتعجيل في الأداء أو التأخير من وقت الفضيلة)) (27).

كذلك اختلف شرّاح نهج البلاغة في تأويل دلالة الاحتجاب، في قول الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((وأمّا بعد هذا، فلا تُطوّ احتجابَك عن رعيّتك...)) (28)، فقد أوضح ابن أبي الحديد دلالة الاحتجاب؛ اذ قال: ((نهاه عن الاحتجاب؛ فانّه مَظِنّة انطواء الأُمور عنه، واذا رُفِع الحجاب دخل عليه أحد فعرَف الأخبار، ولم يخفَ عليه شيء من أحوال عَمله)) (29)، بينما خالف حبیب الله الخوئي ما أوضحه ابن أبي الحديد من دلالة (الاحتجاب)، فقد ذكر أنَّ المقصود بالاحتجاب هو النهي عن غيبة الوالي من بين النَّاس وعدم الاختلاط معهم؛ اذ لا يعرف أحوالهم، فينتهز خواصّه هذه الفرصة فيموّهون عليه الحقائق مثلما يريدون، ويعرضون عليه الأمور بخلاف ما هي عليه، فيستصغر عنده الكبير وبالعكس، ويقبح بإضلالهم عند الحسن وبالعكس، ولا يميّز عنده الحقّ من الباطلِ (30).

ص: 51

3- الاكثار من التقسيمات، وهذا الاكثار يعدّ ضربًا من ضروب ایضاح کلام الامام علي (عليه السلام)، ومن ذلك: تفصيلهم في طبقات أهل المدينة، وبيان تفضيل الجنود على الطبقات الأخرى (31)، كذلك تفصيلهم في ذكر أوصاف تعيين الجنود (32)، والقضاة (33)، وتفصيلهم أوصاف الكتّاب (34)، وتفصيلهم في أوصاف الخاصّة بالوالي (35).

كثُر الاستشهاد بالحوادث التاريخية (36)، والرسائل (37)، والأحاديث (38) ، والعهود، فضلًا عن كثرة الشواهد الشعرية والقرآنية، ومن أمثلة ذلك: تاريخ مصر (39)، ورسالة الاسكندر الى أرسطو وردّ أرسطو عليه (40).

عرض المسائل الفقهية في أثناء شرحهم العهد العلويّ، ومن ذلك: مسألة شرائط القاضي عند الفقهاء (41)، ومسألة الاحتكار الأجناس (42).

ص: 52

الخاتمة:

ففي نهاية بحثنا يمكننا الوقوف على أبرز ما هدف اليه؛ وذلك في ما يأتي:

أ- وقف هذا البحث على أهم المرجعيات الفكرية عند شراح نهج البلاغة في شرحهم العهد العلويّ.

ب- أوضح البحث اختلاف تعدد وجهات نظرهم في تأويل عبارة نص العهد.

ت- استقى الشرّاح من روافد متعددة، منها: القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، والفقه، والرافد التاريخي، والرافد اللغويّ والنحويّ، فضلا عن مصطلحات مدارسهم الفكرية، كل هذه الروافد وغيرها مكنتهم من شرح العهد العلويّ.

ث- يمكن دراسة العهد العلوي على وفق الفصول التي تناولها الشرّاح، لبيان مضامینه.

ص: 53

التوصيات:

1. أن تتبنى أقسام اللغة الانكليزية واللغة العربية، واللغات الأخرى بترجمة العهد العلويّ؛ لكونه يمثل دستور هذه الأمّة، وسرَّ نجاحها ان التزمت به، وبأوامره ونواهي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

2. أن تتبنى وزارة التربية، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتدریس مضامين العهد العلويّ، بدلا من دراسة الحضارات القديمة كاليونانية والرومانيّة، والعهود الاوربيّة التي استقت مادتها من العهد العلويّ.

3. دراسة مضامين عهد الامام علي بن أبي طالب من خلال شروح نهج البلاغة.

ص: 54

الهوامش

1. يُنظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلکان (ت 681 ه)، تح: احسان عباس: 391/5 -392، وسير أعلام النبلاء، لشمس الدين الذهبي (ت 748 ه)، تح: د. بشار عواد، ود. محيي هلال سرحان: 23/ 372، والبداية والنهاية لابن کثیر عماد الدين الدمشقي (ت 774 ه)، تح: علي شيري: 13/ 223.

2. يُنظر: ذیل تاريخ مدينة السلام، لأبي عبد الله محمد بن سعيد الدبيثيّ (ت 637 ه)، تح: د. بشار عواد معروف: 5/ 95، ومصادر السيرة النبويّة والتأريخ الاسلاميّ السيد سامي البدريّ: 133.

3. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهیم: 3.

4. يُنظر: المصدر نفسه (مقدمة المحقق): 1/ 18 - 19.

5. يُنظر: ما كتبه الشيخ محمد رضا خاتمي (بروجردي) في مقدمة شرح نهج البلاغة لكمال میثم علي بن میثم البحراني: 14 - 15، وكتاب لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحدیث، للشيخ يوسف ابن أحمد البحرانيّ (ت 1186 ه)، حققه: العلامة الكبير السيّد محمّد صادق بحر العلوم: 245 - 246.

6. يُنظر: شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 21.

7. ينظر: لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحديث: 244.

8. ينظر: مقدمة محقق شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 13، لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحدیث: 243.

9. ينظر: شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 11 وما بعدها، لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحديث: 248 - 249.

ص: 55

10. ينظر: أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين: 561.

11. ينظر: مرآة الكتب، لثقة الاسلام التبريزي علي بن موسی، تح: محمد علي الحائري: 481.

12. ينظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للسیّد آغا بزرك الطهراني: 4/ 145.

13. ينظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم: 1/ 7 - 41.

14. ينظر: مقدمة شرح نهج البلاغة، کمال الدین میثم البحراني، تقديم: د. عبد القادر حسين: 19 - 223.

15. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للميرزا حبیب الله الهاشمي الخوئيّ: 18 - 202.

16. ينظر: المرجعيّة اللّغوية في النّظرية التداوليّة، د. عبد الحليم موسی، منشور في مجلة دراسات أدبيّة/ الجزائر، العدد 1، 2008 م: 14.

17. ينظر: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعید علوش: 97.

18. ينظر: مسارات النّصوص... مسارات القراءة داخل في قراءة النص الشعريّ، زیاد الزغبي، بحث منشور في مجلة الموقف الأدبي، العدد 412: 45.

19. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم: 17/ 22.

20. المصدر نفسه والصفحة نفسها.

21. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 152.

22. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ: 17/ 47.

23. المصدر نفسه والصفحة نفسها.

24. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 216.

ص: 56

25. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي: 17/ 60.

26. المصدر نفسه: 17/ 61.

27. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 246.

28. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ: 17/ 61.

29. المصدر نفسه والمصدر نفسه.

30. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 251.

31. ينظر: شرح نهج البلاغة، لميثم البحراني: 5/ 148 - 149.

32. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 150.

33. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 152.

34. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 157.

35. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 165.

36. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 217.

37. يُنظر: المصدر نفسه: 20/ 224 - 225.

38. يُنظر: المصدر نفسه: 20/ 231 39. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 153 - 159.

40. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 185 - 187.

41. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 208 وما بعدها.

42. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 235 وما بعدها.

ص: 57

المصادر

1. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلکان (ت 681 ه)، تح: احسان عباس: 391/5 -392، وسير أعلام النبلاء، لشمس الدين الذهبي (ت 748 ه)، تح: د. بشار عواد، ود. محيي هلال سرحان: 23/ 372، والبداية والنهاية لابن كثير عماد الدين الدمشقيّ (ت 774 ه)، تح: علي شيري: 13/ 223.

2. يُنظر: ذیل تاريخ مدينة السلام، لأبي عبد الله محمد بن سعيد الدبيثيّ (ت 637 ه)، تح: د. بشار عواد معروف: 5/ 95، ومصادر السيرة النبويّة والتأريخ الاسلاميّ السيد سامي البدريّ: 133.

3. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهيم: 3.

4. يُنظر: المصدر نفسه (مقدمة المحقق): 1/ 18 - 19.

5. يُنظر: ما كتبه الشيخ محمد رضا خاتمی (بروجردي) في مقدمة شرح نهج البلاغة لكمال میثم علي بن میثم البحراني: 14 - 15، وكتاب لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحدیث، للشيخ يوسف ابن أحمد البحراني (ت 1186 ه)، حققه: العلامة الكبير السيّد محمّد صادق بحر العلوم: 245- 246.

6. يُنظر: شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 21.

7. ينظر: لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحديث: 244.

8. ينظر: مقدمة محقق شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 13، لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحدیث: 243.

9. ينظر: شرح نهج البلاغة، لكمال میثم بن علي بن میثم البحرانيّ: 11 وما بعدها، لؤلؤة البحرين في الاجازات وتراجم رجال الحدیث: 248 - 249.

10. ينظر: أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين: 561.

ص: 58

11. ينظر: مرآة الكتب، لثقة الاسلام التبريزي علي بن موسی، تح: محمد علي الحائری: 481.

12. ينظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للسيّد آغا بزرك الطهراني: 4/ 145.

13. ينظر: شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهیم: 1/ 7 - 41.

14. ينظر: مقدمة شرح نهج البلاغة، کمال الدين ميثم البحراني، تقديم: د. عبد القادر حسين: 19 - 223.

15. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للميرزا حبیب الله الهاشمي الخوئيّ: 18 - 202.

16. ينظر: المرجعيّة اللّغوية في النّظرية التداوليّة، د. عبد الحليم موسی، منشور في مجلة دراسات أدبيّة / الجزائر، العدد 1، 2008 م: 14.

17. ينظر: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعید علوش: 97.

18. ينظر: مسارات النّصوص... مسارات القراءة داخل في قراءة النص الشعريّ، زیاد الزغبي، بحث منشور في مجلة الموقف الأدبي، العدد 412: 45.

19. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ، تح: محمد أبو الفضل ابراهیم: 17/ 22.

20. المصدر نفسه والصفحة نفسها.

21. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 152.

22. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ: 17/ 47.

23. المصدر نفسه والصفحة نفسها.

24. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 216.

25. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ: 17/ 60.

ص: 59

26. المصدر نفسه: 17/ 61.

27. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 246.

28. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزليّ: 17/ 61.

29. المصدر نفسه والمصدر نفسه.

30. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 251.

31. ينظر: شرح نهج البلاغة، لميثم البحراني: 5/ 148 - 149.

32. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 150.

33. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 152.

34. ينظر: المصدر نفسه: 5/ 157.

35. ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، للخوئي: 20/ 165.

36. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 217.

37. يُنظر: المصدر نفسه: 20/ 224 - 225.

38. يُنظر: المصدر نفسه: 20/ 231.

39. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 153 - 159.

40. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 185 - 187.

41. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 208 وما بعدها.

42. ينظر: المصدر نفسه: 20/ 235 وما بعدها.

ص: 60

الاستبدال وأثره في اتساق النص عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) إنموذجا

اشارة

م. د. مجيب سعد أبوكطيفة

ص: 61

ص: 62

الملخص

يشهد البحث اللغوي المعاصر تطورًا مذهلًا وكبيرًا، إذ تعددت النظريات، والاتجاهات، والمناهج التي تعنى باللغة، وأنظمتها، وخصائصها، ويهدف ذلك إلى تقديم أوضح تفسير ممكن لمختلف الظواهر اللغوية من أجل خدمة الإنسان.

ومن العلوم التي اهتمت بدراسة اللغة "اللسانيات النصية"، وهو العلم الذي يدرس النص بعدِّه البنية الكبرى في اللغة ومن ثمَّ تجاوز حدود الجملة.

وقد اعتمد النصيون على مجموعة من المعايير في تحليل النص، تُمثِلُ هذه المعاييرُ طرائقَ يُنظر بها إلى النَّصِّ على أنَّه وحدةٌ مستقلةٌ في ذاتها وتُحدِدُ ابتداءً ماذا يُشكِلُ نَصَّاً ما.

وقد نتجت هذه المعايير عن سؤال، ما الذي يجعل تتابعاً جُملیَّاً نصَّاً؟ وما الشروط التي.

يجب أن تُقدَّم في تكوين النَّصِّ؟ وبالإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن يتحدث عن النص، ويمكن أن يُفصَل ذلك النَّصُّ عن تتابعات جُمليَّة عارضة يجب أن توصف بأنَّها لیست نُصوصاً.

فتصنيفَ هذه المعاييرِ "جاء على وفقِ معاييرَ تخصُّ النّصَّ، ومعاييرَ تخصُّ المشاركين، وأخرى تخصُّ المحيطَ الثّقافي".

إنَّ هذه المعاييرِ بعضها لغويّ، كما في الاتّساق، والانسجام، وبعضها غيرُ لغويّ، كما في القصديّة، والمقبوليّة، وبعضها مشتركٌ بين اللّغويّ، وغيرِ اللّغويّ، كما في الموقفيّةِ والإعلاميّة والتّناصّ.

ونحن في بحثنا هذا سنقتصر على معيار واحد وهو معيار الاتساق محاولين أن نتخذ من الاستبدال الذي يمثل أحد وسائله منطلقاً لتحلیل عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه).

ص: 63

المقدمة

الحمد لله الذي لا يخلف وعده رسله ومضت إرادته أن يمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ثم الصلاة والسلام على الرسول الشاهد على خلقه المبشِّر بأن المهدي من ذريته، وعلى خلفائه من أهل بيته الموعدين باستخلافهم في الأرض وتمكين الدين ليظهروه رغم كره الكارهين الجاحدين لهم.

و بعد يشهد البحث اللغوي المعاصر تطورًا مذهلًا وكبيرًا، إذ تعددت النظريات، والاتجاهات، والمناهج التي تعنى باللغة، وأنظمتها، وخصائصها، ويهدف ذلك إلى تقديم أوضح تفسير ممكن لمختلف الظواهر اللغوية من أجل خدمة الإنسان.

ومن العلوم التي اهتمت بدراسة اللغة "اللسانيات النصية"، وهو العلم الذي يدرس النص بعدِّه البنية الكبرى في اللغة ومن ثمَّ تجاوز حدود الجملة.

يدين هذا العلم بوجوده إلى التطور الحاصل في مجالين مختلفين، ولكنهما متقاربان كثيرًا:

المجال الأول: يتمثل بظهور ما أطلق عليه تون. أ. فان دايك: "علم متداخل الاختصاصات" يهدف أساساً إلى تحليل عام للنصوص (1). ف "اللسانيات النصية" تكون بذلك جزءًا من نزعة طغت على التوجه العام للأبحاث الحاصلة في العلوم المجاورة للدراسات اللغوية، والأدبية، لعلَّ أهمها "علم النفس والاجتماع مثلما يكون الشأن في علم الاتصال الجماهيري" (2).

ويذهب اللساني الأمريكي روبرت دي بوجراند إلى تعميمها على العلوم التي لها صلة باللسانيات "كعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وعلوم الحاسب الآلي والسيمو طيقا والتربية والدراسات الأدبية" (3).

ص: 64

ويعدٌّ منهج تحليل المحتوى أو تحليل المضمون في علم الاجتماع، ومنهج تحليل المحادثة أو الحوار في علم النفس، وعلم الطب النفسي، والعلاج النفسي الأكثر تبلورًا بين مناهج التحليلات النصية التي عرفتها العلوم الإنسانية، والاجتماعية، وإنها شديدة الارتباط بمنهج التحليل النصي للأدب (4). وهذا ما ذهب إليه فان دايك الذي يرى أنَّ التحليل اللغوي للنص الأدبي ما هو في الحقيقة إلا تيار مواكب لما تعرفه العلوم المجاورة من تطور (5).

المجال الثاني: يتمثَّل بالتطور الذي شهدته الدراسات اللسانية الحديثة والمعاصرة، ولاسيما في نقل الاهتمام من الجملة إلى النص (6). إذ المنطلقات النظريَّة في النظريات النحوية المختلفة تَعُدُّ الجملة دائرة البحث، وهي أقصى درجات التركيب؛ ممَّا جعل هذه النظريات تُغيِّبُ المبحث المتمثل في تحليل النَّصِّ، وتغفل الطرائق الإجرائية في بيان الحدود الفاصلة بين الجمل المكونة للنَّصِّ (7)، وتتمسك بمبدأين هما (8):

1. الإصرار على استقلال النحو عن رعاية المواقف العملية.

2. إخضاع كُلِّ الجمل المركبة لمجموعة ثابتة من التراكيب البسيطة، قد كوَّنا عقبة كأداء أمام نظريات الصياغة اللغويَّة.

ويمكن النظر إلى التَّطوّر الحاصل في الدرس اللسانيّ على أنه أمرٌ ناتجٌ عن الإحساس بالوظيفة الاجتماعيَّة للغة، وإلى ضرورة وجود الأثر التواصلي الذي يعدُّه الألسنيون جوهر العمليات الاجتماعية (9) إذ إنَّ "كثيرًا من الظواهر التي تعالج في إطار النص كوحدة كبرى هي في حقيقة الأمر قد كانت محور كثير من البحوث النحوية التي كانت تعدُّ الجملة أكبر وحدة في التحليل، غير أن النص يراعي في وصفه وتحليلاته عناصر أخرى لم توضع في الاعتبار، ويلجأ في تفسيراته إلى قواعد

ص: 65

دلالية ومنطقية إلى جوار القواعد التركيبية، ويحاول أن يقدم صياغات كلية دقيقة للبنية النصية وقواعد ترابطها" (10).

معايير النص

تُمثِلُ معاييرُ النَّصِّ طرائقَ يُنظر بها إلى النَّصِّ على أنَّه وحدةٌ مستقلةٌ في ذاتها، وتُحدِدُ ابتداءً ماذا يُشكِلُ نَصَّاً ما.

وقد نتجت هذه المعايير عن سؤال، ما الذي يجعل تتابعاً جُملیَّاً نصَّاً؟ وما الشروط التي يجب أن تُقدَّم في تكوين النَّصِّ؟ وبالإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن يتحدث عن النص، ويمكن أن يُفصَل ذلك النَّصُّ عن تتابعات جُمليَّة عارضة يجب أن توصف بأنَّها ليست نُصوصاً (11).

تباين اللسانيون "بعضهم عن بعضهم الآخر في التصورات والإجراءات التي يعتمدونها في التمييز بين النَّصِّ واللانَّصّ، أو السِّمات الكافية لإطلاق اسم النَّصِّ على مقاربة ما" (12).

لمَّا رأى بو جراند ودریسلر عدم شمولية الدراسات اللسانية السابقة في كشف نماذج مقبولة للنشاط الإنساني اقترحا معايير النَّصيَّة "Textulity" أساساً مشروعاً لإيجاد النُّصوص واستعمالها، وصنَّفا المعايير التي يُحَلَّلُ النَّص على أسَاسِها بالنحو الآتی:

أ- ما يتّصلُ بالنّصِّ في ذاتِه، وهما معيارا الاتّساقِ والانسجام.

ب- ما يتّصلُ بمستعملي الّنصِّ - سواء أمنتِجاً كان المستعملُ أم مُتلقِّياً - وهما معیارا القصديّةُ والمقبوليّة.

ص: 66

ت- ما يتّصلُ بالسّياقِ الخارجيّ: وهو بقيّة المعايير: "الإعلاميّة والموقفيّة والتّناصّ" (13).

فتصنيفَ هذه المعاييرِ "جاء على وفقِ معاييرَ تخصُّ النّصَّ، ومعاييرَ تخصُّ المشاركين، وأخرى تخصُّ المحيطَ الثّقافي" (14).

إنَّ هذه المعاييرِ بعضها لغويّ، كما في الاتّساق، والانسجام، وبعضها غيرُ لغويّ، كما في القصديّة، والمقبوليّة، وبعضها مشتركٌ بين اللّغويّ، وغيرِ اللّغويّ، كما في الموقفيّةِ والإعلاميّة والتّناصّ.

ونحن في بحثنا هذا سنقتصر على معيار واحد وهو معيار الاتساق محاولين أن نتخذ من الاستبدال الذي يمثل أحد وسائل الاتساق وسيلة لتحلیل عهد الإمام على (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه).

الاتساق

يحكمُ ترابط الجملِ معَ بعضها أدوات شكلية أو دلالية، وإنَّ خلو النص من هذه الأدوات يُصيُّره جملاً متراصة لا يربط بينها رابط "ويصبح النص - إذا عددناه نصاً - جسداً بلا روح" (15). من هنا ظهرت الحاجة إلى عنصر جوهري يدخل في تشكيل النَّصِّ وتفسيره، فيعمل على جعل الكلام مفيداً، ويعمل على استقرار النَّصِّ وثباته، بعدم تشتت الدَّلالة الواردة في النَّصِّ، و تنظیم بنية المعلومات داخل النَّصِّ مما يساعد القارئ على فهمه بمتابعةِ خيوط التَّرابط المتحركة عبر النَّصِّ التي تمكنه من ملء الفجوات أو معلومات ما بين السُّطور التي لا تظهر فيه ولكنَّها ضرورية (16). وقد أطلق الغربيون على هذا المعيار مصطلح "cohesion" الذي يُعدُّ المعيار الأوَّل من المعايير النَّصيَّة التي وضعها بو جراند و دريسلر، وعَدَّاه "سمة تعكس تبعية الأبنية السطحية في النص بعضها إلى بعض وتعتمد على الأبنية القواعدية " (17). ولقي

ص: 67

هذا المصطلح عناية اللسانيين الكبيرة، بتوضيح مفهومه، وأدواته، وإبراز عوامله وشروطه، ولم يتفق الباحثون العرب حول المصطلح العربي المقابل له، فاستعملوا مصطلحات متعددة بتعدد الدراسات النصية العربية (18).

آثر البحث استعمالَ مصطلح الاتّساقِ من دونِ غيرِه من المصطلحات، نحو السّبك، والتّضامِّ، والتّناسق، والتّرابط الرّصفيّ، على الرّغمِ من أنّ هذه المفرداتِ جميعَها تحملُ معنى التّرابطِ الشّكليّ (19)؛ لأنّ السّبكَ مصطلحٌ تراثيٌّ، حتى لا تختلطَ المفهوماتُ القديمةُ بالحديثة، وأمّا مصطلحا التّضامِّ والتّناسقِ فلیسا متداولين في أوساطِ اللّسانييّن النّصّيّين، والتّرابطُ الرّصفيّ مصطلحٌ مركّبٌ يستحسنُ الابتعادُ عنه" (20)، فيكونُ الاتّساقُ هو المصطلحَ الأنسبَ، اعتماداً على ترجمةِ محمّد خطابي؛ إذ تبدو هذه التّرجمةُ أقربَ إلى المفهومِ المراد، وأكثرَ شيوعاً في الدّرسِ اللّسانيّ الحديث (21).

مفهوم الاتّساق:

لم يخلُ مفهومُ الاتّساقِ من الاضطرابِ في تعريفه؛ فهناك اتجاهانِ مختلفانِ في تحديدّه:

الاتّجاه الأوّل: يرى أنّ الاتّساقَ هو ذلك التّماسكُ الشّديدُ بينَ الأجزاءِ المؤلِّفة لنصٍّ لغويٍّ ما، ويهتمُ بالوسائلِ اللّغويّةِ الشّكليّة المُوصِلةِ بين العناصرِ المكوِّنةِ لجزءٍ من النص أو النص برمّتِه (22).

فالاتّساقُ يتعلّقُ بأجزاءِ النّصِّ اللّغويّ الظّاهرةِ على سطحهِ، نحو أدواتِ العطفِ، والتكرارِ، والإحالةِ، وغيرِها من الوسائل الّتي تحقّقُ التّرابطَ بين أجزائه.

الاتّجاه الثاني: يرى أنَّ مفهومَ الاتّساقِ مفهومٌ دلاليٌّ، فهو يحيلُ إلى العَلاقاتِ المعنويّةِ الموجودةِ داخلَ النِصِّ الّتي تحدّدُه نصّلً (23). فالاتساق على هذا "خاصيَّة

ص: 68

دلالیَّة للخطاب؛ تعتمد على فهم كلِّ جملة مكونة للنَّصِّ في علاقتها بما يفهم من الجمل الأخرى" (24).

يبدو أنّ ما دفع الباحثين إلى الاتجاه الثّاني هو أنّ أدواتِ الرّبطِ تؤدّي مهمة وظيفيّةً؛ لا لأنَّها وحداتٌ نحويةٌ تربطُ بينَ الجملِ بعضِها ببعضٍ؛ بل لكونِها وحداتٍ وظيفيةً تؤدّي أثراً في جعلِ النّصِّ وحدةً دلاليّة (25)، "فنظروا إليها على أنّها تتعلّقُ بالدّلالةِ، فمتى ما تغيرّت أداة ربطٍ أو استُبدِلَت أخرى بها في نصٍّ لغويّ ما أو جملةٍ ما، تغيّرَت الدّلالة" (26).

وسائل الاتّساق

الاتساق خاصيَّة دلاليةَّ للنَّصِّ، يعتمد على فهم کُلِّ جملة مكوِّنة للنَّصِّ في علاقتها بما يفهم من الجمل الأخرى، وتقوم أدواته بوظيفة إبراز ترابط العلاقات السببية بين العناصر المكوِّنة للنَّصِّ في مستواه الخطي المباشر (27)، ويمثل الاتساق انطلاقاً من الشَّكل إلى الدَّلالة؛ فالرَّوابط التي تربط ظاهر النَّصِّ تحتوي على قدرٍ من الدَّلالة تم الرَّبط على وفقه، فيتحقق الرَّبط بوساطة علاقات دلاليَّة أساسيَّة؛ إذ يعتمد تفسیر أحد العناصر في النَّصِّ على العنصر الآخر؛ لذا قد يقع الرَّبط داخل الجملة أو بين الجمل (28). هذا الترابط المنظَّم بين الجمل يعرف بالاتساق؛ وهو الذي يضمن تماسك النص وتمييزه عن اللا نص.

وقد أسهمت في عملية الاتساق مجموعة من الوسائل والأدوات النحوية، والدلالية، وهذا جعل الاتساق یکون ترکیبیاً ودلالياً. إذ رصد الألسنيون الوسائل التي تسهم في تحقيق الاتساق وعَدُّوا من أبرزها الرّبطُ المعجميُّ، والرّبطُ النّحويُّ (29) . ونحن في بحثنا هذا سنقتصر على وسيلة واحدة من وسائل الاتساق وهي الاستبدال، وعلى النحو الآتي:

ص: 69

- الاستبدال:

الاستبدال وسيلة من وسائل الاتساق النحوية تعمل على الترابط بين أجزائه. ويُعَرَّف بأنَّه: "عملية تتم داخل النص، وهو يتم في المستوى النحوي والمعجمي بين کلمات و عبارات" (30) أو هو إحلالُ تعبيرٍ لغويٍّ محلَّ تعبيرٍ لغويٍّ آخرَ، ويسمَّى التّعبيرُ الأوّلُ من التّعبيرين، المنقولَ أو المستبدلَ، والآخرُ الذي حلّ محلّهُ المستبدل منه (31). والاستبدال على هذا هو عمليّةٌ تكون داخلَ النّصّ.

وعملية الاحلال هذه تجعل من السهل الربط بين الاستبدال والإحالة، ((حيث يستبدل لفظ لاحق ب (لفظ أو فعل أو جملة) سابقة على النص فيعمل على سبك النص وتماسكه، ويعمل أيضاً على اختصاره)) (32)، وربما تتضح العلاقة بين الاستبدال والإحالة إذا علمنا اشتراط المطابقة الإحالية بين المستبدل والمستبدل به (33). إلا أن ثمة فروقاً بين الإحالة والاستبدال، وهي التي تميز الاستبدال وتمنحه خصوصية، ومن هذه الفروق: (34) 1. إن الاستبدال لا يقع إلا داخل النص، في حين تقع الإحالة داخل النص وخارجه، فالاستبدال أخص من الإحالة.

2. إن الاستبدال يعد علاقة بين طرفيه على المستويين النحوي والمعجمي، أما الاحالة فهي علاقة على المستوى الدلالي (35).

3. إنه يشترط في الاستبدال کون عنصراه مشتركين في البنية الوظيفية، في حين لا يشترط ذلك في الإحالة.

ويعد الاستبدال وسيلة قوية تكفل اتساق النص، فإذا كان النص تتابعاً لوحدات لغوية، فالتسلسل الضميري هو الوسيلة الحاسمة لتشكيله، وعن طريقه يمكن ربط الجمل مع ضمان تنوع الأسلوب، واختصاره، والاستبدال هو الذي يحقق ذلك (36).

ص: 70

وفي الاستبدال خاصية غير حقيقية الصقها به أغلب الباحثين في البحوث النصية، وهي كونه محدود العبارات والأساليب کما سيظهر لنا في بيان أنواع الاستبدال ((فجعلوا في الاستبدال محدودية بشكل ما تختلف عن الاتساع والثراء الذي نجده في وسائل الاحالة المتنوعة الضمائر، أسماء الإشارة، الموصولات، بعض الظروف) (37). وإن انعام النظر في النصوص النثرية يظهر أن عناصر الاستبدال أوسع مجالاً من هذه الألفاظ التي ذكروها وأرادوا حصر الاستبدال فيها (38)، وهذا ما سنقف عليه في بيان مواطن الاستبدال في هذا العهد.

والاستبدال على ثلاثة أنواع هي (39):

1. الاستبدال الاسمي: يكون باستعمال عناصرَ لغويّةٍ اسميةٍ نحو: "آخر، نفس، ذات، واحد، إحدى".

2. الاستبدال الفعلي: يَتِمُّ باستعمالِ الفعل "يفعل"، واشتقاقاتِه، وما شابهه، فيكونُ الاستبدالُ بفعل أو جملةٍ، من ذلك قوله (عز وجل): «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» المائدة من الآية 67. إذ أُستُبدِلت كلمةُ "تفعل" بكلمةِ" بلّغ" (40).

3. الاستبدال القولي أو العباري: یكونُ باستعمالِ "ذلك، هذا". وهذا النّوعُ من الاستبدالِ ليس استبدالاً لكلمةٍ داخلَ الجملة، بل هو استبدالٌ بجملةٍ أو تتابعاتٍ جمليّةٍ (41)، من نحو قوله (عز وجل): «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ» "النساء من 48" إذ استبدلت بجملة «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» لفظة «ذلك».

وانطلاقاً من هذا التقسيم شرعنا في إظهار الموارد التي حصل فيها الاستبدال، وبيان أثرها في تماسك النص وترابط أجزائه، و تحديد دلالته متخذين من عهد الإمام

ص: 71

علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك بن الحارث الأشتر لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر إنموذجا في تحليل الموارد التي جرى فيها الاستبدال، وقد جاء البحث في ثلاثة مباحث وعلى النحو الآتي:

المبحث الأول: الاستبدال القولي أو العباري

تقدم أنَّ الاستبدال يكون على أنواعٍ، ومن هذه الأنواع ما يسمى بالاستبدال القولي، وهو مجموعة المقولات التي يمكن أن تَحُلَّ محل قولٍ ما مؤديةً وظيفته التركيبية" (42). كقوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ» النازعات: 6 - 13.

فجاءت لفظة «تلك» لتكون استبدالاً عن مجموعة من الجمل، يمكن تمثيلها بما يأتي:

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ

ص: 72

وفي هذا النص استبدال آخر يتمثل بلفظة «هي» في قوله تعالى: «فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ» "النازعات: 13" المستبدلة من قوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» النازعات: 6 - 7.

وقد تحقق الاستبدال القول في هذا العهد في موارد متعددة، واستعمل فيه الإمام أكثر من اسم إشارة ويمكن بيان ذلك بما يأتي:

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ هي (دلت على المستبدل منه المتمثل بهاتين الجملتين)

أولاً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة (هذا)

ونجد مصداق استعمال اسم الإشارة (هذا) في الجملة الأولى التي افتتح بها الإمام (عليه السلام) كتابه موجاً به مالك بن الحارث الأشتر لمَّا ولاه مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر قائلا: ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا)) (43) فللجملة الأولى أهمية كبيرة في التحليل النصي ((فالاستهلال يحتل مكانة بارزة من حيث الأهمية من ناحية ومن حيث علاقته ببقية أجزاء النص من ناحية أخرى، وتَحَكَمَه كذلك في هذه الأجزاء)) (90). ففي الغالب یرکز منتج النص كل جهوده في هذه الجملة، إذ يكون ما بعدها تفسيرا لها، وتمثل المحور الذي يدور عليه النص فيما بعد، إذ تتعلق الأجزاء الباقية من النص في الجملة الأولى بوسيلة ما (91).

ص: 73

وقد أدرك القدماء أهمية الجملة الأولى في النص بل الكلمة الأولى في الجملة وهذا ما لمسناه في تفسيرهم لبدايات السور القرآنية ولاسيما ما يخص الأحرف المقتطعة في أوائل بعض السور القرآنية (92).

ولم يكن موقف المحدثين مخالفاً لموقف القدماء بل أكدوه، فيذكر أحد الباحثين المحدثين ((أن الجملة الأولى في أي نصِّ تمثل معلماً عليه يقوم اللاحق منها ويعود وداخل تلك الجملة نفسها يمثل اللفظ الأول منها معلماً تقوم عليه سائر مكوناتها، فالمسند يقتضي المسند إليه، وهذا الأخير يقتضي الأول و هما معاً يقتضیان متممات، فهذه حلقة أولى تنتهي دون أن تنغلق على نفسها، فهي مستقلة من حيث التركيب، ولكنها منطلق في كل شيء لما يأتي بعدها من حلقات هي جمل أخرى)) (93).

ونجد مصداق هذا في الجملة الأولى التي افتتح بها الإمام (عليه السلام) کتابه موجهاً به مالك بن الحارث الأشتر لمَّا ولاه مصر قائلا: ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِینَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلاَدِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللَّهِ وَ إِیْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتِی لاَ یَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ یَشْقَی إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ یَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِیَدِهِ وَ قَلْبِهِ بِقَلْبِهِ وَ یَدِهِ وَ لِسَانِهِ ....)) (94) إلى نهاية العهد فجاء لفظ الإشارة (هذا) ليكون بديلا عن جميع الأوامر التي ذكرت في النص على طوله والدليل على ذلك أن الإمام (عليه السلام) أوردها في أول النص في قوله: ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِینَ وَلاَّهُ مِصْرَ)) وعقب بعد ذلك بقوله: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللَّهِ وَ إِیْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتِی لاَ یَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ یَشْقَی إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا

ص: 74

وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ یَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِیَدِهِ وَ قَلْبِهِ بِقَلْبِهِ وَ یَدِهِ وَ لِسَانِهِ... وَ أَمَرَهُ أَنْ یَکْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ یَنْزَعَهَا یَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اللَّهُ)) وهكذا يستمر الإمام علي (عليه السلام) بسرد الأوامر الى نهاية النص التي ختمها بقوله في آخر العهد: ((وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِی اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَیكَ فِی عَهْدِی هذَا وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِی عَلَیكَ لِکَیلَا تَکُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا)) (95).

وتظهر بذلك أهمية اللفظة الأولى المتمثلة باسم الإشارة (هذا) الوارد في الجملة الأولى التي استفتح بها الإمام علي (عليه السلام) عهده لتشير إلى جميع المضامين التي ذكرت فيه، فهي تشير إلى وحدة الموضوع، وتماسك أجزاءه، وتؤكد أن كل فقرة في هذا العهد مرتبطة بالأخرى وإن اختلفت في مضمونها، ففي اسم الإشارة (هذا) من قول الإمام (عليه السلام): ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ)) استبدال قولي؛ لأنه يشير إلى كل ما ذكر في نصوص هذا العهد. ومن ثم فإتيانه (عليه السلام) باسم الإشارة (هذا) ليس من قبيل الإحالة؛ لعدم وجود مرجع لهذه الأسماء مذكور في ما سبق من النص.

فَتحَصَّلَ من كُلِّ ذلك نَصٌّ مُنسَجِمٌ مُرَتَّبٌ ترتيباً مُنَظَّماً تَعَالَقَت فيه الوقائع تَعَالقاً مُقَيَّداً؛ إذ كانَت کُلُّ واقعةٍ مرتبطة بما قبلها، ونتيجة لها، وكل ذلك كان لتحقيق غرض أساس وهو العدل.

ص: 75

ثانياً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة (ذلك)

وظف الإمام علي (عليه السلام) اسم الإشارة (ذلك) الذي يشير للبعيد في عهده هذا ليكون بديلاً عن جملة واحدة أو جملتين أو جمل عدة في موارد كثيرة في هذا العهد يمكن أن نجملها بما يأتي:

أ- الاستبدال بجملة واحدة: ونلمس هذا في قوله (عليه السلام): ((وَلَاتَقُولَنَّ: إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِی الْقَلْبِ، وَ مَنْهَکَةٌ لِلدِّینِ، وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیرِ)) (96).

فجاء لفظ الإشارة (ذلك) ليكون بديلا عن جملة (وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ) فأغنى عن تكرارها، فبدلا من أن يقول: فإن قولك إني مؤمم آمر فأطاع إدغال في القلب ومنهك للدين وتقترب من الغير، قال: فإن ذلك، وبهذا تظهر فائدة استبدال اسم الإشارة (ذلك) بالجملة التي قبلها في اختصار الجملة مع الاحتفاظ بدلالتها كاملة.

ب - استبدال اسم الإشارة (ذلك) بجملتين وهذا في قوله (عليه السلام): ((وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَاً_ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ)) (97) . فالملاحظ أن اسم الإشارة (ذلك) جاء بديلا عن جملتين، الأولى تتمثل بقوله (عليه السلام) (انظر إلى عظم مل الله فوق) والثانية بقوله (عليه السلام): (قدرته من على ما لا تقدر عليه من نفسك) فجاء اسم الإشارة (ذلك) ليزيد في سبك النص ويشد في تماسكه فبدلا من ان يعيد ذكر الجملتين كأن يقول فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَی مَا لَا تَقْدِرُ عَلَیْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِك يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَاً_ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ

ص: 76

قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلىَ مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِيءُ إِلَيْكَ بِاَم عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ استبدلها بقوله: ((فإنَّ ذلك)) وهكذا يسهم الاستبدال باختصار النص وسبکه.

ومن الموارد الأخرى التي استبدل بها اسم الإشارة (ذلك) من جملتين وما ورد في قول أمير المؤمنين عندما كان يحث مالك الأشتر على اختيار كُتَّابه في قوله: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ....)) فيستمر بذكر ما ينبغي أن يتوفر في الكاتب من مكارم الأخلاق التي ينبغي توافرها فيه لتوكل إليه هذه المهمة. وهنا يعطي الإمام (عليه السلام) طريقة لواليه يبين له فيها كيفية اختيار الكاتب في قوله: ((ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ))(99).

في هذا النص استبدال باسم الاشارة (ذلك) الوارد في قوله: (وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ

مِنَ اَلنَّصِيحَةِ وَ اَلْأَمَانَةِ شَيْءٌ) المستبدل من قوله ))ثُمَّ لاَ يَكُنِ اِخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلىَ

فِرَاسَتِكَ وَ اِسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ اَلرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ

بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ))

والمخطط الآتي يبين طريقة استبدال اسم الإشارة بهاتين الجملتين:

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك... فإن الرجال يتعرفون لِفِراسات الولاة بتصعهم...

ذلك (دل على المستبدل منه المتمثل بهاتين الجملتين)

ص: 77

ويكمل الإمام (عليه السلام) الطريقة التي يمكن من خلالها اختيار الكاتب في قوله: ((وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ)). وفي هذا النص استبدال ايضا لاسم الإشارة (ذلك) بجملتين الأولى هي قوله (عليه السلام): (وَ لَكِنِ اِخْتَبِرْهُمْ بِاَم وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ)، والثانية متمثلة بقوله: (فَاعْمِدْ

لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي اَلْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً).

ج - استبدال اسم الإشارة (ذلك) بجمل عدة

ومن موارد الاستبدال الأخرى استبدال اسم الإشارة (ذلك) بثلاث جمل فصاعدا بل ربما استبدل بفقرة كاملة من قبيل ما ورد في وصية الإمام مالك الأشتر بالاهتمام بالتجار وذوي الصناعات إذ قال (عليه السلام): (ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ وَأَوْصِ بِهِمْ خَیْراً الْمُقِیمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَجُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِوَ الْمَطَارِحِ فِی بَرِّكَ وَبَحْرِكَ وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ وَحَیْثُ لاَ یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَلاَ یَجْتَرِؤُونَ عَلَیْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَی غَائِلَتُهُ وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِی حَوَاشِی بِلاَدِكَ)) ثم عقب بعد ذكر هذا النص مباشرة بقوله: ((وَ اِعْلَمْ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً...))

فاستبدل منتج النص الجمل التي وردت في الفقرة أعلاه جميعها باسم الإشارة (ذلك) والمخطط الآتي يبين طريقة الاستبدال

ص: 78

ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ.. وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ، وَ أَوْصِ بِهِمْ خَیْراً: الْمُقِیمِ مِنْهُمْ، وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَاتُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَ صُلْحٌ لَاتُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ

واعْلَمْ - مع ذلك -

يظهر بذلك أثر استبدال اسم الإشارة (ذلك) بربط النص وشد ازره واکمال دلالته بما يغني عن إعادة الجمل التي يرد ذكرها.

ثالثاً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة أولئك:

نال اسم الإشارة (أولئك) نصيبا وافرا من الذكر في هذا العهد المقدس وكان له دور كبير في سبك النص وتماسكه إذ وُظِفَ ليكون بديلاً عن جملة واحدة، وبديلاً عن جملتين، وبديلاً عن جمل عدة، من ذلك ما ورد في وصف الإمام علي (عليه السلام) للإشارة إلى شر الوزراء وبيان صفاتهم ووجوب تجنبهم، إذ قال مخاطباً مالك الأشتر: ((إِنَّ شَرّ وُزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلَكَ وَزِيراً))(103) وَيسرد بعدها صفات الاشرار من الوزراء ثم يعقب بعد ذلك مبينا لواليه على مصر الصفات الواجب توفرها في الشخص لكي يتخذه وزيرا له في قوله (عليه السلام): ((وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ. وَأَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ

ص: 79

لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلىَ ظُلْمِهِ وَ لا آثمِاً عَلىَ إِثْمِهِ))(104)، ويقول بعد ذلك مباشرة: ((أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً))(105)، فاستبدل باسم الإشارة (أولئك) الجمل الواردة في النص أعلاه ثم يعقب الإمام (عليه السلام) بعد ذلك مباشرة بقوله: ((فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ))(106) فوظف اسم الإشارة (أولئك) في هذه الجملة ليكون بديلاً عن جميع الجمل التي ذكرت في هذه الفقرة. والمخطط الآتي يبين طريقة الاستبدال الحاصلة في هذه الفقرة:

ثُمَّ اِسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ..

أَوْصِ بِهِمْ خَيْاً

اَلْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالمضطرب..

فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ اَلْمَنَافِعِ و...

فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ

لاَ تُخَافُ بائقته...

تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ...

فاتخذ أولئك

ولم يقتصر استعمال اسم الإشارة (أولئك) على هذين الموردين فحسب بل وظفها الإمام (عليه السلام) في مورد آخر لتكون أكثر شمولية في الاستبدال ونجد ذلك في وصيته لمالك الأشتر بضرورة الاهتمام بالطبقة الفقيرة من المساكين والمحتاجين، إذ يورد (عليه السلام) نصا طويلا في بيان صفاتهم وما ينبغي أن يفعله لهم فيقول له: ((ثُمّ اللّهَ اللّهَ فِي الطّبَقَةِ السّفلَي مِنَ الّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُم مِنَ المَسَاكِينِ وَ المُحتَاجِينَ وَ أَهلِ البُؤسَي وَ الزّمنَي فَإِنّ فِي هَذِهِ الطّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعتَرّاً وَ احفَظِ لِلّهِ مَا استَحفَظَكَ مِن حَقّهِ فِيهِم وَ اجعَل لَهُم قِسماً مِن بَيتِ مَالِكِ وَ قِسماً مِن غَلّاتِ صوَاَفيِ الإِسلَامِ فِي كُلّ بَلَدٍ فَإِنّ لِلأَقصَي مِنهُم مِثلَ ألّذِي لِلأَدنَي وَ كُلّ قَدِ استُرعِيتَ حَقّهُ وَ لَا يَشغَلَنّكَ عَنهُم بَطَرٌ فَإِنّكَ لَا تُعذَرُ بِتَضيِيعِكَ التّافِهَ لِإِحكَامِكَ الكَثِيرَ المُهِمّ فَلَا تُشخِص هَمّكَ عَنهُم وَ لَا تُصَعّر خَدّكَ لَهُم وَ تَفَقّد أُمُورَ مَن لَا يَصِلُ إِلَيكَ مِنهُم مِمّن تَقتَحِمُهُ العُيُونُ وَ تَحقِرُهُ الرّجَالُ

ص: 80

لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَى وَ كُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ فلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ اَلتَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ اَلْكَثِيرَ اَلْمُهِمَّ فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ))(107)

فبعد أن ذكر الإمام (عليه السلام) صفات هذه الطبقة وما يجب عليه أن يفعله لهم، وكيف ينبغي أن يتعامل معهم عقب بعد ذلك مباشرة بقوله: ((فَفَرّغ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِن أَهلِ الخَشيَةِ))(108)

فاستعمل اسم الإشارة (أولئك) ليكون بديلا عن ما سبق ذكره في هذه الفقرة فيظهر بذلك أثر استبدال اسم الإشارة (أولئك) مما يذكر قبله بربط النص وإكمال صورته الدلالية بأسلوب بليغ بعيدا عن التطويل والتكرار لما لا ينبغي تكراره.

المبحث الثاني - الاستبدال الاسمي:

مَرَّ أنَّ الاستبدال عملية تتم داخل النص، وهو يتم في المستوى النحوي والمعجمي بين كلمات وعبارات، وإنَّ من أنواع الاستبدال: الاستبدال الاسمي الذي يعني استبدال اسم باسم بيد أن الباحثين في الدراسات النصية يرون أنَّ الاستبدال الاسمي يتركز في استبدال الاسم من كلمة مثل: (آخر، آخرون، أخرى، نفس، واحد، واحدة) غير أن هذا لا يعني أن الاستبدال يقتصر على استبدال الاسم من هذه الألفاظ فقط بل أثبت بعض الباحثين أن يمكن أن يستبدل من الفاظ أخرى ((فمثلا بعض الاحالات لغير مذکور تدخل في مفهوم الاستبدال الاسمي وكذلك صنوف الاستعارات، حيث يحمل اسم ظاهر مكان آخر من غير أن تتحقق شروط الإحالة كذلك يدخل في الاستبدال الاسمي قضية التنوين المعوض عن اسم مفرد، وإقامة الصفة مقام الموصوف، والمضاف إليه مقام المضاف..))(109).

ص: 81

ويظهر أثر الاستبدال الاسمي بصورة جلية في قوله (عليه السلام): ((وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ فَإِنَّهْ لاَيَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ))(110)

فحينما يسمع المتلقي جملة وعظية من قبيل قولك: (ولا تنصبنَّ نفسك) فأول ما يتبادر إلى ذهنه أن تكون التتمة هكذا: ولا تنصبن نفسك لمخالفة شريعة الله أو لفعل ما نهی عنه الله بيد أن استبدال هذا الاسم بقوله: (لحرب الله) يرفع اعلامية النص، ويزيد في وقع الوعظ لدى المتلقي، ويولد في ذهنه أن عصيان أوامر الله تعالى والتجرؤ على مخالفة أحكامه کرفع الرمح بوجه الله تعالى وهذا ما ذكره ابن أبي الحديد في قوله: ((أي لا تبارزه بالمعاصي))(111). ففي هذا المورد جاءت لفظة (حرب) بدلاً عن لفظة (مخالفة) في المفهوم من اللفظ، وطريق الاستبدال هنا الاستعارة، وقد جاءت وسيلةَ سبكٍ دلالية المقصد، وبعيدة الغور. وفي مجيئها على هذا النحو إيحاء بقضية يريد منتج النص أنْ يوصلها الى متلقيه، وهي إن مخالفة أوامر الله = إعلان الحرب ضده.

ولا يقف الاستبدال الاسمي عند هذا فحسب بل يتوسع فيه الامام علي (عليه السلام) فيوظف أسماء أخرى لم يجر لها ذكر عند علماء النص الذي نظَّروا لمحور الاستبدال من ذلك قوله (عليه السلام): ((فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ))(112).

فالضمير (الهاء) في قوله: (فأعْطِهِمْ)، والكاف في قوله: (عفوك، صفحك، يعطيك، فأنك، عليك، فوقك، وَلاَّك)، والضمير المستتر(أنت) في قوله: (تحب، ترضى) يعود إلى المتلقي وهو هنا مالك الأشتر، والضمائر تكتسب عناية عند المختصين في علم النص بصفتها نائبة عن الأسماءِ، والعباراتِ، والجُمَلِ المتتالية "فالتعيين الاسمي البديل هو إعادة نصية لاسمٍ ما من خلال الضمير... وعادة ما تتعاون في النص

ص: 82

الضمائر مع الأسماء المكررة وتشكل معاً شبكة اسمية إحالية، وحين يحيل نص ما شبكات اسمية عِدَّةُ فإن واحدة منها في الغالب هي موضوع النص"(49).

ولما كان منتج هذا النص الإمام علي (عليه السلام) - هو المقصود بكونه فوق المتلقي - مالك الاشتر - فأول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع جملة (فإنك فوقهم) أن يكون ما بعدها جملة (وأنا فوقك) في (أنا) تعود إلى منتج النص وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) غير أنه استبدل الضمير (أنا) بلفظة (والي الأمر) فيخيل إلى المتلقي في الوهلة الأولى أن لفظة (والي الأمر) تشير إلى شخص آخر غير الإمام عليه السلام سوى أن انعام النظر في سياق النص ومتابعة النصوص السابقة واللاحقة تولد في ذهن المتلقي دلالة قطعية على أن المقصود منها هو شخص الإمام (عليه السلام) دون غيره، ومن ثم فإن استبدال الضمير (أنا) بلفظة (والي الأمر) تضيف بعداً دلالياً آخر للنص.

ولا يقف الاستبدال عند هذا فحسب بل يتعداه الى الجملة التي تليها مباشرة وهي قوله (عليه السلام): (وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ) إذ كان المتوقع أن يقول: (والله فوقي) فيستعمل الضمير (الياء) ليعود على شخصه الكريم (عليه السلام) إلا أنه استبدله بالاسم الموصول (مَنْ) ولفظة (ولاَّك) فيعود إلى الذهن مرة أخرى أن المقصود بعبارة (مَنْ وَلاَّكَ) الإشارة إلى شخص آخر غير الإمام علي (عليه السلام). والتعبير عن المتكلم بضمير الغائب اسلوب عربي فصيح يحمل في طياته دلالة أوسع من استعمال ضمير المتكلم أو التصريح بذكر الاسم المسمی به.

ومن موارد الاستبدال الاسمي استبدال لفظة (الناس) بلفظة (الرعية) الواردة في قوله (عليه السلام): ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ))50 إذ المتبادر إلى الذهن عند سماع جملة (وأشعر قلبك الرحمة) أن يقول: (للناس) أو

ص: 83

(للأمة) أو (للشعب) الا أنه استبدلها بلفظة (الرعية) وإن استعارة لفظة (الراعي) في هذا المورد يحمل زخما دلاليا واسعاً يولد في نفس المتلقي ضرورة الاهتمام بمن کُلِّف الأن يكون والياً عليهم، إذ لفظة (الرعية) مأخوذة من الفعل (رعی)، ورعى الشيء رعيا ورعاية حفظه. قال تعالى: ((فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)) الحديد: 27، ورعی الشيء راقبه ورعاه: تولى أمره، ورعي له عهده أو حرمته: لاحظها، وحفظها 51، وفي التنزيل قال تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)) المؤمنون:8. ومن ثم فلفظة رعی: تستبطن المبالغة في الاهتمام بالشيء والمحافظة عليه، من هنا تجد النبي (صلى الله عليه وآله يؤكد هذه القضية بقوله: ((كلكم راع و کلکم مسئول عن رعيته))52، ويبدو أن الإمام کان قاصداً في استعمال هذه اللفظة للإشارة إلى هذا المعنى ولا سيما أنه كرر استعمالها في هذا العهد أكثر من خمس عشرة مرة، منها قوله ((وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا اَلرَّعِيَّةُ... أَنَّ اَلرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ... فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اَللَّهِ حُصُونُ اَلرَّعِيَّةِ.... وَ ظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ... ثُمَّ اِخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ.... وَ اَلرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ...... فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ اَلرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی اَلْإِنْصَافِ.... وَ سَلِمَتْ مِنْهَا

اَلرَّعِيَّةُ.... فَلاَ تُطَوِّلَنَّ اِحْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ اِحْتِجَابَ اَلْوُلاَةِ عَنِ اَلرَّعِيَّةِ.... وَ إِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً.... وَ رِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ... وَ إِيَّاكَ وَ اَلْمَنَّ عَلىَ رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ))(53)

فيظهر بذلك مدى اصرار الإمام (عليه السلام) على شحذ همة واليه ليبالغ بالاهتمام بالناس الذين کُلِّف بالحاكمية عليهم، فتجد ابن أبي الحديد يقول في تفسير قول الامام علي (عليه السلام) ((أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له و هو الثوب الملاصق للجسد))54.

ص: 84

المبحث الثالث: الاستبدال الفعلي

ذكرنا في بداية البحث أن المقصود بالاستبدال الفعلي هو أن يَتِمُّ باستعمالِ الفعلِ "يفعل"، أو إحدى اشتقاقاتِه، فيكونُ الاستبدالُ بفعلٍ أو جملةٍ،

ولم يذكر النصویون سوى الصيغة (یفعل) واشتقاقاتها في الاستبدال الفعلي، مع انه يمكن استعمال غير هذه الصيغة العامة وسيلة للاستبدال، فمثلاً التضمين في الافعال من الاستبدال 55، واستعمال اسماء الافعال من الاستبدال أيضاً 56، ((وإذا سألت شخصا مثلاً لتقريره: أقابلت فلاناً أمس؟ فأجاب: حدث، أو حصل، كان الفعل المذكور في الجواب بديلاً عن الفعل الوارد في السؤال، فكأنه قال: قابلته))57

ونجد مصداق هذا في عهد الإمام علي (عليه السلام) إذ استعمل الصيغة المباشرة للاستبدال الفعلي المتمثلة بايراد مفردة (فعل) أو إحدى اشتقاقات هذه الصيغة، ونجد هذا في قوله (عليه السلام): ((أَنْصِفِ اَللَّهَ وَ أَنْصِفِ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ هُدًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ!))58 فاستعمل الفعل (تفعل) ليكون بديلاً عن الجمل الواردة قبله، فبدلا من قوله: فإنك إلاَّ تنصف الله وتنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك هویً فيه من رعیتك قال: (الا تفعل) فاختزل التركيب هذا كله في هذا الفعل، فحقق بذلك سبك النص وأثبت الدلالة التي يريد بيانها لعاملة على مصر.

وبعد هذا ينتقل الإمام علي (عليه السلام) ليستعمل فعلا آخر غير الفعل الذي تعاهد عليه المؤلفون في الاستبدال والمتمثل في قوله (عليه السلام): ((هَذَا مَا أَمَرَ

بِهِ عَبْدُ اَللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِاَمرَةَ بِلاَدِهَا))

فنجد أن الإمام (عليه السلام) يستبدل الجمل المتمثلة بقوله: ((جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ

ص: 85

جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِاَمرَةَ بِلاَدِهَا)) بالفعل (ولاه) الذي يختصر الجمل الآنفة بما يغني عن ذكرها بيد أن التعقيب بذكر هذه الجمل يرفع درجة الاعلامية في النص ويثير في الأذهان أن الولاية تعني جباية الخراج، وجهاد العدو، واستصلاح شؤون الرعية وعمارة البلاد. مما يسهم في اثراء النص ويزيد في تراص عباراته وتماسكها.

ص: 86

الخاتمة

بعد أن أنهت هذه الدراسة صفحتها الأخيرة من البحث ولمّا يزل الفكر متأملاً بحيثياتها، أفضت إلى مجموعة من النتائج يمكن القول إنَّ من أهمّها أن عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك بن الحارث الأشتر على طوله وكثرة الفقرات التي ذكرت فيه وعظم القضايا التي ذكرها، وخطورة المسائل التي عرضها والمشكلات التي وقف عليها، والحلول التي قدمها، والطرق التي بينها العاملة على مصر وأثبت فيها كيفية اختيار الوزراء والقضاة وقادة الجيش وكتاب الرسائل وكيفية التعامل مع النفس إذا أصابها العجب أو الغرور والأبهة وتأثرت بمظاهر الحكم من كثرة الحاشية حوله وتخضع كل من حوله وتعلقهم له یریدون رضاه، ثم بيان الاشخاص الذين يتوجب عليه أن يتخذهم للمشورة، وبيان من يجب أن يتجنبهم من الاشرار الذين ينبغي عليه أن يبعدهم عن دكة الحكم وبيان الطريقة التي يكتشف بها الاشرار والطريقة التي يكتشف بها الاخیار، ثم بيان كيفية التعامل مع الجنود، وأهل المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، وأهل النجدة والشجاعة، وكيف يتفقَّد أمر الخراج، ومن ثم الإشارة إلى أهمية عمارة الأرض التي تعد وسيلة مهمة في إدارة اقتصاد البلاد، والتركيز على الاهتمام بالتجار وذوي الصناعات وملاحظة تصرفاتهم في السوق، من احتكار للمنافع، وتحكما في المبيعات مما يسبب مضرة للعامة، ثم الوصية في الطبقة السفلي من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي، وتعهد اليتيم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، وبيان کيفة التعامل من الحراس والشرطة وكيفية التصرف مع خاصة الوالي وبطانته، ثم بيان أهمية مجالسة الوالي للعلماء والفقهاء ورد ما أشكل عليه الى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله. فمع تنوع هذه الفقرات وكثرت المسائل التي عالجتها إلا أن هذا العهد جاء متماسکًا متراصًا، كل فقرة تؤدي إلى الأخرى بواحدة

ص: 87

من وسائل الربط بحيث أن رفع أي فقرة أو جملة تؤدي إلى خلخلة النص الذي جاء مترابطا، مسبوکا کحلقات العقد.

وكان في اعتمادنا على الاستبدال الذي يمثل أحد وسائل الاتساق دور كبير في الوقوف على هذا الحقيقة. بل ظهر للبحث أن في هذا العهد أدوات والفاظ وظَّفها الإمام للاستبدال، وأدت دورها في ربط النص وتماسكه بصورة كاملة على الرغم من أن هذه الألفاظ لم تذكر ضمن الألفاظ التي توصل إليها المختصون في الدراسات النصية. وما ذكر في صلب هذا البحث من الفاظ وظفت للاستبدال من لفظ آخر أو جملة أو جملتين أو من فقرة كاملة يؤكد هذه الحقيقة.

ص: 88

الهوامش

1. ينظر: علم النص: مدخل متداخل الاختصاصات، تون. أ. فان دایك، ترجمة: د. سعید بحيري، 17.

2. المرجع نفسه: 17.

3. النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمام حسان: 15.

4. ينظر: تحليل الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل: 319.

5. ينظر: علم النص. مدخل متداخل الاختصاصات: 10

6. ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق دراسة تطبيقية على السور المكية، د. صبحي الفقي: 1 / 49.

7. ينظر: أصول تحليل الخطاب، د. محمد الشاوش: 1 / 240 - 241.

8. النص والخطاب والإجراء: 129.

9. ينظر: نظرية علم النص رؤية منهجية في بناء النص النثري، د. حسام أحمد فرج: 17.

10. علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، د. سعید حسن بحيري: 135.

11. ينظر: لسانيات التي مدخل إلى انسجام الخطاب: 55.

12. السبك النصي في القرآن الكريم دراسة تطبيقية في سورة الأنعام: 28.

13. ينظر: نحو النّصّ بين الأصالة والحداثة: 82 - 83، وفي البلاغة العربيّة والأسلوبيّات اللّسانيّة: 229.

14. سورة البقرة في ضوء علم لغة النص، رسالة ماجستير، خالد سعد جبر، التربية ابن رشد / بغداد / 2012 م: 9.

ص: 89

15. علم اللغة النصي: 1 / 93.

16. ينظر: علم اللغة النَّصي بين النظريَّة والتطبيق: 1 / 74، و نظرية علم النَّصِّ: 80.

17. مدخل إلى علم اللغة النصي، فولفجانج وديتر: 93.

18. استعملوا الباحثون العرب مصطلحات عدة مقابل للمصطلح الغربي cohesion+، منها:

- الاتساق، لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، د. محمد خطابي: 11.

- الانسجام، ولسانيات ال نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، د. أحمد مداس: 83.

- الترابط، أصول تحليل الخطاب، د. محمد الشاوش: 1 / 25.

- التناسق، من لسانیات الجملة إلى علم النَّصِّ، بشیر بریر: 23.

- التضام، مدخل الى علم لغة النص: 11.

- التماسك، علم اللغة الصي بين النظريَّة والتطبيق: 1 / 93.

- الربط اللفظي، علم لغة النَّصِّ بين النظريَّة والتطبيق، عزة شبل: 99.

- الربط النحوي، علم لغة النَّصِّ المفاهيم والاتجاهات، د. سعید حسن بحيري: 145.

- السبك، نحو النَّصِّ اتجاه جديد في الدرس النحوي، د. أحمد عفيفي: 75.

19. ينظر: لسان العرب، ابن منظور: "رصف" و"سبك" و"ضم"، و"وسق"، ولسانيّات النّصّ، ليندة قيّاس: 27.

20. سورة البقرة دراسة في ضوء علم لغة النص: 13.

21. ينظر: لسانیّات النّصّ، ليندة قيّاس: 27. وممّن استعمل مصطلح الاتّساق د. نعمان بوقرة في كتابه مدخل الى التّحليل اللّسانيّ للخطاب الشعري: 36. وعثمان أبو زنيد في كتابه نحو النّصّ إطار نظريّ ودراسات تطبيقيّة: 28. وليندة قيّاس في

ص: 90

کتابها لسانيّات النّصّ: 27. ومحمّد خطابي في كتابه لسانيّات النّصّ: 31، ومحمّد الشّاوش في كتابه أصول تحليل الخطاب: 123، ومحمّد الأخضر في كتابه مدخل إلى علم النّصّ: 89.

22. ينظر: لسانيّات النّصّ، محمّد خطابي: 5.

23. ينظر: لسانيّات النّصّ: 15، و مدخل إلى علم النّصّ، محمّد الصّبيحي: 82.

24. بلاغة الخطاب وعلم النص: 44.

25. ينظر: نظريّة علم النص، حسام أحمد: 82.

26. سورة البقرة في ضوء علم لغة النص: 15.

27. ينظر: علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 123، علم النص، عبد المجيد جميل: 145.

28. ينظر: علم لغة النص بين النظرية والتطبيق: 99.

29. ينظر: علم لغة النّصّ، عزّة شبل: 105.

30. لسانیات النص: 19.

31. ينظر: مدخل إلى علم لغة النّصّ، مشکلات بناء النّصّ: 61.

32. معايير النصية، 59.

33. مدخل الى علم لغة النص: 61.

34. ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 20.

35. ينظر: علم النص: 310

36. ينظر: مدخل إلى علم لغة النص: 23

37. شعر محمد مهدي الجواهري: دراسة نحوية نصية، للباحث صالح عبد العظيم

ص: 91

الشاعر:، اشراف محمد عبد المجيد الطويل، كلية دار العلوم، بتاريخ 2009 م.

38. الرسالة نفسها

39. ينظر: مدخل إلى التّحليل اللّسانيّ للخطاب الشّعري، د. نعمان بوقرة،: 49.

40. ينظر: تفسير بحر العلوم، السمر قندي: 1 / 449.

41. ينظر: علم لغة النّصّ، عزّة شبل: 115.

42. نحو النص: 20، و: ينظر: أصول تحليل الخطاب: 133.

43. نهج البلاغة: 561.

44. نهج البلاغة: 560 561.

45. الرسالة نفسها: 46.

46. نهج البلاغة: 545

47. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 5 / 17

48. نهج البلاغة: 545.

49. مدخل الى علم النص، زتسیسلاف وأورزیناك، ترجمة: د. سعید بحيري: 125.

50. نهج البلاغة: 545

51. ينظر: تهذيب اللغة، مادة رعي، والصحاح، مادة رعی.

52. بحار الأنوار، المجلسي: 27 / 146، ومرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، المجلسي: 389.

53. نهج البلاغة: 547 - 569.

54. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

ص: 92

55. ينظر في التضمين: الخصائص، ابن جني، 2 / 310.

56. ينظر: کتاب: من وظائف الصوت اللغوي، 86، ففهي معالجة مميزة لقايا اسم الفعل وبيان لعلاقاته النحوية والصوتية.

57. شعر محمد مهدي الجواهري:

58. نهج البلاغة: 547

ص: 93

قائمة المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف ابو الحسن محمد الرضي الموسوي من كلام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية د. صبحي الصالح.

2. أدوات الاتساق وآليات الانسجام في القصيدة الهمزية النبوية لاحمد شوقي، لسوداني عبد الحق، رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر كلية الاداب قسم اللغة العربية، 2009.

3. البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية، جميل عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د، ط، د، ت.

4. بلاغة الخطاب وعلم النص، د. صلاح فضل، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط: 1 / 1996 م.

5. تحليل الخطاب، جلیان براون وجورج يول، ترجمة: مصطفى الزليطي ومنير التركي، جامعة الملك سعود، دار النشر العلمي، الرياض / 1997 م.

6. تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي، الدار البيضاء، ط: 2 / 1986 م.

7. التماسك النصي من خلال العطف والتكرار دراسة تطبيقية في ديوان المواكب الجبران خليل جبران، بوزينة رياض، رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر - كلية الاداب - قسم اللغة العربية / 2008 م.

8. التناص التأريخي والديني مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية في رواية رؤيا لها، مجلة ابحاث اليرموك، عدد 1 / 1990 م. ال جمهرة اللغة، لمحمد بن درید (321 ه)،

ص: 94

تحقيق: ابراهيم شمس الدین عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط: 1 / 2005 م.

9. دراسات في فقه اللغة، د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين البيروت، ط:

16 / 2004 م.

10. دراسات في النص والتناصية، ترجمها وقدم لها د. محمد خير البقاعي، مرکز الانماء الحضاري، حلب، ط: 1 / 1998 م.

11. شرح نهج البلاغة الجامع لخطب و حکم ورسائل الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، عبد الحميد بن هبة الله الشهير بابي الحديد(ت 656ه)، مؤسسة الاعلامي للمطبوعات، بیروت، ط: 1/ 1995 م.

12. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد کاظم القزويني الحائري.

13. علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، د. محمود السعران، دار المعارف / 1962.

14. علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، د. سعید بحيري، مكتبة لبنان ناشرون، ط: ا.

15. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، د. صبحي ابراهيم الفقي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 1 / 2000 م.

16. علم النفس في نهج البلاغة، هاشم حسين ناصر المحنك، دار انباء للطباعة والنشر، ط: 3 / 2011.

17. علم النص، جولیا کرستيفيا، ترجمة: فريج الزاهي، مراجعة عبد الجلیل ناظم، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، ط: 2 / 1997 م.

18. علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، تون.أ. فان دایك، ترجمة:د. سعید بحيري، دار القاهرة للكتاب، ط: 1 / 20001 م.

ص: 95

19. فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص، عبد المالك مرتاض، مجلة علامات، عدد 1، 1991 م.

20. لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، د. محمد خطابي، المركز الثقلفي العربي، ط: 2 / 2007 م.

21. اللغة الشعرية و تجلياتها في الرواية العربية، د. ناصر يعقوب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط: 1 / 2004 م.

22. المخصص، علي بن اسماعيل بن سيدة، مط: دار الكتب العلمية لبيروت.

23. مدخل إلى علم النص مشکلات بناء النصنز تسيسلاف وآورزینال، ترجمة: د. سعید بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، ط: 1 / 2003 م.

24. معجم مقاییس اللغة، احمد بن فارس (ت 395 ه)، تحقيق: د. عبد السلام هارون،، الدار الاسلامية، ط: 1 / 1990 م.

25. المفاهيم معالم، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط: 1 / 1997 م.

26. من اشكال الربط، د. سعید حسن بحيري، مقال ضمن مجموعة مقالات مهداة للعالم الالماني فيشر، اشراف د. محمود فهمي حجازي، مركز اللغة العربية القاهرة / 1997 م.

27. نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، د. محمد عفيفي، مکتبة زهراء الشرق القاهرة، ط: 1 / 1997 م.

28. نسيج النص بحث فيما يكون فيه الملفوظ نصا، د. الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي، ط: 1 / 1993 م.

29. النص والتناص، رجاء عید، مجلة علامات، عدد 18، 12 / 1995 م.

ص: 96

30. النص والخطاب والاجراء، روبرت دي بو جراند، ترجمة: د. تمام حسان، عالم الكتب، ط: 1 / 1998 م.

31. نظرية النص الأدبي، عبد المالك مرتاض، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 1 / 2007 م.

32. نفحات الولاية شرح عصري جديد جامع لنهج البلاغة، آية الله العظمی مکارم الشيرازي بمساعدة مجموعة من الفضلاء، سلیمانزادة، ط: 2 / 1426 ه.

ص: 97

ص: 98

الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر أنموذجا

اشارة

أ. م. د. وفاء عبّاس فيّاض

جامعة كربلاء / كليّة العلوم الإسلاميّة / قسم اللغة العربيّة

ص: 99

ملخص البحث:

يتناول البحث مسألة مهمة من مسائل الدرس اللغوي، وهي دراسة الألفاظ الغريبة في كتاب يعد قمة في الفصاحة والبلاغة ويعد صاحبه فصيحا بليغا لا منازع فيه؛ ذلك هو کتاب (نهج البلاغة) للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسيكون عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر میدان التطبيق، وسنلج عن طريق هذا البحث في معنى الغريب في اللغة والاصطلاح، والغريب في نهج البلاغة، وكذلك دراسة المفردات الغريبة في العهد في الألفاظ والمعاني والاشتقاق.

ص: 100

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الغر الميامين الطيبين الطاهرين. أما بعد: فيعد کلام أمير المؤمنين وسيد الوصييّن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قمة الفصاحة والبلاغة بعد كلام سيد الأنبياء والمرسلين النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعد کتاب (نهج البلاغة) من أمات الكتب التي تضمنت أروع الكلام وافصح لغة وهي لسيد البلغاء والمتكلمين، وهو في الفصاحة والبلاغة يكون في المرتبة الثانية بعد كتاب الله عز وجل القرآن الكريم وكلام صاحبه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. وهو الموروث التاريخي الوحيد الذي أثر عن الإمام علي (عليه السلام) والمدونة المكتوبة التي جاءت عنه والكتاب عبارة عن مجموعة من الخطب والحكم والمواعظ والرسائل والكتب والعهود والمواثيق التي قالها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وجمعها الشريف الرضي (ت 406 ه)، ولا شك أن كلام أمير المؤمنين هو كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، وعلى الرغم من كل ما ذكرناه إلا أننا نجد أن هنالك کما هائلا من غريب الألفاظ قد وقع فيه لذا نجد الحاجة ضرورية للوقوف على دلالة بعض الألفاظ الغريبة التي وردت في تلكم الخطب وسيكون عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر أنموذجا تطبيقيا لذلك. وعملنا هذا يُعدُّ خطوة من خطوات الدراسة اللغوية، يدخل - بقدر كبير - تحت عنوان الدراسة الدلالية للألفاظ.

وعهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) واحد من أهم المواثيق الرائعة التي كتبت في ذلك الوقت واختصرت الزمن، وعلى الرغم مما يتضمنه هذا العهد من مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية وغيرها من المضامين الروحية العالية التي نحن بأمس الحاجة إليها اليوم؛ لأنها تمثل

ص: 101

وثيقة تاريخية ودستورية ينبغي الرجوع إليها في حكم البلاد والعباد إلا أننا نترك الحديث عن هذه الزوايا والجوانب المشرقة لنخوض في غمار حديث آخر عنه يتناول الألفاظ الغريبة فيه للوقوف على دلالتها وبيان معانيها.

ويتناول البحث ألفاظ الغريب التي وردت في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر، وسيكون البحث مقسما على تمهيد يسلط الضوء على معنى الغريب لغة واصطلاحا وسبب التأليف فيه، وأوائل من ألفوا في هذا الجانب، وثلاثة مباحث يتناول المبحث الأول الغريب في نهج البلاغة ويتناول الثاني الغريب في العهد في الألفاظ والمعاني ويتناول المبحث الثالث الغريب في الاشتقاق، وينتهي البحث بخاتمة تعرض أهم ما توصل إليه البحث و تسبقهما مقدمة نذكر فيها سبب اختيار الموضوع، وبيان مباحثه ومصادره.

أما المصادر التي نستقي وننهل منها هذا البحث فقد تنوعت بتنوع المادة التي نعرض لها فهناك كتب اللغة والمعجمات وكتب الغريب وكتب النحو والبلاغة فضلا عن البحوث المتعلقة بنهج البلاغة عموما وبعهد مالك الأشتر خصوصا وغيرها مما يتطلبه البحث.

التمهيد: الغريب في اللغة والاصطلاح

إذا حاولنا أن نتتبع لفظة (الغريب) في المعجمات اللغوية سنجدها تعطي دلالات مختلفة فقد جاء في العين قول الخليل (ت 175 ه): ((الغُربَةُ: الاغتِرابُ من الوطن. وغَرَبَ فلانٌ عَنَا یَغرُبُ غَرباً أي تنحی، فَأَغرَبتهُ غَرَّبتُه أي نحيته. والغُربَةُ: النَّوَى البعيد، يقال: شقت بهم غُربَةُ النوى)) (1) وفي سياق آخر يقول: ((والغَريبُ: الغامض من الكلام)) (2) ومنها قولهم: ((الغُرُبُ بِضَمَّتَينِ: الغَريبُ)) (3) وكذلك ((النَّوَی والبُعدُ کالغَربَةِ وقد تَغَرَّبَ. وبالضم: النُّزُوحُ عنِ الوَطَنِ كالغُرْبَة والاغْترابِ

ص: 102

والتَّغَرُّبِ)) (4)

ويقول ابن منظور (ت 711 ه): ((والغَريبُ الغامِضُ من الكلام وكَلمة غَريبةٌ وقد غَرُبَت وهو من ذلك وفرس غَربٌ مُتَرامٍ بنفسه مُتَتابعٌ في حُضره لا يُنزِعُ حتى يَبعَدَ بفارسه وغَربُ الفَرَسِ حِدَّتُه وأَوَّلُ جَريِه)) (5) وقوله: ((وفي الحديث أَن النبي صلى اللهّ عليه [وآله] وسلم سُئِلَ عن الغُرباء فقال الذين يُحيُونَ ما أَماتَ الناسُ من سُنَّتِي وفي حديث آخر إِنّ الإِسلامَ بَدأَ غريباً وسيعود غریباً کما بَدأَ فطوبَى للغُرباءِ أَي إِنه كان في أَوّلِ أَمرِه کالغريبِ الوحي الذي لا أَهل له عنده لقلة المسلمين يومئذ وسيعودُ غريباً كما كان أَي يَقِلُّ المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغُرباء فطُوبی للغُرَباء أَي الجنةُ لأُولئك المسلمين الذين كانوا في أَوّل الإِسلام ويكونون في آخره وإِنما خَصَّهم بها لصبرهم على أَذى الكفار أَوَّلاً وآخراً ولُزومهم دينَ الإِسلام وفي حديث آخر أُمَّتِي كالمطر لا يُدرَي أَوَّلُها خير أَو آخِرُها قال وليس شيءٌ من هذه الأُحاديث مخالفاً للآخر وإِنما أَراد أَن أَهلَ الإِسلام حين بَدأَ كانوا قليلاً وهم في آخر الزمان يَقِلُّون إِلاَّ أَنهم خیارٌ و مما يَدُلُّ على هذا المعنى الحديثُ الآخر خِيارُ أُمَّتِي أَوَّلُها وآخِرُها وبين ذلك ثَبَجٌ أَعوَجُ ليس منكَ ولَستَ منه)) (6)

ومما تقدم من نصوص يتضح أن المعنى اللغوي لكلمة الغريب هو ما غمض في الكلام وما كان بعيدا عن الفهم وكذلك عدم الوضوح، وعليه تنحصر هذه اللفظة بعدة معان منها الغموض والابتعاد والقلة والندرة.

أما الغريب في الاصطلاح فقد خصصه الشريف الجرجاني (ت 816 ه) بالحديث فقال: ((الغريب من الحديث: ما یکون إسناده متّصلا إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ولكن يرويه واحد إما من التّابعين أو من أتباع التّابعين)) (7) وذكر في موضع آخر أن مصطلح ((الغرابة: كون الكلمة وحشية، غير ظاهرة المعني

ص: 103

ولا مأنوسة الاستعمال)) (8)

ولعل من الاسباب التي دفعت العلماء واللغويين إلى تأليف غريب الحديث هو ما ذكره مجد الدين بن الأثير (ت 606 ه) في مقدمة كتابه (9) الذي تصدره بشرح مستفيض لهذا الموضوع تحدث فيه عن علم الحديث والآثار ووصفه بأنه من أشرف العلوم الإسلامية قَدرا، وأحسنِها ذكرا، وأكملها نفعا وأعظمها أجرا. وأنه أحَدُ أَقطاب الإسلام التي يَدُورُ عليها، ومعاقِدِهِ التي أضيفَ إليها، وأنه فَرضٌ من فروض الكفايات يجب التزامُه، وحق من حقوق الدين يتعين إحكامه واغتزَامُه. وجعله على قسمين أحدُهما معرفة ألفاظه، والثاني معرفة معانيه. وأخذ يشرع في تقسيم الألفاظ إلى مفردة ومركبة، والألفاظ المفردة تنقسم قسمين: أحدهما خاصٌّ والآخر عامٌّ. أما العام فهو ما يَشتَرِك في معرفته جُمهور أهل اللسان العربي مما يَدُورُ بَينَهم في الخطاب، وأما الخاصُّ فهو ما يدور فيه من الألفاظ اللُّغَوية، والكلمات الغريبة الحشويَّة، التي لا يعرفها إلا من عُنِيَ بها، وحافَظَ عليها واستخرَجَها من مظانّها.

وقد ظهرت التصانيف العديدة في (الغريب) منذ منتصف القرن الأول الهجري فكان أول كتاب في هذا الباب هو (غريب القرآن) المنسوب إلى الصحابي ابن عباس (ت 67 ه) وتوالت الانجازات في هذا المضمار من أمثال أبان البكري (ت 141 ه) والكسائي (ت 189 ه) ومؤرج السدوسي (ت 195 ه) وغيرهم ممن لم يصل إلينا شيئا من مؤلفاتهم (10)، ولعل أول كتاب مطبوع في هذا المجال هو (تفسير غريب القرآن) لابن قتيبة (ت 276 ه) (11)، وأما كتب (غريب الحديث) فقد ظهرت لأول مرة على يد أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه) (12)، وهناك من ألف كتابا في الغريبين (القرآن والحديث) وهو لأبي عبيد الهروي (ت 401 ه) (13) وغيرها كثير مما وصلت إلينا وحققت وطبعت (14).

ص: 104

وكتب الغريب هذه كتب لغة، على الرغم من أنّها لم تكن خالصة للغة، ألّفها لغويون بارزون عند العرب، وهذا شيء طبيعي؛ لأن علم الغريب علم یُعنی بشرح الكلمات الغريبة. ويفسّر المعاني الخفيّة والأساليب الغامضة، فيجلو معناها ويكشف عن مراميها. (15)

وقد حظيت هذه المؤلفات بالاهتمام والعناية من قبل مؤسسيها، وكان الغرض منها هو بيان معاني مفردات القرآن الكريم ودلالاتها وكذلك بيان مفردات الحديث ودلالاته، ولا شك أن وجود القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، كان ((سبب ظهور (علم الغريب) لوجود کلمات فيهما تحتاج إلى تفسير وتوضيح، باعتماد العرف اللغوي السائد آنذاك. فبدأت الدراسة في هذا الميدان من ميادين اللغة بالبحث عن معاني الألفاظ الغريبة فيهما، وتوضیح معانيها ومراميها وأساليبها، وتأييد ذلك التفسير والتوضيح، بالشواهد من شعر العرب. ولقد اهتمّ العلماء بهذا الجانب من البحث اللغوي اهتماماً كبيراً فذكرت لهم كتب التراجم والطبقات کتباً كثيرة في هذا الميدان)) (16).

وهذا ما دفع الأستاذ الدكتور مسعود بوبو إلى الحديث عن عناية هؤلاء العلماء بهذا الجانب اللغوي، فقال: ((لقد أولى اللغويون العرب القدماء هذا الجانب اللغوي عناية خاصة، تناولوا فيه الغريب من الألفاظ بالبحث الجاد والمعالجة المتأنية، بل لقد كان هذا اللون من البحث الذي أقيمت عليه الدراسات اللغوية عندهم بصورة عامة غداة شرعوا في التماس المعاني الدقيقة لما غمض واشتبه عليهم من ألفاظ القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وأفردوا لهذا الغرض الكتب المطولة التي ما زالت مراجع لا غنى عنها للاطمئنان إلى سلامة الدّلالة اللغوية وصحتها عند تحري الدّقة وصحة الاحتجاج في قضايا الغريب)) (17)

ص: 105

المبحث الأول: الغريب في نهج البلاغة

ذكر أبو سليمان محمد الخطابي (ت 388 ه) - وهو ممن كتب في غريب الحديث - في شرح معنى الغريب واشتقاقه قوله: ((أن الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كالغريب من الناس)) (18)، وقال: ((إن الغريب من الكلام يستعمل على وجهين: أحدهما أن يراد أنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر، والوجه الآخر أن يراد به کلام من بعدت به الدار ونأى به المحلل من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت الكلمة من لغاتهم استغربناها)) (19)

وبما أن البحث له علاقة بكتاب (نهج البلاغة) وما به من خطب ورسائل وكتب كانت في غاية الفصاحة والبلاغة فإن هناك من النقاد والبلاغيين من يقفون من الغريب في الكلام موقف الرافض لذلك؛ لأن هذا الأمر يتنافي والبلاغة والفصاحة في الكلام؛ فالفصاحة عند هؤلاء تعني الظهور والوضوح والابتعاد عن الغريب والمبهم. فهذا أبو هلال العسكري (ت 395 ه) في كتابه الصناعتين يقول: ((الغريب لم يكثر في كلام إلا أفسده وفيه دلالة الاستكراه والتكلف)) (20) في حين وقف آخرون من الغريب موقفا آخر إذ عدوه من الفصاحة فهذا أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 ه) له رأي في الغريب کما جاء في كتابه الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري، فيقول: (وان يجعله (اي اللفظ الغريب) متفرقاً في تضاعيف الفاظه، ويضعه في مواضعه فيكون قد اتسع مجاله بالاستعانة به، ودل على فصاحته وعلمه، وتخلص من الهجنة)) (21).

ولعل العلة في ذلك هو أن ((العربية لغة صحراوية وانها لم تخل من الفاظ کثيرة اتسمت بالثقل، وحين هجر الناس الصحراء ونزعوا إلى الحواضر اختاروا من المادة

ص: 106

اللغوية الينها واسهلها وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة، فاختاروا أحسنها سمعاً والطفها من القلب موقعاً) (22).

والحديث عن الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة يجرنا إلى الحديث عن وجود الغريب في القرآن الكريم والحديث النبوي، وعلينا معرفة أن الغريب ليس المراد بغرابته؛ كونه شاذاً، أو نافراً، أو منکراً (23)، فالقرآن منزّه عن هذا جميعه، وكذلك الحديث الشريف بدليل أن الغرابة أو الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم وجه من أوجه الإعجاز. والقول نفسه في الحديث النبوي يعد: ((قمّة شامخة في البلاغة، وهي الذروة الرفيعة في الفصاحة وقوة البيان، إذ هي قبس من لغة الوحي)) (24) وقد قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش ونشأتُ في بني سعد بن بكر ...)) (25) وعلى هذا الأساس ((فالحديث النبوي أرقى الأساليب العربية صياغة بعد القرآن الكريم، ولم؟ يتعمّد الرسول في حديثه لفظاً غريباً أو ترکیباً شاذّاً وإنّما كان لعلوّ نصّ الحديث، سببٌ كبيرٌ في عدِّ بعضه غريباً، عند بعض اللغويين، وهذا الاعتقاد دفع بهم إلى أن يفردوا كتباً في إيضاح (غريب الحديث) كما فعل النَّضر بن شميل (ت 204 ه)، وأبو عبيدة معمّر بن المثنى (ت 209 ه)، أو أن يفيدوا من بلاغته وفصاحته في أنماط أساليب العربية کما صنع الجاحظ (ت 255 ه) والمبرّد (ت 285 ه). وقد أفاد أئمّة الأدب واللغة والتفسير من کتب (الغريب) ونقلوا عنها)) (26).

ولا ريب أن ما يقال عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأحاديثه يقال عن أصحابه الكرام ((الذين كانت لغتهم مادّة أفاد منها علماء اللغة الكثير من أقوالهم العالية الفصاحة، يقرّبها علوُّها، من الغرابة، فنقلوا منها ما شاء لهم النقل، وفسّروا فيها ما طاب لهم التفسير. فكان لأقوال الإمام علي (عليه السلام) نصيب كبير في

ص: 107

هذا المورد تحفل بجمع بعض تلك الأحادیث کتب (غريب الحديث)؛ لأنَّه تربى في حجر النبوة منذ ولادته في الكعبة، فشهد مطالع الرسالة الاسلامية من يومها الأوّل وتلقّى عن النبي مفردات الرسالة بداية وختاماً، وما بين ذلك ممّا نزل به الوحي من آیات الله جل جلاله فكان الإمام يتبع النبي ((إتِّباع الفصيل إثر أمِّه...)) (27)، لا يفارقه في سلمٍ أو حربٍ، فكان يصحبه صُحبة الظل لصاحبه، فهو ربیبٌ وطالبٌ، تعلّم من النبي أشياءً كثيرةً، ومن بينها اللغة إذ إنّها عادةٌ مكتسبة، فكان أقرب الناس إلى فصاحته وبلاغته وأحفظهم لأحاديثه، فتكلّم بكلام وصف بالعصمة والحكمة، فكلّ مَن سمعه راقه ولهذا قال (عليه السلام): ((ونحن لأُمَراء الكَلامِ، وَفِينَا تَنَشَّبَت عُرُوقُهُ، وعَلينا تَهدّلَت غصُونُه)) (28) ...))(29).

وخلاصة الكلام أن الغريب في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) وصحابته الكرام ليس هو الوحشي الشاذّ، أو العامي المرذول، وإنّما هو؛ ما يمنح النصَّ علوّاً في الفصاحة، وروعةً في التعبير، وجزالةً في الألفاظ، ولا يخرج (الغريب) في حديث الإمام عن هذه الصفة لأنّه في كلامه يترسّم أثرَ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه. (30)

والمتأمل في كتاب نهج البلاغة يجد أن الغريب قد وقع كثيرا فيه فلا تكاد تقع عينك على صفحة فيه إلا فيها ألفاظ غريبة تستحق الوقوف عند دلالتها وبيان معانيها، ولقد قام جمع كبير من العلماء الأفذاذ بشرح كثير من تلك الألفاظ وبیان دلالاتها ومعانيها من ذلك كتب شروح (نهج البلاغة) (31)، وفي الوقت الحاضر قدمت دراسات علمية مستفيضة في هذا الجانب ولعلّ من أبرزها وأكثرها توفيقا ((غريب نهج البلاغة أسبابه، أنواعه، توثیق نسبته، دراسته)) وهي أطروحة دكتوراه حاول الباحث فيها وضع خطة متكاملة في هذا الموضوع شملت دراسته من زاوية

ص: 108

لغوية وبلاغية وسياقية للوصول إلى نتائج طيّبة وثمرات نافعة.

لقد وضع أحد الباحثين معايير متعددة للكشف عن الألفاظ الغريبة في النهج لعل من أبرزها (32): المعيار الأول: أَنَّ الغريب ما جاء بسبب بداوة صاحبه واعتياده الغرابة في الكلام، ممّا يكسبها غموضاً، لوحشَّيتها، وندرتها، ومادّة تعابيرها، المتأتّية من طبيعة الحياة في الصحراء.

المعيار الثاني: أنّ غرابة الكلمة؛ ناتجة من كونها شاذّة أو نافرة أو منكرة.

المعيار الثالث: الغرابة قائمة على فرادة النظم وغرابة ضمّ السياق.

المعيار الرابع: أنَّ اللفظة، لا تكون غريبة بلفظها، بل مستغربة في التأويل، وقد تكون حسنة بحيث لا يتساوی بها أهلها وسائر الناس في الفهم.

المعيار الخامس: ما اتفق عليه علماء غريب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فقد ورد في (النهج) تضمین كثير لآي القرآن الكريم والاقتباسات الأحاديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان منها ما حققه العلماء بكونه غريباً.

المعيار السادس: بعد شقّة الزمن بيننا وبين نصوص (النهج) وخطبه، إذ بيّنتُ أنَّ الحكم على الغريب، يتأتّی من غرابته في زمن قوله، وأنَّ ما هو غريب علينا، ونادر الاستعال في عصرنا، لم يكن غريباً وقت قوله، إلّا أنَّ وجهة نظرنا هذه لا تتفق مع باحث حدیث، إذ يرى أنَّ شيوع الألفاظ ومن ثم غرابتها يرجع إلى تباين الذوق بين القديم والحاضر.

ومهما يكن من أمر فإن المعيار الأول يسقط إذا علمنا أن ((الفصاحة أُخذت عن الأعراب، إذ يتفق النحاة واللغويون على أنَّ اللغة الفصيحة، أُخذت ممَّن خَلُصت طبائعهم اللغوية، وصفت فطرتهم من القبائل التي لم تخالط من فسدت سليقتهم من الأعاجم، ولم تقترب من الحواضر؛ لأنَّ حواضر العرب كانت محطَّ قوافل التجارة

ص: 109

ومختلطاً لأقوام غير العرب ...)) (33) أما المعيار الثاني الذي يفسر غرابة اللفظة بكونها شاذة تعني مخالفة القياس المستند على المطّرد من السماع فيسقط لأن الإمام علي (عليه السلام) ممن يحتج بكلامه، وأما التنافر فيُوعز إلى استحسان الأذن لجرسه، واستساغة اللسان لنطقه، وكذلك اللفظة المنكرة لا مقياس له، إذا أرادوا بها الألفاظ التي تنبو عن الذوق، ولا تطمئنّ عند سماعها النفس، فهي كلمة بذيئة، فإنّ هذه الأمور محكومة بالسياق لا باللفظة، فلا تكون الكلمة بذيئةً بعد ذلك إلّا عن طريق سياقها، فاللفظة الشاذة والمتنافرة والمنكرة لا محل لها في النهج.

أما المعيار الثالث يسقط حتما لأنه يتعلق بموضوع المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها من الموضوعات البلاغية وهو ليس محل بحثنا.

وعليه فالغريب الوارد في نهج البلاغة ((غريب يصبُّ في باب الفصاحة لا غريب ينافر الفصاحة)) (34). ولذا فإن ((الغريب على ثلاثة أنواع؛ غريب في المفرد، وغریب في التركيب، وغريب في النظم.)) (35) والذي يعنينا في بحثنا هذا ما يتعلق بالنوع الأول وهو الغريب في المفرد؛ لأن الثاني میدانه النحو والثالث میدانه البلاغة وأنّ الحكم على غریب نصّ معين، يُحكم عليه من خلوّ كلام العرب السابق عليه، والمعاصر له، منه ومن مثيله ولذلك ((فإنّ الحكم في غرابة نصٍّ قديم، ليس ذوقنا المعاصر، بل نصوص الشعر، والنثر السابقة له، وأعني بذلك؛ کلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المجموع بين دفتي كتاب (النهج)، وليس لأحد أن يدَّعي أنَّه سمع، أو وُضِع بين يديه كلام العرب جميعهم، ليعرف ما سَبَق إليه الإمام مما لم يُسبق، إذ ((لا يُحيط بكلام العرب إلّا نبي)) (36) (37)

وقد أمكن لأحد الباحثين المعاصرين رَصدَ ظواهر غريب اللفظ المفرد عبر ما ينوف على الألف والمئتين من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام) في (نهج البلاغة)

ص: 110

((توزّعت على هذه الأصناف الثلاثة، كان أكبرها القسم الخاص بجدّة الاشتقاق، وهو القسم الثالث، ثم يليه القسم الخاص بالندرة وهو القسم الأول، واختصّ القسم الثاني، وهو؛ غرابة المعنى الممنوح للفظة بالاستعمال، بأصغر قدر، ذلك أنّ جدّة المعاني المضافة للألفاظ تتداخل بقدر كبير مع بحث التركيب، وبحث المعنى المجازي)) (38)

المبحث الثاني: الغريب من الألفاظ والمعاني في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك (رضوان الله عليه)

تعددت الألفاظ المترادفة للفظة الغريب فكان منها اللفظ (الغريب النادر) (39) والمراد منه هي ألفاظ جاءت غرابتها من ندرتها التي يمكن تحديدها بما يحمله مدلول الندرة من قلّة الاستعمال لا غير. ومنها اللفظ (الغريب الشارد) (40) والشوارد هي الغرائب؛ التي لا تبلغ حدَّ الشذوذ، وإنّما هي: ألفاظ مفرّقة على معانٍ طريفةٍ أو غير مألوفة. وقد استعملها الإمام (عليه السلام) في زمانه، أوّل مرة في معنى جديد يغاير ما ألِفَه الناس قبله، ثم شاعت بعده وشُهر معناها الجديد كما في لفظة (مُندَحِق) في قوله (عليه السلام):(أَمَّا إِنَّهُ سَیَظْهَرُ عَلَیْکُمْ بَعْدِی رَجُلٌ رَحْبُ اَلْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ اَلْبَطْنِ یَأْکُلُ مَا یَجِدُ، وَ یَطْلُبُ مَا لاَ یَجِدُ...)) (41) وتعني (الطّرد والإبعاد) (42) و (الدَّفع) (43) غير أنّ الإمام (عليه السلام) استعمل المفردة (مندحق) في معنى لم يكن متداولاً، ذلك هو الاتساع لأنّه بعيد عن معنى (الدفع) و (المنع) و (الإبعاد)، فهو حين يقول (مندحق البطن) فإنه يعني؛ عِظَمَ بطن الرجل، واندلاقها إلى الأمام وانبعاجها إلى الجانبين، فالرجل إذن على هذا الوصف، منبعج البطن ممتلئها وكأن فيها اتساعاً من جهاتها كلّها لا من جهة واحدة كما يوحي به لفظ الدفع، وقد أورد لفظة (مندحق) بمعنى الامتلاء (44).

ص: 111

ومنها (الحوشي) وقد يُقلب اللفظ فيسمى (الوحشي)، وهو أحد أنواط (الغريب)، والوحشي لاشكّ منسوب إلى (الوحش). واللفظتان لا تتعديان معنی نفور الكلمة عن الذوق العام وقلّة استعمالها. ومنها (الغريب القليل) وكلها تخضع لمقياس (النادر) (45).

إن المتأمل في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكتاب الذي كتبة إلى عامله مالك الأشتر (رحمه الله) لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر وهو ((أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن)) (47) كما وصفه الشريف الرضي يجد المتعة والفائدة المرجوة في كونها ((توجيهاً لأحد ولاته في ممارسة ما عُهِد إليه من الأمور، حرصاً على سلامة سلوكه ومواقفه كمسؤولٍ اجتماعيّ، أو كإنسانٍ مسلم. وهذا ما جعل هذه الوثيقة من أهمّ المصادر التي تُستسقى منها المبادئ التي تُنير طريق الولاة في إدارة ما تَولَّوه، في كلِّ زمان، وفي كلّ مكان)) (47) ولذلك يعتبر ((إنّ أفضل نموذجٍ لتأسيس حكمٍ إسلاميٍّ عادل، أو للسير نحوه، هو نظام الحكم الذي أسّسه النبيّ (صلّى الله علیه و آله) في المدينة، والذي بني عليه الإمام عليٌّ (عليه السلام) حكمه. ومن اليقين أنّ مشروع عهد الإمام إلى مالك الأشتر يستطيع أن يشمل الواقع من كلّ نواحيه، حيث هو دستورٌ للحكم العَلَوي في أتمّ النصوص عَرضاً لصورةٍ واضحةٍ للحكم الإسلامي. أضِف إلى ذلك أنّ التعابير والمسائل المطروحة في العهد هذا جاءت بصورةٍ لا تتقيّد بزمانٍ دون زمان، ولا بمكانٍ دون مکان، فالعهد يتحدّث حول حقائق ومفاهيم يصبو إلى تحقيقها كلُّ الأجيال في كلّ مكان.)) (48) بمعنى أنه يتخطى عامل الزمان والمكان في كل بقاع المعمورة؛ فالكل بحاجة إلى تطبيقه بغض النظر عن الطائفة أو المذهب أو العقيدة.

ولا شك أن هذا العهد مكتوب من قبل الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه وهذا

ص: 112

يعني أن ألفاظه ومعانيه معلومة ومفهومة بين المتكلم والمخاطب أي بين المرسل والمتلقي، وتتضح من القراءة الأولى للعهد الذي كتبه الإمام علي (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر النخعي (رضوان الله تعالى عليه) أن مفرداته سهلة يسيرة ومفهومة المعاني، ولكن عند تكرار القراءة لهذا العهد نجد أن هنالك مجموعة من الألفاظ الغريبة التي تستحق الوقوف عندها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى سنجد حتما دقة اختيار بعض المفردات لدقة معانيها وسياقاتها وإذا ما حاولنا احصاءها جميعها سيطول بنا المقام ولا يسعه هذا البحث لكثرتها وسنعرض إلى بعض منها النشبت حقيقة ما ذهبنا إليه، ولنتبين حقيقة المعنى المراد منه دون غيره.

فالألفاظ الغريبة في النصّ وإنّ كانت متغايرة إلّا أنّ سمات غرابتها قد تتشابه، بل لابدّ لها من التشابه، وإلّا؛ فإنّ مفهوم الغرابة سيتعدد بتعدد الألفاظ الغريبة وعليه فأن اللفظة تكون غريبةً؛ إمّا بندرة الاستعمال وقلّته، أو بغرابة المعنى الممنوح للفظة في الاستعمال، أو جدّة الاشتقاق بما لا يُعرف لمادة اللفظة فإنّ صاحب اللفظة يلجأ إلى طرقٍ متعددة على أساسها؛ یکون کُلُّ صنف من أصناف الألفاظ الغريبة هذه، وكلّما تردّدت هذه الطرق في كلِّ صنفٍ أمكن عدُّ المتردد ظاهرةً بنفسها، وعن طريقه يمكنني ترسُّم ملامح أسلوب القائل (49).

وعلى هذا الأساس سنحاول تقسيم المفردات الغريبة التي وردت في العهد على قسمين يتعلق الأول بالألفاظ وتكون على محورين الأول يتعلق بالأسماء والآخر يتعلق بالأفعال وأما القسم الثاني فيتعلق بالمعنى الممنوح له في الاستعمال.

فمن جملة الأسماء التي نراها غريبة ووردت في عهد مالك الأشتر هي: ((الشره، المساماة، الصغر، خلوف، بَالَّة، شكاة، دعة، التَّزيُّد والتسقط، اللجاجة، الاستئثار، التغابي.))

ص: 113

أولا: الأسماء الغريبة في العهد.

من الألفاظ الغريبة الواردة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لعاملة على مصر وأعمالها مالك الأشتر (رضي الله عنه) التي يمكن أن نلحظها تكون مقسمة على قسمين هما الأسماء والأفعال وسنعرض بعضا منها تجنبا للإطالة، فمن غريب الأسماء لفظة (المساماة) في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ)) (50)

ففي النص يحذر الإمام علي (عليه السلام) ويستعمل لفظة (المساماة) وتعني المفاخرة ((قال أبو عمرو: المُساماةُ المفاخرة.)) (51) وهي مأخوذة من سما بمعنی السمو وهو العلو والارتفاع ((االسُّمُوُّ الارْتِفاعُ والعُلُوُّ تقول منه سَمَوْتُ وسَمَيْتُ مِثْلَ عَلَوْت وعَلَيْت وسَلَوْت وسَلَيْت عَنْ ثَعْلَبٍ وسَمَا الشيءُ يَسْمُو سُمُوّاً فَهُوَ سامٍ ارْتَفَع وسَمَا بِهِ وأَسْماهُ أَعلاهُ وَيُقَالُ للحَسيب وَلِلشَّرِيفِ قَدْ سَما وَإِذَا رَفَعْتَ بَصَرك إِلَى الشَّيْءِ قُلْتَ سَما إِلَيْهِ بَصَرِي وَإِذَا رُفِعَ لَكَ شيءٌ مِنْ بعيدٍ فاسْتَبَنْتَه قُلْتُ سَما لِي شيءٌ وسَما لِي شخصُ فُلَانٍ ارْتَفَع حَتَّى اسْتَثْبَتّه وسَمَا بصرُه عَلَاه...)) (52) وهذا كله مروي عن الليث (ت ه) (53)

والمساماة التباري في الشيء والمفاخرة به والذي يؤكد ذلك قول ابن منظور: ((تَسامَوا أَي تَبارَوا... وفي حديث عائشة الذي رُوِيَ في أَهلِ الإفكِ إنه لم يكن في نِساءِ النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) امرأَةٌ تُسامِيها غيرُ زَینَبَ فَعَصَمها الله تعالى و معنی تُسامِيها أَي تُبارِيها وتُفاخِرُها... وفي الحديث قالت زینبُ یا رسولَ الله أَحمِي سَمعي وبَصَري وهي التي كانت تُسامِينِي منهنّ أَي تُعاليني وتفاخِرُني وهي مُفاعَلة من السُّموّ أَي تُطاوِلُنِي في الحُظوة عنده ومنه حديث أَهلِ أُحُدٍ أَنهم خرَجُوا بسيُوفِهم يَتسامَونَ كأَنهمُ الفُحول أي يَتبارَونَ ويَتفاخَرُون ويجوز أَن يكون يَتداعَون

ص: 114

بأَسمائهم)) (54) ومساماة الله تعالى مباراته في السمو وهو العلو (55) ولعلنا نلمح الدقة في اختيار لفظة المساماة دون المفاخرة والمباراة لأنهما تختصان بالبشر وبالأشياء المادية الزائلة والزائفة وأما المساماة فهي تختص بالله خالق الخلق ومبدعه، فالحذر كل الحذر من التشبه بالله في جبروته وعظمته لأنه يذل كل جبار ويهين كل محتال؛ فهو درس تربوي وأخلاقي يعرضه الإمام في هذه الأسطر القليلة من كتابة هذا.

ومن الأسماء التي وردت في العهد، ونراها من الغريب النادر التي وردت في قول الإمام علي (عليه السلام): ((وَ لْیَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ، وَ أَفْضَلَ عَلَیْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا یَسَعُهُمْ وَ یَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ، حَتَّی یَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ...)) (56)

وشرح ابن أبي الحديد هذا القول للإمام (عليه السلام) وذكر أن هذه الأوامر جاءت في الوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش بقوله: ((وأمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجندلا لأمراء الجند لولا ذلك لما انتظم الكلام. قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم.)) (57) وجاء في المعنى اللغوي لمادة هذه اللفظة (خلف عن الليث (ت ه) وابن سيده (ت 458 ه) قولهما: ((الليث الخَلفُ ضدّ قُدّام. قال ابن سيده خَلفٌ نَقِیضُ قُدَّام مؤنثة وهي تكون اسماً و ظَرفاً)) (58) وذكر ابن الجوزي (ت 597 ه) في غريبه كلمة (الخلوف) بقوله:((في الحديثِ والحَيُّ خُلُوفٌ أي قَدْ ذَهَبَ الرِّجَالُ وبَقِيَ النِّسَاءُ)) (59) وقال في موضع آخر: ((قَولُهُ لَخُلُوف فَمِ الصَّائِمِ الخَاءُ مَضمُومَةٌ وهو تَغَيُّرُهُ بالصّوم، وسُئِلَ عَلِيُّ (عليه السلام) عن قُبْلَةِ الصَّائِمِ فقال ما أَرَبُكَ إِلى خُلُوفٍ فيها ويقال يَوْمُ الضُّحَی مُخلِفَةٌ لِلْفَمِ أي مُغَيِّرَةٌ)) (60)

ص: 115

لقد وظف الإمام علي (عليه السلام) المعنى اللغوي لهذه اللفظة خير توظيف إذ استعمله بمعنى ما يخلفه الرجل من الأولاد والأهل، والخلف يكون ضد القدّام وما يخلفه الشخص فهو ما یترکه خلفه من الأهل والولد. على الرغم من اختصاصها بالفم و أنها تأتي في معنى التغيير.

ثانيا: الأفعال الغريبة في العهد.

من الألفاظ الغريبة التي جاءت على صيغة فعل سواء كان فعلا ماضيا أو مضارعا أو أمرا وفعلا أسند إلى واو الجماعة أو نون التوكيد الثقيلة فهي كثيرة منها: ((ألصق (2)، یُطرُوكَ، أصحر، ثلموا، استوبلوا، تبجح (3)، تغاب، تُمحکه، يطامن، يعيا، يتفاقمن تطوِّلنَّ، تقوینَّ، تطمحن.))

وأول ما يطالعنا من الأفعال فعل الأمر (ألصق) وقد ورد مرتين في سياقين مختلفين الأول قوله (عليه السلام): ((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بباطِلٍ لم تَفْعَلْهُ)) (61) وأما السياق الثاني فقوله (عليه السلام): ((ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ)) (62)

والمراد من السياق الأول قوله: (والصق بأهل الورع كلمة فصيحة يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك. قال ثم رضهم على ألا يطروك أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك ولا يبجحوك بباطل لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله)) (63)

أما المعنى العام للسياق الثاني فقوله: ((ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات أي يكرمهم ويجعل معوله في ذلك عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم وكان يقال علیکم بذوي الأحساب فإنهم لم يتكرموا استحيوا. ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة

ص: 116

والسخاء ثم قال إنها جماع من الكرم وشعب من العرف من هاهنا زائدة وإن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه كقول النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] الخمر جماع الإثم و العرف المعروف.)) (64)

وألصق من الألفاظ الغريبة التي ذكرها ابن الأثير (ت 606 ه) في النهاية إذ يقول: ((في حديث قَيس بن عاصم قال له رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: فكيف أنتَ عند القِرَى؟ قال: ألصِق بالناب الفانِيِة والضَّرَعِ الصغير أراد أنه يُلصِق بها السيف فيُعَرقِبُها للضيافة وفي حديث حاطب [إنّي كنتُ امرَأ مُلصَقاً في قُرَيش] المُلصَق: هو الرجُل المُقِيم في الحَيِّ وليس منهم بنَسب)) (65)

ووردت هذه اللفظة في عدة لغات منها ((لَصِقَ به يَلصَق لَصُوقاً وهي لغة تميم وقيس تقول لَسق بالسين وربيعة تقول لَزَق وهي أقبحها إلا في أَشياء نصفها في حدودها والتَصَقَ وأَلصَقَ غیره... قال الراعي فقلتُ له أَلصِق بأيبَس ساقِها فإن نُحِرَ العُرقُوبُ لا يَرقأ النَّسَا... أَراد أَلصِق السيف بساقها واعقِرها...)) (66)

ومن الأفعال التي وردت في العهد (يطامن)، وجاءت في سياق قول الإمام علي (عليه السلام): ((فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَی مَا لَا تَقْدِرُ عَلَیْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِك يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَیْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ!)) (67). والمراد بهذا الكلام ((ثم أمره عند حدوث الأبهة والعظمة عنده لأجل الرئاسة والإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى وقدرته على إعدامه وإيجاده وإماتته وإحيائه فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه.)) (68)

وجاءت هذه اللفظة في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» (الفجر 27)، وقوله تعالى: «وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (سورة البقرة 260)،

ص: 117

وقوله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» (آل عمران 126)، وفي آية أخرى: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» (الأنفال 10)، وقوله تعالى: «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ» (النحل 106)، وقوله تعالى: «فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ» (النساء 103)، وأخيرا قوله تعالى: «وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا» (یونس 7).

ويلحظ في سياق هذه الآيات أن القرآن الكريم استعمل هذه اللفظة في أكثر من صورة منها الفعل الماضي وقد أسند إلى تاء الفاعل وواو الجماعة و منها الفعل المضارع الذي أسند إلى نون التوكيد الثقيلة ومنها اسم الفاعل للمذكر والمؤنث وغيرها ومن الملفت للنظر أن الإمام علي (عليه السلام) استعمل هذه اللفظة ولأول مرة على صورة فعل مضارع غير مسبوق للاستعمال ولعل هذا من باب الغريب النادر لقلة الاستعمال؛ لأن المراد بالكلام هو الانخفاض والغض من غلوائه، وهو المعنى اللغوي الذي حدده ابن منظور(ت 711 ه) بقوله: ((واطمَأَنَّت الأَرضُ وتَطَامَنَت انخفضت وطَمأَنَ ظهره وطَأمَنَ بمعنى على القلب التهذيب في الثلاثي اطمَأَنَّ قلبه إذا سكن واطمَأَنَّت نفسه وهو مُطمَئِنّ إلى كذا)) (69)

وأما من جهة بيان دلالة هذه اللفظة فقد قال الراغب الأصفهاني (ت 502 ه): ((طمن: الطمأنينة والاطمئنان السكون بعد الانزعاج،...)) (70) وذكر في موضع آخر ((واطمأن وتطامن يتقاربان لفظا ومعنى.)) (71)

ومن ألفاظ الغريب في الأفعال في المعنى الممنوح في الاستعمال التي ذكرت في العهد ونص عليها ابن الجوزي (ت 597 ه) لفظة (الضلع) في دعاء وارد عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): ((قوله أَعوذُ بِكَ مِن ضَلَعِ الدِّينِ يعني ثقله حَتَّی یُمِیلَ صاحِبَه عن الاستواءِ لِثِقَلِه) (72) وأما ما ورد في العهد فقول الإمام علي (عليه السلام): ((وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ صَغِیراً،

ص: 118

وَلَا ضَعَهُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ عَظِیماً. وَارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا یُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ، وَیَشْتَبِهُ عَلَیْكَ مِنَ الْأُمُورِ)) (73)

وجاء في توضيح هذه اللفظة قول ابن أبي الحديد ((ثم أمره أن يرد إلى الله ورسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده ويميله لثقله وهذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء و إن كان لتلك وجه)) (74)

وقال ابن منظور (ت 711 ه): ((والضَّلعُ المَيلُ وضَلَعَ عن الشيء بالفتح يَضلَعُ ضَلعاً بالتسكين مالَ وجَنَفَ على المثل وضَلَعَ عليه ضَلعاً حافَ والضالِعُ الجائِرُ والضالِعُ المائِلُ ومنه قيل ضَلعُك مع فلان أَي مَیلُكَ معه وهواك... وفي الحديث أَنه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إني أَعوذ بك من الهَمِّ والحَزَن والعَجز والكَسَل والبُخلِ والجُبنِ وضَلَعَ الدَّينِ وغَلَبةِ الرجال قال ابن الأَثير أَي ثِقَلِ الدَّينِ قال والضَّلَعُ الاعوِجاجُ أَي يُثقلُه حتى يميل صاحبُه عن الاستواءِ والاعتدال لثقله وفي حديث علي كرم الله وجهه واردُد إِلى الله ورسوله ما يُضلِعُكَ من الخُطوبِ أي يُثقِلُك) (75)

ومن صيغ بعض الأفعال الزوائد التي وردت في العهد (استكفاك) في قول الإمام علي (عليه السلام): ((فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ.) (76)، ولفظة (واستنامتك) في قوله (عليه السلام): ((فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ)) (77)

وجمع الصرفيون معاني صيغة (استفعل) فوجدوها ستة معانٍ (78)، ولعل من أهمها: الطلب حقيقة ك (استغفرت الله)، ولذلك يقول سيبويه: ((هذا باب استفعلت تقول: استجدته أي أصبته جيداً، واستكر مته أي أصبته کریماً. واستعظمته أي أصبته عظيماً، واستسمته أي أصبته سميناً. وقد يجئ استفعلت على غير هذا المعنى... وتقول:

ص: 119

استعطيت أي طلبت العطية، واستعتبته أي طلبت إليه العتبی. ومثل ذلك استفهمت واستخبرت، أي طلبت إليه أن يخبرني؟ ومثله: استثرته. وتقول: استخرجته، أي لم أزل أطلب إليه حتى خرج.)) (79)، وذكر ابن فارس (ت 395 ه): ((وأما استفعلَ فيكون بمعنى التكلف، نحو تعظَّمَ. واستَعظَمَ وتكَّبَر. واستَكبَر ويكون استفعل بمعنى الاستدعاء والطلب نحو: استَوهبَ ويكون بمعنی فَعلَ: قرَّ. واستَقرَّ.)) (80)

وهاتان اللفظتان (استكفاك) و (استنامتك) جاءتا على وزن (استفعل) والمراد بالأولى طلب منك كفاية أمرهم لأن ((کَفَی يَكفِي كِفايةً إِذا قام بالأَمر، ويقال: استَکفَيته أمراً فكفانيه، ويقال كَفاك هذا الأَمرُ أَي حَسبُك، وکَفاكَ هذا الشيء)) (81) وهذا ما أكده الدكتور صبحي الصالح في بيان معنى هذه الصيغة بقوله: ((واستكفاك أمرهم بمعنی طلب منك كفاية أمرك، والقيام بتدبير مصالحهم.)) (82)

أما لفظة (الاستنامة) فتعني السكون والثقة (83)، وجاء في دلالة السياق ((أن يكون عارفا بنفسه فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره. ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم وغلبة ظنه بأحوالهم فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا وما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر وليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة والمعرفة ولكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حکمت)) (84)

ص: 120

المبحث الثالث: الغريب من الاشتقاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك (رضوان الله عليه)

يتناول هذا المبحث الألفاظ الغريبة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر من ناحية الاشتقاق الذي نعني به تبیان الغرابة للألفاظ لا على أساس معرفة جذرها اللغوي من السامع، أو القارئ، بل هي قد تكون معروفة لديهما، جذراً لغوياً، ومادّة معجمية، وهي حاضرة في ذهنيها، ولكنّ الصيغة الصرفية التي جاءت عليها يندر أن تجيء لمثلها، ولم يذكر الصرفيون لها هذه الصيغة.

أولا: المصادر الغريبة في العهد.

بدأ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) العهد بقوله:((بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ عَلِیٌّ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِی عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِینَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبَایَةَ خَرَاجِهَا وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَی اللّهِ وَإِیْثَارِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِی کِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِی لَایَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَلَا یَشْقَی إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا)) (85) فبعد أن بدأ أمير المؤمنين كتابه بالبسملة إذ إن هذا العهد کان ککتاب مستقل افتتحه بالبسملة، وإلاّ فليس في باقي كتبه ووصاياه وعهوده بسملة.

وكالعادة المعروفة في مخاطباته الرسمية أشار إلى أن هذا الكتاب موجه من عبد من عباد الله وهو في الوقت نفسه أمير للمؤمنين، وهي حقيقة أكد عليها الإمام علي (عليه السلام) في أكثر من رسالة وكتاب حين قدم العبودية على الإمارة ويدلل دلالة واضحة على إقراره بالعبودية لله تعالى ويرى نفسه عبدا من عباد الله قبل أن يكون

ص: 121

أميرا للمؤمنين. ووجه كتابه هذا إلى أحد ولاته أولا من أجل استحصال الضرائب وجبايتها من أهلها وقتال عدوها، ويأمره بتقوى الله وإتباع أوامره بتقديمه طاعة الله على غيره؛ لأنها من مستلزمات السعادة في الدنيا والآخرة، وأنه يشقی من خالف أوامر الله و فرائضه وسننه وقال (لا يشقى ألا مع جحودها)

ولعل أول لفظة غريبة تطالعنا في عهد مالك (رضي الله عنه) هي (الجحود) وهي مصدر وتعني في اللغة: ((الإنكار مع العلم)) (86) و ((يقال جَحَده حَقَّه وجَحَده بحقه وبابه قَطَع وخَضَع.) (87) ویری ابن منظور (ت 711 ه) أن الجحود: ((نقیض الإِقرار كالإِنكار والمعرفة جَحَدَهُ يَجحَدهُ جُحداً وجُحوداً)) (88) و ((جَحَدَهُ حَقَّهُ وَبِحَقِّهِ جَحدًا وجُحُودًا أَنکَرَهُ وَلاَیَکُونُ إلَّا عَلَى عِلمٍ مِن الجَاحِدِ بِهِ.)) (89) وقولهم مرة (نقیض) ومرة (ضد) كما في قول الأزهري (ت 370 ه) فيما رواه عن الليث ((قال الليث: الجحود: ضد الاقرار.)) (90) يوحي بأنها من الألفاظ المتقابلة، ولكن الإقرار يقابله الإنكار ولا يقابله الجحود لأن اختيار الإمام (عليه السلام) واستعماله لهذه اللفظة دون غيرها كأمثال نفيها أو عدم اقرارها فضلا عن كونها مصدرا بحد ذاته يدل على الحدث يجعله دالا على الثبات والاستقرار، فالشقاء في هذه الحياة يكون مع الإنكار لهذه الأوامر مع العلم بها وهذه طامة كبرى في حياة الإنسان.

وجعل سیبویه (ت 180 ه) هذه اللفظة من النادر الذي لا يقاس عليه وذلك بقوله: ((وقد جاء على فعلانٍ نحو الشكران والغفران. وقالوا: الشکور کما قالوا: الجحود. فإنما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب ولا يقاس عليها، ولكن الأكثر يقاس عليه.)) (91) جاء ذلك في ((باب بناء الأفعال التي هي أعمال تعداك إلى غيرك وتوقعها به ومصادرها)) (92) وقال فيه أيضاً ((وقد جاء بعض ما ذكرنا من هذه الأبنية على فُعول. وذلك: لزمه يلزمه لزوماً، ونهکه ینهکه نهوكاً، ووردت وروداً،

ص: 122

وجحدته جُحُوداً، شبهوه بجلس جلوساً، وقعد يقعد قعوداً، ورکن یرکن رکوناً، لأن بناء الفعل واحد.)) (93) وقد جعله ابن سيده (ت 458 ه) في أبواب النّفي إذ يقول: ((النّفي ضدُّ الإِيجاب، نفيتُه نَفياً وأهل المنطق يسمونه سَلباً. صاحب العين: الجُحودُ: نقيض الإِقرار جحَدَه يجحَده جَحداً)) (94)

ولا شك أن معرفة السياق الذي وضعت فيه اللفظة وقت استعمالها لها بالغ الأثر في بيان دلالتها ووضوح معناها، نرى ذلك في سياق قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده إذ يقول: ((ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع؛ فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير)) (95) وقوله ((ولا تقولن إني مؤمر أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشيء فأطاع.)) (96) أما الإدغال فهو ((الإفساد ومنهكة للدين ضعف وسقم)) (97)

واستعمل الإمام علي (عليه السلام) هذه اللفظة ووظفها في نص آخر من نهج البلاغة وفي خطبة خطبها بصفين في حق الوالي وحق الرعية بقوله: ((وَإِذَا غَلَبَتِ

اَلرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ اَلْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اِخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ اَلْكَلِمَةُ وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ اَلْجَوْرِ

وَكَثُرَ اَلْإِدْغَالُ فِي اَلدِّينِ وَتَرَكَتْ مَحَاجُّ اَلسُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَعُطِّلَتِ اَلْأَحْكَامُ وَكَثُرَتْ عِلَلُ اَلنُّفُوسِ فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ

اَلْأَبْرَارُ وَتَعِزُّ اَلْأَشْرَارُ وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اَللِّهَ سُبْحَانَهُ عِنْدَ اَلْعِبَادِ.))(98)

فقد وردت كلمة (الإدغال) وهي من المصادر، والإدغال على ما يبدو أنها من الألفاظ المشتركة التي تكون لها عدة دلالات منها الفساد، والشجر الكثير الملتفُّ وقيل هواشتباك النبت وكثرته وقيل الدَّغَل كل موضع يخاف فيه الاغتيال والجمع أَدغال ودِغال (99).

ص: 123

وذكر سیبویه (ت 180 ه) ذلك في ((باب مصادر ما لحقته الزوائد من الفعل من بنات الثلاثة فالمصدر على أفعلت إفعالاً، أبداً. وذلك قولك: أعطيت إعطاءً، وأخرجت إخراجاً.)) (100)

ووظف الإمام علي (عليه السلام) لفظة (الإدغال) وهي مصدر بمعنى الفساد ولذلك جاء مرة معلقا بالجار والمجرور (في القلب) وأخرى (في الدين) لأن أخطر ما تمر به الأمة هو الفساد في القلب وكذلك الفساد في الدين ((وهو أن يدخل في الشيء ما ليس منه وهو الإبداع والتلبيس. وبفتح الهمزة: جمع الدغل - کجبل - وهو الفساد...)) (101)

وقد ظهر في العهد لفظ (حدوة) والذي يبدو للوهلة الأولى أنها من المصدر الدال على المرة، وذلك في سياق قول الإمام علي (عليه السلام) بقوله: ((... فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لاُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الاَعْوَانِ...)) (102) وذكر ابن أبي الحديد في توضيح هذه اللفظة ((وحدوة باعث، يُقال: حداني هذا الأمر حَدوةً على كذا، وأصله؛ سَوق الإبل، ويُقال: للشّمال حَدواء؛ لأنَّها تسوق السحاب.)) (103)

وظاهر غرابة التركيب في (حَدوة)، أنّها جاءت على زنة (المرّة)، وليس الموضع موضع مرّة، ولكنّه موضع المصدر الدّال على الحدث بعينه، لا بعدد مراته، والمعنى: (فإن تعاهدك في السرِّ لأمورهم حَدوٌ لهم...)، إذ ذكر الصرفيون قیاس (فَعَلَ) إذا كان متعدياً فمصدره علی زنة (فَعل) إذ ذكر الخليل: ((حدا يحدو حَدواً، وأعرفه حُداءً - ممدود - إذا رجز الحادي، خلف الإبل وَحَدا يحدو حَدواً، إذا تبع شيئا)) (104). وقال ابن دريد: ((حدوتُ الإبل، أحدوها حدواً)) (105)، ولم يذكر ابن السکِّیت (الحَدوة) في باب (فَعلة وفُعلة) ولا في باب

ص: 124

(فَعلة وفُعلة وفِعلة) ولا في باب (فَعلة وفِعلة) (106). ولم نجد - في ما وقع بين يدي من المعاجم، والكتب - من أشار إلى (حدوة) ولو حتى بمعنى المرّة، إلّا أنَّ ابن أبي الحديد، يقول في معرض شرحه للكلام: ((وحدوة باعث، يُقال: حداني هذا الأمر حَدوةً على كذا، وأصله؛ سَوق الإبل، ويُقال: ((للشّمأل حَدواء؛ لأنَّها تسوق السحاب)). ولا أدري من أين جاء بقوله: (حداني هذا الأمر...) ولعلّه أراد (حَدوة من حداني هذا الأمر حَدوة) أي لبيان اشتقاقها وإلّا فإنَّ قوله: (يقال...) يوهم بأنَّ هذا التصريف مسموع عند العرب، ولم نجد له ذكراً في كتب اللغة (107).

ثانيا: الجموع الغريبة في العهد.

من الألفاظ التي وردت في العهد من الجموع ونرى أنها غريبة هي (الجمحات) التي وردت بصيغة الجمع في قوله (عليه السلام): ((فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَکَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ یکْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ یزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ)) (108).

وورد في المعجمات أن ((الجمحات من جمح الفرس براكبه ذهب يجري جربا غالبا واعتزّ فارسه وغلبه، يقال: دابة ما بهارمحة ولا جمحة)) (109) وعليه فإن الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها ومآربها ونزعها بكفها.

وقد ذكر سيبويه هذا النوع من الجمع في ((باب جمع الاسم الذي في آخره هاء التأنيث زعم یونس أنَّك إذا سمّيت رجلا طلحة أو امرأة أو سلمة أو جبلة، ثم أردت أن تجمع جمعته بالتاء، كما کنت جامعه قبل أن يكون اسماً لرجل أو امرأة على الأصل. ألا تراهم وصفوا المذكّر والمؤنث، قالوا: رجل ربعة وجمعوها بالتاء: فقالوا ربعات ولم يقولوا: ربعون. وقالوا: طلحة الطلحات ولم يقولوا:

ص: 125

طلحة الطَّلحين. فهذا يجمع على الأصل لا يتغيّر عن ذلك، كما أنَّه إذا صار وصفا للمذكّر لم تذهب الهاء.)) (110) وعليه فالكلمة التي استعملها الإمام (عليه السلام) جاءت على الأصل الذي وضعت له في اللغة.

ثالثا: المشتقات الغريبة في العهد.

جاء في العهد مجموعة لا بأس بها من المشتقات لعل من أبرزها ((الناكل، أشنأهم)) وسوف نستعرض بعضا من تلك المشتقات ونبدأ أولا في لفظة (الناكل) وهي اسم فاعل جاءت في سياق قول الإمام علي (عليه السلام): ((وَوَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی وَلَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیْرِهِ وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهُ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ)) (111) وجاء هذا القول في سياق جملة من الأوامر التي وجهها الإمام علي (عليه السلام) في کتابه وتحديدا ((أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع ويحرك الجبان. قوله ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي أذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذکر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره.)) (112)

والمعنى المعجمي لهذه اللفظة هو الجبن والصرف عن الشيء جاء ذلك في لسان العرب بقوله: ((نكل عنه کضرب ونصر وعلم نکولاً نكص وجبن) ویَنکُل نَکولاً ونَكِلَ نَکَصَ يقال نَکَل عن العدوّ وعن اليمين يَنکُل بالضم أَي جَبُنَ ونَکَّله عن الشيء صرفه عنه ويقال نکّل الرجل عن الأَمر يَنکُل نُکولاً إذا جَبُنَ عنه ولغة أُخرى نَكِل بالكسر یَنکَل والأُولى أَجود الليث النّكل)) (113)

وهذه اللفظة وردت بصيغة مصدر آخر غير (نکول) الواردة في المعجمات في

ص: 126

القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ» (المائدة 38) وقوله تعالى: «فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا» (البقرة: 66) ووردت مرة أخرى بصيغة الجمع في قوله تعالى: «إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا» (المزمل 12) ولكن الإمام (عليه السلام) استعمل هذه اللفظة بصيغة اسم الفاعل وهي صيغة جديدة حاول الإمام استعمالها من باب تكثيف الدلالة لهذه اللفظة.

ومن المشتقات الأخرى في العهد لفظة (أشنأهم) وهي أفعل التفضيل من الشنآن ويلحظ ذلك في قوله (عليه السلام): ((وَلْيَکُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لَمِعَائِبِ النَّاسِ فإنَّ في النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ)) (114) فإنه استعمل لفظة (وأشنأهم) التي يراد بها ((الشَّناءة مثل الشَّناعةِ البُغضُ)) (115) وهي مما نضعه في قائمة اسم التفضيل وغریب الوزن فيها ذلك أنها لم ترد بهذه الصيغة في القرآن إذ ورد قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ» (المائدة 2، 8) وقرئَ بهما أي بفتح النون وإسكانها ((وشَنَاناً وشَناناً بالتحريك والتسكين أَبغَضَه... فمن سکَّن فقد يكون مصدراً کَلَیَّان ویکون صفة کَسَکرانَ أَي مُبغضُ قوم قال الجوهري وهو شاذ في اللفظ لأَنه لم يجئ شيءٌ من المصادر عليه ومن حرَّك فإنما هو شاذ في المعنى؛ لأَن فَعَلانَ إِنما هو من بِناءِ ما كان معناه الحركةَ والاضطِرابَ کالضَّرَبانِ والخَفَقَانِ)) (116)

أما في التهذيب فقد ذكر أن ((الشَّنَآنُ مصدر على فَعَلان کالنَّزَوانِ والضَّرَبانِ وقرأَ عاصم شَنان بإِسكان النون وهذا يكون اسماً كأنه قال ولا يَجرِ مَنَّكم بَغِیضُ قوم)) (117) وفي التنزيل العزيز قوله تعالى: «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (الكوثر 3) وقال الفرَّاءُ في تفسير الآية: ((قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه [وآله] وسلم إِنَّ شانِئك أَي

ص: 127

مُبغِضَك وعَدُوَّكَ هو الأَبتَر)) (118)

وجاء غريب هذه اللفظة من كونها جاءت على هذه الصيغة (أفعل) والمعروف لدى الصرفيين أنهم وضعوا عدّة شروط في صياغة اسم التفضيل، بلغت الثمانية؛ (119) منها لا يُصاغ من العيوب والخلال الظاهرة والألوان، عند البصريين، وأجاز الكوفيّون صياغته، من نحو: (أسود منه) وغيرها، أمّا ما كان عيباً باطناً على (فعل)، فجائز عند البصريين؛ من نحو: (أبلَه منه)، و (أحمق منه). ولكن (أشنأ) جاءت على وزن (أفعل) واستعملها الإمام (عليه السلام) من باب اختلاف الصيغة وندرة الاستعمال.

ص: 128

الخاتمة:

1. بعد هذه الجولة في الألفاظ الغريبة في عهد الإمام (عليه السلام) نخلص إلى عدة نتائج أبرزها:

2. ما نصت عليه المعجمات العربية في دلالة لفظة (الغريب) لا تخرج عن كونه الغامض في الكلام والابتعاد به والنأي عنه.

3. الغريب الذي وقع في نهج البلاغة هو غريب يصب في الفصاحة، لا غريب ينافر الفصاحة.

4. الغريب الذي وقع في عهد الإمام علي (عليه السلام) في الألفاظ والمعاني والاشتقاق.

5. ألفاظ الغريب التي ظهرت في العهد كانت موزعة ما بين الأسماء والأفعال.

6. وجد البحث كثيرا من الصيغ الصرفية فكان هنالك المصادر والجموع واسم الفاعل وأفعل التفضيل وغيرها.

7. قدّم البحث دراسة للغريب لجميع ما ذكر في العهد وحاول الكشف عن دلالتها ومعناها اللغوي وعن معناها في السياق الذي وضعت فيه مبينا وجه الغرابة فيها.

8. قد ترد ألفاظ غريبة ولا يفهم من غرابتها إلا إذا فهم معنى السياق الذي وضعت فيه.

9. استعمل الإمام (عليه السلام) بعض الصيغ وجاءت موافقة للمعنى الأصل في اللغة.

ص: 129

ثبت المصادر

1. أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: د. مسعود بوبو، وزارة الثقافة، دمشق 1982 م.

2. الاشتقاق: لابن درید، محمد بن الحسن، (ت 321 ه) تح: عبد السلام محمد هارون، مطبعة السنة المحمدية، 1958 م.

3. إصلاح المنطق: لابن السکِّیت، يعقوب بن إسحاق، (ت 244 ه)، تح: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، مصر، 1949 م.

4. التطور اللغوي التاريخي: د. إبراهيم السامرائي، ط 2، دار الأندلس، 1401 ه - 1981 م.

5. تهذيب اللغة: الأزهري (ت 370 ه) 6. الفهرست: لابن النديم (ت ه)، ح رضا - تجدد، طهران 1391 ه - 1971 م.

7. البحث والمكتبة: تأليف الدكتور نوري حمودي القيسي والدكتور حاتم صالح الضامن، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي / جامعة بغداد - بيت الحكمة، 1988 م.

8. بذور الدّراسة الدلالية لألفاظ القُرآن الكَريم: د. سَعُد الكردي مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق العدد 66 - السنة 17 - كانون الثاني - يناير 1997 - شعبان 1417.

9. الرسالة: للشافعي، محمد بن إدريس، (ت 204 ه)، تح: أحمد محمد شاكر، مصر، 1940 م.

ص: 130

10. رواية اللغة: د. عبد الحميد الشلقاني، دار المعارف بمصر- 1971 م.

11. شرح الكافية: للرضي الأسترابادي، طبع على الحجر، طهران، د. ت. وطبع؛ مطبعة الرضي سنة، 1275 ه.

12. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن محمد المعتزلي (ت 656 ه)، بيروت، د. ت.

13. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أحمد بن فارس (ت 395 ه)، حققه وقدّم له مصطفى الشويمي، مؤسسة أ. بدران للطباعة والنشر، بيروت لبنان 1383 ه - 1964 م.

14. عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر لمؤلّفه علي الأنصاري الناشر: دار سروش للطباعة والنشر - طهران، الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. الطبعة: الأولى سنة 1403 ه/ 1983 م.

15. العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، تح: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، الكويت، 1981 م.

16. غُرر الحكم ودرر الكلم: للآمدي، عبد الواحد بن محمد، (ت 436 ه)، صيدا، 1930 م، وطبع مصر، ت-ح: أحمد شوقي، د. ت.

17. غريب الحديث: ابن الجوزي(ت ه)، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية - بيروت، 1985 م.

18. غريب الحديث: القاسم بن سلام الهروي أبو عبيد

19. الغريب في اللغة العربية: محمد فلح العثمان

ص: 131

20. غريب نهج البلاغة أسبابه، أنواعه، توثيق نسبته، دراسته: تأليف د. عبدالكريم حسين السعداوي مكتبة الروضة الحيدرية

21. الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، لابن الصباغ المالكي، علي بن محمد (ت 855 ه)، النجف، 1960 م.

22. الفهرست: ابن النديم محمد بن إسحاق أبو الفرج النديم دار المعرفة - بيروت، - 1398 - 1978.

23. القاموس المحيط: الفيروزآبادي (ت 817 ه)، إعداد وتقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، بيروت، 2001 م. وطبع بيروت في 1403 ه.

24. كتاب الدلائل في غريب الحديث، للسرقسطي، دراسة د. شاكر الفحام، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق - 1396 ه - 1976 م.

25. كتاب الصناعتين: أبو هلال العسكري (ت 395 ه)، بعناية السيد محمد أمين الخانكي. طبعة الأستانة سنة 1320 ه.

26. كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير(ت 606 ه)، تحقيق: محمود محمد الطباحي، وطاهر أحمد الزاوي، مؤسسة التاريخ العربي.

27. كتاب سيبويه: أبي بشر عمرو بن عثمان(ت 180 ه)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب / بيروت.

28. لسان العرب: ابن منظور(ت 711 ه)، 29. المحاسن و المساوئ: للبيهقي، إبراهيم بن محمد، (ت قبل 320ه)، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، 1961 م.

30. محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء البلغاء، للراغب الأصفهاني، الحسين ابن

ص: 132

محمد، (ت/ 502 ه)، القاهرة، 1326 ه.

31. مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر الرازي (ت 666 ه)، دار الرسالة - كويت، 1403 ه - 1983 م.

32. المخصص: ابن سيده الاندلسي(ت 458 ه)،

33. المصباح المنير: الفيومي

34. المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري محمد بن عبدالله (ت 405 ه)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، 1990 م.

35. مصادر التراث العربي: د. عمر دقاق، مكتبة دار الشرق، بيروت (بلا تاريخ).

36. معاني القرآن: للفراء، يحيى بن زياد (ت 207 ه) (1 - 3) تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، وآخرين، القاهرة، 1955 - 1980 م.

37. معرفة علوم الحديث: أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري تحقيق: السيد معظم حسين الطبعة الثانية دار الكتب العلمية - بيروت، 1397 ه - 1977 م.

38. المفردات في غريب

39. الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 ه)

40. نهج البلاغة: تعليق الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الثانية، مطبعة برستش، مؤسسة انتشارات أنوار الهدى، 1424 ه. ق.

41. الوساطة بين المتنبي وخصومه: القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني(ت 392 ه)

ص: 133

الهوامش

1. العين/ مادة (غرب).

2. المصدر السابق.

3. القاموس المحيط/ مادة (غرب).

4. المصدر السابق.

5. لسان العرب/ مادة (غرب).

6. لسان العرب/ مادة (غرب). وينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 28.

7. التعريفات 92.

8. المصدر السابق.

9. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/1 وما بعدها.

10 . ثم تعاقبت كتب كثيرة في غريب القرآن، ومن الذين ألفوا فيه: أبو محمد يحيى ابن المبارك اليزيدي (ت 202 ه) والنضر بن شميل (ت 203 ه)، وقطرب (210 ه)، وأبو عبيدة مَعمَر بن المثنى (ت 213 ه)، وأبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216 ه) والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت 215 أو 221 ه)، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه) ومحمد بن سلام الجمحي (ت 231 ه)، والمبرد (ت 285 ه)، وابن قتيبة (ت 276 ه) وثعلب (ت 291 ه)، والمفضل بن سلمة (ت 291 ه)، وابن الأنباري (ت 328 ه). ينظر: البحث والمكتبة 128 - 129.

11. طَبَعَتهُ دار إحياء الكتب بالقاهرة سنة 1958 م بتحقيق الأستاذ السيد أحمر صقر.

12. طَبَعَتهُ مطبعة مجلس دار المعارف الإسلامية / تحت مراقبة: د. محمد عبد المعين خان، الطبعة الأولى 1965 م.

ص: 134

13. طَبَعَتهُ بمكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1419 ه - 1999 م. بتحقيق ودراسة أحمد فريد المزيدي.

14. ينظر في هذا كتاب البحث والمكتبة للدكتور نوري حمودي القيسي، والدكتور حاتم صالح الضامن.

15. ينظر: الفهرست 52، رواية اللغة 90 - 91، مصادر التراث العربي 137.

16. بُذور الدّراسة الدلالية لألفاظ القُرآن الكَريم - د. سَعُد الكردي - الفهرست: 78، 96. النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/ 4 - 5. كتاب الدلائل في غريب الحديث للسرقسطي، دارسة الدكتور شاكر الفحام: 4 التطور اللغوي التاريخي: 42.

17. أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج 351.

18. غريب الحديث: لابن سلام 1/ 1 المقدمة.

19. المصدر السابق.

20. كتاب الصناعتين 1.

21. الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري 1/ 104.

22. الوساطة بين المتنبي 5، وينظر: الغريب في اللغة العربية محمد فلح العثمان

23. ينظر: سر الفصاحة 212 214، والمثل السائر 34.

24. غريب الحديث 1/ 27.

25. الفائق في غريب الحديث 1/ 141.

26. ينظر: غريب نهج البلاغة وينظر المصادر التي ذكرها في هامش(20 و 21 و 22) من الصفحة نفسها. وقد ذكر الحافظ النيسابوري: ((فأول من صنف الغريب في الإسلام النضر بن شميل له فيه كتاب هو عندنا بلا سماع)) معرفة علوم الحديث 1/ 146.

ص: 135

27. المحاسن والمساوئ 1/ 36 - 37. وينظر: المستدرك على الصحيحين 3/ 481، والفصول المهمة 14.

28. محاضرات الأدباء 1/ 89، وغرر الحكم 82.

29. غريب نهج البلاغة 16 - 17.

30. ينظر: غريب نهج البلاغة 22.

31. ينظر على سبيل المثال لا الحصر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة:، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: الحاج مير حبيب الله بن السيّد محمّد الملقب بأمين الرعايا (ت 1324 ه)، وفي ظلال نهج البلاغة، منهاج البراعة (الراوندي)، وشرح نهج البلاغة (الحائري)، وشرح نهج البلاغة (الجعفري)، وشرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد. وشرح كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) - عبد الوهاب، وشرح نهج البلاغة المقتط-ف من بحار الأنوار، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة تأليف الشيخ محمد باقر المحمودي.

32. ينظر: غريب نهج البلاغة أسبابه 22 -30 .

33. غريب نهج البلاغة أسبابه 22.

34. غريب نهج البلاغة 25.

35. المصدر السابق 29.

36. الرسالة: للشافعي 13. والنص هكذا ورد في المصدر: ((ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي)).

37. غريب نهج البلاغة أسبابه 30.

38. غريب نهج البلاغة أسبابه 102 - 103.

39. ينظر: المصدر السابق 104.

40. ينظر: المصدر السابق 106.

ص: 136

41. نهج البلاغة 92. رقم الخطبة (57).

42. ينظر: الفائق في غريب الحديث والأثر 1/ 388، و (النهاية) (د/ح/ ق): 2/ 103.

43. ينظر: العين، و (الصحاح)، و (الأساس)، و (اللسان) مادة (دحق).

44. ينظر: غريب نهج البلاغة أسبابه 107.

45. ينظر: المصدر السابق 108 وما بعدها.

46. نهج البلاغة 426، شرح نهج البلاغة 17/ 30، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 8/ 474.

47. كتاب في مقالة (عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر) شبكة الإمام الرضا (عليه السلام).

48. المصدر السابق.

49. ينظر: غريب نهج البلاغة أسبابه 102.

50. نهج البلاغة 428.

51. لسان العرب مادة (سما).

52. لسان العرب مادة (سما).

53. ينظر: تهذيب اللغة مادة (سما) 54. لسان العرب مادة (سما) 55. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17/ 34.

56. نهج البلاغة 433.

57. شرح نهج البلاغة 17/ 54. وينظر الصفحة 52 من الكتاب نفسه.

58. لسان العرب مادة (خلف).

59. غريب الحديث ابن الجوزي 1/ 297.

ص: 137

60. المصدر السابق 1/ 298.

61. نهج البلاغة 430.

62. نهج البلاغة 433

63. شرح نهج البلاغة 17/ 45.

64. شرح نهج البلاغة 17/ 53.

65. النهاية في غريب الأثر ابن الأثير 4/ 249.

66. لسان العرب مادة (لصق).

67. نهج البلاغة 428.

68. شرح نهج البلاغة 17/ 34.

69. لسان العرب مادة (طمن).

70. المفردات في غريب القرآن

71. المصدر السابق.

72. غريب الحديث ابن الجوزي 2/ 16

73. نهج البلاغة 434.

74. شرح ابن أبي الحديد 54 - 55.

75. ينظر: لسان العرب مادة (ضلع).

76. نهج البلاغة 428.

77. نهج البلاغة 437.

78. ينظر: الكتاب 2/ 235، 236، 239، 241، وشرح الشافية للرضي 1/ 110 - 111. ومن معانيها الأخر هي: الصيرورة حقيقة ك (استحجر الطين)، أو مجازاً ك (إنَّ البُغاث بأرضنا يستنسر)، واعتقاد صفة الشيء ك (استحسن) واختصار حكاية ك (استرجع)، أي: قال: (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)، والشدّة ك (استهتر)،

ص: 138

أي: اشتدّ هتره، والمصادفة والوجدان ك (استكرمته واستبخلته) أي وجدته كريماً أو بخيلاً.

79. الكتاب 4/ 70.

80. الصاحبي في فقه اللغة 223.

81. لسان العرب مادة (كفى).

82. نهج البلاغة 696.

83. ينظر: نهج البلاغة 700.

84. شرح نهج البلاغة 17/ 78.

85. نهج البلاغة 426 - 427.

86. تاج اللغة وصحاح العربية مادة (جحد).

87. مختار الصحاح 93.

88. لسان العرب مادة (جحد).

89. المصباح المنير 1/ 72.

90. تهذيب اللغة مادة (جحد).

91. الكتاب 4 / 8.

92. الكتاب 4/ 5.

93. الكتاب 4/ 5 - 6 94. المخصص

95. نهج البلاغة 428.

96. شرح نهج البلاغة 17/ 33.

97. شرح نهج البلاغة 17/ 34.

98. نهج البلاغة 333 - 334.

ص: 139

99. ينظر: لسان العرب مادة (دغل).

100. الكتاب 4/ 78.

101. نهج السعادة - الشيخ المحمودي 2/ 180.

102. نهج البلاغة 435.

103. شرح نهج البلاغة 17/ 70

104. العين مادة (ح دی).

105. الاشتقاق 406.

106. ينظر: اصلاح المنطق 127 - 130، 131 - 133.

107. ينظر: غريب نهج البلاغة أسبابه 149.

108. نهج البلاغة 427.

109. أساس البلاغة 63 (جمع)، ولسان العرب مادة (جمع).

110. الكتاب 3/ 111. نهج البلاغة 434 112. شرح نهج البلاغة 17/ 54.

113. لسان العرب مادة (نكل).

114. نهج البلاغة 429.

115. لسان العرب مادة (شنأ).

116. المصدر السابق.

117. تهذيب اللغة مادة (شنأ).

118. معاني القرآن

119. ينظر: الكتاب 2/ 251 252، شرح الكافية للرضي 2/ 235.

ص: 140

الأمر وأنماطه الفنية في عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضي الله عنه) المدرس الدكتور حيدر عبد الحسين مير زوين 2016م 1438 ه

اشارة

ص: 141

ص: 142

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن والاهم الى يوم الدين.

وبعد يعد أسلوب الأمر أحد الأنماط التي تنتمي الى أسلوب الطلب وقد قسم النحاة الجمل العربية على قسمين جمل اسمية وجمل فعلية، وأما البلاغيون فقد قسموا الجمل على صنفين أما طلبية أو إنشائية ولهذا الأسلوب صيغ مختلفة يتردد عليها من ضمن سنن العرب في كلامها كما وضع الدارسون آليات محددة يدرس على أساسها هذا الأسلوب أو أي أسلوب آخر وبما أن أسلوب الطلب من أنماط علم المعاني الذي حده البلاغيون بأنه العلم الذي يدرس بغية الاحتراز من الوقوع في الأخطاء المعنوية، فلا بد من تبني مجموعة أو منظومة أسلوبية تأخذ على عاتقها هذه المسؤولية.

وقد قسّمت البحث الموسوم ب ((الأمر وأنماطه الفنية في عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر)) على أربعة مباحث، سبقت بمقدمة وانتهت بخاتمة تبين أهم النتائج التي توصل إليها الباحث فضلاً عن قائمتين إحداهما لهوامش البحث والأخرى لمظان البحث الرئيسة، وقد أطلقت على المبحث الأول: مفهوم مصطلحات البحث اللغوية والاصطلاحية و قد درس هذا المبحث لثلاثة محاور جاءت على النحو الآتي: (الأمر لغة واصطلاحا، والأنماط لغة واصطلاحاً، والعهد لغة واصطلاحا).

فيما وسم المبحث الثاني ب: مضامين عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر وتضمن هذا المبحث محورين الأول منهما: نبذة مختصرة عن حياة مالك الأشتر، والثاني مضامين هذا العهد.

ص: 143

فيما أطلقت على المبحث الثالث: أسلوب الأمر وصيغه ودلالاته في اللغة العربية وقد قسم على محورين: ضم الأول: الأنماط الحقيقية فيما اشتمل الثاني على الأنماط المجازية

وتضمن المبحث الرابع دراسة ل (أنماط الأمر ودلالاتها في عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر)

وقد استعان الباحث بمجموعة من المصادر التاريخية والأدبية واللغوية والدينية، ومصادر العقيدة كي ينجز هذا البحث المتواضع فهو لا يدعي الكمال في كل ما قام به وما بذله من جهد؛ لأن الكمال لله عز وجل والعصمة له وحده لا شريك له فإن أصاب فهو حسبه وإن أخطأ فجل بني البشر خطائين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الباحث

ص: 144

المبحث الأول: مفهوم مصطلحات البحث اللغوية والاصطلاحية

أولاً: الأمر (لغةً واصطلاحاً):

هو المصدر من الفعل الماضي الثلاثي أمر، يأمر، أمراً

واصطلاحاً: بمعنى الطلب أو الحال والشأن والسلطة (1) ومنه قوله تعالى: ((لله الأمر من قبل ومن بعد)) (2)

والأمر: هو أحد أنواع الفعل ويمكن تقسيم الفعل على ثلاثة أنواع: (الماضي والمضارع والأمر) (3)

ويمكن تعريف فعل الأمر بأنه لفظ يطلب به تنفيذ فعل في زمن الحال (4) والأمر أسلوب بلاغي يعني طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام (5)

ثانياً: مصطلح الأنماط الفنية في اللغة والاصطلاح:

النمط في اللغة: النمط لغة من الجذر الماضي نمط ينمط تنميطا فهو منمِط اسم فاعل ومنمَط وهو اسم مفعول ويعني ظهارة الفراش وهو ضرب من البسط وهو أيضا ثوب من الصوف وهو كذلك جمع من الناس اجتمعوا على أمر واحد (6) وجاء في حديث الامام علي (عليه السلام): ((خير الناس هذا النمط الأوسط يرجع إليه العالي ويرتفع إليه التالي)) (7)

أما في الاصطلاح: فالنمط هو طريقة أو أسلوب وقد يأتي بمعنی صنف أو نوع (8).

والفنيّة: مصدر صناعي من الفعل فنن والفن طريق ومسلك وقد يأتي بمعنی اللون (9) ألا ترى قوله تعالى ((ذواتا أفنان)) (10) نسبةً الى الفن وهي تعني التفنن في

ص: 145

استعمال اللغة لأجل الإبداع الجملي والجمالي الذي يتوخاه المتلقي

ثالثاً: العهد في اللغة والاصطلاح

العهد في اللغة

والعهد لغة: مأخوذ من الفعل الماضي الثلاثي (عهد) و مضارعه يعهد والمصدر عهداً (11)

العهد اصطلاحاً أما اصطلاحا فهو بمعنى الميثاق وقد يأتي بمعنى الوصية والأمر وهذا ما ذهب اليه الزبيدي في تاج العروس (12) وهذا المعنى يتناغم مع مانريده وما يدل على ذلك قوله تعالى: ((ألم أعهد إليكم يا بني آدم)) (13)، وقوله: ((وعهدنا إلى إبراهيم)) (14)، في حين يرى آخرون مثل الرازي في مختار الصحاح أن العهد هو الأمان واليمين والموثق والذمة والحفاظ فضلاً عن الوصية وعهد إليه أي فهم أي أوصاه ويحتج أصحاب هذا الرأي بقوله عز وجل: ((وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)) (15) ومنه اشتق العهد (16)

ثانياً: الأنماط الفنية: الأنماط بصيغة جمع التكسير على زنة أفعال ومفردها نمط وهو على معاني مختلفة منها: ((ظهارة الفراش، وضرب من البسط وثوب من صوف)) (17)، وقد تأتي بمعنى: ((جماعة من الناس أمرهم واحد)) (18)

أما في المصطلح فهو طريقة أو أسلوب وشكل أو مذهب، وقد ترد بمعنی صنف أو طراز أو نوع من شيء (19).

والفنية: مصدر صناعي وهو كل مصدر اتصل بالياء المشددة والتاء المربوطة والفن: هو أسلوب وقد ورد في محكم التنزيل بقوله: ((ذواتا أفنان)) (20)، والأفنان هنا بمعنى الألوان المختلفة.

ص: 146

المبحث الثاني: مضامین عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر

أولًا: نبذة من حياة مالك الأشتر هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك بن نخع (21) الكوفي، المعروف بالأشتر، ويكنى بأبي ابراهيم وبكبش العراق (22) من صحابة أمير المؤمنين ومن أثبتهم ولد في سنة (25 ق. ه) في اليمن

أدرك رسول الله. وهو من ثقاة التابعين. وكان رئیس قومه.

وكان الإمام عليّ (عليه السلام) يثق به ويعتمد عليه، وطالما كان يُثني على وعيه وخبرته وبطولته وبصيرته وعظمته، ويفتخر بذلك.

أوّل حرب حضرها كانت في فتح دمشق فضلاً عن حرب اليرموك (23)، وقد أُصيبت عينه فيها فعرف لذلك بالأشتر (24)

عاش مالك في الكوفة. وكان فارساً شجاعاً طويل القامة، عريض الصدر، عدیم النظير في الفروسيّة. وكان لمزاياه الأخلاقية ومروءته ومُنعته وهيبته وأُبّهته وحياته، أثر كبير في نفوس الكوفيّين (25).

نُفي مع عدد من أصحابه إلى حمص في أيّام عثمان بسبب اصطدامه بسعید بن العاص والي عثمان على الكوفة. ولمّا اشتدّت المعارضة لعثمان رجع إلى الكوفة، ومنع والي عثمان الّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك من دخولها. واشترك في ثورة المسلمين على عثمان، وتولّى قيادة الكوفيّين الّذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة، وكان له دور

ص: 147

حاسم في الانقضاض على حكومة عثمان (26).

وقد أسند إليه الإمام علي (عليه السلام) عدة سلطات وهي:

1. جباية الخراج

2. جهاد العدو

3. استصلاح الأهل

4. عمارة البلاد (27)

توفي سنة 39 ه وهو في طريقه إلى مصر لأداء مهامه التي كلفه بها الإمام علي (عليه السلام)، وقيل إنه مات مسموماً (38) فتأثر الإمام لوفاته كثيراً حتى ظن بعض النخعيين أن الإمام هو صاحب المصيبة.

ثانياً: نبذة مختصرة عن عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر / وهو ذلك العهد الذي عهده به الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة المسلمين الى عامله على مصر مالك بن الحارث الأشتر النخعي في سنة 39 ه ويتألف هذا العهد من أربعين فقرة منها: (السيرة الحسنة والعلاقة مع الرعية وعدم التكبر والانصاف، والعدل، والوشاة، والاستشارة فضلاً عن دور الوزراء وصفاتهم) (29) علاوة على ذلك فإن هذا العهد قد احتوى على عدة مواضيع نذكر منها: (صفات الوزراء المفضلين، ومحاسبة الوزراء فوائد إعطاء الحرية للمواطنين وحسن الظن بهم احترام العادات الاجتماعية وتحسينها المشاورون الكبار في القضايا الاستراتيجية، و تكوَّن كل مجتمع في العالم من فئات وطبقات، و سياسة الحاكم مع القوات المسلحة، وسياسة الحاكم مع قادة الجيش، و سیاسة الوزراء والولاة في القضايا المشتبهة، سياسة الحاكم مع القوة القضائية، و سياسة الحاكم مع ولاة المحافظات وكبار الموظفين، وجهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة، والسياسة المالية والضرائبية، وديوان الحاكم أو الجهاز الخاص به) (30)

ص: 148

المبحث الثالث أسلوب الأمر وصيغه ودلالاته في اللغة العربية

أولاً: الأنماط الحقيقية: وتأتي غالباً من خلال الصيغ الآتية

صيغة فعل الأمر كقوله تعالى: ((اذهب الى فرعون انه طغى)) (31) فأسلوب الأمر في هذه الآية يتمثل في فعل الأمر اذهب.

صيغة الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر كقوله تعالى: ((ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم)) (32). فصيغة الامر تمخضت في الفعلين المضارعين المجزومين ب (اللام) وهما: (يتفقهوا وينذروا).

صيغة اسم فعل الأمر كقول العزيز الحكيم:

((عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم)) (33). فاسم الفعل عليكم أدّى الدور الذي يقوم به فعل الأمر والتقدير التزموا أنفسكم.

صيغة المصدر النائب عن فعله، وهو كقوله تعالى:

((وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحسانا)) (34). فلفظة إحسانا نابت عن فعل الأمر المحذوف وعوض عنه بالمصدر النائب عن الفعل والتقدير (وبالوالدينِ أحسِن إحسانا) (35).

ثانياً: أغراض الأمر المجازية

قد تخرج صيغ الأمر من معانيها الحقيقية الموضوعة لها من قبل النحاة الى أغراض أخرى (36) أي إلى أغراض بلاغية وجمالية وهي:

الدعاء: وهو أسلوب طلبي من الأدنى شأناً إلى الأعلى مرتبة (37)، وقد أطلق احمد

ص: 149

بن فارس عليه ب (المسألة) (38) كقوله تعالى: ((ربِ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني)) (39).

الالتماس عندما يكون الطرفان بالدرجة نفسها كقول امرئ القيس:

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل (40)

التهديد: وتستعمل في مقام الرفض بالمأمور به کما في قوله تعالى: ((اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير)) (41)

التعجيز: وتستعمل الصيغة في مقام اظهار عجز من يرى أن في وسعه وطاقته أن يفعل أمراً وليس بوسعه أن يفعل (42) كقوله عز وجل: ((ان کنتم فی ریب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءکم من دون الله ان کنتم صادقين)) (43)

التسخير: ونقصد به جعل الشيء مسخراً منقاداً فالمأمور لاحول له ولا قوة في تغيير هذا الأمر كقوله تعالى: ((كونوا قردةً خاسئين)) (44)، فهو ليس طلباً وانما صيرورتهم قردة بإذن الله (45).

التحقير والاستهانة / كقوله تعالى: ((كونوا حجارة أو حديدا)) (46) فهو لا يطلب منهم أن يكونوا حجارة وانما من باب التحقير والاستهانة والاستصغار بهم ().

التسوية بين حالتين: ومثاله في قول العزيز الرحيم: ((فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم انما تجزون ماکنتم تعملون)) (47)

ص: 150

التمني ومثاله قول امرئ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ *** بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ (48)

فحصول انجلاء الليل هنا محال؛ لأن الليل ليس مما يخاطب ويؤمر وانما تمني الشاعر انجلاءه حتى يسفر الصباح بديلا عنه ().

الإرشاد: كقوله عز وجل: ((ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)) (49)، فالأمر هنا جاء لغرض النصح والموعظة والإرشاد (50).

ص: 151

المبحث الرابع أنماط الأمر ودلالاتها في عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله علیه)

وتتمثل في قوله (عليه السلام): ((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده. فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت.)) (51)

فمن خلال النص السابق يمكن ان نورد أنماط الأمر وصيغها ودلالاتها من خلال الجدول الآتي:

أسلوب الأمر - نوعه - صيغته - دلالته

اعلم - حقيقي - فعل الأمر - يدل على التوصية

فليكن - حقيقي - لام الأمر المقترنة بالفعل المضارع المجزوم بسببها - يدل على التوصية

املك - أمر مجازي - صيغة فعل الأمر - يدل على التوصية

شح - أمر مجازي - صيغة فعل الأمر -يدل على التوصية

فقد خرجت اثنتان من ألفاظ الأمر في هذا المقطع الى الغرض الحقيقي ولفظتان الى صيغه المجازية المتمثلة بالفعل شح من شحَ يشح شحاً والشح بالنفس يختلف دلاليا عن الشح بالأشياء لأن الأول يتطلب ضوابط أصعب من الثاني فهو يقتضي

ص: 152

عصمة النفس عن الطمع ولزمها طاعة العقل البشري فالأول يعني مسك النفس البشرية والثاني يعني البخل.

أما الفعل الثاني الذي خرج الى غرض مجازي هو (املك) الذي يعني تارةً تملك الأشياء الظاهرية الملموسة كالنقود والأشياء المادية وتارةً أخرى يستعمل بمعنی القدرة على ضبط النفس وردعها قيادةً للعقل وردعاً للشهوات الأمارة بالسوء وهو ما تم استعماله في سياق العهد فقد اختلف معنى الأمر من الملك الحقيقي الى لزم النفس بدلالة السياق الذي وقعت فيه هذه اللفظة.

ومن المواضع الأخرى قوله (عليه السلام): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط (52) منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. الأمر عليك وفوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك (53) أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله (54) فإنه لا يدلك بنقمته (55)، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته.)) (56).

فقد تضمن النص المتقدم صيغتي الأمر الحقيقي (اشعر، واعطهم) فالأول أسند الى ضمير مستتر وهو الفاعل يعود على مالك والآخر مفعوله الضمير المتصل المبني وهو يعود على الرعية وكلا الفعلين بصيغة فعل الأمر المبني على السكون.

ومنه قوله في العهد نفسه: ((وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبَهَةٌ (57) أو مَخِیلةٌ (58) فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من

ص: 153

نفسك، فإن ذلك يطامن (59) إليك من طماحك (60)، ويكف عنك من غَربِك (61)، ويفي إليك (62) بما عزب (63) عنك من عقلك إياك ومساماة (64) الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى (65) من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض (66) حجته وكان الله حرباً (67) حتى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.)) (68). فقد وردت في هذا النص أربع صيغ للأمر ثلاث منها بصيغة فعل الأمر وهي على التتالي: (انظر، أنصف لمرتين، صيغة التحذير إياك) ثلاث منها تمثل الأمر الحقيقي وواحدة الأمر المجازي والصيغة المجازية تكمن في قوله (أنصف الله): فالإنصاف لا يراد منه اعطاء الحق المادي كما هو في التركيب الذي سبقه إنما يحتمل وجهين: الأول هو طاعة الله تعالى والالتزام بكتابه.

والوجه الآخر: يحتمل انصاف فقراء الله من باب حذف المضاف واقامة المضاف إليه لوجود القرينة وهو مجاز عقلي فحذف الفقراء وأقام لفظ الجلالة لفعالية فعل الأمر (أنصف) الذي أدى هذا المعنى.

ومن صيغ الأمر التي وردت في هذا العهد قوله (عليه السلام): ((وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. وأطلق عن الناس عقدة كل حقد. واقطع عنك سبب كل وتر. وتغاب عن كل ما لا يصح لك، ولا تعجلن إلى تصدیق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبّه

ص: 154

بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله.)) (69).

فقد اشتمل النص أعلاه على ست صيغ من صيغ أسلوب الأمر أربع منها بأفعال الأمر وهي على التالي: (استر، اطلق، اقطع، تغابَ) وصيغة جاءت باسم فعل الأمر عليك والأخرى وردت بصيغة الفعل المضارع المقترن بلام الأمر (ولیکن) والأفعال الثلاثة الأولى جذورها ثلاثية وهي: (ستر، وطلق، وقطع) والفعل الرابع جذره خماسي وهو تغابی والأفعال الثلاثة تخص الناس الذين يحكمهم مالك الأشتر بینما الفعل الرابع يخص مالکا نفسه أي طريقة سلوکه لذا جاء بهذه الصيغة التي تشير الى التغافل والتغاضي عن تصرفات الآخرين وقد ورد هذا الفعل بمعنى المشاركة بين الحاكم والمحكوم.

ومن صيغ الأمر الأخرى قوله (عليه السلام): ((ثم لیکن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما یکون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهُم (70) على أن لا يطروك، ولا يَبجَحُوك (71) بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة، وتدني من الغِرَّة. ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه.)) (72)

فصيغ الأمر في النص المتقدم جاءت بوساطة ثلاثة أفعال: الصق والزم المبنيين للمعلوم و رُض المبني للمجهول المتصل بضمير جماعة الغائبين فضلا عن فعل المضارع المسبوق بلام الأمر (لیکن) ومعظم هذه الأفعال دلت على النصح والارشاد والوصية ونمطها أمر حقيقي

ص: 155

ومنه قوله (عليه السلام) أيضاً: ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين، وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: ((کَبُرَ مَقتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ)) (73). وإياك والعجلة بالأمور قبل أو انها، أو التسقط (74) فيها عند إمكانها، أو اللجاجة (75) فيها إذا تنكرت، أو الوهن (76) عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه. وإياك والإستئثار (77) بما الناس فيه أسوة (78)، والتغابي (79) عما یعنی به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم.)) (80)

النسبة الأكبر لصيغ الأمر الواردة في الفقرة أعلاه تمثلت في استعمال أسلوب التحذير بوساطة (إياك) التي تخللت النص في خمسة مواضع وغرضها حقيقي بحت يهدف إلى الوصية والنصح ثم صيغة فعل الأمر في موضعين هما ضع وأوقع وصيغة الفعل المضارع الذي سبق بفعل الأمر (لیمحق) وغرض هذا الفعل الأمر الحقيقي الذي يؤدي غرض القضاء على شيء معين.

ص: 156

الخاتمة

في نهاية هذه الرحلة المثمرة مع عهد الامام علي (عليه السلام) وأسلوب الأمر وأنماطه الفنية فقد توصل البحث الى مجموعة من النتائج تتمخض في النقاط الآتية:

1. استعمل الإمام علي (عليه السلام) أسلوب الأمر بنوعيه: الحقيقي والمجازي.

2. ان النسبة الأكبر من أنماط الأمر المستعملة في هذا العهد كانت أناط حقيقية.

3. النسبة الأقل من الأنماط الفنية المستعملة هي أنماط مجازية.

4. استعمل الامام علي (عليه السلام) الأمر الحقيقي والمجازي لأغراض رئيسة هي النصح والارشاد والموعظة والوصية.

5. استعمل الامام علي (عليه السلام) في ثلاث صيغ هي: ((صيغة فعل الأمر، وصيغة أسماء الأفعال، وصيغة الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر).

6. غابت صيغة فعل الأمر النائب عن فعله في هذا العهد ويرى الباحث: أن السبب في غياب هذه الصيغة هو الحاجة الى التصريح أكثر من التلميح للضرورة القصوى والظروف التي كانت تحيط بالدولة.

7. توزعت صيغ الأمر على الألفاظ الآتية:

- صيغة فعل الأمر وترددت في سبعة عشر موضعاً.

- اسم فعل الأمر (عليك) وتكررت في تسعة مواضع.

- لفظة اياك وترددت لثاني مرات.

- الفعل المضارع المسبوق بالفاء ولام الأمر (فليكن) وترددت لسبع مرات.

هوامش البحث

ص: 157

1. ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة (أمر).

2. (سورة الروم، الآية 6).

3. ينظر: جامع الدروس العربية، المؤلف: مصطفی بن محمد سلیم الغلاييني، منشورات: المكتبة المصرية صيدا لبنان، الطبعة: 28، 1993 م - 1414 ه، 1/ 278 - 279.

4. ينظر: المصدر نفسه، 1/ 278 - 279.

5. ينظر: جواهر البلاغة: 69.

6. ينظر: لسان العرب، (نمط) 7. العقد الفرید: 1/ 289.

8. ينظر: لسان العرب، (نمط).

9. ينظر: المصدر نفسه، (فنن).

10. (سورة الرحمن: الآية 48)

11. ينظر: لسان العرب، مادة (عهد).

12. ينظر: تاج العروس، الزبيدي: مادة (عهد).

13. (سورة يس، الآية 60).

14. (سورة البقرة، الآية 125).

15. (سورة التوبة، الآية 8).

16. ينظر: مختار الصحاح، أبو بكر الرازي، مادة (عهد)

17. لسان العرب، مادة (نمط).

18. تاج العروس، مادة (نمط).

19. ينظر: لسان العرب مادة (نمط).

20. (سورة الرحمن: الآية 48).

ص: 158

21. ينظر: شرح نهج البلاغة 6/ 315 وسفينة البحار: 4/ 379.

22. ينظر: الكنى والألقاب، 2/ 24.

23. ينظر: شرح نهج البلاغة، 15/ 99.

24. ينظر: تاريخ مدينة دمشق، ابن عساکر، 56/ 379.

25. ينظر: تاریخ الاسلام، الذهبي، 3/ 594.

26. ينظر: تاريخ الأمم والملوك، الطبري 4/ 332.

27. عهد الامام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر (وثيقة اسلامية ذات أبعاد قانونية سیاسية، اجتماعية، ادارية، اقتصادية، عسكرية)، 5.

28. ينظر: تاریخ الاسلام الذهبي، 3/ 448.

29. عهد الامام علي لمالك الأشتر: 10.

30. المصدر نفسه: 12.

31. (سورة النازعات: الآية 17).

32. (سورة التوبة، الآية 122).

33. (سورة المائدة، الآية 105).

34. (سورة الإسراء، الآية 17).

35. ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع): محمد بن عبد الرحمن بن عمر ( جلال الدين القزويني)، 123.

36. ينظر: أساليب الأمر والنهي في القرآن الكريم وأسرارهما البلاغية، الباحث: يوسف عبد الله الأنصاري، 111.

37. مفتاح العلوم: المؤلف، يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي، 237.

38. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكرياء، ت: 396 ه)، 138.

ص: 159

39. (سورة طه: الآيات، (24 - 26).

40. دیوان امرؤ القيس بن حجر الكندي، تحقيق: عبد الرحمن المصطاوي، 177.

41. (سورة فصلت: الآية 40).

42. ينظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، تأليف: السيد أحمد الهاشمي، 78.

43. (سورة آل عمران: الآية 193).

44. (سورة البقرة: الآية 65).

45. ينظر: أساليب الأمر والنهي في القران الكريم وأسرارهما البلاغية، 83.

46. (سورة الاسراء: الآية 50).

47. (سورة الطور: الآية 7).

48. دیوان امرؤ القيس بن حجر الكندي، 177.

49. (سورة النحل: الآية 125).

50. ينظر: جواهر البلاغة، 80.

51. عهد الإمام علي الى مالك الأشتر: 15

52. يفرط: يسبق، ينظر: لسان العرب، فرط.

53. استكفاك: أي طلب منك كفاية أمرك والقيام بتدبير مصالحهم، ينظر: لسان العرب، (کفی)

54. حرب الله: كناية عن صفة الظلم والجور ومخالفة شريعة الله عز وجل

55. لا يد لك: أي لاحول لك ولا قوة مقارنة بحول الله وقوته، (كناية عن صفة الضعف).

56. عهد الامام علي: (16 - 17).

57. الأبهة: العظمة والكبرياء، ينظر: المعجم الوسيط، (كبر)

ص: 160

58. المَخِيلة: الخيلاء والعجب.

59. يطامن: أي يخفض منه، ينظر : لسان العرب، (خفض).

60. طماح: على زنة فعال، وهي مصدر بمعنى النشوز والجماع، ينظر: المصدر نفسه، (نشز).

61. الغَرب: أي الحدة.

62. يفيء: أي يعود الى رشده ووردت في محكم التنزيل: ((حتى تفيء إلى أمر الله))، ينظر: لسان العرب (عود).

63. عزب: غلب، ينظر: لسان العرب، (غلب).

64. المساماة: التنافس في السمو وهي مصدر ميمي من الفعل الثلاثي سما، يسمو، سمواً، ومساماة، ينظر : المصدر نفسه (سما).

65. أي تميل اليه، ينظر: لسان العرب، (میل).

66. أدحض: أي أبطل، ينظر: لسان العرب، (دحض).

67. من باب ذكر المصدر وإرادة اسم الفاعل أي محاربا وهو مجاز عقلي.

68. عهد الإمام علي: (18 - 19).

69. عهد الإمام علي: 21.

70. أي عودهم على أن لا يبالغوا في مديحك، ينظر: لسان العرب، (رضا).

71. أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك لم تكن عملته، ينظر: لسان العرب، (بجح).

72. عهد الامام علي: 24.

73. سورة الصف: الآية 3.

74. التسقط: التهاون، ينظر: لسان العرب، (هين).

75. اللجاجة: الإصرار على النزاع، ينظر: لسان العرب (لحج).

76. الوهن: الضعف، ينظر: لسان العرب (ضعف).

ص: 161

77. الاستئثار: تحضيض النفس بالزيادة، ينظر: لسان العرب، (أثر).

78. أسوة: أي متساوون في الحقوق والواجبات، ينظر: المصدر نفسه، (سوي).

79. التغابي: التغافل، ينظر: لسان العرب، (غفل).

80. عهد الامام علي : (57 و 58 و 59 و 60)

ص: 162

المظان الأساسية للبحث (المصادر والمراجع)

1. أساليب الأمر والنهي في القرآن الكريم وأسرارهما البلاغية، رسالة ماجستير، الباحث: يوسف عبد الله الأنصاري، بإشراف: أ. د صباح عبيد دراز.

2. الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع): محمد بن عبد الرحمن بن عمر (جلال الدين القزويني)، تحقيق: ابراهيم شمس الدين، مطبعة دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1424 ه - - 2003 م.

3. تاج العروس من جواهر النفوس: محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني المعروف ب (أبي الفيض) الملقب ب (مرتضى) الزبيدي المتوفى سنة (1205 ه)، تحقيق: مجموعة من المحققين، منشورات: دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، ط 4، بيروت، 2010 م.

4. تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والأعلام، المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي (المتوفى: 748 ه(المحقق: الدكتور بشار عواد معروف، منشورات: دار الغرب الاسلامي، الطبعة الاولى، 2003 م، عدد الأجزاء 15.

5. تاريخ الأمم والملوك تاريخ الطبري المعروف ب (تاريخ الرسل والملوك)، المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الأملي (أبو جعفر الطبري)، الناشر: دار التراث بيروت، الطبعة الثانية، 1387 ه.

6. تاريخ مدينة دمشق تاريخ ابن عساكر: المؤلف / أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر المتوفى (571 ه)، المحقق: عمرو بن غرامه العمروري، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، تاريخ النشر: 1415 ه

ص: 163

- 1995 م.

7. جامع الدروس العربية، المؤلف: مصطفی بن محمد سليم الغلاييني، منشورات: المكتبة المصرية صيدا لبنان، الطبعة: 28، 1993 م - 1414 ه.

8. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، تأليف: السيد أحمد الهاشمي، علق عليه: محمد رضوان الدايه، منشورات: مكتبة الايمان مصر، ط 1، 1424 ه - 1999.

9. دیوان امرؤ القيس بن حجر الكندي، تحقيق: عبد الرحمن المصطاوي، منشورات: دار المعرفة بيروت، لبنان، ط 2، 1425 - 2004 م.

10. سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار: المؤلف / المحدث الشيخ عباس القمي (1294 - 1359 ه)، تحقيق: مجمع البحوث الاسلامية التابع للاستانة الرضوية المقدسة، منشورات: مؤسسة الطباعة والنشر في الاستانة الرضوية المقدسة، ط 1، 1416 ه.

11. شرح نهج البلاغة: تأليف / ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق: محمد ابراهیم، منشورات: دار الكتاب العربي، بیروت، ودار الأميرة، ط 1، 2007 م.

12. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکریاء، ت: 396 ه)، ط 2، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، 1428 م.

13. العقد الفريد: المؤلف / أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، تحقيق: مفید محمد قميحه، منشورات: دار الكتب العلمية، بيروت البنان، ط 1، 1404 ه - 1983 م، عدد المجلدات 9.

14. عهد الامام علي بن أبي طالب المالك الأشتر (وثيقة اسلامية ذات أبعاد قانونية،

ص: 164

سیاسية، اجتماعية، ادارية، اقتصادية، عسكرية)، منشورات: مؤسسة الرياضي للطباعة والنشر (د. ت).

15. الكنى والألقاب: العلامة المحدث الشهير الشيخ عباس القمي، منشورات: مطبعة بيدار، قم - إيران، ط 3، 1417 ه، ج 1 و 2 وج 3.

16. لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور، سنة النشر، 2003 م (د. ت)، منشورات: دار صادر، بیروت، عدد الأجزاء (15).

17.: مختار الصحاح: الشيخ الإمام زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي، تحقيق: يوسف الشيخ أحمد، منشورات: مكتبة لبنان للطباعة والتوزيع والنشر، ط 5، 1420 ه.

18. المعجم الوسيط: ابراهيم مصطفی و ابراهيم أنيس وآخرون، تحقیق / مجمع اللغة العربية في القاهرة (ج. م. ع)، عدد الأجزاء / 2.

19. مفتاح العلوم: المؤلف، يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي، تحقيق: نعیم زرزور، منشورات: دار العلم للملايين لابيروت، ط 2، 1407 ه- 1987 م.

ص: 165

ص: 166

الجمهور مركزا للخطاب قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام) المالك الأشتر (رضوان الله عليه) إعداد ا. م. د هادي شندوخ حميد

اشارة

ص: 167

ص: 168

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلى الله على محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين وبعد:

لا تبدو مركزية خطاب الجمهور في رؤية امير المؤمنين (عليه السلام) هاجسا من الترف او المساءلة السطحية للواقع الاجتماعي، بل ان نزوعا من الباعث الإنساني المسؤول المتلاحق أفكارا ورؤى هو منهج علي (عليه السلام) في خلق المتوقع والمحتمل لفعل المجتمع وسلوكه، بفهم يضاعف دلالة القيمة الإنسانية ويؤطر وجودها بتلك الدقائق من التفصيلات والاشارات المنفتحة على افق تتكامل فيها الرؤية للحاكم حين تكون له سلطة على الجمهور وحين تغدو إمكانية الاختلاف مشروعة في مساحة الحوار باطار يؤنسن لحقائق عدم التطابق في الرؤى بين الناس في الواقع المعاش أحيانا.

ومن ثم فان مركزية الجمهور في خطاب علي (عليه السلام) لا تنتج معنی احادیا ولا تفضي بالضرورة الى قراءة مطابقة متماثلة مع التصور الذهني الذي يبتغيه الناس في علاقتهم بالحاكم او فيما بينهم، بل ان تلك المركزية هي حيز كلامي يتعدد معناه وتتنوع مقاماته وتتفاضل دلالاته حين تكون الصلة بين الحاكم ورعيته سائرة في منطق من التطور والإنتاج المثمرين لتحولات سلوكية وثقافية في الواقع الاجتماعي.

وهو ما اراده الامام (علیه السلام) في ممارسته الإجرائية عند خطاب مالك الاشتر رضوان الله عليه، في قالب من الاهتمام يستبطن الحفر في بواعث تلك التأسيسات

ص: 169

الاجتماعية المصنفة في سلم من الطبقات لها وجودها وشانيتها حين تكون في ثنائية تبادلية مع الحاكم، وحين يكون الحاكم سلطة واعية لا تتوخى تجريد الجمهور من وجوده وماهيته وحقوقه، بل أداة لاستشعار تصورات وهواجس المجتمع وبتفصيل دقیق کاشف عن الفاعلية المؤثرة في كل طبقة من تلك الطبقات، بما لها من أثر وقرار لا يتباهى بمجرد المشورة، بل بما تمنحه من استراتيجيات يتكامل معها قرار الحاكم وسلطته.

من هذا المنظور حاول البحث مقاربة تلك المركزية في خطاب الجمهور من خلال عهد الإمام (عليه السلام) لمالك، لدواع واشتغالات لها هيمنة تفرض انتخاب تلك الثيمة من الموضوع، فالقراءة الفاحصة لخطاب الإمام (عليه السلام) في هذا العهد مقارنة بنصوصه الأخرى، تكشف عن منزع من التفرد والتمايز في الاشتغال على الجمهور في هذا العهد اكثر من غيره، فلم يحظ أي نص بمثل تلك الرؤية من الحفر والتفكيك لكل مكون او طبقة من طبقات المجتمع، حتى غدا القول ان ذلك العهد يمثل وثيقة دستورية لكيفية تأسيس علاقة الحاكم برعيته، أي أن الرعية او (الجمهور) هو مراد الخطاب في صناعة الامام (عليه السلام) بعيدا عن المحتوى الأيديولوجي او التمثلات العالقة بخصائص المجتمعات، فالهاجس هو ابتکارات تصورات بديلة لنمط قادر على مواكبة الاحداث والتطورات من الحاكم حين يكون منظوره فاعلا في تشخيص المجتمع ومعرفة اسرار التعاطي معه. وهذا ما توخاه البحث في تلك الإجرائية بمدخل ومبحثين، تلي ذلك هوامش البحث وخاتمته ومصادره.

ص: 170

مدخل أولي: أولا: سلطة الجمهور في خطابات الامام(علیه السلام):

ينطلق هذا البحث في مقاربة قرائية تتوخى تحليل نص تراثي مكتنز له من الحضور التاريخي والسياسي والاجتماعي بمكان قديما وحديثا، حتى تعددت مقولات التلقي والقراءة له على وفق قبليات المتلقي وميوله المعرفية. مما شكل بالنهاية منطقة خصبة للحفر في مكوناته واسسه وتشكلاته، تساعد القاريء على استنطاق محمولاته وادواته في دائرة النوع والموضوع والتمثل النصي.

فعلى مستوى نوع النص يمكن القول ان هذا الخطاب المصنف وفق رؤية الجامع لنص النهج (الشريف الرضي) ورؤية الشراح انه يندرج في سياق الرسائل كقسيم يشارك الخطب والحكم التي تتكون منها نصوص الامام (علیه السلام)، بلا خلاف في ذلك، اما نوعه فانه الأقرب الى حقل الخطاب السياسي بوصفه توجيهات توثق لعلاقة الحاكم بالرعية سلوكا وتداولا ورؤية وتخطيطا، بثنائية تفترض حوارا بين الحاكم والوالي لايصال رسالة الى مركز قصدية تلك الحوارية وهم الجمهور. سعيا في الترميم والتعاطي والاستجابة في تلك الارسالية التواصلية التي يسعى الامام (عليه السلام) بوصفه حاكما الى تشييدها في المخيال المتلقي المتحرك من خلال مخاطبة الوالي الرمز الذي به تقوم أسس دعامة الحكومات واستقرارها.

اما لماذا تلك المركزية للجمهور في خطاب الامام (عليه السلام)؟ فلان الأسس التي تتشكل منها مرجعيات الامام (عليه السلام) في نظرته لطبيعة العلاقة بين السلطة والناس تفترض انهم شركاء في الحكم وانهم المقومون لعمل الحاكم وانهم الوسيلة في فلسفة الحاكم وصولا الى مرادات المولى في حقيقة القيمومة على الناس وإدارة شؤونهم. ولعل تصريحاته الكثيرة (عليه السلام) تنبيء بتلك الفلسفة التي اعترض عليها الكثيرون ونشبت بسببها حروب اودت بعماد الدولة الإسلامية

ص: 171

وجعلتها منقسمة الى يومنا هذا جراء النظر الى أحادية السلطة وتغييب الجمهور عن دوره الحقيقي في تقييم الحاكم ومحاسبته والتصدي له.

فهو القائل (عليه السلام): ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِی کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِی سُلْطَانٍ وَ لاَ الْتِمَاسَ شَیْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَ لَکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِكَ وَ نُظْهِرَ الْإِصْلاَحَ فِی بِلاَدِكَ فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ)) (1) ويتكشف الحدث الخطابي لمركزية الجمهور عند الامام (عليه السلام) اكثر حين يقارن الامرة بالنعل حين تكون فاقدة لقيمتها الحقيقية حيث انصاف الناس واحقاق لعدالة: ((قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذِهِ النَّعْلِ فَقُلْتُ لا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ عليه السلام وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً)) (2)، وهذا التأكيد على تلك المركزية نابع من تطور في فكرة استقرار الدولة وضرورة ترصين الحقوق الاجتماعية وتفعيل مبادئ المساواة بين افراد الدولة، وهو ما يقوله محمد عباس العقاد: ((كانت الظاهرة الكبرى في عصر علي - عليه السلام - ظاهرة اجتماعية خاصة به دون عصور الخلفاء من قبله ولم تكن في حقيقتها ظاهرة سياسية أو حزبية او عسكرية على شدة القتال فيها وغزارة الدماء التي اريقت في حروبها)) (3)، لذلك تضمن الحدث الخطابي عند الامام (عليه السلام) في رؤيته بشكل عام او في عهده لمالك الاشتر الذي مثل صورة خالصة لمركزية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، في ثنائية تبرز منزلة الجمهور کوجود به وعليه تقوم فلسفة الحكم. تلك التجربة الاجتماعية التي تقنن لحالة مثلى من الاشتغال على استجابات الجمهور.

ويتمثل الامام (عليه السلام) صورة أخرى للواقع تنطلق من وعي الى فعل يروم اشعار المخاطب بمنهج العلاقة بين الحاكم والوالي إدراكا لما يمتلكه الجمهور

ص: 172

من صورة حقيقية لوجوده يقول: (عليه السلام): ((أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِی بِأَنْ یُقَالَ: أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ، وَلَا أُشَارِکُهُمْ فِی مَکَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَکُونَ أُسْوَهً لَهُمْ فِی جُشُوبَهِ الْعَیْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِیَشْغَلَنِی أَکْلُ الطَّیِّبَاتِ، کَالْبَهِیمَهِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَکْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا یُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًی، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِیقَ الْمَتَاهَةِ)) (4). وبذلك يمكن ان تتبلور مركزية الجمهور في خطابات الامام (عليه السلام) كمبدا اولي له بواعثه ورؤيته ووظائفه ليس بوصف الامام حاكما فحسب بل هو تعزيز لحقيقة ماثلة يرتكن اليها الخطاب السياسي تعتمد تلك الثنائية من المحاور (الجمهور) بوصفه المتعين في دائرة الخطاب.

ثانيا: سلطة الجمهوري الخطاب السياسي:

يقترح هذا المؤشر مقاربة محور الجمهور في الخطاب السياسي، بوصف الخطاب السياسي الهاجس الأكثر احتضانا لمنظومة الجمهور (احتجاجيا وادائيا سلوكا وتنظيرا واستجابة وغير ذلك)، من هنا فتواشج العلاقة يحتكم الى بؤرة مشتركة يندمج فيها الطرفان لإنتاج اوليات التشكيل والدلالة.

ولعل الخطاب السياسي مقترح اجرائي له محددات تقوم على سلسلة من المنطوقات المعجمية او المؤشرات التواصلية في سياق تداولي يتوخى حقولا مقيدة تتضح في خطاب السلطة اكثر من غيرها على وفق ممارسات ادائية ومهارات من القول تؤشر الى تلك الملامح من الخطاب، حيث يقوم بها صاحب الخطاب بما يمتلكه من سلطة على من دونه منزلة في أسس الحاكمية لا في الأسس الإنسانية تتوخى الجمهور امرا وتكليفا وامتثالا. وصاحب الخطاب هنا هو الامام علي (عليه السلام) حيث يرتكز في خطابه على منظومة عقدية تجعل له سيادة في إدارة أمور الناس باختلاف مرجعيات

ص: 173

تلك الحاكمية سواء اكانت بالنص كما يعتقد اغلب الشيعة او بالشورى كما تری المذاهب الأخرى، فانه في كلا الحالين لا ينطلق من فرضية بل من تكليف وأداء دور يقوم على فلسفة تأخذ الناس الى ما فيه رضا الله سبحانه من جانب وتحقيق مصالحهم من جانب اخر. فالسلطة التي يمتلكها الامام (عليه السلام) آلية يمارس فيها التوجيه كحقيقة واقعية يعيشها المسلمون في ظل البنية التكوينية التي نشات عليها الدولة، من هنا فبؤرة الخطاب السياسي هي لازمة لمكانة الامام في موقعيته من الدولة وبلا شك ان تلك اللازمة تستهدف جمهورا له احواله ومزاجاته وحقوقه وخصائصه التي تبدو متنافرة أحيانا ومتواشجة أحيانا أخرى.

فتلك الفئة المخاطبة اذن تسمى بالجمهور حيث تكون هي قبلة الخطاب في تلك الثنائية الحوارية، وان كانت تلك المركزية للجمهور لها مساحة من الغياب والحضور استنادا الى فلسفة الحاكم واجرائيته في النظر الى السلطة باعتبارها أداة بناء او قمع کما يدون التاريخ تلك المقاربات من الحكم في الموروث الإنساني.

فهناك جمهور مغيب لا يمتلك سلطة البيان او المعارضة، فيغيب الاحتجاج عند ذلك نتيجة لهيمنة قوة الخطاب المتمثل تقنيات سلوكية تعمد الى سياستي اللجم وتكميم الافواه على وفق أيديولوجيا يشرعها الحاكم لضمان الوجود، كان تكون تلك الادلجة دينية او قهرية او غير ذلك، وهناك جمهور يقف على سلسلة من الموجهات تتيح له المعارضة والمشاركة في التوجيه حين تكون هناك فلسفة تشر عن له ابداء الراي والحوار والمطالبة بالحقوق والانصاف انطلاقا من فهم واع يمهد لهم بذلك الظهور، وهذا كله يرتبط برؤية الحاكم الذي يفتح مساحة الحضور او التهميش.

ولعل قراءة عهد الامام (عليه السلام) لمالك الاشتر تشير الى انه يمثل نسقا من تلك التساندية في ابراز منزلة الجمهور على وفق انساق تحاول تمتين العلاقة بين طرفي

ص: 174

الحكم (الوالي والرعية) من جانب وتنشا تأسيسا لمعالم مركزية توطد حقوق الجمهور في تلك الحاكمية من جانب آخر. ففي حقوق الرعية على الوالي وحقوق الخاصة والعامة والضمان الاجتماعي واحترام الامة والعطف على الرعية والاثار السلبية لاحتجاب الحاكم عن جمهوره والعدالة في توزيع الحقوق، كلها قرائن تؤكد تلك المركزية في ميزان الخطاب السياسي للحاكم الناجح. وشواهد ذلك قوله (عليه السلام): ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ، أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ)) (5) وقوله (عليه السلام): ((وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ؛ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَکْرَهَ لِلاْنْصَافِ... مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلاْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاْمَّةِ. فَلْيَکُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)) (6) وقوله (عليه السلام): ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ، لَایَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَ لَاغِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْل، وَ مِنْهَا: عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ، وَ مِنْهَا: أَهْلُ الْجِزْیةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَ مِنْهَا: التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَ مِنْهَا: الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ. وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَهً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلَّى الله عليه وآله)) (7). وقوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ: مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَ (شدة الفقر) وَ الزَّمْنَ (أصحاب العاهات)؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً. وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ)) (8). ولعل تلك الرؤية التي ترجح كفة الجمهور هي ما تميل اليه الدراسات المختصة بالجمهور: يقول غوستاف لوبون: ((التقاليد السياسية والتوجهات الفردية للملوك والحكام والمناقشات الكائنة بينهم لا تؤثر على مسار الاحداث الا قليلا وقد أصبح صوت

ص: 175

الجماهير راجحا وغالبا فهو الذي يملي على الملوك تصرفاتهم)) (9)

المحور الأول: الأسس الأولية لملامح انتاج الخطاب

أولا: السياق التاريخي: لعل فهم الواقع التاريخي في لحظة انتاج النص كفيل بإيضاح مقامات التكوين والإخراج للبنى النصية، وعهد بمثل تلك السعة والاحاطة والتوجيه لابد ان تكتنفه ظروف مقامية دشنت تخطيطا استراتيجيا لبلورته عند الامام (عليه السلام) ومن ثم تلقينه لمحرك الحدث المخاطب في النص (مالك الاشتر) لتفعيل مبانيه المتعلقة بمركزية الجمهور حين تكون هناك سلطة حاكمة تريد احقاق الحق للطبقات المحكومة. فالمشهور ان هذا الكتاب كتبه الامام علي (عليه السلام) الى عامله على مصر (مالك الاشتر) حين ولاه اعمال مصر سنة 39 ه، وان كانت هناك شكوك أثيرت حول سنده وعدم مناسبة مضامينه لعصر الامام وهي إشكالات قد اجيب عنها من قبل الدارسين *.

ولعل هناك مسكوتا عنه في مقامات تصدير النص، منها مايتعلق ببوا بواعث تأكيد الامام على تلك الإصلاحات التي تقوم بها الدولة لمالك في امارته لمصر، أي هل ان هناك دلائل من القصدية توخاها الامام في كشفه للطبيعة النفسية للمجتمع المصري حين امر مالكا بالتعامل معهم وفق انساق خاصة لم تكشف قبل ذلك في رسائله لولاته؟ ثم هل ان العهد ارسل لمالك ام كتب له مباشرة؟ فضلا عن حال الامام في تدوينه لتلك الوثيقة وفي أي وقت وغير ذلك من المتلازمات الظرفية الراهنة لتدوين النص؟.

ص: 176

قد تكون هذه الأسئلة هي منطلقات لتوليد دلالات باعثة كاشفة عن المحددات الرئيسة للغايات والمقاصد المبتغاة في ذلك الخطاب، وان كانت النية التي يعلنها النص تحتضن تأويلية تاريخية، فان مقامات الجمهور في ذلك النموذج لا تعدو ان تكون مؤشرا يستوجب التدقيق والحفر في بواعثه، فالمتتالية التاريخية تقودنا الى طبيعة الاحداث آنذاك، حيث النزاعات الراهنة في اطراف الدولة الإسلامية بين معسكري معاوية واتباع الامام (عليه السلام)، ومصر في تلك الفترة تمثل حالة من الخطر الاستراتيجي في إرساء عوامل الاستقرار من عدمه، فضلا عن انها لها طبائعها ما تختلف فيه عن غيرها فقد حكمت بسياسات دونها التاريخ الإنساني من قبل فكانت محطة تستحق التامل والتعاطي بدقة مع أهلها يقول (عليه السلام): ((ثُمَّ اعْلَمْ یَا مَالِكُ أَنِّی قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَیْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْلٍ وَجَوْرٍ وَأَنَّ النَّاسَ یَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِی مِثْلِ مَا کُنْتَ تَنْظُرُ فِیهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَیَقُولُونَ فِیكَ مَا کُنْتَ تَقُولُ فِیهِمْ وَإِنَّمَا یُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِینَ بِمَا یُجْرِی اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ)) (10) فالملاحظ ان صيغة الامر المشفوعة بالتأكيد متتالية لغوية تستميل الاثارة في تحريك المخاطب الى طبيعة المجتمع المكلف بإدارة شؤونهم وقيادتهم. وكما قيل: ((الخطاب السياسي خطاب اجتماعي يرتبط بالمجتمع السياسي الذي يوجه إليه ويحمل قيمه)) (11) وهذا يضعنا امام خطاب سياسي له بواعثه الاجتماعية تمت فيه المواجهة بين الملفوظ والسياق الاجتماعي لترهين النص بجملة من المؤكدات تستظهر مركزية الجمهور النوع لا المخاطب فحسب في ذلك الزمن.

ثانیا: السياق النفسي: تتجلى علاقة المتكلم بالمخاطب في صورة من حركة إجرائية تعتمد ممارسة اجتماعية ودينية وثقافية لإنتاج الخطاب، تقتضي في غايتها النهائية تشكيل دلالة من القصد الكامن في النص المتداول، والفعل القرائي الذي نروم بناءه في تلك العلاقة الخطابية هو التجاور النفسي بين المتكلم (الامام علي (عليه السلام)

ص: 177

والمخاطب (مالك الاشتر) لما في ذلك من تفكيك لمحورية الباعث في ذلك الخطاب كنص أولا وكشخص محدد متلق لخطاب الامام (علیه السلام) ثانيا، لان الإجابة على ذلك تربط لنا بين النص وسياقه النفسي المتوفر على بلاغة في الخطاب استدعت هذا المتلقي دون غيره.

والحقيقة ان السرد التاريخي في هذا الصدد قد يخلق لنا مفتاحا من الفهم في تاشير تلك العلاقة السياقية النفسية بين الامام (عليه السلام) وبين مالك الاشتر التي انتجت لنا ذلك العهد الذي شرح مرارا وتكرارا (12)، فالمالوف ان ظاهرة الاصحاب في التاريخ الإسلامي دونت كظاهرة لها وجودها ومبرراتها في تكوين الفكر الإسلامي اذ وردت جملة من الإشارات على لسان النبي (ص) بخصوص أصحابه لدلالات مقصودة تتوخى مسلكا تاثيريا في وجدان الامة وكذلك امير المؤمنين (عليه السلام) فان هذا الفعل عنده يقوم على القصد والدلالة فاشاراته لمالك توزعت في اطار بياني يتوخى مكانة هذا الصحابي الجليل ايمانا وتقوى وصلابة وعقيدة، ففي بيان صحبته له وقربه منه يقول (عليه السلام): "كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله (ص)" (13)

ويقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كتاب له عندما ولّي محمد بن أبي بكر خلفاً للأشتر، موضحا سبب اختياره مالك الأشتر لولاية "إن الذي كنت وليته أمر مصر كان رجلاً لنا ناصحاً وعلى عدونا شديداً ناقماً، فرحمه الله، فلقد استكمل أيامه ولاقی حمامه، ونحن عنه راضون، أولاه الله رضوانه، وضاعف الثواب له" (14) ويقول (عليه السلام): "لله در مالك، لو كان من جبل لكان أعظم أركانه، ولو كان من حجر كان صلداً. أما والله ليهدن موتك عالماً، فعلى مثلك فلتبك البواكي" (15) ويقول عند فقده حين سم على ايدي جنود معاوية "إنا لله وإنّا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك، فان موته من مصائب الدهر، فرحم الله

ص: 178

مالكاً، فقد وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر بعد مصابنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانها من أعظم المصيبة" (16) وبذلك فان انتاج الصورة النهائية لتلك العلاقة السياقية تطرح واقعا حقيقيا يمثل يقينية ثابتة عن افق المخاطب في ذلك العهد (مالك الاشتر) بما له من مركزية في الايمان والعقيدة والقرب من بيت النبوة منهجا وسلوكا ونقمة على أعداء الحق والدين لامقايسة فيها مع الاخرين في ذلك التصور الذي كفه الامام بتلك الانساق الابلاغية عن مالك و حقيقته.

اما دلالات العهد ولماذا أو كلت تلك الوثيقة الدستورية لمالك دون غيره؟ فان ذلك لا يخلو من نسق نفسي حتما بين الامام (عليه السلام) ومالك الاشتر، يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في الاختصاص عن مالك الأشتر أنه نموذج واقعي للانسان المتكامل ومن خاصّة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)) (17) من دون ان تكون العلاقة حبيسة النسق النفسي، فاغلب المعطيات تؤكد ان الفاعل المعرفي في المنظور السياسي لدى مالك كان على دقة وتصور عاليين، تقول بعض المصادر: ((أن الأشتر كان من دُهاة وعقلاء العرب، وأبطال الدهر وشجعانه، وسيّد قومه وخطيبهم وفارسهم)) (18) فتوافر عوامل التكاملية في الذات فكرا ونزاهة عوامل تفضي الى ترابط في انتاج خطاب فاعل مؤثر في الواقع وان كان الامام (عليه السلام) هو الفاعل والصانع للخطاب الا ان مالكا هو المامور في تحقيق تلك التمثلات الخطابية التي تمثل مكانة الجمهور وقيمتهم الحقيقة، ومن ثم فان هذا التاسيس لتلك المدونة التاريخية (وثيقة العهد) تبدو انها حالة قصدية لصيرورة حدث يقوم على الانتقاء والتشكيل ذاتا وموضوعا.

ص: 179

المحور الثاني: تقنيات الاستعمال اللغوي في انتاج الخطاب

أولا: التقنيات الاسلوبية: ان عملية التواصل في النص المنطوق او المكتوب تتأسس بين المخاطبين، وفق نسق من الطابع التعاقدي في عملية الافهام و الحوار او الجدل، وفي منحى آخر تغدو العملية التواصلية سياقا للتأويل، حينما تكون هناك رمزية في النص فيغيب تحصيل الفهم وإنتاج الدلالة في مركزية الخطاب الحواري.

لذلك نرى ان الإبلاغ بوصفه تقنية لغوية يتوخى تنميطا من الممارسة الاقناعية لخلق المقبولية عند المتلقي بالاستمالة او الاستدلال تارة او الحفر في المهيمنات التي تشكل ذهنية متلقي الخطاب تارة اخرى، فيصبح التواصل آلية للتساند والتثاقف لا في افتراض المقاصد بل أداة لتعددية القراءة في تلك الممارسة القولية لإبراز أنماط الوعي المتحكمة والمستنطقة لطبيعة النص بما له من أدوات او مرجعيات تؤمن دور قضايا إزاحة المختلف في تلك التركيبة من الخطاب.

والتحليل الفاحص للنص يؤمن مساحة من التقنين اللغوي في تحريك الجمهور من خلال القنوات التي أراد الامام (عليه السلام) منها إيصال رسالته اليهم عن طريق الحامل والوسيط المتمثل بمالك الاشتر، فظاهرة تنوع مراتب الخطاب في سلسلة لغوية مختلفة تمثل دوالا كاشفة لمهيمنات تتوخى الاثارة والاقناع في عهد الامام (عليه السلام) لواليه.

من ذلك تنوع الخطاب في النظر الى تقسيم المجتمع الى طبقات يقول (عليه السلام): ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لَایَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ وَ لَاغِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْل وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ وَ کُلٌّ

ص: 180

قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَةً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلی الله علیه و آله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً)) (19) من ذلك قوله (عليه السلام): ((فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِیَّةِ وَزَیْنُ الْوُلَاةِ وَعِزُّ الدِّینِ وَسُبُلُ الْأَمْنِ وَلَیْسَ تَقُومُ الرَّعِیَّةُ إِلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا یُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِی یَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَیَعْتَمِدُونَ عَلَیْهِ فِیمَا یُصْلِحُهُمْ وَیَکُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَیْنِ الصِّنْفَیْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ لِمَا یُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَیَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَیُؤْتَمَنُونَ عَلَیْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا وَلَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِیعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِی الصِّنَاعَاتِ فِیمَا یَجْتَمِعُونَ عَلَیْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَیُقِیمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَیَکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَیْدِیهِمْ مَا لَا یَبْلُغُهُ رِفْقُ غَیْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَهُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ الَّذِینَ یَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ وَفِی اللَّهِ لِکُلٍّ سَعَةٌ وَلِکُلٍّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یُصْلِحُهُ)) (20) فالتدرج في التصنيف الطبقي بدءا بالجنود يعطي سمة دلالية يعتورها أسلوب التقديم والتاخير فالعرب لاتقدم الا بما كانت عنايته اهم واوفر يقول سيبويه: ((كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمُّ لهم وهم ببيانه أَعنَى؛ وإن كانا جميعاً یُهِمّانِهم ويَعنِيانهم)) (21) وهو بلاشك نمط يقوم على كشف التنميط الأعلى لتلك الطبقة الاجتماعية (فالجنود) صمام امان لحماية الدولة واستقرار مواطنيها لذلك يلحظ ذلك القصد من علة التقديم والتاكيد عليهم تفصيلا في مركزية مهمة من الخطاب. ثم يولي القادة العسكرية العليا مكانة خاصة منهم يقول (عليه السلام): ((ففَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِى الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ)) (22) بمحورية تقوم على التعدد

ص: 181

في سمات تلك الثلة من طبقات المجتمع بمتتالية تقوم على الانتخاب والتوظيف المعتمدين على (افعل التفضيل) تارة (انصحهم، وانقاهم، وافضلهم) والتكرار في العطف بالواو والتكثيف في اعتماد الفعل المضارع والتوكيد، وكلها مؤشرات لاتقوم الا على دلالة تستجمع الثبوت والاشتراك والاستمرارية في تمثل تلك الصفات من الحاكمين كمنطق من التوجيه.

واذا كان ((المتكلم هو الذّات المحورية في إنتاج الخطاب، لأنّه هو الذي يتلفظ به، من أجل التعبير عن مقاصد معيّنة وبغرض تحقيق هدف فيه")) (23) فان تاكيداته على تلك الطبقات الاجتماعية يأتي من فلسفة تقوم على يقين وتصور في أهميتها السياسية والاجتماعية.

من ذلك قوله عن طبقتي الخاصة والعامة ففي الطبقة السفلى، يقول (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ وَأَكْرَهَ لِلاْنْصَافِ وَأَسْأَلَ بِالاْلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاْعْطَاءِ وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلاْعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الاْمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)) (24) ويقول عن الطبقة السفلى (عليه السلام): ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ: مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَ (شدة الفقر) وَ الزَّمْنَ (أصحاب العاهات)؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً. وَاحْفَظ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ)) (25) اذ يظهر الترتيب كتقنية اسلوبية في منطق استحضار مركزية الجمهور في تلك الوثيقة الدستورية، فالخطاب: ((يعتمد نوعا من البناء المعتمد على الكلمات والتفكير ولايتم هذا البناء على محض الصدفة بل لابد من

ص: 182

احترام معايير المعار وقواعده)) (26) وترتيب البناء هنا يقوم على المقارنة بين اسلوبين في التعامل مع الجمهور لتكون النهاية ترجيح كفة العامة من الناس فبهم تكون القوة ودوام عوامل الاستمرارية، يقول عزيز السيد جاسم: ((فمن يربح الفئات العليا يخسر ماتحتها في السلم الاجتماعي في حين ان من يربح القاعدة الاجتماعية العريضة يربح اغلبية المجتمع وقد لايخسر كل الخاصة ثم ان العامة من الامة هم المصدر الدائم للواردات الاجتماعية المتجددة.. فيترتب على ذلك ان التعامل المبدئي مع عامة الامة يصبح حتما تعاملا تاريخيا بعيد المدى لانه ينطوي على عوامل الاستمرارية والثبات والقوة.. ويشخص ابلغ تشخيص خصائص الخاصة فافرادها اثقل على الوالي في الرخاء واقل معونة لهم في البلاء واكره للانصاف)) (27) ثم يأتي التوكيد بالتكرار مع الطبقة السفلى بلفظ الجلالة (الله الله) لاحداث مؤشر من التنبيه على أهمية تلك الطبقة التي لاحيلة لها الا عطف الحاكم وانصافه، لمزيد من العناية والترغيب في النظر والاهتمام بهم.

ثانيا: التقنيات الاقناعية: ولعل اكثر ما يحدد تلك التقنيات نوع الخطاب، والممارسة الواعية بمقاصد الرسالة المتوخاة من قبل المنشيء، وفي الخطاب السياسي، بلا شك ان الممارسة تقوم على حركة من الامتداد القصدي في تشكيل وعي المخاطب واستمالته او تضليله في أدوات أخرى بعض الأحيان، على وفق اهداف الباث ونظره الى السلطة كوسيلة او غاية في إدارة أمور الناس.

واستنادا الى سياسة امير المؤمنين (عليه السلام) في الحكم كما ترويه المدونة التاريخية، فان اول مايلحظ ان تقنيات الاقناع في مخاطبة الجمهور لاتتكلف الاجرائيات في التاثير والاستمالة بل، ان الطريقة هي تحريك منطقة الفطرة او اثارة الهاجس العقلي أحيانا، وهذا مايلحظ ويبرز بشكل جلي في عهده (عليه السلام) الى مالك، فالمتامل للنص يلتمس ان مركزية الجمهور عنده (عليه السلام) تقوم على ادراك واع بطبيعة

ص: 183

الجمهور واحتياجاته، لذا فالاساس عنده (عليه السلام) الاشتغال على حفريات البنى المكونة للنسيج الجمعي في رؤيته للحاكم والسلطة، فتاتي المخاطبة مقرونة بالتعاطي مع تلك السلوكيات والمكونات على ضوء منهج اختط وفق أسس متينة لها اثرها في احراز النتائج.

من ذلك ما يلحظ في الاستمالة العاطفية للجمهور حين يوصي مالكا بقوله: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَآلِی الْأَمْرِ عَلَیكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ)) (28)

فالسعي المتأصل عند الامام بتلك الموجهات المركزية، يقود الى أسئلة تتوالد من النص تتكور عن اسرار تلك التأكيدات بالإلحاح عن فلسفة الاهتمام بالجمهور، فالمطلوب من صانع الحدث ان يقوم بما يلي: (الرحمة والمحبة واللطف والرفق والعفو والصفح) وهي قيم تخلق انموذجا لسياسة مثالية في التعامل بين الحاكم والرعية، وتؤثث لأداء مؤهل لقيادة ناجحة، وربما هذا النحو من الاقتراح الخطابي يعبر عن حقيقة تفكير العامة ومنظارها الى الحاكم، لذلك جاء الفهم العميق بتلك المكنونات إجابة عن قلق حيرة الجمهور، وبالقدر الذي تتبين به تلك المركزية للجمهور فان التقنيات المستعملة في اثارة المخاطب (الجمهور) شکلت تو اصلا مشتركا في حصول مستوى معين من التفاهم بين الأطراف في تلك القيم المنصوص عليها، ولعل الذي يبرز منزلة الجمهور اكثر ان اطار الاشتغال على الوصايا المتعلقة بهم هي الأكبر والاوسع ورودا في تدوين النص، مع مزيد من التأثير في تركيب صورة بلاغية ذات

ص: 184

دلالة تؤمن مسارا من الاطمئنان عند الجمهور بان الحاكم ليس له الحق ان يكون كالسبع الذي يتجاوز على حقوقهم وامالهم.

ويقول (عليه السلام): ((وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيسَ شَيءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ لِلْمَئُونَاتِ عَنْهُمْ وَ تَرْك اسْتِكرَامِهِ إِياهُمْ عَلَى مَا لَيسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيكنْ مِنْك فِي ذَلِك أَمْرٌ يجْتَمِعُ لَك بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيتِك فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يقْطَعُ عَنْك نَصَباً طَوِيلًا وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّك بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤك عِنْدَهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّك بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤك عِنْدَهُ)) (29) وهنا يقترن مفهوم التعاطي مع الجمهور بادوات لابد ان تكون حاضرة في مشهد حركة الامرة والإدارة، فالفاعل القرائي الجوهري في تلك المعادلة هو حسن الظن بالرعية وهو الفهم الصحيح القابل للتصديق بوصفه التجربة الحقيقية لتطمين هاجس الرضا عند الجمهور. يقول ابن ابي الحديد: ((ان من احسن اليك حسن ظنه فيك، و من اساء اليك استوحش منك، وذلك لأنك اذا احسنت الى انسان، و تكرر منك ذلك الاحسان تبع اعتقادك انه احبك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو انك تحبه، لان الانسان مجبول على ان يحب من يحبه، و اذا احببته سكنت اليه، و حسن ظنك فيك، و بالعكس من ذلك اذا أسأت الى زيد، لأنك اذا أسأت اليه و تكررت الإساءة تبع ذلك اعتقادك انه قد ابغضك، ثم يتبع ذلك الاعتقاد امر آخر، و هو ان تبغضه انت، و اذا ابغضته انقبضت منه و استوحشت، وساء ظنك به)) (30) وفي ذلك كثافة لإنتاج تلك المشهدية بوساطة سلسلة من السلوكيات تمثل شبكة من المعاني الإنسانية المفتوحة في الواقع الاجتماعي حين تكون سياسة ينطلق بها الحاكم ويجعلها ثقافة تتحرك في الناس من خلال تعاطيه بها مع الناس، يقول احد الباحثين: ((يرى الاجتماعيون ان ذوي القلوب الرقيقة والعواطف الشريفة السامية يحاولون ان يخففوا الويلات والالام والبؤس عن الطبقات التعسة الشقية بالإحسان)) (31) والأولى من هؤلاء في نظر الامام (عليه

ص: 185

السلام) هم الحكام في تعاملهم مع الجمهور بتلك الطريقة والأسلوب.

وفي نص آخر يقول (عليه السلام): ((وَأَمَّا بَعْدُ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِیَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ الاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ یَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ وَ یَعْظُمُ الصَّغِیرُ وَ یَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ یَحْسُنُ الْقَبِیحُ وَ یُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَ إِنَّمَا الْوَالِی بَشَرٌ لاَ یَعْرِفُ مَا تَوَارَی عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ وَ لَیْسَتْ عَلَی الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْکَذِبِ وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَیْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِی الْحَقِّ فَفِیمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِیهِ أَوْ فِعْلٍ کَرِیمٍ تُسْدِیهِ أَوْ مُبْتَلًی بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ کَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَیِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَکْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَیْكَ مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِیهِ عَلَیْكَ مِنْ شَکَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِی مُعَامَلَةٍ)) (32) وهنا الامام (عليه السلام) في اطار تمكين حيز التواصل يستثمر الطاقة التي يتمتع بها الحاكم من سلطة ومال واعوان قد تكون أدوات تمويه و خداع وايقاع في فخ الترف واللهو والاحتجاب عن الناس، لان تنصرف كل تلك الوسائل في طريق تضعيف العلاقة بالجماهير وفق تفاعلية وحوارية وديمومة لما في ذلك من اثار تقود الى زعزعة الدولة وانهيارها ومن ثم سخط الجمهور وانقلابه على فلسفة الدولة وحكمها.

وهنا تم الاشتغال في تلك الاستمالة على المنزع النفسي عند الجمهور، كون (الجمهور) يؤمن بقبول فكرة عدم احتجاب الوالي عنهم والنظر في مصالحهم واحتياجاتهم، لذلك جاء الميثاق باستظهار سمات الاحتياجات المنبثقة من واقعهم ومن سجاياهم النفسية، وبطريقة تقوم على الاثارة من خلال تقنيات الاجمال والتفصيل فالاحتجاب مثل مفهوما مجملا ليأتي بعد ذلك تفصيل اثار ذلك المجمل ونتائجه الوخيمة على الواقع لأنه یَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ

ص: 186

وَیَعْظُمُ الصَّغِیرُ وَیَقْبُحُ الْحَسَنَ وَیَحْسُنُ الْقَبِیحُ وَیُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. ويتوافر خطاب الامام (عليه السلام) في عهده على تقنية أخرى تقوم على الاستمالة بالتقريظ، بوصفه أسلوبا يستعمل عادة من اجل الشروع في التأثير على المخاطب من خلال الاشتغال على ما يحركه وجدانا وصولا الى ما يمكن التوغل به الى قناعات المخاطب ومن ثم تحريكها وفق مسار المبتغى والمقصد.

ولعل تقريظ بعض الطبقات من الجمهور في خطاب الامام لم يكن عملا اعتباطيا بل هو ايحاء لضمان تأييد تلك الفئات وما تشكله من اثر في استقرار الممارسة السياسية للدولة، او ما تمنحه من توافق لموجهات الحاكم في تعاطيه السياسي مع الناس، يقول احد الباحثين: ((تقريظ الجمهور الحقيقي او المستهدف احد الاستمالات الأكثر شيوعا في الخطاب السياسي بوجه عام)) (33)، يقول(عليه السلام): ((وَلَا یَکُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِی ذَلِكَ تَزْهِیداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِی الْإِحْسَانِ وَتَدْرِیباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَهِ عَلَی الْإِسَاءَهِ وَأَلْزِمْ کُلّاً مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ)) () فمن الجمهور يكون المحسن والمسيء ولكل منهم قوة وتمثل في تشكيل مساحته، داخل المجتمع لذلك اوجد الامام (عليه السلام) فلسفة للتعاطي مع ذلك النسيج لا تمثل رؤية للحاكم فحسب بل هو تمييز لتلك الطبقة من فئات المجتمع على وفق معطيات الاحسان والإساءة وصولا الى الاقتراب الحقيقي من إيجاد الجمهور الأمثل الصانع لمبادئ الوعي والايمان. من خلال الاشتغال على اهل الاحسان وبيان قيمتهم الحقيقية في المجتمع، وفي ذلك أيضا تحييد لأهل الإساءة في مشاركتهم لأهل الاحسان في الحقوق والامتيازات والقيم. لاسيما ان المعطيات الثقافية في عصر الامام (علیه السلام) مثلت تداخلا في تلك القيم فمنهم المؤيد ومنهم المحايد ومنهم الرافض واغلبهم يبحث عن مساحة حضور في الدولة الجديدة ولو كان مسيئا بعيدا عن تعاليم وسياسة علي (عليه السلام) في الحكم.

ص: 187

ويؤكد الامام (عليه السلام) في نص آخر على طبقة اخرى: ((ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ)) (34) ففي المقام الأول تبدو العناية منصبة على تحفيز الاهتمام بتلك الطبقات وفق أولويات في الذكر، لما لهم من آثار في تشكيل الحقيقة النوعية للمجتمع كرما وقيما وعرفا (ذوو المروءات والاحساب واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم اهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة) اذ ان كل طبقة منهم تشغل حيزا من المنظور الانجازي في توطيد التماسك الاجتماعي وتعميق استقرار هيكلية الدولة، لذلك توخاهم الامام (عليه السلام) واكد على الالتصاق بهم لانهم مناط الارتقاء ونواته اجتماعيا.

و في سياق المدح والتقريظ لطبقة الجنود يقول (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِى مَعُونَتِهِ، وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِى جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْك.)) (35) مبديا (عليه السلام) اهتماما واسعا وعميقا ليس بالجنود بشكل عام بل هناك خصوصية لمن امتلك ايثارا في المواساة والنبل، لانجاز وظائف عملية تتمثل بتحقيق غاية الانسجام بين معسكر الجيش دفعا للخلاف والتفرقة اللذين يوديان بالهزيمة والانكسار المعنويين ومن ثم ضياع الرسالة والمبدأ.

وفي سياق تأسيس وظيفة تراتبية تتشكل منها سلطة الدولة من خلال إقرار الاصلح في الحاكمية والقيادة، يقوم الامام (عليه السلام) بالدفع الى تقنين معيار

ص: 188

يكون مقياسا يتجاوز مساحة الزمن التاريخية، ليكون أداة تنفيذ واحتكام يرجع اليها عند القيام بتولية من هو اهل للقيادة والممارسة في عملية إدارة شؤون الناس وتلبية احتياجاتهم وهواجسهم.

يقول (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ، مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ، وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلَّةِ، وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ، وَلَا یَکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ))(36) فيبيح الامام (عليه السلام) احقية التولية لأفضل الرعية على وفق تأسيسات تتمخض عنها عوامل الاختيار، بعيدا عم الممارسة التي تقوم على الاهواء والانتخاب للأقربين بلا احراز لتلك الأفضلية من المواصفات. وبذلك فان اغلب تلك الإشارات من الاهتمام بطبقات المجتمع المنصوص عليها في خطابه (عليه السلام) تستلهم منظومة تقوم عليها فكرة الدولة، وهي القيام على تساند من العلاقة التبادلية بينها وبين الجمهور دون تغييب او تهميش او تشكيل لأحادية في الراي على حساب تلك الفئة الواسعة من الناس. فالانفتاح بالاختيار والتواصل والتقييم كلها تقنيات لا تنحصر في انها كيانات نصية بل هي خطاطة عمل تشتغل على بث تلك الاواصر في النسيج الاجتماعي لان مستودع حركة الدولة وقيمومتها يقوم على مركزية الجمهور في أي تصور يريد الديمومة والتفاعلية والاستقرار.

ويشكل إعادة بناء الخطاب في صيرورة تقوم على التناص الديني وهو: ((تداخل نصوص دينية مختارة - عن طريق الاقتباس أو التضمين من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الخطب أو الأخبار الدينية)) (37) لتفعيل الحضور والتأكيد على كيان الجمهور في ذلك الإنتاج، فالتضعيف بالإحالة الى تلك التمثلات له دور في إضفاء تكثيف المعنى الدلالي المراد في اخراج النص وانتاجه على وفق قصدية متينة، لان

ص: 189

تعدد الأصوات للفاعل النصي سواء من القران او من الحديث النبوي يقود الى حالة من التعضيد الدلالي في امر الموضوع المتحدث عنه، من ذلك يقول(عليه السلام): ((وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاْحْسَانَ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ، وَالخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَاللهِ وَالنَّاسِ، قَالَ اللهُ تعالی: [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ].)) (38) فالعلاقة هنا تكشف عن استراتيجية تتبلور في إضفاء نوع من السلوك على الحاكم ان يتعاطى به مع الجمهور لانه المن على الرعية والمبالغة في الفخر واخلاف الوعد هو من المقت السيء الذي أكدته السماء في الكتاب المجيد، وتلك تقنية توفر إجرائية اقناعية تحقق مستويين من الابلاغية الأول تعزيز آصرة المكاشفة في التعاطي مع الجمهور بلا من او تزيد او كذب والثاني، استثمار التبليغ السماوي في تأكيد تلك الموجهات السلوكية التي تعزز قيمة الجمهور في منظار الحاكم.

وهو استدعاء لا يخلو من مرجعيات تقوم على استحضار النص القرآني كعرف درج عليه المخيال العربي، ايمانا بقداسته وتأثيره وإقناعيه الكبرى لمتلقيه يقول ابن وهب: ((وكل خطبة لم توشح بالقران او الامثال توصف بالشوهاء)) (39)

ويقول (عليه السلام) في نص آخر مستثمرا الحديث النبوي الشريف: ((وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ، وَتُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّی یُکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّی سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ علیه السلام یَقُولُ فِی غَیْرِ مَوْطِنٍ "لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّهٌ لَا یُؤْخَذُ لِلضَّعِیفِ فِیهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِیِّ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ)) (40) فالتناص مع مضمون الحديث النبوي يوحد فكرة تتظافر فيها الدلالات لإنتاج معنى التركيز والاهتمام بالضعفاء من الامة، فالضعفاء ان تعالى عليهم الحاكم فذلك

ص: 190

فيه تعرية لما أراده الله من حقوق لهم تقوم على الإنسانية والرأفة بعباده، وهنا ينتقل الامام (عليه السلام) الى توزيع تلك الثقافة في رؤية الحكام بوصفها منهجا نبويا يعبر عن الانفتاح والتسامي في تحقيق اقتراب حميم من تلك الطبقة من الجمهور بسياسة تقوم على التواضع والتقرب بهم الى الله سبحانه.

ص: 191

هوامش البحث

1. نهج البلاغة: 231

2. م. ن: 551

3. عبقرية علي: 53

4. نهج البلاغة: 562

5. م. ن: 474

6. م. ن: 475

7. م. ن: 478

8. م. ن: 486

9. سيكولوجية الجماهير: 91

10. نهج البلاغة: 473

11. الخطاب الإعلامي: محمود عكاشة: 62

12. الراعي والرعية:

13. شرح نهج البلاغة: 8/ 32

14. نهج البلاغة: 231

15. م. ن: 477

16. بحار الانوار: 8/ 67

17. الاختصاص: 56

18. مجالس المؤمنين: 1/ 289.

19. نهج البلاغة: 478

ص: 192

20. م. ن:978/ 479

21. الكتاب: 1/ 36

22. نهج البلاغة: 88

23. استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية: ص 45.

24. نهج البلاغة: 475

25. م. ن: 486

26. الحجاج في الخطابة النبوية: 27

27. علي سلطة الحق: 452

28. نهج البلاغة: 474

29. م. ن: 477

30. شرح نهج البلاغة: 8/ 221

31. الراعي والرعية: 243

32. نهج البلاغة: 488

33. اطار مقترح لتحليل خطاب تراثي: 14

34. نهج البلاغة: 477

35. م. ن 480

36. م. ن: 481

37. التناص نظرياً وتطبيقياً: 46

38. نهج البلاغة: 491

39. البرهان في وجوه البيان: 153

40. نهج البلاغة: 487

ص: 193

الخاتمة

1. مثل الخطاب حركة من التواصلية بين طرفي الخطاب (الامام (عليه السلام) ومالك الاشتر) لانتاج انساق من الموجهات تحتضن الجمهور وتمنحه المركزية في رؤية الحاكم.

2. انفتاح الخطاب على الجمهور في عهد الامام لصانع الحدث (مالك الاشتر) لم يكن ترفا فکريا بل لقواعد حاكمة في التفكير السياسي والعقدي والاجتماعي في منظومة علي (عليه السلام).

3. تعدد الاستهداف والقصد في خطاب طبقات الجمهور على وفق سمات ومحددات من المؤشرات الموضوعية واللغوية يمثل نتاجا واحاطة بسياق اجتماعي له مؤثراته في تكوين رؤية الدولة واستقرارها.

4. بين البحث حمولة من المتواليات الدلالية لم تقف عند ضبط المفاهيم في الطبقات الاجتماعية، بل ان التساند والتقابل في التفصيل والترتيب والتقديم انساق اثبتت قدرتها على اشباع المعنى وتحريك المخاطب صوب نافذة المقصودين بالخطاب من تلك الطبقات.

5. ایراد مركزية الجمهور في تلك المثاقفة الخطابية دليل على تناسق وانسجام بين موضوع الخطاب السياسي واستجابات الجمهور، فالانتاج المباشر في معاينة خطاب الجمهور ضمن نطاق الفعل السياسي كفيل بخلق لغة إجرائية مؤثرة في المتلقي.

6. تلاقي ملامح الأسس الأولية في تشكيل خطاب الامام وفق سياقات خلقت التفاتات مثيرة في تقنين تلك الموجهات الخطابية من خلال السياق النفسي

ص: 194

والتاريخي اللذين اثبت من خلالهما بواعث تلك السردية والحميمية في ذلك الاجراء القائم على السعة والاحاطة والقرب من المخاطب.

7. استحضرت المقاربة الخطابية في تحديد مركزية الجمهور تقنيات اسلوبية واقناعية حققت نمطا من الفاعلية والتاثير في الاجراء والممارسة من خلال اليات (العطف والترتيب والتفضيل و التقديم والتاخير والعلاقات النصية بالتفصيل والاجمال والتقريظ والتناص).

ص: 195

المصادر

1. الاختصاص: الشيخ المفيد، دار العلم للملايين، د. ت.

2. استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، عبدالهادي ظافر الشهري، ط 1، دار الكتاب الجديدة، بیروت 2004،

3. اطار مقترح لتحليل خطاب تراثي، عماد عبد اللطيف، منشورات مخبر تحليل الخطاب، العدد 14، 2013

4. بحار الانوار: العلامة المجلسي، دار الكتب العلمية بيروت. د. ت

5. البرهان في وجوه البيان، ابن وهب، تحقیق حفني محمد شرف، مطبعة الرسالة، مصر.

6. التناص نظرياً وتطبيقياً، أحمد الزعبي، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع / عمّان، الطبعة الثانية 1998.

7. الحجاج في الخطابة النبوية، عبد الجليل العشراوي، عالم الكتب الحديث، اربد الأردن، ط 1 2012.

8. الراعي والرعية، توفيق الفکیکي، دار الغدیر، ط 14291

9. سيكولوجية الجماهير، غوستاف لوبون، ترجمة هشام صالح، دار الساقي، بیروت، 1991.

10. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، تحقيق محمد ابي الفضل إبراهيم، بيروت. 1979.

11. عبقرية الامام علي، عباس محمود العقاد، دار التربية للطباعة والنشر، 2001

12. علي سلطة الحق، عزيز السيد جاسم، منشورات الاجتهاد، ط 1 2000.

13. الكتاب، لابي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تح عبد السلام محمد هارون، مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، القاهرة، الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 3، 1488 - 1988 م.

14. نهج البلاغة، محمد عبدة، منشورات ذوي القربی، ط 1 1427.

ص: 196

السَبك النصّي في العهد العلويّ الإحالة أنموذجاً م. د. ظافرعبيس الجياشي جامعة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)

اشارة

ص: 197

ص: 198

مقدمة

الإحالةُ من الوسائل المهمةً في السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداة ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه، فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة، وقد رأى اللسانيون ضرورة دراستها في إطار لسانیّات النصّ؛ لأنها من أهمّ وسائل السبك، ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة، وهي من أكثر وسائل السبك انتشاراً في نصوص العهد العلوي المبارك، إذ لا تكاد تخلو فقرة أو جملةً من ضميرٍ، أو عنصر إشاري، أو موصول، يربطُها بمواطنَ أخرى في النص، لذلك فهي من أهمِّ عوامل سبك النصوص التي تقفُ وراءَ خلقِ نصِّيَّتها.

وبناء على ما ذكر وقع اختيار الباحث على هذا الموضوع، بما ظهر له من ملامح جلية في العهد المبارك وقف عندها وحللها. واقتضت طبيعة البحث أن يقسم على مقدمة، وثلاثة مباحث، جاء الأول بعنوان: معنى النص، والثاني: معنى السبك، والثالث: معنى الاحالة، وتناول اقسامها، وعناصرها المتمثلة ب (الضمائر، وأسماء الاشارة، والاسماء الموصولة)، بعدها سجل الباحث خلاصة لأهم نتائج البحث.

ص: 199

المبحث الأول: معنى النص

إنّ النظر إلى النصّ هو افراز حتميّ لمجموعة من التحوّلات المعرفيّة، والمنهجيّة التي حدثت في نظريّة اللغة، وأصولها، ومستوياتها، ووظائفها، والفلسفة العلميّة الكامنة وراءها (1)؛ إذ تطوَّرَ النسق المعرفيّ اللغويّ عبر الزمن حتى وصل إلى لسانيّات النصّ (2)، فبعد أن وقَفَت جُلّ البحوث اللسانيّة عند حدود الجملة، ونَظَرَت إليها على أنّها الوحدة الكبرى للتحليل، تطوّرَ البحث اللسانيّ، وأثبتَ محدوديّة هذا النوع من الدراسات، وقصوره في تحليل اللغة (3)، إذ لحظ الباحثون أنّ البشر عندما يتواصلون لغويّاً لا يمارسون ذلك في جُمل منعزلة (4) بل ((في تتابعات مجاوزة للجملة مترابطة متماسكة)) (5)، فأدركوا أنّ وصف الكلام بالوقوف عند الجملة الواحدة وصفٌ غيرُ كافٍ، ولا بدّ من الانتقال إلى وحدة أخرى؛ هي النصّ (6)، فأشار عدد من العلماء إلى ضرورة تجاوز حدود الجملة الواحدة في الدراسات اللغوية، وتعدُّ هذه الإشارات البذرة الأولى في ظهور هذا الاتجاه في الدرس اللغويّ المعاصر، فقد كان ظهوره في اللسانيات الغربية بعد إرهاصات قدَّمها (هيالمسلاف)، و (هاريس)، إذ عدَّ الأولُ النصَّ قسماً أكبر قابلاً للتحليل، وتجاوز الثاني الجملةَ واعتنى بتحليل الخطاب (7)، ثُمَّ توالت بعدها الدراسات والبحوث والمقالات التي خَصَّت هذا العلم - النص - بالدراسة، فتعدَّدت تعريفاتُّه، وتشعَّبت مفاهيمُه.

والفرق بين نظامي الجملة، والنصّ، هو أنّ: ((نظام الجملة يوضّح كيفيّة ارتباط المفردات الواحدة بالأخرى في أبنية معيّنة، أمّا لسانيّات النصّ؛ فتبحث فيما فوق الجملة... ويتجاوزها الى أفكار كليّة)) (8).

ص: 200

وتعددت تعريفات النص باختلاف المرجعيات والمنطلقات المعرفية والغايات والإجراءات لأصحابها، فمنها ما كان بنيوياً، ومنها ما كان سيميائياً، وبعضها ما كان اجتماعياً، وبعضها الآخر ما صدر عن لسانیات النصّ وتحليل الخطاب ويلحظ ذلك عند النصِّيِّينَ أنفُسِهم (9)، وهو ما دعا بعض علماء النصّ إلى تصنيف تعریفات النصيين على ثلاثة أصناف (10): صنفٍ اعتمدَ تكوّنَ النص من بني سطحية، وثانٍ يرى أنَّ مجالَ النص هو الدلالة والمضمون، وثالث دمج بين الصياغة والدلالة وعدَّها وسيلةً تتحقق بها استقلالية النص.

فذهب (برينك) إلى أنَّ النصَّ ((تتابع مترابط من الجمل، ويستنتج من ذلك أن الجملة بوصفها جزءاً صغيراً ترمز إلى النص، ويمكن تحديد هذا الجزء بوضع نقطة أو علامة استفهام أو علامة تعجب، ثم يمكن بعد ذلك وصفها على أنَّها وحدة مستقلة نسبياً)) (11)، وهو تعريف يوضح النص بالجملة، فهو تتابع من الجمل، والجملة جزء منه وثمة علاقة بينها وبين الأجزاء الأخرى المكوِّنة للنص (12).

وحَدَّهُ (فاینرش) بأنَّه ((كلٌّ تترابط أجزاؤه من جهتي التحديد والاستلزام، إذ يؤدي الفصل بين الأجزاء إلى عدم وضوح النص، کما یؤدي عزل أو إسقاط عنصر من عناصره إلى عدم تحقق الفَهم، ويفسر هذا بوضوح من خلال مصطلحي (الوحدة الكلية) و (التماسك الدلالي) للنص)) (13).

وقد أشار هاليداي، ورقية حسن إلى أنَّ ((كلمة نص Text تستخدم في علم اللغويات لتشير إلى أي فقرة مكتوبة، أو منطوقة مهما كان طولها، شريطة أن تكون وحدة متكاملة، ويظهر واضحاً هذا التركيز على أن النص يتضمن المكتوب والمنطوق على أن يكون وحدة متكاملة دون تحديد حجمه طولاً أو قصراً)) (14).

وقد وضع د. عثمان أحمد أبو زنید بعد أن ذكر تعريفات النص في ضوء الاتجاهات

ص: 201

والمدارس المختلفة تعريفاً للنص، هو أنَّه: ((نظامٌ کُلِّي ينطوي على أبعاد دلالية و محمولات معرفية تشكل وحدة تواصلية في فضاء نصي مركب من مجموعة من العلاقات المتبادلة بين مجريات لغوية ومعطيات إنجازية خاضعة للدلالة العميقة المنتجة له، ولإطار التلقي المفترض في مرحلة الإنتاج)) (15).

إلا أنَّ أهمَّ هذه التعريفات هو تعريف (دي بوجراند) و (دریسلر) ويعني أنَّ النص: ((حدث تواصلي يلزم لكونه نصاً أن تتوافر له سبعة معايير للنصية مجتمعة، ويزول عنه هذا الوصف إذا تخلف واحد من هذه المعايير)) (16).

وهذه المعايير هي (17): السبك (Cohesion) أو الربط النحوي، والحبك (-Co herence) أو التماسك الدلالي، والقصد (Intentionality) أي هدف النص، والمقبولية (Acceptability) وتتعلق بموقف المتلقي من قبول النص، والإخبارية أو الإعلام (Informativity) أي توقع المعلومات الواردة فيه أو عدمه، والمقامية (Situationality) و تتعلق بمناسبة النص للموقف، والتناص (Intertextuality) ويختص بالتعبير عن تبعية النص لنصوص أخرى، أو تداخله معها. وقد صُنِّفت هذه المعايير على النحو الآتي (18):

1. ما يتّصل بالنصّ: (السبك، والالتحام (الحبك)).

2. ما يتّصل بمستعمل النصّ: منتجًا أو متلقيًا، (القصد، والقبول).

3. ما يتّصل بالسياق الماديّ، والثقافيّ المحيط بالنصّ: (الإعلام، والمقاميّة، والتناص).

ويؤكد الدكتور سعيد بحيري أنَّ (دی بو جراند ودریسلر) لا يعنيان ضرورة تحقق هذه المعايير كلِّها في نص ما كي يوصفَ بالنصية، وإنما تتحقق النصية بوجودها، وأحياناً تتكون نصوص بأقل قدر منها (19). ويُعدُّ هذا التعريف ثمرة جناها دي

ص: 202

بوجراند من التعريفات السابقة على تعريفه، وهو شامل لجميع الجوانب التي أُهملَ بعضُها فيما سبقه من الحدود؛ لذلك آثر عدد من الدارسين (20) هذا التعريف على غيره؛ لأنه ((يراعي المتحدث، أو المرسل والمستقبل، ويراعي كذلك السياق، وكذا يراعي النواحي الشكلية والدلالية...)) (21)، وهو ما يذهب اليه الباحث مع من ذهب.

المبحث الثاني: معنى السبك

السبك: أوَّلِ وأهمِّ المعايير النصية السبعة التي ذكرها (دي بوجراند) (22)، والتي يجبُ توافرها في النَّص كي يحكمَ له بالنَّصِّيَّة، وقد نال عناية كبيرة من قبل اللسانيين النصيين فهو جوهري في تشكيل النص وفهمه وتفسيره، فيعمل على جعل الكلام مفيداً، ويعمل على ثبات النص واستقراره، بعدم تشتت الدلالة الواردة في نص معين، ويقوم بتنظيم بنية المعلومات داخل النص مما يساعد في عملية فهم النص؛ عبر متابعة خيوط الترابط المتحركة داخل النص التي تمكّن المتلقي من ملء الفجوات، ویری (فان دایك) أن السمات الشكلية في النص تحدد بنيته الدلالية (23).

فالسبك هو: ((خاصية دلالية للخطاب؛ تعتمد على فهم كل جُملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجُمل)) (24). وقيل بأنّه: ((ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكّلة لنصّ / خطاب ما، ويُهتمّ فيه بالوسائل اللغويّة الشكليّة التي تصل بين العناصر المكوّنة لجزء خطاب، أو الخطاب برمته)) (25)، فهو يدرس إحكام علاقات الأجزاء (26)؛ أي: ((يقف على مجموع الإمكانيّات المتاحة في اللغة؛ لجعل أجزاء النصّ متماسكة بعضها ببعض)) (27)، وأهمّ ما

ص: 203

يحقّقه السبك في النص صفة الاطّراد، والاستمراريّة في ظاهره، فإنّنا نجد في كلّ مرحلة من مراحل النص نقاط اتصال بالسابقة (28). إذن هو ذو طبيعة خطيّة أفقيّة شكليّة، يُعني بالتتابع والترابط الجُملي للنصّ، والإجراءات المستعملة في توافر الترابط بين عناصره الظاهرة، فضلًا عن تحقيقه استمراريّة الوقائع في النصّ؛ مما يساعد القارئ على متابعة خيوط الترابط المتحركة عبره، ويقود إلى الانسجام النصّيّ، فيظهر النصّ ككلٍّ واحدٍ، يُسهم في تماسكه عدد من الروابط، أهمّها الروابط السطحيّة التي تؤدِّي إلى الروابط العميقة للبنى النصّيّة السطحيّة (29).

أمَا أهم وسائل واشكال السبك، فهي:

- الاتساق الصوتيّ؛ ويشمل: السجع، الجناس، التنغيم.

- الاتساق المعجميّ؛ ويشمل: التكرار، المصاحبة المعجميّة.

- الاتساق النحويّ؛ ويشمل: الإحالة، الحذف، الربط. وسيقتصر بحثنا على الاحالة بما يناسب المقام والموضوع. وسيتمّ بحثها من وجهة نظر نصيّة في هذا البحث، وإسهامها في تحقيق السبك بين مكوِّنات النصّ.

ص: 204

المبحث الثالث: معنى الاحالة

الإحالةُ وسيلةً مهمةً من وسائلِ السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداةٌ ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه (30)، ثم إنَّ دراسة العلاقات الإحالية في النص تثيرُ البنيةَ الدلاليةَ فيها بشيوع صيغها في النص بالقدرِ الذي يَجعلُ منهُ وحدةً مسبوكة منسجمة فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة، ف ((اللغة نفسها نظام إحاليّ، إذ تحيل إلى ما هو غير اللغة)) (31). وقد رأى (فان دايك) ضرورة دراسة الإحالة في إطار لسانیّات النصّ (32)، فهي من أهمّ وسائل السبك، ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة (33).

وقد عرَّف بعضُ علماء النصّ الإحالةَ بأنَّها: العلاقة القائمة بين الأسماء والمسمَّيات (34)، ومنهم من ذكر أنَّها علاقةٌ ((بين العبارات من جهة وبين الأشياء والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات)) (35)، وهذه العلاقة علاقة دلالية تخضع لقيد دلالي هو وجوب التطابق بين العنصر المُحيل والآخر المحال إليه (36)، وتحدثُ بوساطة قسم من الألفاظ تسمى (العناصر الإحالية)، وهي ألفاظ لا تمتلك دلالة مستقلة ولا تكتفي بذاتها من حيث التأويل، إذ لا بدَّ من العودة إلى ما تشير إليه في أجزاء أخرى من الخطاب؛ من أجل تأويلها (37).

ص: 205

ويمكننا القول: إنّها ((عمليّة ذات طبيعة تداوليّة، تقوم بين المتكلّم، والمخاطب في موقف تواصلي معيّن، يحيل فيه المتكلّمُ المخاطبَ إلى ذات معيّنة)) (38) بإحالة لفظة مُستَعمَلة إلى لفظة متقدّمة عليها (39)، لذلك فصَّل أحدُ الباحِثينَ في تعريفها فَقَال: ((إنَّ الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقَّف تفسيرُ الأوَّل على الثاني؛ ولذا فإنَّ فهم العناصر الإحالية التي يتضمَّنها نصٌّ ما يقتضي أن يبحثَ المخاطبُ في مكان آخر داخل النص أو خارجه)) (40).

ويتضح من هذا أنَّ الإحالةَ علاقةٌ دلاليةٌ بينَ عنصرين تشير إلى عملية استرجاع المعنى الاحالي في النصّ مرة أخرى من طريق مجموعة من الكلمات، يُسمى الأوَّلُ مُحِيلاً، والثاني مُحَالاً إليه، والأوَّلُ ليس له معنی مستقلٌ في ذاته، ويمكن معرفة دلالته بالرجوع إلى العنصر الثاني الذي يقع في أجزاء أخرى من النص، كالضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة ونحوها، أو قد يكون خارجياً يفهم من المقام، وبذلك يتمُّ استرجاعُ المعنى الدلالي مرة أخرى. فالمُحال قد يكون داخل الجملة نفسها، فتنحصر وظيفة الإحالة هنا في ربط عناصر الجملة، ومن ثُمَّ تقلُّ نسبةُ وجود الإحالة، ((وكلما كان المُحال إليه بعیداً اتَّسعَ الربطُ ليتحول إلى ربطٍ نَصّي)) (41)، فهي تقوم بمدِّ شبكة من العلاقات الإحالية بين العناصر المتباعدة في فضاء النصّ، فتجتمع عناصره مشکِّلة كلّا واحدا (46)، فضلًا عن ذلك تُجنِّب المتكلّم التكرار المشتِّت للذهن؛ فيتحقّق بذلك الاقتصاد في اللغة، فهي تختصر هذه العناصر الإحاليّة، وتجنِّب مستعملها إعادتها.

اقسام الاحالة

للإحالة أقسام متعدّدة، تبعًا للزوايا التي يُنظَر منها إلى الإحالة، وتشترك في عملية الإحالة مجموعة من العناصر، تبدأ بالمتكلّم، ثم اللفظ المحيل، والمحال إليه، والعلاقة

ص: 206

بين اللفظ المحيل، والمحال إليه (43) ومن أكثر أقسام الإحالة تداولاً بين الباحثينَ نوعان (44) هما:

1. إحالة نصيَّة: وهي إحالة على العناصر اللغوية الواردة في النص، ويتفرَّعُ عن هذه الإحالة نوعان: إحالة على سابق، وتسمى (قبلية)، وهي تعود علی مفسِّر سبقَ التلفظُ به، وهي الأصلُ في العربية (45)، وتمثِّلُ أكثر أنواع الإحالة دوراناً في الكلام (46)، وإحالة على لاحق، وتسمى (بعدية) وهي تعود على عنصر إشاري مذكور بعدها في النص ولاحق عليها، وهذا النوع قليل لا يتعدى مواضع معينة، إذ إنَّه من ((الأكثر صعوبة أن نتصوّر كيف يمكن التصرّف بالنسبة للعود إلى متأخِّر، عندئذٍ يتحتّم للفظ الكنائيّ أن يُركم، حتى تأتي العبارة المشاركة له في معنى الإحالة)) (47).

وبهذا تتحدّد نوعيّة الإحالة قبليّة، أو بعديّة، وكلتا الإحالتين القبليّة، والبعديّة، متّفقة من حيث الطبيعة، ومختلفة من حيث صور الإجراء؛ إذ تقومان على صورة خاصة من الإحالة غير المباشرة بالنسبة إلى ضرب خاص من العناصر اللغويّة، تتمثّل في قصور العنصر عن الإحالة بمفرده إلى مرجعه، أو خارجه، ولا يكون ذلك إلّا بالاتّكاء على عنصر آخر يعضِّده في القيام بهذه الوظيفة، لكنّ الإحالة القبليّة تقوم على تقدّم العنصر المُتَّكأ عليه، أمّا الإحالة البعديّة فإنّها بخلاف ذلك، تقوم على تأخّر ذلك العنصر (48).

2. إحالة مقامیَّة: وهي إحالةُ عنصرٍ لغوي على عنصرٍ إشاري غير لغوي موجودٍ في المقام الخارجي، نحو إحالة ضمير المتكلم، الذي يوجهُ المخاطبَ إلى عنصرٍ إشاري غيرِ لغوي هو ذات المتكلم.

ويمكن الاستعانة بالمخطط الآتي لتوضيح أقسام الإحالة السابقة (49):

ص: 207

الإحالة - نصیة - مقامية - إحالة داخل النص - إحالة إلى خارج النص - (إلى سابق) قبلية - (إلى لاحق) بعدية أما عناصر تتحقّق الإحالة، فتتحقّق الإحالة داخل النصّ بمجموعة من العناصر النحويّة، التي من وظائفها الأساسيّة الربط بين الجُمل، وأهمها: الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة (50).

أولاً / الإحالة بالضَّمائر

الضمير من أعرف المعارف لكنّه مبهم لا يُفهم إلّا بما يرتبط به (51)، فهو ((الاسم المتضمِّن للإشارة إلى المتكلّم، أو المخاطب، أو إلى غيرهما بعد سبق ذكره)) (52) وإذا كان الضمير من المبهمات في ذاتها، فالواجب البحث عن الظاهر الذي يفسِّر المضمر، أي تحديد المشار إليه (العنصر الإشاري) الذي يقيم علاقة الربط مع الضمير

ص: 208

المحيل (العنصر الإحالي) (53)، وتُعدُّ الإحالةُ بالضمير أهم مُعطيات النص التي تُصهِمُ في نصيّته وكفاءَته، وله مهامّ عدِّة منها: الاختصار، وأمن اللبس بالتكرار، وإعادة الذكر (54)، إلّا أنّ تركيز الدراسات النصيّة كان على أثره في ربط الجُمل بعضها ببعض داخل النصّ، فهو ((على وجه العموم فارغ الدلالة، بمعنى أنّ دلالته في المعجم تمثّل صفراً، ومن ثم لا يقوم بوظيفته إذا استُعمِل منفرداً، بل لا بدّ له من ترکیب يعمل به، كالحرف الذي يحتاج إلى مجرور، فهو يحتاج إلى تركيب يستطيع به أن يقوم بوظيفته، وليس المُراد بالإبهام في الضمير التنكير، بل إنّ وقوع الضمائر على كلّ شيء من حيوان، وجماد، أو غيرهما، هو مدار الإبهام في الضمائر)) (55)، فهي تمثل العصب الرئيس في بناء النصّ، فيها يتبدّی سبکه، وبها يمكن تلقّيه، ومن دونها يغدو مفکّکًا، إذ تقوم بوظيفة الرابط بين أجزاء النصّ بنحوٍ عام (56).

وقد قسَّمَ محمد خطابي الضمائر على (57):

وجوديَّة مثل: أنا، أنت، نحن، هو، هم، هن... إلخ. وهي ضمائر (المتكلمين، والمخاطبين، والغائبين).

وضمائر الملكية أو الضمائر المتصلة مثل: كتابي، كتابك، كتابهم، کتابه، کتابنا... إلخ.

ومن زاوية السبك میَّز الباحثان هاليداي ورقية حسن بين نوعين من الضمائر: الأوَّل ما سَمَّیَاه ب (أدوار الكلام)، وتندرجُ تحتَه كل الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب، وتكون الإحالة فيها مقامية خارج النص، والثاني ما أطلقا عليه (أدواراً أخرى)، ويخلفُ هذا النوعُ من الضمائر أثراً مُهِمَّاً في اتساق النص، فهي تربطُ أجزاءُهُ، وتَصِلُ بين أقسامِه، وتندرجُ ضمنَها ضمائرُ الغيبة إفراداً وتثنية وجمعاً (58).

وقد حقَّقتِ الضمائرُ السبك بين العناصر المُكوِّنة لنصوص العهد المبارك؛

ص: 209

فتكرارُها في أكثر من موضع، وعودتُّها على مرجع واحد يخلقُ شبكة إحالية تربطُ الجملَ، وتغني عن إعادة لفظ المحال إليه.

ومن أمثلة ذلك قوله (عليه السلام): ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَاتَکُونَنَّ عَلَیهِمْ سَبُعاً ضَارِیاً تَغْتَنِمُ أَکْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِی الدِّینِ أَوْ نَظِیرٌ لَكَ فِی الْخَلْقِ یفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَیؤْتَی عَلَی أَیدِیهِمْ فِی الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِی تُحِبُّ وَتَرْضَی أَنْ یعْطِیكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَوَآلِی الْأَمْرِ عَلَیْكَ فَوْقَكَ وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَقَدِ اسْتَکْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَابْتَلَاكَ بِهِمْ.

وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا یَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَلَا غِنَی بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَلَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِی الْقَلْبِ وَمَنْهَکَهٌ لِلدِّینِ وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ)) (59).

ص: 210

المحال إليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) الإحالة أشعر قلبك لا تكونن تغتنم لك، لك، لك فأعطهم عفوك صفحك تحب وترضى يعطيك فإنك عليك فوقك ولاك استكفاك ابتلاك لا تنصين نفسك لك، بك لا تندمن لا تبجحنّ لا تشرعنّ وجدت لا تقولن إني فأطاع العنصر المحيل الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المستتر (أنت) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المستتر (أنت) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المتصل (الكاف) الضمير المستتر (أنت) الضمير المستتر (أنت) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (التاء) الضمير المستتر (أنت) الضمير المتصل (الياء) الضمير المستتر (أنا) نوع الإحالة نصية - قبلية

ص: 211

ومن النظر الى الجدول السابق يتبيَّن الآتي:

1. جميع الضمائر الواردة في الجدول تحيلُ إلى نواةٍ واحدةٍ هي لفظة (مالك الأشتر (رضي الله عنه))، وفي وحدةِ النواةِ، وكثرةِ الضمائِر التي تُحيلُ إليها تحقيقٌ لسبك النص ووحدتِه الدلالية، وزيادةٌ في قوة الربط وقدرة الإحالات على السبك، ودعمٌ لسمة النصية (60)، وهذه ظاهرة بارزة في الاحالة النصية، إذ إنّ أهم عنصر إشاري في النص يرتبط به أكبر عدد من العناصر الإحالية وقد سماها د. الزناد ب ((السُلَّميَّة الإحالية)) (61).

2. كلُّ الإحالات الواردة في هذا الجدول إحالاتٌ نصيةٌ قبليةٌ، وفي هذا تأكيدٌ لما قاله بعض الباحثين من أنَّ هذا النوع هو الأكثر دوراناً في الكلام (62) 3. للضمائِر المتَّصلةِ الغلبةُ على غيرها، فقد تجلّت وسائل الإحالة على نحو واضح في ظاهر النصّ؛ إذ بلغ عدد الضمائر التي أسهمت في تحقيق السبك على مستوى النص (30) ضميراً، منها (18) ضميراً متَّصلاً، و (12) ضميراً مستتراً، وهذا التوزيع للضمائر جاء مطابقاً لما أقره النحويون القدماء، من أنّ الضمير المتَّصل له الغَلبَة في الحضور على غيره؛ ((لأنّه أكثر وأسيَر في الاستعمال)) (63)، يُضافُ إلى ذلك أنَّ ((الضمير إذا اتصل فلربَّما أضاف إلى الخفة والاختصار عنصراً ثالثاً هو الاقتصار، وهذه العناصر الثلاثة هي من مطالب الاستعمال اللغوي)) (64).

4. كشفت هذه الضائرُ عن دلالة النص الكلية، وعملت على ربط أوَّل نسيج النصِّ بآخره ربطاً أفقياً (65)، وقد صنع هذا الربطُ جسوراً كبرى للتواصل بين أجزاء النص التي تُفصِح عن معناها، وتجمعُ شتاتَها - على الرغم من تباعدها - وحدةُ المرجع المفسِّر.

ص: 212

5. لا يخلو النصّ من ضمائر تحيل إلى غير المحور الرئيس (مالك الأشتر رض))، إذ يكون لها مرجعيّة مستقلّة، ويمكن ملاحظة ذلك في قوله (عليه السلام): (المُحَبَّةَ لَهُم واللُّطفَ بِهِم... عَلَيهِم... أَكلَهُم فَإِنَّهُم... مِنهُمُ... لَهُمُ... أَمرَهُم... بِهِم). إذ جاءت الألفاظ لتحيل الى الرعية، وبعض الالفاظ أحالت الى الله سبحانه وتعالى في قوله: (أَن يُعطِيَكَ الله مِن عَفوِهِ وَصَفحِهِ... بِنِقمَتِهِ... عَفوِهِ وَرَحمَتِهِ) وحقّق عود الضمير على هذا النحو السبك، والاختصار، بوضوح في النصّ.

وقد مثل هذا المقطع أول شيء أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) به مالكاً الأشتر أراد منه أن يكون خطاباً موجهاً لجميع حكام المسلمين، وغير المسلمين من خلال شخص واحد أراده أن يكون حاكماً على مصر، وهو مالك الأشتر، الصديق الصدوق للإمام علي (عليه السلام). أوصاه أن يكون محبَّاً للرعية، محترماً لمشاعر الناس من أي فئة كانوا، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الأديان الأخرى، ولا يخفى أن في ذلك تثبيتاً لإنسانية الإسلام واحترامه لمشاعر الناس، وتقوية لبنية النظام والحكومة، ثمَّ أوصاه أن يعفو ويصفح عمَّن أساء واجترأ عليه، أو على خاصته، وليس في قواميس الأديان ومذاهب السياسة مثل ما سنه (عليه السلام) من الرفق بالرعية على اختلاف ميولها وأديانها، فليس للوالي إلا اللطف والمبرة بها، وأن لا يشمخ عليهم بولايته ويكون سبعاً ضارياً عليهم، وعليه أن لا يحاسبهم على ما صدر منهم من علل أو زلل، ويمنحهم العفو والرضا، وعدم التبجح بعقوبة انزلوها على أحد، وليس له الاعتزال بالسلطة والغرور بالحكم، فإن في ذلك مفسدة للدين ومفسدة للمواطنين، وعليهم أن ينظروا إلى قدرة الله، الى عليهم فإنه المالك لهم، لتنعم البلاد بالأمن وتسود فيها.

ومثال الاحالة النصية البعدية على متأخر قول الإمام (عليه السلام): ((اَعلَم أَنَّهُ

ص: 213

لَيسَ شَيءٌ بِأَدعَى إِلَى حُسنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعيَّتِه مِن إِحسَانِهِ إِلَيهِم وتَخفِيفِهِ المُئونَاتِ عَلَيهِم وَتَركِ استِكرَاهِهِ إِيَّاهُم عَلَى مَا لَيسَ لَهُ قِبَلَهُم)) (66).

فالضمير الهاء في (إنة)، احالة على جملة (حُسنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ)، فهي التي تفسره، وفي هذه الحالة تنتقل دلالة الضمير من الاحالة على الاسم الظاهر الى الكناية عن مضمون الجملة الواقعة بعده، إذ تؤدي وظيفة التفسير له، وتسمى حينئذٍ عند النحاة ب (ضمير الشأن)، قال ابن يعيش: ((اعلم أنّهم إذا أرادوا ذِكرَ جملة من الجُمَل الاسميّة، أو الفعليّة، فقد يُقدِّمون قبلها ضميراً يكون كناية عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبراً عن ذلك الضمير، وتفسيراً له ويُوَحِّدون الضمير؛ لأنّهم يريدون الأمَر والحديثَ؛ لأنّ كلَّ جملة شأنٌ وحديثٌ، ولا يفعلون ذلك إلّا في مواضع التفخيم والتعظيم)) (67). فالقصد من هذا الضمير شدّ الانتباه بالإبهام الى ما يليه رغبة في تعظيم شأنه، ليصبح ذهن السامع في غاية التنبه والترصد لما سيبين الضمير.

ومثال الاحالة المقامية قوله (عليه السلام): ((اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِیَّتِكَ فِی نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِیقُ بِهِ الْأُمُورُ وَلَا تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ وَلَا یَتَمَادَی فِی الزَّلَّهِ وَلَا یَحْصَرُ مِنَ الْفَیْءِ إِلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ وَلَا یَکْتَفِی بِأَدْنَی فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَأَوْقَفَهُمْ فِی الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَهِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَی تَکَشُّفِ الْأُمُورِ وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لَا یَزْدَهِیهِ إِطْرَاءٌ وَلَا یَسْتَمِیلُهُ إِغْرَاءٌ وَأُولَئِكَ قَلِیلٌ)) (68).

لم يبين الامام الحاكم بعينه وشخصه، بل وضع له خصائص وصفات إن وجدت كان الواجب اختياره ويترك للمقام الحالي آنذاك الكشف عنه واختيار، ومثلت الضمائر المتصلة والمستترة العائدة إليه شبكة من أحداث الترابط الشكلي تبعه احداث التماسك الدلالي، مع قصدية في تحقيق الغاية التي يسعى الامام لإبرازها وهي انتخاب

ص: 214

الحكام غير خاضع للمؤثرات التقليدية، وإنما يكون عن دراسة جادة للحاكم نفسياً وفكرياً وإدارة ومعرفة بشؤون الحكم والإدارة على ضوء الشريعة المقدسة، وما كانت لتبرز على هذا النحو من السبك والدقة والانسجام، لو لم تسهم الضمائر مساهمة فاعلة في النص.

فظهر أنَّ الإحالة المقامية زادت من وحدة النصَّ، واكسبته صفة الاستمرارية والسبك بوجود العنصر المحال إليه؛ لأنّ الإحالة في هذا النوع أحدَ طرفيها لا يظهرُ على سطح النص، ولا يحدثُ الربط بين ركنيها إلا بالتوصل إلى المفقود، فاستحضاره إذن يفضي إلى الترابط والسبك، بخلاف الإحالة النصِّية التي يوجد طرفا الإحالة داخل النص فيحصلُ الربطُ بينَهما مقالياً.

ثانياً / الإحالة بأسماء الاشارة

تعدِّ أسماء الإشارة من المبهمات كما نصّ النحويون على ذلك (69)، فقد عدَّها سيبويه من المبهمات؛ لأنّها تقع على كل شيء (70). فمثلها كمثل الضمائر لا تفهم إلا إذا رُبِطت بما تُشير إليه (71)؛ إذ إنَّها من المعاني اللغوية غير القائمة بذاتها، وتُصنَّف من المعارف الاستعماليّة، وليست من المعارف الوضعيِّة؛ أي: أسماء الأعلام، إذ يجتمع فيها الإبهام والتعريف (72)، أمّا الإبهام فشأنه شأن إبهام الضمير، وكونه من المعارف؛ إذ لا بدّ من أن يرد اسم الإشارة في سياق تركيبيّ، يحضر فيه أطراف الخطاب حضوراً عينياً، أو حضوراً ذهنياً؛ من أجل إدراك مرجعيّتها (73)، وتُصنّف في اللغة بحسب معايير كثيرة، نحو: العدد، والجنس، وبعد المرجع عن المرسل، أو قربه (74)، فلها وظيفةٌ توضِّحُ مدى قرب المشار إليه أو بعده من موقع المتكلم مكاناً وزَماناً؛ لذلك جرى تقسيمُها في اللغة العربية باعتمادِ المسافة (75)، وجمهورُ النحاةِ على أنَّ لها ثلاثَ مراتبَ: قُربي، ووُسطى، وبُعدى (76)، غير أنَّ علماء النص ذهبوا إلى أنَّ هنالك

ص: 215

عدةَ إمكانيات لتصنيفها: إما حسب الظرفية: الزمان (الآن، غداً...)، والمكان (هنا، هناك...) (77) أو حسب الإشارة المحايدة، وتكون بأداة التعريف، أو الانتقاء (هذا، هؤلاء...)، أو البعد (ذاك، تلك...) والقرب (هذا، وهذه ...)(78).

ولأسماء الاشارة أهمِّيَّةٍ كبيرةٍ في سبك النص واتساق أجزائه (79)، ويمكن لها أن تحيل إحالة قبلية أو بعدية، بمعنى إنَّها تربط جزءاً لاحقاً بجزءٍ سابق أو العكس، فهي تحيل بشتّى أصنافها إمّا إلى عنصر إشاريّ قبل العنصر الإحاليّ، أو بعده، فتحقق السبك بين الجُمل، كما يتميّز اسم الإشارة المفرد منها ((بما يسميه المؤلفان - هاليداي ورقية حسن - (الإحالة الموسعة)، أي إمكانية الإحالة إلى جملة بأكملها أو متتالية من الجمل)) (80).

واركان أسماء الإشارة هي (81): معنى من المعاني اللغوية غير القائمة بذاتها، ولها أركان:

المُشير - المتكلم المشار إليه - الشيء في الخارج المشار له بالمشار إليه - المخاطب المشار به - عبارة الإشارة (اللفظ الذي تتحقق به) عمل الإشارة - الحاصل معنى وخارجاً من الإشارة).

وقَسَّمَ الدكتور سعيد بحيري الإحالة الإشارية بأسماء الإشارة، استناداً إلى تقسيم الإشارة على نوعين حسيّة، ومعنويّة على نوعين:

النوع الأول: إحالة ذات مدى قريب، وتجري في مستوى الجملة الواحدة إذ لا

ص: 216

توجد فواصل تركيبية جملية.

النوع الثاني: إحالة ذات مدى بعيد، وهي تجري بين الجمل المتصلة أو المتباعدة في فضاء النص، وهي تتجاوز الفواصل أو الحدود التركيبية القائمة بين الجمل (82)، وهذا التقسيم هو ما سنعتمده في التطبيق على أمثلة مختارة من العهد الشريف.

مثال النوع الأول، قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وغِنًی لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وحُجَّةٌ عَلَیْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ)) (83).

فقد احال اسم الاشارة (ذلك) احالة قبلية على اسباغ الارزاق على أهل التجربة والنصيحة الذين ذكرهم الإمام قبل الاحالة ((وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً)) (84).

ص: 217

وأركان الاحالة في هذا النص على النحو الآتي:

المُشير - الإمام علي (عليه السلام).

المشار إليه - أهل التجربة والحياء.

المشار له بالمشار إليه - مالك الأشتر (رضي الله عنه).

المشار به - (ذلك).

عمل الإشارة - الإحالة إلى المشار إليه، وربطه ب (اسباغ الارزاق على أهل التجربة)، والجمع بين أجزاء المحال إليه كلها. وبدا واضحاً ما لاسم الإشارة من أثر كبير ومهم في بناء النصِّ العلوي وسبك أجزائه وانسجام معانيه، عندما أَغنى عن إعادة التكرار للألفاظ التي أحالَ إليها.

ومثال النوع الآخر - احالة ذات مدى بعيد - قوله (عليه السلام): ((وَ لاَ تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِیَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِیعَةً وَ لاَ یَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِی اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ یَلِیهَا مِنَ النَّاسِ فِی شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ یَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَی غَیْرِهِمْ فَیَکُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَیْبُهُ عَلَیْكَ فِی الدُّنْیَا وَ الآْخِرَةِ وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِیبِ وَ الْبَعِیدِ وَ کُنْ فِی ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَاصَّتِكَ حَیْثُ وَقَعَ وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا یَثْقُلُ عَلَیْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِیَّةُ بِكَ حَیْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَ اعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِی ذَلِكَ رِیَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَ رِفْقاً بِرَعِیَّتِكَ وَ إِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِیمِهِمْ عَلَی الْحَقِّ)) (85).

وردت في النص عدة احالات عن طريق اسم الاشارة (ذلك)، فأحال الأول الى اقتطاع الارض للمقربين من الحاكم، واعطاء العقود لهم، وعمل الصفقات بينهم،

ص: 218

واحال الثاني والثالث الى لزوم الحق والصبر عليه، واحال الرابع الى العاقبة المحمودة لمتبع الحق والمنصف أهله، واحال الخامس الى دفع التهم الموجه من الرعية إليه ومكاشفتهم بالواقع الصحيح.

فهذه الاحالات شكلت مفصلاً أساسياً في عقدِ صلةٍ وثيقةٍ بين أجزاء النص، وجعلها منسبكة ذات وسائل متلاحمة، فقد ربطت عناصرَ الجملة، الواحدَ منها بالآخر، وتجاوز ذلك الجملة الواحدةَ إلى سائِر الجمل في النص، فربطت بين عناصرَ منفصلةٍ متباعدةٍ من حيثُ التركيب النحوي، متصلةٍ أشدَّ الاتصال من حيثُ الدلالة والمعنى، وإذا ترابطت أجزاءُ الملفوظ فإنَّه سيكتملُ نصاً (86).

لقد كان أمر الإمام حاسماً في شؤون خاصة الولاة وبطانتهم، فقد سد عليهم جميع ألوان الطمع والتلاعب بأموال الدولة، فأراد إنصاف الناس والاطلاع على شؤونهم بشكل مباشر، وحذر عامله من خاصته وبطانته، وما يقع لهم من استغلال للنفوذ واستئثار وتطاول وقلة إنصاف للناس في المعاملة، وأمره بردع هؤلاء والامتناع عن أن يحملهم على رقاب الناس ويمكنهم من الاستئثار بالنعم دونهم والإذلال لهم، وأضاف الإمام يأمره بإتباع الحق ولزومه، ثم أكد على الرفق بالرعية ومراعاة عواطفها، وإذا ظنت به حيفاً فعليه أن ينطلق إلى ساحتها، ويقدم لها الاعتذار، والحجة القاطعة على أمانته، وبهذه الصراحة المخلصة تطمئن القلوب اليه وتثق به النفوس، وبهذا الهمل يروض نفسه بالتواضع للحق والعدل.

ثالثاً / الإحالة بالأسماء الموصولة

تُعدّ الاسماء الموصولة من ضروب المبهماتِ؛ لأنَّها، كالضمائر وأسماء الإشارة، تقعُ على كلِّ شيءٍ من حيوان وجماد وغيرهما (87)، فهي اسماء ناقص الدلالة لا يتَّضِح معناها إلّا إذا وصلَ بصلتِها (88)، وسُمي الاسم الموصول بذلك؛ لأنَّه يوصلُ بكلام

ص: 219

بعدَه هو من تمام معناه، وهذا ما أكَّده النحويون المتقدمون، قالَ ابن يعيش: ((معنی الموصول أن لا يتمَّ بنفسه، ويفتقر إلى كلام بعدَه، تصله به ليَتِمَّ اسماً، فإذا تمَّ ما بعدَه، كان حكمُه حكم سائر الأسماء التامة)) (89)، وبهذا المعنى يُعدّ من المبهمات التي يُزال الإبهام عنها بالتركيب الذي يلحقها، فالأسماء الموصولة ((تشارك بقية الأدوات الاتساقية الإحالية في عملية التعويض، فهي ألفاظ كنائية لا تحمل دلالة خاصة، وكأنها جاءَت تعويضاً عما تُحيل إليه) (90)، فهي تقوم بالربط والسبك من خلال ما يأتي بعدها من صلة الموصول (التي تضع ربطاً مفهومياً بين ما قبل (الذي) وما بعده، إذ إنّ تلك الصلة ينبغي أن تكون معلومة للمتلقي قبل ذكر اسم الموصول) (91).

ويُعَدُّ (دي بوجراند) أول من أشارَ إلى الاسم الموصول بوصفه ((وسيلةً من وسائل الإحالة)) (92)، وأَيَّده الزناد بقوله: ((أنّها من الألفاظ الإحالية التي لا تملك دلالة مستقلة، بَل تعود إلى عنصر، أَو عناصر أُخرى مذكورة في أجزاءٍ أُخرى من الخطاب)) (93).

وتمارس الأسماء الموصولة وظيفتها في تحقيق السبك النصي، وممّن لفت الانتباه إلى وظيفة الربط في الاسم الموصول د. تمّام حسّان؛ إذ قال: ((لم يُشَر من قبل إلى هذا النوع من الربط... وما ألفت النظر هنا، فهو ما في الموصول من طاقة الربط بين أوصال الجملة، أو السياق القائم على أكثر من جملة... والدليل على أنّ الموصول رابط، أنّه کما قال البلاغيّون، حلّ محلّ الضمير، فلو عدلت عن الموصول واستعملت الضمير المطابق له لحدث الربط المطلوب)) (94)، فالاسم الموصول من الأدوات التي تشدّ من التلاحم النحويّ بين ما تقدّم ذكره، والعلم به، وما يُراد من المتكلُم أن يعلم به، أو أن يضمّه إلى ما سبق من العلم به (95)، إذ تربط أجزاء الجملة بعضها ببعض أو تربط بين الجمل، كذلك تربط النص بسياقه المقامي الذي قيل فيه (96)، وبذلك فهي

ص: 220

تؤدي وظيفة السبك النصّي.

والموصولات من العناصر الإحالية (97) التي تقومُ على مبدأ التَّماثِل والتَّطابِق بينَها وبينَ ما تعوضه (98)، ويظهرُ هذا المبدأُ في اسم الموصول المختص مثل: (الذي، التي اللذان، اللتان، الذين، اللاتي... إلخ)، أمَّا الموصولات العامة (من، وما،...) فإنَّ فكرة التطابق والتماثل لا تنطبق عليها (99).

مثال ذلك قوله (عليه السلام): ((إِنّ شَرّ وُزَرَائِكَ مَن كَانَ لِلأَشرَارِ قَبلَكَ وَزِيراً وَ مَن شَرِكَهُم فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنّهُم أَعوَانُ الأَثَمَةِ وَ إِخوَانُ الظّلَمَةِ)) (100).

ورد في هذا النص إحالتان بالاسم الموصول، کلاهما بالموصول (مَن)، فالمُحيل هو الموصول، والمُحال إليه هو السابق المُعوَّض، کما هو واضح في المخطط الآتي:

شر الوزراء - مَن، - كان للأشرار وزیر شر الوزراء - مَن - شركهم في الاثام.

يظهر من المخطط اعلاه أنَّ الاسم الموصول الأول قد أحال إلى الاسم الظاهر (شر الوزراء)، وأحال الثاني إلى الاسم ذاته، فعوَّضَ كلٌ منهما عمَّا يسبقه، واكتسب دلالتَهُ منه، ويلحظ أنَّ كلاً منهما يرتبطُ بصلتِه سبكياً من جهة، ويصنعُ ربطاً مفهومياً بين هذه الصلة والمُحال إليه الذي يسبقه من جهة أخرى (101)، من خلال اشتراك الاسم الموصول بالاسم الذي قبله، وجملة صلة الموصول التي بعده، في جعل النص على مستوى واحد من السبك والتماسك یُدرکُه المتلقي حالَ النظر إليها.

ومثال ذلك أيضاً، قوله (عليه السلام): ((وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ وَتُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّی یُکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ)) (102).

ص: 221

التواضع لله - الذي - خلقك.

حَقَّقَ الاسم الموصول وصلته مع احالته على سابق الربط السبكي من الربط المفهومي بين ما قبل (الذي) وهو (التواضع لله) وما بعدها، وهو (خلقك)، إذ ربط أجزاء الجملة بعضها ببعض، وربط النص بسياقه الذي قيل فيه كما هو واضح في المخطط اعلاه.

الزم الامام مالكاً بتخصيص ساعات من وقته للمحتاجين عنده، يتفرغ لهم فيه، ويرفع عنهم كلفة المراسيم بتنحية الحرس والجنود، لإزالة الرهبة عن نفوسهم، حتى يكلموه بغير تلجلج ولا ارتباك، بعد أن يتبسط معهم ويحتمل منهم السذاجة والعي ويبعد عنهم الضيق والأنف، ففي ذلك رحمة من الله ساقها اليه، وذخر له في يوم الحساب والجزاء، وهذا منتهى العدل الذي أسسه رائد الحضارة والعدالة في الإسلام.

وبعد ذلك يمكن أن نخلُصَ إلى أنَّ الإحالة من أكثر وسائل السبك انتشاراً في نصوص العهد العلوي المبارك، إذ لا تكاد تخلو فقرة أو جملةٌ من ضميرٍ، أو عنصر إشاري، أو موصول، يربطُها بمواطنَ أخرَى في النص، لذلك فهي من أهمِّ عوامل سبك النصوص التي تقفُ وراءَ خلقِ نصِّيَّتها.

ص: 222

نتائج البحث

1. إنّ وصف الكلام بالوقوف عند الجملة الواحدة وصفٌ غيرُ كافٍ، ولا بدّ من الانتقال إلى وحدة أخرى؛ هي النصّ؛ لأنّ نظام الجملة يوضّح كيفيّة ارتباط المفردات الواحدة بالأخرى في أبنية معيّنة، أمّا لسانیّات النصّ؛ فتبحث فيما فوق الجملة ويتجاوزها إلى أفكار كليّة، وهو افراز حتميّ لمجموعة من التحوّلات المعرفيّة، والمنهجيّة التي حدثت في نظريّة اللغة، وأصولها، ومستوياتها، ووظائفها، والفلسفة العلميّة الكامنة وراءها.

2. يعد السبك أوَّلِ وأهمِّ المعايير النصية السبعة التي ذكرها (دي بوجراند) في النَّص کي يحكمَ له بالنَّصِّيَّة، وقد نال عناية كبيرة من قبل اللسانيين النصيين فهو جوهري في تشكيل النص وفهمه وتفسيره.

3. ظهر أن السبك في نصوص العهد العلوي المدروسة عمل على ثبات النص واستقراره، بعدم تشتت الدلالة الواردة فيه، وتنظيم بنية المعلومات داخله مما ساعد في عملية فهم النص؛ عبر متابعة خيوط الترابط المتحركة داخله، فهو خاصية دلالية للخطاب؛ تعتمد على فهم كل جُملة مكونة للنص في علاقتها بما يفهم من الجُمل، فضلاً عن تحقيقه استمراريّة الوقائع في النصّ؛ مما يساعد القارئ على متابعة تلك الخيوط المتحركة عبره، ويقود إلى الانسجام النّصّي، فيظهر النصّ ككلٍّ واحدٍ.

4. الإحالةُ من الوسائل المهمةً في السبك النصي، وظاهرةٌ من الظواهر النحويَّة التي تخرجُ عن إطار الجملة المفردة إلى العناية بالجوانب الدلالية والتواصلية في النصوص، وأداةٌ ذات أثر فاعل في ربط أجزاء النص وسبکه، فهي تقع في أساس كلّ منظومة فكريّة، وقد رأى اللسانيون ضرورة دراستها في إطار لسانیّات

ص: 223

النصّ؛ لأنها من أهمّ وسائل السبك، ومن المعايير المهمّة التي تسهم بنحو فعّال في الكفاءة النصيّة.

5. مثلت الاحالة بالضمير في العهد العلوي أهم مُعطيات النص التي تُسهِمُ في نصيّته وكفاءَته، وقد حقَّقتِ الضمائرُ السبك بين العناصر المُكوِّنة لنصوص العهد المبارك، فهي تمثل العصب الرئيس في بنائه، فيها يتبدّی سبکه، وبها يمكن تلقيّه، ومن دونها يغدو مفكّكاً، إذ تقوم الاحالة بمدِّ شبكة من العلاقات الإحالية بين العناصر المتباعدة في فضاء النصّ، فتجتمع عناصره مشکِّلة كلّا واحدا، فضلًا عن ذلك تُجنِّب المتكلّم التكرار المشتِّت للذهن؛ فيتحقّق بذلك الاقتصاد في اللغة؛ لأنها تختصر هذه العناصر الإحاليّة، وتجنِّب مستعملها إعادتها.

6. كثرة الضمائِر التي تُحيلُ الى وحدةِ النواةِ ((مالك الأشتر))؛ لتحقيقٌ السبك النصي ووحدتِه الدلالية، وزيادة قوة الربط وقدرة الإحالات على السبك، ودعمٌ لسمة النصية، إذ إنّ أهم عنصر إشاري في النص يرتبط به أكبر عدد من العناصر الإحالية، وقد صنع هذا الربطُ جسوراً کبری للتواصل بين أجزاء النص التي تُفصِحُ عن معناها، وتجمعُ شتاتَها على الرغم من تباعدها - وحدةُ المرجع المفسِّر.

7. حققت أسماء الإشارة أهمِّيَّةٍ كبيرةٍ في العهد العلوي في سبك نصّه واتساق أجزائه، إذ أمكن لها أنَّ تربط جزءاً لاحقاً بجزءٍ سابق أو العكس، فهذه الاحالات شكلت مفصلاً أساسياً في عقدِ صلةٍ وثيقةٍ بين أجزاء النص، وجعلها منسبكة ذات وسائل متلاحمة، فقد ربطت عناصرَ الجملة، الواحدَ منها بالآخر، وتجاوز ذلك الجملةَ الواحدةَ إلى سائرِ الجملِ في النص، فربطت بين عناصرَ منفصلةٍ متباعدةٍ من حيثُ التركيب النحوي، متصلةٍ أشدَّ الاتصال من حيثُ الدلالة

ص: 224

والمعنى، وإذا ترابطت أجزاءُ الملفوظ فإنَّه سيكتملُ نصاً.

8. مارست الأسماء الموصولة وظيفتها في تحقيق السبك النصي في العهد العلوي، فهي تقوم بالربط والسبك من خلال التلاحم النحويّ بين ما تقدّم ذكره، والعلم به، وما يُراد من المتكلُم أن يعلم به، أو أن يضمه إلى ما سبق من العلم به، إذ تربط أجزاء الجملة بعضها ببعض أو تربط بين الجمل، او النص بسياقه المقامي الذي قيل فيه، وبذلك فهي تؤدي وظيفة السبك النصيّ.

ص: 225

هوامش البحث

1. ينظر: نحو النصّ، إطار نظري ودراسات تطبيقية، عثمان أبو زنيد: 35.

2. ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النصّ، صلاح فضل: 14.

3. ينظر: لسانیات النصّ بين النظرية والتطبيق، ليندة قياس: 9.

4. ينظر: لسانیات النصّ عرض تأسيسي، کریستین آدمستيك: 49.

5. مدخل الى علم النصّ، زیتسلاف واورزنیاك، 36 - 37، وينظر، مدخل الى علم اللغة النصيّ، فولفجانج 6. هاینه، ديتر فيهفيجر، ترجمة صالح شبيب العجمي: 22.

7. في اللسانيات ونحو النصّ، ابراهيم محمود: 196.

8. ينظر: أصول تحليل الخطاب، محمد الشاوش: 1/ 183.

9. الدرس النحوي النصيّ في كتب إعجاز القرآن، أشرف عبد البديع: 71.

10. ينظر: نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية : 13 - 30.

11. ينظر: المصدر نفسه: 20 - 30.

12. علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، د. سعيد بحيري: 103.

13. ينظر: المصدر نفسه: 103، ونحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، د. أحمد عفيفي: 22.

14. علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 108.

15. نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي: 22.

16. نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية: 30.

17. نحو أجرومية للنص الشعري دراسة في قصيدة جاهلية، د. سعد مصلوح، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مج 10، العدد 1 و 2، يوليو 1991 م: 154،

ص: 226

وينظر: علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 146.

18. ينظر: النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند،: 103 - 107، ونحو أجرومية للنص الشعري: 154، وعلم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 145 - 146، وعلم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، صبحي ابراهيم الفقى: 1/ 33 - 34.

19. ينظر: النصّ والخطاب والاجراء: 106.

20. ينظر: علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات: 146.

21. ينظر: نحو أجرومية للنص الشعري: 154، وعلم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 34، ونحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية: 28.

22. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 34.

23. ينظر: النص والخطاب والإجراء: 103 - 105.

24. ينظر: علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، فان دايك، ترجمة سعيد حسن بحيري: 275.

25. بلاغة الخطاب وعلم النص: 44.

26. لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد الخطابي: 5.

27. ينظر: السبك في العربية، محمد سالم أبو عفرة: 4.

28. أصول تحليل الخطاب: 1/ 124.

29. ينظر: بلاغة النص، جميل عبد المجيد: 16.

30. ينظر: في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية، سعد مصلوح: 229.

31. ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 71.

32. نسيج النص، الأزهر الزّناد: 115.

33. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة، سعید حسن بحيري: 99.

ص: 227

34. ينظر: الإحالة في نحو النص، د. أحمد عفيفي: 2، وعلم لغة النص، عزّة شبل: 119.

35. ينظر: نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي: 116.

36. النص والخطاب والإجراء: 172.

37. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 17.

38. ينظر: المصدر نفسه: 17، ونسيج النص: 118.

39. قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، أحمد المتوكل: 138.

40. ينظر: المصطلحات الاساسية في لسانیات النص، نعمان بوقرة: 81.

41. قضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب، د. محمد محمد یونس علي: 58.

42. نظرية علم النص رؤية منهجيّة في بناء النصّ النثريّ: د. حسام أحمد فرج: 86.

43. ينظ: نسيج النص: 121، وعلم لغة النص: 12، ونظرية علم النص: 84.

44. ينظر: الإحالة في نحو النص: 12.

45. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 17، ونسيج النص: 118 - 119، وأصول تحليل الخطاب: 1/ 125، ونحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي: 117 - 118، والترابط النصي في ضوء التحليل اللساني للخطاب، خلیل ياسر البطاشي: 165 - 166.

46. ينظر: قضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب: 60.

47. ينظر: نسيج النص: 119، والمعايير النصية في القرآن الكريم، د. أحمد محمد عبد الراضي: 103.

48. النص والخطاب والإجراء: 327.

49. ينظر: أصول تحليل الخطاب: 2/ 1213.

50. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 17، ونحو النص اتجاه جديد في

ص: 228

الدرس النحوي: 118، ولسانيات النص بين النظرية والتطبيق: 28.

51. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 17، وأصول تحليل الخطاب: 126، نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي: 118، نظرية علم النص رؤية منهجية في بناء النص النثري: 83.

52. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة: 134.

53. مفتاح العلوم، السكاكي، 190.

54. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية بين البنية والدلالة: 114.

55. ينظر: نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، مصطفی حميدة: 153.

56. الاتساق في الصحيفة السجادية، حیدر فاضل (رسالة ماجستير): 125، وينظر: شرح المفصل، ابن یعیش: 5/ 58.

57. ينظر: النص والخطاب قراءة في علوم القرآن، محمد عبد الباسط عيد: 214.

58. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 18.

59. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 18.

60. نهج البلاغة، الشريف الرضي، تحقیق صبحي الصالح: 427 - 428.

61. ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 203، وقضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب: 60، 62.

62. ينظر: نسيج النص: 134.

63. ينظر: المصدر نفسه: 119، والمعايير النصية في القرآن الكريم: 103.

64. الخصائص، ابن جني: 2/ 194.

65. البيان في روائع القرآن، د. تمام حسان: 1/ 137.

66. ينظر: لسانیات النص النظرية والتطبيق: 109.

67. نهج البلاغة: 431.

ص: 229

68. شرح المفصل: 3/ 114.

69. نهج البلاغة: 434 - 435.

70. ينظر: النحو الوافي، عباس حسن: 1/ 267 هامش 2، وأصول تحليل الخطاب: 2/ 1051.

71. ينظر: الكتاب، سيبويه: 1/ 125.

72. ينظر: شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الاسترابادي: 2/ 479، ونسيج النص: 118.

73. أصول تحليل الخطاب: 2/ 1069.

74. ينظر: استراتيجيات الخطاب، عبد الهادي ظافر الشهري: 80.

75. ينظر: المصدر نفسه، 282، والإحالة في نحو النص: 20 - 21.

76. ينظر: نسيج النص: 118، وقضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب: 73.

77. ينظر: شرح الرضي على الكافية: 2/ 471 - 484، وشرح ابن عقیل، ابن عقیل: 1/ 135 - 136، وهمع الهوامع، السيوطي: 1/ 247.

78. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 19.

79. ينظر: المصدر نفسه: 19، وأصول تحليل الخطاب: 1/ 128.

80. ينظر: لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 19، ونحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية: 119.

81. لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب: 19.

82. ينظر: أصول تحليل الخطاب: 2/ 1062 - 1063، ونحو النص، اطار نظري ودراسات تطبيقية: 119.

83. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 150 - 151.

84. نهج البلاغة: 435.

ص: 230

85. المصدر نفسه: 435.

86 نهج البلاغة: 441.

87. ينظر: نسيج النص: 124، ودراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 151.

88. ينظر: شرح المفصل: 2/ 372.

89. ينظر: معاني النحو، د. فاضل السامرائي: 1/ 119.

90. شرح المفصل: 2/ 371.

91. الإحالة في نحو النص: 26.

92. المصدر نفسه: 26.

93. النص والخطاب والاجراء: 5/ 32.

94. نسيج النص: 118.

95. مقالات في اللغة والادب، د. تمام حسان: 1/ 200.

96. ينظر: في اللسانيات ونحو النص: 230.

97. ينظر: مقالات في اللغة والأدب: 1/ 200.

98. ينظر: النص والخطاب والإجراء: 32.

99. ينظر: نسيج النص: 118.

100. ينظر: الإحالة في نحو النص: 26.

101. نهج البلاغة: 430.

102. ينظر: الإحالة في نحو النص: 26.

103. نهج البلاغة: 439.

ص: 231

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم - الكتب المطبوعة 1. الإحالة في نحو النصّ، أحمد عفيفي، د. ط، كتب عربية، د. ت.

2. استراتيجيّات الخطاب مقاربة لغويّة تداوليّة، عبد الهادي ظافر الشهري، ط 1، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بیروت، 2004 م.

3. أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية، تأسيس نحو النص، محمد الشاوش، ط 1، كلية الآداب منوبة تونس بالاشتراك مع المؤسّسة العربيّة للتوزيع، 1421 ه - 2001 م.

4. بلاغة الخطاب وعلم النصّ، صلاح فضل، عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة للفنون والآداب، الكويت، 1992 م.

5. بلاغة النصّ، مدخل نظريّ ودراسة تطبيقيّة: د. جميل عبد المجيد، دار غریب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1999 م.

6. البيان في روائع القرآن، د. تمَّام حسَّان، ط 2، عالم الكتب، القاهرة، 1420 ه - 2000 م.

7. الترابط النَّصِّي في ضوء التحليل اللساني للخطاب، خلیل یاسر البطاشي ط 1، دار جرير، عمّان الأردن، 1434 ه 2013 م.

8. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، د. سعید حسن بحيري، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1426 ه - 2005 م.

9. الدرس النحوي النصي في كتب إعجاز القرآن الكريم، د. أشرف عبد البديع

ص: 232

عبد الكريم، مكتبة الآداب، القاهرة، 2008 م.

10. السبك في العربيّة المعاصرة بين المنطوق والمكتوب، د. محمد سالم أبو عفرة، تقديم: د. محمد العبد، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2010 م.

11. شرح ابن عقیل، بهاء الدين عبد الله بن عقيل (ت 769 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 20، دار التراث، القاهرة، 1400 ه 1980 م.

12. شرح الرضي على الكافية، محمد بن الحسن الاستراباذي (ت 688 ه)، تصحیح وتعليق: د. يوسف حسن عمر، ط 2، منشورات جامعة قار یونس، بنغازي، 1996 م.

13. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكيِّة، د. صبحي إبراهيم الفقي، ط 1، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1421 ه - 2000 م.

14. علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات، د. سعید حسن بحيري، ط 1، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة، 1997 م.

15. علم لغة النص النظرية والتطبيق، د. عزة شبل محمد، تقديم: د. سليمان العطار، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1428 ه - 2007 م.

16. علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، تون ا. فان دايك، ترجمة وتعليق: د. سعید حسن بحيري، ط 2، دار القاهرة، القاهرة، 2005 م.

17. في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة، د. سعد عبد العزيز مصلوح، ط 1، مجلس النشر العلمي، لجنة التأليف والتعريب والنشر، جامعة الكويت الكويت، 2003 م.

18. في اللسانيات ونحو النص، د. إبراهيم محمود خليل، ط 2، دار المسيرة للنشر

ص: 233

والتوزيع والطباعة، عمَّان - الأردن، 1430 ه - 2009 م.

19. قضايا في اللغة واللسانيات وتحليل الخطاب، د. محمد محمد یونس علي، ط 1، دار الكتاب الجديد المتَّحدة، بيروت لبنان، 2013 م.

20. قضايا اللغة العربيّة في اللسانيّات الوظيفيّة، بنية الخطاب من الجملة إلى النصّ، د. أحمد المتوكّل، د ط، دار الامان للنشر والتوزيع، الرباط، د ت.

21. لسانیّات النصّ عرض تأسیسيّ، کریستین آدمتیسك، ترجمة: د. سعید حسن بحيري، ط 1، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2009 م.

22. لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، ط 1، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م.

23. مدخل إلى علم اللغة النصّيّ، فولفجانج هاینه و دیتر فيهفيجر، ترجمة: صالح شبيب العجميّ، د ط، جامعة الملك سعود، 1419 ه - 1999 م.

24. مدخل إلى علم النصّ، مشکلات بناء النصّ، زيتسيسلاف واورزنیاك، ترجمة: د. سعید حسن بحيري، ط 1، مؤسّسة المختار للطبع والتوزيع، القاهرة، 1424 ه - 2003 م.

25. المصطلحات الأساسيّة في لسانیّات النصّ وتحليل الخطاب، دراسة معجميّة، د. نعمان بوقرة، ط 1، عالم الكتب الحديث، جدارا للكتاب العالميّ، عمّان، 1429 ه - 2009 م.

26. معاني النحو، د. فاضل صالح السَّامرَّائي، ط 2، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمَّان، 1420 ه 2000 م.

27. المعاييرُ النَّصِّيَّة في القرآن الكريم، د. أحمد محمد عبد الراضي، ط 1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1432 ه 2011 م.

ص: 234

28. مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي (ت 626 ه)، حققه وقدَّم له وفهرسة: د. عبد الحميد هنداوي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1620 2000 م.

29. نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، د. أحمد عفيفي، ط 1، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001 م.

30. نحو النص إطار نظري ودراسات تطبيقية، د. عثمان حسين أبو زنيد، ط 1، عالم الكتب الحديثة، إربد، 2010 م.

31. النحو الوافي، مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغويّة المتجدِّدة، عباس حسن، ط 1، مكتبة المحمّديّ، بیروت، 1428 ه - 2007 م.

32. نسيج النص، بحث فيما يكون به الملفوظ نصاً، الأزهر الزناد، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993 م.

33. النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة: د. تمام حسان، طا، عالم الكتب، القاهرة، 1418 ه - 1998 م.

34. النصّ والخطاب، قراءة في علوم القرآن، د. محمد عبد الباسط عيد، تقديم: د. صلاح رزق، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 2009 م.

30. نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، د. مصطفى حميدة، ط 1، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، الجيزة - مصر، ومكتبة لبنان ناشرون، بیروت لبنان، 1997 م.

36. نظرية علم النص، رؤية منهجية في بناء النص النثري، د. حسام أحمد فرج، تقديم: د. سليمان العطّار، ود. محمود فهمي حجازي، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1428 ه - 2007 م.

ص: 235

37. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين السيوطي، تحقيق: أحمد شمس الدين، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1418 ه - 1998 م.

38. نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، (ت: 406 ه) ضبط نصّه وابتكر فهارسه، د. صبحي الصالح، ط/4، الناشر: دار الكتاب المصري - القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بیروت، 1425 ه - 2004 م.

- الرسائل الجامعية 1. الاتساق في الصحيفة السجادية، دِراسَةٌ في ضَوءِ لِسانِيّاتِ النّصِّ، حیدر فاضل العزاوي (رسالة ماجستير)، مقدمة إلى مجلس كليّة التربية للعلوم الإنسانيّة في جامعة كربلاء، 1435 ه - 2014 م.

- البحوث المنشورة 1. نحو أجرومية للنص الشعري دراسة في قصيدة جاهلية، د. سعد مصلوح مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مج 10، العدد 1 و 2، يوليو 1991 م.

ص: 236

المكونات الإعلامية واثرها في ابعاد الخطاب دراسة لسانية في عهد الإمام علي (عليه السلام (لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

د. حامد بدر عبد الحسين م. م: حسن رحيم حنون جامعة بابل / كلية الدراسات القرآنية

ص: 237

ص: 238

الملخص:

تعد الإعلامية إحدى معايير لسانیات النصّ التي وضعها العالم اللغوي اللساني (روبرت دي بوجراند)، ويستعملها علماء اللسانيات في مباحث التداولية، والحجاج، فالإعلامية تشارك في الكشف عن ابعاد الخطاب وموضوعاته، فيعالِج هذا المعيار بمكونات البلاغة لما لها من وظيفة تداولية تهتمَّ بالمقاصد الفكرية والعاطفية وما يتفرع عنها، وعلاقة هذه المقاصد بأجناس الخطاب و تكونيه، فالبلاغة تنقل المتلقي من أسلوب إلى أسلوب وهذا يكون أحسن، تطرية لنشاط السامع، وأيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وللإعلامية مكونات أخرى لها دلالة عميقة كالحذف والرتبة والقرينة والمطابقة ودلالة المشتقات والصيغ الصرفية والصوت و الأساليب اللغوية، وغيرها من تراكيب اللغة وظواهرها الفاعلة في إنتاجية النصّ المؤثر، فهي تهتم بخطاب النص وتكشف عن بنيته العميقة ثم تفسر مكوناته، فهي تبين مقاصد المتكلم ومدى تأثيرها على المتلقي وعلى هذا الاساس تسعى هذه الدراسة لبيان احد معايير اللسانيات الحديثة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)، لأنه يحتوي على لغة سامية ذات بنية زاخرة بالوان مكونات الإعلامية.

الكلمات المفتاحية:- اللسانيات - الإعلامية - الخطاب - النص - المتكلم المتلقي -

ص: 239

المقدمة

تعني الإعلامية: مدى التوقعِ الذي تحظى به أحداث الخطاب في مقابل عدم التوقع، أو المعلوم في مقابل المجهول، ومن المظاهر التي تسهم في ارتفاع مستوى الكفاءة الإعلامية في الخطاب لدى العلماء العرب القدامى هو اتساع المعنى، إذ يعرفه (ابن رشیق، ت 463 ه)، بقوله: (( أن يقول الشاعر بيتا يتسع فيه التأويل فيأتي كلّ واحد بمعنی؛ وإنّما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى)) (1)، وسبب ارتفاع مستوى الكفاءة الإعلامية لهذه النصّوص التي يتسع فيها المعنى هو كثرة الاحتمالات للمعنى واللفظ.

وللإعلامية مظهر آخر ذكره (الجرجاني، ت 471 ه) في فصل (معنى المعنى)، إذ يقول: ((وإذ قد عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: (المعنی)، و (معنی المعنی) تعني بالمعنى المفهوم من ظاهرة اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة و (بمعنى المعنی)، أن تعقل من اللفظ معنی، ثمّ يفضي بك ذلك المعنى إلى معنی آخر)) (2)، ويفهم من هذا القول إن للنصّ بنية ظاهرة والبحث فيه يخلق معنی آخر جديد بالاعتماد على قرائن وأساليب، ولذلك یری: عز الدين إسماعيل ((إنَّ معنى المعنى هو تعقد شبكة من العلاقات المتبادلة بين عدد من العناصر اللغويّة وغير اللغويّة، وإن تحقّقه - من ثمّ - فضلاً عن إدراكه يقتضي تآزر الأدوار التي تؤديها هذه العناصر من أجل أن تلتقي جميعا في ذلك الموقع المركزي منها)) (3).

ويعدّ معيار الإعلامية مهمّا جدًا في تحفيز التواصل بين النصّ والمتلقي، وجعله أكثر تشويقاً، ومن المحتمل أن يؤدي ضعف الإعلامية بوجه خاص إلى الارتباك وإلى الملل، بل إلى رفض النصّ في بعض الأحيان (4)، لذا يعدّ مدى التوقع الذي تحظى

ص: 240

به وقائع النصّ المعروض في مقابل عدم التوقع، أو المعلوم مقابل المجهول وسائل تبعد الملل عن القارئ وخاصة عندما يتلقى مستعملو النصّ نصًّا يرونه خارج المتوقع والمحتمل و خارج الاعتياد اللّغويّ عندهم، فكلما زاد عدد البدائل الممكنة في نصّ ما ارتفعت القيمة الإعلامية لاستعمال أيّ منها (5)، لذا تعمل على الارتقاء بالنصّ إلى المستوى الذي تتفاعل فيه اللغة والعقل والمجتمع بصورة فعالة ومعبرة (6)، وقسم البحث على:

المبحث الأول: المكونات التركيبية (الأفعال الاعلانية، الأبنية السطحية للتراكيب، الأبنية العميقة للتراكيب، أبنية المطابقة).

المبحث الثاني: المكونات التصويرية (الكناية، المجاز، الاستعارة، البديع) الخاتمة، قائمة المصادر.

ص: 241

المبحث الأول: المكونات التركيبية

تحتوي الإعلامية على مجموعة من الظواهر التركيبية التي تكشف عن المعاني المبتغاة من النص، لذلك تشكل هذه المكونات احد الجوانب الأساسية لكفاءة النص اللغوي وتعبيراته عن مقاصد الخطاب.

اولاً: الأفعال الاعلانية.

تعد هذه الأفعال احدى تقسيمات (اوستن) لأفعال الكلام، فيطابق محتواها القضوي للعالم الخارجي، فإذ أديت أنا فعل تعيينك رئيسًا للوفد أداءً ناجحًا فأنت رئيس الوفد، وإذا أديتُ فعل إعلان الحرب أداءً ناجحًا، فالحرب معلنة، فهي تحدث تغيرًا في الوضع القائم (7).

نجد هذه الأفعال الاعلانية التداولية في قول امير المؤمنين (عليه السلام) ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الاشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، عمارة بلادها)).

إن المتكلم الذي ينتج الخطاب ينجز نشاطًا خاصًا، أي ممارسة لغوية أو قصدًا أو هدفًا اجتماعيًا، فقد ينتج المتكلم خطابًا ليبلغ السامع معلومات معينة، وليحفز السامع على عمل فعل، أو ليشجعه على انجاز نشاط، أو ليقنع السامع، أو ليضع لديه احاسيس جمالية معينة (8)، ففي هذا الكلام المبارك من الإمام (عليه السلام) إلى مالك الاشتر (رضي الله عنه) يتضمن الكثير من المؤثرات الإعلامية التي تشد ذهن المتلقي للخطاب، فالفعل (أمر) مركز الخطاب الذي استندت عليه الأوامر الأخرى فهو يكشف عن الأمور الأتية:

ص: 242

الصحابي الجليل مالك الأشتر مؤهل لقيادة مصر فالإمام (عليه السلام) لديه معرفة سابقة بقدراته الإدارية والعسكرية وواثق من عدالته لأهل مصر فهو من ابرز أصحاب الإمام (عليه السلام)، وبهذه الأوامر وهذا العهد اصبح مالك الاشتر مكلف شرعيا من خليفة المسلمين ليكون واليًا على مصر.

وهذا الخطاب أمر من الخليفة ووصي الرسول صلى الله عليه و آله وسلم لكافة المسلمين أن يلتزموا بهذه الأوامر؛ لأن كلام الإمام المعصوم من بعد كلام الله والرسول وبذلك لا يختلف عنهما (القرآن الكريم والحديث الشريف) بالاطار العام لكن بالمضامين اكثر توسعا.

ثانيًا: التراكيب السطحية.

يتكون النص من تراكيب سطحية وأخرى عميقة، فالسطحية تتضمن مجموعة من الوسائل الظاهرة للمتلقي كالتكرار والحذف والتضاد والترادف والاشتراك والربط، فالتراكيب السطحية ذو طبيعة أفقية شكلية، يُعنى بالتتابع والترابط الجُملي للنصّ، والإجراءات المستعملة في توافر الترابط بين عناصره الظاهرة، فهي تؤدِّي إلى الربط بين للبنى النصّية (9).

1. التكرار: يعد التكرار من التشكيلات الإعلامية المؤثرة في المتلقي، فقد عرفه (السلجماسي، ت 704 ه) ((إعادة اللفظ بالعدد، وعلى الإطلاق المتّحد المعنى كذلك مرتين فصاعدًا، خشية تناسي الأوّل، لطول العهد به في القول)) (10).

وللمحدثين تعريفات للتكرار يمكن أن نلاحظ في ضوئها البعد الإعلامي منهم تمام حسان: ((و للتكرار أكثر من صورة فقد يكون تكراراً للفظ، وقد يكون تكرارًا للمعنى، كما قد يكون التكرار لمطلع الجملة لأداء غرض أسلوبي ما والتكرار إنّما يكون للتذكير أو للتعرف الذي كان غرض الأدوات)) (11)، بينما وصفه الازهر الزناد بالإحالة ((وتشمل الإحالة بالعودة على نوع آخر من الإحالة، يتمثّل في تكرار

ص: 243

لفظ، أو عدد من الألفاظ في بداية كلّ جملة من جُمل النصّ، قصد التأكيد، وهو إحالة تكراريّة)) (12)، وللتكرار انواع كثيرة عند المحدثين وسنكتفي بذكر نوعين:

- التكرار المحض أو التام: ويقصد به تكرار الكلمة نفسها (13) ونجد هذا النوع في اقوال الإمام علي(عليه السلام) ((وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله)).

قال الإمام (عليه السلام) في موضع آخر ((وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت))، ثم قال (عليه السلام) ((لا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يد لك بنقمته ولا غنى بك من عفوه ورحمته)).

ابانة هذه الاقوال المباركة عن تكرار اللفظ العام (النفس) بسياقات متنوعة ففي القول الأول ابانة عن أمر الإمام (عليه السلام) لمالك بان يكفي نفسه عن الشهوات عند منازعة النفس له، والثاني و شح بنفسك) عما لا يحل لك: الشح: البخل، و المراد: لا تسمح لها بالاسترسال في المحرمات، فإن الشح بالنفس الأنصاف: العدل، منها فيما أحبّت: من الرذائل، أو كرهت: من الفضائل، و المراد: أخذها على طريق الاستقامة والسداد، والثالث (لا تنصبن نفسك لحر الله) في مقام الظلم للعباد والمعنى لا تنصبن نفسك بالحرب لعباده، و إدخال الأذى عليهم، فإنه لا يدى لك: لا طاقة لك بدفعها.

نلاحظ قد عبرت النفس عن معاني متنوعة بتداخلها مع السياقات، فهذه المركبات تعد ذي اعلامية عالية التأثير في المتلقي فيقف في كل مرة إمام تعبير جديد.

- التكرار المترادف: فهو تكرار المحتوى بوساطة تعبيرات مختلفة، ويعمد إليه المتكلم لخلق حركة بين عناصر الخطاب فلا تتكرر الأسماء بذات الصيغ ولكن بصيغ مماثلة نحوًيا ومغايرة شكلاً، ويسمى أيضًا بالتكرار غير الصريح، أو

ص: 244

التكرار بالمعنى، فهو دلالة عدة كلمات مختلفة، ومنفردة على المسمى الواحد، أو المعنى الواحد دلالة واحدة (14).

قال الإمام علي (عليه السلام) ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق))، يتضمن هذا القول المبارك معاني سامية ذات البعد الإنساني الذي لايفرق بين الدين او العرق او اللون، فالإنسانية هي الرابط المشترك بين الناس، ف (الشعار): الثوب الذي يلي البدن، و المراد: عاملهم بمنتهى الرحمّة و المودّة، و اللطف بهم: ارأف بهم، و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا: المولع بأكل اللحم و المراد: لا تشتد و تتنمّر عليهم، فالثراء اللغوي الذي تضمنه قول الإمام (عليه السلام) يدل على عنايته بالمتلقي لذا نجد كل الالفاظ المتنوعة اشتركت بدلالة واحدة وهي الرحمة والرفق وعدم ظلم العباد.

2. التضام ((الارتباط المعتاد لكلمة في اللغة بكلمات أخرى معينة في الجمل)) (15)، وهذا الارتباط يعتاد مستعمل اللّغة وقوعه في استعماله اليومي المستمر للغة، إذ يمكنه أن يتوقع ورود كلمة معينة في النصّ عبر ذكر كلمة أخرى فيه (16)، وعرف (أولمان) بأنها: ((الارتباط الاعتيادي لكلمة ما في لغة بكلمات أخرى معينة وهذه العلاقة الرابطة بين زوج من الألفاظ متعدّدة جدًّا)) (17)، وعرفه (محمد خطابي) بأنها ((توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظراً لارتباطهما بهذهِ العلاقة أو تلك)) (18)، إذ هناك ((أزواج من الكلمات متصاحبة دوماً، بمعنى إذا ذكر أحدها يستدعي ذكر الآخر ومن ثم يظهران دوماً معا)) (19)، ونكتفي ببعض علاقات التضام.

- التضادّ بأنواعه المختلفة يعني الجمع بين كلمتين متضادّين تماما (20)، ومن ذلك

ص: 245

قوله (عليه السلام): ((وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين و هو للظّالمين بالمرصاد))، نجد التضاد بين لفظتا (المضطهدين و الظالمين)، فإن النعمة ستسلب وسيسرع العقاب، وذِكرُ أحد المتضادين يدعونا إلى أن نّستدعي ذِكر الأخرى، فالضدّ أكثر حضورًا في البال عند ذكر ضدّه فالتضاد الموجودَ يوسع للمتلقي زاوية النظر بين المُتضادات فالجمع بين وحدتين متقابلتين يمتاز بالتعبيرية والقدرة على الإيحاء وإثارة الانفعال وتمثيل التباين السطحي والعميق في الصورة والحدث، فإنّ استحضار المسمى ومقابله من أهم الوسائل اللغوية الأسلوبية لنقل الإحساس بالمعنىً والفكرة، والموقف نقلاً صادقاً (21).

- علاقة الأجزاء بعضها مع بعض الآخر، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فإن، جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه))، ان التناسق بين هذه الالفاظ يشكل روعة جمالية تؤثر في المتلقي فضلا عن سهولة فهم المتلقي لهذا القول ولم يحتج النصّ إلى سياقات أُخرى لفهمه وإدراك مغزاه لوضوح دلالة الألفاظ وعلاقتها المباشرة بالإنسان؛ لأنها جزءًا منه.

3. الربط: يقوم ((بإنشاء علاقة نحوية سياقية بين معنيين باستعمال واسطة تتمثل في أداة رابطة تدل على تلك العلاقة أو ضمير بارزٍ عائد، وتلجأ العربية إلى الربط إما لأمن اللبس في فهم الانفصال بين المعنيين، وإما لأمن اللبس في فهم الارتباط بين المعنيين، فالربط هو الحلقة الوسطى بين الارتباط والانفصال)) (22)، وللربط انواع كثيرة نذكر منها:

- الربط الإضافي: إضافة معنى التالي إلى السابق، وقد أطلق عليه الدكتور (تمام حسان) (الربط الجمعي) (23)، فالربط بهذا المفهوم تطرق إليه (الجرجاني) في أثناء

ص: 246

حديثه عن العطف، قائلًا: ((ولا يكون العطف في الكلام حتى يكون المعطوف والمعطوف عليه مجموعاً برابط يجعل من ضمهما أمراً مُمكِناً)) (24)، وتمثله الأدوات (الواو، أو) والتعبيرات (بالمثل، وأعني، وكذلك، وفضلًا عن ذلك وبالإضافة إلى ذلك ومثلًا ونحو) (25) ف (الواو) تفيد معنى التشريك، و (أو) تعطي معنى البديل (26).

قال الإمام علي (عليه السلام) ((أنصف الله و أنصف النّاس من نفسك، و من خاصّة أهلك، و من لك فيه هوى من رعيّتك، فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان الله حربًا حتى ينزع أو يتوب)).

يتضح الاتصال بين هذه الجمل بسبب وجود (الواو) التي تربط بينهما، فالعطف خلق توافقًا دلاليًا في المعنى، ثم أن الربط له دور رئيس في إفهام متلقيه عبر تشابك التسلسل الكلامي واللغوي، فيربط بين معاني الكلمات المتجاورة وكذلك الجمل المتجاورة ويكون حسنًا ذلك الربط إذا كانت الكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحمًا سليمًا، فالربط يحدد الأجزاء المراد تحليلها، من أجل أعادته بناء مكونات الخطاب (27) - الربط الاستدراكي: يعني تعقيب الكلامِ بنفي ما توهم منه ثبوته، أو إثبات ما يتوهم منه نفيه (28) و يستعمل اللسانيون النصيون مصطلح وصل النقيض حيث تكون العلاقة بين الأشياء متنافرة أو متعارضة في عالم النص، ويتمثل بالأداة (لكن، بل)، فالمعنى الأساسي لعلاقة الاستدراك هو عكس التوقع (29) قال الإمام علي (عليه السلام) ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعيةٍ، ولا أحرى بزوال نعمةٍ، وانقطاع مدةٍ... والله سبحانه

ص: 247

مبتدئ بالحكم بين العبادِ، فيما تسافكوا من الدماء يومِ القيامةِ، فلا تُقوِّينَّ سلطانك بسفك دمٍ حرامٍ، فإن ذلك مما يضعفهُ ويوهنهُ، بل يزيلهُ وينقلهُ. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتلٍ العمدٍ، لأن فيهٍ قودَ البدنٍ))، نجد في هذه الوصايا توافر أداة الربط بين الجملتين وهي (لكن) التي أدت إلى الربط عن طريق ربط الجملتين ومخالفة معنى الجملة الثانية من الجملة الأولى كما في مخالفة (مما يضعفه ويوهنه) والمراد به اضعاف سلطانك في حال مخالفة هذه الوصايا، ثم جاء الاستدراك ب (بل يزيله وينقله)، فكشف الخطاب عن مكون اعلامي ذات دلالة وهو التوكيد على إزالة الحكم إذ سفكت دماء الناس، فبهذه الأدوات يترابط الخطاب بين الجمل ويرتبط ترتيبها بطبيعة النصّ من حيث شكله وموضوعه، فالعطف يجمع عددا من الجمل على مستوى في نسق متزامن.

ثالثا: التراكيب العميقة.

1. تراكيب الاجمال والتفصيل: هذه العلاقة شديدة الصلة بالبنية العميقة؛ لأن التفصيل يحمل المرجعية الخلفية لما سبق إجماله (30)، نحو قوله (عليه السلام) ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها والوزر بما نقضت منها))، ابتدأ قول الامام (عليه السلام) بقول مجمل (ولا تنقض سنة صالحة)، ثم فصل القول بالسُنَّة الصالحة (عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت عليها الألفة، وصلحت عليها الرعية)، فعلاقة الإجمال والتفصيل عملت على توضيحِ ما غمض من معانيه وتتأكد وظيفتها من تلاحم العناصر المتباعدة للنص وضمان ارتباطها ببعضها عن طريق استمرار دلالةٍ معينةٍ في الأجزاء اللاحقة منه وهذا كله مكون إعلامي مؤثر في

ص: 248

توضيح الخطاب لمتلقيه (31) 2. تراكيب العموم والخصوص: في بعض النصوص ترد ألفاظ وقضايا عامة تنمو بتتابع النصّ وتتلاحم فيما بينها مما يعطي النصّ حيوية تجعله في حالة تفاعل وتأثير، فالخطاب قام بين لفظ عام وأخر خاص أو محدد وهذا يخلق نصًا دلالیًا (32)، مع الكشف عن المضمون الرابط بين العلاقة، والثعالبي أطلق على هذا النوع (الكليات) ومثل له بلفظ (كل) وما تضاف إليه (33).

قال الإمام علي (عليه السلام) ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًا، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلاتٍ صوافي الإسلام في كل بلد، فغن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قدٍ استرعت حقه؛ فلا يشغلنك عنهم بطرٌ))، ورد في هذه العهد المبارك اللفاظ تدل على العموم ك (من): فهي مبهمة وعبارة عن ذات من يعقل، وتحتمل الخصوص والعموم، فتضمن هذا اللفظ العام (المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني)، 3. التراكيب الترتيبية: انتظام الجمل في النصّ دليل على تماسك الخطاب الذي خلقه النص، ثم الروابط المكونة لذلك النص تنسج الخيوط التي يتوصل بها الفكر لتنظيم عناصر عالم الخطاب (34)، فالأدلة اللغوية في النصّ تؤدي إلى التعبير عن المفاهيم مثل الأشياء أو الأحداث وهذا يخلق ترابطًا بين العبارات المتتالية (35).

قال الإمام علي (عليه السلام) ((واعلم أن الرعية طبقات بعضها إلا ببعضٍ، و لاغنى ببعضها عن بعضٍ: فمنها جنود الله ومنها كُتابُ العامةٍ والخاصةٍ ومنها

ص: 249

قضاة العدلٍ، ومنها عُمالُ الإنصاف والرفقٍ، ومنها أهل الجزية والخراجٍ من أهل الذمةٍ ومسلمةٍ الناس، ومنها التجارة وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله له سمه))، جاء الترتيب في هذا القول المبارك وفقًا لرؤية صائبة من بيت الوحي والرسالة ومن ولي الله ووصي الرسول الأعظم وخليفة المسلمين، إذًا هذا الرؤية شاملة لأصناف الدولة وطبقات المجتمع ففي كل طبقة يضع الامام (عليه السلام) شروطًا لها ويبين ما تحتاجه من مقومات النهوض بها.

فالإعلامية كشفت لقارئ هذا الخطاب الترتيب والتصنيف الناتج عن حكمة وادراك واسع لإدارة الدولة والتشخيص الصحيح لمعالجة كل ضعف في طبقات المجتمع فإنه خطابا شاملًا يراعي فيه الإمام (عليه السلام) أصناف المتلقين.

4. التراكيب الاستقصائية (الإضافة): تخلق هذه التراكيب إعلامية مبتغاها الوصول إلى المعنى المنشود من الخطاب مثلاً: أن المادح لا يدع شيئًا إلا وقد ذكره مبالغة أو احتراسًا من التقصير (36)، فتؤدي هذه العلاقة إلى حصول معنى جديد في كل جملة حيث يمثل فصلًا تكونه جملة مشاهد تتكامل لتعطي نسقًا للخطاب (37)، وتتضمن بنيات متوازية سواء لمشارك واحد أم لأكثر من مشارك و- المشارك - هو فاعل الحدث في المتواليات الجملية في علاقة الإضافة (38).

قال الإمام علي (عليه السلام): ((فالجنودُ، بإذن اللهِ، حُصونُ الرعية، وزينُ الولاةِ، وعزُّ الدينِ، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، قم لا قيام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يَقوَونَ به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكونُ من وراءٍ حاجتهم))، فالإمام (عليه السلام) يذكر الجنود ثم يستمر خطابه بذكر جمل المدح لهم فيجد المتلقي نفسه إمام تراكيب إعلامية عميقة المعنى في كل جملة حتى يصل الخطاب إلى المعنى الکلي هو (وليس تقوم الرعية إلا بهم) نستشف

ص: 250

من هذا الخطاب إن الإمام (عليه السلام) يعد المؤسسة العسكرية أحدى اركان الدولة إذ بها تحفظ الشعوب کرامته واستقرارها.

رابعًا: أبنية المطابقة

للمطابقة تأثيرا في تشكيل مكونات الإعلامية التي تتوزع بين ابنية الخطاب، وأجزاءه المتصلة بروابط تساعد على خلق معانٍ جديدة في كل مراحل الخطاب، فالمطابقة، مجموعة من العناصر اللغوية التي تؤدي وظائف متماثلة أو متشابهة، أو تدل على معان نحوية، كالأعراب، والعدد من إفراد و تثنية وجمع، وکالتنكير والتعريف، وكالجنس من تذکیر وتأنيث، وكالشخص من تكلم وخطاب وغيبة.

- المطابقة بضمير الشأن، ويؤتي لتعظيم الامر وتفخيم الشأن ومن ذلك قوله: (عليه السلام) ((وليس شيءٌ أدعى إلى تغييرِ نعمهِ اللهِ وتعجيلِ نقمتهِ من إقامةٍ على ظلمٍ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد))، طابق ضمير الشأن (هو) لفظ الله جل جلاله و مطابقا له في التذكير والافراد.

- المطابقة بين الضمير المتصل ومرجعه بالجمع، كقوله (عليه السلام): ((فولَّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسولِه ولإمامكَ، وأنقاهم جيبًا، وأفضلهم حلمًا، من يبطئُ عن الغضب، ويبنوا على الأقوياءِ))، فالضمائر في اللفاظ (أنصحهم، أنقاهم، أفضلهم) تطابق المرجع (جنودك) في التذكير والجمع.

- المطابقة بين الضمير المتصل ومرجعه بالأفراد، كو قله: (عليه السلام) ((إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروتهِ، فإن الله يُذلَّ كل جبارٍ، ويهين کُل محتالٍ))، مطابقة بين الضمير في اللفظ (عظمته، به، جبروته) مع لفظ الجلالة (الله).

- إذًا المطابقة بين الاسم المحال والمحال إليه، تخلق ترابط بين أجزاء الخطاب،

ص: 251

فالشخص يميز بالضمائر بين التكلم والخطاب والغيبة والعدد ويميز بين الاسم والاسم والصفة، وعلى هذا المعنى يشكل تأثيرًا على ابعاد الخطاب.

المبحث الثاني: المكونات التصورية.

أولًا: المجاز.

يشكل المجاز اهم مكونات الإعلامية؛ لأنه يشمل على أساليب التعبير الغير المباشر الذي يكون في معظم الأحيان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرًا من التعبير المباشر، فينتج استعمال المجاز للمتكلم ابتکار معاني جديدة وصور بديعية، فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب العلاقةٍ مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي، والعلاقة هي المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي (39) فهو ينتقل بذهن السامع إلى آفاق جديدة ذات أبعاد جديدة والتخطي معه إلى صور رائعة ومشاهد متناسقة لا تتأتي بالاستعمال الحقيقي ويحمل إعلامية تصّور حيوية النصّ في ضوء انفتاحه للمتلقي، مما يديم العملية الوظيفية التفاعلية بين المتلقي وبين النصّ، وخلق نوع من التقارب بينهما (40).

1. الاستعارة: وهي ((استعمال لفظٍ ما في غير ووُضع له في اصطلاح به التخاطب، لعلاقة المشابه، مع قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الموضوع له في اصطلاحٍ به التخاطب)) (41)، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((ثمَّ الله الله في الطبقةِ السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البُؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًا، واحفظ ماستحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيتِ مالك، وقسمًا من علات صوافي الإسلام في كل بلد)).

ص: 252

البؤسی: بضم أوله - شدة الفقر.

الزمني: بفتح أوله - جمع زمين وهو المصاب بالزمانة لابفتح الزاي - أي العاهة ویرید أرباب العاهات المانعة لهم عن الأسباب.

القانع: السائل.

المعتر: بتشديد الراء - المتعرض للعطاء بلا سؤال غلات: ثمرات.

صواني الإسلام - جمع صافية - وهي أرض الغنيمة استعار الإمام (عليه السلام) هذه الكلمات وأراد بها معاني أخرى، إذ صرح بها بذات اللفظ المستعار.

وفي الاستعارة المكنية، التي لم يصرح المتكلم باللفظ المستعار، وإنما ذُكِرَ فيها شيئًا من صفاته أو لوازمه القريبة أو البعيدة (42)، كقول الإمام (عليه السلام): ((وأوقفهم في الشبهات، واخذهم بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشُّفِ الأمور، واصر معهم عن اتضاح الحكم))، استعار الإمام (عليه السلام) كلمة (الشبهات) واراد بها: مالا يتضح الحكم فيه بالنص، وفيها ينبغي الوقوف على القضاء حتى یرد الحادثة على اصل الصحيح، وهذا فيه تعبير عن تشريع القوانين في المحاكم، استعار كلمة (تبرمًا) والمعنى أن تكون اقلهم مللاً وضجرًا، واستعمل (اصر معهم) والمعنى أقطعهم للخصومة وامضاهم، فأبانت الاستعارة عن أُصدق تعبير تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه وتصور المنظر للعين وتنقل الصوت الأذن و تجعل الأمر المعنوي ملموسًا محسوسًا هذه المعنى حقيقة الإعلامية في النصّ (43)، فالاستعارة مكون إعلامي مؤثر يرسم البعد الخطابي لقصد المتكلم، لما فيها من استثارة لإعجاب المتلقي وتملك انتباه وتؤثر فيه، ولاسيما حينما

ص: 253

تكون استعارة غريبة غير متداولة ولا يتنبهُ لاصطيادها إلا فطناء البلغاء، فنجد عهد الإمام (عليه السلام) لمالك (رضي الله عنه) خطاب لكافة طبقات الناس ويفهمه كل المتلقين.

2. المجاز المرسل: هو الذي تكون العلاقة فيه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي الذي استعمل اللفظ للدلالة به عليه أمرًا غير المتشابه (44) قال الإمام (عليه السلام) ((واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقًا فاحشًا وشحا قبیحًا، واحتكارًا للمنافعٍ وتحكمًا في المبيعات، وذلك باب مضرةٍ للعامة))، فالاحتكار للبضائع والمبيعات وحرمان الناس منها الا بمبالغ كبيرة، هذا سيولد مضار للدولة ولعامة الناس، وهذا إطلاق المُسبب وإرادة السبب، وفائدة هذا المجاز الدلالة على المعنيين مع كمال الإيجاز.

ويتضمن كلام الإمام (عليه السلام) كثير الكثير من المجاز ومن ذلك ((أنصف الله وانصف الناس...، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله ادحض حجةُ، وكان الله حربًا ينزع أو يتوب))، (من ظلم عباد الله) مجاز مرسل، علاقته العموم، فان المراد من منه هو مالك (رضي الله عنه).

ووجدنا الصيغة الخبرية المسوقة للدلالة بها على إنشاء الأمر أو النهي، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلًا يعدلُ بك عن الفضلِ، ويعدك الفقرَ، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزين لك الشرة بالجورِ، فإن البخل والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الضن باللهِ))، فالصيغة موضوعة للنفي الخبري وقد استعملت في النهي عن هذه المور مجازًا، والعلاقة المسببية لأن حصول النفي في الواقع مسبب عن البخل والحرص سوء الضن، لأن إنشاء المتكلم للعبارة سبب الأخباره بما تتضمنه، فظاهره أمرُ، ومعناه خبر.

ص: 254

ثانيًا: الكناية.

((ما يتكلم به الإنسان، ويريد به غيره، وهي: مصدر کنیت، أو كنوت بكذا، عن كذا، إذا تركت التصريح به، واصطلاحاً: لفظ أريد به غيرُ معناهُ الذي وضع له، مع جواز إرادة المعنى)) (45) قال الإمام (عليه السلام): ((ثُم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكهُ الخصومُ، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمعٍ، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاهُ))، في هذا القول المبارك جاءت الكناية عن موصوف، إذ ذكر الإمام (عليه السلام) صفات رجل القضاء منها لا يكون ماحقا لجوجًا - أصر على رأيه - ولا يستمر ويسترسل بالزلة، ولا يعيا في المنطق، وعليه الرجوع إلى الحق، فالكناية احدثت ترابط بين الألفاظ والكلمات التي تدل على تصورات و تحكمها علاقات القرابة ثم تؤثر في مجالات الوعي البشري وتشكل إعلامية الخطاب في توسع الدائرة الوجدانية للمتلقي الذي يستطيع استشفافها من خلال السياق الفني (46).

ثالثا: التعريض:

((أعراضُ الكلام ومعارضهُ ومعاريضهُ، كلام غير ظاهر الدلالة على المراد)) (47)، وفي التعريض مزيد من إخفاء يجعلهُ أكثر قبولًا حينما يكون التصريح مثيرًا لغضبِ، أو نقد، أو اتهام أو عدل وتلويم، أو يكشف أمرًا يجب ستره عن الرُّقباء، فيقوم التعريض مقام الألغاز والرمز الخفي (48).

قال الإمام (عليه السلام): ((ثم انظر في أمور عُمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا توهم محاباة وأثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتاتِ الصالحةِ، والقدم في الإسلامِ المتقدمةِ، فإنهم أكرمُ أخلاقاً،

ص: 255

وأصح أعراضًا، وأقل في المطامع إشراقًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا)).

في هذا القول المبارك تعريض لاختيار الموظفين لتولي مناصب الدولة وقدد وضع الإمام (عليه السلام) معايير لاختيارهم، ثم إشار الإمام (عليه السلام) إلى الاختيار من أهل البيوت الصالحةِ والقدم في الإسلام، فهذه إشارة لكل القادة عليهم التحقق من اختيار الموظف المنصب ما، فالنظر في دينه واخلاقه واصله مهم،

رابعًا: التشبيه.

((عقد مماثلة بين أمرين، أو: أكثر، قصد اشتراكهما في صفة: أو: أكثر، بأداة: لغرض يقصد المتكلم للعلم)) (49)، و للتّشبيه ((روعة وجمال، وموقع حسنٌ في البلاغة: وذلك لإخراجه الخفي إلى الجلي، وإدنائه البعيد من القريب، یزید المعاني رفعة ووضوحاً ويكسبُها جمالا وفضلا، ويكسوها شرفا ونُبلا، فهو فن واسع النطاق، فسيح الخطو، ممتدُ الحواشي مُتَشعب الأطراف مُتوعر المسلك، غامض المدرك، دقیق المجرى غزير الجدَوى)) (50).

قال الإمام علي (عليه السلام): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخُّ لك في الدين، أو نظيرُّ لك في الخلقِ))، يحمل قول الإمام (عليه السلام) صورة بليغية تشبيهية متمثل بالسبع الضاري الذي يغتنم أكلهم، فشبه الإمام (عليه السلام) القائد الذي ينتهز الفرص للانقضاض على رعية وسلب حقهم بأنه سبعًا ضاریًا، التشبيه يعد مكون إعلامي يبين عن بعد خطابي هو ((يزيد المعنی وُضوحًا، ويُكسبه تأكيدًا، ولهذا أطبق المتكلمين من العرب والعجم عليه ولم يستغن أحدٌ عنه)) (51)، فالصور التشبيهية ذات جمالٍ يُرضي أذواق المتلقين ويمتعهم، ويقدم لهم لوحاتٍ جمالية مختلفة، تؤثر في النفوس وتعبر عن مراد المتكلم (52)

ص: 256

قال الإمام (عليه السلام): (( ولا تدخلن في مشورتك بخيلًا يعدلُ بك عن الفضل، ويعدك الفقر، وجبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يُزين لك الشرة بالجور، فإن البخل والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الضن بالله)).

شبه الإمام (عليه السلام) المستشار البخيل بأنه يعدل القائد عن الإحسان بالبدل ويخوفك لو بذلت، وشبه المستشار الجبان بأنه يزين لك الحرص، ثم شبه البخل والحرص طبائع متفرقة. فهذا التشبيه مؤكد مفصل ذكر فيه وجه الشبه ولم تُذكر فيه أداة التشبيه، فالأنواع السابقة للتشبيه ابانة عن شحذ ذهن المتلقي وتحريكُ طاقاته الفكرية، أو استرضاء ذكائه، لتوجيه عناية، حتى يتأمل ويتفكر ويصل إلى إدراك المراد عن طريق التفكير، وتقديم أفكار جديدة ودقيقة وهي مما يحتاج بیانه عن طريق التشبيه كلامًا كثيرًا بأخصر عبارة، وهنا يكمن جوهلا الإعلامية الفعالة ذات الكفاءة الإنتاجية العالية المؤثرة في تشكيل ابعاد الخطاب (53).

خامساً: البديع.

علم یعرف به الوجوه كتحسين أساليب وطرق معلومة وضعت لتزيين الكلام وتنميقه وتحسين الكلام والمزايا التي تزيد الكلام حسنا وطلاوة، وتسکوه بهاءً، ورونقاً، بعد مطابقته لمقتضى الحال مع وضوح دلالته على المراد لفظا ومعنى (54) ويتضمن عهد الإمام (عليه السلام) الكثير من المحسنات البديعية، منها المعنوية کالاتي:

1. التورية: إن يذكر المتكلم في النص، أحدهم ظاهر قريبٌ يتبادرٌ إلى الذهن وهو غير مراد والآخرُ بعيد فيه نوع خفاء وهو المعنى المراد، ویُورَّی عنه بالمعنى القريب ليسبق الذهن إليه ويتوهمهُ قبل التأمل، وبعد التأمل يتنبه المتلقي فيدرك المعنى

ص: 257

الآخر المراد (55).

قال الإمام (عليه السلام): ((والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يُطروك ولا يبجحوك بباطلٍ لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدثُ الزهو وتدني من العزة))، نجد التورية في هذا القول المبارك تحمل معنيين، الأول: يامالك (رضي الله عنه) کون قريبًا جدًا من أهل الورع والصدق وعبر الإمام (عليه السلام) الفعل المتعدي لصق تعبيرًا مبالغًا عن القرب من هؤلاء الناس، والمعنى الثاني، رغم انهم أهل ورع وصدق بمدحهم المبالغ لك و تعظیم عمل لم تفعله، فهذه الأمور تسبب لك العجب.

2. الطباق: يعني الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((فلا تطولن احتجابك عن رعيتك... والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ماحتاجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل... وليست على الحق سماتٌ تعرف بها ضُرُوبُ الصدق من الكذب))، في هذا النص أمثلة من الطباق:

- المقابلة بين (فيصغر عندهم الكبير، ويعظم، الصغير)، والمقابلة بين (ويقبح الحسن، ويحسن القبيح)، نلاحظ أن في كل من الجملتين طباقًا، وأن في الجملتين معًا مقابلة، فالصغير في الأولى يضاد الكبير، والعظيم يقابل في الثانية الصغير، وكذلك في القول النص الثاني، يقبح يضاد الحسن في الجملة الأولى، وفي الجملة الثانية، يحسن يقابل القبيح، وجاء هذا التقابل في الثانية على الترتيب الذي جاء في الأولى.

- الطباق بين (الحق، الباطل) - الطباق بين (الصدق، الكذب).

ص: 258

فالعنصر الجمالي للطباق في الخطاب يشكل استدعاء بين الأفكار في الأذهان، فهي المقابلات أقرب تخاطرًا إلى الأذهان المتلقي من المتشابهات، ويزيد على ذلك تشكل جانبًا مهمًا من مكونات الإعلامية.

3. مراعاة النظير: هي ((الجمع بين أمرين، أو أمور متناسبة، لا على جهة التضاد، وذلك إما بين اثنين، وأما بين أكثر، ويلحق بمراعاة النظير، ما بني على المناسبة في "المعنى" بين طرفي الكلام يعني: أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى)) (56) قال الإمام (عليه السلام):((ولا تدفعنَّ صلحَا دعاك إليه عدوك والله فيه رضىَّ، فإن في الصلح دعةً لجنودك، وراحة من همومك، وأمنًا لبلادك))، فابتدأ القول بالصلح، ثم استمر بالبدعة (راحة، أو سكينة، أو رغد عيشٍ) الجنود وراحة من الهموم ثم جاءت الخاتمة بالأمن للبلاد كل ذلك المناسبة لما ابتدأ به القول، إذ ترتب على الصلح باقي الفوائد التي وردت بعده، 4. الاستخدام: ((ذكر لفظ مشترك بين معنيين، يراد به أحدهما ثم يعاد عليه ضمير، أو إشارة، بمعناه الآخر، أو يعاد عليه ضميران يراد بثانيهما غير ما يراد بأولهما)) (57)، نحو قوله (عليه السلام): ((إياك والدماء وسفكها بغير حلِّها، فإنه ليس شيء أدني لنقمةٍ، ولا اعظم لتبعةٍ، وانقطاع مُدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها))، ذكر الإمام (عليه السلام) في بداية القول المبارك تحذير وتنبيه لسفك الدماء بغير حلِّها، فاختتم القول بجملة من سفك الدماء بغير حقها، فإحاله الضمير على الدماء، فسفك الدماء بغير حقها ينتج عنه زوال النعمة... الخ، فالاستخدام يؤدي إلى معنين أحدهما، مجاز في القول، والآخر تقدیر ذکاء المتلقي وارضاؤه، مما يشكل كفاءة إعلامية تسهم في بلورة خطاب ذات بعد دلالي (58)، ثم نبحث في القسم الثاني المن المحسنات البديعية الأخرى (اللفظية) ومنها:

ص: 259

3. الجناس: يتشابه اللفظان في النطق ويختلفان في المعنى (59)، نحو قوله (عليه السلام): ((فلا تُقوَّين سلطانك بسفكِ دمٍ حرامٍ، فإن ذلك مما يضعفهُ ويوهنه سلطانك، بل يزيلهُ وينقلهُ... وإن ابتليت بخطاءٍ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة))، نجد الجناس بين بين (يضعفه ويوهنه)، (يزيلهُ و ينقلهُ)، (سوطك أو سيفك)، وهذا النوع من جناس القلب، وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب الحروف (اختلاف الكل).

4. السجعُ: هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير، وهو في النثر کالقافية في الشعر، من ذلك قوله (عليه السلام): ((واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تفرعُ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عاًما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك و أعوانك، من أحرسك وشرطك))، نحد السجع المتوازي في قول الإمام (عليه السلام) المتمثل ب (شخصك، خلقك) (جندك، أعوانك، أحرسك، شرطك)، وهو الذي تكون الكلمتان الأخيرتان من السجعتين متفقتين في الوزن وفي الحرف الخير منهما مع وجود اختلافٍ ما قبلهما.

5. رد العجزُ على الصَّدر: ((عبارة عن كل كلام بين صدره وعجزه رابطة لفظية غالبا، أو معنوية نادرة، تحصل بها الملامة والتلاحم بين كل کلام)) (60)، ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك))، وهذا النوع ما وفق اخر كلمة من الكلام بعض كلمات صدره.

6. ائتلاف اللفظ مع المعنى: ((ألفاظ المعنى يلائم بعضها بعضا ليس فيها لفظة نافرة عن اخواتها، غير لائقة بمكانها، كلها موصوف بحسن الجوار)) (61).

قال الإمام علي (عليه السلام): ((ما أنتَ فيهِ من سلطانك أبيةً أو مخيلةً فانظر إلى عظم ملكِ الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك،

ص: 260

فإن ذلك يُطامنُ إليك من طماحك، ويكف عنك من غرابك، ويفي إليك بما عزب)) جاء في هذه النص تلاؤم بين اللفظ المختار والمعنى المراد به، فاختار الإمام (عليه السلام) لفظة (ابهة) وتدل على العظمة والكبرياء ولفظة (مخيلة) التي تدل على الخيلاء والعجب، مناسبة لقوله (عليه السلام) انظر لملك الله، والمعنى كل التكبر والعظمة والخيلاء لا تساوي شيئًا إمام ملك الله العظيم، ثم استمر التناسق بين مفردات النص وصولاً إلى قوله قدرته منك على ما لا تقدر عليه ناسب لفظ (يطامن) ومعناه يخفض ذلك من طموحك إمام عظمة الخالق، وجاء بلفظة (ويفي)، (عزب) ومعناه يرجع إليك بما غاب عنك عقلك من ملك الله وقدرة سبحانه.

ولو تتبعنا ذلك لوجدنا هناك بعض الأمثلة المحتوية على ذلك إلا أننا اكتفينا في عرض هذه الأمثلة لبيان مدى مساهمتها في تماسك النصّ لفظیًا ومعنويًا مع مساعدتها ببعض وسائل الاتساق الأخرى.

خامسًا: الايجاز.

يعني التعبير عن المراد بكلامٍ قصير ناقص عن الالفاظ التي يؤدي بها عادة في متعارف الناس، مع وفائه بالدلالة على المقصود (62)، ومن ذلك:

1. ایجاز القصر: يعني إثبات الحكم للمذكور في الكلام ونفيه عما عداه، أو هو تخصيص أمر بأمر، أو هو تخصيص شيءٍ بشيءٍ بعبارة كلامية تدل عليه (63)، فهو من الأساليب التي عني بها البلاغيون وذلك لما يضفيه من قوة التأثر وجمال التعبير (64)، كقوله (عليه السلام): ((أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، وأتباع ما أمر به في كتابه: من فرائض وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ولا يشفى إلا

ص: 261

مع جحودها واضاعتها)) في هذا النص قصر إضافي وهو ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة إلى شيء معين، نحو ما علي إلا قائم، أي أن له صفة القيام لا صفة القعود، فخص الإمام (عليه السلام) السعادة بطاعة الله، وبجحودها وإضاعتها يشقى الانسان وهو كلام خاص لمالك (رضي الله عنه) يتضمن معنى العموم إلى كافة الناس، فالطرف الآخر في عملية الاتصال هو المتلقّي فالوظيفة التي تقابله هي الوظيفة إلافهامية وتتمثّل في العبارات التي يطلقها المرسل (المتكلّم) لإثارة انتباه المرسل إليه (المستمع)، لطلب القيام بعمل ما، ويأخذ بوساطتها النصّ قيمته التداولية.

2. ايجاز الحذف: يكون قصر الكلام فيه بسبب استعمال حذف بعضه اكتفاء بدلالة القرائن على ما حذف، نحو قوله (عليه السلام): ((ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دولٌ قبلك، من عدل وجورٍ)).

تضمن هذا النص محذوفا متمثل ب (مصر)، کون مالك ارسله الإمام علي (عليه السلام) واليًا عليها، ثم کشف قوله (عليه السلام) ((وجهتك إلى بلاد... من عدلٍ وجورٍ)) دلالة ذات بعد خطابي يجذب انتباه المتلقي بحكم التفكير بالتاريخ البعيد الحكام هذه البلاد من جور مثله فرعون وعد مثله یوسف (عليه السلام)، فالحذف يعد اختصارًا واقتصادًا في التعبير، وتحقق المطلوب بظهور المعنى المراد لدى المتلقي، لذلك يشكل الحذف اهم مكون إعلامي يرفع كفاءة النصّ.

ص: 262

سادسًا: الاطناب.

((كون الكلام زائدًا عما يُمكن أن يُؤدي به من المعاني في معتاد، لفائدة تقصد)) (65)، ونجد هذا المكون المؤثر في قول الإمام (عليه السلام): ((ولیکن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، واجتمعها لرضي الرعية، فإن سُخط العالمة يجحف برض الخاصة وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنةً في الرخاءِ وأقل معونة له في البلاد، وأكرهَ للإنصاف وأسال بالإلحاق، وأقل شُكرًا عند الإعطاءِ، وأبطأ عذرًا عن المنع، وأضعف صبر عند ملماتِ الدهر من أهل الخاصة، وإنما عمادُ الدينِ، وجماعُ المسلمينَ والعدَّةُ للأعداء، والعامة من الأمةِ؛ فليكن صغوكَ لهم وميلك معهم))، في هذا النصّ إطناب، يتضمن توجيه مالك لأساسيات قيادة البلاد وأهمها العدل بين الناس، فعندما يعدل القائد بين رعية الخاصة وعامة الناس، يرضى عليه العامة وعكس هذا الأمر يخلق سخطًا عند العامة، وعلى القائد العادل أن يقلل شكره عند إعطائه للرعية لأن هذا واجبه اتجاه شعبه، وأهم ركيزة تجعل القائد ناجحًا هي جعل جمع المسلمين هم عمادُ الدين وليس خاصة، فعليه أن يميل للعامة من الأمة، فذكر الإمام (عليه السلام) هذه الطائفة من وجبات القائد اتجاه شعبه، فكلُّ واحدة منها تضمن مجموعة من الصفات، وعلى هذا المعنى إقامة الإمام (عليه السلام) الأدلة دون زيادة في الألفاظ عند ذكر كل واجب.

ص: 263

الخاتمة

الإعلامية متأصلة الجذر في النصّ العربي؛ لأنها تشارك في الكشف عن ابعاد الخطاب وموضوعاته.

أظهرت الدراسة عن لغة سامية ذات بنية عميقة لها دلائل متنوعة الأهداف في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)، فتضمن هذا النصّ المكونات المختلفة للإعلامية.

تضمن العهد المبارك التراكيب السطحية كالحذف والتكرار والربط، وكذلك التراكيب العميقة كالإجمال والتفصيل والعموم و الخصوص، فساهمت هذه الظواهر عن إخراج نص ذات مستوى عالٍ من السبك والأسلوب الراقي في معناه.

أوضح النصّ المكونات التصويرية كالمجاز والكناية والتعريض والتشبيه والايجاز والاطناب وغيرها من الأساليب التي ساهمت على الارتقاء بالنص إلى المستوى الذي تتفاعل فيه اللغة والعقل والمجتمع بصورة فعالة ومعبرة.

ص: 264

الهوامش

1. العمدة في محاسن الشعر: 2/ 93.

2. دلائل الإعجاز: 263.

3. قراءة في (معنى المعنى) عند عبد القاهر الجرجاني: 40.

4. ينظر: مدخل إلى علم لغة النصّ، إلهام أبو غزالة: 33.

5. ينظر: مدخل إلى علم لغة النصّ، د. الهام أبو غزالة: 185.

6. ينظر: النصّ والخطاب والأجراء: 8.

7. ينظر: افاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود احمد نخلة، 80 8. ينظر: علم لغة النص: 48 9. ينظر: في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية: 229.

10. المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع: 477 - 478.

11. مقالات في اللغة والأدب: 1/ 189.

12. نسيج النصّ: 119.

13. ينظر الترابط النصّي في ضوء التحليل اللساني للخاطب: 66.

14. ينظر: المزهر: 1/ 402.

15. المعنى وضلال المعنى: 122.

16. ينظر: نظريّة علم النصّ:

111 17. البديع بين البلاغة العربية: 107.

18. نحو النصّ اتجاه جديد في الدرس النحوي: 113.

ص: 265

19. البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصّية: 107.

20. ينظر: إشكالات النصّ: 366.

21. ينظر: إبداع الدلالة: 71.

22. نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 1.

23. ينظر: النصّ والخطاب والإجراء: 346.

24. دلائل الأعجاز: 225.

25. ينظر لسانیات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب: 23.

26. ينظر: علم لغة النصّ، عزة شبل: 111.

27. ينظر: الأبداع الموازي (التحليل النصّي للشعر): 15.

28. ينظر: حاشية الصبان: 1/ 423.

29. ينظر: علم لغة النص، عزة شبل: 111 - 112.

30. ينظر: بلاغة النصّ مدخل نظري ودراسة تطبيقية: 17.

31. ينظر: لسانیات النصّ النظرية والتطبيق: 144 - 145.

32. ينظر: النصّ والخطاب والأجراء: 195 - 314.

33. ينظر: علم الدلاة التطبيقي في التراث العربي: 622 34. ينظر: نسيج النصّ: 67.

35. ينظر: اللسانيات، جان بیرو: 117.

36. ينظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: 2/ 50.

37. ينظر: لسانیات النص، د. أحمد مداس: 81.

ص: 266

38. ينظر: البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصّية 144.

39. ينظر: اسرار البلاغة: 249، جواهر البلاغة: 251.

40. أصول البيان العربي: 38، اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة: 103.

41. البلاغة العربية أساسها علومها: 229 42. المصدر نفسه: 243.

43. ينظر: البلاغة العربية في ضوء منهج متكامل: 109.

44. ينر البلاغة العربية أساسها وفنونها: 271.

45. جواهر البلاغة: 286 - 287.

46. ينظر: اتجاهات البحث اللساني: 36.

47. البلاغة العربية: 152 48. ينظر: المصدر نفسه: 154 49. جواهر البلاغة: 219 50. المصدر نفسه: 219 51. الصناعتين:

52. ينظر البلاغة العربية: 167.

53. البلاغة العربية: 170.

54. ينظر: جواهر البلاغة: 298.

55. ينظر: البلاغة العربية: 373.

56. جواهر البلاغة: 304.

ص: 267

57. جواهر البلاغة: 301.

58. ينطر: البلاغة العربية: 401 59. ينظر المصدر نفسه: 485 60. بديع القرآن: 2/ 36.

61. المصدر نفسه: 67.

62. ينظر: البلاغة العربية: 26.

63. ينظر: علوم البلاغة البيان، المعاني البديع: 150، البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها: 523.

64. ينظر: بلاغة التركيب دراسة في علم المعاني: 218.

65. ينظر البلاغة العربية: 60

ص: 268

روافد البحث

1. إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي (مدخل لغوي أسلوبي)، د. محمد العبد، ط 2، جامعة عين شمس، مكتبة الآداب، 1428 - 2002 م.

2. الأبداع الموازي (التحليل النصي للشعر)، محمد عبد اللطيف حماسة، دار غریب للطباعة والنشر، ط 1، 2001.

3. اتجاهات البحث اللساني، ميلكا إفيش، ترجمة، سعد مصلوح، وفاء کامل، المجلس الأعلى للثقافة، ط 2، 200.

4. أسرار البلاغة في علم البيان، الجرجاني الدار (ت: 471 ه)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 1422 ه - 2001 م.

5. أشكال النص دراسة لسانية نصية، جمعان بن عبد الكريم، الدار البيضاء، بیروت، ط 1، 2009.

6. أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم، محمد حسين علي الصغير الناشر: دار المؤرخ العربي، بيروت، ط 1، 1420 ه - 1999 م.

7. أفاق جدية في البحث اللغوي المعاصر، د. محمود احمد نخلة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية - مصر، 2002.

8. بدیع القرآن، ابن أبي الإصبع المصريّ (ت 654)، تحقيق، حفني محمد شرف، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2008.

9. البديع بين البلاغة العربيّة واللسانيّات النّصيّة، د. جميل عبد المجيد، الهيئة المصرية للكتاب، الإسكندرية، 1998.

ص: 269

10. البلاغة أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن حنكة الميداني، دار القلم، دمشق، ط 1، 1416 ه - 1996 م.

11. البلاغة العربية في ضوء منهج متكامل، د. محمد بركات، دار البشير للتوزيع والنشر، عمان، ط 1، 1412 ه - 1992 م.

12. بلاغة النص مدخل نظري ودراسة تطبيقية، د. جميل عبد المجيد، درار غریب للطباعة والنشر، القاهرة، 1999 م.

13. بلاغة التركيب دراسة في علم المعاني، د. توفيق الفيل، مكتبة الآداب القاهرة، 1991.

14. الترابط النصي في ضوء تحليل الخطاب، خليل بن ياسر البطاشي، دار جریر، ط 1، 1430 ه - 2009 م.

15. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد مصطفی الهاشمي (ت: 136 ه)، ضبط وتدقیق وتوثيق: د. يوسف الصميلي، المكتبة العصرية، بيروت، 1999.

16. حاشية الصبان على شرح الأشموني في شرح ألفية ابن مالك، ومعها شرح الشواهد اللعيني، الصبان محمّد بن علي (ت 1206 ه)، تحقيق: محمود بن الجميل، مكتبة الصفا، القاهرة، ط 1 1423ه - 2002 م.

17. دلائل الإعجاز في علم المعاني، عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، ه - 2001 م.

18. الصناعتين، أبو هلال العسكري (ت: 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية لبيروت، 1419 ه.

19. علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، د. هادي نهر، دار الأمل، اربد - الأردن، ط 1، 1527 ه - 2007 م.

ص: 270

20. علم لغة النص النظرية والتطبيق، عزة شبل، مكتبة الآداب، القاهرة، ط 2، 1430 ه - 2009 م.

21. العمدة في محاسن الشعر وآدابه، أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت: 463 ه)، تحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، لبنان، ط 5، 1401 ه - 1981 م.

22. في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية: 229.

23. لسانيات النصّ النظرية والتطبيق: 144 - 145.

24. لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1991 م.

25. لسانيات النص، نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، أحمد مداس، ط 2، عالم الكتب الحديثة، أربد، الأردن، 2009 م.

26. اللسانيات جان بيرو، ترجمة: الحواس مسعودي، مفتاح بن عروس، دار الأفاق، الجزائر، 2001 م.

27. اللسانيات في الثقافة العربية المعاصرة (دراسة تحليله نقدية في قضايا التلقي وإشكالاته)، د. حافظ إسماعيلي علوي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت لبنان، ط 1، 2009.

28. المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي (ت: 911 ه)، تحقق: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 ه - 1998 م.

29. المعنى وظلال المعنى أنظمة الدلالة في العربية، د. محمد محمد يونس علي، درار المدار الإسلامي، لبنان، ط 3، 2007 م.

271

ص: 271

30. مقالات في اللغة والأدب، تمّام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط 1، 1427 ه - 2006 م.

31. المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، أبو محمد قاسم السلجاسي(ت 704 ه)، تحقيق: علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط 1، 1401 ه - 1980 م.

32. نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي مكتبة زهراء الشرق، مصر، ط 1، 2000 م.

33. نسيج النص بحث ما يكون به الملفوظ نصاً، الأزهر الزناد، المركز الثقافي العربي - بيروت ط 1، 1993 م.

34. النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط، 1، 1418 ه، 1998 م.

35. نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، مصطفى حميدة، دار مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط 1، 1997.

36. نظرية علم النص - رؤية منهجية في بناء النَّصِّ النثري، د. حسام أحمد فرج، مكتبة الآداب القاهرة، ط 1، 1428 ه - 2007 م.

ص: 272

دلالات توصيل الخطاب بالصيغة الأمرية في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الاشتر دراسة في ضوء لسانيات التداول أ. د. نادية هناوي سعدون الجامعة المستنصرية

ص: 273

ص: 274

مدخل/ التداولية ولسانيات التوصيل

التداولية علم يختص "بدراسة المعنى كما يوصله المتكلم أو الكاتب ويفسره المستمع أو القارئ لذا فإنها مرتبطة بتحليل ما يعنيه الناس بألفاظهم أكثر من ارتباطها بما يمكن أن تعنيه كلمات أو عبارات هذه الألفاظ منفصلة" (1) وهو يعتمد على الطبيعة التي بها يتم التعاضد في الموضوعات والمباني التي تجعل الخطابات زاخرة بالأبعاد التداولية التي يدركها المتلقي سامعا أو قارئا ويستوعب معانيها التي قصدها المتكلم أو الكاتب.

وكل هذا يتأتى من اتساعية المنظور التواصلي الذي يقصده المتكلم ويبني خطابه للآخر عليه.. لتتخذ في المفهوم التداولي للتواصل الكتابي تعادلية: الكاتب/ الكتاب/ المكتوب له.

وبهذه الأطراف تتحقق عملية التوصيل اللساني للمضامين وإدراك غاياتها وبلوغ المراد من وراءها سواء أكانت أفعال انجاز أو أفعال كلام واستلزام أو إشارات استدراك وتنويه أو صفات تفضيل أو محادثة.. الخ.

وتتضمن التداولية حل المسائل من وجهتي نظر المتكلم والمخاطب الأول المتكلم من ناحية التصور والتخطيط والآخر المخاطب من ناحية التأويل (2) باعتبار أنه "يفسر التلفظ بالعبارة في محاولة تعيين القوة الانجازية أو التداولية.. بواسطة صياغة الافتراضات والقيام بتحقيقها والتأكد منها" (3) ولا بد لأي متكلم أن يستعمل استراتيجيات لسانية في التداول هي عبارة عن علاقات توصيل تتشكل بين الصيغ القولية والقوالب اللغوية وتتضافر كلاميا ضمن مقام معين يحدده سياق حال ما، ليتم إنتاجها بتوفر الحافز أو المثير على شكل أبنية معرفية مخزونة في ذهن المتكلم وتستدعى من مرجعية مستمدة من ذخيرة مخزونة لديه.

ص: 275

واذا ما علمنا أن النظرية التداولية "في طور تكوينها الكامل لا ينبغي أن تصاغ صياغة حوارية بل يجب أن تنتج افتراضات يمكن أن تخضع للاختبار التجريبي" (4)؛ فستكون الاستعمالات اللسانية المخزونة والتي تستدعي عند الكلام متضمنة استعمال التعبيرات الاشارية أو التأشير الذي هو "مصطلح تقني يستعمل لوصف أهم الأشياء التي نقوم بها في أثناء الكلام والتأشير يعني الإشارة من خلال اللغة ويطلق على أية صيغة لغوية تستعمل للقيام بهذه الإشارة مصطلح التعبير الاشاريه" (5) وكذلك استعمال التعابير الوصفية والاسمية بالضائر أو أسماء الإشارة البعيدة والقريبة أو بالظروف الزمانية والمكانية، وهو ما يتطلب التحديد ومعرفة القصد ليتم الترابط التداولي بين أسماء الأشياء وصفاتها.

وهناك استعمالات لسانية أخرى هي عبارة عن تعابير وظيفية تتوقف مدلولاتها التوصيلية على السياق وعلى قصد المتكلم، ولكي تحقق تلك التعابير وظائف تداولية توصل المتكلم بالمتلقي؛ فلا بد من وجود الافتراض المسبق الذي هو موجود عند كل متکلم ويتبعه الاستلزام..

وبحسب أدبيات النظرية التداولية فان الافتراض المسبق هو "شيء يفترضه المتكلم يسبق التفوه بالكلام أي ان الافتراض المسبق موجود عند المتكلمين وليس في الجمل أما الاستلزام فهو شيء ينبع منطقيا مما قيل في الكلام" (6) وقد يستدعي الاستلزام الاستدراك لما هو متداول من صيغ لسانية بين المتكلمين والمتلقين بوجود أفعال الانجاز التي تسمى أيضا أفعال الكلام وهي لا تتحقق إلا بوجود متکلمین ومتلقين.

وما يهمنا في هذا المقام من أصناف الأفعال الانجازية صنف الأفعال الطلبية بصيغة الأمر التي تمتاز بالقوة الوظيفية سواء أكان توظيفها على المباشرة والحقيقة أم

ص: 276

على غير المباشرة والمجازية..

وتتحد قوة تداولية فعل الطلب الأمري بناء على طبيعة الطلب كأن يكون تقريرا بالتصريح أو إيحاء بالتلميح ولا يمكن أن يكونا معا إذ لو تمت "مساواة منهج التصريح مع جميع الصيغ الامرية المباشرة.. سيكون هذا مضللا لأن الصيغ الامرية يستعملها المتعارفون دون تفسيرها على أنها أوامر.. فقولنا: "رجاء من فضلك تستعمل لتلطيف الطلب وتسمى وسائل التلطيف" (7) وكان ابن فارس قد أشار إلى أن الامر "إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصيا ويكون بلفظ افعل وليفعل" (8) وترتبط أفعال الطلب الامرية غير المباشرة عموما" بتهذيب أعم.. يفوق ما يتطلبه الفعل المباشر" (9) ولهذا تتحقق فيها تداولية أكثر سعة بسبب ما تتحمله من أبعاد دلالية ذات سمات بلاغية.

كتاب العهد وتداولية الصيغ الامرية

يعد كتاب العهد الذي كتبه الإمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر النخعي واليه على مصر وأعمالها أطول العهود وأجمعها للمحاسن (10).

وهذا الكتاب بمثابة دستور حياتي يصلح لتنظيم أحوال البلاد والعباد في كل أوان وفي أي مكان لانه يجمع مسائل الحياة جميعها ويعلم الحكام أساليب الإدارة ويمكنهم من الحكم والقيادة ليعرفوا كيف يسيسون الناس ويديرون أمورهم بالعدل والإحسان.

والكتاب أيضا وثيقة تربوية ومدونة روحية وأخلاقية تحمل العبر والعظات والدروس الموجهة لمن هم مسؤولون أمام الله في تولي أمور الرعية وإداراتها بحزم لا يخلو من الرحمة وباتزان يحقق التآلف.

ص: 277

وإذ يمثل كتاب العهد أنموذجا راقيا للخطابات السياسية ودستورا اجتماعيا راقيا لتنظيم الأمور الإدارية والحياتية؛ فانه أيضا يعد مدونة أدبية رفيعة لما تحمله من وظائفية تداولية تحقق غايات تواصلية بسبب ما تحفل به من الصيغ البلاغية العالية والأساليب المتميزة فصاحة وبيانا والتي أسهمت إسهاما مهما في تعميق مغزى العهد ومدلولاته شكلا ومضمونا.

وفي المدونة العهدية صيغ أمرية طلبية هي ليست مجرد أفعال منجزة على المباشرة والحقيقة أو قائمة على المجاز وعدم المباشرة؛ بل هي مقولات تشيد على بنيان من الإبانة وعبارات توضح الأمر بميزان من الدقة والعمق حتى اذا ما اقتطع فعل ما من سياقه النصي الذي جاء فيه افضى إلى تغيير الدلالة أو حرفها عن عائدية القول فيها.

ولصيغة الطلب وقع مؤثر وفاعل على المخاطبين فإذا كان الطلب رائقا شفافا سلسا بلغ ذلك المتلقين المخاطبين فترك فيهم أثرا مريحا ولطيفا وإذا كان الطلب صادقا قويا حمل المتلقين المخاطبين على استنهاض هممهم وإعلاء جذوتها وإذا كان فعل الطلب ناهرا هادرا كان حريا أن يولَّد في نفوس المخاطبين هولا ويترك في جوانحهم أثرا يحملهم طوعا لا كرها على السمع والطاعة والانجاز والإقرار.

وهذا ما كانت العرب تنشده من استعمال فعل الأمر في خطاباتها المنطوية على دلالات قولية ذات غايات براغماتية تتحدد تبعا لطبيعة الفعل الامري الموظف؛ فإن افترضنا أن الخطاب كان مباشرا فحينذاك سيكون محملا بطلب محتم الانجاز، لا يقبل التأويل أو التأجيل أو المهادنة أو التسويف وبلا ادنى تهاون او تماد كأن يقول القائل افعل كذا فلا يكون من المقول له إلا السمع والطاعة من غير تقليل ولا تكثير وبلا تقديم ولا تأخير ومن دون اشتراط التفكير او النقاش أو التدبر.

وإن كان الخطاب بفعل الأمر يتجاوز الغرض المباشر إلى أغراض غير مباشرة

ص: 278

فستتعدد حينذاك تداولية فهمه عند المتلقين ومديات إدراكه، كأن يقال (عليك نفسك) ليعرف المستمع أو القارئ أن ليس مطلوبا منه الرد المباشر بنعم أو لا، لأن المقصود ليس مباشرا؛ بل هو مجاز يتطلب أمدا زمنيا مناسبا تأملا في الطلب وتدبرا وتقليبا على كل الوجوه ليحدد المقصود ومن ثم يتم انجاز الفعل وتنفيذه.

تداولية صيغ الأمر المباشرة

للأمر أربع صيغ طلبية فأما أن يكون الفعل صحيحا مسكنا أو معتلا مجزوما أو يكون الطلب اسم فعل أمر أو مصدرا نائبا عن فعل الأمر أو مضارعا مقرونا بلام الأمر.. وفي الحالات كلها يكون العامل المخاطَب مستتراً عن الظهور تقديره (أنت) وإذا كانت الوظائفية مباشرة في تداولية صيغ الطلب هذه؛ فإنها تتطلب انجاز الفعل على وجه الاستعلاء الذي يمارسه الآمر ووجه الإلزام الذي يتوجب على المأمور القيام به.

وتتلخص وظائفية الطلب المباشر في توصيل الانتباه للسامع بغية حمله على الانصياع والتنفيذ بعد توفر الأسباب والظروف الملائمة التي تهيئ له الإتمام لفعل الانجاز بلا لبس أو تأجيل أو بالعكس وذلك حين يتعذر على المأمور الأداء لعدم وجود الظرف الملائم فيرفض التنفيذ أو يؤجل القيام به.

وفي كلا الحالين فإن الوظيفة الاتصالية ستكون محققة لتداولية فعل الانجاز بالأمر ما دام المأمور قد تلقى الأمر وعرف المقصود منه أو أدرك المطلوب منه عمله وبغض النظر عن كونه قام بالمطلوب أو لم يقم لكون التداولية ستظل رهنا بالمخاطَب / المأمور لا بالمخاطِب الآمر بينما تظل الوظيفة التواصلية مرهونة بهما معا.

ص: 279

وهذا ما يجعل تداولية الأمر بصيغته المباشرة تداولية محصورة أو محدودة وهو ما توضحه الترسيمة الآتية:

الأمر (افعل كذا) المأمور (لا افعل) = المتحقق توصيل = تداول سالب (رفض، عصيان، تمرد، تغاضي) الأمر (افعل كذا) المأمور (نعم افعل) = المتحقق توصيل = تداول موجب (قبول، انصياع، تسلیم، تنفیذ) وما بين الإجابة ب (لا) أو (نعم) تتحدد عملية التداول بالرفض أو القبول وقبل ذلك تتبين فاعلية الخطاب ومديات التأثير على المأمور بوصفه متلقيا حقيقيا، فالأعلى يأمر وما على الأدنى إلا أن يتلقى ما يؤمر به لينفذ أو لا ينفذ وهذا يعني أن التوصيل سابق على التداول.

وعادة ما يكون هذا الصنف من التداول المباشر للطلب بين الأشخاص العاديين الذي يعملون في ميادين الحياة المختلفة من قبيل الرئيس والمرؤوس والضابط والجندي والمعلم والتلميذ والمدير والموظف ورئيس العمل والعامل وغيرهم.

وليس غريبا أن يطغى على أحاديثنا وأقوالنا هذا الصنف من الطلب بفعل الأمر لتكون الوظيفة المباشرة هي التوضيح والمباشرة اعني في اللحظة الآنية نفسها التي يتم فيها إرسال فعل الأمر أو على الافتراضية اعني في اللحظة الاتصالية التفاعلية التي تتحقق فيها عملية التوصيل بشكلها الرقمي / التقني كأن يكون على شكل اتصال منقول بالصوت فقط او محمول بالصورة والصوت معا.

وعادة ما تصلح تداولية الطلب بالأمر على المباشرة والتصريح مع المرؤوسين الذين يتلقون الأوامر على وفق ضوابط عادة ما تكون لصالح الرئيس تسانده في تعزيز مكانته وتمكنه من تحقيق مركزية منصبه ونفوذه بما يمتلكه من وسائل صارمة

ص: 280

في العقاب والترهيب ولعل اقرب الميادين التي يغلب فيها هذا اللون من التداولية الميدان العسكري فالضابط يلفظ (استعد استرح) والجندي ينفذ بالحركة والصوت بلا تردد وبطريقة دراماتيكية كمشهد معتاد ويومي يتكرر باستمرار.

ووفقا للنظرية الحوارية او التفاعل الكلامي فإن الخطاب يكون جسرا محدودا بيت شخصين محددين اجتماعيا وبينهما التلفظ بأطرافه: متلفظ ملفوظ متلفظ إليه (11)، وقد رأى تودوروف أن كل ملفوظ يحمل في ذاته آثار تلفظه وفعل انتاجه الدقيق بناء على سلسلتين: الاشارات الى هويات المتحادثين والى المعطيات الزمكانية للتلفظ والاشارات الى سلوك المتحدث او المخاطب (12)، ولما كانت لوضعية التداول اللساني لفعل الامر أطراف أربعة (13):

متکلم / أنا قوة الكلام / فعل أمر مخاطب / أنت تلفظ / أن تفعل فإن العملية التداولية ستستدعي على المستوى الكتابي وليس اللساني لصيغة الأمر، أن يقوم المأمور بإتمام تداولية التوصيل الكتابي من خلال معادلة ذات ثلاثة أطراف هي:

آمر / الكاتب أمر / مکتوب مأمور / مكتوب إليه وعادة ما تصلح الوظائفية التداولية المباشرة لاستعمال أفعال الأمر في الحالات التي تقتضي قصر المدة الزمنية ما بين الآمر والمأمور فضلا عن تقاربهما في الرقعة المكانية ليكون احدهما مقابلا الآخر على الحقيقة.

ص: 281

تداولية صيغ الأمر غير المباشرة

تداول الخطاب بالأمر على وجه المجاز والخروج به عن معناه الأصلي الحقيقي إلى معان أخرى مجازية انما يتم فهمه بناء على سياق الكلام.

وعلى هذا الفهم يتوقف تداول الفعلية الامرية لتتخذ طابعا تلميحيا مبنيا على قصدية التأويل لمدلولية الفعل الانجازي وبما يفترض تعدد دلالات الخطاب الطلبي من خلال حمله على الأوجه البلاغية كلها کاستعارات أو تشبیهات أو کنایات أو توریات.

وتعد صيغ الامر كلها فاعلة في هذه التداولية غير المباشرة كونها تتفادى القسر والإجبار متجهة صوب الإغراء والتحبيب..

وهي صالحة للمتلقين ذوي المكانة المرموقة من زاوية المهمات ذات البعد الجماعي التي توكل إليهم، كأن تتهدد الجماعة أو تتعرض إلى مأزق خطير أو تمر بظروف قاهرة.

ومن زاوية أخرى تناسب أولئك المتلقين الذين يتمتعون بمستوى أدبي رفيع من البلاغة والبيان جنبا إلى جنب تميزهم بالمنزلة المجتمعية المتأتية من الإحساس العالي بالمسؤولية حرصا ودراية.

وبسبب أهمية هذه الصيغة التداولية غير المباشرة فقد كثر استعمالها في القرآن الكريم بصور عديدة. ولما كان الإمام هو القرآن الذي يمشي على الأرض لذلك تعالقت او تناصت كثير من صيغ الأمر لديه مع التوظيف التداولي في القرآن الكريم.

ولقد كان للنقاد العرب القدماء دور مهم في بيان كيفية تعدد دلالات الفعل الواحد بحسب مظان استعمالها ومن هؤلاء أبو هلال العسكري والباقلاني (14) ولابن فارس بن زکریا قول في ذلك وهو الذي نفى الترادف في اللغة لان لكل مسمی دلالية والشيء إذا كثرت مسمياته فان له معان بحسب تلك المسميات نحو السيف والحسام

ص: 282

والأدغال (15).

وهذا ما سعت النظريات البراغماتية اليوم إلى دراسته موجهة الانظار صوب التداول وقصدية الخطاب الادبي من خلال معرفة كيفية تنوع المعاني واثرها في توصيل الدلالات و مشروطية السياقات التي يكون فيها للبعد النفسي أثر في الكشف عما يمور في النفس من مشاعر، مع الدقة في التعبير عنها تبعا لمقامات القول وأحواله وبما يحقق الإجلال للكاتب / الأمر.

ولقد امتازت تداولية أفعال الأمر في كتاب العهد؛ بأنها تجاوزت الصيغ المباشرة للطلب بفعل الأمر متعدية التداول من الأعلى إلى الأدنى لتدخل منطقة الإلماح والإيحاء بالمجاز منتقلة من التوضيح والتصريح إلى اتساعية التعميم والشمول والتدليل والسبب أن الذي أُريد توصيله إلى المأمور لا يتحدد انجازه الفعلي كاستعلاء وإلزام؛ بل يتحدد على التداول للمجاز.

وهذا ما أخرج مدونة العهد من أن تكون مجرد وثيقة تخص زمانا معينا ومكانا محددا إلى وثيقة خالدة صالحة لكل زمان ومکان وقد حوت من النصح والإرشاد والتعليم، ما لا غنى عنه لأي امرئ يسعى إلى إفادة مجتمعه بوعي وإدراك وبنفس مجبولة على فعل الخير والسير على طريق الاستقامة والتقوی.

ولذلك لم تكن تداولية الطلب في مدونة العهد على وجه واحد لا ثاني له أو على صيغة بعينها؛ بل هي ذات أوجه عديدة وصيغ تتجاوز التوصيل المباشر متجهة صوب التداول العام وباعتماد الخطاب الأحادي الموجه للمفرد المذكر وفي احيان قليلة بصيغة الأمر ذي الخطاب الجماعي أو الثنائي.

وتظل الوظائفية الامرية رهنا بسياق الكلام الصادر من المرسل / الأمر إلى المرسل إليه المأمور، وبما يفترض تنوع صيغ التداول ما بين التوظيف الحقيقي والتوظيف

ص: 283

المجازي للطلب الإنشائي.

ولقد انماز کتاب العهد أنه لم يحو كل الصيغ المجازية التي تستعمل في الطلب الإنشائي بفعل الأمر، مما كان القدماء البلاغيون قد حصروها و بینوا مواضعها. فلقد تجنب الكتاب الصيغ التي تقتضي تعالي الكاتب / الآمر وتدني المأمور او تتطلب أن يتمنى الأول من الآخر القيام بالطلب تمنيا أو تعجيزا عن قيام المامور به أو بتهديده بالقسر أو التسويف أو التكذيب والتحسر أو بالتسخير الذي فيه الاهانة والتحقير وغيرها من الدلالات التي خلا الكتاب من تداولها.

ولا غرو أن يخلو العهد أيضا من تداولية الطلب بالأمر على نية التضرع أو الالتماس والدعاء لأن هذا ما لا يكون إلا بين الخالق الموصوف بالربوبية والوحدانية والصمدانية الذي ملك القلوب واستعبدها والمخلوق الذي لا ينطلق في خطابه للباري ومنادته له ومطالبته بالاستجابة والقبول إلا من موضع الدنو والخشوع والرجاء والخوف والإذعان.

وفي ما سيأتي تحدید لساني تواصلي لدلالات الخطاب الطلبي بصيغة الأمر مما كان کتاب العهد قد تضمنها ليتم تداولها على الحقيقة تارة وتارة أخرى على المجاز..

1- دلالة الوجوب بالإلزام والتنفيذ /

تتمثل دلالة الوجوب في حالة تداول فعل الانجاز الامري على المباشرة والحقيقة وهو ما يقتضي إلزام المأمور بالتنفيذ سمعا وطاعة كاقتضاء وقسر، ليغدو التداول ضروريا وحتميا لا يقبل التأجيل أو الإبدال حيث لا تراجع عن الاداء ولا تعليل ولا نقاش، وفي أي حال كان عليها المأمور.

ويطلق سيرل على الافعال الكلامية ذات الوظائفية التداولية المباشرة اسم العبارات التقريرية (16) وأن إنجاز فعل الكلام "هو تأدية الفعل بأن نقول شيئا ما" (17)

ص: 284

وفي الأغلب تقتضي دلالة الوجوب والإلزام تداول فعل الأمر تداولا حقيقيا يستوجب الحسم والحزم والصرامة قوله عليه السلام (ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال..) (18) فتداولية الفعل الانجازي (احسم) تستدعي الوجوب لا محالة. وكل ما هو خلاف الحسم والقطع بإزاء البطانة وفي أي شكل وبأي لون فإنه محرم محظور البتة.

ومثلما اوجب الامام عليه السلام الحسم والقطع بشأن الحاشية، كذلك او جب الحزم مع العدو (.. فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن) (19) وقد يكون الوجوب متمثلا في الأمر بالإنصاف و إحقاق الحق وذلك في قوله عليه السلام (أنصف الله وأنصف الناس من نفسك) (20) أو عدم المهادنة في التحلي بالأخلاق القويمة والصفات الحميدة (أطلق عن الناس عقدة كل حقد و اقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يصح لك) (21) والوتر هو العداوة "أي احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم واقطع عنك أسباب الأوتار أي العداوات بترك الإساءة إلى الرعية" (22) وتدلل صيغة الفعل (اردد) على الحزم والوجوب إذ لا مناص من الرجوع إلى الله ورسوله في الملمات صغيرها وكبيرها (واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور) (23) كما أن اشتقاقية المفعول المطلق من الفعل الطلبي (فانظر في ذلك نظرا بليغا) تؤدي دورها في تحقيق تداولية أكبر لمعنى الوجوب.

وربما تكون صيغة التداول بفعل الأمر واجبة على الحقيقة لا المجاز بالفعل امنع (فامنع من الاحتكار فان رسول الله صلى الله عليه واله منع منه) وأن في تكرار الطلب بالفعلين (امض / اجعل) ما يوجب التنفيذ (وامض لكل يوم عمله فان لكل يوم ما

ص: 285

فيه واجعل لنفسك في ما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت) (24) ومن دلالة الوجوب الإخلاص في الأداء والإيفاء في التقرب إلى الله تعالى (وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك کاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ) (25) ولا غرو أن التزام الحق واجب والحسم له مطلوب عند من تمتع بالصبر والاحتساب لله لتكون عاقبته الحسنی (وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فان مغبة ذلك محمودة) (26) ولا مناص من التزام أوامر الله تعالى وأوامر رسوله الكريم بالفعل الانجازي بصيغة اسم فعل الأمر (عليك) (عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاصلة أو اثر عن نبينا صلى الله عليه واله أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في إتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها) (27) وليس شيء يستوجب الإيفاء ورعاية الذمة والأمانة ومغالبة النفس والهوى مثل الوفاء بالعهد (فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت) (28) ومن تداولية الوجوب على غير المباشرة أن يرد الطلب بقصد التحذير والاعتبار والتخويف والترهيب بلا تهديد أو وعید ولكن تعظيما لله وتقديسا له. ومن ذلك قوله عليه السلام محذرا المأمور من خيانة الأعوان له مشيرا عليه بتتبع أخبار الرقباء

ص: 286

وتحفظ من الأعوان فان احد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك) (29) وقد تتخذ دلالة الوجوب التحذير في التعامل مع الاخرين وضرورة أخذ الحيطة والتنبه للمكيدة (واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة) (30) وتكون في تداولية التحذير (فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك) (31)، إلزاما للمأمور بالاعتبار لأخذ العبرة والعظة والدرس من الذين سبقوه ليتعظ ويتعلم..

ولعل اكثر ما يتوجب فيه التحذير انما تأتي في معرض الحديث عن سوء العاقبة (فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك) (32) ومن الدلالات الطلبية التي تم تداولها على المباشرة والوجوب ما جاءت على نية الإخبار مما كان الإمام عليه السلام قد نقله عن الرسول صلى الله عليه واله من توصيات مقدسة ومن ذلك قوله عليه السلام: (وقد سألت رسول الله صلى الله عليه واله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال: "صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما") (33) ليكون هو المأمور هنا.

2- دلالة المناصحة والإرسترشاد

وقد يخرج الطلب عن معناه الحقيقي بالوجوب على نية الإلزام ومقصدية التنفيذ إلى الطلب بمعان أخر تفهم من السياق لتتحدد على وفقها دلالات التداول للمكتوب.

ومن ذلك دلالة التداول الطلبي القائم على نية الارشاد وإبداء الرأي وتقديم التوجيه وإسداء النصح من طرف الآمر / الكاتب قاصدا التوعية والتذكير للمأمور من دون وجوب ولا ترهيب ولا إجبار فعلى سبيل المثال يرد فعل الأمر (اشعر) على

ص: 287

سبيل المناصحة بغية إيجاد نوع من الأمان والاطمئنان ما بين الأمر والمأمور (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم) (34) والمعرفة والدراية لا تتأتی؛ إلا إذا عرف الآمر خصائص المأمورين وصفاتهم کلا على حدة (ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلی..) (35) أو (فانظر في ذلك نظرا بليغا) (36) وإذ ينصح الإمام بوصفه المخاطب الآمر واليه بوصفه المأمور فانه إنما يناصحه ویرشده و كأنه يناصح نفسه شاعرا بالرعية مشارکا معه الرحمة والمصالحة والتواصي والتوئدة والتراحم، ولذلك يردف عليه السلام الطلب ب (اشعر) بالفعل (فأعطهم) مناصحا واليه بالصفح والعفو (فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه و صفحه) (37) وقد يتضمن النصح الإعانة على الانجاز وهذا ما يدلل على روح الإيثار التي تمتع بها الإمام عليه السلام معرفا مالك الاشتر بالطرق الموصلة لها موضحا له مسالك الخير للرعية فينصحه (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح) (38) أو يذكره بأهمية المداراة للمعایب والتكتم عليها بالستر وعدم الفضح (فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك) (39) وليس خافيا ما ينطوي عليه هذا الطلب من بعد أخلاقي وتربوي كبير.

ولا تخلو المناصحة من الإغراء كتحبيب مجالسة العلماء والفقهاء والتزود منهم بالعلم والخلق (وأكثر مدارسة العلماء ومنافئة الحكماء في تثبیت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك) (40) وفي موضع آخر استعمل الدلالة ذاتها لكن بفعل الأمر الصقر (والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك) (41) فملازمة ذوي الورع تقرب الانسان من التواضع أما إذا أحب الإطراء منهم له فذلك سيستدعي الزهو والزهو يقرب من التكبر والعجب، ولذلك يتبع

ص: 288

تلك النصيحة بقوله عليه السلام (.. وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه) (42) ومن النصح التوصية بذوي الاحساب وتفقد أحوالهم وان تكون رأفة الوالي بهم کرأفته بالوالدين (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما) (43) وكذلك العامة (وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للاعداء العامة من الامة فلیکن صغوك لهم وميلك معهم) (44) ويحض عليه السلام واليه على ضرورة الاهتمام بذوي الحاجات الذين يفتقرون إلى تفرغ المسؤول للنظر في مظالمهم.. ولقد خصص الإمام عليه السلام لهم مساحة مهمة من خطابه الطلبي ناصحا ومرشدا (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه الله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك) (45) ومن الطلب إرشادا وتعلیما توجيه المأمور إلى أن يضع الأمور والأعمال في مواضعها التي تناسبها (فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه) (46) وأهمية التوسع والإكمال في الكرم والعطاء لعمال أموره بما یزید الصلاح في نفوسهم (ثم أسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم) (47) وعادة ما يستدعي الإرشاد باتجاه انجاز الطلب الإعجاب والمباهاة.

ص: 289

3- دلالة الاختيار والترجيح وهذه الصيغة عكس السابقة لأنها تكون بمرونة التأرجح بين الشروع بالتنفيذ وعدمه ليتخير المأمور منها ما يراه مناسبا وبما يحقق فعل الانجاز (فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك واقلهم مساعدة في ما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع) (48) أو يأتي التغيير على سبيل النظر والاختبار (وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة) (49) وقد يختار الكاتب للمكتوب إليه خيارا يرجحه على خيارات أخرى متاحة أمامه فالنظر في عمارة الأرض واستثمارها أهم وهو مرجح على خيار النظر في التصرف بما تنتجه هذه العمارة من خير ونماء (ولیکن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج) (50) واختيار الهناءة مع الإعطاء والعذر مع المنع مفضل وأكثر ترجیحا من مجرد الإعطاء أو مجرد المنع (وأعط ما أعطيت هنيئا وامنع في إجمال وأعذار) (51) ويكون حسن الظن هو المرجح المطلوب من المأمور تنفيذه لان به حسن البلاء والعكس صحيح (فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فان حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا) (52) وقد يتخذ الاختيار والترجيح مأخذ التسوية ومذهب التوازن وعند ذاك سيكون أمام المأمور خیاران فأما أن يتداول الفعل بالانجاز بالايجاب أو يتداوله بالايجاب ولا يترتب على ذلك اية نقيصة أو تهاون کون الترجيح هو المراد من الطلب وبحسب المقام فمثلا أن تحقق الإحسان بالرعية سيتطلب تفقد حالها والتعرف على أحوالها وأمورها اما بشخص المامور نفسه ليكون الانجاز ايجابيا بالاثبات او بغياب المأمور

ص: 290

ليكون الانجاز سالبا بالنفي (وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك) (53) وبالقياس بالميزان يتوكد عدم الإجحاف بحق البائع والمبتاع سماحة وعدلا (وليكن البيع بيعا سمحا بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع) (54) ومن يحتكر وينهب فلا بد من التنكيل به وعقابه لكن باتزان من غير إسراف (فمن قارف حكرة بعد نهبك اياه فنكل به وعاقبه في غير اسراف) (55) أو بالاتزان في التساهل في تطبيق الأوامر أو الضوابط أو المقتضيات مع بعض الفئات المستضعفة التي تستدعي من المسؤول الرعاية الخاصة (واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الاسلام في كل بلد فان للاقصى منهم مثل الذي للادني) (56) وكذلك في تقسيم وقته ليجعل لهم منه نصيبا وهذا ما يوصله الى الرفعة بالتواضع (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك) (57) ويتبع ذلك اتساع صدره لهم فلا يضجر من هذا ولا يغضب من ذاك (ثم احتمل الخرق منهم والعي ونح عنك الضيق والأنف) (58) وبالموازنة والعدالة والتسوية يتحقق رضا الله تعالى وهذا ما يبتغيه الآمر والمأمور. ولقد كان الإمام أكثر أصحاب رسول الله التزاما بالعدل والإنصاف ولذا قلده صلى الله عليه واله القضاء في اليمن.

وبالتوازن يتحقق للوالي / المأمور إدراك الصحيح من الزائف وتبيان الحق من الباطل باستعمال صيغة الطلب باسم فعل الأمر (عليك) (فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ماغاب عنك) (59) بما يستطيع إدراكه ويتمكن منه وما خلا ذلك فمرده إلى الله تعالى ليحكم فيه (فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب

ص: 291

عنك) (60) أو قوله عليه السلام (... وكل فاعذر الى الله في تأدية حقه إليه) (61) والنفوس تتفاوت في قدرتها على أداء الأفعال وانجازها تناصا مع قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (62) ويقتضي الاتزان ترجيح الأمور على خيرها وهو عادة ما يكون في أوسطها باستعمال ليکن (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية) (63) وإذا ما غفل عن أمر ما، كان إبراز الخطأ وبيان العذر فيه هو المرجح (وان ظنت الرعية بك حيفا فاصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم باصحارك) (64)

4- دلالة الجواز والقبول

إذا كان فعل الانجاز للطلب لا يقتضي الإلزام فعند ذاك سيكون إتمامه مرتبطا بالتوافق اقتناعا ورضا بين الكاتب / الأمر والمكتوب إليه / المأمور من دون تحريم أو حظر.

وبالجواز والقبول تتحقق إباحة الاختيار عند تداول الطلب بالأمر كما في قوله عليه السلام (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختیارا ولا تولهم محاباة وأثرة فأنهما جماع من شعب الجور والخيانة) (65) والتذكير بأهمية الثواب والإطراء في شد عزيمة الجند على القتال يقتضي ترك تحديد دلالة ذوي البلاء في القتال ليقدرها المأمور بتقديره الخاص فيبني عليها الحال كل واحد من الجند كيف أبل ومتى وأين؟ (فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء

ص: 292

عليهم وتحديد ما أبلی ذوو البلاء منهم..) (66) وبذلك يتوصل الوالي / المأمور حتما إلى بلوغ تداولية الفعل الانجازي (فافسح) بإجازة تمييز "ما صنع أهل الأعمال العظيمة منهم فتحديد ذلك يهز الشجاع أي يحركه للإقدام ويحرض الناكل أي المتأخر القاعد" (67) ثم ينتقل عليه السلام من الكلام في فئة الجند إلى الكلام في فئة ذوي الاحساب والنجدة فيجيز للمأمور أن يقرب إليه من يراه منهم صالحا (ثم الصق بذوي الاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والساحة..) (68) لينتقل بعدها الى الكلام في العمال متيحا لواليه النظر في أمورهم وأن يختار منهم من يمكنه من أداء المهمة الموكلة إليه مستعملا فعلي الأمر (تفقد وابعث) (ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم) (69) وليس في اختيار أفضلهم محاباة أو ميل؛ بل هو من باب التشاور والإجازة.

ويذكر بعدها عليه السلام الخراج ليأمر واليه بالصلاح تاركا له غير فارض انتقاء الوسيلة التي تمكنه من بلوغ هذا الإصلاح (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم) (70) وبعدها يأتي الجواز في تداولية أفعال النظر والتولية والتخصيص (ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك باجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجتزئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأٍ) (71) فقوله عليه السلام (ثم انظر) "انتقال من الكلام في أهل الخراج الى الكلام في الكتاب جمع کاتب" (72) وهذا الترتيب في الانتقال بالكلام من فئة الجند إلى طبقة العمال

ص: 293

الى مجمع الكتاب انما يشير الى أن التداولية لصيغة الخطاب بالامر انما تنتقل من المهم الى المهم باستعمال حرف العطف (ثم) و دلالتها على التراتب بتراخ ليتبعها حرف العطف بالفاء ودلالته على السرعة في التتابع والتعاقب تلاحقا وتواترا بالفعل (فولِ) فالنظر متبوع بسرعة التولية مجيزا عليه السلام غير موجِب على الوالي مالك الاشتر تخصیص من يثق بهم لحمل الرسائل التي هي غاية في السرية.

وأن القول باجمعهم برأي الشيخ محمد عبده "متعلق باخصص أي ما يكون من رسائلك حاويا لشيء من المكائد للأعداء وما يشبه ذلك من أسرارك فاخصصه بمن فاق غيره في جميع الأخلاق الصالحة ولا تبطره أي لا تطغيه الكرامة فيجرؤ على مخالفتك في حضور ملأ وجماعة من الناس ذلك بمنزلتك منهم" (73) ويلحق العطف بالفاء عطف آخر متلاحق بلا فاصل (فاعمد لأحسنهم كان في العامة اثرا واعرفهم بالامانة وجها فان ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت امره واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يشتت عليه كثيرها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابیت عنه ألزمته) (74) وانجازية تداول فعلي الأمر(اعمد/ اجعل) تتحدد جوازا لا وجوبا تحليلا لا تحريما في تقليد رئاسة دائرة من دوائر الاعمال لمن هو أهل لها مقتدر "على ضبطها لا يقهره عظيم تلك الاعمال ولا يخرج عن ضبطه كثيرها وإذا تغابيت إي تغافلت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك" (75) بمعنى أن هذا الوالي الذي قد اتيحت له مساحة من الاجازة والاباحة، سيتحمل وزر ما يختار، مصيبا كان الاختيار أو مخفقا..!! وينتقل عليه السلام من الكلام في الكتّاب إلى الكلام في طبقة التجار والصناع (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات واوص بهم خيرا المقيم منهم والمضطرب

ص: 294

بماله والمترفق ببدنه) (76) مخيِّرا الوالي في التعامل معهم من باب أن التجار والصناع عادة ما يكونون مسالمين طائعين لا يتمردون ولا يعصون مؤكدا عليه السلام أهمية تفقد أمور هذه الطبقة (وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك) (77)، مذكرا له أيضا بأن من هؤلاء من يتمكن الجشع والشح من نفسه فيدفعه إلى الاحتكار والمضرة (واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة) (78)

5- دلالة التفويض

وفي هذه الدلالة يتوقف تداول الطلب على ما يتصوره المأمور / المسؤول وما يتحسب له في كيفية إدراكه للموقف المطلوب انجاز الفعل فيه.

وهي تخالف دلالة الجواز والقبول كونها لا تعطي المأمور حرية الاختيار والتعيين؛ بل هي تتطلب منه الانجاز بحتمية إتمام الفعل وليس بجوازية الخيارات في التنفيذ له كما في قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم (فاقضِ ما أنت قاض) (79) وبهذا التصور يغدو المسؤول مفوضا إليه البت في الأمور وتقليبها على الوجه الذي يجده جديرا بالاختيار مرتئيا الوصول إلى الخير والفلاح، ومما ورد في كتاب العهد عن صيغة الطلب بالأمر بدلالة تفويض احدهم قيادة الجيش قوله عليه السلام (فول من جنودك انصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأنقاهم جيبا وأفضلهم حلما..) (80) فالإمام عليه السلام يجيز لواليه اختيار قائد للجيش بلا فرض أو إلزام بتعيين احدهم والسبب تلك التوافقية والقناعة حول الصفات التي سيتحلى بها هذا القائد والمتمثلة بالطاعة والنقاء والأمانة.

وليس ذلك فحسب بل يتبع جوازية تداول هذا الفعل الانجازي ضرورة ألا يفرض على المأمور / الوالي متابعة من يوليه على الجيش فرضا بل يبيح له ذلك

ص: 295

ليعرف كيف يتعامل ذلك القائد مع الجند وما الطريقة المثلى لاختيار الأفضل منهم (وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته و أفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو..) (81) وقد شرح الشيخ محمد عبده دلالة الأمر (وليكن) فقال: "فليكن أفضل رؤساء الجند من واسي الجند أي ساعدهم بمعونته لهم وأفضل عليهم أي أفاض وجاد من جدتاه والجدة بكسر ففتح الغني والمراد ما بيده من أرزاق الجند وما سلم إليه من وظائف المجاهدين لا يقدر عليهم في الفرض ولا ينقصهم شيئا مما فرض لهم بل يجعل العطاء شاملا لمن تركوهم في الديار من خلوف الآهلين جمع خلف بفتح فسكون من يبقى في الحي من النساء والعجزة بعد سفر الرجال" (82) وفي الكلام عن القضاة يتحول الطلب إلى شكل تفویض بانتقاء القاضي الذي يتسم برحابة النفس وحسن الخلق فلا يستطيع ان يمحكه أو يغضبه الخصوم (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحکه الخصوم) (83) "أي لا تحمله مخاصمة الخصوم على اللجاج والإصرار على رأيه" (84) ويترتب على تفويض الوالي بتولية احدهم أمر القضاء أن يدعمه بالمال ويوسع له فيه لكي يتمكن القاضي من العمل والعطاء وبها يحفظ له هيبته و منزلته ويأمن من الاشرار (ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك) (85) ولا يقتصر انجاز الطلب بالتفويض على المهام الجسيمة؛ بل يشمل ايضا المهام التي تعد ثانوية وليست بالاهمية نفسها التي تكون عليها المهام الاساسية ومن ذلك تفويض أحدهم رعاية أناس لا تتاح للوالي رؤيتهم او الاطلاع على احوالهم

ص: 296

او الفقراء "أي اجعل للبحث عنهم اشخاصا يتفرغون لمعرفة احوالهم يكونون ممن تثق بهم يخافون الله ويتواضعون لعظمته لا يانفون من تعرف حال الفقراء ليرفعوها اليك" (86) ويكون في فعلي الامر (تفقد وفرغ) دلالة تفویض بانابة أهل الخشية والورع عنه في (تفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمة العيون وتحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية والتواضع) (87) ويتوقف فعل الانجاز (التيام في التفويض) بحسب ما يرفعه هؤلاء من الامور الى الوالي (فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى الله يوم تلقاه فان هؤلاء من بين الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه وتعهد اهل اليتم وذوي الرقة في ممن لا حيلة له) (88)

دلالة الاخبار

فرّق ابو هلال العسكري بين الخبر والأمر في أن الأمر لا يتناول الأمر لأنه لا يصح أن يأمر الانسان نفسه (89) لكن يمكن أن يكون للأمر دلالة الخبر ومن ذلك استعمال فعل الامر (اعلم) ليغدو الأمر مخبِرا والمأمور هو المقصود بالاخبار ومما ورد في مدونة العهد من هذه الدلالة التداولية النصوص الاتية:

(واعلم انه ليس شيء ادعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم) (90) (واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الانصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار واهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة) (91)

ص: 297

(اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك..) (92) وجدير بالاشارة إلى أن دلالة الأمر بالإخبار تأتي ايضا بصيغة المضي (أمر) وهو ما افتتحت به مدونة العهد ليكون بمثابة ابتداء يمهد لفحوى الكتاب بانسياب و بلا مباشرة (أمره بتقوى الله وإيثار طاعته وإتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا بإتباعها ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها وان ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه.. وأمره ان يكسر نفسه من الشهوات وينزعها عند الجمحات فان النفس إمارة بالسوء إلا ما رحم الله) (93) فقوله عليه السلام (أمره) وتكرارها مرة أخرى يجعل للقول الأول دلالة انجاز الطلب بالامر بحتمية المضي في الفعل (أمر) والدلالة الثانية توكيد ماتم تو کیده في الدلالة الأولى بهدف قطع أي شك في مدلولية توصيل الفعل بين الأمر / القائل والمأمور/ المقول له.

وقد ترد دلالات اخرى تفيد معنى الطلب لكن بصيغة النهي بلا الناهية او بالالفاظ المنصوبات على التحذير (94) والاغراء والتخصيص والدعاء (وأنا اسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ان يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه والى خلقه.. وان يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وأنا إليه راغبون) فكان له عليه السلام ذلك حقا.

ص: 298

الخاتمة

تنطوي صيغة الطلب في تداول الأفعال الامرية المنجزة في كتاب العهد على توحد عقائدي بين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بوصفه الكاتب / الآمر وواليه الاشتر النخعي بوصفه المكتوب إليه / المأمور.

وليس بين أفعال الانجاز في المدونة العهدية إلا فروق في الأبعاد التداولية والتي تبين عن معناها للقارئ حين يدركها مستوعبا مدلولات الطلب فيها وهذا ما تتيحه الوظيفة التداولية بناء على قصدية الفعل الانجازي بالحقيقة او المجاز.

ولقد تواترت دلالات افعال الانجاز في الخطاب بصيغة الطلب مشتملة على ابعاد تداولية ووظائف تواصلية استلزاما وافتراضا وبما يجعل كتاب العهد وثيقة شاملة تامة حافلة بالغايات والمعاني.

ومن الدلالات التي نتجت عن تداولية أفعال الانجاز الطلبية: الوجوب والالزام والجواز والنصح والارشاد والتفويض والترجيح والاختيار والتوازن والاخبار ولقد انطوت وراء رصد كل واحدة من هذه الدلالات مقصدية الترابط الجدلي بين وظائفية الألفاظ باسانیدها التركيبية وبين السياقات التي وردت فيها وتعابيرها التأشيرية.

ص: 299

الهوامش

1. التداولية (براغماتية) تأليف جورج يول، ترجمة الدكتور قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت طبعة أولى، 210 / 19.

2. ينظر مبادئ التداولية، جيوفري ليتش، ترجمة عبد القادر قنیني، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء المغرب، 2013/ 51 3. م. ن/ 57 4. م. ن/ 296 5. التداولية (براغماتية)/ 27 6. م. ن/ 51 7. م. ن/ 103 8. ينظر: الصاجبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، تالیف ابي الحسين احمد بن فارس بن زکریا، علق عليه ووضع حواشيه احمد حسن بسج، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1997/ 138 9. التداولية (براغماتية)/ 83 10. وهذا ما كان الشريف الرضي قد قدم به للكتاب ينظر: نهج البلاغة للامام علي بن أبي طالب علیه السلام، شرحه الامام الاكبر الشيخ محمد عبده، خرّج مصادره الشيخ حسين الاعلمي، الجزء الثالث، شركة الاعلمی للمطبوعات، بیروت لبنان، الطبعة الثانية. 2011 11. نقد النقد رواية تعلم، تزفتان تودوروف، ترجمة د. سامي سويدان، مراجعة ليليان سویدان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986/ 84.

ص: 300

12. الشعرية، تزفيطان طودوروف، ترجمة شكري المبخوت، ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الاولى، 1987/ 43 13. مبادئ التداولية/ 238 14. ينظر: الفروق اللغوية، لابي هلال العسكري، تحقيق محمد ابراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، 1977 وينظر: اعجاز القرآن، لابي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق السيد احمد صقر، دار المعارف، الطبعة الاولى، د. ت.

15. ينظر: الصاحبي في فقه اللغة العربية/ 97 - 98 16. مبادئ التد اولية/ 235 17. مبادئ التداولية/ 260 18. م. ن/ 591 18. م. ن/ 592 19. م. ن/ 592 20. نهج البلاغة، الجزء الثالث/ 574 21. م. ن/ 575 22. م. ن/ 575 هامش رقم 3.

23. م. ن/ 581 24. م. ن/ 589 25. م. ن/ 589 - 590 26. م. ن/ 591 27. م. ن/ 595 - 596 28. م. ن/ 592

ص: 301

29. م. ن/ 583 30. م. ن/ 595 31. م. ن/ 573 32.م. ن/ 572 33. م. ن/ 590 34. م. ن/ 572 35. م. ن/ 582 36. م. ن/ 582 37. م. ن/ 572 38. م. ن/ 572 39. م. ن/ 575 40. م. ن/ 577 41. م. ن/ 576 42. م. ن/ 576 43. م. ن/ 579 44. م. ن/ 574 45. م. ن/ 588 وينظر: هامش رقم 6 ص 588 46. م. ن/ 595 47. م. ن/ 583 48. م. ن/ 576

ص: 302

49. م. ن/ 583 50. م. ن/ 584 51. م. ن/ 589 52. م. ن/ 577 52. م. ن/ 586 54. م. ن/ 587 55. م. ن/ 587 56. م. ن/ 587 57. م. ن/ 588 58. م. ن/ 589 59. م. ن/ 575 60. م. ن/ 575 61. م. ن/ 588 62. الآية 186 سورة البقرة 63. م. ن/ 574 64. م. ن/ 591 65. م. ن/ 583 66. م. ن/ 580 67. م. ن/ هامش رقم 4 ص 581 68. م. ن/ 579

ص: 303

69. م. ن/ 583 70. م. ن/ 583 - 584 71. م. ن/ 585 72. م. ن/ 585 هامش رقم 2 73. ينظر: م. ن/ 585 هامش رقم 3 74. م. ن/ 586 75. م. ن/ 586 هامش 2 و 3 76. م. ن/ 586 77.

78. م. ن/ 586 - 587 79. الآية 72 سورة طه 80. م. ن/ 579 81. م. ن/ 580 82. م. ن/ 580 هامش رقم 1 83. م. ن/ 581 84. م. ن/ 581 هامش رقم 6 85. م. ن/ 582 86. م. ن/ 588 هامش رقم 3 87. م. ن/ 588 88. م. ن/ 588

ص: 304

89. ينظر: الفروق اللغوية/ 42 - 43 90. م. ن/ 577 91. م. ن/ 577، 578 92.م. ن/ 572 93. م. ن/ 571 - 572 94. ينظر: م. ن/ 593 - 596 (واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء) (واياك والمن على رعيتك باحسانك او التزيد في ما كان من فعلك) (واياك والعجلة بالامور قبل اوانها..) (واياك والاستثار بما الناس فيه اسوة والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون) (اياك والدماء وسفكها بغير حقها فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها)

ص: 305

ص: 306

أسلوبية التوازي الصوتي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

-مقاربة تطبيقية - د. أحمد عبد العال سعيد أستاذ الأدب العربي القديم كلية التربية / جامعة واسط

ص: 307

ص: 308

ملخص البحث:

تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الآلية التي يعمل بها التوازي الصوتي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، وتسليط الضوء على أهم أنماطه وبيان إمكاناته التأثيرية والجمالية، ذلك أن التوازي الصوتي في هذا العهد يتعدى حدود التشكيل والإثارة الصوتية إلى تكوين بنية نصية ذات قيمة جوهرية من حيث التوظيف والعلاقات السياقية والاشتغالات النصية: صوتاً وبناءً ودلالة، مما أسس لفرادته عن الخطابات الأخرى (نثراً أو شعراً). من ذلك انه يشتغل في بنية متنامية تمتد على مساحة واسعة من الخطاب، ليغطي فقرات كاملة ومستقلة، أو قد ينبني في صورة دائرية تواصلية، فضلاً عن أنماط التوازي الصوتي الأخرى التي يشترك فيها مع أشكال الخطاب الأخرى. بما يكشف أن التوازي الصوتي من أهم الأنساق التعبيرية التي انبنى عليها خطاب العهد.

مهاد نظري:

يعدّ التوازي من المفاهيم اللسانية الحديثة التي انتقلت إلى ميدان النقد الأدبي من طريق كتابات (رومان ياكبسون)، الذي تحدث عن المصطلح وتمثّلاته في النصوص الإبداعية في ض-وء نظرة شمولية فاحصة تجمع بين اللسانيات والشعرية، إذ رأى في التوازي عنصراً تأليفيا ((يحتل المنزلة الأولى بالنسبة للفن الأدبي)) (1). وعلى الرغم من أن محاولته قد سُبقت بأخرى مشابهة تتعلق بالحديث عن المصطلح أو ما يقرب منه إلا أنها كانت محاولات جزئية ترتبط بجوانب محددة من اشتغالات المصطلح. إذ أفاد ياكبسون من الأرث السابق عليه ل (فوكس) و (هُوبكِنس) و (بيسيلي) (2) ولكنه

ص: 309

تجاوز الرؤية الجزئية ألى رؤية أشمل، يتمظهر فيها التوازي بوصفه تقنية بنائية فاعلة، تُفسَّر في ضوئه القيم الإبداعية أو الشعرية في النص. إذ يبرز في ((نسق من التناسبات المستمرة على مستويات متعددة: في مستوى تنظيم وترتيب البنى التركيبية وفي مستوى تنظيم وترتيب الأشكال والمقولات النحوية وفي مستوى تنظيم وترتيب الترادفات المعجمية وتطابقات المعجم التامة. وفي الأخير، في مستوى تنظيم وترتيب الأصوات والهياكل التطريزية)) (3). والتوزاي على أساس هذا الفهم ((عنصر بنائي مركزي يقوم على تكرار أجزاء متساوية ترتبط ببنية النص)) (4) في مستوياتها المتعددة: الصوتية والتركيبية والدلالية. وهذا التكرار يأتي في ((تأليف ثنائي)) (5) تتماثل فيه الأجزاء وتتشابه في عناصرها من دون أن تتطابق، لأنه يلتزم الخصائص البنائية ذاتها في التشكيل، ومن ثم فهو ((تكرير بنية تملأ بعناصر جديدة)) (6) على وفق دوبوكراند وجفرسون. على أن هذا التأليف الثنائي قد يتسع ليؤلف وحدات بنائية أكبر ثلاثية أو رباعية أو أكثر، بمعنى أن المفهوم قد تمّ وصفه في جهود ياكبسون بأبسط تمثلاته النصية.

وفي محاولة تأصيل المفهوم في النقد العربي، هناك شبه إجماع على أن التوازي مفهوم جديد إذا ما قورن بالمفاهيم المتواضع عليها في البلاغة العربية، تلك المفاهيم وإن كان بعضها يقترب منه، إلّا أنها لاتشكل معادله التام. ذلك أن التوازي بديل لساني حل محل المفاهيم التي تختزل كل أشكال التوازن والتناظر البلاغية (7)، كما أن تلك الأشكال التي تم الربط بينها وبين التوازي تضيء جانبا محدودا من اشتغالات المصطلح ولا تتعداها الى استيعاب الجوانب الأخرى التي استوعبها التوازي.

ومع ذلك فإن أشكال: (الجناس، والتسميط، والتكرار، والترصيع، والتصدير، والترديد، والتقسيم، والتشطير، والمشاكلة، وغيرها من فنون البديع) وإن كانت

ص: 310

تقتصر على جانب محدد (صوتي) فهي تمثل جذورا تراثية رائدة في إدراك خاصية التوازن الصوتي في النص التراثي، مما ((ينقل الدائرة النقدية القديمة في النظر إلى (التوازي) من محور الغياب إلى محور الحضور)) (8) وإن كانت بطاقات محدودة. لأن هذه المحاولات كانت تردد هذه الأشكال في صور جزئية منفصمة عن بعضها لم تتح لها أن تتبلور في نظرة أشمل تعي الخاصية البنائية التي قام عليها التوازي، ((وليست هذه الحالة خاصة بالبلاغة العربية بل هي طابع البحث القديم في التوازي، كما يذهب الى ذلك ياكبسون، الذي يرى أن مبحث التوازي مبحث لايعدو عمل القدماء فيه ملاحظات واعدة سرعان مانسيت، إذ لم تتح لها فرصة التطوير)) (9).

إن التوازي في أوضح حدوده هو ((تماثل أو تعادل المباني أو المعاني، في سطور متطابقة الكلمات أو العبارات، قائمة على الأزواج الفني وترتبط ببعضها، وتسمى عندئذ بالمتطابقة أو المتعادلة، أو المتوازية)) (10). وبلحاظ هذه الخصائص فإن التوازي یُعنی برصد مظاهر الانتظام في البنيات النصية على أساس من العلاقة المتماثلة، في الشعر أو النثر، فإذا كانت ((بنية الشعر هي بنية التوازي المستمر)) (11)، فإن ((هناك أنماطا من النثر الأدبي تتشكل وفق المبدأ المنسجم للتوازي)) (12)، وطبقا لهذا التصور يبدو التوازي في مظهرين:

الأول: ملازم للغة الشعرية، التي تتألف من منظومة متكررة من المقاطع المتوالية المتتالية المتوازية و هو مايبدو بوضوح في البنية الايقاعية.

والثاني: يشير إلى ألوان من التقابل كوسيلة دقيقة منسجمة، وسائدة في اللغة، وبذا يصير التوازي مبدأ من المبادئ الفنية (13)، التي تمتد في الشعر والنثر.

إن التوازي يتغلغل في نسيج النص الإبداعي، ويتحقق في مستوياته التعبيرية

ص: 311

كافة، إلا أنه في المستوى الصوتي أكثر ظهورا (14)؛ ولذا فإن تناول (التوازي الصوتي) في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر یعني (إجرائيا) الوقوف عند أكثر أشكال التوازي وضوحا في هذا العهد.

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن التوازي الصوتي لايعمل بمعزل عن أشكال التوازي الأخرى التي قد تظهر في النص، بل هي تنصهر جميعا في بوتقة النص الكلية بقصد السمو بالغاية التأثيرية والجمالية، ولذا فإن هذا التحديد بالمستوى الصوتي غايته بحثية، فمن وظائف التوازي الصوتي ووظائفه متعددة هو تعضيد البنيات النصية الأخرى التركيبية والدلالية من أجل خلق بنية نصية نابضة قادرة على إدهاش الملقي وإثارته وإقناعه.

أنماط التوازي:

يمثل العهد خطابا شموليا يكتنز بالأبعاد الفكرية المختلفة: السياسية والأجتماعية والثقافية وغيرها، وهو مايتبدى في هذه الصورة التنظيمية للعلاقة التواصلية بين السلطة والرعية؛ ومن وراء ذلك هذا القانون التنظيمي المعالم المجتمع الإنساني في ظل الحكومة الإسلامية الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان اللذين ولد فيهما إلى مديات إنسانية أبعد. وإذ يستعين العهد باللغة في أداء ذلك فإنها تحقق ذلك عبر وظيفتين: إفهامية تعتمد الوضوح والدقة لإنجاز فعل التوصيل وترسيخ الدلالة، وجمالية تعتمد مجموعة من التقنيات اللغوية التي تعمق الأفكار وتستقطب المتلقي وتعضد الوظيفة الإفهامية. ومن هذه التقنيات التوازي الصوتي، الذي يلفت انتباه المتلقي في مجموعة من التماثلات الصوتية التي تغطي مساحة واسعة من لغة العهد.

ص: 312

إذ وصل عدد العبارات المتوازية صوتيا في العهد إلى مائة وثمان وتسعين (198) عبارة، تنوعت في بنائها بين التوازي التام الذي جاء في (132) عبارة أي بنسبة 66، ٪7 والتوازي غير التام الذي تجسد في (66) عبارة أي بنسبة 33، 3٪.

وتأمل هذه النسبة يفضي إلى أن العهد يميل في تشكيل لغة الخطاب إلى خلق لون من التنظيم الخاص، للارتقاء بمستوى اللغة وطاقاتها الأدائية والتأثيرية، وذلك بزيادة مستوى التناسب اللفظي والتجانس الصوتي.

ومن نماذج التوازي التام قول الإمام علي (عليه السلام) في خطابه الأشتر: ((وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده)) (15). أما التوازي غير التام فيمثله قوله عن الفرائض: ((لايسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها )) (16) إذ نلحظ في التوازي التام أن ثمة تماثلا بين العبارتين (وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده)، (وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده) في عدد العناصر وبنائها الصوتي بل إن أكثر العناصر تكررت بذاتها مما رفع من الفاعلية الصوتية في العبارتين، إذ يشعر المتلقي أنه بإزاء بناء ترکیبي وصوتي متوازن، يتلقاه بانسيابية وبصورة منتظمة على الرغم من أنه تحقق في عناصر لفظية كثيرة، عشرة (10) عناصر في كل عبارة، مما يدل على قدرة على إحكام الصياغة والتعامل مع أسرار اللغة. بينما في التوازي غير التام تتباين العناصر اللغوية بين العبارتين إذ غاب الفاعل (أحد) عن العبارة الثانية لظهوره دلاليا فيها، وفي الوقت نفسه زِید عنصر لغوي جديد وهو الاسم المعطوف (وإضاعتها) مما أسهم في توسيع المعنى ونمو العبارتين دلاليا، لإظهار هذا التعارض التام بين (الاتباع) و (الإضاعة)، ومع هذه الزيادة اللغوية والدلالية إلا أن ذلك لم يفسد الألفة الموسيقية، لأن الزيادة (إضاعتها) وردت

ص: 313

بصياغة صوتية متقاربة لقوله (اتباعها).

إن أنماط التوازي الصوتي تتعدد في العهد بحسب طبيعتها الوظيفية والعلائقية، ولذلك فإن خطة البحث في تناولها ستعتمد عل طبيعة التوازنات المرصودة فيه، إذ احتوي على عدة أنماط هي: التوازي المتنامي، والتوازي المتضاد، و التوازي التأليفي، والتوازي الدائري.

1- التوازي المتنامي: وهو تنمية لنواة صوتية بإرکام قسري أو اختياري في عدة توازيات جديدة، ضمانا لانسجام الخطاب (17) بمعنى أن هناك نواة معنوية ذات صورة صوتية متوازية يمنحها المرسل إمكانية التفصيل لتتفتق عن توازيات نصية جديدة.

وهذا النمط من التوازي يمتلك خصوصية في العهد لأنه من التقنيات البنائية التي ينفرد بها إذ لانجده - بحسب اطلاع الباحث - في الخطابات الأخرى، وربما يعود ذلك إلى أنه يتطلب مهارة فائقة وخصوصية في التأليف، تتجاوز التوازي الأصل إلى إحداث توازيات متراكمة تمتد في فقرة كاملة قد تتألف من عدة أسطر، ولذا يؤدي هذا النمط وظيفة مزدوجة: الأولى الجمع بين الجزئيات وتوحيدها، والثانية: ((الوظيفة التداولية المعبر عنها بالاهتمام بالخطاب، أي لفت أسماع المتلقين إلى أن هذا الكلام أهمية لا ينبغي إغفالها)) (18). ومن صور هذا النمط قوله (عليه السلام): ((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة)) (19) تمثل لفظة (أحبّ) بؤرة مركزية في هذا النص التوجيهي، إذ انعكست صيغتها الصرفية في التوافقات الصوتية الثلاثة بعدها (أوسطها في الحق، وأعمها في العدل،

ص: 314

وأجمعها لرضى الرعية). هذه التوافقات تتّحد في المقطع الأول (أوسطها، أعمها، أجمعها)، کما تتحد الأولى والثانية منها في المقطع الثاني (في الحق) (في العدل) إذ تحقق توافقا إيقاعيا منتظما، ((فعلى الرغم من أن هذه المقاطع لا تنتهي بنهايات (سجعات) موحدة إلّا أنها تحقق ضربات متعادلة في المقاطع)) (20). بيد أن نهاية المتوالية الثالثة (لرضى الرعية) أحدثت مخالفة وسکونية إيقاعية، سرعان ما يتصاعد أداء النص صوتيا ودلاليا بعدها، لتمثل نقطة توقف آنية، يتبدل الحديث معها من العلاقة بين الحاكم والرعية إلى الحديث عن الرعية نفسها وعن طبقاتها ليتفتق النص عند هذه النقطة عن توازٍ متنامٍ جديد، إذ ينتهي الأمر إلى موقفين مختلفين ومتعارضين تماما، ولكنهما متناسبين أداء وصوتا، فقد اتفقت العبارتان بشكل كامل في عدد الكلمات وفي عدد حروف كل كلمة - تقريبا - وفي نهاية كل جملة بحرف السجع نفسه (التاء)، وبالنحو الآتي:

إن - إن سخط - سخط العامة - الخاصة يجحف - يغتفر برضى - مع رضی الخاصة - العامة ومن النصوص التي تحقق هذا النمط من التوازي قول الإمام (عليه السلام) في الحث على اختيار بدائل عن الوزراء الأشرار: ((وأنت واجد منهم خير الخلف، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالماعلى ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة،

ص: 315

وأحني عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفا)) (21).

إذ يخلق النص فضاء صوتيا متناميا من خلال سلسلة من التناظرات الإيقاعية المتوازنة التي تأخذ بعضها برقاب بعض في صورة تفاعلية مثّلت أعلى درجات الانتظام الصوتي، وهو ما ظهر في توازيات ثلاثة. يبدأ الأول منها بقوله:

ممن - له مثل آرائهم ونفاذهم ليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم إذ يكتسب هذا التوازي ألفة صوتية وإن كانت ثمة مخالفة صوتية في عناصره الأولى (له) و (ليس عليه)، لأن الضمير (الهاء) الذي ناب عن المخاطب ظل متحكما في البنية، ولأن النص أضاف عنصرا صوتيا جديدا ( آثامهم) في المتوالية الثانية آزر المماثلة الصوتية ورفع من طاقتها. بينما يظهر التوازي الثاني في مماثلة صوتية تكاد تغيب عنها أي مخالفة سوى ذكر (لا) في الجملة الثانية وهو قوله:

لم یعاون ظالما على ظلمه ولا آثها على إثمه ليتنامى التوازي بعد هذا في صورة من المماثلة التامة في أربعة توافقات، ترتبط كل اثنتين منها بتقفية واحدة:

ص: 316

أولئك أخف عليك مؤونة أحسن لك معونة أحنى عليك عطفا أقلّ لغيرك إلفا ومما يلاحظ في النص أنه اعتمد بناء صوتيا مختلفا في كل نسق من أنساق التوازيات الثلاثة، مما يعكس تعددية وتباين التوازنات المستعملة فيه، هذا التلوين الصوتي جاء لإحداث تناسب بين المبنى والمعنى، وكذلك لشحن النص بطاقات صوتية متراكمة تمدّه بفاعلية تأثيرية تتجاوز الوعي بالدلالات الظاهرة إلى أخرى متخفية، يشعر بها المتلقي عبر هذه الإيحاءات الصوتية، ومن هنا يمكن القول: إن التوازي الصوتي ينطوي على منحى إيحائي ينشر الظلال ويعمق الدلالة ويسمح بتعالق الصور وتوالدها في نسق من التناظر، وهو ما يبدو في الصورتين (أحنى عليك عطفا) و (أقلّ لغيرك إلفا)، بحيث يأتي السياق المتوازي على هيئة لوحة مكتملة الظلال والألوان، يتمازج فيها الصوتي والدلالي.

2- التوازي المتضاد: تشابه بين طرفين متعادلين ومتتالين على مستوى البنية الصوتية، ولكنهما متقابلان تقابلا ضديا من حيث العناصر اللغوية (22). وهذه البنية المتضادة تظهر بوصفها مكونا صوتيا تعالقيا تتأسس وفقها بعض خطابات العهد الفكرية والوجدانية. فمن أهم الأصول المنهجية المتبعة في العهد اعتماد العقل والاستدلال والكشف كآلية متبعة لإرساء مشروعه، وتعضيد هدفه في التأثير، وهو ما يبدو في أحيان كثيرة في رؤية جدلية تعرض الأمر على وجوهه المتعارضة بحثا عن الحقيقة اليقينية، وهذا الاستدلال يتخذ طابعا تقابليا في

ص: 317

الغالب، ويظل حاضرا بقوة في تناول العديد من الظواهر والقضايا التي تبدو مسايرة ومصاحبة لكل زمان ومكان، فالعهد وإن كان يتوجه في خطابه إلى متلق محدد (مالك الأشتر الحاكم الجديد) إلّا أنه في عمومه ينفتح على أفق التلقي العام الذي تحضر فيه كل إدارة متميزة، وذلك لأن العهد استند إلى الحقائق المعرفية الثابتة في النفس الإنسانية والمستوحاة من روح الإسلام ومبادئه، وهي - بالتأكيد- صالحة للناس في كل زمان ومكان. وهذا النسق من التوازي في نص العهد من عناصره الاستدلالية التي ضمنت لنتاجه قوة حجاجية وإقناعية (23). ويمكن أن نقف على بعض صوره، ومنها قول الإمام في عدم المساواة بين (المحسن والمسيء): ((فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة)). فالجملتان المتوازيتان (تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان) و (تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة) اتفقتا صوتا و ترکیبا ودلالة، وهذا التعاضد لصور التوازي الثلاث، صعّد من حركية النص باتجاه التعارض، فتكرار الملفوضات صوتيا (أهل الإحسان) و (أهل الإساءة) وتكرار (الإحسان والإساءة) فضلا عن توازيها ركّز في مخيلة المتلقي هذه الصور المتناقضة، بل إن النص فعل من ذلك حينما اختار لكل من الإحسان والإساءة (أهلا)، ليجعل من هذه الصفة ملازمة لكل صنف، زاد من رسوخ مبدأ التعارض بين الطرفين وضرورة الأخذ بميزان العدل بينهما مجيء التوازي مؤكدا ب (إن). ومن أمثلة هذا التوازي أيضا قول الإمام (عليه السلام) في العناية الشديدة بشؤون الرعية: ((فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسیم موقعا لا يستغنون عنه)).

إذ رسم هذا القول صورتين متوازيتين للمنفعة، بأسلوب مرکز ومكثف، نجح في تنظيم المتضادات ومراعاة ترتيبها. ففي النص مماثلة صوتية بين الملفوضات (لليسير - للجسیم) و (موقعا - موضعا) و (ينتفعون - يستغنون)

ص: 318

و (به - عنه) بيد أن بينها مفارقة دلالية، عززت من العلاقة الجدلية داخل النص. فاليسير يباين الجسيم ولذلك فإن ما يتصل بهما جاء متباينا أيضا، وقد يبدو أن (موضعا) و (موقعا) متقاربان في المعنى إلّا أن تعلق كل واحد منهما بمستوى معين للمنفعة منحهما فارقا دلاليا دقيقا. ومما يلفت الانتباه في النص أنه قدّم المهم (اليسير) وأخرّ الأهم (الجسيم) مما يعني أن التوازي قد لا يلتزم بالمواصفات المعيارية ويتخذ طابعا انزياحيا، غايته هنا العناية بالمتقدم ولفت الأنظار إلى أهميته أيضا، إذ لا يمكن تصور تلبية (اليسير) دائما، أي إن العهد ينطوي على رؤية متوازنة في تفحص شؤون الرعية وتلبية حاجاتها جميعا الأساسية منها والثانوية بما يخلق حياة أمثل.

3- التوازي التأليفي: هو التوازي الذي تكون فيه الجملة الثانية وأحيانا عدة جمل متتالية مكملة أو ملحقة بالجملة الأولى (24). بما يعين على إتمام المعنى وبلورته في إطار بنية صوتية منسجمة، ويمكن أن نرصد هذا النمط من التوازي في الفقرة الآتية من العهد: ((أنصف الله وأنصف الناس؛ من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك)) (25).

فالجملة الثانية (أنصف الناس) متوازية صوتا ودلالة مع الجملة الأولى (أنصف الله) وربما كان لتكرار (أنصف) أثر في ذلك إذ لم يكتف النص بها مرة واحدة، وإنما کررها لتحقيق قيمة إيقاعية وقيمة دلالية لكي لا يساوي النص بين إنصاف الله وإنصاف الناس، وهذا التوازي التأليفي إيضاحي استدعى مكملات جديدة، جاءت بصيغ متوازية، فكأنه ينطوي على سؤال مؤداه: أنصف الله وأنصف الناس ممن؟ لتأتي المكملات الجديدة في نسق من التوازي الثلاثي تكشف عن ذلك و تجليه. وهذه التوازيات الثلاثة ذات ملامح صوتية متماثلة على الرغم من أن الثانية والثالثة

ص: 319

منه ضمّت عناصر لغوية جديدة، ألّا أن ذلك لم يفسد سمة التناسب الصوتي فيها، لأن الإضافة في الجملة الثانية اقتصرت على عنصر واحد (خاصة)، أما الجملة الثانية التي اشتملت على أكثر من إضافة (من لك فيه هوى) في حفظ الخاصية الصوتية المنسجمة فيها إن الإضافة الجديدة لم تتخلَّ عن (الكاف) في (من لك) الذي مثّل النهاية المسجوعة في هذه التوازيات الثلاثة.

إن هذا التوازي ((يشعر المتلقي إزاءه بقيم دلالية، وطاقات جمالية نابعة من مستويات التناسب اللفظي... الذي ينهض بالنص، وينظم الفاعلية الإيقاعية التي تعمق المعنى، وتزيد من فاعلية الجرس الموسيقي المؤثر)) (26) الذي يبدو في صورة منتظمة مؤتلفة أكثر من أنماط التوازي الصوتي الأخرى في العهد إلى درجة أنه يكاد يدخل النص الذي يرد فيه في بنية صوتية متطابقة، ويظهر ذلك في حث الإمام للأشتر بأن يختار لعبادته: ((أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية)) (27).

فقد ضمّ هذا النص أنموذجين للتوازي التأليفي ذي العلاقات الثنائية، اللذين يتوقف تمام المعنى فيهما على العلاقة الثانية. وقد جاءت الجملتان في كل نسق من هذه الأنساق المتوازية متماثلة تماثلا تاما في عدد الكلمات و تطابق الحرف الأخير من كل كلمة تقريبا. وبالنحو الآتي:

أفضل تلك المواقیت أجزل تلك الأقسام صلحت فيها النية سلمت منها الرعية مما يمنح النص فاعلية صوتية منسجمة تبعث على هدوء الإرسال ووصول

ص: 320

في دفقات منتظمة إلى المتلقي، ولذا لا نبالغ إذا قلنا: إن هذا النص يدخل في تألیف شعري أكثر منه في تأليف نثري. ويمكن أن نطالع نصوصا أخرى مشابهة في التوازي التأليفي منها: ((املك حَميّة أنفك، وسَورة حَدِّك، وسطوة يدك، وغَرب لسانك)) (28).

4- التوازي الدائري: من خلال قراءتنا للعهد، وجدنا أنه يعتمد على نمط من التوازي الصوتي يمكن أن نطلق عليه (التوازي الدائري) الذي يعني أن تتألف الفقرة من توازيات صوتية عدة يتشاكل الأخير منها مع أنساق متقدمة الأمر الذي يؤلف تواصلا صوتيا دائريا، وهذا النمط يأتي في مواضع قليلة من العهد منها: ((وليس أحد من الرعية، أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة)) (29).

فهذا النص ضمّ مجموعة من الجمل المتوازية، إذ تتآلف الجملتان الأولى والثانية منها ثم الثالثة والرابعة، لتأتي الجملة الخامسة بعد ذلك فتشّكل من جديد نسقا توافقيا مع التوازي الأول، فقوله: (وأقل شكرا عند الإعطاء) يماثل قوله: (وأقل معونة له في البلاء). وهو ما يصعّد من الطاقة الإيقاعية في النص، ویکسر ما قد يترتب على ذلك من رتابة أو استمرارية ربما تنتهي به إلى الاعتيادية (30). ويمكن أن نرصد توازيا دائریا آخر في النص فقوله (من أهل الخاصة) يمثل عودة على نقطة البداية (من العامة)، فبين العبارتين علاقة صوتية ودلالية، وهذا التوافق بين نقطتي البداية والنهاية وازن النص وعمل على شد أجزائه، وأضفى عليه طابعا تشويقيا يجذب المتلقي الذي يتشوق في تلقيه البداية إلى معرفة النهاية. وبذلك يخرج التوازي الصوتي ((عن وصفه ظاهرة (صوتية) أو (شكلية) أو (جمالية) ليكتسب قواما بنائیا وأسلوبيا يرفد النص بالتلاحم والترابط)) (31)

ص: 321

ثبت المصادر

1. أسلوبية الانزياح في شعر المعلقات، عبدالله خضر حمد، عالم الكتب الحديث، ط 1، الأردن، 2013 م.

2. البديع والتوازي، د. عبدالواحد حسن الشيخ، مطبعة الإشعاع الفنية، ط 1، الاسكندرية، 1999 م.

3. بنية التكرار في شعر أدونيس، د. محمد مصطفی کلاب، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، مج 23، 16، 2015 م.

4. تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط 4، الدار البيضاء، 2005 م.

5. التوازي التركيبي في ديوان فجر الندى لناصر لوحيشي، حلاب نور الهدى، رسالة ماجستير، جامعة العقيد أكلي محند أولحاج، الجزائر، 2014 2015 م.

6. الثنائيات الضدية في شعر أبي العلاء المعري، د. علي عبدالإمام الأسدي، تموز للطباعة والنشر، ط 1، دمشق، 2013 م.

7. قضايا الشعرية، رومان یا کبسون، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال، ط 1، الدار البيضاء، 1988 م.

8. لسانیات النص مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، ط 2، الدار البيضاء، 2006 م.

9. مدارات نقدية في إشكالية النقد والحداثة والإبداع، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1، بغداد، 1987 م.

ص: 322

10. المستويات الجمالية في نهج البلاغة، دراسة في شعرية النثر، نوفل أبو رغيف، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1، بغداد، 2008 م.

11. المفكرة النقدية، د. بشری موسی صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، ط 1، بغداد، 2008 م.

12. الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، د. محمد العمري، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2001 م.

13. نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، مؤسسة المختار، ط 1، القاهرة، 2006 م.

ص: 323

الهوامش

1. قضايا الشعرية، رومان یا کبسون: 103.

2. ينظر: المصدر السابق: 104، 105، 108.

3. قضايا الشعرية: 106.

4. المفكرة النقدية، د. بشری موسی صالح: 53.

5. قضايا الشعرية: 103.

6. لسانیات النص، محمد خطابي: 229.

7. ينظر: التوازي التركيبي في ديوان فجر الندی، حلاب نور الهدی: 18.

8. المفكرة النقدية: 55.

9. الموازنات الصوتية، د. محمد العمري: 35.

10. البديع والتوازي، د. عبدالواحد حسن الشيخ: 24.

11. قضايا الشعرية: 105 106.

12. المصدر السابق: 108.

13. ينظر: البديع والتوازي: 8.

14. ينظر: المفكرة النقدية: 54.

15. نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده: 421.

16. المصدر السابق: 416.

17. ينظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح: 25 18. لسانیات النص: 179.

ص: 324

19. نهج البلاغة: 418 419.

20. المستويات الجمالية في نهج البلاغة، نوفل أبو رغيف: 86.

21. نهج البلاغة: 420.

22. ينظر: مدارات نقدية، فاضل ثامر: 231، أسلوبية الانزياح في شعر المعلقات، عبدالله خضر حمد: 260.

23. ينظر: الثنائيات الضدية في شعر أبي العلاء المعري، د. علي عبدالإمام الأسدي: 152.

24. ينظر: مدارات نقدية: 232.

25. نهج البلاغة: 418.

26. بنية التكرار في شعر أدونيس، د. محمد مصطفی کلاب: 88.

27. نهج البلاغة: 431.

28. نهج البلاغة: 435.

29. المصدر السابق: 419.

30. ينظر: المستويات الجمالية في نهج البلاغة: 95.

31. المفكرة النقدية: 56.

ص: 325

ص: 326

اسلوبية الحجاج في عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الاشتر (رضي الله عنه) أ. م. د. اسراء خليل فياض كلية التربية / الجامعة المستنصرية م. د. آیات عبد جوني كلية الاداب / الجامعة المستنصرية

اشارة

ص: 327

ص: 328

توطئة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين.... وبعد يمتاز اسلوب امير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) بالبلاغة والفصاحة والاقناع فضلا عن جمالية السياق اللفظي والتركيبي والتصويري والايقاعي، فهو سيد البلغاء يمتلك زمام الكلمة وسر ابداعها في خطبه وشعره ومؤلفاته برمتها. ومن هنا كانت الرغبة في دراسة أسلوبية الحجاج في واحد من مآثره الخالدة وهو العهد الذي وجهه الى والي مصر مالك الاشتر. فبعد ان قرأنا العهد وما فيه من مضامين ادارية وقضائية متعددة تمثلت من خلال موضوعات جانبية متفردة في هذا العهد القضائي والوصايا الادارية التي تخوض في صميم العمل القضائي فضلا عن خوضه في جوانب النفس الانسانية وما تشعر به ازاء الحاكم في مختلف تصرفاته وبته في الامور وحكمته التي تنطلق من نفس بشرية تخاطب النفس البشرية المخاطبة. وجدنا قضایا حجاجية متعددة يحتاج اليها المحتوى النصي السياقي بموضوعاته المختلفة تمثلت من خلال الالفاظ والتراكيب والصور والايقاع. وعلى هذا الاساس كان البحث بمحاور متعددة. جاء المبحث الاول ليسلط الضوء على العهد و موضوعاته في نظرة شمولية تعريفية ومن ثم جاء المحور الثاني في مفهوم الحجاج ومضامينه التعريفية، وجاء المحور الثالث ليخوض في الاساليب والتراكيب الحجاجية في العهد، وكان المحور الرابع خاصا في حجاجية الصورة في تشخيصها و تجسیمها ورسمها الابداعي، ولابد لنا من الاشارة الى اننا في محوري التراكيب والصور اعتمدنا المنهج التحليلي الفني فعرجنا من خلال التجليل الى ايقاعية الاصوات ودلالة الالفاظ ان تطلب الامر ذلك بما ينسجم والسياق النصي. ثم خاتمة البحث التي عرضنا فيها النتائج البحثية. وفهرس بالهوامش ومصادر البحث.

ص: 329

المحور الاول: التعريف بالعهد ومضامينه الموضوعية

لاشك قبل ان نعرف بالعهد ومضامينه الموضوعية علينا ان نتحدث قليلا عن المؤلف او المرسل (الامام علي عليه السلام) ونتحدث عن المرسل اليه المباشر او المتلقي المباشر او المخاطب المباشر (مالك الاشتر) وقلنا المرسل اليه المباشر لان هناك متلقي او مرسل اليه ضمني او خارجي وهو القارئ من اي زمان ومکان.، وبعدها نتحدث عن الرسالة (العهد) ومضامينه الموضوعية المتعددة.

اولا: المؤلف او المرسل (الامام علي بن ابي طالب عليه السلام)

هو علي بن ابي طالب، بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، بن کلاب، بن مرة بن لؤي، بن غالب. بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن الخزيمة، بن مدركة، بن الياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. ومن القابه، امير المؤمنين، اسد الله الغالب، یعسوب الدين، ولي الله الاعظم، المرتضی، حیدر، الكرار، ومن الكنى التي عرف بها: ابي تراب، ابي الحسن، ابي زينب. ابي الحسنين، ابي السبطين. (1) ابوه عمران وقيل اسمه عبد مناف، ویکنی بابي طالب، وهو شيخ البطحاء، وامه فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف ولقد كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة الام. (2) ولد يوم الجمعة 13 رجب بعد عام الفيل بثلاثين عاما، ایام سلطنة خسرو وبرویز من ملوك الفرس، وكان محل ولادته في مكة المكرمة وفي جوف الكعبة المعظمة، عاش 63 سنة. وكانت مدة امامته 29 عاما من سنة 11 هجرية والى سنة 40 هجرية. (3) تزوج من سيدة نساء العالمين بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السيدة فاطمة الزهراء البتول (عليها السلام). استشهد يوم الاثنين او الاحد 21 رمضان

ص: 330

وقيل ليلة الجمعة 40 هجرية. وكان سبب شهادته ضربة الملعون عبد الرحمن بن الملجم المرادي بالسيف المسموم على رأسه وهو في المحراب يصلي صلاة الفجر في مسجد الكوفة، وقد دفن في النجف الاشرف في العراق (4).

وكان (عليه السلام) معروفا بشمائله الاصيلة وابرزها الشجاعة والبلاغة، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب مقابله فهو ما بارز احدا الاقتله، ولافرقط، اذ يقول عن نفسه (ما بارزت احدا الا وكنت انا ونفسه عليه)، ومن الشواهد الباررزة على شجاعته التي لاتضاهى مبيته في فراش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقی الرسول وفداه بروحه (5).

وعرف فارسا شجاعا في واقعة بدر حيث بارز الوليد بن عتبة حتى ارداه قتيلا وشارك عمه الحمزة في قتل عتبة واشترك هو والحمزة في قتل شيبة (6).

اما عن بلاغته فهو سيد البلغاء فالنص عنده ينقل الافكار بصدق تام فهو كان قادرا في فنونه البلاغية المبدعة، وكان فصيحا فكلامه اشرف الكلام بعد كلام الله تعالى وابلغه واغزره مادة وارفعه اسلوبا، وهو يقدم النص الوصفي بقدرة رائعة ويستنطق الصفات واهبا اياها المقدرة على ان تستعرض نفسها، وقد تميز بقوة ملاحظته النادرة وذاكرة قوية تغذي الفكر والخيال (7).

ونحن في هذا المقام لانريد الاطالة في سيرته (عليه السلام) لانه اشهر من نار على علم وقد كتب في سيرته الجليلة المجلدات الكثيرة، ونكتفي بهذه النبذة المبسطة عن سيرته العظيمة (عليه السلام).

ص: 331

ثانيا: المتلقي النصي (المرسل اليه) وهو مالك الاشتر:

هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن سلمة بن ربيعة النخعي، ولقب بالاشتر لان احدى عينيه (شترت) اي شقت في معركة اليرموك، ولد مابين سنة (25 - 30) قبل الهجرة، عاصر مالك الاشتر النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه وقال عنه الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) انه المؤمن حقا، وهذه الشهادة ما بعدها شهادة بالتاكيد. ومالك الاشتر من المجاهدين الذين شاركوا في حروب الردة، والفتوحات الاسلامية وله الدور المميز في معركة اليرموك التي نشبت بين المسلمين والروم سنة 13 هجرية. (8) وكان الاشتر لسان صدق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لما اصاب الدولة الاسلامية من الانشقاق والفتن، وكان مواليا لامير المؤمنين ولم يفارقه قط لاقبل توليته الخلافة ولا بعدها اذ كان جنديا وفيا مخلصا له، وبعد خلافته (عليه السلام) سنة 36 هجرية جعله واليا على مصر وارسله الى مصر، استشهد مالك الاشتر سنة 37 هجرية بعد ان دس له السم معاوية عن طريق رجل من أهل الخوارج فاستشهد ودفن في مصر (9) وبعد ان تحدثنا عن المرسل و المرسل اليه (النصي)، نقول ان المتلقي الضمني او القارئ الضمني شاخصا من خلال القراء لهذا الاثر الجليل الذي مازال عالقا في الاذهان وسيبقى دستورا ارشاديا لكل والي الى يوم يبعثون، وها نحن اليوم نری الاف البحوث تكتب عن هذا الاثر الخالد والجليل. وجاء الدور الان لنتحدث عن الرسالة النصية او مضمون و محتوى العهد بصورة موجزة من خلال الاستعراض الموجز لموضوعاته.

ص: 332

ثالثا: مضامين العهد (الرسالة النصية):

تألف العهد من ثلاثة واربعين موضوعا اداريا وتصب هذه الموضوعات في صميم العمل القضائي والاحكام الادارية وكانت مواضيعها كالآتي: (10) اولا: الامر بالتقيد بالقانون وضبط النفس ثانيا: اخذ العبرة ممن سبقه في الحكم ثالثا: العمل الصالح والرحمة بالناس والعفو رابعا: اطاعة القانون وعدم التكبر خامسا: العدل والإنصاف وتجنب ظلم العباد سادسا: سخط الناس سابعا: المخبر والواشي ثامنا: المستشار البخيل والجبان تاسعا: عدم استخدام مسؤول سابق خائن لشعبه عاشرا: استخدام التقاة الصادقين حادي عشر: الاحسان وحسن الظن ثاني عشر: ادامة العمل الجيد السابق ثالث عشر: مجالسة العلماء والخبراء رابع عشر: الاجهزة الامنية والقضاء خامس عشر: مراعاة التجار والكسبة سادس عشر: مراعاة المستضعفين من الناس

ص: 333

سابع عشر: قيادة الجيش ثامن عشر: رعاية وجهاء الناس تاسع عشر: صفات قادة الجيش ورعايتهم للجنود عشرون: العدل والتواصل مع الناس احدى وعشرون: اختيار المدراء والقضاة اثنتان وعشرون: اختيار الولاة (المحافظين) ثلاث وعشرون: مراقبة اعمال المحافظ والمسؤولين المقربين اربع وعشرون: متابعة الضرائب واعمار البنى التحتية خمس وعشرون: توفير الخدمات للناس اولا ثم الضرائب سادس وعشرون: اختيار السكرتير والجهاز الإداري والمالي سابع وعشرون: التجارة والصناعة ثامن وعشرون: منع الاحتكار ومعاقبة المحتكر تاسع وعشرون: رعاية ذوي الدخل المحدود من الناس ثلاثون: رعاية الايتام والمسنين احدى وثلاثون: لقاء المسؤول المباشر مع الناس وآدابه اثنتان وثلاثون: اجابة المسؤولين في درجة اسفل ثلاث وثلاثون: جدولة العمل اليومي وبذل الجهد رابع وثلاثون: امامة الناس في الصلاة وبساطتها خامس وثلاثون: اطالة الاحتجاب عن الناس

ص: 334

سادس وثلاثون: الحذر من الحاشية ومراقبتهم سابع وثلاثون: الركون الى السلم والصلح ومنع الحرب ثامن وثلاثون: الحفاظ على العهد مع العدو تاسع وثلاثون: صفة وثيقة العهد اربعون: حفظ حرمة دم المواطن احدى واربعون: النهي عن المنة واعجاب المسؤول بنفسه ثاني واربعون: نهي المسؤول عن التسرع والاستئثار ثالث واربعون: الاتعاظ بسلوك الحكومات السابقة اربع والابعون: الامام علي (عليه السلام) يذكر مالكا بوصية الرسول (ص) خمس واربعون: يدعو لنفسه ولمالك بالتوفيق وعاقبة الشهادة ولاشك ان الامام علي (عليه السلام) في تلك المضامين لم يدع صغيرة ولاكبيرة في امور الولية والحكم الا وذكرها ضمن هذه المضامين الموضوعية والتي تضم بين سطورها الاسلوب البلاغي المقنع والرصين وذلك ما دعانا الى البحث في قضية الحجاج الاسلوبي في تلك المعاني السامية.

ص: 335

المحور الثاني: مفهوم الحجاج

الحجاج هو تقديم الحجج المؤدية الى نتيجة معينة، وهو يتمثل في انجاز تسلسلات استنتاجية ومعنوية داخل الخطاب. وبعبارة اخرى يتمثل الحجاج في انجاز متواليات من الاقوال بعضها بمثابة الحجج اللغوية وبعضها بمثابة النتائج التي تستنتج منها. (11) ويعد الحجاج من اهم النظريات التي تهتم بها التداولية الى جانب نظرية التلفظ وافعال الكلام، وهو يرتكز أساسا على دراسة الاسلوب الذي ينسجه المتكلم للتعبير واقناع المتلقي بالموضوع او الرسالة النصية التي يريد ايصالها الى المتلقي المباشر والغير مباشر بمختلف الطرائق الاسلوبية كالاشارات والعبارات والحجج، اذ لايمكن لاي مخاطب شاعر او كاتب ان يستغني عن هذا الاسلوب الذي يستهوي المتلقي، ومصطلح الحجاج له جذور عميقة في البلاغة اليونانية عند سقراط و افلاطون وارسطو. (12) والحجاج هو الحجة والبرهان، وقيل الحجة مادوفع به الخصم، والتحاج التخاصم وجمع الحجة حجج وحجاج وحاجه محاجة وحجاجا نازعه الحجة. والحجة هي الدليل والبرهان ومنه تخرج لفظة الحجاج مرادفة للجدل. (13) وتذهب معظم التعاريف الاصطلاحية للحجاج الى ان الحجاج عبارة عن علاقة تخاطبية بين المتكلم والمستمع حول قضية ما، متکلم یدعم قوله بالحجج والبراهين لاقناع الغير والمستمع له حق الاعترض عليه ان لم يقتنع، والصفة الثانية للحجاج هي كونه جدلي لان هدفه اقناعي، والحجاج عملية تواصل مع الاخر من اجل التاثير وهذا التاثير ينتج من خلال استعمال وسائل مختلفة، ويعتمد الحجاج اساسا على مرسل و مرسل اليه، والدور الكبير في هذه العملية يعود الى المرسل نظرا لما يبذله

ص: 336

من جهود ذهنية للحصول على حجج مقنعة وعلى المرسل ان يكون بارعا في اختياره لهذه الحجج نظرا لتفاوتها في درحات الاقناع. (14) ويعد البيان من اهم الاساليب الاقناعية فضلا عن الاساليب التركيبة والبنی الايقاعية فهناك الكثير من الاليات الحجاجية والاسلوبية التي تسهم في تعزيز الدور الاقناعي في النص كالاطناب والفصل والوصل والتكرار والنفي، فضلا عن ادوات الربط التي تسهم في تعزيز المعنى وتقويته والتضاد والترادف، ولاننسى الاستعارة ودورها الهام في الحجاج حيث تعد الاستعارة الحجاجية بانها تمثيل ناتج عن الانصهار بين عناصر الصورة الحجاجية. (15) ووفقا للنظريات النقدية الحديثة اصبحت بنية الحجاج تعالج معالجة لسانية محظة وفق المرسل والمرسل اليه (المتلقي)، والرسالة (النص او الخطبة)، وتقسم وظائف الحجاج الى: القناع الفكري الخالص اولا، والاعداد لقبول أطروحة ما ثانيا، والدفع إلى العمل ثالثا. (16) والحجاج هو "حرية وحوار عقليين، ولا يمكن الاستغناء عن الاطر المكونة له والمحيطة به ولاسيما الاستدلال والخطابة.» (17) ولا نريد ان نفصل القول اكثر في هذا التنظير عن الحجاج ومفهومه. لان الغرض من البحث هو الدراسة التحليلية الاجرائية والتي سنتناولها في المحاور القادمة.

ص: 337

المحور الثالث: حجاجية التراكيب والاساليب

شكلت الاساليب النحوية والبلاغية تقنية حجاجية في مختلف مضامين العهد وبمواضع مختلفة تنسجم والسياق الحجاجي الابلاغي المقنع ولا يفوتنا القول اننا نجد ان الاسلوب الحجاجي توالد من اساليب متعددة ولكننا حين نقسم دراستنا الى محاور غرضنا تسلسط الضوع على الاسلوب الاساس الذي شكل الهيمنة الحضورية في السياق النصي ومن ثم نهرج الى الاساليب الاخرى الموشحة مع هذا الاسلوب الاساس او المهيمن. فمن اسلوبية القصر في تعزيز النص الحجاجي قوله وهو يأمره بطاعة الله واتباع اوامره اذ يقول: «امره بتقوى الله، وایثار طاعته، واتباع ما امر به في کتابه من فرائضه، وسنته، التي لايسعد احد الابأتباعها، ولا يشقى الا مع جحودها، واضاعتها» (18) فمن خلال توظيفه لاسلوبية القصر الذي هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص (19) وبشكل متواز تقسیمي فضلا عن الصورة التجسيمية المتجسدة من خلالتجسيمه للفرائض الدينية بالاتباع والجحود فتلك الثنائية جسدت ذلك الابداع الاسلوبيي الحجاجي الذي بني على القصر ثم توالدت منه الفنون البلاغية الاخرى کالتقسيم والتضاد والاستعارة لتكتمل الصورة الحجاجية.

فلايسعد احد الا باتباعها = ولا يشقى الامع جحودها واضاعتها وقد وظف الامام علي (عليه السلام) الجمل الخيرية التوكيدية كثيرا في بناء النص الحجاجي ومن ذلك قوله "ثم أعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك. من عدل و جور، وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم، انما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده" (20)

ص: 338

فالنص قائم على التقريرية والاسلوب التوكيدي الخالي من المجاز وقد اعتمد السياق الحجاجي على التكرار التوكيدي ومن خلال اسلوبية الاطناب المتحققة في التكرار المعنوي بقوله "وان الناس ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم، انما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عباده" (21) وقد حققت اسلوبية الوصل، ثم الفصل المتحقق في الجملة الاخيرة من خلال (ما) التي كفت ان عن العمل لتحقق اسلوبية التوكيد المتواصل في هذ السياق النصي مما عزز الابداع الاقناعي الحجاجي التوجيهي المتضمن في هذا النص.

وقد اتخذ الامام علي (عليه السلام) من النص القرآني والحديث النبوي الشريف وسيلة وحجة ودليلا اقناعيا برهانيا اذ تأتي "فاعلية هذا الاخذ في دعم النص الخطابي وتأكيده بمصدر الاحتجاج الاول وهو القرآن الكريم" (22) وبمصدر الاحتجاج الثاني وهو الحديث النبوي الشريف، اذ يأتي الامام بالنص القرآني کاملا غیر محور أو مقتبس ليكون خطاب المرسل مدعوما بحجة وبرهان لا يمكن الحياد عنه من جهة ومن جهة اخرى تكون ابلاغية النص متيسرة مقبولة لدى المتلقي.» و اردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الامور، فقد قال الله سبحانه وتعالى لقوم احب ارشادهم "یا ایها الذين امنوا اطیعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منکم فأن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول" (23)، فالرد الى الله الاخذ من كتابه، والرد الى الرسول الاخذ بسنته الجامعة غير المتفرقة. (24) فالنص القرآني يأتي متعالقا دلاليا ومعنويا ونفسيا مع حديث الامام وحثه لمتلقيه في رد ما یضلعه من الامور الجسام ويشتبه عليه من الامور الى الله سبحانه، والى

ص: 339

الرسول مبينا ان الرد الى الله يكون بمحكم كتابه والرد على الرسول هو الاخذ بسنته الجامعة غير المفرقة فالنص القرآني جاء مكملا ومؤكدا لما اراد الامام ایصاله للمتلقي بوصفه بنية احتجاجية ووسيلة اقناعية فتطابقت مع ما يقول الامام في تصوير امر نفسي فمفتاح الاقناع كامن في تعلم المتلقي من خلال المعلومات التي يقدمها القائم بالاتصال حتى يتغير البناء النفسي الداخلي للفرد، المستهدف (الاحتياجات، المخاوف التصرفات) مما يؤدي إلى السلوك العلني المرغوب. (25) وفي حثه لمالك وتحذيره من المن على رعيته يلجأ إلى ختام خطابه بالنص القرآني اذ يقول: «اياك والمن على رعيتك باحسانك او التزيد فيما كان من فعلك، او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فان المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال سبحانه: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما الاتفعلون)» (26) اذ جاءت الآية القرآنية بنية تفسيرية للمرسل اليه لما تقدم من خطاب، اما الحديث النبوي الشريف فنجده يلجأ اليه كوسيلة اقناعية غير مباشرة لخطابه، اذ يقول في الحديث عن الاحتکار» و اعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك في باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فان رسول الله منع منه» (27) فقد اشار الى منع رسول الله للاحتكار والنهي عنه، كما ورد في أحاديث كثيرة منها ما ورد عن ابن ماجة والحاكم عن ابن عمران، ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» (28) وما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)" من احتكر الطعام اربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" (29) ومن الاحاديث النبوية التي احتج بها الامام بصورة مباشرة في خطابه وحديثه

ص: 340

عن المسؤول المباشر مع الناس وادابه اذ يقول: "واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرع لهم فيه شخصك. وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتفقدك جندك، واعوانك من احراسك وشرطك، حتى يكلمك فتكلمهم غير متمنع، فاني سمعت رسول الله يقول في غير موطن "لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متمتع" (30) اذ جاء الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف لاقناع المخاطب بوجود هذا الصنف من ذوي الاحتياجات (المتظلمين) والذي يجب على مالك ان يجعل قسما منه يفرع لهم فيه شخصه بشروط ان يجلس لهم مجلسا عاما متواضعا لله، بشرط عدم تعرض الجند والاعوان والحراس والشرطة يكلمه فيكلمهم دون تردد.اذ ان مجئ الامام بوسيلة اقناعية وحجاجية، تؤكد خطابه في تقويم التكوين والسلوك.

وكذلك قوله في الامامة بالناس: "واذا اقمت في صلاتك للناس فلاتكونن منفرا ولا مضيعا، فأن من الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله حين وجهني الى اليمن كيف اصلي بهم؟ فقال "صلي بهم كصلاة اضعفهم، وكن بالمؤمنين رحیما" (31) اذ يكون الاستدلال بالحديث النبوي الشريف بصورة مباشرة في "صل بهم كصلاة اضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما" (32) فهي تؤكد مسألة اخلاقية من حهة ومسألة اجتماعية ونفسية من جهة اخرى. فلا تكونن منفرا ولا مضيعا هنا اراد به الامام التوسط في الصلاة والظروف الصحية والنفسية، ومراعاة الاصحاب العلة والحاجة من جهة ودعوة للرحمة من جهة ثانية، فضلا عما تمتاز به من الاستمالة العاطفية "التاثير على وجدان المتلقي وانفعالاته، واثارة حاجاته النفسية والاجتماعية ومخاطبة حواسه، بما يحقق اهداف القائم بالاتصال" (33) من خلال الاعتماد على النص القرآني والحديث

ص: 341

النبوي دعما لذلك الاتصال بالمتلقي، فكلما كان الخطاب في حدود فهم المتلقي كان امر تحققه سهلا.

ولاشك ان اسلوب النهي مع نون التوكيد كان له طاقة اسلوبية وحجاجية فاعلة في رفد النص بالرؤى والطاقات المعنوية المتعددة ومن ذلك قوله "ولا تنصبن نفسك لحرب الله (مخالفة شريعته بالظلم والجور)، فأنه لايدي لك بنقمته (اي لاطاقة لك بها)، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولاتبجحن (تفرح بزهو) بعقوبة، ولاتسر عن الى بادرة (يبدر من الحدة عند الغضب) وجدت منها مندوحة (متسعا)، ولا تقولن: اني مؤمر (مسلط) امر فاطاع، فأن ذلك ادغال (ادخال الفساد) في القلب، ومنهكة (مضعفة) للدين، وتقرب من الغير (حادثات الدهر بتبدل الدول) (34) وبذلك نجد ان التكرار المتناوب لصيغة (لا الناهية مع فعل المضارع المضاف لنون التوكيد الثقيلة اسهم في رفد النصب بشحنات اقناعية متعددة المعاني (لاتنصبن، لاتندمن، لاتبجحن، لاتسرعن، لاتقولن) فضلا عن التكرار التدويمي للفونيمات للصيغة الصرفية (لاتفعلن) تلك الصيغة التي وجهت الخطاب في سياق توجيهي اقناعي.

وتاتي الصيغة الشرطية فعل الشرط وجواب الشرط الموشحة بالتاكيد الخبري في قوله: "واذا حدث لك ما انت فيه من سلطانك ابهة (الكبرياء) او مخيلة (الخيلاء)، فأنظر الى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فأن ذلك يطامن (يخفض) اليك من طماحك (النشوز والجماح)، ويكف عنك من غربك (الحدة)، يفيء (يرجع) اليك بما عزب (غاب) عنك من عقلك." (35) فالصيغة الشرطية اذا وظفها الامام ليجسد خطابه للنفس البشرية عامة من خلال

ص: 342

مالك الاشتر، وما يصيب تلك النفس من كبر وزهو، ثم يأتي بفعل جواب الشرط (فأنظر) ليحقق الحجاجية الاقناعية في ردع هوى النفس وكبرها وتيهها من خلال التاأمل بدلالة القدرة، ثم تتوالى الاقعال المضارعة مع ان التوكيدية (يخفض، يكف، يفي) لتجسد صورة النفس بعد التأمل بدلائل القدرة الالهية. ولاشك ان هذ التكرار المتناوب لصيغة الفعل المضارع اسهم في رفد النص بالطاقات الايقاعية امتوازية التي اثرت الجانب الدلالي فكان السياق منسجما في صوته ودلالته.

ومن بديع الاقتباس اللفظي من القرآن الكريم قوله "اياك ومساملة (السمو) الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فأن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال" (36) فالجبار والمختال الفاظ قرآنية وظفها الامام مع (ان) الناصبة باسلوب توكيدي خبري ليحقق الاقناع والحجاج الاسلوبي الفاعل.

ويتوالد الحجاج الاقناعي من مغبة الظلم وعواقبه الوخيمة من خلال تكرار (من) الاستفهامية عن العاقل، ومن خلال اسلوبية الوصل بالواو العاطفة التي اسهمت في ذلك الاثراء الحجاجي، ويتمثل ذلك بقوله "انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى (تميل اليه) من رعيتك، فانك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عبادة، ومن خاصمه الله ادحض (ابطل) حجته، وكان لله حربا حتى ينزع (يقلع عن ظلمه) ويتوب وليس شئ ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم، فأن الله اقامة على ظلم، فأن الله سميع دعوة المظطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد". (37) وتشكل (لا) بمختلف انواعها اداة فاعلة في رسم السياقات الحجاجية والاقناعية في العهد بمختلف مضامينه كما ذكرنا من قبل، ومن ذلك قوله في المستشار البخيل والجبان "ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل (الاحسان بالبذل

ص: 343

)، ويعدك الفقر (يخوفك منه لو بذلت)،ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولاحريصا يزين لك الشره (اشد الحرص) بالجور، فأن البخل والجبن والحرص غرائز (طبائع متفرقة) شتى يجمعها سوء الظن بالله" (38) فكرر (لا) ثلاث مرات ليجسد الدلالات الجاجية المتضمنة في النص حول البخيل والجبان، ثم يختم النص بالجملة الخبرية والتوكيد ب (ان) الناصبة ليبين ان من يحمل تلك الصفات السلبية يسيئ الظن بالله جل وعلا.

وتتراصف (لا) مع افعل التفضيل في بيان عدم استخدام مسؤول سابق خائن لشعبه اذ جاء "شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلايكونن لك بطانة (خاصته وحاشيته)،فأنهم أعوان الاثمة (المذنبين)، واخوان الظلمة وانت واحد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل اصارهم (الذنب والاثم)، واوزارهم (الذنوب) واثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا أثما على أثمه، اؤلئك أخف عليك مؤونة، واحسن لك معونة، واحنى عليك عطفا، واقل لغيرك الفا (الالفة والمحبة)،فأتحذ اؤلئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم لكن آثرهم عندك اقولهم بمر الحق لك، واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع" (39) وكثيرا ما يوظف الجمل الخبرية باطار متواز وتقسيم صوتي يحقق الحجاجية والاقناع بشكل متناسق ترتيبي اذ يقول "وأكثر مدارسة العلماء، ومنافئة (مجالسة) الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك، واقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم ان الرعية طبقات لايصلح بعضها الاببعض، ولاغنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، منها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار

ص: 344

واهل الصناعات، ومنهم الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى سهمه (نصيبه من الحق)، ووضع على حده وفريضته في كتابه او سنة نبيه عهدا منه عندنا محفوظا." (فاستطاع التقسيم الخبري ان يثري النص بالمعاني الحجاجية للطبقات العامة والخاصة وتقسيماتها الوظائفية ومهامها الاجتماعية.

وتتوالى الجمل الخبرية في نسج المعاني الحجاجية وقد تأتي متواشجة مع اسلوب القصر لتحقق ابلغ المعاني الحجاجية ومن ذلك قوله» وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله، فأن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولاصلاح لمن سواهم الابهم، لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد، ولم يستقم أمره الا قليلا» (40) فالحجاجية الابلاغية تمثلت في توظيف ان التوكيدية مع اسلوب القصر المتحقق بالاستثناء القصري ب (الا) وتكراره المتناوب في النص فضلا عن التوازي الصوتي بين الجمل (اخرب البلاد، واهلك العباد).

وحققت اسلوبية التوازي الصوتي الدور الفاعل والمميز في رفد السياق التركيبي بالشحنات الاقناعية" والتوازي هو مجموعة بناء في وحدة الوزن بغض النظر عن اختلاف دلالة كل بنية وهو من اشكال النظام النحوي الذي يتمثل في تقسيم الفقرات بشكل متماثل في الطول، والنغمة، والتكوين النحوي، بحيث تبرز عناصر متماثلة في موقع متقابلة في الخطاب" (41) ومن ذلك قوله "ولايدعونك شرف امرئ الى ان تعظم من ثلاثة ما كان صغيرا ولاضعة امرئء الى ان تستصغر من ثلاثة ما كان عظيما (42) فالتوازي هنا قائم على التشابه والتضاد بين وحداته وبين حياة الجنود وليحقق لنا التوازي قيمة اقناعية حجاجية جاءت الصيغة متشابهة بنائيا مختلفة دلاليا عبر التضاد

ص: 345

بين (شرف، ضعة) (وتعظم وتستصغر) (وصغيرا وعظيما)، اذ ان فاعلية التوازي قامت على النهي عن تعظيم ما يقويهم به وان عظم، وان لايستحقر شيئا تعهدهم به وان قل. فالجمل الثلاثة شكلت نسقا متوازيا وفق البنية التكرارية المؤلفة من تكرار لا الناهية الجازمة والفعل المضارع المجزوم والمتصل بنون التوكيد الثقيلة مع شبه الجملة (الجار والمجرور)، اذ قام الامام باحداث نوع من الموازنة الصوتية التي تقوم على اساس الموازنة بين الالفاظ صوتيا مع اختلاف الدلالة.

الا ان الرابط الاساس بينها هو اسلوب النهي الذي تميزت به فاعلية الخطاب الحجاجي اذاحتوت على غلبة وقصد في احداث الموازنة بين الوحدات اللغوية التي تتكرر صوتيا بايقاع واحد في بنى متجاورة، اذ ان وظيفة التوازي هنا وظيفة احتجاجية لايقاع الرهبة في في نفوس المتلقين من خلال قوله "فانه لا يجترئء على الله الا جاهل" (43) ومن ذلك ايضا قوله واياك والعجلة بالامور قبل اوانها، او التسقط فيها عند امکانها اواللجاجة فيها اذا تنكرت، او الوهن عنها اذا استوحشت، فضع كل موضعه، واوقع كل عمل موقعه" (44) عند قراءة النص سوف نجد ثلاث بنى متوازية: الاولى: اياك والعجلة بالامور قبل اوانها، او السقط فيها عند امكانها.

والثانية: او اللجاجة فيها اذا تنكرت، او الوهن عنها اذا استوضحت والثالثة: فضع كل امر موضعه، واوقع كل عمل موقعه

ص: 346

المحور الرابع: حجاجية الصورة

وظف الامام علي (عليه السلام) الاساليب البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية وتضاد لينسج منها السياق الحجاجي والاقناعي الذي ينسجم والنص المقول، ومن تلك الصور الحجاجية قوله: «وان ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه، فأنه، جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصره، واعزاز من أعزه" (45) فلاشك ان قوله (وان ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه) صورة كنائية تجسد النصر الالهي والعز الرباني الكامن في قلب المؤمن المنتصر وبيده ولسانه، فقلبه بذكر الله جهرا وخفاء، وبيده التي تكرم الفقير وتنال من الاعداء، وبلسانه في حكمته وموعظته، ففي اليد والقلب واللسان تجاور دلالي يجسد نسبة تلك الصفات الى الموصوف، ثم يأتي بالجمل التوكيدية التقريرية التي تاكد تلك الصورة الكنائية الحجاجية موظفا اسلوبية التوازي او التقسيم الصوتي فضلا عن التكرار اللفظي للالفاظ (النصر والعز)، ليحقق من تلك الالفاظ وتكرارها والتكرار الفونيمي للفونيمات (النون، والصاد، والعين والراء والزاي) ولاشك ان تكرار تلك الفونيمات المجهورة اسهم في اثراء المعنى الاقناعي والحجاجي لمعاني النصر والعز.

وتتوالى الصور التجسيمية الاقناعية من خلال الاستعارات المكنية في قوله "فليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح، فأملك هواك، وشح بنفسك (ابتعد) عما لا يحل لك، فأن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحببت وكرهت، واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولاتكونن عليهم سبعا ضاربا تغتنم أكلهم، فأنهم صنفان: اما أخ لك في الدين، واما نظير لك في الخلق" (46) فالصور الاستعارية (ذخيرة العمل الصالح، واملك هواك وشح بنفسك) جسدت صورا تجيسمية مع الصيغة الامرية وتكرارها المتواتر الذي اسهم في تعزيز

ص: 347

المعنى الحجاجي، فضلا عن الاقتباس القرآني (لشح النفوس)، ومن ثم يوظف الامام الصيغة التشبيهية الموشحة بلا الناهية الجازمة لينسج مشبها به وهو صورة السبع الضاري الذي يأكل الاغنام.

ويوظف التشبيه في صيغة ذهنية منسجمة مع السياق النصي اذ يقول "فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه" (47) ولاشك ان المشبه به وهي رغبة الانسان في عفو وصفح الخالق اسهم في رفد المعنى بالحجة والاقناع الفاعل.

وتتراصف الصور الاستعارية التجسيمية مع التوازس الصوتي في التقسيم الجملي لتنبثق الدلالات الحجاجية والرؤى الاقناعية المنسجمة مع السياق النصي ويتمثل ذلك في قوله "وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فأن سخط العامة يجحف برضى الخاصة (يذهب برضاهم) وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة" (48) فقد جسم الامور من خلال قوله اوسطها واعمها واجمعها، ثم جسم السخط وجعله يجحف، ووظف التوازي الصوتي بتقسيمه الجملي المتوازن للجمل مما حقق ايقاعا اثرى الدلالة الحجاجية، ووظف الفونيمات المجهورة ليحقق الشدة والصوت الفاعل الذي ينسجم والسياق النصي التوجيهي. ثم نراه يكمل ويفصل في حجاجه واقناعه حول الخاصة والعامة اذ يقول "وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء، واكره للانصاف، واسأل بالالحاف (الالحاح والشدة في السؤال)، واقل شكرا عند الاعطاء، وابطأ عذرا عند المنع، واضعف صبرا عند ملمات الدهر من اهل الخاصة، وانما عماد الدين، وجماع (جماعة)، المسلمين والعدة للاعداء، العامة من الامة، فليكن صفوك (الميل) لهم، وميلك معهم" (49).

ص: 348

ولاشك ان صيغة اسم التفضيل (افعل) وتكرارها التدويمي رفد النص بالطاقات الحجاجية التراكمية التي اثرت النص بالدلالة والايقاع المتوازن في تقسيمات صوتية بینت اهل الخاصفة وصفاتهم مع الوالي مقارنة بأهل العامة الذي وظف لوصفهم صيغة المبالغة (جماع) مع التكرار الصوتي للفونيمات الميم واللام والعين. ومن الصور الاستعارية التجسيمية قوله في المخبر والواشي "اطلق عن الناس عقدة كل حقد (احلل عقد الاحقاد من قلوب الناس بحسن السيرة معهم)،واقطع كل وتر (العداوة)، وتغاب (تغافل) عن كل ما لا يضح (يظهر) لك، ولاتعجلن الى تصديق ساع، فأن الساعي (النمام بمعائب الناس) غاش، وان تشبه بالناصحين" (50).

فقد وظف الامام الصور الاستعارية المكنية في قوله (عقدة كل حقد)، (واقطع سبب كل وتر) ثم يبين صورة النمام من خلال تصوير ظاهره وباطنه فان تشبه الظاهر بالناصحين لكن باطنه نمام وغاش، ولاشك ان الصيغة الامرية لفعل الامر اسهمت ايضا جنبا الى جنب مع الطاقات التجسيمية الكامنة في الاستعارات المكنية في نسج السياق الحجاجي والاقناعي في النص.

ومن الصور الحجاجية قوله "وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم (عودهم) على الايطروك ولا يبجحوك (يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته) بباطل لم تفعله، فأن كثرة الاطراء تحدث الزهو (العجب)، وتدني من العزة (الكبر)» (51) فالتجسيم التصويري لاهل الورع والصدق بالفعل (الصق)،ثم يعزز تلك الصورة التجسيمية بالتوكيد الخبري ب (ان) التوكيدية والتجسيم التصويري للعزة والكبر ولاشك ان تلك الوسائل اسهمت في بيان الاسلوب الحجاجي الاقناعي الذي يثري السياق النصي بمعان ثرة.

ومن الصور الحجاجية ما تقوم على التضاد اوا لتقابل اللفظي الذي يفضي الى

ص: 349

صور حجاجية ومن ذلك قوله "ولايكزنن المحسن والمسيئ عندك بمنزلة سواء، فأن في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه. واعلم انه ليس شيء بأدعى الى حسن ظن وال برعيته من احسانه اليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه اياهم على ماليس له قبلهم (عندهم)، فليكن منك في ذلك امر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فأن حسن الظن يقطع عنك نصبا (التعب) طويلا، وان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وان احق من أساء ظنك به لمن ساء بلاؤك (صنيعك وفعلك) عنده (52).

فالتقابل بين الاحسان والاساءة، وحسن البلاء وساء البلاء اسهم في رفد السياق النصي بالحجاج الفاعل الذي ينسجم والسياق المعنوي في هذا النص. فضلا عن اسلوبية التوازي او التقسيم الصوتي في خاتمة النص اثرى النص بالطاقات الايقاعية المتوازنة مما عزز الجانب الدلالي وطاقته الاقناعية.

ومن الصور الحجاجية قوله في مراقبة اعمال المحافظ والمسؤولين المقربين "ثم تفقد اعمالهم، وابعث العيون (الرقباء) من اهل الصدق والوفاء عليهم، فأن تعاهدك في السر لامورهم حدوة لهم (سوق لهم وحث) على استعمال الامانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من الاعوان، فأن احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، واخذته بما اصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة" (53) فابعث عيون الرقباء، واخبار العيون، وقلدته عار التهمة كلها صور تشخيصية وتجسيمية تجسد الابعاد الحجاجية في ذلك النص التوجيهي. ولايخفى ملحروف العطف وتعاقبها السردي القصصي من اثر فاعل في الاستنطاق الحجاجي السردي.

ص: 350

ونعود ثانية الى التقابل اللفظي بين اللالفاظ لدعم النص بالابداع الحجاجي الاقناعي ومن ذلك قوله "واما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فأن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالامور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وانما الوالي بشر لايعرف ما توارى عنه الناس به من الامور، وليست على الحق سات (علامات) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وانما انت احد رجلين: اما امرؤ سخت نفسك بالبذل (العطاء) في الحق، ففيم احتجاجك من واجب حق تعطيه، او فعل کریم تسديه، او مبتلى بالمنع، فما اسرع كف الناس عن مسالتك اذ ایسوا من بذلك، مع ان اكثر حاجات الناس اليك ما لا مؤونة فيه عليك، من شكاة (شكاية) مظلمة، او طلب انصاف في معاملة" (54) فالمطابقة بين (الحسن والقبح، والصدق والكذب، والمظلمة والانصاف) اثری النص بسياقه الموضوعي بالمعاني الحجاجية الاقناعية الابلاغية ولاشك ان توظيف حروف العطف الواو والفاء اسهم في تعزيز الاسلوب الحجاجي وبيان الفاعلية الاقناعية للنص.

ص: 351

قائمة الهوامش والمصادر:

1. ينظر: الكافي، للشيخ ابي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليبي، الملقب بثقة الاسلام المتوفي سنة 329 هجرية، طبعة دار الكتب الإسلامية، سنة 1365 هجرية، طهران، ایران 2/ 25 2. ينظر: شرح نهج البلاغة، لابن ابي الحديد المدائني، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم / دار احیاء التراث العربي، القاهرة، 1959 م / 28 3. ينظر: الكافي: 2/ 28 4. ينظر الامام علي (عليه السلام ) للدكتور جواد جعفر الخليلي، تقديم الشيخ حسن السعيد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، بیروت / 35 5. ينظر: سيرة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام والخطبتان الخالية من الالف والخالية من النقطة / علي محمد دخيل / العتبة العلوية المقدسة / قسم الشؤون الثقافية الفكلاية والثقافية / ط 1/ 2010 م / 18 6. م. ن: 19 7. م. ن: 19 8. ينظر ينظر عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الاشتر (رضي الله عنه) / اعداد المستشار فليح سوادي / تقديم وتمهید / هاشم محمد الباججي / العتبة العلوية المقدسة / قسم الشؤون الفكرية والثقافية / الاخراج الفني / عبد الحسن هادي / 2010 / 7 9. م. ن: 7

ص: 352

10. م. ن: 15 - 31 11. ينظر: المنهاج في ترتيب الحجاج / تحقيق عبد المجيد التركي / ط 2/ دار الغرب الاسلامي/ 42: 1987 12. ينظر: الحجاج في الشعر العربي بنيته واساليبه / اعداد الاستاذة سامية الدريدري / كلية العلوم الانسانية والاجتماعية / تونس / عالم الكتب الحديث / ط 2/ 2011 م: 32 13. لسان العرب لابن منظور دار صادر / بيروت/ 1970: مادة حج 14. ينظر: تقنيات الحجاج في نهج البلاغة / مؤيد آل صوينت / كلية الاداب الجامعة المستنصرية: 4 15. ينظر: الحجاج في شعر النقائض / دراسة تداولية / رسالة ماجستير / مكلي شامة / الجمهورية الجزائرية الديمقراطية / كلية الاداب للعلوم الانسانية / قسم الادب العربي: 2009/ 25 16. م. ن: 25 17. م. ن: 25 18. عهد الامام علي: 15 19. ينظر: اسالیب بلاغية / د. احمد مطلوب/ ط 1/ وكالة المطبوعات الكويت/ 1980/ 176، وينظر: علم المعاني د:قصي سالم علوان، د. ط / مطبعة جامعة البصرة/ 159: 1985 20. العهد/ 15 21. العهد/ 15

ص: 353

22. ينظر: الاستدلال في كتاب نهج البلاغة / دراسة أسلوبية، فاطمة کریم رسن / اطروحة دكتوراه، كلية التربية ابن رشد جامعة بغداد / 261: 2009 23. العهد/ 21 24. العهد/ 21 25. ينظر: اساليب الاقناع في القرآن الكريم، د: معتصم بابكر مصطفى، الدوحة، وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، 2003/ ط 1: 78 26. العهد: 30 27. العهد: 25 28. ينظر: وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة: الحر العاملي، محمد بن الحسن بن علي: ط 2، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، رقم 1414 هجرية: 430 29. م: ن: 430 30. العهد: 26 31. العهد: 27 32. العهد: 27 33. ينظر: من اساليب الاقناع في القرآن الكريم: 53 34. العهد: 27 35. العهد: 18 36. العهد: 18 37. العهد: 17

ص: 354

38. العهد: 18 39. العهد: 18 40. العهد: 19 41. قضايا الشعرية / رومان یاکوبسن، ترجمة محمد الوالي مبارك/ ط 1/ دار تویفال للنشر / المغرب/ 1988 / 10 42. العهد: 20 43. العهد: 20 44. العهد: 21 45. العهد: 15 46. العهد: 15 47. العهد: 16 48. العهد: 17 49. العهد: 17 50. العهد: 17 51. العهد: 18 52. العهد: 26 53. العهد: 24 54. العهد: 24

ص: 355

ص: 356

مقصدية التواصل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ. م. د. أناهيد الركابي كلية التربية / الجامعة المستنصرية

ص: 357

ص: 358

ملخص البحث

تمهيد للموضوع وبيان الأهمية:

مما لا يخفى على أحد أهمية عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الأشتر النخعي (رضي الله عنه) ذلك الرجل الشجاع الذي ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب محمد بن ابي بكر، وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن وقد ابتدأه (عليه السلام) بالبسملة ثم الأمر، شرع في هذا الأمر الواجبات التي ينبغي على مالك بن الأشتر القيام بها والأمور التي عليه مراعاتها وحقوق الرعية التي عليه تأديتها لأنه المسؤول عن هذه الرعية وحقوقها. وبين في هذا العهد أن العدل أساس الحكم فيجب على الحاكم والحكومة أن يكونوا في خدمة الناس ومهاراتهم وإلا تحولت الحكومة الى منصب دنیوي يلهث وراءه كل باحث عن المال والجاه. ولأهمية هذا العهد تناولته الأقلام بالدراسة والتمحيص والتفسير والشرح وقد ترجم الى كثير من اللغات العالمية لما يحتويه هذا العهد من معاني إنسانية سامية وعظيمة تخص مختلف شؤون الحياة وواجبات الحاكم والمحكوم فأكد (عليه السلام) جملة من القوانين والقواعد التي تدار و تحكم من خلالها الدولة وتراعي شؤون الرعية. وقد أكد العهد أيضاً على الحكم الناصح وإقامة العدل والمساواة بين الرعية وحفظ كرامة الإنسان وحقوقه والإبتعاد عن الطمع وحب الشهوات والالتزام بالذكر الحسن وعدم ظلم الآخرين وغيرها من المعاني الإنسانية السامية التي يحتويها هذا العهد ليكون دستور حکم ناضج وكامل في مصر.

كل ذلك تم بين الإمام علي ومالك عن طريق اللغة التي هي في جوهرها لا تعدو أن تكون وسيلةً من وسائل تنظيم المجتمعات الإنسانية إذ إنها تساعد على الربط بين الأفراد والمجتمعات بل أنها وسيلة من وسائل التواصل اذ احتل هذا المصطلح

ص: 359

(التواصل) موقعاً مركزياً في الأبحاث والدراسات وفي عدة مجالات وهو من الموضوعات التي أولاها البحث اللساني عامة الأهمية القصوى سعياً منه للوصول الى طبيعته ولعله مصطلح يكتنفه الغموض لتداخله مع غيره من المصطلحات کالوصل والإيصال والإتصال والإبلاغ.... الخ ولكون هذا العهد قد ظفر بقسط وافر من التواصل لاحتوائه على مظاهر وآليات التواصل وقع اختيارنا على العهد الذي كان بمثابة التواصل بين ثلاثة أركان رئيسية هي المرسل وهو الأمام علي (عليه السلام)، والمتلقي وهم الرعية والواسطة وهو مالك بن الأشتر (رضي الله عنه) سبب اختيارنا الموضوع: من هنا يأخذ بحثي الموسوم: مقصدية التواصل في العهد دواعي وجوده ممثلة في رغبتي الملحة في تشريف دراستي بإمام الغر المحجلين ويعسوب الدين ولا سيما عهدهارتسم البحث في هيكل تنظيمي قوامه تمهید و مبحثين وخاتمة ثم مظانً بأهم مصادر البحث ومراجعه. في التمهید عرفنا مفهوم التواصل لغة واصطلاحاً ثم عرفنا بشخصية مالك بن الأشتر وفي المبحث الأول درسنا مصطلح التواصل في التراث العربي عرضنا فيه آراء كوكبة من العلماء العرب وكيف كانت نظرتهم الى هذا المصطلح وكذلك آراء و نظرة بعض من اللسانيين الغربيين في تعريفهم للتواصل ثم المبحث الثاني الذي تضمن دراسة نماذج من العهد دراسة تواصلية وقد اعتمدت في دراستي هذه على مجموعةً من المصادر العربية التراثية والحديثة فمن الحديثة اللسانيات ونظرية التواصل لعبد القادر غزالي واللغة والحواس لمحمد کشاش وغيرها.

وفي الختام أقول أسأل الله أن ينفعني ويسدد خطاي انه قريب مجيب وما توفيقي آلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.

ص: 360

التمهید

التواصل لغةً واصطلاحاً

مصطلح التواصل: (مشتق من الفعل وصل الذي جذرهُ (و، ص، ل) خلاف الفصل والانقطاع) (1) والتواصل على وزن (تفاعل) لما يصدر من أثنين فصاعداً، و (تواصل) من (واصل) المتعدي إلى مفعول واحد، وبهذا سيكون (تواصل) مكتفياً بالفاعل لأن المقصود منه قيام الفعل بالفاعل، فلا ينظر إلى تعلق الفعل بالمفعول هنا، لأن وضع (تفاعل) لنسبته إلى المشتركين فيه من غير قصد إلى ما تعلق به. (2) وفي المعجم الوسيط: "وصل الشيء بالشيء وصلاً ومثله: ضمهُ بهِ و جمعه ولامه، تصارما (3) أما معجم (Lepetit Robert) فأنه يُعرّف التواصل بأنهُ: الإبلاغ ومسافة الاطلاع والأخبار أي نقل خبر ما من شخص إلى آخر، أو إقامة علاقة مع شخصٍ آخر) (4) وعليه فالتواصل في اللغة هي أحدى صيغ الفعل التي توحي من معناها العام بمعاني الاقتران والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ والتلاقي والاحتكاك، والتمازج، والتفاعل والتبادل والتلاقح والاتصال المثمر.

أما في الاصطلاح فيعرفهُ شارل کولي (Charles Cooley) بقوله: «التواصل هو الميكانزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور، أنه يتضمن كل رموز الذهن مع وسائل تبليغها عبر المجال وتعزيزها في الزمان ويتضمن أيضاً تعابير الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون وكل ما يشمله آخر ما تم في الاكتشافات في المكان والزمان» (5)

ص: 361

أذن نستطيع أن نتبين أن هناك فرقٌ بين مصطلحي الإيصال والتواصل من حيث الدلالة، الاتصال من الفعل (أتصل، يتصل) نقول: أتصل المعلم بالمتعلم، أي أقام معهُ صلة، ويفيد هذا المعنى أن الفاعل واحد وهو المعلم الذي قام بالمبادرة.

أما التواصل فهو من الفعل (تواصل - يتواصل) إذ نقول: تواصل المعلم والتلاميذ، ويفيد ذلك المشاركة لأن الفاعل أكثر من فرد واحد.

کما جاء في معجم (Dictionnaire desconcepts) التواصل: "هو تبادل المعلومات والرسائل اللغوية وغير اللغوية، سواء كان هذا التبادل قصديا أو غير قصدي، بين الأفراد والجماعات" (6) أما مفهوم الخطاب فقد عرفهُ ابن منظور بقوله «مراجعة الكلام وقد خاطبهُ بالكلام مخاطبةً وخطاباً وهما يتخاطبان» (7) ويبدو أن مفهوم الخطاب يقترب كثيراً من مفهوم الحوار عند ابن منظور وسوف نأتي عليه لاحقاً.

أما في المعجم الوسيط فالخطاب «أن يُفسر بالكلام دون بيان نوعه والخطاب بمعنى الرسالة» (8) ويُحدد عندهارسن في الاصطلاح بأنه: «متوالية من الملفوظات ذات علاقة معينة، أما بنفینست فيرى أن الخطاب هو الملفوظ منظور إليه من وجهة آليات و عملیات اشتغاله في التواصل» (9) أما مفهوم الحوار فقد قال عنه الزمخشري أنه مأخوذٌ من «حاورته، راجعتهُ الكلام، وهو حسن الكلام وكلمتهُ فما رد على محوره، وما صار جواباً أي ما رجع» (10) أما ابن منظور فيرى أن الحوار هو من «الحَور بفتح الحاء وسكون الواو، وهو الرجوع من الشيء وإلى الشيء، فيقال حار إلى الشيء، وعنهُ حوراً، ومحاراً ويحاره، وحؤوراً: رجع عنهُ واليه، والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة" (11) أما الفيروزآبادي فيقول في معناه: «الرجوع کالمحار والمحارة، والحؤور، والنقصان

ص: 362

والمحاورة والمحورة: الجواب کالحوير والحوار والحيرة والحويرة، مراجعة المنطق وتحاوروا: تراجعوا الكلام بينهم» (12) أما في الاصطلاح فأن الحوار (Dialogue) فهو شكل من أشكال التواصل بين جميع البشر حيث يحمل كل متحاور مجموعة من الأفكار يسعى لإيصالها للطرف الثاني وهو «طريقة من طرائق التعبير المختلفة وهو من أهم الأساليب التي نعتمدها في حياتنا اليومية لكونه وسيلة أساسية للتخاطب والتواصل» (13) من خلال هذا العرض التفصيل لهذه المصطلحات الثلاث (التواصل، الخطاب، الحوار) لغة واصطلاحاً نجد أن هذه المصطلحات تتفاوت معانيها دلالياً، إلا أنها تنتمي في مجملها إلى حقل التواصل الذي يشمل أسلوب الحوار وأسلوب الخطاب «إذا أن كل منهما يقتضي الأخر بالضرورة، إذ لا يمكن أن نبلغ شيئاً ما دون وجود الآخر، ولا يكون هذا الأمر مستقبلاً أو سامعاً محايداً، بل يكون فاعلاً، أي سائلاً ومجيباً في الآن نفسه» (14) فالحوار يُعَدُ جزءاً مهماً من أجزاء التواصل البشري لأن أي تداخل بين طرفين أو أكثر يتطلب الفعل وردة الفعل، من أجل غاية إخبارية أو اقناعية أو تواصلية أو حجاجية.

فالعملية التواصلية أذن تتشكل من مصطلحين رئيسين هما: مصطلح التفاعل (Interaction) ومصطلح التواصل (communication) ونعني بالتفاعل: «مشاركة طرفي الحوار في الكلام حول مضامين إنسانية معينة، أما التواصل فهو التبادل الكلامي بين شخص متکلم (Sujetparlant) ينتج ملفوظاً موجهاً إلى مخاطب (Lnterlocuteure) وهذا الأخير، يلتمس الاستماع أو الجواب الصريح أو المضمر حين يكون الملفوظ» (15)

ص: 363

عناصر العملية التواصلية

للتواصل مجموعة من العناصر تتآزر فيما بينها لتشكل العملية التواصلية وهي:

المرسل: وهو شخص أو مجموعة من الأشخاص تريد أن تتصل بالآخرين وفق طريقة معينة من طرائق الاتصال سواء أكانت لغوية أو غير لغوية ولكي يتمكن المرسل من أنجاز رسالته لا بد أن يراعي التحكم في لغته إضافة إلى مراعاة البيئة المحيطة به لأنهُ «مصدر الخطاب المقدم إذ يعتبر ركناً حيوياً في الدائرة التواصلية، وهو الباعث الأول على أنشاء خطاب يوجه إلى المرسل إليه في شكل رسالة» (16) الرسالة: وهي «عملية فك الرموز التي تنتقل في الصوت إلى المعنى فتنتقل الرسالة من المرسل إلى المرسل أليه» (17) وتتضمن الخطاب الذي يود المرسل إيصاله إلى المخاطب وهي مجموعة من العناصر اللغوية المادية والمعنوية التي يصوغها المرسل لكي يوجهها إلى المرسل إليه أي أنها ثمرة العملية التواصلية بين (المرسل والمرسل أليه) وهي تتخذ عدة أشكال فقد تكون كلاماً شفوياً أو إيحائياً عن طريق الإشارة وقد تكون كتابة. إذن هي النص الكلامي أو الشفوي أو الرمزي. القناة: «وهي الوسيلة التي تنتقل عبرها الرسالة من المرسل إلى المرسل إليه وهي التي تسمح بقيام التواصل بين المرسل و المرسل إليه وعبرها تصل الرسالة من نقطة معينة إلى نقطة أخرى» (18) وقد تكون لفظية أو كتابية أو رمزية.

المرسَل إليه: وهو «الجهة التي توجه له الرسالة من المرسل ولا بد من أن يكون المرسل إليه مؤهلاً لفهم الرسالة» (19) أي أن المرسل إليه هو متلقي الرسالة حيث يتلقى ما يوجهه إليه المرسل ثم يقوم بعملية فك رموزها باعتماد الإشارات المخزونة في ذاكرته وهذا يعتمد على ثقافته وتجاربه إذ أن قيام التواصل مرتبط أصلاً بوجود مخاطب يتفاعل معهُ المرسل ومن خلال معرفته للمرسل إليه تكون طريقة الخطاب.

ص: 364

السنن: وهو «نسق القاعدة المشتركة بين الباعث والمتلقي، والذي بدونه لا يمكن للرسالة أن تفهم أو تؤول» (20) أي أن وجود السنن المشتركة بين المرسل والمرسل إليه يبين قصدية المتكلم ويعين السامع على الفهم ومن ثم تستمر العملية التواصلية وإذا جهل المتلقي السنن فأن عملية التواصل لا تتم أصلاً.

السياق: وهو وضع ما يتحدث عنه المرسل من موضوعات في سياق معين، حيث يتشكل السياق الاتصالي ويتضمن المكونات الفكرية والاجتماعية للمرسل والمرسل أليه إذ تظهر الرسالة داخل سياق معين من خلاله يتوصل المتلقي إلى قصد الملقي ليستمر التواصل بينهما. إذ «ينشأ السياق نتيجة تطبيق إجراءات تأسيس محددة وفق بروتوكول مقبول بالإجماع ونتيجة وجود إمكان متاح لأي كان من أجل متابعة هذا التطبيق متی عَن له ذلك» (21) وقد وضع جاكسون خطاطة صغيرة يوضح بها هذه العناصر التي لا يستغني عنها التواصل اللفظي» مرسل - سیاق - رسالة - أتصال - سنن - مرسل اليه

ص: 365

المبحث الأول: مفهوم التواصل بين العرب والغرب

أشار النقاد العرب القدامى إلى مصطلح التواصل أشارة غير مباشرة عند تعريفهم لللغة والبلاغة والبيان، فهذا أبن سنان أشار إلى مصطلح التواصل في قوله: ومن شروط الفصاحة والبلاغة أن يكون معنى الكلام ظاهراً جلياً لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه... والدليل على صحة ما ذهبنا أليه.... أن الكلام غير مقصود في نفسه وإنما احتيج ليعبر الناس عن أغراضهم ويفهموا المعاني" (23) ففي هذا النص أشارة صريحة إلى التواصل من خلال توجيه رسالة من المتكلم إلى السامع عبر قناة هي الكلام غاية المتكلم هي إرسال هذه الرسالة إلى السامع عن طريق الكلام وهذا يعني أن عملية التواصل تقوم على عناصر أربعة عند الخفاجي هي (المتكلم، السامع، الرسالة، القناة) و «وهكذا تجد أن حاجة الإنسان إلى اللغة شرط من شروط تواصله مع الآخرين» (24) وكذلك يظهر مفهوم التواصل عند ابن سنان في قوله «يكفي من حظ البلاغة إلا يؤتى السامع من سوء فهم الناطق، ولا الناطق من سوء فهم السامع» وهنا يركز الخفاجي على الوظيفة الإفهامية للغة فهي فهم وإفهام بين السامع والمتكلم.

أما العسكري فيشير إلى مصطلح التواصل عند تعريفة البلاغة فيقول «البلاغة كل ما تبلغ به المعنی قلب السامع فتمكنه من نفسه کتمكنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن" (25) نفهم من هذا النص أن العسكري في تعريفه هذا يركز على تواصل المتكلم مع نفسه أولاً وتفكيره وبعد أن يفهم المعنى يحاول إيصاله إلى المتلقي.

ص: 366

أما ابن المقفع «البلاغة أسم لمعانٍ... منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع.... ومنها ما يكون خطياً" (26) ومن خلال هذا النص نفهم أشارة المقفع إلى السامع والمتكلم وهما يمثلان عنصرين من عناصر العملية التواصلية.

أما الجاحظ فيشير إلى مصطلح التواصل عندما يعرف البيان في قوله: «البيان أسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع» (27).

الجاحظ في هذا النص حدد لنا عناصر العملية التواصلية كاملة وهي (المتكلم السامع، الرسالة، القناة، الشفرة) فالرسالة تصل من المتكلم إلى السامع غايتهما الفهم والإفهام عن طريق اللغة أما الشفرة فأنها تمثل (کشف قناع المعنى وهتك الحجاب).

ولم يكتف الجاحظ بالإشارة إلى عناصر العملية التواصلية وإنما نجده في موضع آخر يشير إلى أنماط وأنواع التواصل إذ يقول «جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء، لا تنقص ولا تزيد، أولها اللفظ ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصية» (28).

فالتواصل حسب رأي الجاحظ في هذا النص يكون عن طريق الكتابة أو الخط أو الإشارة أو الإيحاء أما قوله نصية فيقصد بها الحال الناطقة بالدلالة وهي ناتجة عن التأمل أو التفكر.

ص: 367

من خلال هذه الآراء النقدية والبلاغية المهمة للعلماء العرب اتضحت لنا رؤيتهم للتواصل وكيف نظروا إلى هذا المصطلح من خلال اللغة باعتبارها أداة مهمة للتواصل.

ويمكن توضيح ذلك من خلال المخطط الأتي:

السياق - المتكلم (الملقي) - الخبر (الرسالة) - السامع (المتلقي) - اللغة (أداة التواصل) - الشفرة

ص: 368

أما مفهوم التواصل عند الغرب فيُعد دي سوسير من أوائل النقاد الذين أشاروا إلى نظرية التواصل في قوله «أن نقل الدماغ الإشارة المناسبة للصورة إلى الأعضاء المستعملة لإنتاج الأصوات فينتقل الكلام من الشخص (أ المتكلم) إلى الشخص (ب المتلقي) فإذا تكلم الشخص (ب) بدأ حقل جديد من دماغه إلى دماغ الشخص (أ)... وقد وضع خطاطه لعملية التواصل وهي كالأتي" (29) Phonation فكرة C= concept ... ( CS) صورة صوتية S = sound-image Audition ثم جاء بعد دي سوسير الباحث النفسي الألماني كارل بوهلر وأشار إلى عمل دي سوسير ومكملا له فذكر ثلاثة محاور تقوم عليها العملية التخاطبية وهي: «المرسل (ضمير المتكلم)، والمرسل إليه (ضمير المخاطب) والموضوع، ويتولى عن المرسل الوظيفة الانفعالية وعن المرسل إليه الوظيفة الإفهامية وعن الموضوع المرجعية" (30) أما مارتينيه فيرى أن: "احدي وظائف اللغة، الاتصال وهي الوسيلة التي تسمح لمستعمليها الدخول في علاقات مع بعضهم بعض، وهي التي تضمن التفاهم المتبادل بينهم" (31) نفهم من سياق النص أن مارتينيه يشير إلى التواصل الذي يعد أهم وظائف اللغة.

أما لینش فیری: «أن اللغة تُعَدُ شکلاً اتصاليا يعمل في أنظمة اجتماعية كبرى» (32) وهنا يشير إلى أن التواصل من بين أهم الوظائف التي تؤديها اللغة.

ویری (هنري سوين) اللغة بأنها: "التعبير عن الفكر عن طريق الأصوات

ص: 369

اللغوية (33) وهذا يستوجب عناصراً لكي تتم العملية التواصلية هذه العناصر تتمثل بالمتكلم، السامع، الرسالة، القناة.

أما (سابیر) فيرى اللغة بأنها: «وسيلة لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي يستخدمها الفرد باختياره» (34) هذه التعريفات المختلفة للغرب تتفق على أن الوظيفة الأساسية للغة هي الوظيفة التواصلية وخلاصة وظيفة التواصل ما يلاحظه (بینیت) إذیری: ’’إن وظيفة التواصل تتمثل أساساً في سعي المتكلم إلى أبلاغ المتلقي بأمر ما أو إلى نسبة عمل ما أليه» (35) وهكذا يتبين لنا أن الإنسان هو أساس العملية التواصلية إذ قد يكون متكلماً أو سامعاً بينه وبين فرد آخر أو جماعة أو يكون تواصله عن طريق اللغة والكتاب وهو ما يسمى بالتواصل الثقافي.

ص: 370

المبحث الثاني دراسة تطبيقية لنظرة التواصل ووظائفها في العهد يمثل هذا المبحث لبنة اساسية للبحث وهو الحقل الاجرائي والتطبيقي الذي يبين لنا مهام الوظيفة التواصلية في نصوص هذا العهد من خلال استعراض هذه النصوص وبيان الوظائف التواصلية فيه من خلال بعض المفاهيم منها:

1- الاقناع والتواصل

يعتبر الاقناع من اهم وظائف التواصل وغاياته حتى ان علم البلاغة العربية جاء من اجل (التواصل والإقناع والإمتاع) (36). والامتاع هو احد طرفي العلاقة بين رسالة هادفة الى توجيه الفكر او الاعتقاد وطرفها الاخر هو الاقناع، وهذان الطرفان متلازمان وجودا او عدماً فلا وجود للاقتناع دون وجود الامتاع (37) لان الاقتناع يكون من طرف المرسل اليه (الملقي) و الاقناع یکون من طرف الاول وهو المرسل (المتلقي) فان لم يكن الاول فلا وجود للثاني، وعندما نأتي الى العهد نجد ان المرسل هو الامام علي (عليه السلام) والمتلقي هو مالك بن الاشتر (رضوان الله عليه) والمخطط التالي يوضح ذالك:

ملقي - الرسالة - متلقي - إمتاع إقتناع والاقناع لابد ان يكون بطريقة منظمة يستجمع فيها الملقي كل ما يملك من وسائل مختلفة للتأثير في آراء الآخرين وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون وهذا ما وجدناه في شخص الإمام علي (عليه السلام) الامام الحكيم العادل الرشيد.

ص: 371

فتتم الموافقة على وجهة نظره في موضوع معين وارتياح نفس الملتقي الى ما كان من الملقي خصوصاً اذا كان الاقناع مباشر من الامام علي (عليه السلام) وهو يخاطب الفرد وهو مالك بن الاشتر (رضوان الله عليه) في عهده هذا.

2- الافهام والتواصل

ان غاية الامام علي (عليه السلام) في كتابه هذا أن يصل موضوعه الى ذهن المتلقي فيقع الفهم، فمضمون العهد يقع على الفهم والافهام فنجده ركز في مقدمته بذكر الله وتوصية أصحابه بتقوى الله واتباع أوامره في قوله «امره بتقوى الله واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد الا باتباعها ولا يشقى الا مع جحودها واضاعتها» (38) فقد ركز (عليه السلام) على المقدمة الخطابية لشد انتباه الجمهور ويمكن توضيح ذلك في المخطط الآتي:

المرسل - الموضوع - المرسل الیه - إفهام - فهم وفي هذه الحال لا بد أن يُراعى حال المرسل اليه ومنزلته ف «مدار الامر على أفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم» (39) فغاية الامام علي (عليه السلام) من التواصل هو التركيز على المتلقي حتى يستطيع الوصول الى إفهامه.

ص: 372

3- الكلام والتواصل

المقصود من الكلام هو التفاهم والتخاطب أي ما يحقق التواصل، لان التفاهم على وزن تفاعل دال على المشاركة كما تقدم في وزن (تخاطب) في اول البحث ومعنى التفاهم أن يكون الكلام دالا على مقصود، أي يفيد معلومة جديدة عند المتلقي كما يحث النحاة على مفهوم (حسن السكوت) فهل هو وصف للمتكلم ام للمتلقي؟ اي هل يقصد سكوت المتكلم ام سكوت المتلقي؟ بحيث لا ينتظر شيئا من اجل اتمام المعنى المقصود وقد رجح أكثر النحاة ان يكون وصفا للمتكلم فيكون معنى التعريف «لفظ مفيد يحسن سكوت المتكلم بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر» (40).

ونلاحظ من هذا التعريف ما يأتي:

- ذكر اركان النظرية التواصلية من المرسل (المتكلم) والمرسل اليه (المتلقي) والرسالة (الموضوع) وهذه الاركان مجتمعة نجدها متحققة في عهد الامام علي (عليه السلام).

- الوظيفة التعبيرية لتواصل الامام علي (عليه السلام) في عهده تتمثل في شخص الامام علي (عليه السلام) وهو المتكلم اذ شرطوا فيه أن يكون قاصدا لكلامه.

- الوظيفة الافهامية وتعني ذكر السامع (المرسل اليه) وقد شرطوا أن يكون السامع (المرسل اليه) موجوداً فيحصل الإفهام عند المتلقي حينئذ.

4- التواصل واسماء الاشارة والاسماء الموصولة

لكي تتحقق عملية التواصل لا بد من وجود الصلة بين المتكلم والمتلقي في الكلام فاذا وجد ما يوهم المتلقي في الايهام واللبس تعني على المتلقي أن يرفع هذا الإيهام بالقرائن الحسية كما هو الحال في اسماء الإشارة او بالقرائن اللفظية كما في قوله

ص: 373

عليه السلام «فانظر في ذلك نظراً بليغا، فان هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الاشرار» (41). فلا بد أذن أن يكون المتكلم على علمٍ بوضع المخاطب وما يحتاجه وما يمتلكه من المعرفة وهذا هو اساس العملية التواصلية.

5- التواصل والاسلوب الانشائي

من خلال قراءتنا لعهد الامام علي (عليه السلام) وجدنا هيمنة الجمل الإنشائية وكذلك هيمنة اسلوب الامر مثل قوله: "والصق باهل الورع والصدق" (42) وكذلك قوله: «واعلم انه ليس شيء بادعى الى حسن ظن برعيته في احسانه اليهم» (43). الغرض من هذا الامر هو ان يبقى المتلقي على صلة وثيقة مع الحدث الذي اراد الملقي ان يوصله الى المتلقي فيصوغ الامام علي (عليه السلام) خطابه الامري من خلال تحشيد مجموعة من أفعال الأمر التي تضيف الى النص شكلا هندسيا، وقد خرجت جميع هذه الافعال الى طلب النصح والارشاد. وسبب غلبة اسلوب الامر لان المتلقي شخصية قيادية فلا بد أن تحقق هذه الشخصية العطاء والتقدم لذلك ناسبه اسلوب الامر.

أما اسلوب النهي فنجده حاضرا أيضا في هذا العهد ليؤدي معنى التوكيد، فالملقي يؤكد قوة ذلك المتلقي وقدرته على اداء مهامه بالصورة الصحيحة كما في قوله: وافضلهم حلما ممن يبطيء عن الغضب ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء" (44).

وفي باب المشورة يشدد الامام علي (عليه السلام) على مالك بن الاشتر في النهي عن ادخال البخيل والجبان والحريص في مشورته بقوله: "لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشره" (45).

ص: 374

6- التواصل والايقاع الصوتي

کما یلاحظ ميل الجمل عموماً في العهد الى تحقيق الايقاع الصوتي عن طريق اعتماد اسلوب السجع الذي كان حاضرا بوضوح في مجمل العهد، والغرض منه اثارة عاطفة المتلقي وتحريكها لتحقيق العزيمة على المضي في الامور كلها. ونجد كذلك ان الامام علي (عليه السلام) في عهده لا يكتفي بتوجيه الامر او النهي فقط وانما يتبعه بذكر السبب الذي كان لأجله الأمر أو النهي وهذا إن دل على شيء فانما يدل على سعة علم الامام بحقائق الامور وبواعثها كما في قوله: "ثم انظر في حال كتّابك فول على امورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك باجمعهم لوجود صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجتزيء بها عليك في خلاف لك» (46).

ونلاحظ ايضا غلبة الجمل القصيرة على العهد وغاية المرسل من ذلك تقبلها من قبل المتلقي فيتمكن من متابعتها وتحصيل مطالبها بيسر وسهولة لانها اعتمدت على الايجاز وتركيز المعنى.

ص: 375

الخاتمة

وفي نهاية بحثنا لا بد ان نقول:

ان اهم غاية من عهد الامام علي (عليه السلام) هو التوصيل لافكاره الى الرعية.

الاهم من التوصيل هو بقاء هذه الافكار جيلا بعد جيل وبقاء هذه الافكار في ذهن المتلقين، هذا البقاء الذي ان دل على شيء فانما يدل على توازن الفاظه (عليه السلام) واعتدالها.

مقصديته (عليه السلام) من هذا العهد تتجلى في الربط بين التراكيز اللغوية ومراعاة غرض المتكلم والمقصد العام لان الامام علي (عليه السلام) حين كتب هذا العهد كان له قصد لجعل الكلام يصلح لان يفهم عن طريق التواصل، لان التواصل لا يتم بنجاح اذا لم يحدث التطابق بين قصد المرسل والمعنى المؤول من لدن المرسل اليه سواء أكان القصد مطابقا للمعنى الحرفي ام مفارقا له، لان التواصل مشروط القصدية وإرادة المتكلم في التأثير على الغير. وتعتبر هذه القصدية مميز منهجي في اللسانيات التداولية.

وضوح الجانب الادبي في عهد الامام علي (عليه السلام) حيث تم اشاؤه من شخص عربي ملم بكل خفايا اللغة ودقائقها وهو رجل قضاء وفقيه وفيلسوف وصاحب المام بالسياسة والادارة وعلم الاجتماع والاخلاق والدين من خلال اعتماده اساليب ادبية متنوعة.

ص: 376

الهوامش

1. ينظر استراتيجيات الخطاب، عبد الهادي بن ظافر الشهري، ص 185، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، ط 1، د. ت.

2. سورة البقرة: الآية 260 3. لسان العرب: مادة وصل، دار لسان العرب، 1970 4. ينظر: شرح التفتازاني على تصريف الزنجاني: 38 5. المعجم الوسيط للزمخشري مجمع اللغة العربية، دار الحديث للطبع والنشر بیروت، 1980، ص 1037 Edition suniversitaires، 1969، p 42 .6 Charles cooley، Social organisation in " alcomuniation ano- .7 "nyme A Dictionnare des conceptss eles Francoise Raynal etalain Rieunier، 1977، P31 9. لسان العرب: مادة خطب 10. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، دار الدعوة، أستنبول 1980، ص 243 11. إشكالات النص، جمعان بن عبد الكريم، ص 35 12. أساس البلاغة، جار الله محمود أبو القاسم الزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، انتشارات دفتر تبلیغات الأمير، د. ط، د. ت، ص 98 13. لسان العرب، ابن منظور، دار صادر مادة: حور، د. ط، ج 2، بیروت، 1997،

ص: 377

ص 182 14. القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ج 2، د. ط، د. ت، ص 151 15. التعبير والتواصل (التقنيات والمجالات) دیداکيتك، علي آيت أوشان، دار أبي مرامر للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص 61.

16. عندما نتواصل نغير (معادية تداولية معرفية لآليات الحجاج)، عبد السلام عشير، أفريقيا الشرق، المغرب، 2006، ص 200.

17. الحوار وخصائص التفاعل التواصلي، محمد نظيف، أفريقيا الشرق، د. ط، الدار البيضاء، ص 15 18. التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزیر، منشورات الضلاف، ط 1، 2007، ص 24.

19. لسانیات النص نحو منهج التحليل الخطاب الشعري، أحمد مداس عالم الكتب الحديثة، أربد، عمان، ط 2، 2009.

20. اللغة والخطاب، عمر أركان، أفريقيا الشرق، المغرب، 2000، ص 49.

21. قضايا الشعرية، رومان یاکوبسن، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار تويقال، الدار البيضاء، المغرب، 1988، ص 30.

22. اللغة والخطاب، عمر أركان، ص 48، أفريقيا الشرق، ط1، 2001 23. حدود التواصل الأجماع والتنازع بين هابرماس وليوبار فرانك مانفرد، ترجمة وتقديم: عز العرب لحكيم، أفريقيا الشرق، المغرب، 2003، 45.

24. قضايا الشعرية: 28 25. سر الفصاحة، أبن سنان الخفاجي: ص 220 - 221، ط 1، دار الكتب العلمية،

ص: 378

د. ت 26. اللغة والفكر والمعنى، محمد بو عمامة، ص 236، أفريقيا الشرق، ط 1، 2000.

27. الصناعتين، ص 19 28. م. ن.: 23 29. البيان والتبيين: ص 76 30. المصدر نفسه والصفحة.

31. علم اللغة العام: فريائيد دي سوسير، ترجمة ديوئيل يوسف، مراجعة النص العربي د. مالك يوسف المطلبي، أفاق عربية، 1985، ص 30 32. قضايا الشعرية: ص 30، رومان جاكسون، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توفيال للنشر، الدار البيضاء، 1988 33. استراتيجيات التواصل، سعيد بنكراد، ص 9 34. استراتيجيات الخطاب، عبد الهادي الشهري، ص 14 35. علم الأعلام اللغوي، عبد العزيز شرف: ص 70 36. تحليل الخطاب: ج. بول، ص 2 37. التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزير، منشورات الضلاف، ط 1، 2007، ص 24.

38. هو أبو يعقوب يوسف بن الجذع، وتختلف المصادر في تخطيط هذا الرجل وتجليته فبعضها كالبيان المغرب لابن عذاري المراكشي يحيله بالوزير بينما نعته ابن سعيد في المغرب بانه كاتب ابن مردنيش (تنظر أخباره في: البيان المغرب قسم الموحدين، 108 - 120 والمغرب: 2/ 386 ويبدو ان الصفة الاولى أقرب

ص: 379

الى الدقة من الأخرى ولهذا كان له أن يتخذ ابن مغاور کاتبا له) 39. ينظر: ابن مغاور الشاطبي حياته وآثاره - دراسة وتحقيق محمد بن شريفة، ط 1 1994، 207.

40. سورة التوبة: 18 41. ابن مغاور الشاطبي: 207.

42. من والصفحة.

43. قضايا الشعرية:30 44. هو سلیمان بن موسی بن سالم ابو الربيع الكلاعي الاندلسي الحافظ خطیب بلنسيا من علماء الاندلس المعروفين في عصره في مجال الحديث والفقه له تصانيف نافعة وبلاغة وفضائل قتل في ذي الحجة سنة 634 ه وله سبعون سنة: سير اعلام النبلاء شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان الذهبي، تحقيق سعيد الأفغاني، دار الفکر، بیروت، 1969، (21/ 151).

45. ابن مغاور الشاطبي: 186.

46. المائدة: 251.

47. ابن مغاور الشاطبي: 187 - 188.

48. سورة النحل: 77 49. سورة آل عمران: 139 50. سورة محمد: 35.

51. من: 188.

52. الأسلوب والأسلوبية: عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ط 2، 158.

ص: 380

53. ابن مغاور الشاطبي: 200 - 201.

54. م ن والصفحة 55. سورة الكهف: 18 56. سورة الأعراف: 107.

57. ابن مغاور الشاطبي: 138 58. سورة الفتح: 10 59. البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ج 1، 89.

60. ابن مغاور الشاطبي: 208.

61. سورة الفتح: 29 62. ابن مغاور الشاطبي: 213.

63. سورة النمل: 23.

64. ابن مغاور الشاطبي: 231.

65. سورة النساء: 58.

66. ابن مغاور الشاطبي: 119.

67. سورة النصر: 1 - 2.

68. العهد: 22 وهناك الكثير من الامثلة في هذا الباب وكذلك قوله «ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم» (7).

69. العهد: 20.

70. العهد: 18.

ص: 381

71. م. ن. وللمزيد من الامثلة ينظر: العهد: 17، 19، 21، 24، 25، 26، 27، 29، 30.

72. م. ن.: 20.

73. م. ن.: 22.

74. م. ن.: 24.

75. حاشية يس على شرح الفاكهي على قطر الندى، يس بن زید الدين الحمصي الشافعي (ت 1061 ه) مكتبة الارشاد، تركيا، 1/ 88

ص: 382

قائمة المظان:

- القرآن الكريم 1. أساس البلاغة، جار الله محمود أبو القاسم الزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، انتشارات دفتر تبلیغات الأمير، د. ط، د. ت.) 2. استراتيجيات التواصل، سعید بنغراد، المغرب، افريقيا الشرق، 2000.

3. أستراتيجيات الخطاب، عبد الهادي بن ظافر الشهري، ص 185، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، ط 1، د. ت.

4. الاسلوب والاسلوبية، عبد السلام المسدي، الدار العربية للكتاب، ط 2.

5. أشكالات النص، جمعان بن عبد الكريم.

6. البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ج 1 7. تحليل الخطاب: ج. بول 8. التعبير والتواصل (التقنيات والمجالات) دیداکيتك، علي آيت أوشان، دار أبي مرامر للطباعة والنشر، الرباط، 2010.

9. التواصل اللساني والشعرية، الطاهر بومزیر، منشورات الضلاف، ط 1، 2007.

10. الحوار وخصائص التفاعل التواصلي، محمد نظيف، أفريقيا الشرق، د. ط، الدار البيضاء.

11. سر الفصاحة، أبن سنان الخفاجي: ص 220 - 221، ط 1، دار الكتب العلمية، د. ت 12. سیر اعلام النبلاء شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان الذهبي، تحقيق سعید الافغاني، دار الفکر، بیروت، 1969.

ص: 383

13. علم الأعلام اللغوي، عبد العزيز شرف.

14. علم اللغة العام: فریائید دي سوسير، ترجمة ديوئيل يوسف، مراجعة النص العربي د. مالك يوسف المطلبي، أفاق عربية، 1985 15. عندما نتواصل نغير (معادية تداولية معرفية لآليات الحجاج)، عبد السلام عشير، أفريقيا الشرق، المغرب، 2006.

16. عهد الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر مالك الاشتر (رضوان الله عليه)، اعداد: المستشار فليح سوادي، العتبة العلوية المقدسة، النجف، 2010.

17. القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ج 2، د. ط، د. ت 18. قضايا الشعرية: ص 30، رومان جاكسون، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توفیال للنشر، الدار البيضاء، 1988 19. اللغة والخطاب، عمر أركان، أفريقيا الشرق، المغرب، 2000.

20. لسان العرب: مادة وصل، دار لسان العرب، 1970.

21. اللغة والفكر والمعنی، محمد بو عمامة، ص 236، أفريقيا الشرق، ط 1، 2000.

22. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، دار الدعوة، أستنبول 1980.

المصادر الاجنبية 1. Charles cooley. Social organisation in " alcomuniation ano nyme" 2. Dictionnare des concepts, eles Francoise Raynal etalain Rieunier، 1977 3. Edition suniversitaires، 1969

ص: 384

إستراتيجية الخطاب المتداخل في عهد الإمام علي - عليه السلام - لمالك الأشتر رضي الله عنه (مقاربة في ضوء المنهج التناضي التحليلي)

اشارة

م. د. صباح حسن عبيد التميمي 1438 ه - 2016 م

ص: 385

ص: 386

المقدمة:

للإمام علي (عليه السلام) في عهده - موضع الدرس هنا - استراتيجيات خاصة في تشكيل الخطاب الموجّه نحو المتلقي الخاص (مالك الأشتر) بوساطة خطاب قريب المدى، والعام (الساسة في كلّ زمان و مکان) بوساطة خطاب بعيد المدى، ومن هذه الإستراتيجيات (الخطاب المتداخل) الذي يتمّ انتاجه بوسائل استدعائية تشتغل على توظيف المخزون المعرفي الثقافي الخطاب الماضي، وإعادة تشكيله في الخطاب الحاضر (عهد مالك الأشتر)؛ لينتج عن ذلك تداخلٌ خطابيٌّ له دورٌ كبيرٌ في الحِجاج، والإقناع، وإيصال الخطاب للمتلقي بقوّة اقناعية شديدة، ولاسيما المتلقي المسلم عامة / والموالي لأمير المؤمنين بخاصة، وكل ذلك يتمّ بوساطة آلية التداخل النصيّ.

ويتولّد هذا التداخل الخطابي من تلاقي نصوص شمولية موروثة تربط المُخاطِب بالمُخاطَب بأواصر مشتركة متّفق عليها منها: (النصوص العليا)، - القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف -؛ لكونها نصوصا تمارسٌ سلطة عقدية على المتلقي، فتُسهم في استنالته، وتساعد على إقناعه بشكل أسرع مما لو كان الخطاب إحاديا خاليا من التداخلية المتشابكة.

وقد اقتضت طبيعة الدراسة أن تتشكّل من مبحثين، وقع على عاتق الأول منهما مهمّة الكشف النظري عن مصطلحات الدراسة ومنهجها المتّبع فكان عنوانه (البعد التنظيري - في مصطلحات الدراسة ومنهجها المتّبع)، وانقسم لذلك على محورين أولهما وُسِم ب (الخطاب، الإستراتيجية، الخطاب المتداخل - المفهوم والأبعاد) والآخر عُنوِنَ ب (في المنهج المتّبع - أبعاده و آلياته) بوصفه منهجا مقترحا ستتبناه الدراسة وستنهض على حيثياته، وتستهدف ترسيخه إجرائيا، فلا بدّ - بعد ذلك - من تجليته قبل الدخول في متنها الرئيس ذي البعد الإجرائي المتمثّل بالمبحث الثاني الذي وُسِمَ ب

ص: 387

(البعد الإجرائي - استراتيجيات الخطاب المتداخل مع الخطاب القرآني) وفيه اشتغال على استراتيجيات (الاجترار، والامتصاص والحوار).

وبعد فأسألُ الله تعالى أن يوفِّقَنا لمراضيه ويجنبنا معاصيه، ويجعل عملنا هذا خالصا لخدمة دينه ووليه أمير المؤمنين - عليه السلام -، ولا أجلّ من أن نختمَ بختامه لعهدِه - عليه السلام - حين قال: ((إِنَّا إلَی اللّه رَاغِبُونَ وَالسَّلاَمُ عَلَی رَسُولِ اللّهِ َلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَعلی آلِهِ الطَّیِّبِینَ الطَّاهِرِینَ وَسَلَّمَ تَسلِیماً کَثِيراً)).

ص: 388

المبحث الأوّل: البعد التنظيري في مصطلحات الدراسة ومنهجها المتّبع

أوّلا: الخطاب، الإستراتيجية، الخطاب المتداخل - المفهوم والأبعاد:

1- الخطاب:

يُعدّ مفهوم الخطاب - في الأدبيات الحديثة - من المفاهيم التي نالها التعدّد والتنوّع، وذلك بتأثير الدراسات التي أجراها عليه الباحثون، بحسب اتجاهَي الدراسات اللغوية الشكليّة والدراسات التواصلية؛ ولذا فهو يُطلق - إجمالاً - على أحد مفهومين يتّفق في أحدهما مع ما ورد قديما عند العرب، أما في المفهوم الآخر، فيتّسم بجدّته في الدرس اللساني الحديث، وهذان المفهومان هما:

الأوّل: أنّه ذلك الملفوظ الموجّه إلى الغير، بإفهامه قصدا معيّنا.

الآخر: الشكل اللغوي الذي يتجاوز الجملة، وهذا المفهوم هو الغالب في الدراسات اللغوية اللسانية الحديثة (1).

وبحسب فهم لساني حديث تعميمي آخر يُعدّ خطاباً كلُّ ملفوظٍ / مکتوب يشكّل وحدة تواصلية قائمة الذات، ويُفاد من هذا الفهم الحداثي للخطاب ثلاثة أمور هي:

أولا: تحييد الثنائية التقابلية جملة / خطاب حيث أصبح الخطاب شاملا للجملة.

ثانيا: اعتماد التواصلية معيارا للخطابية.

ثالثا: إقصاء معيار الحجم من تحديد الخطاب؛ إذ أصبح من الممكن أن يُعدّ خطاباً نصّ كاملٌ أو جملةٌ أو مركّبٌ أو شبه جملة (2).

ص: 389

ويطلق وصف (الملفوظ) - الوارد في التعريف السابق - على الحديث / الكلام أو الخطاب؛ فهو مظهر کلامي لغوي يتألف من تقطيعات وجمل، وهو أكبر من الجملة دلالة، كما أنه يمثّل موقفا كلامياً فيه متكلّم ومُخاطَب وسياق داخلي (لغوي) وخارجي (مقام)، ولا يمكن فهم هذا الملفوظ بمعزل عن هذين السياقين وهو عملية اتّصال وإبلاغ متنوّعة المظاهر، وهذا يعني أنّ الملفوظ قد يكون مجرّد وحدة كلامية، أو قد يكون خطاباً.

والخطاب مثلما يتجلّى في معظم الدراسات اللسانية المختلفة عمليّة اتّصال تتمُّ في إطارين: الإطار اللّغوي؛ فقد يكون متوالية جملية من الجمل المكتوبة أو المنطوقة، ينتجها مرسلٌ واحد أو عدّة متخاطبين مثلما يحدث في الحوار أو غيره، وإطار غير لغوي يشمل منظومة العادات والأعراف والتقاليد، وهو ما أُطلق عليه مصطلح (إثنوجرافيا الخطاب)، والخطاب بوصفه حدثاً كلاميّاً يتشكّل من عدة عناصر هي: المرسِل، والمستَقبِل أو الجمهور، والرسالة أو الموضوع، والهدف، ويؤثّر هذا الهدف تأثیرا جليّا في استراتيجية المرسِل فيملي عليه اختیارات معيّنة من بين البدائل التي يتيحها له النظام اللغوي، وقد يؤثّر في شكل الحديث و صورته وبنيته (3).

وفي النهاية يمكن القول إن مصطلح (الخطاب) يشير إلى الطريقة التي تُشكّل بها الجُملُ نظاماً متتابعاً تُسهم به نسق كلّي متغاير ومتحد الخواص، وعلى نحو يمكن معه أن تتألف الجُمل في نظام بعينه لتشكّل نصا مفردا، أو تتألف النصوص نفسها في نظام متابع لتشكّل خطاباً أوسع ينطوي على أكثر من نص مفرد، وقد يوصف الخطاب بأنّه مجموعة دالة من أشكال الأداء اللفظي تنتجها مجموعة من العلامات، أو يوصف بأنّه مساق من العلاقات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض متعيّنة (4)، أو هو جملة من المنطوقات أو التشكّلات الأدائية التي تنظم في سلسلة معيّنة لتنتج دلالة ما،

ص: 390

وتُحقّق أثراً معيّناً (5).

ويتداخل مفهوما النصّ والخطاب تداخلا كبيرا في الخطاب النقدي العربي الحديث عامة، لدرجة تصل أحيانا إلى صعوبة التمييز بينهما، فذهب بعض النّقاد والباحثين إلى قصر النص على المظهر الكتابي فيما يقصر مفهوم الخطاب على المظهر الشفوي (6).

وفي الحقيقة أنّ (الخطاب) متصل بالكتابة العامة وهو ملك مشاع للعامة من القراء، بينما يختصّ النصّ بالكتابة الإبداعية الخاصة بنوع من الكتّاب والمبدعين بسبب من طابع التمرّد والفرادة والتجديد التي يتميّز بها النص عن الخطاب (7).

ومن وجهة نظرنا الاستخلاصية يمكن عدّ (الخطاب) متوالية شمولية سياقية تتشكّل من جملة أو جمل أو نص أو نصوص ترتبط فيما بينها برابط سیاقي واحد ينشأ في ظل مقصدية (المُخاطِب) الذي يحاول إيصال (رسالة) لغوية شكلاً (صورة مادية ملموسة) تحمل صورة ذهنية دلالية سطحية (المدلول المباشر) وعميقة (المدلول الإيحائي) إلى (مُخاطَب قریب) وهو الذي يتجلّى في السياق القريب من الخطاب أو (مُخاطَب بعيد) ليس له نجل مباشر، بل أن الخطاب يقصده دون تحديد مباشر، وهو يحمل سمة التراكم القريب الأمد أو البعيد الأمد، بمعنى أنّ الخطاب يمكن أن يتمثّل في نتاج واحد أو سلسلة من النتاجات.

وقد يتعدّى شكل (الرسالة) في الخطاب ماديتها الملموسة (بصریا) في مجال تحققها الكتابي، إلى ماديتها الملموسة (بصریا أيضا) في مجال تحققها البصري (الرسم والنحت والإشهار) فكلّها تنطوي على خطابات ذهنية معيّنة يضمنها المبدع / المُخاطِب فيها؛ لإيصالها للجمهور الذي يُدخِل هذه الأعمال في نمذجة ذهنية يستشفُّ منها الفحوى المطلوب كلٌّ بحسب خبرته في التلقي.

وفي ظلّ تصورنا هذا يمكن التفريق بين النص والخطاب في أن الأول تجلٍ كتابي

ص: 391

تتلبسه صفة (الخصوص)، والثاني تجلٍ عامٍ (بصري، كتابي، مشهدي...) يتّسم بصفة (العموم) فهو يشتمل على النص ويتعداه، أما النص فلا يشتمل إلاّ على متوالية جملية لها حيز دلالي معيّن، فضلا عن عمومية الخطاب المتأتية من منحاه الجماهيري العام من خلال توجهه لكلّ الفئات، وخصوصية النص الأدبي الذي ينحصر على فئة خاصة من المتلقين في الغالب ومن هنا شاع استعمال أنواع متعددة من الخطابات التي تُوصف ب (سياسية، اجتماعية، دينية، أدبية)، في حين أننا لا نجد شيوع (نص سیاسي، دیني، اجتماعي) بل نجد نصّاً واحدا يشتمل على دلالات دينية اجتماعية أدبية سياسية وما إلى ذلك.

وقد لا يتحدّد الخطاب بمساحة تلفُّظيّة معيّنة، فربما يتشكّل الخطاب من حيّز تلفُّظي موجز جدّا لكنَّ أبعاده التأويلية والدلالية تتمدد لمساحات شاسعة بعد أن تستقبل منظومة التلقي الموجه نحوها شِيفراته المحمّلة بتأثيرات متعددة تُسهم في إخضاع هذه المنظومة للاستجابة لذلك الخطاب الموجز.

وبالاستناد إلى الخصوصية التي يتمتّع بها الخطاب المدروس (العهد) بوصفه خطابا ينتمي لخطاب أعلى وهو (نهج البلاغة) الذي يمثّل أروع ما أنشأه العقل الإنساني الأكمل، حتى صار ((دون كلام الخالق وفوق کلام المخلوق)) - كما وُصِف قديما - فإن الخطاب فيه ((يمثّل أيدلوجيا تنتظم عبر ممارسات غايتها الإخضاع غير القسري الذي لا يمكن أن تمارسه الخطابات الدكتاتورية أو تلك التي تصادر الرأي الآخر أو تسعى إلى مصادرته، ولكنّها تؤسّسُ لعملية إقناع عقلية تنشأ أساسا على جذر من الصدق والممارسة العملية التي تتألف مع المعتقد، وبذلك فهي تهيئ لرسوخ غير مهدّد بالقلق)) (8).

ص: 392

2- الإستراتيجية:

يمكن الانطلاق من فهمٍ عامٍ للإستراتيجية في دراستنا هذه ينطلق من أنها تكتيكٌ إنتاجيٌ؛ يوظّفه مُنتِج الخطاب لإنتاج (ملفوظ) يتشكّل منه خطابه الموجّه نحو متلقٍ متعدد، مع مراعاة السياق العام بين المُنتِج والمتلقي، وبتعبير آخر فإنّها ((خطة في المقام الأوّل للوصول إلى الغرض المنشود، وبما أنها كذلك، أي خطة، فهي ذات بعدين؛ أولهما: البعد التخطيطي، وهذا البعد يتحقق في المستوى الذهني، وثانيهما: البعد المادي الذي يجسّد الاستراتيجيّة لتتبلور فيه فعلا، ويرتكز العمل في كلا البعدين على الفاعل الرئيس، فهو الذي يُحلّل السياق، ويخطّط لفعله، ليختار من الامكانات ما يفي بما يريد فعله حقّا، ويضمن له تحقيق أهدافه)) (9).

ويختار المرسل إستراتيجية خطابه على وفق دواعي السياق التي تصبح معاییر لتصنيف استراتيجيات الخطاب، انطلاقا من أحد تعريفات الخطاب الذي ينظر إليه بأنّه: كلّ منطوق موجّه به إلى الغير للتعبير عن قصد المرسل ولتحقيق هدفه؛ إذ يتركّب هذا التعريف من محاور ثلاثة هي: أنّ الخطاب يجري بين ذاتين، وأنّه يُعبّر به المرسل عن قصده، وأنّه يحقق هدفاً، ومن هنا كانت هذه المحاور الثلاثة هي معايير تصنيف الإستراتيجية التي يراعيها المُرسِل عن إنتاج خطَابَه، ممّا يؤصّل علاقة الاستراتيجيات بمعطيات إنتاج الخطاب، أي بعناصر السياق التواصلية التي نتج فيها، وكذلك بالتفاعل أو العلاقة بين أطرافه من مُرسِل ومُرسَل إليه، ومن ثمَّ علاقة الخطاب ذاته بالمرسل؛ لإدراك الآليات المستعملة فيه مثل الاستدلال والحجاج (10).

وفي ضوء هذا الفهم العام للإستراتيجية سيُمثّل (النص الغائب / القرآن) المخزون في ذهن المُخاطِب / الإمام (عليه السلام) جانبا مهمّا من البعد التخطيطي الذي يتشكّل بوساطته البعد المادي المتمثّل بملفوظ الخطاب المُتَدَاخِل ودلالته / العمل (النص

ص: 393

الحاضر / نص العهد)، وهو تكتيكٌ ينفّذ بوساطة آلية التناص المتداعي مع القرآن.

3- الخطاب المتداخل:

نروم في إطار هذه الفقرة من الدراسة طرح تسمية جديدة، وقد قلنا تسميةً ولم نقل مصطلحا من منظور أن المصطلحَ تسميةٌ حقّقت الشيوع، ولكنّنا نأمل أن تكتسب تسميتنا المطروحة القابلية الكافية في المستقبل لتظهر بوصفها مصطلحا نقديا ناجزا بعد أن يُكتب لها الشيوع والإنجاز النقدي.

و تنهض هذه التسمية على مقولة (التداخل) وهي وإن كانت مقولة ليست بالجديدة إلاّ أن امتزاجها - في تركيب واحد - مع مصطلح (الخطاب) على وفق المنظور الذي طرحناه في هذه الدراسة هو ما يمنحها بعدا مغايرا قد يُكسبها الجِدة.

لقد ظهرت مقولة (التداخل) في خضمّ مقولات (ما بعد البنيوية) في طروحات باختين، وكرستيفا وغيرهم، وهي في عمومها توصیف یکرّس مفهوم (التناص) القائم على تشكّل متعدد الأوجه، وتجميع من نصوص سابقة مع نصّ لاحق بحيث يصير الجزء کلاّ في ظل آلية تفتيت الماضي وصهره في جسد الحاضر.

وقد أشارت کرستيفا لخاصية التداخل هذه في مقاربتها لمفهوم (النص) حين رأت أنّه - في بعض حالاته - ((ترحال للنصوص وتداخل نصّي. ففي فضاء نصٍّ معيّنٍ تتقاطع وتتنافي ملفوظات عديدة مُقتَطَعَة من نصوصٍ أخرى)) (11).

إنّ مصطلح (النصوص المتداخلة / Intertextuality) أو التداخل النصّي - کما في نص كرستيفا هو مصطلح سيميولوجي (تشريحي)، وقد أشار اليه روبرت شولز قائلا: ((النصوص المتداخلة اصطلاح أخذ به السيميولوجيون مثل بارت وجينيه وكرستيفا وريفاتير وهو اصطلاح يحمل معاني وثيقة الخصوصية، تختلف بين ناقد وآخر، والمبدأ العام فيه هو إنَّ النصوص تشير إلى نصوص أخرى، مثلما إنَّ الإشارات

ص: 394

تشير إلى إشارات أُخَر، وليس إلى الأشياء المعنية مباشرة، والفنان يكتب ويرسم، لا من الطبيعة، وإنّما من وسائل أسلافه في تحويل الطبيعة إلى نص، لذا فإن النص المتداخل هو: نص يتسرب إلى داخل نص آخر، ليجسد المدلولات، سواء وعی الكاتب بذلك أو لم يعِ) (12).

وإذ كان هذا الطرح يتجه في مقصدیته نحو (النص) لیکرّس مقولة تداخله بنصوص أخرى سالفة، فإن طرحنا هذا يتجه نحو مقولة (تداخل خطاب) لا تداخل نص، وبما أنّنا فيما مضى قد فرّقنا بين مصطلحي (الخطاب) و (النص) من منطلق عمومية الأول، وخصوصية الثاني، انفتاح أفق الأول، وضيق أفق الثاني، كليّة الأول وجزئية الثاني فإن هذا يُشر عن مقولة (الخطاب المتداخل)؛ ليكتسب صفات التداخل المأخوذة من الطرح (ما بعد البنيوي)، وصفات (الخطاب) الذي انماز عن النصّ بخصائص أثبتناها سابقا، وفي ضوء ذلك يأخذ هذا التركيب الجديد شرعيته من طروحات سبقت (التداخل) ورؤية جديدة لمطروح سابق (الخطاب).

ويمكننا تحديد بعده المفهومي بالقول: هو تعالق خطابات سابقة متعددة، مع خطاب لاحق في طور الولادة، بغية انتاج حضور جديد من الغياب الماضي المتراكم الذي أُعيد انتاجه بعد دخوله في عملية إنتاجية ذهنية تدور تفاصيلها في أروقة عقلية المبدع الذي يرتكز في انتاجها على الذاكرة طويلة الأمد المخزونة في ذهنه، فضلا عن وسائل تشكيله الابداعية الأخرى التي تُتيح له تشکیل خطاب إبداعي مغاير يتركّب من الماضي والحاضر.

ثانيا: في المنهج المتّبع - أبعاده وآلياته -:

تسير هذه الدراسة في ضوء طرح مغاير في منظوره تجاه مقولة (التناص)، فهو ينظر إليه بوصفه منهجاً تحليليّا، وآلية قرائية لمقاربة الخطابات المتداخلة، وهو طرح

ص: 395

يستهدف تحطيم النظرة الإحادية للتناص القائمة على مسلّمة كونه تحقّقا نصّیا متلبّسا في النص الرئيس (المُتناص) فقط؛ ذلك أنّ الكشف عن نويات النصّ الماضية التي أسهمت في تشكّله الحاضر لا يتمّ إلاّ عن طريق آلية فرز وتصنيف ثمّ تلفيق، وذلك متحقق في آلية (التناص)، انطلاقا من رؤى جملة من الدارسين الذين ((جعلوا التناص ممارسة قرائية للنص تكشف عن خفاياه ومحتوياته العلامية الراجعة إلى متن سابق)) (13).

فهو وإن كان مصطلحا يدلّ على طبيعة التكوّن والنمو للدلالات في النص الحاضر قيد القراءة؛ إذ تتمخّض عنه أبعاد ذلك النص، وتتجلّى حيثياته، إلاّ أن ذلك لا يعفيه من أن يكون منهجا يستعين به المتلقي الواعي لاستشراف أبعاد الخطاب الذي يروم مقاربته.

فهذا الطرح لايُقصي المقولات التي ترى أنّ التناص ((تشکیل نصّ جدید من نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو النّص المتناصّ خلاصة لعدد من النصوص التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث لم يبق من النصوص السابقة سوى مادتها. وغاب (الأصل) فلا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران. هكذا يبدو (التّناصّ) علاقة تفاعل بين نصوص سابقة، ونصّ حاضر. أو هو تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نصّ، حدث بكيفيات مختلفة)) (14)، غير أن هذه الكيفيات المختلفة بحاجة إلى آلية كشف قرائي تقاربها، وتوضّح فضاءها التكويني.

وفي ضوء ذلك تنظر هذه الدراسة إلى (التناص) نظرة ثنائية يتوزعها بعدان الأول يرى أن (التناص) تشكّلٌ إبداعيٌّ يستوعبُ ويمتصُ كلَّ هذه التداخلات التي حصلت به ويتفاعل معها، والآخر ينظر إليه بوصفه منهجاً قرائياً يمتلك الكفاية لممارسة قراءة واعية تسبر أغوار النص / الخطاب، وتخترق كلَّ خطوطه الأفقية والعمودية.

وتنطلق الدراسة في تبنيها هذا من آلية التلفيق التي استند إليها (المنهج التناصي)

ص: 396

ومعه (المنهج القرائي)؛ إذ يمثّل الأول أحد أهم المناهج الحداثية التي تجمع بين المنهج الداخلي والخارجي في النقد والتحليل، وهي دعوى قال بها الناقد الدكتور مشتاق عباس معن، وردّها إلى أمور منها:

1- كلاهما - المنهج التناصي والمنهج القرائي - يشتغلان على نقطتي الداخل والخارج في التحليل.

2- کلاهما يربطان النص بثقافة المتلقي والمنتج، وذلك من خلال كشف المؤثرات الخارجية في النص أو الإفادة العلامية للنص من الخارج - كما هو الحال في التناص -، أو من خلال الربط بين إمكان التحليل المنتج أو الاستهلاكي أو المضيف من المتلقي نحو تفكيك شفرات النص ومغزاه الداخلي - كما هو الحال في القراءة، وتأسيسا على هذا الطرح يكون الفكر التناصي فکرا نقديا / فلسفيا مغايرا لبقية المناهج النقدية الأخرى لا على سبيل المضمون النقدي وبنود التحليل فقط، بل على أساس الكيفية الاشتغالية لأدوات التحليل أيضا (15).

فمثلما يقارب (المنهج الأسلوبي) - على سبيل المثال - النصَّ، ويفكّك أواصره مقسّما إياه إلى مستويات متعددة، فكذلك (المنهج التناصي) يشتغل على الكشف عن تشکیل واقع التكويانات النصيّة المبنينة للنص المدروس، عِبر تقسيمها إلى أنماط مختلفة تتحدّد بالآليات التي اشتغل عليها مبدع النص نفسه والتي سمّيت بقوانين التناص؛ وهي ممارسة لا تكتفي بتعيين النص المتناص وإرجاعه إلى أصوله ومؤثّراته فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تحديد قانون هذا التناص، ومحاولة تصنيف النصوص المتناصة مع نصوص أخرى ضمن هذه القوانين - التي سيرد ذكرها فيما بعد -، وللقارئ - في هذه الممارسة - دورٌ فاعلٌ؛ لما يقوم به من استرجاع ومقارنة وموازنة ورصد ومعاينة وتأويل؛ إذ يزيل ويمحو ويحفر وينقّب وبينما هو يحفر فإنّه يدمّر، ويفتّت، إنه يحفر خلف النص للعثور على نصّ فرعيٍّ غائب يمثّل الأصل الحقيقي للنص الحاضر (16).

ص: 397

المبحث الثاني: البعد الإجرائي: استراتيجيات الخطاب المتداخل مع الخطاب القرآني

تجلّت في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر استراتيجيات متعددة لإنتاج الخطاب المتداخل مع الخطاب القرآني المُستدعی، وهي استراتيجيات نقسمها على وفق قوانين التناص المعروفة؛ لأنّ كلَّ قانونٍ من تلك القوانين هو بمثابة استراتيجية كتابية يتّبعها منشيء النص لانتاج خطابه المتداخل المولود من جرّاء إلتقاء الغائب بالحاضر في توليفة إبداعية محكمة الصنع أتقنَ صنعَها سيّدُ البلغاء:

1- إستراتيجية الاجترار:

وتتحدّد هذه الإستراتيجية بتكرار النص الغائب من دون تغيير أو تحوير والإكتفاء بإعادته کما هو أو مع إجراء تغيير طفيف لا يمسّ جوهره؛ بسبب من نظرة التقديس والاحترام التي تُحاط بها بعض النصوص والمرجعيات لاسيّما الدينية منها (17).

على أنّ منتج الخطاب المدروس الإمام (عليه السلام) کان مغايرا لأي مُنتِج عادي، وهذه المغايرة متأتّية من كونه خلاصة الحكمة الإلهية والنبوية؛ لذا فإنّ استحضاره للنصوص المقدّسة كان بمثابة توكيد أيدلوجيّ يشتغل تأثيره على المتلقي الخاص - مالك -، والعام - كلّ سياسي بل كل إنسان مسلم -، فيكون الإقناع مضاعفا، وهذه الثنائية في التأثير، والمضاعفة فيه نابعة من صدوره عن حقلين حقلٌ مقدّس غائب - القرآن الكريم -، وحقل حاضر - کلام الإمام علي (عليه السلام)، وبهذا ترتفع نسبة التأثير وإن كان الغائب - القرآن - ملتبسا بالحاضر العهد - کما هو دون تغيير؛ نتیجةً

ص: 398

لما يحتفظ به النصّ الغائب من منزلة مقدّسة في نظر المتلقين.

وقد اشتغل الامام (عليه السلام) على هذه الإستراتيجية في مواطن متعددة من العهد منها قوله: ((وَارْدُدْ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الاُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ الاَخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الاَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ))(18).

إنّ ثيمة الخطاب الرئيسية في الخطاب المتداخل المُقتَبَس هي (الرد)، وهو إرجاعٌ الأمور إلى نصابها الصحيح إرجاعا عقائديا بحتا، يَعتمدُ على الكتاب المقدّس (القرآن)، والسُّنة النبوية الشريفة، وهنا وجب استحضار نص القرآن كما هو دون تغيير؛ لانتاج خطاب متداخل إقناعي يمارس سلطته الدينية الضاغطة على التابع؛ لأنّ النبنّي العقائدي يحتّم على المُتبنِّي الأخذ بما يمليه المُتَبَنَّى بوصفه مسلمات عقائدية، وهي مسلّمات تمارس تأثيرا عالي الدرجة في المتلقي الواقع تحت سلطتها الروحية.

ويبدو أن الإمام - (عليه السلام) لم يشتغل على النص المجلوب - الآية القرآنية - اشتغالا تحویریا تغییریا؛ لأسباب أهمّها: إن تأثير الاقتباس من القرآن نصيّا أقوى من تأثير استجلابه بالفحوی؛ ذلك أنّه الخطاب المقدّس الأعلى، فحضوره يضاهي حضور خطاب الإمام نفسه، ومن هنا فإن استدعاءه کما هو سيكون ذا تأثير واسع النطاق على المتلقي؛ لأنّ استحضار هذا النصّ المقدّس هو - من دون شك - استحضارٌ للذات المُنتِجة له في ذهنية المتلقي، وهي ذات قدسية لها تأثيرها الخاص.

وفي خطاب متداخل آخر يستعين الإمام (عليه السلام) بالاستراتيجية نفسها؛ لانتاج خطابه المتداخل ذي التأثير الثنائي وذلك في قوله: ((وَ إِیَّاكَ وَ اَلْمَنَّ عَلَی رَعِیَّتِكَ

ص: 399

بِإِحْسَانِكَ أَوِ اَلتَّزَیُّدَ فِیمَا کَانَ مِنْ فِعْلِكَ وَ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعُودَكَ بخُلْفِكَ فَإِنَّ اَلْمَنَّ یُبْطِلُ اَلْإِحْسَانَ وَ اَلتَّزَیُّدَ یَذْهَبُ بِنُورِ اَلْحَقِّ وَ اَلْخُلْفَ یُوجِبُ اَلْمَقْتَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ اَلنَّاسِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ [کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُون])) (19).

يتركّب الخطاب المتداخل المُقتَبَس من حقل ألفاظ معجمّي مستجلب من حقل قدسيّ أعلى ابتداء من مدخله وحتی ختامه، فألفاظ (المَنَّ، والإحسان، والوعد، والخلف، والإبطال، والنور، والمقت، والله) كلّها ألفاظ قدسية تنتمي لحقل الكتاب العزيز، وهذا التباهي العام يُضفي على النص المتداخل قدسيّة من نوع خاص، ويكشف عن واقعية مقولة سبق ذكرُها تنظر للإمام على أنّه: خلاصة الحكمة الإلهية، وأنّ تداخل خطابه مع النص القرآني إنّما یتأتّي من المخزون القرآني الذي ورثه عن نبيّ الرحمة، مدينة العلم الذي كان هو بابُها، وقد خُتِم هذا الخطاب المتداخل ختاما نصيّا مباشرا مُقتبساً من الكتاب العزيز، ليُضفي على صياغته قدسية مباشرة بعد أن تدخلت الألفاظ القدسية في تشكّله من مبدئه إلى منتهاه.

2- إستراتيجية الامتصاص:

تُعد إستراتيجية الامتصاص مرحلة أعلى في قراءة النص الغائب، فهي - على الرغم من انطلاقها من الإقرار بأهمية هذا النص وقداسته - تتعامل معه تعاملا حرکیا تحویليا لا ينفي الأصل بل يُسهم في استمراره جوهرا قابلا للتجديد، ومعنی هذا أن الامتصاص لا يجمّد النص الغائب ولا ينقده أنه يُعيد صوغه فحسب على وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها ذلك النص في المرحلة التي أُنتِج بها، وبذلك يستمر النص غائبا غیر ممحو ويحيا بدل أن يموت (20).

ونعثر - في الخطاب حيّز الدراسة - على تطبيقات هذه الإستراتيجية في أكثر من موضع؛ إذ يُعيد الإمام على إنتاج النص الديني الغائب - القرآن الكريم - في ضوء

ص: 400

المتطلبات الجديدة التي يتطلبها الخطاب الحاضر، فيُحوّرُ الدلالات القرآنية الغائبة ويحوّلُها ويدمجها في خطابه الحاضر بطريقة لا تُعفي آثارها، ولا تدع صورتها الأصلية كما هي دون تغيير، بل تشتغل عليها اشتغالا يجعلها تتبدّی غائبةً حاضرة في المُنتَج الجديد.

ومن أمثلة ذلك قوله - سلام الله عليه -: ((وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ)) (21).

في هذه القطعة يتداخل الخطاب الموجّه مع الخطاب الأعلى وهو الخطاب القرآني العمومي الموجّه للبشر عامة ومنه قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد: الآية 7)، وقد أدى استعمال ضمائر الغائب في النص: (يَنصُر، بِيَدِهِ، لِسَانِهِ، بِقَلبِهِ، يَدِهِ، قَلبِهِ) إلى تعميم الخطاب، وإحاطته بالشمولية التي تجعل (المُخاطَب) مفتوح الأفق، غير محدد بشخص معيّن، وهنا يتداخل الخطاب الخاص الذي حوّله الامام بوساطة لغة الضمائر الى عام مع الخطاب العمومي الشمولي (القرآن الكريم)؛ لتُخلق من ذلك دلالة عمومية مزدوجة تمنح النص أبعادا عمومية توجّه لكلّ متلقٍ يتلقى النص في كلّ فضاء زماني و مكاني، ويأتي هذا الانفتاح الدلالي؛ ليُعطي لخطاب الإمام مساحة شرعية تعميمية تكتسب شرعيتها من (التداخل الخطابي) الحاصل عن طريق (استراتيجية الامتصاص) التي أفاد الخطاب من خلالها من الآية السابقة، فضلا عن أنها منحت النص المقتطع - الذي صار خطابا - بعدا تقدیسیا نابعا من قداسة النص المستجلَب - نص الآية -، الذي أضفى على النص قداسة وشرعية وعمومية شملت المجتمع الإسلامي كلّه.

إنّ الخطاب المتجلّي في العهد هو خطاب ثنائي الأبعاد يتّجه إلى مُخَاطَب قریب

ص: 401

وهو مالك الأشتر - خاص، ومُخاطَب بعيد عام - وهو الحاكم السياسي المنتمي للمنظومة الاسلامية -، لذا فإنّنا لا يجب أن نفهمه في سياقه الخاص فقط؛ إذ إنّ قصدية الخطاب في أساسها تستهدف العموم؛ لأنّ المخاطب القريب الخاص - مالك الأشتر -، هو من خُلَّص أصحاب الإمام (عليه السلام)، فهو متبنٍّ واعٍ لمنظورات الإمام كلّها، ومن هنا فالوصايا السياسية الواردة في العهد معروفة سلفا عنده، وفي ضوء ذلك يكون القصد البعيد المدى هو الهدف الرئيس في انتاج هذا الخطاب بوساطة استراتيجيات التداخل الخطابي.

ومن هذا النمط من الاستراتيجية قول الإمام في العهد: ((وَلَاتُدْخِلَنَّ فِی مَشُورَتِكَ بَخِیلاً یعْدِلُ عَنِ الْفَضْلِ، وَ یعِدُكَ الْفَقْرَ وَلَاجَبَاناً یضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَلَاحَرِیصاً یزَینُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)) (22).

ينطلق الخطاب المتداخل من قاعدة (الشورى) التي تمنح السياسة الإسلامية بعدا ديمقراطيًا قبل أن تُعرف الديمقراطية في العالم السياسي المعاصر، وهي تنهض على التشاور، وتقبّل الرأي الآخر في الحكم، وعدم الاعتداد بالرأي الفردي الذي يُكرّس مقولة (الدكتاتورية) المضادة لمقولة الشورى، على أن للتشاور السياسي قواعد مهمة يجب أنّ تؤخذ بنظر الاعتبار، وقد فصّل فيها القول الامام علي - عليه السلام في خطابه المتداخل هذا، وصنّف أنماط الشخصيات التي لا بدّ للسياسي أن يستبعدهم في ميدان التشاور، ويحرص على عدم الأخذ بآرائهم، وهم: (البخيل، والجبان، والحريص) ثمّ يستجلب - سلام الله عليه - حجّته في استبعاد هذه الفئات من سياسة التشاور فيقول: (فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّی یَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ)، وبناء على هذه المقولة لا يمكن أن يعتمد السياسي المُشاور على بطانة يشاورها و فيها

ص: 402

هؤلاء الثلاثة؛ لأنّ سوء الظن بالله سبب من أسباب القنوط من رحمته، وسعته، وهي أسباب يُجذّرها الشيطان في نفس الإنسان حتى يصل إلى مرحلة: سوء الظن بالله.

وقد استدعى هذا الخطاب المتداخل قوله تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (الآية 286 من البقرة)، وأفاد منه بطريقة تُغيّر صورته النصيّة ولا تنفيها، وتُعيد إنتاجه بما يتلاءم وأهداف الخطاب المُتَناص، بوساطة (استراتيجية الامتصاص)، فتعامل معه تعاملا حركيا تحویليا لا يُلغي أصله بل يُسهم في استمراره وامتداده، من خلال إعادة صوغه على وفق متطلبات جديدة ظهرت في الخطاب المتداخل الجديد.

ص: 403

خاتمةُ الدراسةِ ونتائجها

من كلّ ما تقدّم يمكننا أن نخرج بنتائج عدّة أهمها:

1. إنّ طرح (الخطاب المتداخل) يتعدّى مقولة (التداخل) التناصية التي تتجه نحو (النص) فحسب، فيوسّع من دائرة التداخل، وينقلها من مساحة النص الضيّقة إلى مساحة الخطاب الشاسعة، متكئا على انفتاحية (الخطاب)، واتساعه، وشموليته، وكلّيته، بالمقارنة مع النص.

2. كان (الخطاب المتداخل) في عهد الامام على مُكَوِّناً لسانیا ذا أبعادٍ مزدوجة القصدية منبنية على ثنائية (الحضور والغياب) التي تأتت له بوساطة تركيب هذا الخطاب من خطاب أعلى مُستَدعَى - القرآن الكريم - وخطاب أدني مُستَدعِي، کلام الإمام علي عليه السلام؛ لتقوية حجاجية الخطاب بعد تشكّله من خطابين مؤثّرین.

3. مثّلت (إستراتيجية الاجترار) إحدى أهم آليات الاستدعاء التي اشتغل عليها عهد الامام (عليه السلام)؛ لانتاج خطابه المتداخل المزدوج؛ لأنّها تُتيح استجلاب النص القرآني الغائب وتکراره من دون إجراء تعديلات معيّنة والإكتفاء بإعادته کما هو أو مع إجراء تغييرات طفيفة لا تمسّ جوهره؛ بسبب من نظرة التقديس والاحترام التي تُحاط بها بعض النصوص والمرجعيات لاسيّما الدينية منها؛ وهذا يؤمّن للمُستَقبِل مساحة إقناعية شاسعة، ويُعزّز قناعته بخطاب الامام المتداخل؛ لأنّه تناغم مع أبرز منظومة تشريعية إسلامية يتّفق المسلمون على قدسيتها، وقد شاعت هذه الاستراتيجية في متن العهد شيوعا فاق غيرها من الاستراتيجيات، على أنّ ضيق مساحة الدراسة الآن قيّد استجلاب شواهد متعددة، والاكتفاء بالنماذج المذكورة.

4. جاءت (إستراتيجية الامتصاص) لتشتغل على إعادة انتاج النص المقدّس المُستَدعَى في ضوء خصوصيات الخطاب المتداخل الجديد، الذي أفاد من النص الغائب، بعد أن أعاد هیکلیته، وحوّره، وفكّك أواصر شکليته؛ ليُوظّف أبعاده المضمونية العامة، ويقوي بها الخطاب المُنتَج الجديد.

ص: 404

هوامش الدراسة

1. ينظر: استراتيجيات الخطاب: 36 - 37.

2. الخطاب وخصائص اللغة العربية، دراسة في الوظيفة والبنية والنمط: 24.

3. ينظر: الخطاب القرآني، دراسة في العلاقة بين النص والسياق: 23.

4. ينظر: مفهوم الخطاب في النظرية النقدية المعاصرة، مجلة علامات، ج 57، م 15: 125 - 126.

5. ينظر: النص القرآني من الجملة إلى العالم: 17.

6. ينظر: النص بوصفه إشكالية راهنة في النقد الحديث، مجلة الأقلام، ع 3 - 4: 16.

7. ينظر: التناص في شعر الرواد: 13.

8. الخطاب في نهج البلاغة، بنيته وأنماطه ومستوياته - دراسة تحليلية -: 11 - 12.

9. استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية: 53.

10. استراتيجيات الخطاب: 86.

11. علم النص: 21.

12. الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية - قراءة نقدية لنموذج معاصر: 324 - 325.

13. تأصيل النص «قراءة في أيدلوجيا التناص»: 119.

14. النص الغائب، تجليات التناص في الشعر العربي: 29.

15. ينظر: تأصيل النص: 9.

16. ينظر: التناص في شعر الرواد: 42.

17. ينظر: م. ن: 43.

18. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: مج 9/ ج 17/ 36.

19. م. ن: مج 9/ ج 17: 76 - 77.

20. ينظر: التناص في شعر الرواد: 47 - 48.

21. شرح نهج البلاغة: مج 9/ ج 17: 22.

22. م. ن: مج 9/ ج 17: 26.

ص: 405

مصادر الدراسة ومراجعها:

1. استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، ط 1، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بیروت، 2004 م.

2. تأصيل النص «قراءة في أيدلوجيا التناص»، د. مشتاق عباس معن، ط 1، مرکز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، الجمهورية اليمنية، 2003 م.

3. التناص في شعر الرواد، أحمد ناهم، ط 1، دار الشؤون الثقافية، بغداد - الأعظمية، 2004 م.

4. الخطاب القرآني - دراسة في العلاقة بين النص والسياق، الدكتورة خلود العموش ط 1، جدارا للكتاب العالمي، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2008 م.

5. الخطاب في نهج البلاغة، بنيته وأنماطه ومستوياته - دراسة تحليلية -، الدكتور حسين العمري، ط 1، دار الكتب العلمية - بيروت، 2010 م.

6. الخطاب وخصائص اللغة العربية، دراسة في الوظيفة والبنية والنمط، أحمد المتوكّل، ط 1، دار الأمان، الرباط، منشورات الاختلاف، الجزائر، الدرا العربية للعلوم ناشرون، بيروت - لبنان، 2010 م.

7. الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية - قراءة نقدية لنموذج معاصر، د. عبد الله محمد الغذامي، ط 4، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998 م.

8. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (656 ه)، تحقيق محمّد إبراهيم، ط 1، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، دار الكتاب العربي، شارع المتنبّي بغداد، 2007 م.

9. علم النص، جولیا کرستیفا، ترجمة: فرید الزاهي، مراجعة: عبد الجلیل ناظم، ط 2، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1997 م.

10. مفهوم الخطاب في النظرية النقدية المعاصرة، عبد الرحمن حجازي، مجلة علامات، ج 57، م 10، 2005 م.

11. النص بوصفه إشكالية راهنة في النقد الحديث، فاضل ثامر، مجلة الأقلام، ع 3 - 4، سنة 1992 م.

12. النص الغائب، تجليات التناص في الشعر العربي، محمّد عزَّام، من منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2001 م.

13. النص القرآني من الجملة إلى العالم، د. وليد منير، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، القاهرة، 1997 م.

ص: 406

ألفاظ طبقات الرَّعية في عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام - الى واليه مالك الأشتر رحمه الله

اشارة

دراسة في اللفظ والتركيب - الدكتورة سحر ناجي فاضل المشهدي

ص: 407

ص: 408

توطئة:

كان العرب في أقطار الجزيرة العربية في بساطة عيشهم لا يفهمون دقائق القوانين وأنواع المعاش من زراعة وتجارة وقضاء؛ لانعدام ممارستها في حياتهم، فدعاهم الاسلام الى العقائد، والأخلاق، ونشر الاسلام مهد السبيل في مصر؛ لوجود الأقباط، والفلاسفة، والبطالسة الذين مارسوا الحياة المدنية، ولمَّا تجلت الإمامة لأميرنا، و مولانا علي بن ابي طالب (عليه السلام) هيأ تعاليم الدين المهمة، فكان صدور عهده هذا الواليه الصحابي مالك الأشتر (رضوان الله عليه) بمثابة إنشاء حياة جديدة في مصر وسنرى في حديثنا في هذا البحث ما تمخض من هذه الحياة.

فقد عهد الإمام عليه السلام ولاية عن أمور مصر بأجمعها ومنها (الأمور المالية والاقتصادية من جمع الخراج، الأمور العسكرية، الأمور الاجتماعية، عمران البلاد) ولا نجد ذكراً للعاطل عن العمل، وبذلك فإننا لا نجد لمن لا عمل له ذكر في هذا العهد مما يدلُّ على عناية الإمام بتنظيم أمور الحياة فلا وجود لعاطلين، اذ إنّ المجتمع الإسلامي متساوو في الحقوق والواجبات، ويتضح التنظيم الإداري للدولة اتجاه مواطنيها، فتتشكل أعمدة المجتمع؛ إذ أقام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) حكومة أساسها العدالة، والمساواة، وجاءنا بأروع، وأوثق الوصایا، والعهود في عالم الإنسانية، وعهده للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله عليه) أكبر مثال على ذلك، إذ عُدَّ وثيقة دولية أذهلت الشعوب من أقصى الشرق وحتى الغرب، وعبّرَّ فيه عن دروس وقيم إنسانية، وأخلاقية في تولية الحاكم والوالي، وتعامله مع رعيته، فقد أكدّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ونبَّه على الاختيار القائم على الكفاءة، فقدّم طبقات الرَّعية على وفق تقسيم أذهل

ص: 409

الجميع، نجد خطابه العلوي السياسي على طريقة أخلاقية لا يبتغي به السيطرة على الأمة؛ بل إبداء الرأي والمشورة، فأشاع العدل، وربط بين صلاح الحاكم واستصلاحه مع حفظ حقوق الرَّعية، ووضع ركيزة أساسية في تعامل الناس، فأسس منهج قائم على التعاليم الإسلامية، و مجتمع متساوي في جميع الحقوق والواجبات، فقدمَّ مفهوم الطبقات جاعلاً طبقة الجنود هي الأولى؛ لأهميتهم في حفظ الأمن والسلام، وإقامة أركان المجمع الإسلامي، وأخرَّ الحديث عن الطبقة السُّفلى؛ لأنّها القسم الأكبر في المجتمع، ولحاجتها لجميع الطبقات المتقدمة، لتتحقق العدالة الإنسانية سواء أكانت السياسية أم الاجتماعية أم الاقتصادية، ومضى ساعيا لرفع الظلم والغبن خلال الفترة التي حكم فيها. ومحققا لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)، فقد أوصى العهد العلوي لمحاولة تأسيسية معرفية منها تجنب الوالي لزلاته، ورفقه بالشعب، يقول جورج جرداق (للإمام علي بن ابي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصول و آراء، تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع)(2)؛ لذلك حقَّ لنا تشبيه الامام بالسيف المسلط على الطغاة والجبابرة والرأسماليين آنذاك، ولابدَّ لنا ونحن نخوض في غمار البحث عن طبقات الرَّعية ان نعطي مفهوما عن معنى الطبقات.

الطَّبقة:

الطَّبَقُ: عظیمٌ رقيقٌ يفصل بين الفقارين، وطبَّق بالسَّيف عُنُقه، أبانه، وهو كل غطاء لازم، والسَّماواتُ طِباقُ بعضها فوق بعض، واحدتها طَبَقةٌ، والطَّبَق: جماعة من

ص: 410


1- النحل/ 90
2- علي وحقوق الانسان: 111

الناس يعدلون طبقا مثل جماعة، وجاء في المثل (وافق شنٌّ طبقة)(1).

وعرَّفها ابن فارس (ت 395 ه) بقوله: (الطاء والباء والقاف أصل صحيح واحد، وهو يدلُّ على وضع شيء مبسوط على مثله حتى يغطيه. من ذلك الطَّبق. تقول: أطبقت الشّيءَ على الشّيء، فالأول طبق للثاني؛ وقد تطابقا،... والطبق: الحال في قوله تعالى: «فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ» وقولهم: (إحدى بنات طبق) هي الدَّاهية، وسميت طبقا، لأنها تعمٌّ وتشمل. ويقال لما علا الارض حتى غطاها: هو طبق الارض)(2) والطَّبِقُ غِطَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ أَطْباق، وَقَدْ أَطْبَقَه و طَبَّقَه انْطَبَقَ وتَطَبَّقَ: غَطَّاه وَجَعَلَهُ مُطَبَّقا؛ الطَّبَقُ: كلُّ غِطَاءٍ لَازِمٍ عَلَى الشَّيْءِ. وطَبَقُ كلِّ شَيء: مَا سَاوَاهُ، وَجَمعُه أَطباقٌ؛ ومِنهُ قَولُهُم: وافَقَ شنٌّ طَبَقَه.. والسمواتُ الطُّباقُ: سُمِّیت بذلِكَ لمُطابَقَة بَعْضِها بَعْضاً أَی:بَعضها فَوْقَ بعْض، وَفِي التَّنْزِيلِ: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا»؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَی طِباقاً مُطبِقٌ بَعضُها عَلَی بَعْضٍ، و نَصَب طِباقاً علی وَجْهَیْنِ: أَحدهما: مطابَقة طِباقاً، وَ الْآخَرُ مِنْ نَعْت سَبْعٍ أَی خَلَقَ سَبْعاً ذَاتَ طِباقٍ. وَکَذَلِك طَبقات النَّاسِ کُلُّ طَبَقة طَبقت زَمَانَهَا. والطَّبَة: الْحَالُ، يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى طَبَقات شَتَّى أَيْ حَالَاتٍ. والطَّبَقُ والطَّبَقة: الْحَالُ. وَفِي التَّنزِيلِ: لَتَرْکَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ؛ أَيْ حَالاً عنْ حَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ لِلْحَیَّةِ أمُّ طَبَقٍ وبنتُ طَبَقٍ لإِطْبَاقها وتحَوّیها، وَقِيلَ: قِيلَ لِلْحَيَّاتِ بناتُ طَبَقٍ لإِطْبَاقها عَلَى مَنْ تَلْسَعُهُ، وَقِيلَ: إِنما قِیلَ: لَهَا بناتُ طَبَقٍ لأَن

ص: 411


1- ظ: العين: 5/ 108
2- مقاییس اللغة: 3/ 439، علما أنّ الآية الواردة هي الانشقاق من 16 - 19209

الحَوَّاء یُمْسِکُهَا تحت أَطْبَاق الأَسْفاط المُجَلّدة(1). وتعني المرتبة والمنزلة التي تقسم عليها فئات المجتمع، ولفظة (الطَّبقة) للإشارة الى طبقات المجتمع. وقد شاع هذا الاستعمال في عهده عليه السلام الى مالك الأشتر رضوان الله عليه في سياق وصيته له بمرعاة الفروق بين الطبقات. إذ يقول في سياق ذكره آخر طبقة من طبقات المجتمع: الفئة أو المرتبة الخاصة بالفقرء والضعفاء من الرعية.

واستعمل لفظ (طبقات) بصيغة الجمع، إذ خصصها الإمام للدلالة على مراتب الناس، فقال في سياق تقسيم الرعية على مراتب، ولفظ (طبقات) - هنا - عام لا يختص بفئة من هذه الطبقات، وإنما هو إشارة إلى تعدد هذه الدلالة جاء في فئات الرعية ومنازلهم من حيث المنزلة الإدارية، أو من حيث الغني والفقر، وقد حوى کتاب الامام في عهده للصحابي مالك الاشتر هذه الطبقات لارتباط بعضها ببعض فحاجة الاول منوطة بالثاني وبمجموعهم يقوم صورة المدينة، فبدأ بالجنود؛ لأنهم الاصل شؤون الحياة المادية والمعنوية، ولتنظيم القوانين والاسس التي من شأنها الرفعة والرقي من الشرائع السماوية، ثمَّ الكُتَّاب، وقضاة العدل،.... إلى أن وصل الى الطبقة الاخيرة وهم (الفقراء والمحتاجون)، وقد ذكر الامام سبع من طبقات المجتمع الاسلامي في عهده الى واليه على الكوفة الصحابي مالك الاشتر (رضوان الله عليه) وهي:

1. جنود الله 2. كتَّاب (العامة والخاصة) 3. قضاة العدل 4. عمال الإنصاف والرفق

ص: 412


1- ظ: لسان العرب: 10/

5. أهل الجزية والخراج (من أهل الذمة ومسلمة الناس) 6. التجار وأهل الصناعات 7. الطبقة السفلى: الفقراء والمحتاجون.

قال الإمام علي (عليه السلام) في خطابه للصحابي الجليل مالك الأشتر (رضوان الله علیه): «وَاعْلَمْ: أَنَّ الرَّعِیَّةَ طَبَقَاتٌ لَایَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَ لَاغِنَی بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ، وَ مِنْهَا کُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْل، وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ، وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِی الْحَاجَةِ وَالْمَسْکَنَةِ، وَ کُلٌّ قَدْ سَمَّی اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِیضَهً فِی کِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِیِّهِ (صلی الله علیه و آله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً»(1).

فالرَّعية عامة الناس، وهي مفردة جمعها رعايا، وهم أناس يخضعون لسلطة الحاكم أو الوالي، فقد قسَّم الرَّعية على طبقات فذكر (الجنود، والكتاب، والقضاة، والعال، وأرباب الجزية من أهل الذمة وأرباب الخراج من المسلمين، والتجار، ومنهم أرباب الصناعات، وذوو الحاجة والمسكنة، ولابد لهم جميعا من التجار، لان البيع والشراء الاغناء عنه(2).

قدم الجنود لأهميتهم وأخر التجار واهل الصناعات ثم اردفهم بالفقراء والمحتاجين. وجملة (منها جنود الله) اسمية قدم الخبر لأنه ظرف فقال: «ولابد لهم جميعا الا بالتجار وذوي الصناعات؛ فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من

ص: 413


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 17/ 34

أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم)(1).

فأوصى بهم؛ لأنهم دعامة من دعائم الاقتصاد، وقد أخر الحديث عنهم لاهتمامه بهم.

نبدأ بأولى الطبقات وهي: 1. الجنود:

جمع جند و واحده جندي وهو العسكر. وهم كل صِنفٍ من الخلق، وفي الحديث: «الأرواح جنودٌ مُجَنَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، يستعمل للمفرد والجمع فيقال: هذا جُندٌ وهؤلاءِ جُندٌ(2).

فالجيم والنون والذال يدلُّ على التجمع والنصة. يقال هم جنده اي اعوانه ونصّاره، والجَنَد الأرض الغليضة فيها حجارة بِيض، واصله الجَلَد(3).

ويُقال للعسكر الجُندُ اعتباراً بالغلظة من الجند، من الارض الغليظة التي فيها حجارة؛ لذا يقال لكل مجتمع: جَندٌ: نحو: الأرواحُ جنود مُجَنَّدَةٌ، وجمعه: أجناد وجُنُود(4).

ولرُبَّ سائل أن يسأل لمَ أوصى الامام عليه السلام عامله بهم وجعلهم اولى الطبقات؟ والاجابة تكون ان اضافة الامام للفظ جنود الله فنسبهم اليه؛ لتشريفهم وتقدسيهم ولمكانتهم فهم من يرفعون راية الاسلام ويذلون الطغاة والاعداء، ولأنَّهم

ص: 414


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: العين: 6/ 85 - 86
3- ظ: مقاییس اللغة: 1/ 485
4- ظ: المفردات في غريب القرآن: 1/ 131

(حصون الرعية، زين الولاة، عز الدين)(1).

قال الإمام: «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِى نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ، [وَ أَنْقَاهُمْ] جَيْباً، وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ، وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَ مِمَّنْ لايُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَ لايَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ»(2)، وهم حماة الدولة والمجتمع، واستعار لهم لفظ (الحصون) لأنهم يحفظون الرّعية فيحاطونهم كالحصن، وهم زينة للولاة فالوالي بلا جنود لا يبالي به، وهو عز للدِّين، ولفظ العز لاسم اللازم، ولفظ الأمن من باب اللزوم للجند، فقد تصدرت هذه الطبقة فئات المجتمع كافة؛ لأنهم حصون الامة والامن والدفاع وهم زينة الولاة، وقد جاء النهج بكلا الجمعین (جُند وجُنُود)؛ فلكل منهما مزية تختلف عن الآخرى، فلفظ (جُند) على زنة (فُعل) من أبنية المفرد، ويدلُّ على صنف من الخلق.

وذكر سيبويه إن الجمع على بناء العدد الأدنى (أفعال) فيقال جند وأجناد وجاءوا ب (فعول) لإرادتهم الكثرة(3).

ومنها قوله «کنتُم جُندُ المرأةِ وأتباعُ البهيمةِ»(4)، فجعل جند المرأة هم طلحة والزبير ومن سار مسارهما للدلالة على التحقير والتوبيخ، زيادة على ذلك في اضافتها إلى لفظ (المرأة) ما يدل على ضعفها، وهذا ما أكده المعنى القرآني في قوله: «جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ»(5).

ص: 415


1- ظ: في ظلال نهج البلاغة: 5/ 396
2- نهج البلاغة: ك 53، 324
3- الكتاب: 3/ 576
4- نهج البلاغة: ك 53، 324
5- سورة ص: الآية 11

ف (أنصحهم، انقاهم، افضلهم) كلها تدل على المفاضلة، وبدأ عهده بفعل الأمر (ولِّ)، وجيباً: تمييز لقوله (أنقاهم)، و (حلماً) تمييز لقوله (أفضلهم)، و(اتکالا) مفعول لأجل الفعل (تدع)، و (أفضلهم عن الغضب) متعلق ب (يبطيء) ويفيد المجاوزة، وقد تفرع من الجند (إدارة الشرطة وحراس الامن، إدارة الجيش الحافظ للأمن)، وکنّی عن العفة والأمانة بقوله (أنقاهم جيبا) وهي صفات ذاتية روحية تتعلق بالجنود أكثر من تعلقها بجباة الخراج 1. أنصح الجند لله والرسول والإمام 2. أطهرهم جيبا 3. افضلهم حلما 4. بطيء الغضب 5. يستريح الى العذر 6. يرأف بالضعفاء 7. ينبو على الأقوياء 8. لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف وهنالك صفات موضوعية:

1. من ذوي المروءات والاحساب 2. من اهل البيوتات الصالحة والسواق الحسنة 3. من اهل النجدة والشجاعة 4. من اهل السخاء والسماحة «ثُمَّ الْصَقْ بَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالاْحْسَابِ، وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ

ص: 416

وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ.

ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ، وَلاَتَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ. وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَا لاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ»(1)، أكدَّ على (أنقاهم جيبا): كناية عن الاخلاص والنزاهة، فجعل الإلصاق بذوي الاحساب، أهل البيوتات الصالحة، أهل النجدة والشجاعة، والسخاء، والسماحة)، فجعل الالصاق بمثابة التقريب ممن عرفهم الناس بمكارم الاخلاق، ومن جمل تعليماته: ضابطة الاسرة والبيت، و(من) في قوله إنّها جماع من الكرم، وشُعَب من العرف) زائدة، وعلى قول الاخفش (جماع الكرم) أمّا ابن ابي الحديد فاحتمل کونها تبعيضية على حقيقتها، وفي قوله «تفقد من أمورهم الضمير يرجع الى الجنود لا الامراء(2).

فالانتساب لبيت صالح، واسرة معروفة دعامة لقيامه، والضابط الثاني: حال الفرد بنفسه ومن صفاته (النجدة، الشجاعة، السخاء، السماحة). و (ثم الصق): حرف عطف يفيد التراخي، ول من جنودك في الدرجة الثانية من ذوي الأحساب، (أهل النجدة) تراخ ثانٍ، و(لا يتفاقمنَّ) نهي مؤكد، و (ينتفعون به) جملة فعلية صفة لقوله: موضعا.

وآثر: اسم تفضيل من الأثرة: أحبهم، على الجندي أن يتصف بأوصاف تستحق مقام الولاية، فقد انأت في عهد الامام مدارس ومعاهد لتعليم الضباط وتربية الأمراء والضباط، فيوجه الاسلام بتوجيهات روحية فعليه أن يتصدى للعدو بالروح

ص: 417


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: شرح نهج البلاغة: 17/ 48

والايمان وليست قوة الجسد وحدها كفيلة بالنصر، فعليه ان يكون ناصحا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وللامام عليه السلام، وأن يكون طاهر القلب ليتجنب الفواحش، وثابتا في الحلم غير متسلط على نفسه، وعافيا صافحا عن المذنب، حليما صبورا، فإنَّ ذلك كله عوامل هامة في تقوية الجندي ورفع معنوياته. ولابدَّ لأختیار رئيسا للجيش ناصحا لأمته، ومخلصا لدينه: لأنّ قيادة الجيش عبء ثقيل وخطير(1).

وأكمل الامام (عليه السلام) قائلا: «وَلْیکُنْ آثَرُ رُؤُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِی مَعُونَتِهِ، وَ أَفْضَلَ عَلَیهِمْ مِنْ جِدَتِهِ، بِمَا یسَعُهُمْ وَ یسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِیهِمْ حَتَّی یکُونَ هَمَّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِی جِهَادِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَیهِمْ یعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَیكَ.

وَ إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَینِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ، وَ ظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیةِ، وَ إِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، وَ لَا تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلَّا بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ. فَافْسَحْ فِی آمَالِهِمْ، وَ وَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیهِمْ، وَ تَعْدِیدِ مَا أَبْلَی ذُوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ کَثْرَةَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَ تُحَرِّضُ النَّاکِلَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ثُمَّ اعْرِفْ لِکُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَی، وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَی غَیرِهِ، وَلَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَایَةِ بَلَائِهِ، وَلَا یَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ صَغِیراً، وَلَا ضَعَهُ امْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا کَانَ عَظِیماً. وَارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا یُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَیَشْتَبِهُ عَلَیْكَ مِنَ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، فَالرَّدُّ إِلَی اَللَّهِ: اَلْأَخْذُ بِمُحْکَمِ کِتَابِهِ وَ اَلرَّدُّ إِلَی اَلرَّسُولِ: اَلْأَخْذُ

ص: 418


1- نهج البلاغة: ك 53، 324

بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَهِ غَیْرِ اَلْمُفَرِّقَهِ»(1).

وعليه فإنّ قائد الجنود محصنا ضد الاغراءات فیکشف النص أن هنالك معان ركز عليها الإمام في شخصية القائد، فأشار بصفات ذاتية تتواءم وعقيدة الإسلام، وأردفها بموضوعية تمت اکثر صلة الى المفهوم القبلي(2).

وآثر رؤساء الجنود وأمراء الجند من يواسيهم ويوفر لهم المعونة، فإن أراد القائد أن يستمع له الجيش فعليه أن يحسن اليهم ولا يقتصر على خصوص رواتبهم المحدودة ومؤونة أهلهم الذين خلفوهم في منازلهم بعيدا عنهم.

ولا بدَّ لهم من سد حاجاتهم ويتم بتحصيل الخَراج؛ فقد يكون مالا، وقد يكون محصولا زراعيا، وبعد تحصيل الخراج لابد من وجود القضاة والعمال والكتّاب، وكل الطبقات لابدَّ لها من (التجار وذوي الصناعات) مما يلزم ان يتصف به الجندي لكون ایمانه بروحه وقوة عقيدته.

2- كُتَاب العامة والخاصة:

فكتّاب العامّة هم من يحررون الشؤون العامة كالضرائب، والخاصة من يحرر لشخص معين؛ كالقاضي أو الوالي، أو امير الجيش المتصدرون لكتابة العقود والمعاهدات والحقوق، فالكَتبُ: خرز الشّيء بسير، والكِتابُ والكتابة: مصدران، والكِتبةُ: اكتتابك كتاباً تكتبه وتنسخه(3).

وعرَّفت أصول حروفه بأنّ الكاف والتاء والباء أصلٌ صحيح يدلُّ على جمع شيء

ص: 419


1- المصدر نفسه
2- ظ: الخطاب في نهج البلاغة: حسين العمري: 191
3- ظ: العين: 5/ 342

الى شيء من ذلك الکِتابُ والكتابة. يقال: كتبت الكتابَ أكتُبه كَتباً. ومنه الكِتابُ الفَرضُ، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»(1). الكتاب: معروف وجمعه کُتُب وكُتب، والكِتابةُ لمن تكون له صناعة مثل الصياغة والخياطة والكتاب: مطلق: التوراة، ويجوز أن يكون القرآن، وهو الصحيفة والدواة، وما كتب على بني آدم من أعمالهم، والكاتب والكُتَّاب معروفان(2).

الكَتبُ (ضَمُّ أديمٍ الى أديمٍ بالخياطة، والأصل في الكتابة: النَّظمُ بالخطِّ لكن يستعار كلُّ واحدٍ للآخر، ولهذا سُمِّي کلام الله وان لم يكتب كتاباً، كقوله تعالى: «ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ»)(3).

وقال (عليه السَّلام): «ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَائِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الاَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَف لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاَ، وَلاَ تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمَّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ، فِيَما يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ، وَلاَ يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ، وَلاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ، وَلاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الاُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ.

ثُمَّ لاَ يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ

ص: 420


1- ظ: مقاییس اللغة: 5/ 159، علمّا أنَّ الآية الواردة هي سورة البقرة/ 183
2- ظ: لسان العرب: 1/ 699
3- ظ: المفردات: 2/ 547، علمّا أنّ الآية الواردة البقرة/ 1 - 2

النَّصِيحَةِ وَالاَمَانَةِ شَيْءٌ، وَلكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ، فَاعْمِدْ لاَحْسَنِهِمْ كَان فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَ أَعْرَفِهِمْ بِالاَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَي نَصِيحَتِكَ لِلّهِ وَ لِمَن وُلّيتَ أَمرَهُ. وَ اجعَل لِرَأسِ كُلّ أَمرٍ مِن أُمُورِكَ رَأساً مِنهُم، لَا يَقهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَ لَا يَتَشَتّتُ عَلَيهِ كَثِيرُهَا، وَ مَهمَا كَانَ فِي كُتّابِكَ مِن عَيبٍ فَتَغَابَيتَ عَنهُ أُلزِمتَهُ»(1).

جاء بجمع كاتب على زنة (فُعَّال) واضاف كاف الخطاب، وقسَّمهم على صنفين (كتاب العامة: الذين يتصدرون لكتابة العقود والمعاهدات، ذهب الشارح ابن ابي الحديد الى ان المراد بهم الوزراء قائلاً: «الكاتب الذي يشير إليه الامام هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيراً، لأنّه صاحب تدبير الأمير والنائب عنه في اموره»(2) وأشار الى الشروط الواجب توافرها في الوزير بقوله: «واخصُص رَسائِلك التَي تَدخُل فيها مكائِدك وأسرارك أجمَعُهم» فأختر من أهل الوعي والفطنة بحيث لا يخدع ويؤخذ من غير شعور، ومن أهل الدِّين والوفاء أيضا، يفي بالعهد، ويحافظ على الأمانة ويقدس الواجب لا يتهاون فيه ويحرص على سمعته وكرامته، ولا تبطره الكرامة وتجعله اخ لك) واختبرهم على مقياس الحقيقة باختلاف طبيعتها، فالحقيقة الدينية تقاس بالوحي من الله سبحانه، واختيار الكتّاب من الوجهة الاخلاقية ورعاية الامانة والصداقة، فيجب ان يكون تقيا يراد منه مصالح العمل، ومن اخير الرعية، وحافظا للسر، وحسن الاثر ومعروفا بالامانة وأشار ابن ابي الحديد الى ان الكاتب هنا (الوزير) لانه النائب عن الامير واليه تصل مکتوبات العمال وعنه تصدر الاجوبة، وذهب الخوئي الى أن الكتابة في عصرنا منصب ممتاز، وفي العصور السابقة

ص: 421


1- ظ: نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: شرح نهج البلاغة: 17/ 62 وظ: الأحكام السلطانية 2265

ایضا، فكان يشتغل بالكتابة وانشاء مايهم من الكتب، الا انه لا يدل على كون الكاتب وزیرا. وهم درجات: كاتب السر وهو من أجمع الكتّاب للأخلاق الصالحة، غير خفيف المزاج، كاتب الديوان علیه مکاتبات العمال حافظا يقظا لايسامح في اصدار جواب الکتب فطنا لائقا في تنظيم العهود والعقود بين الوالي والرعايا أو يجرى لهم اختبارا ليتعرف على صلاحيتهم(1).

3- قضاة العدل:

العدلُ صفة الله وبه اراد في بعثه للأنبياء، ويعد الامام اول من فصل عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، قال (عليه السّلام): «ثُمَّ لاَقِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْکُتَّابِ، لَمِا يُحْکِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَيَجْمَعُونَ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا»(2).

فالقضاء: الحكم، وقضى يقضي قضاء وقضية: حكم، ومنه الوصية قال تعالى: «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وقضاء الشيء: فناءه وذهابه(3)، فالقاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمرٍ وإتقانه وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى: «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ» أي أحكم خلقهنَّ، والقضاء هو الحكم قال تعالى: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ» اصنع واحكم، ولذا سمي القاضي قاضياً ليحكم الأحكام وينفذها(4).

فالقضاء: فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلا وكل واحدٍ منهما على وجهين: إلهي

ص: 422


1- ظ: منهاج البراعة: 20/ 227 وظ: في ظلال النهج: 5/ 437
2- نهج البلاغة: ك 53، 324
3- ظ: العين: 5/ 185، علما أنَّ الآية الواردة هي من سورة سبأ/ 14
4- ظ: مقاییس اللغة: 5/ 99

وبشرى فمن الأول قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»(1).

فأمر بذلك، ومن الثاني قوله: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(2)، والقضاء من الله تعالى أخصُّ من القَدَر، لأنّه الفصل بين التقدير، فالقَدَر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع(3).

وقد حددت شروطا مهمة لانتخابه منها (ان يختار بالتعيين، وألا تضيق به الأمور، واسع الصدر، عفيفا لا يقضي بالهوى، وألا يعلن الحكم النهائي الا بعد التحرير والتدقيق، والا تطريه الأقوال،. ثم أشار باسم الإشارة (اولئك) اي الذين اكتملت فيهم هذه الصفات (قليلون)(4) قال (عليه السّلام): «وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِی الْبِلَادِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِیَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، ولاَ تَصِحُّ نَصِیحَتُهُمْ إِلاّ بِحِیطَتِهِمْ عَلَی وُلاَةِ اْلأُمورِ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ. فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِی حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَیْهِمْ، وَتَعْدِیدِ مَا أَبْلی ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ کَثْرَهَ الذِّکْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاکِلَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُّ»(5).

وقرة العين: الفرح والسرور، والحيطة على زنة (شيمة) تعرض الامام لأمراء

ص: 423


1- الإسراء/ 23
2- غافر/ 20 ظ: المفردات: 2/ 525
3- ظ: المصدر نفسه
4- في ظلال النهج: 5/ 416
5- نهج البلاغة: ك 53، 324

العدل، لإرتباط إجراء العدل في البلاد بالجنود من وجوه شتی، فالجند هو المالك والقائم بالسيف في الرعية فالقوة والقدرة على إجراء الامور بیده.

أمور البلاد تحتاج الى قانون يتضمن تعيين الحقوق والحدود بين الأفراد، وعند وقوع الخلافات والنزاعات وقوة اجراء القوانين فقوى المجتمع التي هي اركان شعب (القوة المقننة والقضائية والمجرية) ومن هنا كان لوجود القضاة أهمية في عهد الامام قائلا: «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ، وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاْمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ. ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ. فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً، فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ کَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاْشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»(1).

فممارسة القاضي لمهنته أهمية كبيرة، وأوصى بهم فلا يضيق عليهم ولا تمحكهم الخصوم، ويكون مستقلا. «وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فلا تضيق به الامور ولا تمحکه الخصوم»، اختلف فيه فذهب ابن ابي الحديد: جعله ما حکا اي لجوجا، وقيل: كناية عن كونه ممن يرتضيه الخصوم(2).

ص: 424


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: شرح النهج: 17/ 40

وذهب الخوئي قدس سره الى القول: (يمكن ان يكون كناية عن كونه بشدة صلابته في أمره وهيبة ایمانه و تمسكه بالحق بحيث لا يطمع الخصوم في جعله محکا يمتحنونه هل يقبل الرشوة ام لا وهل يؤثر فيه التطميع والتهديد أم لا)(1).

والا يتمادى في الزلة، ولايحرص من الرجوع الى الحق اذا عرفه فالقضاء من شؤون النبوة، والرئاسة، دقیقا في كشف القضية.

4- عمال الانصاف والرفق:

الولاة ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لإنصاف الناس.

العمالة: أجر ماعمل لك، والمعاملة: مصدر عاملته، والعَمَلَة: الذين يعملون بأيديهم ضروباً من العمل حَفراً وطينا، ونقول: أعطه أجر عملته وعمله(2).

العمل: العين والميم واللام أصلٌ صحيح، وهو عام في كل فعل یٌفعا، قال الخليل: عَمِل عَمَلاً فهو عامل، اذا عمل بنفسه. والعمالة: أجر ما عُمِل. والمعاملة: مصدر من قولك عاملته، وأنا أعامله معاملة(3).

والعملُ: كلٌّ فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخصُّ من الفعل لأنّ الفعل قد يُنسَب الى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد، وقد ينسب الى الجمادات، ويستعمل للأعمال الصالحة والسيئة، لقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا»(4)

ص: 425


1- منهاج البراعة: 20/ 205 - 206
2- ظ: العين: 2/ 154
3- ظ: مقاییس اللغة: 4/ 145
4- المفردات: 2/ 452، علمّا أنّ الآية الواردة في النساء / 124

«ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ أَکْرَمُ أَخْلَاقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً، وَأَقَلُّ فِی الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً، وَأَبْلَغُ فِی عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً»(1) جاء في هذا الفصل في ذكر طبقة (العُمّال) واختلف فيهم؛ فقال ابن ابي الحديد هم (عمال السواد والصدقات والوقوف والمصالح فانهما جماع من شعب الجور والخيانة)(2).

وقال الخوئي: (لا وجه لاختصاص كلامه بصنف من العمال، بل المقصود منه مطلق العمال ومن يلي أمر ناحية من البلاد)(3).

و زاد البحراني (فيتحفظ من خيانة الاعوان من العمال، فأستعار لفظ التقليد التعليق نسبة التهمة اليه ملاحظة لشبهها بما یقلد به من الشعار المحسوس واللفظ في غاية الفصاحة «فإنهم جماع من الجور والخيانة» ففي عهد عثمان العمال الشاغلين للاعمال كانوا شعب الجور والخيانة)(4).

وذهب الخوئي الى أنهم جماع من شعب الجور والخيانة على الانتخاب بالمحاباة والأثرة من التكلف والتعسف، فهذا الانتخاب جور وخيانة لانه لا ينطبق عليه انه شعب الجور والخيانة الا بالتكلف فهذا الكلام راجع الى العمال الشاغلين للاعمال

ص: 426


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: شرح نهج البلاغة: 17/ 47
3- منهاج البراعة: 20/ 216
4- ظ: شرح نهج البلاغة: 5/ 173

قبل حكومة الامام(1) وذهب محمد جواد مغنية الى القول: (ان هذا المقطع خاص بعمال العامل وحده اي الوالي المنصوب من الامام. أجل، إنَّ الخطاب خاص بظاهره، ولكنّ المراد به العام، لأنّ الكفاءة التي ذكرها كشرط للاختيار والتوظيف. تعم كل عامل وموظف دون استثناء)(2). فاستعمالهم يتم بعد اختبارهم وتجربتهم افعال الامر (انظر، استعمل، توخ، اسبغ) و (أهل التجربة: مفعول للأمر توخ والمتقدمة صفة ل (البيوتات)، أخلاقا: تمييز من النسبة في قوله (أكرم)، (إلاّ بهم) استثناء مفرغ، وعملهم الاشراف على مصالح الناس، وقد اسند الامام كاف الخطاب الى الوالي الصحابي مالك الاشتر (ثم انظر في امور عمالك)، وقد أوصاه أن مواصفات يجب ان يتحلوا بها امينا ناصحا، کما هو حال اختياره للولاة، وذكر سبب ذلك «فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ، وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ «ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأرْزَاقَ فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنىً لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ، ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ. وَتَحَفَّظْ مِنَ الأعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ».

وواضح عودة الضمير في (هم) اليهم «قوة لهم... وغنى لهم... وحجة عليهم وواضح اسباب الاهتمام بهم فلا يحتاج الى تفسير، وتجدر الاشارة الى الاهتمام البالغ

ص: 427


1- ظ: منهاج البراعة: 20/ 216
2- في ظلال النهج: 5/ 418

من قبل الامام الى (العمال (الموظفين) فیتلافي الامام الضرر والفساد بقوله (اسبغ الارزاق عليهم) «ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم» فيعد مبدأ التفتيش عن الموظفين كما هو حال القضاة(1).

قال في حقهم وفي سياق كلامه عن اصحاب الجمل: «فقِدموا على عمالي، وخُزَّان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر، كلهم في طاعتي وعلى بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا علىّ جماعتهم، ووثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدرا»(2) أضاف ياء المتكلم للفظ (عمالیّ)؛ لينسبهم اليه، وعطف عليهم لفظ (خزّان بیت مال المسلمين) وخزّان علی زنة (فُعّال) الذي يدلُّ على المبالغة والكثرة؛ فمجيئه بهذا البناء يدلُّ على كونهم أفضل العمال وأنقاهم، وأوصى الامام بجملة من الأمور التي تتعلق بانتخاب طبقة العمال: فيجب ان يكونوا من أهل البيوتات الصالحة إذ نجد فيهم کرم الاخلاق وصيانة العرض وقلة الطمع والحلم والتأني في عواقب الامور(3).

أوصى بأن تسبغ الأرزاق والرواتب عليهم، کیلا تتعرض نفوسهم للاختلاس من أموال الخراج فهم (وكلاء الامة وسفراء الائمة)، وتوخُ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة «فالتجربة المعرفة شرط اساسي للكفاءة، واضيف اليها الأمانة.

ص: 428


1- في ظلال النهج: 5/ 419 - 420
2- نهج البلاغة: ك 53، 324
3- ظ: في ظلال نهج البلاغة: 5/ 421

5. عمال الخَراج:

انتقل الإمام بعد حديثه عن (الجنود، والقضاة، والعمّال) الى الخراج، والعمالة: أجر ما عمل لك. والمعاملة: مصدر عاملتهُ، وقولنا: أعطه أجر عملته وعمله(1).

فالعين والميم واللام أصل صحيح واحد، وهو عام في كل فِعلٍ يُفعَل، والعمالة: أجر ما عمِل، والمعاملة: مصدر من قولك عاملته، والعَمَلة: القوم يعملون بأيديهم ضروباً من العمل(2).

قال امامنا (عليه السلام): «وَتَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَصَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاِنَّ النَّاسَ کُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ. وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاِنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ؛ وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة. أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً، فَإِنْ شَکَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ، وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَرِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى

ص: 429


1- ظ: العين: 2/ 154
2- ظ: مقاییس اللغة: 4/ 145

الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ»(1).

والخراج هو المصدر الوحيد في عصره لخزانة الحكومة وما يقوم مقام المصارف من سد (أرزاق الجند، رواتب العمال والخدم). ومراده ب (تفقد أمر الخراج) استيفاؤه من قبل الجُباة کاملاً من دون زيادة أو نقصان، لأنّ نقصانه ظلم يضر مصالح الرّعية، وزيادته يضرُّ من يدفعه، فأوصى عماله بالرفق والاستماع للمصالح. الفرق بين الخِرجِ والخَرَاج هو أنَّ الخَرجَ: ماتبرعت به، أمَّا الخَراج: مالزمك أداؤه، قال بعضهم: الخرج من (الرؤوس) والخَراج من الأرض، وهذا يعني أنَّ الخَرجَ مبلغ غير منتظم. وغير متكرر يُدفَع إلى شخص مُعَيَّن مقابل تقديم خدمة عليه قال تعالى: «قالُوا یا ذَا الْقَرْنَیْنِ إِنَّ یَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً»(2)، أمَّا الخَراج فهو مبلغ معلوم يُدفَع بصورة منتظمة، ومتكررة في نهاية كلِّ حولٍ أو محصولٍ من قبل مستثمري الأرض إلى الدولة(3).

قال الطريحي: (إنّ اسم الخراج يطلق على الضريبية، والفيء، والجِزية، والغلة، ومنه خراج العراقين)(4).

ولنا في الخراج أنواع:- (الزَّكاة، الخُمُس، الجِزية، الفيء، الغنيمة)(5)، ويُعَدُّ أحد واردات الدولة الإسلامية وهو «الضَريبة التي كانت تُدفَع لخزينة الدَولة عن الأراضي

ص: 430


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- الكهف/ 94
3- ظ: الاسلام والاقتصاد: 50
4- مجمع البحرين: 1/ 632
5- على نحو ما درسناه في اطروحتنا للدكتوراه (ألفاظ الحياة الاقتصادية في نهج البلاغة. دراسة ومعجم.)

التي احتلها المسلمون حتى لو أسلم صاحبها. ويَختَلفُ مقدار الخَراج بحسب نوعية الأرض وطريقة ريعها واستغلالها ونوعية المحصول. وكانت هذه الضَّريبة عادةً تُفرَض على محاصيل الحبوبِ والأشجار المُثمِرة. وكانت تُدفَعُ سَنَويا بعدَ المَوسِم»(1).

استعمله الإمام (عليه السلام) للدَّلالة على (خَراجِ الأرض)، قائلاً في كتابه السابق إلى الصحابي الأشتر النَخَعَي (عليهما السلام): «وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْیَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ»(2)، إذ فضَّل الإمام (عليه السلام) هنا الناس إلى طبقات: وذكر أرباب الخَراج من المسلمين، وخصً بصرف الخراج الجُند والقُضَاة والعُمَّال والكُتَّاب؛ لما يحكمونه من المَعاقد، ويجمعونه من المنافع، ولابدَّ لهم جميعا من التُّجار لأجل البَيع والشِّراء الذي لاغناء عنه(3).

إذ قال: «ثُمَّ لَاقِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا یُخْرِجُ اللّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِی یَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَادِ...... وَلْيَکُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً»(4). فضَّل باسم التفضيل (أبلغ) عمارة الارض على استجلاب الخراج.

إذ لا حياةَ للدَّولة ولا الجنود أو أية هيأة أو فردٍ إلاَّ بالنفقة الكافية لسدِّ الحاجات، ومن البديهي أنَّه لا موارد للدولة إلاَّ بفرض الضَّرائب وجبايتها وقد أقرَّ الإنكليزي الاقتصادي (آدم سمث) شروطاً أربعة للضِرائب: فتفرض على النَّاس بنسبة قدرتهم

ص: 431


1- المرجع في الحضارة العربية الاسلامية: ابراهيم سلمان وعبد التواب شرف الدين: 128
2- نهج البلاغة: ك 53، 324
3- ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابی الحدید: 17/ 56
4- نهج البلاغة: ك 53، 324

على تحملها، وتنطبق على (فريضة الخُمس والزَّكاة والجِزيَة) في الإسلام وأن تكون معينة، وأن تُجبَی بدون إزعاج وتُنتَظم بحيث لا تُكلِف الشَّعب إلاَّ الضَروري لخزينة الدَّولة(1).

دعوة الإمام (عليه السلام) للصحابي مالكٍ (رضوان الله عليه) حين ولَّاه إدارة شؤون مصر الإهتمام بأرباب الخراج (وهم المستثمرون الزراعيون)؛ لأن الأراضي التي عليها الخَراج أراضٍ واسعة تتميز بالخصوبة وزراعة المحاصيل المهمة ك (الحِنطة والشَعير والتَّمر والزَبيب) إذ يتحقق للدَّولة فيها مورداً كبيراً، لذا أكد الإمام (عليه السلام) أهمية تفقد أمر الخَراج (فعلى العمال أن ينصفوا الناس من أنفسهم ويصبروا على قضاء حوائجهم فهم خزان الرّعية ووكلاء الامة، فالإمام (عليه السلام) يقرأ المستقبل إذ يبصر نهاية الأحداث قبل بدايتها فالنتيجة ستكون خراب البلاد أو صلاحها، وأوصى الإمام (عليه السلام) بعمارة الأرض أكثر من إستجلاب الخراج. وهو عهد من الرَّاعي إلى رعيته فالأمَّة عيال على الخراج، فأعطى للخَراج قيمته، وطريقة صرفه فإن إهتمّ بالأرض وعمارتها تيسَّر الرِّبح، وانتقل هنا من سياق حديثه عن العُمَّال إلى ذكر أرباب الخراج، فقال: تفقد أمرهم، لأنَّ الناس عيال عليهم، وكان يقول: استوصوا بأهل الخَراج؛ فإنَّكم لا تزالون سمانا ما سمنوا. ورُفِعَ إلى انوشروان(2) أنَّ عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة؛ وربما يكون ذلك قد أجحف بالرَّعية، فوقع: يرد هذا المال على من قد استوفي منه؛ فإنَّه تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنیانه،

ص: 432


1- ظ: في ظلال نهج البلاغة: 5/ 400 - 401. وظ: السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): 91
2- أنوشروان بن قباد بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام و هو ملك كسرى

ثم قال: «فان شکوا ثقلا» أي: ثقل طسق. وهو شبه الخراج له مقدار معلوم؛ وليس بعربي خالص، ويعني الخراج المضروب عليهم، أو ثقل وطأة العامل وارتفاع نسبة الخراج. قال: «أو عِلة «كإصابة الغلة آفة كالجراد أو البرق أو البرد أو إنقطاع شربٍ: نقص المياه في الأنهار، أو مطرٍ أو إحالة الأرض أو اتلفت بالعطش أو بالة، قلة مياه الأمطار، فإن لحَقَها ذلك فأمرهم بالتخفيف، وهو بمنزلة التِجَارة التي لابدَّ فيها من إخراج رأس المَّال وإنتظار عوده ورِبحِهِ(1).

فإن شكوا (ثقلاً): إرتفاعا في نسبة الخراج إلى حجم الإنتاج، أو (عِلَّةً): الأمراض التي تصيب المحاصيل الزراعية، والظروف الجوية والمناخية التي تُمِيتُ المحاصيل، أو إنقطاعاً في المياه المتأتية من الأنهار، أو بالة: نقصاً في مياه السَّقي من الأمطار؛ لقلتها، أو تلفاً في المحاصيل بفعل الأمطار الغزيرة، أو (عطشًا) بسبب الجفاف.

فإنَّ نسبةَ الخراج ستقل إلى الحَد الذي يُغَطي التكاليف والخَسائر، فمعظم الجباية إنَّما هي من الفلاحين والتُّجار، فإن إنقبضَ الفلاحون عن الفِلاحة، وقعدَ التُجَّار عن التِجارة ذهبت جملةً، والدَّولة هي السُّوق الأعظم للعالم، ومعظم السَواد، ونفقاتهم أكثر أمادة للاسواق، وتضاعف الأرباح في المتاجر، فيقل الخراج لذلك، لأنَّ الخراج والجباية في الإعتماد، والمعاملات عائد بالطبع على الدَولة بالنقص؛ لِقلتِه عند السَّلطان بقلةِ الخَراج(2).

وأوصى الإمام (عليه السلام) العاملين على جباية الخَراج والصَدَّقات بآداب عامة تتضح في قوله: «إنطلق إلى تقوى الله وحده لاشريكَ له، ولاتروعَنَّ مُسلِماً، ولا تجتازَنَّ علیه کارِهاً، ولا تأخذَنَّ منه أكثر من حقِّ اللهِ في مالهِ، فإذا قدمتَ على الحَيِّ فانزل بمائِهم

ص: 433


1- ظ: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 17/ 56، وظ: منهاج البراعة: 20/ 219
2- ظ: السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): 101 - 104

من غير أن تخالطَ أبياتهم، ثم أمضِ إليِّهم بالسَّكينةِ والوقارِ حتى تقومَ بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحيةِ لهم، ثم تقول، عبادُ الله أرسلني إليكم وليُّ الله وخليفته لآخذَ منكم حقُّ الله في اموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه الى وليه. فان قال قائل، لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه فلا تخيفه، او توعده، او تعسفه، أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهبٍ أو فضةٍ فاذا كان له ماشية او ابل فلا تدخلها إلا بإذنه»(1) فوصف الإسلام حق الله ما فرضه الشرع للمجتمع من ضرائب وهي لبيت المال تُوزع على الرَّعية بالعدل، فخاطب عامله آمرا له بالإنطلاق على بركة الله حتى يحسن في التصرف مع أهل الخَراج، وألاَّ يسيء إليهم بالترويع والتهديد والتخويف، أو بالتسلط عليهم وإكراههم على دفع حقوق الله والاعتداء بأخذ الأكثر من المقرر، ثم فصَّل ذلك قائلا: بأن عليه ألاّ يسكن في بيوتهم؛ بل ينزل في مائِهم (خارج بيوتهم) للسلامة له من أية إشاعة أو قول يُساء إليه، إذ أنَّ السَّکَن بين البيوت يُعَرِّضه إلى التعرف على الأمور والأسرار التي لا يرغب سُكان الحَيِّان يفشوها الى الغرباء، فذلك مِمَّا يُعَزِّز مكانة المسؤولين (الجُبَاة) ويجعل لهم هيبة في عيون الناس والخليفة، ومثال على ذلك رفض الإمام (عليه السلام) التصرَّف الذي قام به عثمان بنُ حنيف وهو عامله على البصرة؛ إذ دُعي من قبل أهالي البصرة على وليمة فقبلها، ومما لاشكَ فيه أنَّ هنالكَ أموراً ترتبت على قبول هذه الدَّعوة(2).

فالخرجُ والخَراج: «ما يخرج من المَّال في السَّنة بقدرٍ معلومٍ»(3).

قال ابن فارس: (الخاء والراء والجيم أصلان، وقد يمكن الجمع بينهما، إلاَّ أنا

ص: 434


1- نهج البلاغة: ك 60، 339
2- ظ: منهاج البراعة: 20/ 310
3- ظ: العين (مادة خرج): 4/ 158

سلكنا الطريق الواضح. فالأول: النفاذ عن الشيء. والثاني: اختلاف لونين. فأما الأوّل فقولنا خرج يخرج خروجا. والخراج بالجسد. والخراج والخَرج: الإتاوة؛ لأنه مال يخرجه المعطي»(1).

والخَرج والخَرَاج، واحد عند بعض اللغويين: وهو شيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم(2).

قال الزجاج: الخرج المصدر، والرعية تؤدى الخرج الى الولاة، والخَرج واخراج: الإتاوة: «وهي هديةُ المَلَللِك»(3).

وفي علم المالية الحديث: «هي مبلغ من المال يفرض جبرا على مالك العقار بنسبة المنفعة التي عادت إليه من الأعمال العامة التي قامت بها الدولة أو الهيئات المحلية، ولفظ الأتاوة غير مستعمل عند الفقهاء؛ بل المستعمل عندهم: الكلف السلطانية، النوائب، المكوس، المغارم، الضرائب(4).

وفَسَّر ابن الأثير «الخَراج بالضَمَّان» قائلا: «يريد بالخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدا کان او امة او ملكا، وذلك أن يشتريه فيستغله زماناً، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه البائع عليه، او لم يعرفه فله رد العين المبيعة واخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله، لان المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمانه، ولم يكن له على البائع شيء(5).

ويجمع على أخراج واخاریج وأخرجة. وفي التنزيل: «أم تَسئلُهُم خَرَجَاً فَخَرَاجُ

ص: 435


1- مقاییس اللغة: 2/ 175
2- ظ: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: 16
3- ظ: المصدر نفسه
4- معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: 16
5- ظ: النهاية في غريب الحديث والأثر: 258

رَبِّكَ خَيرٌ وَ هو خَيرُ الرَّازقين»(1).

قال الزجاج: الخراج الفيء، والخرج الضريبة والجزية، وقريء: ام تسألهم خراجا، قال الفراء: ام تسألهم اجراً على ما جئت به، فأجر ربك وثوابه خير. والخرج أعمُّ من الخَراجو جعل الخَرج بإزاء الدَّخل(2).

قال تعالى: «قَالوا یَا ذَا الْقَرْنَیْنِ إِنَّ یَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَی أَن تَجْعَلَ بَیْنَنَا وَبَیْنَهُمْ سَدّاً»(3) وقيل: العبد يؤدی خرجه أي غلته والرعية تؤدى الى الامير الخراج. وفي الإصطلاح الفقهي: حقوق تؤدى عنها إلى بيت المال، ذلك ان الفلاحين الذين يعملون فيها قد اکتروها بغلة معلومة، «ولیکن نظرك في عمارة الارض......» فالعناية بالارض وزراعتها هو المخرج لحل الازمة الاقتصادية وهو المورد الاول لبيت المال، فالعمران محتمل ماحملته فعلى الدولة ان تهتم بالمزارعين فهم الذخر الحقيقي(4).

6- التُّجار وذوي الصناعات:

انتقل الامام عليه السلام هنا الى ما يصلح امر الامة وركناه (التجارة والصناعة) فبدأ بالجند، ثم القضاة، والعمال والموظفين، ثم أهل الخراج، والكُتّاب، وجعل الطبقة السادسة عن (التُّجار وأهل الصناعة)، اذ حثنا ديننا الحنيف على هذين العملين. قال الإمام (عليه السَّلام) بعد أن ذكر الطبقات: «ولاَ قِوَامَ لَهُم جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي

ص: 436


1- المؤمنون/ 72
2- ظ: معاني القرآن: الفراء: 10/ 204
3- الكهف/ 94
4- ظ: الخطاب في نهج البلاغة: 172

الصِّنَاعَاتِ، فِیما یجْتَمِعُونَ عَلَیهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَیقِیمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، وَیکْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَیدِیهِمْ مَا لَا یبْلُغُهُ رِفْقُ غَیرِهِمْ»(1).

والتَّجرُّ والتِّجارةُ بمعنى واحد وهو الجمع من تاجِر، أرضٌ مَتجَرةٌ: يُتجَرُ إليها(2).

فالتاء والجيم والراء: التجارة معروفة، يقال تاجر و تَجرٌ بمعنى واحد(3).

أمَا الصِّناعةُ: فالصُّناع: هم الذين يعملون بأيديهم، وامرأة صَناعٌ: الصناعة الرقيقة بعمل يديها، والمصانع: ما يصنعه العباد من الأبنية والآبار والأشياء(4).

فالصاد والنون والعين أصل واحد صحيح، وهو عمل الشّيء صُنعاً. وامرأة صَناع ورجلٌ صَنَعٌ اذا كانا حاذقين فما يصنعانه(5).

فالتِّجارة: التصرف في رأس المال لطلب الربح(6).

فبدأ ب (التجار وذوي الصناعات) فأوصى واستوصی بهم، قائلاً: «ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ، وَ أَوْصِ بِهِمْ خَیْراً: الْمُقِیمِ مِنْهُمْ، وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَ جُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ، فِی بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ، وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ، وَ حَیْثُ لاَ یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَ لاَ یَجْتَرِءُونَ عَلَیْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَاتُخَافُ بَائِقَتُهُ وَصُلْحٌ لَاتُخْشَی غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِی حَوَاشِی بِلَادِكَ».

ص: 437


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: العين (مادة تجر): 6/ 91
3- ظ: مقاییس اللغة: 3/ 341
4- المفردات في غريب القرآن: 1/ 94
5- العين: 1/ 304 - 305
6- ظ: مقاییس اللغة: 3/ 313

وَ اعْلَمْ مَعَ ذلِكَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِیحاً، وَاحْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَکُّماً فِی الْبِیاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَیبٌ عَلَی الْوُلَاةِ. فَامْنَعْ مِنَ الْإِحْتِکَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّی اللَّهُ عَلَیهِ وَآلِهِ وَسلَّم) مَنَعَ مِنْهُ. وَلْیکُنِ الْبَیعُ بَیعاً سَمْحاً: بِمَوَازِینِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَینِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ. فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیكَ إِیاهُ فَنَکِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِی غَیرِ إِسْرَافٍ»(1).

أوصاف وصف بها أهل التجارة فتدلُّ دلالة قاطعة على أنَّ أكثرهم كانوا من الكادحين لسد حاجتهم والعيش بأمان، واستوص فعل لمفعول محذوف تقديره: أوصِ نفسك، (وأوص بهم خيرا) حذف للمفعول اي او ص عمالك، ولفظ (المقيم وما بعده بدل من مفصل من مجمل، والمبدل منه الضمير (بهم)، وبيعاً: مفعول مطلق لبيع.

وقسَّم أنواع التُّجار الى (المضطرب بماله: وهو الذي يدور بماله من بلد الى آخر للكسب، فيجعل ماله متاعا يدور به في البلاد اللبعيدة يعرض نفسه للخطر، و (المترفق ببدنه) العامل بعضلاته، (فانهم مواد المنافع واسباب المرافق) وجاءت (المواد) جمعا تفيد العموم، و (المنافع) جمعا معرفا مفيدا للاستغراق، فالتجارة تحتاج الى الامتعة والى الاسواق التي تباع فيها، فيؤخذ بدلها متاعا اخرا(2).

وجعل للفظي (أستوص، وأوص) لأنّهم يصنعون ما تحتاجه الرَّعية من کساء أو غذاء، فعلى الراعي ان يهتم بهما، وبيَّن السبب «فإنَّهم مواد المنافع، وأرباب المرافق، وجُلابها من المباعد والمطارح «ينقلون سلع البلاد التي تزيد عن حاجة أهلها إلى بلاد أخرى(3).

ص: 438


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- ظ: منهاج البراعة: 20/ 232، وظ: في ظلال النهج: 5/ 437
3- ظ: في ظلال النهج: 5/ 440

«فانهم سلم لا تخشی بائقته وصلح لا تخشى غائلته»(1)، فالتجار والصُّناع (سِلمٌ) مما يدلُّ دلالة قاطعة على انَّهم في ذلك الوقت من الكادحين ممن يعيشون بکدِّ اليمين، لايثيرون الفتن، ولايتأمرون مع الأعداء فهم سبب لاستقرار الصلح العالمي والعام بين الشعوب. فالروابط التجارية تفيد الشعوب وتنشأ بينهم رابطة تجارية على أساس تبادل المنافع والحوائج وهي أخوية وودية، وفسرت (البائقة) بالداهية فالتجارة الحرة ليس فيها دهاءٌ ومكرٌ، وأمر بتفقد أحوال التجار لتوصيته لهم بالخير، في بلادهم وفي الطرق والأماكن البعيدة. وفي الوقت الذي يوصي بهم فهو يحذر وينبه على ألَّا يحتكروا بالمصالح العليا فيخزنون السلع، ويعدُّ من عيوب الولاة «واعلم - مع ذلك - أنَّ في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً، وشُحَّاً قبيحاً»(2) ف (الضيق الفاحش): حبا بالغا في جلب المنافع، و (شحا قبيحا): يمنع من السماح على سائر الأفراد بما يزيد على حاجته (و احتکارا للمنافع) بلا حد ولاحساب، (و تحكما في البياعات) يؤول ذلك الحرص الى تشكيل شركات، وانحصارات جبارة فيجمعون حوائج الناس بقوة رؤوس اموالهم. وهو باب مضرة للعامة: أعظم من الأسر الاقتصادي، وعيبٌ على الولاة: أشنع من تسليم الأمة إلى هذه الأسر.

وعطف على قوله (الضيق الفاحش) قوله (تحكما في البياعات)، وهو جمع معرَّف ب (ال) يفيد العموم، في التحكم في البياعات والتسلط على الاسواق.

وقد جاءت التجارة في عهد الإمام حاملة المعنى المجازي، إذ لا يراد بها التعاملات السُّوقية ک (الرِّبح والخسارة)؛ بل المراد بها الربح المجازي المتحصل بالثواب، والأعمال الصَّالحة سواء أكانت الدنيوية منها أم الاخروية وقال (عليه السَّلام) في

ص: 439


1- نهج البلاغة: ك 53، 324
2- نهج البلاغة: ك 53، 325

خطب الملاحم متحدثا عن فتنة بني امية: «مالي أراكم أشباحاً بلا أرواح، وأرواحاً بلا أشباح، ونُسَّاکا بلا صَلاح، وتُجَّارا بلا أرباح»(1).

وقد قسم العباد على ثلاثة أقسام: قسم للرغبة في الحصول على منفعة، وهذه عبادة تشبه حالة التاجر الذي يبتغي الربح في تجارة، وآخرون يعبدون خوفا، ولو لم يخافوا لما عبدوه وحالتهم هذه كحالة العبد الذي يخاف من سيده فيطيعه، اما العبادة الحقيقية فهي العبادة المبنية على أن الله (سبحانه وتعالى) يستحق العبادة سواء أنعم أم لم ينعم.

7- الطبقة السفلى:

تعرض الإمام (عليه السّلام) الى هذه الطبقة فوسمها ب (الطبقة السفلى) وتتألف من الجماهير الشعبية ممَّن هم عاجزون عن الحيلة والاكتساب وهم (المساكين والمحتاجون وأهل البؤس والزمانة، وقسّمهم على ثلاثة أصناف (القانع): السائل الحاجته والمعتر: السَّيء الحال ممن لا يسأل حاجته بلسانه «ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْکنَةِ الَّذِینَ یحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِی اللهِ لِکلّ سَعَةٌ، وَلِکلّ عَلَی الْوَالِی حَقٌّ بِقَدْرِ مَا یصْلِحُهُ.

وَلَیسَ یخْرُجُ الْوَالِی مِنْ حَقِیقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللهُ مِنْ ذَلِك إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَتَوْطِینِ نَفْسِهِ عَلَی لُزُومِ الْحَقِّ، وَالصَّبْرِ عَلَیهِ فِیمَا خَفَّ عَلَیهِ أَوْ ثَقُلَ»(2) فقد أوصى فيهم (بحفظ حقوقهم، جعل لهم قسما من بیت المال، جعل لهم قسما من صوافي الاسلام، فذهب ابن ابي الحديد الى القول فيها هي الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكانت صافية لرسول الله فلما توفي اصبحت للفقراء وما يراه

ص: 440


1- المصدر نفسه
2- نهج البلاغة: ك 53، 325

الامام من مصالح الاسلام، ثم أوصى بالطبقة الثالثة الى (الايتام، والمعمرون)(1).

فقال: «ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِی الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِینَ لَاحِیلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِینِ وَ الْمُحْتَاجِینَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَی وَالزَّمْنَی، فَإِنَّ فِی هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِیهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَیتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِی الْإِسْلَامِ فِی کُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِی لِلْأَدْنَی، وَ کُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِیتَ حَقَّهُ، فَلَایشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَاتُعْذَرُ بِتَضْییعِكَ التَّافِهَ لِأَحْکَامِكَ الْکَثِیرَ الْمُهِمَّ. فَلَاتُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلَاتُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَایصِلُ إِلَیكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُیونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُلئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْیةِ وَ التَّوَاضُعِ، فَلْیرْفَعْ إِلَیكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِیهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَی اللَّهِ تَعَالَی یوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَینِ الرَّعِیةِ أَحْوَجُ إِلَی الْإِنْصَافِ مِنْ غَیرِهِمْ، وَکُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللَّهِ فِی تَأْدِیةِ حَقِّهِ إِلَیهِ.

وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْیتْمِ وَذَوِی الرِّقَّةِ فِی السِّنِّ مِمَّنْ لَاحِیلَةَ لَهُ، وَلَا ینْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَی الْوُلَاةِ ثَقِیلٌ، وَ الْحَقٌّ کُلُّهُ ثَقِیلٌ؛ وَقَدْ یخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ. وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ، وَتُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّی یُکَلِّمَكَ مُتَکَلِّمُهُمْ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ، فَإِنِّی سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) یَقُولُ فِی غَیْرِ مَوْطِنٍ: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّهٌ لَا یُؤْخَذُ لِلضَّعِیفِ فِیهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِیِّ غَیْرَ مُتَتَعْتِعٍ». ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِیَّ، وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّیقَ وَالْأَنْفَ، یَبْسُطِ اللَّهُ عَلَیْكَ بِذلِكَ أَکْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَیُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ،

ص: 441


1- ظ: منهاج البراعة: 20/ 242، وظ: الديباج الوضي: 5/ 2570

وَأَعْطِ مَا أَعْطَیْتَ هَنِیئاً وَامْنَعْ فِی إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ!»(1).

جاء تعبير الامام (عليه السلام) (الطبقة السفلى) ويلحظ شدة حرص الامام على هذه الطبقة؛ لضعفهم وعدم امتلاك حاجاتهم. وقد أخذ الامام (علیه السلام) الفاظ القانع، والسائل، والمعتر من قوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»)(2).

والمحتاجين: الحاء والواو والجيم أصل واحد، وهو الاضطرار الى الشيء. فالحاجة واحدة الحاجات(3).

وأهل البؤسى: الباء والهمزة والسين أصل واحد، الشدة وماضارعها، ويقال: رجل ذو بأس وبئيس شجاع، فإن نعته بالبؤس قلت بَؤُسَ، وهي الشدة في العيش(4).

الزّمني: الزَّمني في الذكر والانثى، وأزمن الشّيء: طال عليه الزمن(5).

فالزاء والميم والنون أصل واحد يدلُّ على وقت من الوقت. من ذلك الزَّمان، وهو الحين، قليله وكثيره. يقال زمانٌ وزَمَن وجمعه أزمنة، والزّمانة التي تصيب الإنسان فتُقعِدهُ(6).

القانع: القاف والنون والعين أصلان صحيحان، أحدهما يدلُّ على الإقبال على

ص: 442


1- نهج البلاغة: ك 53، 325
2- ظ: رسائل الامام علي: 291، علمًا أن الآية الواردة هي الاعراف/ 36
3- ظ: المصدر نفسه: 2/ 114
4- ظ: المصدر نفسه: 1/ 328
5- ظ: العين: 7/ 375
6- ظ: مقاييس اللغة: 3/ 23

الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس؛ والآخر يدلُّ على استدارة في شيء، فالأول الإقناع: الإقبال بالوجه على الشيء، والإقناع: مَدُّ اليد عند الدُّعاء. وسمِّي بذلك عند إقباله على الجهة التي يمدُّ يده إليها(1). والقناعة: الاجتزاء باليسير من الأعراض المحتاج اليها، وهو السائل الذي لايلحُ في السؤال ويرضى بما يأتيه لقوله تعالى: «فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(2).

والعين والتاء والراء أصل صحيح يدلُّ على معنيين، أحدهما الأصل والنِّصاب، والآخر التفرُّق. فالأول ما ذكره الخليل أن عِترَ كلِّ شيء نصابه، والثاني الذي يقال له المَرزَنجُوش، وهو لا ينبت الا متفرقا(3)، وجاءت (من) بيانية، ولفظ الجلال (الله) المكرر منصوب على التحذير، والمضاف اليه بعد (كل) وتقديره (هم): وكلهم قد استرعيت حقّه.

«واجعل لذوي الحاجات منك قِسما تُفرِّع لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرَطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول في غير موطن: (لن تُقَدَّس أمَّةٌ لا يؤخذُ للضعيف فيها حَقهُ من القوي غير متتعتعٍ»(4).

ذوي الحاجات: (أهل المسكنة) وعطف عليها بقوله (الفقر) وأختلف في معنى (الفقر): فقيل: هو من لا مال له ولا كسب، والمسكين: له مال او كسب لكنه لا يكفيه(5).

ص: 443


1- ظ: المفردات: 2/ 534
2- الحج/ 36
3- ظ: مقاييس اللغة: 4/ 217
4- نهج البلاغة: ك 53، 325
5- ظ: انوار التنزيل وأسرار التأويل: البيضاوي: 3/ 153

وقيل بل هو العكس، فالفقير له مال لايكفيه، والمسكين أشدُّ فقرا منه(1).

وقد ذهب شُرَّاح النهج الى اتجاهين في تعريفهم لهذه اللفظة؛ فقيل: هي تدلُّ على شدة الفقر، وقيل: تدل على خمول القدرة وركة الهمة(2).

قال ابن فارس: (الحاء والواو والجيم اصل واحد، وهو الاضطرار الى الشيء)(3).

وفرق اللغويون بين (الحاجة والفقر) فالحاجة: القصور عن بلوغ المطلوب، والفقر:

والزمانة: العاهة، وهي العلل والأمراض التي تصيب الانسان، وقد تصيب الحيوانات وهو جمع وواحده زَمين، فخصص لهم الامام جزءا من بيت مال المسلمين ومن غلات اراضي الخراج، وذهب شرّاح النهج الى أنّه المتعرض للناس دون سؤالهم(4).

فالحرس: حرس السلطان، وهو اسم مفرد بمعنى الحُرّاس كالخدّام، و (الشرط): قوم من أعوان الحكومة يعلّمون أنفسهم بعلامات الخدمة يعرفون بها، المحتاجين والذين يشتكون.

«واجعل لهم قِسماً من بيت مالك «أمر الامام أن يكون لهؤلاء قسما او نصيبا من ميزانية الدولة فيكون حقا مفروضا كرواتب الجنود والقضاة، و «قِسماً من غلات صوافي الاسلام في كل بلدٍ «والمراد ب (صوافي الاسلام): الأموال المشاع بين المسلمين كافة، ولا تختص بسهم النبي، وهذا ما فهمه ابن ابي الحديد، إذ عاش الامام (عليه السّلام) مع المساكين، يشعر بالامهم ويوصي بهم(5).

ص: 444


1- الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 8/ 167
2- ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 17/ 38، وظ: الديباج الوضي: 5/ 2531
3- مقاييس اللغة: 2/ 114
4- ظ: شرح النهج: ابن ابي الحديد: 17/ 86، و ظ: الديباج الوضي: 5/ 2571
5- ظ: في ظلال النهج: 5/ 449

الخاتمة:

بعد هذه الرحلة الموجزة مع الفاظ طبقات الرّعية في عهد الامام (عليه السلام) الى الصحابي الجليل مالك الاشتر (رضوان الله عليه) نوجز أهم ماتوصل اليه بحثنا من نتائج وهي:

أن الإمام (عليه السلام) وضع تقسيم اجتماعي خاص للطبقات، فاليه يرجع الفضل في تقسيمها؛ إذ وضع حماة البلاد وهم الجنود أولى طبقاته وتعليله لذلك.

أولى كل طبقة ماتستحقه وضمن حقها في العيش بسلام وأمان وحرية واطمئنان، وذلك بتوفير الخراج لتوزيعه كمعاش لمختلف الطبقات.

اعطی صفات خاصة لكل طبقة من الطبقات وما ذلك الا لتأكيده على أهمية الصفات الانسانية في المجتمع الاسلامي.

بدأ بطبقة الجنود؛ لأنها الطبقة الاكثر اهمية في حفظ عرض البلاد وصيانتها من الاعتداء الخارجي، وجعل طبقة الفقراء والمحتاجين آخرها، لأنها لاتقوم ولاتتكل الا على الطبقات المتقدمة.

يعد عهد الامام (عليه السلام) وثيقة دولية لمختلف شرائح المجتمع فقد تضمن الحقوق والحريات الواجب تنفيذها من قبل الوالي الى رعيته، وفي مقابل ذلك ضمن واجبات الرعية الى الامة.

ونوصي في نهاية البحث ونأمل من الله (سبحانه وتعالى) ومن اللجنة العلمية لهذا المؤتمر أن يحظى هذا العهد بأهمية كبيرة من حيث الدراسة والبحث، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه المنتجبين.

ص: 445

المصادر والمراجع:

خير ما يبتدئ به القرآن الكريم.

1. الأحكام السلطانية: لأبي يعلى محمد بن الحسين الفرّاء الحنبلي (ت 458 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 2000.

2. الإسلام والاقتصاد: الإسلام والاقتصاد (دراسة في المنظور الإسلامي لأبرز القضايا الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة): عبد الهادي علي النجار، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1978.

3. أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي: لناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي (ت 691 ه) تحقيق: محمد عبد الرضا المرعشلي، دار احياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، د. ت.

4. الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي ابو عبد الله محمد بن احمد الانصاري (ت 671 ه)، دار الشعب - القاهرة، د. ت.

5. الخطاب في نهج البلاغة (بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية): د. حسين العمري، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 2010.

6. الديباج الوضي في الكشف عن اسرار كلام الوصي «شرح نهج البلاغة» لابي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني (ت 749 ه، تحقيق: خالد بن قاسم بن محمد المتوكل، ط 1، 2003.

7. رسائل الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: دراسة لغوية، رملة خضير مظلوم البديري، العتبة العلوية المقدسة، 2011، - موسوعة الرسائل الجامعية.

8. السياسة المالية في عهد الإمام علي (عليه السلام): السياسة المالية في عهد الامام علي: رضا صاحب ابوحمد، ط 1، مركز الامير لاحياء التراث الاسلامي، 2006.

9. شرح نهج البلاغة: البحراني شرح نهج البلاغة: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه)، ط 1، دار الثقلين، بيروت - لبنان، 1999.

10. شرح نهج البلاغة: عز الدين ابو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن ابي الحديد (ت 656 ه) تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، ط 1، دار الكتاب العربي، العراق - بغداد، 2005.

11. علي وحقوق الانسان: جورج جرداق، الدار العربية للموسوعات، ط 1، 2006

ص: 446

12. العين: لابي عبد الرحمن الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 100 175 ه)، تحقيق: د مهدي المخزومي ود. ابراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، د. ت.

13. في ظلال نهج البلاغة - محاولة لفهم جديد - محمد جواد مغنية، تحقيق: سامي الغريري، دار الكتاب الاسلامي، 2005 14. كتاب سيبويه: لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: تحقيق: عبد السلام محمد هارون، 1999 15. لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الافريقي المصري، تح: عبد الله علي الكبير ومحمد احمد حسب الله وهاش-م محمد الشاذلي، دار صادر، بيروت لبنان (د. ت) 16. مجمع البحرين: فخر الدين الطريحي (ت 1085 ه) تحقيق: أحمد الحسيني، ط 1، دار الكتب العلمية، النجف، 1386 ه.

17. المرجع في الحضارة العربية الاسلامية: ابراهيم سلمان الكروي وعبد التواب شرف الدین، ط 2، ذات السلاسل، الكويت، 1987 18. معاني القرآن: لأبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء (ت 207 ه)، ط 3، عالم الكتب، بیروت، 1933.

19. معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: د. نزيه حماد، ط 1، 2008.

20. المفردات في غريب القرآن: لابي القاسم الحسين بن محمد المعروف ب (الراغب الاصفهاني)،، نزار مصطفى الباز، د. ت.

21. مقاييس اللغة: احمد بن فرس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الكتب العلمية، د، ت.

22. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، لميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي، تحقيق: علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 2003 23. النهاية في غريب الحديث والأثر: النهاية في غريب الحديث والاثر: مجد الدين السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الاثير، ط 1، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، 1421.

24. نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه: كاظم محمدي ومحمد دشتي، ط 1، دار التعارف للمطبوعات، 1990

ص: 447

ص: 448

قال الإمام عليّ:

((و أَشعِر قلبكَ الرّحمةَ للرعيّةِ، والمحبَّة لهم، واللطفَ بهمِ، ولاتكونَنّ عليهم سبُعًا ضاريًا تغتَنِمَ أكلهُم، فإنّهم صنفان أمّا أخ لك في الدينّ، وأمّا نظيرّ لك في الخلقِ)) دراسة تحليلية في ضوء اللسانيات التواصليّة الدكتور حسين صالح ظاهر

ص: 449

ص: 450

المدخل:

اتسم البحث اللغويّ الحديث بمحاولات تنظيرية موسوعية حاولت أن تصف اللغة والعمليات الذهنية التي يتبعها المتكلم للإنتاج الكلام، ونقطة انطلاق هذه التوجهات كانت آراء سوسير اللغوية الذي ربط اللغة بالمجتمع متأثرا بالاتجاه الاجتماعي في علم النفس، تبع ذلك محاولات من أشهرها الآراء التوليدية التحويلية على يد (تشومسكي) وتلامذته، وبقيت في واجهة البحث اللغوي حقبة طويلة نسبيا؛ لأنّها مرّت بأطوار مختلفة من التعديلات المستمرة في محاولة الوصول إلى منهج محدد يلمّ بجوانب اللغة كلها، وكان الأساس في بحثها هو الكلمة المفردة، أو العناصر اللغويّة؛ وكل مراحلها كانت تحاول وصف الإنتاج والكفاية عند المتكلم / المستمع، ولكنها أغفلت عنصر المعنى مؤجلة دراسته؛ لذلك ما أن ظهر الاتجاه السياقي واهتمامه بالمعنى وجد له صدىّ واسعا عند الباحثين، ثم زاد الباحثون مع السياق مسائل أخرى مكملة ليصلوا بها إلى الاتجاه التداولي التواصلي؛ لأنهم في الغالب يرون أنّ التواصل يعدّ من أهم وظائف اللغة؛ وكي يصلوا إلى جهاز متكامل يفسر الظواهر اللغويّة في الاستعمال بين المتخاطبين وليضعوا بعض الأسس في البحث التواصلي اتفقوا على أنّ ((هناك مفهومان للغة الأول: يعدّها وسيلة للتمثيل، والثاني: وسيلة للتواصل، وباختصار يمكن القول: أنّ الإشكالية الأولى تحدد المعنى انطلاقا من العلاقة بين المتكلم والموجود «الشيء»، والثانية استنادا إلى العلاقة التي تربط المتكلمين. وتقترن الإشكالية الأولى بالعلامة وبالقضية وتطرح بالتالي مشاكل المرجعية والحقيقة أي ما يعرفه الآخر والمتكلم. أمّا الإشكالية الثانية تتخذ النصوص والخطابات موضوعا لها لتدرسها من ناحية الإنتاج والتأويل، ويمكن القول إنّ محورها التواصل)) (1) وتعدّ عملية التواصل الاجتماعي من أهم مباحث اللغة؛ لأنّه يمثل السمات لأي مجتمع قائم على أسس تعكس حضارته فقد أظهر الباحثون عناية متزايدة بالوظيفة

ص: 451

التواصلية للغة، فضلا عن دراسة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وثقافتها؛ لأنّ اللغة لصيقة المجتمع، وتمثل نظامه الخاص في التواصل وتبادل الأفكار ((فاللغة البشريّة هي أساس معطى اجتماعي في مقام تأريخي مؤكدا الرابط العضوي الوثيق بين اللغة والثقافة)) (2) ولأهمية هذه الرابطة بين اللغة والمجتمع، يرى أغلب الباحثين أنّ اللغة ودلالة ألفاظها هي أمر تواضع عليه الناس واتفقوا عليه للتعبير عن مقاصدهم، من مثل الاتفاق في استعمال كلمة (الأسد) بين أبناء المجتمع اللغوي الواحد أنّ التشبيه بالأسد يمثل جانب السطوة والشجاعة والمكانة، أمّا لو أنّك ((قصدت عند التشبيه بالأسد إلى فكرة تصلب العنق، أو كراهة ما يتضوع به الفم من رائحة لما استقام لك الأمر لعدم اطراد العرف)) (3)، وظهور مصطلح (علم اللغة الاجتماعي) يعكس مدى عناية الباحثين بهذا الجانب من دراسة اللغة كون هذا المصطلح ((يعنى بدراسة تأثير العوامل الاجتماعية لطبقات المجتمع في اللغة)) (4)، وحينما استقر البحث اللساني أصبح مصطلح اللسانيات الاجتماعية بديلا منطقيا عن علم اللغة الاجتماعي، إذ صار متداولا بين الدارسين ويعني الفكرة نفسها مع تخصصه في الدلالة على فكرة أنّ ((تأريخ اللغات ليس إلاّ جزء من تأريخ المجتمع، أو هو الجانب اللغوي من هذا التأريخ)) (5) ووضع الباحثون لدراسة علاقة اللغة بالمجتمع أسس ومصطلحات خاصة و ثابتة فقد ((اندمجت الدراسات حول العلاقات بين اللغة والمجتمع لتشكل مجال البحث الأكاديمي المعروف ب» السوسيولسانيات «... إنّ الموضوع الأول للدرس هو دراسة الترابطات بين استعمال اللغة والبنية الاجتماعية)) (6) وأيد أصحاب التوجه الوظيفي هذه الفكرة فقرروا أنّ اللغة ((حسب المقاربة الوظيفية أداة تسخر لتحقيق التواصل داخل المجتمعات البشرية)) (7).

وقد عرّف الباحثون التواصل اللغوي من مثل قولهم: ((إنّ التواصل... هو تبادل كلاميّ بين متكلم محدث

ص: 452

لملفوظ موجه لمتكلم آخر)) (8)، و قولهم ((التواصل هو تعبير عن رسالة تجريدية عبر الإشارة المادية، والرسائل المعنية مقيدة بإشارة معينة على وفق القوانين التي تشترك بالحدث التواصليّ، وهذه القوانين تسمح للمتلقي استرجاع المعنى المقصود في تلك الإشارة ) (9)، وتركز الدراسات التواصلية على الحدث الكلاميّ وعناصره سواء أكان نصّا مكتوبا أم مسموعا مع مشاركة المجتمع وما يمثله بوصفه كلا متكاملا في إنجاح عملية التواصل؛ لذلك قامت ((اللسانيات التواصليّة على منظومة ثلاثيّة الأقطاب: أولهما المرسل باعتباره صاحب المبادأة في التواصل، وثانيهما: المستقبل باعتباره هدفا مباشرا للرسالة، وثالثهما: المجتمع باعتباره مصدر العلاقة بين أطراف التواصل، وكذلك مصدر النظام الذي تنبني على أسسه هذه العملية)) (10).

وعلى ذلك ستكون الدراسة على محورين، الأول نظري: يوضح العلاقة بين التداولية والإحالة في اللسانيات، والثاني: تطبيقي نبني تحليلنا فيه على أساس أنّ الإمام علي (عليه السلام) هو المرسل أو المتكلم ومالك الأشتر هو المستقبل أو المتلقي أمّا المجتمع الذي يمثل الوجه التداوليّ للمرجعيات الإحالية فهو الثقافة الإسلاميّة بكل ما تحمله من مظاهر دينية واجتماعية على وفق توجيهات القرآن الكريم والسنّة النبويّة.

وسيكون ذلك على منهج اللسانيات العامة سيما في الجانب التطبيقي؛ لأنّ موضع عناية هذه اللسانيات هو ((دراسة الأنظمة العامة للألسن المتمثلة في المستوى الصوتيّ والصرفيّ والنحويّ والتركيبيّ والدلاليّ والبراغماتيّ... ثمّ تطبيقها على لسان معين قصد التحليل والتفسير والإلمام بقواعده النظاميّة)) (11) والمقصود بالبراغماتي هو التداولي. مع ملاحظة أنّ البحث في هذا الاتجاه مبني على قناعة هي ((أنّ كلّ نصّ مركزيّ يحتوي بالضرورة على نصوص فرعيّة تختلف نسب وجودها، فما على المحلل؛ إلاّ أن يبين درجة حجيتها ووظائفها المختلفة، والعلاقات فيما بينها)) (12) وهو ما سنحاول إثباته في الجانب التطبيقي من هذه الدراسة.

ص: 453

المحور النظري الإطار التأسيسيّ:

توسعت الدراسات اللسانية النظرية بصورة ملحوظة، فقد اعتنى الباحثون باللغة وما يمثلها، فبحثوا في مجال استعمالها بحثا دقيقا لقناعتهم أنّ الاستعمال هو الوجه الحقيقي والواقعي الذي يمثل اللغة في المجتمع، ((فهي الواقعة الاجتماعية؛ لأنّها عامة داخل المجتمع، وهي تمارس فرضا على المتكلمين)) (13)، وهذا التوسع جاء نتيجة طبيعية لتعدد الاتجاهات المنفردة في بحث اللغة من مثل (الاتجاه التحويليّ، والاتجاه النفسيّ، والاتجاه الاجتماعي وغيرها) وقد أثبتت هذه الاتجاهات قصورها النظري في تفسير ظواهر اللغة؛ لأنّ منها قد درس المفردة اللغوية لوحدها ولم يعتني بالمعنى؛ لأنّنا حينما نتكلم ((نعبر عن أفكارنا بجمل وليس بكلمات)) (14)، ومنها من تناول جانبا واحدا من جوانب اللغة، والعامل المشترك الذي استبعدها هو إهمالها جانب المعنى أو القصديّة؛ لذلك سعى الباحثون لإيجاد منهج يضمّ آلية يستطيع الباحث فيها أن يفسر النصوص، ويتوصل عبرها إلى إظهار علاقات تراكيبها، ويحدد معانيها؛ كون المعنى هو الركيزة الأساس في فهم النصوص، ولعل السمة الأبرز في هذه الآلية هي فكرة تداخل العلوم في الوصول إلى الهدف ((فعلم النصّ يتسم بالتداخل المعرفيّ والتشعب، وهذا أمر منطقيّ مسوغه ذلك الهدف الجوهريّ الذي تسعى إليه هذه العلوم والمعارف وعلم النصّ جميعها، وهو فهم النصّ)) (15)؛ وليفهم النصّ فهما صحيحا لا لبس فيه سعت الاتجاهات اللسانية إلى التأكيد أنّ التحليل يجب أن ينظر إلى أي نصّ خطابيّ على أنّه كتلة واحدة لا مجزأة ((فالحدث اللغويّ كلّ متلازم ضرورة، صوتا وصرفا، ونحوا وتركيبا، فبيانا)) (16) وحددوا معنى الحدث اللغويّ ب (النصّ) وأدخل في مجال بحث ((اللسانيات النصّية وليس له وظيفة سوى التذكير بأنّ النصّ هو البعد الأساس للغات)) (17). فأصبح كلّ مكتوب أو مسموع يدخل في

ص: 454

دائرة البحث اللسانيّ، وبهذه الرؤية انتقل البحث اللغوي إلى مستويات جديدة فلم يعد يبحث في مكونات الجملة (فعل + فاعل + فضلة) فقط، بل يبحث في جهات أهمها نقطتين يعدّان الأساس في البحث هما: كيف قيل هذا النصّ؟، ولماذا قيل؟؛ فالسؤال الأول: يتعلق بنسق الكلمات التي تؤدي لمعنى ما، والثاني: يهتم بالعلاقات الظاهرة والضمنية بين الكلمات التي رتّبها المتكلم على هذا النسق؛ فصارت الكلمات في النصّ على هذه الفكرة علامات هي ((مجموع من الاستعمالات يتبين عبرها أنّ العلامة هي إشارة واضحة تمكننا من التوصل إلى استنتاجات بشأن أمر خفي)) (18) ومما يساعد في تفسير العلامات هو مجموع المفردات التي يضعها المتكلم في نسق معين على وفق النظام اللغوي ليضمن وضوح مقصده، وفهمه من قبل المتلقي ((فما من شكّ أنّ التركيب عمل اسلوبيّ يأتي تاليا لاختيار العناصر اللغويّة، ويكون ناتج ذلك تركيبا لغويا تظهر فيه مجموعة من الظواهر والسمات)) (19) وهذه الظواهر التي يساعد السياقُ والمقامُ في إبرازها، يعدّها الباحثون إشارات مقصودة يرسلها المتكلم إلى المستمع، مما يجعلها تعمل ((كمحفز أو منشط صورته الذهنية مشتركة مع تفكيرنا، ومرتبط بمنشط آخر وظيفته أن يُستدعىَ تمهيدا للاتصال)) (20)، فالعلامات في البحث اللساني الحديث مقابلة للمفردات في البحث اللغويّ التراثيّ فقد عدّ التركيب ((رموز لغويّة تحوي دلالة مطابقة لما هو كائن في الذهن، إذ يتم عن طريق ربط الصورة الذهنيّة للمفردة بعضها ببعض على نحو تحقق معه صلة ونسبة بين هذه الصور)) (21)، لذلك نجد أغلب الاتجاهات بدأت تنظر إلى دراسة الإشارة على أنّها علما قائما، وله علاقة مباشرة بتداولية اللغة وبثقافة المجتمع فأدخلت ((التيارات الحديثة للسيميائيات في ضمن أقسام العلامات، كلّ المظاهر الثقافية للحياة الاجتماعية)) (22)، فصارت لهذه العلامات وظيفة مرجعية تدلّ على معنى متداول بين المتخاطبين، وتقدّم ((تبرير أساسي لعملية التواصل)) (23).

ص: 455

وارتبطت هذه العلامات بمصطلح (الإحالة) على معنى في الثقافة الاجتماعية، مما جعلها تساهم في إيضاح المقصد وتسهيل عملية الاستنتاج بمساعدة مقام الحال المصاحب للسياق؛ لذلك تعدّ اللسانيات الوظيفية الإحالة ((عملية ذات طبيعة تداولية، تقوم بين المتكلم والمخاطَب في موقف تواصليّ معين، يستهدف بها المتكلم أن يحيل المخاطب على ذات معينة)) (24)؛ فلا يكون الاتصال ناجحا بين المتخاطبين إذا كان هناك خللا ما في النسق الملفوظ؛ لذلك أكد الباحثون أنّ للاتساق التركيبيّ بعده اللسانيّ ((فالخطاب يكون متسقا حقّا إذا وُجدت علاقات قضويّة بين الأقوال التي تكونه، فالخطاب الذي يعقد علاقات... يكون متسقا)) (25). فلذلك صار التركيز على الاستعمال اللغويّ وأدواته للوصول إلى مقصد المتكلم من أهم مرتكزات البحث في الاتجاه التداولي؛ كونه يمنح الباحث إمكانيات تحليل منفتحة على مسارات تلتقي كلّها في إظهار مقصد المتكلم والعلاقة بينه وبين المتلقي، فتفهَم المعاني التي تطرأ على الكلام بحسب السياق والمقام فحُدِدت عناية التداولية ((بدراسة التواصل اللغويّ داخل الخطابات، والبحث في طبيعة العلاقة بين الأقوال الخطابية، والأفعال الاجتماعية، وثمّ التعامل مع الخطاب الابداعيّ بوصفه تعبيرا عن تواصل معرفيّ / اجتماعيّ في سياق ثقافيّ، فهي تدرس الظواهر اللغويّة في مجال الاستعمال)) (26)، ولعل من أهم عوامل نجاح الاتجاه التداوليّ في تحليل النصوص، هي الفكرة العامة التي اتبعها والتي ترى أنّ الانفتاح وعدم الانغلاق هو الطريق الوحيد للوصول إلى استنطاق النصّ ليعطي أقصى ما عنده من معان وأسست لمنهج صارت التداولية فيه ((حلقة وصل علمية بين حقول معرفية مختلفة)) (27)، وقرر الباحثون على وفق التنظير اللساني أنّ هناك قواعد خاصة تتحكم في عمليّة التواصل وهي تدخل ضمن التداول اللغويّ بين أبناء المجتمع اللغويّ الواحد، ومنها (مبدأ التعاون) الذي وضعه غرايس، وهذا المبدأ ((ينتج عن واقع أنّهم أشخاص يتمتعون بالإدراك، وينبغي تصوره تطبيقا لعقلانية السلوك

ص: 456

البشري)) (28)؛ وموضع عنايتنا في مبدأ التعاون هو الفكرة التي تجعل كل لفظة يضعها المتكلم في نسق التركيب فإنها تعطي في المعنى بعدا معجميا وآخرا تداوليا يدخل في (الإحالة) على معنى خارجيا يُستدعى عن طريق المحفز في ذهن المتلقي، وفكرة (مبدأ التعاون) تتأسس على ((إعطاء القدر الضروري من المعلومات، لكن دون زيادة، إنّ الشريك في التلفظ بالخطاب ينشىء دلالة بتصرفه في الاستدلالات السياقية المنطقية والاجتماعية... وإنّ احترام حكمة من حكم المحادثة، وهي مبدأ التعاون يعدّ ضروريا لهذه العملية)) (28)، فضلا عن العوامل الأخرى غير اللغوية والتي تساعد في وضوح المقصد ((فمستعمل اللغة الطبيعية، يلجأ أثناء عملية التواصل،... إلى مَلكات ذات طبيعة غير لغويّة تسهم في إنجاح هذه العملية)) (29)؛ والسبب في ذلك أنّ الأدوات التي يمتلكها المتكلم محدودة في توصيل الرسالة قياسا على المعاني الواسعة التي تظهرها النصوص، فيلجأ المتخاطبون إتباع طريقة معينة للتواصل، أو استعمال (طريقة) خاصة بالمجتمع اللغويّ الواحد مما يجعلها تأتي بتراكيب بنسق معين فيؤدي إلى اتساع المعنى مع ((القول بإيجاز في أخصر لفظ يجمع دلالة صريحة... بدلالة ضمنيّة)) (30)، وهناك عامل آخر يضبط هذه العملية هو الإحالة المرجعية التي يحكمها السياق للموقف الذي قیل فيه النصّ ((فالمعلومة المنقولة متشابهة، وتكمن نقطة الاختلاف الجوهرية في التبدل المرجعيّ)) (31) فالمرجعيات التي يمتلكها المتكلم والمخاطب هي التي تتحكم بالمعنى المراد من ترتيب النسق اللفظيّ، إذ تحيل هذه الألفاظ على معنى ظاهريّ وآخر تداوليّ فالإحالة ((فعلا تداوليا بالأساس يربط بين عناصر منها: الخطاب وما يحيل عليه حضورا أو ذكرا، والمتخاطبين، والمخزون الذهنيّ الذي يعتقد المتكلم توافره لدى المخاطَب إبان التخاطب)) (32).

وعلى هذا الإطار سيكون تحليلنا معتمدا على المبادىء التداولية وهي تحديدا ((ثلاث تداوليات أساسية

ص: 457

متجاورة: التداولية اللفظيّة، أو لسانيات التلفظ التي تهتم بوصف العلاقات بين بعض المعطيات الداخلية للملفوظ، وبعض خصائص الجهاز التلفظي «مرسل»، «متلقي»، «وضعية التلفظ». والتداوليّة التخاطبيّة، أو نظرية أفعال اللغة «أوستن و سيرل» التي تخصَص لدراسة القيم التخاطبية داخل الملفوظ. والتداولية التحاورية، التي تهتم بدراسة اشتغال هذا النمط الخاص من التفاعلات التواصلية)) (33)؛ فضلا عمّا يُعضدها من تفرعات متعلقة بالنصّ، من مثل المنهج المتكامل، وعلى فكرة تداخل المعارف؛ للوصول إلى أقصى دلالات النصّ (عنوان البحث) والمقتطع من عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر رضي الله عنه، مستعينا بالجانب النظري الذي يغلّف أغلب الدراسات اللسانية المعاصرة؛ لإظهار الجانب المنسجم مع واقع اللغة وتداولها وهو الجانب التطبيقيّ، فالتحليل يوظف مسارات منهجية عديدة؛ لإظهار أنّ كلام الإمام (عليه السلام) يمثل واقعا تطبيقا يستوعب البحث اللسانيّ بأحدث توجهاته.

المحور التطبيقي:

كلام الإمام عليّ (عليه السلام) واقعا استعماليا ينتمي إلى الفصاحة اللغويّة العالية التي تمثل النظام الخاص باللغة العربية، فحينما ننظر إلى كلامه (علیه السلام) کترکیب نسقيّ نجده غاية في الدقة في استعمال الأدوات النحوية، مما يحيل على دقة المعنى المراد، وحين التدقيق ظهر لنا أنّ هناك علاقات دلالية وإحالية تستدعيها الألفاظ (الإشارة) المستعملة في البنيّة أو النسق ((فثمة تقارب بين مفهوم النسق، ومفهوم البنية فكلاهما يستند إلى فكرة العلاقات)) (34)، وبحث العلاقات الدلالية على وفق منظومة الثقافة الإسلامية المستمدّة من مصدري التشريع وهما القرآن والسنة؛ لأنّهما يمثلان المنظومة المرجعية لكل المسلمين فيجعلهم يحملون الإدراك المطلوب لتحقيق مبدأ التعاون في

ص: 458

الخطاب والتواصل.

فعندما ننظر إلى النصّ موضع البحث ((وأشعِر قلبَكَ الرحمة للرعيةِ، والمحبة لهم، واللطفَ بهم، ولا تكوننّ عليهم سبُعًا ضارياً تغتنمَ أكلهم؛ فإنّهم صنفان: أما أخٌ لك في الدين، وأمّا أخٌ لك في الخلق)) (35) سنجد أنّه اختار كلماته بما يتناسب مع الفكرة التي أراد إيصالها، وهو عند اللسانيين يعرف بالاتساق التركيبي إذ ((تكون الكلمات ملائمة لفضائها الدلاليّ ومتلائمة فيما بينها، فارتباط الكلمة بأخواتها في التركيب يمنحه معنى كليا ذا نسق مقبول)) (36) فقد استعمل الإمام (عليه السلام) (الواو) الرابطة للإحالة على متقدم في الكلام وهو تركيب ((فاملك هواك وشح بنفسك)) (37) يدلّ على أمر وليبقي حيز المعنى مرتبطا جاء بالفعل (أشعِر) بصيغة الأمر فيكون الأمر إلزاميا في هذه الحالة؛ لأنّه صدر من أعلى مكانة إلى من هو أدنى، وصُنفت أفعال الأمر في الدرس اللساني ضمن التوجيهات في (أفعال اللغة لأوستن)، أو ((ما يسمى دليل القوة الإنجازية)) (38) أي: الإنجاز اللغوي في الفعل الكلاميّ وفيه ((يمارس المتكلم فعلا تجاه سامع، وهو يتكون من محتوى قضويّ ووظيفة إنجازيّة، فالمحتوى القضويّ هو جوانب الإحالة والحمل، وتتعلق الوظيفة الإنجازيّة بدور ما يقصده المتكلم)) (39)، فالإمام (عليه السلام) يحث عامله مالك على جعل قلبه يشعر بالرحمة، وليس آنيا بل باستمرار؛ لذلك استعمل صيغة الأمر المزيدة بالهمزة فقد قيل: ((التصريف: اختلاف الصيغ لاختلاف المعاني)) (40)؛ لأنّ الفعل في الأصل (شعر) فالهمزة زادت معنى جديدا ((فالزيادة في المبنى زيادة في المعنى)) (41)، ومنها جعلت الفعل يتعدى بنفسه، وزادت في دلالته على الصيرورة والتحول، يقول سيبويه في هذه الصيغة ((إذا أردت أنّ غيره أدخله

ص: 459

في ذلك يبنى الفعل منه على «أفعلت»)) (42)، ويقول ابن درستويه: ((ذهب زيدٌ وأذهبه غيره، أي: جعله ذاهبا)) (43)، ومن معاني أفعلت ((التعدية غالبا، ويأتي للصيرورة)) (44)، فالإمام لم يستعمل صيغة (إفعل) الخاصة بالأمر المباشر على وجه الاستعلاء لما تحمله من معنى قد يجعل المتلقي يفعل دون قناعة، أمّا صيغة (أفعل) فهي فضلا عمّا تحمله من تلطف من قبل المتكلم ب (الأمر)، تجعل المتلقي وكأنه هو الذي قام بالإنجاز لا لأنّه مأمور فيحاول أن يتصف بالرحمة بصورة دائمة؛ وهو ما يعكس تفكير الإمام (عليه السلام) المستوعب لمعاني القرآن والسنة النبويّة فلا يخرج عن هذه المنظومة؛ لأنّها مصدر التشريع الوحيد لديه، لذلك فحينما يتكلم (عليه السلام) يستحضر في فكره معاني القرآن والسنة، فيسير على سمتهما مع مراعاة حال الموقف، وسياق الحال، وطبيعة المناسبة للمقال.

فإختيار الإمام للفظة (قلبك) بعد صيغة الأمر لها فضائها الدلالي، فبوقوع الفعل عليها كون القلب في الثقافة القرآنية استعمل ليعطي معنى الثبات الراسخ في الدلالة السياقية سلبا أو إيجابا ف (القلب) إشارة محفزة تجعل عقل المتلقي يستحضر الآيات التي ورد فيهل ذكر القلب واستظهار العلاقة للإحساس الموجب مثل قوله تعالى: «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ» (45) وقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» (46) وقوله تعالى: «وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ» (47) أو الإحساس السالب م-ن مثل قوله تعالى: «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» (48) وقوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا» (49) وقوله تعالى: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» (50) والإشراب شدّة المخالطة فلا ينفصلان بعده، لذلك يقال: ((أشربت الخبز اللبن؛ لأنّ شرب الخبز للبن والماء

ص: 460

ليس كشرب زيد له)) (51) فصيغة (أَشرب) في الأصل على الوزن نفسه لصيغة (أشعر) وكذلك في الدلالة أي: خالط قلبك بشعور الرحمة.

وجاء الإمام (عليه السلام) بلفظة الرحمة؛ لأنّها سمة من السمات المهمة التي رسّخها الإسلام في منظومة الثقافة الاجتماعية عند المؤمنين عبر ذكرها في القرآن الكريم وإقرارها في سنة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي تعدّ من أكثر الألفاظ ورودا في النسق القرآني، فقد ورد الجذر (رحم) وتصريفاته في موارد وصلت إلى حدود مائتين وعشر مرات، من مثل قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (52) وقوله تعالى: «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (53) وقوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ» (54) وقوله تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» (55) فالرحمة قد وصف الله عزّ وجلّ بها نفسه وهو مالك الملك، فعبده الضعيف المحتاج أولى أن يتصف بهذه الصفة، أو يحاول إدخال نفسه في صفتها، فضلا عن توصيات الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأفعاله في رحمة المسلمين وغير المسلمين، والتي تعدّ مصدرا من مصادر التشريع إلى جانب القرآن؛ لقوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» (56) فقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله بالرأفة والرحمة فقال في حقه (صلى الله عليه وآله): «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (57)، وقيل في تفسيرها: ((فسماه باسمين من أسمائه، والرأفة أشد من الرحمة وأبلغها)) (58) وقال النبي (صلى الله عليه وآله): ((«إنّما أنا رحمة مهداة «وقال المناويّ: إنما أنا رحمة، أي: ذو رحمة، أو بالغ في الرحمة، حتى كأنّه عينها؛ لأنّ الرحمة ما يترتب عليه النفع)) (59)

ص: 461

وتأكيدا منه (صلى الله عليه وآله) في بيان رحمة الإسلام قال: ((لا يدخل الجنّة منكم إلاّ رحيم، قالوا يا رسول الله كلّنا رحيم، قال (صلى الله عليه وآله): ليس رحمة أحدكم نفسه وأهل بيته حتى يرحم الناس)) (60) ولفظة الناس لها دلالته العامة .

واستعمال الإمام (عليه السلام) ترکیب (أشعر قلبك الرحمة) أظهر الإحالات وارتباطها بالثقافة الإسلامية فيجعل المتلقي يتقبلها بوعي وإدراك، مما يفسر اختیار لفظة (الرعية) ليلحقها بالتركيب بعد لفظة الرحمة؛ لأنّ الدلالة تحيل على علاقة تكليفية من قبل الشرع المقدس في ذهن المسلم الذي يتولى أمرا من أمور المسلمين، وهي هنا منصب الوالي، أو عامل الخليفة والعلاقة المتبادرة هنا هي الأمانة في العمل لقول الله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (61)، والمسؤولية المشتركة بين الحاكم والمحكومين لقول الرسول (صلى الله عليه وآله): ((كلكم راع وكلكم مسؤول فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته)) (62)، وحينما أكمل تكثيفه الدلالي بالنسق (أشعر قلبك الرحمة للرعية) ربط ب (الواو) العاطفة التي تشرك ما بعدها بما قبلها، وهما ترکيبي (المحبة لهم) و (اللطف بهم) بالدلالات المستنبطة من ترکیب (أشعر قلبك الرحمة للرعية) عند المتلقي ليكون مجالهما الدلاليّ نفسه لما سبقهما وهو ما يصطلح عليه في بحث اللسانيات النصّية بالربط النحوي ((ويقصد به ربط العناصر السطحية للنصّ عبر وسائل معينة)) (63) فالمرسل يوصّل مقصده بصورة لا لبس فيها إلى المتلقي عبر ربط دلالات ترکیبها ربطا محكما، ولهذا الربط أدواته الخاصة التي يحويها نظام اللغة ((فيتم الربط لتحقيق التضام بتوظيف مجموعة من الأدوات والألفاظ منها: أدوات تفيد مطلق الجمع، مثل: واو العطف)) (65)، فالمتكلم باتباعه طريقة الربط بالواو بين التراكيب يعزز

ص: 462

متانة النصّ وسبکه، فضلا عن اعتقاده أنّ دلالة التركيبين (المحبة لهم واللطف بهم) تعضد فكرة الإحالات التي حفزها التركيب (أشعر قلبك الرحمة للرعية)؛ لأنّهما يقعان في النسق الدلالي نفسه الذي استدعاه المعطوف عليه، فهما يقعان في السياق نفسه، فيدخلان في ما اصطلح عليه ب (مبدأ المناسبة) الدلالية ((ومفاده إجمالا أنّ تأويل الأقوال يقوم على استدلالات تستند إلى السياق وتفضي إلى نتائج، بحيث يكون القول مناسبا كلما كان الجهد المبذول في تأويله أقل، والنتائج التي نتوصل إليها أكثر)) (65).

ولزيادة القدرة الإنجازية على المتلقي انتقل الإمام (عليه السلام) إلى النهي المقترن بنون التوكيد الثقيلة، مستعملا العناصر الخاصة لهذا المعنى في نظام العربية وهي (لا الناهية + الفعل المضارع + النون الثقيلة)؛ وذلك ليصل بالإنجاز الدلاليّ المؤثر إلى مداه فزاد الإمام (عليه السلام) نون التوكيد الثقيلة؛ لأنّ التوكيد طريق يلجأ إليه المتكلم ((لتمكين الشيء في النفس وتقوية أمره)) (66) إذ يقول سیبویه مبينا الواقع اللغوي في استعمال النون: ((إذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشدُ توکیدا... ومن مواضعها الأمر والنهي)) (67) ويقول المالقي في شرحه: ((فهي مؤكدة للفعل، مخففة ومثقلة... ومدخلها أبدا في فعل الطلب)) (68)، وحقيقة أنّ الأمر والنهي يقعان في الحيز الدلاليّ نفسه، فيفسّر انتقال الإمام من الأمر إلى النهي، فهما في واقع الاستعمال أمر، فالأمر هو طلب ايقاع الفعل والحث عليه، والنهي هو طلب ترك الفعل، فلا يكون هناك خلل في النسق الدلالي حين الانتقال من واحد إلى آخر؛ لذلك قال السكاكيّ: ((للنهي حرف واحد هو «لا» الجازم في قولك: لا تفعل والنهي محذو به حذو الأمر في أصل الاستعمال «لاتفعل»)) (69).

أمّا دلالات استعمال هذا التركيب و الإحالات عليه يفسرها السياق نفسه، فالرحمة، واللطف، والمحبة للرعية لاتكتمل مالم يحرص الحاكم على رفاهيتهم، بما

ص: 463

يقوّم حياتهم ويضمن لهم العيش الكريم بعدم الحاجة فضلا عن شعورهم بالأمان؛ فإحالة النهي مرتبطة بفكرة غاية في الأهميّة في منظومة الثقافة الإسلامية، وهي فكرة الأمانة ونزاهة الحاكم مما ينعكس ايجابيا على الرعية وحياتهم، فالوالي شخص مؤتمن على رعاية مصالح الناس مسلمين وغير مسلمين، وعليه النظر في كل صغيرة وكبيرة مما يخص مصالحهم، وما من طریق له سوى أن يسير بهم بسيرة العدل والإحسان التي أمر القرآن بها لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (70)، فالله أمر المسلمين بأداء الأمانة والحكم بالعدل وأكد عليهم بإتباعه مهما كانت المواقف فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ» (71)، وأمر أن ينظر الحاكم إلى الناس بمنظار الحقّ والعدل لا بمنظار المحاباة والميل لأحد من قرابة أو غيرها فقال تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (72)، ولم يكتفي بأمرهم بالعدل، بل أمرهم أن يحسنوا للناس في كل حال وموقف فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» (73)، وتظهر فكرة العلاقات الدلالية عند الإمام (عليه السلام) في محاكاته للنسق القرآني في اختيار الألفاظ المناسبة لسياق الحال؛ لأنّ اختيار النسق المناسب للتركيب يعدّ ((وسيلة تعبير ذات إمكانيات متعددة، وأشكال مختلفة لا يمكن حصرها أو الإحاطة بها، فظاهره مكونات البنية السطحيّة وباطنه البنيّة الدلاليّة، إذ يخضع المستوى التركيبيّ للمستوى الدلاليّ والآخر يخضع للمعرفة والقصديّة)) (74)، فاختياره للفظة (أكلهم) لها دلالتها الشاملة لكلّ أنواع الاستحواذ على أموال الآخرين سواء أكانت عينيّة أم نقديّة، فقد استعمل القرآن الكريم هذه اللفظة للإشارة إلى حقوق الآخرين من أموال وغيرها، وعدم الاستيلاء عليه دون وجه حقّ من مثل قوله تعالى: «وَلَا

ص: 464

تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (75)، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ» (76)، وقوله تعالى: «وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (77)، فالإمام حينما يستعمل الألفاظ القرآنية ((لا يريد أن يفصّل وإنّما يحيل بتكثيف إلى قصة أو حدث، أو قولة مأثورة... مما يجعل التوجيه ممكنا، خاضعا لشرط التأويل المحلي)) (78)، ويعني ذلك توجيه الوالي توجيها شرعيا في مسألة الأموال وجبايتها على ضوء الحقوق الشرعيّة لكلا الطرفين الحاكم والناس، ثمّ صرفها في مواضعها المقررة على وفق الشرع، لا هوى الحاكم؛ يتساوى في هذه المسألة كلّ الرعية، وعلى الحاكم ألاّ يتبع الجور والتعسف في استحصال الحقوق بل عليه التلطف والرفق بهم؛ وليؤكد الإنسانيّة في الفكر الإسلامي اختار مفردة (الضبع) ليعقد المتلقي صورة المشابهة البلاغية ويستوعب الرسالة.

وحين استيقن الإمام (عليه السلام) أنّ المتلقي أخذ العبر الشرعيّة المستنبطة من القرآن والسنة المهمة الوالي، أراد الإمام (عليه السلام) أن يذكره بأهم ما جاء به الإسلام وهي النظرة الإنسانيّة للمسلم وغير المسلم؛ خاصة أنّ المسألة متعلقة بمصر وهي من الأمصار التي تمتاز بالخليط العقائديّ؛ فاستعمل الإمام ترکیبا يكثف الثقافة الإسلامية، وتفكيرها في النظر إلى الناس، مسلم وغیر مسلم، فأتی بترکیب مختصر يعكس هذه الثقافة ويختزلها يظهر فهم الإمام (عليه السلام) للقرآن والسنة، وكيف لا يكون كذلك وسيد الخلق الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله) قال فيه: ((عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لا يفترقان حتی یردا عليَ الحوض)) (79)، فالإسلام ينظر بنظرة الإنسانية إلى كلّ الناس لا فرق بين أحد منهم، وحين أنهی مقدماته بتصوير

ص: 465

العلاقة الشرعيّة بين الوالي والرعية، وليفهم العامل المكلف وهو مالك الأشتر مکانه من هذه العلاقة المبنية فكرا على الأخوة في الدين، وفي الإنسانية وانه مكلف في نظر الشرع فعليه اتباع القرآن والسنة حتى يُثابُ في الآخرة، فاستعمل (عليه السلام) ترکیبا جديدا فقال:

(فإنّهم صنفان: أمّا أخٌ لك في الدين، وأمّا أخٌ لك في النظير)، ولم يستعمل لربط النصّ (الواو)؛ لأنّ التركيب يحيل على دلالة جديدة، وهو ما سماه النحويون بالقطع؛ وعليه يجب أن يستأنف برابط جديد وهنا يأتي ب (الفاء)؛ لأنّ التركيب الجديد ((جملة مستأنفة لأنّ الفاء... الأغلب أن يستأنف بعدها الكلام)) (80)، واقتران الفاء مع (إنّ) ثمّ اتصال الضمير (هم) ب (إنّ) يحيل على من يقصده الإمام (عليه السلام) وهم الرعية أو الناس ((فالإحالة بالضمائر صراحة على الأشخاص... وقد يُحالُ على فحوی کلام ورد سابقا)) (81)، ونوعا الإحالة متحقق في النصّ، فقد ورد لفظ (الناس) في كلام سابق، والضمير هم يعود عليهم أو على (الرعية).

أمّا (إنّ) فهي من الأحرف المشبهة ب (الفعل)، وحسب نظام اللغة العربية لها الصدارة في الكلام وتستعمل ((لتحقيق زيادة في المعنى، بحيث يمكن أن تضيف فائدة تركيبية مثل: التوكيد، قوة الربط)) (82)، فالإمام قدّمها للتوكيد، فضلا عمّا تحمله من معنى القصر حينما اتصلت بها (ما) الكافة و ((حاصل معنى القصر راجع إلى تخصيص الموصوف عند السامع)) (83)، ولتأكيد الفكرة واقعا وهي الأخوة استعمل القصر؛ لأنّه ((ليس إلا تأكيد على تأكيد)) (84) وعناية الإمام بهذه المسألة نابع من متابعته القرآن في تشريعه فقد أقرّ الشرع أخوّة الدين لقوله تعالى: «إِنَّمَا

ص: 466

الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (85) وقوله تعالى: «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» (7) وقال تعالى: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ» (87)، والفكرة المتصورة للأخوة الدينيّة هي فكرة واقعيّة ومعنويّة أقرها الإسلام عبر السنّة النبويّة ومسألة الأخوّة بين المهاجرين والأنصار متواترة، إذ صار له من الحقوق والواجبات ما للأخ الحقيقي، بل تعدی ذلك في الصدر الأول من الإسلام، واستعمال الإمام (عليه السلام) لمفردة (أخٌ) بصيغة النكرة متناسب مع الفكرة التي أرادها لما يحمله تنكير الاسم من دلالات مفتوحة ((لأنّ أصل الأسماء النكرة، وذلك؛ لأنّ الاسم المنكر هو الواقع على كل شيء من مثله لا يختص واحدا من الجنس دون سائره)) (88)، وهو ما يظهر دقة اختيار اللفظ لسماته الدلالية والمعجمية لعلاقتها بالنسق ودلالته.

أمّا أخوّة النظير، أو أخوة الخلق الإنسانيّ فقد تناولها القرآن بآيات محددة، ومنه الآيات التي ذكِرَ الأصل الواحد في الخلق إذ قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا» (89) و قوله: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا» (90) وقد فسر الزمخشريّ الآية (خلقكم من نفس واحدة) فقال ((«يا أيها الناس» يا بني آدم «خلقكم من نفس واحدة» فرّعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم)) (91)، وفي تفسير الآية (خلقكم من تراب) قال الطبرسيّ: ((يعني به آدم، والمعنى أنشأ أباكم واخترعه من طين، وأنتم ذريته، فلما كان آدم أصلنا ونحن نسله، جاز أن يقول لنا "خلقكم من طين")) (92). فالرسالة هي أننا من أصل واحد فلا فضل لأحد على آخر في صفة الإنسانيّة سوى ما يتبعه من سلوك اجتماعيّ ودينيّ يقربه من الله أو يبعده، وحدد القرآن ما يجعل الفرد قريبا من الله في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا

ص: 467

وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (93)، ومن أهم مظاهر التقوى عند الإنسان، هي الطاعة لله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وإتباع ما أمرنا الله به عن طريق القرآن والسنّة النبويّة لقوله تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (94)، ويؤكد الرسول بأنّ إتباعه وطاعته طريق إلى الجنّة فقال (صلى الله عليه وآله): ((كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلاّ مَن أبی، قالوا: يا رسول ومن يأبی، قال: من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبی)) (95). والإمام عليّ (عليه السلام) في حقبته يمثل مصدر التشريع المتمثل بالقرآن والسنّة، فهو ممن لاتخفی مكانته وعلمه، فطاعته هي طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد قيل فيه (عليه السلام): ((من اقتدى في دينه بعليّ بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «اللهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار)) (96)؛ لذلك حينما يوصي الإمام (عليه السلام) أصحابه أو يأمرهم فهو يعتقد تماما بما يقول، فينطبق عليه (شرط الإخلاص) الذي يجب وجوده على شرط تجاه (أفعال اللغة) في البحث اللسانيّ لتكون الرسالة مقبولة ((فيجب أن تتطابق مقاصد المتكلمين وآرائهم مع ما يقولون، فحين يصدر أمرا فإنّ الأمر يجب أن يكون مقتنعا بأنّ السامع قادر على أداء الأمر)) (97)؛ فضلا عن ثقافتنة المُستمدَة من القرآن والسنّة، فالإسلام قد (خالط لحمه ودمه) مما يبرر دقته في اختيار المعاني والألفاظ الموصلة لها، وبنسق يظهر فهما لنظام اللغة العربية بأعلى مستويات الفصاحة، وكل ذلك وظفه الإمام (عليه السلام) ليسهل على المتلقي فهم الرسالة القوليّة الموجهة إليه و ما المقصود منها، وهو تحقيق عمليّ لما اصطلح عليه ب (الافتراض السابق) في العمليات التواصلية ويعني به ((ما يقتضيه اللفظ ويفترضه التركيب، وتشكل هذه الافتراضات الخلفية التواصلية الضروريّة؛ لتحقيق النجاح

ص: 468

في العمليّة التواصليّة... ويتسع مفهوم الافتراض السابق؛ ليشمل المعلومات العامة، وسياق الحال، والعرف الاجتماعيّ، والعهد بين المتخاطبين، وما يفترضه الخطاب من مسلمات يأتي المعنى من منطلق وجودها)) (98).

فالإمام علي (عليه السلام) قد استعمل المرجعيّة الشرعيّة غطاء ثقافيّ وقيد للمعنى يستند عليه المتلقي لفهم واستيعاب الرسالة المقصودة بدقة لا تخرج عمّا أراده المتكلم الذي اختار ألفاظ مُتداولة لها ارتباط دلاليّ بالقران والسنّة، ووضعها في نسق نحويّ على حسب النظام اللغوي العربيّ، مما جعل النصّ المقدس يساهم في تأويل الرسالة وفهم المعاني، وهذا من الوسائل الناجحة جدا في العملية التواصليّة: ((وذلك لخاصية جوهريّة في هذه النصوص... وهي أنّها مما ینزع الذهن البشريّ لحفظه ومداومة تذكره)) (99).

الخاتمة:

وجد البحث أن نصوص الإمام (عليه السلام) ومنها النصّ موضع البحث محملة بالمعاني وتعدّ ألفاظها عبارة عن إشارات لغويّة محملة بطاقات دلاليّة متفرعة ومتشعبة، مما يستدعي أن ننظر إلى الإحالات التي ترتبط بالألفاظ من جهة، وأخرى بالمرجعية الثقافيّة وإطارها الذي اعتمد عليه الإمام (عليه السلام) في خطابه مع أتباعه من المسلمين، ومنهم مالك الأشتر عامله على مصر فأكتبَ له عهدا، وهو دستور العمل المفصل للحاكم، وامتاز العهد بألفاظه المختصرة، والواسعة بدلالتها. فالإمام (عليه السلام) يؤكد النظرة الإنسانيّة الرحيمة في الدين الإسلاميّ؛ كونه (عليه السلام) يمثل المرجعيّة العامة في منصبه الشرعيّ لقيادة المسلمين، فاختار وصاياه العامة بألفاظ تداوليّة مشحونة بطاقات دلالية وإشارية على إحالات في الثقافة الإسلاميّة عند المجتمع وظهرت في النصّ المُقتطَع من

ص: 469

العهد الموجه، وهذه الملاحظات تجعل النصّ يدخل في صنف النصوص الإبداعيّة، والتي تجعل معانياها مناسبة لكل الأزمان وليس الوقت الذي قيلت فيه، فتقرأ على أساس أصالتها إذ تناسب الأفكار المتداولة في المجتمع، فنحن نقرأ النصّ ونفهمه كأنّه موجه إلينا، وهذه من أهم الصفات في النصّ الموصوف بالأصالة، فنفهم الإشارات والإحالات مع وجود الفارق الزمنيّ الذي يزيد أربعة عشر قرنا، مما يؤكد نجاح الرسالة الموجهة إلى المتلقي حين ذاك.

وقد وجد البحث أنّ الدراسة التطبيقيّة على ضوء المباحث اللسانيّة المعاصرة لنصّ الإمام (عليه السلام) موضع البحث قد تحلّ كثيرا من المشكلات التنظيريّة لهذه التوجهات، إذ تظهر أحيانا عقبات، وإشكالات فنية حينما يُطبَق هذا التنظير، وهذا ما لم نجده في تطبيقنا على هذا النصّ، مما يعكس تمكنه اللغويّ، أي: صاحب سليقة لغويّة متمكنة من نظام اللغة ومعرفة مسارات الألفاظ و مواضع دلالتها، وهو ما أطلق عليه الباحثون في اللسانيات بالكفاية التواصليّة، والتي يجب توافرها عند المتكلم لتكون لرسالته ناجحة عند المتلقيّ وأهم هذه الشروط: الكفاية النحويّة (صوت و صرف و نحو)، والكفاية الثقافيّة، والكفاية الاجتماعيّة، والكفاية الإدراكيّة وغيرها من الشروط التي وضعها باحثو اللسانيات التواصليّة.

ص: 470

هوامش البحث:

1. فنون النص وعلومه، فرانسو راستبي، ترجمة إدريس الخطاب، الدار البيضاء، دار توبقال، 2010، 23 2. في اللسانيات العامة، مصطفی غلفان، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010، 45 3. مباحث تأسيسية في اللسانیات، عبد السلام المسدي، بیروت، دار الكتاب الجديد، 137 4. علم اللغة الاجتماعي، کمال بشر، القاهرة، دار غریب، 48 5. حرب اللغات والسياسة اللغوية، لويس كالفي، ترجمة حسن حمزة، بيروت، المنظمة العربية، 2008، 1 6. السوسيولسانیات، فلوريان كولمان، ترجمة مشتركة، بيروت، المنظمة العربية، 2009، 148 7. المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، أحمد المتوكل، الربتط، دار الأمان، 20، 2006 8. نظرية التواصل واللسانيات الحديثة، رايص نور الدين، فاس، مطبعة سايس، 2007، 25 9. أعلام الفكر اللغوي، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابي، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2006، 2/ 103 10. اللسانيات المجال والوظيفة والمنهج، سمير استيتية، إربد، عالم الكتب الحديث، ط 2، 2008، 675 11. المصطلح اللساني و تأسيس المفهوم، خليفة العيساوي، الرباط، دار الأمان، 2013، 25 12. دينامية النص، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 4، 2010، 89 13. النحو العربي والدرس الحدیث، عبده الراجحي، بیروت، دار النهضة، 1986، 26 14. شظايا لسانية، مجید الماشطة، لندن، دار السياب، 2009، 51 15. دلالة النص وتداوله، فهيمة لحلوحي، الجزائر، مجلة كلية الآداب في جامعة بسكرة، العدد 10/ 11، 2012، 211 16. العلاماتية قراءة في العلامة اللغوية العربية، منذر عياشي إربد، عالم الكتب الحديث،

ص: 471

2013، 129 17. فنون النص وعلومه، 25 18. السيميائية وفلسفة اللغة، امبرتو ایکو، ترجمة أحمد الصميدعي، بيروت، المنظمة العربية، 2005، 46 19. التفكير الأسلوبي، سامي محمد عبابنة، إربد، عالم الكتاب الحديث، 2010، 196 20. علم الإشارة، بيير جيرو، ترجمة منذر عیاشی، دمشق، دار طلاس، 1993، 51 21. مقاربات في فقه اللغة العربية، خالد نعیم الشناوي، لندن، دار السياب، 2012، 46 22. العلامة تحليل المفهوم وتأريخه، امبرتو ایکو، ترجمة سعيد بن کراد، الدار البيضاء، المركز الثقافي للترجمة، ط 2، 2010، 70 23. لسانیات النص، ليندة قياس، القاهرة، مكتبة الآداب، 2009، 225 24. قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، أحمد المتوكل، الرباط، دار الأمان، 133 25. القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010، 501 26. لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح أحمد، بیروت، الدار العربية للعلوم، 2010، 34، 35 27. المرجع نفسه، 35 28. التداولية من أوستن إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012، 117 29. الوظيفة بين الكلية والنمطية، أحمد المتوكل، الرباط، دار الأمان، 2003، 19 30. الاستدلال البلاغي، شكري المبخوت، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010، 32 31. المعنى في علم المصطلحات، هنري بيجوان، ترجمة ريتا الخاطر، بیروت، المنظمة العربية، 2009، 243 32. الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 78، 2010 33. الأسس الأبستمولوجية والتداولية، إدريس مقبول، عمّان، جدارا للكتاب، 2007، 263

ص: 472

34. المصطلحات المفاتيح في اللسانیات، ماري نوال، ترجمة عبد القادر الشيباني، الجزائر، الاناشر، 2007، 107 35. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بیروت، دار الفكر، 1954، مج 4/ 20/ 67 36. نحو النص، عثمان أبو زنيد، إربد، عالم الكتب الحديث، 2009، 162 37. شرح نهج البلاغة، مج 4/ 20/ 67 38. الأفعال الإنجازية في العربية، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010، 51 39. اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبیله کریمر، ترجمة سعيد بحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011، 89 40. المقدمة الجزولية، الجزولي، تحقيق شعبان عبد الوهاب، مكة المكرمة، أمّ القرى، 10 41. ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان الأندلسي، تحقيق مصطفى النحاس، القاهرة، النشر الجامعي، 1986، 1/ 89 42. الکتاب، سیبویه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2009، 4/ 55 43. تصحيح الفصيح، ابن درستویه، تحقيق عبد الله الجبوري، بغداد، مکتبة الإرشاد، 254، 1975 44. شرح قصيدة الكافية، السيوطي، تحقيق ناصر حسن، دمشق، المطبعة التعاونية: 28، 1989 45. سورة الحجرات، الآية: 7 46. سورة آل عمران، الآية: 126 47. سورة الأنفال، الآية: 11 48. سورة التوبة، الآية: 8 49. سورة البقرة، الآية: 10 50. سورة البقرة، الآية: 93 51. أبو القاسم السهيلي ومذهبه في النحو، محمد ابراهيم البنا، جدة، دار البيان العربي، 1985، 146

ص: 473

52. سورة الأنعام، الآية: 12 53. سورة الأنعام، الآية: 54 54. سورة الكهف، الآية: 58 55. سورة البقرة، الآية: 93 56. سورة الأحزاب، الآية: 29 57. سورة التوبة، الآية: 128 58. اللفظ المكرم بخصائص النبي المعظم، قطب الدين الخضري، تحقيق مصطفی حميدة، بیروت، دار الكتب العلمية، 1997، 473 59. جواهر البحار في فضائل النبي المختار، النبهاني، بیروت، دار الكتب، 1998، 2/ 182 60. ينظر، الرسول والتنمية البشرية، محمد صادق الخرسان، النجف، الكلمة الطيبة، 68، 2014 61. سورة النساء، الآية: 58 62. صحيح البخاري، البخاري، بیروت، دار الفكر، 1981، 1/ 215 63. لسانیات النص، كرستين آدمستيك، ترجمة حسن بحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 122، 2009 64. الترابط النصي في ضوء التحليل اللساني، خليل البطاشي، عمان، دار جریر، 72، 2013 65. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ربول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس، بيروت، المنظمة العربية، 2003، 274 66. معجم المصطلحات البلاغية، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986، 6 67. الكتاب، 3/ 509 68. شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق، أحمد خرّاط، دمشق، مجمع اللغة العربية، 344 69. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقيق عبد الحميد الهنداوي، بیروت، دار الكتب، 2004، 429 70. سورة النساء، الآية: 58

ص: 474

71. سورة المائدة، الآية: 8 72. سورة الأنعام، الآية: 152 73. سورة النحل، الآية: 90 74. نحو النص، 162 75. سورة البقرة، الآية: 188 76. سورة النساء، الآية: 29 77. سورة المائدة، الآية: 62 78. دينامية النص، 90 79. ينابيع المودة لذوي القربی، القندوزي، تحقيق جمال الحسيني، قم، دار الأسوة، 1422 ه، 398 80. الفاءات في النحو العربي، شرف الدين الراجحي، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1995، 92 81. قضايا اللغة العربية وتحليل الخطاب، محمد محمد يونس علي، بیروت، دار الكتاب الجديد، 61، 2013 82. بنية الجملة العربية وأسس تحليلها، السعيد شنوقة، القاهرة، عالم الكتب، 2010، 141 83. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقيق محمد قابيل، القاهرة، المكتبة التوفيقية، 257 84. الايضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، تحقيق مشترك، بیروت، دار الكتاب العربي، 2004، 90 85. سورة الحجرات، الآية:10 86. سورة آل عمران، الآية: 103 87. سورة التوبة، الآية: 11 88. المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد، بیروت، دار الكتب العلمية، 1999، مج 2/ 518 89. سورة النساء، الآية: 1 90. سورة فاطر، الآية: 11

ص: 475

91. تفسير الكشاف، الزمخشري، بیروت، دار الكتب العلمية، 2006، 1/ 451 92. مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، بیروت، دار القارىء، 2009، 4/ 7 93. سورة الحجرات، الآية: 13 94. سورة آل عمران، الآية: 31 95. مختصر صحیح البخاري، أحمد زيدان، القاهرة، دار النشر الإسلامية، 1999، 1182 96. خصائص الوحي المبين، ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن، 1427، 30، 31 97. اللغة والفعل الكلامي والاتصال، 94 98. النظرية البراغماتية اللسانية، محمود عكاشة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2013، 86 99. التعالق النصي، نانسي ابراهيم، القاهرة، دار رؤية، 256، 2014

ص: 476

المصادر والمراجع:

1. القرآن الكريم 2. أبو القاسم السهيلي ومذهبه في النحو، محمد ابراهيم البنا، جدة، دار البيان العربي، 1985 3. ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان الأندلسي، تحقيق مصطفى النحاس، القاهرة، النشر الجامعي، 1984 4. الاستدلال البلاغي، شكري المبخوت، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010 5. الأسس الإبستمولوجية والتداولية، إدريس مقبول، عان، جدارا للكتاب، 2007 6. أعلام الفكر اللغوي، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابي، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2006 7. الأفعال الإنجازية في العربية، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010 8. الايضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، تحقيق مشترك، بیروت، دار الكتاب العربي، 2004 9. بنية الجملة العربية وأسس تحليلها، السعيد شنوقة، القاهرة، عالم الكتب، 2010 10. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ربول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس، بیروت، المنظمة العربية، 2003 11. التداولية من أوستن إلى غوفمان، فیلیب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012 12. الترابط النصي في ضوء التحليل اللساني، خليل البطاشي، عمان، دار جریر، 2013 13. تصحيح الفصيح، ابن درستویه، تحقیق عبد الله الجبوري، بغداد، مكتبة الإرشاد، 1975 14. التعالق النصي، نانسي ابراهيم، القاهرة، دار رؤية، 2014 15. تفسير الكشاف، الزمخشري، بیروت، دار الكتب العلمية، 2006 16. التفكير الأسلوبي، سامي محمد عبابنة، إربد، عالم الكتاب الحديث، 2010 17. جواهر البحار في فضائل النبي المختار، النبهاني، بیروت، دار الكتب، 1998 18. حرب اللغات والسياسة اللغوية، لويس كالفي، ترجمة حسن حمزة، بيروت، المنظمة

ص: 477

العربية، 2008 19. خصائص الوحي المبين، ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن، 1427 20. الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010 21. دلالة النص وتداوله، فهيمة لحلوحي، الجزائر، مجلة كلية الآداب في جامعة بسكرة، العدد 10/ 11، 2012 22. دينامية النص، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 4، 2010 23. الرسول والتنمية البشرية، محمد صادق الخرسان، النجف، الكلمة الطيبة، 2014 24. السوسيولسانیات، فلوريان كولمان، ترجمة مشتركة، بيروت، المنظمة العربية، 2009 25. السيميائية وفلسفة اللغة، امبرتو ایکو، ترجمة أحمد الصميدعي، بیروت، المنظمة العربية، 2005 26. شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق، أحمد خرّاط، دمشق، مجمع اللغة العربية 27. شرح قصيدة الكافية، السيوطي، تحقيق ناصر حسن، دمشق، المطبعة التعاونية، 1989 28. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بیروت، دار الفكر، 1954 29. شظايا لسانية، مجید الماشطة، لندن، دار السياب، 2009 30. صحيح البخاري، البخاري، بیروت، دار الفكر، 1981 31. العلاماتية قراءة في العلامة اللغوية العربية، منذر عياشي إربد، عالم الكتب الحديث، 2013 32. العلامة تحليل المفهوم وتأريخه، امبرتوایکو، ترجمة سعيد بن کراد، الدار البيضاء، المركز الثقافي للترجمة، ط 2، 2010 33. علم الإشارة، بيير جيرو، ترجمة منذر عیاشي، دمشق، دار طلاس، 1993 34. علم اللغة الاجتماعي، کمال بشر، القاهرة، دار غریب 35. الفاءات في النحو العربي، شرف الدين الراجحي، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1995 36. فنون النص وعلومه، فرانسو راستبي، ترجمة إدريس الخطاب، الدار البيضاء، دار توبقال، 2010

ص: 478

37. في اللسانيات العامة، مصطفى غلفان، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010 38. القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010 39. قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية، أحمد المتوكل، الرباط، دار الأمان 40. قضايا اللغة العربية وتحليل الخطاب، محمد محمد يونس علي، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2013 41. الكتاب، سیبویه، تحقیق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2009 42. لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح أحمد، بيروت، الدار العربية للعلوم، 2010 43. اللسانيات المجال والوظيفة والمنهج، سمير استيتية، إربد، عالم الكتب الحديث، ط 2، 2008 44. لسانیات النص، ليندة قياس، القاهرة، مكتبة الآداب، 2009 45. لسانیات النص، کرستین آدمستيك، ترجمة حسن بحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2009 46. اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبیله کریمر، ترجمة سعيد بحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011 47. اللفظ المكرم بخصائص النبي المعظم، قطب الدين الخضري، تحقيق مصطفی حميدة، بیروت، دار الكتب العلمية، 1997 48. مباحث تأسيسية في اللسانيات، عبد السلام المسدي، بیروت، دار الكتاب الجديد 49. مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، بیروت، دار القاريء، 2009 50. مختصر صحيح البخاري، أحمد زيدان، القاهرة، دار النشر الإسلامية، 1999 51. المصطلح اللساني و تأسيس المفهوم، خليفة العيساوي، الرباط، دار الأمان، 2013، 25 52. المصطلحات المفاتيح في اللسانیات، ماري نوال، ترجمة عبد القادر الشيباني، الجزائر، 2007 53. معجم المصطلحات البلاغية، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986 54. المعنى في علم المصطلحات، هنری بیجوان، ترجمة ريتا الخاطر، بیروت، المنظمة العربية،

ص: 479

2009.

55. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقيق عبد الحميد الهنداوي، بیروت، دار الكتب، 2004 56. مفتاح العلوم، السکاکی، تحقيق محمد قابيل، القاهرة، المكتبة التوفيقية 57. مقاربات في فقه اللغة العربية، خالد نعيم الشناوي، لندن، دار السياب، 2012 58. المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد، بیروت، دار الكتب العلمية، 1999 59. المقدمة الجزولية، الجزولي، تحقيق شعبان عبد الوهاب، مكة الكرمة، أم القرى 60. المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، أحمد المتوكل، الربتط، دار الأمان، 2006 61. النحو العربي والدرس الحديث، عبده الراجحي، بیروت، دار النهضة، 1986 62. نحو النص، عثمان أبو زنيد، إربد، عالم الكتب الحديث، 2009 63. النظرية البراغماتية اللسانية، محمود عكاشة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2013 64. نظرية التواصل واللسانيات الحديثة، رايص نور الدين، فاس، مطبعة سايس، 2007 65. الوظيفة بين الكلية والنمطية، أحمد المتوكل، الرباط، دار الأمان، 2003 66. ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي، تحقيق جمال الحسيني، قم، دار الأسوة، 1422 ه

ص: 480

عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)

اشارة

دراسة في هدي التحليل النقدي للخطاب الدكتور خالد حويِّر الشمس كلية الاداب / جامعة ذي قار

ص: 481

ص: 482

ديباجة البحث:

اللهم انا ننحمد، ونستعين بك، ونتوب اليك من كل ذنب عظيم، ونصلي، ونسلم على محمد المصطفى افضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه الغر الميامين. وبعد فهذا بحث تطبيقي على عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن حارث الأشتر رضي الله عنه على وفق مقولات المنهج النقدي لتحليل الخطاب، ذاك المنهج الذي انماز بميزات عد؛ إذ إنه جمع بين الاستعانة بالنظام اللغوي، وبين الاستعانة بالنظام الاجتماعي، ومدى الممازجة بينها، وأحيانا ينتقل صوب ضروب من الخطاب أخر، مثل الخطاب السياسي، والخطاب الاقتصادي في ضوء توظيفهما في رفد الحركة الاجتماعية التي يسعى الى کشف زيغ الخطاب التسويقي، أو العيوب المخفية فيه، تلك العيوب التي مررت عبر الأنساق اللغوية، ولا يخفى أن العهد العلوي ثري بنقد الإمام (عليه السلام) للخطاب الاجتماعي، ومدى رغبته في خلق قائد مثال منطلق من هُويَّة الإسلام، وعالميته، ورؤاه التي تعد سبیل از دها، وتحقيق لتلك السعادة التي تنشدها شعوب العالم جميعها.

جاءت اهمية هذا البحث من عوامل عدة، أهمها حاثة هذا المنهج في المنهج اللساني الحديث اذ انه من اخر منتجات المناهج اللسانية اذ ولد في تسعينيات القرن العشرين. وكذلك غنى العهد العلوي بمفاصل الخطاب الاجتماعي، فضلا عن معالجة الإمام (عليه السلام) لمناطق الخلل عند القائد السابق على مالك الاشتر، ومن ثم يكون العهد العلوي بيئة رحبة لهذا المنهج، وجاءت الخطة على أربعة محاور.

بين الأول المقولات التأسيسية للمنهج على يد نورمان فاكلوف، وفان دایك،

ص: 483

وروث فوداك، وميشيل فوكو، وغيرهم، من جهة المفهوم، والميزات، والمكونات، وطبيعة تناوله للنص.

ثم سلط المحور الثاني الضوء على ضروب الخطاب، أو کما سماها فوکو جدائل الخطاب المتضافرة في العهد وهي الخطاب الاجتماعي، والسياسي، والإداري، والاقتصادي، والقانوني، واحيانا تمازجها، وتداخلها، ولاشك أنها تصب كلها في ساقية التنظيم الاجتماعي للدولة.

وتحرى المحور الثالث انماط المعنى في الخطاب وهي ما يقارب وظائف الخطاب في البحث اللساني فكانت باصطلاح المنهج الفعال، والتمثيل، وتحديد الهوية.

ثم المحور الرابع سجل التكوين اللساني في العهد، فجاء بأربع جزئیات وهي التركيب النحوي، والعلاقات الدلالية، وحجاجية الطرح، وتداوليته على وفق الأفعال الكلامية.

وآخر دعوانا اللهم إنا نرغب إليك بدولة كریمة کما رغب بها الإمام علي (عليه السلام).

المحور الأول: أساسيات المنهج النقدي لتحليل الخطاب:

مر البحث الألسني قبل سوسير بمراحل ثلاث، الاولى: مرحلة التقعيد علبي الأساس المعياري، ثم المرحلة الفيلولوجية بتتبع تاريخ الأدب، والعادات، والنظم الاجتماعية، وقد كانت هذه المرحلة مهادا لعلم اللغة التاريخي، ثم المرحلة الثالثة ظهور المقارنة على أساس إبداء التشابهات، والاختلافات في الظاهرة اللسانية (1)، وهنا یری سوسیر قصور التعاطي اللغوي، فيرشح دراسة اللغة بنيويا على وفق المعطيات اللسانية في التركيب، فناقشها صوتيا، وصرفيا،

ص: 484

ونحويا، ودلاليا مبديا ما سماه بالوصفية على وفق ارتباط علم اللغة بالعلوم الأخر، نحو: علم النفس، وعلم الاجتماع، وغيرهما بعيدا عن المفهوم الصرف لتلك العلوم (2). ثم نضَّج هذه الزاوية البنائية بلومفيلد الذي حلل الكلام بناء على الموقع، والتوزيع، وصولا إلى رؤية جومسكي القائمة على دراسة التوليد والتحويل في الجمل، وفهمها وتفسيرها، و تحلیل تراكيبها استنادا الى الحدس الذي يملكه المتكلم، ومعرفته الضمنية بالقواعد (3)، ثم انفتحت البوتقة اللسانية على الجنبة الوظيفية في اللغة، فأصبح السياق عاملا رئيسا في فهم التركيب وهنا توالت المناهج الوظيفية بنظريات عدة، فكان الأبرز فيها المنهج التداولي بمقولاته الكثيرة، بناء على دراسة التركيب في ضوء مثلث موريس المكون من النحو، والدلالة، والتداولية التي درست النص في ضوء أفعال الكلام، ومبادئ التعاون، والمعنى الحرفي والمضمر، ثم يتزامن مع النظر التداولي لسانیات الحجاج أي دراسة الححج التي تصنع الإقناع.

في خضم ذلك البحث الجملي أحس الدارسون بقصور النتائج التي تظهر من البحث الوصفي أو البنيوي، فتغيرت بوصلة البحث إلى النظر النصي بناء على دراسة الجمل المتعددة فيه، والعزوف عن دراسة التجزيء فيه، وهنا ما يسمى لسانیات النص القائمة على السير النحوي، والدلالي، والتداولي في جزء منه وهو أفعال الكلام حصرا، أضيف إلى لسانیات النص منهح تحليل الخطاب الذي ينطلق من التفريق بين النص والخطاب لدی فوكو مثلا، الذي يدل مفهوم الخطاب عنده على المجالات المحركة للنص والصانعة له، فقد تكون مثلا المجال السياسي، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي، والمجال العلمي، والمجال الأدبي، وحينها يتولد ما يسمى الخطاب السياسي، والخطاب

ص: 485

الاقتصادي، والخطاب الاجتماعي، والخطاب العلمي، والخطاب الأدبي وهكذا تقوم هذه الخطابات على النسق المضمر فيها عبر التنسيقات اللسانية المحملة بالمقاصد، مع الإلماع لعدم التقيد ببعض المقولات التي وردت في تلك المناهج السابقة عليه، فقد يستعين باللغة، وبالسياق، وبالنيوية، وبالوظيفية وغير ذلك.

ونظرا لأن هذا المنهج يتسم بالشمول والاتساع في فهم الظاهرة النصية، ونظرا لشيوع ثقافة الهيمنة، والتسلط، وارتكاز سياسة العالم على الأدلجات التي ترى خلق المركزية في صياغة الخطاب وفي معالجة الوضع السياسي الراهن، وتمرير الأنساق على الذهن الاجتماعي في العالم ولد ما يسمى منهج التحليل النقدي للخطاب، الذي يقوم على التتبع اللساني في المجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي؛ بهدف معالجة الأخطاء الراهنة، مثل الظلم، وعدم المساواة، ومصادرة الحرية (4)، وهنا يفيد من أطروحات اللسانيين كافة في محاورهم اللغوية، مع وجود العيوب الخطابية، ومحاولة التغطية عليها، ثم انطلاقه من أطروحات ميشيل فوكو في مجالي الأدلجة في الخطاب والسلطة فيه. ثم إعادة النظر في مفهوم اللغة، والخطاب، فتكون اللغة فيه ممارسة اجتماعية، ويكون الخطاب: استعمال اللغة المقروءة والمكتوبة في ضوء الممارسة الاجتماعية (5)، يضاف إليه البعد العلاماتي الذي يرتبط بالمجتمع ارتباطا جدليا، ومن ثَمَّ يشتغل عليه تحليل الخطاب والتحليل النقدي للخطاب (6).

ومن هذه الخطوة التمهيدية البسيطة المتلعقة بنشأة اللسانيات والنظريات اللسانية ينبغي طرح السؤال المهم هل ينتميان منهج تحليل الخطاب، والمنهج النقدي لتحليل الخطاب إلى تلك المناهج اللسانية؟ لاشك في ذلك كونه يشتغل على النص بلحاظ ما يتفوه به اللسان بغض النظر عن استراتيجياته اللسانية أو

ص: 486

التواصلية، وسنكون معنيين ببيان مفهوم المنهج النقدي لتحليل الخطاب عبر الأساسيات فيه، وإجلاء مقولاته الرئيسة.

قبل ذكر المفهوم له يحبذ ترشيح واحد من التوصيفات التي أطلقت على ذلك المدلول، فقد وصفوه بأنه برنامج، ونظرية، ومذهب، ومدرسة، وتیار، وممارسة، وظاهرة.

ومع وجود التقاربات بين هذه المفاهيم وبين طبيعة الأداء، والسيرورة في هذا الطرح النصي الجديد القائم على النقد، والتحليل، والألسنيات، إلا أن (مدرسة) أقرب إلى الاختيار وذلك بسبب أن رواده قد اجتمعوا، وأسسوا منطلقاته في الغرب، وهذا ما لا يتوفر في غالب الطرح الألسني السابق عليه؛ لذا يفضل روث فوداك اختيار (مدرسة) وأحيانا يستبدله ب (برنامج) إلا أن غلبة الجنبة المدرسية والأكاديمية فيه جعلته يختار توصیف مدرسة (7). وقد جمع لنا فوداك مجموعة أبحاث عن فان دایك، وفاکلوف، وفوکو، وأطلق عليها (مناهج التحليل النقدي للخطاب) وكما يبدو من عنوان الكتاب أنه وصف بالمنهج.

وعلى الرغم من الاستقرار الذي ينعم به هذا المنهج، وتحديد التاريخ المضبوط لنشأته، إلا أن ذلك لا يشفع له من تعدد مصطلحاته، فقد توافرت عليه مصطلحات ومنها: اللغويات النقدية، الدراسات النقدية للخطاب، التحليل النقدي للخطاب، ويبدو أن فان دايك يختار التسمية الثانية، والسبب في هذا الاختيار أن هذه التسمية تشعرك بالنقد وبالتحليل، وتجنبك سوء الفهم المنتشر بأن المقاربة النقدية هي منهج التحليل الخطاب، بل هو يؤكد التحليل النقدي الاجتماعي (8) وورث فوداك يختار التسمية الثالثة؛ كونها الأكثر انتشارا

ص: 487

وتفضيلا في البيئة المعرفية (9).

قيل في تعريفه: ((باختصار يمكن تعريف التحليل النقدي للخطاب على أنه ما يهتم أساسا بتحليل العلاقات البنائية الغامضة، والجلية المهيمنة، والتمييز، والسلطة، والتحكم، کما تتجلى في اللغة، وبعبارة أخرى، يهدف التحليل النقدي للخطاب إلى فحص عدم المساواة الاجتماعية التي تم التعبير عنها، وتشكيلها، وإضفاء الشرعية عليها من خلال استخدام اللغة (أو في الخطاب))) (10).

وإذا أُريد التحدث عن طبيعة هذا المنهج، فستختصر بمحورين. الأول: يتمثل باتسامه بالسعة، والشمول، والتنوع، والانفتاح على المعطيات اللسانية بتعدد سیروراتها، وكينوناتها، ناهيك عن الخارج لساني المتمثل بتداخل العلوم مع اللسانيات أي الفلسفة والاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من المعارف فقيل في هذا الصدد: ((وتعتمد الجذور المتعددة للتحليل النقدي للخطاب على البلاغة، واللغويات النصية، والانثربولوجيا، والفلسفة، وعلم النفس الاجتماعي، والعلوم المعرفية، والدراسات الأدبية، واللغويات الاجتماعية، وكذلك اللغويات التطبيقية والتداولية)) (11)، توظَّف تلك الإجراءات في ضوء المعطى الاجتماعي، وهذا المد النوعي والكمي في التناول - في نظر بعضهم يربك هذا التوجه الألسنى الحديث، ويفقده المنهجية الصارمة، حتى نعت بفقدان المنهج ((إن الدراسات النقدية للخطاب ليست منهجا، ولكنها بالأحرى (منظور) نقدي أو (وضع) أو (موقف) في إطار نظام بيني لدراسات الخطاب...)) (12).

ويمكن النظر إلى العكس من ذلك، أي التدقيق من زاوية أخرى لذلك التنوع، فیکون عدم إغراء المناهج السابقة لمنظور التحليل النقدي في اعتماد أحدها لا يعني الإرباك، والاضطراب فيه، بل عهد على خطواته التباين في المنهجيات، والاختلاف

ص: 488

في الرؤى لتحدي الخطاب المؤدلج، والمتسم بالعالمية الذي يمرر غاياته عبر الانساق الدلالية، والاستعارية، والنحوية. وهذا بدوره يشكل عامل ثراء له، ومراكز قوة كونه يشرك اللساني وغير اللساني، أي ينطلق من اللغة، ومن العلوم الأخر في رصد الظاهرة الاجتماعية، والتمعن فيها من زواياها كافة.

وإذا حاولت تتبع النشأة التاريخية لهذا المنهج يصادفنا قول نورمان فاکلوف راجعا به إلى التأثر بفلسفة ميشيل فوكو بقوله: ((وغالبا ما يكون تحليل الخطاب في العلوم الاجتماعية متاثرا جدا بكتابات فوکو)) (13)، ويعد فان دايك أول من دشن هذا المنهج بحسب قول فوداك: ((وقد كانت لحظة تدشين التحليل النقدي للخطاب هو الاستهلال الذي قدمه فان دايك في جريدة Discourse and Scciety 1990، وكذلك بتلك الكتب المتعددة التي تم نشرها بالمصادفة في وقت واحد، وأدت إلى إيجاد أهداف ماثلة للبحث)) (14).

وقد اختلفت نشأة المناهج الألسنية بتقدم المعرفة في العصر الحديث؛ إذ غلب الطابع المؤسساتي على نشأتها كما الحال في اجتماع علماء هذا المنهج في امستردام في ندوة صغيرة في يناير 1991، وبدعم من جامعة امستردام بحضور فان دايك، وفاكلوف، وجنئیر کرسي، و ثيوفان ليفن، وروث فوداك (15).

ومن أهم صفات هذا المنهج هي التحليل، والنقد، والاشتغال على بوصلة الخطاب العالمي، والانطلاق اللغوي، والبحث عن المهيمنات في الخطاب (السلطة).

أي تحليل المشكلات الاجتماعية الخطيرة، ومحاولة طرح الحلول البديلة لتلك المشكلات التي يتولد من جرائها الظلم الخطابي، وتبعاته (16).

وقد يحمل مفهوم النقد مفهوما مغايرا للنقد الأدبي، أي نقد الظاهرة الخطابية، وتحري خطابها، وهنا يكون غير نقد النص عبر معايير الجمال ومقومات النص التي

ص: 489

تعورف عليها في المنظومة النقدية الحديثة أو القديمة.

ويتحاشى النقد الاجتماعي الخطاب المحلي قدر الإمكان، وينطلق من المسلمات، والمشتركات في الخطاب، تلك المشتركات التي تسعى إلى الهيمنة على العالم عبر المنطلقات اللغوية، وتزويقها باستعارات، ومجازات، واختيارات لغوية، إن استبدلت لا يتوفر معها المعنى المطلوب، المعنى الذي يسعى إلى ((استعمال السلطة من قبل جماعة ما ضد جماعات أخرى، وكيف أن المجموعات المهيمن عليها يمكن أن تقاوم هذا التعسف بشكل خطابي)) (17).

والذي يلفت النظر أن الهدف من هذا المنهج يفصح به عنوانه ((اخيرا وليس آخرا يهدف التحليل النقدي للخطاب على نحو ما يتفق مع اسمه إلى مساءلة الخطابات وإخضاعها للنقد) (18)، أي فك كتلة الخطاب، وتشخيص ما قيل وما يمكن أن يقال في مجتمع بعينه، وكشف الإرساليات اللغوية التي ترسخ ذلك الخطاب، وتعرية التناقضات التي يتسم بها ذلك الخطاب (19)، و ((صياغة المعايير التي تعرف الظلم الخطابي، والمساعدة في تجنب هذا الظلم، وتهدف الدراسات النقدية للخطاب إلى تعرية هذا الظلم وتساهم في القضاء عليه)) (20).

وقد تعدد المؤسسون لهذا المنهج، وهذا التعدد يقود إلى طرح السؤال المهم: هل اتفق أم افترق هؤلاء المؤسسين في تفصيلهم النقدي للخطاب؟ وقد جاءت جهودهم على شكل نظريات تلتقي في بعض مفاصلها لاسيما اللغة، وتفترق في مفاصل أخر، وسيتضح من تلخيص تلك النظريات تحققات ثنائية الالتقاء والافتراق.

فهنالك نظرية فوكو في التحليل النقدي للخطاب تركز على المعرفة، والسلطة في تحري الخطاب الاجتماعي. أي دراسة علاقة الخطاب بالواقع، وتعيين سلطة الخطاب،

ص: 490

والجدائل المتضافرة في ذلك الخطاب أي الموضوعات المحمولة فيه (21).

ثم نظرية فان دايك التي تقوم على المعرفة الاجتماعية التي توضع في نطاق البعد النفسي والاجتماعي في التحليل، ثم تحليل البنى الكبرى، والمعاني الجزئية والداخلية، والتركيبات الشكلية غير المباشرة، والصيغ والبنيات، ثم الجزئيات البلاغية كل ذلك في نظومة السياق، منطلقا من المثلث المهم: الخطاب، والإدراك، والمجتمع.

ونظرية الفواعل الاجتماعية لمالينوفسكي وبارسنز أي أثر الحدث في تأسيس الهيكل الاجتماعي.

ونظرية فاكلوف التي تنطلق من المقاربة الجلية - العلائقية: توضيح المظاهر اللغوية في الخطاب بناء على الصراع الاجتماعي الذي تحمل كل ممارسة فيه عنصرا سيميائيا محددا، في ضوء التوجه البراکماتي، الساعي إلى حل المشكلات، بعد التعريف بالمشكلة الاجتماعية، التي يجب وصفها وتحليلها، ثم التركيز على الاختيارات اللسانية، والتراكيب من لدن الفاعلين في زمن معين.

وهناك نظرية ريزيجل وفوداك التي ترى أثر المدونة اللغوية في صياغة الخطاب وتحليله، ونقده (22).

فمن هذا الإيجاز المخل في عرض النظريات والعجالة يتضح أنها تعمل كلها في ضوء الاشتغال اللساني، والوازع الاجتماعي في الخطاب، مع الاضافات المتنوعة من لدن بعض من العلماء كأن يكون الجانب النفسي، أو الجانب المعرفي التاريخي لدى فوکو، والنظر الحفري الجينالوجي في الظاهرة.

وقد درج العاملون على هذا المنهج، أو المؤسسون له أوليات تعد نقاط انطلاق فيه (23):

1- فهم التأثير الاقتصادي على المجتمع.

ص: 491

2. كيفية تجاوز الرؤى المركزية الأوربية، والسياق الثقافي الغربي.

3. تحليل وتفسير الظواهر الجديدة في النظم الغربية السياسية.

4. تحلیل، و تفسیر تأثير وسائل الإعلام الجديدة.

5. تحليل العمليات التاريخية وسياقات الهُويَّة.

وثمة أبعاد مرکزية فيه (24):

1. التركيز على الاستعمال اللغوي.

2. التركيز على النص او الخطاب بدلا من الجمل المنفصلة.

3. التوسع في اللغويات إلى ما وراء نحو الجملة في اتجاه الفعل ورد الفعل.

4. التعويل على الجوانب السيميائية لقياس التفاعل والاتصال.

5. التركيز على الاستراتيجيات والتحركات الديناميكية، والاجتماعية، والمعرفية.

6. دراسة سياقات الاستعمال اللغوي.

7. تحليل عدد غير محدد من ظواهر نحو النص: الحبك، الإحالة الموضوعات، البنى الكبرى، أفعال الكلام.

ثم يأتي الدور للحديث عن المقولات الأساسية في هذا المنهج، اذكرها منتخبا ایاها من كتابات المؤسسين وهم فوکو، وفان دايك، وفاکلوف.

1. اللغة: ينفتح الحضور اللغوي في المنهج النقدي لتحليل الخطاب على مؤشرات كثيرة ((المجاز، والمفردات، وأنواع الحجاج.... المعاني الضمنية، والتلميحات غير المباشرة، ... الإحالات... النبر والتنغيم... ترتيب الكلمات، الأسلوب الخاص بالمفردات، الحبك... أفعال الكلام... الصور البلاغية، البنى التركيبية ... التركيبات القضوية..)) (25). ويلحظ على الجنبة اللغوية

ص: 492

انفتاح بوتقتها على علوم البلاغة، والنحو، والصوت، والمعجم، والتداولية، والحجاج، وغير ذلك. وما هو جدير بالذكر أن العطاء اللغوي لم ينحصر في زاوية محددة من زوايا المنهج، بل يتكرر حضورها في اساسيات عدة منه، فقد يكون حضورها في الضروب الاجتماعية وعلاقتها بها، وقد يكون في انماط الخطاب، وقد يكون في مبحث الصياغات التعبيرية، والاساليب وهكذا...

2. التأويل: تقتضي صناعة النص الاجتماعي المؤهل للتحليل والنقد الاجتماعي أن تحضر رهانات التأويل فيه؛ لأن النصوص التي يشتغل عليها لم تتسم بالصرامة، وانما تتسم بالمنزع الاحتمالي؛ لذا ((يضع التحليل النقدي للخطاب منهجيته على النمط التأويلي (التفسيري) أكثر من النمط التحليلي الاستنتاجي)) (26).

3. الايديولوجيا: أي الجانب الأُحادي في الرؤية للعالم، وتعد المحرك الأساسي للخطاب، وهي المقولة الأهم في هذا المنهج؛ إذ العلاقة بينهما متبادلة كلاهما يصنع بعض: ((إن النتائج الايديولوجية هي أحد أنواع النتائج التي تسببها النصوص، والتي تحظى باهتمام التحليل النقدي للخطاب: تأثير النصوص في تثبيت الايديولوجيات أو دعمها او تغييرها)).

4. السلطة: وتبني على المقولة السابقة ((والسلطة تشير إلى العلاقة غير المتكافئة بين الفاعلين الاجتماعيين الذين يتولون وظائف اجتماعية مختلفة، أو ينتمون المجموعات اجتماعية متباينة)) (27).

5. النقد: ويقوم مفهوم النقد على التشخيص الاجتماعي، ونقد القيم الاجتماعية المنزوية في الخطاب عن طريق النسق اللغوي، بعيدا عن التقليدية في دراسة النقد (28)، وهنا يهدف إلى دراسة التجاوزات، والتناقضات الذاتية المنتشرة في

ص: 493

الهياكل التركيبية للنص أو للخطاب (29).

6. الخطاب: وينظر إلى الخطاب على أنه الذاكرة الاجتماعية عبر اللغة، المرئية أو المسموعة (30)، وامكانية تحليله على وفق التجزئة للمكنوناته.

7. السياق: قد يتسع مفهوم السياق في هذا المنهج فيكون فضلا عن الظروف المصاحبة للنص هنالك التمثيل العقلي. وهذا ما يتضح في قول فان دايك: ((ويجب التأكيد على أن السياق كما أعرفه ليس فقط نوعا ما من البيئة أو الموقف أو الهيكل الاجتماعي، مثل المتغيرات الاجتماعية للجنس أو العمر أو العنصر في اللغويات الاجتماعية الكلاسيكية. ولكن السياق هو تمثيل عقلي ذاتي، ونموذج آني فعال للمشاركة حول الصفات النسبية بالنسبة لهم الآن للموقف الاتصالي، وأنا أسمي هذا التمثيل (نموذج السياق) وهو هذا التعريف العقلي للموقف الذي يتحكم في التكليف الكافي لإنتاج الخطاب وفهمه في بيئته الاجتماعية) (31).

المحور الثاني: ضروب الخطاب:

ونعني بها العوالم التي تصنع النص، الذي حفل بتمثلات لها، بطرائق مختلفة، وهي المائز الأساس في الخطاب، وقد أرجعها فاکلوف إلى ميشيل فوكو وآرائه، وقد تنتمي إلى العالم العقلي الذي ينماز بأفكار، ومشاعر خاصة مستوحاة من معتقد ما، يقول في ذلك فاکلوف: ((أری أن ضروب الخطاب طرق مختلفة في تمثيل العالم: السيرورات، والعلاقات، والبنى في العالم المحسوس، والعالم العقلي الذي يحوي الأفكار، والمشاعر، والمعتقدات وما إلى ذلك، والعالم الاجتماعي)) (32).

وهذه الضروب لها سمات تتصف بها، وهدف (33)، فمن سمات هذه

ص: 494

الضروب وجود الصلة المتواشجة بين عوالمها ومواقع المنتج لها في نقاط محددة، ومنها الهُويَّة الاجتماعية، والشخصية، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، فضلا عن أنها تخضع للتجربة الفردية، ومن ثم تتسم بالإسقاطية، و خیاليتها. ولابد من أنها تتسم بالتكرار والجماعية، أي أن الناس يشتركون بها بوصفها مسلما من مسلمات الحياة، شريطة التوصيف العالمي والابتعاد عن النطاق المحلي في التأسيس للتغيير، ذلك التغيير بوصفه هدفا لإنجاز العالم في اتجاهات معينة بحسب الفلسفة التي تنتظم الخطاب ذي التمثلات النصية، والمشحون برؤى تسيِّر العالم نحو بوصلة النجاح.

وبمفهوم بعيد عن طرح المنهج النقدي لتحليل الخطاب يقترب معنی الضرب من الصنف، والمجال؛ ولأن المنهج يعطي الصنف فهما خاصا متصلا بطريقة طرح النص كأن يكون تقريرا أو محادثة، أو سردا أو غير ذلك رغبت عن تسمية الصنف، وكذلك المجال فإنه مما يجعلنا أن نتمسك بمقولات تحليل الخطاب، حاولت أن التزم مفهوم الضرب، وهو مما يدل على الحقل الذي يولِّد النص، وقد يكون هذا الحقل: السياسة، أو الاقتصاد، أو الإدارة، أو الجنبة العسكري، أو القانون في العهد العلوي لمالك الأشتر، ثم بحث النسيج النصي بين أوتار الضرب الواحد، ثم بين الضروب نفسها أو فلنقل العناية بتداخلها.

جاءت تلك الضروب الخطابية ممتزجة في نوع محدد من أنواع الخطاب وهو الرسالة التي أرسلها الإمام علي (عليه السلام) إلى وليه و حاكم مصر مالك بن حارث الأشتر.

جاءت تلك الضروب موزعة على طول مساحة العهد العلوي، مبتعدة عن الترتيب، أي ما يخص الضرب السياسي قد يكون جزء منه في بداية العهد

ص: 495

ثم يقاطعه الضرب الاقتصادي مثلا، فيأتي بعده السياسي وهكذا...

تتضح تلك الضروب في العهد بصورتين الأولى يمكن تسميتها بالصورة الإجمالية، والأخرى بالصورة التفصيلية. فقد أجمل الإمام (عليه السلام) تلك الضروب في استهلاله للعهد بقوله: ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مِصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها)) (34).

فتتضح الجنبة الاقتصادية في الفقرة الأولى (جباية الخَرَاج) أي الوظائف المالية، والجنبة السياسية في الفقرة الثانية (جهاد عدوها) عن طريق التعامل مع الدول، وصناعة العلاقات، والجنبة القانونية،، والجنية الاجتماعية في الفقرة الثالثة (استصلاح أهلها)، والجنبة القانونية عن طريق اتخاذ القانون بوصفه منظما يصلح سيرة الناس، فضلا عن خلق التماسك الاجتماعي عن طريق الاصلاح بين الأهل والطبقات، والجنبة الإدارية في الفقرة الاخيرة وعمارة بلادها) عبر اختيار المستشارين، والموظفين.

ثم جاء الحديث بالتفصيل عن التفكير بتلك المجالات، تفکير يسير في عامل الأدلجة التي ترى في الإسلام مسارا لها - إن صح أن نسمي الخط الاسلامي أدلجة - أي عبر الذوبان فيه، وتطبيق رؤاه، بحسب الخط القرآني الذي ينسجم مع الاصلاح الاجتماعي المنطلق من الاصلاح النفسي أو الاصلاح الفردي.

ويمكن تقسيم الضرب السياسي في العهد على نمطين. الأول السياسة الداخلية، والآخر السياسة الخارجية. وقبل أن يبدأ بالسياسة الداخلية يعرض لمؤهلات الحاكم الذاتية على مستوى صناعة الفرد، أو الذات، التي تراعي الآخر بعد أن تتسم بالانشراح الديني؛ لذا تجد عليا (عليه السلام) أول ما يطلبه من

ص: 496

الحاكم بوصفه سیاسيا لبلده تحقيق التقوى في داخله، والعمل بكتاب الله ((أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها واضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه: فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، واعزاز من أعزه)) (35).

فقد يكون هذا السلوك الشخصي للحاکم تأسيسا لنَفَس نقدي ينطلق من تشخیص عیوب الحاكم بصورة عامة لاسيما غير المتحلي بالهُويَّة الإسلامية، وكذلك تأسیسا لرقابة جماهيرية على الحاكم وهذا ما يميزه الإمام (عليه السلام) بقوله: ((وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده)) (36).

ثم يساق الضرب السياسي الداخلي في فقرة لاحقة ومتسلسلة مع المفصلين السابقين بقضية التعامل مع الرعية، والانفتاح على الآخر من لدن الحاكم انطلاقا من التداخل القرآني الذي سنأتي عليه لاحقا أي عن طريق الرقة بالتعامل، وممارسة العفو، والصفح، وتذكر فوقية الله تعالى: ((وأشعِر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سُبعا ضاريا، تغتنم أَكلَهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يُعطيُك الله من عفوه و صفحه...)) (37). وهذه من أهم المفاهيم المنضوية في الالتماس النقدي للخطاب السياسي في زمن طغى فيه عدم الصفح، وعدم العفو، وعدم التسامح او الغفران لزلل الرعية، وهذا معول

ص: 497

من معاول تحطيم النسق الظلامي الممارس من لدن الطبقات السياسية الحاكمة.

جرى هذا التحليل من الباحث في ضوء فهم السياسة على أنها ليس فن الخديعة أو المكر، بل تعني ساسة أمور البلاد، والعباد في ضوء المنهاج الإسلامي، وعلى هذا الأساس يعرض الإمام (عليه السلام) سياسة الحاكم تجاه رعيته من جهة اللقاء بهم، والسماع لحاجاتهم، والانتصار للضعيف فيهم، أو تمشية أمور العمل بأوقاتها، مبديا ذلك بأسلوب الأمر (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تُفَرِّعُ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتَقعِدُ عنهم جندك و أعوانك... وأمضِ لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه)) (38).

فضلا عن هذه السياسة الداخلية يرسم لنا الإمام (عليه السلام) السياسة الخارجية للحاكم، والتأكيد على منزع واحد يقوم على ترك العداوة، والبغضاء، واللجوء إلى الصلح مع العدو، وهنا يتحقق عامل الصداقة، و تتحقق معه المكاسب الأُخر التي تنفع الدولة، وتسعى إلى تقدمها، وتحقيق مصالحها لاسيما عدم بذل المجهود الحربي من لدن الجند، وعدم هتك الأموال التي تبذخ بالحرب، فيوجه الحاكم ناهيا إياه من عدم قبول الصلح إن توفر، وفي الوقت نفسه يحذر من الغدر، والمباغتة من لدن العدو، وينبه بخديعة الأعداء، ومما بلغ حد التحذير هنا، أن قلب الموازين الاجتماعية التي يراها الإسلام الذي يوجه بحسن الظن تجاه الأمة، أو الفرد، أما هنا فلا يشتغل حسن الظن مع العدو ((ولا تدفعن صُلحا دعاك إليه عدوك، ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفَّل، فخذ بالحزم، واتهِم في ذلك حسن الظن)) (39).

ومن آخر القوالب السياسية التي تنضوي في مفصل السياسة الخارجية للحاكم

ص: 498

في بلده قالب التحذير من إراقة الدماء مع العدو؛ لأنه يعود بالضرر على مسببه، وينزل النقمة عليه، ويزيل النعمة: ((إياك والدماء، وسفكها بغير حلها؛ فإنه ليس شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها،.... ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن...)) (40) وبمراجعة بسيطة للإسهام السياسي في العهد العلوي بنوعيه الداخلي والخارجي يتضح مدى إثبات الهوية الإسلامية في الفن السياسي، وأولى مصادیق ذلك تحقيق الهوية الإلهية عبر إيكال الأمر إليه، فهو الناصر لعباده المخلصين، والمتوكلين، وكذلك هوية الشعب المحكوم في سياقه التاريخي من لدن حكومات سابقة، وتجربة قد تكون مغايرة لتجربة النظام الإسلامي، فما ينبغي إلا ممارسة الحكم ذي الهوية الإسلامية القائم على العمل الصالح.

وقد يدعوه السياق التوجيهي أن يفصح عن طبيعة المكونات للشعب المصري، وكما يتضح من المسكوت عنه أنه مزيج من ألوان عدة، فجاءت الوصية لخط العلاقة بين القائد والمقوود على أساس التراحم، والايقان بأن الشعب المصري - إذا خصصنا العهد فيه بعيدا عن الرسالة العالمية مع أنع مستحيل هذا- أفراده أما أخ لك أو نظير لك في الخلق. ويؤكد على هوية الحاكم القائمة على التواضع لله، المتذكرة له، وغير المتجبرة.

وما يهم في العهد العلوي حديثه عن الضرب الاجتماعي السائر في ضوء سياسة العدل ((في الفكر وفي السلوك، متكاملة الجذور، والأغصان، والأزهار، والثار، في جدلية النمو الدائم))(1) لمنهاجه (عليه السلام)، بوصفها -أي العدالة - باعثا على خطوط متوازية تسعى إلى تحقيق المبتغى الإلهي الذي يتسم بالعمومية والكلية في

ص: 499

العدل بعيدا الفردية کما یری عزیز السيد جاسم ((وما من فائدة في العدل الفردي، فيما إذا كانت شروط العدل الاجتماعي معدومة؛ لأن العدل الفردي يخص فردا بعينه...)) (42).

ولا نكاد نبدأ بالضرب الاجتماعي إلا والأمر بالإنصاف والعدالة أول ما يبدأ به بقوله: ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوی من رعیتك)) (43).

وفي سياق التأكيد على الهُويَّة الإسلامية في إقرار العدالة الاجتماعية بين العباد، وأفراد المجتمع، يحذر الإمام (عليه السلام) من العواقب المترتبة على ظلم العباد، وتلك العواقب لیست ردود افعال المجتمع وإنما ردة فعل ربانية تتمثل بالخصومة بين الله وبين الظالم ((ومَن ظَلَم عبادَ الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب)) (44). والجزئية الأخيرة التي ذیل فيها قولته جعلها من حصة باب التوبة للحاكم الذي نظر سوءا في رعيته.

ويحاول بطراز نقدي يُستنتج بالمسكوت عنه معالجة بعض العيوب من لدن الحكام، أهم تلك العيوب هي عدم القدرة على حل المشكلات الاجتماعية، والتشهير بعيوب الناس، لاسيما المعارضين من العامة لسياسة حاكم ما مثلا، فالحاكم أولى بلم الهوة الاجتماعية ((فإن في الناس عیوبا، الوالي أحق مَن ستَرَها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك... فاسترِ العورةَ ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعیتك)) (45).

ولكي يُكسب العلاقة بين الحاكم وشعبه المتانةَ حاول توجیه سهام النقد الاجتماعي إلى الساعين بالوشاية، وتحذير الحاكم منهم، كون تصديق وشايتهم، وحطهم للناس أدعى إلى الانهيار الاجتماعي، والعلاقة الاجتماعية بين الحاكم ومحكوميه: ((ولا

ص: 500

تعجلن إلى تصدیق ساع، فإن الساعي غاشٌ، وإن تشبَّه بالناصحين)) (46).

وأناط بالحاكم مسؤولية تفهم الأعراف، والسُّنن السابقة في المجتمع، وإجماعه عليها رغبة بصناعة التاسك الاجتماعي والمجتمع المستقر البعيد عن البدع، والابتكارات التي تثير القلق في أذهان الرعية ((ولا تَنقُض سُنَّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تُحدِثُن سنة تضر بشي من ماضي تلك السُّنن...)) (47).

وفي الضرب الاجتماعي يذکِّر الإمام (عليه السلام) بأنواع المجتمع المحكوم، ويصنفه على طبقات، ويسن طريقة التعامل مع تلك الطبقات. فكانت طبقة الجند، والكتَّاب، والقضاة، والعمال، و جباة الجزية، والتجار، والحرفيين، والطبقة السفلى ويضع خريطة التعامل مع تلك الطبقات المتنوعة: ((واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض)) (48). أي قضية اصلاحها لا تنبني على أساس المنوال الواحد، بل على أساس الخصوصية ((ويركز علي بن ابي طالب على الوحدة والتنوع في التركيبة الاجتماعية للرعية، فهو يرفض عمومية التحدث عن وحدة الرعية... فهو شخص ببعد نظر شديد طبيعة كل طبقة، وموقف السلطة الإسلامية منها، ملغيا النظرة العمومية السطحية)) (49).

ويؤكد التلازمات بين هذ التنوعات المجتمعية، فبعد أن يعرض مهمة الجنود، والجباية للخراج يركز على التلازمية مع القضاة ((ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب... ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار، وذوي الصناعات)) (50).

وبولوج مسافة التأويل يتبين أن الأساس الأنطولوجي لعرض فكرة الطبقات هو لإثبات هوية التعامل مع هذه الطبقات الواردة في المجتمع تعاملا منبثقا من الإلزام

ص: 501

الإلهي لها، فجاء هذا الأفق في آخر المفصل الاجتماعي من العهد العلوي ((وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيها خف عليه أو ثَقُل)) (51). فجاء التصنيف الطبقي منبثقا من رؤية نقدية اجتماعية لمعالجة مساحة القصور الممتد من لدن الحاكم بصورة عامة في مدن الأمة، وبصورة خاصة في مصر، وما كان من النقد الاجتماعي إلا تمييز هذا من ذاك في صلاح الجمهور.

وشرح الإمام (عليه السلام) في الضرب الإداري طريقة اختيار المستشار ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور...)) (52).

وبعد ديناميكية الاختيار التي تنعكس إيجابا وسلبا على إدارة الدولة، يضع منهاجا لاختيار الوزير، وطريقة تعامل للحاكم مع الوزير أو الوزراء الذين يصنفون ضمن بطانة السوء ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شَرِکَهم في الآثام، فلا يكونن لك بِطانة، فإنهم أعوان الأَئَمة، وإخوان الظَّلَمة...ثم لیکن آثرُهم عندك أقولُهم بِمُرِّ الحق لك... وألصَق بأهل الورع والصدق، ثم رُضهم على ألا يُطروك ولا يُبَجِّحُوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدِث الزَّهو، وتدني من العزة)) (53). ثم يستمر بعرض كيفية إدارة الموظفين أو الوزراء باتباع سياسة التكريم أو التمييز بين الصالح والطالح منهم: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه)) (54).

ثم يستمر الضرب الإداري بتحديد كيفية اختيار الموظفين للإدارة عن طريق التجربة وانجاز العمل: ((ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا وتُوَلِّهم

ص: 502

محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة)) (55).

ونتيجة لإنجاز الاختيار السليم للوزراء والموظفين سيجري العمل بأتم حال، وقد ركز على إنجاز الأعمال الإدارية كلا بوقته؛ لتمشية أمور البلاد ((ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كُتَّابُّك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. وامض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه)) (56).

وبسياسة النقد يوجه الحديث صوب أحد عيوب المدير وهي الاحتجاب عن الرعية، فجاء سياق النهي: ((أما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك؛ فإن احتجاب الولاة عن الرعية شُعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور.... ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل کریم تسديه او مبتلى بالمنع)) (57).

يلحظ على الضرب الإداري ارتباطه بالضرب الاجتماعي؛ لأن العاملين على الإدارة جزء من المجتمع، وفي سياسته النقدية للاتجاه الإداري للبلاد يدحض الأشخاص المنتخبين للوزارة المصابين بأمراض المجتمع نحو البخل، والجبن؛ إذ توفرهما لا يحقق المسعى الإلهي وأداء الأمانة (الإدارة) تجاه المدارين عامة الشعب، وهنا تتلاشى الهُويَّة الإسلامية ((فإن البخل، والجُبن، والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله)) (58). فضلا عن تقريب بطانة السوء فيه استنزاف لمبدأ الإحسان الذي تبحث عنه الهُويَّة الإسلامية، وتدريب المسلمين عليه: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة)) (59).

وفي الضرب العسكري من خطابه في العهد تحرك على نوعين من

ص: 503

الاستراتيجيات العسكرية التي توصله إلى الانتصار على العدو وتحفظ ماء الأمة، يتعلق النوع الأول بالقائد، والثاني بطريقة تواصل الحاكم مع القائد، وهذان الخطان هما الضلعان المتوازيان أو اللذان يشكلان زاوية قائمة في تحقيق النصر المؤزر. فوضعَ سمات القائد العام التي تنتمي إلى جهة النصيحة لله ولرسوله، والأمانة، والحلم، والرأفة بالضعيف، وهذه تجليات الهوية الاسلامية: ((فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء)) (60).

ثم ينتقل إلى توصيف العلاقة بين القيادات العسكرية بعد أن يحدد الأفضل منزلة بينهم عند الحاكم، فيقول: ((وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضَل عليهم من جِدَتِهِ، بما يسعهم، ويسعُ مَن وراءهم من خُلُوف أهليهم، حتی یکون همهم هَمًّا واحدا في جهاد العدو)) (61). وبعد ذاك يأتي الحديث عن طبيعة العلاقة بين مالك بوصفه حاكما وبين القائد بوصفه مرشحا للقيادة العسكرية ويؤسس لسياسة الجزل عليه، والتعامل معه بعطف وحنو، وتشجيع، وثناء: ((فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك... فانسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلی ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر الحسن أفعالهم تهُزُّ الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله)) (62).

كل تلك الخطوات في سياسة التعامل العسكري تعد بحثا عن هوية النجاح في خلق جيش قوي يحفظ هيبة الدولة التي تأخذ بأسنة الرماح ضد الطامعين بالنيل من وجودها، أو ممن يسعون إلى استصغارها ممن تشبعوا بحب السلطة.

ثم يشرع العهد العلوي ببيان الضرب القانوني، وأثره في تمشية أمور الدولة على تنوع معطياتها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية، ومدی

ص: 504

احتياج تلك القطاعات في الحياة إلى قانون، وسلطة، وقاض يشرعون الأحکام، ويضعون حدودا للجريمة، والتنكيل بالمشروع الإسلامي، فيبرز الخطاب القانوني بجزئيتين مهمتين هما اختيار القاضي، وكيفية التعامل معه.

وقد حدد صفات القاضي الذي يجب اختياره: ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تُمحِکُه الخصوم، ولا يتمادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عَرَفه، ولا تُشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه) (63). ثم يوجه باتباع سياسة العطاء الكبير على القاضي حتى يتمكن من ردع نفسه عن الإغراءات المالية، فضلا عن تقريبه من الحاكم: ((وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيالَ الرجال له عندك)) (64).

وتكتمل هذه الضروب الخطابية بالضرب الاقتصادي، اذ يعد العامل الاقتصادي المفصل المهم في مباحث التحليل النقدي للخطاب؛ لِما له من أثر على المجتمع وتقدمه، وتأخره، لذا يعول عليه الإمام (عليه السلام) في العهد العلوي عبر الإحاطة بتعداد سلبيات، وإيجابيات طريقة جمع المال لخزينة الدولة، فكانت الطرق المعتمدة هي الخَرَاج، المبنية على عمارة الأرض، فهناك علاقة تلازم بينهما، متی ما صلحت الأرض، زاد الخَرَاج، ومتى ما ساءت الارض قل الخَرَاج ((وتفقد أمر الخَرَاج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخَرَاج وأهله. ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخَرَاج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخَرَاج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك

ص: 505

العباد)) (65)، ويجمل عوامل التدهور الاقتصادي المرتكز على إصلاح الأرض، ومنها حدوث الامراض للزروع، أو انقطاع الماء، أو تكاثر المطر، وغرقها ((فإن شکوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق)) (66)، ومن تلك الأسباب التدهور والعوز الذي يمر به أهل الفلاحة ((وانما یؤتی خراب الأرض من إعوازِ أهلها) (67)، فيأمر الإمام بتخفيف الخَرَاج، ومدخول الدولة متى ما حدث ذلك؛ إذ فعله مع توافر الأجواء السلبية، والمحصول القليل يسبب تدنیا حیاتیا، يقول توفيق الفکیکي: ((وصفوة القول فإن الخَرَاج الثقيل يخرب البلاد، وينشر الفساد، ويعرقل الاقتصاد، وينفر العباد)) (68).

وتحتم الظروف الاقتصادية أن يتم جمع المال لخزينة الدولة، وتمشية الأحوال المعيشية للرعية عن طريق مسلكي التجارة، والصناعة، والاهتمام بالتجار، والصنَّاع؛ لذا اقتضى الاهتمام بهم، وعمل الخير معهم: ((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا: المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه،...)) (69).

وهناك مستوى من مستويات الخطاب الاقتصادي قائم على محاربة الامراض التي تحدث في المسار الاقتصادي لاسيما حدوث الاحتكار للبضائع والسلع، وضرورة التخلص منه ((واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتکارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار...)) (70).

والقدر الجامع بين هذه القطاعات الاقتصادية الثلاثة، الزراعة، والتجارة، والصناعة هي طبقة العمال، إذ يستوصیه بهم خيرا، ويشرح حالهم ((فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترَّا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما

ص: 506

من بيت مالك، وقسما من غلَّات صوافي الإسلام)) (71).

ملامسة المرفق الاقتصادي في العهد العلوي نتيجة هوية الحاكم المثالي المتتبع لهذا الضرب، تلك الهُويَّة التي تنادي بشعار النجاح الاقتصادي عبر الملازمة بين الضرائب والإنتاج المحلي، ومحاربة الاحتكار، وعدم محاربته يعد من عيوب ذلك الحاكم الفاقد لهويته الاسلامية اذ يقول فيه الإمام ((وعيب على الولاة)) (72). وكذلك عن طريق إنزال العقوبة بالمحتكرين ((فمن قارف حُكرة بعد نهيك إياه فنکِّل به، وعاقبه في غير إسراف)) (73). واللجوء إلى هذه الكيفية من الصرامة في تحقيق النمو الاقتصادي يعد ممارسة الانصاف للرعية لاسيما اليتيم وكبار السن ((وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة اله)) (74).

ومطالعة العهد العلوي، والتحري عن الضروب الخطابية فيه لا تمل وليس بودك مفارقته؛ والسبب في ذلك التمسك بالنظرية المتقنة التي ينطلق منها الخطاب العلوي في عهده؛ إذ تسير تلك الطبقات الواردة فيه في ضوء الحركة الاجتماعية، أي انعکاس تلك المسائل الجوهرية من تجارة وصناعة وإدارة، وسیاسة على الوجهة الاجتماعية، فمتی ما صلحت الادارة والقضاء، والسياسة، والاقتصاد، صلح المجتمع الذي ينبغي الحفاظ على هويته الاسلامية المنطلقة من العدالة بوصفها مؤدلِجا جوهريا في الخطاب العلوي، وتحقيق الأبعاد العلمية؛ إذ الرقي الاجتماعي والسياسي لا يكون إلا بالتقدم العلمي، وكذلك الاقتصادي والصناعي، وهنا بحث عن دولة متقدمة نامية: ((وأما النظرية المالية والاقتصادية الحديثة فقد اعتبرت مؤازرة الصناعة والتجارة من أهم المرافق لإنهاء الانتاج القومي)) (75).

ص: 507

المحور الثالث: أنماط المعاني النصية:

يقترب مفهوم (نمط المعنى) من مفهوم الوظيفة في اللغة، وتعدد النظر إلى وظائف اللغة في البحث الالسني، بين التعبيرية، والندائية، والمرجعية، والتنبيهية، والشعرية، وما وراء اللغة عند یاکوبسن (76)، والنصية عند دي بو کراند، والثقافية عند الغذامي، والإنجازية عند أوستين، والفكرية، والتبادلية عند هاليداي، ثم هنالك وظائف أخر تضاف من لدن فاکلوف في منهجه النقدي لتحليل الخطاب هي: طرق الفعل، وطرق التمثيل، وطرق الكينونة، إلا أنه يفضل أن يتحدث عن أنماط المعنى التي تقابل تلك الوظائف الثلاثة التي تقابل الوظائف اللغوية في البحث الألسني السابق عليه، ويجري موازنة بين هذه الأنماط والوظائف تلك، فيكون التمثيل مطابقا للوظيفة الفكرية عند هاليداي، والفعال قريبا من الوظفية التبادلية، ثم الوظيفة الكينونة التي تعني تحديد الهوية ليس لها مقابل في المناهج السابقة (77).

ويستلزم في هذا المقام بیان معاني هذه الأنماط:

التمثيل: العلاقة التي يمثلها النص المنتج، أي التي يتحدث عنها المتكلم، فمثلا عند الحديث عن منجزات نظام العراق السابق قبل 2003 ومن ثم الحديث عن منجزات نظام العراق بعد 2003 ستكون تلك العلاقة هي الممثل للخطاب، أي الحديث عن دولتين مختلفتين کليا.

الفعال: أي الكم اللساني (التركيب) الذي ينتجه المتكلم على ممثل ما كأن تكون كمية الاخبار والمعلومات، وابداء الرأي، والوعد، والتهديد، والتحذير، والتوبيخ، والاستهزاء أو غير ذلك.

تحديد الهُويَّة: يقوم مفهوم الهُويَّة على اعتبارات عدة، الأول اعتبار الماهية، والثاني اعتبار الوجود الخارجي، والثالث الاعتبار الشخصي، والرابع باعتبار الاخر المضاد

ص: 508

للأنا، وبذا تكون ((هي الحقيقة الجزئية، حيث قالوا الحقيقة الجزئية تسمى هوية يعني أن الماهية اذا اعتبرت مع التشخص سميت هوية، وقد تستعمل الهُويَّة بمعنى الوجود الخارجي، وقد يراد بها بها التشخص، وقالوا الهُويَّة مأخوذة من الهوهو وهي في مقابلة الغيرية)) (78).

وقد نظر إليها المنهج النقدي لتحليل الخطاب باعتبارین. الأول هو الشخصي، وهذا ما حدد في تعريفها قديما كما رأينا في النص السابق، والآخر الاجتماعي وهو مما يضاف إليها، فيبقى المنهج باحثا عن تحديد تلك الهُويَّة، وصور تجميلها مع لحاظ الفارق بين الهويتين يقول فاکلوف: ((يميز التحليل بين الهوية الاجتماعية والشخصية (أو الهُويَّة الشخصية)؛ إذ هما جانبان مختلفان من الهُويَّة)) (79) . ثم يتحدث عن طبيعة الهُويَّة الاجتماعية: ((يرتبط جزء من هوية المرء الاجتماعية بالظروف الاجتماعية التي يولد فيها، ومرحلة الدمج الاجتماعي الأولى في حياته - جواني الهُويَّة الجنسية على سبيل المثال. ويكتسب المرء لاحقا جزءا آخر من هويته الاجتماعية - على سبيل المثال، الدمج الاجتماعي في (أدوار اجتماعية) كدور السياسي أو المعلم)) (80).

يتجلى التمثيل في عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك عبر مستويين. الأول كلي، والآخر جزئي. يتمثل المستوى الكلي بالعلاقة بين كيانين هما الكائن واللا کائن، الكائن بانتشار حاکم بعيد عن الله وعن الرعية، واللا كائن الذي ينبغي أن يكون ذلك الحاكم العامل بشرع الله، وبأحكام دينه. وهذا ما يشتغل عليه العهد من أوله إلى ختامه.

ويتضح المستوى الجزئي بعلاقة جدلية بين منهجين مختلفين يمکنی ملاحظتهما عبر معول الثنائيات ومنها ثنائية المصادرة والإرجاع، مصادرة

ص: 509

الحياة الرغيدة للرعية من الحاكم غير المتزن بالشريعة الإسلامية، والفاقد لمعايير الإدارة، وإرجاع تلك الحياة المُصادرَة على يد ذلك الحاكم المأمور بالشريعة التي يذكِّر الإمام (عليه السلام) بمعالمها، ومعالم ذلك الحاكم في عهده فيقول: ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه... أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه ..)) (81)، ويشرح ذلك الظرف الذي يمر به الحاكم حين ما يصادف أمرا في دكة الحكم فيأمره بالرجوع إلى تعاليم الله: ((واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور)) (82).

ومن التمثيلات الجزئية الاتزان وعدم الاتزان، الحاكم غير المتزن الذي تؤثر به الخطوب، والمغريات عكس ذلك الذي لايهتز امامها فيوصي الإمام (عليه السلام) الحاكم أن يكون متزنا، له آداب الولاة الحقيقية: ((وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الاطراء... وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك... وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها او التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، ... وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما یُعنی به مما قد وضح للعيون...)) (83) ومنها ثنائية الوجود وعدم الوجود، عدم وجود بعض الحكام المتصفين بتقوى الله، وطاعته، ووجود من يتصف بتلك الصفات التي تحقق سعادة الرعية انطلاقا من الإقرار بأوامر الله تعالى وتطبيقها على الرعية في مدة الحكم: ((أمره بتقوى الله، و ایثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقة إلا مع جحودها واضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه)) (84).

ص: 510

ثم يدعو الإمام إلى التحرك تجاه ثنائية العدل والجور، على أساس محاربة الجور، وتجاوزه، وإرساء ثقافة العدل: ((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل و جور، وأن الناس ينظرون من امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك)) (85).

ومن الأمور التي تحدث بين الرعية والحاكم ثنائية الرحمة والقسوة؛ إذ يتعامل الحكام بقسوة ليس لها نظیر تتجافي مع منطق الإنسانية: ((واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)) (86).

ثم يعرض ما وقع به الحكام من جهة الاختيار الموفق وغير الموفق للمستشار: ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور)) (87). وكذلك اختيار القائد العسكري، والقاضي، وانتخاب الموظفين وهكذا...

ثم ركز الحديث عن ثنائية الهدم والبناء الاقتصادي للبلد، فوضع طريقين اقتصاديين، الأول عدم الاهتمام بالعلاقة بين الضريبة وعمارة الأرض، والآخر الاعتماد على تلازمهما، فسيكون الأوفق، وهو الذي يترتب عليه انضاج البلاد اقتصاديا: ((وتفقد أمر الخَرَاج بما يصلح أهله...ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخَرَاج؛ لا، ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخَرَاج بغیر عمارة أخرب البلاد)) (88). ثم يستمر الحديث بتمثيل البناء الاقتصادي عبر الاهتمام بالتجارة والصناعة، وعدم الاحتکار: ((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا...)) (89).

ذلك التمثيل للأفكار ذات المردود الاجتماعي، ينحصر في ضوء خطين متوازيين

ص: 511

متسابقين في ما بينهما يقع أحدهما أسفل الآخر، وذلك الخط المتسافل هو ما ينعش العيوب الاجتماعية، ويصادر وجود ذلك المجتمع، أما الخط المتعالي أو الأعلى ما ينعش صورة المجتمع، ويتجنب العيوب فيه، ومن ثم يوصله إلى سلم العُلى، وهو الهدف الأساسي من خلق الإنسان، المرتبط بجانب العبادة المتوقفة على تطبيق الشريعة الإسلامية، جاء ذلك التمثيل بلا شك عبر فعال لسانية، كأن تكون جملا أو تراکیب في العهد العلوي هذه الفعال اللسانية تتنوع بين الإخبار، والأمر، والنهي، والتحذير ، وهكذا ما سنقف عليه بأمثلته:

لا انفكاك بين التمثيل والفعال ويلحق بهما الهُويَّة، وتحديدها، فقد مثل جزء من العهد ثنائية الاهتمام بالجند والعسكريين، وعدم الاهتمام بهم، ففي قالب الاهتمام بهم أصدر فعلا لسانیا مبنيا على الإخبار بقوله: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم)) (90). ويستمر بشرح هذا الكلام، وإلقاء الحجة على المتلقي الحاكم إذا نظرنا إلى الخطاب عامة أو مالك إذا نظرنا بخصوصية، ثم يأتي في سياق تمثيل علاقة الحاكم بامته فعلا تحذيريا: ((إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال)) (91). ويتكرر فعل التحذير في مواضع عدة، وبالأداة إياك.

ولأن السياق في العهد سياق تشخیص للعيب، وسياق إقرار للطريقة المثلى في فن القيادة يتكرر فعل النهي لاسيما في تمثيل العلاقة بين البطانة الصالحة والطالحة، فيأتي النهي: ((ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء؛ فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان)) (92).

وكذلك للعلة نفسها يظهر فعل الأمر في مواضع كثر غلبت كل الفعال الأخر، ومنه النظر في امور العال عنده: ((ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا... ثم

ص: 512

اسبغ عليهم الارزاق... ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم...)) (93).

ذلك التمثيل والفعال النصية جاء بغية تحديد الهُويَّة التي يسعى الإمام (عليه السلام) إلى تحقيقها لدى المجتمع ولدى الحاكم بصورة عامة ولدى مالك بصورة خاصة، والحكم على عمومية تلك الهُويَّة لا سيما أن مالكا ممن عرف بالفضل، والتقوى، والحنكة بالسياسة، وعدم احتياجه إلى وصية؛ لانه موضع ثقة عند الإمام (عليه السلام) حتى قال الإمام (عليه السلام) بعد موته: ((رحم الله مالکا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم)) (94).

سعى الإمام إلى تحديد الهُويَّة الإسلامية وعدم التماس ما يضادها لدى الحاكم ولدى المحكوم، فجاء العهد تذكيرا بالله، وتجديدا لتلك الهُويَّة لاسيما وأن الهُويَّة متجددة كل حين، ومتنامية بتنامي المجتمع كما يرى أليكس ميکشيللي في تعريفه لها: ((الهُويَّة ببساطة هي مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة والتي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي، فهي ليست کیانا يعطى دفعة واحدة وإلى الابدانها حقيقة تولد وتنمو وتتكون وتتغير وتشخُّ وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب)) (95).

ويبقى السؤال المهم ما هي تلك الهُويَّة التي أراد الإمام (عليه السلام) تحديدها في عهده إلى مالك؟ يتضح أنها الهُويَّة الشخصية الاسلامية حصرا المندمجة بالهُويَّة الاجتماعية، وهذا ما يريده المنهج النقدي لتحليل الخطاب أي الفاعل الاجتماعي هو الذي يستطيع أن يوظف الأدوار الاجتماعية توظيفا شخصيا ويجعلها مطواعة لها عبر الدمج بين الهويتين (96)، ويتضح تطبيق هذا في كلام الإمام؛ إذ يأمر مالكا بالتقوى والالتزام بأوامر الكتاب والسنة، ثم يأتي أمر لاحق بتفهم المجتمع والتدقيق فيه:

ص: 513

((أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه، ...ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور...)) (97).

ويبدو أن الهُويَّة الاجتماعية لا تتحقق في المجتمع وفي نظر الحاكم إلا بالانعکاس الإسلامي عليها عبر إبراز حاکمية الإسلام في المجتمع، وعالميته كذلك، وإرساء مبدأ العدل، و تشخیص عیوب الحكام.

ولابد من عزل مفهوم الحاكمية لدى الإمام (عليه السلام) عن مفهومها لدى مجموعة من القوم لاسيما في نظر أبي الأعلم المودودي، وتلميذه سید قطب؛ إذ تعني عند سید افراد الحكم لله وحده في مناهج الحياة كافة (98). بينما تكون في نظر الإمام (عليه السلام) ما يشكل مثلثا مهما مكونا من النص والنبوة والإمامة وهذا ما يتضح في قوله لمالك: ((فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك الله ولرسوله ولإمامك)) (99). ويقول جعفر عبد الهادي في كتابه مفاهیم القرآن: ((بحيث يتبين بوضوح أن الحكم والولاية في منطق القران ليس إلا لله تعالى وحده، وأنه لا يحق لأحد أن يحكم العباد دونه، وأنه لا شرعية لحاكمية الآخرين، إلا إذا كانت مستمدة من الولاية والحاكمية الإلهية... إن الله تعالى أمر بطاعة الأنبياء، والأولياء؛ لذا وجبت طاعتهم واتباع أوامرهم والإنقياد لأقوالهم...)) (100).

وتعني الحاكمية في المنهج النقدي لتحليل الخطاب ((كل نشاط في مؤسسة أو تنظیم هدفه تنظيم ممارسة اجتماعية أخرى أو شبكة من الممارسات الاجتماعية أو إدارتها)) (101)، وهو تماما المسعى النبوي والعلوي شريطة اقترانه ب (الإسلامي)، فتدل الحاكمية الإسلامية على أن الإسلام هو الحاكم الوحيد للمجتمع وللفرد ومهمة الخطاب هي الإبحار في سلوك الحاكم ومدى تطبيق القرآن الكريم واتباع أوامر الله، والتذكير باتباع الأخلاق العالية مع الرعية، والعدل والإنصاف، والتذكير بالعمل

ص: 514

الصالح ((فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح) (102). ومن ثَمَّ الائتمان على العباد، والتعامل معهم بعفو ورحمة: ((ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته)) (103).

وتحدد الهُويَّة الإسلامية بالبحث عن عالمية الإسلام عبر انفتاح الحاكم على القرآن والسنة لإدارة مرافق الحياة من جانب الهداية، والعبادات، وأحكام الصلاة والصيام وغير ذلك، ثم صلاحية توظيفه في ميدان الحكم، وجاء هذا في مقتبل عهده ليدل على أنه المشغل الأساس في الحكم ((أمره بتقوى الله واتباع ما أمر به في كتابه)) (104)، ثم الإحالة على أن تطبيق هذا الدين الإسلامي يحقق السعادة الدنيوية التي تقود إلى السعادة الأخروية ((التي لا يسعد أحد إلا باتباعها...)) (105) والتأكيد على أن من تخلى عنها تخلى عن الله، وسلب تلك السعادة، واستبدلها بالشقاء: ((ولا يشقى إلا مع جحودها واضاعتها)) (106).

ثم من مصادیق تلك العالمية التي تحقق الهُويَّة الإسلامية وضع دستور للراعي يرجع إليه في كيفية الصناعة مع الحكم، والمحكوم لكي تقوده تلك الصناعة إلى تحقيق رضا المواطن، ومن ثم يحقق رضا الله تعالى، وليس أدل على ذلك من تطبيق نظرية الإحسان التي سجلها الإمام في العهد: ((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم)) (107). ولا يوجد مثال على الهُويَّة الإسلامية في العهد أجلى من مسألة احتواء الآخر عند الحاكم بغض النظر عن دين ذلك المحكوم أو جنسه بوصفه مواطنا، فعلى الحاكم عدم الالتزام بضيق الأفق، والتخندق تجاه الطبقة الواحدة، التي ترى التعصب، بل الأجدر النظر في اكثر من ذلك الميزان بناء على أن المحكوم إنسان أكثر منه مسلما أو غیر مسلم فجاء النص: ((واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم... فإنهم صنفان أما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق)) (108)

ص: 515

يتضح من سرد ذلك الخطاب الخاص بالحكم تذويب الهُويَّة الشخصية للحاکم، والارتكاز على الهُويَّة الدينية التي تؤمِّن الهُويَّة الاجتماعية، وتحقق العدالة الاجتماعية التي تنادي بالإنصاف، والعدل، لتصل إلى سلم النجاح الذي يؤمن بخلق سلطة إسلامية مهيمنة على الحاكم والمحكوم، ولا تتوفر تلك السلطة إلا بتوجيه سهام النقد الاجتماعي الذي سلكها الإمام في خطابه، نقدا مختصا بالحاكم السابق لمالك الأشتر واللاحق عليه أيضا؛ لأنه وضع مرايا للحكام تدخلهم في دائرة الإنجاز، والفعل الاجتماعي.

المحور الرابع: الصياغات اللسانية: يشتمل التناول اللساني في المنهج النقدي لتحليل الخطاب على مساحة محدودة من الأبعاد اللغوية، ويتجنب الاختلاط بالجزئيات اللغوية على تنوعها، بل ينتقي ما يخدم الطابع الاجتماعي والنقدي فيه، وهذا ما يصرح به من ورث: ((ولم يشتمل التحليل النقدي للخطاب بالضرورة على مجموعة واسعة من الفئات اللغوية في كل تحليل: فقد يتكون لدى الفرد انطباع بأن القليل فقط من الأدوات اللغوية يعد أساسيا بالنسبة لدراسات التحليل النقدي للخطاب. فعلى سبيل المثال فإن الكثير من علماء التحليل النقدي للخطاب يستخدمون بشكل متسق تحليل العامل الاجتماعي عن طريق التركيز على الضمائر والصفات، وكذلك الأسلوب اللفظي، والوقت، والزمن وغالبا ما يتم استخدام التحليل التحويلي لهاليداي والتحليل الحجاجي من قبل علماء اجتماعيين آخرين)) (109).

وسيجري التناول اللغوي في العهد على الآتي:

- الصياغة النحوية.

- العلاقات الدلالية.

ص: 516

- الجنبة الحجاجية.

- الجنبة التداولية / أفعال الكلام.

مع لحاظ التوظيف الاجتماعي لتلك المعطيات، ومدى إضافتها له على أساس دعم قيم مشروع التحليل النقدي للخطاب انطلاقا من الحقيقة التي تری ارتباط اللغة بالمجتمع ارتباطا وثيقا (110).

ولا شك أن تأشير الجزئيات النحوية سيكون بحثا عن الدلالات التي ينطلق من أجلها العهد العلوي، وتنضوي تلك الدلالات في القضايا المجتمعية، والسياسية، والاقتصادية، والعسكرية أو فلنقل في جدائل الخطاب التي أحصيت فيه. ومن تلك الجزئيات جزئية العطف بالحرف الواو بين الجمل في قول الإمام (عليه السلام) ((واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم)) (111). ليدل على تناسق الأفعال في وقت واحد، وفي مفعول واحد هم الرعية، وهذا بدوره يخدم المنظومة الاجتماعية المكونة من الحاكم والمحكوم. وقد يحدث العطف بالأداة (ثم) في مفصل الوصية بالجنود: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمة، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم)) (112)، فتأتي الأداة في سياق التراخي الرابط بين وجود الجنود والاهتمام بالخَرَاج الذي يدر بالقوت عليهم وبالعطايا والمراتب، فكانت الأداة العاطفة محققة تماسكين هما التماسك النصي بحسب اصطلاح لسانیات النص، والتماسك الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم.

وقد حدثت الإحالة في في العهد، ومنها الإحالة بالضمير المنفصل (هو) على لفظ الجلالة في سياق سابق: ((وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته

ص: 517

من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المظطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد)) (113).

وقد اتسمت بعض العناصر النحوية في العهد بالهيمنة، ومنها هيمنة أفعل التفضيل فيه على طوله ومنها تفضيل الشخص المستحق أن يكون قاضيا: ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك... وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم)) (114). فقد رسم الإمام (عليه السلام) طريق الحاكم في اختيار الشخص المتسم بالأفضلية على أقرانه من جهة حكمه بالحقائق والنصوص بعيدا عن الشبهات، وأكثرهم التماسا للحجة، وأقلهم شعورا بالملل، ومتسما بالصبر، وقطع الخصومة مع غيره، ودواعي التفضيل؛ لأن القاضي يعد الطريق الأوحد لإقرار العدل الاجتماعي، والتحقيق الكامل الذي يسعى إليه الإمام (عليه السلام) في فلسفته، وحكمه، وإدارته للدولة، وحرصه على الرعية.

وهنالك حضور كثيف لأفعل التفضيل في العهد العلوي، يحمل في طياته منظورا نقديا، قائما على المفاضلة بين ضربين، الاول صالح، الاخر طالح، ويدعو الامام الى تجنب الطالح منه، والعمل بالصالح، وقد توزع على مساحات متكررة من العهد لاسيما في اختيار الموظف، والقاضي، والقائد، والجندي، والتعامل السليم.

ولكي يحقق الثبوت والتجدد في صفات القائد العسكري لدى الحاكم يختار صيغ المضارع - بوصفها عنصرا مهیمنا - في عهده ليُلِبس بها صفات القائد ذات العلاقة بحياة الأمة، التي تسعى إلى التعامل مع طبقات المجتمع: ((ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، ممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف)) (115).

ولم يقف الأمر عند القائد العسكري، بل سبقه باختيار القائد العام المسلم،

ص: 518

المنتمي لدين الله، ومن تابعي النبي ص، والإمام علي (عليه السلام)، فجاء طريقة انتقائه على أساس السيرة الحسنة، والنسل الطیب کما وصفه الإمام (عليه السلام) بلفظ (البيوتات) الدالة على جمع الجمع لبيت، ليعطيها دلالة استحبابية، أو انتقائية مع تمتعها بطابع الشرف، والحسب، والمكانة اللافتة، فجاء الأسلوب أسلوب أمر بذلك ((ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب، وأهل البيوتات، أي يكرمهم ويجعل معوّله في ذلك عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، وكان يقال: عليكم بذوي الأحساب؛ فإنهم لم يتكرموا استحيوا)) (116).

ويصادفنا المضارع المؤكد بالنون بصورة مهيمنة كذلك في العهد، ويكاد يمتلئ العهد العلوي من أوله إلى آخره بهذا العنصر المهيمن، للتوكيد على تلك المعاني الواردة في الأفعال المؤكدة أشد التوكيد، لا سيما أن التشديد يبعث زيادة المعنى الذي يحمله اللفظ، وقد تزامن مع هذا التوكيد النهي بلا الناهية، ومن الأمثلة على ذلك في موضوع سياسة الدولة مع العدو الخارجي، وتوجيه الإمام (عليه السلام) بالالتزام بالعهود والمواثيق، وطريقة مقاتلة العدو: ((فلا تغدرنَّ بذمتك، ولا تخیسنَّ بعهدك، ولا تختلنَّ عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي)) (117).

ومن تلك المهيمنات النحوية التكرار، ووقفت منه على تكرار الصيغة، وتكرار المفردة، وتكرار العبارة. فيأتي تكرار صيغة الأمر (افعل) بصورة مفرطة ((وأشعر قلبك الرحمة)) (118) وقوله: ((فأعطهم من عفوك وصفحك)) (119) وقوله: ((أنصف الله وأنصف الناس)) (120) وقوله: ((وأرعَ ذمتك بالأمانة)) (121)، ومنه صيغة (تفعَّل) في الفعل (تفقَّد) مصاحبة للفظ أمر أو بصيغة الجمع أمور، في جانب متابعة عمل القائد للأمة بعد اختياره بناء على معايير وضعها له: ((ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما)) (122)، وكذلك أمره بتفقد العمال في الدولة: ((ثم تفقد أعمالهم،

ص: 519

وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء)) (123)، ثم يأتي الفعل في تفقد الخَرَاج: ((وتفقَّد أمر الخَرَاج بما يصلح أهله))، ثم في سياق متابعة التجار، وأهل الصناعات: ((وتفقَّد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك)) (124)، وهكذا مما ينم عن سلطه خطابه تجاه الحاكم بوصفه خريطة عمل اجتماعية أو سياسية، أو اقتصادية. ثم تأتي صيغة المضارع وتكرارها بكثرة كما وضحت في ما سبق من أمثلة.

وبعدها يأتي تكرار لفظ (خاصة) بحسب سياقها مرة دالة على الأهل، ومرة دالة على خاصة الوالي، وهكذا هو ينبه على الاهتمام بها أو الحذر منها: ((أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك)) (125)، وقوله: ((ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة انصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال) (126).

ثم يأتي تكرار العبارة (حسن الظن بالله) مرات عدة، ومنه قوله: ((واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه اليهم... فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا)) (127)، ليضع قاعدة حسن الظن من قواعد التعامل بين الراعي والرعية.

تلك الرعية التي شغلت ممارساته الخطابية الفعلية، والتنظيرية، فقد ذكر الإمام (عليه السلام) الأشتر بأن الجنود هم من يحفظ الرعية، ويزين الولاة، ويعز الدين، فاستعمل صيغة المبالغة (فعول) في قوله: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين)) (128). فحصون مبالغة في الحماية التي يقوم بها الجنود تجاه دولتهم كي يلفت انتباه المتلقي الأشتر أو غيره. كما أشار على الحاكم بالرجوع إلى الله تعالى في كل خطب یلم به عند الملمات العسكرية

ص: 520

مستعملا صيغة المبالغة نفسها في لفظة الخطوب: ((واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ما يشتبه عليك من الأمور)) (129).

وهناك ذكر الصفة والموصوف في العهد حينما يتكلم على التجار، فيصفهم بالضيق الفاحش، والشح القبيح: ((واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة)) (130)، فالإيغال بالصفات الخاصة بالتجار لرسم سياسة الحذر تجاههم، وهذا الحذر بدوره باب من أبواب تمشية أمور الاقتصاد، وتحديدا اقتصاد الطبقة العادية من الناس أو كما يسميهم الإمام (عليه السلام) في آخر نصه (العامة).

شكلت نسبة حضور العامة (الرعية) في خطابة رقما عاليا، ولا أبالغ إذا قلت إن العهد كله أمر بالإحسان إليهم، وكذلك أمر من مغبة الوقوع بحيز ظلمها، وتحذير من سلطتها، كونها الفاضح الأول لسيرة الحكام وهذا ما نلمسه في استعماله الاشتقاقات أو التصريفات للفعل (ستر) لما يوجه الإمام (عليه السلام) بحل المشكلات التي تواجه الحاكم: ((فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك)) (131). فجاء الاشتقاق محملا بدلالة التوالي التي تبدأ بناء على الشرط والجزاء، أو بناء على تبادل الأدوار بين الحاكم والمحكوم، فمتى ما سُتر العامة، سُتِر الحاكم.

ويأخذ الإمام (عليه السلام) بتحذير الحاكم من سفك الدماء، والإيضاح أنه ادعى لنقمة الله، ولزوال نعمته، ويستمر، فيقول: ((ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد،؛ لأن فيه قود البدن)) (132)، فجاء بتركيب المتضايفين: قود البدن بدل من غيره لبلاغته ((والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول

ص: 521

له: فإن فيه القود)) (133).

ثم هنالك العلاقات الدلالية ذات الانعاكسات النصية في صياغة الخطاب الاجتماعي، وقبل المباشرة بأمثلتها في العهد العلوي، يستحسن بيان مدلولها في المنهج النقدي لتحليل الخطاب، فقد يفهم منها ما يتعلق بالمفردة كأن يكون الترادف، أو المشترك اللفظي أو الأضداد في المنظور العام لعلم اللغة. وقد دلت العلاقات الدلالية في منظور فاكلوف على علاقات المعنى بين الكلمات والتعابير الطويلة، أو العبارات الطويلة، أو الجمل، وأحيانا حتى بين أجزاء لنص الكبيرة، فمنها علاقة السببية، والشرط، والإسهاب، والاستدراك (134)، والزمن.

وحاول الإمام (عليه السلام) تعليل بعض السلوكات الاجتماعية في العهد، وبيان الأسباب والنتائج عليه-ا ليكون مأخوذا بالحسبان من لدن الحاكم لاسيما في موضع اختيار المستشار، وبطريقة تقديم النتيجة على السبب ((((ولا تدخلن في مشورتك بخيلا بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والحِرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله)) (135). فجاءت الأداة السببية (إن) الدالة على توكيد الابلاغ الذي يحمله النص بأنه من حبائل سوء الظن بالله.

ولأن العهد رسالة تتضمن تأسيس نظام يدير الكون بطريقة منبثقة من الشريعة الاسلامية حاول الإمام (عليه السلام) يوضح بعض الحقائق على أساس الشرط والجزاء في سياق الحديث عن العدل الاجتماعي، فجاء اسم الشط (مَن) محيلا عاما على كل ظالم في قول الإمام (عليه السلام): ((ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته)) (136). فيستمر الحديث عن إقامة الظلم إلى أن يختم بنسق تذكيري يراد به تجنب الاضطهاد.

ص: 522

وقد زخر العهد العلوي بالإسهاب في عرض بعض أفكاره على أساس علاقات العطف بالواو ليكون أدعى إلى الاستيعاب والعمل به في النظام الاجتماعي، أو في حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم لاسيما في موضوع سفك الدماء والتخلص من هذا الأمر: ((إياك والدماء وسفكها بغير حِلِّها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله)) (137). فأخذ يسهب في تعداد التبعات المترتبة على سفك الدماء؛ إذ إنها مدعاة للنقمة، وحدوث التبعات، وبه زوال النعمة، وانقطاع المدة، وكذلك يسهل في زوال الملك والسلطة.

وكذلك تفرض طبيعة النص أن يلجأ إلى علاقة التباين أو الاستدراك حينما يوجه الإمام (عليه السلام) الحاكم بعدم دفع الصلح مع العدو الخارجي، وتجنب الحروب، وخوضها لأنه يدر على جنوده بالراحة، والدعة، وينعش أمن البلاد، ثم يستدرك: ((ولا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك والله فيه رضا... ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه)) (138).

ويستعمل العلاقة الزمنية الماضية في تذكيره بانجلاء الزمن وانكشاف الأمور، بعد (قليل) ثم يوجب عليه مراجعة الحكومات السابقة العادلة والإفادة مما (مضى): ((وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم... والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها)) (139).

ص: 523

واقتضت الممارسة الخطابية في العهد العلوي استعمال تقنيات البرهنة على بعض الأفكار، ومن تلك التقنيات الروابط الحجاجية في موضع إقرار دخل البلد عن طريق الخَرَاج، وضرورة التعويل عليه فيبدأ بإقناع المتلقي / الحاكم عبر الأداة (لأن): ((وتفقد أمر الخَرَاج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخَرَاج وأهله)) (140).

ومن التقنيات الحجاجية التي أسهمت في خلق العلاقة بين النص وقاعدته التي يتحدث عنها الإمام القرآن الكريم بوصفه حجة يتوخاها الإمام (عليه السلام) في إحداث الإقناع في فرض السلطة الإسلامية على الحاكم والمحكوم فيوجه الحاكم باتباع الشريعة الاسلامية في إدارة الدولة، وإدارة الأزمات أيضا: ((واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»))، فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة» (141).

ويستمر الإمام (عليه السلام) بالنقر على هذا المعول أي معول الأدلجة الإسلامي، والانطلاق منه في الحكم الإسلامي، فكما وجه باتباع القرآن، وجهه باتباع السنة المحمدية وحاول ابداء حجة تتمثل بقول النبي ص في ارجاع حقوق الضعفاء والانتصار لهم، وعدم الانقطاع عن الرعية، فهذه التشكيلة الحجاجية ذات الموضوع، والهدف، والمتلقي احتاج لتعضيدها بحجة نبوية: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من

ص: 524

أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله ص يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع». ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته)) (142).

وتوافر على الخطاب الحجاجي العلوي في العهد تعدد الحجج، وتدرجها، وهذا ما يدرس في اللسانيات الحجاجية في السلم الحجاجي، وبصورة غزيرة بوصفه مهيمنا حجاجيا في صناعة النصوص التي تتعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم التي يفترض أن تقوم على غفران الزلل، والعمل بالعفو، والصفح، وهذه علاقة متبادلة يتمناها المحكوم من الحاكم، ويتمناها الحاكم من الله تعالى، ثم تأتي الحجج بسلمية أولها أن الحاكم الأشتر فوق المحكومين، ثم الإمام (عليه السلام) فوق الحاكم، ثم الله فوق الإمام وهذا منبع الوصية، والاهتمام بتلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم: ((فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولَّاك)) (143).

وفي طور خلق التواصل مع المتلقي على أساس النص الحاوي للقيم اللسانية يحتوي العهد العلوي على بعض القيم التداولية التي يوظفها المنهج النقدي لتحليل الخطاب في البحث عن سلطة الخطاب، وتمرير أنساقه، ومن تلك الحيثيات اللسانية ما يسمى أفعال الكلام، بنوعيها الكلي والجزئي، ويضم الجزئي المعنى المباشر وغير المباشر. مع الجزم أن المعنى المباشر هو الأبرز، والأكثر في العهد مقارنة بغير المباشر، يكاد يشغل مسافة تمثل 80٪ قياسا بغير المباشر، والسبب في ذلك أن العهد العلوي ورقة تأسيسية لنظام حكم ذي منطلق

ص: 525

إسلامي فلا مبرر لاستعمال النسق غير المضمر إلا في الحالات التي تستوجب هذا النسق، فجاء كله أوامر ببعض المحامد، ونواه عن بعض المعايب.

ومن ذلك أمر الإمام (عليه السلام) للحاكم بان يزج نفسه في المسلك الاجتماعي للرعية، لاسيما مراجعة العلماء، ومدارستهم، ومداولة الأمور مع أهل الحكمة للإدرار عليه بالمنافع الروحية، وتعلم استرتيجيات حل العقد الإدارية، والأزمات المجتمعية، فيقول: ((وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك)) (144).

وكذلك الحال مع الخبراء العسكريين، وقواد العسكر يكون تواصله معه عبر الفعل الإنجازي المباشر، بالتشجيع، والمؤازرة، والمتابعة، والثناء عليهم، ((فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم)) (145).

وهنالك الفعل الكلامي غير المباشر في مقطع الاهتمام بطبقات الرعية، فجاء السياق النصي إخبارا عنهم، وعن وظائفهم، وقيمتهم في بناء الدولة، ويحمل هذا الاخبار في طياته الداخلية بعدا انجازيا غير مباشر يقوم على التوجيه، والتوصية، والامر، والنهي وهذا ما ينتجه الإضمار قد لا يتوفر مع الإظهار: ((واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخَرَاج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة)) (146)، ثم يستمر بالحديث عن الجنود: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا

ص: 526

بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخَرَاج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيمها يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم)) (147).

يوظف الإمام (عليه السلام) في خطابه الممتزج بين الاقتصاد، والسياسة، وقضايا المجتمع بعض السياسات اللغوية التي تخدم القصد الخطابي الذي يشتغل عليه وهو صناعة خطاب الحكم الذي يسيِّر الدولة على أساس الهُويَّة العالمية التي ترى الإسلام منهجا ناصعا في فك أزمة الاختلاف بين الحاكم والمحكوم على وفق الرجوع إلى التبر المسبوك بوساطة ماء القرآن، وتطبيقات الرسول، والأئمة الأطهار.

الخاتمة:

في الختام يجدر التنبيه أن العهد العلوي وثيقة متعددة الرؤى، وميزة تلك الرؤى أنها متماسة مع صناعة خطاب اجتماعي يسعى إلى تلمس العيوب التي تحق الهوية الاجتماعية، وتُغلِّب الهُويَّة الشخصية المتعلقة بالتجربة الفردية، وسعى الإمام علي (عليه السلام) إلى تشخيص تلك العيوب لقائد من قادته، وهو مالك الأشتر في مدة كلفه بها لإدارة مصر، هذه المفاهيم المتوافرة عليه انطلق منها المنهج النقدي لتحليل الخطاب على وفق معيار النقد، والتحليل لذلك الخطاب السياسي والاجتماعي بحثا عن مقاصد يتغياها الناقد مقاصد يتغياها الناقد وهي مسألة تمرير العيوب عبر الأنساق اللسانية التي تجلت عبر لحاظين. الأول المفهوم نفسه، أي عدم تغيير في مكوناته اللسانية أو الاجرائية مثل تقنيات الحجاج، والعلاقات الدلالية، والجزئيات النحوية، والافعال الكلامية، والآخر إضافة مفاهيم جديدة لها مثل النص، والخطاب، واللغة، وهكذا ما يميز هذا المنهج جدته، وانفتاحه على المناهج اللسانية كلها.

ص: 527

سعى الإمام (عليه السلام) إلى تغليب الهُويَّة الإسلامية في نظرية الحكم، مستوحاة تلك النظرية من القرآن الكريم، ومن العطاء المجتمعي المحكوم، بعيدا عن الشخصنة، وتحقيق تلك الهوية يكون في ضروب الحياة كافة نحو الادارة، والمجتمع، والاقتصاد، والقضاء، وغير ذلك. يضاف الى تلك الهوية ابراز حاكمية الله تعالى المنطلقة من النص والمُكَمَّلَة بالعطاء النبوي والمد العلوي الإمامي، مع مسير تلك الحاكمية بموازة الأدلجة التي ترى في الإسلام سلطة كبرى على الحاكم والمحكوم

ص: 528

الهوامش:

1. ينظر: علم اللغة العام (سوسير): 19 وما بعدها.

2. ينظر: علم اللغة العام: 24.

3. الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية (د. ميشال زكريا): 12.

4. مقاربة جدلية - علائقية للتحليل النقدي للخطاب في البحث الاجتماعي (نورمان فاكلوف)، بحث منشور في كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب: 340.

5. ينظر: التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية، (روث فوداك وميشيل ماير)، بحث منشور في كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب: 25 - 26.

6. ينظر: مقاربة جدلية - علائقية للتحليل النقدي للخطاب في البحث الاجتماعي: 238.

7. ينظر: التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 25.

8. ينظر: دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية، (تون أ فان دايك) بحث منشور في کتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب: 138.

9. ينظر: دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 138، وينظر: التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 18.

10. مناهج التحليل النقدي للخطاب: 34 - 35.

11. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 18.

12. دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 138.

13. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 20.

14. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 22.

15. ينظر: التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 21.

16. ينظر: دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 140.

17. دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 138 - 139.

18. لجوانب النظرية والمنهجية في التحليل النقدي للخطاب وتحليل التصرفات لدى فوكوه، (سيجفريد ياجر وفلورينتاين ماير)، بحث منشور ضمن كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب: 83.

19. ينظر: الجوانب النظرية والمنهجية في التحليل النقدي للخطاب وتحليل التصرفات لدى فوكوه: 82 - 83.

20. دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 139.

21. ينظر: الجوانب النظرية والمنهجية في التحليل النقدي للخطاب وتحليل التصرفات لدى فوكوه: 85، 105 22. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 60 - 73.

ص: 529

23. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 35 - 36.

24. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 19.

25. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 67 - 69.

26. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 67.

27. المقاربة التاريخية للخطاب، (مارتن زايزيجل وروث فوداك): 184.

28. ينظر: التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 27.

29. المقاربة التاريخية للخطاب: 182 - 183.

30. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية: 27.

31. دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية: 144.

32. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 235.

33. ينظر تلك السمات والهدف في: ينظر: تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 235.

34. نهج البلاغة: 400.

35. نهج البلاغة: 400.

36. نهج البلاغة: 400.

37. نهج البلاغة: 400 - 401.

38. نهج البلاغة: 412 - 413.

39. نهج البلاغة: 415.

40. نهج البلاغة: 416.

41. علي بن أبي طالب سلطة الحق (عزيز السيد جاسم): 290.

42. علي بن أبي طالب سلطة الحق: 292.

43. نهج البلاغة: 401.

44. نهج البلاغة: 401 - 402.

45. نهج البلاغة: 402.

46. نهج البلاغة: 402.

47. نهج البلاغة: 404.

48. نهج البلاغة: 404.

49. علي بن أبي طالب سلطة الحق: 293.

50. نهج البلاغة: 405.

51. نهج البلاغة: 405.

52. نهج البلاغة: 403.

53. نهج البلاغة: 403.

54. نهج البلاغة: 403.

ص: 530

55. نهج البلاغة: 408.

56. نهج البلاغة: 413.

57. نهج البلاغة: 413 - 414.

58. نهج البلاغة: 403.

59. نهج البلاغة: 403.

60. نهج البلاغة: 405 61. نهج البلاغة: 406.

62. نهج البلاغة: 406 - 407.

63. نهج البلاغة: 407.

64. نهج البلاغة: 408.

65. نهج البلاغة: 409.

66. نهج البلاغة: 409.

67. نهج البلاغة: 409.

68. الراعي والرعية: 292.

69. نهج البلاغة: 410 - 411.

70. نهج البلاغة: 411.

71. نهج البلاغة: 411.

72. نهج البلاغة: 411.

73. نهج البلاغة: 411.

74. نهج البلاغة: 412.

75. الراعي والرعية: 320.

76. ينظر: وظائف اللغة عند یاکوبسن، مقال منشور على الشبكة العنكبوتية، 12 مایو 2013م، محمد عبد الودود أبغش، wedoud.blogspot.com 77. ينظر: تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 66 - 67.

78. دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون القاضي عبد النبي الاحمد نکري): 3/ 330.

79. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 314.

80. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 314.

81. نهج البلاغة: 400.

82. نهج البلاغة: 407.

83. نهج البلاغة: 416 - 417.

84. نهج البلاغة: 400.

ص: 531

85. نهج البلاغة: 400.

86 نهج البلاغة: 400.

87. نهج البلاغة: 403.

88. نهج البلاغة: 409.

89. نهج البلاغة: 410.

90. نهج البلاغة: 405 91. نهج البلاغة: 401.

92. نهج البلاغة: 403.

93. نهج البلاغة: 408.

94. شرح نهج البلاغة: 15/ 67.

95. الهُويَّة، (اليكس میکشیللی): 169 - 170.

96. ينظر: تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 414.

97. نهج البلاغة: 400.

98. ينظر: الحاكمية في ظلال القرآن: 16.

99. نهج البلاغة: 405.

100. مفاهيم القرآن: 1/ 10 - 12 نقلا عن الحاكمية في ظلال القرآن: 18.

101. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 76.

102. نهج البلاغة: 400.

103. نهج البلاغة: 401.

104. نهج البلاغة: 400.

105. نهج البلاغة: 400.

106. نهج البلاغة: 400.

107. نهج البلاغة: 411.

108. نهج البلاغة: 400.

109. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية المنهجية: 55.

110. ينظر: فحوص وتوازنات كيف تضيف المدونات اللغوية إلى التحليل النقدي للخطاب، (جيرلند ماونتر)، بحث منشور ضمن کتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب: 263.

111. نهج البلاغة: 400.

112. نهج البلاغة: 405.

113. نهج البلاغة: 402.

114. نهج البلاغة: 407.

115. نهج البلاغة: 405.

ص: 532

116. شرح نهج البلاغة: 9/ 38.

117. نهج البلاغة: 415.

118. نهج البلاغة: 400.

119. نهج البلاغة: 401.

120. نهج البلاغة: 401.

121. نهج البلاغة: 415.

122. نهج البلاغة: 406.

123. نهج البلاغة: 408.

124. نهج البلاغة: 409.

125. نهج البلاغة: 401.

126. نهج البلاغة: 414.

127. نهج البلاغة: 404.

128. نهج البلاغة:

129. نهج البلاغة: 407.

130. نهج البلاغة: 411.

131. نهج البلاغة: 402.

132. نهج البلاغة: 416.

133. شرح نهج البلاغة: 9/ 80.

134. ينظر: تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي: 84 و: 179.

135. نهج البلاغة: 403.

136. نهج البلاغة: 401 - 402.

137. نهج البلاغة: 416.

138. نهج البلاغة: 415.

139. نهج البلاغة: 417.

140. نهج البلاغة: 409.

141. نهج البلاغة: 407.

142. نهج البلاغة: 412.

143. نهج البلاغة: 401.

144. نهج البلاغة: 404.

145. نهج البلاغة: 406.

146. نهج البلاغة: 404.

147. نهج البلاغة: 405.

ص: 533

المصادر:

1. الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية، تأليف الدكتور ميشال زکریا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، د. ط، 1982 م.

2. تحليل الخطاب التحليل النصي في البحث الاجتماعي، تأليف نورمان فاكلوف، ترجمة دكتور طلال وهبه، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت - الحمراء، ط 1 ، 2009 م.

3. التحليل النقدي للخطاب التاريخ والبرنامج والنظرية والمنهجية، تأليف روث فوداك و میشیل مایر، بحث منشور في كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب، تحریر روث فوداك، و میشیل مایر، ترجمة حسام أحمد الفرج وعزة شبل، مراجعة عماد عبد اللطيف، منشورات المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، ط 1، 2014 م.

4. الجوانب النظرية والمنهجية في التحليل النقدي للخطاب وتحليل التصرفات لدى فوکوه، تأليف سيجفريد ياجر وفلورينتاین مایر، بحث منشور ضمن کتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب، تحریر روث فوداك، وميشيل مایر، ترجمة حسام أحمد الفرج وعزة شبل، مراجعة عماد عبد اللطيف، منشورات المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، ط 1، 2014 م.

5. الحاكمية في ظلال القران الكريم، تأليف عبد الحميد عمر عبد الحميد عبد الواحد، رسالة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، 2004 م.

6. دراسات الخطاب النقدي: المقاربة المعرفية الاجتماعية، (تون أفان دايك) بحث منشور في كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب، تحریر روث فوداك، و میشیل مایر، ترجمة حسام أحمد الفرج وعزة شبل، مراجعة عماد عبد اللطيف، منشورات المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، ط 1، 2014 م.

7. دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، تأليف القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نکري، عرب عباراته الفارسية حسن هاني فحص، منشورات دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

ص: 534

8. الراعي والرعية، تأليف توفيق الفكيكي، صحح وضبط متونه سيد إياد الحسيني، منشورات دار الغدیر، مطبعة معراج، ط 1، 1429 ه.

9. شرح نهج البلاغة، تأليف ابن أبي الحديد، مؤسسة الصفاء للمطبوعات، دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت، ط 2، 2012 - 1433 ه.

10. علم اللغة العام، تألیف فردینان دي سوسير، ترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز، ط 2، مطبعة جامعة الموصل، 1988 م.

11. علي بن أبي طالب سلطة الحق، تأليف عزیز السيد جاسم، منشورات دار الشؤون الثقافية العامة، العراق - بغداد، ط 2، 2012 م.

12. فحوص وتوازنات كيف تضيف المدونات اللغوية إلى التحليل النقدي للخطاب، (جيرلند ماونتر)، بحث منشور ضمن کتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب، تحریر روث فوداك، و میشیل مایر، ترجمة حسام أحمد الفرج وعزة شبل، مراجعة عماد عبد اللطيف، منشورات المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، ط 1، 2014 م.

13. مقاربة جدلية - علائقية للتحليل النقدي للخطاب في البحث الاجتماعي، تأليف نورمان فاكلوف، بحث منشور في كتاب مناهج التحليل النقدي للخطاب، تحریر روث فوداك، وميشيل مایر، ترجمة حسام أحمد الفرج وعزة شبل، مراجعة عماد عبد اللطيف، منشورات المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، ط 1، 2014 م.

14. نهج البلاغة. تحقيق محمد عبده، الناشر ذوي القربی، ط 3، 1429 ه، مطبعة ستارة، قم ایران.

15. وظائف اللغة عند پاکوبسن، مقال منشور على الشبكة العنكبوتية، 12 مایو 2013 م، محمد عبد الودود أبغش، Wedoud.blogspot.com 16. الهُويَّة، تأليف أليكس ميکشيللي، ترجمة علي وطغة، دار الوسیم، دمشق، 1993 م.

ص: 535

المحتويات

استراتيجية الحجاج التواصلي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (مقاربة تداولية) المدخل...7 مفهوم الحجاج التواصلي...7 أ- النموذج الوصلي للحُجة:...9 ب- النمُوذج الإيصالي للحُجة:...9 ج- النموذج الاتصالي للحُجة:...9 المحور الأول: الاستراتيجية التضامنية:...11 المحور الثاني: الاستراتيجيِة التوجيهية:...15 أولاً: الأمر...17 ثانياً: النهي...25 الفعل التوجيهي (النهي)...27 الخاتمة:...28 الهوامش:...29 مصادر البحث:...32 أثر المرجعيات الفكرية لشرّاح نهجِ البلاغة في شرحهم (العُهد العلويّ) المقدّمة...37 أولاً: ابن أبي الحديد المعتزليّ:...38 ثانيًا: ابن میثم البحرانيّ:...40

ص: 536

مؤلفاته:...43 ثالثًا: حبیب الله الهاشميّ الخوئيّ:...44 منهج شرّاح نهج البلاغة في الشّرح:...44 أثر المرجعيات الفكريّة للشراح في شرحِهم العهد العلويّ:...46 الخاتمة:...53 التوصيات:...54 الهوامش...55 المصادر...58 الاستبدال وأثره في اتساق النص عهد الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر إنموذجا الملخص...63 المقدمة...64 معايير النص...66 الاتساق...67 مفهوم الاتّساق:...68 وسائل الاتّساق...69 - الاستبدال:...70 المبحث الأول: الاستبدال القولي أو العباري...72 أولاً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة (هذا)...73 ثانياً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة (ذلك)...76 ثالثاً: الاستبدال باستعمال اسم الإشارة أولئك:...79 المبحث الثاني: الاستبدال الاسمي:...81 المبحث الثالث: الاستبدال الفعلي...85 الخاتمة...87 الهوامش...89 قائمة المصادر والمراجع...94

ص: 537

الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر أنموذجا ملخص البحث:...100 المقدمة:...101 التمهيد: الغريب في اللغة والاصطلاح...102 المبحث الأول: الغريب في نهج البلاغة...106 المبحث الثاني: الغريب من الألفاظ والمعاني في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك (رضوان الله علیه):...111 أولا: الأسماء الغريبة في العهد...114 ثانيا: الأفعال الغريبة في العهد...116 المبحث الثالث: الغريب من الاشتقاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك (رضوان الله عليه)...121 أولا: المصادر الغريبة في العهد...121 ثانيا: الجموع الغريبة في العهد...125 ثالثا: المشتقات الغريبة في العهد...126 الخاتمة:...129 ثبت المصادر...130 الهوامش...134 الأمر وأنماطه الفنية في عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر الى المؤتمر المختص ب ((عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر)) المقدمة...143 المبحث الأول: مفهوم مصطلحات البحث اللغوية والاصطلاحية...145 المبحث الثاني: مضامين عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر...147

ص: 538

المبحث الثالث: أسلوب الأمر وصيغه ودلالاته في اللغة العربية...149 المبحث الرابع: أنماط الأمر ودلالاتها في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)...152 الخاتمة...157 هوامش البحث...158 المظان الأساسية للبحث (المصادر والمراجع)...163 الجمهور مركزا للخطاب قراءة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) المقدمة...169 ثانيا: سلطة الجمهور في الخطاب السياسي:...173 المحور الأول: الأسس الأولية لملامح انتاج الخطاب...176 المحور الثاني: تقنيات الاستعمال اللغوي في انتاج الخطاب...180 هوامش البحث...192 الخاتمة...194 المصادر...196 السّبك النصّي في العهد العلويّ الإحالة أنموذجاً مقدمة...199 المبحث الأول: معنى النص...200 المبحث الثاني: معنى السبك...203 المبحث الثالث: معنى الاحالة...205 اقسام الاحالة...206 أولاً / الإحالة بالضَّمائر...205 ومن النظر إلى الجدول السابق يتبيَّن الآتي:...212 ثانياً / الإحالة بأسماء الإشارة...215 ثالثاً / الإحالة بالأسماء الموصولة...219

ص: 539

نتائج البحث...223 هوامش البحث...226 المصادر والمراجع...232 المكونات الإعلامية وأثرها في ابعاد الخطاب دراسة لسانية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه) الملخص...239 المقدمة...240 المبحث الأول: المكونات التركيبية...242 اولاً: الأفعال الاعلانية...242 ثانياً: التراكيب السطحية...243 ثالثا: التراكيب العميقة...248 رابعًا: أبنية المطابقة...251 المبحث الثاني: المكونات التصورية...252 أولاً: المجاز...252 ثانيًا: الكناية...255 ثالثا: التعريض:...255 رابعًا: التشبيه...256 خامساً: البديع...257 خامساً: الايجاز...261 سادسًا: الاطناب...263 الخاتمة...264 الهوامش...265 روافد البحث...269

ص: 540

دلالات توصيل الخطاب بالصيغة الأمرية في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر دراسة في ضوء لسانيات التداول مدخل / التداولية ولسانيات التوصيل...275 کتاب العهد وتداولية الصيغ الامرية...277 تداولية صيغ الأمر المباشرة...279 تداولية صيغ الأمر غير المباشرة...282 1- دلالة الوجوب بالإلزام والتنفيذ...284 2- دلالة المناصحة والإرسترشاد...287 3- دلالة الاختيار والترجيح...290 4- دلالة الجواز والقبول...292 5- دلالة التفويض...295 دلالة الإخبار...297 الخاتمة...299 الهوامش...300 أسلوبية التوازي الصوتي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) - مقاربة تطبيقية - ملخص البحث:...309 مهاد نظري:...309 أنماط التوازي:...312 ثبت المصادر...322 الهوامش...324 اسلوبية الحجاج في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) توطئة:...290 المحور الأول: التعريف بالعهد ومضامينه الموضوعية...330

ص: 541

اولا: المؤلف او المرسل (الامام علي بن ابي طالب عليه السلام)...330 ثانيا: المتلقي النصي (المرسل اليه) وهو مالك الأشتر:...332 ثالثا:مضامين العهد (الرسالة النصية):...333 المحور الثاني: مفهوم الحجاج...336 المحور الثالث:حجاجية التراكيب والاساليب...338 المحور الرابع: حجاجية الصورة...347 قائمة الهوامش والمصادر:...352 مقصدية التواصل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الأشتر (رضي الله عنه) ملخص البحث...359 تمهيد للموضوع وبيان الأهمية:...359 التمهيد...361 التواصل لغةً واصطلاحاً...361 عناصر العملية التواصلية...364 المبحث الأول: مفهوم التواصل بين العرب والغرب...366 المبحث الثاني: دراسة تطبيقية لنظرة التواصل ووظائفها في العهد...371 1- الاقناع و التواصل...371 2- الافهام والتواصل...372 3- الكلام والتواصل...373 4- التواصل واسماء الاشارة والاسماء الموصولة...373 5- التواصل والاسلوب الانشائي...374 6- التواصل والايقاع الصوتي...375 الخاتمة...376 الهوامش...377 قائمة المظان:...383

ص: 542

إستراتيجية الخطاب المتداخل في عهد الإمام علي عليه السلام - لمالك الأشتر - رضي الله عنه - (مقاربة في ضوء المنهج التناصّي التحليلي) المقدمة:...387 المبحث الأوّل: البعد التنظيري في مصطلحات الدراسة ومنهجها المتّبع...389 أوّلا: الخطاب، الإستراتيجية، الخطاب المتداخل - المفهوم والأبعاد:...389 2- الإستراتيجية:...393 3- الخطاب المتداخل:...394 ثانيا: في المنهج المتّبع - أبعاده وآلياته -:...395 المبحث الثاني: البعد الإجرائي: استراتيجيات الخطاب المتداخل مع الخطاب القرآني...398 1- إستراتيجية الاجترار:...398 2- إستراتيجية الامتصاص:...400 خاتمةُ الدراسةِ ونتائجها...404 هوامش الدراسة...405 مصادر الدراسة ومراجعها:...406 ألفاظ طبقات الرَّعية في عهد الامام علي بن ابي طالب علیه السلام - إلى واليه مالك الأشتر رحمه الله - دراسة في اللفظ و التركيب - توطئة:...409 الطبقة:...410 نبدأ بأولى الطبقات وهي 1- الجنود:...414 2- کتاب العامة والخاصة:...419 3- قضاة العدل...422 4- عمال الانصاف والرفق:...425 5- عمال الخراج:...429

ص: 543

6- التجار وذوي الصناعات:...436 7- الطبقي السفلى:...440 الخاتمة:...445 المصادر والمراجع:...446 قال الإمام علي (عليه السلام) ((واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم...)) دراسة تحليلية في ضوء اللسانيات التواصلية المدخل:...451 المحور النظري الإطار التأسيسي:...454 المحور التطبيقي:...458 الخاتمة:...469 هوامش البحث:...471 المصادر والمراجع:...477 عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) دراسة في هدي التحليل النقدي للخطاب دیباجة البحث:...483 المحور الأول: أساسيات المنهج النقدي لتحليل الخطاب:...484 المحور الثاني: ضروب الخطاب:...494 المحور الثالث: انماط المعاني النصية:...508 المحور الرابع: الصياغات اللسانية:...516 الخاتمة:...527 الهوامش:...529 المصادر:...534

ص: 544

المجلد 10

هوية الکتاب

أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول المؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجراف في 10 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

ص: 1

اشارة

39-5-ISBN 978-9933-582 -

9789933582395

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 1215 لسنة 2018 م

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI rda

رقم تصنیف LC:

BP38.02.M8 N5 2018 Mod

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي الوطني المشترك (1 : 2016: كربلاء، العراق).

العنوان: اعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول: نظام الحكم وادارة الدولة في ضوء عهد الامام امير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر رحمه الله /

بيان المسؤولية: الذي اقامته مؤسسة علوم نهج البلاغة، مركز دراسات الكوفة.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي: 10 جزء ببليوجراف في 10 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (386).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة، 141 سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (1).

تبصرة محتويات: المجلد 1، 2: المحور القانوني والسياسي - المجلد 3، 4: المحور الاداري والاقتصادي - المجلد 5: المحور الاجتماعي والنفسي - المجلد 6، 7، 8: المحور الاخلاقي وحقوق الانسان - المجلد 9، 10: المحور اللغوي والادبي.

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة، عهد مالك الاشتر

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في بناء الدولة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في الحكم - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - سياسته وحكومته - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - قضائه - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - نظريته في التعايش السلمي - مؤتمرات.

موضوع شخصي: مالك بن الحارث الاشتر النخعي، توفي 39 للهجرة - نقد وتفسير.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والدولة - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والاقتصاد - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والتعايش السلمي - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - بلاغة - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

اسم هيئة اضافي: مركز دراسات الكوفة (النجف، العراق).

عنوان اضافي: عهد مالك الأشتر.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (1)

أعمال المؤتمر العلمي وطني المشترك الأول لمؤسسة علوم نهج البلاغة ومرکز دراسات الکوفة

لسنة 8341 ه - 6102 م

(المحور اللغوي والأدبي)

الجزء العاشر

اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الاكبر (عليه السلام) هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الالكتروني: www.inahj.org

الايميل: Inahj.org@gmail.com الكتاب: أعمال المؤتمر العلمي الوطني المشترك الأول، نظام الحكم وإدارة الدولة في ضوء عهد الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمة الله)

الجهة الراعية للمؤتمر: الامانة العامة للعتبة الحسنينية المقدسة ورئاسة جامعة الكوفة.

الجهة المقيمة للمؤتمر: مؤسسة علوم نهج البلاغة ومركز دراسات الكوفة.

المدة: أقيم في يومي 24 - 25 من شهر كانون الأول من العام 2016 م الموافق 22 - 24 من شهر ربيع الأول

من العام 1438 ه

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق الوطنية 1215 لسنة 2018 م.

الناشر: العتبة الحسينية المقدسة.

عدد المجلدات 10 مجلد

عدد البحوث المشاركة: 128 بحثاً

الإشراف والمتابعة الفنية: وحدة الاخراج الفني في مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تنويه:

إن الآراء والأفكار الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

مرجعيات الخطاب الإحالية في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة تداولية

اشارة

د. حکیم سلمان السلطاني

الكلية الإسلامية الجامعة في النجف الأشرف

ص: 5

ص: 6

المقدمة

يمثل عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر نصا مفتوحا على فضاءات شتى، فهو مكتنِز المعنى، مكثَّف العبارة، متعدد المضامين؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الإنسانية، وكأنّ صاحبه خَبِر مقاليد الحياة، وتصرف الأحوال. فقد برع فيما تراكم من معرفتنا بالأنظمة، وبذّ أهل اختصاصنا فيما طمحوا إليه بعد نصب وعناء. فجاء مع كل ذلك سهل العبارة منساب المعنى يفصح عن قصد واع ونية صادقة في رعاية العباد وسياسة الأمة.

ولقد شككت للوهلة الأولى وأنا أطالع العهد بأنّه قد يكون من نتاج حضارة القرن الرابع الهجري، ومن روح فكرها الفلسفي والمنطقي، ومن صياغة عقلها المتمدن المتحضر، فقد أبهرني ما به من تقسيمات إدارية، وطبقات اجتماعية، وسياسات اقتصادية، لم نكن نسمع عنها في جزيرة العرب التي شكّل وعي الإمام وصاغت ثقافته.

فجاءت دراستي في البحث عن المرجعيات التي يحيل إليها هذا الخطاب (العهد)، ومعرفة مدى انسجام نسقه اللفظي مع أنساق الثقافة المحيل إليها. من خلال الرجوع إلى زمن التداول، والنسق الثقافي، والنظام المجتمعي.

ص: 7

فتوصّلت إلى سر هذا الخطاب من خلال صياغاته الإحالية التي جاءت متناسبة وفهم الخطاب في مجاله التداولي الذي صدر فيه وأشار إليه، فقد تناسب العهد لمالك الأشتر بولاية مصر وجباية خراجها وعمارة بلادها وطبيعة اقتصادها وطبقات مجتمعها وما أُحيل إليه من سياقات مقامية تتعلق بولاة مصر الإسلامية وحتى ما قبلها؛ من مصر الفرعونية إلى الرومانية فالبيزنطية، وكيفية فتح مصر صلحا أم عنوة، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها، وتعقيدات مجتمعها.

التمهيد: الإحالة في الدراسات اللسانية الحديثة

من المعلوم أنّ لكل نص أو خطاب أدبي إحالة مرجعية وسياقية ومقامية وتداولية، فلا يمكن فهم الملفوظ النصي أو الخطاب باعتباره كلية عضوية متسقة لها مرجعياتها الخاصة القائمة على الفهم المشترك بين المتكلم والمتلقي، إلا إذا راعينا مفهوم الاحالة. ويقصد بها وجود عناصر لغوية لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل وإنها تحيل إلى عنصر آخر؛ ولذا تسمى عناصر محيلة مثل الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة(1).

وقد تحدث هاليداي ورقية حسن، في كتابهما الاتساق في اللغة الإنجليزية 1976 م عن الإحالة كثيرا وذهبا إلى أنّ الإحالة المقامية تسهم في خلق النص؛ لكونها تربط اللغة بسياق المقام، على حين تقوم الإحالة النصية بأثر فعال في اتساق النص(2). فالإحالة المقامية (المرجعية) تعمل على إنتاج النص من خلال تعزيز الفكرة بربطها بسياقها الخارجي المقامي الذي صيغت فيه. فالإحالة من النص وإليه تعمل على انفتاح النص الذي هو سر بقائه.

وإذا كانت الإحالة قدرة الوحدة اللغوية على أن ترجع المتخاطبين (المتكلم والمخاطب) إلى شيء موجود في الواقع هو ما سماه المحدثون «مرجعا» وسماه علماء المعنى في الدراسات اللغوية القديمة «خارجا» فإنّ كل وحدة لغوية تتوافر على الجوانب الآتية:

ص: 8

1. صيغتها اللفظية

2. دلالتها أو معناها

3. مرجعها أو خارجها

والخارج هو الجزء من العالم الذي تحيل عليه الإشارات أي الوحدات الإشارية بوصفها علامات. والملاحظ أنّ هذه الاشارات جزء من العالم وأن عملية التواصل قد تحيل على عملية تواصل أخرى تكون خارجها ومرجعها(3).

وقد لاحظ الدارسون أنّ الوحدات اللغوية لا ترتبط بالخارج على نفس الصورة، فمنها ما يتصل بالخارج اتصالا مباشرا دون وساطة أمر آخر، ومنها ما لا يتم له ذلك إلا بواسطة فلا يتم ارتباطه به إلا بها. ثم ذهبوا إلى التمييز في الضرب الأول بين ما تكون الإشارة به إلى شيء في الواقع مستقل عن عملية التخاطب وما تكون الإشارة به إلى شيء في الواقع لا يكون إلا باعتبار عملية التخاطب. وكان أن أطلق على الضرب الأول من العناصر اسم العناصر الإشارية deictiques، وعلى الضرب الثاني اسم العناصر الإحالية referenciels (4).

وتنقسم الإحالة على قسمين:

1. إحالة نصية: وهي إحالة تقع داخل النص، وتحيل إلى عنصر سابق؛ وفيها يشير العنصر المحيل إلى عنصر آخر سابق عليه. أو تحيل إلى عنصر لاحق؛ وفيها يشير العنصر المحيل إلى عنصر آخر لاحق عليه.

2. إحالة مقامية: وهي إحالة تقع خارج النص، وفيها يحيل عنصر في النص إلى شيء خارج النص یدرکه منتج النص ومتلقيه كلاهما.

ص: 9

ومن خلال التداولية التي لم تعد علما لغويا محضا، ينحصر اهتمامها بالتراكيب اللغوية مجردة عن سياقاتها الاجتماعية، صرنا نحلل النصوص بوصفها رموزا وعلامات تدل على بنى سياسية واجتماعية وثقافية قارة في الواقع الخارجي. ((فالمعنى أصبح لا يعرف البنية اللغوية وحدها كما هو معروف قبل التداولية، بل يعرف من خلال الانفتاح على السياقات التي تستوعب الكلمات والعبارات))(5). وهو ما يندرج من منظور اللسانيات التداولية ضمن إجراءات التسييق العامة Contextualisation، وهي عملية مشتقة من السياق، وتعني: ربط الكلام (الملفوظات) بسياقاتها النصية واللسانية السابقة واللاحقة، وربطها أيضا بملابساتها الاجتماعية الداعية لإجراء الكلام واستخدامه على وجه دون آخر؛ لأنّ اللغة ((ليست حسابا منطقيا دقيقا، لكل كلمة معنى محدد، ولكل جملة معنى محدد، بحيث يمكنك الانتقال من جملة إلى ما يلزم عنها من جمل حسب قواعد الاستدلال المنطقي، لكن الكلمة الواحدة تتعدد معانيها بتعدد استخدامنا لها في الحياة اليومية، وتتعدد معاني الجملة الواحدة حسب السياق الذي تذكر فيه))(6)، ولهذا يصرّح فيرث Firth بأنّ المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة، وهو يرى أنّ الوقت قد حان للتخلي عن البحث في المعنى بوصفه عمليات ذهنية كامنة، والنظر إليه على أنّه ((مركب من العلاقات السياقية، وعليه تكون دراسة المعنى تتطلب على الدوام تحليلا للسياقات والمواقف التي ترد فيها حتى ما كان منها غير لغوي))(7). وبذلك يأخذ السياق مسارا أكثر بعدا مع الدراسات التداولية التي عمّق أصحابها مسألة السياق اعتمادا على تجاوز الإطار اللغوي المحض إلى السياق الاجتماعي والنفسي والثقافي، فالتداولية مثلما حددها (رودلف كارناب) هي اللسانيات وتسعى أساسا للإجابة عن أسئلة المتكلم وعلاقته بالمتلقي، ودراسة اللغة في علاقتها بالعالم الخارجي أي علاقتها بظروف إنتاجها(8).

ويمكن الاستناد في ذلك إلى النظرية السياقية التي اقترنت باسم فيرث. والتي

ص: 10

اقتبسها من الانتربولوجي مالینوفسكي بخاصة في حديثه عن سياق الموقف(9)، إذ عدّ مالینوفسكي اللغة ((متأصلة في حقيقة الثقافة ونظم الحياة والعادات عند كل جماعة، ولا يمكن إيضاح اللغة إلا بالرجوع الدائم إلى المحيط الأوسع، وهو الظروف التي يتم فيها النطق))(10)، وفي هذا الإطار اعترف فيرث أنه مدين لمالينوفسكي بفكرة سياق الحال(11)، ودعا إلى دراسة أبعاد الحديث الكلامي من جميع جوانبه، وذلك بدراسة الخطابات المختلفة من خلال قراءتها في سياقها الحالي والمقامي والثقافي(12). وما هو معروف في الدراسات اللسانية المعاصرة بأنّ اللغة ترتبط ارتباطاً عضوياً بالثقافة بوصفها تراثاً مادياً لشعب من الشعوب. وقد عبّر كثير من علماء اللسانيات عن هذه العلاقة التاريخية الوطيدة، وعلى رأسهم العالم اللساني الفرنسي أنطوان مایه A.meillet (1866 - 1936 م). ومن أبرز ارائه أنّ اللغة ((نتاج اجتماعي أو مؤسسة يرتبط تطورها بمحيطها التاريخي والثقافي والاجتماعي، وتندرج بالنتيجة، بمحيطها هذا وترتبط به ارتباطاً وثيقاً))(13). وإذا كان المستقرئ للنظريات الحديثة يلفي إصرار اللسانيين على اعتبار اللغة ملمحاً من ملامح السياق الاجتماعي، والحضاري، فهذا يعني عدم إمكانية التوصل إلى فهم معطياتها النصية بعيدا عن ظروف تكوينها.

وما يهمنا في هذا البحث هو الإحالة إلى ما هو خارج اللغة؛ مرجعيات الخطاب الخارجية، وهي إحالة عنصر لغوي إحالي على عنصر غير لغوي إشاري موجود في المقام الخارجي؛ كأن يحيل ضمير المتكلم المفرد على ذات صاحبه المتكلم وهو ارتباط عنصر لغوي إحالي بعنصر غير لغوي إشاري هو ذات المتكلم(14). فالإحالة المقامية تعمل على ربط عالم النص بالعالم الأوسع وتدخل فيه ما يبدو بعيدا عنه. مما يؤدي إلى توسيع دلالة النص، والانفتاح على عوالم تكاد تكون مغلقة إلا ببذل الجهد والوسع في إغناء الدلالة ومفصلة المعني.

ص: 11

وعليه فمن خلال الرجوع إلى ما يحيل إليه عهد الإمام علي (عليه السلام) من مرجعيات مقامية سوف نقف على أهم ما تضمنه العهد من إحالات كانت لها الأثر الأبرز في بيان دلالاته ومضامينه من خلال رصد المرجعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العهد.

أولا: مرجعيات الخطاب السياسي

بعد بيان الإمام علي (عليه السلام) للأمر الذي وجّه المالك الأشتر، وهو عهد ولاية مصر وما يترتب على ذلك من جِبَايَةِ خَرَاجِهَا وجِهَادِ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحِ أَهْلِهَا وعِمَارَةِ بِلادِهَا شرع بذكر ما على الحاكم الجديد من استحضار للعمق التاريخي للدول المتوالية على هذه البلاد، بقوله ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّ قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ))(15) وتصنيفه عليه السلام هذه الدول إلى عادلة وجائرة.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام لم يصف تلك الدول السابقة على الحكم الاسلامي بالجائرة كلها، وكأنّ المعيار عنده في البعد السياسي وحكم البلاد هو مقدار ما تقدمه تلك الدول من عدالة إنسانية وإن لم تدين بالدين الإسلامي، أو أنه أراد الإشارة إلى مُلكِ يوسف عليه السلام العادل لمصر في عهد الهكسوس(16). وهي الأسرة الخامسة عشرة من عصر الانتقال الثاني وهو العصر الممتد من نحو 1650 ق. م إلى نحو 1550 ق. م(17). وهي إشارة فيها استحضار لكل الماضي السحيق في حكم بلاد مصر الموجّه إليها مالك الأشتر الحاكم الجديد، أو أنه قصد بخطابه المجتمع المصري الآني الذي عايش الفتح الاسلامي سنة 641 م / 20 ه بولاته:

1. عمر بن العاص، في عهد عمر بن الخطاب من 20 ه - 25 ه / 641 م - 646 م.

2. عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، في عهد الخليفة عثمان بن عفان من 25 ه - 35 ه / 646 م - 656 م.

3. محمد بن أبي حذيفة، في عهد الخليفة عثمان بن عفان من 35 ه - 36 ه / 656 م -

ص: 12

657 م.

4. قیس بن سعد بن عبادة الأنصاري، في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) 36 ه / 657 م.

5. وما قبله من الإمبراطورية البيزنطية من نحو 323 م إلى 641 م. فالروم استعبدوا المصريين أثناء حُكمهم وجعلوا مصر ضيعة للإمبراطور البيزنطي ومن قبله الروماني وعُرفت بمخزن غلال روما. وكان اختلاف عقيدة المصريين عن عقيدة الروم سببًا في اضطهادهم من قِبَل الإمبراطوريَّة، فقد اتخذ البيزنطيّون المذهب الخلقدوني الذي ينص على اتحاد الطبيعتين، الإلهيَّة والبشريَّة، في شخص المسيح، اتحادًا غير قابل للانفصام، مذهبًا رسميًّا للإمبراطوريَّة دون غيره، بينما كان المصريّون يأخذون بالمذهب اللاخلقدوني المونوفيزيتي (اليعقوبي)، وقد حاول الروم فرض مذهبهم على جميع الرعایا، فنفر منهم المسيحيّين اليعاقبة، وتميزت الأحوال في مصر إبان هذه الفترة التي استمرت حتى الفتح العربي لمصر بازدیاد سلطة الكنيسة وبانتصار المسيحية وانتشارها في غالبية السكان، إذ قام هيرقليوس (هرقل) امبراطور بيزنطة بتعيين البطرك كيرس (المقوقس)(18) واليا على مصر وبطريرك على كنيسة الاسكندرية سنة 631 م ضد رغبة الأقباط الذين كانوا يتبعون المذهب اليعقوبي وبدأ في تنفيذ خططه بلا هوادة وفي خلال عشر سنوات غدا من أكثر الولاة البيزنطيين المكروهين في تاريخ مصر. ((واستمر تعرض الأقباط المصريون للاضطهاد والثورات الدموية والمذابح البشعة والتي فاقت تلك التي قام بها الأباطرة الوثنيون، وهرب الرهبان والقساوسة إلى الجبال والأديرة والكهوف هربا من القتل والسجن والاضطهاد.. واستمر ذلك الحال حتى شاء الله أن ينقذ المصريين على أيدي جيوش عمرو بن العاص الذي اقتحم بجيوشه حدود مصر عام 641 م في عهد عمر بن الخطاب، وهلل الرهبان والأساقفة المصريون الهاربون في الصحاري والكهوف واعطاهم

ص: 13

عمرو الأمان))(19). وقام المقوقس بمصالحة عمرو بن العاص على أن يفرض على القبط دینارین دینارین، فبلغ ذلك هرقل فتسخطه أشد التسخط، وبعث الجيوش فأغلقوا الإسكندرية، وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب فقاتلهم وفتح الاسكندرية عنوة قسرا بلا عهد ولا عقد(20). وعليه فمصر فتحت صلحا ما عدا الإسكندرية وثلاث قريات.

ولا نتصور الحكم الإسلامي لمصر كله عدل، فعندما تولي عثمان بن عفان الخلافة من بعد مقتل عمر بن الخطاب عزل عمرو بن العاص، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح(21) على مصر سنة 24 ه. وأن سبب عزل عمرو بن العاص وتولية عبد الله بن أبي سرح، أنّ عمرا طلب من عثمان عزل عبد الله بن سعد عن ولاية صعيد مصر، فرفض عثمان وقام بعزل عمرو وتولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولاية مصر كلها(22).

وقد اختلفت سیاسة عبد الله ابن أبي سرح عن ولاية عمرو بن العاص فقد تشدد في جمع الضرائب وعامل المصريين بقسوة ترتب عليها أن حرض أهل الإسكندرية دولة الروم على غزو مدينتهم. فعاد الروم يحتلون الإسكندرية وبعض مدن الوجه البحري، فبعث المصريون إلى الخليفة عثمان بن عفان يطلبون منه تكليف عمرو بن العاص بقتال الروم البيزنطيين. فاستجاب عثمان وأرسل عمرو بن العاص والياً على الإسكندرية وأمره بقتال الروم، ونجح عمرو في مهمته وطرد الروم سنة 25 ه / 646 م. واستمرت ولاية عبد الله بن سعد حوالي عشر سنوات، حتى قُتل عثمان بن عفان عام 35 ه، وقام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعزل عبد الله وولي قیس بن سعد بن عبادة ولاية مصر.

ص: 14

ويرى الطبري أنه ((لم يكن في وكلاء عثمان، أسوأ من عبد الله بن أبي سرح))(23) والمعروف تاريخيا أنّ هذا السوء المشار إليه، كان سببا رئيسا في حنق الأمة على عثمان بن عفان و سیاسته في توليته لأقاربه على الرغم من اعتراض الأمة عليهم ومنهم صحابة رسول الله(24).

ومن ثم نلاحظ من خلال تفكيك خطاب الإمام (عليه السلام) والبحث عن مرجعياته الخطابية أننا دخلنا في دائرة تأويلية في تحديد المرجع الخارجي المناسب لمراد الإمام في عهده (قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وجَوْرٍ) ومَنْ هذه الدول التي انقلبت وتعاقبت من عدل و جور التي قصدها الإمام في خطابه؟.

ومما جاء في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر فيما ينضوي تحت رؤية المجتمع السياسية للحكم، أو ما يسمى سياسيا بالرأي العام قوله: ((وأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ويَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ)(25)، في هذا النص تذكير الإمام إياه بأنّ الناس سينظرون من أمورك، ويقولون فيك ما کنت تنظر فيه من أمور ولاتك وما كنت تقول فيهم. مما يشير بدلالة واضحة أنّ مالكا كان ذا رأي في ولاته وأنه كان يقول فيهم أقوال قد عرفها الإمام عنه، مما ترتب عليه وجود لغة تواصلية مشتركة بين المتكلم والمرسل إليه ضُمّنت في رسالة العهد أسماها جاكبسون (السنن) وهي عبارة عن نظام ترمیز مشترك كليا أو جزئيا بين المرسل والمتلقي، ويكون نجاح أية عملية إبلاغية معتمدا عليها، بحيث يتمكن المرسل إليه من استقبال الرسالة وتفكيك رموزها بحثا عن القيمة الإخبارية التي شحنت بها. ففعالية الحدث الكلامي، كما يقول جاكبسون ((مرهونة باستخدام شیفرة مشتركة بين المساهمين فيه(26)). ومن تضطلع بكشفها هي الوظيفة المرجعية؛ إحدى وظائف جاكبسون الست، وقد ترجمها بعضهم بالوظيفة المعرفية أو الإيحائية، لكونها تتحدث عن أشياء

ص: 15

وموجودات خارجية وتركز عليها. وما الرسالة سوى رمز لهذه الأشياء وتعبير عنها، فهي توحي بأنها استعاضت عنها وأخذت مكانها أو نابت عنها. فتكون الرسالة بمثابة دليل أو علامة لغوية استعملت في العمليات التخاطبية بوصفها نائبة عن أشياء تتحدث عنها بدل استحضارها داخل السياق الخطابي(27).

وهذا يتوافق مع جعل سوسير العلامة الألسنية متقومة بالدال والمدلول، إذ يقوم الذهن عند حضور الدال من خلال صورته السمعية إلى استحضار مباشر وآلي للمدلول من حيث هو تصور ذهني(28).

وحين نطالع سيرة مالك بن الأشتر نراه كان منافحا عن المظلومين متوعدا الظالمين من الحّكام، فقد اسهم في عزل بعض الولاة المُعيّنين من قِبَل الخلفاء، عبر اعتراضه على سلوكياتهم، مما هيأ الظروف لإنصاف المظلومين والاستجابة لشكاوى المسلمين. ومن جملة ذلك، اعتراضه على جرائم الوليد بن عقبة، مما أدى إلى تنحيته عن ولاية الكوفة. کما اشتكى مالك وبعض الصحابة من ظلم سعید بن العاص، وهو والٍ آخر للكوفة، لكن عثمان کان میالاً بشدة إلى قومه وعشيرته، ولذلك فقد بادر إلى نفي مالکا وعدداً من الأجلاء مثل کمیل بن زیاد و صعصعة بن صوحان و ثابت بن قيس إلى الشام، ثم لمّا لم يستطع معاوية بن أبي سفيان إسكات صوت مالك الصادح بالحقيقة، فقد أُبعِدَ هؤلاء الأكارم بأمر عثمان إلى حمص التي كان يحكمها عبد الرحمن بن خالد وفي نهاية المطاف أثمرت مساعي مالك الشجاعة في خلع سعيد بن العاص أيضا بالقوة عن ولاية الكوفة.

كان مالك من أولئك النفر من الصحابة والتابعين الذين كانوا يكشفون للناس حقيقة الجرائم وأنواع الخيانة التي كانت ترتكب من قبل عثمان وولاته، ما أدى إلى أن ينالوا جزاءهم، وبعد مقتل عثمان، راح مالك الأشتر يدعو الناس بخُطَبِ استدلالية وتصريحات منطقية ومقنعة، إلى مبايعة مولاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ويهيَئ الظروف المناسبة لخلافته.

ص: 16

ثانيا: مرجعيات الخطاب الاقتصادي

لم يختلف الوضع الاقتصادي كثيرا في مصر بانتقالها من الدولة البيزنطية إلى الدولة الاسلامية، فمثلما كانت مصر خزانة للدولة البيزنطية صارت خزانة للعرب، ومثلها كانت مصر تدفع جزية عينية وترسل قمحا إلى القسطنطينية، أصبحت ترسل إلى مقر الخلافة آنذاك وهي المدينة باسم الخراج، ومثلما كان المصريون يدفعون ضريبة الرأس لكونهم خاضعين للروم، أصبحوا يدفعونها في الاسلام بوصفهم ذميين(29).

بيد أننا نلاحظ في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر تركيزه على عمارة الأرض أكثر من استحصال الخراج بل هو يوصيه بالعمارة، وأنها مقدَّمة على الجباية ((ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ لأَنَّ ذَلِكَ لا

يُدْرَكُ إِلا بِالْعِمَرَةِ ومَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَرَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وأَهْلَكَ الْعِبَادَ)(30)، وفي هذا النص مرجعيات مکانية ومقامية، تتطلب معرفة بالبلاد، وطبيعة موقعها، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها.

تقسّم الأرض من المنظور الإسلامي على أربعة أقسام:

1. أرض تم احياؤها من قبل المسلمين، من قبيل إحياء الموات، فهي أرض عشر، للإمام عشرها.

2. أرض المسلمين، فهم أحق بها، وهي أيضا أرض عشر.

3. أرض افتتحت صلحا، فهي على ما صولحوا عليه من خرج معلوم، لا يلزمهم أكثر منه.

4. وأرض أخذت عنوة، فحكمها والنظر فيها للإمام، إن رأى أن يجعلها غنيمة، فيخمسها ويقسمها، كما فعل رسول الله بخيبر، وإن رأى أن يجعلها فيئا بأن تكون موقوفة على المسلمين عامة، کما صنع عمر بالسواد.

ص: 17

وعندما تم لعمرو بن العاص فتح مصر، طالبه العرب بتقسيمها، إلا أنه عندما استطلع رأي عمر بن الخطاب رفض وقال: «ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم». وقد صالح عمرو بن العاص أهلها على جميع من فيها من الرجال من القبط من راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ على دينارين دينارين، فأحصوا لذلك فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف(31).

وهنا يجدر بنا أن نفرّق بين ما نص عليه الإسلام من تحديد قيمة كل من الجزية والخراج تبعا لطاقة الفرد، وبين السياسة التي طبقت بالفعل من قبل الخلفاء أو من قبل الولاة في البلاد التي تولُّوها. فلمّا استبطأ عمر بن الخطاب الخراج من قبل عمرو بن العاص کتب إليه «أما بعد فإني فكّرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت إنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إلى ذلك فإذا أنت تأتيني بمعاريض تغتالها ولا توافق الذي في نفسي ولست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك»(32).

وكان عمرو قد جباها اثني عشر ألف ألف، وجباها المقوقس قبله بسنة عشرين ألف ألف فعند ذلك كتب إليه عمر بن الخطاب بہا کتب، وشدّد في خطابه ليحصل من خراج مصر بمثل ما كان يحصّله الروم والفراعين من قبله.

ص: 18

. ومن خلال مقارنة نصوص هذه المكاتبات بنص العهد يتضح الفارق المضموني بين سیاسة عمر بن الخطاب وما يريده من واليه (عمرو بن العاص)، وبين سياسة الإمام علي (عليه السلام) القائمة أساسا على عمارة الأرض ومطالبة واليه (مالك الأشتر) بأن تكون العمارة أبلغ في نظره من استجلاب الخراج؛ لأنه من وجهة نظر الإمام الاقتصادية أن الخراج لا يطلب إلا بالعمارة.

والسياسة نفسها التي انتهجها عمر بن الخطاب طبّقها عثمان بن عفان، فحينما استعمل عبد الله بن أبي سرح على مصر، كانت جبايتها أربعة عشر ألف ألف، فقال عثمان لعمرو بعدما عزله عن مصر: يا أبا عبد الله درت اللقحة بأكثر من درّها الأول، فقال عمرو: أضررتم بولدها.

والجزية والخراج متشابهتان بأنهما يؤخذان من غير المسلمين، وهما من جملة أموال الفيء ويجيبان بأوقات معينة كل سنة، ولكنها يختلفان بأن الجزية موضوعة على الرؤوس وتسقط بالإسلام، واما الخراج فيوضع على الأرض ولا يسقط(33). والخراج* هو ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، وهو أقدم أنواع الضرائب(34). وهناك من خلط بين المفهومين (الجزية والخراج) ولكن نجد دقة توظيف الامام لمفردة الخراج على ما يؤخذ من الأرض من خلال قرنه لها بعارة الأرض.

ولما كانت زيادة الضرائب ونقصانها مرتبطة بحالة الاقتصاد الزراعي - خاصة - في مصر، فلذلك أشار الامام علي في عهده المالك أن يهتم بعمارة الأرض من خلال حفر الترع وإقامة الجسور وبناء القناطر وغير ذلك مما يلزم للري والزراعة.

ص: 19

ثالثا: مرجعيات الخطاب الاجتماعي

برز في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر مجموعة مكونات نصية كشفت عن معرفة دقيقة بالطبقات الاجتماعية وأنظمتها مثّلت بمجموعها خطابا اجتماعيا على قدر عال من الوعي والدراية بأحوال المجتمع المصري، فبتحديد البعد المرجعي لهذا الخطاب الاجتماعي تتحدد المعاني داخل النص من خلال بربط مكوناته بعناصر المقام الاجتماعي.

وقد حدّد الإمام علي (عليه السلام) في عهده المالك الأشتر طبقات المجتمع، بقوله: ((واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ والْخَاصَّةِ ومِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ومِنْهَا عُمَّلُ الإنْصَافِ والرِّفْقِ ومِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ والْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ومُسْلِمَةِ النَّاسِ ومِنْهَا التُّجَّارُ وأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ والْمَسْكَنَةِ))(35). ونلاحظ في هذا النص أنّ الإمام جعل المجتمع في ثماني طبقات:

1. جنود الله

2. کتاب العامة والخاصة

3. قضاة العدل

4. عمال الإنصاف والرفق

5. أهل الجزية والخراج

6. التجار

7. أهل الصناعات

8. ذوي الحاجة والمسكنة

ص: 20

وكيف بيّن الإمام في العهد أنّ هذه الطبقات (لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا

غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ) فهي قائمة على التكامل والتعاون، ((إذ إن التفاوت الفكري والتفاوت في القدرة نوعية العمل فضلا عن الميول والأهداف الوظيفية المتنوعة بين الطبقات، تؤكد قيام المجتمعات على فئات تتكامل في الانتاج وتتعاون في العمل الوظيفي والتطوير الحضاري، إذ يأخذ كل فرد دوره واختياره الوظيفي في التخصص المهني أو التجاري أو الإداري... وسواها))(36).

وإذا أردنا الوقوف عند هذه الطبقات المجتمعية وما بينها من ترابط و تکامل، بما يلقي ضوءا عليها يتناسب وفهم الخطاب في مجال التداولي المجتمعي الذي صدر فيه. نرى أنّ الإمام بدأ بطبقة الجند، وتعد مصر الفرعونية أوّل دولة نظمت الجند، فقد جندت جیشا من الزنوج والأحباش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد، اخضعت بهم سكان سواحل البحر الأحمر. ثم انتشر أمر التجنيد في الدول القديمة في أشور و بابل وفينيقية واليونان والرومان والإسلام(37).

ويشير الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) إلى وجود قسمين من القوات العسكرية:

القسم الأول ويتمثل في المسترزقة.

القسم الثاني ويتمثل في المتطوعة.

وبالنسبة للقسم الأول وهم المسترزقة، فهم الجنود النظاميون أصحاب الديوان من أهل الفيء والجهاد الذين يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفيء بحسب الغني والحاجة. وهؤلاء موقوفون للجهاد لا يشتغلون بغيره من تجارة أو زراعة أو غيرها، وإن فعلوا تعرضوا للعقاب. يقول ابن عبد الحكم: إن عمر بن الخطاب أمر مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد لإبلاغ الرعية (أن عطاءهم قائم، وأن رزق عيالهم سائل، فلا يزرعون ولا يزارعون).

ص: 21

أما بالنسبة لوقت صرف الرواتب (العطاء) للجند، فيذكر الماوردي: أن وقت العطاء كان معلوما يتوقعه الجيش عند الاستحقاق، وهو معتبر بالوقت الذي تستوفي فيه حقوق بیت المال، فإن كانت تستوفي في وقت واحد من السنة جُعل العطاء في رأس كل سنة، وإن كانت تستوفي في وقتين جعل العطاء في كل سنة مرتين، وإن كانت تستوفي في كل شهر جُعل العطاء في رأس كل شهر ليكون المال مصروفا إليهم عند حصوله، فلا يحبس عنهم إذا اجتمع. وإذا تأخر عنهم العطاء عند استحقاقه، وكان حاصلا في بيت المال، كان لهم المطالبة به کالديون المستحقة.

أما طبقة الكتّاب، فقد كانت منصبا من مناصب الحكومة لا يستغني عنه، ولما فتحت الأمصار وتدونت الدواوين عیّن عمر بن الخطاب كاتبا لكل ولاية يكتب في ديوانها. وكان الكاتب يكتب في أول الأمر لديوان الجند و بیت المال. ثم في عهد الإمام علي كانت الكتابة منحصرة في واحد يضبط حساب الديوان من أعطيات الجند وأسمائهم ويكتب المراسلات، وربما كانا اثنين يتولى الثاني كتابة بیت المال(38).

ومن الطبقات التي ذكرت في نص العهد طبقة (قضاة العدل)، وهم أصناف، فعندما فتح العرب مصر أبقوا على النظام القضائي البيزنطي مع تغيير في التسميات من جانب، وتغيير في الوظيفة من جانب آخر. فكانت هناك أربعة أنواع من المحاكم، هي(39):

النوع الأول: المحاكم العادية.

النوع الثاني: محكمة النظر في المظالم.

النوع الثالث: محاكم أهل الذمة.

النوع الرابع: قضاء الجند.

ص: 22

وعندما فتح العرب مصر، کتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بتولية قيس بن أبي العاص القضاء، فولى القضاء عام 23 ه، ثم مات بعد ثلاثة شهور من توليته، وبعد موته كتب إليه أن يستقضي كعبا بن يسار، وكان ممن قضى في الجاهلية. فأبى، وقال: «قضيت في الجاهلية ولا أعود إليه في الإسلام». فولى عمرو بن العاص عثمان بن قیس بن أبي العاص على القضاء بإذن عمر بن الخطاب، فقد كان بعض القضاة يعينهم الولاة بتفويض من الخليفة(40).

وتذكر الدكتورة سيدة اسماعیل کاشف أن القضاة في مصر كانوا أكثر استقلالا في مناصبهم من الولاة، وهو أمر كان يستدعيه حسن سير العدالة. ففي كثير من الأحيان کان القاضي يشغل منصبه في عهود ولاة مختلفين، وكثيرا ما مات القضاة وهم في مناصبهم. فنجد القاضي سليم بن عتر التجيبي يتولى القضاء عشرين سنة (40 - 60 ه)(41).

وكان القاضي في مصر يعيّن من قبل الوالي أو الأمير، إلى أن جاء بني العباس فجعلوا تولية القضاة إليهم(42).

وبعد طبقة القضاة تأتي طبقة (أهل الجزية والخراج)، ويعد صاحب الجزية والخراج الرجل الثاني في الدولة بعد الوالي من حيث المكانة والأهمية. وقد حرص الخلفاء على جعل عمال الخراج مستقلين عن الولاة، وذلك لإضعاف نفوذهم، مثلما فعل عثمان بن عفان عند توليته عمرو بن العاص على الحرب، وعبد الله بن أبي سرح على الخراج، فرفض عمرو ذلك، وقال قولته المشهورة «إذا أنا کماسك البقرة بقرنها وآخر يحلبها»(43).

ولكن هذه السياسة لم يكن يرتضيها الإمام علي (عليه السلام) ولا هي معروفة عنه، فلم يكن ليرسل واليا وفي نيته استضعافه، خاصة ما لمالك الأشتر من منزلة لديه، وحنكة يُعوّل عليها في حكم مصر.

وتأتي طبقة التجار، وقد كانت طبقة التجار في العصر البيزنطي تتركز بصورة رئيسية في الاسكندرية، وكانت تتكون من اليهود خاصة الذين اشتهروا بمهارتهم التجارية،

ص: 23

ومن الروم والأقباط والسوريين وعناصر أخرى. وقد استمرت طبقة التجار في مزاولتها للتجارة تحت الحكم العربي، بعد أن أضيفت إليها طبقة من التجار العرب الذين استوطنوا مصر(44).

وعندما دخل العرب مصر، عملوا على استغلال الوضع التجاري المزدهر فيها لصالحهم، فساروا على نفس سياسة الدولة البيزنطية وهي سياسة حرية التجارة. وفي ذلك يقول الدكتور علي حسني الخربوطلي: إنّ القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) كان عصر تجارة غير مقيدة في البحر المتوسط. حتى يقول الرحالة الأوربي (آرکولف) الذي زار مصر عام 670 م (حوالي 50 ه): إن الاسكندرية أصبحت ملتقى تجارة العالم كله، وتوافدت عليها أعداد غفيرة من التجار لشراء ما بها من بضائع(45).

وأهل الصناعات، على الرغم من أن وسيلة الانتاج الرئيسة في مصر كانت هي الأرض، وكانت الزراعة هي الحرفة الرئيسة لأهلها، إلا أنه كان من الطبيعي أن تنشأ إلى جانب حرفة الزراعة حرفة أخرى تواجه حاجات المجتمع الأخرى من مصنوعات، وكانت هذه الحرفة هي حرفة الصناعة.

وقد كانت طبقة الصناع في مصر قبل الفتح العربي تتكون من الأقباط، واستمر الأقباط يعملون بالصناعة تحت الحكم العربي أيضا، سواء من بقي على دينه، أو من أسلم منهم، فالعرب لم يعملوا في الصناعات وغيرها من المهن، وإنما كانوا يعنون بالأمور السياسية في الدولة، وحتى بعد أن بدأ العرب في الاختلاط بالأهالي وتملك الأرض والاشتغال بالزراعة، وذلك منذ القرن الثاني الهجري، وسقوطهم من الديوان في عهد المعتصم 218 ه ظل أهل البلاد الأصليين يشكلون طبقة الصناع(46).

وأخيرا ذوو الحاجة والمسكنة، وهم الطبقة السفلى التي على الوالي الترأف بهم ورعاية مصالحهم.

ص: 24

الخاتمة:

1. كشفت الدراسة من خلال البحث عن مرجعيات العهد الخطابية أننا دخلنا في دائرة تأويلية في تحديد المرجع الخارجي المناسب لمراد الإمام في عهده.

2. لفت البحث من خلال الوظيفة المرجعية؛ إحدى وظائف جاكبسون الست إلى وجود لغة تواصلية مشتركة بين المتكلم (الإمام علي عليه السلام) والمرسل إليه (وهو هنا مالك الأشتر) ضُمّنت في رسالة العهد أسماها جاكبسون (السنن) وهي عبارة عن نظام ترمیز مشترك كليا أو جزئيا بين المرسل والمتلقي، بحيث يكون نجاح أية عملية إبلاغية معتمدا عليها.

3. بيّن البحث أنّ تضمّن النص مرجعيات مکانية ومقامية، تتطلب معرفة بالبلاد (مصر)، وطبيعة موقعها، ومقدار خراجها، وكيفية استصلاح أرضها.

4. وجد الدارس دقة في توظيف الإمام المفردة الخراج وهي ما يؤخذ من الأرض من خلال قرنها في العهد بعمارة الأرض. بيد أن هناك من خلط بين مفهومي (الجزية والخراج).

5. برزت في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر مجموعة مكونات نصية كشفت عن معرفة دقيقة بالطبقات الاجتماعية وأنظمتها مثّلت بمجموعها خطابا اجتماعيا على قدر عال من الوعي والدراية بأحوال المجتمع المصري.

ص: 25

الهوامش

1. ظ: لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م، 16 - 19.

2. ظ: م. ن 16 - 17.

3. ظ: أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية ((تأسيس نحو النص))، محمد الشاوش، منشورات كلية الآداب، جامعة منوبة، ط 1، 2001 م، 2 / 960.

4. ظ: م.ن 2 / 963.

5. لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح يوسف، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، 2010، 275.

6. في فلسفة اللغة، محمود فهمي زيدان، دار النهضة العربية، بيروت، (د.ت)، 56 - 57.

7. تحليل الخطاب، براون ويول، ترجمة محمد لطفي الزليطني ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997 م، 6.

8. ظ: السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، علي آيت أوشان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط 1، 2000 م، 16.

9. ظ: علم اللسانيات الحديثة، عبد القادر عبد الجليل، دار الصفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2002 م 65. وظ: علم الدلالة، أحمد مختار عمر، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ط 1، 1982 م، 71.

10. اللغة في المجتمع، م. م لویس، ترجمة تمام حسان، مراجعة إبراهيم أنيس، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه 1959 م، 48.

11. ظ: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، محمود السعران، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992 م، 310.

ص: 26

12. ظ: الخطاب القرآني دراسة في العلاقة بين النص والسياق، خلود العموش، عالم الكتب الحديث، ط 1، 2008 م، 30.

13. الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، میشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1983 م، 280.

14. ظ: النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب - القاهرة، ط 2، 2007 م، 174.

15. نهج البلاغة المختار من كلام أمير المؤمنين لجامعه الشريف الرضي، العتبة العلوية المقدسة، مكتبة الروضة الحيدرية 450.

16. وهم الذين احتضنوا يوسف (عليه السلام) وجعلوه على خزائن الأرض، قال تعالى «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)»، سورة يوسف. وقد كان ليوسف (عليه السلام) بين الهكسوس ما يشبه الوضع الملكي «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ»، يوسف / 101 وقد كان الحكم العدل سارياً بين الهكسوس «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ»، يوسف / 29. كل آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن مدة وجود يوسف عليه السلام في مصر تطلق على حاكم مصر لقب الملك وقال الملك «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ»، يوسف / 43، «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ»، يوسف / 50، «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي»، يوسف / 54، «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ»، یوسف / 72، «مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ»، يوسف / 76، أما في مدة النبي موسى عليه السلام فنجد القرآن الكريم يطلق على حاكم مصر لقب (الفرعون). قال تعالى

ص: 27

«نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، القصص / 3، من خلال هذه الإشارة القرآنية يتضح أن لقب فرعون لم يكن يطلق على الحاكم في زمن النبي يوسف (عليه السلام) وقد أثبت تاريخ مصر القديم أنّ سبب اختلاف اللقب بين هذين الحاكمين في مصر: أنّ النبي يوسف عاش في العهد الملكي القديم / عصر الانتقال الثاني؛ لذا لم يكن اللقب المستعمل عند حكام مصر لقب (فرعون)، بل لقب (الملك)، أما النبي موسى فقد عاش في العهد الملكي الجديد / عصر الدولة الحديثة، الذي بدأ في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وهو العصر الممتد من 1550 إلى 1069 ق.م والذي كان يطلق فيه على الحاكم لقب، (فرعون). ظ: مصر الفرعونية منذ أقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد، أحمد فخري، مكتبة الأسرة، 2012 م، 205.

17. ظ: تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، زکیه یوسف طبوزادة، القاهرة، 2008، 10.

18. الذي وصفه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بعظيم القبط في رسالته له «بسم الله الرحمن الرحیم. من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعوة الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

19. تاريخ وحضارة مصر القديمة، سمير أديب، مكتبة الاسكندرية، 1997 م، 318.

20. ظ: المجتمع في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى العصر الفاطمي، هویدا عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994 م، 1 / 78.

21. وهو عبد اللهّ بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفان من الرّضاع. إرتدّ في عهد

ص: 28

النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وكان من كتّاب الوحي، فلحق بالكفّار، فأهدر النبي دمه، فستره عثمان بن عفان يوم الفتح، مع أن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) كان قد قال في ذلك اليوم: «أربعة لا أومنّهم في حلّ ولا في حرم» وأحدهم ابن أبي سرح، فجاء به إلى النبي، فاستوهبه منه، فعفا عنه. قالوا: وكان رجل من الأنصار قد نذر أن يقتل ابن أبي سرح، إذ رآه إطاعة لأمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، فلمّا وجده عند النبي وكان يأبی أن یبایعه هاب قتله، فقال له النبي (صلى الله عليه واله وسلم): انتظرتك أن توفي نذرك. قال: يا رسول اللهّ هبتك، أفلا أومضت. قال: إنه ليس لنبىّ أنْ يغمز أو يومض. وفي رواية: إنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال لمن حوله: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله.

22. ظ: الكامل في التاريخ، ابن الأثير (630 ه)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1987 م، 3 / 65.

23. تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 310 ه، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط 2، 4 / 255.

24. أخرج ابن عساكر بإسناده عن الزهري قال: ((إنّ عثان لما وليّ، کره ولايته نفر من أصحاب النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، لأنّ عثمان كان يحبّ قومه، فولي الناس اثنتي عشرة سنة، وكان كثيراً ما يولّي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول اللهّ (صلى الله عليه واله وسلم) صحبة، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وكان عثمان يستعتب فيهم، فلا يعزلهم، فلمّا كان في الستّ حجج الأواخر استأثر بني عمه، فولاّهم، وما أشرك معهم، وأمرهم بتقوى اللهّ، ولّى عبد اللهّ بن أبي سرح مصر، فمكث عليها سنين، فجاء أهل مصر یشکونه ويتظلّمون منه، وقد كان قبل ذلك من عثان هنات إلى عبد اللهّ بن مسعود، وأبي ذر، وعمار بن یاسر،

ص: 29

فكانت بنو هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لحال ابن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم قد خنقت على عثمان لحال عمّار بن یاسر. وجاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه كتاباً يتهدده فيه، فأبي ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان من أهل مصر ممن كان أتی عثمان، فقتله. فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في مواقيت الصلاة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة بن عبيد اللهّ فكلّم عثمان بن عفان بكلام شديد، وأرسلت عائشة إليه، فقالت: تقدّم إليك أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلاّ واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلاً، فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي بن أبي طالب، وكان متكلّم القوم، فقال: إنما يسألونك رجلاً مكان رجل، وقد ادعوا قبله دماً، فاعزله عنهم، واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه، فقال لهم: اختاروا رجلاً اُولّيه عليكم مكانه، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقال: استعمل عليه محمد بن أبي بكر، فكتب عهده، وولاّه وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح. فخرج محمد ومن معه، فلمّا كان على مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ما قصّتك؟ وما شأنك؟ هارب أو طالب؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين؛ وجّهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر قال: ليس هذا أريد وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلاً، فأخذه، فجيء به، قال فنظر إليه، فقال: غلام من أنت؟ فأقبل مرّة يقول أنا غلام أمير المؤمنين، ومرّة يقول أنا غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك

ص: 30

کتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتاباً، وكانت معه إداوة قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحرّكوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإدارة، فإذا فيها كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح. فجمع محمد من كان عنده من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان، فاحتل قتلهم، وأبطل كتابه، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي، واحبس من يجيء إليّ يتظلم منك، ليأتيك رأيي في ذلك إن شاء اللهّ، فلما قرؤا الكتاب فزعوا وأزمعوا، فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخوانیم نفر كانوا معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم. وقدموا المدينة، فجمعوا طلحة، والزبير، وعلياً، وسعداً، ومن كان من أصحاب محمد (صلی الله عليه واله وسلم)، ثم فضّوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبروهم بقصّة الغلام، وأقرؤهم الكتاب، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لابن مسعود وأبي ذر وعمّار، حنقاً وغيظاً، وقام أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا وهو مغتمّ لما قرأوا الكتاب، وحاصر الناس عثمان، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم. فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمّار ونفر من أصحاب محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، كلّهم بدري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف باللهّ ما كتبتُ هذا الكتاب، ولا أمر به، ولا علم به. قال له علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف باللهّ ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به، ولا وجّهت هذا الغلام إلى مصر قط، وأما الخطّ فعرفوا أنه خط مروان، وشكوا في أمر عثمان، وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى، وكان مروان عنده في الدار. فخرج أصحاب محمد من عنده غضاباً وشکّوا في أمره، وعلموا أن عثمان لا يحلف

ص: 31

بباطل، إلا أن قوماً قالوا: لن يبرأ عثمان من قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان حتی نبحثه ونعرف حال الكتاب، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب محمد بغير حق، فإن يكن عثمان كتبه عزلناه، وإن يكن مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر مروان، ولزموا بيوتهم، وأبي عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل، وحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف على الناس، فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا، أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ فيسقينا ماء، فبلغ ذلك عليّاً، فبعث إليه بثلاث قرب مملؤة، فيما كادت تصل إليه وجرح في سبها عدّة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، فبلغ عليّاً أن عثمان يراد قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما قتل عثمان فلا، وقال للحسن وللحسين: إذهبا بسیفیکما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدّة من أصحاب محمد أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان)) تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساکر (ت 571 ه)، تحقيق: عمرو بن غرامة العمر وي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م، 39 / 415 - 418.

25. نهج البلاغة 450.

29. نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، د. حسين خمري، ط 1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2007، 265 - 277. وظ: السيميائية وفلسفة اللغة امبرتو ایکو، ترجمة د. أحمد الصمعي، ط 1، المنظمة العربية للترجمة بيروت، 2005 م، 390 - 440.

27. ظ: قضايا أدبية عامة، آفاق جديدة في نظرية الأدب، برنار موراليس، ایمانویل فریس، ترجمة لطيف زيتوني، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 300، 2004 م، 45 - 46.

ص: 32

28. ظ: م. ن.

29. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 115.

30. نهج البلاغة 458.

31. وهذا نص المعاهدة: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان وملتهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم. لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وما عليهم ما جنى لصوتهم فإن أبر أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم. وذمتنا ممن أبي بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع بقدر ذلك. ومن دخل في دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم. ومن أبي واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا عليهم ما عليهم أثلاثاً في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم. على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين. وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأساً وكذا وكذا فرساً على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله و محمد بناة وكتب وردان وحضر. ظ: كتاب الأموال، أبو عبيد القاسم بن السلام، تقدیم ودراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط 1، 1989 م، 62. وظ: تاریخ دمشق، ابن عساکر 2 / 194.

32. ظ: المقريزي 3 / 543 - 544. وفي كتاب آخر «من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطرق وقد علمت إني لست أرضى منك إلا بالحق البين ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفير الخراج وحسن سیاستك فإذا أتاك كتابي هذا

ص: 33

فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعْلَم قوم محصورون والسلام». فكتب إليه عمرو بن العاص بسم الله الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام علیکم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد أتاني کتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الحراج ويزعم أني أَعْنَد عن الحق وأنكب عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن يخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه والسلام.

33. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت لبنان 1 / 220.

* إنّ كلمة الخراج ليست عربية أصلية، وإنما هي نقلت عن اللغة اليونانية عن طريق البيزنطيين، أو هي تعريب الكلمة الآرامية "Choregia" وكانت تعني الضريبة بصفة عامة. غير أنه رأى أن استعارة العرب لهذه الكلمة كانت قبل مجيء الإسلام على اعتبار أنها قد استعملت في القرآن، وتكرر ورودها في الأحاديث، وعلى لسان العرب قبل بدء الفتوح. الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، محمد ضیاء الدين الريس، ط 5، 1985 م، 8.

34. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 1 / 221.

35. نهج البلاغة 454.

36. نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، نعمة دهش فرحان، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد، 2011 م، 150.

37. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 158.

38. ظ: م.ن 1 / 245.

39. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 300.

ص: 34

40. ظ: م. ن 306

41. ظ: مصر في فجر الإسلام من الفتح العربي إلى قيام الدولة الطولونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، 87

42. ظ: تاريخ التمدن الإسلامي 1 / 239.

43. ظ: المجتمع في مصر الاسلامية 249.

44. ظ: م. ن 194.

45. ظ: الحضارة العربية الإسلامية: حضارة السياسة والإدارة والقضاء والحرب والاجتماع والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة والفنون، 1994، 45.

46. ظ: المجتمع في مصر الإسلامية 166.

ص: 35

المصادر والمراجع

1 - أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية ((تأسيس نحو النص)، محمد الشاوش، منشورات كلية الآداب، جامعة منوبة، ط 1، 2001 م.

2 - الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، میشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1983 م.

3 - الأموال، أبو عبيد القاسم بن السلام، تقدیم ودراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، ط 1، 1989 م.

4 - تاریخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571 ه)، تحقيق: عمرو بن غرامة العمر وي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995 م.

5 - تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، منشورات دار مكتبة الحياة، بیروت لبنان.

6 - تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، 310 ه، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، ط 2.

7 - تاريخ مصر القديم من أفول الدولة الوسطى إلى نهاية الأسرات، زکیه یوسف طبوزادة، القاهرة، 2008.

8 - تاريخ وحضارة مصر القديمة، سمير أديب، مكتبة الاسكندرية، 1997.

9 - تحليل الخطاب، براون ويول، ترجمة محمد لطفي الزليطني ومنير التريكي، جامعة الملك سعود، 1997 م.

10 - الحضارة العربية الإسلامية: حضارة السياسة والإدارة والقضاء والحرب والاجتماع والاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة والفنون، 1994.

11 - الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، محمد ضياء الدين الريس، ط 5، 1985 م.

12 - الخطاب القرآني دراسة في العلاقة بين النص والسياق، خلود العموش، عالم الكتب الحديث، ط 1، 2008 م.

ص: 36

13 - السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، علي آيت أوشان، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط 1، 2000 م.

14 - علم الدلالة، احمد مختار عمر، مکتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، ط 1، 1982 م.

15 - علم اللسانيات الحديثة، عبد القادر عبد الجليل، دار الصفاء للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2002 م.

16 - علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، محمود السعران، دار الفكر العربي، القاهرة، 1992 م.

17- في فلسفة اللغة، محمود فهمي زيدان، دار النهضة العربية، بيروت، (د.ت).

18 - قضايا أدبية عامة، آفاق جديدة في نظرية الأدب، برنار مورالیس ایمانویل فریس، ترجمة لطيف زيتوني، عالم المعرفة، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 300، 2004 م.

19 - الكامل في التاريخ، ابن الأثير (630 ه)، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1987 م.

20 - لسانیات الخطاب وأنساق الثقافة، عبد الفتاح يوسف، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، 2010.

21 - لسانیات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، بیروت، 1991 م.

22 - اللغة في المجتمع، م. م لویس، ترجمة تمام حسان، مراجعة إبراهيم أنيس، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه 1959 م.

23 - المجتمع في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى العصر الفاطمي، هویدا عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994.

24 - مصر الفرعونية منذ أقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد، أحمد فخري، مكتبة الأسرة، 2012.

25- مصر في فجر الإسلام من الفتح العربي إلى قيام الدولة الطولونية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994.

ص: 37

26 - النص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمام حسان، عالم الكتب - القاهرة، ط 2، 2007 م.

27 - نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، د. حسين خمري، ط 1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2007.

28 - السيميائية وفلسفة اللغة امبرتو ایکو، ترجمة د. أحمد الصمعي، ط 1، المنظمة العربية للترجمة بيروت، 2005 م.

29 - نهج البلاغة المختار من كلام أمير المؤمنين لجامعه الشريف الرضي، العتبة العلوية المقدسة، مكتبة الروضة الحيدرية.

30 - نهج البلاغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، نعمة دهش فرحان، أطروحة دكتوراه، جامعة بغداد كلية التربية ابن رشد، 2011 م.

ص: 38

أدوات الطلب ودلالتها البلاغية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

الأستاذ الدكتور حسين لفته حافظ

مركز دراسات الكوفة / جامعة الكوفة

ص: 39

ص: 40

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الصادق الأمين وال بيته الطاهرين وبعد....

فقد اختط اهل البيت عليهم السلام منهجا صحيحا للعالم باسره من خلال النصائح التي تركوها للأجيال القادمة والتي اشتملت على مواعظ و حکم وارشادات وتوجيهات تربوية واخلاقية تصلح أن تكون دستورا يسلكه كل من أراد النجاة والسير في الدرب الصحيح ومن تلك المواثيق ما خلّفه لنا الامام علي عليه السلام في عهده المشهور الى مالك الاشتر واليه على مصر، فقد احتوى هذا العهد على صور فريدة من الحكم والنصائح بأسلوب بلاغي فريد، وموضوع دراستنا يركز على أساليب الطلب ودلالتها البلاغية، فقد لاحظت تنوع أساليب الطلب في عهد الامام مرة يأتي الطلب بأسلوب الامر ومرة أخرى يأتي الطلب بأسلوب النهي وهما الأكثر استعمالا من بين الأساليب الأخرى، فضلا عن هذا حاول البحث الوقوف على جماليات الايجاز في العهد وتفنن الامام عليه السلام في عرض أفكاره بطريقه شيقة، كذلك نبه البحث إلى قدرة الامام عليه السلام في التضمين القرآني، حتى لا يشعر القارئ معها بوجود تضمين الا بعد التفحص الدقيق والتمعن وذلك باعتماد أسلوب اللمحة الدالة.

اما عن منهج البحث فقد اتبعت فيه المنهج التحليلي وذلك لغرض فهم طبيعة النص ومعرفة دقائق اسراره، فضلا عن الاستعانة بالدراسات السابقه، من هنا تنوعت مصادر البحث لتشمل كتب التاريخ والبلاغة والسياسة والإدارة وغيرها، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ص: 41

التمهيد

بواعث الابداع في الأسلوب الخطابي عند الامام علي (عليه السلام) شكلت الخطابة عنصرا مهما من عناصر الابداع الفني عند العرب ومنذ العصر الجاهلي وذلك لتأثيرها القوي في نفوس الناس، واستمرت العناية بها مع مجيء الإسلام حتى وجدنا نبي الرحمة يستعمل الخطابة في مناسبات عدة وكذلك عند الإمام علي عليه السلام فنجد أن الخطابة قد أخذت أسلوبا متميزا جديدا واكتسبت معنی اصطلاحيا متكاملا إذ تتمثل لنا ذروة البيان العربي بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عند الامام عليه السلام ولذلك أسباب وعوامل ذاتية وسياسية وتاريخية ونفسية اقترنت بالإمام علي عليه السلام.

أ - العامل الذاتي:

لاشك أن الامام علي عليه السلام كان مؤهلا تأهيلا خاصا ومعدا اعدادا ثقافيا من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وقوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسی)، وقوله: علي أقضاكم(1).

والخطابة تتناول العلم والقضاء والإعداد الإسلامي، وتتناول غير ذلك من مهمات رجل الدولة فيما يذيعه ويبينه لعامة المسلمين في الملمات، أليس هو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني)، وقد أجمع مؤرخو السيرة والسلف الصالح أن هذا القول ما ادعاه أحد غيره إلا فضحه الله وكان ميدان السؤال والإجابة عنه في خطبه مهما طال الجواب أو قصر واحتاج الناس إليه في كل شيء، وعدم احتياجه لهم في أي شيء، دليل على مبلغ علمه وتمرسه، وقد ساقه الخليل بن أحمد الفراهيدي دليلا على امامته، ونحن ننظر إليه من وجهة نظر أدبية فقط ومظنة نشر هذا العلم الذي احتاجه الناس هو المنبر، وذلك ما عودنا على ذلك الإمام، مضافا إلى الرسائل والوصايا والعهود والمواثيق التي أبرمها

ص: 42

بشكلها النهائي. وفي طليعة ذلك عهد مالك الاشتر الذي فصل بنوده القانونية المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي في مجلدين هما (الراعي والرعية).

إن كفاية الإمام الشخصية وإعداده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلاغته التي لا يختلف فيها اثنان حتى عادت بديهية لا يحتاج في إثباتها إلى برهان، كل أولئك جعتله إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين من دون منازع.

ب - العامل السياسي:

إن العزل السياسي الذي تعرض له الامام عليه السلام طيلة ربع قرن منذ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهد خلافته فضلا عن الأحداث التي رافقت حقبة خلافته، وهي أحداث دامية فجرت في نفسه الألم وأججت كوامن الأسى والشجي فعبر عن ذلك بخطبته التي تناولت مختلف الأغراض الإنسانية وفي شتى مجالات المعرفة البشرية.

فالناكثون ومشاكلهم والقاسطون وجرائرهم والمارقون ونوازعهم كل أولئك عوامل سياسية جرت إلى حروب طاحنة كان الأسى يعصر فيها قلب الإمام فينفح عن الأمة من جهة، ويهيئ لرد أعداء الإسلام من جهة أخرى، وما يحتاج ذلك من تحذير وإنذار وترغيب وترهيب وسياسة ودفاع وهجوم وتذكير بالله ودفع إلى الجهاد وإصرار على الحق وثبات على المبدأ.

ج - العامل التاريخي:

نشأ من العامل السياسي أن تفرّق المسلمون شيعا وكتلا وجماعات فلكلّ قائد ولكلّ موجّه، وغاية الإمام العودة بالإسلام إلى أصوله الأولى والاغتراف من مناهجه والتذكير بالله تعالى والاستدلال على عظمته وقدرته والتزام سنن الدين في حين بَعُدَ المسلمون عن ذلك وراقتهم الدنيا بزبارجها، وذلك ما اشار هو عليه السلام إلى ذلك في قوله: (كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول)، ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي

ص: 43

الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (. بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا بأعينهم وراقهم زبر جها).(2)

هذا في وقت قد بَعُدَ الناس تاريخيا عن عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان الزمن قد شکل عاملا جديدا في تفجير طاقة الامام علي عليه السلام.

إذن لم يجد الامام عليه السلام محيصا من استفراغ جميع قدراته البيانية وبذل امکاناته الخطابية كافة من أجل العودة بالناس إلى الدين بشتى الأساليب البلاغية فاستغل جميع الفرص والمناسبات للتذكير والوعظ والارشاد والاحتجاج والرد والمجابهة، ولاسيما أن المسلمين ابتعدوا بمواقعهم عن جوهر الإسلام.

د - العامل النفسي:

كان الامام بطبيعته وتركيبه النفسي مجبولا على الزهد والتقوى والاعراض عن الدنيا ومواساة الفقراء ليكون النموذج الاسمى للحاكم العادل ولا أدل على ذلك من قوله:

(أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا اشاركهم بخشونة العيش أو أكون لهم أسوة على مکاره الدهر ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنه يوم الفزع الأكبر وتثبت على جوانب المزلق).(3)

وكان الامام عليه السلام قد ساق هذه الخطبة في معرض عتاب صحابته له على خشونة عيشه وخشونة لبسه، فكان الرد قولا وعمليا ذا قيم انسانية منبثقة عن تكوينه النفسي غير متكلف فيه مطلقاً؛ لذا بدأ يعظ ويخطب بهذا المستوى البلاغي الرفيع.

ومن هذه الخِلال تطورت الخطابة على يديه فأصبحت فناً متكاملا ذا بال في الأدب العربي الأصيل.

ص: 44

المبحث الأول: أسلوب الامر

الامر في اللغة هو نقيض النهي(4) لان الامر هو طلب فعل الشيء والنهي ترك الفعل، اما اصطلاحا فان الامر هو: صيغة تستدعي الفعل، او قول ينبئ عن استدعاء الفعل على سبيل الاستعلاء(5) ومن الجدير بالذكر ان المطلع على عهد الامام علي عليه السلام يلاحظ كثرة الأوامر الواردة فيه واكثر هذه الأوامر تبدا بصيغة (افعل) ومن الأمثلة على ذلك قوله عليه السلام:

(فاملك هواك و شح بنفسك عما لا يحل لك)(6) وقد عبر الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة عن بلاغة الامام علي عليه السلام وقدرته الفائقة خير تعبير في قوله:

(كان أمير المؤمنين علي مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب - وبکلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق و قصّروا - و تقدم و تأخروا. وأما كلامه فهو البحر الذي لا يُساجل، والجَمُّ الذي لا یُحافَل)(7).

وفي موضع آخر يدلل الامام علي عليه السلام أهمية العمل الصالح وانه افضل من حطام الدنيا في قوله:

(فليكن احب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح)(8)

كذلك نجد في أوامره میلا واضحا الى الحث على إشاعة الرحمة والتراحم بين الناس وهي صفة القائد الناجح الذي يجمع كل صفات القوة والتسامح وهي صفة المرؤة عند العرب وذلك في قوله:

(و اشعر قلبك الرحمة للرعية)(9)

ص: 45

وفي إشارة أخرى من أوامر الامام علي عليه السلام يتحدث فيها عن والعدالة مستعملا أسلوب الامر مباشرة بجمل قصيرة في قوله:

(انصف الله و انصف الناس من نفسك و من خاصة اهلك و من لك هوى فيه من رعيتك فانك ان لا تفعل تظلم)(10)

و تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فان في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم

المبحث الثاني: أسلوب النهي

النهي في اللغة: ضد الأمر، تقول: نَهَيْتُه عن الشيء، أنهاه نهيًا، فانتهى عنه، وتناهى؛ أي: كفَّ، ومنه تَنَاهَوْا عن المنكر؛ أي: نهى بعضهم بعضًا(11)

وأما في الاصطلاح، فهو: (طلب الكفِّ عن فعل، على جهة الاستعلاء)(12)

نحو قول الامام علي عليه السلام:

(و لا تحقرن لطفا تعاهدتهم به و ان قل فانه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك و حسن الظن بك)

ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه مَن كلام من لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً)(13).

ومن الأمثلة الأخرى التي استعمل فيها الامام علي عليه السلام أسلوب النهي في قوله: (و لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا

ص: 46

والآخرة)(14).

نلاحظ هنا ان الامام يعلل أسباب هذا النهي والعلة من ورائه مبينا السبب الحقيقي انه سوف يخلف اثارا تمتد إلى الآخرة ولا تقتصر على الدنيا اذا هو يشدد على السلوك القويم.

ويذكر الشيخ محمد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة، مثل ذلك قائلاً:

(تصفحت بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر - والباطل منكسر.. وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها. وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب کاشرة، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَضَل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى(15).)

ومن الشواهد الأخرى قول الامام عليه السلام:

(ولا تختلن عدوك فانه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي)(16)

امتاز کلام الامام عليه السلام بالانتقاء الشديد للمفردة المناسبة ووضعها في المكان المناسب لها حتى ليصدق عليه القول انه بحرٌ متلاطم التَّيار، متراكمُ الزَّخار، فهُوَ أعظمُ شأناً وأمنعُ جانباً وأجلُ قَدرَا وأبعَدُ قعراً، ضلَّت العُقولُ، وتاهت الحلومُ،

ص: 47

وقَصَرَت الخُطَباءُ، وعجُزَت الأدباءُ وكَلَّت الفُصَحاءُ وعَجُبَت البلغاءُ، وتَحَیُّرَت الحكماءُ، وتصاغَرَت العظماء عن وصف شأنٍ من شأنِه، أو ادراكُ فضيلَة من فضائله(17).

أما النحاةُ ذَکَروا التحذيرَ المفعولَ به لفعلِ الأمر المحذوف أو «المَفعول للمُضارع المحذوف نحو قول الامام علي عليه السلام:

(إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها أو التساقط فيها عند إمكانها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت)(18).

التحذير هنا واضح عن التسرع والعجلة وهي مفاهیم قرآنية اكد عليها القران واستطاع الامام علي أن يوظفها بطريقة مؤثرة.

المبحث الثالث: أسلوب النداء

النداء لغة: هو الدعاء بأي لفظ كأن تنادي على شخص باسمه، أو أن تحدث صوتا يشعر بالنداء، أو أن تصفر، أو أن تشير إلى إنسان فيفهم أنك تناديه فيُقْبِل(19).

اما النداء اصطلاحا: هو طلب الإقبال ب»يا» أو بإحدى أخواتها(20).

ومن الأمثلة على استعمال الامام عليه السلام لهذا الأسلوب قوله:

(ثم اعلم يا مالك إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور)(21).

ص: 48

المبحث الرابع: السمات البلاغية

أولا: الايجاز:

لعل من اهم السمات البلاغية التي يلاحظها المطلع على عهد الامام علي عليه السلام ان الاعم الاغلب من عباراته تمتاز بالايجاز وقد استرعى إيجاز عبارات الإمام علي (عليه السلام) انتباه علماء البيان وكبار الأدباء، وأولهم، (الجاحظ)، إذ علّق على قول الإمام علي (عليه السلام):

«قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنُه» قائلاً:

«فلو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافيةً كافيةً ومجزِئةً مُعفية، بل لوجدناها فاضلةً عن الكفاية، وغير مقصّرة عن الغاية»(22).

ويرتبط (الإيجاز) ب(الحذف) برابطة دلالية، فقد جُبلت (اللغة العربية) على الحذف بسبب ميلها إلى «الإيجاز»(23). والحذف «باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن»(24).

والحذف مما «يمكن ملاحظته في المستوى التركيبي للغة النهج على صعيد واضح(25)».

ثانيا: التوازن التركيبي:

يرى الدكتور زهير زاهد انه إذا اختلف في الإمام المختلفون فهم لا يختلفون في قدرته البلاغية الفائقة التي تبدع الكلام في حينه ومناسبته، إذ هو يلقي كلامه محكما بأسلوب يضيئه المجاز بألوانه، يصدر عن صدقه وإيمانه، وتجاربه التي عرفت الحياة وطبائعها

ص: 49

وخفاياها. فهو امتداد للخطاب النبوي، لذلك كان وعيه عسيراً على الكثير من معاصريه الذين أسرتهم المصالح والعصبيات، فكلامه لا يخطئه من يسمعه أن يشير إليه، بدلالات سیاقية تفتح للسامع آفاق المعاني في التأمل، وألوان المعرفة، فخطابه يمتاز بفنية اللغة وعمق الفكرة والاجتهاد في التوجيه.(26) الامام عليه السلام:

(ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا و لا تولهم محاباة و أثرة فانهما جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدمة فانهم اكرم أخلاقا و اصح أعراضا و اقل في المطامع إشرافا و ابلغ في عواقب الأمور نظرا)(27).

لقد امتاز کلام الإمام وخطبه بخصائص لغوية وبدلالات مقصدية وبنظم ساقية اختص بها، وبذلك كان كلامه دالاً على شخصه فهو امتداد لخصائص الثقافة النبوية، وهنا يتوحد الدال والمدلول كما يتوحد النص ومنتجه فلا نستطيع الفصل بينهما.(28)

وأخيرا إن قارئ عهد الامام علي عليه السلام يجد فيه كل أسباب الفصاحة والبلاغة في تفصيله واجازه وفي تركيبه وأساليبه البلاغية.

ص: 50

قائمة المصادر

1. خير ما نبدا به القرآن الكريم

2. أصول الفقه؛ للخضري محمد الخضري بك, الناشر: المكتبة التجارية الكبرى, سنة النشر: 1389 - 1969

3. البلاغة في نهج البلاغة، الباحث صباح محسن کاظم، منشورات منتدى الكفيل.

4. البيان والتبيين للجاحظ تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، 1998 م.

5. ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي الدكتور طاهر سليمان حموده الناشر: الدار الجامعية الطبعة: طبعة 1998

6. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز، العلوي، تحقيق: عبد الحميد الهنداوي المكتبة العصرية - بيروت.

7. دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد، مكتبة الخانجي، د.ت.

8. عليّ بن أبي طالب سلطة الحق المؤلف: عزيز السيد جاسم, مكان النشر والناشر: بغداد: مؤسسة الزمان; تاريخ النشر: د.ت.

9. عهد الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الى واليه على مصر مالك الاشتر رضوان الله تعالى عليه، اعداد المستشار فليح سوادي، العتبة العلوية المقدسة قسم الشؤون الفكرية الطبعة الأولى 2010 م.

10. المستويات الجمالية في نهج البلاغة، نوفل أبو رغيف دار الشؤون الثقافية الطبعة الأولى 2012 م.

11. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق نعیم زرزور، 1987 م

12. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، الدكتور احمد مطلوب، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، 1987 م

ص: 51

13. المقاصد الحسنة فيها اشتهر على الألسنة، السخاوي تحقيق: محمد عثمان، دار النشر: دار الكتاب العربي، بيروت، 2002 م

14. مقدمة لاعراب نهج البلاغة ومعانيه، الدكتور زهير غازي زاهد، كلية الفرقان الجامعة، بابل.

ص: 52

الهوامش

1 - المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة: 20

2 - شرح نهج البلاغة: 167 والاية 83 من سورة القصص

3 - شرح نهج البلاغة: 243

4 - ينظر لسان العرب مادة (امر).

5 - ينظر: الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز: 281

6 - عهد الامام عليه السلام: 30

7 - الشريف الرضي: نهج البلاغة: 123

8 - عهد الامام علي عليه السلام: 34

9 - عهد الامام علي عليه السلام: 18

10 - عهد الامام علي عليه السلام: 22

11 - ينظر لسان العرب مادة نهی.

12 - ينظر مفتاح العلوم: 86، أصول الفقه؛ للخضري ص (199).

13 - البلاغة في نهج البلاغة: 3

14 - عهد الامام علي عليه السلام: 18

15 - مقدمة شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبدة: 3

16 - عهد الامام عليه السلام: 17

17 - علي بن أبي طالب سلطة الحق: 30

18 - عهد الامام مالك الاشتر: 22

19 - ينظر لسان العرب.

20 - معجم المصطلحات البلاغية: 64 ص: 53

21 - عهد الامام علي عليه السلام: 25

22 - البيان والتبيين: 1 / 83

23 - ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي: 9

24 - دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني: 2 / 362

25 - المستويات الجمالية في نهج البلاغة، ص 157

26 - ينظر مقدمة لاعراب نهج البلاغة ومعانيه: 3

27 - عهد الامام علي: 3

28 - مقدمة لإعراب نهج البلاغة وبيان معانيه: 4

ص: 54

التماسك النصي في رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) (العطف والضمير أنموذجا)

اشارة

د. مهدي عبد الأميرمفتن القطراني كلية الدراسات القرآنية - جامعة بابل

د. راسم أحمد عبيس الجريّاوي

كلية التربية الأساسية-جامعة بابل

ص: 55

ص: 56

ملخص البحث

يُعد مصطلح التماسك النصي من المصطلحات التي ظهرت حديثًا في إطار اللسانيات النصية، ويعبر به عن التماسك الوثيق والتلاحم بين الوحدات والعناصر النصية من خلال الروابط التي تنضوي تحت دائرة التماسك.

والتماسك النصي يعطي أهمية بالغة للنص الأدبي على مستوى الجملة أو الفقرة أو صلة الفقرة بأختها أو النص بأكمله، فالنص لا يستطيع أن يقوم من دون هذه الروابط النصية؛ لذلك يُعد النص مفككًا غير مترابط من دون أدوات التماسك النصى التي تعمل على ربط الأجزاء مع بعضها كي تحقق قفزة نوعية في النص الخطابي بإعطائها نغمة متناسقة ذات أجراس لا متناهية ومتشابكة فيما بينها، والمتلقي أو القارئ بوصفه عنصرًا فعالًا لا يمكن إغفاله في إنتاج النص، فهو يستطيع أن يميز تلاحم العناصر أو الأجزاء عبر الجمل النصية التي كونها الباث وجعل منها نصًا متماسكًا، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي أمرًا ضروريًا مهمًا لا يمكن بناء أي نص من دونه؛ ولذلك قيل إذا لم يكن في النص تماسك فلن يكون من الممكن تسميته نصًا.

ص: 57

سنتحدث في بحثنا هذا عن أداتين من أدوات التماسك النصي هما: العطف والضمير؛ لدورهما الفعّال في الترابط النصي من جهة، ولأهميتهما في نص الإمام علي (عليه السلام) من جهة أخرى، فهما بارزان بشكل واضحٍ وملفتٍ للنظر، والإمام (عليه السلام) يوظفهما بشكل واع ومقصود في العملية الخطابية الأمر الذي جعلنا نخصها بالبحث والدراسة.

تألف البحث من تمهيد نظري عن مفهوم التماسك النصي وأهميته في الدراسات اللسانية الحديثة، ودورة في فهم النص وتماسكه، وجاء المبحث الأول عن ومهاده النظري وتطبيقاته في نص رسالة الإمام علي (عليه السلام)، والمبحث الثاني عن الضمير ومفهومه وتطبيقاته، وقائمة المصادر والمراجع التي استقى منها البحث أفكاره العطف ونصوصه.

وختامًا نرجو من الله سبحانه يجعل عملنا هذا مسددًا خدمة لأهل بيت النبوة، وأن يجعلنا من أتباعهم ومواليهم إلى يوم نلقاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، والأئمة الهداة المهديين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

ص: 58

التمهيد

يُعد مصطلح التماسك النصي من المصطلحات التي ظهرت حديثًا في إطار اللسانيات النصية، ويعبر به عن التماسك الوثيق والتلاحم بين الوحدات والعناصر النصية من خلال الروابط التي تنضوي تحت دائرة التماسك. ولذلك من الصعب أن نحد مفهوم التماسك بحدٍّ معين نظرا لكثرة المصطلحات التي تتداخل معه، ومن هذه المصطلحات: (الاتساق، السبك، الانسجام الحبك، الترابط) وغير ذلك.

وعلى الرغم من هذا التعدد فقد عُرِّف بأنّه: ((العلاقات أو الأدوات الشكليَّة والدلالية التي تُسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية وبين النص والبيئة المحيطة)(1) فضلًا عن أنّه مصطلح ((يعبر عن التماسك الدلالي بين الوحدات اللغوية المكونة للنص الأدبي، سواء أكانت في صورتها الجزئية أم الكلية. وبه يحدث نوع الانسجام الداخلي التام بين وحداته، وتظهر في صورة لحمة واحدة تحمل خصائصها الذاتية والنوعية التي تتميز بها عن غيرها من النصوص))(2).

وهذا كله يعطي أهمية بالغة للنص الأدبي على مستوى الجملة أو الفقرة أو صلة الفقرة بأختها أو النص بأكمله، فالنص لا يستطيع أن يقوم من دون هذه الروابط النصية التي يطلق عليها بأدوات التماسك النصي التي نأخذ بعضها ونقوم بتحليلها، فالتماسك النصي يُعد ((ذو طبيعة دلالية من ناحية، وذو طبيعة خطية شكلية من ناحية أخرى، وأنَّ الطبيعتين تتظافران معًا لتحقيق التماسك الكلي للنص))(3)، وهذا الأمر جعل من التماسك يقوم على وظيفتين، أحدهما: شكلية أو لفظية، والأخرى دلالية أو معنوية عميقة تحتاج إلى كدِّ الذهن لاستنباطها، وهاتان الوظيفتان قد تطرق لهما فاندايك بقوله: ((إنَّ التماسك يتحدد على مستوى الدلالات، حين يتعلق الأمر بالعلاقات القائمة بين التصورات والتطابقات والمقارنات والمشابهات في المجال التصويري، كما يتحدد على

ص: 59

مستوى الإحالة أيضًا، أي ما تحمل إليه الوحدات المادية في متوالية نصية))(4).

ولذلك يُعد النص مفككًا غير مترابط من دون أدوات التماسك النصي التي تعمل على ربط الأجزاء مع بعضها كي تحقق قفزة نوعية في النص الخطابي بإعطائها نغمة متناسقة ذات أجراس لا متناهية ومتشابكة فيما بينها، فالمتلقي أو القارئ بوصفه عنصرًا فعالًا لا يمكن إغفاله في إنتاج النص، فهو يستطيع أن يميز تلاحم العناصر أو الأجزاء عبر الجمل النصية التي كونها الباث وجعل منها نصًا متماسكًا، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي أمرا ضروريًا مهمًا لا يمكن بناء أي نص من دونه فهو يُعد ((الكيفية التي تمكن القارئ من إدراك تدفق المعنى الناتج عن تنظيم النص، ومعها يصبح النص وحدة اتصالية متجانسة))(5)، ومن هنا أصبح تفاعل عميق متبادل بين النص والقارئ؛ لأن المتلقي يسعى جاهدًا لإيجاد التواصل بين الأفكار النصية، واكتشاف التسلسل القائم بين معانيه، فهو غير محفور أو ذائب في النص، بل يعد القارئ الفيصل أو الحكم في اكتشافه من عدمه، وهذا متأتٍ من خلال استيعابه له، ومشاركته في إنتاج معناه، فضلًا عن إضافة أبعاد جمالية جديدة قد لا تكون موجودة فيه من قبل(6).

فمفهوم التاسك يقود المتلقي إلى التفرقة بين النص واللانص؛ لأنَّ النص لم يعد مجرد مجموعة من الجمل وجدت بطريقة اعتباطية، بل هو عبارة عن مجموعة من العلاقات المفهومة التي يستعملها المبدع في كتابة نصه، ويستعملها القارئ في فهم النص الإبداعي(7)، وهذا الأمر عبّر عنه أحد الباحثين بقوله: ((هو وجود علاقة بين أجزاء النص أو جمل النص أو فقراته، لفظية أو معنوية وكلاهما يؤدي دورًا تفسيريًا؛ لأن هذه العلاقة مفيدة في تفسير النص، فالتماسك النصي هو علاقة معنوية بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتمييز النص الذي يحمل مجموعة من الحقائق المتوالية))(8)، ومن هنا أصبح التماسك يقوم بدورٍ مهم في بناء النص ويتطلب جهدًا كبيرًا لكي تتجاذب

ص: 60

عناصره وتتلاقح فيما بينها لكي تحدد بيئتها المترابطة بنسيجها الممتد على طول امتداد النص ليشكل التماسك موقعًا مركزیًا عبر جوهره المتلاحم بالوسائل التي أعطته أهمية في عدم التشتت حتى أصبح الترابط بين العناصر يشكل محورًا بنیویًا يساعد على فهم النص ويخلِّصه من التفكك النصي، وهذا ما يؤكده سمیر شریف بقوله: ((إذا لم يكن في النص تماسك فلن يكون من الممكن تسميته نصًا))(9)، وهذا الأمر جعل من التماسك النصي بنية تركيبية متماسكة ذات وحدة كلية شاملة يستوجب وصفها السير وراء العلامات السيميائية الممتدة أفقيًا، والبحث عن الوسائل المترابطة بينها، فضلاً عن متابعتها القضايا والمعلومات في باطن النص، والتماسك الدلالي وأدواته وإمكانات الربط الداخلي بين الأجزاء الصغرى و تحديد المدى الذي يحتاجه النص من العناصر والوسائل غير اللغوية التحقق له الوحدة والانسجام والتماسك(10). ومن هنا أصبح من الواجب على المبدع أن يراعي في كتابته الإبداعية كل الأدوات والوسائل التي تنضوي تحت دائرة التماسك النصي بوصفه عملاً مهمًا يعمل على الملمة النص وإخراجه بصيغة منمقة عاليو وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا من المبدع لكي يستعمل أدوات الربط النصية في أماكنها الصحيحة ليجعل من نصه نصًا مترابطًا غير مفکكٍ متناثرٍ لأدواته بل مكتوب على وفق صيغ نصية ذكية وجمل مترابطة متماسكة مع بعضها؛ لينتج عبر ذلك نصًا جادًا يمتلك شاعرية عميقة الأفق منتجة لمعاني غائرة في أسلوبها، فضلاً عن متلقٍ يتصف بالإنتاجية والوعي حتى أصبح تحقيق التماسك ((غير ممكن دون كفاءة تتخطى الشخص العادي، كفاءة المفسر الواعي، فهو الذي يبرز خواص أي نظام للتفكير، ويتصف بالدينامية، ويستند إلى أنواع مختلفة من المعارف))(11)، وهذا الأمر جعل من دور القارئ مهمًا منتجًا لتوقعات نصية جديدة عبر تدفقه في بنية النص وتدرجه في القراءة وانطلاقه من بداية صحيحة دالة على الخطاب، وهذه المهمة التماسكية تنطلق من كون التماسك يعد خاصية نحوية للخطاب تعتمد على علاقة كل جملة منه بالأخرى، وهو ما ينشأ غالبًا عن طريق الأدوات التي

ص: 61

تظهر في النص مباشرة كأحرف العطف والوصل والترقيم وغير ذلك(13)، فضلاً عن الضمير والعطف، وهو محور دراستنا وأنموذج اختيارنا، ووجود التماسك النصي في الخطاب ليس اعتباطًا بل عبر وعي عميق لذا لا يمكن لأي نص أن يقوم من دونه حتى تجعل من النص سائرًا على وفق آليات مدروسة متعمقة دالة على معاني مقصودة، ومعنی ذلك أن التماسك ((يعد عاملاً من عوامل استقرار النص ورسوخه، وتكمن أهميته في عدم تشتيت الدلالات الواردة في الجمل المكونة للنص))(13)، وفي نهاية المطاف يعد التماسك النصي علاقة مفتوحة بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريًا لتفسير النص الذي يحمل مجموعة من الحقائق المتوالية، فإن توالي الجمل سوف يشير إلى مجموعة من الحقائق وعلى نحو النص أن يبحث ليكشف عن تلك العلاقة المعنوية بين مجموع هذه الحقائق أو الأدوات. هذه العلاقة المعنوية تأتي غالبًا عن طريق الأدوات في ظاهر النص(14).

وفي ضوء ما تقدم كله نستنتج بأن التماسك النصي يعد أعم وأشمل المصطلحات بوصفه مصطلحًا يتناسب والروابط المتمركزة تحته.

ص: 62

المبحث الأول: العطف

يُعد العطف من أهم الأدوات التي تحقق التماسك النصي فمن دونه يبقى النص مفککًا لا فائدة منه؛ لأنه ينجز عبر ((وسائل متنوعة، تسمح بالإشارة إلى مجموعة المتواليات السطحية، بعضها ببعض، بطريقة تسمح بالإشارة إلى هذه المتواليات النصية))(15)، ولهذا التماسك الشديد الذي يحدثه العطف يبقى وجوده في النص بارزًا غير منفصلٍ يحتوي على علاقات قائمة مع بعضها، ويزيد من ديمومة النص عبر العلاقة المنجزة بين المتلقي وصاحب النص، فهو يعد بمثابة ((الربط بين حدثين يكون أولاً بالشكل ثم ينعكس هذا الربط الشكلي على محتواه الدلالي، والعطف باعتباره رابطة شكلية من روابط النص المختلفة يساهم في التحام أجزاء الكلام المبعثرة ويعطي لها تماسکًا شكليًا يؤدي إلى تماسكها دلاليًا))(16).

إذ أن الصلة بين المعطوف والمعطوف عليه تجعل منهما شيئًا متماسکًا تربط بين أجزائه أدوات شكلية، أي أدوات العطف وروابط دلالي ناتج عن المعنى والمضمون، فتنكمش هذه العلاقات ممن جزء إلى آخر حتى يكون النص كالمفردة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني شديدة الترابط عميقة الانتظام(17). ومن هذا الانتظام والاتساق الشديد الذي يؤديهما العطف يصبح وجوده في النص مهمًا ذا جوهر رائق يقوم بوظيفة الارتباط النصي عبر علاقات إرسالية وعلامات شكلية توحي به، ومن هنا نعده بأنه السند الرئيس الذي يقوم عليه النص ليؤسس دلالة ملفوظية ذات بناء متوازي يكشف عن البني الموجودة في الخطاب، لينتج عبر ذلك كله نظامًا محوريًا ثابتًا يدور بوساطته النص ليجسد موضوعاته في سلسلة من الاحداث المتتالية ليساهم بدوره في عملية تماسك النص من خلال أدواته المتقاربة، وهذه الأهمية المتحققة في النص أتت عبر العطف؛ لأن العطف يعد وسيلة لتماسك النص ويفرق عن الإحالة؛ لأنه لا يتضمن إشارة موجهة إلى سابق، وإنما

ص: 63

يحتاج إلى جزئیات رابطة متنوعة تصل بين أجزاء النص، الذي هو عبارة عن تراکیب أو متابعات متعاقبة خطيّا(18)، حتى يجعل من النص بأكمله متماسکًا ذا بنية متكاملة کالجملة الواحدة متناسقة فيما بينها. وهذا الأمر جعل من العطف وسيلة لفظية معينة تعمل على إبراز العلاقات النحوية السياقية فضلاً عن الربط الذي يحتل المكان الأوسط والمهم بين علاقتين على طرفي نقيض وهما: الاتصال والانفصال، وهو بهذا يؤدي وظيفة التركيبية المهمة في بناء الجملة والنص(19). فضلا عن أنّ العطف أصبح يقوم بتوليد علاقات دلالية أفقية على مستوى الجملة، وعلاقات دلالية رأسية بين الفقرات في بنية النص، فضلا عن أنه يربط بين الجمل على المستوى الخطي، فأدوات العطف تجعل من المتوالية الجملية مسارًا خطیًا متماسکًا(20)؛ ولذلك أصبح دور العطف الربط بين الكلمة والأخرى أو ربط الفقرات مع بعضها أو التركيب الجملي کي يؤسس عبر ذلك كله بناءً كليًا للنص متحققًا عبر المستويات كلها، لذا كلما ازدادت أدوات العطف تكثف وتبرز التماسك بين جزئیات النص وجمله، ليخرج في النهاية نصًا محكمًا متماسکًا(21)، وفي ضوء ذلك نجد الإمام علي (عليه السلام) يستعمل أدوات العطف استعمالاً خاصًا مقصودًا ليبني بواسطته نصه، ولیدل عِبرها على معنى خاص لكلّ واحدة منها.

فأداة العطف (الواو) تستعمل المطلق الجمع أو العطف، و (الفاء) تستعمل للعطف والتعقيب لتدل على قصر المدة والتعقيب، و (ثم) تستعمل للعطف مع وجود فاصل زمني بين الحديث كبير، فتدل على التراخي أو المهلة الزمنية(22)، وهذا ما سنعرضه ونقوم بتحليله في نص الإمام (عليه السلام). فحرف الواو - على سبيل التمثيل - ما هو إلّا أداة ربط بين طرفين لو سقط جدلاً من النص لاستقلت كل جملة لوحدها ولادت معنی دلاليًا مستقلاً عن الأخرى، وهو يختلف عن الحروف الأخرى (الفاء أو ثم(23))، فالفاء من ((حروف العطف في المفردات والجمل، فإذا كانت للعطف في المفردات فمعناها الترتيب لفظا ومعنى أو لفظًا دون معنی... والربط والترتيب لا يفارقها))(24)،

ص: 64

أمّا (ثم) فهي ((حرف عطف، يشرك في الحكم ويفيد الترتيب بمهلة، فإذا قلت: قام زيد ثم عمرو، أذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة))(25) وفي ضوء ما تحدثنا عنه نجد أنَّ ((حروف العطف يتسع مجال تأثيرها أكثر من حروف الجر؛ إذ يمتد هذا التأثير إلى أكثر من جملتين))(26) وهذا ما فهمه قبلهم عبد القاهر الجرجاني في تفرقته بين الواو وهي أشهر حروف العطف، والفاء توجب فضلاً عن الإشراك في الحكم والترتيب و(ثم) تو جب الترتيب مع التراخي، و (أو) تفيد التخيير، و (لكن وبل) كل منهما يفيد الاستدراك والاضراب(27).

وصفوة القول: إن أدوات العطف تمثل روابط شكلية لها معانٍ دلاليّة وفقًا للعلاقات المجودة بين الجمل على مستوى النص، وهذا الربط يتم على وفق أدوات نحوية لها معان محدودة، والسياق قد يفرض أداة محدداً كما قد يفرض معنى محددا على أداة العطف المستعملة، والعطف النصي يشمل العطف بين المفردات والجمل والفقرات والنصوص، والعطف يعين في استمرارية النص على المستوى السطحي للنص، فضلاً عن قيامه بسلامة التماسك النصي، ويسهم في إنتاج الدلالة الكلية للنص(28).

وقد تحقق التماسك النصي في رسائل الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الاشتر عن طریق حروف العطف اذ سجلت الواو مساحة كبيرة في رسائل الإمام (عليه السلام) وهذا يدل على الاهتمام الكبير من لدن الإمام بوسائل التماسك النصي، وذلك قوله:

((اللهَ اللهَ في الطَّبقةِ السُّفلى من الذينَ لا حِيلَةَ لَهُم، والمساكين والمُحتاجين، وأهلِ

البُؤسى والزَّمنَى، فإنَّ في هذهِ الطَّبقةِ قانعًا ومعتزًا، واحفَظ للهِ ما استحفظَكَ من حَقِّهِ

فِيهم، واجعَل لهُم قِسْمًا من بيتِ مالِكَ، وقِسْمً من غَلَّتِ صَوَافِ الإسلامِ في كُلِّ بلدٍ، فإن

للأقصى منهُم مثل الذي لِلأدنى، وكُلٌّ قد استُعِيتَ حَقَّه، فلا يَشْغَلَنَّكَ عنهُم بَطَرٌ، فإنَّك

لا تُعذَر بتضييعِكَ التَّافِهَ لأحكامِك الكثير المُهِمَّ))(29)

ص: 65

فالذي يتأمل في النص المارّ الذكر سيتجلّى له كثرة استعمال (الواو) على اغلب مقاطع النص ليؤدي إلى الربط النصي المتماسك فضلا عن ذلك ان الإمام استعمل حرف العطف (الواو) لمناسبة الواو للجمل المستعملة في الخطاب زيادة على ذلك أن الخطاب الموجه المالك الأشتر استعمل معه الواو ليدل على اجتماع المعطوف والمعطوف عليه وتشابههما في القضية، وتأكيد الإمام على مالك الاشتر بوساطة أداة الربط الواو يدل على مدى اهتمام الإمام بهذه الطبقة الفقيرة الذي تكون (الواو) هي الأداة المثلى لهذه الطبقة المجتمعة. التي تدل على الجمع المطلق بين المتعاطفين من دون استثناء أو وجود مهملة أو افضلية لطبقة من دون اخرى ولهذا استعمل (الواو)، ولذا اصبح النص متماسكا في مقاطعه وجمله وتراكيبه غير متباعد في محاوره الاساسية حتى اصبح النص لا تنسجم معه اداة اخرى غير الواو حتی کتب لنصه خاصية مقتضية صالحة للتماسك المتوزع على طول النص اراد عبرها تقوية العلاقات بين الجمل والعبارات والكلمات التي تكون النص. وهنا الواو في النص السابق كانت من اقوى الروابط ولذلك خصها الإمام من دون غيرها من الادوات حتى اعطت دلالة جامعة صفة متعلقة مع الجمل المكونة للنص. وفي ضوء ذلك نجد ان الإمام يلجأ إلى حرف العطف الواو ليجمع بين المعاني والاسماء المتوافقة حتى اصبح الرابط الدلالي للواو سليما.

وقوله عليه السلام: ((وليس أحدٌ من الرَّعيةِ، أثقَلَ على الوالي مَؤُونَةً في الرَّخاءِ،

وأقلَّ مَعُونةً لهُ في البَلاءِ، وأكْرَه للإنصَافِ، وأسألَ بالإلحَافِ، وأقلَّ شُكرًا عندَ الإعطاءِ،

وأبْطَأ عُذرًا عِندَ المَنْعِ، وأضعَفَ صَبرًا عندَ مُلِمَّاتِ الدَّهرِ من أهلِ الخَاصَّةِ، وإنَّما عِمادُ

الدِّينِ، وَجِمَاعُ المسلمين والعُدَّةُ لِلأعداءِ، العَامَّةُ من الأُمَّةِ، فَليكُن صَغْوُكَ لهُم ومَيلُكَ

معهُم))(30).

اذ اصبحت الواو تشکل رابطا دلاليا رائعا بين عناصره الجملية وهذا ما اكسبها دلالة

ص: 66

منسجمة للمعنى الموجود في النص والذي تجسد عبر متواليات نصية زرعت في النص الحيوية والحركة فالإمام استعماله لهذا الاداة (الواو) ليس عبثا بل لغاية مقصودة بوعي ثاقب وفهم عمیق، فهذا العطف بين الجمل والذي ربطها عبر حرف العطف (الواو) يدل على أن النص متكامل لا يحتمل اداة اخرى ولذا اصبحت اجزائه متماسكة متتابعة متصلة مع بعضها البعض الاخر بأداة ربط مناسبة غير مغايرة للمعنى المنساق في النص با تا دلالة واضحة مقبولة عبر اختيار قصدي اداتي غير مشتت الانسجام تناسق النص. وهذا الامر جعل من استعمال الواو في النص بتتابعية ناضجة عبر منتج واع للفكرة الذي يكتب من خلالها. ولذلك اصبحت تتابعية النص مستعدة مع بعضها ودالة على فعالية تبادلية مستمرة، وهنا نجد (الواو) قائمة على عمل ارتباطي في كل مفاصل النص في اطار تسارق الاحداث و تشابهها ولكن في نهاية النص يستعمل اداة ربط اخرى والاداة هي (الفاء) التي تكون فائدتها الترتيب والتعقيب ليضعها في مكانها المنطقي وليبين عبر ذلك مفاصل النظام الذي يقوم عليه النص. حتى اصبح النص جسدًا متكاملاً مع الادوات المتماسكة الاخرى، فضلا عن ذلك نجد أن الواو عملت على انسياب الفقرات والجمل والمعاني وحققت التماسك بين النص اما الفاء فقد ساهمت على اختزال الحدث والعبارات في جمل قصيرة، أدت إلى التماسك الداخلي للنص. وقوله (عليه السلام): ((ولا تَنقُض سُنَّةَ صالحةً عمِل بها صُدورُ هذه الأُمَّةِ، واجتمعَت بها الأُلفَة، وصَلحَت عليها الرَّعيَّةُ، ولا تُدِثَنَّ سُنَّةً تضُرُ بشيءٍ مِن ماضي تلك السُّنَنِ فيكونَ الأجرُ لِن سَنَّها، والوِزرُ عليك بما نَقَضتَ منها))(31) لعل الناظر في النص سيلحظ بسرعة الكثرة البالغة الحرف العطف (الواو) بدلیل استعماله لهذا الحرف من دون غيره في العطف وهذا ما هو الا دليل على أن العملية النصية تمت من دون فواصل زمنية لمناسبة هذا الحرف لتلك المهمة ولجمع الأحداث المساقة في النص؛ ولذا اصبح النص منسجمًا متماسکًا باتخاذه (الواو) رابطًا نصیًّا له، ومن ثم استعمل حرفًا آخر الا وهو (الفاء) ليدل أن الحدث انتقل

ص: 67

إلى مهمة اخرى وهي التعقيب قليلاً على الأمر. فضلا عن ذلك أن الإمام استعمل حرف العطف (الواو) لربط الأفكار والجمل مع سابقتها وليعطي دورًا مهمًا لهذا الحرف (الواو) الذي يدل على مطلق الجمع والمشاركة ولكن حرف العطف (الفاء) يدل على الترتيب والتعقيب في الاحداث ولذا اختصر حرف العطف (الفاء) جملة وقوع الأحداث، ومن هنا اصبحت حروف العطف تتناوب فيما بينها في تماسك الخيوط النصية لرسائل الإمام (عليه السلام). مما اصبح العطف يمثّل طاقةً وظيفيةً مهمةً ذات حيوية ديناميكية تقوي الدعم الدلالي للجمل النصية مما يبقى تماسكها النصي يمثل بؤرة تعبيرية مستمرة ذات أواصر منسقة. وهذا الاستمرار للربط النصي عبر الواو مرده إلى أن الإمام يعطي دروسًا وعبرًا واسسًا مهمة تبين مدى العلاقة المتصلة بعلاقة الناس بعضهم ببعض عبر محاولة للإمام في توجيه رسالة لمالك الاشتر ویردمن خلالها ترسيخ القيم والمعاني السامية في اذهان الناس ليسيروا على منهج قويم. ومن ثم يلتفت إلى اداة ربط اخرى وهي (الفاء) ليلفت الانتباه وشد الذهن بوساطة ايجاد روابط نصية مختلفة ليعطي ترکيبًا نصیًا متماسکًا يعمل على تحقيق وظائف ذات علاقات متينة. وفي قوله (عليه السلام) يستعمل اداة عطف اخرى الا وهي (أو) اذ يقول: ((وإيّاكَ والمَنَّ على رعيَّتِكَ بإحسانِكَ، أو التَّزيُّدَ فيما كان من فعلِكَ، أو ان تعدَهُم فتُتبِعَ موعِدَكَ بِخُلفِكَ، فإنَّ المَنَّ يُبطِلُ الإحسانَ والتَّزيُّدَ يذهبُ بنورِ الحقِّ، والخُلفَ يُوجبُ المَقتَ عندَ اللهِ والناسِ، قال اللهُ تعالى: «كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» [الصف: 3]، وإيَّاك والعَجَلةَ بالأمورِ قبلَ أوانِها، أو التَّسقُّطَ فيما عِندَ إمكانِها، أو اللُّجَاجَةَ فيها إذا تَنَكَّرت، أو الوَهنَ عنها إذا استوضَحَت. فضع كُلَّ أمرٍ موضِعَهُ، وأوقِع كُلَّ عملٍ موقِفَهُ))(32) فالمتأمل في النص السابق سيلمس بسرعة شبكة من الروابط التاسكية التي أنبني عليها خطاب الإمام (عليه السلام)، فتنوعت ما بين (الواو) أو (الفاء) ولولاها لأصبح النص عاجزًا عن أن يكون خطابًا متواصلاً مفهومًا بين الباث والمتلقي.

ص: 68

احتل حرف العطف (أو) مكانًا متميزًا وهذا مرده إلى الاهتمام الوثيق والعناية المركزة من لدن الإمام على الألفاظ التي عطف بعضها على البعض عبر حرف العطف (أو) مما دعاه إلى التأمل والتريث والوقوف عنها عبر استعماله لحرف عطف يتسق والظروف المحيطة بالأحداث، مما اصبحت الالفاظ المتعاطفة فيما بينهما متوائمة عبر موقف محکوم بمعطيات سیاقية تحقق تواصلها عن طريق تنظيم الاحداث وتماسك الاجزاء والعبارات. مما اصبح النص متماسكا بواسطة تواجد حروف العطف الرابطة بين الجمل والعبارات وهذه الروابط الموجودة في النص كشفت عن أثرها وتعبيراتها التي أغنت عن جمل وعبارات كثيرة مما أدى إلى أن بلاغة النص وتماسكه لا يقتصر على حرف العطف (الواو) بل يتحقق عبر حروف العطف الاخرى، لما تتمتع به هذه الحروف من دلالات ومعان وطاقات ايحائية ودلالية تزيد من تماسك النص وتقوي من وصله مع بعضه البعض الاخر مما يعطي رؤية اشارية للقارئ باستعمال حروف العطف مرتبطة فيما بينها لتكثف من ترابط النص ولملمة افكاره وصقل جمله وربط خيوط النص مع بعضها حتى تصبح حلقات النص تحقق نصيتها ولتقطع باب التأويل والاجتهاد وهذا الأمر جعل من وجود الروابط النصية كحروف العطف تذكي العنصر الوظيفي وترسخ من عدم تباعده فما يحرر النص من التفكك ويبث فيه عنصر الانسجام والتموضع الاساسي وهذا كله جعل من النص لا ينسجم الا عبر توافر كل هذه الأحرف متفقة فيما بينها فبدأها بالواو لیدل على أن الأحداث. مجتمعة ثم يعقبها بحرف العطف (أو). ليمنع المتلقي المتمثل بمالك الأشتر عنصر التغيير لمجموعة من الصفات السلبية التي يحث عليها الإمام بالابتعاد عنها وعدم التمسك بها. فحرف العطف (الواو) اعطى للنص اضافة وصل للجملة فيها بينهما، ثم يعقبها ب (أو) ليعطيها تخییریًا متفقًا. ثم حرف (الفاء) متصلاً بفعل امر ليلزم الاخرين بها من دون تعثر. وقوله (عليه السلام): ((فان شکو اثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو احالة ارض اغتمرها غرق أو اجحف بها عطش، خففت عنهم با ترجو

ص: 69

ان يصفح به امرهم))(33). فالذي ينظر في النص السابق سيجد مدى الترابط الوثيق لنص الإمام بحيث اسهم حرف (أو) في نسيج النص وفقا للترابط الشكلي المتتابع والذي حقق الاستمرارية في خطابية الإمام المكتوبة وهنا نجد الإمام يستعمل (أو) ليبين مدى الاهتمام بهذه الألفاظ المعطوفة وليلقن ذهن المتلقي الذي قصد به مالك الاشتر نحوها فضلاً عن ذلك ان الاهتمام بهذه الالفاظ والذي عطف بها من خلال حرف العطف (أو) تكشف مدى الاهتمام والتركيز على الانسان وعدم الظلم. فهذا التنوع بحروف العطف يدل على أن العطف ليس حكرًا على حرف معين، بل يستعمل الحرف متى ما استوجب الأمر التماسكي فضلا عن صياغة النص في ضوء بنی ذات تركيبة ممتدة في ترابطها وتعطي فعالية في رصد معطياتها التماسكية والتي أصبحت تشكل علاقة وطيدة بالنص وان المتلقي هو الذي يقوم بالدور الفاعل في اكتشافها. ومن هنا نجد التماسك النصي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بأحرف العطف لما فيها من فائدة في تحقيق عنصر النصية وغبق عملية التفكك الذي قد تصيب النص. ومن هنا اصبح حرف العطف (أو) هو الاداة المثلى الذي يعطي الدور الامثل والجوهري لهذه المعطوفات من الاسماء ومن دونها لا يمكن ان يوجد حرف اخر يحقق مثل هكذا مهمة، ومن هنا يأتي الدور المهم للعطف في تقوية وتماسك النص. وقوله (عليه السلام) في استعماله لحرف عطف اخر وهو (ثم) اذ يقول: ((ثم أسبغ عليهِمُ الأرزاقَ فإنَّ ذلك قُوةٌ لهُم على استصلاحِ انفسهِم، وغنىً لهم عن تناولِ ما تحتَ ايديهِم، وحجةٌ عليهِم إن خالفُوا أمرَكَ، أو ثَلَمُوا أمانَتَك))(34). فهنا عمل الإمام على تماسك النص بفضل استعماله لأداة اخرى مناسبة للسياق وللتراضي في العمل؛ لأنَّ الإمام ينصح مالك الاشتر بعدما يتمعن في الأمر وفي اصحاب التجارب والخبرة ليتراضي مدة من الزمن ليسبغ لهم الارزاق ولهذا جيء في عطفه ب (ثم) التي هي للتراضي التي اصبحت منسقة تماما وسياق الفكرة المعبرة ومن هنا اصبحت بنية العطف تؤكد تماسك النص ولذا اصبح يشكل وسيلة مهمة للربط بين العبارات ويزيل

ص: 70

الملابسات التي تحدث عدم الافهام أو التواصل ولذا من خلال يعطي النص دلالته اعتمادًا على مكونات العطف المختلفة وتتابعاتها المتلاحقة لتشكل بمجموعها وسائل ربط تحقق وتؤدي الكفاءة المطلوبة في النص، وفي نهاية المبحث نجد أن القيمة الاحصائية لحروف العطف قد شكلت الواو نسبة كبيرة عن الاحرف الاخرى اي بعدد (428) من مجموع الرسائل، ثم تلتها (الفاء) وقد بلغت (105)، ثم تلتها الاحرف الأخرى بنسبة قليلة جدًا مقارنة بالحرفين السابقين اذ بلغ عدد (أو) (20) في حين بلغت (ثم) (15)، أما النسبة التي لا تكاد تذكر الا وهي (بل) فقد بلغت عدد (1).

ص: 71

المبحث الثاني: الضمير

الضمائر: جمع ضمير. والضمير: هو السر، والشيء الذي تستطيع أن لضمره في قلبك والضمير والمضمر بمعنى واحد، من اخفيت الشيء اذا ضمرته(35)، والضمير اسم جامد مبني، وبسبب بنائه لا نستطيع أن نثنيه أو نجمعه، ولذلك لا تلحقه علامة التثنية أو الجمع. وإنَّما يدل بذاته وصيغته على المفرد أو المثني أو الجمع (المذكر أو المؤنث)(36) . فلعلماء العربية يلجؤون إلى الربط بوساطة لفظية حين يخشون أمن اللبس في فهم الانفصال بين معنيين، في فهم الارتباط بينهما، والوساطة اللفظية، اما ان تكون ضميرا منفصلا أو متصلا، وما يجري مجراه من العناصر التماسكية التي تقوي تماسك النص وتزيد قوته(37)، ومن هنا لا تصبح الادوات التماسكية كلها تؤدي وظيفة معينة بل اصبحت الروابط التماسكية تختلف من رابط إلى اخر ((وليس الربط بالضمیر کالربط بالأداة، فوظيفة الربط بالضمير ناشئة مما سبق الضمير من اعادة الذكر، وفي هذا تعليق وائتلاف وربط))(38). وهذا الأمر جعل من استعمال الضمير في النص ضرورة حتمية لا يمكن أن يكتمل النص من دونه فيه يتم ومن خلاله يتماسك وعن طريقه ينشط دوره. ولذا أصبح معنى الضمير ((وظيفي وهو الحاضر أو الغائب على اطلاقهما فلا يدل دلالة معجمية الا بضميمة المرجع وبواسطة هذا المرجع يمكن أن يدل الضمير على معين)(39)، وقد اصبحت مرجعية الضمير مختلفة بحسب السياق الذي يناسبها، وهو وحدة ذات تركيبة نحوية أو بنسبة لسانية لا يمكن أن نمسك بدلالة معجمية لها، بل تضمر احالات متعددة ذات أهمية بالغة. وفي ضوء ذلك اصبح الضمير يؤدي وظيفة كبيرة في ربط النص، فوظيفته تتسع لتشمل على وصل التركيب، كما تؤديها المعاني الرابطة، لكنه يختلف عنها، بوصفه يقوم على اعادة الذكر، في حين تعتمد تلك الأدوات على معانيها الوظيفية التي تحدد نوع العلاقة المنشأة، كأدوات الشرط، وادوات العطف، وحروف الجر(40)،

ص: 72

فالجملة ((کالعقد الذي يجمع بين حباته سلکًا وثيقًا، ولابد ان يبقى السلك متصلاً، والا ما استطاع الرائي أن يفهم من شكله معنى العقد، وهذا هو الارتباط، فاذا انقطع السلك، يعالج بطريق الربط وذلك ما يعمله الضمير))(41)، وهذا السلك الوثيق لا يمكن أن نقول انه مقتصر على الضمير بل لابد من مشاركته الادوات التماسكية الاخر في عمل الارتباط حتى لا نكون مركزين على اداة وتهمل الادوات الاخر فهذا ليس من متطلبات البحث العلمي الرصين. وبطبيعة الحال تعد الضمائر ((افضل الامثلة على الأدوات التي يستعملها المتكلمون للإحالة إلى كيانات معطاة))(42)، وهو عبارة عن احالات أو عناصر تستوجب متلق واع لكي يفسرها ويكشف عن معانيها، ومن اصح الحاجة إلى الضمير ماسة جدًا بوصفه يؤدي وظيفة الاختصار والايجاز في الكلام ويختصر كلاما كثيرًا لا فائدة فيه ومن هنا عد ((اقوى انواع المعارف ولا يدل على مسمی کالاسم، ولا على الموصوف بالحدث كالصفة، ولا حدث وزمن كالفعل، فالضمير كلمة واحدة تدل على عموم الحاضر والغائب دون دلالته على خصوص الغائب))(42)، ولم تتوقف اهميته عند ذلك بل تتسع لتصبح له ((میزتان الأولى: الغياب عن الدائرة الخطابية، والثانية القدرة على اسناد اشياء معينة، وتجعل هاتان الميزتان من هذا الضمير موضوعا على قدر كبير من الأهمية في دراسة تماسك النصوص))(44). واهميته لم تتوقف عند ذلك بل اصبح يحل ((محل كلمة أو عبارة أو جملة أو عدة جمل. ولا تقف اهميتها عند هذا الحد، بل تتعداه إلى كونها تربط بين اجزاء النص المختلفة شكلا ودلالة، داخليا وخارجيا سابقة ولاحقة(45)). وهذا كله جعل من الضمائر تعطي اهمية فائقة المستوى في تحقيق التماسك وتنقسم الضمائر في العربية إلى قسمين: هما: ضمائر الحضور والاخر ضمائر الغياب وتتفرع ضمائر الحضور إلى ضمائر المتكلم بوصفها مركز المقام الاشاري، فالمتكلم هو الباث وإلى ضمائر المخاطب، لأنَّ المخاطب هو الذي يقابل المتكلم في ذلك المقام ويشاركه فيه فهو المتقبل(46). وهي ضمائر تحيل إلى خارج النص اذ تندرج تحت مظلتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم

ص: 73

والمخاطب، وهناك ضمائر تؤدي دورا مهما ومرموقا في تماسك النص سماها هالداي ورقية حسن (ادوارًا أُخر) تندرج تحتها ضمائر الغيبة أفرادا وتثنية وجمعا اذ تحيل داخل النص، أصبحت الضمائر تتفاوت فيما بينهما في الأهمية والاختصار، فالضمير المتصل أشد اختصارًا من المنفصل، حتى عدَّ استعمال الضمير المتصل أبلغ من الاختصار وادعى إلى الخفة والاقتصار، وهذه العناصر الثلاثة من مطالب الاستعمال اللغوي، لذلك لم يعدلوا عن استعمال المتصل الا عند تعذره(47). وهذا ما سنوضحه في تحليله لرسائل الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فنلحظ وفرت الضمائر بأنواعها ظاهرة ومستترة في رسائل الإمام على نحو لا يكاد ان يخلو جملة منها فاعلة عملية ترابطية لتماسك أوصال النص. ومن ذلك قوله (عليه السلام): ((أنصِفِ الله وأنصِفِ النَّاسَ من نفسِكَ، ومِن خاصَّةِ أهلِكَ، ومَن لكَ فيهِ هویً مِن رعیتِكَ، فإنَّك الَّا تفعل تَظلِم، من ظلم عِبادَ اللهِ كانَ اللهُ خصمَهُ دون عبادِهِ، ومَن خاصمَهُ اللهُ أدحَضَ حُجَّتَه وكان للهِ حربًا حتى يَنزِعَ أو يَتوبَ))(48). فلعل الناظر في هذا النص سيلحظ ضمير التخاطب طاغيا على اغلب جمل النص وهذا الضمير نمسك بإحالته ودلالته على مالك الاشتر کانت الرسائل من بداياتها موجه اليه ولذا نجد اغلب جمل الرسالة على طولها الضمائر التخاطبية سارية فيها وهذا امر طبيعي؛ لأنَّ الإمام (عليه السلام) وجه رسالته له من الطبيعي أن سكون ضمير المخاطب هو الضمير الأمثل لتماسك النص وترتيبه وتموضعه، ولذا اصبح ضمير المخاطب يعطي دورا رائعا في ترابط رسالة الامام وايضاحها والمتمثل ب(انت، الكاف) في الأفعال والاسماء (أنصف) مكررة مرتين (أهلك، نفسك، لك، رعيتك، فانك، تعقل، تظلم،.... الخ) مما ادى هذا الضمير وظيفة خدمت العملية الاتصالية ساهمت بشكل فعال في توصيل الرسالة إلى المتلقي مما زالت الالتباس والغموض الذي يتمتع به النص فضلا عن ذلك فقد اعطى اهمية في تشكيل المعنى وقام بإبرازه وكل ذلك جاء عن طريق الربط الصحيح للضمد زيادة عن العناصر التماسكية الاخر، ولولا الضمائر لما عرفنا

ص: 74

عودة الضمير ولأختلط لدينا احالته ولأصبح احالته مبهمة لا نستطيع أن نميزها. وهذا الامر جعل من الضمائر فضلا عن غيرها من الأدوات الاخرى تساهم بشكل كبير في بناء النسيج العم للنص، والإمام في هذا النص لم يكثف بضمير المخاطب بل سرعان ما يغير الاصالة المفهومية للنص عن طريق ضمير الغائب الذي تتغير احالته من فعل لآخر بحسب السياق العام للنص. فقوله (ظلم عبد الله) يعود إلى الانسان وفي قوله (كان الله خصمه) يعود إلى الله تعالى. وهذا التنوع في الضمائر في النص الواحد يمنع النص يمنح النص فرصًا واسعة للقراءة والتأويل ويشد من اهتمام المتلقين. فضلا عن ذلك يجعل من المتتاليات النصية المساهمة في التماسك النص مختلفة. ويرى الباحثين أن الكلام لمالك الاشتر على الرغم من توجيه الإمام الرسالة له من خلال الضمائر المنتشرة على اكثر مفاصل الرسالة نعتقد بانها قصديتها الحقيقة هو الانسان على مدار العصور بوصفها رسالة متجددة شمولية لاتقف عند حد معين بل تستمر إلى قيام الساعة بوصفها رسالة تنطبق على كل زمان ومكان واحداثها المتتالية موصوفة وصفا دقیقا بوعي جاد. ويستمر الإمام احالته الضميرية المساهمة في الربط النصي من ذلك قوله (عليه السلام): ((أطلق عن النَّاس عُقدةَ كُلِّ حقدٍ، واقطع عنكَ سبَبَ کُلِّ وِترٍ، وتَغابَ عن كُلِّ مالا يَصِحُّ لك، ولا تَعجلَنَّ إلى تصدیق ساعٍ، فإنَّ الساعِيَ غاشٌ، وإن تَشَبَّه بالناصحين))(49) فالضمائر التخاطبية على طول النص اجتمعت وكونت نصًا متماسکًا على نحو من الدقة مما اعطت قيمة عليا للنص، ولذا نجد الضمائر حققت المهمة المقصدية للباث والتي اشارت عبر ضمير المخاطب الذي امتد على افعال واسماء النص كلها والذي توفرت بفعل افعال الامر (اطلق، اقطع) ومن هنا نجد مرجعة النص واحدة وهي (مالك الاشتر) المتوزعة في النص بدلیل افعال الامر والضمير الكاف الذي قصد به (مالکًا) وهذه المرجعية الذي زادت من تماسك النص وقوت روابط ابنیته تحققت بفضل ضمير المخاطب و من هنا اصبح ((عودة الضمير على اسم قبله يجعل النص في حالة تماسك مستمرة، ذلك ان

ص: 75

الضمائر تخلق في النص حركة دائرية بين المحيل والمحال عليه، فكل منهما ينزل منزلة الاخر، مما يجعل ذهن المتلقي في حالة استدعاء تام للمحال عليه أو في حالة بحث عنه، مما يضمن تحقيق تماسك النص وترابطه))(50) وإن ما يحد وهذه الضمائر ويزيل الغموض والابهام هو المتلقي الذي يعد عضوا فعالا لا تقل اهميته عن الباث أو صاحب النص فيعد مشارکا داخلا في بوتقات النص ليضمن التماسك الوثيق للنص، وهو بهذا اصبح الضمير عنصر غير منفصل عن التماسك النصي. وهذا الامر جعل من استعمال ضمير المخاطب في النص المار الذكر المناسبة الاحداث والمهام التوجيهية التي لا يتناسب معها ضمیر اخر سوى ضمير المخاطب وهذا ما يتطلبه السياق العام للنص. ولكننا في نص اخر للإمام نجد ضمير الغائب متجلٍّ بشكل واسع على اغلب جمله من ذلك قوله (عليه السلام): ((وليس احد من الرعية، أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرًا عند الاعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأضعف صبرًا عند ملات الدهر من اهل الخاصة، وإنّما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الامة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم))(51). فالذي يتأمل النص المار الذكر سيلمس بصورة جلية الضمائر الغائبة الممتدة على أغلب مفاصل النص وهذا الضمير عائد على (الانسان) بصورة عامة أي أنه غير محدد، فالضمير المستتر قام بوظيفة الربط النصي وأغنى النص دلالة وأبعده عن التفكك اللفظي. فتحدد الضمائر الغائبة، في الأفعال الماضية (أثقل، أمل، أكره، أسأل، أقل، أبطأ،.....الخ) والاحالة واحدة تشير إلى عنصر اشاري سابق وهي (الانسان) فالإمام عمد إلى تكشيف الضمائر الغائبة ليعزز من وحدة التماسك وليوسع من دلالة النص فضلا» عن احالته إلى عنصر واحد سابق لكل الضمائر وليجعل من النص کلا متكاملا غير مجزأ ومتقطع. ولذا فكلمة (أحد) أو (الانسان) مثلت عنصرا اشاريا عم النص بأكمله. فضمير الغائب في النص عاد إلى مفسر واحد محدد من لدن المتلقي لا أن يجعل دلالة النص غير محددة بل

ص: 76

جعل منها مأولة بتأويل محدد ضمن اطار معين، ولكن الإمام سرعان ما يعود، ويلتفت إلى ضمير المخاطب ليحيل إلى العنصر الاشاري الرئيس الذي من وجه الكلام اليه منذ بداية كتابته الرسالة وهو محور العملية الإرسالية بأجمعها لا يستطيع ان يتخل عنها مهما صدر، وقوله كذلك ((ثم أسبغ عليهِمُ الأرزاق، فإنَّ ذلك قُوةٌ لهم على استصلاحِ أنفسهِم، وغِنىً لهم عن تناول ما تحتَ ایدیهِم، وحُجةٌ عليهِم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانَتَك))(52)، ولعل الناظر في النص السابق سیمسك بكثرة الضمائر الموجودة في النص واختلاف احالاتها مما تعطي اسهاما فعالا في تماسك النص ولملمة أشتاته لا أن تضعف تماسك وتقلل من وحدة ترابطه. فالضمير المخاطب في فغل الأمر (أسبغ) يحيل احالة وهي (مالك الاشتر) اما الضمير المتصل الجمعي (هم) يحيل احالات على ذوات غير محددة منها (الناس)، فهذه الضمائر المستترة الغائبة والمتصلة الظاهرة في العبارات المارة الذكر عملت مع بعضها وتماسكت لتكون بمجموعها وحدة إحاليّة رئيسة يقوم عليها النظام العام للنص أو الرسالة بأكملها. ولذا نجدها موزعة بصورة منتظمة تعطي نواة نصية متماسكة لتقر في النهاية على احالتها التي تكون لبث النص ويأتي ضمير النصب المنفصل تاليًا في نهاية رسالة للإمام علي (عليه السلام) ويحتل نسبة قليلة مقارنة بالضمير التخاطبي فقوله (عليه السلام): ((إياك والدماء وسفكها بغير حلها))(53)، وقوله: ((وإياك والإعجاب بنفسك))(54)، ((وإياك والمن على رعيتك بإحسانك))(55) وقوله: ((واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة))(56) فالذي يتعمق في هذه المقاطع النصية يجد غلبة ضمائر النصب المنفصلة بصورة جلية وهذا مرده إلى أن الإمام جعلها في نهاية الرسالة ليعطي صورة توجيهية بداية الرسالة ومن ثم يعطي قرارًا تحذيریًا شديدًا لمالك الأشتر في نهاي الرسالة، ليرسم من رابطا، نصيا ملتصقا بوظيفية تحذيرية عظيمة، ولذلك حمل، هذا الضمیر کلامًا ملائمًا للسياق العام للنص والرسالة بأكملها فالسر في استعمال هذا الضمير هو للرهبة والوعيد لمن يسير على طريق الحق فضلا عن منحه للنص عنصرا

ص: 77

تشویقیا متعلقا يبعث الشعور من دون ملك أو تشاؤم، وهذه الضمائر المتنوعة والمنتشرة في السياق العام للنص قد كونت لحمة متماسكة بثت في النص شحنة تفجر عبر النص لتصنع في النهاية نصا متكاملا يحمل دلالات متنوعة معناها يتوقف بحسب القارئ أو المتلقي ليمسك بخيوطه، وهذا الأمر جعل من ترتيب الضمائر بصورة منتظمة تعطي دورا في تماسك ابنية الرسالة وترابطها بصورة تكاد تكون جملة واحدة. وهذا الانتشار أو التعدد في الضمائر يبين مدى قوة النص وشدة انتظامه بما يدل يشتمل عليه الضمير من اختصار وايجاز ورصانة شديدة في تحقيق التماسك العام للنص. فكل العبارات التي تتضمن ضمير النصب المنفصل جاء فيها العنصر التحذيري بارزًا يؤدي وظيفة توجيهية تحذيرية يدعو فيها مالك الاشتر إلى الالتزام الوثيق بمبادئ الإسلام بصورة عامة فضلا عن تأكيده عبر تهيئة الذات الانسانية على عظم تلك الامور ومدى تأثيرها النفسي على الانسان بصورة مهمة. اما ضمير المتكلم فانه يكاد لا يذكر في الرسالة غير مقطع قصير جدا جاء في المقطع الأخير وجاء لا يتعدى (أربعة أسطر) وهذا بحسب اعتقاد الباحثين - امر طبيعي لان ضمير لا يناسب المقتضى العام للنص ولا يتفق والفكرة المطروحة من لدن الإمام و وهذا ما يتضمنه قوله ((وأنا أسالُ اللهَ بسعةِ رحمتِهِ، وعظيمِ قدرتِهِ على إعطاءِ کُلِّ رغبةٍ أن يوفِّقني وإياك لمِا فيه رضاهُ من الإقامة على العُذرِ الواضح اليهِ وإلى خَلقِهِ، مع حُسنِ الثَّناء في العِبادِ، وجميل الأثرِ في البلادِ، وتمامِ النِّعمةِ، وتضعيف الكرامةِ، وأن يَختمَ لي ولكَ بالسَّعادةِ والشَّهادةِ، وإنَّا اليه راغبون))(57) فضمير المتكلم قد طغی بصورة واسعة على المقطع النصي مار الذكر والذي ذكر في جمل عدة متتالية مسترسلة مكونة بمجموعها حدثا نصا متكاملا مؤديا معنا مقصودا متماسكا. فالضمير وجد عبر صيغ عدة منها الضمير المنفصل (أنا)، ومنها الفعل (أسأل)، ومنها الضمير المتصل الياء) في (يوفقني) وهذه الصيغ المتنوعة قد ولدت نصا توليديًا يعطي معان متفجرة عبر شحنات عالية الأداء. وهذا الاختلاف الأدائي لضمير المتكلم هو من اجل سبل النص

ص: 78

وترتيبه ليحيل في النهاية احالة متعددة ذات اشارة مقصدية وهي (الله) سبحانه وتعالى، اي بمعنى انه ضمير يحيل به إلى الذات الإلهية، ومن هنا عزز فكرة التماسك وزاد من قوة ارتباطها عبر الوعي والالمام الكبير من لدن الإمام (عليه السلام)، فضلا عن ذلك نجد ان المعنى عبر هذا التعدد قد زاد من حضوره وتعممت دلالته حتى اصبحت عناصره مترابطة یما بينها.

وفي الختام نستطيع أن نقول: إنَّ اغلب الاحالات الضميرية احالات متخذة ضمير المخاطب طريقا لها عبر صور وحالات شتی وهذا التواجد المكثف لضمير المخاطب له وظيفة مهمة في تماسك نص الإمام (عليه السلام) على المستويات كافة حتى ساهمت في دفع الملل عن المتلقي. وختامًا نجد أنَّ الضميرَ يعمل إحالات متنوعة.

ص: 79

المصادر والمراجع

1. القرآن الكريم

2. تحليل الخطاب، براون ويول، تر: محمد لطفي الزليطي، منير التريكي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1998 م.

3. التماسك النصي في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي، دراسة أسلوبية، كريمة صوالحية، كلية الآداب واللغات، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج لخضر، باتنه، 2011 م.

4. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعید حسن البحيري، مكتبة الآداب، القاهرة، 2005 م.

5. شرح المفصل، للشيخ العلامة ابن يعيش، تح: احمد السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة.

6. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد البحيري، الشركة المصرية العالمية للنشر، دار نوتال، القاهرة، ط 1، 1977 م.

7. علم لغة النص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، تقديم: سليمان العطار، مکتبة الآداب، ط 1، 2077، القاهرة.

8. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة: 2000 م.

9. في اللسانيات ونحو النص

10. لسان العرب، طبعة دار صادر، بیروت، ط 1، 1990 م.

11. لسانیات النص، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2006 م.

12. اللسانيات والمجال والوظيفة والمنهج، سمیر شریف، عالم الكتب الحديث، إربد، ط 1، 2005 م.

ص: 80

13. المصطلحات الأساسية في لسانیات النص وتحليل الخطاب، دراسة معجمية، نعمان بوقرة، عالم الكتب الحديثة للنشر والتوزيع، إربد، د.ط، د. ت.

14. معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر، عمان، ط 2، 2003 م.

15. نحو النص (اطار نظري ودراسات تطبيقية)، د. عثمان أبو زیند، عالم الكتب الحديث، إربد، 2010 م.

16. نحو النص في ضوء التحليل اللساني للخطاب، مصطفى النحاس، مکتبة ذات السلاسل، الكويت، د. ط، 2001 م.

17. نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي، مکتبة زهراء الشرق، ط 1، 2011 م، القاهرة.

18. النحو الوافي، عباس اللامي، دار المعارف، ط 1، 1991.

19. نسيج النص، الأزهر زناد، المركز الثقافي العربي، بیروت، ط 1، 1993 م.

20. نظام الربط والارتباط في تركيب الجمل العربية، مصطفى حمودة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، بیروت، ط 1، 1997 م.

21. نهج البلاغة، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية، د. صبحي الصالح، انوار الهدى للطباعة والنشر، ایران - قم، ط 2، 1429 ه.

ص: 81

المجلات

1. من التماسك في سورة يونس، حسين راضي العابدي، محية جامعة الأزهر، غزة سلسلة العلوم الانسانية، 2013، مج (15)، ع (2).

2. أثر العطف في التماسك النصي في ديوان (على صهوة الماء) للشاعر مروان جميل محيسن، دراسة نحوية دلالية، د. خليل عبد الفتاح، و د. حسين راضي العابدي، جامعة الأقصى، غزة، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، مج: 20، ع: 2، السنة 2012 م.

3. اللغة العربية معناها ومبناها من أنواع التماسك النصي (التكرار، الضمير العطف)، أ.م. مراد حميد عبد الله، مجلة جامعة ذي قار، العدد الخاص، مجلد: 5، حزیران، 2010 م.

4. الرسائل الجامعية

5. التماسك النصي بين النظرية والتطبيق سورة الحجر أنموذجًا، فطومة الحمادي، رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر، سبكرة، الجزائر، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، 2004 م.

6. التماسك النصي في بنية حكم این عطاء الله السكندري، محمد محمود عیسی محاسنة، جامعة آل البيت، كلية الآداب والعلوم الانسانية، رسالة ماجستير.

ص: 82

الهوامش

1. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية، صبحي إبراهيم الفقي، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة: 2000 م: 96.

2. أثر العطف في التماسك النصي في ديوان (على صهوة الماء) للشاعر مروان جميل محيسن، دراسة نحوية دلالية، د. خليل عبد الفتاح، و د. حسين راضي العابدي، جامعة الأقصى، غزة، مجلة الجامعة الإسلامية للبحوث الإنسانية، مج: 20، ع: 2، السنة 2012 م: 329.

3. علم اللغة النصي: 98.

4. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، سعيد البحيري، الشركة المصرية العالمية للنشر، دار نوتال، القاهرة، ط 1، 1977 م: 122.

5. علم لغة النص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، تقديم: سليمان العطار، مکتبة الآداب، ط 1، 2077، القاهرة: 184.

6. ينظر: التماسك النصي في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي، دراسة أسلوبية، کریمة صوالحية، كلية الآداب واللغات، الجمهورية الجزائرية، جامعة الحاج لخضر، باتنه، 2011 م: 25 - 26.

7. ينظر: علم لغة النص، عزة شبل: 185.

8. نحو النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي، مکتبة زهراء الشرق، ط 1، 2011 م، القاهرة: 185.

9. اللسانيات والمجال والوظيفة والمنهج، سمير شریف، عالم الكتب الحديث، إربد، ط 1، 2005 م: 198.

10. ينظر: دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعيد حسن البحيري،

ص: 83

مكتبة الآداب، القاهرة، 2005 م: 94.

11. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، سعید حسن: 94.

12. علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات: 121.

13. علم اللغة النصي، الفقى: 74.

14. ينظر: علم النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي: 98 - 99.

15. علم النص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي: 128.

16. من أنواع التماسك النصي (التكرار، الضمير العطف)، أ.م. مراد حمید عبد الله، مجلة جامعة ذي قار، العدد الخاص، مجلد: 5، حزیران، 2010 م: 59.

17. ينظر: نحو النص (اطار نظري ودراسات تطبيقية)، د. عثمان أبو زیند، عالم الكتب الحديث، إربد، 2010 م: 132.

18. ينظر: نحو النص في ضوء التحليل اللساني للخطاب، مصطفى النحاس، مكتبة ذات السلاسل، الكويت، د.ط، 2001 م: 72.

19. ينظر: نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية: 158.

20. ينظر: أثر العطف في التماسك النصي في ديوان على صهوة الماء: 337.

21. ينظر: علم اللغة النصي: 248.

22. ينظر: معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر، عمان، ط 2، 2003 م: 206.

23. ينظر: من أنواع التماسك النصي: 59.

24. نسيج النص، الأزهر زناد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1993 م: 370.

25. شرح المفصل، للشيح العلامة ابن يعيش، تح: احمد السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة: 3 / 75.

26. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 250.

27. ينظر: في اللسانيات ونحو النص: 224.

ص: 84

28. ينظر: أثر العطف في التماسك النصي في ديوان على صهوة الماء: 339.

29. نهج البلاغة، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية، د. صبحي الصالح، انوار الهدى للطباعة والنشر، ایران - قم، ط 2، 1429 ه،: 560 - 561.

30. نهج البلاغة: 547.

31. نهج البلاغة: 550.

المصدر نفسه: 568.

32. نهج البلاغة: 557.

33. نهج البلاغة: 557.

34. نهج البلاغة: 556.

35. ينظر: لسان العرب، طبعة دار صادر، بیروت، ط 1، 1990: مادة (ضمر).

36. ينظر: النحو الوافي، عباس اللامي، دار المعارف، ط 1، 1991، 1: 217 - 218.

37. ينظر: التماسك النصي بين النظرية والتطبيق سورة الحجر أنموذجًا، فطومة الحمادي، رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر، سبكرة، الجزائر، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، 2004 م: 70.

38. نظام الربط والارتباط في تركيب الجمل العربية، مصطفى حمودة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، بیروت، ط 1، 1997 م: 155.

39. اللغة العربية معناها ومبناها.111

40. ينظر: نظام الارتباط والربط: مصطفى حمودة: 152 - 153.

41. المصدر نفسه: 195.

42. تحليل الخطاب، براون ويول، تر: محمد لطفي الزليطي، منير التريكي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1998 م: 256.

43. المصطلحات الأساسية في لسانیات النص وتحليل الخطاب، دراسة معجمية، نعمان

ص: 85

بوقرة، عالم الكتب الحديثة للنشر والتوزيع، إربد، د.ط، د.ت: 122.

44. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق 1: 161.

45. المصدر نفسه: 1 / 137.

46. ينظر: لسانیات النص، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط 2، 2006 م: 18.

47. ينظر: من التماسك في سورة يونس، حسين راضي العابدي، محية جامعة الازهر، غزة سلسلة العلوم الانسانية، 2013، مج (15)، ع (2): 42.

48. نهج البلاغة: 547.

49. نهج البلاغة: 548.

50. التماسك النصي في بنية حكم این عطاء الله السكندري، محمد محمود عیسی محاسنة، جامعة آل البيت، كلية الآداب والعلوم الانسانية، رسالة ماجستير: 51.

51. نهج البلاغة: 547.

52. المصدر نفسه: 556.

53. نهج البلاغة: 567.

54. المصدر نفسه: 567.

55. المصدر نفسه: 568.

56. المصدر نفسه: 568.

57. نهج البلاغة: 569.

ص: 86

أثرُ القَوَائِم فِي تَكشيفِ الدَّلالاتِ عهدُ الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأَشْتر أنموذجًا (مقاربةٌ تداوليّةٌ)

اشارة

أ.م.د رحيم كريم عليّ الشَّريفيّ

جامعة بابل / كلية الدراسات القرآنية

أ.م. د حسين علي حسين الفتليّ

وزارة التربية / الكلية التربوية / بابل

ص: 87

ص: 88

المقدمة

الحمدُ لله الذي لاتُعدُ قوائُم نَعْمائِهِ وآلائه، ولا تُقيَّد عناصرُ فَضْلهِ وإحسانهِ، وصَلّی

اللهُ على محور التقوى والهُدى نبيّ الرحمة محمّدِ، وعلى آله تِبيانِ الدّلالات والرَّشاد،

والأحكام.

أمّا بَعْدُ، فمِن أجلِ الوصول إلى نتائج مُعجِبة لمَنْهَج يُحْيي الدّلالاتِ، ويُشِيعُ ثقافة الفهم السريع، والتصوّر اللامتناهي للمفاهیم، نعتمد آلية منهجيّة لفهم خطاب الإمام عليّ (عليه السلام) عبر صنع منهجيّ منظّم، قائم على نَسْج قوائم وجداول للمفاهیم، والكلمات المحوريّة التي تنتظم في سياق واحد من أجل حصرها مرّة، ومقاربتها دلالیًّا مرّة أخرى، وهي مسألةٌ - فيما نخالُ - لم تطرحْ من قبلُ، ممّا يجعل دراستنا جديدة في بابها، إذ لم نجدْ - بحسب اطّلاعنا صنیعًا سُبقنا إليه على وَفْقِ ما نترسّمه إنْ تنظيرًا أو تطبيقًا(1*).

وهذا ما سيتناوشُه البحثُ في ضوء مباحثتنا التي جعلت الخطاب العلوّي الإصلاحيّ - في ظل عهد الإمام عليّ (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر (رضي الله عنه) حينما ولّاه مصر - مادة بحثنا ومحط دراستنا إذ ألفينا كثرة القوائم فيه.

وفي ظلّ هذه المعاينة، والإلماحة المتبصرة في العهد المبارك، نرى أنْ يقوم البحثُ على ثلاثة مطالبَ، هيّ:

المطلب الأول: أثر القوائم في صنع الثقافة

إذ لا يخفى على المتبصّر أنّ القوائم والجداول تُعدّ أساسًا في ضبط البيانات، والحؤول دون تشظيّها وتناثرها، فضلًا عن أنّها تعدّ ركيزةً صلبةً في تكشيف الدلالات التي يرقبها القارئ، والمتدبّر في هذه البيانات (العناصر) التي تنتظم فيها

ص: 89

المطلب الثاني: القوائم في رسالة الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر دراسةً تطبيقيةً

سَنَفْلي في هذا المطلب القوائم التي ترشّحت في العهد المبارك، إذ يمثّل العنوانُ الرئيسُ للقائمة البؤرة المركزيَّة، القادرة على استدعاء مجموعة من العناصر التي تنتظم فيه، عبر نَسْجِ شبكة من المسارات والتتابعات، والمجالات الدّلالية التي تُعدّ عناصر متضافرة في استجلاء مفهوم العنوان.

المطلب الثالث: المقاربات التداولية للقوائم في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر.

في هذا المطلب سنقارب تداولیًّا بين العناصر المنتظمة في القائمة الواحدة بمعاينة السياقات المصاحبة لهذه العناصر سواءٌ أكانت لفظيَّة أم مقامیّةً إذ يعملُ - بلا رَيْبَ - العنوانُ الرئيسُ على استدعائه، فالاقترانات اللفظّية المترشحة في هذه القوائم (العناصر)، أو (المصاحبات) لها أثرٌ في استظهار المعاني، وتكشيف الدّلالات.

والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد و آله الطاهرين

ص: 90

المطلب الأول: أثر القوائم في الثقافة (مقاربة تداولية)

في هذا المطلب سنكشف الخِمار عن أمرين مهمّين، نحسب أنّهما يعينانِ على الوصول إلى المقاربات الدّلالية التداوُليّة لمصطلح القوائم من جهة، وبيان أهميتها في الثقافة الاجتماعية التداولية من جهة أخرى.

أولاً: القوائم مقاربة تأصيلية:

1. في اللغة:

تبدّي ل(ابن فارس ت 395 ه) أصلانِ صحيحانِ لمادة (ق وم) ((يَدُلُّ أَحَدَهُمَا عَلَی جَمَاعَةِ نَاسٍ، وَرُبَّمَ اسْتُعِيرَ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْخَرُ عَلَی انْتِصَابٍ أَوْ عَزْمٍ))(2).

ويتكشّف لنا في ضوء هذا النصّ أنَّ القائمة حاصلة في ضوء مجموعة من العناصر، وهذا ما عبّر عنه ابن فارس ب(جماعة ناسٍ)، وربّما استعير في غيرهم، زِدْ على ذلك أنَّ القائمة تدلُّ على الحَتْم والعَزْم والضَّبط؛ لمقتضى مجيئها لهذا الغرض.

وتتجلّى دلالة لفظة (القائمة) في الاستعمال الاجتماعيّ التداوليّ، بمجموع العناصر والمكونات فيها كقائمة السرير والدابة وقوائم الخوان، وصولاً إلى قائمة الكتاب، قال الزمخشري (538 ه): ((وقامَتْ الدابةُ على قوائِمَها، وهذه قَائِمَةِ الخِوَانِ والسَّرِيرِ (...) وقامَت لعبةُ الشطرنج صارَتْ قائمَةٌ (...)، ورَفَعَ الكَرْمَ بالقَوَائِم والكَرْمةَ بالقائِمةَ))(3) قال الفيروز آبادي (ت 817 ه): ((والقائمةُ واحدةُ قوائمِ الدابةِ، والورقةُ من الكتابِ،

ومِن السيفِ مقبضُهُ))(4).

ونَرْقُبُ هذا البيان تداوليًا عند مرتضى الزَّبيديّ (1205 ه)، قال: ((القَائِمَةُ: الوَرَقَةُ من الكِتَابِ، وَقد تُطْلَقُ على مَجْمُوع البَنَامَج... قَائِمَةِ الخِوَانِ والسَّرِيرِ والدَّابَّةِ.! وقَوِائِمُ الخِوَانِ ونَحوُهَا))(5).

ص: 91

وتأسيساً على ذلك نَرْصدُ مقاربة تداولية لدلالة القائمة ألصق بمباحثتنا وهي الورقة التي تقيّد بها الأسماء، والأشياء في صنف قائم(6)، وفي صورة صفوة وأعمدة، وتكون على هيأة عناصر زمرة، حَلْقة، أو بنية جبريّة(7)، باستحضار الانتظام، والتتابع، والاطّراد.

ثانياً: في الاصطلاح:

في ظلّ معاينة حدّ القائمة في الكتب التي وقفنا عليها، وجدنا أنّها - بوصفها مصطلحاً - لا تخرج عن الدلالة اللّغوية، التي رَصَدْناها في المعجمات العربية، وهي الورقةُ التي تقيّد بها الأسماء، والأشياء في صفٍّ قائم أو عموديّ رَغْبةً في اختصار الزمن، والمسافات، وتحصيل المعلومات بسرعة(8).

ومن هنا فالقائمة هي الوعاء، أو الظَّرْف الذي تنتظم فيه العناصر والأرقام وغيرها؛ من أجل تحليلها والوصول في ضوئها إلى النتائج المرجوّة(9).

وهي أيضاً مجموعة من العناصر التي تنتظم فيها، ونرغب في دراستها، رَغْبةً في الحصول على بعض النتائج حولها، ومن هنا فهي العتبة القصدية التي يجري البحث عنها، والتي تحقّق أغراض الدراسة(10).

ثالثاً: أهمية القوائم في الثقافة التداولية:

لا يخفى على ذي نُهية أنّ العقلَ قائم على التنظيم والترتيب، وحصر العناصر في قوائمَ وجداولَ خوفاً من تشظّيها وتناثرها، ويبدو أنّ مسايرة العقل الفعّال في هذا الصنيع يدلّ على أنّ الحياة تتطلب التعيين والتخصص، لا العبثية والفوضوية من أجل الوصول إلى المقاربات الحقيقية، والمحددات الواضحة للعلم المراد بیانه بله الموضوعات والمطالب والمفردات المرغوبُ تفضيلها واستظهارها، وتفصيلها، ومن هنا جاءت تلكمُ القوائمُ والجداول.

ص: 92

وتأسيساً لهذا الفَهْم والتصور انبرى العقل إلى التفكير في تقييد العلم، وجَدْوَلته في استشرافه القضية المتحدث عنها، وهذا ما نلمحه، ونرصده في المنظومة الثقافية الإسلامية، وقبل أن نستحضر ما يعنّ لنا من مُثُل بهذا الصدد، يجدر بنا أن نستحضر حقيقة مفادها أنّ القرآن الكريم بوصفة كتاب العربية الأكبر، والمدوّنة الإلهية العظمى الذي انطوى على المسائل العقدية والفقهية والثوابت الأخلاقية والاجتماعية والقضايا الكونية والعلمية، وغيرها، التي جاءت بأسلوب غاير أساليب العرب وفارق نظمهم في السموّ والعلوّ، فجاء نسيج وحده و فرید نظمه بَلْهَ أسره للقلوب، وأخذه بمجاميعها، ونستشعر الوجه التأثيري المتحصل لكتاب الله (عزّ وجلّ) في قلوب سامعيه، إذ نجد الوجه الإعجازي للنصّ القرآني، بوصفه وجهاً له سُهمة في وجوه إعجاز القرآن الكريم، قال أبو سليمان الخطّابيّ (388 ه): ((قُلتُ في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشّاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنّك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللّذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور))(11).

فالنصوص الإبداعية العالية البناء الفنية الأداء غزيرة الوجود إنتاجاً من العقلية البشرية، مهما بلغ مداها، لا تصل إلى مبلغ النص القرآني، أو تقترب منه على استحياء قطُّ، فعامل التأثير في النص القرآني ليس له نظير يشابه، ولا يداني بنظير ألبتة، وبهذا تجلت سمة الاختراق بين ما هو كلام بشريّ، وما هو كلام إلهيّ، فتتحقق في الثاني قوة التأثير الخطابي، وعامل الإقناع النصيّ الذي يُغيّر حياة الإنسان كليّاً، وهذا ما لا يمكن أن يحقّقه أيّ نصّ آخر غير النصّ القرآني(12).

ص: 93

وعَوْدًا على بِدْء والعود أحمدُ، فإنّنا نرى أنّ القرآن الكريم إذا ما استثنينا المدوّنات التي سبقت كتاب الله (عزّ وجلّ) سواء أكانت کتباً سماوية أم كتباً فلسفية ومقالات أخلاقية وأدبية ندّت من لدن كبار فلاسفة اليونان والرومان والهنود، فإنَّنا نجزم قاطعين أنّ القرآن الكريم قد أسّس لتغطية القوائم والجداول في المجالات التداولية الثقافية الإسلامية التي تمثّل العتبات المختارة مادّتها، ودراستها.

ويبدو أنّ النص القرآني قد ألمح إلى هذا التبويب والتفصيل المنظّم للقضايا والمسائل المختلفة التي عرضها، قال تعالى: «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» [سورة هود: 1] وقوله تعالى: «وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ» [سورة يونس: 37]، وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)» [سورة النحل: 89]، وقوله تعالى:

«وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» [سورة الكهف: 54].

فالتفصيل، والبيان، والتبيان، والتنوير، والنطق بالحق، والتصريف كلّها أمارات ودلائل على القوائم والجداول بوصفها آليّة من آليّات التفصيل والتبيان والبيان في كتاب (الله عزّ وجل).

وإذا ما رُحْنا إلى كتاب الله (جلّ جلاله) و جدنا هذه القوائم والجداول شاخصة أمامنا، ففي سورة الفاتحة بوصفها السورة الأولى في المصحف الشريف نجد هذه التقنية حاضرة، تأمّل معنا أوصاف لفظ الجلالة (الله) على هيأة قائمة مؤلّفة من أربعة عناصر الحمد لله: (ربّ العالمين)، (الرحمن)، (الرحیم)، (مالك يوم الدين)، هذه القائمة آيات عن صفات الله عزّ وجل، وإذا ما صرفنا وجهَنا تلقاء سورة الإخلاص التي تمثّل السورة ال(112) من سور القران ال(114) نجد هذه التقنية حاضرة في وصفِ اللهِ (عزّ وجلّ) أيضاً: (قل هو الله أحد - الله الصمد - لم يلد - ولم يولد - لم يكن له كفواً أحد).

ص: 94

ونجد أنواع تكلّم الله (عزّ وجلّ) في الخطاب القرآني بوصفها قوائم واضحة المعالم: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» [سورة الشورى: 51] (وحيّا، مِنْ وراء حجاب، يرسل رسولًا).

ويمكن القول: إنّ الأمثلة كثيرة جداً لا تُعدّ ولا تُحصى نخشى من الإطالة و الخروج عن الإيجاز الذي ننشده في هذا المطلب.

ويبدو أنّ هذا التأسيس القرآني، قد أفاد منه علماء العربية، فنجدُ النحويين يركنون إلى هذا الصنيع من أجل التقييد والتبين والتفصيل قال ابن مالك (ت 672):

کلا منا لفظٌ مفیدٌ کاستقم واسمٌ وفعلٌ ثم حرفُ الكلم(13).

الكلمة ثلاثة أقسام اسم، فعل، حرف، والفعل ماض، مضارع، أمر، وغيرها... وعند البلاغيين أقسام علم البلاغة، علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع(14)، وغيرها من التقسيمات في معارف العربية المختلفة.

المطلب الثاني: القوائم في عهد الإمام عليه السلام (مالك الأشتر) دراسة تطبيقية

لا جَرَمَ أنَّ كلام الإمام علي (عليه السلام) الذي انتظم في النهج المبارك، وغيرها من المدوّنات التي توافرت على نقل كلامه (عليه السلام)، دليل على أنّها تنبع وتمتح من مصدر واحد، إذ إنّ جلاء النصوص ورصفها وتناسب موضوعاتها ومضامينها تدلّ على هذا النبع الخلّاق، والمتح العظيم، وأنّها تجري کالسلسبيل من مجرى واحد(15).

وهذا ما فطن إليه ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) من قبل قال: ((وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونفساً واحداً، وأسلوباً واحداً کالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم

ص: 95

لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحوّلاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال مَن زعم أنّ الكتاب أو بعضه منحولاً إلى أمير المؤمنين))(16).

وعندما نبصر عهده الشريف ل(مالك الأشتر) نجد النصّ المحكم والمتقن، وهي من أمارات صحة سنده؛ وذلك لما يمتاز به هذا المتن من سبك منقطع النظير في المعنى والمبنى، وإنّ الباحث الخبير ليشعر أنّ روحاً نورانية تكمن وراء كلّ عبارة من عباراته، وأنّ هناك خيوطاً نسجت أفكاره، ومفاهيمه لا يدركها إلّا مَن توغّل في أعماقها، واكتشف الروح السامية والمعاني العالية من وراء الألفاظ التي تعبّر عنها، يقول الدكتور عباس علي الفحّام: ((ومن الغرابة (...) أن يُطعَنَ في صحة نسبة الكلام في نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بحجّة اشتماله على التقسيم العددي (...) وهذا مخالف لما أثبته الأسلوب القرآنيّ، وأكد استعماله وأكثر من الحديث النبويّ في تقسيماته الأخلاقية، أما الإمام علي (عليه السلام) فغير مستكثر عليه أسلوب الحصر والتقسيم العددي، لما عرف من ملکات لغوية هائلة وتنظيم فكري عجيب، يستطيع به التوليد على الأثر القرآني والنبويّ في مجالي الفنّ والموضوع الشائع فيهما هذا الاستعمال))(17).

و آن الأوان أن نستكشف أهم القوائم التي انطوى عليها هذا العهد المبارك، الذي يعدّ من أهمّ النصوص وأغناها، وأجمعها لمحاسن الأخلاق، والقيم والمعارف في مجالات الحكم والسياسة وحقوق الإدارة والاجتماع والاقتصاد والتربية، وهو البرنامج العلمي الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع،(18) في ظلّ استشراف العنوان الرئيس للقائمة الذي يمثل البؤرة المركزية القادرة على استدعاء مجموعة من العناصر والبيانات، والأرقام المنتظمة منها عبر تناسلها على سطح القائمة باسترفاد السياقات والتتابعات الكلامية.

ص: 96

وبدا لنا أنّ استغوار القوائم، واستنباشها من المتن العلويّ المبارك (العهد) يتطلّب خبرة وإحالة عميقة للفكرة، إذ هو ليس متیسّراً لكلّ أحد، إلا لأولئك الذين امتلكوا زمام اللغة، وخبروا دقائقها وأسرارها، ولا سيّما المتكلّم الإمام علي (عليه السلام) الذي أعمل فكره في استظهار عناصر القضيّة المراد بيانها و تنفیلها، فضلاً عن ذلك مقدرته على لَمْلَمة الأفكار وتسييجها من أجل الإحاطة بها من أنحائها جمعاء(19).

القائمة الأولى: أعمال الوالي ووظائفه:

1. جباية الخراج

2. جهاد العدو

3. استصلاح الأهل

4. عمارة البلاد.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللِّهَ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَیْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِباَيَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَرَةَ بِلَدِهَا))(20) هذه الكلمات الأربع (الجباية، الجهاد، الاستصلاح، العمارة) تمثّل عناصر وأرقاماً وبيانات فهي مرتكزات رئيسة، وأركان مهمة تقوم عليها الدولة.

فالعنصر الأول: يمثّل المدار الاقتصادي للدولة، والثاني: يمثل المدار العسكري والأمني، والثالث: يعني بالجانب الإداري والاجتماعي والأخلاقي، والرابع: يتصل بالجانب العمراني الموصول بتنمية البلاد.

ويتجلّى لنا أنّ البؤرة الرئيسة للقائمة هي مسؤولية الحاكم اتجاه شعبة، إذ تنحصر مهامه، وترتكز في أربعة عناصر حدّدها الإمام (عليه السلام) باستشراف تنامي فكره الذي يستدعي نوعاً من الرؤية في حصر الفكرة باسترفاد عناصر منتظمة مستوفية.

ومن الحقيق بالذكر أنّ الإمام علي (عليه السلام) على الرغم من أنَّه قد قدم عنصر

ص: 97

(جباية الخراج)، وأخر عنصر (عمارة البلاد) إلّا أنّه في مطاوي العهد الشريف نراه ينبّه مالكاً على تقديم عمارة الأرض على استجلاب الخراج عند التزاحم، والعمل بالمرجوح دون الراجح(21) قال (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَبِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَرَةِ وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ

الْبِلَدَ وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلً))(22).

القائمة الثانية: صفات الوالي والقائد الإيمانية:

1. تقوى الله (جلّ جلاله)

2. إيثار طاعة الله (جلّ جلاله)

3. اتّباع أحكام الله (جلّ جلاله) و فرائضه وسننه.

4. نصرة الله (عزّ وجلّ) بالقلب واليد واللسان.

5. کسر النفس عن الشهوات، ومنعها من المآرب غير صالحة.

قال (عليه السلام): ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللِّهَ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتيِ لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا باِتِّبَاعِهَا وَ لَا يَشْقَى إلِّهَ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اللهَّ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ يَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ)(23).

رصد الإمام علي (عليه السلام) الوصايا الخمس في إصلاح النفس وهي مقدمات لازمة في تحلي الولاة بها، قبل تولي إدارة البلاد، والقيام بأمر العمران، هذه الإشارات العلوية لا تختصّ بوالٍ دون آخر، ولا بلد من البلدان، إنّها تشمل الجميع من أجل تذوّق السعادة المنشودة، والمستقبل المأمول.(24)

وبدا لنا أنّ الإمام (عليه السلام) قد استثمر المعجم القرآني في سرد هذه العناصر

ص: 98

المتصلة بالقائمة، هذا التثمير الماتع الناجع يمثل قرينة سياقية عظيمة الموضوع عالية البيان، قال تعالى: «وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» [سورة البقرة: 197] وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» [سورة محمد: 7] وقوله تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» [سورة فاطر: 10].

القائمة الثالثة: قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات:

1. العمل الصالح: (كبح جماح النفس، البخل في رغباتها).

2. التعامل مع الناس (الرحمة لهم، المحبة لهم، اللطف بهم، العفو والصفح)

3. الابتعاد عن عداوة الله (عزّ وجلّ).

4. عدم الندم على العفو.

5. عدم التبجح بالعقوبة.

6. عدم التسرع على عمل فيه سعة من العفو.

7. ترك الغرور بإقامة الحدّ.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ

فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ (...)فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللهَّ فَوْقَ مَنْ وَلَّكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً))(25).

ممّا لا شكّ فيه أنّ خير ما يذخره الإنسان لدنياه وآخرته هو العمل الصالح؛ لأنّ المال

ص: 99

إلى نفاد وزوال، قال تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» [سورة الكهف: 46] والباقيات الصالحات هي الرصيد الذي يختزنه الإنسان في كتاب لا يضلّ ربي ولا ينسى، وإنّ من أصدق مصادیق العمل الصالح أداء العبادات الشرعية الواجبة والمستحبّة، وقضاء حوائج الناس، وعدم اتّباع الهوى والشهوات(26).

ونلمح الرحمة والمحبة للناس بوصفهما عنصرين أساسين من عناصر نجاح القائد، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» [سورة الانبياء: 107]

القائمة الرابعة: معاييرقبول الأعمال لدى الإنسان

1. أوسطها في الحق.

2. أعمّها في العدل.

3. أجمعها لرضى الرعية، قال الإمام علي عليه السلام: ((وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ)).(27)

الا جرم أنّ الإمام (عليه السلام) قد ترسّم عناصر ثلاثة متظافرة في استظهار حب الأمور لدى الوالي، من أجل ضمان سعادة الناس وإحراز رضاهم، وقد استعمل الإمام صيغة أمرية مؤدّاة بالفعل المضارع المقترن ب(لام الطلب) قاصداً الوجوب زد على ذلك توخّی عليه السلام استعمال اسم التفضيل أربع مرّات، من أجل شدّ العناصر في القائمة مع البؤرة الرئيسة (عنوان القائمة) أحب الأمور، إذ جاءت العناصر الثلاثة مبتدئة باسم التفضيل (أوسطها، أعمّها، أجمعها).

ص: 100

القائمة الخامسة: صفات المُبعدين عن المشاورة.

1. البخيل

2. الجبان

3. الحريص

4. وزير الأشرار

5. الشريك في الآثام

6. عون الأثمة

7. أخو الظلمة.

قال الإمام (عليه السلام): ((وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ

وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ))(28).

ويتجلى لنا في تقسيمات الإمام (عليه السلام) الدقة، والتثبّت من سرد عناصر القائمة، فضلاً عن ذلك بيان صفة كلّ عنصر إتماماً للمعنى، وإزادة في الفكرة والمضمون، ولا يغيب عن الذهب تراتبية هذه العناصر بحسب قوتّها في السلب.

القائمة السادسة: طبقات الرعيّة:

1. جنود الله

2. کتاب العامّة والخاصّة

3. قضاة العدل

4. عمّال الإنصاف والرفق

ص: 101

5. أهل الجزية والخراج

6. مسلمة الناس

7. التجار

8. أهل الصناعات

9. الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.

قال الإمام (عليه السلام): ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ

وَ لَا غِنىَ بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنوُدُ اللِّهَ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْاَصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّلُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْجَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ))(29).

في هذه اللوحة من كلام الإمام (عليه السلام) نجد تعمّقاً في الخطاب العلويّ حينما يقسّم الرعية طبقات، معطياً كل طبقة حقها ومستحقّها، وفاقاً لأثرها في المجتمع الإنسانيّ، فهو (عليه السلام) يؤسّس للمدينة الفاضلة التي قوامها العدل والإنصاف، وأساسها التعاون والتحابب والتوادد.(30)

إنّ هذا التقسيم الأنثروبولوجي الرائع للمجتمع من لدن الإمام (عليه السلام) يوحي بدراية طبقات المجتمع وتصوّره الحقيقي المدعوم بالأدلة على الفهم الكامل بالمنظومة المجتمعية كافّة.

القائمة السابعة: واجبات الجنود ومسؤولياتهم:

1. حُصُون الرعية.

2. زَيْنُ الوُلاةِ

3. عِزُّ الدين

4. سُبُل الأمن.

ص: 102

قال الإمام (عليه السلام): ((فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللهَّ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَةِ وَ عِزُّ

الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إلَّا بِمَا يْخُرِجُ اللُّهَ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَی جِهَاد عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمَدُونَ عَلَيْهِ فيِمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ))(31).

أبان الإمام (عليه السلام) بتقسيم محکم واجبات الجنود ومهامّهم، بعناصر أربعة أُدّیت بمركبات إضافية ناقصة، ويلحظ أنّ الجامع لهذه التقسيمات الأربعة هو الغرض الأمني المتمثّل بحفظ البلاد والعباد، فأعظم به من غرض عظيم، ومن هنا نلمح أنّ الإمام قد سنّ هم قانوناً لحفظ حقوقهم، وحقوق عوائلهم.

القائمة الثامنة: صفات الجندي المثالي:

1. الناصح لله (جل جلاله)، ولرسول الله (صلّى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام).

2. نقيّ الجيب.

3. الحليم.

4. بطيء الغضب.

5. قابلٌ للعذر.

6. رؤوف بالضعفاء.

7. قويّ.

8. صبور.

9. غير مستكين.

10. من أهل المروءة.

11. ذو حسب.

ص: 103

12. أصله کریم.

13. تاريخه مشرّف (حَسَن)

14. شجاع.

15. کریم.

16. سمح.

قال الإمام (عليه السلام): ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ

لِإِمَامِكَ وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ وَ

يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَيَنْبُو عَلَی الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثيِرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمَرُوءَاتِ وَالْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَحَةِ))(32)

نقش الإمام (عليه السلام) مسرداً تفصيلياً بصفات الجنود، مستغرقاً في ذكرها؛ فهي تمثّل حقلاً دلالياً، ويتبدّى لنا أنّ عظمة مهمّة الجندي، وجلالة مسؤوليّته تتطلب صفات خاصّة أشار إليها الإمام (عليه السلام)، وهي صفات عظيمة المضمون، جليلة القدر.

القائمة التاسعة: صفات القاضي:

1. أفضل الرعية.

2. لا تضيق به الأمور.

3. لا تمحّکه الخصوم.

4. لا يتمادى في الزلّة.

5. يتابع الحق إذا عرفه.

6. لا تشرف نفسه على طمع.

7. يتقصّى الفهم.

ص: 104

8. وَقوف بالشبهات.

9. أخوذ بالحجج.

10. قليل التبرّم بمراجعة الخصم.

11. صبور في تكشّف الأمور.

12. قويّ عند اتّضاح الأمور.

13. لا يزهو بالإطراء.

14. لا يُستمال للإغراء.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ

مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَدَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يْحَصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إلَی الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَی طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَی تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ))(33)

نبصر كثرة عناصر هذه القائمة التي حفلت بكلمات الإمام (عليه السلام) بخصوص القضاء، وصفات القاضي؛ لأنه من المراكز الحسّاسة في الدولة الإسلامية، إذ اشترط الإمام عليه السلام في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمة تقوًى وورعاً وكمالاً ونزاهةً، إذ تُعدّ من العناصر المشرّفة والبيانات العظيمة(34)

القائمة العاشرة: واجبات الوالي تجاه القاضي:

1. تعاهد أحكامه الصادرة.

2. إكرامه وبذل العطاء له.

3. إنزاله منزلة رفيعة.

قال الإمام علي (عليه السلام): ((ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ افْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ

ص: 105

عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَی النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا))(35)

حرص الإمام (عليه السلام) على إسباغ القاضي جملة من النعم الظاهرة المشجّعة، والحوافز السخيّة؛ من أجل صيانة القضاء والإبقاء على مهابته، لأنَّه بصلاح القاضي، وقوّته يصلح القضاء ويتّسم بالقوة والمهابة، ومن هنا جاءت عناصر هذه القائمة مؤكدة الثقة التامة بأحكام القاضي وتعاهدها، وإجزال العطاء المادي والمعنوي له، وإنزاله المنزلة الرفيعة، مهابة الناس من جهة، ولا يمدّ عينه إلى رشوة أو هبة أو عطية وإلى ذلك؛ العلم الإمام أنّ القضاء أهم جهاز في الدولة وهذا ما ألفيناه في بيان علة هذه العناصر في الخطاب العلويّ.

القائمة الحادية عشرة: معايير اختيار العمّال:

1. الاختبار.

2. الابتعاد عن المحاباة في اختيارهم.

3. استعمال أهل التجربة.

4. العفّة والحياء.

5. قدمة في الإسلام.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّلِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً وَ لَا تُوَلِّهِمْ

مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبيُوُتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً))(36)

ترسّم الإمام (عليه السلام) معايير وضوابط جليلة في اختبار العمّال باسترفاد تقنيّة

ص: 106

التفصيل من أجل استيفاء الدلالات، والإحاطة بها، إذ كشف عن ماهية كلّ عنصر من هذه العناصر التي انتظمت في هذه القائمة، وهذا ما نستشرفه في النصّ المبارك، ولا يخفى استلماح ثيمة الأفضلية والأحسنية في النصّ بلحاظ كثرة أسماء التفضيل فيه من نحو: أكرم، أصحّ، أقلّ، أبلغ، زد على ذلك معاينة دلالات الكلمات، (اختباراً) توخّ منهم، من أهل البيوتات الصالحة والمتقدّمة؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) في باب استظهار معايير التعيين الصائب، و ضوابط الاختبار الموفّق.

القائمة الثانية عشرة: صفات كُتّاب الديوان:

1. استصفاء الخيّر والمحمود السيرة.

2. شاكر للنعمة.

3. فطن لا يعرف الغفلة.

4. مطيع.

5. يثق بنفسه.

6. قويّ في التصريح.

7. عالم بالأمور.

8. له منزلة وأثر في القوم.

9. أمين.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَ

اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الَخْلَقِ

مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَفٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَإٍ وَ لَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّلِكَ عَلَيْكَ وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَ الصَّوَابِ عَنْكَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَ لَا

ص: 107

يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ خِدْمَتِهِمْ وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْءٌ وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً))(37)

ويتجلى الأمن الثقافي في عناصر هذه القائمة المتّصلة بصفات الكتّاب، إذ حرص الإمام (عليه السلام) على سرد صفات الكاتب الذي يجدر بالوالي أن ينتبه عليها، ويحرص على وجودها فيه، فهو موضع سرّه، ويده اليمنى، والأمين على صناعة إنشاء الكتب، والدواوين والرسائل والوصايا التي تخرج من دار الولاية والإمارة.

القائمة الثالثة عشرة: أقسام التجار وأهل الصناعات:

1. المقيم منهم.

2. المضطرب باله. (المتردّد به بين البلدان)

3. المترفّق ببدنه (المكتسب).

قال عليه السلام: ((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ

مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ))(38)

شخّص الإمام (عليه السلام) أقسام التجار وذوي الصناعات في ثلاثة عناصر، إذ أُدّيت بأسماء الفاعلين: المقيم، المضطرب، المترفّق، لأنّ الثلاثة من جنس واحد، فناسب الا بينها.

ص: 108

القائمة الرابعة عشرة: أعمال التجّار الإيجابية:

1. موادّ المنافع (أصلها).

2. أسباب المرافق (ما ينتفع به من الأدوات والآنية)(39)

3. جُلّاب البضائع من الأماكن القريبة والبعيدة.

4. أمان من العوز والفقر.

5. اطمئنان ووثاقة بمعاملاتهم التجارية.

قال الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ))(40)

فقد عدّ الإمام (عليه السلام) خمسة عناصر من قائمة أعمال التجّار الجيدة، إذ جاءت على هيئة خمس جمل مؤكّدة ب(إنّ) المشبهة بالفعل على نسق يكاد يكون متشابهاً.

القائمة الخامسة عشر: صفات التجّار السلبية:

1. الضيق الفاحش.

2. الشحيح القبيح.

3. المحتكر.

4. المتحكّم بالبياعات.

قال الإمام (عليه السلام): ((إنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَ احْتِكَاراً

لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَ عَيْبٌ عَلَی الْوُلَةِ فَامْنَعْ مِنَ

الاِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهَّ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ

ص: 109

فَنَكِّلْ بِهِ وَ عَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ(41).

فالمتأمّل في النصّ يجدْ أنّ الإمام قَدْ أبانَ عن صفات التجّار السَّلبيّة من عسر المعاملة والبخل، وحَبْس المطعوم، ونحوه عن الناس لا يسمحون به إلَّا بأثمانٍ فاحشةٍ، وقد أطنَبَ الإمام (عليه السلام) بصفة الاحتكار، لما لها من مضرّة للعامة، ومذمّة على الولاة.

ونرصد في النص العلويّ المعايَن قائمة صغرى (البيع السَّمْح) إذ انتظمت في عنصرين؛ الأول: الميزان العدل، والآخر: الأسعار العادلة.

ويتبدّى لنا أنّ تداخل القوائم في النصّ العلويّ دليل على الرؤية العلوية الثاقبة، والإحاطة الوسيعة بأحوال المجتمع.

القائمة السادسة عشرة: أصناف الطبقة السفلى:

1. المساكين.

2. المحتاجين.

3. أهل البؤسی.

4. الزَّمنی.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ

الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى))(42)

القائمة السابعة عشرة: مساويء احتجاب الوالي عن الرعية:

1. شعبة من الضيق.

2. قلّة علم بالأمور.

3. اشتباه الأمور وخلطها عند العامة.

4. تصغير الرعية للعظيم من الأمور.

5. تعظيم الرعية لصغار الأمور.

ص: 110

6. تحسين الرعية القبيح.

7. تقبيح الرعية الحسن.

8. خلط الرعية العمل الصالح بالعمل الطالح (الحق بالباطل).

قال الإمام (عليه السلام): ((أَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ

الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ الِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ

عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ

الْقَبِيحُ وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ))(43).

أبان الإمام (عليه السلام) عن دراية واسعة بمساوي الاحتجاب عن الرعية، عارفاً بنتائجه ومآلاته، ولا يخفى التسلسل الواعي لهذه العناصر التي تمثل بيانات واضحات للقائمة الرئيسة.

القائمة الثامنة عشرة: وصايا تعامل الوالي مع البطانة (الحاشية):

1. المنع من الاستئثار والتطاول وقلة الانصاف.

2. عدم المِنحِة من الأرض.

3. التمسك بالحقّ.

قال الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَادَّةَ أوُلَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَی غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أَلْزِمِ الْحَّقَ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابرِاً

مُحْتَسِباً))(44).

ص: 111

القائمة التاسعة عشرة: فوائد الصلح المحمود:

1. الدعة للجنود.

2. الراحة من الهموم.

3. أمن للبلاد.

قال الإمام (عليه السلام): ((الْحَقِّ وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ و للهَّ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَدِكَ))(45)

نلحظ أنّ الإمام (عليه السلام) قد استوفي أقسام فوائد الصلح، وهي أقسام جوهرية عامة، بكلمات قصار.

القائمة العشرون: عواقب سفك الدماء:

1. جلب النقمة.

2. سوء العاقبة.

3. زوال النعمة.

4. قِصَرُ العُمُر.

قال الإمام (عليه السلام): ((إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى

لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ

حَقِّهَا))(46)

وعی الإمام (عليه السلام) مَعلَم حقن الدماء، وحفظها إذ إنّ شرافة الإنسان وقداسته هو أساس الوجود، ومن هنا فإنّ سفك دمه بغير وجه حقّ يوجب عواقب لا تُحمد، ونتائج لا تسرّ.

ولا بدّ من القول: إنّ هناك قوائم ندّت من هذا العهد المبارك دسسناها لقلّة عناصرها، واختلاط بعضها بالقوائم التي ذكرناها، وكذلك رغبة في الإنجاز والاختزال.

ص: 112

المطلب الثالث: المقاربات التداولية في قوائم عهد الإمام (عليه السلام):

في هذا المطلب سَنَفْلي أهم المقاربات التداوُليَّة التي نَحْسَبُ أنّ العهد العلويّ المبارك قَدِ انطوى عليها، وسيكون الإيجاز والاختزال الطريق المُثْلى تماشيًا مع سنن البحث العلميّ تارةً، ولكون البحث متّصِلاً بتكشيف القوائم والجداول التي انتظمت في العهد الشريف، وإنّ الاستغوار في تلكم المقاربات التداولية قد يُبْعدنا عمّا يَمَمْنا و قَصَدْنا تارةً أخرى.

إنّ العناصر أو البيانات التي تحصّلت من القوائم التي سردناها من قبل في المطلب الثاني، - نقطع جازمين - من أنّها جاءت مطابقة للمجتمع الإسلاميّ آنذاك من جهة أنّها تلاطف المجال التداولي وتغازله، وأنّ العهد الشريف يمثّلُ - بلا شكّ - مجتمع الدراسةِ.

ويَظْهَر أنَّ المقاربات التداوُليّة أصبحت مَأْلوفة وسائدة في الدراسات اللسانيّة الحديثة، ولا سيّما في تحليل النصوص المختلفة سواءٌ أكانت التراثية أم المعاصرة، إذ لا تكتفي هذه المقاربات على القراءة، والرؤي من داخل النصّ، بل تستدعي القراءة الفاحصة والدقيقة قراءة الأفكار والمقاصد باستشراف الواقع المعيش فيه، ومعاينة الظروف والقرائن المختلفة سواء أكانت الحالية أم المقامية المحيطة بالنصّ، وكذلك التبصرة بالعوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية المتصلة بالنصّ(47)

وهذا ما ألفيناه في عهد الإمام علي (عليه السلام) ل (مالك الأشتر)، فليس العهد نصّاً أدبياً سارحًا في الخيال، أو نظریات مثالية مجرّدة لا تمتُّ إلى الواقع بلحمة ونَسب، إنَّما هو منهج واقعي، وتعالیم و قواعد وأسس حاضرة في المجتمع الإنساني جسّدها أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكومته الراشدة على الأرض، وفي تجربته السياسية والإدارية المعقّدة في إدارة الدولة(48) ((لقد جسّد الإمام عليّ (عليه السلام) خرائط القيم وسلالها السياسية الإدارية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في أبهى صورة، وأجمل تمثيل، فتلمح

ص: 113

القائد السياسي والإداري والإمام الإنساني المثاليّ، والمعلم التربويّ وغيرها))(49)

وتترسَّم المقاربات التداولية في العهد الشريف باستكشاف حقيقة: أنّ نصوص هذا العهد ودلالاته، ولا سيّما القوائم والجداول والعناصر التي انتظمت فيها تزخر بالقيم والمبادئ والقوانين، وتشعُّ بالتعاليم الأخلاقية والإنسانية من نحو: معلم إصلاح المجتمع، والتعايش السلميّ، وحبّ الفقراء والإحسان إليهم، والعفو والصلح والعدل، وحقن الدماء، وغيرها،(50) وهي بطبيعتها لا ترتبط بالماضي أو تقف عند زمن الإمام عليّ (عليه السلام)، إنّما تلاطف الحاضر والمستقبل، ولا سيّما المجتمعات البشرية - اليومَ - أحوجُ ما تكون إليها خصوصاً في هذا الزمن الذي يشهدُ صراعًا حضاريًا في الفكر والإرادة والهُوِية، كما يشهد هيمنة الغرب، ونظام العولمة، وظلم الحكومات المستبدّة وتعسّفها(51).

ومن المقاربات التداولية التي نَرْقُبُها في العهد الشريف، ما يأتي:

أولاً: المعجم القُرآنيّ والحديثي:

استثمر الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك المعجم القُرْآنيّ والحديثي فنجد الذوبان والانصهار الكامل في كتاب العربية الأكبر (القرآن الكريم) إذ تمثل كتاب الله (جلّ جلاله) تمثيلاً عميقاً، فنجد الاستحضار والاستشراف الواعيين للنصّ القرآني، وكذلك السنّة النبوية المطهّرة، فقد انسربت نصوص قرآنية ومضامين ودلالات قرآنية وحديثية في النهج المبارك، ولا سيّما العهد الشريف(52).

ونستشرفُ هذا المتحَ الخلّاقَ من النبعِ الصافي القرآن الكريم، والموردِ العَذْب (السنةِ المطهّرةِ) في ضوء حكم الإمام (عليه السلام) بالنصّ الجليّ، قال ابن طاووس الحليّ (ت 644 ه): ((اللّهم صلّ وسَلّم وزدْ وباركْ على السيد المطهّر والإمام المظفّر والشجاع الغضنفر أبي شُبّر و شُبیر (...) وليّ الدين الوالي الولي السيد الرضيّ الإمام الوصيّ الحاكم بالنص الجليّ المخلص الصفيّ (...) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله

ص: 114

عليه(53)).

ونرصد هذا التثمير الماتع في العهد المبارك في ظلّ الإشارات البيّنات لدى الإمام (عليه السلام) عند حديثه عن عناصر قائمة الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، قال (عليه السلام): ((وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَی حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ

عِنْدَنَا مَحْفُوظاً))(54) وقال (عليه السلام) في ضوء استحضار عناصر قائمة أعمال الوالي المرضيّة: ((وَ ارْدُدْ إِلَی اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللُّهَ تَعَالَی لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَی اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ

كِتَابِهِ وَ الرَّدُّ إِلَی الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ))(55).

ویَسْتحْضِرُ الإمام (عليه السلام) السياقات القُرآنية عند سَرْدِه عناصر قائمة (فوائد الصلح) قال عليه السلام: ((وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ و للهَّ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادّكَ))(56) قال تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» [سورة النساء / من الآية 128]، وقوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» [سورة الأنفال / الآية 61].

أمّا فيما يتّصل بالمعجم الحديثي، فنجد المتحَ المثمرَ من النبع الصافي كلام المصطفی (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونَرْصُد هذا الأثر الحديثي في تعابير الإمّام علي (عليه السلام)، قال: ((وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فيِهِ للهَّ الَّذِي خَلَقَكَ وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ

شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ))(57).

وقال عليه السلام مبيّناً عناصر صلاة الوالي: ((وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللِّهَ (صلى الله

ص: 115

عليه وآله) حِينَ وَجَّهَنيِ إِلَی الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّ بِهِمْ فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَةِ أَضْعَفِهِمْ وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))(58).

الا جَرَم أنّ الإحالة المرجعية لها أثر في فهم الخطاب، إذ تعطيه بعدًا حقيقيًا في الأداء، إذ إنّ تتمة الفائدة في الكلام تتوقّف على مدى مطابقة الخطاب للواقع، فكلّ وحدة لغوية تتوافر على الجوانب الاتية: الصيغة اللفظية، والدلالة، والمرجعيّة (الخارج)(59).

ومن هنا فإنّ استثمار المرجعيات هو عملية ((استرجاع المدلولات ذكرت في مرحلة سابقة، أو عملية استقدام مدلولات يتوقع القارئُ مجيئها بمرحلة لاحقة في النصّ، وهذه العملية تتمّ عن طريق العنصر الإحالي الذي يتطابقُ في الخصائص الدلالية مع العنصر المحيل إليه))(60).

وعَوْدٌ على بَدْءٍ، فإنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) كان على درجة كبيرة من الاستثمار الواعي لكلام المصطفى (صلى الله عليه وآله) فقد كان مخصوصاً من دون الصحابة بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ((لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه و آله عن معاني القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وآله وإذا لم يسال ابتداه النبي صلى الله عليه وآله بالتعليم والتثقيف ولم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من مهابه أن يسأله وهم الذين يحبون أن يجئ الاعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يسمعون ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني اما بعبادة أو دنيا ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال ومنهم المبغض الشاني الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي عليه السلام ذكاؤه وفطنته وطهارة طینته وإشراق نفسه وضوءها وإذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا والموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي عليه السلام - كما قال

ص: 116

الحسن - البصري رباني هذه الأمة وذا فضلها ولذا تسميه الفلاسفة أمام الأئمة وحکیم العرب))(61).

وتتجلّى هذه المقاربة التداولية في استحضار قول النبي (صلى الله عليه وآله) في قول الإمام (عليه السلام) في قائمة الصفات السلبية للتجار، قال: ((ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ (...)، فَامْنَعْ مِنَ الِحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ))(62).

ولا يخفى الاستشرافُ الثَّبْتُ من كلام المصطفی (صلى الله عليه وآله) في أحاديثه : ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئ))(63) وقوله صلى الله عليه وآله: ((مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ الله بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ))(64)

أما فيما يتصل بالجنبة الثانية من نصّ الإمام (عليه السلام) المؤدّاة بأسلوب الأمر بصيغة الفعل المضارع المقرون بلام الأمر (وليكنْ البيع سمحًا)، استشرافه حديث المصطفى صلى الله عليه وآله: ((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَی))(56).

ولم يكتف الإمام (عليه السلام) بالاستثمار القرآني والحديثي بوصفهما مجالين تداوليّين عظيمَين بل نراه يلاطف مجالات تداولية أخرى تنبع من البيئات الصالحة والسنن المحمودة قال (عليه السلام) : ((وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَ نَقَضْتَ مِنْهَا))(66).

وقال (عليه السلام): ((وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ

عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا (صلى الله عليه وآله) أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَ شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا))(67).

ص: 117

ثانياً: قواعد التخاطب اللساني:

أصبحت قواعدُ التخاطُب اللسانيّة من المسلّمات التحاوُريّة، وهي تعني مجموعة من المعايير والأسس التي يفترض أنْ يقفَ عندها كلُّ متكلّم في أثناء حديثه مع غيره، بمعنى أنّ الكفاءة التداولية تفرض نفسها في رسم خريطة التواصل والتحاوُر بين المتكلم والمخاطب، وهذا ما نبّه عليه (أوستن) في مقالته (المنطق والتحاور)،(68) إذ وجّه بحثه نحو استخراج مجموعة من المبادئ المنظمة للتواصل المثالي، واهتمّ أيضاً بالمعاني الضمنية اهتماماً واضحاً، وهذا دليل على أنّ تجليات المعني لا تحكمها قواعد لغوية دلالية فحسب، بل تحكمها طريقة إنجاز الملفوظ داخل المقام، والمبادئ العامة للتواصل.

ومن هنا فإننا سنبصر قاعدتين من هذه القواعد التي تترشح من التخاطب اللساني القائم على الحوار، والتواصل المنظم، ولا سيما في عهد الإمام (عليه السلام) ل (مالك الأشتر).

1 - الافتراض المسبق:

يوجه المتكلم حديثه إلى الافتراضات المسبقة اللازمة لنجاح كلّ تواصل کلاميّ، على أساس ما يفترض - سلفاً - أنّه معلوم له، وقد لوحظ أنّ الافتراض السابق يكون مرتبطاً ببعض العبارات اللغوية دون بعض، فإذا قال رجلٌ لآخر: أَغلق النافذة، فالمفترض قبلاً - أنّ النافذة مفتوحة، وأنّ هناك مسوغًا يدعو إلى إغلاقه، وأنّ المخاطب قادر على الحركة، وأنّ المتكلم في منزله الآمر، وكلّ ذلك موصول بسياق الحال وعلاقة المتكلم(69)

لا جَرَمَ أنّ الخطاب أصبح على وَفْق مقولات التداولية الحامل اللغويّ لمقاصد المتكلم موجّهاً إلى المتلقيّ، وبما أنّ الخطاب يولد في سياق تخاطبي، وبلغة مشتركة فهو يقوم على افتراضات مسبقة، ومن هنا فالافتراض المسبق يتّسع ليشمل المعلومات العامّة، وسياق الحال والعرف الاجتماعي، والعهديين المخاطبين الذي يجعل المتلقي يفهم مراد

ص: 118

المتكلم(70).

ومن المواضع التي رصدناها في عهد الإمام (عليه السلام) ل(مالك الأشتر)، قوله (عليه السلام) في بيان عناصر قائمة (صفات المستشار الإيجابية): ((وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ باِلْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتىَّ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ)).

کلام شريف عالٍ يستقي من مورده الحكماء، فإنّ الجامع بين هؤلاء هو سوء الظنّ بالله (عزّ وجلّ) وقد ألمح ابن أبي الحديد المعتزلي إلى مقولات الافتراض المسبق في الكلام العلويّ المعاين، فالجبان يقول في نفسه إن أقدمتُ قتلت، والبخيل يقول: إن سمحتُ وأنفقتُ افتقرت، والحريص يقول: إن لم أجدّ واجتهد وأدأب فاتني ما أروم، وكل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله (جلّ جلاله)، ولو أحسن الظنّ الإنسان بالله، وكان يقينه صادقاً لعلم أنّ الأجل مقدّر وأن الرزق مقدّر، وأنّ الغني والفقر مقدّران وأنَّه لا يكون من ذلك إلّا ما قضى الله تعالى(72).

وقال (عليه السلام) في بيان وتنفيل عناصر قائمة صفات الوالي: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتيِ لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا باِتِّبَاعِهَا وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا))(73).

تبدّي لنا أنّ الإمام (عليه السلام) في بيان عناصر هذه القائمة (صفات الوالي) أنّه قد اعتمد على الافتراض المسبق، فقد وَعى فهم مالك للفرائض والسنن التي ذكرها الله (عزّ وجلّ) في كتابه، بمعنى أنّ الافتراض مسلّمٌ به من لدن المتكلم الإمام (عليه السلام) و الطرف الآخر في الخطاب (المخاطَب) مالك الأشتر، ولا يخفى تلكم الفرائض والسنن، سواءٌ أكانت أصول الدين أم فروعه (التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد)،

ص: 119

وكالصلاة والصيام والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الأمانة وقول الحقّ وغيرها، ولا بُدّ من القول: إنّ مواضع الافتراض المسبق في العهد المبارك كثيرة، بسبب المعرفة المشتركة بين المتخاطبَين الإمام (عليه السلام) و مالك الأشتر(رضي الله عنه)) إذ إنّ المعرفة المشتركة بينها تعدّ الأرضية التي يتّكئ عليها طرف الخطاب في التواصل والتحاور.

2 - القول المُضْمَر:

هو القاعدة الأخرى من قواعد التخاطب اللّساني، ويرتبط بوضعية الخطاب ومقامه على عكس الافتراض المسبق الذي يحدد على أساس معطيات لغوية، ومن هنا فإنّ القول المضمر هو كتلة المعلومات التي يمكن للخطاب أن يحتويها، ولكن تحقيقها في الواقع يبقى رهن خواص سياق الحديث(74).

إنّ الكلام لا يعني دائماً التصريح، بل يعني أحياناً حمل المتلقي على التفكير في شيء غير مصرّح به، ومن هنا فالعبارات اللغوية تصنّف صنفين المعاني الصريحة، وتدلّ عليها الصيغة الحرفية للعبارة والمعاني الضمنية ونكشف عن قرائن الخطاب وسياقاته(75).

وقد تبدى لنا في ضوء استغوار العهد الشريف أنّ الإمام (عليه السلام) قد أكثر من القول المضمر، ومن ثمّ استتار المعاني الضمنية ويظهر أنّ اضطمام النصّ الشريف على القوائم المتعددة والمتنوّعة، وما تنتظم فيها من عناصر جعل من هذه القاعدة أن تحوز مساحة واسعة، زد على ذلك تقصّد الإمام (عليه السلام) إلى هذا الصنيع من الإضمار من أجل تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

تأمّل معنا قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّ قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَ بِلَدٍ قَدْ جَرَتْ

عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فيِهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلَةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فيِكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فيِهِمْ وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِينَ

ص: 120

بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ))(76) يتجلّى الإضمار القوليّ: من ذكر البلاد من دون التصريح بها، وهي (مصْر) وذكر الدول التي سبقت حكم مالك، وهي الحكومات التي سبقته من زمن الخليفة عثمان بن عفّان، وما ابتليت به من جور وما نعمت من عدل.

وقوله (علیه اسلام): ((فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَةِ أَضْعَفِهِمْ))(77) فقوله عليه السلام كصلاة أضعفهم كناية استعملها الإمام عن المريض، والذي به عاهة وغير ذلك.

ثالثاً: الأفعال الكلامية المباشرة وغيرالمباشرة:

تعدّ الأفعال الكلامية إحدى الأسس التي قامت عليها نظرية أفعال الكلام فهي: ((التي يتلفظ بها المرسل في خطابه، وهي يعني حرفيّاً ما يقول، وفي هذه الحالة فإنّ المرسل يقصد أن ينتج أثراً إنجازياً على المرسل إليه، ويقصد أنْ ينتج هذا الأثر في ضوء جعل المرسل إليه يدرك قصده في الإنتاج))(78).

ويرى الدكتور محمود أحمد نحلة أنّ الأفعال الكلامية المباشرة تمثل قدراً ضئيلاً في اللغة، وينحصر في ما يسمى الأفعال المؤسّساتية أو التشريعية كالتوكيل والتفويض والوصية والتوريث والإجازة، ونحوها، أما الأفعال غير المباشرة، فتمثل القدر الأكبر في اللغة، ويكثر استعمالها في سياقات التأدب في الطلب(79).

ويتبدى لنا أنّ تقسیم الأفعال الكلامية إلى مباشرة وغير مباشرة بلحاظ القوة الإنجازية والتأثيرية المتحصلة من الجملة، ومن هنا قد قسّمت الأفعال الكلامية المباشرة بحسب تصنيف أوستن إلى خمسة أصناف، هي(80): الحكميات، والتنفيذيات،والوعديات، والسلوكيات، والعرضيات (التبينيات).

وهذه الأصناف تظهر فيها القوة الإنجازية التأثيرية مباشرة، بمعنى تتجلى فيها الدلالات الحقيقية، أما في ما يخص الأفعال الكلامية غير المباشرة، إذ يتحصل التخالف للقوة الإنشائية للجملة بحسب مراد المتكلم وبمعاينة السياق المقامي والحاليّ، فيكون

ص: 121

قوله غير مطابق لما يعنيه، فلم يعد الإخبار والتخاطب هو القصد الوحيد عند المرسِل، وإنَّما عددناه واحداً من مقاصده، فالقصد الرئيس أصبح مختفياً، وظهر بدله قصد آخر، وهذا ما اصطلح عليه ب(المعنى المجازي)، والسياق الإنتاجي التوليدي(81).

وسنتناوش أولاً: الأفعال الكلامية المباشرة في العهد الشريف في ضوء القوائم التي رصدناها، والعناصر التي انتظمت فيها.

ففي قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات تتناسَل الأفعال الكلامية المباشرة فيها، باستر فاد الأفعال الأمرية المؤداة بصيغة الفعل المضارع المقرون باللام مرّة (فليكن) وفعل الأمر المجرّد (امْلِك، شُحّ، أشعِرْ، أعطهم) الدلالة على الوجوب على سبيل الحتم والإلزام، وهي القوة الإنجازية التأثيرية الرئيسة لفعل الأمر باسترفاد قرينة السياق اللفظية والمقاميّة(82) قال عليه السلام: (())فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ

الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنفَسْكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ باِلنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْها فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ للِرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ (...) فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ))(83).

ونترّسم الأفعال الكلامية المباشرة في القائمة نفسها بلحاظ صيغة النهي باستحضار الفعل المضارع المؤكد بنون التوكيد الثقيلة المسبوق ب(لا) الناهية الطلبية (لا تكوننَّ، لا تَنْصبَنَّ، لا تندمنّ، لا تبجّحنَ، لا تسرعنّ) الدالة على الوجوب والحرمة والنهي والمنع من إرادة الفعل على سبيل الحتم والإلزام، بمعاينة السياق اللفظي والمقامي،(84) قال علیه السلام: ((وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِ الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّكَ وَ قَدِ

ص: 122

اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَكَ بِنِقِمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً))(85).

أما في ما يتصل بالأفعال الكلامية غير المباشرة التي نلمحها في العهد الشريف في ضوء القوائم التي وقفنا عليها، والعناصر التي انتظمت فيها.

نستشعر دلالة التحذير والإرشاد بوصفها قوة إنجازية للفعل المضارع المسبوق ب(لا) الناهية الطلبية قوله: (ولا تدخلنّ) بهدي السياق الكلامي المقامي في القائمة، قال عليه السلام: ((وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ))(86).

ونقدح بدلالة (البيان والتوضيح) التي تمثل قوة إنجازية غير مباشرة، للفعل الأمري (اعْلَمْ) بلحاظ السياق المقامي، تأمل معنا قائمة(طبقات الرعيّة) قال (عليه السلام): ((وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلَّا بِبَعْضٍ وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللِّهَ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّلُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ الناَّسِ وَ مِنْهَا التجُّارُ وَ أَهْلُ

الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ))(87).

ونترسم دلالة (التنبيه) والسياق الإنتاجي التي تمثل قوة إنجازية غير مباشرة للفعل الأمري (ولِّ) بمعاينة السياق المقامي والحالي، قال: ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَی الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثيِرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ

ص: 123

بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ))(88).

وهناك معانٍ مجازية أو سياقات إنتاجية وتوليدية أخرى تمثّل أفعالاً كلامية إنجازية غير مباشرة يمكن رصدها في العهد الشريف، وبدا لنا أنّ السياقات الإنتاجية التي تمثل قوى إنجازية (أفعال كلامية غير مباشرة) هي الأكثر حضوراً ووروداً في العهد المبارك.

ص: 124

خاتمة البحث ونتائجه:

حان الحين أن نستجلي أهمّ قطاف هذا البحث (أثر القوائم في تكشيف الدلالات) عهد الإمام (عليه السلام) ل (مالك الأشتر) أنموذجاً.

أولاً: تبدّى لنا أن القوائم والجداول، وما تنطوي عليها من عناصر وبيانات لها أهمية في حصر المعلومات وتقييدها ومن ثم فهمها واقتناص دلالاتها بسرعة.

ثانياً: وظّف الإمام علي (عليه السلام) في عهده المبارك مجموعة كثيرة ومتنوّعة من القوائم والجداول وقد انتظمت فيها أرقام وعناصر متعددة، وهو أمر يدلّ على الإحاطة المعرفية الوسيعة للإمام علي (عليه السلام)، ودرايته بالمجالات التداولية الثقافية السائدة آنذاك، زد على ذلك المنظور المستقبلي والاستشرافي الذي ترسمه (عليه السلام).

ثالثاً: استثمر الإمام علي (عليه السلام) في ظل معاينتنا للقوائم التي ترشحت من العهد الشريف القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وهذا ما ألفيناه في العهد المبارك في ضوء الإحالات المرجعية الماتعة عليها، تصريحاً وتلميحاً.

رابعاً: كشفت القوائم التي تحصلت في العهد المبارك أن الإمام (عليه السلام) قد وعى فطنة المتلقي مالك الأشتر من جهة، والباصر بالمجال التداولي (الواقع المعيش) لذا رأينا ظهور قاعدتي التخاطب اللساني (الافتراض المسبق)، و(القول المضمر) في تلكم القوائم.

خامساً: في ظلّ معاينة القوائم والجداول التي تحصلت من العهد الشريف وجدنا أنّ الأفعال الكلامية غير المباشرة التي تمثل قوًى إنجازية وتأثيرية (سياقات إنتاجية وتوليدية) هي الأكثر وروداً وبزوغاً، بخلاف الأفعال الكلامية المباشرة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

ص: 125

مصادر البحث ومراجعه

- آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، د. ط، دار المعرفة الجامعية، مصر، 2002 م.

- الأثر القرآنيّ في نهج البلاغة، الدكتور عباس علي الفحّام، ط 1، مطبعة الرافدين، بيروت، 2010 م.

- أساس البلاغة، جار الله أبو القاسم محمود الزمخشري (538 ه) تقديم الدكتور محمود فهمي حجازي، سلسلة الذخائر المؤسّسة العامة لقصور الثقافة، مصر، 2003 م.

- استراتيجيات الخطاب (مقارنة لغوية تداولية) د. عبد الهادي بن ظافر الشهريّ، ط 1، دار الكتاب الجديدة، 2004 م.

- الإيضاح في علوم البلاغة العربية، الخطيب القزويني (ت 739) القاهرة، د. ت.

- البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، السيد حسين بركة الشامي، ط 2، دار الإسلام، بغداد، 1429 ه، 2008 م.

- بلاغة النهج في نهج البلاغة، الدكتور عباس علي الفحام، د 1، دار الرضوان، الأردن، 2014 م، 1435 ه.

- بيان إعجاز القرآن، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت 88 ه)، مطبوع ضمن کتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للخطابي والرماني والجرجاني)، تحقيق: عبد الوهاب رشيد، ود. عصام فارس الحرستاني، ط 1، دار عمار، الأردن، 1434 ه - 2013 م.

- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد مرتضى الزبيدي (ت 1250 ه) منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، (د.ت).

- التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 2005 م.

- التداولية واستراتيجية التواصل، ذهبيّة حمو الحاج، ط 1، دار رؤبة، 2015 م.

ص: 126

التمهيد في أصول الفقه، الدكتور صدر الدین فضل الله، ط 1، دار الهادي، بيروت، 1422 ه - 2002 م.

- الجداول الجامعة في العلوم النافعة، الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين، ط 3، مؤسسة الريان، بيروت، 1431 ه - 2010 م.

- جمع البيانات وطرق المعاينة، د. حسین علوان مطلق، ط 1، العبيكان للنشر، الرياض 1431 ه - 2010 م.

- دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر (1400 ه) مؤسسة النشر الإسلامي، طهران، د.ت.

- دليل الباحثين في المنهجية والترقيم والعدد والتوثيق، د. عبد الرحمن إبراهيم الشاعر، ود. محمود شاکر سعید، ط 1، دار صفاء، الأردن، 2011 م - 1432 ه.

- شرح ابن عقيل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل المصري (ت 769 ه) تحقيق محمد محيي الدین عبد الحميد، ط 1، مطبعة منير، بغداد، 1986 م.

- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المدائني المعتزلي (656 ه) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1969 م.

- صحيح مسلم للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج (ت 261 ه)، اعتنى به أبو صهيب البكري، بيت الأفكار الدولية، السعودية، 1998 م.

- فرائد الأصول، الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281 ه)، الطبعة الأولى، المطبعة: باقري، قم، 1419 ه.

- قراءات لغوية في النص الديني (دراسة في النقد التفسيري) الدكتور سيروان عبد الزهرة الجنابي، ط 1، دار الأمير، النجف، 1437 ه - 2016 م.

- القاموس المحيط، مجد الدین محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817 ه)، دار الفکر، بيروت، 1403 ه - 1983 م.

ص: 127

- اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، الدكتور طه عبد الرحمن، ط 3، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2012 م.

- اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني (قراءة استكشافية للتفكير التداولي عند القانونيين) الدكتور مرتضى جبار کاظم، ط 1، مكتبة عدنان، بغداد، 1436 ه - 2015 م.

- المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي (ت 770 ه) ط 1، مكتبة الإيمان، مصر، 2008 م.

- المعالم الحضارية في نهج البلاغة، الشيخ باقر شريف القرشي، تحقيق مهدي باقر القريشي، ط 1، مطبعة ستارة - إيران، 1413 ه - 2012 م.

- معجم اللغة العربية، الدكتور أحمد مختار عمر (ت 1424 ه) ط 1، مصر، 1419 ه - 2008 م.

- المعجم الوسيط، د. إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار، مؤسسة الصادق طهران، د.ت.

- مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 ه) رتّبه وصحّحه إبراهيم شمس الدين، ط 1، شركة الأعلمي، بيروت، 1433 ه - 2012 م.

- مهج الدعوات ومنهج العنايات، رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى ابن طاووس الحلي(664 ه)، ط 1، منشورات الفجر، بيروت، 1433 ه - 2012 م.

- موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي، الدكتور محمد الكتاني، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001 م.

- ميثاق إدارة الدولة في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، الشيخ زين العابدين قرباني، ط 1، قم المقدسة، 2011 م.

- نظرية أفعال الكلام العامة كيف تنجز الأشياء بالكلام؟ جون أوستن، ترجمة عبد

ص: 128

القادر قنيني، ط 1، أفريقيا الشرق، المغرب، 2008 م.

- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلميّة، الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الأولى، بيروت، 1967 م.

- نهج البلاغة، تحقيق السيد هاشم الميلاني، ط 1، د.ط، إيران، 1436 ه - 2015 م.

الرسائل الجامعية

- رسائل ابن الأثير (دراسة في ضوء علم اللغة النصيّ) علي صبري علوان. (رسالة ماجستير)، كلية التربية، قسم اللغة العربية، الجامعة المستنصرية، 2015 م.

البحوث والدوريات:

- إسهام الحكومة العلوية المثالية في رمزية مدينة الكوفة، الدكتور رحيم كريم الشريفي، بحث مقدم إلى مسجد الكوفة / جائزة سيد الأوصياء (عليه السلام) العالمية للإبداع الفكري، والأدبي، مخطوط.

- السياقات الإنتاجية للخطاب الإنشائي في نهج البلاغة، (أسلوب النداء أنموذجاً) الدكتور رحيم كريم الشريفي، والدكتور حسين المحنى، مجلة دواة، المجلد الأول، العدد الثالث، قسم الإعلام، العتبة الحسينية المقدسة، كربلاء، 1436ه - 2015 م.

- معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في عهده ل(مالك الأشتر) (دراسة تحليلية)، الدكتور رحيم كريم الشريفي، والدكتور حسن كاظم أسد، مقدم إلى مؤتمر الغدير العالمي الثالث، العتبة العلوية المقدسة، 2014 م - 1435 ه (مخطوط).

ص: 129

الهوامش

1. نكتة البحث الطريفة - كانت في بَدْء الأمر - فكرة قدح بها الدكتور رحيم الشَّريفيّ إلى طلبة الدراسات العليا في قسم علوم القرآن، كلية الدراسات القرآنية في 8 / 11 / 2016 م.

2. مقاييس اللغة: 730 (مادة قوم) وينظر: المصباح المنير، الفيومي، 338 (مادة قوم)

3. أساس البلاغة: 284. 285 (مادة قوم)

4. القاموس المحيط: 4 / 168 (مادة قوم)

5. تاج العروس من جواهر القاموس: 33 / 314 (مادة قوم)

6. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه، 2 / 768 (مادة قوم)

7. ينظر معجم اللغة العربية المعاصرة، الدكتور أحمد مختار عمر: 1 / 353.

8. ينظر المصدر نفسه، وينظر: موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي، د. محمد الكتاني: 2 / 1911، والجداول الجامعة في العلوم النافعة، جاسم مهلهل الهاشمي: 6

9. جمع البيانات وطرق المعاينة، د. حسين علوان مطلق: 27.

10. ينظر: دليل الباحثين في المنهجية والترقيم والعدد والتوثيق، د. عبد الرحمن إبراهيم الشاعر، ود. محمود شاكر سعيد: 36.

11. بيان إعجاز القرآن: 65

12. ينظر: قراءات لغوية في النص القرآني (دراسة في النقد التفسيري) سيروان عبد الزهرة الجنابي: 2.

13. شرح ابن عقیل، ابن عقيل: 1 / 13.

14. ينظر : الإيضاح في علوم نهج البلاغة، الخطيب القزويني: 1 / 11

15. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع في عهد الإمام (عليه السلام)

ص: 130

لمالك الأشتر، السيد حسين بركة الشامي: 22. 23

16. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد المعتزلي: 1 / (مقدمة المحقق) 9.

17. ينظر: بلاغة النهج في نهج البلاغة، 183. 184، والأثر القرآني في نهج البلاغة، عباس علي الفحام، 220. 235.

18. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع، 28.

19. ينظر: بلاغة النهج في نهج البلاغة، 180.

20. نهج البلاغة، الإمام علي عليه السلام: 426 - 427.

21. فرائد الأصول: الشيخ مرتضى الأنصاري: 2 / 769.

22. نهج البلاغة: 436

23. نهج البلاغة: 426

24. ينظر: ميثاق إدارة الدولة (في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، الشيخ زین العابدين قرباني: 102.

25. نهج البلاغة: 427.

26. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع: 159. 160

27. نهج البلاغة: 429

28. نهج البلاغة: 430.

29. المصدر نفسه: 431 - 432.

30. ينظر: معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده ل(مالك الأشتر) دراسة تحليلية (مخطوط)، د. رحيم الشريفي، ود. حسن كاظم أسد: 11.

31. نهج البلاغة: 432

32. نهج البلاغة: 432 -. 433

33. المصدر نفسه: 434 - 435.

ص: 131

34. ينظر: المعالم الحضارية في نهج البلاغة، باقر شريف القرشي: 67

35. نهج البلاغة: 435.

36. نهج البلاغة: 435.

37. المصدر نفسه 437.

38. نهج البلاغة: 438.

39. نهج البلاغة، تحقيق السيد هاشم الميلاني: 488.

40. نهج البلاغة: 438.

41. المصدر نفسه: 438.

42. نهج البلاغة: 438..

43. المصدر نفسه: 441.

44. المصدر نفسه.

45. نهج البلاغة: 442.

46. المصدر نفسه.

47. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة وقيادة المجتمع، 24، والتحليل الإحصائي للسانات، 29.

48. ينظر: المصدر نفسه: 40.

49. إسهام الحكومة العلوية المثالية في رمزية مدينة الكوفة (مخطوط)، د. رحيم كريم الشريفي، 9.

50. معالم إنسانية الإمام علي (عليه السلام) في ضوء عهده ل(مالك الأشتر) دراسة تحليلية، د. رحيم كريم الشريفي ود. حسن كاظم أسد: 20.

51. ينظر: البرنامج الأمثل لإدارة الدولة: 62.

52. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة، د. عباس الفحام، 83.

ص: 132

53. منهج الدعوات ومنهج العنايات: 336.

54. نهج البلاغة: 433

55. نهج البلاغة: 434

56. نهج البلاغة: 442

57. المصدر نفسه: 431.

58. المصدر نفسه: 440.

59. ينظر: الخطاب القرآني (دراسة في البعد التداولي)، د. مؤيد آل صوينت: 71

60. رسائل ابن الأثير دراسة في ضوء علم اللغة النصيّ (رسالة ماجستير) علي صبري علوان: 25.

61. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي: 11 / 48

62. نهج البلاغة: 438.

63. صحیح مسلم: 3 / 1228

64. سنن ابن ماجه: 2 / 729.

65. صحيح البخاري: 3 / 57.

66. نهج البلاغة: 431.

67. المصدر نفسه: 445.

68. ينظر: استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، 96، واللسان والميزان أو التكوثر الفعلي، طه عبد الرحمن: 238.

69. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمد أحمد نحلة: 26، 27.

70. ينظر: التداولية واستراتيجية التواصل: ذهبية حمو الحاج: 227.

71. نهج البلاغة:430.

72. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 9 / 30.

ص: 133

73. نهج البلاغة: 427

74. ينظر: التداولية عند العلماء العرب، 32

75. ينظر: اللسانيات التداولية في الخطاب القانوني، د. مرتضی جبار کاظم، 75.

76. نهج البلاغة: 427.

77. المصدر نفسه: 440.

78. استراتيجيات الخطاب مقاربة تداولية، عبد الهادي ظاهر الشهري، 135

79. ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 50

80. ينظر: أفعال الكلام العامة، كيف تنجز الأشياء بالكلام، أوسن، ترجمة عبد القادر قنيني: 186 - 187

81. ينظر: السياقات الإنتاجية للخطاب الإنشائي في نهج البلاغة (أسلوب النداء أنموذجاً) (بحث) د. رحيم الشريفي ود. حسين المحنى: 148

82. ينظر: دروس في علم الأصول، محمد باقر الصدر: 1 / 224.

83. نهج البلاغة: 427.

84. ينظر: التمهيد في أصول الفقه، د. صدر الدين فضل الله، 34.

85. نهج البلاغة: 427.

86. المصدر نفسه: 430.

87. المصدر نفسه: 431.

88. نهج البلاغة: 431 - 432

ص: 134

صور الانزياح البيانية في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه) (دراسة دلالية)

اشارة

م.د. عبادي عبدالعباس حمود الزيَّادي

وزارة التربية - مديرية تربية النجف

ص: 135

ص: 136

مقدمة

هدفت هذه الدراسة إلى تناول ظاهرة الانزياح الدلالي في وثيقة عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر مالك الأشتر النخعي، وقد اشتملت الدراسة على وثلاثة مباحث، وخاتمة، وعرضت في المقدمة لأهمية الدراسة، ودوافع اختيارها، ومنهجها، وأبرز الصعوبات التي واجهتني. ثم تناولت بالرصد والتحليل الألفاظ أو المفردات التي انحرف معناها ومال عن حقيقته عِبر فنون البلاغة الرئيسة، فقسمتها إلى (صور الانزياح الدلالي المجازي)، كمبحث أول، ومن ثمَّ جاء المبحث الثاني ليحمل عنواناً (صور الانزياح الدلالي الاستعاري)، وجاء المبحث الثالث ليكون عنوانه (صور الانزياح الدلالي الكنائي).

وبذلك يبدو أنَّ الانزياح الدلالي هو أسلوبٌ من أساليب الأداء غير المباشر يتم بوسائل متعددة مستعملاً الفنون البلاغية، ولاسيما ما يتعلق منها بفن البيان كالمجاز، والاستعارة، والكناية فضلاً عن استعماله لألوانٍ بلاغية أخرى، يتمُّ فيها انزياح المعنى وتبدله بأسلوب يُدْخل البلاغة وفروعها في علم الدلالة، فمن يدرس موضوعات علم الدلالة، لا يستطيع أنْ يغفل أَمثال هذه الألوان البلاغية بعدِّها من العوامل المؤدية لتبدلات المعنى وانزياحه، كما أنَّ من يعالج هذه الألوان البلاغية لا بدَّ له أنْ يتعاملَ معها من خلال منظورِ علم الدلالة، وتبعاً لذلك لا غنى للبلاغة عن الدلالة، ولا غنى للدلالة عن البلاغة، إذْ أنَّ القاسم المشترك بينها هو التبدُّل أو التغيّر الدلالي، وهو تغيّر يمكن أنْ يُدرس في معظم الألوان البلاغية، ولاسيما تلكَ الألوان القائمةُ على العدول عن الأداء المباشر، والانزياح بالدلالات الحقيقية إلى دلالات أخرى مجازية لغرض الإبانة والتوضيح، وتوكيد المعنى في نفس المتلقي.

ص: 137

وانطلاقاً من هذا المفهوم سنحاول الوقوف على مظاهر الانزياح الدلالي في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر الأشتر النخعي، إذْ يعدُّ هذا الانزياح من أبرز أنواع الانزياحات التي وظَّفها هذا النصّ للكشف عن خصوصيته في انزياح المعنى الأصلي إلى معنى جديد يُدرك من خلال السياق الذي يرد فيه، وهو أيضاً يفصحُ عن بلاغة النصِّ، وإبراز أهم مظاهر الروعة والجمال فيه، ومن ذلك يمكن ملاحظة الشواهد والنصوص ك (ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهًم) التي تتطلب من المتلقي التأمل، والتدبر المستمر لإدراك ما وراءها من مقاصد وإيحاءات، للوصول إلى عمق الدلالة، وعدم الوقوف عند سطحية النص، وظاهر العبارة.

لذلك يصعب علينا في هذا البحث المقتضب سرد كل مواطن هذا الانزياح لكثرتها وسعتها، ولذا سنقف على بعض من صوره ولاسيما في المجاز، والاستعارة والكناية.

ص: 138

التمهيد

نظرة على مدلول الانزياح الدلالي:

تعدُّ نصوص الانزياح الدلالي من النصوص التي تتطلب وقفة وتأمل من المتلقي والمتكلم قبل الولوج إلى خفايا أسرارها ولو تتبعنا دلالات تلك النصوص التي وظفتها لإبراز المعاني الأصيلة ولاسيما ما وجدناه في نصوص عهد الإمام، لذا وجدناه أفصح عن بلاغة النص وروعة بيانه، وأبرز شواهد جديدة على مقدرة الإمام علي (عليه السلام) في إظهار صور بيانية تنسجم مع الواقع الذي يعيشه آنذاك.

ويبقى الأثر الدلالي والجمالي لأسلوب الانزياح ماثلاً في ذهن المتلقي زمناً طويلاً؛ لأنَّهُ تشكلَ في ذهنه ووجدانه بطريق غير مباشر، فيدفع المتلقي للمشاركة في إعادة ترتيب الناتج الجديد للصياغة الدلالية، بمراحل ثلاث، هي: أ - التنبيه حيث يلفت أسلوب الانزياح انتباه المتلقي بخروج تشكيله اللغوي عن ظاهرة البنية المثالية أو مقتضى ظاهر حال المتلقي. ب - التفاعل بين المتلقي والصياغة لمعرفة دواعي الانزياح عن البنية المثالية والمقاصد الجمالية التي تكمن فيه. ج - إنتاج الدلالة وتكثيف التأثير الجمالي في ذهن المتلقي.

وبذلك يتضح أنَّ بنية الانزياح الدلالي تتسم بانقطاع العلاقات بين الألفاظ ودلالتها الظاهرة؛ لذا لا يكاد المعنى يطفو على السطح فيها إلا بجهد من المتلقي؛ ومعونةٍ من الدوال الأخرى في الصياغة ؛ وإيضاح من السياق المحيط به، فالذي يميّز هذا الأسلوب، الاتجاه الدلالي للبنية السطحية للصياغة يخالف الاتجاه الدلالي للبنية العميقة التي يتوصل إليها المتلقي.

واللافت للنظر في النصِّ تعبيره عن بعض معانيه بأسلوب مغاير، إذْ نجده يسعى بقوة لغرض إثبات معنى من المعاني، لا يذكره باللفظ الذي وضع له بأصل اللغة، بل

ص: 139

يلجأ إلى لفظ مختلف موضوعٍ لمعنى آخر، في جانب من جوانبه يتبع المعنى الأول الذي يريده صاحب النصِّ، فيعبّر بهذا اللفظ عمَّا يريد؛ لعلاقةٍ بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد المراد، وهذه الطريقة التي يوظَّفها النصُّ في التعبير عن المعاني تندرج تحت ما يسمى «بالانزياح الدلالي» الذي يعني الانتقال من المعنى الأساسي أو المعجمي إلى المعنى السياقي الذي تأخذه الكلمة حينما توضع في سياقٍ معينٍ يحدد معنى الجملة بأكملها؛ حيث تنزاح الدوال عن مدلولاتها الحقيقية المألوفة إلى مدلولات مجازية تشكل للفظة الصورة البيانية للنص، وبذلك تبرز دلالات جديدة غير معهودة يسعى إليها المتكلم.

وبذلك يعتقد أنَّ الانزياح الدلالي يقوم على استبدال المعنى الحقيقي أو السطحي للفظة بالمعنى المجازي العميق؛ حيث يتمُّ الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، وهذا ما أشار له جان كوهن بقوله: (من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي)(1). ولعلَّ هذا الانتقال يحصل (عندما يتعادل المعنيان، أو إذا كانا لا يختلفان من جهة العموم والخصوص، كما في حالة الانتقال من المحل إلى الحال، أو من السبب إلى المسبب، أو من العلامة الدالة إلى الشيء المدلول عليه)(2) وهذا ما نجد له تمثيلاً في قول المتنبي:

لهُ أيادٍ إلىَّ سابقةٌ أعد *** منها ولا أعدِّدُها

فعند قراءة البيت يتبادر إلى الذهن أنَّ المقصود بكلمة «أيادٍ» هو المعنى المستقر في المعجم وهو«الجارحة التي للإنسان»، لكنَّ هذا المعنى ليس هو المراد، إذْ أنَّهُ لا يلائم السياق، ولذا يجري البحث عن معنى آخر، ويعوّل الذهن في ذلك على علاقات التجاور، حيث يقوده معنى الجارحة إلى أقرب المعاني الآية وهو الإعطاء، إذ هي وسيلته، والإعطاء يقوده إلى معنى النعمة، وهو المعنى المراد في البيت، والانتقال من المعنى الأول «الجارحة» إلى المعنى الثاني «النعمة» يمثل انزياحاً دلالياً من المعنى المعجمي إلى المعنى السياقي أو الدلالة السياقية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ هذا الانزياح لا يراد به إبدال أحد المعنيين

ص: 140

بالآخر بقدر ما يُراد به عملية التفاعل بين هذين المعنيين، ذلك بأنَّ المعنى الأساسي فيه لا يختفي؛ ولكنَّه يتراجع إلى خطٍ خلفي وراء المعنى السياقي؛ وهكذا تقوم بين المعنيين علاقة تفاعلٍ وتماهٍ؛ ومن خلال هذه العلاقة وهذا التفاعل يبرز الانزياح الدلالي.

ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أنَّ النقادَ والبلاغيين القدامى كان لهم إشارات مبكرة تعدُّ بذورة للبحث في الانزياح الدلالي؛ ومنهم عبد القاهر الجرجاني الذي قسَّم المعنى إلى ضربين:

أ - المعني. ب - معنى المعنى.

فالضرب الأول هو القول على سبيل الحقيقة، إذْ يتقيَّد صاحب الخطاب بالمعنى والدلالة المعجمية؛ أي تفسير ألفاظ اللغة بعضها ببعضٍ، وقد ساه عبد القاهر» تفسيراً»(3). ولا يكون للتفسير إلا دلالة واحدة هي دلالة اللفظ لذلك يمكن استعمال المعادلة الآتية للدلالة على هذا النمط، ولنأخذ مثالا بسيطاً على ذلك (خرج زيدٌ من بيته)

الدال ------ المدلول

أو

اللفظ ------------ المعنى

خرج زيد --------- يعني غادر بیته

أمَّا الضرب الثاني الذي أشار إليه عبد القاهر، هو القول على سبيل المجاز؛ إذ يخرج الكلام إلى معانٍ جديدة غير تلك التي يوجبها ظاهره؛ وهي معانٍ يعقلها السامع من المعنى الظاهر على سبيل الاستدلال؛ أي» معنى المعنى» على رأي عبد القاهر؛ ويمكن تمثيله بالقول المشهور» بعيدة مهوى القرط» فالمعنى القريب هو» بعد المسافة بين أذنها وكتفها»، أما المعنى المجازي البعيد «طول رقبتها» والدلالة على جمالها. ويمكن تمثيله بالمعادلة الآتية:

ص: 141

الدال ------- المدلول الأول ------ المدلول الثاني

أو

اللفظ ------- المعنى ------- معنى المعنى بعيدة مهوى القرط - بعد المسافة بين الأذنين والأكتاف - طويلة الرقبة دالة على الجمال ومن هنا يمكن القول أنَّ آراء عبد القاهر في هذا المجال جاءت متطابقة مع ما اصطلح عليه حديثاً بالانزياح الدلالي.

ومما يلفت الانتباه في نصوص هذا البحث يجد تعبيره مائزاً موضحاً عن بعض معانيه بصورة غير مباشرة فلو اضطر لإثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، بل يلجأ إلى لفظ آخر ولكنه تابع للمعنى الذي يريده، فيعبر بهذا اللفظ عمّا يريد، لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المراد، وهذه الطريقة التي وظَّفتها نصوص هذا البحث في التعبير عن المعاني تندرج تحت ما يسمّى ب «الانزياح الدلالي» الذي يعني الانتقال من المعنى الأساسي أو المعجمي للفظة إلى المعنى السياقي الذي تأخذه الكلمة حينما توضع في سياق معين يحدد معنى الجملة بأكملها، حيث تنزاح الدوال عن مدلولاتها فتختفي - نتيجة لذلك - الدلالات المألوفة للألفاظ لتحلّ محلها دلالات جديدة غير معهودة يسعى إليها المتكلم.

ومعنى هذا أنَّ الانزياح الدلالي يقوم على استبدال المعنى الحقيقي أو السطحي للفظة بالمعنى المجازي العميق، حيث يتم الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني، أو كما قال جان کوهن «من المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي»(4).

ص: 142

واعتماداً على ما تقدم من دلائل ومحاور يدور في فلكها الانزياح الدلالي؛ سنعمد إلى أسلوب دراسة الصور البيانية التي تمحورت حول نصوص العهد الذي نقل عن الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله على مصر مالك بن الأشتر النخعي بتتبعها في أنموذجات لصور بيانية تمثلت في المجاز والاستعارة والكناية. وبدءاً يكون بحثنا في صور الانزياح للمجاز.

أولاً: صور الانزياح الدلالي المجازي:

وبناءً على ما تقدم يمكن القول أنَّ المجاز يمثل ضرباً من التغيير في الدلالة أو المعنى، ذلك أنَّه يتخذ من اللغة عالماً يتحرك من خلاله لتأدية وظيفته البلاغية، حيث يعمل المجاز على منح الكلمة طاقة متجددة إضافة إلى معناها المعجمي بأقل قدر من الألفاظ، فتأتلف الكلمات في تراكيب جمالية ذات طاقة انفعالية، وبذلك تكون اللغة وسيلة للإيحاء وليست أداة لنقل معانٍ محددة، معنى هذا أنَّ القيمة الدلالية ورفدها بدلالات ثانوية وقيم فنية لا تلمس في الأداء الحقيقي (فاللغة المجازية تبرز الكلام أبداً في صورة مستجدة، وتعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، و تجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر..)(5).

ولعل القول بأنَّ بحوث المجاز تمثل مجالاً رحباً للكشف عن خصوصية النصِّ في الانزياح إلى معنی جدید یُدرك من وحي السياق. ومن المعروف أنَّ البلاغيين تحدثوا عن نوعين من المجاز (عقلي، ولغوي)، ولم يكن النص الذي نحاول الدراسة فيه بمنأى عن هذا التقسيم، فقد اشتملت عباراته وفقراته على نماذج من المجاز العقلي أو اللغوي التي تعدُّ في القمة من الاستعمال البياني، لكنَّ الذي يهمنا في هذا المقام هو المجاز اللغوي بشقيه (المجاز المرسل، الاستعارة) لأنَّهُ يمثل جوهر عملية الانزياح الدلالي، على العكس من المجاز العقلي الذي يخرج من دائرة الانزياح الدلالي ليدخل في دائرة الانزياح التركيبي.

ص: 143

لذلك سيكون محور دراستنا هو المجاز اللغوي لارتباطه الوثيق بالانزياح الدلالي وصوره البيانية، فالمجاز اللغوي هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلاً، لعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي(6). وهذا يعني أنَّ الألفاظ لا تحتفظ بدلالتها الأصلية، وإنما تنتقل إلى دلالات أخرى جديدة يسعى المتكلم لإيصالها إلى المتلقي، وبهذا نخلص إلى أنَّ المجاز المرسل دخل في الانزياح الدلالي لدراستنا، وقد تخطى حدود الدائرة اللغوية إلى الدائرة الفنية لينقلنا إلى مناخ الغني في المفردات والمعاني، وصيغ من الابتكار والشمول(7)، وأشهر علاقاته التي سنتناولها بالدراسة والتحليل هي:

1 - العلاقة السببية:

وهي أنْ يذكر السبب، ويراد المسبب، أي أن يكون المعنى الموضوع له اللفظ المذكور سببًا في المعنى المراد فيطلق السبب على المسبب أو النتيجة، ومثال ذلك قول الإمام علي (عليه السلام): (فإنَّ سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة)(8). فقد استعمل النصُّ (السخط) وهو عدم رضى العامة والخاصة استعمالاً حقيقياً؛ في حين انزاحت لفظة (يغتفر) عن معناها الحقيقي إلى معنى المعنى أو دلالة أخرى جديدة فهي ليست على سبيل الغفران الحقيقي الناتج عن ارتكاب ذنب ما، وإنما إشارة لرضى العامة وبقاء من تولى الأمر في محله واستناده على دعامة الشعب وليس من يخصون الأمير حسب. ويمكن توضيح ذلك المعني بالمخطط الآتي:

الدال ------------ المدلول الحقيقي ----- المدلول المجازي

الغفران ------ عدم ارتكاب الذنوب ---- ثبوت الحكم

ص: 144

فالمدلول الحقيقي، هو عدم ارتكاب الذنوب بنيل رضى الخاصة، ولكن اللفظ تحول إلى دلالة أخرى جديدة غير تلك التي جاءت على سبيل الحقيقة وهو عدم حصول الرضى من الخاصة، وتحقق ذلك برضى العامة يتحقق غفران الذنوب التي تساعد على بقاء الأمير في منصبه ومكانته.

وإذا كانت اللغة لا تعمل إلا بتوفر وجهي العلامة اللغوية (الوجه الحسي، والوجه المعنوي) «الدال، المدلول» فكيف يستقیم فهم الكلام المشتمل على وجه من دون الآخر كما في قول الإمام (عليه السلام): (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإنَّ البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله)(9). ويمكن تتبع ذلك من خلال المعادلة الآتية:

العلامة الدالة --- المدلول الحقيقي --- المدلول المجازي

المشورة من الصفات الجيدة -- البخل وغيره من الصفات المذمومة -- الفشل

ففي هذا المثال ينطلق الذهن من العنصر الحاضر المنزاح عنه دلالياً «الفشل» في القيادة عند الاعتماد على عناصره الحقيقية الحسية المباشرة لمن يتصف بالجبن، أو الحرص؛ أو البخل، وبهذا تحققت الدلالة الانزياحية للصورة المجازية التي تحولت من دلالة الاستشارة التي هي محط مدح وإطراء إلى معنى المعنى أو دلالة الفشل.

ويبدو أنَّ الاعتماد على معيار العلاقة السببية، يبرز الخلاف بين الدال والمدلول، وهو خلاف ظاهري لا يتجاوز المستوى السطحي للصياغة، والغاية منه إبراز قوة السببية بين الدال والمدلول.

ص: 145

2 - العلاقة المسببية:

وهي أن يذكر المسبب ویُراد السبب بأن يكون المعنى الأصلي للفظ المذكور مسبباً عن المعنى المراد فيطلق اسم المسبب على السبب، ومنه قول الإمام علي (عليه السلام): (ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور)(10). إذْ يتحدث النصّ عن الحكام الذين حكموا هذه البلاد قبل مالك الأشتر وهذا كان مقتضى ظاهر السياق، لكن النص لم يأتِ بها أشار إليه السياق، وإنما استعمل لفظة (دول) التي تدل على التداول أو كثرة الأموال، وهنا انزياح في المدلول اللغوي الصورة بيانية مجازاً للفظة (دول). ويمكن بيان ذلك بالمخطط الآتي:

الدال ---- المدلول الأول ------ المدلول الثاني

دول ------ التداول وكثرة الأموال --- الحكام

حيث يلاحظ في هذا السياق أنَّ لفظ (دول) يعْبُر عن مدلوله الحقيقي الأول إلى مدلوله المجازي الثاني عن طريق علاقة تجمع بينهما يبصرها الذهن فيهتدي بها إلى تحليل الخطاب التحليل المقبول، وهذه العلاقة هي العلاقة المسبية التي مكنت السياق من الانزياح عن السبب وهو «الحكام» إلى المسبب أو النتيجة التي كثرة الأموال أو التداول، والمقصود هم الأشخاص الذين حكموا قبل مالك، والانزياح هنا ذو حركة أمامية بمعنى أنَّ حركة الذهن تبدأ فاعليتها من الأموال والتداول لتتجاوزها إلى المسبب في هذه الأشياء وهم الحكام(11). ولعلَّ بلاغة هذا الانزياح تبرز في تأكيده على قوة السببية بين لفظ الدول والحكام، وفي ذلك تنبيه للناس وللحاكم نفسه، على وجوب تحقيق العدالة والابتعاد عن الظلم والجور.

ص: 146

3 - علاقة الكلية:

يقصد بها تسمية الكل باسم الجزء، بحيث يستعمل اللفظ الدال على الكل ويُراد منه الجزء، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (ثم ألصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة،)(12)، إذ يبرز الانزياح في لفظة «ألصق»؛ لأنَّ اللصق صفة قبيحة في أعمها؛ وأتت اللفظة على لهجة تميم، وتعدُّ من الأفعال الشائنة التي يقوم بها الشخص أو مجموعة من الأشخاص؛ ولكن تكلم باسم الجمع ويقصد المفرد، فقد قصد بألصق تقرب وليكن مستشارك، ومن تسمع منه هو من أصحاب الحسب والأم التي لا تشوبها شائبة والأصل الصحيح ويتمثل الانزياح في الشكل التالي:

الدال -------- المدلول الأول ----- المدلول الثاني

ألصق بذوي الأحساب -- مقاربة الأصل الطاهر للجمع -- مقاربة الأصل الطاهر للمفرد

وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقول: «تقرب من الناس الذين يتسمون بأصول نظيفة..» غير أنه عدل عن ذلك وقال «إلصق بذوي الأحساب» ويبدو أنَّهُ هنا أنه يشير بإشارة خفية عن طريق الانزياح لإشعار من يسيرون بهذا الدرب وهو البحث عن مقاربة الناس بقوة بقوله «أطلبهم» ليؤكد على الصفة الحميدة التي يجب أن يتصف بها من يكون قريبا من الحاكم.

ص: 147

4 - علاقة الجزئية:

يقصد بها تسمية الشيء الجزئي باسم الكلِّ، بحيث يستعمل اللفظ الدال على الجزء ويُراد منه الكل، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك اطلبهم لمعایب الناس)(13)، إذ يبرز الانزياح في لفظة «أطلبهم»؛ لأنَّ المعايب لا تطلب، وإنما أفعال شائنة يقوم بها شخص أو مجموعة وهنا تكلم بصيغة المفرد وقصد الجمع فهو يقصد لا تقرب من حكمك من يفعل الشائن ليبحث عن معایب الناس، فالمقصود ليس فردا وإنها قصد جمع من فعل ذلك. ويتمثل الانزياح في الشكل التالي:

الدال ------- المدلول الأول ----------- المدلول الثاني

الشخص طالب المعايب --- صفة مذمومة لشخص مفرد -- ذم الجزء والمقصود الكل

وكان مقتضى ظاهر السياق أن يقول :» الفاعلون لما يضر الناس..» غير أنه عدل عن ذلك وقال «أطلبهم لمعايب الناس» ويبدو أنَّهُ هنا أنه يشير بإشارة خفية عن طريق الانزياح لإشعار من يسيرون بهذا الدرب وهو البحث عن معایب الناس بقوله «أطلبهم» ليؤكد على الصفة المذمومة التي يجب الابتعاد عنها.

هذه أهم علاقات المجاز المرسل التي حفلت بها وثيقة العهد، وتبيّن لنا، من خلال تحليل أمثلتها أنَّهُ لابد للانزياح الدلالي - حتى يكون مقبولاً للنفس مؤثراً فيها من علاقة تربط بين الدلالتين الحقيقية والمجازية للفظ، وهذه العلاقة هي التي تسوغ مثل هذا الاستعمال، لذلك يشترط فيها أن لا تكون واضحة وضوحاً تاماً بحيث لا تحتاج إلى تأمل وتدبر، وفي الوقت نفسه ألاّ تكون بعيدة مبهمة، وذلك لأنَّ وضوحها التام وانکشافها الكامل يفقد الانزياح الدلالي عنصر تأثيره، من حيث يكون عندئذٍ مبتذلاً، لا تحس النفس بلذة الانتقال من الدلالة الأولى إلى الثانية، إذ يقترب حينئذ من خصائص التعبير الحقيقي المباشر، فالعلاقة إذا لم تكن واضحة وضوحاُ تاماً - كما هو الحال في النص

ص: 148

القرآني - فإنَّها تثير في المتلقي انفعال التشوق، والتطلع إلى معرفة الدلالة المجازية التي يريدها المتكلم ويشير إليها هذا الاستعمال المجازي، حتى إذا وصل إليها تحسُّ نفسه حينذاك باللذة والمتعة، مما يستدعي توكيد المعنى المجازي فيها، وزيادة قابليته في إثارة الانفعال المناسب، وقد التفت صاحب الطراز إلى هذه الحقيقة فأشار إليها في أثناء تعليله لقدرة الأسلوب المجازي على التأثير في نفس المتلقي، حيث يقول: (إنَّ النفسَ إذا وقفتْ على كلامٍ غير تامٍ بالمقصود منه تشوّقتْ إلى کمالهِ، فلو وقفت على تمام المقصود منه لم يبقَ لها هناك تشّقٌ أصلا، لأنَّ تحصيل الحاصل محال، وإن لم يقف على شيء منهُ فلا شوق لها هناك، فأمَّا إذا عرفته من بعض الوجوه من دون البعض الآخر، فإن القدر المعلوم يحصلُ شوقاً إلى ما ليس بمعلوم، فإذا عرفت هذا فنقول: إذا عُبِّرَ عن المعني باللفظ الدال على الحقيقة حصل كمال العلم به من جميع وجوهه، وإذا عُبِّرَ عنهُ بمجازهِ لم تعرف على جهة الكمال، فيحصل مع المجاز تشوّق إلى تحصيل الكلام(15).

ومعنى هذا أنَّ المتلقي حينما يصلُ إلى المعنى المراد من الانزياح الدلالي بعد تأملٍ وتدبر فإنّه يحسُّ بالمتعة والسعادة، فالنفسُ بطبيعتها تشعر بسعادة غامرة حينما تظفرُ بالشيء بعد طول معاناة وتفكير من اجل الحصول عليه، إذ يقع الظفرُ بالمعنى المراد من نفس المتلقي موقع البشري لشعورها بحلاوة الفهم، وهكذا فإن قيمة الانزياح الدلالي، وقدرتهُ على بالتأثير في المتلقي تعتمد على مهارة المبدع في اختيار الألفاظ فكل لفظ وضعَ في مكانهِ المناسب في بناءٍ محكم متماسك، بحيث لا يمكن أنْ يُستبدل لفظٌ بآخرَ، ولو حصل ذلك لاختلَّ المعنى وتشوّه البناءُ، فالمفردة قد تكون عادية، فإذا قرئتْ في القرآن وجدنا لها طعماً آخر، وتأثيراً فريداً لا نعرفه في حدوده الطبيعية المتعارف عليها.

ص: 149

ثانياً: صور الانزياح الدلالي الاستعاري:

الاستعارة علم بلاغي له قواعده وأسسه، لكننا في هذا البحث لا نخوض في تعريفاتها وتفرعاتها، وندخل مباشرة إلى العبارات التطبيقية للنص الذي نحن بصدد دراسته.

وترى النظرية الاستبدالية أنَّ الاستعارة لا تتعلق بكلمة معجمية واحدة بغض النظر عن السياق الوارد فيه وقد يكون للكلمة معنيان «حقيقي، ومجازي» وتحصل الاستعارة باستبدال المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي، والواقع أنَّ هذا الاستبدال هو صلب ما في الاستعارة من انزياح، وهذا ما تنبه إليه نفر من النقاد الغربيين وبخاصة »جان کوهن» الذي أطلق على الانزياح المتعلق بالاستعارة «الانزياح الاستبدالي»(15) ومثل له (بالسطح الهادئ الذي تمشي عليه الحمائم)(16) فالحمائم دلت عنده على السفن. وعدَّه خرقاً لقانون اللغة وانزياحاً عنها، وهو ما مثل عند البلاغيين العرب صوراً بلاغية أو بيانية، وعلى الرغم من عدم تصریح کوهن بوضوح بإن ذلك استعارة؛ فقد أشار لها في موضع آخر أنَّ كلَّ فضلٍ للشعر يعزى لها، ويرى أنَّ منبع الشعر الأساسي هو المجازات اللغوية؛ والاستعارة التي تعتمد على تجاوب الحواس(17). وكوهن لم يكن الوحيد في النقد الغربي الذي أهتم بالاستعارة والانزياح للصورة البيانية، فقد جاءت إشارات سابقة منذ عهد أرسطو(18).

وإذا ما انتقلنا للاستعارة للكشف عن طبيعة توظيفها الدلالي في بحثنا (عهد الإمام لمالك)، وقبل ذلك نجد أنَّ الأقدمين قد تطرقوا لذكر أنواع الاستعارة من محسوس لمحسوس بجامع محسوس، أو بجامع عقلي، أو من محسوس لمعقول، أو معقول لمعقول أو لمحسوس، ومن تصريحية أو مكنية، ومن مرشحة أو مجردة أو مطلقة، ومن وفاقية إلى عنادية إلى غير ذلك من ألوان الاستعارة، وهم يذكرون هذه الصور ويمثلون لها بما ورد من نصوص شعرية وقرآنية وغيرها، وربما زاد بعضهم فأجرى الاستعارة مكتفياً

ص: 150

منها في بيان الجمال الفني لهذا اللون من التصوير. لذا ارتينا أن نمعن النظر في الاستعارة في نصوص العهد الذي هو مدار بحثنا ليبرز أثرها الدلالي وقيمتها البيانية والجمالية في التعبير اللفظي، مشيرين بذلك إلى الأثر النفسي المنبعث من تلك الاستعارات من خلال الكشف عن المفارقة بين البنية السطحية الظاهرة؛ ودلالات البنية العميقة للنصوص مستعملين تلك التقسيمات التي سار عليها الأوائل لنلقي الضوء على ما برز من انزياح دلالي في النصوص أخرج الصورة البيانية بشكلها الأجمل. ومن تلك الاستعارات المصوِّرة الموحية في النصِّ قول (الإمام(عليه السلام): (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح)(19) فالمراد بالذخائر معناه المجازي، وهو الحسنات التي تأتي عن طريق العمل الصالح ورضى الله تعالى المقرون برضى العامة على من يتولى الحكم عليهم بحسب ما جاء في نصوص العهد وما ينتج عنه من خلاص من النار وتحقيق مكاسب دنيوية ودينية كثيرة، لكنَّ الأسلوب الدلالي للفظة (الذخائر) المنزاح عن لفظة مدخرات أو مصوغات تحوَّل من دلالته الظاهرية اللفظية إلى دلالة سياقية بأسلوب استعاري، وبهذا خرج عن محتواه الظاهري إلى محتوى سياقي دلالي انزياحي، وأصبحت لفظة (ذخائر) تدلُّ على العمل الصالح الذي تنج عنه الحسنات التي بسببها يدخل المشار إليه الجنة. ويمكن توضيح الانزياح بالشكل التالي:

الدال ------ المدلول الأول -------- المدلول الثاني

الذخائر ---- المدخرات من أموال ومصوغات ومصوغات ---- الأعمال الصالحة

والمتأملُ في هذين المدلولين يلحظ أن هناك علاقة سوَّغت الانزياح عن المدلول الأول الحقيقي للفظة (الذخائر) إلى المدلول الثاني المجازي (الأعمال الصالحة)؛ وهذه المشابهة الحاصلة بين الذخائر والأعمال الصالحة في أنَّ كلاً منها يرفع بصاحبه إلى مستوى يرجوه في نيل رفعة وعلو. والقرينة المانعة من إرادة المدلول الأول «العمل» لأنَّ النصَّ لا

ص: 151

يتحدث عن أموال ومدخرات، ولا معنى أن تذكر لفظة كهذه بتوجيه معنوي.

ومن الاستعارات الأخرى التي تضمنت معنى الانزياح الدلالي في السياق قول الإمام (عليه السلام): (ولا تكوننَّ عليهم سَبعاً ضارياً تغتنم أكلهًم)(20). فكل من لفظ (سبع)، (ضارٍ) لها مجال استعمالي محدد، فالسبع هو الحيوان المفترس الذي يقتنص فريسته حينما يكون جائعا بقوة وشراسة وضراوة وهي السيطرة على الفريسة بسرعة وقوة تجعلها تفقد قواها بالسرعة الممكنة، فهنا جاءت الاستعارة التحذيرية بعدم التحول إلى تلك الصفات الشرسة التي تجعل من الناس يخافون ممن يقودهم، ويقتنص الفرص للإيقاع بهم فجاء المستعار الذي هو (السبع) للمستعار له (الآمر أو المسؤول) فحصل انزياح من الدلالة اللفظية الحقيقية المباشرة التي اتسمت ب(سبع) يمتلك القوة والشراسة على حيوان آخر أضعف منه يكون ضحية له، إلى إنسان يكون في موقع الأمرة والمسؤولية يتخذ من تلك الصفات الحيوانية لذلك السبع وهي المعاقبة بقوة والسيطرة بعنف وليس برفق ولين والتحري عن العوامل النفسية التي يتأثر بها الإنسان. ويمكن تجسيد ذلك بالشكل الآتي:

الدال ------ المدلول الأول ---- المدلول الثاني

السبع ----- الحيوان المفترس --- الآمر أو المسؤول

فقد جاء الانزياح هنا لعدم اتباع السلوك نفسه ممن تقع في يده سلطة تجعل الناس تنفر منه، وتتصرف هاربة أو متخفية عن ذلك السبع الضاري.

وقد كُثر في الاستعارات الانزياحية لهذه النصوص ما تناول الأمور المعقولة المعنوية إلى الأمور المحسوسة زيادة في تصوير المعني وتمثيله للنفس، ومن ذلك قول الإمام (عليه السلام): (وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَّةٌ دون ما أعطيت)(21) لو فكرّنا ملياً بهذا النصِّ لوجدنا أنَّ حقيقة الكلام؛ أي أنَّ لفظة «جُنَّة» لا يُراد منها معناها الحقيقي،

ص: 152

وهو الشيء المانع عن المخاطر من سلاح وغيره، ولكن يُراد منها أنَّ الأمير يجعل من نفسه كالساتر الذي يصدُّ أعتى الرياح التي تواجه رعيته ومن يعتدي عليها، ويقف مانعاً مدافعاً عن كل ما بذله، وهنا انزاحت اللفظة عن دلالتها الحقيقية، وأيضا لفظة (أرع) التي جاءت منزاحة عن حفظ الأمانة، والدفاع عن حقوق الرعية.

وعلى هذا النمط في الاستعمال جاءت كلمتا «أرعً» و»جُنَّة» فكلتاهما خرجت عن مدلولها الحقيقي لتكسب مدلولا جديداً يشبهه، فأرعَ أتت لتعطي للنص قوة و»جُنَّة» كذلك، ولعلك تلاحظ أنَّ الانزياح عن ألفاظ الحقيقة إلى ألفاظ المجاز أبلغ في تأدية المعنى، لإخراجها المحسوس إلى المعقول ذلك أنَّ حفظ الأمانة والدفاع أمران يدركان بالحس، فلما استعار لهما النصّ »أرع« و »جُنَّة«، خرج المحسوس إلى ما يُدرك بالعقل ونقل المعنى الحسي إلى الصورة العقلية، فأصبحت المحسوسات، تدرك بالصفات العقلية وغابت عن العين، وهذا يؤكد المعنى ويقرره في ذهن المتلقي(23).

ثالثا: صور الانزياح الدلالي الكنائي:

كعادتنا في المباحث السابقة لا ندخل في دهاليز وتعريفات العنوان المراد البحث فيه، ولكن كلنا نعرف أنَّ الكناية تعني أنَّك تتكلم بلفظ لكن دلالته تذهب باتجاه آخر.

وعلى هذا الأساس يرجح أنَّ المعنيين الحقيقي والمجازي مطروحان في السياق، وعنصر القصد من قبل المتكلم هو الذي يرجّح مجاوزة المستوى السطحي للأسلوب الكنائي، ويحيل المتلقي - بواسطة النسيج الثقافي المشترك بين طرفي الاتصال - إلى المستوى العميق الذي يُدرك من خلال لازم المعنى، فالكناية بنية ثنائية الإنتاج، حيث تكون في مواجهة إنتاج صياغة له إنتاج دلالي موازٍ له تماماً بحكم المواضعة، لكن يتم تجاوزه بالنظر في المستوى العميق لحركة الذهن التي تمتلك قدرة الربط بين اللوازم والملزومات، فإذا لم يتحقق هذا التجاوز، فإنَّ المنتج الصياغي يبقى في دائرة الحقيقة.

ص: 153

ومن يتضح وقوع الكناية في منطقة وسطى بين الحقيقة والمجاز، إذ لا يمكن الميل بها إلى دائرة الحقيقة لتستقل بها، لأنَّ الصياغة لم تنتج معناها فحسب بل أنتجت لازماً مرافقاً لها، كما لا يمكن أن تستقل بها دائرة المجاز، لعدم وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي(23) ولهذا فإنَّ بنية الكناية تمثل صراعاً حاداً بين المعجم »المعنى الحقيقي» والسياق الذي يرشّح المعنى المجازي، فالمعجم يحاول جذب الصياغة إلى منطقة الحقيقة بينما يحاول السياق خلعها من معانيها المعجمية لتفرز الدلالة المجازية فقط، وهنا يكون المتلقي هو الفيصل في تحديد اتجاه الدلالة الذي تسير في الصياغة ويمكن لنا توضيح ذلك بالمخطط الآتي:

المتلقي - السياق (المعنى المجازي) - بنية الكناية - المعجم (المعنى الحقيقي)

وقد جرى تقسيم الكناية على ثلاثة أقسام استناداً لما يراه علاء البلاغة، وهذه الأقسام هي: الكناية عن موصوف، والكناية عن صفة، والكناية عن نسبة(24). وغايتنا في هذا المقام الوقوف على نماذج من الكنايات التي جاءت في عهد الإمام علي إلى عامله مالك بن الأشتر لإبراز ما فيها من انزياح دلالي نتج عنه صورٌ بيانية معبرة عن الصيغ الجمالية التي كثرت في النص، وبيان ما في هذا الانزياح من لطائف وأسرار، فالكناية من التعبيرات البيانية الغنية بالاعتبارات والمزايا والملاحظات البلاغية، ولهذا فإنَّ توظيفها في نصوص العهد يحقق العديد من المقاصد والأهداف، ولعلَّ من أهمها قول

ص: 154

الإمام علي (عليه السلام): (فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل)(25). فقد جاء هذا القول ليوضح حالة كانت دائرة آنذاك وهو انحجاب القائد عن العامة، ونتيجة لذلك تنقلب الأمور رأساً على عقب، لذلك أشار الإمام بكناية هو تولي الباطل وغياب الحق، ويمكن تمثيل ذلك بالشكل التالي:

المعني ------- الوسيط ----- المكنى عنه

من يقبح الحسن ---- المتلقي ------ الباطل

ويحسن القبيح ----- المتلقي ------ الباطل

فالصياغة تهدف إلى مبالغة في نفي ما يتوهمه الذين يدعون الحق وهو اتباع الباطل. فالانزياح الدلالي الحاصل بالمعنى. ومن الكنايات التي جاءت في عهد الإمام علي (عليه السلام) قوله: (فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإنَّ الشح بالنفس الإنصاف منها فيها أحبت وكرهت)(26). فلو تمعنا في معنى النصِّ الظاهري لوجدنا أنَّ الإمام يوجه مالك لتملك نفسه وما يرغبه في جاه و سلطة أو أموال وأن يكون على قدر من المسؤولية، وأن يبتعد عمّا يحرم. و لكن المعنى الكنائي المجازي الذي انزاح وانحرف عن المعنى الحقيقي هو تولي السلطة بحكمة ورزانة وكسب العامة، وعدم تقريب الخاصة، والقيادة الحكيمة التي تعطي لكل ذي حقٍّ حقّهُ.

ومنه قول الإمام (عليه السلام): (وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات ويردعها عند الجمحات، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله)(27). حيث تهدف الصياغة إلى رسم صورة ايجابية للتعامل مع الرعية، ولكنَّ ملامح الصورة لا تكتمل من خلال البنية السطحية مباشرةً، بل من خلال الحضور الذهني الفعال للمتلقي الذي يبرز المعاني الكنائية الخفية المستقرة في البنية العميقة للصياغة، فالمعنى الحقيقي لذلك يحيل إلى معانٍ کنائية عميقة تحتاج من المتلقي في إدراكها إلى تدبرٍ ونظر في التركيب وربطه بالسياق

ص: 155

فكسر الشهوات سلوك ظاهر يخفي وراءه أموراً كثيرة توازي المعاني الكنائية المتولدة من المعنى الحقيقي الظاهر، وهي التواضع، ولين الجانب، والمبالغة في الرحمة، والبعد عن الترفّع والغطرسة في حقِّ الرعية، والابتعاد عن المحرمات.

فالإنسان يجب أنْ يؤدي الدور المناط به على وفق إنسانيته وترفعه عن الرغبات الشخصية، والملذات الذاتية الوقتية، فكسر النفس عن الشهوات والملذات يجعلها أكثر تقبلاً ورغبة من الرعية

وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأنَّ العلاقة التي تربط الدلالة الأولى بالدلالة الثانية هي علاقة اللزوم، فالنصُّ عبر بالملزوم وهو كسر الشهوات، وأراد ما يلزم وهو التواضع، وهذا التحوّل في التعبير أفاد المبالغة في تأدية المعني.

ص: 156

الخاتمة:

الحمد الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وله الحمد مرة أخرى على نعمة التوفيق الذي منحني إياه ربُّ العزة والجلال أنْ انفرد لردح من الزمان لأخلو متصفحاً ومطلعاً لمباهج وأنوار وخفايا وأسرار كتاب نهج البلاغة، متعمقاً في دلالاته وانزياحاته ولاسيما في عهد الإمام علي(عليه السلام) لعامله مالك بن الأشتر النخعي، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبدالله رسول الله ونبيِّ رحمته وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد تناولت هذه الدراسة ظاهرة صور الانزياح في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بن الأشتر النخعي عامله على مصر تناولاً بيانيا دلاليا، واقفة على أكثر أنماط الانزياح حضوراً في تراكيب نصوص هذا العهد، ومبرزة الأثر الدلالي والبياني لها، وبعد وجدناها خلصت إلى النتائج الآتية:

1 - إنَّ ظاهرة الانزياح التي تعدُّ من أبرز الظواهر الدلالية الأسلوبية في النقد الحديث موجودة في تراثنا البلاغي والنقدي، ومترسخة في نصوص عهد الإمام علي (عليه السلام) بصورة لافتة للنظر، وقد خضعت للمسميات التي أطلقها النقاد العرب القدامي كالعدول والاتساع أو التوسع أو الانحراف، ولهذا يمكن عدُّها من نقاط الالتقاء بين الأسلوبية في الانزياح الدلالي للصور البيانية الحديثة وبين ما أؤثر عن البلاغة العربية في عصرها القديم.

ص: 157

2 - برزت في البحث ظاهرة الطغيان لنصوص من المجاز اللغوي ولاسيما ما كان منه مجازاً مرسلاً، تصدرت علاقاته الرئيسة المشهد فبرزت العلاقة السببية والمسبية والجزئية والكلية فكان النص ينزاح أو ينحرف عن دلالته الحقيقية لصالح العلاقة الجديدة كدلالة الغفران التي لم تبق على مدلولها بل تغيرت إلى دلالة أخرى.

3 - إنَّ الوظيفة الرئيسة للانزياح ماثلةٌ فيما يحدثُ من مفاجأةٍ تثيرُ المتلقي وتلفت انتباهه، وتدفعه للبحثِ عن أسرار هذه الظاهرة، ومثيراتها السياقية، وأبعادها الدلالية. وقد تجسدت في نصوص عهد الإمام علي (عليه السلام) في أغلب النصوص التي انزاحت عن مدلولاتها الأصلية إلى أخرى سواءً أكان في المجاز أم بالاستعارة أم بالكناية ك (الذخائر) التي دلَّت بعد الانزياح على العمل الصالح.

4 - يعدًّ الانزياح الدلالي في المجاز المرسل من أبرز أنواع الانزياح التي وظَّفتها نصوص العهد للكشف عن خصوصيته في الانزياح من المعنى الأصلي إلى معنى جديد يفهم من سياق النصِّ كلفظة «الإلتصاق».

5 - جاءت عبارات الكناية في نصوص عهد الإمام علي لتدلَّ على دلالات الأخرى غير التي يراها المتلقي أو يسمعها بصورتها المباشرة وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على انزياح هذه العبارات من قالبها الأصلي إلى قالب آخر مختلف عنها كلياً كعبارة (فيصغر عندهم الكبير).

ص: 158

الهوامش:

1 - بنية اللغة الشعرية: کوهن: 205.

2 - اللغة: جوزيف فندريس: 256.

3 - ينظر: دلائل الإعجاز: عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 ه): 444.

4 - بنية اللغة الشعرية: كوهن: 205.

5 - أسرار البلاغة - الجرجاني (ت 471 ه): 55.

6 - ينظر: الايضاح في علوم البلاغة: القزويني: (5 / 12).

7 - ينظر: مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية: محمد حسين الصغير: 141.

8 - نهج: (3 / 86).

9 - م.ن: (3 / 87).

10- م.ن: (3 / 82).

11 - ينظر: البلاغة العربية قراءة أخرى: محمد عبد المطلب: 164.

12 - نهج: (3 / 91).

13 - نهج: (3 / 88).

14 - كتاب الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: یحیی بن حمزة العلوي: (1 / 82).

15 - ينظر: بنية اللغة الشعرية: جان کوهن: 205.

16 - ينظر: م.ن: 42.

17 - ينظر: م.ن: 170.

18 - ينظر: التحليل الدلالي للصور البيانية عند «میشال لوغوارن»: بسام بركة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 48 - 49، 1988 م: 25.

ص: 159

19 - نهج: (3 / 82).

20 - نهج (3 / 84).

21 - نهج (3 / 106).

22 - ينظر: التحرير والتنوير: ابن عاشور: (7 / 33 - 34).

23 - البلاغة العربية قراءة أخرى: عبدالمطلب: 187 - 188.

24 - ينظر: مفتاح العلوم: السكاكي: 638. والايضاح في علوم البلاغة: القزويني: (5 / 162).

25 - نهج (3 / 104).

26 - نهج: (3 / 83).

27 - نهج (3 / 82).

ص: 160

المصادر:

- أسرار البلاغة - الجرجاني (ت 471 ه)، تحقیق: محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد العزيز شرف، دار الجيل، بیروت - لبنان ط 1، 1991.

- الإيضاح في علوم البلاغة: القزويني (ت 739 ه)، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بیروت - لبنان ط 3، 1993 م.

- البلاغة العربية قراءة أخرى: محمد عبد المطلب، مكتبة لبنان، (د. ط)، (د.ت).

- بنية اللغة الشعرية: جان کوهن، ترجمة: محمد الولي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986 م.

- تفسير التحرير والتنوير: ابن عاشور (ت ه)، مؤسسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1، 2000 م.

* - التحليل الدلالي للصور البيانية عند «میشال لوغوارن»: بسام بركة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 48 - 49، 1988 م.

* - دلائل الإعجاز: عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 3، 1992 م.

* - کتاب الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: یحیی بن حمزة العلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط، 1982 م.

* - اللغة: جوزيف فندریس، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ط، 1950 م.

* - مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية: محمد حسين الصغير، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1994 م.

* - مفتاح العلوم: السكاكي (ت 626 ه)، تحقيق: أكرم عثمان يوسف، مطبعة دار الرسالة، بغداد، ط 1، 1981 م.

* - نهج البلاغة: الإمام علي بن أبي طالب (ت 40 ه)، شرح: الشيخ محمد عبده، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، د.ت، د.ط.

ص: 161

ص: 162

الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر(رضي الله عنه)

اشارة

م. د. عبد الهادي عبد الرحمن الشاوي

مرکز دراسات الكوفة

أ.م. هادي سعدون العارضي

كلية التربية الأساسية - جامعة الكوفة

ص: 163

ص: 164

مقدمة:

يعد نص عهد الإمام علي (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي، وثيقة تاريخية ودستورا و معينا فكريا ومعرفيا ظل خالدا، فهو يزاد ثراء وقيمة علمية وجمالية مع تقادم الزمان وتغير الظروف فهو عصي على تأثيراتهما بالغ في قصديته حدود الغاية، متسقا بنائياً اذا ما مانظر في شكله كمنتج لغوي، وهو معين لا ينضب من المعارف، كل هذا دفعنا إلى النظر سماته الفنية والمعرفية، فاستوقفتنا ظاهرة جديرة بالدراسة، إذ لم يسبقنا حسب اطلاعنا أن أحدا خاض في دراستها، ألا إنها ظاهرة (الثنائيات المهيمنة في النص) ولذلك انصبت دراستنا التحليلية عليها، وكانت على الشكل الأتي:

أولا: التمهيد: الذي درسنا فيه مفهوم الثنائيات في اللغة والإصلاح وتطرقنا الى مجموعة من الراء المختلفة فيها، ثم أوضحنا مفهوم الهيمنة، ذاکرین أراء العلماء والنقاد فيها، ولقد اتضح لنا أن الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر تنقسم على نوعين هما: الثنائيات المتوافقة، والثنائيات المتضادة أو الضدية، وعلى هذا التقسم جاء البحث على مبحثين:

المبحث الأول: درسنا فيه الثنائيات المتوافقة، وأخذنا نوعين منها هما: ثنائية الخاص

والعام وثنائية الإجمال والتفصيل، ولكل منها حضور واضح سیکشف البحث عنه. أما المبحث الثاني: فقد درسنا فيه الثنائيات المتضادة، ووقفنا عند ثنائية الغياب والحضور كأحد شواهد هذه الثنائية.

ثم ختم البحث بمجموعة من النتائج الى توصل اليها الباحثان بعد الجهد في التحليل والوصف والتنقيب بما يعزز قيمة البحث ويكشف عن ثراء النص والله من وراء القصد.

ص: 165

تمهيد

مفهوم الثنائيات المهيمنة

يتطلب البحث قبل الخوض في مباحثه وتشعباته ان نقف على توضيح المفاهيم التي نعمل على وفقها والتي من خلالها نستطيع ان نسير على هدى واضح في الدلالة على ما نريد مستعينين في ذلك بالجهد العلمية التي سبقتنا في توضيح هذه المفاهيم ومعلقين على ما ورد فيها من محددات شكلت صورة المنهج الذي نسير عليه في الكشف عن هذه الثنائيات التي حضيت بمساحة واسعة من نص العهد، ولذلك وجب التعريف بالثنائيات فماهي:

أولا: الثنائيات:

هي فكرة فلسفية نجد تعريفها في المعجم الفلسفي اذ يقول عن الثنائية بأنها (الثنائي الأشياء ما كان ذا شقين والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون كثنائية الأضداد وتعاقبها أو ثنائية الواحد والمادة - من جهة ما هي مبدأ عدم التعيين - أو ثنائية الواحد وغير المتناهي، أو ثنائية عالم المثل وعالم المحسوسات عند افلاطون......)(1)

فهي جذر الفلسفة وعليها تقوم كثير من المفاهيم والاراء في الحياة وعليها تبنى فلسفات مختلفة وقد تكون متباينة، وهذه الثنائية كثيرا ما أشار إليها النص القرآني في عديد من المواضع ومنها قوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» وهذه الثنائية نوع واحد من أنواع أخر لكنها ثنائية التوافق التي بها تقوم الحياة وتستمر، وهناك ثنائية التضاد التي تتجلى في كثير من النصوص القرآنية لتقوم عليها معان ودلالات ثرة ومن تلك الثنائيات المتضادة قوله تعالى «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ

ص: 166

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(3) فلقد جاءت الآية القرآنية وهي تجمع هذه الثنائيات المتضادة (الله (جل وعلا) من طرف والطاغوت (الطرف الضدي) وكذلك جاءت ثنائية (الجنة) و (النار)، وهناك ثنائيات أخر في الحياة تتجلى في مظاهر الانتاج السلوكي للإنسان ومنها في نتاجه اللغوي الذي نحن بصدد توضيح هذه الأنواع، ولقد كانت هذه الثنائيات غير غائبة عن الثقافة العربية، اذ نجد أن نقاد العرب القدامى وعلماءهم قد خاضوا في هذه الموضوعة وأبدعوا في توصيفها وفي الكشف عن ثرائها المعرفي والجالي في النص الأدبي، فهذا الجاحظ (ت 255 ه) مثلا يرى أن الأشياء في الكون أما متفقة أو مختلفة أو متضادة وكلها ترجع إلى الأصل الثنائي المحوري في الوجود المتمثل بالحركة والسكون وفي ذلك يقول (وتلك الأنحاء الثلاثة كلها في جملة القول جماد ونام، وكأن حقيقة القول في الأجسام من هذه القسمة أن يقال :نام وغير نام)(4) وله اسهامات تطبيقية في هذا الموضوع من أهمها كتابه (المحاسن والأضداد)، ونمضي قدما في مساحة الثقافة العربية لنجد عالما أخر قد وقف كثيرا عند هذه الظاهرة وأعطاها ما تستحق من الدراسة حين كشف عن جماليتها في النص الأدبي وعن قدرتها الأبلاغية، إلا أنه الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) التي وجدها في التضاد والطباق والتكافؤ وهو يدرس الصورة التمثيلية أو التمثيل لبين قدرتها على الإبانة والكشف وإثراء المعنى فيقول في ذلك (وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئِمِ والمُعْرِق، وهو يُريِكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس، ويُعطيك البيان من الأعجم، ويُريك الحياةَ في الجماد، ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً)(5) وللآخرين من علماء العربية ونقادها أراء

ص: 167

واستشهادات بارعة في الكشف عن قيمة الثنائيات في النص الأدبي.

أما النقد الحديت فقد أظهر اعتناء فائقا في هذه الموضوعة وتعددت الأراء تبعا للمنهج الفلسفي الذي يعتنقه الناقد ويسير على وفقه، فاذا ما نظرنا في أفكار العالم اللغوي الفرنسي دي سوسير نجداها قائمة على مبدأ الثنائيات، من مثل ثنائية الدال والمدلول وثنائية الكلام واللغة، وهي التي أسست مدارس أخر تناولت موضوعة اللغة بالتحليل القائم على بيان أثر هذه الثنائيات في تقاربها وفي اتفاقها أو تضادها، فقد ذهب أصحاب النظرية البنائية إلى أن العالم برمته ما هو إلا ((مجموعة من الثنائيات المتشابكة والمتقابلة، تنعكس على شبكة العلاقات فتحيلها إلى مجموعة من الثنائيات الخالصة)(6) التي بتفاعلها يستمر بناء الأشياء المادية والمعنوية، وهي تعد عندهم العصب الرئيس في البناء والبقاء، ونرى أن من جاء من بعدهم من المفكرين وخاصة مفكري المنهج التفكيكي لا يرون في هذه الثنائية إلا قيدا وضع للحياة، فهو محطم لها لا أساس بناء ونمو وتطور لأنهم لا يرون ثباتا قائما للمعنى اذ لا حدود معروفة له ولا يمكن الوصول إلى معنی أو دلالة ثابتة للنص فهو مولد للدلات بشكل غير نهائي، وهذا يؤدي الى غياب الدلالة المركزية للنص ومن ثم ضياع المعرفة الحقيقية للنص کا نظن ذلك.

ولسنا هنا في موضع نقد النظرية بل في توضيح الآراء وذكرها للدلالة على التطور الذي أصاب هذه النظرية.

ص: 168

ثانياً: مفهوم المهيمنة:

جاء في لسان العرب أن لفظة مهيمن تعني القائم اذ ذكر أن ((قَالَ ابْنُ الأَنباري فِي قَوْلِهِ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، قَالَ: المُهَيْمِنُ الْقَائِمُ عَلَ خَلْقِهِ؛ وأَنشد:

أَلا إنَّ خَیْرَ الناسِ، بَعْدَ نَبِيِّهِ *** مُهَيْمِنُه التالِيه فِي العُرْفِ والنُّكْرِ

قَالَ: مَعْنَاهُ الْقَائِمُ عَلَی النَّاسِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بأُمور الْخَلْقِ، قَالَ: وَفِي المُهَيْمِن

خَمْسَةُ أَقوال: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ المُهَيْمِن المُؤْتَمَنُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ المُهَيْمِنُ الشَّهِيدُ، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الرَّقِيبُ، يُقَالُ هَيْمَن يُهَيْمِنُ هَيْمنَة إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَ الشَّيْءِ، وَقَالَ أَبو مَعْشَرٍ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ))(7) أي أن معناه يشمل دلالة الرقيب والمسيطر والقائم، فهو يمتلك السلطة والتأثير وليس عنصرا خاملا.

أما في الاصطلاح: فهنالك أراء مختلفة فيه ومنها ما قاله العلم اللغوي (رومان ياكوبسون 1935 م) بأن المهيمنة هي ((عنصر بؤري للأثر الأدبي، إنها تحكم وتحدد وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تضمن تلاحم البنية))(8) فيما يرى باحث أخر ان العنصر المهيمن في النص الأدبي مكون يقوم بتركيز العمل الأدبي، وكأن له وظيفة محددة في النص لا غنى عنها، إذ يقول ((فهو المكون الذي يحقق تركيز العمل الأدبي، ويعمق تماسك البناء، بل إنه في حقيقة الأمر النظام الكلي في عصر من العصور، أو في أعمال كاتب ما، أو داخل نوع أدبي أو فني بعينه، فهو جوهر النسق))(9) نستدل من ذلك أن العنصر المهيمن في النص الأدبي هو قوام النص ومن دونه ينعدم انسجام النص وتتغير صيرورته بل ربما فقد خاصيته النصية، لذلك يمكننا القول أن لا نص أدبي متماسك ومنسجم يخلو من عنصر يمتلك الهيمنة داخل النص وبه تتحدد خصائص النص الجمالية والمعرفية، وعلى وفق هذه الثنائيات المهيمنة في نص عهد الإمام علي (عليه السلام) سندرس هذه الظاهرة ونكشف عن الثنائيات التي امتلكت مجتمعة عنصر الهيمنة في بناء النص وكان

ص: 169

لها أثر واضح في توجيه دلالاته وفي تأطير معانيه بسمة جمالية خاصة، فقد اتبعنا منهجية الوصف والتحليل لهذه الظاهرة التي وجدناها تتمحور حول محورين رئيسين هما: الثنائيات المتوافقة التي تظهر في بحثنا من خلال دراستنا لثنائية الخاص والعام ولثنائية أخرى هي ثنائية الإجمال والتفصيل، وهذا ما أعتني به المبحث الأول من الدراسة، فيما كان المبحث الثاني منها منصبا لدراسة الثنائيات الضدية، المتمثلة في ثنائية الغياب والحضور في النص الخطابي لعهد الإمام علي (عليه السلام) وعلى وفق هذا التقسيم سوف ندرس هذه الظاهرة (الثنائيات المهيمنة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، اذ بدا لنا أن العنصر المهيمن في العهد هو عنصر الثنائيات باختلافها وتنوعها يشكل ظاهرة تستدعي الدراسة والتحليل ومن أجل ذلك جاء بحثنا هذا.

المبحث الأول: الثنائيات المتوافقة

إن دراسة أي نص أدبي تستوجب امتلاك المنهج الذي على وفقه تسير الدراسة قدما في سبر کنه الخطاب والوقوف على سماته الفنية والمعرفية، وان نصا بليغا كعهد الإمام علي (عليه السلام) مكتنزنا بالمعارف وافرا الدلالات ومتين السبك قوي التأثير، وهذا ما سنحاول کشفه من خلال اظهار هيمنة عنصر الثنائيات المتوافقة في الخطاب فهي الثنائيات التي تكون العلاقة بين طرفيها قائمة على التشابه لا على الاختلاف فهي متوافقة في هدفها متميزة في مساحة تأثيرها وقد تكون متقابلة في الوجود في النص الأدبي، فالثنائية هي ((وسيلة تصنيفية تجعل الفهم ممکنا))(10) وهي القادرة على إثراء المعنى وانارة سبل الوصول الى الدلالات التي يهدف الباحث إلى كشفها ويأمل المتلقي أن تكون واضحة جلية أمام ناظريه، لذلك سندرس في هذا المبحث هذه الثنائيات متمثلة في مطلبين هما:

ص: 170

أولا: ثنائية الخاص والعام

إن انتقال الخطاب من الخاص الى العام لا يحدث الا بتوافر شروط النجاح له في الانتشار والقبول وهذا مرهون بالقيمة المعرفية التي يمتلكها أي نص أدبي، اذ من البديهي أن كل خطاب هو رسالة موجهة لمتلقي وقد تختص بفرد أو فيئة أو أكثير، فشرط توفر المتلقي هو الشرط الأول لاكتساب النص شكل الخطاب ثم أن النص لابد أن يتضمن قصد ما وغاية ولابد أيضا من توافر الوسيلة التي يتم من خلالها التواصل وادامة التأثير، وفي نصنا قد الدرس الذي هو عهد صادر من أعلى إلى أدني من أمر إلى مأمور، فهو قد امتلك سمة الخصوصية التي أيدها ذكر المرسل للخطاب المرسل إليه وهو والي أمير المؤمنين (عليه السلام) على مصر، فالخطاب موجه لمالك الأشر وهو مختص به حين يقول له ((هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أمير المؤمنينَ مالكَ بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه،))(11).

فالمأمور هنا هو مالك الأشتر والرسالة في معانيها جلية تتمحور في الطاعة أولا التي توجب تنفيد ما تأتي به التراكيب اللغوية المنسجمة التي كانت صياغتها تعتمد المصدر لما فيه من دلالة عدم التقيد بالزمن، اذ يدل ذلك على البعد الذي قد تتخذه إجراءات تنفيد هذه التوجيهات ولتترك للمأمور مساحة من الزمن تنفع في وضع الحجر في موضعه السليم بعد أن وضحت المطالب وبانت فهي (جباية خراج البلاد - وجهاد عدوها - واستصلاح أهلها - وعمارة بلادها.......) وكلها واجب التنفيذ ملزمة لكنها غير محددة بسقف زمني ثابت، وهذا ما يدل على أن مساحة الخطاب قد تتجاوز الخاص الى العام

ص: 171

وذلك عندما تفلت من أسر السياق الذي جاءت من رحمه، لكنها شبت وكبرت فعبرت من الخاص المحدد المعرف الى الخطاب العام الشامل الذي هو خطاب عابر الحدود المكان والزمان وهذه سمة الخطاب المتجدد عبر الزمن، فيحمل المعرفة الراقية الخالدة، وهذا ما نجده في الانتقالة الموفقة من الخاص إلى العام اذ يقول الإمام (عليه السلام) موضحا سمات النفس البشرية مستندا في ذلك الى موروثه الفكري الديني وهو ما جاء به القرآن الكريم إذ يقول ((فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه. وأمره أن یکسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله))(12) ودلالة العموم هذه جاءت للنص من خلال التوظيف الدقيق لقوله تعالى «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ»(13) فالخطاب في تسلسله ينتقل من الخاص الموجه الى العام الذي لا يحده زمان أو مكان ولا ينقضه قول أورأي.

وعند تقصينا للخطاب الخاص وجدنا أن العهد هو في الأصل خطاب موجه خاص، فكيف انتقل من كينونته الى مدى أوسع، سنجد تفسير ذلك عندما نعلم أن منتج النص أراد لنصه الخلود حين انتقل به من سباق المخاطب المعني إلى غيره، بل انتقل الى أفق أوسع ودلالات فاعلة في النفس لأن الخطاب يتجاوز المخاطب المعني الأول الى مخاطبة النفس البشرية لأن الخطاب الذي هو ((كل منطوق به موجه إلى الغير بغرض افهامه مقصودا مخصوصا الذي يستوي فيه المرسل إليه الحاضر أو المستحضر فلا يقتصر توجيهه الى المرسل إليه الحاضر عياناً، بل يتجاوز توجيهه إلى المرسل إليه الحاضر في الذهن))(19) وهذا ما نجده متحققا في نص العهد لعلمه (عليه السلام) بخبايا النفش البشرية وأسرارها فهو حين يرد أن يحث مالك الأشتر على العمل الصالح ويحدد له كيفية الوصول اليه وذلك من خلال قوله له ((فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك)) أي من خلال ألية واضحة تقول

ص: 172

على كبح الهوى الذي يغالب النفس ومن ثم يأمره بالشح بالنفس عما حرمه الله تعالى في كتابه وما أوضحه الدين الحنيف وهديه، ثم ينتقل الخطاب إلى توضيح مفهوم (الشح بالنفس) فيحددها للمخاطب ولمن يأتي بعده (بالإنصاف منها) والخطاب هنا لا يقف عند شخص المخاطب وانما يتخطاه إلى غيره من الناس على اختلاف صلاتهم بمنتج النص وموجهه، لأن الغاية المرجوة من الخطاب هي الابلاغ الأوسع والاشمل وهو يتحقق في تعريف الناس بان الشح بالنفس هو ((فإن الشح بالنفس الانصاف منها)) وبهذه الثنائية المتوافقة يسير الخطاب سلسلا سائغا قابلا للفهم مانحا نفسه لمن أراد التزود والمعين، فقد أشار أحد الباحثين إلى أن الثنائيات التي يقوم عليها الوجود قد تكون ثنائيات متقابلة متكافئة أو متضادة وهذه العلاقات القائمة بينها تؤدي الى کشف شعرية النص والدلالة على سماته الجمالية، اذ ان الوجود هو بمثابة ((شبكة من علاقات التشابه والتضاد))(15) وهذا التشابك في العلاقات يعضد الدلالة بل يساعد على کشف صورتها ومن ثم يسهل للمتلقي الفهم والادراك لما في الخطاب من قصدية سعى إليها منشئ النص أو الخطاب، ولا يخفى على المتلقي أهمية هذا العهد وقيمته المعرفية التي استندت على بناء فني رصين قائم على هيمنة عنصر الثنائيات المتوافقة أو المتكافئة، فهو نسخة منتقاة من وجود قائم جميل.

ومن الشواهد التي تؤيد ما نذهب اليه من هيمنة الثنائيات في نص العهد ما نجده في قول الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر إذ يقول ((وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية))(16) فقد أمره بسلوك أوسط الأمور وهو يلمح هنا إلى قوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...»(17) فالوسطية دعوة عامة فضلا عن أنها أمر أراد الامام علي (عليه السلام) من مالك الأشتر الالتزام به والتقيد بشروطه التي يذكرها بقوله ((فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضی

ص: 173

العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء)(18) فلم يكتفي الخطاب بخصوصية الدعوة والأمر بل انتقل الى کشف أهمية سلوك هذا السبيل وفوائده للناس وللحاكم العادل وهذا خطاب يتجاور حدود الفرد المخاطب إلى مساحة أوسع من الناس ويتخطى بفعله المعرفي حدود الزمان ومقيدات السياق المقامي، وهنا فائدة نلمحها وهي: أن الخطاب المعرفي لا يقف عند سياقه الذي ولد من رحمه بل يتخطاه إلى مديات أرحب وتأثير أعم وأشمل وهو ما لمسناه من مجمل خطاب العهد هذا.

ويستمر الخطاب الموجه الى الوالي أساليب بلاغية مختلفة فنرى الخطاب قد يصدر بصيغة أسلوب الامر وهذا ما لمسناه في النصوص التي ذكرنا وقد يأتي بصيغة النهي وهذا يؤكده قوله (عليه السلام) لمالك الأشتر حين يطابه وينصحه بعدم الاحتجاب عن الرعية فيقول: ((وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك،))(19) ولكي ينتقل الخطاب من الخاص الى العام وهو الهدف الأسمى مع أهمية الخطاب الخاص وضرورته الملحة لأنها يعالج مصير أمة ويصلح إدارتها، فانه (عليه السلام) يكشف لنا في طرف الثنائية الاخر وهو العام أسباب هذا الارشاد و مساوئ الاحتجاب عن الناس فيقول ((فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل.))(20) فلم ينهى عن الاحتجاب دون توضيح وهذا البيان كاف لكي ينقل الخطاب من سياقه المقامة وظروف انتاجه وتداوله إلى مساحات أوسع وطاقات أرحب حين يصبح حكمة و دلیل عمل لا يقتصر على وال دون غيره من ولاة أمور المسلمين أو غيرهم، فهو خطاب يكسر حدوده ومقيداته ليحلق عاليا في ساء الحكمة التي لا تمنعها الحدود المكانية ولا تغير الظروف وانتقال الازمان.

ص: 174

وعلى هذا المنوال من الثنائيات المتوافقة يسير عهد الامام علي (عليه السلام) ناشرا مبادئه، ناثرا عطره، موسعا لأفق تأثيره، ففي نص العهد شواهد كثيرة على هذه الثنائية التي نراها عنصرا غالبا مهيمنا يكاد يمتلك زمام النص بأجمعه، مانحا إياه هذه السمة التي هي سمة الوجود ودالة عليه.

لتميزه من غيره، ولتعطي النص سماته الجمالية والفنية وتعضد من دلالته وتعمق من ثرائه المعرفي ذلك المعين الذي لا ينضب.

ثانيا: ثنائية الإجمال والتفصيل:

يتطلب هذا المبحث منا الوقوف على مفهوم الاجمال والتفصيل قبل الخوض في بيان هذه الثنائية التي أخذت مساحة واسعة من نص عهد الإمام علي (عليه السلام) لعامله على مصر مالك الأشتر، وهذه الثنائية هي واحدة من أنواع الثنائيات المتوافقة التي تقوم على أساس المشابهة لا التعارض أو التضاد بين طرفيها.

فما هو الإجمال: تذكر معاجم اللغة معان عدة للفظة (جَمل) فهي عند تتمحور حول جمع الاشياء الى بعضها أو هي دالة على الجمال أو هي مجموعة الحبال وذلك نذكر قول الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 ه) اذ يقول ((والجملة جماعة كل شئ بأكمله من الحساب)(21).

أي فالإجمال يعني ضم شيء الى أخر وهو نقيض التفصيل، وقد يكون بمعنى الإبهام يقول الكفوي (ت 1094 ه) ((وأجمل الأمر، أيهم ومنه: المٌجمل))(22) والمجمل عند أبي هلال العسكري (ت 395 ه) هو ((ما يتناول الأشياء، أو ينبئ عن الشيئ على الجملة دون التفصيل))(23) فالمجمل ما بهم من الأمور واحتاج الى تفسير أو أبانة أو كشف لما غمض ولم يتضح.

ص: 175

أما في الاصطلاح: فلا يذهب المعني بعيدا عن الدلالة اللغوية لكنه يختلف باختلاف زاوية النظر أي باختلاف المنهج والنظرية والتخصص، فللغويين معناهم الاصطلاحي وللبلاغيين والمفسرين وغيرهم مفاهيمهم الخاصة المنسجمة مع حقل اختصاصهم، لكننا لابد أن نأخذ بأحد الأراء من أجل سبر غور هذه الثنائية وإبانة الدلالة من مصطلح الإجمال فهو كما يقول الكفوي ((ما لا يُقف على المُراد منه، إلا ببيان من جهة المتكلم(24) و في رأينا أنسب مفهوم اصطلاحي قابل للتطبيق على النص الذي ندرسه، وهو أكثر ملاءمة وأشد التصاقا بما نحن في صدده من توضيح ما أجمل في النص وما بذله الامام (عليه السلام) من توضيح له وتفصيله بما لا يدع لبسا لفهم أو غموض في دلالة.

أما التفصيل فهو ((ما ظهر به مراد المتكلم للسامع من غير شبهة، لانقطاع احتمال غيره بوجود الدليل القطعي على المراد))(25) لذلك وجب أن تكون النصوص المفصلة جلية واضحة لا يحتمل الشك في دلالاتها، وهي كثيرة في نص العهد سنقف على بعض منها بما يسمح به البحث ثم نذكر كيف كانت مجملة في أول ورودها فاحتاجت إلى تفسير أو وصف أو توضيح كشفه التفصيل وأبان المراد بدقة، فكان بذلك طرفا من ثنائية امتدت على مساحة النص ووشمته بسماتها ومنحتها بعدا دلاليا وسمة جمالية فارقة، وهذه الظاهرة نجد لها شواهد كثيرة في القرآن الكريم، ومن تلك قوله تعالى «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)» سورة البقرة - فقد جاء لفظة المتقين مجملة ثم فصلت بالصفات التي تخصهم وهي الايمان بالغيب أولاً وإقامة الصلاة ثانياً، والانفاق في سبيل مما رزقهم ثالثاً والايمان برسالة الاسلام التي أنزلت على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رابعاً، والايمان بالأنبياء السابقين خامساً، وأن يكونوا على يقين تام بالآخرة ساساً، فهذا فصيل لما أُجمل، وعلى هذا النحو نجد شواهد كثيرة اجتمعت في نص العهد فشكلت ظاهرة

ص: 176

وعنصراً مهيمناً بارزا يتجلى في ثنائية الإجمال والتفصيل، ومن ذلك قول الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر وهو يحمل له الأمر ثم يفصله لكي تعم الفائدة، وتتضح الدلالة ويصل القصد الى غايته عندما يقول: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ...))(26) فقد جاء النص في حالة الإجمال في لفظة (صنفان) فاحتاج إلى تفصيل لكي يوضح هذين الصنفين فاستعمل أداة الربط والتفصيل (إما) حفظا لانسجام النص وتقوية لبنيته، فإذا هما: أولا: أخ في الدين وهو المسلم الذي له حقوق نص عليها الاسلام يجب على الوالي مراعاتها والعمل على صونها التزاما بالشرع وسننه، والثاني: غير المسلم (النظير في الخلق) الذي أوجب الاسلام له الحقوق كالحماية وحسن المعاملة، فلا تفريق ولا تمييز.

بل رعاية ومساواة عجزت عن إدراك أهميتها العقول البشرية طوال قرون عديدة، حتى بان لها أن البشر متساوون، فنبذت الفرقة والتعصب من بعد ظلم وجور، قد نبه عليه الامام علي (عليه السلام) قبل ما يربو على أربعة عشر قرناً، وأمر واليه باتباع منهج المساوة بين الرعية وعدم التمييز بينهم بسبب لون أو دين أو معتقد، فالمجمل الذي جاء به الإمام (عليه السلام) ربما أحتمل الابهام لان من علماء البلاغة من يرى أن المجمل يفيد الإبام وهذا ما ذهب إليه العلوي وهو القائل المجمل هو ((الإبهام الذي ظهر تفسيره))(27) ويبدو أن العلوي قد تنبه إلى أن ((الفائدة المتوخاة المعنى المراد، لتكون المعرفة بعد الجهل أشد ثباتاً وأجل مقاماً لدى السامع من أن يأتي البيان إليه ابتداء))(28)، فالحاجة الى التفصيل ضرورة يمليها النص والمتلقي حتى تكتمل طرفي الثنائية وتؤدي فعلها البلاغي والمعرفي.

ص: 177

وقد يلجأ الامام علي (عليه السلام) في تفصيل المجمل الى النص القرآني الذي فصل كثيرا من المجملات وأبان المراد منها، وذلك ما نجد في قوله ((واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..» فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسته الجامعة غير المفرقة))(29) فيأمر واليه برد الامور التي يصعب عليه حلها الى النص القرآني فهو الكفيل بالحل السليم، وهو يعتمد الصياغة المتقنة التي تحفظ بنية النص فاستعمل (الفاء) وهي أداة ربط و تفسير وهي ((العطفة التي تعطف مفصلا على مجمل))(30) ثم يأتي بالآية الكريمة الداعية إلى الالتزام بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر من المسلمين، ثم يفصل أكثر حين يعرف الرد الى الله بأنه الأخذ بمحكم الكتاب الكريم، والرد الى الرسول هو اتباع سنته الشريف والاقتداء بأفعاله وأقواله ثم يعمق هذا التفصيل بوصف السنة فيقول عنها أنها (الجامعة غير المفرقة) كل ذلك يؤكد أن الخطاب ظل مبنيا على ثنائية مهيمنة على مساحته، مشكلة ملمحا فنيا بارزا، ومضيفة عمقا دلاليا ومعرفيا لأن الاشياء في الكون عبارة عن ثنائيات متوافقة أحيانا ومختلفة في الأخرى، والثنائية هنا هي ثنائية الإجمال والتفصيل التي تعد من الثنائيات المتوافقة المتكافئة التي بني النص عليها، ومن الشواهد الأخر على ثنائية الإجمال والتفصيل ما نجده في قوله (عليه السلام): ((أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله، حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما))(31) فالتفصيل هنا جاء عن طريق التوظيف للحديث الشريف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كشف عن كيفية الصلاة التي على الوالي أداءها مع الرعية، فوجب عليه أن تكون صلاته على وفق أضعف المصلين، وفيها دلالة على عدم المشقة على الناس ومراعاة حالتهم والعمل

ص: 178

على وفقها، ومما سبق يمكننا القول أن ثنائية الإجمال والتفصيل الغالبة على النص منحته تشويقا وأكدت الصلة بين المتلقي ومنتج النص، فضلا عن أن التفصيل ورد في نص الخطاب بثلاثة طرق: أولا: تفصيل يوضحه الامام علي (عليه السلام) دون الاستعانة بنص أخر لغيره.

ثانياً: تفصيل يعتمد على التوظيف الدقيق للنص القرآني المفسر لما أبهم في نص الامام علي (عليه السلام).

ثالثاً: تفصيل يتم من خلال الاستعانة بحديث نبوي شريف کاشف الابهام مدل بوضوح تام على المراد مفصلا لما سبقه من غير اطالة أو تقصير، لأن المجمل في أي نص لابد له من تفصيل من أجل العمل به على وجه الدقة ((لأن حكم المجمل أنه لا يجوز العمل به إلا إذا ورد بیانه من المتكلم به، لأنه هو الذي أبهم مراده من اللفظ، ولا القرائن الخارجية ما يبينه، فيتعين الرجوع إليه في بيان ما أهمه))(33) بأساليب تعين المتلقي على الفهم، ومن تلك ما ذكرنا أنفاً.

وان هذه الثنائية لا يمكن أن تقوم بطرف دون أخر فيا أن يرد المجمل في النص حتى نراه يستدعي التفصيل الذي به يتم تجانس النص وانسجامه الذي يولد رغبة عند المتلقي في سماعه، وادراكا لدى القارئ لما یرید ایصاله من أفكار أو دلالات لا تقوم بأداء غايتها إلا من خلال هذه الثنائية الفاعلة في النص المانحة له ميزاته الفارقة جمالية كانت أم فنية، وقد كان نص هذا العهد الذي قامت دراستنا له قد نظرت الى شیوع هذه الثنائية فيه وغلبتها على الاساليب الباقية وطرق القول المختلفة، لأمور تصب في غاية العهد وتحقق مديات أبعد من الفهم، وتمنح النص الحياة والديمومة العابرة لمحددات السياق المقامي الذي ولد النص فيه، فتجعله نصا لا تقيده الأمكنة بجغرافيتها الصارمة، ولا تستطيع الأزمنة بتقلباتها المتباينة أن تحد من فعله التأثيري في النفس البشرية، أو أن تقف عائقا في طريق المعارف التي يعدها على متلقيه مها بعد بهم الزمن، واختلفت لديهم

ص: 179

الامزجة والأذواق، فالخطاب العابر لهذه الحدود مبني على اسس معرفية راسخة راعت النفس البشرية بتقلباتها وفهمت مجريات التغيرات التي ترافقها فعمدت الى اتخاذ السبيل الأوسط وهو السبيل الأسلم في تحقيق الغايات النبيلة.

وفي النص شواهد كثيرة على هذه الثنائية، اكتفينا بهذا العدد القليل منها للدلالة ومن يتفحص النص سيجده مفعما بها حد الهيمنة التي تفرض نفسها بصورة جلية لا لبس فيها.

المبحث الثاني: الثنائيات الضدّية

إن الجذر اللغوي للضد هو لفظة (ضدد) وفيه يقول ابن منظور في لسان العرب ((ضدد: اللَّيْثُ: الضِّدُّ كُلُّ شيءٍ ضادَّ شَيْئًا لِيَغْلِبَهُ، والسّوادُ ضِدّ الْبَيَاضِ، والموتُ ضِدُّ الْحَيَاةِ، وَاللَّيْلُ ضِدُّ النَّهَارِ إِذا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ ذَلِكَ. ابْنُ سِيدَهْ: ضدُّ الشيءِ وضدَيدُه وضَديدَتُه خلافُه؛ الأَخيرة عَنْ ثَعْلَبٍ؛ وضِدُّه أَيضاً مِثْلُه؛ عَنْهُ وحْدَه، وَالْجَمْعُ أَضداد. وَقَدْ ضادَّه وَهُمَا متضادّانِ، وَقَدْ يَكُونُ الضِّدُّ جَمَاعَةً، وَالْقَوْمُ عَلَی ضِدٍّ واحِدٍ إِذا اجْتَمَعُوا

عَلَيْهِ فِي الْخُصُومَةِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا))(33) وهذا يدل على أن الضد هو المخالف والمفارق والنقيض، وهذه الدلالة نرى مجتمعة في ثنائية فلسفية يقوم عليها الفكر الانساني ويعتمدها في توضيح مفاهيمه ونشر طروحاته، والتضاد في النقد العرب تتمحور مفاهيمه هو الطباق والتكافؤ، وهذا ما ذهب إليه أبو هلال العسكري حين تحدث عن مفهوم الطباق فقال ((أجمع الناس على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيئ وضده في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة مثل الجمع بين البيض والسواد والليل والنهار والحر والبرد))(36) فالتضاد ظاهرة طبيعة قبل أن تصبح مفهوم أو مصطلحا من مصطلحات النقد أو طريق لكشف اسرار النص وغور معانيه وابانة دلالاته الظاهرة على سطح النص أو المختفية في بنيته العميقة فالثنائيات الضدية

ص: 180

هي ((وليدة فكر معرفي يتحرك وينسج مسار حركته ويتشكل تاريخيا وثمة ثنائيات كثيرة لها أشد الحضور في حياتنا فلا وجود لشيء من دون نقيضه، أما في اللغة فهي أداة تحقيق معاني الحياة))(35) فهي ضرورة لازمة لا استغناء عنها في الحياة أو في وسائل تطور الحياة والمعرفة واللغة اساس تطور المعرفة ووعائها الذي به تنمو وتنضج، أما عن نشأة هذه الثنائية الضدية فيرى العالم اللغوي کوهين ((أن الثنائيات الضدية تنشأ من شعورين مختلفين يوقظان الإحساس، وواحد من هذين الشعورين فقط هو الذي يستثمر نظام الإدراك في الوعي والثاني يظل في اللاوعي))(36) فالشعور الأول يمكن ادراکه من خلال اللغة والسياق، ما الثاني فهو المضمر والغائب وهو المسكوت عنه وهو الذي يقوم الناقد الذكي باکتشافه وتوضیح مراميه وفضح مقاصده المعرفية.

ومن تمثلات هذه الثنائية في النصوص الأدبية هي ثنائية المتحرك والساكن وثنائية الحياة و الموت، وثنائية الحضور والغياب، وهي ما نحاول کشفها والتركيز عليها في هذا المبحث من مجموعة الثنائيات المهيمنة في نص عهد الإمام علي (عليه السلام) فما هي:

ثنائية الحضور والغياب:

هي ثنائية ضدية طرفاها في مقابلة واختلاف، فان حضر أحدهما غاب الآخر، وهي اساس فكري بنيت عليه كثير من الفلسفات وجاءت بآرائها واختلفت وامتزجت و تصادمت كل ذلك مقرون بالواقع الثقافي والنظرة إلى الحياة المتناقضة بين السعادة والشقاء وبين الحضور (الحياة) والغياب (الموت) وهي الثنائية التي طالما شغلت عقول الفلاسفة ولكنها لم تكن بعيدة عن نتاج الشعراء والأدباء فهم في فلكها يدورون، مستغلين مساحتها في جانبه المظلم لإخفاء أراءهم أو طمس مشاعرهم أو لتوهیم عدوهم، فالثنائية هذه عاد النسيج اللغوي الفني الذي انتجه الادباء على مر العصور، فهي حاضرة في النص الشعري والنثري على السواء، فاذا كان الغياب هو ((سمة كل ما

ص: 181

هو غائب عن مكان أو عن موضوع معين، في حين يعتبر مثوله في مكان ما (...) بمنزلة أمر متحقق في ظروف أخرى))(37) والحضور نقيضة أبداً.

ونحن إذ ندرس نص عهد الإمام (عليه السلام) ستفتش عن النص الغائب بعد أن نحلل النص الحاضر، معللين الغياب إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، فالنص الغائب هو ((مالم يقله النص مباشرة، ولكن يوحي به، وهو ما لم يذكره النص لكنه يتضمنه، وهو كذلك مالم يصرح به ولكنه يثيره، والبحث في النص الغائب يرتكز على البحث فيما وراء النص الحاضر بشكل أساسي، وهو استحضار الرموز والدلالات والإشارات التي تستنبط من النص الحاضر لإعادة بنائه وترتيبه وتركيبه وبالتالي فهمه على أفضل شكل))(38) وبها اعادة ترتيب النص يحصل المتلقي على ما غاب من أفكار أو مشاعر تحت سطح النص الحاضر وبأسلوب فني لكل أديب طريقته في اخفاء ما يريد، أو الافصاح عنه، لكننا أمام نص هو موجه الى وال يحكم بلاد اسلامية، فهل هنالك حاجة إلى الإخفاء، أم أن أي نص بليغ يخفي بديهيا أشياء ويظهر أخرى، نحن نظن ذلك، لأن الغياب يوقد الذهن ويثير الانتباه ويجعل الحصول على المعلومة بعد الجهد کالحصول على اللؤلوة بعد کسر الأصداف، فإلى أي مدى سيحالفنا الحظ في الكشف والتحليل لهذا النص البليغ؟ في نص العهد شواهد كثيرة على تواجد هذه الثنائية الضدية، منها ما يسهل معرفته، ومنها ما يحتاج إلى جهد، وسنحاول في ذلك، فقد ذكر الإمام علي (عليه السلام) أن على الوالي (المخاطب) الأول ((وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بها يجري الله لهم على ألسن عباده.))(39) ومن خلال هذا النص الموجه نستدل على أن حديثاً كان قد جرى بين الإمام علي (عليه السلام) ومالك الأشتر، أشار إليه الإمام (عليه السلام) فعرفنا بمدلوله هو ذم الولاة الظالمين والمسرفين، وأن مالك الأشتر كان لا يستصيغ

ص: 182

تصرفاتهم فهو ناقد لها کاره لما يقومون به من أعمال تشوبها القسوة وعدم الانصاف بين الرعية، فالنص في ثنائيته هذه يكشف عن عمق العلاقة القائمة بين الإمام علي (عليه السلام) وبين مالك الأشتر، بمعنى أن النص يخفي دلالة خاصة كشفها السياق الذي بين ايدينا، وإلا كيف عرف الإمام علي (عليه السلام) رؤية مالك في الولاة السابقين، اذاً لابد أن تكون هنالك معان غائبة كشفتها التراكيب اللغوية الحاضرة التي تجلت في قوله ((وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.)) ومن ينظر في النص ذاته أي في قوله ((وإنما يستدل على الصالحين بها يجري الله لهم على ألسن عباده.)) نجد في النص ضدية واضحة بين ثنائية القول والفعل، فالنص يشير الى معنی مرکزی غائب يقوم على أساس ضرورة توافق الفعل والقول وهي اشارة غير مباشرة تعني أوصيك بتطابق القول والفعل، فهي تلخيص الحالة من سبقه من الولاة، وضرورة تجنبها في القادم من الأمور للمخاطب المباشر الحاضر والغائب هذا في الدلالة المباشرة، أما والنص عابر حدوده السياقية الزمانية والمكانية فهو يحمل دلالة التوحد بين القول الفعل في كل الظروف أي في حالة کنت راعيا تقود رعية، أو كنت أحد أفراد الرعية، وهذا ما أثاره النص الحاضر ليدل على معان ربما كانت غائبة عن المتلقي.

ونسير قدما في البحث عن النص الغائب الذي ألمح إليه الامام علي (عليه السلام) وهو يسوق توجيهاته وأوامره ونصحه الى واليه، ومن خلاله إلى من يتعض من الولاة مع اختلاف الأزمان وتغير المكان فنراه يرشده إلى الابتعاد عن التكبر والعظمة فأنها لله وحده جل وعلا إذ يقول ((وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طاحك، ويكف عنك من غربك، ويفي إليك بها عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال))(40)

ص: 183

ان هذه الارشادات التي حملتها التراكيب اللغوية التي اعتمدت أسلوب الأمر وأسلوب النهي بعد أن تشكلت في نص بني على أداة الشرط غير الجازمة (إذا) وتم ربط جوابها بالفاء ليقوي تماسك النص ويحقق انسجامه، فأنه (عليه السلام) قد لمّح الى مفاهيم القرآن في النهي عن التكبر والغرور وأعطى النص الحاضر اشارات إلى أن من سبقك (الخطاب لمالك) قد ذكر القرآن الكريم حالتهم، وأوضح فعل الله جل وعلا بهم حين دمرهم ولم يبق منهم باقية، اذا الله جل شأنه (يذل كل جبار ويهين كل مختال) فالنص الحاضر قد أخفى اشارات، وقدم ايحاءات يمكن الاستدلال عليها من كشف النص الغائب، وهذا البناء الفني المتقن المعتمد ثنائية الحضور والغياب يجعله مكتنزا بالدلات موغلا في المعارف قابلا للدرس والتحليل ومانحا للمتلقي قراءات متعددة لا تبتعد عن صلب القضية التي يؤكد عليها الإمام (عليه السلام) وهي القضية الاخلاقية على وفق مبادئ الدين الحنيف، فمن يمعن النظر في النص يجد أنه يحمل دلالة مركزية يمكننا أن نوجزها بقيمة (التواضع) فألصق تلك القيمة الى الحاضر الموصى بها والتي تجلت بالألفاظ (أبهة، مخيلة، عظمة، مسماة الله....) وهذه الألفاظ تحمل دلالة غائبة تشرح أو تشير الى حال الولاة الذين سبقوا وبعض منهم من هو معاصر له، قد شاعت فيهم سمة التكبر والخيلاء فاعتنوا بملابسهم وقصورهم وميزوا أنفسهم عن غيرهم من المسلمين وهذا بالضد مما جاء به الإسلام، وهذا المعنى الغائب دلت علية الألفاظ والتراكيب الحاضرة التي سيغت على وفق ما أراده السياق المقامي ((والعلاقات الاستبدالية هي علاقات الغياب وهي الجانب الدلالي في اللغة وإن العلاقات الاستتباعية هي علاقات الحضور وتمثل الجانب التركيبي في اللغة، ومن هاتين المعادلتين نلاحظ أن استعمالنا المصطلح بعينه يحدد حقل نشاطنا فنحن نتكلم عن حضور وغياب عندما ننزل القضية في مدار الفلسفة والتأمل))(41) الذي دل على الغائب من المعاني في النص الحاضر، وهذا ما نجده في كثير من نصوص العهد ومن بينها قول الإمام (عليه السلام) ((ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً

ص: 184

يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله.))(42) فمن يتأمل في النص يجد مجموعة من القيم الحاضرة التي أوردها الإمام (عليه السلام) بصيغة النهي، تقوم على أساس الابتعاد عن استشارة (البخيل، الجبان والحريص) معللا ذلك، وهذا ما يظهره النص، أما النص الغائب فهو يتجلى بإشارات غير مباشرة اختفت وراء النص الظاهر تدعو الى أن تكون الاستشارة لمن يمتلك السيات (الكرم، الشجاعة، السماحة) وان لم يصرح بها من قبل الامام علي (عليه السلام).

ونستنج مما تقدم أن الثنائية الضدية المتمثلة ثنائية الغياب والحضور حملت أبعادا معرفية عمقت المعنى في ذهن المتلقي، والله أعلم.

ص: 185

الخاتمة

بعد دراسة معمقة تحليلية حاولنا فيها قد ما استطعنا من سبر مكونات هذا النص اللغوي المعرفي، توصلنا إلى مجموعة من النتائج يمكن أن نجملها بالآتي:

1 - ان نص عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر قد صيغ بدقة قائمة على توارد الثنائيات على اختلافها فيه بكثرة بارزة شكلت عنصرا مهيمنا لا يمكن تجاهله.

2 - تنوعت الثنائيات المهيمنة في العهد فقد جاءت ثنائيات متوافقة قائمة التشابه لا على الاختلاف فهي تعمق دلالات النص وتثري معانيه وتكسبه سمة جمالية فارقة.

3 - كانت الثنائيات المتوافقة في نص العهد على نوعين بارزين هما: ثنائية الخاص والعام، فالخطاب وان كان موجها بالأساس إلى شخصية الوالي إلى أنه تجاوز محددات السياق فاصبح نصا مكتنزا بالمعاني العامة الصالحة لمختلف الأزمان والناس.

4 - ان الثنائيات المتوافقة في نص العهد بدت واضحة جدا في ثنائية الإجمال والتفصيل، فقد أخذت حيزا كبيرا من مساحة النص وزادت من قيمته الفنية والمعرفية والجمالية، لأن الناس بحاجة دائمة الى تفصيل الحديث بعد إجماله.

5 - ظهور ثنائية أخرى ومن نوع مختلف هي الثنائية الضدية وقد تمثلت بوضوح تام في ثنائية الغياب والحضور، فقد كشف البحث عن معان قيمة ومعارف ودلالات كانت تختفي خلف النص

الظاهر، وهي بذلك تمثل عمق الصياغة ودق إدائها وفنية نظامها المنسجم مع القيم النبيلة التي دعا اليها الإمام علي (عليه السلام) في مجمل هذا العهد الخالد.

ص: 186

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1 - الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبو بكر السوطي، تحقيق، محمد أبو الفضل ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1974 م.

2 - استراتيجية الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بنغازي، ليبيا، 2003 م.

3 - أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجاني - قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر - مطبعة المدني - القاهرة

4 - أصول الفقه، أبو العينين بدران، مطبعة دار الشرق الأوسط، مصر، 1995 م:

5 - بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، منشورات عالم الكتب، أربد، 2002 م:

6 - البنيوية والتفكيك تطورات النقد الأدبي، س. رافيندران، ترجمة، خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2002 م

7 - جدلية الخفاء والتجلي، (دراسات بنيوية في الشعر ) كمال أبو ديب، دار العلم للملايين، بیروت، ط 1، 1979 م

8 - الحيوان - عمرو بن الجاحظ - حققه وشرحه - عبد السلام هارون - المجمع العلمي العربي الإسلامي - بيروت - 1969: 1 / 26

9 - الطراز، یحیی بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1332 ه

10 - الظاهرة الشعرية العربية - الحضور والغياب - دراسة، د. حسين خمري، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001 م

11 - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقیق، محمد ابراهيم سليم، دار العلم

ص: 187

والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة

12 - القيمة المهيمنة، ضمن کتاب نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: ابراهيم الخطيب

13 - کتاب الصناعتين (الكتابة والشعر) أبو هلال العسكري، تحقیق، مفید قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1981 م

14 - الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق، عدنان درویش ومحمد المصري، موسسة الرسالة، بيروت: 42

15 - لسان العرب، محمد بن مکرم بن منظور الأنصاري، دار صادر، بیروت، 1414 ه

16 - اللغة العليا، النظرية الشعرية، جان کوهن، ترجمة، أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، 1995 م

17 - المرايا المحدبة من البنيوية الى التفكيك، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة الكويت، 1998 م

18 - المعجم الفلسفي جميل صليبا - دار الكتاب اللبناني - بيروت

19 - معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، نحقیق، مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، مصر

20 - الموسوعة الفلسفية، اندري لالاند، ترجمة، خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط 2، 2001 م

21 - میزان الأصول في نتائج العقول، ابو بكر محمد بن أحمد السمرقندي (ت 539 ه) تحقیق عبد الملك عبد الرحمن السعدي (اطروحة دكتوراه) جامعة أم القرى، السعودية، 1984 م

22 - النص الغائب -نظرياً وتطبيقياً - د. أحمد الزعبي، مكتبة الكتاني، الأردن، ط 1،

ص: 188

1993 م

23 - نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، لبنان

الرسائل والأطاريح:

- الإجمال والتفصيل في التعبير القرآني - دراسة في الدلالة القرآنية، أطروحة دكتوراه، سیروان عبد الزهره الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، اشراف أ.د عبد الكاظم محسن الياسري: 2009 م

المجلات:

- مصطلح الثنائيات الضدية، مجلة عالم الفكر، سمير الديوب، العدد 1، المجلد 41، يوليو سنة 2012 م: 116

ص: 189

الهوامش

1 - المعجم الفلسفي - جميل صليبا - دار الكتاب اللبناني - بيروت: 1 / 379.

2 - سورة الحجرات - الآية 13.

3 - سورة البقرة - الآية: 257.

4 - الحيوان - عمرو بن الجاحظ - حققه وشرحه - عبد السلام هارون - المجمع العلمي العربي الإسلامي - بيروت - 1969: 1 / 26.

5 - أسرار البلاغة - عبد القاهر الجرجاني - قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر - مطبعة المدني - القاهرة: 32.

6 - بناء الأسلوب في شعر الحداثة، محمد عبد المطلب، منشورات عالم الكتب، أربد، 2002 م: 149.

7 - لسان العرب، محمد بن مکرم بن منظور الأنصاري، دار صادر، بیروت، 1414 ه: 13 / 437.

8 - القيمة المهيمنة، ضمن كتاب نظرية المنهج الشكلي - نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: ابراهيم الخطیب: 81.

9 - المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998 م: 164.

10 - البنيوية والتفكيك تطورات النقد الأدبي، س. رافیندران، ترجمة، خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2002 م: 55.

11 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده،: 3 / 85.

12 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 85.

13 - سورة يوسف - الآية: 53.

14 - ينظر: استراتيجية الخطاب (مقاربة لغوية تداولية)، عبد الهادي بن ظافر الشهري دار الكتاب الجديد، بنغازي، ليبيا، 2003 م: 63.

ص: 190

15 - جدلية الخفاء والتجلي، (دراسات بنيوية في الشعر) کال أبو دیب، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1979 م: 268.

16 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

17 - سورة البقرة - الآية: 143.

18 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

19 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 96.

20 - المصدر نفسه: 3 / 96.

21 - معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي: 6 / 146.

22 - الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق، عدنان درویش ومحمد المصري، موسسة الرسالة، بيروت: 42.

23 - الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، تحقیق، محمد ابراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة: 58.

24 - الكليات، الكفوي: 42.

25 - میزان الأصول في نتائج العقول، ابو بكر محمد بن أحمد السمرقندي (ت 539 ه) تحقیق عبد الملك عبد الرحمن السعدي (اطروحة دكتوراه) جامعة أم القرى، السعودية، 1984 م: 1 / 503.

26 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 89.

27 - الطراز، یحیی بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1332 ه: 2 / 85.

28 - الإجمال والتفصيل في التعبير القرآني - دراسة في الدلالة القرآنية، أطروحة دكتوراه، سیروان عبد الزهره الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، اشراف أ.د عبد الكاظم محسن الياسري: 2006 م: 23.

29 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 93.

30 - الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبو بكر السوطي، تحقيق، محمد أبو الفضل

ص: 191

ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1974 م: 2 / 247.

31 - المصدر نفسه: 3 / 10.

32 - أصول الفقه، أبو العينين بدران، مطبعة دار الشرق الأوسط، مصر، 1965 م: 172

33 - لسان العرب: 3 / 293

34 - کتاب الصناعتين (الكتابة والشعر) أبو هلال العسكري، تحقیق، مفید قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 1981 م: 339.

35 - مصطلح الثنائيات الضدية، مجلة عالم الفكر، سمير الديوب، العدد 1، المجلد 41، يوليو سنة 2012 م: 116.

36 - اللغة العليا، النظرية الشعرية، جان کوهن، ترجمة، أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، 1995 م: 187.

37 - الموسوعة الفلسفية، اندري لالاند، ترجمة، خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بیروت، ط 2، 2001 م: 1 / 4.

38 - النص الغائب - نظرياً وتطبيقياً - د. أحمد الزعبي، مكتبة الكتاني، الأردن، ط 1، 1993 م: 5.

39 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 80

40 - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3 / 86.

41 - الظاهرة الشعرية العربية - الحضور والغياب -دراسة، د. حسين خمري، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2001 م: 18.

42 - نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 90.

ص: 192

الإشهار في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

أ. دعلي صالح رسن المحمداوي

أ. م. دشيماء هاتوفعل

جامعة البصرة - كلية التربية للعلوم الإنسانية - قسم اللغة العربية

ص: 193

الخلاصة

وظف الإمام علي (عليه السلام) فيه كل امكاناته البلاغية التي عرف بها كونه اساس البلاغة والفصاحة، فهناك اساليب عدة إشهر الإمام بها عما قصده من العهد الذي خصه لمالك الاشتر عندما ولاه مصر وكأنما اعطاه دستوراً لقيادة الدولة من أجل نشر المحبة والأمان والسلام، وكيفية التعامل مع المجتمع حتى يسود بينهم العدالة فيعيشوا في استقرار بعيداً عن التفرقة والظلم والعصبية، فقد أكتسب العهد أهميته من قاله الإمام علي (عليه السلام) ومن صاحبه مالك الأشتر الشخصية المعروفة بالشجاعة والبلاغة وشدة البأس، فضلاً عمّا فيه من إشاعة ثقافة الاعتراف بالآخر، وثقافة اللاعنف، والتسامح والود واسس التعامل والمعاملات مع الآخرين.

ص: 194

المدخل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين بعدد اسمائه ومعانيها، وبعدد نعمائه وآلائه، وبقدر ما في السماء وما علت، نحمده على جميل ما اعطی وجزیل ما وفي وسدد وارضى، إنه على كل شيء قدير وبالاستعانة والاجابة جدير، فقد فضل وانعم علينا وارضى لنا ووضحى طريق الحق والهداية، حتى نكون ممن شملتهم بالهداية والتسليم، فتخط قلوبنا قبل اقلامنا حروفاً وكلماتاً بحق ائمتنا (عليه السلام).

الناظر المتمعن في العهد الذي خص به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مالك الأشتر، يجده تضمن محاور اجتماعية ونفسية وحربية واقتصادية، صنف من خلالها المجتمع وما فيه من طبقات و معاملات بين البشر بعضهم بعضاً، وحسن التدبير والمعيشة واخذ الحيطة والحذر من العدو والصديق، والحث على مجالسة العلماء، ومحادثة الحكماء، والتعامل مع طبقات المجتمع المتعددة من غني وفقير، ومن خلال القراءة المتأنية والتفكر بجواهر الكلمات التي ضمها في طياته نجده عبارة عن حزمة قوانين واحکام خصت المجتمع، يعيش بها ويتعايش معها، تضمن للإنسان العيش بكرامة وحرية واستقرار، وسيادة العدالة والطمأنينة.

وهو يسعى بالفرد إلى الصلاح والكمال ويبعده عن الفساد والفوضى، ويصلح لكل المجتمعات، وينهى عن الفروق الطبقية التي تحد من قدرة الفرد على العيش والسعي من أجل الكسب الحلال، فمن طبقه نجا وأستقر، ومن ابتعد عنه ضاع وتدهور، فهو قانون الله ورسوله وأهل بيته، ومن ذلك قوله: «واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة

ص: 195

ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة و كلا قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا محفوظا»(1) والملاحظ أن هذه القوانين قد اثبتت اجتماعياً ونفسياً؛ لذلك جاء اعتماده من ضمن ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

الإشهار

الإشهار لغة: الشهرة وضوح الامر، تقول عنه، شهرت الأمر أشهره شهرا وشهرة، فأشتهر أي وضح، وكذلك شهرته تشهيرا، ولفلان فضيلة اشتهرها الناس، وشهر سفیه يشهره شهرا، أي سله(2) واصطلاحاً: هو الترويج والإعلان عن أمر ما وإيصال المراد إلى الآخرين، والإشهار مصطلح وآلية حديثة تم تطبيقه على العهد وهو نص قديم كما هو معلوم، وبما أن الاشهار ترویج عن منتج، فالمنتج في هذه الدراسة عهد مالك الاشتر، الذي يتضح في مكونات الصورة الاشهارية كما تشير إليه الدراسات وهي الخطاب اللغوي والخطاب البصري والخطاب الموسيقي، فضلاً عن العناصر التواصلية وهي (المرسل والرسالة الاشهارية والمتلقي) حقق الإمام علي (عليه السلام) فيه عدة وظائف منها التوجيهية والدلالية والوظيفة السياسية والتربوية والوظيفة التعليمية(3)، والاشهار الذي وظف فيه بصري وسمعي يعتمد على النص المكتوب الذي أرسل إلى مالك، بعده شخصية لها ثقلها الاجتماعي المعروف آنذاك بالعدالة والشجاعة والبلاغة وشدة البأس، وكان شاعراً فصيحاً، وزعيم قبيلته نخع، وقد كان من اصحاب الإمام علي (عليه السلام) شارك في العديد من المعارك ومنها الناكثين والمارقين والقاسطين، وان سبب تسميته بالأشتر؛ لأنه ضرب على راسه في معركة اليرموك بالسيف فشترت عينه أي شقت جفنها السفلي(4)

ص: 196

عتبة عنوان العهد إشهار عن المحتوى من خلال سيرة مالك أولاً، والمحتوى الذي هدفه الاصلاح ثانياً، ويندرج تحت ما يسمى (إياك أعني واسمعي يا جارة) فهو ذکر مالك واراد المجتمع، إذ تتضح اهمية الشخصية التي أوكل إليها العهد ومكانتها.

تضمن العهد معاناً إنسانية سامية القصد منها الاشهار وإفشاء ثقافة اللاعنف في المجتمع الذي سادت فيه قیم مغلوطة وتقهقر مبادئ دين الاسلام، وبات المجتمع أسير عادات وتقاليد، انحطت عما أراد النبي تبليغه، واشاعته بين الناس وهو حتماً ما اراده الله، فهو عندما يشير أولاً في افتتاحية وصيته يذكر الله (جل جلاله) والامتثال لأوامره والابتعاد عن نواهيه فهي المدخل الذي أفصح به عما يأتي بعده والاشارة والتلويح إلى إن ما يأتي بعده، لا يخرج عن أطار القرآن الكريم والسنة النبوية، وما على المتلقي إلا الطاعة والسماع، فهي رسائل باثة يفصح عنها العهد الذي وجهه إلى مالك الاشتر.

معاني مفاهيم العهد

أورد أمير المؤمنين (عليه السلام) مفاهیم عدة نشير إليها وهي الآتي:

1 - مما يلحظ على بداية العهد الاستعانة بتقوى الله، والابتعاد عن الجحود والشهوات، لأن الإنسان إذا اتبع ذلك فسوف ينصر الله بقلبه ولسانه ويده بقوله (عليه السلام) «.... وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات...»(5)، ثم في خاتمة المطاف سأل الله (جل جلاله) السعة برحمته، وعظيم قدرته على اعطاء كل رغبة وجميل الأثر لأن الإنسان إذا ما التزم بذلك الأمر فأن له السعادة والشهادة والكرامة، ويبدو ذلك من قوله «وأنا اسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وإنا إليه

ص: 197

راغبون»(6).

2 - يسود العهد نصح وارشاد وحكمة، ويغلب الترغيب على الترهيب بأسلوب واضح يوظف آیات القرآن الكريم ويذكر بها ومنها قوله (جل جلاله) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(7) والاستشهاد بهذه الآية القرآنية جاء دلالة على توجيه الإنسان إلى الرد لسنة الله ورسوله في الأمور التي يشكل عليها ويشتبها بها بقوله «واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور»(8) وقول الإمام علي (عليه السلام) «وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيها كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس»(9) فقد جاء الاستشهاد بقوله تعالى «كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهَّ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(10) بعد تحذيره من المن على رعيته واخلاف الوعد وذلك يوجب الكره والمقت عند الناس تجاه الحاكم، فضلاً عما نجده من حكمة وارشاد من قوله «كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة»(11)

3 - ومما تطرق له الإمام (عليه السلام)، إصلاح المجتمعات المتمثلة بإشارته إلى السنة الصالحة، التي وضح ما يجب التمسك به من طاعة الله وتقواه، والابتعاد عما نهى عنه والتمسك بأصول الدين، والسنة المحدثة السيئة التي تضر الإنسان وتفسد المجتمع، فهي اساس خرابه إذ تدعو إلى الغش والكذب والسرقة موضحا ذلك بقوله «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها»(12).

ص: 198

4 - من المعان التي انبثقت من العهد العفو والصفح الذي يعطيه الله من قوله: «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير ...»(13).

5 - ويتجلى من قوله: «فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يُطامِنٌ إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفئ إليك با عزب عنك من عقلك، إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال، أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد»(14) المعاني الآتية: قدرة الله التي تفوق قدرة الجميع وهذا ما ذكرها بقوله فأنظر إلى ملك الله فوقك وقدرته، العظمة والجبروت لله وحده، انصاف الله والناس من النفس والأهل لأن ظلم الناس ذنب لا يغتفر يأتي بالعذاب والويلات، العدل، والحق، وستر عيوب الناس، الاحسان، بينما يتضح تأكيده العمل الصالح، والرحمة واللطف والمحبة والتواضع والبذل والعطاء والصبر من قوله (عليه السلام) «فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح. فأملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيها أحبت أو كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا

ص: 199

تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم...»(15)

6 - أمر الإمام بإشاعة الحق فإذا ساد بين الناس انتشر العدل، والمساواة، والإنصاف لأن ظلم الناس لا يحبه الله موضحاً ذلك من قوله: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة»(16)، ومن المعاني التي اكده في عهده الابتعاد عن البخل والجبان والحرص وفيها يقول «ولا تدخلن في مشورتك بخیلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله»(17).

7 - آن احساس المتلقي (القارئ) وشعوره بحالة السكينة والأمان التي يشعر بها عند قراءته للعهد، يلتمسها الإنسان في الدولة والمجتمع الذي يسير على ما حدده الله ورسوله وآله الطيبين فلا ظلم، ولا فقر، ولا غش، ولا قيود من مجتمع يعيش في ظل الإسلام، ويتعايش مع القهر والاضطهاد، فكل يعرف ما له، وما عليه ويسير على النظام بعيداً عن الخديعة والاستبداد ولهذا نجده يشدد على ذلك بقوله «وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شکوا ثقلا»(18) ومن الأمور النفسية التي أشار إليها الإمام، ووجد لها تأثيراً واضحاً على الإنسان الجانب المادي الذي لابد من اشباعه، وإعطاء فئات المجتمع المال، وإيصالهم إلى حد الرضى وعدم الشعور بالحاجة.

ص: 200

8 - ويتجلى الاعتراف بالآخر الإيجابي(19) الذي تركز الحديث عنه بشكل مفصل، ویکاد يستحوذ على عبارات وكلمات العهد، بالدور الفعال الذي تحمله تجاه المجتمع، فالنظرة التي يطلقها الإمام نظرة إيجابية إصلاحية، يراد بها تفعيل الآخر الإيجابي، والتخلص من الآخر السلبي غير النافع، وإنشاء مجتمع قائم على العدالة، والإنصاف يشعر بالآخرين وهذا ما برهنه من قوله (عليه السلام) «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم»(20).

9 - يعكس الآخر (الذات الإلهية) التي تطرق لها الإمام في عهده المالك، ذاكراً إياها بين الحين والآخر مدى التوكل والإيمان ووحدانية الله التي جعلها المنطلق الأساس للمجتمعات الذي يتبلور من قوله «واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقیت وأجزل تلك الاقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملا غير مثلوم ولا منقوص»(21) فتقوى الله وطاعته والامتثال لأوامره سبب سعادة العبد، ولم تتحقق العبودية إلا بطاعة الله واجتناب معاصيه، والعمل من أجل المصلحة، وتوفير مستلزمات الحياة المهمة للفرد والمجتمع، الذي يقوم على حب المنفعة والسلام والابتعاد عن التنافر والتشاحن «واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع» فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع»(22)

ص: 201

10 - خلق مجتمعات متكافئة، بعيدة عن التعصب والعنصرية، والانفتاح على الآخر ونبذ التفرقة في قوله «استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها»(23)

11 - لقد عالج العهد وتطرق إلى دقائق الأمور التي تهم المجتمع، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكرها، ومن باب المدارة والاهتمام بطبقة الجنود يشير إلى الاهتمام بهم، فعند ذهابهم إلى الجيش حتى لا يفكروا بهم وانما يضعون همهم في مجاهدة الاعداء تتشظى بالألفاظ الآتية في قوله «ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيها يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم»(24) وقوله أيضاً «وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(25) ويأتي من قبيل هذا قوله (عليه السلام) «وإنما يؤتى خراب الارض من إعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر»(26).

12 - لقد بث النص اشارات عدة يمكن الاستدلال عليها من اقواله التي وظفها، وهي افعال الأمر والمضارعة، واسناد الفعل والقول إلى المخاطب الذي جعله المحور الذي دارت حوله الفكرة المراد إيصالها إلى المتلقي المتمثل بالمجتمع الواجب اصلاحه، واذاعة روح المحبة والتعاون والتماسك بين مفاصله، وخلق مجتمع بعيد عن التنافر والعصبية، يسوده التكاتف والإنسانية، تستند عبوديته الله بعيداً عن والاستكبار والإيمان بالله أولاً وآخراً، يتراوح العهد ما بين افعال الأمر أفعل كذا، والنهي بالفعل المضارع المسبوق ب لا الناهية أي الأمر القطعي، لا تفعل كذا.

ص: 202

جماليات العهد الفنية

إذا جئنا إلى تلمس الآليات الاشهارية فأنها تظهر في الاساليب التي اعتمدت في العهد ومنها:

أولاً: أسلوب الاستثناء مستعملا أداة الاستثناء (إِلَّا) حاضراً في فهم مضامینه، عندما جعل الإمام علي (عليه السلام) سعادة الإنسان لا تتحقق إلا بتقوى الله وإيثار طاعته، وجاعلاً شقاء الإنسان وحزنه لا يحدث إلا مع جحوده لله بقوله (عليه السلام): «... أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها»(27) وثمة النفس الامارة بالسوء الا ما رحم ربي ويتضح ذلك من قوله: «فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور»(28) وتصنيف الجنود الذين هم حصون الرعية، فلا تقوم الرعية إلا بهم، ومنها « فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم»(29).

ثانياً: استعمال أسلوب التقسيم في توضيح الأمور لإظهار أقسامها وتعدادها. ومن هذا التقسيم قول الإمام علي (عليه السلام) «فإنهم (الناس) صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق»(30) وقوله «وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده. وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده»(31) وكذلك «ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة »(32).

ثالثاً: غلبة الأفعال التي تصل الفكرة بقوله (أعلم، أحب، أشعر، أنظر، أنصف، ألزم، أحق، أردد، انظر، أحفظ، أجعل، أحوج، أعط، أمنع، أحق، أستر، أطلق، أقطع،

ص: 203

أسأل، )فشیوع افعال الأمر الصادرة من الأعلى المتمثل بالإمام علي (عليه السلام) عدل القرآن والحق وقسیم الجنة والنار وما أمر به واكد عليه فهو اساس العدل وسبب دخول الجنة، وما نهى عنه فهو اساس الباطل وسبب دخول النار، إلى الأدنى المتمثل بصاحبه مالك الأشتر وهو أمر حقيقي واقعي فيه إصلاح المجتمع. ففي زمن الظلم والاضطهاد لا بد من الإشهار عن مبادئ وقوانين يسودها العدالة والإنصاف والحق، فكلما اشهرنا عن امر ما فأننا نقدم الافضلية عنه التي نلحظها منتشرة في اكثر من فقرة من فقرات العهد الأهم والاكثر شيوعاً ومن أجل الترغيب ولفت الانتباه إلى الأمر والتأكيد عليه، ثم الفعل المضارع المسبوق بلا الناهية (لا تنصبن، لا تندمن، لا تبحبحن، لا تسرعن، لا تقولن، لا تقوين، لا تطمحن، لا تكشفن، لا تعجلن، لا تدخلن، لا تحدثن، لا تحقرن، لا تقصرن، لا يدعونك، لا تمحکه، لا يتهادی، لا يحصر، لا يبلغه، لايثيره، لا يقعد، لا يعجز، لا تخاف، لا تصعر، لا تخشى، لا يلتئم، لا تجترئ، لا تختلف، لا تقدر...) و شیوع أفعال المضارع على الجمل الأسمية يدل على الحركية وعدم الاستقرار.

رابعاً: شيوع صيغة أفعل التفضيل المتمثلة بقوله (أفضل، أحب، أكره، أبلغ، أصح، أقل، أهم، أجمل، أشد، أخف، احسن، أثقل، أقل، أكره، أفضل، أكثر، أضعف، أبعد، أبطا، أجهل، أسرع، أخرب، أجحف) بمعنى أن هناك أمراً يعرضه الإمام أفضل وأحسن من الأمر المذكور سلفاً.

خامساً: أما الجانب الموسيقي فيكاد يغلب على جميع فقرات العهد فنلحظ الجناس والتكرار فضلاُ عن الطباق والتقسيم والسجع، وهذه الأساليب إذا جاءت في أية قطعة نثرية، احدثت فيها نغماً موسيقياً وتناسقاً وانسجاماً بين الفاظها وفقراتها حتى يكاد القارئ يكمل بقيتها عندما يقرأ البداية من خلال الألفاظ التي تحدث ذلك التناغم والتساوق الموسيقي.

والجناس نجده في قوله «فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة»(33) وكذلك «ممن

ص: 204

لم يعاون ظالما على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة»(34) وقوله «وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا»(35) وقوله «يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل»(36) وفي الجناس حقق نوعاً كبيراً من تنميق الكلام وترتيبه، وساعد على فهم الصورة والموقف الذي وظفت فيه، فضلاً عن سهولة الحفظ والتلقي.

اما التكرار فقد وجد في قوله : «فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا»(37) وقوله «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك»(38) وقوله «فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره»(39) لقد تمكن الإمام من أثارة دلالة الالفاظ واكسابها قوة وتأثيراً، وساعد على استمالة المتلقي وتأكيد المعنى وترسيخه في الذهن.

ونجد أسلوب النصح والارشاد يتجلى في نهايات العهد في توجيه عدد من المحظورات بتكراره للفظة(إياك) ومنها تجنب سفك الدماء بقوله «إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء»(40) والاعجاب بالنفس وحب الاطراء في قوله «وإياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(41) ثم التحذير من العجالة في مور قبل أوانها، واللجاجة والوهن وتتمحور هذه في قوله: «وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل عمل موقعه وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الامور وينتصف منك للمظلوم»(42) ومما يلفت الانتباه تكراره لكلمة «إياك» التي يحذر فيها بتوجيه الكلام قصداً، مؤكداً مدى التمسك واجتناب ما يحذر منه، لأن فيه ضرر وإفساد والعاقبة السيئة.

ص: 205

سادساً: الطباق اعتمد العهد على ضديات وظفها الإمام علي (عليه السلام) في توضيح الفكرة وإيصاله إلى المتلقي بسهولة ويسر بعيداً عن التعقيد ومنها (الرضى × السخط، أحبت × کرهت، عدل × جور، النقمة × النعمة، الوزر × الأجر، العامة × الخاصة، خف × اثقل، يأخذ × يعطي، الأقصى × الأدنى، الاحسان × الإساءة، الحق × الباطل، القريب × البعيد، المحسن × المسيء) فالكلمة التي وظفها في الطباق يمكن تسميتها باللفظة الإيجابية تدل على معانٍ إنسانية وسجايا وصفات حميدة، أما الكلمات التي جاءت بالضد منها فأنها تدل على معانٍ إنسانية سلبية سيئة تجلب المضرة للفرد بصورة خاصة، والمجتمع بصورة عامة، وفي الوقت نفسه حققت نوع من التناغم والتناسق الصوتي إذ «إن الغرض من التضاد خلق حالة انفعالية في نفس المتلقي ليوازن بين حالتين وذلك ما يساعد على وضوح الصورة في ذهنه وذلك ما يقصده المبدع»(13).

سابعاً: من المشاهد التصويرية التي نلحظها في العهد استعال اداة التشبيه (مثل) في قوله «فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه»(42) فهو عندما يحض الحاكم على أن يكون عطوف ورحيم على الناس مثلما يكون الله عطوف ورحیم مع عباده، ولاسيما يقول له مخاطباً إن يعطيه مثل عطاء الله له، فالصورة هنا صورة تقريرية مباشرة بعيدة عن التعقيد والتركيب، وإذا جئنا إلى الصورة الأخرى فنجدها في قوله: «وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده»(45) ومن الصورة الكنائية قوله (عليه السلام) ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم»(46) وهذه الصورة بالغة الدقة رسمها الإمام للحاكم الذي يكون عادلاً منصفاً بين الرعية لا ظالماً مستبداً جائراً فهو انما لجأ لهذا الاسلوب من أجل احداث التشويق وجذب المتلقي للتأويل والكشف عن المعنى المراد.

ص: 206

وبشيء من الايجاز وبعبارات بالغة الدقة رسم الإمام علي (عليه السلام) صور ذهنية فكرية أشار إليها بقوله «جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها»(47) المتلقي لهذه العبارات المكتنزة بالدلالات قد ضمت في طياتها جميع التفصيلات التي ذكرها فيما بعد، إذ فصل ما رام منها في صفحات عديدة من العهد، ففيها أمور متنوعة ذكرها وهي الخراج وكيفية توزيعها بين طبقات المجتمع بعدالة وانصاف و احقية، والجهاد والدفاع عن الأرض، إذ يقع الجهاد على عاتق الجنود وكيفية التعامل معهم، وتعامل الحكام معهم، ومن ثمة استثمار أهلها في عمارة البلاد والاهتمام بهم واعطاء كل ذي حق حقه.

وهناك الصورة الذهنية التي تستند على الفكرة والعقل في إيصال المطلوب من الالفاظ الموظفة خدمة للمعني، ومنها على سبيل المثال لا الحصر صورة الانصاف التي تطلب انصاف الله، وانصاف الناس من نفسه أولاً ومن خاصة أهله والمقربين من رعیته ثانياً بقوله: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته...»(48) ومن الصور الذهنية العقلية التي نجدها حاضرة في العهد صورة الحاكم العادل من قوله « ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء»(49).

ص: 207

الخاتمة

كل تشريع يحتمل الصواب والخطأ، والتشريع الذي أقره الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك فيه ما يسعد الأمة والمجتمع، لأنه راعى تركيبة المجتمع، وراعى ما يرضي ويحقق للإنسانية السعادة والرضى الدنيوي والآخروي، فإذا سادت تعاليم دين الإسلام ساد الأمن والاستقرار الذي أراده الإمام علي (عليه السلام) عندما عهد لمالك الاشتر بلائحة من الأمور التي سعى لتطبيقها في بلد مثل مصر، ومن يطالع بنود العهد وقوانينه يشعر وكأن البلد كان يعاني من الظلم والاضطهاد والتفرقة على مستوى الفرد والمجتمع، والملاحظ على العهد أنه عالج كثير من الأمور الاجتماعية والمادية والاخلاقية والنفسية أي كل ما يمس أمن المجتمع واستقراره

لقد تمكن الإمام علي (عليه السلام) من خلال العهد الإشهار عن نظرته في بناء المجتمع، الذي يقوم على الوئام والطمأنينة والأمان، لقد أشهر الإمام عن بنود حكومته وتطلعاته للمجتمع الإسلامي الموحد، ففيها نجد الأساس واللبنة الأولى لقاعدة المجتمع وهو المتماسك.

إذا جئنا إلى المخاطب فأنه يتركز الحديث عنه بمحورين الاول يمثل المخاطب المباشر مالك وهو من صحابة الإمام الثقاة عن طريقه يتم ايصال الفكرة وخدمة المجتمع، و مخاطب غير مباشر ضمني وهو المجتمع المتمثل بطبقاته الذين ذكرهم في عهده بأصنافهم وانواعهم المختلفة.

إن توظيف الإمام للأساليب البلاغية المختلفة من استثناء وسيادة الافعال على الاسماء، والطباق والجناس والتكرار والتقسيم وافعل التفضيل أدت المعنى واوصلت الفكرة إلى المتلقي بأسلوب واضح جزل بعيد عن التعقيد ومحبب، أفصح وأبلغ من الالفاظ والتراكيب الحوشية والمعقدة.

ص: 208

عندما يكون الكلام فيه نصح وارشاد تسود فيه افعال الأمر، والأفعال المضارعة المسبوقة بلا الناهية، وفي بداية العهد يتوجه الحديث من الشخص الأعلى إلى الشخص الأدنى، أي من الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك، وهذا ما فسر استعماله لإقعال الأمر، وما يندرج تحت هذا المعنى مثل معنى هذه الأفعال (أعلم، أنظر، أجعل)

والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل نجح الإمام علي (عليه السلام) في إظهار بنود العهد واستطاع ارساء القوانين الربانية التي اراد الله سبحانه وتعالى؟ وللإجابة نقول: نعم نجح الإمام في ذلك لأن العدالة والانصاف والمساواة والعبودية لله والحق من الحقوق التي ينادي بها المجتمع ولاسيما المجتمعات المظلومة التي تعاني الظلم والاضطهاد.

ص: 209

قائمة الهوامش

1. نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده، مكتبة مصر:3 / 309.

2. الصحاح: الجوهري: 2 / 705.

3. ينظر: الإشهار والصورة: علي حسن الفواز، وسيميولوجيا الصورة الإشهارية: سمير الزغبي، وسيميائية الصورة الإشهارية: جميل حمداوي

4. ينظر: خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ط 2، مطبعة الحيدرية (النجف 1381): 276، الاعلام: الزركلي، مطبعة دار العلم للملايين، ط 5: 5 / 259.

5. نهج البلاغة: 3 / 305.

6. نهج البلاغة: 3 / 320.

7. سورة النساء: 59.

8. نهج البلاغة: 3 / 311.

9. نهج البلاغة: 3 / 319.

10. سورة الصف: 3.

11. نهج البلاغة: 3 / 308.

12. نهج البلاغة: 3 / 309.

13. نهج البلاغة: 3 / 307.

14. نهج البلاغة: 3 / 307.

15. نهج البلاغة: 3 / 306.

16. نهج البلاغة: 3 / 307.

17. نهج البلاغة: 3 / 308.

18. نهج البلاغة: 3 / 312.

ص: 210

19. للمزيد ينظر: صورة الآخر في شعر المتنبي، محمد الخباز، ط 1، 2009، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت: 23، وتمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: د. نادر کاظم، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - 2004) 20، والجاحظ ومفهوم الآخر: د. علي محمد ياسين، المؤتمر العلمي السادس لكلية التربية، جامعة ديالى، 14 - 15 نيسان، ج 1، 2010: 251.

20. نهج البلاغة: 3 / 314.

21. نهج البلاغة: 3 / 307

22. نهج البلاغة: 3 / 315.

23. نهج البلاغة: 3 / 314.

24. نهج البلاغة: 3 / 309.

25. نهج البلاغة: 3 / 312.

26. نهج البلاغة: 3 / 313.

27. نهج البلاغة: 3 / 305.

28. نهج البلاغة: 3 / 306.

29. نهج البلاغة: 3 / 309.

30. نهج البلاغة: 3 / 306.

31. نهج البلاغة: 3 / 309.

32. نهج البلاغة: 3 / 308.

33. نهج البلاغة: 3 / 308.

34. نهج البلاغة: 3 / 308.

35. نهج البلاغة: 3 / 308.

36. نهج البلاغة: 3 / 306.

ص: 211

37. نهج البلاغة: 3 / 309.

38. نهج البلاغة: 3 / 306.

39. نهج البلاغة: 3 / 307.

40. نهج البلاغة: 3 / 318.

41. نهج البلاغة: 3 / 319.

42. نهج البلاغة: 3 / 319.

43. قراءة نقدية في خطبة السيدة زينب (عليها السلام): د. فليح کریم خضير الركابي مجلة المورد، مج 37، 26، 2010: 154.

44. نهج البلاغة: 3 / 306.

45. نهج البلاغة: 3 / 306.

46. نهج البلاغة: 3 / 306.

47. نهج البلاغة: 3 / 305.

48. نهج البلاغة: 3 / 307.

49. نهج البلاغة: 3 / 311.

ص: 212

قائمة المصادر

القرآن الکریم

1. الإشهار والصورة، محاولة في صناعة السلعة الثقافية: علي حسن الفواز WWW. iraqicp.com

2.الاعلام: الزركلي، مطبعة دار العلم للملايين، ط 5.

3. تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط: د. نادر کاظم، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت - 2004)

4. الجاحظ ومفهوم الآخر: د. علي محمد ياسين، المؤتمر العلمي السادس لكلية التربية، جامعة ديالى، 14 - 15 نيسان، ج 1، 2010.

5. خلاصة الاقوال، العلامة الحلي، ط 2، مطبعة الحيدرية (النجف - 1381)

6. سيميائية الصورة الإشهارية: جميل حمداوي

N si. aimothaqaf. com

7. سيميولوجيا الصورة الإشهارية: سمير الزغبي

S.asp< www.m. ahewar. org

8.الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: الجوهري، تح أحمد بن عبد الغفور عطار، ط 4، مطبعة دار العلم الملايين (1407 - بيروت)

9. صورة الآخر في شعر المتنبي، محمد الخباز، ط 1، 2009، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

10. قراءة نقدية في خطبة السيدة زينب (عليه السلام) : د. فليح كريم خضير الركابي، مجلة المورد، مج 37، 24، 2010.

11. نهج البلاغة: شرح الشيخ محمد عبده، مكتبة مصر.

ص: 213

ص: 214

حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) دراسة تداولية

اشارة

أ.م.د. فضيلة عبوسي محسن العامري

جامعة الكوفة - كلية الفقه

ص: 215

ص: 216

المقدمة

يمثل عهد مالك الأشتر انموذجاً متكاملاً للمحاور السياسية والاقتصادية والإدارية لأي إدارة دولية، ولأي حاكم فيها، ولما كانت اللغة هي التمثيل المرئي لل(المقروء والمسموع) بوصفها أصوات يعبر بها كلّ قوم عن أغراضهم، اذ وسيلة هي التعبير التي تجسد المحاور المتكاملة، لذا جاء المحور اللساني في عهد مالك الأشتر مجالاً للدراسة تحت عنوان (حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) دراسة تداولية) بكل ما تعنيه الدراسة التداولية الحديثة التي تقوم على عناصر مهمة؛ وهي المتكلم، والمتلقي والنص الذي يعتمد على الخزين اللغوي، والموروث الثقافي للمتكلم، وقد ظهر جلياً في نص العهد المبارك الذي يمثل دستوراً تشريعياً؛ كادت أن تتخذ منه الغرب معيارا دوليا بحسب الروايات التي تذكر بأن زوجة كوفي عنان طلبت منه أن يعرض العهد على طاولة الأمم المتحدة ((وهي امرأة لا تمد بالدين الإسلامي بصفة، تطلب الأمر هذا من زوجها وبهذا المنصب وفعلا فعل إمام اكبر وأهم هيأة عالمية، وهي هيأة الأمم المتحدة وفي مؤسسة حقوق الإنسان، حينما قال الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي أنان: قول علي بن أبي طالب يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كل المنظمات))(1)؛ أما في العراق فقد قام مستشار الشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة بجعل عهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) كبرنامج متكامل للأسرة والمؤسسات والدوائر وحتى الحكومات ولإتمام الفائدة قام بترجمة العهد باللغة الانجليزية من إحدى المواقع الرصينة (al-islam.org)، ونظراً لأهمية العهد ولما يجري في الوقت الحاضر من سفك للدماء في السلم والحرب وأعني بالسلم النزاعات العشائرية التي تدور هنا وهناك، وآخر ماسمعناه إرسال أفواج من الجيش الى محافظة

ص: 217

میسان؛ وهم أكثرهم شيعة وإمامهم علي (عليه السلام) الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))(2) وهو ولي الله فأين هم من باب علم الرسول (عليه السلام)، وهل سمعوا أو قرأوا عهده (عليه السلام) إلى مالك الأشتر(رضوان الله تعالى عليه)، أما في الحرب فأعني به مايقوم به الدواعش من سفك الدماء وهتك الأعراض تحت شعار الإسلام، فأردت أن أقف عند العهد وتحديداً النص المتعلق بحرمة سفك الدماء؛ لنرى أي الكلمات نطقت، ومن أين اقتبست، وما مدى أثرها في الدراسات اللسانية المعاصرة ومنها التداولية بوصفها محوراً مهماً من محاور اللسانيات الحديثة؛ ومن أجل ذلك كله فقد تضمنت الدراسة مبحثين مثل الأول الجانب النظري بعنوان: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح، أما الجانب التطبيقي فقد تضمنه المبحث الثاني الذي جاء بعنوان حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية، وقد سبقهما تمهید تضمن شذرات لغوية في العهد، ثم ختم البحث بالنتائج التي توصل اليها، معتمدة على عدد من المصادر التي ذكرت في مظانها.

ص: 218

التمهيد

شذرات لغوية في عهد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)

لماذا سمي بالعهد؟

العهد مصدر الفعل الثلاثي (عهد)، و في اللغة له دلالات عدة منها الأمان، واليمين، والوفاء، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، والأمر، وقد عهدت إليه أي أوصيته ((ويقال عهد إلي في كذا أَي أَوصاني، ومنه حديث عليّ كرم الله وجهه عَهِدَ إِليّ النبيُّ الأُمّيُّ أَي أَوْصَى، ومنه قوله عز وجل «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ» يس / 60؛ يعني الوصيةَ والأَمر والعَهْدُ التقدُّم إِلى المرءِ في الشيءِ والعهد الذي يُكتب للولاة وهو مشتق منه، والجمع عُهودٌ وقد عَهِدَ إليه عَهْداً، والعَهْدُ المَوْثِقُ، واليمين يحلف بها الرجل تقول: عليّ عهْدُ الله وميثاقُه، وأَخذتُ عليه عهدَ الله، وميثاقَه، وتقول: عَلَيَّ عهدُ اللهِ لأَفعلن كذا، ومنه قول الله تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ» النحل / 91، والعهد أيضاً الوفاء وفي التنزيل «وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ» الأعراف / 102 أَي من وفاء(3)، وفي ضوء ما تقدم نجد أن العهد لا يخرج عن معنى الالتزام والوفاء بما يعهد به إلى المعهود إليه، والسياق الللغوي الذي يرد فيه لفظ (العهد) يحدد المراد منه، فالعهد المتعلق بالبحث هو ما يكتب إلى الولاة، وقد كتبه الإمام علي (عليه السلام) إلى واليه على مصر الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، وهو أفصح من تَعَاهَدَ لأن التَّعَاهُدُ إنما يكون بين اثنين و المُعَاهَدُ الذِّميّ(4).

أما العهد في الاصطلاح فهو ((حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال ويسمى الوعد الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا))(5)، والمعنى الاصطلاحي للعهد هو الذي يجب مراعاته من طريق الالتزام وحفظ ما ورد في العهد من لآلئ تنير طريق الإنسانية جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة، لاسيما أنه دار بين شخصيتين إسلاميتين بارعتين في السلم والحرب، فقد

ص: 219

كان الإمام علي (عليه السلام) ربيب الرسول ووليد الكعبة، وعرف بالشجاعة والمروءة والولاء في سوح المعارك أسد الله ورسوله دفاعاً عن دين الله القويم حتى ميزه من دون الخلق أجمعين فقال جبرائيل بين السماء والأرض ((لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي))(6)، وكان توليه لمقام الولاية في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، وهو يوم اکمال الدين واتمام النعمة في يوم قال فيه الله تعالى قال فيه الله تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» المائدة / 3، وتوفي مقتولاً في 21 رمضان سنة 40 على يد عبد الرحمن بن ملجم (عليه لعائن الله)(7)، هذه لمحات من الشخصية الأولى في الطرف التداولي، أما الآخر فهو مالك بن الحارث بن عبد بن يغوث بن سلمة بن ربيعة النخعي، عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يره ولم يسمع كلامه، وقد ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال فيه ((إنه المؤتمن))(8) وهذه شهادة ما بعدها شهادة، وكان من بين المجاهدين الذين شاركوا في حروب الردة وفي الفتوحات الإسلامية، وكان جنديا مخلصا للإمام علي (عليه السلام) قبل توليه الخلافة وبعدها، وبعد تولي الإمام علي (عليه السلام) الخلافة المسلمين سنة 36 ه جعله والياً على مصر ومعه شهادة من إمام المؤمنين (عليه السلام) جاء فيها: ((أما بعد، فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله، لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج))(9)، ورزق الشهادة على يد أقذر مجرم لم يعرف التاريخ نظيرا له في موبقاته وجرائمه، وهو نافع مولى عثمان بن عفان، وقد أرسله معاوية (لعنه الله)، لاغتياله فاعتمد على المكر والخديعة كمعاوية، ورافق الأشتر(عليه السلام) في طريقه الى مصر مدعياً أنه مولى عمر بن الخطاب، ولما وصلا الى القلزم(10)، فنزل الأشتر ضيفاً عند إمرأة من جهينة، فرحّبت به، وسألته أي الطعام أحب اليك، فقال :الحيتان، فتناول الطعام فأصابه عطش شديد، فأخذ يكثر من شرب

ص: 220

الماء، فقال له نافع مولى عثمان: لا يقتل سمه الإ العسل، فأحضره نافع وقد دس فيه سماً قاتلاً، ولم يلبث الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) إلا قليلاً حتى طويت حياته التي كانت صفحة من الشرف والكرامة والجهاد في سبيل الله، وقد جعل الخبيث (نافع) يقول ((إن الله تعالى جنوداً من عسل))(11)، وكان ذلك سنة 39 ه(12)، وقد سر معاوية بمقتله إذ قال)): كانت لعلي يمينان قطعت أحداهما بصفين (يقصد عمار بن یاسر)، وقطعت الأخرى بمصر (ويقصد مالكاً)، أما الإمام علي (عليه السلام) المفجوع بصديقه فقد قال فيه: كان لي كما کنت لرسول الله))(13).

ويمثل عهد الامام علي (عليه السلام) دستوراً متكاملاً لأي دولة في العالم ففيه من النظريات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية التي ترسم المناهج الصحيحة في السياسة والإدارة والقضاء، والتي تثمر نتاجها في إدارة العباد والبلاد في ما لو استخدمت - أقول هذا - لأننا في كل مرة نتحدث عن هذا الدستور الخالد ولا نجد له نصاً في المناهج الدراسية لكي يتسنى للجيل اللاحق - على الأقل- أن يجني ثمره من هذا السفر الخالد الذي لم يكن بعيداً عن الإعجاز اللغوي ففيه من الاستعمالات اللغوية التي جعلت منه نصاً حياً يتفاعل مع النظريات اللسانية الحديثة؛ لذا جعلت من التمهید باباً للإطلال على مضامين هذا السفر الخالد لتكون الفكرة واضحة لدى القاريء والسامع عند الولوج في مبحثي الدراسة التداولية اللاحقة، فقد وجدت في العهد الحجج البلاغية العامة الآتية:-

1. حسن الافتتاح بالعهد اذ بدأ بالبسملة: ((بسم الله الرحمن الرحیم 000))(14)

2. التداولية في براعة الاستهلال وهو ((بدء الكلام، ويناظره في الشعر: المطلع؛ وفي فن العزف على الناي: الافتتاحية. فتلك كلها بدايات كأنها تفتح السبيل لما يتلو (15))، اذ صرح الإمام علي (عليه السلام) باسمه (علي) ولقبه (أمير المؤمنين) واسم الإشارة (هذا) ((الذي سبق كلمة (أمر)، ويعني أن هناك جهة اختيار للوظائف العامة

ص: 221

وشاغله وصنع واتخاذ القرار من القيادة العليا المتمثلة بحكومة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهي وحدة أوامر التي تتطلبها القيادة))(16) وفيه دلالة بعدية إلى مضمون العهد فضلاً عن كونها سنة متبعة في التصريح بالاسم منذ عهد النبوة في كتابة الرسائل إلى الملوك، والولاة، والعمال، والأعداء(17)؛ وهذا مثل الطرف الأول (المخاطِب) في التداولية، وجاء الطرف الثاني (المخاطَب) مصرحاً به وهو مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، ثم تخصيص المكان وهو (مصر)، وهنا يلاحظ الترتيب والتنسيق الذي يحقق الانسجام في عرض مضمون النص في قوله (عليه السلام) ((000 هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر))(18)، وهذا القول يمثل إجازة أمير المؤمنين (عليه السلام) له (رضوان الله تعالى عليه) بالولاية.

3. الإشارة إلى المسؤولية التي أوكلت إلى المخاطب معتمداً على عنصر من عناصر الانسجام ألا وهو الإشارة القبلية بالضمير الذي يعود إلى الولاية (مصر) بأسلوب جامع مانع تأتي بيان تفاصيله في أثناء العهد في قوله (عليه السلام): ((000 جباية خراجها، ومجاهدة عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها))(19).

4. العدول في الخطاب من المتكلم إلى الغائب بالإحالة القبلية بضمير الغائب (الهاء) بقوله (عليه السلام): ((000 أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها)).

5. بلاغة الأسلوب من حيث التقديم والتأخير، والأمر والنهي، والتدرج في العرض مبتدئاً بالأهم إلى المهم أي بمصادر التشريع الإسلامي من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة في قوله (عليه السلام): ((000 أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر الله به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلاّ بإتباعها))(20).

ص: 222

6. استعمل (عليه السلام) أسلوب القصر بالنفي والاستثناء بتقیید السعادة بإتباع مصادر التشريع الإسلامي، والشقاء بحدودها وإضاعتها في قوله (عليه السلام): ((000 التي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها 000))(21).

7. الاقتباس من القرآن الكريم والتصريح ببعض آیاته في الوصية برد الشهوات التي تأمر بها النفس الأمارة بالسوء، وكذلك رد الشبهات إلى كتاب الله تعالى بقوله (عليه السلام): ((000 وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات؛ فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي، إنّ ربّي غفور رحيم، وأن يعتمد کتاب الله عند الشبهات؛ فإنّ فيه تبيان كلّ شيء، وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون. وأن يتحرّى رضا الله، ولا يتعرّض لسخطه، ولا يصرّ على معصيته))(22) ففيه اقتباس من قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» يوسف / 53، وقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» النحل / 89.

8. التضمين من القرآن الكريم والسنة النبوية بالإشارة إلى الالتزام بالتقوى، وبالعدل، والإنصاف، وتحقيق النصر الإلهي في قوله (عليه السلام): ((000 وأن ينصر الله بيده وقلبه ولسانه ؛ فإنه قد تكفّل بنصر من نصره، إنه قوي عزيز))(23) ففيه إشارة إلى قوله تعالی: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» محمد / 7، وقوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج / 40، ونلحظ في النص توارد المصاحبة اللغوية بين صفتي القوة والعزة لله تعالى وهو في معرض الحديث عن النصر باليد والقلب واللسان ففيهم من القوة إن اجتمع تحقيقهم في آن واحد مالا يتحقق لو انفرد السيف عن القلب أو القلب عن اللسان.

ص: 223

9. حسن البيان في استعمال التشبيه والاستعارة وخاصة في قوله (عليه السلام) ((000 وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم 000؛ ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان؛ إما أخ لك في الدين؛ وإما نظير لك في الخلق(246)))، أي أجعلها كالشّعار له، وهو الثوب الملاصق للجسد، لأن الرعية؛ إما أخوك في الدين، أو انسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية الرحمة له(25).

10. حققت عناصر التداولية من حيث تحقيق عناصر الانسجام والاتساق في طرح الموضوعات التي تضمنها العهد في تحقيق مراعاة الطبقات الاجتماعية التي يصلح بعضها ببعض، وجباية الخراج بقوله (عليه السلام): ((واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولاغنى ببعضها عن بعض 0000))(26)، ثم يشرح (عليه السلام) تلك الطبقات بمصنفاتها من الجنود والكتاب، والقضاة، وعمال الإنصاف والرفق، وأهل الجزية والخراج، والتجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة، وقدم (عليه السلام) على غيرهم لأنهم حصون الرعية، وعز الدين، وسبل الأمن، ثم تحدث (عليه السلام) عن الخراج مباشرة قائلاً: ((000 ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجاتهم، ثم لاقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب 000))(27)، وهنا يجب علينا الانتباه إلى قضية مهمة ألا وهي كيفية إدارة البلاد، وحماية أمنها، وضمان استقرارها؛ من طريق النظر في سطور هذا العهد، وحسن التأمل في مضامينه، وأخذ الحكمة في كيفية إدارة البلاد، وبما إننا شيعة وإمامنا علي (عليه السلام) فأين نحن من هذا العهد، ولابد من الإشارة إلى أن هذا العهد لا يخص الولاية على مصر بل لنا جميعاً في أي موقع نشغله، والذي يبرهن على ذلك هو استشهاد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) قبل أن يصل إلى ولاية مصر، وهنا لابد من تحكيم العقل، ومحاسبة

ص: 224

الضمائر والنظر في أمر هذه الأمة (أعني العراقيين الذين عانوا من ولاتهم ما عانوا مع العلم أن أغلب ساستهم هم من الشيعة، ويعرفون الإمام علي (عليه السلام) حق المعرفة، وينادون به في كل صلاة بقولهم (حي على خير العمل)؛ فأين خير العمل من سلوككم؟! ؛لذا ينبغي النظر في كل حرف تضمنه العهد حتى يحققوا مرضاة الله تعالى أولاً، والنجاح في إدارة البلاد و سیاستها ثانياً.

11. تضمن العهد الإدارة السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والإدارة الاجتماعية بمراعاة طبقات المجتمع من الراعي والرعية(28).

12. التقديم والتأخير: قدم (عليه السلام) التقوى إذ إن التقوى تعني مخافة الله و تمثل رأس الحكمة، ثم جاء العدل والإنصاف وما يتعلق بهما(29).

13. العدول ما قبل الختام من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم (أنا) في الدعاء بالرحمة و تمام النعمة، ومضاعفة الكرامة في قوله (عليه السلام): ((000 وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كلّ رغبة، أن يوفّقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، و تمام النعمة، وتضعيف الكرامة))(30)، وهذا ماله الأثر في استجابة الدعاء من عبد صالح مؤمن ربیب الرسول وزوج البتول وولي الله، ثم لابد من الإشارة إلى الدلالة الإيحائية التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتصريح بالخاتمة في تحقيق السعادة والشهادة بالعدول إلى ضمير المتكلم المتصل بحرف الجر (اللام) الذي يفيد معنى الإلصاق والتمليك (لي ولك)، مصحوباً بالتأييد الإلهي في قوله (عليه السلام): ((000 وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة؛ إنّا إلى الله راغبون))(31)، ففي النص اقتباس من قوله تعالى: «عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ»، وقوله تعالی: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ» التوبة / 59.

ص: 225

14. التداولية في حسن الختام الذي تمت به الفائدة وحسن السكوت عليه(32)، فقد ختم (عليه السلام) عهده بالسلام والصلاة على محمد وآل محمد بقوله (عليه السلام): ((000 والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله الطيّبين الطاهرين))(33).

المبحث الأول: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح

التداولية لغة: مصدر صناعي يشير الى المنهج العلمي اللساني الحديث ويصاغ من مصدر الفعل الرباعي (تداول) مع زيادة ياء مشددة مكسور ما قبلها وتاء التأنيث المربوطة(34)، وجاء الفعل (تداول) في اللغة بمعنى المشاركة حيناً ومعنى المبادلة حينا آخر أي مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، كما جاء في المعجمات اللغوية: ((تَداوَلْنا الأَمرَ أَخذناه بالدُّوَل وقالوا دَوالَيْك أَي مُداوَلةً على الأَمر، ودالَت الأَيامُ أَي دارت والله يُداوِلها بين الناس، وتَداولته الأَيدي أَخذته هذه مرَّة وهذه مرَّة))(35)، والتداول ((هو حُصول الشيء في يد هذا مرَّةً وفي يد الآخر أُخْرى وتداولوه: تناولوه وأجْرَوْه بينهم وهو يدلّ على شُهرته ودورانه))(36)، وورد التداول في القرآن الكريم بمعنى الصرف والنقل من ناس الى ناس بتغيير أحوالهم في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» آل عمران / 140، وفسر القرطبي ذلك بالمداولة بين الناس ((من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر والدولة الكرة قال الشاعر:

فيوم لنا ويوم علينا... ويوم نساء ويوم نسر))(37)، وفسّرها آخر بالصرف بين الناس تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء قائلاً))، ((نداولها بين الناس نصرفها بينهم ندیل لهؤلاء تارة

ص: 226

ولهؤلاء أخرى كقول من قال... فيوما علينا... ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر...)(38).

إذن يفهم من المعنى اللغوي أن صيغة التداولية تشير إلى دلالتين هما المشاركة الفعلية الآنية التي تحصل في وقت واحد في أمر ما، وتدل على المشاركة البعدية في انتقال الفعل أو الحال عينه إلى الآخرين، ونرى أن المعنى الأول هو الذي يرتبط بالتداولية اللسانية لارتباطه بالنص اللغوي المباشر في مخاطبة الآخرين وان انتقل في ما بعد إلى الآخرين فإنه لا يحمل السبب عينه الذي أنشئ من أجله النص.

التداولية اصطلاحاً: لابد من الإشارة إلى أنّ التداولية لم ترد كمصطلح في التراث اللغوي القديم لكن مضامينها قد وردت في التراث اللغوي في استعمال الأدباء والبلاغيين خاصة ما يتعلق بالخطاب القرآني والحديث النبوي وأشعار العرب، ومن ثم دراسة أغلب محاورها في مواضيع الخبر والإنشاء(39)، أما الدراسات اللسانية الحديثة فقد تناولت المصطلح بكثرة حتى وردت عنواناً للعديد من مؤلفاتهم(40)، وعرفوه بتعريفات عديدة منها أن التداولية هي ((فرع من علم اللغة بحث كيفية اكتشاف السامع مقاصد المتكلم، أو دراسة معنى المتكلم، فقول القائل: أنا عطشان تعني أحضر لي كوبا من الماء وليس من اللازم إخبارا له بأنه عطشان، فالمتكلم كثيراً ما يعني أكثر مما تقوله کلماته))(41)، وعرفها مسعود صحراوي بأنها ((مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه، وطرق وكيفية استخدام العلاقات اللغوية بنجاح، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها الخطاب، والبحث عن العوامل التي تجعل رسالة تواصلية واضحة وناجحة، والبحث عن أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية(47))).

وتعدُّ الأفعال الكلامية محور الدراسة التداولية ومنبثقة من مناخ فلسفي هو الفلسفة التحليلية الغربية التي مهّد لها الفيلسوف الألماني غوتلوب فريجة في كتابه

ص: 227

(أسس علم الحساب)، وعمق البحث فيه الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاین مؤسس تیار (فلسفة اللغة العادية)(43)، ثم جاء الفيلسوف الانجليزي أوستين الذي يعدُّ المؤسس الأول لنظرية أفعال الكلام وذلك في عام 1955 عندما القى محاضرات وليام جامس(44)، اذ يقسم أوستين الفعل الكلامي على ثلاثة أقسام: فعل الكلام (التلفظ)، والفعل الكلامي، والفعل التأثيري، ويقسم فعل التلفظ إلى الفعل الصوتي، والفعل ألانتباهي التركيبي، والفعل الدلالي الإيحائي، أما الفعل الكلامي الانجازي فقد صنفه في محاور خمسة هي: أفعال الحكم، وأفعال الممارسة، وأفعال الوعد، وأفعال السلوك، وأفعال الممارسة، وأفعال العرض(45).

فالأفعال الكلامية التي تصدر عن المتكلم ويتلقاها المخاطب أو المتلقي وتحقق التأثير به ويكون الفعل قد حقق انجازاً ما((فكل فعل كلامي هو في الوقت ذاته(46) فعل کلام، أي فعل قول، وفعل كلامياً انجازياً، وفعلاً تأثيرياً، رهين التحقق، والتحقق لا يقتضي التحقيق على أرض الواقع فهو مجرد النطق به يعد فعلاً متحققاً، والآثار رهينة استجابة المخاطب (المتلقي))(47) وبحسب هذا التعريف فالأفعال الكلامية لا يشترط تحقيقها في الواقع الفعلي وإنّما مجرد الشروع بها وقولها يكون قد حقق انجازاً قولياً للمتلقي، وشمل الفعل الكلامي المنجز الكلامي والمنجز الكتابي(48)

ووضع ((أوستين) بعض الشروط التي تحقق النجاح للفعل الكلامي في ثلاث مستويات هي:

1. الشروط الأولية: وهي الشروط التي تتعلق بالمتكلم ووضعه الاجتماعي الذي يخول له الفعل الكلامي بحيث يكون ملائماً لفعل الخطاب الذي يسمح له بفعل خطابي منتج وملائم للمقام.

2. الشروط الجدية: التي تتعلق بسلوك المتكلم الذي عليه الالتزام بالجدية والصدق في أفعاله الكلامية، وإن عدم الجدية لا تعني الفشل، ولكن سيكون المتكلم قد ارتكب

ص: 228

اثم والذي يقر بالفعل الكاذب فهو كاذب.

3. الشروط الأساسية: وهي التي ترتبط بسلوك المتكلم في التعبير عن أفكاره ومعتقداته ومقاصده ((وهو سلوك خاص مستقل عن الصدق والحقيقة إلا أنه جوهري وأساسي بالنسبة للملفوظ))(49).

وخلاصة الشروط الثلاثة هي ارتباطها بالمتكلم ووضعه الاجتماعي والثقافي الذي يرتبط بمعتقداته وأفكاره في انجاز الأفعال الكلامية التي تحقق التأثير بالمتلقي أو لا تحققه على أرض الواقع ولكنها تعبر عن صدق المتكلم لأنها ملائمة لما عرف عنه من السلوك الحسن والمقام الاجتماعي الرفيع وهذا يكفي لإنجاز الفعل الكلامي الذي يعد عنصراً مهماً في موضوع التداولية اللسانية المعاصرة.

المبحث الثاني: حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية

من الأمور التي لابد من الإشارة إليها هي أن القرآن الكريم صرح بوسائل العنف من القتل والضرب وسفك الدماء كما هو وارد في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» البقرة / 30، وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» البقرة / 84، وورد الضرب على سبيل المثال لا الحصر في قوله تعالى «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ» الأنفال / 12، وورد القتل في دلالات مختلفة منها في سبيل الله ومنها القتل الخطأ ومنها القتل العمد

ص: 229

وهو ما يتعلق بموضوع البحث قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء / 93، وانطلاقاً من مفاهيم تعاليم الدين الإسلامي التي لا خلاف فيها فإن الدين الإسلامي يدعو إلى السلم والصلاح والبر والتقوى في الوقت الذي يدعو فيه إلى الجهاد ومقارعة الأعداء قال تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ» البقرة / 191، ويتضح من الآية أن القتل ليس كله عنفاً بل يرتبط ذلك بالوسيلة والغاية من القتل المتمثلة بالظلم والاستبداد والتجاوز على حقوق الآخرين في العيش والسكن وممارسة الحياة الدنيا كما أرادها الله سبحانه وتعالى، وأثر ذلك على المجتمع تلك الآثار التي لا يخفى بلاؤها على أحد؛ ومقابل ذلك فقد ورد في القرآن الكريم التصريح بالدعوة إلى السلم والصلح في قوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» سورة الأنفال / 61، ذكر المفسرون(50) أن الآية الكريمة جاءت في بيان مهادنة العدو و أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة وكفوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم، والجنوح: الميل وهو مشتق من جناح الطائر: لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه وهو جناح جانبه الذي ينزل منه قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش:

جوانح قد أيقن أن قبيله *** إذا ما التقى الجمعان أول غالب(51)

فمعنی (وإن جنحوا للسلم) إن مالوا إلى السلم میل القاصد إليه كما يميل الطائر الجانح. وإنها لم يقل: وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم کیدا فهذا مقابل

ص: 230

قوله «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» الأنفال / 58 فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم، واللام في قوله (للسلم) واقعة موقع (إلى) لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم میل حق أي: وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره لأن حق (جنح) أن يعدی ب(إلى) لأنه بمعنی مال الذي يعدی ب(إلى) فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض ((مصلحة في السلم أو كان أخف ضرا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه))(52)، ويظهر من تفسير الآية السابقة أهمية الجنوح للسلم أي الرغبة الحقيقية في تحقيق السلام، وليس وسيلة كيدية هدفها الخيانة، وهنا لابد من اتخاذ الحيطة والحذر من الأعداء، وهذه ومضات من الإشعاع القرآني في الدعوة إلى السلم والسلام، وأخذ الحيطة والحذر من الأعداء، الذي نجد صداه في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) في الدراسة الآتية.

ص: 231

عهد الإمام علي(عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)

دراسة تداولية

أما عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر فليس ببعيد في مضامينه عما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى الصلح وحرمة سفك الدعاء كما في النصوص الآتية:

أولاً: الدعوة إلى الصلح

إن الإسلام يدعو الى السلم، وتحريم سفك الدماء، وإزالة جميع وسائل الخوف والإرهاب، لذا نجد أن الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على ضرورة الاستجابة الى الصلح إذا دعا إليه العدو، وكان ذلك واضحاً في سياسته وأعماله وقوله (عليه السلام(53))، وكان أكثر وضوحاً في عهد (عليه السلام) إلى مالك الأشتر إذ قال الإمام علي (عليه السلام): ((000 ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك والله تعالى فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحك، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدو لك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله تعالى شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم، وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيها بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولاتخيسنَّ بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لايجترىء على الله تعالى إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جداره، فلا إدغال ولا مدالة ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر

ص: 232

ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبة لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك..))(54).

إن من مميزات النص السابق هي التداولية في الحجاج الخطابي وهو ((إستراتيجية تواصلية إلى التأثير في الآخر بالاعتماد على تمثلات حجاجية تكون في شكل أفكار وآراء، وبهذا المعنى يصبح الحجاج شکلاً أو نظاماً تواصلياً يتفاعل فيه ماهو لفظي بما هو غير لفظي، وسيلته اللغة وغايته الإقناع))(55)، الذي اعتمد على الأساليب الآتية:

النهي المباشر بفعل المضارع المسبوق ب(لا) الناهية والفعل المضارع المسند إلى نون التوكيد الثقيلة (لا تد فعنّ) الذي يدل على نفي الدفع(56)، والتأكيد على قبول الصلح مع العدو ولكنه جاء مشروطاً برضا الله تعالى مقدماً لفظ الجلالة (الله) على عملية الصلح للدلالة على بيان نوعية الصلح الذي يقبل به، وأفرد لفظ (عدوك) للدلالة على قائدهم الذي يملي بينهما شروط الصلح وليس كل الأعداء، وأسنده إلى كاف الخطاب في (دعاك، وعدوك) مما زاد في قوة الكلام وتمكينه في نفوس السامعين(57) للتنبيه والحيطة عند عقد الصلح، وبعد التنبيه والتخصيص يأتي التأكيد ب(إن) لبيان أهمية الصلح وفائدته في توفير الراحة للجنود من الجهد العسكري، والراحة من الهموم التي تنشأ من العمليات العسكرية، والنتيجة المترتبة عليهما في تحقيق أمن البلاد في قوله (عليه السلام): ((000 ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله تعالى فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك))(58).

الدعوة إلى الصلح مع الحذر من كيد الأعداء، والنهي عن التفريط في الرأي والسكون إلى ظاهر الرأي، والنهي عن الغدر باستعمال (لكن) التي تفيد معنى الاستدراك(59)، وتأكيد ذلك بالتصريح المكرر بلفظ (الحذر) مع لفظ (کل) الذي يفيد التوكيد مع العموم(60) باتخاذ شتى أنواع الوسائل التي تحقق الحيطة والحذر من العدو؛ إذ كان أمير

ص: 233

المؤمنين (عليه السلام) من الدعاة إلى الصلح في قوله (عليه السلام) ((000 ولكنّ الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه))(61).

1. التوكيد ب(إن) التي تفيد معنى التأكيد، و التحقيق، وتأكيد الشيء(62)، والمصاحبة اللغوية مع فعلي الأمر (خذ) و (اتهم) اللذين يدلان على الإلزام (63) في بيان حال العدو من اظهار التغافل باستعمال الفعل المضعف العين(64) الذي يفيد التكثير للمبالغة مع التصيير أي يتظاهر العدو بالتغافل وهو ليس بغافل حقاً، فيضع أمير المؤمنين (عليه السلام) العلاج له بأخذ الحزم واتهام حسن الظن بالعدو كما جاء في قوله (عليه السلام) 000)): فإنّ العدو ربها قارب ليتغقل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن))(65)، وهنا يجب على الوالي أن يراقب بيقظة العدو بعد الصلح خشية أن يكون ذلك تصنعاً منه للكيد بالمسلمين(66).

2. الوفاء بالعهد وتحريم الغدر ونكث عهد الأمان المعطى للخصوم، وهذا ما يحقق الأمن والأمان بعدم تحقيق أي خرق من الخروقات إذ إن الوفاء بالعهد، والصبر على الضيق أهم من الانتصار الظاهري الذي تحققه الحرب بالغدر والخيانة الذي فيه خسران الدنيا والآخرة، مستعملاً أسلوب الشرط الذي يتكون من قسمين يرتبط أحدهما بالآخر باستعمال فعل الشرط وجوابه؛ الذي هو وقوع الشيء الوقوع غيره(67)، فالجملة الشرطية تنبني على تآلف جمل، وليس على تألف صيغ مفردة ((فحرف الشرط يجيء لربط جملة بجملة))(68)، فهو يعطي المرونة في الاختيار الصائب أي رسم صورة الفعل والنتيجة المترتبة عليه، وهنا تظهر براعة الخطيب للتأكيد والتفصيل بإجمال ما ذكره (عليه السلام)) في بيان أهمية الأمر المتحدث عنه، وجذب انتباه السامع لما يقال إذ مثل فعل الشرط (عقدت) عقدة أو ذمة، وجواب الشرط (الوفاء بالعهد ورعاية الذمة بالأمانة كما جاء في قوله (عليه السلام) ((000 وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء،

ص: 234

وأرع ذمتك بالأمانة وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله تعالى شيء، الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آراءهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولاتخبسنَّ بعهدك ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترىء على الله تعالى إلا جاهل شقي، وقد جعل الله تعالى عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جداره، فلا إدغال، ولا مدالة، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثق ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى إلى طلب انفساحه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله تعالى فيه طلبة، فلا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك..))(69)؛ فإذا أبرم الوالي الصلح فعليه أن يحيط بنوده بالوفاء والأمانة، ولا يبخس بأي شيء منه، فإن الوفاء بالعهد والوعد من صميم الإسلام(70)، وفي ذلك دلالة إيحائية إلى سياسة السابقين القائمة على الغدر والخيانة ونقض البيعة التي جنوا ثمارها، والتي أطاحت بالأمة وأودت بها إلى التفرقة في الحياة الدنيا، وخسروا ثواب الآخرة بنقضهم ما عاهدوا الله تعالى عليه بالوفاء وعدم نكث البيعة.

3. التداولية بالصيغ التركيبية التي تتألف من (لا) الناهية والفعل المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث في كل زمان ومكان أي ليس في ولاية مصر فقط بل في العالم أجمع، ثم أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة من أجل التأكيد على الوفاء بالعهود ونبذ الغدر في قوله (عليه السلام): ((000 فلا تغدرن بذمتك، ولا تخبسنَّ بعهدك، ولا تختلن عدوك))(71).

4. التأكيد على الوفاء بالعهد حتى في صياغته ليس اللفظية فحسب بل حتى في مضمونه في خلوه من الغدر، والنكث، والخداع؛ اذ جاء التأكيد ب(لا) النافية للجنس

ص: 235

واسمها، وتكرار ذلك للتأكيد على صحة مضمون العهد من الإدغال، والمدالة، والخداع قائلاً (عليه السلام): ((000، فلا إدغال، ولا مدالة، ولا خداع فيه))(72).

5. التداولية بالتكرار لغرض التأكيد(73)، وقد تجسد بتكرار النهي عن نقض العهد بالاستناد إلى بعض العلل اللغوية وهي ما يصرف الكلام عن وجهه ويحوله إلى غير المراد، وذلك يطرأ على الكلام عند ابهامه، وعدم صراحته، وعدم التعويل على لحن القول من التورية والتعريض(74) بقوله (عليه السلام): ((000 ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثق))(75)، ويلاحظ تکرار لفظ (العقد) بالفعل والمفعول المطلق (عقداً) للتأكيد على النهي المباشر عن العقد المبهم الذي يحتمل وجوه عدة تحتمل التورية والتعريض لتكون مدعاة أو ذريعة لنقض العهد، وعدم الوفاء به.

6. تکرار صيغة النهي مع تصريح التأكيد ب(إن) في بيان أن الصبر على الضيق في العهد تكون عاقبته أفضل من فسخ العهد بغير حق وما يتبعه من الغدر، مستعملاً للتفضيل بينهما اسم التفضيل (خير) الذي يدل على أهمية الوفاء بالعهد، ويحث على الصبر عند التعرض لضيق أمر قد يفرجه الله تعالى في قوله (عليه السلام) ((ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله تعالى إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه، وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله تعالى فيه طلبة، فلا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك..))(76).

ثانياً: حرمة سفك الدماء

أكد الإمام في عهده على وجوب احترام الدماء وحرمة سفكها بغير حق إذ ((إن سفك الدماء بغير حق من أعظم الجرائم ومن أفحش الموبقات في الإسلام، فقد أعلن القرآن الكريم أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، وإطلاق النفس شامل

ص: 236

لجميع أصناف البشر من ذوي الأديان السماوية))(77)، فمن أولويات السخط الإلهي على الحكّام والناس، مايتعلق بسفك الدماء بغير حقّها، فلا تقادم في ارتكاب الجرائم عند الخالق تعالى، لكون الظلم لايدوم، ولابد له من نهاية تسحق كلّ ظالم في الدنيا المتمثلة بسخط الناس، وفي الآخرة في تبعية الحساب، والنعمة بالزوال، والمدة بالقصر الكون الظلم لا يدوم(78)، وهذا ما صرّح به قائلاً ((000 إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوین سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد؛ لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة مما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم))(79)، تضمن النص ما يأتي:

1 - التحذير والترهيب من سفك الدماء بغير الحق عند اندلاع الحروب فهي تسبب النقمة، وتزول النعمة، ومدعاة لضعف السلطان وزواله ونقله في الحياة الدنيا فضلاً عن المحكمة الإلهية المتمثلة بعقاب الآخرة في يوم القيامة، والله تعالى الحاكم في ذلك اليوم، وسفك الدماء أول محكوم ؛ فأي تحذير هذا! أشار الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه) مستعملاً الخطاب المباشر في التحذير (ايّاك) قائلاً ((000 إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها؛ فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة؛ ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة؛ وانقطاع مدّة، من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوِّینّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله))(80).

2 - التحذير من سخط الله تعالى بارتكاب قتل العمد باستعمال (لا) النافية للجنس التي

ص: 237

النفي المطلق بقوله (لا عذر)، وكذلك قتل المظلومين متنوراً بمضامين القرآن الكريم قائلاً (علیه السلام) ((000 ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأنّ فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليه سوطك أو يدك بالعقوبة، فإنّ في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدّي إلى أهل المقتول حقّهم(81)))، وهذا النص جاء متضمناً قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء / 93؛ فقد أعلن القرآن الا أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه نار جهنّم خالداً فيها.

3 - التداولية في استعمال التركيب الشرطي الذي يقوم على جزأين تلفت انتباه المخاطب أو السامع إلى النتيجة المتوقعة أو المحتمل وقوعها من القتل الخطأ، وبيان دية المقتول خطأ في قوله (عليه السلام): ((000 وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة مما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم))(82)، ومن هنا فقد شدد الإمام (عليه السلام) في عهده على ضرورة حفظ دماء المسلمين وحرمة سفكها، وحذر أن يقوى سلطان ولاته بإراقة الدماء، كما إن قتل العمد فيه القود وهو قتل القاتل، کما ذکر دیة المقتول خطأ، وهو الدية، وحذر أشدّ ما يكون التحذير من سفك الدماء(83).

4 - التداولية في استعمال صيغة (أفعل) التي خرجت من دلالة المفاضلة الى المساواة في ثبوت الوصف لمحله (84) بين جريمة سفك الدماء والنتيجة المترتبة عليه من الإلهية، والتبعة الدنيوية من النقمة، وزوال النعمة، وانقطاع المدة إذ لا مفاضلة بينهما، لبيان الأثر المترتب على سفك الدماء العبثي بغير حق في قوله (عليه السلام): ((000 فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة؛ ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة؛ وانقطاع مدّة، من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة))(85).

ص: 238

الخاتمة ونتائج البحث:

1. براعة المخزون اللغوي والفكري عند الإمام علي (عليه السلام) الذي أوحت به مضامين العهد الميمون.

2. الدقة في اختيار الألفاظ وحسن التراكيب اللغوية التي يستطيع من طريقها المتكلم أن يصل إلى مقصوده.

3. بلاغة الأسلوب في عرض محتوى العهد بدءاً من الافتتاح بالبسملة وانتهاءً بالخاتمة.

4. الاقتباس من القرآن الكريم في المواضع التي يحتاج إليها التأكيد والإلزام حيناً، والتضمين من القرآن الكريم في المواضع التي تتطلب ذلك من غير تفكك أو ضعف.

5. العدول في الأسلوب من الغائب إلى المخاطب، ومن المخاطب إلى المتكلم في أثناء بیان مضامين العهد.

6. الأثر القرآني بدا هو الغالب في النص مما يعزز قوته في التطبيق عند الجميع بلا خلاف - إن أخذ به - فليس هناك من أحد على الكرة الأرضية لايحتاج إلى العيش الرغيد في ظل العدل والإنصاف والتقوى والمساواة، والأمن والأمان، وكل ما ذكر سيتحقق الو طبقنا مضامين العهد قولاً وفعلاً.

ص: 239

التوصيات

1. أوصي كل من يتولى منصباً أدارياً أن يقرأ العهد بنفسه، ثم يحكم بما يرضي الله تعالى.

2. على وزارتي التربية والتعليم نشر نصوص العهد في كتب الاجتماعيات في المدارس، وفي درس الأخلاق في الجامعات لإتاحة الفرصة لهم بأن يطلعوا على الأقل جبراً على مضامين العهد لعله يجد صداه، ويحي بعض الضمائر التي لم تمت بعد.

3. عقد ندوات ثقافية تتضمن شرح بعض مضامين العهد ليكون نوراً يهتدي به كل من يرشح لولاية أي منصب، ولو كان بسيطاً؛ لأن العهد أفتتح بتقوى الله والإمام علي (عليه السلام) يقول: ((رأس الحكمة مخافة الله)).

ص: 240

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

1. آفاق جديدة في الأدب اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة ط 1، مصر، 2002 م.

2. أحكام القرآن: أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر (ت 370 ه)، تحقيق: محمد صادق قمحاوي، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1405 ه.

3. أخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي (رضوان الله تعالى عليه):هاشم حسين ناصر المحنك، جامعة الكوفة، مركز دراسات الكوفة.

4. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود): محمد بن محمد العادي أبو السعود، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت.

5. أسرار العربية: أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري (ت 577 ه)، تحقيق: د. فخر صالح قدارة، ط 1، 1995 م.

6. أسلوب الإمام علي (عليه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه في نهج البلاغة: د.عباس علي الفحام، بحث في مؤتمر نهج البلاغة.

7. الأصول في النحو، ابو بكر محمد السراج، (ت 316 ه)، تحقيق: عبد الحسين الفتلي، مطبعة النعمان، النجف، 1973.

8. أعيان الشيعة: محسن الأمين، تحقیق: حسن الأمين، دار التعارف، بیروت، 1403 ه - 1983 م.

9. الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة) دراسة تداولية: محمد مدور، اشراف: جودي مرداسي (اطروحة دكتوراه)، السنة 1434 ه - 1435 ه، 2013 م - 2014 م.

ص: 241

10. الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن عبد الرحمن القزويني، ت 739 ه، شرح د. محمد عبد المنعم خفاجي، جزءان، الشركة العالمية للكتاب، بیروت، ط 3، 1989 م.

11. بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي، الناشر: إحياء الكتب الاسلامية، قم، طهران.

12. بلاغة الإقناع قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام) (بحث): رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، العتبة العباسية، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 1435 ه - 2014 م.

13. تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 ه)، تحقيق: عبد الكريم الغرباوي، ط 2، مطبعة حكومة الكويت، 1987 م.

14. التحرير والتنوير:، الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت 1393 ه)، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997 م.

15. التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي: د. مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بیروت، لبنان، 2005 م.

16. التوقيف على مهمات التعاريف: محمد عبد الرؤوف المناوي تحقیق: د. محمد رضوان الداية، ط 1، الناشر: دار الفكر المعاصر، دار الفكر - بيروت، دمشق، 1410 ه.

17. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي): محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله.، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1427 ه - 2006 م.

18. خزانة الأدب وغاية الأرب: تقي الدين أبو بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري، (ت 837 ه) تحقيق: عصام شعيتو، ط 1، الناشر: دار ومكتبة الهلال، بیروت، 1987 م.

19. الخطابة: أرسطو أطاليس، حققه وعلق عليه: عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بیروت، 1949 م.

20. ديوان النابغة الذبياني: تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعارف، مصر، 1977 م.

ص: 242

21. سلطة الفعل الكلام من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): أ. دراجي صافية، جامعة بجاية، الملتقى الدولي الخامس ((السيمياء والنص الأدبي).

22. السياق والنص الشعري:علي آيت أوشان، د ط، دار الثقافة، دار البيضاء.

23. شذا العرف في فن الصرف: الشيخ: أحمد الحملاوي، تحقيق: محمود شاكر، ط 1، دار أحياء التراث العربي، 1425 ه - 2005 م.

24. شرح ابن عقیل: بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي المصري الهمذاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 2، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1985.

25. شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر: باقر شریف القرشي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، ط 1، مط. ماهر، ستاره، 1432 ه - 2011 م.

26. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار احیاء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.

27. عهد الخليفة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر: المستشار فليح سوادي، تقديم وتمهيد: هاشم محمد الباججي، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، ط 1، 1431 ه - 2010 م.

28. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: جار الله محمود بن عمر الزمخشري (538 ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، ط 2، دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان، 1421 ه - 2001 م.

29. الكنى والألقاب: الشيخ عباس القمي، منشورات مكتبة الصدر.

30. کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علي بن حسام الدين المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة - بیروت 1989 م.

31. لسان العرب: محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي المصري (711 ه)، ط 1، الناشر: دار صادر - بيروت.

ص: 243

32. المزهر في علوم اللغة وأنواعها: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: فؤاد علي منصور، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.

33. المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، 1411 ه - 1990.

34. معجم البلدان: یاقوت بن عبد الله الحموي أبو عبد الله، دار الفکر، بیروت.

35. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د. احمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الجزء الاول، سنة 1983 م، والجزء الثاني سنة، 1986 م، والجزء الثالث سنة 1998 م.

36. مقال في جريدة النهار لصباح الموسی بعنوان (وصية الإمام علي إلى مالك الأشتر أحد مصادر التشريع الدولي، صباح الموسى، على الموقع almjdy@hotmail.com

37. المقتضب: ابو العباس محمد بن يزيد المبرد (ت 285 ه)، تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة، ط 2، القاهرة، 1399 ه، 1979 م.

38. نظرية الفعل الكلامي بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية: محمد مدور، مجلة الواحات للبحوث والدراسات، قسم اللغة العربية وآدابها، غرداية، الجزائر، العدد 16، 2012 م.

39. الهواتف: عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان أبو بكر، تحقیق: مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، 1413 ه.

ص: 244

الهوامش

1. ينظر: مقال في جريدة النهار، صباح الموسى، العدد 822، 2009 م، 1931 ه.

2. المستدرك، الحاكم النيسابوري: 3 / 137.

3. لسان العرب، ابن منظور: 3 / 311.

4. ينظر: مختار الصحاج: 1 / 476.

5. التعاريف، المناوي: 529، وينظر: التعريفات 204.

6. کنز العمال، المتقي الهندي: 5 / 902، وينظر: الهواتف، ابن أبي الدنيا: 20.

7. ينظر: بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 35 / 5 (باب تاریخ ولادته وحليته وشمائله صلوات الله علیه).

8. ينظر: الكنى والألقاب، القمي: 2 / 29.

9. الكنى والألقاب، القمي: 2 / 29، وينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 10، وينظر: عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، فليح سوادي: 6 ومابعدها.

10. القلزم: وهي مدينة مبنية على شفير البحر ينتهي بحر القلزم، ثم ينعطف إلى ناحية بلاد البجة، وليس بها زرع ولا شجر ولا ماء، وإنما يحمل إليها من ماء آبار بعيدة منها، وهي تامة العمارة وبها فرصة مصر والشام ومنها تحمل حمولات مصر، والشام، إلى الحجاز، واليمن، ثم ينتهي على شط البحر نحو الحجاز فلا تكون بها قرية، ولا مدينة سوى مواضع بها ناس مقيمون على صيد السمك وشيء من النخيل يسير. ينظر: معجم البلدان: 4 / 388.

11. شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شریف

ص: 245

القرشي: 12.

12. ينظر: عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)، فليح سوادي: 6 ومابعدها، وقد اختلفت الروايات في تاريخ وفاته بين سنة (37 ه)، وسنة (ه 39).

13. أعيان الشيعة، محسن الأمين، تحقیق: حسن الأمين:9 / 41.

14. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

15. الخطابة، ارسطو طاليس: 130.

16. اخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي، هاشم حسين ناصر المحنك: 9.

17. ينظر: اسلوب الامام علي (عليه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه في نهج البلاغة: د. عباس الفحام: 5.

18. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

19. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

20. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 26.

21. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

22. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

23. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 26.

24. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 17 / 28.

25. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 28.

26. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 39.

27. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 17 / 39.

28. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 39.

ص: 246

29. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 /، 26، 27، 28، 29.

30. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

31. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

32. ينظر:خزانة الأدب: ابن حجة الحموي: 2 / 494.

33. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد:

17 / 90.

34. ينظر: شذا العرف في فن الصرف، أحمد الحملاوي، تحقيق: محمود شاكر، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، لبنان، 1925 ه - 2005 م: 57.

35. لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب وآخرون، دار صادر، بیروت: 11 / 252.

36. تاج العروس، الزبيدي، تحقيق: عبد الكريم الغرباوي، ط 2، مطبعة الكويت، 1987 م: 1 / 47.

37. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، 1427 ه / 2009 م: 4 / 214.

38. تفسير أبي السعود (أرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، دار أحياء التراث العربي، بیروت: 2 / 89.

39. ينظر: التداولية في كتاب دلائل الاعجاز العبد القاهر الجرجاني (رسالة ماجستير): ثقباني حامدة، التداولية والبلاغة العربية، الأستاذ: باديس لهويمل.

40. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، التداولية وتحليل الخطاب، د. جميل حمداوي، التداولية والبلاغة العربية، الأستاذ: بادیس باديس لهويمل، وغيرها من المؤلفات.

41. آفاق جديدة في الأدب اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجديدة، مصر، 2002 م.: 13.

ص: 247

42. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بیروت، 2005 م: 6.

43. ينظر: نظرية الأفعال الكلامية في البلاغة العربية، د. ملاوي صلاح الدين، بسكرة، الجزائر، 2009 م: 8، وينظر: نظرية الأفعال الكلامية بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية، محمد مدور، العدد: 1، 2012 م: 47.

44. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية، جامعة بجاية، الملتقى الدولي الخامس (السيمياء والنص الأدبي): 9، وينظر: الأفعال الكلامية في القرآن الكريم (سورة البقرة) دراسة تداولية، محمد مدور، كلية الاداب واللغات، اشراف: جودي مرداسي: 11

45. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية: 8.

46. كذا ورد في النص والصحيح (في الوقت نفسه).

47. ينظر: سلطة الفعل الكلامي من خلال رسائل الامام علي بن أبي طالب، أ. دراجي صافية: 8.

48. ينظر: نظرية الأفعال الكلامية بين التراث العربي والمناهج الحديثة دراسة تداولية محمد مدور: 50.

49. السياق والنص الشعري، علي آيت أوشان: 73، وينظر: سلطة الفعل الكلامي، أ.دراجي صافية: 8.

50. ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور: 1 / 1786، أحكام القرآن، الجصاص، تحقیق: محمد صادق قمحاوي: 4 / 254، مفردات القرآن، الأصفهاني، تحقيق: عدنان صفوان الداودي: 268.

ص: 248

51. ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم: 45.

52. الكشاف، الزمخشري، تحقيق: عبد الرزاق المهدي: 1 / 446.

53. شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شریف القرشي: 55.

54. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 82.

55. الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجاً -: ایمان الدروني: 49، وينظر: بلاغة الاقناع قراءة حجاجية في خطب الامام الحسين (عليه السلام)، رائد حاکم الكعبي: 28.

56. ينظر: الاصول، ابن السراج، 2 / 157.

57. ينظر: المثل السائر، ابن الأثير: 1 / 153، خزانة الأدب، ابن حجة الحموي: ! / 320

58. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 90.

59. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 254.

60. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 254.

61. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 82.

62. ينظر: أسرار العربية، أبو البركات الأنباري: 1 / 36.

63. ينظر الايضاح، القزويني: 1 / 143. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، محمد عبد المطلب: 1 / 313.

64. ينظر: شرح ابن عقیل: 4 / 260.

65. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 82.

66. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

67. المقتضب، المبرد: 2 / 46.

68. الاصول، ابن السراج: 1 / 44، 45.

ص: 249

69. شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد:

17 / 90.

70. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

71. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

72. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

73. ينظر: المزهر، السيوطي: 1 / 330.

74. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 57.

75. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

76. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید:

17 / 90.

77. شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 5.

78. ينظر:اخلاقيات العدالة في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعي، هاشم حسين ناصر المحنك: 47 - 48.

79. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 80.

80. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

81. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

82. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید: 17 / 80.

83. ينظر: شرح العهد الدولي للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، باقر شريف القرشي: 59.

84. ينظر: شذا العرف في فن الصرف، الشيخ أحمد الحملاوي: 64.

85. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 80.

ص: 250

التقابل وسلطة المعنى دراسة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

اشارة

ا.د كاظم فاخر حاجم الخفاجي د. ستار قاسم عبد الله جامعة ذي قار - كلية الآداب

ص: 251

ص: 252

ملخص البحث

نسعى في بحثنا هذا الى تبيان مفهوم «التقابل» في عهد الإمام علي عليه السلام ل«مالك الأشتر»، فأستوى على ثلاثة محاور:

1. تقابل الذوات

2. تقابل الصفات

3. تقابل الشواهد

ومن خلال تلك المحاور نوضح مستوى الاطراف المتخاطبة ومقاماتهم وردود افعالهم، سعيا الى بيان تماسك النص في الشكل العام والحياة التي بثها التقابل مما جعله يتعدى الزمان الذي كتب فيه.

کما حاول البحث قراءة الخطاب في عهد الامام علي عليه السلام ل«مالك الأشتر» بأدوات وامكانيات تحليلية تستند على اس التقابل الاسلوبي، فالمعاني لا تصنع بأبعاد وعلامات متقابلة خارج نظرة المحسن البديعي للتقابل المعهود في معاجم اللغة فقط، وانما تقترح اليات لتوسيع مفهوم التقابل ليشمل التجاور والمحاذاة والتقريب بين المعاني عبر المواجهة بين الذوات والصفات والشواهد على مستوى التصورات والتعرف والادراك من اجل فهم النص وافهامه انطلاقا من بنيته وسياقاته التي تتساند فيما بينها اثناء القراءة والتلقي، وبذلك نكون قد قدمنا فهما مغايرا لقراءة اي خطاب خارج ما هو متعارف في فهم وتحليل النصوص، وهذا يدعونا لإعادة النظر في العديد من النصوص خارج الادوات التقليدية المتبعة.

ص: 253

مدخل

التقابل في اللغة: أصل التقابل والمقابلة في اللغة المواجهة قال: أبو زيد الانصاري (ت 215) يقال: لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبليا وقبيلا وكله واحد وهو المواجهة. ومن معاني التقابل والمقابلة بين الناس في اللغة أن يقبل بعضهم على بعض اما بالذات واما بالعناية والتوافر والمودة(1).

قال تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ»(2)، «إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ»(3).

والمقابل في اللغة ضد المدابر فيقال: رجل مقابل ومدابر اذا كان كريم الطرفين من أبيه وأمه. والمقابلة والتقابل واحد وهو قبالك وقبلتك اي اتجاهك(4) ويعني التقابل في اللغة فيما يعني التعادل اذ يقال: وزنه عادله وقابله وحاذاه.(5) وعلى هذا فالتقابل المكاني او المواقفي هو الاصل المعنوي للتقابل.

جاء في لسان العرب: الضد كل شيء ضاد شيئا ليغلبه، والسواد ضد البياض: والموت ضد الحياة وضد الشيء خلافه، يقال ضادني فلان اذا خالفك، فأردت طولا وأراد قصرا وأرادت ظلمه وأراد نورا فهو ضدك وضديك وقد يقال: اذا خالفك فأردت وجها تذهب فيه ونازعك في ضده(6)، والتضاد ((ان يجمع بين المتضادين مع مراعات التقابل))(7) والمتضادان عند العسكري ((هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه اذا كان وجود هذا على النحو الذي يوجد عليه ذلك كالسواد والبياض))(8).

وعند العودة الى المصطلحات البلاغية القديمة نرى هناك تداخلات في الكثير منهما كما هو الحال في التضاد والخلاف يكشف لنا ذلك أبو الطيب اللغوي بقوله: وليس كل ما خالف الشيء ضدا له....... فالاختلاف أعم من التضاد أذا كان كل متضادين مختلفين وليس كل مختلفين ضدين.(9) وكذلك من المصطلحات المرادفة للتضاد المطابقة ويسمى التطابق او الطباق ومر هذا المصطلح بتحولات كثيره حتى استقر عند العسكري بالجمع

ص: 254

بين الشيء وضده.(10) وهناك مصطلح اخر يدل على الضدية، وهو الاضداد وكادت مباحثه ان تقتصر على كتب اللغة وحدها.(11)

فقد نظر اللغويون القدامى الى كلمات الاضداد على انها تمثل مظهرا من مظاهر الاشتراك اللفظي ودليلا على سعة لغة العرب وضرفها، اذ ان الكلمة نفسها تحمل معنيين متضادين، لكن هذين المعنيين لا يردان في الجملة متقابلين وانما متواترين او متعاقبين.(12)

التقابل اصطلاحا

بالعودة للبلاغين القدامى نلاحظ تعدد التعاريف للموضوع نفسه كل منهم يقدم فهما خاصا وان لم يبتعد كثيرا عن غيره لكنه اما ان يضيف او يحذف او يشعب الموضوع ويدخل فيه تفرعات كثيره لكنهم مجمعون على وضع العديد من الفنون البلاغية تحت عنوان المحسنات اللفظية ولم يتطرقوا اليها على انها وسيلة في ايصال الخطاب كما ينظر اليها في الأسلوبية الحديثة.

کما ان الباحث في التراث النقدي والبلاغي لا يستطيع اغفال الالتفاتات الذكية التي رصدت التضاد وبينت ابعاده العميقة بوصفه وسيلة من وسائل التعبير والايحاء في اللغة وطريقة من طرق العرب في كلامها، على نحو ما نجده عند عبد القاهر الجرجاني، اذ ربط التضاد بالصورة ومزجه بالاستعارة مزجا كاد ان يعده جزءا منها فهو يرى ((ان الاشياء تزداد بيانا بالأضداد))(13).

لم يرد التقابل أسلوبا بديعيا مستقلا ضمن التقسيمات البلاغية، وإنما أشير إليه بوصفه أحد أنواع المواجهة بين الأشياء، والمخالفة المعنوية التي تطرأ على اللفظ بإزاء اللفظ الآخر داخل السياق النصي الذي جمعهما، وقد تجلت هذه الإشارات في مبحث التكافؤ وهو: أن يصف الشاعر شيئا أو يذمه، ويتكلم فيه أي معنى كان، فيأتي بمعنيين متكافئين، بحسب قول قدامه بن جعفر، وقد أشار إلى معنى التكافؤ بقوله: والذي أريد بقولي: متكافئين

ص: 255

في هذا الموضع أي: متقابلين، إما من جهة المصادرة، أو السلب والإيجاب أو غيرهما من أقسام التقابل، مثل قول أبي الشعب العبسي:

حُلُو الشمائلِ وهوَ مرٌّ باسلٌ *** يحمي الذمارَ صبيحة اَلأرهانِ

فقوله: (مرّ وحلو) تكافؤ.(14)

ویری احد الباحثين المعاصرين في الثنائيات الضدية في المنظور النقدي الحديث، ان هناك ثلاث اتجاهات نقدية تدور حول مفهوم التضاد على المستوى البلاغي النقدي، وهي اولهما يدور في الغالب في فلك القديم ويحلق في سماء فكره ويردد العبارات والشواهد نفسها اذ سيطرت فكرة المحسن البديعي والتنميق على بحوث اصحاب هذا الاتجاه اثناء تناولهم للطباق والتضاد واستعان كثيرا منهم بنصوص القدماء، واعادة ملاحظاتهم واستنتاجاتهم دون تعليق او تجديد يلفت الانتباه، او يثير القضية في المنظور الدلالي او السياقي في النص اذ ان اصحاب هذا الاتجاه قلما تأثروا بموجة الحداثة وما رافقها من مناهج اسلوبية.

اما اصحاب الاتجاه الثاني: فهو مخالف في التناول لأصحاب الاتجاه الاول فقد اهتم المعنيون بهذا المعنى بفنون البديع ولاسيما الطباق او التضاد خارج مفهوم التحسين، بل ان بعضهم رفض تسميتها - اصلا - بالمحسنات واصحاب هذا الاتجاه تتبعوا التضاد وآلياته على انه عنصر بنائي في النص وليس شيئا عارضا او دخيلا عليه وانا هو جزء منه فقد سلطوا الضوء عليه من حيث الوظيفة والاستعمال بطريقه تتسم بالعمق والحيوية وتجمع بين الاصالة والتجديد واخيرا اصحاب الاتجاه الثالث: وهم من استفاد من المناهج النقدية الحديثة عموما ومن المناهج البنيوية وامتداداتها التطبيقية في توظيف الثنائيات الضدية على وجه الخصوص حتى طغت على ابحاثهم.

ص: 256

المبحث الاول: تقابل الذوات

نسعى هنا الى تبيان التقابل في عهد الامام علي (عليه السلام) لعامله مالك الاشتر على مستوى الاطراف المتخاطبة (الذوات) ومقامات المتخاطبين وردود افعالهم، وذلك لبيان تماسك النص في الشكل العام والحياة التي بثها التقابل فيه مما جعله يتعدى الزمان الذي كتب فيه، کما وان الباحث في التقابل في المنظور النقدي الحديث يقف على مالم يقف عليه من سبقه.

يبدأ تقابل الذوات في النص من نقطة الشروع الاولى حينما قال (عليه السلام): ((هذا ما امر به عبد الله علي امير المؤمنين مالك الاشتر في عهده اليه حين ولاّه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها))(15).

يتجلى تقابل الذوات في عتبة النص ومطلعه بين المرسل والمرسل اليه والامر بينهما (الذوات) إذ نلحظ تبلور مكانة الذاتين من خلال الامر الذي يصدر من الاعلى الى الادنى، ومن خلال تتبع صيغ الامر سوف نتعرف على ما كان عليه الامام علي (عليه السلام) من تقواه ومكانته في الزهد وايثار طاعه في حدود الله سبحانه وتعالى وان لم يكن ذلك في النص بشكل صريح، ولكن نلمس ذلك من جملة وصاياه عليه السلام لمالك الاشتر التي كشفها السياق لنا وهو ما يسمى بالبلاغة العربية القديمة (الاكتفاء) اذ يحذف بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب(16)، وهو ظرب من الايجاز البليغ، بعد ذلك تأتي تفرعات الذوات على مستوى عال من الاتقان فقد اضافت قوة حجاجية إقناعية في كلامه (علیه السلام) عندما قابل بين مالك الاشتر والرعية والولاة السابقين في قوله: ((ثم اعلم يا مالك، اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل

ص: 257

وجور وان الناس ينظرون من امورك في مثل ماكنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك، ويقولون فيك ماكنت تقول فيهم))(17).

ان هذا النص يعكس التقابل بين الامام ومالك من جهة وبين الامام والولاة الآخرين من جهة ثانية وبين مالك والرعية من جهة ثالثة. وهذا التقابل يأتي بقصد ولغرض عام في تدبير الامور على ما يرام فا الامام كان يعي ما لذي المواجه من قوه واثر في الاقناع عند ابرازها بهذا النسق التعبيري الذي جعل مالك الاشتر وهو الوالي مقام الناس عندما عاد بذاكرته للولاة السابقين وكيف كان ينتظر منهم الاحسان مثل ما الناس تنتظر منه ذلك، وكل ذلك من خلال التقابل وبلاغة القول (اما التجليات التقابلية في انتاج النصوص والرسائل والمخاطبات اليومية فهي كثيرة، وقوية الحضور وحسبنا التأمل والتدبر فيما نقول، وما يقال لنا لنقف على حقيقة هذا الامر كثير ما يكون التفكير التقابلي سببا في احداث بلاغة القول)(18).

من هنا تأتي اهمية التقابل من خلال ترك فسحة تصورية للمتلقي في فهم النص وكشف مكنوناته اذ لم يعد يعرف التقابل بالمواجهة فقط وانما بالإشارة والتلميح والتماثل والتقارب وما الى ذلك من خلال التقابلات المتعددة وبطرق مختلفة. فمنشأ التقابل في صناعة النص هو تطالب المعاني واستدعائها في الذهن بغية التكامل فالمعنى يكمل غيره توسيعا او تفريعا او تأكيدا او تقسیما، او غير ذلك من العلاقات الحادثة بين المعاني في ذهن منشئها سواء اكان هذا التطالب او التداعي بين المعاني الاول اي بين المعنى الاساس قابل للتفريع(19)، وهذا التطالب للمعاني وجدناه في النص، ثم ان الامام (علیه السلام) يكرر في عرض المقابلات ما بين الذوات كما في قوله: ((انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فأنك الا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده))(20).

ص: 258

الملاحظ ان تقابل الذوات يستمر في النص حتى يأخذ مساحه واسعة منه وهذا الاستمرار لم يأت من فراغ او لمجرد التعبير وإنما لفائدة كان يقصدها المتكلم، كما وان التكرار في الكلام ارجعه البلاغيون الى اغراض عدة وهو احد علامات الجمال البارزة وهو مصدر دال على المبالغة في المعنى العام، يعني الاعادة يأتي لتأكيد الكلام (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون)(21).

ان بلاغة الامام (عليه السلام) ونبعه الفياض كان واضحا في جميع نصوصه التي وردتنا عنه، وانه لم يتخذ وتيره واحده في عرض التقابلات بل نوع في ذلك وبطرق عدة الخطاب مال الى الذكر الصريح في التقابل بين الذوات و الى التلميح والاشارة في احيان اخرى وهنا يصرح في قوله ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فأن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة والزم كل منهم ما الزم نفسة))(23)، كان ذكر الطرفين في الخطاب وعدم ترك مجال للتأويل والتحليل في حال اخفاء المقابل الاخر وذلك لأهمية الطرفين عند القائل الذي عبر عن هذه الأهمية بالذكر.

وقد لمسنا ان التقابل الخفي والظاهر - هو النواة المؤسسة لتصورات النص وفحوى مكنونه، بعد اخراجه من مفهوم البلاغة المعيارية القديمة المرتبط بالطباق والتضاد على مستوى المفردة، الى مفهوم الاسلوبية الحديث، وتوسيع مجال الانشغال في دلالته على التواجه والتفاعل عن طريق عرض الاشياء والافكار على ما يقابلها او يماثلها او يضادها او يجاريها او ينميها او يشرحها او يكشف عللها واسبابها، وفق علامات متباينة بين العناصر والمستويات المتقابلة بوصف النص كون لغوي متقابل يعكس الخطابات الذهنية المتقابلة للمعنى عند منتجة.(24)

فالتقابل أس من أسس تماسك النص وآلية ناجعة لتحليل الخطاب تسمح بتحفيز

ص: 259

الفكر البشري في الفهم والتفهيم والتبليغ والتأويل، فيكون النص بذلك قادرا على التأثير والاقناع وهو يتجه بموضوعاته الانسانية النبيلة، وافكاره الرفيعة، بأسلوب ادبي جميل الى المتلقي الذي يستقبله من حيث هو بناء من العلاقات اللسانية التداولية الجامعة للقضايا وحاملاتها من الالفاظ والجمل والفقرات والمقاطع والنصوص الموازية واشتقاقاتها والتراكيب البلاغية السياقية.(25)

وفي قوله (عليه السلام):((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها))(26)، رسم له طريق عبر بیان عمل الصالحين وسنتهم وما كان لهم من اعمال البر وما بين عمله (الوالي) من خلال ما يسير عليه من اتباع اعمالهم او مخالفتها وما يتحقق عليه من اثر من جراء ذلك، كانت هذه المواجهة في التعبير بارزة في اظهار ذلك التحذير من المخالفة والنهي عن احداث اي تغير في سنن الصالحين وهذا مرده الى قول الحديث الشريف الوارد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها الى القيامة ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم يوم القيامة)(27).

يهتم الامام (عليه السلام) بالسلوك الواجب اتباعه بين الأطراف المتقابلة فكان على من الوالي كما مر علينا ان يتبع سنة الصالحين وابتعاده عن هوى النفس وما شاكل ذلك الغرائز الانسانية المتعددة عبر مقابلتها بما يناسبها من الحالات والمعاني في التعبير المباشر او الاشارة والتلميح فالأشياء عند الجرجاني تزداد بيانا بالأضداد، كل تلك المقابلات اخرجت لنا نصا بهذه الروعة مفعما بالدلالة والعمق والارشاد، قلما نجد نظيرا له في النصوص التراثية المماثلة، كما وان تحليل النص بهذا الشكل هو لكشف البنيات الدلالية

ص: 260

المتقابلة التي يتأسس عليها خطاب النص في اثناء صياغته اي ادراك الاشياء بمقابلاتها، وليس القصد بالتقابل دوما التضاد - وهو الامر الذي اشرنا اليه في بداية البحث - بل التماثل والتناظر والتشابه الى اخره، وحضور ذوات متعددة في ذهن الكاتب جعلته يضع لكل ذات مقابل لا على أساس التضاد وانا على اساس البيان والارشاد والدلالة.

فصل الامام (عليه السلام) القول في الرعية على أساس بيان الذوات وما يصلح لكل قسم من هذه الرعية وبيان حقوقه وواجباته ((وأعلم ان الرعية طبقات، لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفض، ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار واهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه))(28)، ان فصل الذوات على هذا الاساس من التخصص اعطى لكل ذات قبالها من عمل على اساس ما تأخذه من وظيفة في المجتمع وما يترتب عليها من اثار فكانت المقابلة ما بين الوظيفة العائدة على الذات وما بين التعامل الذي يجب معها من قبل الوالي (الذات المقابلة).

فالتقابل هو احد مفردات علم البلاغة الذي يشمل عدة مفردات دارت حولها قضايا هذا العلم، كما وان تعريف البلاغة هي قدرة المتكلم على ايصال مقصده الى المستمع على وفق ما يتطلب المقام، ومن زاوية نظر تأويلية التقابل تقوم بتوسيع ما ينطبق على البلاغة الانتاجية ليشمل التأويلية البليغة، القادرة على بلوغ التفهيم، ابلاغ مقاصد النص - موضوع التأويلية الى القراءة بأعلى درجات الايضاح والدقة والتماسك.(29)

عند الاطلاع على القراءات النقدية الحديثة وخصوصا نظرية القراءة والتلقي التي صدح بها (ایزر) وما اعطى من قيمة عالية في النص للقارئ حيث ترك له مجالات واسعة في المداخلة وفهم النص من خلال ما يضيفه هذا القارئ للنص من مخزون ثقافته وهي

ص: 261

تناص لثقافات الاخرين (ذوات الاخرين).

في ظل فهم التقابل خارج فكرة المحسن البديعي وايانا بنظرية القراءة والتلقي والمساحة التي اعطتها للقارئ في فهم النص يمكن من خلال ذلك التعبير عن التقابل بمختلف انواعه (الخفي والظاهر) بروح النص من خلال ما يضيفه من تماسك للنص وجمالية في استرسال معانيه وأفكاره.

في ختام عرض (تقابل الذوات) نقف على ما تحدث عنه (عليه السلام) عن القضاة في قوله: ((ثم أختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحقه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، واخذهم بالحجج، واقلهم تبرما بمراجعة الخصم، واصبرهم على تكشف الامور، واصر مهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه اطراء، ولا يستميله اغراء، واولئك قليل، ثم اكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل مع حاجته الى الناس واعطه من المنزلة لديك، مالا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا، فان هذا الدين قد كان اسيرا في ايدي الاشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا))(30).

كان هذا التفصيل الدقيق لأحوال القضاة وكيفية اختيارهم والذي ميزهم بالعديد من المميزات والمؤهلات التي يحملونها عن غيرهم، ثم أشار للمعاملة الخاصة معهم لان في ذلك امانا لهم ورفع حاجتهم للناس حتى يظهر ذلك على عملهم الذي هو اساس قيام عمله وحكومته وهو العدل.

ص: 262

في المشهد النقدي العربي اليوم غالبا ما تأخذ متابعة الاعمال الدارسة والشارحة لنصوص الادب، خط المقابل المهادن، والحليف المناصر للنص، فلا يعدو ان يكون دورها محصورا في التفسير او التأويل او المقاربة من جانب من الجوانب اعتمادا على لغة واصفة تستند الى مرجعية من المرجعيات النظرية او المنهجية وهو ما نجده عادة في الدراسات الاكاديمية التي انجزت على شكل بحوث جامعية، ثم نشرت بعد ذلك.(31)

هذا الاتجاه يعتمد على التجريب المنهجي، المرتبط بالسياق الذي انجز فيه، وهو يقوم على التطبيق المطلق للمنهج المعتمد في المقاربة ويدفع الى السير في اتجاه واحد دون النظر الى الاتجاهات الاخرى الممكنة ونادرا ما نجد دراسة نقدية هادئة تقارب مستويات العمل وتخلق معه حوارا حقيقيا عبر جهاز منهجي متسق يخرج بنتائج هامه، مدعومة بتبريرات كافية(32).

المبحث الثاني: تقابل الصفات

يعد تقابل الصفات، من العناصر البليغة التي ضمنت لعهد الامام علي(عليه السلام) قوة حجاجية وإقناعية، وفائدة اخلاقية، ولعل ما يشد القارئ لخطابة هو تصور الصفات او الطباع بهذا الشكل المتقابل، وهو دليل على ادراك وتمثيل حقيقي لصفات الانسان وسلوكه راسما في ذلك لوحة تعبيرية هي غاية في الجمال والروعة والانسجام.(33) وبما ان التقابل اساس الحياة وعصبها فقد بنى عليه الامام (عليه السلام) خطابة وتوسع به في الانتاج وصناعة المعنى وقديما قال ابن سيدة:((ومقابلة الشيء بنقيضه اذهب في الصناعة))(34).

ص: 263

غير ان التقابل على وفق النقد الحديث، يتجاوز النقيض وحده، ليسع انماطا أخر مثل: الترتيب او التأذي او التوازي او الترادف او التخالف وغير ذلك من الامكانيات التي يبنى عليها الخطاب.(35)

بدأ (عليه السلام)في عرض الصفات عبر الخطاب في الذكر الصريح عندما قابل في قوله: ((...... جرت عليها دول قبلك من عدل وجور))(36) مقتضى الكلام يتطلب هذا الذكر لكمال الصورة عند المتلقي، والاخذ بمجامع فكره، فالتقابل يضل خاصية لغوية، وتعبيرية وفكرية، وانسانية ولذلك نجده يتجسد امامنا في سائر الانماط التواصلية.

ومن الملاحظ ان تحليل الخطاب بحاجة الى ادوات وبلاغات قادرة على تبين كيفيات تشكل موضوعاته، في الوعي المدرك والباني للأفكار والمعاني لدى الكتاب والمؤلفين والخطاب والسياسيين والاعلامين، ولذلك يُضاف التقابل الى الادوات التي قدمتها نظريات تحليل الخطاب لما يقدمه النموذج التقابلي من مفاهيم وتصورات قادرة على تفكيك الخطاب على مستوى الاستراتيجيات التخاطبين.(37)

كانت دقة الصفات موزعة في النص على حساب ما يقتضيه المعنى في ايصال فكرة القائل للإمام (عليه السلام) لمالك الاشتر بمعنى أعم لكل من يتلقى هذا النص، لذا الامام عن طبقتين مهمتين في المجتمع مشيرا الى صفات كل منهما، والاثر المترتب في الافراط بإحداهن على الاخرى، وهن الصفات المتعلقة بخاصة الوالي من طرف، وصفات عامة الرعية من طرف اخر فقد قال (علیه السلام): ((وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فأن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، واقل معونة له في البلاء واكره للإنصاف واسأل بالإلحاف، واقل شكرا عند الاعطاء، وابطأ عذرا عند المنع، واضعف صبرا عند ملمات الدهر من عبر

ص: 264

اهل الخاصة، وانا عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الامة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم))(38).

حمل النص كثيرا من التقابلات البنائية التي كان ورائها دلالات كثيرة تدل على عمق النظرة التي كان يحملها مرسل النص، فالعلاقات القائمة بين طبقات المجتمع على اساس تناقض لصفات كل طبقة بحسب مقتضى المصلحة، فالمبدع هو الذي يدرك ما وراء الظاهر العيني، ويغوص الى الاشياء التي يدق المسلك اليها.(39)

فالتقابل سمة من سمات التخاطب وبناء القول عند العرب. ولو تأملنا ما يقال وما يكتب، لتبين لنا ان التقابل المعنوي في الكون وما فيه، ينعكس على البنيات القولية المنتجة، وهو ما یبرر هذا التوجه نحو المعاني المتقابلة في التخاطب.(40)

وبالعودة الى نص الامام الموجه الى مستشاري الوالي يشير(عليه السلام) الى مجموعة الصفات في قوله)) ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فان البخل، والجبن، والحرص، غرائز شتى، يجمعها سوء الظن بالله))(41).

ومن الملاحظ ان تقابلات الصفات الظاهرة على سطح النص تتبلور بشكل خفي في ذهن المتلقي فالإمام «عليه السلام« يريد ضمنا عكس هذه الصفات المعلنة.

قرن الامام في عرض الصفات في هذا النص بأسلوب التعليل الذي يعد وسيلة ضرورية لتوسيع دائرة دلالة النص، لان النص له دلالات عدة قد تتسع وقد تضيق والعلة والسبب في اللغة بمعنى واحد.

بعد عدّهِ (عليه السلام) لتلك الصفات بيّن اسبابها في انها ناتجة عن سوء الظن بالله تعالى، وتأسيسا على ذلك يمكننا ان نحيل بعضا من بواعث التضاد في اسلوب الامام (عليه السلام) لأهمية ما يوصي به وما يترتب علية في حال تركه وعدم الاخذ به وتطبيقه في شؤون الرعية.

ص: 265

كانت نظرة الامام نظرة العارف عن بصيرة فهو يوصف القادة من خلال فرز صفاتهم عن باقي جنود الرعية في قولة: ((فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ولرسوله ولأمامك، وانقاهم جيبا، وافضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح الى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الاقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف))(42).

لابد لهذه الصفات من صفات مواجهة اخرى من خلالها امتاز بها القادة عن غيرهم وبموجبها كانت لهم الصدارة.

فاذا شرعنا في تأمل المواجهات المتحكمة في الكنايات البلاغية العربية القديمة بحثنا عن السمات العميقة فيها، فأننا سنقف حتما عند هذه الآلية في صناعة النصوص وتأويلها، وهذا ما يجعل عملنا مركبا يبدأ من الافتراض فالاستكشاف، ثم التحليل والاستنتاج ليأتي بعد التصور، ثم تطبيقه(43).

من يقرأ النص يقف مذهولا من روعة ما فيه من دقة في الوصف والتعبير تارة تراه يصنف المجتمع على اساس ميزات كل صنف وما يتحمله من مهمة في المجتمع فقد وصف القضاة تم بين صفات القادة في الدفاع عن الرعية.

بعد ذلك تعرض الامام لصفات حاشية الوالي في قوله: ((ثم الصق بذوي الاحساب، واهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم اهل النجدة، والشجاعة والسخاء، والسماحة، فأنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف))(44).

بعد بيان هذه الصفات التي يفتقدها غيرهم (المقابل) يتبع تلك الصفات بالتعليل (فأن) والتي تتكرر على طول النص يوصفها تأكيدا لعرض تلك الافكار من خلال بيان الاسباب، ان النظرة السطحية للنص تطلعنا على صفات معينة دون ذكر مقابلاتها اذا ان المتلقي يحصل عليها من خلال التأويل الذي ينشئه على ضوء الاطر المتقابلة الغائبة انطلاقا من الاطر الماثلة.(45)

ص: 266

يقدم النموذج التقابلي على مفاهيم وتصورات قادرة على تفكيك الخطاب على مستوى الاستراتيجيات التخاطبيه، وعلى مستوى اللغة والاساليب، والاسناد الحجاجية الموظفة، ومهارات التعبير، وآداب الخطاب، والتلطف وغير ذلك من ادوات التحليل او التخيل الممكنة التي يستدعيها كل مقام نتج عن خطاب معين.(46)

ومن خلال التصورات التقابلية التي نتجت من تأويل النص نستطيع وصف عهد الامام عليه السلام - بالدستور - قال في دستوره لمالك عن احوال العمال: ))ثم انظر في امور عمالك فأستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة واثرة، فأنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ من اهل التجربة والحياء، من اهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة، فأنهم اكرم اخلاقا، واصح اعراضا، واقل في المطامع اشرافا، وابلغ في عواقب الامور نظرا، ثم اسبغ عليهم الارزاق، فأن ذلك قوة لهم على استصلاح انفسهم))(47).

والقارئ لنص الامام يتبين فكره البليغ جليا في النظر بأمر العمال عبر بيانه لصفاتهم ووصاياه فيهم وتعامل الوالي معهم، ثم عدل بعد العمال الى كتاب الوالي وحفظة سره فقال: ((ثم انظر في حال كتابك، فول على امورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكرامة، فيجرأ بها عليك، في خلاف لك بحظرة ملأ ولا تقصر بهم الغفلة عن ايراد مكاتبات عمالك عليك واصدار جواباتها على الصواب عنك، فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فأن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل))(48).

بعد هذا التفصيل في احوالهم (الكتاب) لم يخف شيء من صفاتهم وما يتميزون به من مهارات على غيرهم حتى حظوا بهذا القدر ثم بعد ذلك استوصى بالتجار فقال: ((واوص بهم خيرا، المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فأنهم مواد المنافع

ص: 267

واسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فأنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد امورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا))(49)، يقدر وضوح التقابل في ذهن منتج النص بقدر وضوحه في النص وفي تلقيه وتأويله وقوة وضوح المقابل دليل على بلاغة القول(50)، وهذا ما كان حاضرا في نص الامام (علیه السلام) من تقابلات عده ناتجة عن حضورها في ذهن الامام.

المبحث الثالث: تقابل الشواهد

الشاهد من الحجج الجاهزة او غير الصناعية كما يسميها أرسطو(51)، والشاهد في الخطاب العربي وسننه القولية يتمثل في الآيات القرآنية الكريمة والحديث النبوي الشريف، والامثال والحكم، والابيات الشعرية، وهي نصوص توسع مدارك المتأمل عبر مقابلتها لمعاني ما حوله من المواقف والحالات، وترغيبه فيما ينفعه، وتنفيره مما يضره لذلك كان الشاهد دعامة قوية وحجة بالغة في جميع المواقف التي يحضر فيها وقد عبر عنه الجاحظ بقوله (ومدار العلم على الشاهد والمثل)(52)، ونجد الشاهد حاضرا بقوة في اغلب التراث العربي عبر امتداد مراحله المتعددة من الشعر الجاهلي، كذلك نجد الشاهد حاضر في الخطاب القرآني: (مثلهم كمثل الحمار يحمل اسفارا)(53)، ويعد الشاهد عند الامام (عليه السلام) عنصرا مرادفا للحجة والدليل والبرهان، ودعامة اساسية لإرساء الحقائق، عبر الخطاب ومن خلاله للمتلقي، في عهده لمالك قال: ((وأردد الى الله ورسوله مايضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور، فقد قال الله تعالى لقوم

ص: 268

احب ارشادهم: (ياءيها الذين امنو أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فأن تنزعتم في شيء فردوه الى الله والرسول)، فالرد الى الله الاخذ بمحكم كتابه، والرد الى الرسول الاخذ بسنة الجامعة غير المفرقة))(54)، من خلال مطالعة النص نلاحظ كيف ان الامام اورد المعنى ثم قابلة في الشاهد الذي كان مماثل لما آورده من معنى مع ذكر الشاهد بين (عليه السلام) كيفية الرد لله وللرسول (صل الله علية واله وسلم)، يقوم التقابل الاستشهادي على الاتيان بمعنى، ثم تأكيده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الاول والحجة على صحته.(55)

من مع الملاحظ ان الاستشهاد في عهد الامام (عليه السلام) لم يأخذ مساحة واسعة في خطابه الموجه لمالك، ولكن اقتصر على مقتضى حاجة المقام اليه، ها هو يورد شاهدا اخرا في قولة ((واذا اقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مطيعا فان في الناس من به العلة وله حاجة، وقد سألت رسول الله (صل الله عليه واله) حين وجهتني الى اليمن كيف اصلي بهم فقال: ((صل بهم كصلاة اضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما))(56)، مع وجود الشاهد الذي يعد تأكيدا للكلام اردف كلامه بالتعليل للتقابل علامات، او سيماء ولا نتكلم عن التقابل الا عبر حضور احد العناصر في مقابل عنصر آخر انه تواجه شيئين، او شخصين، او وضعين، او حالين، قد يدل احدهما على الآخر بصوره وان كان غائبا فهو علامة وسياء على بنية تقابليه قائمة على الحضور التام او الجزئي.(57)

في ظل هذا نلحظ التواجه عبر التوجيه والارشاد في قول الامام (عليه السلام) لمالك ((واياك والمن على رعيتك بإحسانك، او التزايد فيها كان من فعلك او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الاحسان والتزايد يذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس(58)، قال الله تعالى: (كبر مقتا عند الله ان تقولو مالا تفعلون(59)).

ص: 269

فالنص القرآني الموظف في سياق خطاب الامام افاد نوعين من التقابل: الاول، کما هو بائن في صلب الشاهد القرآني ومتبلور من فحوى معناه، فالمقت يأتي من القول من دون العمل.

اما التقابل الثاني، فيستشف من معنى الفكرة الاول المقابل للمعنى في النص القرآني المستشهد به، وهو منطلق فعال في صناعة الخطاب وتوهج بلاغة.(60) فقد برع الأمام (علیه السلام) في توظيف شواهده البينية المبينة على التقابل لإدراكه اهميتها في الاقناع والتأثير، فقد نتجت القضية ثم يأتي بمقابلها من الشواهد لغرض التوثيق والتوكيد نراه في النصح بقولة: واردد الى الله ورسوله، يقابلها بالطاعة الله والرسول، ومن ان جميع الشواهد مبنية على التقابل بأنواعه المختلفة وذلك راجع لاتساع نقدية التقابل في بناء العهد ودلالاته فالمعاني يطلب بعضها بعضا من اجل التكامل وتوسيع المدارك والافهام.

وبوسع التأويل التقابلي ان يمدنا بمزيد من المعاني المنبثقة من الافتراضات الدلالية التي يتأسس عليها هذا الخطاب فالمثل يتقابل مع الفكرة المطروحة، ويتموضع بمثابة حجة جاهزة تؤدي وضيفة التدعيم، كونها تكتسب قوتها من مصادقة الناس عليها وتواترها في الفعل الجمعي، فضلا عن كونها تؤدي وضيفة اعادة التوازن بين المرسل والمرسل اليه، عندما يصيب عملية التخاطب خفوت في تفاعلها.

وبذلك يقدر التقابل بالمثل كونه آلية من آليات الخطاب الاقناعي البلاغي غير المباشر في تقريب المعاني من الافهام بضروب من الامثلة المركبة تركيبا تقابليا حتى تناسب التصورات والفكرة التي يدافع عنها ويروم ايصالها.(61)

ص: 270

الخاتمة

حاول البحث قراءة الخطاب في عهد الامام المالك الأشتر بأدوات وامكانيات تحليلية تستند على اساس التقابل الاسلوبي فالمعاني تصنع بأبعاد وعلامات متقابلة خارج نظرة المحسن البديعي للتقابل المعهود في معاجم اللغة فقط، وانما تقترح اليات لتوسيع مفهوم التقابل ليشمل التجاور والمحاذاة والتقريب بين المعاني عبر المواجهة بين الذوات والصفات والشواهد على مستوى التصورات والتعرف والادراك وذلك من اجل فهم النص وافهامه انطلاقا من بنية و سياقاته التي تتساند فيما بينها اثناء القراءة والتلقي وبذلك نكون قد قدمنا فهما مغاير لقراءة اي خطاب خارج ما هو متعارف في فهم و تحليل النصوص وهذا يدعونا لإعادة النظر في العديد من النصوص خارج الادوات التقليدية المتبعة.

الاحالات

1. سورة الواقع ينظر النوادر في اللغة: 569 - 570.

2. ة: الآية 16.

3. سورة الحجر: الآية 47.

4. لسان العرب: 14 - 15 (مادة قبل).

5. المصدر نفسه: (مادة وزن).

6. 6 - ينضر لسان العرب (مادة الضد).

7. التعريفات للجرجاني: 48.

8. الفروق اللغوية، ابو الهلال العسكري: 29.

9. كتاب الاضداد في كلام العرب، ابو الطيب اللغوي: 33.

ص: 271

10. کتاب الصناعين، ابو الهلال العسكري: 319.

11. ينظر على سبيل المثال، المزهر في علوم اللغة وانواعها: السيوطي. والاضداد في اللغة: ابن الانباري.

12. ينضر کتاب الاضداد، ابو الطيب اللغوي: 28.

13. أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني.

14. التقابل بين البلاغة العربية والأسلوبية المعاصرة (بحث) د. خالد کاظم حمیدي، ص 1، نقد الشعر ص 147.

15. ينظر الثنائيات الضدية في شعر ابي العلاء المعري، د. علي عبد الامام الاسدي: 36 - 42.

16. نهج البلاغة: 457.

17. ينظر: العمدة ابن رشيق القيرواني: 1 - 251.

18. نهج البلاغة: 458.

19. نظرية التأويل التقابلي: 306.

20. التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ، بحث، د. على عبد الامام، مجلة اوروك للعلوم الانسانية، جامعة المثنى كلية التربية، المجلد الثامن - العدد الثاني، نیسان 2015.

21. نهج البلاغة: 459.

22. سورة النبأ: الآية، 4، 5.

23. سورة يوسف: الآية 4.

24. نهج البلاغة: 461.

25. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي: 46، 167، 169.

26. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

ص: 272

27. نهج البلاغة: 463.

28. الاستبصار في مختلف الاخبار، ابي جعفر محمد ابن الحسن الطوسي، تحقيق محمد جواد مغنیه، تصحيح يوسف البغدادي، دار الاضواء الطبعة الاولى.

29. نهج البلاغة: 463.

30. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي: 178.

31. نهج البلاغة، 64 4 - 465.

32. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، 217.

33. ينظر: نظرية التأويل التقابلي، 218.

34. ينظر التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

35. شرح المشكل في شعر المتنبي، ابن سيدة: تحقيق مصطفى السقا و حامد عبد المجيد: 217.

36. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ.

37. نهج البلاغة: 458.

38. ينظر نظرية التأويل التقابلي: 302، 303.

39. نهج البلاغة: 459، 460.

40. اسرار البلاغة: 29.

41. ينظر نظرية التأويل التقابلي: 303.

42. نهج البلاغة: 460، 461.

43. نهج البلاغة: 463.

44. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 151.

45. نهج البلاغة: 464.

46. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 194.

ص: 273

47. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 314.

48. نهج البلاغة: 466.

49. نهج البلاغة: 468.

50. نهج البلاغة: 469.

51. ينظر: نظرية التأويل التقابلي: 268.

52. الخطاب الحجاجي انواعه وخصائصه، هاجر مدقن: 63.

53. البيان والتبين: 1 / 271.

54. سورة النساء: اية 59.

55. نهج البلاغة: 465.

56. نظرية التأويل التقابلي: 407.

57. نهج البلاغة: 47.

58. نظرية التأويل التقابلي: 175.

59. نهج البلاغة: 476.

60. سورة الصف: الآية 3. ينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ مجلة اوروك العلمية للعلوم الانسانية، جامعة المثنى، كلية التربية، 65 وينظر: التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ مجلة اوروك للعلوم الانسانية، جامعة المثنى، كلية التربية: 69.

ص: 274

المصادر

1. القرآن الكريم

2. الاستبصار في مختلف الاخبار، ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق محمد جواد مغنیه، تصحیح يوسف البغدادي، دار الاضواء، الطبعة الاولى (د، ت).

3. اسرار البلاغة في علم البيان، للإمام عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1988.

4. البيان والتبين لابي عثمان عمر بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الخامسة، 1985 م.

5. الثنائيات الضدية في شعر ابي العلاء المعري، د. علي عبد الامام، تموز للطابعة والنشر، الطبعة الأولى 2013 م.

6. الخطاب الحجاجي (أنواعه وخصائصه)، هاجر مدقن، منشورات الاختلاف الجزائر العاصمة، الجزائر الطبعة الأولى 2013 م.

7. شرح المتكل من شعر المتنبي، لابن سيده، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، الهيئة المصرية العامة للكتب، القاهرة 1976 م.

8. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، لابي علي الحسن بن القيرواني تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر الطبعة الثانية.

9. الفروق اللغوية، للأمام الأديب ابي هلال العسكري (395) دار الكتب العلمية، بیروت، لبنان (د، ت).

10. کتاب الاضداد في كلام العرب، لابي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلي (ت، 351) تحقيق عزت حسن، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر دمشق، الطبعة

ص: 275

الثانية 1996 م.

11. کتاب التعريفات، للشريف علي بن محمد الجرجاني، دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان، الطبعة الاولى 2013 م.

12. کتاب الصناعتين، لابي هلال العسكري، تحقيق علي محمد البنجاوي ومحمد ابو الفصل، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، الطبعة الثانية، 1971 م.

13. لسان العرب، لابن منظور (ت 711)، مطبعة دار احياء التراث العربي، منشورات آداب الحوزة، قم، ایران، الطبعة الاولى 1405.

14. نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي، دار الامان، الرباط الطبعة الاولى 2013 م.

15.النوادر في اللغة، ابو زيدالانصاري، تحقيق ودراسة، محمد عبد القادر احمد، دار الشروق بيروت، الطبعة الاولى.

16. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، تحقیق، فاتن خليل مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الاولى.

البحوث

1. التقابل وبلاغة الخطاب في رسالة المعاش والمعاد للجاحظ د. علي عبد الامام مهلهل الاسدي، اوروك للعلوم الانسانية مجلة تصدر عن كلية التربية - جامعة المثنى، المجلد الثامن العدد الثاني، نيسان 2015 م.

ص: 276

ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية

اشارة

م. د. كريم حمزة حميدي جاسم

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) - أقسام بابل

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

ص: 277

ص: 278

المقدِّمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسلين، أبي القاسم محمَّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعدُ...

فالعلاقةُ بين اللفظِ والمعنى علاقةٌ أزليَّةٌ لم تمرَّ غفلاً عن الدارسين في حقلِ اللغةِ قديمًا وحديثًا، لذا سارعوا في جمع الألفاظ وتصنيفها فضلًا عن مراعاة دلالاتها في قوالبَ ومناهجَ مختلفة، أطلق عليها اللغويون العربُ القدماء مصطلحات: (المعجم الموضوعي، والرسائل اللغويَّة) وغير ذلك. وقد أفاد الدرس اللغوي الغربي الحديث ممَّا أسَّسه العرب القدماء، ليضعوا منهجًا لغويًّا جديدًا يتيحُ للدارسين جمعَ الألفاظ، أو المعاني المتقاربة وجعلها تحت لفظٍ عام يجمعها بمراعاة الصلة الدلالية بينها، وهو ما يسمَّى ب(نظرية الحقول الدلالية)، التي تُعدُّ واحدة من النَّظريات المهمَّة في مجال الدراسات الدلالية الحديثة.

ولأنَّ عهدَ الإمامِ عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر قد تضمَّن دروسًا أخلاقيَّةً معتبرةً، فيها أُسُسُ القيادة الصحيحة للمجتمع في كلِّ زمان، فضلا عن لغتِهِ العاليَّة ذات المعاني المكثَّفة كان ميدانُ الدراسةِ ذلك العهد. فأحصيتُ فيه الألفاظَ المرتبطةَ بالأخلاق سواء أكانت محمودةً أم مذمومةً، ثمَّ قسمتها على وفق نظرية الحقول الدلاليَّة، فجاء البحث بعنوان: (ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر - دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية). وقد قسم على مبحثين: تناولتُ في أولهما: نظرية الحقول الدلالية تأصيلًا وتعريفًا وتطوّراً. وأمَّا المبحثُ الثاني، فقد تناولتُ فيه الحقول الدلالية في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) دراسة تطبيقية. فكان على قسمين: الأول منهما تناولتُ فيه ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام (عليه السلام)، في حين تناولتُ في القسم الآخر ألفاظ الأخلاق المذمومة في العهد. وقد سبق المبحثين تمهيدٌ

ص: 279

تناولتُ فيه: مفهوم الأخلاق عند العلماء. وخلاصةٌ بیَّنتُ فيها أهم ما جاء في البحث. وقد اعتمدتُ في كتابة بحثي هذا على جملة من المصادر اللغويَّة القديمة والحديثة فضلًا عن كتب الأخلاق والآداب وغير ذلك.

وأخيرًا أسأل الله أن يتقبَّل جهدنا المتواضع هذا، إهداءً منِّي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). واللهُ وليُّ التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق القويم.

ص: 280

التمهيد: مفهوم الأخلاق عند العلماء

أولًا: مفهوم الأخلاق عند اللغويين:

لا بُدَّ لنا من وقفة عند معنى الأخلاق في اللغة؛ إذ إنَّ المعنى اللغويّ لكلِّ مفردة هو الطريقُ الموصِلُ إلى المفاهيم والمصطلحات التي يتفقُ عليها العلماء في كلِّ فنّ، ولفظ الأخلاق كما جاء في معجم (العين): «الخَليقةُ: الخُلُق، والخَليقةُ: الطبيعة. والجميع: الخلائقُ، والخلائقُ: نقر في الصفا. والخليقة: الخَلْقُ... وهذا رجل ليس له خَلاقٌ، أي: ليس له رغبة في الخير، ولا في الآخرة: ولا صلاح في الدين»(1). وفي قولِ الخليلِ إشارةٌ للعلاقة بين معنى الطبيعة والأخلاق، فالإنسانُ في سجيَّته يحملُ صفاتٍ خلقيَّةً قد تكونُ حسنةً وقد تكون سيئةً.

وقد أوضح ابن منظور (ت 711 ه) الدلائل الإيجابية والسلبية للأخلاق بقوله: «الخُلُقُ، بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا: وَهُوَ الدِّين والطبْع وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنه لِصورة الإِنسان الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نفْسه وأَوصافها وَمَعَانِيهَا المختصةُ بِها بِمَنْزِلَةِ الخَلْق لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وأَوصافها وَمَعَانِيهَا، وَلَهُمَا أَوصاف حسَنة وَقَبِيحَةٌ، والثوابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكثر مِمَّا يَتَعَلَّقَانِ بأَوصاف الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِهَذَا تَكَرَّرَتِ الأَحاديث فِي

مَدح حُسن الُخُلُقِ»(1). لذا عرَّف أهل الاصطلاح الخُلق بأنَّه: «عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا و شرعًا بسهولة، سميت الهيئة: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سمیت الهيئة: خلقًا سيئًا»(3). واشترط الشريف الجرجاني (ت 816 ه) أن تكون هيئة الأفعال راسخة؛ لأنَّ من يصدر منه بذل

ص: 281

المال على الندور بحالة عارضة لا يقال: خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فربَّ شخصٍ خلقه السخاء، ولا يبذل، إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل، لباعث أو رياء(4). ونستنتجُ من کُتُب اللغويين أنَّ الأخلاقَ مرتبطةٌ بسجيَّة الإنسان سواء أكانت محمودةً أم مذمومةً.

ثانيًا: مفهوم الأخلاق عند العلماء المسلمين:

المسلمون يستقون مصادر أخلاقهم من القرآن الكريم، والسُنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، وأهل البيت (عليهم السلام)، قال تعالى: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» [سورة الإسراء / من الآية 9]. ومثلما يُعدُّ القرآن الكريم، والنبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أكبر حجة على العباد في المستوى الأخلاقي، كذلك يُعَدُّ أهلُ البيت (عليهم السلام) من الحجج الراسخة؛ لما يحملوه من خُلُقٍ رسالي، قال الإمام علي (عليه السَّلام): «ولو کُنَّا لا نرجو جنَّة، ولا نخشی نارًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، لكان ينبغي لنا أن نطلب مکارم الأخلاق، فإنَّها مما تدلُّ على سبيل النجاح»(5). ومن تعريفات العلماء المسلمين للأخلاق ما قاله الغزالي (ت 505 ه): «عبارة عن هَيْئَةٍ فِي النَّفْسِ رَاسِخَةٍ عَنْهَا تُصْدِرُ الْأَفْعَالَ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَی فِكْرٍ وَرَوِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْهَيْئَةُ بِحَيْثُ تَصْدُرُ عَنْهَا الْأَفْعَالُ الْجَمِيلَةُ الْمَحْمُودَةُ عَقْلً وَشَرْعًا سُمِّيَتْ تِلْكَ الْهَيْئَةُ خُلُقًا حَسَنًا وَإِنْ كَانَ الصَّادِرُ عَنْهَا الْأَفْعَالَ الْقَبِيحَةَ سُمِّيَتِ الْهَيْئَةُ الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ خُلُقًا سَيِّئًا، وَإِنَّمَ قُلْنَا إِنَّمَا هَيْئَةٌ رَاسِخَةٌ لأن من يصدر منه بَذْلُ الْمَالِ عَلَ النُّدُورِ لِحَاجَةٍ عَارِضَةٍ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السَّخَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتُ

ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ثُبُوتَ رُسُوخٍ وَإِنَّمَ اشْتَرَطْنَا أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ الْأَفْعَالُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ لِأَنَّ مَنْ تَكَلَّفَ بَذْلَ الْمَالِ أَوِ السُّكُوتَ عِنْدَ الْغَضَبِ بِجُهْدٍ وَرَوِيَّةٍ لَا يُقَالُ خُلُقُهُ السخاء والحلم»(6).

ص: 282

والخُلُقُ والخُلْق عند العلّامة الحلِّيّ (ت 726 ه) هو: «ملكة نفسانية تقتدر النفس معها على صدور الأفعال عنها بسهولة من غير تقدم روّية»(7)، وهو: «مَلَكة في النفس تحصل من تكرّر الأفعال الصادرة من المرء على وجه يبلغ درجة يحصل منه الفعل بسهولة، كالكرم فإنه لا يكون خُلُقا للإنسان إلا بعد أن يتكرر منه فعل العطاء بغير بدل حتى يحصل منه الفعل بسهولة من غير تكلف»(8).

فالأخلاق عند علماء المسلمين وغيرهم من الفلاسفة القدماء ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس تلقائيًّا، من غير تفكير أو روية أو تكلّف، وكلّ ما يصدر عنها عن النفس من سلوك ليس مطبوعًا فيها كغضب الحليم وكرم البخيل لا يعدّ خلقًا وهي صفات راسخة في النفس موجبة لصدور أفعال متناسبة معها، من دون إعمال رويّة وتفكّر، وهيّ قد تكون ذاتيّة، أو وراثيّة، أو تكتسب بالعادة والمران(9).

ولأنَّنا نبحث في ألفاظ الأخلاق عند الإمام علي (عليه السلام)، فلا بُدَّ من القول: إنَّ قيمة الأخلاق الإسلاميَّة عنده (عليه السلام) من مرتكزات خطابه وسلوكه العملي، وأنَّ القاعدة الأخلاقية الإسلامية في فكره (عليه السلام) مشيَّدة على معيار إلهي وعقلي، وتنطلق منه إلى التطبيق العملي. ويشملُ ذلك كل ما نصّ عليه (عليه السلام) من عقائد، وعبارات، وأوامر ونواهي(10).

ص: 283

المبحث الأول: نظرية الحقول الدلالية تأصيلا وتعريفًا وتطوّرًا

إنَّ الدَّرْسَ التَّدَاولِيّ نشأَ في أجواء معرفيَّة ثقافيَّة وسيعة، عَرَّجَت على اللّغة دراسةً وفهمًا وتوضيحًا، وأسهمت إسهامًا مُعْجبًا في تفتيح فضاءات من أجل دراسة ظواهر دَلالِيَّة وتَدَاولِيَّة، كانت تُوسمُ - من قبلُ - بأنَّها مهملة، أو مهمَّشة؛ إذ تم الانتقال من إرث (دي سوسير) وتأثيرات المدرسة البنيويَّة للغة؛ لتهيئة الأجواء لبروز اللسانيّات التَدَاوُلِيَّة، التي بزغ في ضوئها اتجاهات لسانيّة، ووظيفيّة، أَعْطَت الدَّرْسَ اللّغويَّ رُوْحًا متجدِّدةً لم تُؤلَفْ من قبلُ، بطريقةٍ منهجية، وعلميَّةٍ(11).

ومن هذه الاتجاهات والنظريَّات ما يُسمَّى ب(نظرية الحقول الدلالية)، التي تقومُ فكرتها على جمع الكلمات، أو المعاني المتقاربة وجعلها تحت لفظ عام يجمعها، فكلمة (لون) مثلًا تضم ألفاظ: (أحمر، أزرق، أصفر، أبيض...). وقد أثمرت الدراسات المتتابعة التي تبحث العلاقات بين معاني الكلمات عن نظرية الحقول الدلالية، ليتلقاها مجموعة من العلماء في بداية القرن العشرين، منهم العالم الألماني (تر ایر)، الذي استطاع صياغة أجزاء هذه النظرية بشكل متكامل منهجًا وتنظيرًا(12). وقد وضعوا للحقل الدلالي أكثر من تعريف، منها تعريف أولمان أنَّه: قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبر عن مجال معين من الخبرة(13). ويقصدُ بالخبرةِ هنا الموضوع، أو الفكرة، التي يُعبَّرُ عن معناها بألفاظ لغويَّة معیَّنة.

ويُعدُّ الحقل الدلالي كغيره من المصطلحات الحديثة التي لم يتمكّن الباحثون من التوصل إلى إعطاء تحدیداتها وتعريفاتها إلاَّ بعد أبحاث متعددة وجهود كبيرة، وعمق

ص: 284

نظر لدقائق مجالات المعني، ومع ذلك فقد اتّضح لهم أنَّ الكلمة تتحدّدُ دلالتها ببحثها مع أقرب الكلماتِ إليها في إطار مجموعةٍ دلاليةٍ واحدةٍ؛ لذا يقول جون لاينز: «إن من المستحيل أن نقرر أو ربما حتى نعرف معنى كلمة واحدة بدون أن نعرف أيضا معاني الكلمات الأخرى المرتبطة بها»(14). فالنظرية إذن تتألف من عنصرين أساسين هما: تقسیم الألفاظ إلى مجموعاتِ دلالية، وتحديد دلالة اللفظة داخل كل مجموعة ببحثها مع أقرب الألفاظ إليها. فلا نستطيع معرفة الدلالة الحقيقية للكلمة إلّا من خلال مجموعة الكلمات المتصلة بها دلاليًّا «بمعنى أنَّهُ لا يُمكن الوصول إلى تحديد واضح ودقيق (نسبيًّا) لدلالة الكلمة ما بمعزل عن مجموعتها الدلالية، فمعنى الكلمة يتحدد على أساس علاقتها بالكلمات الأخرى الواقعة في مجالها الدلالي»(15).

ويؤكد أصحابُ النظريَّة على أهميَّة السياق في الكشف عن دلالة الكلمة والعلاقات التي تربطها بغيرها من كلمات المجال الدلالي، وأنَّ الكلمات في داخل المجال الدلالي الواحد ليست ذات وضع متساو، فيجبُ التفريقُ بين الكلمات الأساسية والهامشية؛ لأنَّ معرفة الأولى يكشفُ لنا طبيعة العلاقات والتقابلات التي تربط كلمات المجال الدلالي(16). وكان للسياق في حصر دلالة الألفاظ الخلقيَّة في عهد الإمام (عليه السلام) دورٌ مهمٌّ؛ إذ إنَّ بعضَ الألفاظ قد يُعبَّرُ عنها بتركيبٍ، أو عبارةٍ تُفصحُ عن المعنى الخلقي الذي أراده الإمام (عليه السلام).

ولم تعرف الدراسات اللغوية العربية الحديثة مصطلح (الحقل الدلالي) إلاَّ بعد اطلاعها على الدراسات اللغوية الغربية؛ لذا كانت التعاريف المتناثرة في تلك الدراسات متماثلة ومتشابهة ومترجمة، على الرغم من أنَّ الدراسة العربية قد عرفت الحقول الدلالية تطبيقاً وإجراءً في أكثر من مصدر وعبر قرون متعاقبة. يقول محمود سليمان یاقوت: «هناك حقيقة نريد التأكيد عليها هي أنَّ نظريَّة المجالات الدلالية... إنَّما هي ذات أصول عربيَّة،

ص: 285

ويتضح ذلك في المنهج الذي اتبعه أصحاب الرسائل اللغوية، ومعاجم الموضوعات في جمع ألفاظ اللغة التي تندرج تحت معنى واحد»(17). ويُعدُّ أبو منصور الثعالبيّ من اللغويين العرب الذين حاولوا قديمًا تصنيف كلمات اللغة على وفق حقول دلالية معيَّنة في كتابه: (فقه اللغة وسرّ العربيَّة)؛ إذ أورده على شكل حقول دلاليَّة خاصة بالحيوانات، والنباتات، والشجر، والأمكنة، وغير ذلك من أسماء الموجودات، والصفات، والأشياء.

وتتحدّد العلاقاتُ بين الكلمات داخل المجموعة الدلاليةِ الواحدةِ بأمورٍ أهمُّها:

1 - علاقة الترادُفِ(18): الترادف هو: أنْ يدُّلَ لفظانِ أو أكثر على معنىً واحد، وهو ما يعبّرُ عنه في الإنكليزية ب Synonym (19). ويعني دلالة واحدة لألفاظ عدّة(20).

ويعد الترادف عند أنصار الحقول الدلالية من أهم العلاقات بين الألفاظ في المجموعة الواحدة. فالترادف عندهم من الناحية المعجمية يعني اتفاق شبه تام بين معنی الكلمتين المترادفتين.

2 - علاقة الاشتمال: تُعدُّ علاقة (الاشتمال) من أهم العلاقات في علم الدلالة التركيبي، ويختلف الاشتمال عن الترادف في أنّه تضمُّنٌ من طرفٍ واحدٍ. يكون فيه (أ) مشتملاً على (ب)، حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي. مثل (الشجر) الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى هي (النبات). فالشجر متضمن لمعنى النبات، لاشتماله عليه. ومن الاشتال نوع أُطلق عليه اسم (الجزيئات المتداخلة)(21)، والمراد بذلك مجموعة الألفاظ التي كل منها مُضمَّن مثل: ثانية - دقيقة - ساعة - يوم - أسبوع - شهر - سنة -. فالثانية واقعة ضمن ما بعدها وهي: الدقيقة، والدقيقة واقعة ضمن ما بعدها أيضاً وهي الساعة، وهكذا.

3 - علاقة الجزء بالكل(22): وهي كعلاقة اليد بالجسم. والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة الاشتمال أو التضمين أي اليد ليست نوعاً من الجسم، ولكنها جزء منه، بخلاف

ص: 286

الإنسان الذي هو من الحيوان وليس جزءًا منه ومثلها الثانية، فهي جزء من الدقيقة وليست نوعًا منها، إذ كلٌّ منهما متميز من الآخر.

المبحث الثاني: الحقول الدلالية في عهد الإمام (عليه السلام)

زخر عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر بألفاظ ارتبطت بالخلق والأخلاق ممَّا لا يُحصى؛ وذلك لكونه وثيقة أخلاقية تُخاطبُ الرَّاعي والرَّعيَّة معًا، وترسمُ طريقًا ناجحًا لإدارةِ الدَّولة على وفق أُسسٍ ومبادئ إسلاميَّة تؤثر في حياة الفرد والمجتمع. وقد عبَّر الإمام (عليه السلام) عن كثيرٍ من الألفاظ الخلقيَّة بعبارات وتراكيب، وهذا أسلوبٌ فريدٌ لا يملكُهُ إلّا من يملك ناصية البلاغة والبيان، كيف لا وكلامه دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقين. وسيكونُ تقسیم الحقول الدلاليَّة لألفاظ الأخلاق في عهد الإمام (عليه السلام) على قسمين: محمودة ومذمومة، يُمكن تفصيلها على النحو الآتي:

حقول الألفاظ المحمودة

ت - ألفاظ اللين - ألفاظ العدل - ألفاظ الصدق - ألفاظ الصبر - ألفاظ الصلة - ألفاظ الإعانة

1 - اللین - العدل - الصدق - الصبر - الصلة - الرِّفْد

2 - الرحمة - الإنصاف - الأمانة - كسر النفس - الإخوة - الرعاية

3 - العفو والصفح - الأوسط - الوفاء - ملك الهوى - القرابة - قضاء الحوائج

4 - العطف - السهم - الطهر - التحمل

5 - الإلف - الحق - لا تُخاف بائقته - قلة التبرم

ص: 287

6 - الرفق - قود البدن

7 - الرأفة - التقسيم

8 - الاحترام والمنزلة - عدم الإجحاف

9 - التواضع - البيع السمح

10 - المودة

أولًا: ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):

تباينت ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) التي انتظمت في حقول دلاليَّة، وارتبطت دلاليًّا تحت لفظٍ عامٍّ يجمعها إلى ستة حقول، تمثلت بألفاظ: (اللين، العدل، الصدق، الصبر، الصلة، الإعانة)، وتفصيلُها على النَّحو الآتي:

أ - حقل الألفاظ المرتبطة باللين

تعددت الألفاظ المرتبطة بهذا الحقل؛ إذ وصلت إلى عشر ألفاظ، وكان أكثر الحقول ألفاظاً في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، وسنتناولُ منه في التفصيل أكثر خمس ألفاظ استعمالًا في سياقات العهد على النَّحو الآتي:

1. الرَّحْمَة

الرَحْمَةُ في اللغةِ: الرِقَّةُ والتعطُّفُ. والمرحمةُ مثلهُ. وقد رَحِمْتُهُ وترَحَّمْتُ عليه. وتراحَمَ القوم: رَحِمَ بعضُهم بعضاً. ويقال: ما أقرَبَ رُحْمَ فلانٍ إذا كانَ ذا مَرْحَمةٍ وبرٍّ(23).

وفي عهد الإمام (عليه السلام) وردت لفظة (الرَّحمة) منسوبةً إلى الله تعالى في معظم النصوص، ومنها قولُهُ: ((ثُمَّ اِحْتَمِلِ اَلْخُرْقَ مِنْهُمْ وَاَلْعِيَّ وَنَحِّ عَنْهُمُ اَلضِّيقَ وَاَلْأَنَفَ يَبْسُطِ اَللُّهَ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ)). و(أكناف رحمته): أطرافها وجوانبها. ووردت على لسانه (عليه السلام) في نصٍّ واحدٍ، حيث قال: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَاَلْمَحَبَّةَ

ص: 288

لَهُمْ وَاَللُّطْفَ بِهِمْ))، روى الشيخ الصدوق خبرًا عن الإمام السجّاد (عليه السّلام) في الحقوق إلى أن قال: ((وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم))(24). فالرَّحمةُ من صفات البارئ (عزَّ وجل) مع جحود الإنسان وكثرة ذنوبه، فإذا ما أراد الإنسان (القائد) رحمة ربِّه، فعليه أن يكون رحيمًا مع رعيَّته.

2. اللطف

من الألفاظ المرتبطة باللين والرِّفق، «واللَّطَفُ: من طُرَفِ التُّحَف ما أَلطَفْت به أخاك ليَعْرِفَ به بِرَّك. وأنا لطيف بهذا الأمر، أي: رفيق بمُداراته. واللّطيف: الشّيء الذي لا يتجافي، من الكلام وغيره»(25). ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَاَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاَللُّطْفَ بِهِمْ))، فاللطف هو من المبادئ الإنسانية التي يجب أن يتحلَّى بها الحاكم في نظر الإمام (عليه السلام)، ومعناه الدقيق البرُّ وجميل الفعل، كما تقول: فلان يبرني ويلطفني، ويسمى الله تعالى لطیفًا؛ لأنه يواصل نعمه إلى عباده(26).

3. المَوَدَّة

(المَوَدَّةُ) مصدرُ الفعلِ (وَدَّ)، وكذلك (الوَدُّ)، ومعناه: الحبُّ، قال الخليلُ: «الوَدُّ مصدر وَدِدْتُ، وهو يَوَدُّ من الأمنِية ومن المَودّة، وَدَّ يَوَدُّ مَوَدَّةً، ومنهم من يجعله على فَعَلَ يفعَلُ. والوِداد والوَدادُ مصدر مثل المَوَدّة. وهذا وِدُّكَ ووَدیدُكَ کما تقول: حِبُّكَ وحَبيبُكَ»(27). والمودة قد تكون بمعنى التمني؛ لذلك يختلفُ معنى المودَّة عن المحبَّة من هذا اللحاظ، فيُمكنك أن تقول: لو قدم زيد، بمعنى: أتمنى قدومه، ولا يجوز: أحب لو قدم زيد(28).

ومن ألفاظ المودَّة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ

ص: 289

اَلْوُلاَةِ اِسْتِقَامَةُ اَلْعَدْلِ فِي اَلْبِلاَدِ وَظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ))؛ إذ تمثَّل بقوله: (وَظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ)، وقوله: (وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ)، فإظهارُ المودَّةِ للرَّعيَّةِ، فضلًا عن استقامةِ العدلِ هما من أفضل الطرق الموصِلة إلى قُرَّةِ عينِ الوالي واستقرارِ حكمِهِ. وبسلامةِ الصدور يُمكنُ ضمان هذه المودَّة.

4. العفو والصفح

ذهب بعضُ المفسرين واللغويين أنَّهما بمعنى واحد، بدلالة قوله تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» [سورة النور / من الآية 22]، قالوا: العفو والصفح بمعنی، فكررهما تأكيدا. ويقال العفو في الأفعال، والصفح في جنایات القلوب، وقيل: الصفح: ترك التثريب، وهو أبلغ من العفو وقد يعفو الإنسان ولا يصفح. وقيل: العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح: ترك لومه(29).

وقال الإمامُ عليّ (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر: ((فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ

وَصَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَ أَنْ يُعْطِيَكَ اَللُّهَ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ)). ف(العفو والصفح) من الألفاظ والأفعال التي تُرجى من الآخرين، وفي الوقت نفسه تُعطى لهم. فاقترن حصولها ونيلها بشرط منحها للآخرين.

5. الرِّفْق

قال الخليل: «الرفق: لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيقٌ، وتقول: ارفُقْ وتَرَفَّقْ. ورفقاً معناه ارفُقْ رِفقاً»(30). وزاد ابنُ فارس معاني جديدة محمودةً لهذا الأصل بقولِهِ: «الرَّاءُ وَالْفَاءُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَی مُوَافَقَةٍ وَمُقَارَبَةٍ بِلَا عُنْفٍ. فَالرِّفْقُ: خِلَفُ الْعُنْفِ؛ يُقَالُ رَفَقْتُ أَرْفُقُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ). هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ يَدْعُو إِلَی رَاحَةٍ وَمُوَافَقَةٍ»(31).

ص: 290

وورد لفظُ (الرِّفق) في عهد الإمام (عليه السلام) في قولِهِ: ((وَإِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ

حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاِعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ)). فقولُهُ: (رفقًا برعيَّتك) تحقَّقَ من أفعالٍ أُخَر، ولم يتحقق من ذاته (الرِّفق)، فإنَّ إظهارك الغدر هو ترويحٌ للنفس ورفقٌ بالرَّعيَّة.

ب - حقل الألفاظ المرتبطة بالعدل:

جاء هذا الحقل في المرتبة الثانية من حيث عدد الألفاظ المحمودة في عهد الإمام (عليه السلام)، وسنتناول خمسًا منها على النَّحو الآتي:

1. العدل

يُعدُّ الإمام علي (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانيَّة؛ لذا لا غرابةَ أن تتكرَّر مرادفات هذه اللفظة بكثرة في عهده (عليه السلام)، ومنها لفظةُ (العدل)، التي تعني عند أهلِ اللغةِ: «المَرْضيُّ من الناسِ قولُهُ وحُکْمُهُ. هذا عَدْلٌ، وهم عَدْلٌ، وهم عَدْلٌ، فإذا قلت: فهُمْ عدولٌ على العدّة قلت: هما عدلان، وهو عدلٌ بيّن العدل. والعُدُولَةُ والعَدْلُ: الحكْمُ بالحقّ»(33). والعدل والعدالة من الألفاظ التي أكَّدها الإمام في كلامِهِ وشدَّدَ القولَ فيها، ومنها قولُهُ: ((وَلْيَكُنِ اَلْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْبَائِعِ وَاَلْمُبْتَاعِ))، ف(العدل) موازينه كثيرة، وفي البيع يرتبطُ بالميزان والكيل فضلًا عن السِّعر.

2. الإنصاف

الإنصافُ في اللغةِ مأخوذٌ من (النِّصْف)، ومنه «النَّصَفَةُ: اسْمُ الإِنصافِ، وتفسيرُه [أن تَعطِيَه من نفسِكَ النِّصْف]، أي تُعطي من نَفْسِك ما يَسْتَحِقُّ من الحَقِّ كما تأخُذُه. وانتَصَفتُ منه: أخَذْتُ حَقّي کَملاً حتى صِرتُ وهو على النِّصْفِ سَواء. والنَّصيفُ:

ص: 291

النِّصْفُ»(33). فاللفظةُ ترتبطُ بالعدلِ وإحقاق الحقِّ لطرفين، ومن سياقاتها في عهدِ الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ بَيْنِ اَلرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَی اَلْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ)). إنَّ تحققَ الإنصافِ لهؤلاء الذين خصَّهم الإمام (عليه السلام) لا يعني ترك الإنصاف مع غيرهم، ولكنَّ حاجة هؤلاء إليه أكثر من غيرهم.

3. الأوسط

أشار عددٌ من اللغويين إلى أنَّ من معاني (الأوسط) هو العدل. فَوَسَطٌ الشيءِ وأَوْسَطُه: أَعْدَلُه، وَرَجُلٌ وَسَطٌ ووَسِيطٌ: حسنٌ مِنْ ذَلِكَ(34). وهو معنی قریب ممَّا فُسِّرَ به قولُهُ تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». [سورة البقرة / من الآية 143] قال الزَّجاج: «وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان، قال بعضهم وسطا: عدلًا، وقال بعضهم: أخياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل»(35).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلْيَكُنْ أَحَبَّ اَلْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي

اَلْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي اَلْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَا اَلرَّعِيَّةِ)). فقد جاء لفظ (الأوسط) في قولِهِ لأحبِّ الأمور: (أوسطها في الحقِّ) وربما يكوثنُ اقترابُ لفظ (الأوسط) من العدل جاء بسبب شیوع قاعدة أنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه، أو من وصف العرب للفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه.

4. السَّهْمُ

من الألفاظ التي تدلُّ على العدلِ، ومن معانيه في اللغة: النصيب(36). قال ابنُ فارس: «السِّینُ وَالْهَاء وَالمِيمُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَی تَغَيُّرٍ فِي لَوْنٍ، وَالْخَرُ عَلَی حَظٍّ وَنَصِيبٍ وَشَيْءٍ مِنْ أَشْيَاءَ. فَالسُّهْمَةُ: النَّصِيبُ. وَيُقَالُ أَسْهَمَ الرَّجُلَنِ، إِذَا اقْتَرَعَا، وَذَلِكَ مِنَ السُّهْمَةِ وَالنَّصِيبِ، أَنْ يَفُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ بِمَا يُصِيبُهُ»(37). وقد ورد لفظُ (السَّهم) بمعنى النصيب في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) حيث قال: ((وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اَللهَّ لَهُ

ص: 292

سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَلَ حَدِّهِ)). ف(سهمُهُ) في النَّصِّ (نصيبه)، وقطعًا لا يخلو أن يكون هذا النصيبُ عادلًا؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد سمَّى له ذلك.

5. قَوَد البَدَن

من الألفاظ التي تحملُ معنى العدل کما سنرى عند شُرَّاح نهج البلاغة، وقد ورد معنى الجزء الأول من (قود البدن) في معاجم اللغة؛ إذ قال الخليل: «والقَوَدُ: القتل بالقتيل، تقول: أَقَدْتُه به. واستَقَدْت الحاكم وأقَدْتُه: انتقمت منه بمثل ما أتی»(38). وفيه معنى القصاص وتحقيق العدالة للمقتول. وهذا ما كان الجوهري فيه أكثر وضوحًا بقولِهِ: «والقَوَدُ: القصاصُ، وأقَدْتُ القاتلَ بالقتيل، أي قتلته به. يقال: أقادَهُ السلطانُ من أخيه. واسْتَقَدْتُ الحاكمَ، أي سألته أن يَقيدَ القاتلَ بالقتيل»(39).

وقد ورد هذا اللفظ في عهد الإمام (عليه السلام)؛ إذ قال: ((وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ

وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ اَلْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ اَلْبَدَنِ)). ذكرنا آنفًا معنى (القَوَد)، وهو القِصاصُ إجمالًا، ولكن إضافته إلى (البدن) في قولِ الإمام (عليه السَّلام) تعني العقوبة الجسدية أي: القتل.

ت - حقل الألفاظ المرتبطة بالصِّدق

سنتناول من مجموع هذا الحقل ثلاث ألفاظ فقط هي الأكثرُ دورانًا في عهد الإمامِ (عليه السلام) على النَّحو الآتي:

1. الصِّدق

الصِّدْقُ في اللغةِ: «نَقيض الكذب. ويقال للرجل الجواد والفرس الجواد: إنه لذو مَصْدَقٍ، أي صادِقُ الحملة. وصَدَقْتَه: قلت له صِدْقاً، وكذلك من الوعيد إذا أوقعتهم قلت: صَدَقْتُهم. وهذا رجل صِدقٍ، مضاف، بمعنی نعم الرجل هو، وامرأةِ صْدقٍ،

ص: 293

وقوم صِدْقٍ»(40). وجاء في كتاب (التعریفات) أنَّ الصِّدقَ هو «مطابقة الحكم للواقع، وفي اصطلاح أهل الحقيقة: قول الحق في مواطن الهلاك، وقيل: أن تصدق في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب»(41).

ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَاِبْعَثِ اَلْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ اَلصِّدْقِ

وَاَلْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ)). (الصِّدقُ) من الألفاظ الخُلقيَّة المحمودة، وأهلُهُ جديرون بالثقة؛ لذا أوجب الإمام (عليه السَّلام) التعامل معهم حتى لو كانوا عيونًا.

2. الوفاء

جاء في (تهذيب اللغة): «ورَجُلٌل وَفِيٌّ: ذُو وَفاء. قَالَ أَبُو بكر: قَوْلهم: لَزِم الوَفاء: معنى (الْوَفَاء) فِي اللُّغَة: الخُلق الشَّريف العالي الرَّفيع من قَوْلهم: وَفی الشَّعَرُ فَهُوَ وافٍ، إِذا زَاد. قَالَ ذَلِك أَبُو العبّاس. قَالَ: وَوَفَيْت لَهُ بالعهد أَفِي، ووافَيْت أُوافِي»(47). فهو من الصفات الخُلُقيَّة المحمودة، وقد وردت في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) ألفاظ متعددة تدلُّ على الوفاء، منها قولُهُ: ((فَأَعْطِ اَللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَی اَللِّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلاً غَيْرَ مَثْلُومٍ وَلاَ مَنْقُوصٍ))، ويتقيَّدُ معنى الوفاء في النَّصِّ عند تحديد الموفي له. وفي النَّصِّ المتقدِّم يوصي الإمام (عليه السلام) الحاكم بالوفاء للهِ تعالى في العبادات البدنيَّة والرُّوحيَّة من غيرِ نقصٍ أو ثلم.

ومن الوفاء ما قد يكونُ خاصًّا بالعهود مع النَّاس، قال (عليه السلام): ((لَيْسَ مِنْ

فَرَائِضِ اَللِّهَ شَيْءٌ اَلنَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اِجْتِمَعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ

اَلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ)). فالوفاء بالعهد هو أعلى صور الوفاء؛ لذا یُعرِّفُ الفقهاء الوفاء إنَّه: ملازمةُ طريق المساواة ومحافظة العهود وحفظ مراسم المحبة والمخالطة سراً وعلانية حضوراً و غيبة(43).

ص: 294

3. الأمانة

قال ابنُ فارس: «الْهَمْزَةُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ أَصْلَانِ مُتَقَارِبَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَمَانَةُ الَّتِي هِيَ

ضِدُّ الْخِيَانَةِ، وَمَعْنَاهَا سُكُونُ الْقَلْبِ، وَالْآخَرُ التَّصْدِيقُ. وَالْمَعْنَيَانِ كَمَ قُلْنَا مُتَدَانِيَانِ. قَالَ

الْخَلِيلُ: الْأَمَنَةُ مِنَ الْأَمْنِ. وَالْأَمَانُ إِعْطَاءُ الْأَمَنَةِ. وَالْأَمَانَةُ ضِدُّ الْخِيَانَةِ. يُقَالُ: أَمِنْتُ

الرَّجُلَ أَمْنًا وَأَمَنَةً وَأَمَانًا، وَآمَنَنِي يُؤْمِنُنِي إِيمَانًا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَجُلٌ أُمَّانٌ: إِذَا كَانَ

أَمِينًا»(44). ومن الحديث النَّبويّ الشريف: ((الْأَمَانَةُ غِنًى))(45) أَيْ: هي سَبَبُ الغِنَى. ومَعْنَاهُ أَنَّ الرجُل إِذَا عُرِفَ بِهَا كَثُر مُعاملُوه فَصَارَ ذَلِكَ سبَباً لِغِنَاهُ(46).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً

أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَاِرْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ)). فالحفاظ على العهد يكونُ وفاءً، والحفاظُ على الذِّمَّةِ تكونُ أمانةً. فما أجملَ هذا التخريج الدقيق لإمامِ الفصاحةِ والبيان (علیه السلام).

ث - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصَّبر

1. الصبر

الصَّبْرُ في اللغة: نقيض الجَزَع، وهو حَبسُ النَّفْس عن الجزع. وقد صَبَر فلانٌ عند المصيبة يَصْبِرُ صَبْراً. وصَبَرْتُهُ أنا: حبسْته(47). وجاء في عهد الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو اِنْفِرَاجَهُ وَفَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَه)). فالصبرُ خيرٌ في معظمِ أحواله؛ لأنَّه يقود إلى نتائج صحيحة لا تقبل الخطأ. وقد جاء معنى الصبر في اللغة موافقا تمامًا لكلامِ الإمام (عليه السلام).

ص: 295

2. قلَّة التبرُّم

من الألفاظ الدالَّة على الصبر؛ والصبرُ نقيضُ الجزع كما تقدَّم؛ لذا التبرُّم هو من صور الجزع، قال الخليل: «وبَرِمتُ بكذا، أي: ضَجِرْتُ منه بَرَماً، ومنه: التَّبَرُّم، وأبر مني فلانٌ إبراما [أي: أَضْجَرني]»(48). ومنه في عهد الإمامِ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ اَلْخَصْمِ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَ تَكَشُّفِ اَلْأُمُورِ))، فلفظ (الأقلّ تبرُّمًا) يدلُّ على الأقلِّ ضجرًا وجزعًا، بمعنى أكثرهم صبرًا وتحمُّلًا في مراجعة الخصم وتكشُّف الأمور.

3. كسرالنفس

کسر النَّفس من الألفاظ التي تدلُّ على حبسِ النَّفسِ، أي: الصبر، قال الإمامُ (عليه السلام): ((فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ نَفْسَهُ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ)). وكسرُ النفس لا يكونُ إلّا بالصبرِ. وهو تعبيرٌ مرکَّبٌ بالإضافة للدلالة على (الصبر).

ج - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصلة:

1. الصلة

جاء في مادة (وصل) عند أهل اللغة: «وصلتُ الشيءَ وصلًا وصلًة. ووَصَلَ إليه وُصُولاً، أي بلغ... والوَصْلُ: ضدُّ الهِجرانِ... ويقال: هذا وَصْلُ هذا، أي مثله. وبينهما وُصْلَةٌ، أي اتِّصالٌ وذريعة. وكل شيء اتصل بشيء فما بينهما وُصْلَةٌ، والجمع وُصَلٌ»(49). واشتقتِ الصِّلةُ من الوَصْل، ومنها صلةُ الرَّحِم، التي تكرَّرت كثيرًا في الأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة كما يقول ابن الأثير (ت 606 ه): «قَدْ تَكَرَّرَ فِي الَحْدِيثِ ذِكر صِلَةِ الرَّحِم. وَهِيَ

كِنَايَةٌ عَنِ الإحْسان إِلَی الأقْرَبينَ، مِنْ ذَوِي النَّسَب والأصْهار، والتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، والرِّفْقِ

ص: 296

بِهِمْ، والرِّعايةِ لأحْوالِم. وَكَذَلِكَ إنْ بَعُدُوا أَوْ أسَاءوا. وَقَطْعُ الرِّحِم ضِد ذَلِكَ كُلِّه.

يُقال: وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلً وصِلَةً، وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَض مِنَ الْوَاوِ المَحْذوفة، فَكَأَنَّهُ بالإحْسان إِلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا بَينه وبَينَهم مِنْ عَلاقة القَرابة والصِّهْر»(50). فالصِّلةُ قد تكونُ بمعنى الاتصال المباشر، وقد تكونُ بمعنی بلوغ الشيء، وقد تكون بمعنی صلة الرَّحم وهو الإحسانُ إلى الأقربين والرِّفقُ بهم.

ومن ألفاظ الصِّلة في عهد الإمام (عليه السَّلام) وصيَّتُهُ بالضعفاء من المجتمع: ((وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ وَاَلتَّوَاضُعِ)). فقولُهُ: (مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمُ) بمعنى لا يستطيعُ الوصولَ إليك، أي: لا يبلغُكَ.

وقولُهُ (عليه السَّلام): ((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعْدِيدِ

مَا أَبْلَ ذَوُو اَلْبَلاَءِ مِنْهُمْ)). فقد ورد ما يرتبطُ بالصلة في قولِهِ: (وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ)، ويعني لا تتردَّدَ في تقديم الثَّناء الحسن إليهم.

2. الإخوَّة

من المعاني الأخلاقيَّة السامية، والإخوَّةُ لا تقتصرُ في النَّسب، قال الجوهري: «قَالُوا: (أَخَوَانِ) وهم (الإخْوَةُ) - إِذا كَانُوا لأبٍ - وهمُ (الإخْوَانُ) - إِذا لم يَكُونُوا لأبٍ. قلتُ:

هَذَا خطأ - الإخْوَةُ و(الإخْوَانُ) يكونونَ إخْوَةً لأبٍ، وإِخْوَةً للصَّفَاءِ... يُقَال للأصدقاءِ وَغير الأصدقاءِ: إخْوَةٌ وإخْوَانٌ. قَالَ الله جلّ وعزّ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»[الحجرات: 10] ولم يعن التسب»(51). وجاء في لسان العرب: «وَالاِسْمُ الأُخُوَّة، تَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَهُ أُخُوَّة وإِخاءٌ، وَتَقُولُ: آخَيْتُه عَلَی مِثَالِ فاعَلْته، قَالَ: ولغة طيِء وَاخَيْته. وَتَقُولُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخَائِي بِوَزْنِ أَفْعالي أَي مِنْ إِخواني. وَمَا كنتَ أَخاً وَلَقَدْ تَأَخَّيْت وآخَيْت وأَخَوْت تَأْخُو أُخُوَّة وتَآخَيا، عَلَی تفاعَلا، وتأَخَّيْت أَخاً أَي اتَّخَذْت أَخاً»(52).

ص: 297

ومن ألفاظ الإخوَّة في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً

ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ)).

فقد جاء لفظ الصلة في قوله: (أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ)، ليشير إلى معنًى إنسانيّ لم تعرف البشريَّة مثيله، ويُقدِّم المصلحة الإنسانيَّة وحقّ المواطنة للجميع، ولا سیَّما حقُّ الأقليّات الدينيَّة والعرقيَّة التي تعيش في ظل الحكم الإسلامي في عهده (عليه السلام).

3. القرابة

تُشتقُّ (القرابةُ) من مادَّةِ (قرب)، جاء في معجم (العين): «القريبُ ذو القرابة، ويجمع أقارب، وقريبة جمعها قرائب، للنساء. والقريبُ نقيض البعيد يكون تحويلاً يستوي فيه الذكر والأنثى، والفرد والجميع، هو قريب، وهي قريب، وهم قريب، وهن قریب»(53). وقال ابنُ فارس في أصلِ استعمال هذه المادة: «الْقَافُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْبُعدِ. يُقَالُ قَرُبَ يَقْرُبُ قُرْبًا. وَفُلَنٌ ذُو قَرَابَتِي، وَهُوَ مَنْ يَقْرُبُ مِنْكَ رَحِمًا. وَفُلَانٌ قَرِيبِي، وَذُو قَرَابَتِي. وَالْقُرْبَةُ وَالْقُرْبَى: الْقَرَابَةُ»(54). وروي أنَّه لما نزل قوله تعالى: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» [سورة الشورى / من الآية 123] قيل: یا رسول الله، مَنْ قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: (علي وفاطمة وابناهما)، ويدل عليه ما روي عن الإمام علي (عليه السلام): شكوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسد الناس لي. فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين (عليهم السلام)(55).

ومن سياقات هذه اللفظة في عهد الإمام (عليه السلام) قوله: «وَأَلْزِمِ اَلْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ

مِنَ اَلْقَرِيبِ وَاَلْبَعِيدِ وَكُنْ فِ ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَخَوَاصِّكَ». ف(قرابتك) هم أهلُ بيتك وخاصَّتك.

ص: 298

ح - الألفاظ الأخلاقية المرتبطة بالإعانة

1. الرِّفد والإعانة

(الرِّفْدُ) لفظةٌ تدلُّ على الإعانة بكلِّ أنواعها الماديَّة والمعنويَّة، قال الخليل: «الرِّفدُ المَعُونةُ بالعَطاء، وسَقْي اللَّبَنِ، والقول، وكل شيء. ورَفَدته بكذا، ورفَدَني أي أعانني بلسانه، وترافدوا على فلانٍ بألسنتهم إذا تناصروا»(56). وجاء في عهد الإمام (عليه السلام): ((اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَ مِنْ أَهْلِ اَلْحاجَةِ وَاَلْمسْكَنَةِ اَلَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ)). فتكرَّرت لفظتان تدلّان على الإعانة في النَّصِّ المتقدم هما: (الرِّفد، والمعونة)، والرِّفدُ ورد في القرآن الكريم بمعنى العطاء في قوله تعالى: «وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)» [سورة هود / الآية 99]. ومعناه كما ذكر الزمخشريّ: «بئس العون المعان. وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفدٌ للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى»(57).

2. الرِّعاية

تكادُ تكون معظم مشتقات الفعل (رعی) تشتملُ معنى تشتملُ معنى الحِفْظِ والرِّفْقِ وتَخْفِيفِ

الكُلَفِ والأَثْقالِ عن المَرْعي، ومنها لفظةُ (المُراعاة) التي تعني المحافَظة والإِبْقاء عَلَی الشيءِ. والإِرْعَاء: هو الإِبْقاء، والرَّعِيَّةُ: كُلُّ مَنْ شَمِلَه حِفْظُ الرَّاعِي ونَظَرهُ. والرَّاعِي هُنَا: عَيْرُ الْقَوْمِ عَلَی العدوِّ، مِنَ الرِّعايَةِ والحِفْظِ(58). ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((فَإِنَّ لِلْأَقْصَی مِنْهُمْ مِثْلَ اَلَّذِي لِلْأَدْنَى وَكُلٌّ قَدِ اِسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ)).

ص: 299

ثانيًا: ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)

قُسِّمت الألفاظ الواردة في هذا القسم إلى ستة حقول هي: (الخديعة، التعالي، الظلم، الخصومة، التحقير، البخل) على التوالي. وقد تصدَّرت ألفاظ الخديعة حقول ألفاظ الأخلاق المذمومة؛ إذ وصلت إلى أربع عشرة لفظة. وقد كان مجموع ألفاظ هذا القسم أكثر من نظيره الألفاظ المحمودة)؛ ولعلَّ السبب في ذلك هو أنَّ الطابع العام العهد الإمام (عليه السلام) هو التحذيرُ والتنبيهُ من مغبة الوقوع في المذمومِ من الأفعال والأخلاق. ويمكنُ ملاحظة حجم تفاوت هذه الألفاظ في الجدول أدناه، وبعد ذلك سنتناولها تفصيلًا.

ت - ألفاظ الخديعة - ألفاظ التعالي - ألفاظ الظلم - ألفاظ الخصومة - ألفاظ التحقير - ألفاظ البخل

1 - الغش - التبجح - الظلم - الخصومة - التحقير - البخل

2 - الخيانة - الغرور - الجور - الحقد - التعيير - الشح

3 - الختل - حميَّة الأنف - الحيف - الشنآن - السخط - الحرص

4 - خيس العهد - المَنْ - قلة الإنصاف - الكره - المذلة

5 - الغدر - الإعجاب - سطوة اليد - التمحك - الضيق

6 - التغافل - نخوة - سورة الحد - العنف

7 - التصنُّع - تصعُّر الخد - إفراط السوط - الغائلة

8 - الإدغال - البطر - سفك الدماء - الاغتيال

9 - الكيد - الإغراء - قتل العمد

10 - التزيّد - التمادي - الاستئثار

11 - ثلم الأمانة - الزهو

12 - التشبه - الإطراء

13 - الخداع

14 - المدالسة

ص: 300

خ - حقول الألفاظ المتعلقة بالخديعة

هي أكثر ألفاظ الحقول تكرارًا في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، ولسعة هذه الألفاظ سنقتصر في تناول عددٍ منها على النَّحو الآتي:

1. الغش

الغش يرتبطُ بالخديعةِ وعدم النصح، قال الزَّبيديّ: «غشَّهُ يغشُّه غِشًّا: لم يمحضه النصح، وَأظْهر لَهُ خلاف مَا أضمره، وَهُوَ بِعَيْنِه عدم الإمحاض فِي النَّصِيحَة»(59). ومنه في قولِ الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ اَلسَّاعِيَ غَاشٌّ وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ)).

2. الخيانة

مشتقَّةٌ من الجذر (خون)، جاء في الصحاح: «خانَهُ في كذا يَونُه خَوْناً وخِيانَةً ومَخانَةً، واخْتانَهُ. قال الله تعالى: «تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ» [سورة البقرة / من الآية 187]، أي: يخونُ بعضُكم بعضاً. ورجل خائِنٌ وخائِنَةٌ أيضاً، والهاء للمبالغة مثل علاّمة ونسّابة»(60). وهو من الأفعال الخلقيَّة المذمومة؛ لذا ورد النَّهيُ عنه فِي الحَدِيث النَّبويّ الشريف في قوله (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم): ((المؤْمِنُ يُطْبَعُ عَلَ كُلِّ خُلُقٍ.. إلاَّ الخِيَانَةَ والكَذِبَ))(61).

ومنه قولُ الإمام (عليه السلام): ((فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَ خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا

عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً)). الخيانةُ من الأفعال الخلقية المذمومة التي حذَّر منها الإمام (عليه السلام).

3. الخَتْل:

من ألفاظ المكر والخديعة، والخَتْل: تخادع عن غفلة(62). ولا يشاركُ هذا اللفظ معنى آخر غير معنى الخديعة، قال ابنِ فارس: «الْخَاءُ وَالتَّاءُ وَاللَّمُ أُصَيْلٌ فِيهِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ،

وَهِيَ الْخَتْلُ، قَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْخَدْعُ. وَكَانَ الْخَلِيلُ يَقُولُ: تَخَاتَلَ عَنْ غَفْلَةٍ»(63). وقد ذكره

ص: 301

الإمام (عليه السلام) في قولِهِ: ((فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَلاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَ اَللِّهَ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ)). ففي النَّصِّ المتقدم وردت ثلاث ألفاظ ألفاظ الخيانة، هي: (الغدر، وخسيس العهد، والخَتْل).

4. التصنُّع

من الألفاظ التي ترتبطُ بالخداع، وإظهار خلاف الواقع، يقول الأزهريّ: «وَفرس

مُصَانِع، وَهُوَ الَّذِي لَا يعطيك جَمِيع مَا عِنْده من السّير، لَهُ صون يصونه فَهُوَ يصانعك

ببذله سَيْرَه... وَقَالَ اللَّيْث: التصنُّع: تكلّف حُسْن السَّمْت وإظهاره والتزيُّن بِهِ وَالْبَاطِن

مَدْخُول»(64). ومن سياقات استعماله في عهد الإمام (عليه السلام) قولُهُ: ((لاَ يَكُنِ

اِخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَ فِرَاسَتِكَ وَاِسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ فَإِنَّ اَلرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ

يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَحُسْنِ حَدِيثِهِمْ)). فالإمام يُحذِّرُ من اختيار الكُتَّاب اعتمادًا على الفراسة والشعور بالاطمئنان، فالتَّصنُّع وإخفاء الحقيقة بابٌ واسعٌ يمكنُ أن و يدخلَ منه ذوو الأخلاق المذمومة.

د - حقل الألفاظ المرتبطة بالتعالي

1. التَّبَجُّح

دو لله التبجح في اللغة يعني العظمة والافتخار، يُقَالُ فُلَانٌ يَتَبَجَّحُ بِكَذَا أَيْ يتَعظَّم وَيَفْتَخِرُ.

وبَجَّحَني فَبَجَحْتُ أَي فَرَّحَني فَفرِحْت، وَقِيلَ: عَظَّمني فعَظُمَتْ نَفْسِ عِنْدِي. وَرَجُلٌ

باجٍحٌ: عَظِيمٌ مِنْ قومٍ بُجَّحٍ وبُجْحٍ. وتَبَجَّحَ بِهِ: فَخَرَ. وَفُلَنٌ يَتَبَجَّحُ عَلَيْنَا ويَتَمَجَّحُ إِذا

كَانَ يَهْذي بِهِ إِعجاباً، وَكَذَلِكَ إِذا تَمَزَّحَ بِهِ. وفُلَنٌ يَتَبَجَّحُ ويَتَمَجَّح أَي يَفْتَخِرُ وَيُبَاهِي

بشيءٍ مَا، وَقِيلَ: يَتَعَظَّمُ(65). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی

عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً(65). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً)). فالتبجح

ص: 302

بالعقوبة من الأفعال غير المحمودة؛ لأنَّها تُشعرُ بالغرور والكبرياء.

2. حميَّة الأنف

من الألفاظ المركبة التي وظَّفها الإمام (عليه السلام) خيرَ توظيف في قولِهِ: ((اِمْلِكْ

حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَسَوْرَةَ حَدِّكَ وَسَطْوَةَ يَدِكَ وَغَرْبَ لِسَانِكَ واِحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ

اَلْبَادِرَةِ وَتَأْخِيرِ اَلسَّطْوَةِ)). وحميَّةُ الأنف كما جاء في معجم العين: «وحَمِيتُ من هذا الشّيء أَحْمَى منه حَمِيَّةً، أي: أَنِفْتُ أَنَفاً وغضباً. ومشى في حَمِيَّتِهِ أي: في حَمْلَتِهِ. وإنّه لَرجلٌ حَمِيٌّ: لا يَحْتمِلُ الضَّيْمَ، ومنه يُقال: حَمِيّ الأَنْفِ. قال:

متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارماً *** وأنفاً حَمِيّاً تَجتنْبكَ المظالم(66)

فهي لفظةٌ تدلُّ على التعالي والغرور بغضب، وقولُهُ: (املك حميَّة أنفك)، أي: لا تجعل التعالي المشوب بالغضب متحكِّمًا بقراراتك وأحكامك.

1. النَّخوة

لفظةٌ تدلُّ على الزَّهو والعظمة، يُقَال: فلانٌ يتشاوَسُ فِي نظره، إذا نظَرَ نظَرَ ذِي نَخْوَةٍ وكِبْر(67). وقال الزمخشريّ: «ونخي فلان، وهو منخو: مزهو. وانتخى من كذا: استنكف منه»(68). ومن سياقات استعمالها في عهد الإمام (عليه السلام): ((فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَ أَوْلِيَاءِ اَلْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ)). ف-(نخوةُ السلطان) زهوه وعظمته.

2. تصعُّرالخد

من الألفاظ القرآنيَّة التي تدلُّ على التعالي والكبر، قال الخليل: «والتَّصعير إمالة الخدّ النظر إلى الناس تهاوناً من كِبْر وعظمة»(69). ومن استعماله في القرآن الكريم قولُهُ تعالى: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» [سورة لقمان / من الآية 18]. والصعر في أصل استعماله داءٌ يُصيبُ البعير يلوى منه عنقه. ثمَّ استعمل للدلالة على الكبر، ومعناه في

ص: 303

النّص القرآني: أقبل على الناس بوجهك تواضعًا، ولا تولّهم شقَّ وجهك وصفحته، كما يفعل المتكبرون(70).

ومنه في عهد الإمام (علیه السلام) قولُهُ: ((فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ

لَهُمْ)) فالإمام (علیه السلام) ينهى عَنِ احْتِقَارِ النَّاسَ وَعَنِ التَّفَخُّرِ عَلَيْهِمْ، باقتباسٍ قرآنيٍّ يدلُّ على عمق فصاحته، ومعرفته بالقرآن الكريم.

ذ - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالظلم

1. الظلم

ذكرَ الإمامُ (عليه السلام) كثيرًا من مظاهر الظلم ووجوهه في عهده إلى مالك الأشتر؛ وذلك لأنَّه قد تضمَّن مفاهيم عدليَّة كثيرة جمعت بين النقيضين العدل والظلم، والظلمُ مشتق من ظَلَمَهُ یَظْلِمُهُ ظُلْماً ومَظْلِمَةً. وأصله وضع الشيء في غير موضعه(71). ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((وَأَنْصِفِ اَلنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إلِا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اَلله كَانَ اَلله خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)). الظالم خصمه الله سبحانه وتعالى قبل أن يكون المظلوم هذا ما يراه الإمام (عليه السلام) بتكراره لفظة (الظلم) في موضعين.

وقد يكون التعبير عن لفظة (الظلم) بالظلامة أو المظلمة كما جاء في قولِهِ: ((فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ اَلنَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ اَلنَّاسِ إِلَيْكَ مَا مِمَّا لاَ مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِ مُعَامَلَةٍ)). والمظلمةُ هي مَا تَطْلُبُهُ مِنْ مَظْلَمَتِكَ عِنْدَ الظَّالِمِ.

ص: 304

2. الجور

كان من من ألفاظ الظلم الصريحة، وهو: «نقيض العدل. وقومٌ جارةٌ وجَورَة، أي: ظَلَمَة»(72). وهناك فرقٌ بين الجور والظلم أشار إليه بالتفصيل أبو هلال العسكريّ قائلًا: «أن الجور خلاف الاستقامة في الحكم، وفي السيرة السلطانية تقول جار الحاكم في حكمه والسلطان في سيرته إذا فارق الاستقامة في ذلك، والظلم ضرر لا يستحق ولا يعقب عوضا سواء سلطان أو حاكم أو غيرهما ألا ترى أن خيانة الدانق والدرهم تسمى ظلما ولا تسمى جورا فإن أخذ ذلك على وجه القهر أو الميل سمي جورا وهذا واضح، وأصل الظلم نقصان الحق، والجور العدول عن الحق من قولنا جار عن الطريق إذا عدل عنه وخلف بين النقيضين فقيل في نقيض الظلم الانصاف وهو إعطاء الحق على التمام، وفي نقیض الجور العدل وهو العدول بالفعل إلى الحق»(73).

ومنه في عهد الإمام (عليه السلام): ((ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً

اِخْتِبَاراً وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَ جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَاَلْخِيَانَةِ)). من شعب الجور: من نواحي الظلم؛ وذلك إن كان اختيار العُمَّال مُحاباةً.

3. الحَيْف

الحَيْفُ مأخوذٌ من الفعل: حاف یَحیِفُ حَيْفاً، ومعناه: المَيْلُ في الحُكْم(74). وذكر الخليل في حديثه عن مادة (جنف) أنَّ الحَيفَ من الحاكِم خاصَّةً(75)، وهذا ما خطَّأه الأزهريّ في قوله: «قلت: أمَّا قَوْله الحَيْفُ من الْحَاكِم خاصَّة، فَهُوَ خطأ، والحَيْفُ يكون مِن كل مَنْ حاف، أَي جارَ»(76). ولأنَّه قد ارتبط بالظلم، فلا فرق في أن يكون مختصًّا بالحاكم أو و و غيره.

و ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَإِنْ ظَنَّتِ اَلرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ

لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاِعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ)). أي: إن اعتقدوا بظلمك لهم في مسألةٍ ما، فعليك بإظهار العُذر.

ص: 305

ر - حقل الألفاظ المتعلقة بالخصومة

1. الخصومة

الخصوم: جمعُ خصم، ويقع الخصم للواحد المذكر والمؤنث، والاثنين والجميع. وقد ارتبط بالعداوة والبغضاء، قال الخليل: «الخَصْم: واحد وجميعٌ، قال الله عز وجل: «وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ» [سورة ص / آية 21] فجعله جمعاً؛ لأنه بالمصدر. وخَصيمُك: الذي يُخاصِمكَ، وجمعه: خُصَماء. والخُصومةُ: الاسم من التَّخاصُم والاختصام. يقال: اختصم القوم وتخاصموا، وخاصم فلان فلاناً، مُخَاصَمَةً وخِصاماً»(77). ومنه قولُهُ (عليه السلام): ((ثُمَّ اِخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اَلْأُمُورُ وَلاَ تُمَحِّكُهُ اَلْخُصُومُ)). وتُمحِّكه الخصوم: تُلجْلجه، والمَحْك: اللَّجاج، وقولُ الإمام (عليه السلام) المذكور آنفًا ممَّا ذكره اللغويون في معاجمهم في مادة (محك)(78).

2. الحقد

من ألفاظ الخصومة المذمومة، والفِعلُ منه مأخوذٌ من حَقَدَ يَحقِدُ حَقْداً، وهو إمساكُ العَداوة في القلب والتَرَبُّصُ بفُرصتها(79). ومنه قولُ الإمام عليّ (عليه السلام): ((أَطْلِقْ عَنِ اَلنَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَاِقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر)). فالعمل على حلِّ مشاكل الرَّعيَّة يُساعدُ على قطع كلِّ أسباب الحقد على الوالي.

3. الشنآن

لفظٌ يدلُّ على الكراهية والبُغض، جاء في (العين): «وشنيء يشنأ شنأةً وشناناً، أي: أبغض. ورجلٌ شناءةٌ وشنائيةٌ، بوزن فعالة وفعاليةٍ: أي: مُبغضٌ، سيءُ الخُلقِ»(80). وقد أشار الإمامُ (عليه السلام) إلى مَنْ يكون أبغض النَّاس عند الوالي، قال: ((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ اَلنَّاسِ)). فأشنأهم: أبغضهم. وهو مَنْ يطلبُ معايبَ النَّاسِ.

ص: 306

ز - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالتحقير

1. التحقير

التحقير هو التصغير، والحَقْرُ في كلّ المعاني: الذِلَّةُ. والفعلُ منه: حَقَرَ يَحْقِرُ حقرًا وحقرية. وتَحقيرُ الكلمة: تَصغيرُها(81). وقال الجوهري: «الحَقيرُ: الصغير الذليل. تقول حَقُرَ بالضم حَقَارَةً. وحَقَرَه، واحْتَقَرَهُ، واستحقره: استصغره. وتَحاقَرَتْ إليه نفسُه: تصاغرت. والتحقيرُ: التصغير»(82).

ومنه قولُ الإمام علي (عليه السلام): ((وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ

تَقْتَحِمُهُ اَلْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ اَلرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ اَلْخَشْيَةِ)). وتحقرة الرِّجال: تستصغره.

2. التعبير

العار لفظُ تحقيرٍ ومذلَّة، قال الخليلُ: «والعارُ: كلّ شيء لزم به سُبّة أو عَيْب. تقول: هو عليه عارٌ وشَنارٌ، والفعل: التّعيير»(83). ومنه قول الإمام (عليه السلام): ((وَتَحَفَّظْ مِنَ الَأْعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَی خِياَنَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْباَرُ عُيوُنِكَ اِكْتَفَيْتَ

بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ

اَلْمَذَلَّةِ وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَقَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ)). ف(عارُ التّهمة)، وقبله: (المذلَّة) و(سمة الخيانة) كلَّها ألفاظٌ تدلُّ على تحقيرٍ وإهانةٍ.

ص: 307

س - حقل الألفاظ المتعلّقة بالبخل

1. البخل

البخل ضدُّ الكرم، وهو من الصفات الخلقيَّة السيّئة، وفيه لغات، قال ابن سيدة: «البُخْل، والبَخَلُ، والبَخْل، والبُخول: ضد الْكَرم. وَقد بَخِلَ بُخْلا وبَخَلاً، فَهُوَ باخل، وَالْجمع: بُخّال، وبَخيل، والْجمع: بُخلاء. وَرجل بَخَلٌ، وُصِف بِالْمَصْدَرِ، عَن أبي العَمَيثل الْأَعرَابِي، وكَذَلِكَ: بَخّال، ومُبَخَّلٌ. وبَخَّله: رَمَاه بالبُخل. وأبخله: وجَده بَخيلا»(84).

ومنه في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) قولُهُ: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ

بِكَ عَنِ اَلْفَضْلِ وَيَعِدُكَ اَلْفَقْرَ)). فالإمام (عليه السلام) يُشيرُ إلى خطورة التعامل مع البخيل؛ إذ إنَّه قد يبعدك عن أداء الفضل على الآخرين، وفوق ذاك يكونُ واعدًا لك بالفقر.

2. الشُّحَّ

لفظٌ ارتبط بالمنع سواء أكان إيجابًا أو سلبًا، قال ابنُ فارس: «الشِّينُ وَالْحَاءُ، الْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ، ثُمَّ يَكُونُ مَنْعًا مَعَ حِرْصٍ. مِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ، وَهُوَ الْبُخْلُ مَعَ حِرْصٍ. وَيُقَالُ تَشَاحَّ الرَّجُلَانِ عَلَی الْأَمْرِ، إِذَا أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَوْزَ بِهِ وَمَنَعَهُ مِنْ صَاحِبِهِ»(85).

وقد استعمله الإمام (عليه السلام) بمعنى المنع بقوله: ((فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ

عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ اَلشُّحَّ بِالنَّفْسِ اَلْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَ أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ)). فالشُّحّ بالنَّفس يعني منعها ممَّا لا يحلُّه الله لها، ويُعدُّ الشُّحّ عليها بابًا لإنصافها من الوقوع في الرذائل.

ص: 308

نتائج البحث

1. هناك علاقةٌ طبيعيَّةٌ دلاليَّةٌ بين معنى الطبيعة والأخلاق، فالإنسانُ في سجيَّتِهِ يحملُ صفاتٍ خُلُقيَّةً قد تكونُ حسنةً، وقد تكون سيِّئةً.

2. لم تعرف الدراسات اللغوية العربية الحديثة مصطلح (الحقل الدلالي) إلاَّ بعد اطلاعها على الدراسات اللغوية الغربية؛ لذا كانت التعاريف المتناثرة في تلك الدراسات متماثلة ومتشابهة ومترجمة، على الرغم من أنَّ الدراسة العربية قد عرفت الحقول الدلالية تطبيقاً وإجراءً في أكثر من مصدر وعبر قرون متعاقبة. ويُعدُّ أبو منصور الثعالبيّ من اللغويين العرب الذين حاولوا قديمًا تصنيف كلمات اللغة على وفق حقول دلالية معيَّنة في كتابه: (فقه اللغة وسرّ العربيَّة)؛ إذ أورده على شكل حقول دلاليَّة خاصة بالحيوانات، والنباتات، والشجر، والأمكنة، وغير ذلك من أسماء الموجودات، والصفات، والأشياء.

3. زخر عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر بألفاظ ارتبطت بالخلق والأخلاق ممَّا لا يُحصى؛ وذلك لكونه وثيقة أخلاقيَّة تُخاطبُ الرَّاعي والرَّعيَّة معًا، وترسمُ طريقا ناجحًا لإدارةِ الدَّولة على وفق أُسسٍ ومبادئ إسلاميَّة تؤثر في حياة الفرد والمجتمع.

4. قد عبَّر الإمام (عليه السلام) عن كثيرٍ من الألفاظ الخلقيَّة بعبارات وتراكيب، وهذا أسلوبٌ فريدٌ لا يملكه إلّا من يملك ناصية البلاغة والبيان، كيف لا وكلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين. وكان للسياق في حصر دلالة هذه الألفاظ دورٌ مهمٌّ.

5. تباينت ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) التي انتظمت في حقول دلاليَّة، وارتبطت دلاليًّا تحت لفظٍ عامٍّ يجمعها إلى ستة حقول، تمثلت بألفاظ:

ص: 309

(اللين، العدل، الصدق، الصبر، الصلة، الإعانة).

6. يُعدُّ الإمامُ عليّ (عليه السلام) صوت العدالة الإنسانيَّة؛ لذا لا غرابةَ أن تتكرَّر مرادفات لفظة (العدل) بكثرة في عهده (عليه السلام).

7. ربما يكونُ اقترابُ لفظ (الأوسط) من معنى العدل جاء بسبب شيوع قاعدة أنَّ أَوْسَطَ الشَّيْءِ أَفْضَلُه، أو من وصف العرب للفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه.

8. وردت بعض الألفاظ قليلة الاستعمال، وغريبة اللفظ من مثل: (قود البدن، وحميَّة الأنف، والختل، وكسر النفس، وخيس العهد، وسطوة اليد)، و(قود البدن) مثلًا الألفاظ التي تحملُ معنى العدل کما ذکر شُرَّاح نهج البلاغة، وقد ورد معنى الجزء الأول من (قود البدن) في معاجم اللغة؛ وفيه معنى القصاص وتحقيق العدالة للمقتول. وهذا ما كان الجوهري فيه أكثر وضوحًا، ولكنَّ إضافة (قود) إلى (البدن) من في قولِ الإمام (عليه السَّلام) جاء بمعنى العقوبة الجسدية لا غير أي: القتل.

9. جاء لفظ الصلة في قوله: (أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ)، ليشير إلى معنًى إنسانيّ لم تعرف البشريَّة مثيله، ويُقدِّم المصلحة الإنسانيَّة وحقّ المواطنة للجميع، ولا سيَّما حقُّ الأقليّات الدينيَّة والعرقيَّة التي تعيش في ظل الحكم الإسلامي في عهده (عليه السلام).

10. قُسِّمت الحقول الدلاليَّة لألفاظ الأخلاق في عهد الإمام (عليه السلام) على قسمين: محمودة ومذمومة. وكان عددُ الألفاظ المذمومة أكثر من نظيرتها المحمودة. ولعلَّ السبب في ذلك هو أنَّ الطابع العام لعهد الإمام (عليه السلام) هو التحذيرُ والتنبيهُ من مغبة الوقوع في المذمومِ من الأفعال والأخلاق.

11. قُسِّمت ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى ستة حقول هي: (الخديعة، التعالي، الظلم، الخصومة، التحقير، البخل) على التوالي. وقد تصدَّرت ألفاظ الخديعة حقول ألفاظ الأخلاق المذمومة؛ إذ وصلت إلى أربع عشرة لفظة.

ص: 310

المصادر والمراجع

1. - القرآن الكريم

2. إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة - بيروت (د.ت).

3. أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفي: 538 ه)، تحقیق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م.

4. تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 ه)، المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية

5. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، المحقق: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1403 ه - 1983 م.

6. التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية (إعادة صف للطبعة القديمة في باكستان 1407 ه - 1986 م)، الطبعة: الأولى، 1424 ه - 2003 م.

7. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه)، المحقق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 2001 م.

8. الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي.

9. دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمان، ترجمه وقدَّم له وعلق عليه: د. کمال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة (د.ت).

ص: 311

10. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 ه - 1987 م.

11. صحيح البخاري، للبخاري (ت 256 ه)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / 1401 - 1981 م.

12. علم الدلالة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط 5 / 1998 م.

13. علم الدلالة، جون لاينز، ترجمة: مجيد الماشطة، كلية الآداب، جامعة البصرة، مطبعة الجامعة / 1980 م.

14. علم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، منقور عبد الجليل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2001 م.

15. علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، د. هادي نهر، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1 / 2007 م.

16. علم اللغة العام، دي سوسير، ترجمة: يوئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية، بغداد، 1985 م.

17. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 ه)، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

18. فقه اللغة العربية: د. كاصد ياسر الزيدي، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل / 1407 ه - 1987 م.

19. فكر الإمام علي (عليه السلام) كما يبدو في نهج البلاغة، د. جليل منصور العريّض، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1 / 2014 م.

20. فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي (ت 1031 ه)، تحقيق: تصحيح أحمد

ص: 312

عبد السلام، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة : الأولى / 1415 - 1994 م.

21. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة:

الثالثة / 1407 ه.

22. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 ه.

23. لطائف الإشارات، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي:

465 ه)، المحقق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر ، الطبعة: الثالثة (د.ت).

24. ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد تحقيق: د. أحمد محمد سليمان أبو رعد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1 / 1988 م.

25. المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي [ت:

458 ه)، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه - 2000 م.

26. مدخل إلى علم الأخلاق، شفيق جرادي، ط 1، دار المعارف الحكمية، بيروت، 2014 م - 1435 ه.

27. مستدرك الوسائل، میرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، بیروت، لبنان، ط 2 / 1408 - 1988 م.

28. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفي: نحو 770ه) المكتبة العلمية - بيروت (د.ط).

ص: 313

29. معاجم الموضوعات في ضوء علم اللغة الحديث، محمود سليمان یاقوت، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية / 1994 م.

30. معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفي: 311 ه)، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 ه - 1988 م.

31. معجم الفروق اللغويَّة، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، المحقق: الشيخ بيت الله بیات، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب«قم»، ط 1، 1412 ه.

32. مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر / 1399 ه - 1979 م.

33. المنطق، محمد رضا المظفر، ط 3، دار التعارف، بیروت، 1990 م.

34. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تصحیح و تعلیق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

35. النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 ه - 1979 م.

36. نهاية المرام في علم الكلام، الحسن بن يوسف الحليّ، تحقيق: فاضل العرفان، الطبعة الأولى، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، 1429، (د.ط).

ص: 314

الهوامش

1. العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري (المتوفى: 170 ه)، المحقق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال: 4 / 151.

2. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر بيروت، الطبعة الثالثة - 1414 ه: 10 / 87.

3. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفى: 816 ه)، المحقق: ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1403ه - 1983 م: 101.

4. ينظر التعريفات: 101.

5. ينظر مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ط 2 / 1408 - 1988 م: 11 / 193.

6. إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المعرفة - بيروت (د.ت): 3 / 53.

7. نهاية المرام في علم الكلام، الحسن بن يوسف الحليّ، تحقيق: فاضل العرفان، الطبعة الأولى، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، 1429 ه (د.ط): 2 / 273.

8. المنطق، محمد رضا المظفر، ط 3، دار التعارف، بيروت، 1990 م: 344.

9. ينظر: مدخل الى علم الأخلاق، شفيق جرادي، ط 1، دار المعارف الحكمية، بيروت، 2014 م - 1435 ه: 12.

10. ينظر فكر الإمام علي (عليه السلام) كما يبدو في نهج البلاغة، د. جليل منصور العريّض، دار المحجة البيضاء، بيروت، ط 1 / 2014 م: 431.

11. ينظر الخطاب القرآني دراسة في البعد التداولي: 25.

ص: 315

12. ينظر في نشأة النظرية: علم الدلالة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط 5 / 1998 م: 79، وعلم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، د. هادي نهر، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1 / 2007 م: 563. وعلم الدلالة أصوله ومباحثه في التراث العربي، منقور عبد الجليل، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق / 2001 م: 79.

13. ينظر علم الدلالة، أحمد مختار عمر: 79.

14. علم الدلالة، جون لاينز، ترجمة: مجيد الماشطة، كلية الآداب، جامعة البصرة، مطبعة الجامعة / 1980 م: 22.

15. علم اللغة العام، دي سوسير، ترجمة: يوئيل يوسف عزیز، دار آفاق عربية، بغداد، 1985 م: 9.

16. المصدر نفسه: 80.

17. معاجم الموضوعات في ضوء علم اللغة الحديث، محمود سليمان یاقوت، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية / 1994 م: 315.

18. دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمان، ترجمه وقدَّم له وعلق عليه: د. کال بشر، مكتبة الشباب، القاهرة (د.ت): 97.

19. فقه اللغة العربية: د. کاصد یاسر الزيدي، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل / 1407 ه - 1987 م: 168.

20. ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد تحقيق: د. أحمد محمد سليمان أبو رعد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1 / 1988 م: 47.

21. علم الدلالة، د. أحمد مختار عمر: 99.

22. المصدر نفسه: 101.

ص: 316

23. ينظر العين: 3 / 229، والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعیل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفي: 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الرابعة 1407 ه - 1987 م: 5 / 1929.

24. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة: 2 / 621.

25. العين: 7 / 429.

26. ينظر معجم الفروق اللغويَّة، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، المحقق: الشيخ بیت الله بیات، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ب «قم»، ط 1، 1412 ه: 465.

27. العين: 8 / 100.

28. معجم الفروق اللغوية: 143.

29. ينظر معجم الفروق اللغوية: 362، ولطائف الإشارات، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي: 465 ه)، المحقق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، الطبعة: الثالثة (د.ت): 2 / 601.

30. العين: 5 / 149.

31. مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (المتوفي: 395 ه)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر / 1399 ه - 1979 م: 2 / 418. وينظر الحديث في صحيح البخاري، للبخاري (ت 256 ه)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / 1401 / 1981 م: 7 / 80.

32. العين: 2 / 38.

33. العين: 7 / 133.

34. ينظر لسان العرب: 7 / 430، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن

ص: 317

محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770 ه) المكتبة العلمية بيروت (د.ط): 2 / 658، وتاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205 ه)، المحقق: مجموعة من المحققين، دار الهداية: 20 / 175.

35. معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311 ه)، عالم الكتب - بيروت، الطبعة الأولى 1408 ه - 1988 م: 1 / 219.

36. العين: 4 / 11.

37. مقاييس اللغة: 3 / 111.

38. العين: 5 / 197.

39. الصحاح: 2 / 528.

40. العين: 5 / 56.

41. التعريفات: 132.

42. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370 ه)، المحقق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 2001 م: 15 / 419.

43. التعريفات الفقهية، محمد عميم الإحسان المجددي البركتي، دار الكتب العلمية (إعادة صف للطبعة القديمة في باكستان 1407 ه - 1986 م)، الطبعة: الأولى، 1424 ه - 2003 م: 238.

44. مقاييس اللغة: 1 / 134.

45. ينظر الحديث في فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي (ت 1031 ه)، تحقيق: تصحيح أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة : الأولى / 1415 - 1994 م: 3 / 237.

ص: 318

46. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 ه - 1979 م: 1 / 71.

47. ينظر العين: 7 / 115، والصحاح: 2 / 706.

48. العين: 8 / 272.

49. الصحاح: 5 / 1842 - 1843.

50. النهاية في غريب الحديث والأثر: 5 / 191 - 192.

51. تهذيب اللغة: 7 / 254.

52. لسان العرب: 14 / 22.

53. العين: 5 / 154.

54. مقاییس اللغة: 5 / 80.

55. ينظر تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزیل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة / 1407 ه: 4 / 219 - 220.

56. العين: 8 / 25.

57. ينظر الكشاف: 2 / 426.

58. ينظر لسان العرب: 14 / 329.

59. تاج العروس: 17 / 289.

60. الصحاح: 5 / 2109.

ص: 319

61. ينظر فيض القدير: 5 / 25. ورواية الحديث فيه هي: ((كل خلة يطبع عليها المؤمن... إلا الخيانة والكذب)).

62. العين: 4 / 238.

63. مقاییس اللغة: 2 / 245.

64. تهذيب اللغة: 2 / 24.

65. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 96، ولسان العرب: 2 / 406.

66. العين: 3 / 318.

67. ينظر تهذيب اللغة: 11 / 266.

68. أساس البلاغة، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفي: 538 ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م: 2 / 258.

69. العين: 1 / 298.

70. الكشاف: 3 / 497.

71. الصحاح: 5 / 1977.

72. العين: 6 / 176.

73. معجم الفروق اللغوية: 172.

74. العين: 3 / 307.

75. العين: 6 / 143.

76. تهذيب اللغة: 11 / 77.

77. العين: 4 / 191.

78. ينظر النهاية في غريب الحديث والأثر: 4 / 303، ولسان العرب: 10 / 486.

79. ينظر العين: 3 / 40.

ص: 320

80. العين: 6 / 287.

81. ينظر العين: 3 / 43.

82. الصحاح: 2 / 635.

83. العين: 2 / 239.

84. المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي [ت: 458 ه، المحقق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 ه - 2000 م: 5 / م: 5 / 210 - 211.

85. مقاييس اللغة: 3 / 178.

ص: 321

ص: 322

ظواهر اسلوبية في عهد أمير المؤمنين علي (علیه السلام) الی مالك الاشتر (رضي الله عنه)

اشارة

م.د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - ميسان

ص: 323

ص: 324

ملخص البحث

تحاول هذه القراءة رصد البنى المهيمنة في أعظم وثيقة إدارية في التاريخ، وتتمثل في عهد الامام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)، في ضوء الرؤية الأسلوبية التي تركز على الحدث اللغوي المهيمن، ومن أهم هذه الظواهر: التراكم الكمي لفعل الأمر، وصيغة النهي وأفعل التفضيل والبنية الاستعارية، وهي مما يتلاءم وأدب الوصايا، وختمت هذه القراءة بأهم النتائج التي توصل اليها الباحث.

ص: 325

مقدمة

كثيرا ما دأبت البحوث والدراسات الاسلوبية على تسويد الصفحات بجوانب تنظيرية تتعلق بمعنى الاسلوب والاسلوبية ومناهجها وعلاقتها بالعلوم الاخرى، والحديث عن ركائزها الثلاثة، ولذا فقد نأت هذه القراءة عن الجوانب التنظيرية لهذه المقدمات، بل انصبت الدراسة على الظواهر الثلاثة (اسلوبي الامر والنهي، تكثيف صيغة التفضيل، البنى الاستعارية)، بشيء من التفصيل فيما يتعلق بالدلالة وتطبيق ذلك على نصوص العهد العلوي.

ويرى الباحثون في الدراسة الاسلوبية أنها ((نوع من الحوار الدائم بين القارئ والكاتب من خلال نص معين. ويتم هذا الحوار على مستويات أربعة : النص والجملة واللفظة والصوت))(1)، ومع الاختلاف في تعريف الاسلوب الا أن بعض الدراسين يحدده بأنه (الاسلوب مجموعة التكرارات والمفارقات الخاصة بنص من النصوص)(2)، في الوقت الذي تختلف فيه تعريفات الاسلوبية من باحث الى آخر، في ضوء ركائزها الثلاث (المنشئ، والنص، والمتلقي)، فانه يمكن ان تلخص بأنها ((تحليل لغوي موضوعه الاسلوب وشرطه الموضوعية وركيزته الالسنية))(3)

أما النص فقد مثّل كتاب الامام علي (عليه السلام) الى الاشتر دستورا متكاملا لولاة العهد في ادارة البلاد والعباد، بحيث يقنن لقواعد الادارة والسياسة، وما يلفت الانتباه فيه هو التدرج والتكامل في هذا العهد بحيث يتناول كل زوايا المجتمع وطبقاته، ولو طبق هذا العهد من قبل الساسة لساربهم الى الهدى وحملهم على الصراط المستقيم.

ولما كانت الاسلوبية تؤكد على ان على ان الاستخدام اللغوي المهيمن هو الحدث الاسلوبي(4)، فإننا سنركز على الاستخدام اللغوي المهيمن الذي يطبع النص، وتتركز وظيفة الاسلوبية في تحقيق عناصر الامتاع والاقناع والاثارة والتأثير.

ص: 326

وستحاول هذه القراءة الموجزة في عهد الاشتر ان نسلط الضوء على بعض الظواهر الاسلوبية المهيمنة على النص، وهي: اساليب الطلب وصيغة التفضيل والبنية الاستعارية.

رصدت هذه القراءة لعهد امير المؤمنين (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه) أهم الظواهر الأسلوبية، التي تمثلت في أسلوبي الطلب في المبحث الاول: الأمر والنهي بتلويناتها المختلفة من خلال الاحصاء لتكرار هذه الصيغ ودلالاتها في النص، واذا كانت الاحصاءات باتفاق الباحثين ((غير كافية للإحاطة بأسلوب كاتب ما))(5)، وذلك لأننا ((لا نستطيع تشييد أسلوبية صرفة على الاحصاءات الألسنية))(6)، الا انها يمكن ان تقدم - بشكل تقريبي - صورة عن التحليل الاسلوبي. ومن ثم البحث في صور اسم التفضيل وانواعه الاربع وتكرار كل نوع ودلالة ذلك واثره في المتلقي في المبحث الثاني، واخيرا تطرقت الدراسة الى البنية الاستعارية مع توطئة مفصلة لمفهوم الاستعارة عند القدماء والمحدثين وتحليل نماذج استعارية لبيان مواطن الاثارة والتأثير في المبحث الثالث، ثم خاتمة بأهم نتائج البحث.

ص: 327

المبحث الأول اسلوبیة الطلب

كتاب الاشتر عبارة عن وصية طويلة، وادب الوصايا بشكل عام تهيمن عليه الاوامر والنواهي، وهذا ما لا تخلو منه الوصية، فلا غرو ان يمتلأ هذا النص بأساليب الطلب المختلفة التي تمثل بؤرة النص وهي تتوزع بين الامر بصوره المختلفة والنهي والنداء.

واذا كانت الاحصاءات باتفاق الباحثين (غير كافية للإحاطة بأسلوب كاتب ما(7))، وذلك لأننا ((لا نستطيع تشييد أسلوبية صرفة على الاحصاءات الألسنية))(8)، الا انها يمكن ان تقدم - بشكل تقريبي - صورة عن التحليل الاسلوبي.

الصیغة - الامر - النهي - النداء

التکرار - 89 - 44 - 1

أ - اسلوب الامر

الأمر لغة: الأمر في هو ((نقيض النهي))(9) وأمره :كلفه شيئاً(10) لان الأمر طلب لإيقاع الفعل، والنهي طلب لترك إيقاعه، اما في الاصطلاح عند النحويين، فلم اللغة يعرفه سيبويه ولا المبرد على الرغم من ان الأول قد خصص بابا للأمر والنهي(11)، فهو ((طلب إيجاد الفعل))(12) او ((قول القائل لمن دونه : افعل))(13).

يعرفه ابن يعيش: ((الامر معناه: طلب الفعل بصيغة مخصوصة))(14)، وقال الرضي: ((وهو صيغة يطلب بها الفعل من الفاعل المخاطب بحذف حرف المضارع))(15) وعند الحيدرة اليمني وهو: ((قولك لمن تخاطب)): (افعل)، اذا كان حاضراً و (ليفعل فلان) اذا كان غائباً))(16).

ص: 328

اما اللغويون، فقد عرفه ابن فارس بقوله: ((الامر عند العرب ما اذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصيا))(17). وقال السيوطي: (هو طلب فعل غير كفّ، وصيغته (أفعلْ) و(ليفعلْ)(18).

وأما البلاغيون فقد عرفوا الأمر بأنه: ((صيغة تستدعي، او قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، فقولنا: (صيغة تستدعي، او قول ينبئ)) ولم نقل: (((افعلْ) و (لتفعلْ) كما يقول المتكلمون والأصوليون لتدخل جميع الأقوال الدالة على استدعاء الفعل نحو قولنا : (نزالِ و (صه) فانهما دالان على الاستدعاء من غير صيغة (افعل)))(19). او هو: «طلب فعل غير كف على جهة الاستعلاء»(20)، وحدده د.احمد مطلوب بانه «طلب الفعل على وجه الاستعلاء والالزام»(21). وصيغ الأمر هي: فعل الأمر، المضارع المسبوق بلام الأمر، اسم فعل الأمر، المصدر النائب مناب فعله. فالأمر: طلب حصول الفعل من المخاطب على وجه الاستعلاء أو «هو صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، بحيث إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصياً»(22).

وقد تكرر اسلوب الامر بالفعل في (77) موضعا، وهو الذي غلب على اسلوب الامر، في حين ورد المضارع المسبوق بلام الامر في (12) موضعا، ولم يرد القسمان الاخيران في النص.

الصيغة - الامر بالفعل - الامر باللام - الامر بالمصدر - الامر باسم الفعل

التكرار - 77 - 12 - -

وفعل الامر هو الصيغة الاكثر ورودا، وهي صيغة تقتضي وجود متلق او مخاطب في اكثر الاحيان، وهو ما يوافق طبيعة الرسائل، كما نلحظ التدرج الهرمي الذي يقتضيه الامر من العالي الى الداني، وما في ذلك من اشعار بالوجوب او الالتزام. وثمة امر ينبغي

ص: 329

الالتفات اليه وهو تكرار الفعل (أمر) مدخل الرسالة في اربعة مواضع تنبيها لما سيأتي من أوامر وتأكيدا على عظم المسؤولة الملقاة على عاتق المتلقي (وهذا لا يعني الاشتر فقط)، ولا سيما أن الدراسة الاسلوبية تعنى بالمتلقي بشكل كبير وذلك في قوله:

((هذا ما أمر به عبد اللهّ عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى اللهّ وإيثار طاعته، واتّباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه الّتي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلاّ مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر اللهّ سبحانه بقلبه و يده ولسانه، فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره وإعزاز من أعزّه. وأمره أن يكسر نفسه من الشّهوات ويزعها عند الجمحات، فإنّ النّفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم اللهّ))(23).

تشير فاتحة النص الى أهمية العبء الذي اوكل بالأشتر، وبكل من يتولى شأنا من شؤون ادارة العباد والبلاد، والتكرار لهذا اللفظ (أمر) يرسخ الفكرة في الذهن ويجعلها تدق كالجرس في اذن المتلقي؛ لأن التكرار في حد ذاته من أشد اساليب التوكيد وقعا على المتلقي. فالتكرار هو ((هو الوسيلة الوحيدة والتي لا خلاف حولها لاكتشاف واقعة لغوية وتحديدها في البرغماتية الادبية))(24).

ومن خلال الجدول الاحصائي السابق يتضح هيمنة فعل الامر على الصيغ الاخرى، ويليه المضارع المقترن بلام الامر، وهو في الاعم الاغلب فعل الكينونة (يكن) وهو ابلغ من التعبير المباشر بالفعل، کما ان لام الامر تضفي على الكينونة زيادة في التوكيد لما يحتمله فعل الكينونة من العموم في اثبات الفكرة.

ومن امثلته قوله:

1. ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ))(25).

2. ((فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)).(26)

3. ((وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ))(27).

ص: 330

4. ((لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ))(28).

5. ((فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذلِكَ أَمْرٌ يَجَتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّن))(29).

6. ((وَلْيَكُنْ آثَرُ رُؤوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِ مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ

جِدَتِه))(30).

7. ((وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَرَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ))(31).

8. ((وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ))(32).

9. ((وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ لله بِهِ دِينَكَ: إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتي هِيَ لَهُ خَاصَّةً)(33).

أن التعبير ب(لیکن) اشد وقعا واقدر على التأثير في ذهن المتلقي، فالتأكيد على كون الامر، يراد منه الكون على تلك الصفة، وهو لا شك أبلغ من الاتصاف بها، وهذا الامر يسري في الأمر والنهي، وقد ورد في القران الكريم: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(35).

ب - النهي:

ضد الأمر، وهو قول القائل لمن دونه: لا تفعل(35). فهو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء، وله صيغة واحدة هي لا الناهية مع الفعل المضارع، وهو يجري مجری الأمر في أن يكون للطلب إذا كان على وجه الاستعلاء، والدعاء إذا كان مع الأعلى، والالتماس إذا كان مع النظير، ويستعمل في حق المستأذن ويسمى إباحة وإذا استعمل في مقام تسخيط الترك، سمي تهديداً(36). فغرض النهي (الكف والمنع)، ولكنه يخرج إلى معان أخَر مستفادة من السياق وقرائن الأحوال كالدعاء والالتماس والإرشاد والدوام وبيان العاقبة والتيئيس والتهديد والتوبيخ والكراهة والاستئناس والتحقير والتمني وغيرها(37).

ص: 331

صيغة النهي - بالفعل المؤکد - بالفعل غیر المؤکد - بالتحذیر ب(إیاك)

التكرار - 33 - 5 - 6

من خلال النظرة السريعة في الاستعمال وكثافته في النص تجدر الاشارة الى هيمنة الفعل المضارع المؤكد المسبوق بلا الناهية، وهو ما يشعر بعظمة المؤكد عليه من الوصايا وثقل المسؤولية المناطة بالأشتر. فالتوكيد سمة غالبة على الفعل المضارع في النهي وهو ما يزيد التوكيد فيه.

تتحدد الانماط الأسلوبية في ثلاثة أنماط:

1. لا الناهية + الفعل المضارع + نون التوكيد الثقيلة

2. لا الناهية + الفعل المضارع

3. إياك + و + اسم معرفة

لما كان العهد عبارة عن جملة من الأوامر والنواهي التي تتناسب مع المرسل في مقامه الاعلى والمتلقي وهو الوالي، فقد كان النمط المهيمن على النص هو الأول والذي يتسم بالتوكيد، ويأتي بعده اسلوب التحذير ب(إياك)، والذي يتضمن النهي، ثم النهي بدون توكيد، وهو الاقل حضورا في النص ويقترب من سابقه من حيث التكرار.

وتتصدر صيغة النهي المؤكد، وهي الاكثر استعمالا في مواضع التشديد والاهتمام، مع انها من التوكيد الجائز لا الواجب الذي يشترط فيه ان يكون الفعل واقعا في جواب قسم ومثبتا ومستقبلا وغير مفصول عن اللام بفاصل، ولكن أهمية هذه الوصايا والنواهي حتم أن تأتي في اغلب مواضعها مؤكدة بالنون الثقيلة في النهي. وأما نهي فعل الكينونة فهو كما يرى بعض اللغويين ابلغ من النهي عن الشيء نفسه، اذ يقول: ((والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك: لا تكن ظالماً، أبلغ من قولك: لا

ص: 332

تظلم، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك: لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة، أبلغ من النهي عن تلك الصفة، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم، ويستلزم عموماً، وبين ما يدل على عموم فقط، فلذلك كان أبلغ، ولذلك كثر النهي عن الكون))(38).

وأما النمط الثاني فقد تكرر (6) مرات وذلك في المواضع

1. إياك ومساماة الله في عظمته(39).

2. اياك والدماء وسفكها بغير حلها(40).

3. اياك والاعجاب بنفسك(41).

4. اياك والمن على رعيتك بإحسانك(42).

5. اياك والعجلة بالأمور قبل أوانها(43).

6. اياك والاستئثار بها الناس فيه اسوة(44).

ثمة رابط واضح لمن يتدبر هذه النصوص، اذ يرى أهمية الأمور التي حذر الامام (عليه السلام) منها مالکا، فالتجبر ومساماة الحق سبحانه، كذلك الاعجاب النفس وسفك الدماء، من عظائم الكبائر، ومثلها في التحذير (المن والعجلة والاستئثار) و مهي من مساوئ الأخلاق، وقد ورد التحذير منها في الروايات.

وزبدة المخض أن هذا الاسلوب استعمل في المنهيات الكبرى التي تتفرع منها باقي الاخلاق، فانت ترى على سبيل المثال أن التجبر سبب الطغيان الذي يدفع إلى الفساد والافساد.

ص: 333

المبحث الثاني: أفعل التفضيل

يدل اسم المفضل مشاركة المفضل في المعنى غالباً، وهذه المشاركة على نوعين: حقيقية كقوله تعالى: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» (46) أي أزيَد، وتقديرية لا حقيقية، وتسمى أحيانا اعتقادية، وإن كان الاعتقاد باطلاً، كقوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ»(47) على اعتقاد أن في مسجد الضرار حقاً (48). وهذا ما يؤكده السيوطي في الجمع قائلا: «والمراد بقولنا: ولو تقديراً مشاركته بوجه ما، كقولهم في البغيضين: هذا أحسن من هذا، وفي الشريرين: هذا خير من هذا، وفي الصّعبين: هذا أهون من هذا، وفي القبيحين: هذا أحسن من هذا، وفي التنزيل ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ))(49) و تأويل ذلك: هذا أقل بغضاً، وأقل شراً، وأهون صعوبةً، وأقل قبحاً»(50).

وقد يستعمل اسم التفضيل متضمنا معنی اسم الفاعل، كقوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ»(51) أي: عالم بكم، أو معنى الصفة المشبهة كقوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»(52) أي: وهو عليه هيّن، لأنّه لا يقال: شيء أهون عليه من شيء.(53)

وربما اريد به «تجاوز صاحبه وتباعده عن غير في الفعل، لا بمعنى تفضيله بالنسبة إليه بعد المشاركة في أصل الفعل، بل بمعنى أن صاحبه متباعد في اصل الفعل، متزايد إلى كماله فيه على وجه الاختصار، فيحصل كمال التّفضيل»(54) كقوله تعالى: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(55) فهنا لم يقصد التفضيل على شيء معين، بل المراد من كل ذلك الزيادة في الحسن، «ولا يمتنع تقدير مفضل عليه كأن تقول : وجادلهم بالتي هي أحسن

ص: 334

من غيرها ونحو ذلك»(56). قال الكفوي: «وقد يستعمل أفعل لبيان الكمال والزيادة في وصفه الخاص، وإن لم يكن الوصف الذي هو الأصل مشتركاً وعليه قولهم: الصيف أحر من الشتاء، أي: الصيف أكمل في حرارته من الشتاء في برودته»(17).

وتبدو صيغة افعل هي الاكثر ظهورا في النص، والتفضيل كما هو معلوم يرتقي بالكلام إلى درجة اكمل واعلى، ولهذا يستعمل في المقارنة بين شيئين اشتركا في صفة وزاد احدهما على الاخر فيها، فهو عدول عن صيغة الوصف إلى صيغة اعمق واشد اثرا في التوكيد وترسيخ الفكرة، وهذا يظهر بشكل واضح من خلال الامثلة فقولك: زید.......... شجاع وصف زید بالشجاعة.

التفضيل في الدرجات حسب القوة

4.......... أشجع من عمرو تفضيل لزيد من حيث الشجاعة على عمرو فقط دون غيره.

3............ أشجع رجل الاضافة الى النكرة لا تفيد تخصيصا ولا تعريفا.

2.......... أشجع الرجال الاضافة الى المعرفة تفيد التعريف والتخصيص.

1.......... الاشجع تفضيل على نحو الاطلاق أي هو اشجع الجميع.

من هنا تكتسب صيغة التفضيل اهميتها في النص موضع الدراسة، فقد تكرر اسم التفضيل بأحواله المختلفة في (60) موضعا من العهد، توزع القسم الاكبر منها على النكرة والمضاف إلى المعرفة، واكثر ما جاء من المضاف إلى معرفة إضافته إلى الضمير (هم)، فقد جاء في (18) موضعا، و(11) موضعا مضافا إلى اسم معرفة.

ص: 335

ونجد اكثر هذه المواضع جاءت للتفضيل

احوال اسم التفضيل - نكرة - معرفة - مضاف الى معرفة - مضاف الى نكرة - المجموع

التكرار - 27 - 3 - 29 - 1 - 60

من خلال معرفة درجة التفضيل والاهتمام التي تتحدد من خلال اسم التفضيل المضاف إلى المعرفة والذي يكون اكثر تكرارا من غيره هنا، اذ نرى في قوله مثلا: ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ))(58).

فليس شيء احب اليك من العمل الصالح لذلك جاء بالتعبير ب (لیکن) مع اسم التفضيل، فيوحي بالاتصاف بتفضيل ذخيرة العمل الصالح على الذخائر كلها ؛ لأنه من يدفن مع المرء في قبره فقط، فحقيق أن يكون افضلها؛ لأن الذخائر كلها تفنى ويبقى العمل الصالح.

ومن صور التفضيل بالنكرة قوله:

((وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِيالْبَلاَءِ،

وَأَكْرَهَ لِلإْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالإْلْحَافِ وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ))(59).

تتميز الجمل الاتية أن التفضيل قد قُيد بالتمييز، وحُدد بالجهة الزمنية، كما سنرى:

أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاء

وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ،

وأَکْرَهَ لِلإْنْصَافِ،

وأَسْأَلَ بِالأْلْحَافِ

وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإْعْطَاءِ،

وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ،

ص: 336

وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ

فالملاحظ تقييد هذه المفاضلة بأوقات وظروف وسياقات محدودة، دون أن يكون مطلقا، اذ كل اسم للتفضيل جاء مقيدا بجهة من الجهات او السياقات الاجتماعية. مما يجعله اكثر تحديدا واضيق مساحة واشد ترکیزا.

اما الاضافة إلى النكرة، وهي - كما يرى النحاة - لا تفيد تعريفا ولا تخصیصا، فانها لم ترد الا في قوله: ((ولا يكتفي بأدنی فَهْمٍ دُونَ أَقصَاهُ))(60)، ويلمح فيها الاشعار بقلة الفهم وضعفه، وهو الذي يرفضه الإمام (عليه السلام) في الحاكم، بل لابد ان يكون لديه اقصى الفهم وغايته، واولئك قليل كما يعبر علیه السلام). فالإضافة للنكرة، ومجيء (فهم) نكرة يشعر المتلقي بالتحقير والسذاجة.

في حين ترد صيغة التفضيل المعرفة ب (ال) في ثلاثة مواضع للدلالة على الطلاق في الوصف، وهي (السفلى، الاقصى، الأدنى) في قوله:

((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ)(61).

((فإِنَّ للأقْصَ مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي للأدْنَى))(62).

ص: 337

المبحث الثالث: البنية الاستعارية

نالت الصورة الاستعارية الحظ الأوفر لدى الدارسين، بل شکلت بؤرة العمل الإبداعي، وهي کما يعبر ابن رشيق: «أفضل المجاز، وأول أبواب البديع، وليس في حلي الشعر أعجب منها، وهي من محاسن الكلام إذا وضعت موضعها »(63)، وفضّلها عبد القاهر على التشبيه قائلاً: «ان للاستعارة مزيةً وفضلاً»(64)، وهي تتكئ على التشبيه، وترتبط به ارتباطاً ملحوظاً، يمكن أن نلمسه في أولى تعريفات البلاغيين، كقولهم: «اذا تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه وتظهره، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه و تجریه عليه»(65). فيما يرى السكاكي، والذي كان أكثر دقة في تحديد نوعيها حيث يصرح قائلاً: «هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه، وتريد به الطرف الآخر، مدعياً دخول المشبه في جنس المشبه به، دالاً على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص المشبه به»(66). بينما أطلق ابن الأثير مصطلح التشبيه المحذوف على الاستعارة وهو ذكر المشبه دون المشبه به(67).

ويكفي في فضل الاستعارة وجمالها «أنها تبرز هذا البيان أبداً في صورة مستجدة تزيد قدرة ونبلاً، وتوجب له بعد الفضل فضلاً، وانك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة مرموقة، ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدد من الدرر، و تجني من الغصن الواحد أنواع من الثمر»(68). إذ هي «تفعل في نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة»(69).

ص: 338

ويتحدد مستوى الاستعارة وفقا لطبيعة «الصلة بين اللغة المطابقة واللغة الإيحائية، فإذا ما كانت هذه الصلة ضعيفة، فسينعدم تحقق التوسع في اللغة ويتراجع الأثر الدلالي وتضعف التصويرية»(70). ويرى بعض البلاغيين أن حسن الاستعارة وقبحها موقوف على قوة التناسب بين المستعار منه والمستعار له او بعده، فملاكها «بقرب التشبيه ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في احدهما إعراض عن الآخر... وقال قوم آخرون... خير الاستعارة ما بعد، وعلم في أول وصلته أنه مستعار فلم يدخله لبس... الا أنه لا يجب للشاعر أن يبعد الاستعارة حتى ينافر ولا أن يقربها كثيراً حتى يحقِّق، ولكن خير الأمور أوساطها»(71). والاستعارة اذا توالت في النص مع غموض المعاني وبعد التناسب بين الطرفين، قد تؤدي إلى اللبس، والتنافر في الكلام ولذلك نعى الآمدي على أبي تمام فحش استعاراته وغرابتها وتراكبها وجعلها سببا من أسباب المعاظلة(72). الا أننا نجد القران الكريم والنصوص الشعرية أحياناً تجمع بين عدة استعارات في نص واحد، دون ان تخل بالمعنى أو تسقطه، بل تزيده شرفاً ورونقاً، ولذا فان عبد القاهر الجرجاني يرى أن مما «هو أصل في شرف الاستعارة، أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات، قصداً إلى أن يلحق الشكل بالشكل، وان يتم المعنى والشبه فيما يريد»(73).

وتتعدد الاعتبارات التي تقسم في ضوئها الاستعارة، فتقسم باعتبار ذاتها على: حقيقية وخيالية وباعتبار لازمها على: مجردة ومرشحة، وباعتبار حكمها على: حسنه وقبيحة، وباعتبار كيفية استعمالها على استعارة محسوس المحسوس، أو معقول المعقول، وتصريحية و مكنية باعتبار الطرفين، إلى غير ذلك من أنواع التقسيمات(79).

ولأهمية الاستعارة في الدرس البلاغي والأسلوبي تعددت النظريات التي درستها، ومن تلك النظريات (الإبداعية والتفاعلية والعلاقية)، وهي نظريات حاولت تجاوز

ص: 339

الحدود المنطقية والقيود التي كانت في الدراسات القديمة في مرحلة التأسيس، حيث كان الاهتمام منصباً على ضبط الحدود والتقسيمات وتأكيد هوية البلاغة وفنونها، دون النظر إلى قيمتها الأدبية - هذا اذا استثنينا دراسة الجرجاني والقرطاجني. على أن بعض الدارسين حاول الخروج من بوتقة النظرية الواحدة، والدمج بين النظريات في نظريه متكاملة تحاول استثمار النظريات والاستفادة من تقنياتها(79). فالاستعارة تمثل «الشكل البلاغي الأم التي تتفرع عنه وتقاس عليه بقية الأشكال حتى أطلق بعضهم على الاتجاه البنيوي في التحليل البلاغي للخطاب اسم (البلاغة المقتصرة) لترکیزها واقتصارها على الاستعارة باعتبارها بؤرة المجاز»(76). فالشعر کما یری جان کوهن: «استعارة معمّقة (رأسياً) معممة (أفقياً)، بل ان الكوميديا الإلهية بمفهوم اليوت عبارة عن استعارة ضخمة»(77). والاستعارة هي «الصورة المركزية لكل البلاغة»(78).

ان العلاقة بين عناصر الاستعارة ارتباط من صنع الخيال تذوب فيه هذه العناصر لتخلق صورة جديدة، ولعل تلك هي مهمة الفنان التي تتجلى في «محاربة هذا الروتين الآلي بنزع الأشياء من إطارها المألوف وتجميع العناصر المختلفة على غير انتظار ولذلك فان الشاعر يعمد إلى كسر القوالب (الاكلشيهات) اللغوية ليجبرنا على تجديد تلقينا للأشياء من خلال التحول المجازي (الظاهرة الانزياحية) وهذه هي عملية التشويه الخلاقة التي تعيد لنا حدة التصور بعد ان تثلمها العادة ونكتشف كثافة العالم المحيط بنا بعد ان يفرغه الروتين»(79).

وليس المجاز المعروف وصور الكلام على أيّة حال أكثر من «أسماء للانحرافات عن المعنى الحرفي والممارسة التقليدية التي ظهرت دائماً في اللغة الشعرية»(80)، والاستعارة تأتي لكي تقلل من «سعة المجاوزة الناتجة عن عدم الملاءمة، والعمليتان متكاملتان؛ لأنهما بالتحديد لا تتمان على نفس المستوى، فعدم الملائمة انتهاك لقانون الكلام، وهو

ص: 340

إذن مصنف في المستوى التركيبي، والاستعارة انتهاك لقانون اللغة، وهو إذن مصنف في المستوى التصويري»(81). ففي الاستعارة تتماهى العناصر وتمتزج في خليط متجانس، مع احتفاظ كل عنصر بشكله؛ وهي لا تقتصر على الهدف الجمالي والقصد الشخصى، ولكنها أيضاً ذات قيمة عاطفية ووصفية ومعرفية، أو بتعبير شامل: نحيا بها»(82).

ولذا فقد كان أ... ريتشارد شديد الاحتجاج على معاملة الاستعارة على أنها انحراف عن الممارسة اللغوية المألوفة بدلاً من النظر إليها كمصدر مميز ولا غنى عنه لتلك الممارسة، ويشير إلى ضرورة التمييز بين الاستعارة بوصفها مبدأ الوجود الشامل للغة، والاستعارة الشعرية النوعية، فالأولى من اختصاص النحويين، والثانية من اختصاص البلاغيين، فالنحوي يقدم الكلمات بحسب اشتقاقها، والبلاغي بحسب ما إذا كان لها مفعول على السامع به(83).

والاستعارة تأتي لأغراض كثيرة، کشرح المعنى والإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه... كما أن لها الفضل على التصريح بالحقيقة. والاستعارة ليست استعمالاً للألفاظ في غير مواضعها حسب، وإنما هي «تفاعل بين السياقات المختلفة، على أساس أن النغمة الواحدة في أية قطعة موسيقية لا تستمد شخصيتها ولا خاصيتها المميزة لها الا من النغمات المجاورة لها... كذلك الحال في الألفاظ، فمعنى أيّة كلمة لا يمكن أن يتحدد الا على أساس علاقتها بما يجاورها من الألفاظ »(84).

وهي فوق كل ذلك تمثل «وسيلة لتنظيم محيط الإنسان للعيش فيه والعمل عليه والتفاعل معه والتواصل بنجاح فيه، وهي أداة لإلحاق شيء بشيء أحياناً، وأداة لخلق واقع جديد أحياناً أخرى»(80).

ص: 341

ويربط بعض الباحثين بين الاستعارة وتداعي المعاني، فيجعل التصريحية منها تتضمن عمليتين عقليتين: «الأولى: متمشية مع الحقيقة والواقع، قائمة على قاعدة تداعي المعاني وهي إدراك ما بين المشبه والمشبه به من تشابه، ولأن التشبيه هو أساس الاستعارة فأنهما يشتركان في هذه العملية. والثانية: تتحقق في الاستعارة دون التشبيه وتميزها منه وهي عملية خيالية غير واقعية تلك هي ادعاء أن المشبه والمشبه به متحدان في الحقيقة فهما شخص واحد لا شخصان. أما المكنية: فنجد ثلاث عمليات عقلية هي: العمليتان السابقتان مضافاً إليهما عملية ثالثة متصلة هي تخیل اتصاف المشبه بما هو من خصائص المشبه به»(86).

ويبدو ان الأجدى في دراسة الاستعارة تقسيمها إلى تصريحية ومكنية - کما یری الدكتور احمد مطلوب؛ لأن ذلك عمدتها ما دامت الاستعارة تقوم على التشبيه(87)، تخلصاً من تلك التقسيمات المنطقية العقيمة التي ذهبت بروح البلاغة، وأفقدتها بريقها، فأحالتها علما خاضعا لقواعد صارمة ومعجم خاص لا يحق للأديب أن يخالفه، بعد أن كانت فنا يعتمد الذائقة لاستكناه مواطن الجمال و أسراره في النص.

ومن صور الاستعارة في النص العلوي: قوله: ((وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عن الجمحات))(88).

من خلال اختيار الفعل (یکسر) الذي يتلاءم مع المادة وتوظيفه ببراعة لمعنى امتناع النفس عن الشهوات والكف عنها، تتجلی ابداع الاستعارة التي تتضمن انزياحا عن المعيار، فالعبارة لو كانت بلغة معيارية مباشرة مثل: أن يكف او ان يمتنع عن الشهوات او الابتعاد والحذر، فان ذلك لا يحقق الرسالة؛ لأنها لغة متداولة ومستعملة، الا أن الفجوة / مسافة التوتر - على حد تعبير ابو ديب - تحققت من هذا التركيب: يكسر + نفسه، حيث ينقدح في ذهن المتلقي صورة الانكسار او اللاعودة الى الشهوات في مفارقة

ص: 342

لطيفة يخلقها التركيب، فيثير في المتلقي روح الاجتهاد والدافعية نحو الفعل لما يحمله التركيب من شحنة تحفيزية كبيرة.

ومنه أيضا قوله: ((ولا تنصبنَّ نفسكَ لحربِ اللهِ، فإنَّه لا يدَ لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته))(89).

يقال انه ((نلاحظ أحيانا وجود کناية ما وراء الصورة الاستعارية))(90). وعند التأمل في النص السابق نرى أن اليد وهي التي تحيل الى اكثر من معنى في مرجعياتها السياقية، فاليد الكرم والفضل والقدرة والهيمنة والجارحة والصنيع، والذي يتضح من خلال السياق ان اليد تعني القدرة والطاقة على التعرض لغضب الرب سبحانه، والذي يزيد الصورة الاستعارية توكيدا انها جاءت مسبوقة بلا النافية للجنس بحيث تنفي كل لوازم القدرة عن المتلقي في الوقت الذي تسبقه جملة: (ولا تنصبنَّ نفسكَ لحربِ اللهِ). والذي يبدو جليا هنا أن اليد تمتلك خزينا عاليا من الثراء على مستوى الكناية، وتسبطن الاستعارة فيها معاني كنائية مر ذكرها.

ومن لطائف الاستعارة قوله: ((فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ،

وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ))(91).

يشير البحراني في استعارة لفظ الحصون ((باعتبار حفظهم للرعية وحياطتهم لهم كالحصن،... استعار لفظ الأمن لهم باعتبار لزوم الأمن الوجود الجند في الطرق ونحوها))(92).

تنبني الاستعارة السابقة في (حصون الرعية وسبل الامن)، على صور حسية قريبة تنتمي الى بيئة المتلقي، وينفعل بمجرد سماعها، فتبعث في نفسه الشعور بأهمية هذه الطبقة من الشعب، ودورها الفاعل في حفظ کیان الامة والدفاع عنها، وتحفز المتلقي / الوالي الى العناية والتركيز على تلبية حاجاتهم لما يبذلونه من نفيس في سبيل الحفاظ على النوامیس المقدسة.

ص: 343

خاتمة

1. من خلال هذه القراءة السريعة لنص العد الشريف لامير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الاشتر يمكن أن ندون بعض النتائج في نهاية المطاف:

2. مثّل عهد الامام علي وثيقة متكاملة ودستورا شاملا في القيادة والادارة لكل من يتولى شأنا من شؤون العباد والبلاد.

3. لما كان الكتاب عبارة عن وصية طويلة، فان الغالب عليها هو صيغ الطلب المختلفة وخاصة، اسلوب الأمر والنهي. اذ ورد الامر في (89) موضعا، والنهي (في (44) مرة، ولم يرد النداء الا مرة واحدة لأن المتلقي ملتفت جيدا الى ما يقوله الإمام (عليه السلام) كيف لا؟ وهو مالك الاشتر (رضي الله عنه)، فلم يحتج النص إلى تكرا النداء الذي غايته الاولى والاسمی هي التنبيه.

4. تكرر اسلوب الامر بالفعل في (77) موضعا، وهو الذي غلب على اسلوب الامر، في حين ورد المضارع المسبوق بلام الامر في (12) موضعا، ولم يرد القسمان الاخيران في النص.

5. تكرر اسلوب النهي في صور مختلفة فتارة بالفعل المؤكد بالنون الثقيلة في (33) موضعا، وغير المؤكد في (5) مواضع، وجاء التحذير، وهو يقترب من معنى النهي ايضا في (6) مواضع ب(إياك).

6. فقد تكرر اسم التفضيل بأحواله المختلفة في (60) موضعا من العهد، توزع القسم الأكبر منها على النكرة والمضاف الى المعرفة، وأكثر ما جاء من المضاف إلى معرفة إضافته إلى الضمير (هم)، فقد جاء في (18) موضعا، و (11) موضعا مضافا الى اسم معرفة.

ص: 344

7. تميزت الاستعارة في النص العلوي بتوظيف فكرتي الاختيار والتوزيع التي تستوعب الدراسة الأسلوبية فمن خلال اختيار الفعل (یکسر) الذي يتلاءم مع المادة وتوظيفه ببراعة لمعنى امتناع النفس عن الشهوات والكف عنها، تتجلى ابداع الاستعارة التي تتضمن انزياحا عن المعيار، والتأثير في المتلقي.

ص: 345

الهوامش

1. دليل الدراسات الاسلوبية: 7.

2. دليل الدراسات الاسلوبية: 37.

3. دليل الدراسات الاسلوبية: 37 - 38.

4. الحجاج في القران من خلال اهم خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي بيروت ط 2، 2007: 48.

5. دليل الدراسات الاسلوبية: 55.

6. دليل الدراسات الاسلوبية: 56.

7. دليل الدراسات الاسلوبية: 50.

8. دليل الدراسات الاسلوبية: 56.

9. لسان العرب، مادة (امر): 4 / 26 وينظر مقاییس اللغة: 1 / 137.

10. المعجم الوسیط: 1 / 26.

11. ينظر الكتاب: 1 / 137.

12. البحر المحيط: 1 / 181.

13. التعريفات: 38.

14. شرح المفصل: 7 / 58.

15. شرح الكافية: 2 / 267.

16. کشف المشكل في النحو: 141.

17. الصاحبي: 187.

18. الإتقان: 3 / 263.

19. الطراز: 3 / 282.

ص: 346

20. شروح التلخيص، شرح السعد: 2 / 308 - 309.

21. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 1 / 313.

22. ينظر: الصاحبي: 298، بلاغة التراكيب: 209.

23. نهج البلاغة: 544.

24. الأسلوبية: جورج مولينيه: 183.

25. نهج البلاغة: 545.

26. نهج البلاغة: 547.

27. البلاغة: 548.

28. البلاغة: 549.

29. البلاغة: 550.

30. نهج البلاغة: 552.

31. نهج البلاغة: 559.

32. نهج البلاغة: 558.

33. نهج البلاغة: 561.

34. آل عمران: 104.

35. التعريفات: 199.

36. ينظر: مفتاح العلوم: 429.

37. ينظر: بلاغة التراكيب: 212 - 213.

38. البحر المحيط: 1 / 436 - 337.

39. نهج البلاغة: 546.

40. نهج البلاغة: 567.

41. نهج البلاغة: 567.

ص: 347

42. نهج البلاغة: 568.

43. نهج البلاغة: 568.

44. نهج البلاغة: 568.

45. التّفضيل في اللغة: مصدر فَضَّلَ يُفَضِّلُ بالتضعيف، يقال: فَضّلتُهُ على غيره تَفضيلاً، أي حكمت له بذلك وصيرته كذلك، وجعلته أفضل منه، وأفضل عليه: زاد، فهو يدل على زيادة في شيء، ومن ذلك الفضل: الزيادة، يقال: «فَضَلَ الشيء يَفضُل، وربما قالوا: فَضِل يفضُل وهي نادرة، والفضل في القدر غير التَّفَضُّل الذي بمعنی الإفضال والتطوّل. ينظر العين: 7 / 44، ومقاییس اللغة: ابن فارس: 4 / 508.لسان العرب: 2 / 1105.

46. النحل: 92.

47. التوبة: 108.

48. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 8 / 166.

49. يوسف: 33.

50. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: السيوطي: 2 / 104.

51. الإسراء: 54.

52. الروم: 27.

53. ينظر: اسم التفضيل في القران الكريم: دراسة دلالية، ریاض یونس خلف الجبوري، رسالة ماجستير، كلية التربية - جامعة الموصل 1929 ه - 2005 م.

54. الكليات:96. 55. النحل : 125. 56. معاني النحو: فاضل صالح السامرائي: 4 / 685.

57. الكليات: 96.

ص: 348

58. نهج البلاغة: 545.

59. نهج البلاغة: 547.

60. نهج البلاغة: 554.

61. نهج البلاغة: 560.

62. نهج البلاغة: 561.

63. العمدة: 1: 225.

64. دلائل الإعجاز: 55، ينظر: أسرار البلاغة: 28.

65. دلائل الإعجاز: 67، ينظر: أسرار البلاغة: 368 - 372.

66. مفتاح العلوم: 477.

67. المثل السائر: 1: 344.

68. أسرار البلاغة: 49 - 50.

69. الصناعتين: 260 - 261.

70. التصوير المجازي في مشاهد القيامة: 55.

71. العمدة: 1: 227.

72. ينظر: الموازنة: 195.

73. دلائل الإعجاز: 79.

74. ينظر: ينظر مفتاح العلوم: 523، المثل السائر: 1 : 351، الطراز: 110.

75. تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص): 81 وما بعدها.

76. بلاغة الخطاب وعلم النص: 159.

77. بناء لغة الشعر: 135.

78. بلاغة الخطاب وعلم النص: 181.

79. نظريه البنائية في النقد الأدبي: 82.

ص: 349

80. بلاغة الخطاب وعلم النص: 227.

81. بناء لغة الشعر: 136.

82. تحليل الخطاب الشعري: 84.

83. ينظر: نظرية الأدب: 253.

84. بلاغة الخطاب وعلم النص: 150 - 151.

85. تحليل الخطاب الشعري: 84.

86. فنون بلاغية: 161 نقلا عن: دراسات في علم النفس الادبي: حامد عبد القادر القاهرة 1949: 43 - 44.

87. ينظر: فنون بلاغية: 145.

88. نهج البلاغة: 544.

89. نهج البلاغة: 545.

90. دليل الدراسات الاسلوبية: 79.

91. نهج البلاغة: 550 - 551.

92. شرح نهج البلاغة للبحراني: 5 / 148.

ص: 350

المصادر والمراجع

1. الإتقان في علوم القران: جلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 2007 م.

2. أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق: احمد مصطفى المراغي، مطبعة الاستقامة، القاهرة، (د.ت).

3. الأسلوبية: جورج مولينيه: ترجمة وتقديم: د. بسام بركة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 2006 م.

4. اسم التفضيل في القران الكريم: دراسة دلالية، ریاض یونس خلف الجبوري، رسالة ماجستير، كلية التربية - جامعة الموصل 1929 - 2005 م

5. الايضاح: الإيضاح في علوم البلاغة: أبو عبد محمد بن سعد الدين بن عمر القزويني (ت 739 ه) تحقيق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1626 ه - 2003 م.

6. البحر المحيط البحر المحيط: أبو حيان محمد بن يوسف الاندلسي (745 ه)، تحت عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان، ط 1، 2002 م.

7. بلاغة التراكيب دراسة في علم المعاني: د. توفيق الفيل، مكتبة الآداب، القاهرة، 1991 م.

8. بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل، سلسلة كتب عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1991 م.

9. بناء لغة الشعر: جان کوهن، ترجمة: د. أحمد درویش، دار المعارف، مصر، ط 3، 1993 م.

10. البيان في ضوء أساليب القران: د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر العربي، مصر، ط 2، 1418 ه - 1998 م.

ص: 351

11. تحليل الخطاب الشعري (إستراتيجية التناص): د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب، ط 4، 2005 م.

12. التصوير المجازي أنماطه ودلالاته في مشاهد القيامة في القران الكريم: د0 ایاد عبد الودود، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 1، 2004 م.

13. التعريفات: الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت 816 ه)، مؤسسة التاريخ الإسلامي، بيروت، ط 1، 1424 ه - 2003 م.

14. الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله (671 ه)، تح: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 1، 2009 م.

15. الحجاج في القران من خلال اهم خصائصه الأسلوبية: 48، دار الفارابي بيروت ط 2 أ 20073

16. دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) قرأه وعلق عليه: أبو فهر محمود محمد شاکر، دار المدني بجدة، المؤسسة السعودية بمصر مطبعة المدني، ط 3، 1413 ه - 1992 م.

17. دليل الدراسات الاسلوبية: جوزيف ميشال شريم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، ط 2، 1987 م.

18. شرح الكافية: شرح الكافية: محمد بن الحسن الرضي الاسترابادي (ت 686 ه)، تحقيق: يوسف حسن عمر، مؤسسة الصادق، طهران، 1380 ه.

19. شرح المفصل: يعيش بن علي بن يعيش موفق الدين (643 ه)، ادارة الطباعة المنيرية بمصر.

20. شرح نهج البلاغة: كمال الدين میثم بن علي البحراني (679 ه)، منشورات دار الثقلين بيروت - لبنان، ط 1، 1999 م.

21. شروح التلخيص، وهي مختصر المعني للتفتازاني، ومواهب الفتاح للمغربي،

ص: 352

وعروس الافراح للسبكي، وبهامشه الايضاح للقزويني وحاشية الدسوقي) دار الكتب العلمية بيروت.

22. الصاحبي: الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أبو الحسن محمد بن فارس بن زکریا (395 ه)، تحقيق: السيد احمد صقر، دار ومكتبة إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1977 م.

23. الصناعتين : أبو هلال العسكري (ت 395 ه)، تحقیق : علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بیروت، 2006 م.

24. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز: يحيى بن حمزة العلوي (ت 749 ه)، مراجعة وضبط: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بیروت، ط 1، 1415 ه - 1995 م.

25. العمدة في نقد الشعر وتمحيصه: ابن رشيق القيرواني (ت 463 ه) شرح وضبط: د. عفيف نايف حاطوم، دار صادر، بیروت، ط 2، 2006 م.

26. فنون بلاغية: د. احمد مطلوب، دار البحوث العلمية، الكويت، ط 1، 1395 ه - 1975 م.

27. القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه)، إعداد وتقديم: محمد بن عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2002 م.

28. كتاب سيبويه: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر (ت 180 ه)، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 2، 1402 ه - 1982 م.

29. الكليات - معجم في المصطلحات والفروق اللغوية: لأبي البقاء أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي (ت 1094 ه)، تح: د. عدنان درويش ومحمد المصري، منشورات ذوي القربی - قم، ط 1، 1433 ه.

30. لسان العرب: جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)،

ص: 353

دار صادر، بیروت، ط 1.

31. المثل السائر: أبو الفتح ضياء الدين بن الأثير الموصلي (ت 637 ه)، تحقيق: کامل محمد محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1998 م.

32. معاني النحو: د. فاضل السامرائي، مؤسسة التاريخ الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1928 ه - 2007 م.

33. معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: د. احمد مطلوب، منشورات المجمع العلمي العراقي - بغداد، مطبعة المجمع العلمي، 1983.

34. مفتاح العلوم: أبو يعقوب يوسف بن محمد بن علي السكاكي (ت 626 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2000 م.

35. مقاییس اللغة: أبو الحسن محمد بن فارس بن زکریا (395 ه)، مصر، ط 2، 1969 م.

36. الموازنة بين أبي تمام والبحتري: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 ه)، تحقیق: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2006 م.

37. نظرية الأدب: رينيه ويليك واوستن وارين، ترجمة: محي الدين صبحي، مراجعة: د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، مط. الطرابيشي، 1972 م.

38. نظرية البنائية في النقد الأدبي: د. صلاح فضل، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط 3، 1987 م.

39. نهج البلاغة: ضبط نصه وعلق وابتكر فهارسه: د. صبحي الصالح، انوار الهدى، قم - إيران مط: وفا، ط 4،، 1431 ه.

40. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: جلال الين السيوطي (911 ه) :تح: احمد شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1998 م.

ص: 354

أثر التوازي التركيبي في بنية المفارقة دراسة نصية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

أ. م. د. لمى عبد القادر خنياب

كلية الآداب - جامعة القادسية

ص: 355

ص: 356

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله مستحق الحمد والصلاة والسلام على خير البرية أحمد، وآله الأبرار الأطهار وصحبه الأخيار، وبعد...

لما كان التوازي سمة إيقاعية لصيقة بالشعر، فقد سعى هذا البحث إلى تطبيق مقولة التوازي على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لاحتساب مدی شعرية هذا النص؛ لأن هذا النمط من النصوص - أعني النصوص النثرية ذات البلاغة العالية - تُعد منطقة وسطى بين لغة الشعر ولغة النشر الاعتيادي أو التأليفي، فلاحتساب مستوى الشعرية فيها جرى اختبار مقولة التوازي فيها.

لكن التوازي التركيبي بوصفه تكراراً لنظم الجمل وأشباهها فهو إذن مقولة شكلية مفرغة من الدلالة، وهذا ما لا يقبله البحث، بل أثبت خلافه: وهو أنَّ التوازي يأتي قالباً شكلياً لجمل متماثلة أو متقابلة دلالياً، لجذب انتباه المتلقي للماثلة بين جملتين أو أكثر أو للتضاد بينهما فجيء بهذا الوعاء الشكلي ليكون إيقاعاً موسيقياً داعماً للمعني.

ونظراً لكثرة المصاديق في هذا المتن لما تقدم سيكتفي البحث برصد الجمل المتقابلة دلالياً؛ ليتسنى لنا الكشف لاحقاً عن بنية المفارقة وأثر التوازي التركيبي في المفارقة اللغوية في هذا النص المدهش.

ص: 357

توطئة:

التوازي صفة لصيقة بالآداب جميعاً أتفق الباحثون على أنَّه من السمات الفنية للشعر خاصة، قال جاكبسون: «إنَّ المسألة الأساسية للشعر تكمن في التوازي وقد لا نخطئ حين نقول: إنَّ بنية الشعر هي بنية التوازي المستمر»(1). «فهو سمة إيقاعية قلما يخلو شعر منها»(2) حتى صار ينظر إلى التوازي باعتباره [كذا] علامة على الشعرية وغيابه علامة على البعد النثري»(3) لكن البحث يسعى إلى اختبار مقولة التوازي - وهي خاصية شعرية بحسب ما تقدم - على نص نثري وما استشفع به في هذا المقام هو إمكانية تلمس التوازي في الفنون النثرية لأنَّ الشعرية سمة للنصوص الإبداعية نثرية وشعرية وليست مقصورة على الشعر فقط، بل تطرد على الفنون النثرية التي جاوزت اللغة الاعتيادية إلى لغة أدبية رفيعة تشتمل على الفنون البلاغية التي ذكرها جاكبسون من تشبيه واستعارة ومقابلة وسجع وغيرها، فضلاً عن أنَّ أول محاولة لرصد التوازي أجريت على نصٍ نثري، وهي المحاولة التي قام بها (روبرت لوث 1753 م) إذ حلل الآيات التوراتية في ضوء التوازي(4).

ثم جرى استثمار مقولة التوازي في الشعر لا حقاً؛ لتمظهرها فيه بشكل لافت بفعل الوزن والقافية التي تضفي عليه إيقاعاً موسيقياً متكرراً.

لما كان التوازي هو «تنمية لنواة معينة بإرکام قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة»(5) فهذا يعني أنَّ التوازي يشتغل على مستويات اللغة جميعاً: صوتاً، وصرفاً، ونحواً، ودلالة وما يؤكد هذا أنَّ البنية الشعرية ذات طبيعة تکرارية منتظمة في نسق لغوي ويجمل جاكبسون الأدوات الشعرية التكرارية بقوله: «منها الجناس والقافية والترصيع والسجع والتطريز والتقسيم والمقابلة والتقطيع والتصريع وعدد المقاطع أو التفاعل والنبر والتنغيم ويمكن البنية التوازي هذه أن

ص: 358

تستوعب الصور الشعرية بما فيها التشبيهات واستعارات ورموز»(6).

وما يهمنا في هذا البحث من صور التوازي هو التوازي التركيبي، لكن هذا لا يعني أنَّه توازٍ معرى عن فحواه الدلالي بل التوازي بوصفه وعاء لنمط معين من الدلالة وهي المفارقة اللغوية التي تتأسس على التقابل الدلالي بين بعض المفردات مما يفضي إلى مفارقة بين التركيبين اللذين سُبكا في وعاءٍ شكلي متناظر وسم بالتوازي وتقوم المفارقة على الجمع بين المتناقضات لتحقيق الدهشة عند المتلقي بكسرها نسق توقعاته، بإقامة علاقات ذهنية بين الألفاظ(7)، لتسجل تناقضاً بين ظاهرتين تثير تعجب متلقيها من دون الحاجة إلى تفسير أو تعليل(8). تبدأ المفارقة غالباً من اللغة إذ يتحقق التقابل اللغوي على المستوى السطحي للتركيب، بيد أنَّ عنصر الدهشة يدفع بالمتلقي إلى الغوص في أعماق دلالات التراكيب كشفاً عن مرام منتج النص.

التوازي التركيبي:

تقدم القول: بأنَّه يمكن لنا رصد أشكال التوازي على مستويات اللغة جميعاً ومن بينها المستوى النحوي إذ يستحيل فيها التركيب أوعية متشابهة للمعاني المختلفة أو المترادفة، وقد عرَّفه د. صلاح فضل بقوله : هو «من أشكال النظام النحوي الذي يتمثل في تقسیم الفقرات بشكل متماثل في الطول والنغمة والتكوين النحوي بحيث تبرز عناصر متماثلة في مواقع متقابلة في الخطاب»(9). على حين ذهب د. عفيفي إلى أنَّه «تكرار لنظم الجمل وشبه الجمل مع اختلاف الوحدات المعجمية التي تتألف منها الجمل حيث تبنى بشكلٍ متواز في الشعر أساساً وفي النثر وفق هذا المفهوم»(10). ويريد د. عفيفي بشبه الجمل في كلامه المتقدم أجزاء الجمل وأبعاضها ولا يريد ب(شبه الجملة) المصطلح القار في الدرس النحوي.

وعليه يكون التوازي التركيبي هو تكرار لمباني الجمل(11).

ص: 359

المتوازيات الفعلية

المتوازيات الفعلية في سياق الإثبات:

قال (عليه السلام): «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ باِلضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَ اَلْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ اَلْعُنْفُ وَ لاَ يَقْعُدُ بِهِ اَلضَّعْفُ»(12)

أولى هذه المتوازيات ترد في قوله (عليه السلام) المتقدم ونصها (يرأف بالضّعفاء و ينبو على الأقوياء) تأتي هذه المفارقة منسبكة في التوازي الآتي [فعل مضارع + حرف جر + اسم مجرور]

مشفوعة بإيقاع موسيقي ضمنته الفاصلة (أقوياء / ضعفاء)، وتتوكأ المفارقة في هذا التوازي على المتقابلات اللغوية (يرأف ≠ ينبو، و أقوياء ≠ ضعفاء).

إنَّ هذا التوازي قد جاء في سياق الأوصاف التي سردها (عليه السلام) لقائد الجند حاملاً لمفارقة لافتة (يرأف بالضّعفاء / ينبو على الأقوياء) وقد فسر ابن أبي الحديد قوله (عليه السلام) : (ينبو على الأقوياء) «يتجافى عنهم أي لا يُمکِّنهم من الظلم والتعدي على الضعفاء»(13).

ولا أرى أنَّ معنى الفعل (نبا) هاهنا يراد به جفا وتباعد بدلالة حرف الجر (على) فلو أُريد به التجاني والبعد لتعدی ب (عن) لكنَّه أراد به العلو(14)، وكأنه أراد مَن يشتد عليهم ويعلو ليكف أيديهم عن ظلم الضعفاء(15).

ومنه قوله (عليه السلام): «وَ أَمَّا بَعْدُ فَلاَ تُطَوِّلَنَّ اِحْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ اِحْتِجَابَ

اَلْوُلاَةِ عَنِ اَلرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ اَلضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ اَلاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ

عِلْمَ مَا اِحْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ اَلْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ اَلصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ اَلْحَسَنُ وَ يَحسُنُ

ص: 360

اَلْقَبِيحُ وَ يُشَابُ اَلْحَقُّ بِالْبَاطِلِ»(16).

يحتشد النص بالمتوازيات أولها: (فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير) يعرب الإمام في هذا التوازي عن معنی جلیل فإنَّ فعل واحد تتأسس عليه نتیجتان متضادتان أما الفعل المؤسس فهو احتجاب الولاة عن الرعية الذي يترتب عليه النتيجة الأولى تصغير العظيم ثم النتيجة الثانية المغايرة للأولى تعظيم الصغير، والنتيجتان متناقضتان على المستوى السطحي لكنهما على المستوى العميق يتماثلان فكلتاهما تكشف عن الجهل وسوء التقدير الناجم عن الابتعاد عن الناس (الحقيقة).

ولا يبتعد التوازي الثاني عن سابقه كثيراً ونصه: (يقبح الحسن و يحسن القبيح) الذي يستند إلى الفعل المؤسس نفسه (احتجاب الولاة عن الرعية) مما يؤدي إلى تزييف الحقائق فيجمل وزراؤه وحجابه ما يريدون تجميله ويقبحون ما يريدون والنتيجتان متضادتان سطحياً متماثلات جوهرياً.

المتوازيات الفعلية في سياق النفي:

قال عليه السلام: «بِسْمِ اَللِّهَ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللِّهَ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَرَةَ بِلاَدِهَا أمَرَهُ بِتَقْوَى اَللِّهَ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اِتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ اَلَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا»(17).

إنَّ النواة التي يلتف عليها النص بأسره هي (فرائض الله وسننه) فكانت موطن عنايته (عليه السلام) فأراد لها أن تجذب انتباه متلقيه وترسخ في نفوسهم فتخير لها جملة أمور لخدمتها:

ص: 361

أولاً جعلها الحدث الذي تتأسس عليه نتیجتان متقابلتان على المستوى السطحي متحدتان على المستوى العميق: الأولى (لا يسعد أحد إلا بإتباعها) والثانية (لا يشقى إلا مع جحودها) فضمنت بنية المفارقة خيارين متقابلين لمرجع واحد (فرائض الله وسننه) و قد ارتكزت هذه المفارقة على متقابلات لغوية هي: (يسعد ≠ يشقی، إتباعها ≠ جحودها = إضاعتها).

وبالنظر إلى الثنائية الأولى (يسعد ≠ يشقی) نلحظ توظيفاً مباشراً لهذه الألفاظ فقابل عليه السلام بين السعادة والشقاوة(18) مقابلة مباشرة لتسلم إلى النتيجة المرجوة من دون تفکر وطول تدبر، أما الثنائية الأخرى فقد وضعت (اتبع) في مقابل اللفظين (جحد وضاع) وواضح الفارق الدلالي بين هذه الأفعال فكل منها ينتمي إلى حقل دلالي مغایر فالفعل (اتبع) يدل على السير في إثر الشيء وقفاه و تطلَّبه(19)، بخلاف الفعل (جحد) الذي يدل على الإنكار مع العلم بفضله(20)، على حين يدل الفعل (ضاع) على الإهمال(21)، وقد جمع (عليه السلام) بين (جحدها وضياعها) لتوصيف أحوال الولاة في ترك فرائض الله إما بالإنكار المتعمد أو بالإهمال والتقصير.

ثم في المحصلة النهائية سبکت هذه المتقابلات با تفضي إليه من مفارقة في قالب شکلی قوامه: [لا النافية + فعل مضارع + فاعل + إلا الاستثنائية + حرف جر + اسم مجرور + الضمير العائد على الفرائض]، كانت فيه (إلا) بيضة قبان لا يتحقق ما قبلها إلا بتحقق ما بعدها، فلا يسعد المرء إلا بإتباع الفرائض ولا يشقى إلا بتضييعها.

ومنها أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): « فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ للهَّ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ اَلْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَی اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَ اَلْأَقْوِيَاءِ»(22)

النص زاخر بالمتوازيات التركيبية المتوالية التي وظفها الإمام في سياق تحديد صفات

ص: 362

قائد الجند منها متوازيات مترادفة : (أنقاهم جيباً و أفضلهم حلماً)، و (يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر) ومنها ما هي متوازيات ضدية (يرأف بالضّعفاء و ينبو على الأقوياء) التي سنأتي على تحليلها لاحقاً و ما يستوقفنا هاهنا قوله (عليه السلام): (لا يثيره العنف و لا يقعد به الضّعف)، واضح مدى الانسجام الصوتي الذي تحققه السجعات (الضعفاء، الأقوياء) و (العنف، الضعف) يظهر التوازي التركيبي في الجملة الفعلية المنفية ب(لا) قالباً شكلياً لبنية المفارقة اللغوية في قوله (عليه السلام): (لا يثيره العنف و لا يقعد به الضّعف) بعد أن ضمن لها الإيقاع الصوتي المناسب ففي قوله (عليه السلام): (لا يقعد به الضّعف) كسراً لأفق توقع المتلقي فالمتلقي يتوقع ترکیباً مترادفاً مع الأول ولا سيما وهو متجانس معه ترکیبياً وإيقاعياً غير أنَّه (عليه السلام) جاء بتركيب مفارق دلالياً عن سابقه، لكن هذا التقابل بين ( عنيف ≠ ضعیف) لا يُعد تقابلاً مباشراً ولو أراد التقابل المباشر لقابل بين القوة والضعف، فالعنف ضد الرفق وهو الحرق بالأمر(23) أما القوة فهي نقيض الضعف(24)، وكأن هذه الثنائية الضدية تكشف عن الصفة التي يريد الإمام توفرها في قائد الجند وهي (لا العنف ولا الضعف) بل هي القوة ؛ لان القوي «هو الذي يقدر على الشيء وعلى ما هو أكثر منه»(25) بحكمة وعدل.

ص: 363

المتوازيات الفعلية في سياق النهي:

يشيع في هذا الضرب من التأليف - أعني العهود والوصايا - استعمال أسلوبي الأمر والنهي فهو في فحواه توجيه من ولي الأمر إلى عماله، ومن قبيل ما جاء في عهده (عليه السلام) لملك الاشتر من المتوازيات الفعلية في سياق النهي قوله (عليه السلام) : لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَ عَفْوٍ وَ لاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لاَ تُسْرِعَنَّ إِلَ بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً وَ لاَ تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي اَلْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ اَلْغِيَرِ»(26).

في النص ثلاث متواليات متوازية تنسبك في القالب الآتي:

[لا الناهية + فعل مضارع + جار ومجرور] وهي:

1. لا تندمنّ على عفو

2. لا تبجحنّ بعقوبة

3. لا تسرعنّ إلى بادرة

تكمن المفارقة في هذه المتوازيات في المتقابلات اللغوية الآتية: (عفو ≠ عقوبة = بادرة)

أما العفو فهو «التجاوز عن الذنب وترك العقاب»(27) على حين يحيل العقاب على الجزاء(28) أما البادرة فهي الحدة «وهو ما يبدو من حدة الرجل عند غضبه من قول أو فعل«(29) وبهذا تكون البادرة والعقوبة في حقل دلالي واحد في مقابل (العفو) وبهذا تكون هذه المتوازيات تعرب عن ثلاث حالات قد تنتاب الوالي والحاكم وهي: الندم على العفو التي تشكل في مستواها السطحي تضاد مع التبجح بالعقوبة والتسرع في الحدة لكن الحقيقة في جوهرها جميعاً تدعو إلى الحلم والوسطية في التعامل مع الرعية.

ومنه أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): «و لا تَنْقُضْ سُنَّةً صالحةً عَمِلَ بها صُدورُ

ص: 364

هذه الأُمّةِ، و اجْتَمَعَتْ بِها الأُلْفَةُ، و صَلَحَتْ عَلَيها الرّعيّةُ، و لا تُحْدِثَنَّ سُنّةً تَضُرُّ بشيءٍ مِن ماضي تلكَ السُّنَنِ فَيكونَ الأجرُ لمنْ سَنَّها، و الوِزْرُ عليكَ بما نَقَضْتَ مِنْهَا»(30).

يظهر التوازي في قوله (عليه السلام): (لا تنقض سنّة) و (لا تحدثنّ سنّة) المتركب في القالب الآتي [لا الناهية + فعل مضارع + فاعل ضمير مستتر + مفعول به] وفي النص مفارقة بين نقض السنة الصالحة واستحداث سنة سيئة، تتأسس على التقابل اللغوي بين الفعلين (تنقض ≠ تحدث).

ومنه أيضاً قوله (عليه السلام): «لاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ اِمْرِئٍ إِلَی أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لاَ ضَعَةُ اِمْرِئٍ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظِيماً»(31).

المتوازيات الاسمية

ومنها قوله (عليه السلام): «وَ لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اَللِّهَ فَإِنَّهُ لاَ يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ

لا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ»(33). ونص التوازي فيه (لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه)

يأتي التوازي على التركيب الآتي:

[لا النافية + اسمها + خبرها (جار ومجرور (كاف الخطاب)) + جار ومجرور]

يشتمل وعاء التوازي هذا على مفارقة بديعة تتمحور على تقابل دلالي بين (النقمة ≠ العفو) فضلاً عن الاستعارة في (لا يد) التي کنی بها (عليه السلام) عن القوة والقدرة، فیکشف النص عن حاجة العبد لربه في اثنين: لا قدرة له على رد نقمته وفي الوقت نفسه لا غنى له عن عفوه ورحمته.

ص: 365

ومنه أيضاً ما جاء في قوله (عليه السلام): «وَلْيَكُن أحَبّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوْسَطُها في الحَقّ وَأَعَمُّها في العَدلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَی اَلرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ اَلْعَامَّةِ يْجُحِفُ بِرِضَ اَلْخَاصَّةِ وَ إِنَّ سُخْطَ اَلْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَ اَلْعَامَّةِ»(33).

ونص التوازي: (فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة)

يشتمل النص على مفارقة جوهرها جدلية (خاصة الحاكم وبطانته / عامة الناس) فرضا الأولى ينعكس سلباً على الثانية والعكس بالعكس، وهنا يرجح الإمام رضا العامة على رضا الخاصة ويوجه مالكاً لذلك معللاً ذلك بجملة متواليات متوازية إذ قال (عليه السلام): «وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ اَلرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَی اَلْوَالِی مَئُونَةً فِي اَلرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي اَلْبَلاَءِ وَ أَكْرَهَ للْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ اَلْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ اَلْمَنْعِ وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الَدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عِمَدُ الَدِّينِ وَ جِاَعُ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ اَلْعَامَّةُ مِنَ اَلْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ».

انظر إلى المتوازيات الآتية: أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء

أقلّ معونة له في البلاء

و قالبه التركيبي لمبتدأ (أفعل تفضيل) + جار ومجرور + تمییز + خبر (جار ومجرور)]

وما ينطوي عليه هذا التوازي من مفارقة تعري أهل الخاصة وحالهم في الرخاء والبلاء صورها الإمام خیر تصویر، شفت عنها المتقابلات اللغوية: (أثقل ≠ أقل، و معونة ≠ مؤونة، و الرخاء ≠ البلاء) مع مراعاة للمناسبة الصوتية بين المتقابلات.

ص: 366

وكذا التوازي الثاني:

أكره للإنصاف

أسال بالإلحاف

ينطوي هذا التوازي أيضاً على مفارقة لحال أهل الخاصة منسبكة في التركيب الآتي: [أفعل تفضیل (مبتدأ) + خبر (جار ومجرور)]. يردفه بتوازٍ ثالث وهو:

أقلّ شكراً عند الإعطاء

أبطأ عذراً عند المنع

أضعف صبراً عند ملمّات الدّهر.

كان التركيب الآتي وعاء لها:

[أفعل تفضيل (مبتدأ) + تمييز + ظرف + مضاف إليه (خبر)].

واشتمل هذا التوازي على مفارقة فضحت بطانة الحكام بتوظيف التقابل بين الإعطاء ≠ المنع) ويعود بنا النص الأخير (أضعف صبراً عند ملمّات الدّهر) لیسبك النص مع ما تقدم فهو تكرار لقوله (عليه السلام): (أقلّ معونة له في البلاء) فضلاً عن تصدر صيغة أفعل التفضيل في المتوازيات جميعاً بوصفها شكل من أشكال الاتساق النصي(34).

ومن قبيل المتوازيات الاسمية ما جاء في قوله (عليه السلام): «وَلاَ يَكُونَنَّ اَلْمُحْسِنُ

وَ اَلْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْأِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ عَلَی اَلْإِسَاءَةِ وَ أَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ»(35).

ص: 367

يشف النص عن متوازيان يبدوان في ظاهرهما متقابلان:

تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْإِحْسَانِ

تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ عَلَی اَلْإِسَاءَةِ

لما يشتملان عليه من متقابلات لغوية مباشرة (أهل الإحسان ≠ أهل الإساءة)، و الإحسان ≠ الإساءة) فضلاً عن التقابل غير المباشر في (تزهيداً ≠ تدريباً) بإحالة الأول على القلة ودلالة الثاني على الكثرة، لكنَّهما على المستوى العميق يجريان في المعنى نفسه وهو النهي عن مساواة المحسن بالمسيء لأنَّه يودي إلى نتيجتين: الأولى تتعلق بالمحسن وزهده بالإحسان، وثانية تتعلق بالمسيء وتعوده على الإساءة.

ص: 368

الخاتمة

الحمد لله ثانية، بعد بحث موضوعة التوازي التركيبي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر تبيّن لنا جملة أمر يمكن إجمالها فيما يأتي:

1. على الرغم من عدّ الدراسات النقدية التوازي سمة لصيقة بالشعر لكنَّنا نرى أنَّ للنثر نصيب منها ولا سيما الخطابة والوصايا والعهود التي تتسم بلغتها العالية وبلاغتها الجلية.

2. إنَّ التوازي مظهر من مظاهر الاتساق الشكلية؛ لذا درسها كثير من النصيين في المستوى الصوتي غير أنَّ البحث أثبت عدم خلوها من الدلالة، بل يأتي التوازي وعاء مناسباً لتقديم الدلالة لتكون أكثر تأثيراً في متلقيها.

3. معظم المتوازيات التي وقف عليها البحث في النص المدروس كانت إما وعاء لنصين متقابلين دلالياً أو نصين متماثلين دلالياً، مما يعزز النتيجة السابقة بعدم خلو القالب المتوازي من الدلالة.

4. تنصهر المتقلابلات الدلالية في بنية التوازي محققة في المحصلة النهائية مفارقة لغوية، تكسر أفق التوقع وتحقق الادهاش.

5. هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 369

الهوامش

1. قضايا الشعرية: 105 - 106

2. التوازي في شعر يوسف الصائغ: 9

3. جمالية التوازي في شعر نزار قباني: 32

4. ينظر التشابه والاختلاف: 111

5. تحليل الخطاب الشعري: 25

6. قضايا الشعرية: 7 - 8

7. المفارقة، نبيلة إبراهيم: 123، مجلة فصول، مج: 7، ع 3 - 4، 1987 م.

8. ينظر ابن سينا الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر، عبد العزيز الاهوان: 105

9. بلاغة الخطاب وعلم النص: 198

10. نحو النص: 111

11. ينظر نحو آجرومية للنص الشعري: 159

12. نهج البلاغة: 398

13. شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 17 / 36

14. ينظر لسان العرب (نبا) 15 / 302

15. ينظر شرح نهج البلاغة (محمد عبده): 526

16. نهج البلاغة: 407

17. نهج البلاغة: 392 - 393

18. قال ابن منظور: «السعادة خلاف الشقاوة« (سعد): 3 / 213، وقال في موضع آخر «الشقاء والشقاوة بالفتح ضد السعادة «لسان العرب (شقي): 14 / 438

19. ينظر لسان العرب (تبع): 8 / 27

ص: 370

20. ينظر الفروق اللغوية: 57، و لسان العرب (جحد): 3 / 106.

21. ينظر لسان العرب: (ضيع): 8 / 231

22. نهج البلاغة: 398

23. ينظر لسان العرب (عنف) 9 / 257

26. ينظر لسان العرب: (قوي) 15 / 207

25. الفروق اللغوية: 123

29. نهج البلاغة: 394

27. لسان العرب (عفو) 15 / 74

28. ينظر نفسه: (عقب) 1 / 620

29. نفسه: (بدر) 4 / 48

30. نهج البلاغة: 397

31. نهج البلاغة: 400

32. نهج البلاغة: 394

33. نهج البلاغة: 1395

34. ينظر الإحالة دراسة نظرية: 83

35. نهج البلاغة: 396 - 397

ص: 371

جريدة المصادر

1. القرآن الكريم

2. ابن سينا الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر، د. عبد العزيز الاهواني، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة / 1962 م.

3. بلاغة الخطاب وعلم النص، الدكتور صلاح فضل، عالم المعرفة (164)، 1992 م.

4. تحليل الخطاب الشعري (إستراتيجية التناص)، الدكتور محمد مفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، بیروت، 1985 م.

5. التشابه والاختلاف، الدكتور محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط 1، الدار البيضاء، 1996 م.

6. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقیق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، ط 1، 2007 م.

7. الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري (ت 400 ه) علق عليه ووضع حواشيه:

محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 2005 م.

8. قضايا الشعرية، رومان جاكبسون، ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1988 م.

9. لسان العرب، للإمام العلامة جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)، دار صادر، بیروت، د.ت

10. نهج البلاغة الجامع لخطب ورسائل وحكم أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام شرح محمد عبده، أشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل، منشورات مكتبة التحرير، د.ت.

11. نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن

ص: 372

الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، تحقیق الشيخ فارس حسون.

البحوث والدوريات

1. التوازي في شعر يوسف الصائغ وأثره في الإيقاع والدلالة، سامح رواشدة، مجلة أبحاث اليرموك، الأردن، المجلد (16)، العدد (2) لسنة 1998 م.

2. المفارقة، نبيلة إبراهيم، مجلة فصول، مج: 7، ع 3 - 4، 1987 م.

3. نحو آجرومية للنص الشعري، دراسة في قصيدة جاهلية، سعد مصلوح، مجلة فصول، المجلد (10)، العدد (1 - 2) 1991 م.

4. الرسائل والاطاريح

5. جمالية التوازي في شعر نزار قباني نحو مقاربة سيميائية أسلوبية، رسالة دكتوراه مقدمة إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الحاج لخضر، بتانة، الجزائر، للطالب يوسف بیدة، لسنة، 2013 - 2019.

ص: 373

ص: 374

عهد الامام علي (عليه السلام) للأشتر (رضي الله عنه) قراءة في ضوء نظرية (بيرلمان) الحجاجية

اشارة

أ. د محمد جواد حبيب البدراني

جامعة الموصل - كلية التربية للعلوم الانسانية

منسب حاليا بجامعة البصرة

ص: 375

ص: 376

تعد نظرية باليرمان الحجاجية واحدة من أهم نظريات الحجاج المعاصرة، وقد عرض هذه النظرية في كتابه (تصنيف في الحجاج الخطابة الجديدة) وهو كتاب شاركه فيه زميله (تیتیکاه)، وطبع في طبعات عديدة وترجم للغات متعددة، فضلا على مؤلفاته الاخرى في الحجاج، وتعد نظريته الحجاجية من اكثر نظريات الحجاج تركيزا على الاقتناع لا الاقناع.

يعرف باليرمان وزميله الحجاج بانه (تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان الى التسليم با يعرض عليها من اطروحات او تزيد في درجة ذلك التسليم.... فانجح الحجاج ما وفق في جعل حدة الاذعان تقوی درجتها لدى السامعين بشكل يبعثهم على انجاز العمل المطلوب انجازه او الامساك عنه او هو ما وفق على الاقل في جعل السامعين مهيئين لذلك العمل في اللحظة المناسبة(1).

ان تعریف بيرلمان للحجاج يتركز على تحديد الوظيفة التي يؤديها وهي (حمل المتلقي على الاقتناع بها نعرضه علیه او الزيادة في حجم هذا الاقتناع)(2)، فالهدف الاساس الذي يرومه المحاجج کسب المتلقي والتأثير فيه واستمالته إلى الهدف المطلوب.

ص: 377

يؤكد باليرمان في كتابه امبراطورية البلاغة ان الحجاج يهدف إلى التأثير ثم العمل حيث ان هذا التاثير ناتج من خلال استخدام العقل والادراك لما يحيط بالمتلقي من حجج اي تاثیر ناجم من ارادته وليس تاثیرا ناتجا من الاجبار او المناورة(3) .......فالمحاجج (بكسر الجيم) يسعى لتعزيز الاقتناع لا الاقناع في ذهن المحاجج (بفتح الجيم) وهذا ما دفع عبد الله صول إلى القول (ان العمل المترتب على الحجاج ليس متوسلا اليه بالمغالطة والتلاعب بالأهواء والمناورة، وانما هو عمل هيأ له العقل والتدبر والنظر، وهكذا تكون قوى الانسان (العقل والهوى) عندهما قوة متضامنة متفاعلة لا قوی منعزلة عن بعضها البعض(4). مما يجعل الاقتناع بموضوع الحجاج اقتناعا تاما لا مناص منه.

يعد عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر واليه على مصر من اهم الوثائق واكثرها شمولية وعمقا في التاريخ الفكري الاسلامي اذ تضمن العهد تفصیلات وافية في السياسة العامة للدولة ونظامها المالي والاقتصادي وترتيباتها الدفاعية وعلاقاتها الخارجية وتفعيل الرقابة الذاتية على سلطات الدولة ورقابة السلطة العليا ورقابة السلطات على بعضها وكيفية معالجة التجاوزات والقضاء على التفاوت الطبقي ومراعاة الظروف العامة للمواطنين ومعاملتهم بالحسنى فضلا على وضع الاسس الدقيقة للتطوير والبناء، ولأهميته الكبرى فقد حظي بدراسات عديدة ومتنوعة ولذلك سعينا إلى دراسة عهد الامام عليه السلام على ضوء نظرية باليرمان للتعرف على القدرة الحجاجية لهذا النص.

اشار باليرمان ان للخطاب قبل استقامته کیانا مشكلا من تقانات حجاجية يواجه بها المتكلم المخاطب لايقاع التصديق مدارها على منطلقات حجاجية ينطلق منها المحاجج بوصفها مسلمات(5) وتهدف هذه المقدمات الى تعزيز القناعة لدى المتلقين وتكون المثابة الانطلاق المحاجج واهمها:

ص: 378

1. الوقائع:

تمثل الوقائع ما هو مشترك بين عدة اشخاص او بين جميع الناس ولا تكون عرضة للدحض والشك وتنقسم الى وقائع مشاهدة واخرى مفتوحة لكن ما يجمعها تسلیم الجمهور واقتناعه بصحتها(6).

ولعل اول تلك الوقائع التي نلاحظها في نص الامام علي عليه السلام لمالك مقدمة العهد التي ورد فيها (امره بتقوى الله وایثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد واحد الا باتباعها ولا يشقى الامع جحودها واضاعتها وان ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فانه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره واعزاز من اعزه(7).

لقد ابتدأ الامام العهد بذكر وقائع مشتركة لا يشك في مدى صحتها ولا يتنازع في وجوبها اثنان من المجتمع الاسلامي المخاطب وهي وجوب تقوى الله واتباع دينه الذي يحقق السعادة في الدارين ولانه في معرض تثبیت حجية الوقائع التي سنتحدث عنها ابتدأ الامام عليه السلام بحقائق راسخة مصدرها القران الكريم فهو يتناص مع العديد من الآيات التي تجعل تقوى الله مصدر سعادة الدارين «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» الحديد 28 ومع قوله تعالى «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج: 40 ومع قول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبلسانه وذلك اضعف الايمان.

ص: 379

لقد وضع الامام عليه السلام الحقائق الثابتة المتفق عليها امام اعين المتلقين كي يتدرج معهم في سلسلة الاقتناع فهو يسعى لتعزيز الاقناع الذي يتناول الاعتقاد لا المعرفة حول الحق والباطل)(8) اذان المتلقي الافرادي والجمعي يؤمن بحجية القران والنص النبوي الشريف لكن مسعى الأمام يتمثل في ترسيخ هذا الاعتقاد والعمل بموجب لا مجرد الاكتفاء بمعرفته، لذلك سعي لتثبيت الواقعة الاعتقادية قبل البدء بعرض الحقائق.

2. الحقائق:

(وهي انظمة اكثر تعقيدا من الوقائع وتقوم على الربط بين الوقائع ومدارها على نظريات علمية او فلسفية او دينية حيث يعمد المحاجج الى الربط بين الوقائع والحقائق ليحدث موافقة الجمهور علة واقعة معينة غير معلومة كأن يضاف التيقن من الواقعة (أ) إلى النظرية (س) لانشاء التيقن بالواقعة (ب)، ومعنى ذلك أن التسليم بالواقعة (أ) وبالنظرية (س) يعني التسليم بالواقعة (ب).

يقول الامام علي عليه السلام في عهده (ان شر وزرائك من كان قبلك للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة، فانهم اعوان الاثمة واخوان الظلمة، وانت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم واوزارهم وآثامهم)(9).

ان الامام يتدرج في تعزيز الحقائق وترسيخها في ذهن المحاجج فالإمام حين يدعو مالكا إلى عدم الاستعانة بوزراء كانوا قبله وزراء للاشرار فهو يؤكد حقيقة أن وزیر الحاكم الشرير هو شرير حتما لانه عونه على الاثم واداته في تنفيذ ذلك، وبهذا ينتقل الى الحقيقة التالية وهي مادام الوزراء اشرارا وعملوا مع حاکم شرير فهم بالتاكيد اذا عاودوا العمل مع الحاكم الجديد سيجرونه الى طريق الشر بالتدرج لذلك فمن الواجب عليه عدم الاستعانة بهم وقد استثمر الامام ( مفهوم التدرج الحجاجي والخطاب من

ص: 380

حيث تركيزه على مبدأ التدرج في توجيه الحجج....... واحالة هذا المحتوى على مرجع معين)(10) ليزيد قناعة المتلقي بتلك الحقائق التي يروم ان يهدي الناس اليها ويعلم الحكام على تطبيقها.

3. الافتراضات:

(وهي شأنها شأن الوقائع والحقائق تحظى بالموافقة العامة ولكن الاذعان اليها والتسليم بها لا يكونان قويين حتى تاتي مسار الحجاج عناصر اخرى تقويها)(11).

ولعل ذلك يعود لكون الافتراضات غير يقينية بل تحتمل التصديق والتكذيب فضلا على ان (الافتراضات ليست ثابتة بل هي متغيرة تبعا للوسط والمقام والمتكلم والسامعين لأنها تقاس بالعادي والعادي مفهوم مجرد يختلف باختلاف القدرات والامكانات الفردية والجماعية)(12). من هنا فان الافتراضات لا ترقى لمستوى اليقين لذلك تحتاج الى تعزيز بادلة تزيد من رسوخ الاقتناع لدى المستهدف بالحجاج يقول الامام علي (عليه السلام) في العهد (لا تطيلن احتجابك عن رعيتك فان احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وانما الوالي لايعرف ما توارى عنه الناس به من الامور وليس على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب وانما انت احد رجلين، اما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه او فعل كريم تبدیه، او مبتلى بالمنع فا اسرع كف الناس عن مسالتك اذا ايسوا)(13).

ان الامام مدرك لحقيقة قبح احتجاب الحاكم عن رعيته وذلك لانه يضع هوة بين الحاكم والمحكوم ويعزز الفرقة بينهما فيظل الحاكم معتمدا على اراء من حوله من حاشية لا يعرف احوال الناس واحتياجاتهم فتكون سياساته بمجملها فاشلة وقد روي عن

ص: 381

رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال (ما من امام او وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسالة الا اغلق الله ابواب السماء دون خلته وحاجته ومسکنته)(14).

ان ابتعاد الحاكم عن شعبه مستقبح عقلا ونقلا بيد ان الامام عليه السلام يسعی ليعزز تلك القناعة لدى السامعين يضع الامر بين احتمالين لا ثالث لهما وهو ان ابتعاد الحاكم لا يجلب له الفائدة بل الضرر فالحاكم اما ان يكون کریما يعطي الناس حقوقهم ويبذل لهم من عطاياه او بخيل يمنع عطاياه عن الناس وفي كلا الحالين فان الحجب غير نافع له اذ في الاولى ما مسوغ حجبه عن الناس اذا كان سيعطيهم وفي الثانية أن الناس اذا جربوه ورأوا بخله وتقتيره يأسوا من عطائه فلا يطالبونه بالعطاء، فلم يعد هناك مسوغ مقنع للجمهور في كلا الحالين، وهكذا نجد أن الأمام نجح في الانتقال من الفرضية إلى توليد القناعة الراسخة على وفق الأسس التي وضعها باليرمان.

القيم:

پری باليرمان (ان القيم عليها مدار الحجج بكل ضروبه.... فهي التي يعول عليها في جعل السامع يذعن لما يطرح عليه من اراء، والقيم نوعان قيم مجردة ومحسوسة فالمجردة من قبل الحق والمحسوسة من قبيل الوطن)(15)، ومما لاشك فيه أن القيم المتعارف عليها مهمة جدا في الحجاج وتعزیز بنيته فالحجاج (فعالية تداولية جدلية فهو تداولي لان طابعه الفكري مقامي و اجتماعي اذ يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الحال من معارف مشتركة ومطالب اخبارية وتوجهات ظرفية، ويهدف إلى الاشتراك جماعيا في انشاء معرفة عملية انشاء موجها بقدر الحاجة وهو ايضا جدلي لان هدفه اقناعي قائم بلوغه على التزام صور استدلالية اوسع واغنى من البنيات البرهانية الضيقة)(16)، لذلك فان الحجاج يستثمر توظيف القيم في تعزيز بنية الاقناع لان القيم ثوابت في التفكير الاجتماعي الجمعي، ولقد وظف الامام علي عليه السلام المنظومة القيمية في اقناع متلقي عهده اذ يقول:

ص: 382

(ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها، واکثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبیت ما صلح عليه امر بلادك، واقامة ما استقام به الناس قبلك.)(17)

مما لاشك فيه أن المنظومة القيمية تعد من الأمور التي تحدد مكانة المجتمع ومدی تطوره الحضاري ذلك انها نتاج تجربة اجتماعية امتدت اجيالا عديدة، والقيم تختلف باختلاف المجتمعات وتتطور بتطورها، فهي في حركة دينامية مستمرة، ویری ساجیف ان القيم الانسانية اهداف مرغوبة تتباين في اهميتها وتقيد کمبادئ توجيهية في حياة الانسان، وتضيف کارین اونير ان القیم افکار معیارية توجه السلوك وتزوده بمعايير خارجية وداخلية نحو ما يكافح الانسان من اجله(18).

يسعى الامام عليه السلام لتعزيز تلك القيم ويستند اليها فيوجه باتباع سنن الصالحين من مجايلي رسول الله ومعاصريه لانها اجتمعت عليها الامة الاسلامية وتعزيزا لهذه القيمة الراسخة في أذهان المخاطبين ويستند إلى الحديث النبوي الشريف (من سن في الاسلام سنة حسنة فله اجرها واجرمن عمل بها من غير ان تنقص اجورهم شيء ومن استن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من اوزارهم شيء (19).

ان الامام بتعزيزه لهذه القيمة الاجتماعية الراسخة يجعل من سنة الرسول الاعظم قيمة عظمى ومما ارتضاه في عصره عرفا اجتماعيا لا يصح تغييره فقد بنيت عليه الامة ونشات عليه بنية دولة الرسالة.

ص: 383

الهرميات:

يرى باليرمان ان القيم ليست مطلقة وانما هي خاضعة لهرمية ما، فالجميل درجات وكذلك النافع والهرمية بعد ذلك نوعان مجردة مثل اعتبار العدل افضل من النافع، مادية محسوسة كاعتبار الانسان اعلى درجة من الحيوان..... ان هرمية القيم في البنية الحجاجية اهم من القيم نفسها، فالقيم وان كانت تسلم بها جماهير سامعين عدة، فان درجة تسليمها بها تكون مختلفة من جمهور الى اخر، وهو ما يعني ان القيم درجات وليست كلها في مرتبة واحدة وانا مايميز كل جمهور ليس القيم التي يسلم بها بقدر ما تميزه طريقة ترتيبه ایاها(20).

حافظ الامام علي في عهده على الترتيب الهرمي للقيم المشار اليها اذ ابتدأ بالقيم ذات الاولوية منتقلا منها للقيم الاقل قيمة فهو يقول:

(اياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادنى للنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام.... ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن.... واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين، واياك والمن على رعيتك بإحسانك او التزيد في ما كان من فعلك او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك.... واياك والعجلة بالأمور قبل اوانها او التسقط فيها عند امكانها او اللجاجة فيها اذا تنكرت او الوهن عنها اذا استوضحت، فضع كل امر موضعه واوقع كل امر موقعه)(21).

راعى الامام ترتيب الاوليات بطريقة هرمية فقد اشار للدماء كونها الاهم واعلى الهرم وقمته في تسلسل الاولويات لتعلقها بحياة الناس واستمرارية النوع البشري، لذلك فقد

ص: 384

اولاها الامام اهمية عظيمة جاعلا اياها بعد العقيدة مباشرة، اذ ان الضروريات التي اهتم الدين بالحفاظ عليها هي حفظ الدين، حفظ النفس، حفض العرض، حفظ النسل، حفظ المال. لذلك اهتم القران الكريم بها اهتماما بالغا فقد «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء: 93، وقال تعالى «وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» الفرقان: 68 - 70 وقال تعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» المائدة: 32.

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف (لزوال الدنيا عند الله اهون من قتل مؤمن بغير حق) وحرم الاسلام قتل حتى الذمي (غير المسلم) مالم يحاد الله ورسوله او يرتكب جرما فقد قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم (من قتل قتيلا من اهل الذمة لم يجد ريح الجنة وان ريحها ليوجد من مسيرة اربعين عاما)(22).

لقد حذر الامام علي عليه السلام واليه من محاولة توطيد ارکان دولته بسفك الدماء موضحا له أن سفك الدماء العامل الاساسي في سقوط الدول واندثارها وضياعها مؤكدا له انه لن يحابيه ولن تأخذه في الله لومة لائم مهددا اياه بانه لن ينفعه عذر عند الله وعند الامام أن قتل انسان عمدا، ثم يحذره من الاعجاب بالنفس لان الاعجاب بالنفس يفقد العمل قيمته وقد قيل (الاعجاب بالنفس والغرور مفتاح كل الشرور) ولذلك نقل عن الرسول قوله (لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) لان

ص: 385

الاعجاب بالنفس يقود الى الغرور ويؤدي إلى التسلط، ثم يحذر واليه من المن على الرعية با قدم لها او التزيد بما قدم وقد وصف الله تعالى المؤمنين بانهم «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ» البقرة: 262 - 263 والمن هو النعمة التي يسديها الشخص لغيره بهدف التقريع والتعيير بها وقد روي عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب الیم: المنان اذا اعطى والمسبل ازاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)(33)، ينتقل بعد ذلك الامام للنهي عن العجلة بالأمور، ويلاحظ أن الاسلام نهي كثيرا عنها والعجلة طلب الشيء وتحريه قبل اوانه ويرى الفيروزابادي أن العجلة من مقتضيات الشهوة لذلك ذمت في القران بأكمله وحتى في قوله تعالى «قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى» طه: 84 فالعجلة وان كانت مذمومة فالذي دعا اليها امر محمود و «خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» الأنبياء: 37 و قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا» الإسراء: 11 وهكذا رتب الامام الاولويات واستطاع أن يقنع المتلقي بحجاجيته ويدخله في دائرة الاقتناع.

المعاني والمواضع:

يستخدم المحاجج القيم وهر ميتها للرفع من درجة اذعان الجمهور کما له ان يستخدم مقدمات اعم منها وتسمى المعاني فالمعاني عند شيشرون عبارة عن مخازن للحجج او مستودعات حجج.... ومن اهم المواضع

أ. مواضع الكم: وهي التي تثبت أن شيئا ما افضل من شيء اخر لأسباب كمية مثل قول ارسطو أن العدل والعفة افضل من الشجاعة لكون العدل والعفة نافعين دائما في

ص: 386

حين ان الشجاعة لاتصلح الافي اوقات معينة.

ب. مواضع الكيف: وتستمد وحدانيتها وتفردها من مثل الحقيقة الالهية والحق الذي يعلو ولا يعلى عليه.

يقول الامام علي (عليه السلام): وليكن احب الامور اليك واوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية فان سخط العامة يجحف من رضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء واقل معونة له في البلاء واكره للأنصاف واسال بالإلحاف واقل شكرا عند الاعطاء وابطأ عذرا عند المنع واضعف صبرا عند ملمات الدهر من اهل الخاصة، وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامة، فليكن صغوك اليهم وميلك معهم(24).

نلحظ ان الامام علي عليه السلام قدم الافضل على المفضول وقدم العام الدائم على غيره لذلك جعل العدل اساسا في تعامله لان العدل اسم من اسماء الله الحسنى وهو اعطاء المرء ماله واخذ ما عليه، وقد عد القرآن الكريم العدل اساسا للرسالات السماوية جميعا فقد قال تعالى «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحديد: 25 وقال عز من قال ايضا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» المائدة: 8 وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء: 58، وكان العدل اساسا في التعامل النبوي وتعامل ال البيت الكرام لذلك فقد ركز عليه الامام في عهده ثم انتقل لتوضيح دور العدل في استقرار البلد ورضى الرعية، ويشير الامام بعد ذلك الى قاعدة مهمة في التعامل السياسي تاتي بمرتبة ثانية بعد العدل وهي مراعاة

ص: 387

عامة الناس وعدم الاجحاف بحقهم استرضاء للنخبة (الخاصة) وينبه الى ان الخاصة اكثر ارهاقا للحاكم من العامة فهم الأكثر مؤونة والاقل معونة يبحثون عن ماربهم الخاصة ومصالحهم الذاتية ويتخلون عن الحاكم بل عن البلد باسره حينما يفقدون امتیازاتهم ومصالحهم ورغباتهم ومطامعهم، ويحث على رضا العامة لانهم الامة والمجموع الذي يمثل الشعب والقادر وحده على مواجهة الأعداء مما يستوجب مراعاتهم.

ولعل ما يمثل مواضع الكيف في العهد قول الامام علي (عليه السلام) (وليكن في خاصة ما تخلص به الله دينك اقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به الى الله من ذلك کاملا غير مثلوم ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ واذا قمت في صلاتك للناس فلا تكن منفرا ولا مضيعا فان في الناس من به العلة وله الحاجة وقد سالت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين وجهني إلى اليمن كيف اصلي بهم فقال (صل بصلاة اضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما).

يدرك الامام ان حقوق البارئ على عباده فوق حقوق البشر فحق الله على العباد لا يعدله حق عبد لذلك حث واليه على اداء حقوق الله وفرائضه فهو الواحد الذي لا عدیل له ولا كفؤا لربوبيته لذلك فالواجب على العبد أن يجتهد في عبادته ورضا ربه، قال معاذ بن جبل کنت ردف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على حمار يقال له غفير فقال یا معاذ اتدري ماحق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله عز وجل ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قال قلت یارسول الله افلا ابشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا)(25).

ص: 388

بعد ذلك ينتقل للحديث عن الصلاة بوصفها الحبل الممتد بين الأرض والسماء وهي اساس صفاء الروح واطمئنان الفؤاد والزاجر الناهي عن ارتكاب المحارم قال تعالی «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» البقرة: 238 «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا» النساء: 103

والصلاة اهم الاعمال في المنجية من النار والمكفرة للذنب وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (ما بين المسلم وبين أن يكفر الا ترك الصلاة الفريضة متعمدا او يتهاون بها فلا يصليها)(26) وعن السيدة الزهراء عليها السلام انها سالت اباها صلى الله عليه واله وسلم فقالت (یا ابتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء قال يافاطمة من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله ببخمس عشر خصلة ست منها في دار الدنيا وثلاث عند موته وثلاث في قبره وثلاث في القيامة اذا خرج من القبر فاما التي تصيبه في الدنيا فالاولى يرفع الله البركة عن عمره ويرفع الله البركة عن رزقه ويمحو الله سیمیاء الصالحين من وجهه وكل عمل يعمله لا يؤجر عليه ولا يرتفع دعاؤه للسماء والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين واما اللواتي تصيبه عند موته فاولاهن أن يموت ذليلا والثانية يموت جائعا والثالثة يموت عطشان فلو سقي من انهار الدنيا لم يرو عطشه واما اللواتي تصيبه في قبره فاولاهن يوكل الله به ملكا يزعجه في قبره والثانية يضيق عليه قبره والثالثة تكون الظلمة في قبره واما اللواتي تصيبه اذا خرج من قبره فاولاهن أن يوكل الله به ملكا يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون اليه والثانية يحاسبه حسابا شديدا والثالثة لا ينظر الله اليه ولا يزكيه وله عذاب اليم)(27).

ص: 389

ومع اهمية الصلاة فان الامام عليه السلام يؤكد على الاشتر ان لا يشدد بها ويبالغ في تطويلها مستندا الى وصية الرسول الاعظم بالصلاة على وفق صلاة اضعف القوم تقديرا من الله ورسوله للاحوال التي يمر بها العبد وما يعانيه بعض المصلين من علل ترهقهم معها اطالة الصلاة وتؤذيهم.

بعض الخصائص الاسلوبية عند باليرمان واثرها الحجاجي:

1. الاطناب

يرى باليرمان ان ان التطويل والترديد تزيد من حضور الحجة في ذهن السامع لان (الاسلوب العجل يدعم توجه الخطاب الاستدلالي والاسلوب البطيء يحدث لدى سامعيه الانفعال ويحرك عواطفهم)(28) تجاه الاقتناع، وقد استند بيرلمان الى قول فيكو (ان القائم بكلامهم على الايجاز والقصر لا يهزون القلوب الا هزا خفيفا ولا يؤثرون الا قليلا)(29).

ان الاطناب من اساليب العربية المعروفة التي عني العرب بها كثيرا ووردت في كتب بلاغتهم وهو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة(30) ولا نريد هنا الوقوف عند فوائد الاطناب وانواعه فقد اهتمت بذلك كتب البلاغة لكن الذي يهمنا وظيفته الحجاجية التي تعمل على تعزيز الفكرة في ذهن المتلقي وزيادة الاقتناع بها.

فالإطناب يحقق وظيفة حجاجية من خلال تعزيز الفكرة وتزيينها يقول الامام علي في العهد (فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ورسوله ولإمامك وانقاهم جيبا وافضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب ويسرع الى العذر ويراف بالضعفاء وينبو على الاقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف)(31).

ان الامام يطنب في وصف الجنود وهذا الاطناب مقصود کما يبدو لنا بهدف تعزيز القدرة الحجاجية وتثبيت الفكرة في ذهن المتلقي ليؤكد على ان الجند هم عماد الدولة

ص: 390

واساس الدفاع عن الدولة لذلك يجب الحفاظ عليهم وتعزيز قدراتهم القتالية واحسان اختيارهم كي يكونوا سندا في الملمات الكبار ولذلك اوضح تفصيلات الجندي المثالي لتكون حجته ابلغ ووقعها اكثر تاثيرا

2. التكرار:

يعتمد التكرار وسيلة لابراز شدة حضور الفكرة اذ يقول ليبرمان يكون التكرار التقنية الاكثر بساطة لانشاء هذا الحضور، فتكرار الفكرة تجعل المتلقي وكانه يعيشها الى جانب ابراز شدة حضور الفكرة فان التكرار يظهر الملفوظ الثاني للكلمة محمل القيمة وهذا يعني ان الوظيفة الحجاجية للتكرار تظهر من خلال الملفوظ الثاني.

والتكرار من الامور التي عنيت بها العربية في جميع اطوارها والتكرار الاعادة وهو في الاصطلاح البلاغي (ان ياتي المتكلم بلفظ ثم يعيده بعينه سواء اكان متفق المعنى او مختلفا او يأتي بمعنى ثم يعيده، وهذا من شرطه اتفاق المعنى الاول والثاني فان كان متحد الالفاظ والمعاني فالفائدة في اثباته تاكيد ذلك الامر وتقريره في النفس وكذلك اذا كان المعنى متحدا، وان كان اللفظان متفقين والمعنى مختلفا فالفائدة في الاتيان به للدلالة على المعنيين المختلفين)(32).

هنا ندرك (ان التكرار من الاسس والمنطلقات الاسلوبية التي تسهم في اضفاء متانة خاصة على الاسلوب بما يجعل منه اداة ذات وظيفة واضحة في تراكم الدلالات الشعورية واللاشعورية)(33) التي تعزز فكرة الحجاج وتزيد ثباتها في ذهن المتلقي.

يقول الامام علي عليه السلام (وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم الا بهم.... وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في الخراج لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عارة اضر بالبلاد واهلك العباد)(34).

ص: 391

ان الامام هنا يحاجج في مسالة الاصلاح وبخاصة اصلاح الاعمال التي تؤدي الى قوة البلد اقتصاديا ولا يتم ذلك الا بتواشج الزراعة والصناعة والتجارة ليكون الشعب مرفها اقتصاديا يستطيع دفع الخراج وهي ضريبة الدولة، ولقناعة الامام التامة بان الاصلاح سلسلة متكاملة لا تنفك حلقاتها ولا تتم احداها بدون الاخرى يلجأ الى تكرار كلمة الصلاح ومشتقاتها وكلمة العمارة لارتباطهما مع بعضهما وتكاملها، وبذلك فقد ادى التكرار وظيفته الحجاجية واستطاع تثبيت الفكرة في ذهن المتلقي وزيادة قناعته بها.

3. اللفظ الحسي:

من المؤكد ان استخدام اللفظ الحسي اكثر تاثيرا من في المتلقي من اللفظ المجرد لان الصورة تكون اكثر وضوحا وتاثيرا، ومن هنا رأى بيرلمان (ان اللفظ الحسي يساهم في حضور الصورة في الذهن والتاثير على الاحساس مما يؤدي الى التسليم والاذعان للفكرة كقولنا اخترقت الرصاصة صدر الرجل بدل القول قتل الرجل فكأن المتلقي عاش المشهد(35).

يقول الامام علي (عليه السلام) (واجعل لرأس كل امر من امورك راسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشقق عليه كثيرها)(36).

ان الامام علي يجعل لكل امر رأسا وقد اختار لفظة الراس وهي لفظة حسية ليزيد ثبات الحقيقة في ذهن المتلقي فمن المعروف ان الراس عماد كل جسد وهو الذي يقود البدن ويتحكم بتصرفاته.

ان تطبيق نظرية بيرلمان على نص الامام علي يثبت ان نص الامام يصلح لكل العصور والازمنة وهو نص حي تدعمه نظريات الالسنية والنقد المعاصرين، ولنا وقفة اطول مع هذا الموضوع في قادمات الايام

ص: 392

الهوامش

1. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات 1 ص 13.

2. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: ص 267.

3. الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الاثير ص 21.

4. الحجاج في القرآن من خلال اهم خصائصه الاسلوبية 7 ص 29.

5. ينظر اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية: 307.

6. نفسه.

7. عهد الامام علي: 8 - 9.

8. في بلاغة الخطاب الاقناعي: ص 24.

9. عهد الامام علي: 15.

10. استراتيجية الخطاب الحجاجي: ص 489.

11. في نظرية الحجاج: 24.

12. الحجاج في البلاغة المعاصرة: ص 21.

13. عهد الامام علي 39.

14. سنن الترمذي 1 / 249.

15. اهم نظريات الحجاج / 311.

16. في اصول الحوار وتجديد علم الكلام: طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، 2000 ص 65.

17. عهد الامام علي 17 - 18.

18. ينظر البناء القيمي وعلاقته بالتنشئة ص 65.

19. جامع احاديث الشيعة: 14 / 27.

ص: 393

20. في نظرية الحجاج 242.

21. عهد الامام علي 40 - 41.

22. السنن الكبرى حديث 6743.

23. وسائل الشيعة 17 / 422.

24. عهد الامام علي 13.

25..

26. وسائل الشيعة 4 / 43.

27. مستدرك الوسائل 3 / 24.

28. الحجاج اصوله ومنطلقاته 33.

29. ينظر الحجاج في المثل السائر 26.

30. المثل السائر 2 / 344.

31. عهد الامام علي 20.

32. معجم المصطلحات البلاغية 1 / 287.

33. جماليات التشكيل الايقاعي في شعر السياب / 150.

34. عهد الامام علي 27 - 28.

35. ينظر الحجاج في المثل السائر: 27.

36. عهد الامام علي.

ص: 394

المصادر والمراجع

1. استراتيجية الخطاب الحجاجي: أ.د.بلقاسم دفة، مجلة المخبر، جامعة بسكرة، الجزائر، ع 6 لسنة 2013.

2. اهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من ارسطو الى اليوم: عدة مؤلفين، اشراف حمادي صمود، مطبعة الجمهورية التونسية 2011.

3. البناء القيمي وعلاقته بالتنشئة الاجتماعية: ابراهيم السيد احمد، جامعة الزقازيق، مصر 2005.

4. جامع احاديث الشيعة: آقا حسين الطباطبائي البروجردي، دار الاولياء بيروت، د.ت 4.

5. الجامع الكبير: ابو عيسى الترمذي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الاسلامي 1996.

6. جماليات التشكيل الايقاعي في شعر السياب: أ.د.محمد جواد حبيب البدراني، الدار العربية للموسوعات 2013.

7. الحجاج في البلاغة المعاصرة، سالم محمد الامين، دار الكتاب الجديد، بيروت 2008.

8. الحجاج في القرآن من خلال خصائصه الاسلوبية: د. عبد الله صولة، ط 2، دار الفارابي، بيروت 2007.

9. الحجاج في كتاب المثل السائر: نعيمة يعمرانن، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري الجزائر 2012.

10. السنن الكبرى: احمد بن شعيب النسائي، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة 2011.

11. عهد الامام علي لمالك الاشتر: مطبعة الآداب في النجف الاشرف 1971.

ص: 395

12. في بلاغة الخطاب الاقناعي: د. محمد العمري، ط 2، افريقيا الشرق بيروت 2002.

13. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: عبد الله صولة، مسكيلياني للنشر، تونس 2012.

14. المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: ضياء الدين بن الاثير، تحقيق احمد الحوفي وبدوي طبانة، دار النهضة 1976.

15. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: الميرزا حسين اللوري الطبرسي، مؤسسة ال البيت د.ت.

16. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: عباس خشاني، مجلة المخبر، جامعة بسكرة، الجزائر العدد السادس لسنة 2013.

17. معجم المصطلحات البلاغية المعاصرة: د. احمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1985.

ص: 396

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) - دراسة تحليلية تطبيقية -

اشارة

أ.م.د. مرتضى عبد النبي الشاوي

م. سری عبد الرؤوف عرار

ص: 397

ص: 398

المقدمة

الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور واقتنع على عين البصر، والصلاة والسلام على محمد عبدالله ورسوله المعلن الحق بالحق والفاتح لما انغلق وعلى آل بيته أعلام النور والهدية وعلى صحبه أجمعين.

أما بعد:

فإنّ الخطاب الأدبي على العموم يعدّ ثروة لغوية ومنبعاً يغرف منه علماء اللغة فكيف، إذ كان الكلام راجع لأمير الفصاحة والبلاغة والعلم والمعرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى أعتبار أنّ التحليل الأدبي له العديد من المناهج لدراسته، فقررنا الاعتماد على مناهج تحليل الخطاب الأدبي فقط، وهي المنهج البنيوي والمنهج السيمائي والمنهج الأسلوبي، ولكنه لا يختلف كثيراً عن المنهج البنيوي؛ لذلك أقتصرنا على جانب واحد منه وهو التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية، ولهذا جاء البحث على شكل تمهيد وثلاثة أقسام، تكفل التمهيد بيان السيرة العطرة لمالك الأشتر من خلال الاطلاع على بعض جوانب حياته العطرة، فله حق علينا أما القسم الأول فكان بعنوان التحليل البنيوي وتضمن المستوى التركيبي والصوتي والصرفي... الخ بالاضافة الى توطئة لبيان معنى البنيوية وفي اللغة الاصطلاح.

ص: 399

أما القسم الثاني فكان بعنوان التحليلل السيميائي وتضمن المستوى السطحي والعميق.... الخ مع توطئة أيضاً لبيان معنى سمياء في اللغة والاصطلاح.

أما القسم الثالث فكان بعنوان التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية تضمن الانزياح الصرفي والبلاغي...... الخ.

مع توطئة لبيان معنى الانزياح في اللغة والصطلاح.

مع خاتمة تضمنت خلاصة البحث.

مع الاشارة إلى أنّ العهد تضمن العديد من النماذج التطبيقية على المناهج الثلاثة السابقة، ولكننا أختصرنا كثيراً منه وذلك لتقليل منه وذلك لتقليل العدد من مثل الانزياح الكنائي والتشبيهي ومثل الانزياح الدلالي... الخ فالعهد كان مليئاً بتلك النماذج الا أننا اقتصرنا على ذكر بعض النماذج لا كلها.

ص: 400

المبحث الأول: التحليل البنيوي

توطئة

التحليل البنيوي يعتمد على تفكيك البنية المتكون منها النص وعلى اعتبار أنّ النصوص ما هي إلا كلمات لغوية فهذا يعني أنّ بنية النص هي بنية لغوية، وبالتالي فأنّ تحليلها يعتمد على على المستويات البنيوية وهو المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي... الخ؟

ولكن قبل البدء في التحليل لا بدّ من معرفة معنى البنيوية ويتحدد مفهوم البنية لغة بالعودة إلا ما ورد في المعاجم اللغوية والبني بمعنى البناء: بنی بیناً(1).

ولكن كلّ هذه المفاهيم تصبّ في مصب واحد يجمعها ما قاله الناقد الامريكي راسون ((انّ الأثر الأدبي يتألف من عنصرين البنية (التركيب) والنسج (السبك) وتعني بالأول المعنى العام للأثر الأدبي وهو الرسالة التي ينقلها هذا الأثر بحذافيرها إلى القاريء بحيث يمكن التعبير عنها بطرق شتي عبر التعبير المستعمل في الأثر الأدبي أما النسج فهو الصدى الصوتي لكلمات الأثر)(2).

المستوى الصوتي:

إنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بليغ لا خطأ فيه، وبما أنّ النصوص القرآنية والدعائية وخطابات الأئمة (عليهم السلام) تعدّ غنية من الناحية الصوتية؛ لأنّ للصوت دوراً مهماً وأساسيا في اظهار الجانب الجمالي المتمثل في الايقاع المتميز والجانب الدلالي المثمثل في ما يفيد من معان وأغراض وأهمية الصوت تكمن في مدى تأثير الصوت في السامعين(3).

ص: 401

وان كلام الامام علي (عليه السلام) کام مليئاً بالاصوات بعضها كان خافتاً وبعضها مهموماً وبعضه مجلجلاً وبعضها خفيفة وبعضها قوية... الخ.

ولكن أكدنا في التركيز على الصوت البارز على الخطاب الأدبي الذي قمنا بدراسته وهو صوت الهاء فعند مراجعة العهد نجده مليئاً بهذا الصوت بالذات وكان لتكرار هذا الصوت جوانب دلالية ايحائية كثيرة فنجده في: (أمره.. طاعته، كتابه، فرائضه، سننه، جحودها، أضاعتها، بقلبه، يده، لسانه، نصره، أعزه، نفسه، يتركها، املك هواك، هوى، عفوه، صفحه، رحمته، جبروته، من هواك، أهل الورع، أهل الامساك، أهل الاساءة، حلها، سهمه، هماً، احسانه، أهوائهم، أرائهم، بدنه، مرافقتهم، عمله ...... الخ). فهذه مجموعة قليلة من الكلمات التي احتوت على هذا الصوت وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن سبب كثرة هذا الصوت في العهد.

فنجد أنّ لصوت الهاء أهمية في انتاج الصيحات والصرخات الانفعالية والدليل على ذلك أنه ظهر في أسماء الصيحات والصرخات والآهات والتأوهات ويعد الهاء محوراً لهذه الانفعالات كلها، ولهذا عدّ من أكثر الاصوات الانفعالية شيوعاً(4).

فهو صوت قوي انفعالي والهاء هو محور هذه الانفعالات فهو صوت الأم (آه... آه)، وكذلك هو صوت الحزن، وصوت الزجر، ولكون الامام علي (عليه السلام) كان خطابه خطاباً جاداً لكون الامر يخص الرعية ويخص حقوق الانسان وهذه مسألة مهمة عند الله لذلك استعمل الامام علي (عليه السلام) صوتاً انفعاليا لبيان أهمية هذا الامر وللحث على عدم التهاون فيه، وللتأكد على عظم مسؤولية رعاية شؤون الدولة لذلك اختار تکرار هذا الحرف في خطابه من بين سائر الجروف.

ص: 402

المستوى الصرفي:

يعتمد التحليل البنيوي للمستوى الصرفي في معرفة أهم التراكيب والاساليب الصرفية السائدة في النص وكان العهد مليئا بالاساليب الصرفية الواضحة ولكننا اقتصرنا فقط على بيان موضوعين فقط وذلك لكثرتهم في جوانب العهد، و هما:

1 - أفعل التفضيل:

كان العهد زاخراً بأفعال التفضيل ولا سيما في قوله:

(أحبّ.. أوسطه.. أعم... أجمع)، وكذلك في قوله: (ليس أجد في الرعية أثقل على الوالي... أقل معونة.. اكره للانصاف.. اسأل بالألحاف.. أقل شكراً.. أبطأ.. أضعف صبرا..)

فهذه بعض النماذج على أفعل التفضيل ويوجد غيرها الكثير وبما أن أفعل التفضيل هو يقوم على التفاضل بين شخصين أو أكثر وربما كان هذا السبب وراء كثرة تكراره الكون أغلب بنود العهد قامت على أختيار الحكام أو العمال واختيار الجند والعيون والكتاب وأهل الخراج والقضاة.. الخ، وبما أن عملية الاختيار تكون في عامة الشعب اذن لا بد في التفاضل بينهم لرؤية من يستحق هذا أكثر من غيره وهذا ما أدى إلى كثرة أفعل التفضيل في العهد.

2 - صيغة المبالغة:

وهي صيغة صرفية تدلّ على الكثرة والمبالغة(5) في الطلب ويلحظ كثرة الصيغ في العهد نحو: (ليكن أبعد رعيتك منك أطلبهم لمعائب الناس)(6)، كذلك قوله: ((إياك ومساواة الله في عظمته والتشبه به في جبروته)(7) فمعائب دلالة كثرة العيب والجبروت يغة مبالغة بمعنى القدرة والسلطة والعظمة(8).

ص: 403

وبهذا فان الامام (عليه السلام) كان يستخدم هذه الصيغة البيان أهمية الأمر وعظمه الذي ألقاه على عاتق مالك الأشتر(رضي الله عنه).

المستوى التركيبي

ويتمثل المستوى التركيبي في تحليل البنية الممكونة للنص من حيث الالتفات الى أبرز الأساليب المتكررة في النص فمن يطلع على العهد يجده زاخرة بالمصطلحات النحوية وفي أكدنا على أهمّها.

فالدارس للعهد بشكل عميق يلحظ سيادة الأفعال عليه وهذا أمر متوقع على أعتبار أنّ العهد هو وصايا من قبل الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) لا بدّ من اتباعها والاتباع يكون بتنفيذها والتنفيذ ما هو إلا بأداء كل فعل على حدة.

ونحن نعلم أن الفعل في النحو العربي ينقسم من حيث الدلالة الزمانية إلى ثلاثة أقسام هي الماضي والمضارع والأمر(9).

ولكن الغريب أن هذه الأزمان الثلاثة قد وردت جميعها في ربما للدلالة على أن هذا النص لم يقتصر على زمن معين وانما شمل جميع الأزمان وحتى المستقبل.

ولنبدأ بالتحليل البنيوي بصيغة الأمر وذلك لكثرتها فتقریباً نجد أن كل مقطع أو عبارة تبدأ بفعل أمر نحو قوله: (أملك هواك... شح بنفسك كما لا يحل لك... انصف اليه... انصف الناس.. استر العورة.. الصق بأهل الورع.. أعلم أن الرعية طبقات.. أعرف لكل أمريء متهم ما أبلى.. اردد الى الله ورسوله... اختر للحكم أفضل رعيتك... انظر في امور عمالك.. تفقد أمر الخراج... الخ)، وهكذا نلحظ أن العهد كان زاخراً بأسلوب الأمر ولا سيما بصيغة (أفعل) وهو أمر وجوب اي لا بد من فعله.

وبهذا فانّ العهد کان مليئاً بجملة الأمر التي تعرف بانه ما يطلب الفعل من الفاعل المخاطب ويكون الطلب على وجه الاستعلاء.

ص: 404

ثم بعد كثرة فعل الأمر وتكراره نلحظ كثرة في المضارع لا سيما المقترن بلا الناهية، ثم بعد ذلك جاء الفعل الماضي، ولكن أقل من الفعلين السابقين كما في قوله: (آمره بتقوى الله.. ثم أعلم أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دون قبلك...(10).

(فوجهتك وجرت) هي أفعال ماضية تدل على أن الفعل قد حصل وانتهى.

ومما سبق يتضح أن الأسلوب التركيبي السائد هو الجملة الفعلية بكل أنواع الفعل فالمضارع يدل على الحركية والحيوية والتوضيح في النص أما الماضي فيدل على التغير والخوف والقلق وسرعة الانتقال من حالة إلى أخرى.

أما الأمر فيدل على وجوب الحدوث سواء في زمنه الحالي أو بعده، ومن هذه الوظائف كلها نلحظ سبب اختيار الامام للافعال وبكثرة فهم قد منحوا النص حيوية وحركة وسرعة انتقال من حالة إلى أخرى ومن واقعة إلى أخرى.

وبما أن الجمل الفعلية في دلالتها هي التجرد من زمن إلى أخر فهذا ما أجدى الى تکرارها وبكثرة حتى لا يتوقف مضمون العهد على زمن دون غيره.

المستوى البلاغي

من المعروف أن البلاغة على ثلاثة علوم وهي (البيان والبديع والمعاني) وكان لهذه العلوم أثرها في النص. ولا سيما علم المعاني من خلال أسلوب النهي:

فعند مراجعة النص نجده مليئاً بالنواهي ولا سيما بصيغة المضارع المقترنة بلا الناهية نحو (لا تندمن، ولا تسرعن، ولا تكشفن، ولا تعجلن، ولا تدخلن، ولا تنقضن، ولا يصلح، لا تظهر، لا تدع، لا تضيق، لا يكتفي، لا صلاح، لا يثقلن، لا يشغلنك، لا تشخص، ولا تقولن...الخ).

ص: 405

فهذه مجموعة من النواهي ولا يوجد غيرها المزيد والمعروف أن النهي يكون لدفه المفاسد ولهذا تكرر في العهد اي نهي لدفة الأمور السيئة والفاسدة عن الرعية فدفع المفاسد مقدم على طلب المصالح في الشرع ولهذا كثرت النواهي في العهد.

ولكن رغم هذا نجد أن اسلوب الاممر أي فعل الأمر كان أكثر تکراراً من أسلوب النهي فالمعروف أنّ التكرار من الوسائل اللغوية التي تلعب دوراً واضحاً في النص فتكرار الكلمة أو الاسلوب تدل على هيمنة وسيطرة المتكرر على النص، وهذا ليس غریب لأنّ النهي هو طلب ترك فعل ما بالأداة (لا) من حيث أن الأمر هو طلب المقابل بالقيام بشيء ما.

ونحن نعلم أن القيام بأمر ما يكون أسهل من ترك الفعل لأن العادات التي اعتادها الناس يعب ترکها.

المستوى المعجمي

المستوى المعجمي يتمثل في المعاني التي تشترك بعدة معان تقريباً أي أشبه بالألفاظ المترادفة ولكن يكون أحد الألفاظ له دلالة ايحائية أكثر من الأخر ويضفي على النص جمالا أكثر ونلحظ مثل هذه الألفاظ في العهد متوافرة وبكثرة، نحو قول الامام: (أمره أن يكسر نفسه من الشهوات وينزعها عند الجمحات)(11).

وقوله (وكان الله حرماً حتى ينزع)(13) وقوله: (ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة)(13)، وقوله (الجنود.. حصون الرعية)(14) وقوله: (وكل قد سمى الله له سهمه(15)) وقوله: (اردد الى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب)(16) وقوله: (فان في هذه الطبقة قانعاً) وقوله (ثم احتمل الخرق منهم والغي وشح عنهم الضيق)(17)

ص: 406

وهكذا نجد أن العهد کان مليئا بالالفاظ التي لو قرأناها لتبادر الى أذهاننا شيء غير معناها الاصلي فكلمة جمحات تعني الفرس اي تغلب على راكبه في حين لفظة ينزع عندما تفرأها بطريقة سريعة سنعتقد أنها مأخوذة من النزاع ولكن هي تعني يرجع اي حتى يرجع عن محاربة الله أما لفظة (يحجف به) فعند القراءة المباشرة سنعتقد انها من لاجحاف وسوء التصرف ولكن معناها المعجمي تعني يذهب به(18) أي أن رضا العامة وسخطهم يذهب برضا الخاصة، أما في قوله (حصون) فان المتعارف عليه أن الحصون هي جمع حصان ولكن عند التمعن بالنص نجد انها جاءت بمعنى المكان المحمي المنيع(19).

أما لفظة سهمه فالمتعارف انها مأخوذة من السهم أن الفرس وسهمه ولكن جاءت بمعنی نصیبه(20)، كذلك لفظة الخطوب فالمعوف الآن أن الخطوب من الخطب وهي المصائب ولكن جاءت بمعنى الأمور العظيمة(21).

أما قوله (قانعاً) فهي من القناعة أي الرضا بالشيء، ولكن هذا ما نعتقده عن القراءة العادية للنص وعند التعمق به نجدها بمعنى السائل(22).

أما النص الأخير ففيه الحرق والعي ونح، والخرق تعني العنف، والعي هي العجز بالكلام ونح بمعنى أبعد(23).

وهكذا نلحظ أنّ النص احتوى على العديد من الكلمات التي جاءت بمعاني دلالية كثيرة وهذا ما أضاف للنص رونقاً خاصاً.

ص: 407

المبحث الثاني: التحليل السيميائي

توطئة:

يتناول هذا القسم من الدراسة طريقة تحليل عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر على ضوء المنهج السيميائي والاجراءات المتعبة في طريقة التحليل هي السير على مستويات المنهج السيميائي المستخدمة في تحليل النصوص الأدبية والابداعية.

وقد اختلفت الدراسات السميائية من حيث المنهج وأدوات التحليل إلا أن ما يجب التنبيه إليه هو خصوصية الخطاب الأدبي إلا أن المتفق عليه ان السيميائية لا تقف عند التحليل السطحي فقط وانما تحاول البحث عن كيفية توليد النصوص واختلافها سطحيا واتفاقها عميقا، وهذا ما سنعمد اليه في تحليل العهد سيميائيا على وفق مستويين وهما السطحي والعميق والمستوى العميق الذي يحلل كل ماله علاقة بالنص نحو العنوان والشخصيات وأبرز الصور الواردة في النص بالاضافة الى زمان و مکان وقوع النص الأدبي وعلاقته بها ورد داخل النص(24).

ولكن قبل ذلك لا بد من معرفة معنی سیمیاء في اللغة والاصطلاح حتى تتوضح الصورة، فالسيمياء في اللغة اشتق معناه من القرآن الكريم حيث وردت هذه اللفظة في عدة مواضع من القرآن الكريم.

ومنه قوله تعالى: «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ»(25).

وقوله: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ»(26).

ص: 408

وفي كلا الايتين كانت سيماهم بمعنی علاماتهم المميزة التي يعرفون بها(27).

أما السيميائية في الاصطلاح فهي دراسة الانظمة من خلال الطواهر الاجتماعية والثقافية الملابسة للنص من منظور انها جزء من اللسانيات(28).

المستوى السطحي:

1. البنية السردية السطحية:

يطلق مصطلح السردية على الخاصية التي تخص نموذجاً من الخطابات غير السردية ومن خلالها تميز بين الخطابات السردية وغير السردية(29).

وقيل هي كل تلفظ يتصور متکلماً ومتلقياً تكون فيه بنية الأول التأثير على الثاني بطريقة ما(30).

والسردية هي عبارة عن بنية حكائية تميز الخطاب الأدبي من الخطاب الأخر.

وبالتالي فان السردية السطحية تعتمد على ثنائية المرسل أو المرسل اليه وبالتالي فهي تعتمد على السارد والمسرود اليه من خلال الرسالة

مرسل ---- الرسالة ----- مرسل اليه

أما الرسالة أو ما تسمى بالمحكي فهي طريقة خطاب السارد(31).

وبما اننا نحلل على وفق السردية السطحية فهي بالتالي لا تعمق في النص ولهذا تهتم فقط بالمؤلف الواقعي والقاريء الواقعي.

وهما شخصيان حقيقتان لاينتميان الى النص الأدبي ويعيشان بمعزل على النص الادبي عشية مستقلة ولكن بينهما تواصل وتفاهم يمكنان المتلقي الواقعي يفك رموز الرسالة ويتقبل ما فيها من استحسان واستهجان لكونه عالما بها يقصد به المتكلم(32).

ص: 409

وبما إن العهد هو خطاب من الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر فهما يعدان المؤلف والقاريء الواقعي وكانت علاقتهما قوية وواضحة للجميع لذلك كان قادرا على معرفة مايريده الامام علي (عليه السلام) من دون أي تأثرات وانفعالات.

كقول الامام له في خطابه: (إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبيهة أو مخيلة فأنظر الى عظم ملك الله)(33).

فلو لم يكن يبين القاريء والمتكلم علاقة تفاهم جدية لأخذها القاريء وهو مالك على نحو الاهانة والاستهجان قول الامام علي (عليه السلام) له وقال: هل من صفاتي التكبر؟.... هل يقصد الامام انني سأغتر بالحكم؟ وهكذا... الخ.

كذلك قوله: (انصف الله وانصف الناس)(34).

وقوله: (أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك)(35) فلربما يسأل القاريء الواقعي لهذه الرسالة هل الامام يقصد أني غير عادل غير منصف... الخ، هل يقصد أني لا أعرف كيف اختار رعيتي... الخ.

فهذه التساؤلات يمكن أن يسألها القاريء لو كان لا يوجد تواصل بينه وبين المتكلم أي معرفة تفاهم ذكاء... الخ ولهذا فان مالك يعلم أن وراء هذه الرسالة مقاصد أخرى فهي ليست رسالة له وحده، ونما مستمر لكل قائد ولكل زمن، ولأن مالك عالم بشخصية الامام علي (عليه السلام) ودوره القيادي والرسالي للأمة لهذا لم يأخذ الأمر على محمل شخصي ولهذا لم يسأل أصلاً ونما عمل بما جاء بالرسالة فقط.

ص: 410

المستوى العميق

البنية السردية العميقة

البنية السردية العميقة يتصف على نحو عميق في محتوى الخطاب الادبي وما يتعلق بعد كانت السردية السطحية تعتمد فقط حول المرسل والمرسل اليه. تدور السردية العميقة على كثير من الأمور الدقيقة التي تعتقد ان لها أدوار ايحائية تنعكس على الخطاب الأدبي من وجهة النظر السميائي نحو:

1 - سيمياء العنوان

2 - سيمياء الشخصيات

3 - سيمياء الزمان والمكان

4 - سیمیاء الصور داخل النص

المستوى العميق

1 - سمياء العنوان

في البداية لميول النقاد والدارسون اهتماماً لعتبات النص الا في الدراسات السيميائية المعاصرة التي اهتمت بكل ما يحيطه في النص من عناوين ومقدمات وهوامش النص وفتح مغاليقه و مجاهیله. ولا سيما العنوان فقد أهتم علم السيمياء أهتماماً واسعاً بالعنوان في النصوص الأدبية عموماً لكونه نظاماً سيميائيا ذا أبعاد دلالية واخرى رمزيةة تغري الباحث بتتبع دلالاته(37).

فالعنوان يعد العتبة الرئيسة لكونه يفرض على الدارس أن يقتحمها ويستنطقها قبل الولوج الى اعماق النص فظهور العنوان يعني سطوته وتجره على:

1 - المبدع

2 - القاريء

ص: 411

فأما على الأول فمن حيث أنه صاحب الخطوة والصدارة في النص، وأما على الثاني فلكونه يلقي بظلال سلطته على القاريء يفرض نفسه عليه لأجل الدخول الى عالم النص فالعنوان لا يخرج الا ليكشف عن نفسه أولاً وليفصح عما في النص ثانياً(37).

ولهذا عرفته الناقدة العربية بشرى البستاني بأنه: (رسالة لغوية تعرف بتلك الهوية وتحدد مضمونها وتجذب القاريء اليها وتعربه بقرائتها وهو الظاهر الذي يدل على باطن النص ومحتواه)(38).

نص ابداعي نلحظ أن العنوان الذي لدينا هو : عهد الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر لما ولاه على مصر.

ونحن نعلم أن العنوان كلما كان قصيراً محتوياً على اشارات فنية بديعية كان الافضل هذا في حال النصوص الابداعية التي يكون الغرض من ورائها تحفيز المتلقي أما في هذا النص فلا ينطبق هذا الكلام عليه لعدة أسباب منها: ان كاتب النص وقائله وهو الامام علي (عليه السلام) لم يكتب نصاً شعريا أو ابادعية وانما كتب رسالة سياسية دولية بشكل الخطاب الادبي النثري تحدد مصير أمة من الأمم لذلك لم يعتمد على زخرفة العنوان هذا من جانب أما من جانب آخر نجد أن هذا النص هو عبارة عن رسالة بين رئيس ومن ترأس عليه وهذا النوع من النصوص تحمل في أغلب الأحيان في عنوانها اسم الرئيس ومن ترأس عليه لكونها وصيه أو حدیث بين طرفين كما تلحظ في العنوان السابق من علي (عليه السلام) لمالك.

ولكن ما نلحظه أن هذا النص بالاضافة الى عنوانه السابق المطول أخذ عنوان أخر قصير وهو (العهد) فمجرد ما يسمع أي شخص لفظة العهد حتى يذهب ذهنه مباشرة إلى وصية الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، ولكن ما سر اختبار هذا العنوان بالذات؟.

في حين أننا نعلم أن الرسائل في السابق كانت تسمى بالمكتب نحو کتاب فلان الى

ص: 412

فلان. ولكن من بين كل الكتب الامام لأصحابه أخذ هذا الكتاب عنواناً خاصا به وترسخ في الأذهان وهو العهد.

ولو راجعنا المعنى المعجمي للفظة (عهد) نجد أن مختار الصحاح يذكر في معنى العهد بانه الامان واليمين الموثق والذمة والحفاظ والوصية. وعهد اليه أي أوصاه. وجاء في الحديث أن كرم الايمان من العهد أي رعاية المودة(39).

ومما سبق يتضح سبب اختيار عنوان العهد لهذا الكتاب باذات لكون الكتاب اصلاً كان عبارة على وصايا وبنود من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الاشتر في رعاية شؤون مصر ورعيتها ولذلك كان واجباً على مالك تطبيقها وتنفيذها ولذلك سمي وعنون هذا الكتاب بالعهد لكونه ملزماً بتنفيذه وتطبيقه، ولأن فيه شؤون رعية وأرزاق عباد الله وهذا ما يجب الاهتمام به.

ولهذا فعندما يسمع القاريء لفظة العهد فلا حاجة بعد لاكمال بقية العنوان لانه مباشرة يعرف المقصود ووهو كتاب الأمير علي المالك، كما أن من يسمع العنوان يصبح لديه فضول لمعرفة مضمون الكتاب لكونه صادر من شخص عظيم بليغ لا ينطق بغير الحق وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) لذلك يأخذه الفضول للغوص في مضامين النص وهذا ما يحققه العنوان الجيد حيث يدفع القاريء الى قراءة النص.

2 - سيمياء الشخصيات

الشخصيات هي أساسيات العمل الأدبي وعندما نقول سيمياء الشخصيات فهي عبارة عن دراسة للشخصيات الواردة في النص الابداعي، وقد يتساءل البعض عل في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك شخصيات؟ إذ أنّ أغلب الذهن يذهب الى انّ الشخصيات هي من عناصر الرواية أو القصة الطويلة وفي بعض الاحيان القصية ولككن هذا غير صحيح، فمن يتمعن وبدقة في البنية العميقة للنص يجدها زاخرة بالشخصيات

ص: 413

وقد انقسمت الشخصيات في نص العهد الى قسمين:

أ - الشخصيات الرئيسة:

وقد تمثلت بشخصيتين رئيستين هما المؤلف المجرد والقاريء النجرد. ففي السردية السطحية اهتمت بالشخصيات الواقعية أما السردية العميقة فتركز على الشخصيات المجردة والمتصلة بالنص التي يمكن أن تنبع من داخل النص نفسه.

فالمؤلف المجرد والقاريء المجرد هما صورة أدبية منطبقة عن ذات المؤلف الحقيقي والقاريء الحقيقي(40)، ولكن يتم اكتشافها من داخل النص نفسه أي هي عبارة عن (أناه الثانية)

فالمتكلم المجرد هو الشخصية الثانية للامام علي (عليه السلام) ولكن لا يتم التوصيل اليها من خلال حياته الواقعية وعلاقاته بأصدقائه وكيف هو أخو النبي (صلى الله عليه وآله)، لا، وانما هذه الشخصية يتم الكشف عنها واستنتاجها من النص نفسه بمعزل عن كونه أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن خلال النص نجد أن المتكلم هو قائد عظيم عادليعطي لكل شخص حقه يراعي الضعيف والفقير والمحتاج والمظلوم والبسيط والمسكين ويراعي حياة الرعية ويركز على العدالة الاجتماعية بأرائه وآدابه وحكومته وسياسته فهو القائل:

(إنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا بعض..) ويقول: (الله الله في الطبقة السفی من الذين لا حيلة لهم)(41) کما يتضح من قوله عبادته وزهده وایمانه بالله تعالى فهو الذي يقول: (هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين.. أمره بتقوى الله وایثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه ) (42) كذلك ما يدل على حقه وعدله قوله: (انصف الله وانصفالناس من نفسك ومن خاصة أهلك) كذلك قوله: (لا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء (43)).

ص: 414

كذلك ما يدل على حكمته ودقته وذكاءه من مقابلة الناس وادارة شؤون الدولة بقوله: (الصف بذوي المروءات والاحساب ووأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة)(44).

وهكذا فمن يعلم من هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يدرك أن هذا الكلام وهذه النصائح لا تعد عجيبة من أمام معصوم مثله أما من يدرس النص دون علم بشخصية قائله.

فنستطيع من خلال كلامه في العهد أن يعلم بأنه عادل مؤمن يراعي المحتاج والفقير حکیم ذكي له دراية في ادارة شؤون الدولة.. الخ، ومن كانت هذه صفاته لا بد أن يكون شخصية عظيمة. وهذا نستنتجه من داخل النص نفسه لا من ما نعرفه عنه في الواقع.

أما المتلقي المجرد فهنا بالسردية العميقة يختلف عنه في السردية البسيطة لكون المتلقي الواقعي هو ثابت وغير متغير وهو مالك الأشتر في حين هنا فالمتلقي غير ثابت وانما متغير وعبر الأزمان.

ففي زمن كتابة الخطاب كان المتلقي هو (مالك) أما في الأزمان التي بعدها فقد جاء آخرون لقراءة نص العهد ولكل واحد من قراء العهد شخصية تختلف عن القاريء الآخر.

ولهذا نلحظ أن زمن الخطاب لم يقتصر على الماضي فقط.

ب - الشخصيات الثانوية:

احتوى العهد على العديد من الشخصيات الثانوية التي توضع دقة الأمام وسعة معرفته بالأمور وصغائرها فالامام في عهده لوليه كان دقيقاً في رسم ملامح الشخصيات، ففي كل دولة العديد من الرعاية ولهذا قال الامام:

(اعلم أن الرعية طبقات)(45) والطبقات هي المراتب والمستويات ولهذا يقال أطباق

ص: 415

أي شيء فوق آخر. ولهذا قال له ان الرعية على مرتب ومستويات ثم بدأ الامام يوضح لما بدقة وعمق ملامح وشخصيات الطبقات فمنهم الجنود والكتاب و قضاة العدل والعمال وأهل الجزية والخراج والتجار وأهل الصناعات فهؤلاء كلهم شخصيات ذكرها ذكرها في المقدمة يبين أنهم أصحاب الطبقة العليا ثم قال: (... الله الله في الطبقي السفلى من الذين لا حيلة لهم)(46) أي بعد أصحاب الطبقة العليا يأتي أصحاب الطبقة السفلى وقد وضح لنا بأسلوب واضح شخصيات هذه الطبقة فقال: اصحاب الحاجة والمسكنة، ثم بدأ ببيان علاقة الشخصيات بالوالي كيف تنعكس هذه العلاقة ايجابياً على حكم الدولة فجعل الجنود في مقدمة شخصيات الدولة فقال:

وكل هذا لبيان أهميتهم في كل دولة، ثم بين أن الجنود على الرغم من أهميتهم وقوتهم إلا أنهم لا يؤدون عملهم بصورة صحيحة من دون أهل الخراج لتكوين رواتب الجنود وبقية العمال ثم قال:

أي أن الجنود وأهل الخراج لا فائدة لهم وحدهم لقيام دولة من دون شخصیات أخرى وهو القضاة، ثم العممال ثم الكتاب بعدهم التجار وذوي الصناعات لكونهم بتجارتهم يكونون علاقات مع الدول الأخرى ومن فيها وبالتالي يكثر دخل الدولة.

وهكذا نلحظ أن الدولة كأنها وحدة متكاملة وجسد واحد لا تستغني عن أي عضو من أعضائها ثم بعد أن وضح لنا شخصيات الرعية حسب الطبقات دخل في بيان ملامح شخصيات أخرى وهي الاشخاص الذي على الوالي أن يعمل معهم ويختارهم الحكمه ومساعدته لأن بصلاح الوزراء ورؤساء الدولة تصلح وتتقدم هذه الدولة وبالعكس، ولأهمية الأمر نلحظ أن الأمام رسم لنا ملامح كل شخصية وبدقة وهذا ما يجب الالتفات في هذا الزمن من قبل الحكام فقال: (الصق بذي المرؤات) ولو سألنا من هم ذوي المروءات؟ فقال: (أهل نجدة وشجاعة وسخاء وكرم... الخ)

ص: 416

أي يا مالك الشخصية اتي تتصف بهذه المواصفات الصق بها واجعلها مقربة منك.

ثم بعد ذلك قال اختر للحكم من الناس أفضل رعيتك في نفسك، من هم أفضل الرعية؟ وكيف نتعرف عليهم؟

فقال: هو الشخص الذي لا تضيق به الأمور الا تمحکه الخصوم أي ليس غضوبا ولا لجوجاً ولا عسر الخلق ولا يتمادی في الزلة أي في الخطأ ولا يستنكف من الرجوع الى الفيء أي إلى الحق إن عرفه غير طماع ولا يستنكف في سؤال غيره العلم والفهم عند الحاجة فمن كانت هذه شخصيته اختره للحكم.

ثم دعاه لأن يختار لوزارئه طاقماً جديداً ممن لم يخدم للانظمة الظالمة وممن يثق الناس بهم امناء على مستقبل الرعية فقال: (ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً.. واخوان الظلمة)(47).

ثم بين شخصية العمال فقال: (ثم انظر في عمالك... وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة))(48).

ثم أهل الخراج ثم الكاب ثم التجار... الخ بعد ذلك جاء لرسم شخصية الطبقة السفلى فقال: (الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني فان في هذه الطبقة قانهاً و معتراً)(49).

فوضح لنا أنهم مساكين فقراء وقد جعلهم آخر طبقة وجعل بقية الطبقات في المقدمة من أجل حمايتهم واعانتهم.

الامام (عليه السلام) لكتابة عهده هذا لوليه وكان القصد منه أن يصل إلى الحكام فيما بعد مالك لأن مالك الأشتر رضوان الله عليه كان غنياً عنه فمما عرف عنه أنه كان جديراً بحكم مصر لهذا دعاه الامام علي (عليه السلام) الى الكوفة واعطاه عهده المعروف وبعث به الى هناك فما كان من معاوية الذي كان يدرك أن دخول مالك لمصر فانها تتحول

ص: 417

ال قاعدة قوية وراسخة للخلافة العلوية فدبر خطة لاغتياله وهو ما تحقق له في نهاية المطاف.

ولهذا قال في حقه الامام علي (عليه ا مثله اثنان، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه)(50).

فيا لها من مرتبة عظيمة فمالك كان نموذجاً واقعياً للانسان المتكامل وشخص مثله لا حاجة للامام علي (عليه السلام) بتوصيته كيف يدير الحكم وهو قد زرع في قلبه بذور حب آل البيت (عليهم السلام).

ولكن كان القصد من ورائه أن يصل العهد الى زمان آخر زمان يكثر فيه الظلم ومكان آخر غير مكانه الاصلي وفي هذه الحالة على الحكام العمل به وتطبيقه بدقة.

3 - سيمياء الزمان والمكان

ان سيمياء الزمان والمكان هي عبارة عن دراسة الزمن وما كان العهد ومدی تاثیر هما على نص العهد نفسه أما بالنسبة للزمان فهو في (38 ه) أي ما يوافق سنة (658 م).

وهو زمن انتشر فيه الفساد على يد الحكام الأمويين والقتل وسلب الرعية حقوقهم أما مكانه فكان ما بين الكوفة ومصر اذ كتب في الكوفة ثم ارسل الى مصر ومصر في تلك الفترة دولة حكمها العديد من الحكام الظالمين مما شكل لدى رعيتها صدمة من الحكام بدليل قول الإمام (عليه السلام): (اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عددل وجود وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك)(51).

فهذا القول يدل على أن هذا المكان قد حكمه العديد ه ينظرون للحكام مثل ما كان مالك ينظر للحكام ولكن كيف کانالك ينظر للحكام في عهده؟

مما ذكر في سيرته الذاتية أن مالك كان يكشف للناس جرائم الحكام وانواع الخيانة

ص: 418

التي كانت ترتكب من قبل عثمان وولاته. فهذ يعني أن مالك كان يندد بالحكام ويقف ضدهم لجرائمهم وفسادهم.

فهذا الزمان الذي انتشر به الفساد وهذا المكان وهو مصر الذي حكمه العديد من الحكام.

المبحث الثالث: التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية

توطئة

تعد ظاهرة الانزياح من أكثر الظواهر الأسلوبية تردداً وأوسعها انتشاراً في النصوص الابداعية الأدبية على اعتبار أنّ الانزياح هو انتاج ابداعي ملازما للخطاب الأدبي لكونه يحتوي على ركيزتين أساسيتين الأولى:

الخروج عن البنية المثالية الاصلية وتجاوز الخطاب العادي المألوف، والثانية: البنية الجمالية التي تقف وراء البنى الابداعية وتدعم تأثيرها(52) في المتلقي ومن هنا تنبع أهمية الانزياح من كونها أي اللغة على مستويين الأولى: عادي مثالي، والثاني: أدبي مزاح أو المستوى الأول يناسب النحاة وعلماء اللغة ومن حذا حذوهم، والثاني: فقد رأى فيه البلاغيون جمالاً وعدوه من متطلبات اللغة الأدبية ولهذا جعلوا المستوى الأول معیاراً يقيمون به مقدار انزياح المستوى الفني(53).

ولأهمية الانزياح قررنا البحث عنه في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر من خلال عهده.

ولكن قبل ذلك لا بد من التعرف على معنى الانزياح في اللغة والاصطلاح.

فهو من نزح الشيء ينزح نزوحاً أي بعد الشيء عن موقعه.

ص: 419

ونزحنا عن الدار بعدنا عنها، ونزحنا عن هذا الحجي أي بعدنا عنه وتخلينا عنه (54).

أما في الاصطلاح فهو البعد عم مطابقة الكلام للواقع باستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف فيها الرمز والتشبيه والاستعارة والخيال.. أي تغيرات لغوية فيه يضفي على النص مسحة من الابداع والجمال اللغوي(25).

كما أنه قد سماه النقاد والبحثون بالعدول أو الانحراف ويعد من أهم ما قامت عليه الأسلوبية(56).

سيمياء الصور:

وللصور في النصوص الخطابية والادبية أهمية كبيرة لكونها تساعد الانسان على أن يبحر في خيال النص وما يقرأه وتسمح له بأن يتخيل نفسه كعضو مشاهد أو مشارك داخل النص ومن هنا تنبع أهميتها وبالتالي على قدر التخيل بهذه الصور ومدى الاعجاب أو الاستهزاء بها يكون التأثر بالنص.

ولكن للصور العديد من الأنواع منها الصور الاستعارية والتشبيهية والرمزية... الخ ولكن النوع السائد في العهد هو الصور المتنامية وهي الصور التي يعتمد فيها الشاعر أو الكاتب في الخطاب على حياة القصة من خلال رسم مشهداً طوياً يستقصي فيه الخصائص وصفات الشخصيات بحيث تعكس ما يحتمل في نفسه(57).

وهذا ما فعله الامام علي (عليه السلام) في عهده حيث عمد الى الصور المتنامية أي تنمو صورة بعد صورة من خلال رسمه لشخصيات العهد وكيف عمل على وصف خصائص وصفات هذه الشخصيات كما ذكرناه سابقاً في سيمياء الشخصيات.

فنلحظ صورة لوقوف في مالك أمام الامام علي السلام العهد، وبعدها صورة لرعية وبعدها صورة للجنود... الخ فيما تكاد تنتهي من المقطع الا ووجدت نفسك دخلت في صورة أخرى وهذا ما أعطى للعهد أهمية وقوة في جذب القاريء فكان عبارة عن سلسلة من الصور والمشاهد ما أن تقرأ أولها حتى لا تستطيع أن تتوقف الى أن تنتهي منه.

ص: 420

الانزياح المعجمي:

وهو عندما يستخدم يستخدم الكاتب كلمتين في نفس المعنى فينزاح من المعنى الاول الى المعنى الثاني وهذا كثيراً ما يحدث في القرآن والكلام البليغ نحو قوله تعالى: «أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»(58).

فنلحظ أن (جزاء وأجر) عى نفس المعنى المعجمي وهما يراد بهما الثواب والمكافأة عن العمل إلا أنه انزاح عن لفظة الجزاء في بداية الآية الى الأجر في نهايتها، كل هذا من أجل أن يبنى قول: أجر العاملين جاء بعد قوله: جزاؤهم لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل والاجر هوذا ما كشفه المعنى المعجمي(59).

ولو جئنا لتطبيق هذا النوع من الانزياح على عهد الامام علي (عليه السلام) لو جدناه واضحاً جلياً في قوله: (ولا تنصب نفسك لحرب الله فإنه لا بد لك في نقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تصبحن بعقوبة)(60).

فالازياح حصل ببين كلمتي (نقمته وعقوبة) فمن حيث المعنى المعمجمي فكلاهما بمعنى واحد وهو العقاب والعذاب على مخالفة أمر من هو أعلى منه ولهذا جاء في مختار الصحاح أن معنى: انتقم الله منه أي: عاقبه(61).

فعلى الرغم من أنهما بمعنى واحد إلا أنه انزاح عن لفظة نقمة الى عقوبة في آخر الكلام ونلحظ أن وراء هذا الانزياح سر دلالي عجيب فهو عندما تكلم عن عذاب الله قال (نقمة) أي يا مالك لا تحارب الله حتى لا ينتقم منك في حين أنه عندما تحدث عن عذاب مالك لرعيته قال عقوبة: أي لا تفرح و تتبجح بعقوبة رعيتك، وربما كان هذا الانزياح لبيان أن النقمة هي الشدة والغلظة في الحكم في حين أن العقوبة تكة ن أخف من النقمة هذا من جهة أما من جهة أخى فان غضب العبد الذي هو مالك أهون من غضب

ص: 421

الله حاكم العوالم ومسير الأمور فمن غضب عليه الله ونقمه لا هاد له بعد ذلك ويشقى ولا يحصل على السعادة أبداً في الدنيا والآخرة.

في حين أن من يغضب عليه حاكمه كمالك أو رئيسه كما في زمننا الآن فربما يعاقب وتؤخذ منه بعض المصالح الدنيوية ولكن لك يشقى والدليل على ذلك قول الامام: (وليس شيء أدعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على الظلم)(62).

فهنا عبر عن عقاب الله أيضاً بالنقمة في حين قال عن عقاب مالك عقوبة في قوله: (.. فبسطت عليه العقوبة في بدنه...)(63).

ومن هنا نلحظ أن الامام انزاح من نقمة العقوبة لأن النقمة هي وصف لعقوبة الله في حين العقوبة هي من قبل البشر لكونها أخف من غضب الله ونقمته.

کما حدث هذا النوع من الانزياح في قوله لمالك: (إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر الى عظم ملك الله فوقك)(64).

فالانزياح المعجمي الدلالي حصل بين (أبهة ومخيلة) فمع أن الكلمتين جاءتا بمعنى الكبر، حيث جاء في مختار الصحاح أن الابهة: الككبر، وعندما يقال: ذو مخيلة، أي: ذو كبر(65).

فعلى الرغم من أن اللفظين ظاهرياً بمعنى واحد فالامام كان يستطيع أن يقول أبهة فقط أو مخيلة فقط أي صفة واحدة دون الاخرى إلا أنه ذكرهما معاً وانزاح من لفظة أبهة الى خيلاء لبيان أن الابهة الشعور بالكبر بالأصل في حين أن الخيلاء هي تخيل الانسان الشعور بالكبر في لحظات معينة، فالأبهة ما كان أصله متكبراً أما الخيلاء فهو من يحصل له جاه أو سلطان ويصبح بعد ذلك متكبراً، أي يا مالك لا تتكبر ولا تصبح متكبراً لما حصل لك من السلطان واذا حدث ذلك فانظر لعظمة الله التي وسعت كل شيء وقدم الابهة على الخيلاء لأن الاول أصلي أما المعنى الثاني فيحدث لنتيجة أمر معين.

ص: 422

كما حدث الانزياح الدلالي في قوله (عليه السلام) (.. ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة...)

فقد حصل الانزياح بين (وسمته وقلدته) فالوسم والقلادة هو بمعنى واحد اهرياً وهو العلمة فوسمته أي جعلت له علامة يعرف بها وقلدته مأخوذة في القلادة وهي ما يوضع في جيد الفتاة من الزينة(66)، وهي أيضاً علامة فمن تضع قلادة كبيرة علامة على غنى هذه الفتاة وسعة رززقها. ومن تضع صغيرة دلالة على أن دخلها محدد وهكذا، وفي كلا الحالتين جاءت الكلمتين بمعنى العلامة للدلالة على الخائن، ولكن الامام انزاح لفظة وسمته التي قلدته للدلالة على أن الوسم هو جعل له علامة يعرف بها أو من من خلالها.

أما التقليد فهو تطبيق هذه العلامة ووضععها عليه لتكشف هويته فيعير بها ويذم بسيء فعله.

وجعل وسمته أولاً لأنها اتخاذ قرار الوضع ثم انزاح الى التقليد لكونه تطبيق وضع العلامة لذلك جاء بعد الوسم.

فهذه جملة من الانزياحات التي حصلت لغرض دلالي تبين لنا دقة الامام في انتقاء مفرداته وعباراته.

الانزياح الصرفي

هو الانزياح الذي يحدث في المستوى الصرفي لاظهار رونق خاص في الخطاب الادبي کالانزياح من صيغة الفعل الى مصدره أو من صيغة المتكلم الى الخطاب وهكذا... الخ. مما يتعلق بالأبنية الصرفية، اذ أن هذا النوع من الانزياح يحدث من صيغة صرفية الى أخرى في السياق نفسه لمعان مقصودة(67).

ص: 423

ومن يمعن النظر في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر يجده كثيراً ما يغاير بين المصادر والمشتقات للدلالة على معنى مقصور من قبله نحو قوله:

(.. وليكن أبعد رعيتك عندك أطلبهم لمعائب الناس فان في الناس عيوباً..)(68).

نلحظ ذلك الانزياج حصل في معائب فانزاح من صيغة (فعول) عيوب الى (مفاعل) معائب لكون (عيوب) تدل على الكثرة أي كثرة العيب من الاشخاص والعيوب تدل على أن الناس أصلهم فيهم عيوب لذلك قالها الامام في نهاية العبارة (فأن في الناس عيوبا) في حين قال في البداية معائب للدلالة على أن هناك رعية تحب أن تظهر عيوب غير موجودة في الناس وهذه الرعية حذر الامام مالك منها وقال ليكونوا بعيدين عنك لكونهم يبحثون عن عيوب حتى غير موجودة (أن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد)(69).

حصل هنا الانزياح في(عين الولاة) فقد انزاح من صيغة المفرد (عين) الى صيغة الجمع (الولاة) فبدل أن يقول عيون الولاة أي جمع بجمع أو (عين الولاة) أي مفرد بمفرد قال: (عين الولاة) لكون عيون تل على العينين الواقعين في وجه الانسان والمتعارف عليه أننا عندمانشير الى رؤية شخص نقول عيونه ترى جيداً ولا نقوله عينان لهذا تركها الامام حتى لا يدل على العيون الواقعية لأنه أراد الاشارة الى العين الضمنية التي يشعر بها الولاة، ولأن كل الولاة لديهم عين واحدة ضمني فقال : عين الولاة.

وكذلك في قول الامام (واسرارك بأجمعهم بوجوه صالح الأخلاق)(70) في هذا النص حصل الانزياح ايضاً ما بين صيغة الجمع والمفرد في عبارة (وجوه صالح الأخلاق) فنلحظ ان العبارة مكونة من(جمع + مفرد + جمع) فقال (وجوه) ثم مفرد (صالح) ثم (أخلاق) للدلالة عن أن العمل الجيد هو واحد ومحدد فالاخلاق منها الجيد ومنها السيء والجيدة من الاخلاق هي فقط الصالحة منها لذلك عبر عنها بالمفرد (صالح) حتى يستثنى الجيدة من السيئة كما في أن النور واحد والظلمات متعددة كذلك الاخلاق الجيدة

ص: 424

واحدة والسيئة متعددة.

وفي قوله (ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة)(71).

حصل الانزياح هنا من صيغة فعالة الى فعال ثم فعالة (شجاعة وسخاء وسماحة) وكان السبب في ذلك أن شجاعة والسماحة تحمل معنى المؤنث المعنوي فكانت صيغة فعالة تناسبها أكثر من (سماح وشجاع) أما سخاء فيحتمل معنى المذكر وهو ما فيه صيغة فعال أكثر وأبلغ.

وفي قوله (وليكن نظرك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج)(72).

حصل الانزياح في لفظة عمارة حيث انزاح من الفعل عمر أي عمر الارض الى المصدر عمارة وذلك للدلالة على الحدث(73) أي حدث العمر الذي جاء بصيغة المصدر في حين أن الفعل عمر ماضي ويدل على ما حصل وفات في حين أن الامام كان يوصيه بقضايا في الوقت الحالي لذلك انزاح عن الفعل عمر الى عمارة.

وفي قوله (وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة)(74).

حصل الانزياح في البيوتات الصالحة فبدل أن يقولبيوت قال بيوتات بمجمع المؤنث اي انزاح من جمع التكسير الى صيغة جمع المؤنث حتى تلائم كلمة صالحة المؤنث بالتاء المربوطة مراعيا جانب التأنيث في دلالة رمزها بالتاء المربوطة مع تاء الجمع المؤنث.

کما حصل الانزياح في قوله (فإن العدو ربما قارب)(75).

فانزاح من صيغة فعيل الى فاعل فبدل أن يقول ان عدو الله قريب قال: قارب.

وذلك لكون صيغة فعيل تدل على الثبوت واللزوم(76) فلو قال العدو قريب لكانت النتيجة حتمية أي أنه قريب فيه لا محال لذلك انزاح عنها الى لفظة فاعل أي أنه غير أكيد في قربه لهذا جاء قبله بقرينة لفظية وهي (ربما) غير الحتمية كونها دالة على التقليل اي ربما قريب وربما لا.

ص: 425

وهذا ايضاً ما حصل في قوله: (ووثقوا بصدق موعود الله لهم)(77) فانزاح عن وعد الى موعود اي بدل أن يقول وعد الله لهم قال موعود ايضاً لما في صيغة اسم المفعول من دلالة على الثبوت أي أن وعد الله ثابت ومتحقق لا محالة لهذا عبر عنه بصيغة مفعول التي تدل على الثبوت.

الانزياح التركيبي

وهو ما يحصل في المستوى التركيبي النحوي والانزياحات التركيبية تتصل بالسلسلة السياقية الخطية للاشارات اللغوية عندما تخرج عن قواعد النظم والتركيب مثل الاختلاف في ترتيب الكلمات(78)، أو مثل أن ينزاح من زمن فعل الى زمن آخر نحو قوله:

(انّ الرعية طبقات لا يصلح الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض)(79) فحصل الانزياح من المضارع الى الماضي مع أنه كان يتحدث عن نفس الموضوع ففي البداية قال لا يصلح وهو يتحدث عن الطبقات قم قال لا غنى وهو ايضا يتحدث عن الطبقات فلاذل لم يقل ايضا لا يغني بعضها عن بعض؟

ومكا يدلنا على سبب هذا الانزياح هو وظيفة الفعل فالمضارع يدل على دوام حالة الفعل كما أن الصلح لا يحتاج الى مال أو غيره فالانسان سواء كان محتاجاً أم فقيراً أم شريفاً... الخ يمكن أن يكون صالح في أي زمن لذا جعله بالمضارع ثم امزاح عنه مع لفظة الغنى انزاح عن المضارع الى الماضي لكون الغنى متقلب والانسان ممكن أن يكونغنيا وبسرعة يصبح فقيراً لهذا اختار له صيغة الماضي والتي من دلالاته سرعة التغير والانتقال.

ص: 426

الانزياح البلاغي:

وهو ما يحدث في مواضيع علم البلاغة ولا سيما البيان كالاستعارة والتشبيه واالكتابة... الخ لما لها من وقع رائع في ذهن المتلقي والانزياح هو عبارة عن خروج اللفظ من معنى الى آخر أبلغ منه نحو قوله تعالى: «وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ»(80).

فالمراد بذات ألواح كناية عن السفينة ولكنه بدل أن يقول سفينته كنى بمعان أخرى يقود تركيبها الى المعنى المكنى به صرفاً للأذهان عن استحضار الهيئة الكاملة لسفينة النجاة التي قد توحي بالأمان والاطمئنان وسط الأمواج العالية المحيطة بها ولكنه قال: ذات ألواح تنبيهاً الى الذهن كي يستحضر المكنونات الجزئية للسفينة وهي الالواح والمسامير... الخ(81).

ومثل هذه الانزياحات البلاغية نجدها وبكثرة من عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك كما في قوله: (أمره أن يكسر نفسه عن الشهوات ويزعها عند الجمحات فان النفس أمارة بالسوء...)(82).

فكان الانزياح في قوله: يزعها عند الجمحات كناية عن سيطرة النفس ومنعها من أن ترتكب ما لا يجوز مهما كانت رغبتها في الشيء قوية فالجمحات مأخوذة من جمعح الفرس اذا تغلب على راكبه فبدلا من أن يطول الكلام استراح عن ذلك كله بقوله: يزعها عند الجمحات ليستقر المعنى ولبيان المراد بأسلوب بلاغي جميل وهو ما يعرف بالانزياح الكنائي كما حصل الانزياح الكنائي في قوله: (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً..)(83) فهو حصل في لفظة سبعاً، فبدل أت يقول: ولا تكونن عليهم حيوانا، قال: سبعا لعدة أسباب منها: ان لفظة حيوان مستقبحة بعكس لفظة السبع الذي كان أجمل وقعاً وجرساً، كما ان المراد بالسبع هو المفترس من الحيوان فقط.

ص: 427

ولو قال حيواناً لشمل جميع الحيوانات الأليفة والمفترسة أما السبع فهو للدلالة على الحيوان المفترس فقط. وكانت الكناية من نوع الجزء عن الكل فقال: سبعا وهو جزء من المفترسات وقد اختار السبع لكونه من أسماء الأسد وهو في قمة المفترسات ووالممثل عنها.

فنص العهد مليء وزاخر بالانزياح الكنائي، كما حصل انزياح تشبيهي في قوله: (ليكن أحب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح)(84).

فنلحظ أت شبه الاعمال كلها الجيدة والسيئة بالذخائر، فبدل أن يقول: ليكن أحب الاعمال اليك العمل الصالح انزاح عن لفظظة اعمال الى ذخائر للدلالة على أن العمل الصالح هو سلاح للمؤمن وان الانسان سوف يحتاجه في يوم لا ينفع مال ولا بنون، فالذخائر هي مايخبوءه المرء لوقت الحاجة.

کما حصل انزياح استعاري في قوله (لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)(85).

فاستعار لفظة صدورهم بدل نفوسهم أو قلوبهم في حين أن المقصود هو القلب ولكن لفظة صدر تدل على الأهمية وحسن النية لذلك انزاح الى لفظة صدر، فهذه جملة من الانزياحت البلاغية التي تدل على بلاغة الامام(علیه السلام).

ص: 428

الخاتمة

البحث هو عبارة عن دراسة تحليلية تطبقية اعتمدت على التحليل وفق مستويات تحليل الخطاب الأدبي وتطبيق العهد على هذا التحليل وكان أبرز ما توصلنا اليه هو أن العهد كان عبارة عن ثروة لغوية مميزة جداً وزاخرة بالعلوم ففيه البلاغة وفيه النحو وفيه الصرف وفيه البديع الاستعارة والكناية... الخ.

وهذا أمر لا عجب منه لكون العهد أحد أركان نهج البلاغة الكتاب القيم التابع للامام علي (عليه السلام) أنه كان زاخرا بالعلوم اللغوية.

ولهذا جاءت الدراسة على وفق ثلاث مستويات من التحليل الاول وهو التحليل البنيوي، وفيه تمّ الكشف على العديد من الأمور التركيبية والصرفية والبلاغية واالصوية الجميلة ثم جاء التحليل الثاني على وفق المنهج السيميائي الذي اعتمد فيه على المستويات السيميائية وكان أبرز ما توصلنا اليه من خلال هذا التحليل هو الكشف عن أبرز عناصر النص الدقيقة والعميقة والكشف عن جوانب مهمة من الشخصيات الرئيسة والثانوية.

ثم جاء التحليل الثالث وهو على وفق بعض الانزياحات اللغوية كالانزياح الصرفي والنحوي والبلاغي.... الخ

وتم الكشف من خلاله على عناصر دقيقة وعميقة في أسلوب التعبير الخطابي في النهاية كان عبارة عن كنز لغوي مليء بالأفكار والجواهر اللغوية.

ص: 429

الهوامش

1. ينظر: مختار الصحاح للرازي: 42.

2. تحليل الخطاب الادبي ووقضايا النص، موقع: اتحاد الكتاب العرب على شبكة الانترنيت.

3. ينظر: التحليل الصوتي والدلالي للغة الخطاب في شعر المدح: نجية عبابو: 16

4. ينظر: دلالة الالفاظ، ابراهيم أنيس: 127

5. ينظر: شرح ابن عقيل: 4 / 165

6. نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 675

7. نفسه: 674

8. ينظر: هامش نهج البلاغة: 674

9. ينظر: شرح بن عقيل: 1 / 30

10. نهج البلاغة: 672

11. نهج البلاغة: 672

12. نفسه: 674

13. نفسه: 675

14. نفسه: 678

15. نفسه 678

16. نفسه 681

17. نفسه 688

18. ينظر: مختار الصحاح: 56

19. ينظر: مختار الصحاح: 78

ص: 430

20. ينظر: نفسه: 162

21. نفسه: 96

22. نفسه: 269

23. نفسه 226

24. ينظر: التحليل السيميائي للخطاب الشعري في النقد العربي، د. فاتح علاق:

150 - 151

25. الاعراف: 46

26. الاعراف: 48

27. ينظر: مختار الصحاح: 160

28. ينظر: المنهج السيميائي و تحليل البنية العميق للنص: دحلام الجيلالي: 3

29. ينظر: قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، رشید مالك: 121

30. ينظر: تحليل الخطاب: 44

31. ينظر: نفسه: 40

32. ينظر: تحليل الخطاب: 31

33. نهج البلاغة: 673

34. نفسه 674

35. نفسه: 681

36. ينظر: العنوان في النص: عبد القادر رحیم: 5

37. ينظر: نفسه

38. نفسه

39. ينظر: مختار الصحاح: 227

40. تحليل الخطاب: 40

ص: 431

41. نهج البلاغة: 978

42. نفسه: 171

43. نغسه: 674

44. نفسه: 679

45. نهج البلاغة: 678

46. نفسه: 687

47. نهج البلاغغة: 676

48. نفسه 682

49. نفسه: 687

50. ينظر: نفسه

51. نهج البلاغة: 672

52. ينظر: اسلوبية الانزياح في النص القرآني، احمد غالب: 2

53. نفسه: 20

54. ينظر: مقدمة في ظاهرة الانزياح: عبد الله علي باسودان، منتدى منابر ثقافية.

55. نفسه

56. ينظر: أسلوبية الازياح: 5

57. ينظر: جماليات القصيدة المعاصرة، د طه وادي: 94

58. آل عمران / 136

59. ينظر: الكشاف، الزمخشري: 445

60. نهج البلاغة: 673

61. ينظر: مختار الصحاح: 327

62. نهج البلاغة: 677

63. نفسيه: 683

ص: 432

64. نهج البلاغة: 673

65. ينظر: مختار الصحاح: 14

66. ينظر: مختار الصحاح: 267

67. الانزياح في شعر سميح القاسم، وهيبة بو غالي: 52

68. نهج البلاغة: 675

69. نهج البلاغة: 685

70. نهج البلاغة 686

71. نفسه: 679

72. نفسه: 679

73. الجدل في القرآن: 50

74. نهج البلاغة 683

75. نهج البلاغة: 690

76. ينظر: الجدل في القرآن: 201

77. نهج البلاغة: 688

78. ينظر: أسلوبية الانزياح في النص القرآني: 100

79. نهج البلاغة: 678

80. القمر: 14

81. أسلوبية الانزياح: 82

82. نهج البلاغة: 672

83. نفسه: 672

84. نهج البلاغة: 672

85. نفسه: 680

ص: 433

المصادر

1. القرآن الكريم

2. تحليل الخطاب الأدبي وقضايا النص، د. عبد القادر شرشار، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2006 م.

3. جماليات القصيدة المعاصرة، د طه وادي، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1994 م.

4. دلالة الالفاظ، ابراهیم انیس، ط 4، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980 م.

5. شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقیل، محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الهداية، ط 1، بیروت، (د.ت).

6. قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، رشید مالك، دار الحكمة، 2000 م.

7. الكشاف، محمود بن عمر الزمخشري، ضبط وتوثيق: ابو عبدالله الداني بن منير آل زهوي، دار الكتاب العربي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1427 ه - 2006 م.

8. مختار الصحاح، الرازي، تحقيق: ابراهیم زهوة، دار الكتاب العربي، بيروت، 2007 م.

9. نهج البلاغة، شرح جديد لأكبر عدد من المفردات اللغوية، السيد عباس علي الموسوي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 3، 1430 ه - 2009 م.

الرسائل والاطاريح:

1. أسلوبية الانزياح في النص القرآني، أحمد غالب النوري الخرشة، (أطروحة دكتوراه) جامعة مؤتة، اشراف: د زهير المنصور،، 2008 م.

2. الانزياح في شعر سميح القاسم (قصيدة عجائب قانا الجديدة أنموذجاً)، دراسة أسلوبية، وهيبة فواغالي، اشراف: أحمد الهادي، (رسالة ماجستير)، جامعة أكلي محند

ص: 434

أولحاج - البويرة / الجزائر، 2012 - 2013 م.

3. التحليل الصوتي والدلالي للغة الخطاب في شعر المدح ابن سحنون الراشدي أنموذجاً، نجية عبابو (رسالة ماجستير)، اشراف: د. عبد القادر توزان، جامعة حسيبة بو على - الشلف - الجزائر، 2008 - 2009 م.

4. الجدل في القرآن، خصائصه ودلالته.. دراسة لغوية دلالية، يوسف عمر لعساکر، (رسالة ماجستير)، جامعة الجزائر (بن يوسف بن خده)، الجزائر، 2004 - 2005 م.

المجلات:

1. العنوان في النص الابداعي (أهميته وأنواعه)، عبد القادر رحیم. مجلة كلية الاداب والعلوم والانسانية والاجماعية، ع 2 - 3، جامعة محمد خيضر - بسكرة، 2008 م.

2. المنهج السيميائي وتحليل البنية العميقة للنص، د. حلّام الجيلالي، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 365، أيلول، 2001 م.

شبكة الانترنيت:

1. مقدمة في ظاهرة الانزياح في الشعر، عبد الله علي باسودان، منتدى منابر ثقافية:

2. www.mnaabr.com )

ص: 435

ص: 436

السياق الافتراضي والتأويل التداولي قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

اشارة

د. حازم طارش حاتم

كلية الامام الكاظم للعلوم الإسلامية الجامعة

ص: 437

ص: 438

ملخص البحث

الكلام وليد السياق، فلا قيمة للكلام وهو خارج السياق، والتغيير الحاصل في أساليب الكلام منشأه السياق، فمنشي الكلام يجب عليه معرفة السياقات حتى يستطيع تحقيق الأهداف المنشودة من الكلام، والسياق الافتراضي واحد من السياقات التي يلتجئ إليها المتكلم وهو يريد إثبات قضية، أو نقض قضية، عن طريق فرض قضية للمتلقي تستدعي القضية المراد إثباتها أو نقضها، والمتلقي يقرئ القضية في ضوء التأويل التداولي، لأنه يدرك بأن القضية المعروضة ليست هي المقصودة، بل ما يترتب عنها من قضايا يفرضها مقتضى الحال، فالمتلقي هو يصل إلى النتيجة، فالقراءة لها قطبان: المتكلم والمتلقي، وفي ضوء تلك القراءة سنقرئ عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)، لنقف على أهداف الكلام وغاياته، وسبل تحقيق ذلك في ذهن المتلقي الحاضر - مالك الأشتر -، والمتلقي الكوني - القارئ العام.

ص: 439

مدخل مفاهيمي: السياق الافتراضي والتأويل التداولي

من الأهمية بمكان الوقوف على المصطلحات التي تعد مفاتيح أساسية في تشكيل المنظومة المعرفية، التي من دونها يقع اللبس والغموض، ولكل علم مصلحاته الخاصة به، قد تتشابه المصطلحات بالتسمية، لكنها تختلف بالمفهوم.

1. السياق الافتراضي:

وهو سياق تخاطبي خاص يقدم فيه المتكلم فرضیات ذات طبيعة لسانية، يقتضيها السياق، والمقتضى يتمحور في مضمرات الخطاب التي تمثل معارف مشتركة بين طرفي الخطاب، وهذه المعارف تمثل قضية يراد بها أثبات قضية أو نفيها، فالسياق الافتراضي يكون في خطاب محل التوجيه، ولكل سیاق فرضية متوقفة على الظروف المحيطة بالمتلقي، والظروف الاجتماعية، فللسياق أثر في تحقيق الملائمة التواصلية في الفعل القولي الذي ((هو وليد قصد معين الذي يستمدّ وجوده من شخصية المتكلم ومستمعيه))(1).

فالمتكلم يفترض قضية ليست هي المقصودة في أصل الخطاب، بل هي الطريق إلى إثبات القضية في ذهن المتلقي، أو توجيه الخطاب إلى متلقي ليس هو المقصود من أصل الخطاب، ولكن اقتضت الصلة والمناسبة ذلك، فالفرضية في الاصطلاح المنطقي ((قضية يأخذ بها الباحث في بداية برهانه على إحدى المسائل))(2)، فهناك ملائمة بين القضيتين أوجدها المتكلم جعل أحداهما مجرّد فرضية لتصديق الأخرى(3)، أي تشابه الظروف المقامية، وهذا مما يساعد في إدراك القصد التواصلي بآلية التأويل التداولي.

وفي الاصطلاح اللساني الفرضية: ((هو ذلك الشيء الذي يفترضه المتكلم قبل التفوه بالكلام))(4)، وتمثل هذه الفرضية الخلفية التواصلية بين طرفي الخطاب، لذا تقول أركون: (هو تلك المعلومات التي لم يفصح عنها، فإنها وبطريقة آلية مدرجة في القول(5)).

فالمتكلم يريد أن يصوغ أفعال توجيهية (Directives) غير مباشرة تحمل المتلقي

ص: 440

على عمل معين(6)؛ لأن ((كلّ عمليّة من عمليّات التبليغ ينطلق الأفراد المتخاطبون من معطيات أساسيّة معترف بها لا يصرّح بها المتكلّمون، وهي تشّكّل خلّفية التّبليغ الضّروري لنجاح عملية التبليغية، وهي المحتواة في القول))(7)، فعناصر الخطاب الافتراضي هي:

- أولاً: الجانب الملفوظ في الخطاب.

- ثانياً: الجانب الإدراكي المفهوم من الخطاب.

- ثالثاً: تركيب الخطاب وبنيته التي تعمل على تلاقي جوانبه الملفوظة والمفهومة(8)، فالأنساق التي يخطها (المتكلم) هي خاصة به، غير بعيدة عن المتلقي، كونه متلقي الخطاب ومنتجه في ذات الوقت؛ لأن مقاصد الخطاب تستهدفه تريد إيقاع الأثر فيه، والمتلقي ربما يكون خاص أو عام، وربما خاص يراد به عام أو العكس، فالافتراض مجموعة المعاني التي ينشأها المتكلم في الأنساق التركيبية، ويدركها المتلقي استدلالياً |؛ لأن هناك فرق بين ما قيل، وما يراد أن يقال.

وقد قدَّم (دان سبيربر) الأنثروبولوجي، و(دیدري ولسن) الفيلسوف التحليلي في عام 1986 نظرية في التواصل والإدراك، تأخذ بمعطيات علم النفس المعرفي في مجال الإدراك والوعي تسمی (نظرية الصلة أو المناسبة) (Relevance)، أحد مبادئها (مبدأ الصلة) مفاده ((يكون الافتراض مناسباً وذا صلة في سياق ما إذا وفقط إذا كان له بعض التأثير السياقي في ذلك السياق))(9).

فنظرية الصلة في ظاهر الأمر تعتني بعملية التلقي، بيد أنها تولي عملية الإنتاج اهتماماً بالغاً من خلال الاختيار المعجمي والتوزيع التركيبي ((فيكون القول والسياق معاً مقدّمات عملية التأويل التداولي التي هي عملية استدلالية))(10).

وفي هذه النقطة يلتقي السياق الافتراضي مع التأويل التداولي، لأن السياق الافتراضي

ص: 441

بنية أساسية تتوقف على معرفة اللغة وأنساقها، ومن أهم وظائف اللغة (القصد التواصلي)، فالمفهوم الأساسي للسياق الافتراضي هو أن المتكلم ينشئ ملفوظاً ملائماً للسياق الاجتماعي، وهو بذلك يسعى إلى الحصول على أقصى قدر من المبادئ السياقية الافتراضية بأقل مجهود معرفي، بحيث يؤول المتلقي هذا الملفوظ تداولياً على أنه أفضل المعلومات المقدمة من قبل المتكلم(11)، فالافتراض أمر يعتمد على بنية الأحكام النحوية للجمل، يفترض المتكلم بالمتلقي معرفتها، وبخلافه يقع اللبس وسوء الفهم(12).

فالدلالة السياقية للأنساق اللغوية لا تفهم من دون معرفة خصائصها الإنجازية المقترنة بها في التواصل اللساني(13)، لذا نجد جاكوبسون أدرك أهمية الحقائق الخارجية، والمقام التخاطبي في تحديد المعاني الكليَّة للأنساق اللسانية(14)، بذلك أصبح السياق ((بنية سيميَّة (Semiotic Struture) عناصرها الأعراف الاجتماعية والقيم الثقافية المأخوذة من النظام السيمي الذي يكوّن الثقافة))(15).

2. التأويل التداولي

يُعدُّ التأويل التداولي فاعلية ذهنية يحتاج إليها المتلقي من أجل فهم البنية الضمنية و المسكوت عنها في الخطاب، والتأويل التداولي يبحث عن (قصدية الخطاب)، أي ما هو غير لساني سياقي يتصل بأغراض المتكلم(16).

إنّ تحقق عملية التواصل مرهون بفهم المعطيات اللغوية، والقدرة على تأويل هذا المعطى؛ لأن الاشتغال التأويلي يعمل على المعلومات الخطابية غير الظاهرة على السطح(17)، فالتوظيف التداولي للمعطيات اللغوية يساعد على إنتاج المعنى، فالتداولي يوظف اللغة على نسق معين حتى يبلغ المتلقي معنى معين مستفيد من الكفاية التواصلية التي يتمتع بها المخاطَب، فضلاَ عن المخزون الثقافي والاجتماعي الذي يتمتع به المخاطَب الذي يمثل مصدر الافتراض الذي يحيل إليه المتكلم، والمتكلم في سياقه الافتراضي قد

ص: 442

يقصد مخاطَب بعينه دون آخر غير أنه يقصد مخاطَب کوني؛ لأن القضايا التي يطرحها عامة تتعلق بعموم الناس، ولا تقصد فرد بعينه، إلا أن المتكلم يمررها عبر المتلقي الخاص، لوجود مناسبة استدعت الخطاب، وهذا الاستدعاء وظفه المتكلم واستثمره في التوجيه والإرشاد، لذا الفعل التأويلي يقوم على ((سلسلة من الاستدلالات التي يقوم بها القارئ أو المستمع الذي يُعوّل كثيراَ على قدرته الاستنتاجية في تحديد ما يعنيه المتكلم))(18)، فالتأويل عنصر مركزي في دينامية المعنى؛ كونه يجد علاقة ملائمة بين (المعنى الضمني) و (المعنى الصريح) المصرح به بالمعطى اللغوي، وهكذا يبدو أن عملية الفهم الاستدلالي عملية غير برهانية، ينطلق المؤول فيها من صياغة فرضية ما، استناداً على المؤشرات المقدمة، وهي فرضية يمكن تأكيدها من دون البرهنة عليها(19).

((ففي أحيان كثيرة لا يعني الكلام ذلك الجانب التصريحي، بل يعني حمل المتلقي على التفكير بأمور ثم التلميح إليها، وليس بأمور غيبية؛ لأنها متضمنة بالأقوال المصرح بها يلتجئ المخاطَب بعدم التصريح، لاصطدامه بعوامل تستمد مشروعيتها من المجتمع(20)))، فحق المخاطَب لا يكتفي بالمعاني الظاهرة في المعطى اللغوي ((بل يلجأ إلى حساب تأويلي يمكّمنه من إدراك المعاني الضمنية))(21).

والمخاطَب يحتاج إلى تأويل الخطاب في ضوء سياقاته، ومقاصده؛ لأن ((اعتماد قصدية النص أساس التأويل قد يعطي مصداقية ويفضي عليه صبغته الشرعية من حيث الفهم))(22).

فالانعکاس خصيصة جوهريَّة للاتصال القصدي، لذا لا يكتفي من المتكلم توجيه خطابه، بل يلزم من المتلقي إدراك قصدية المتكلم في الفعل التواصلي، وبذلك ينعكس القصد التواصلي(23)، من هنا تدخل التداولية في اهتمامها دراسة القدرة الإنجازية والقدرة التأولية، أي كيف يصل المتلقي إلى المعنى المراد من دون إغفال الجانب الثقافي، ومن دون

ص: 443

الخروج عن العرف والاتفاق(24).

في ضوء ما تقدم يمكن القول أن السياق الافتراضي الذي ينتجه (المتكلم) يحمل قصدية من أجلها يفسر الجانب الشكلي للمنجز القولي، وهذه القصدية تستدعي إعادة قراءة من قبل (المتلقي) لبناء المعني من جديد؛ لأن ((معنى الملفوظ ليس هو القصد الدّال على المتكلم بالذّات، بل هو المعنى الذي يستخرجه المخاطَب من الملفوظ منطلقاً في ذلك من بنيته الدّالة، ومعتمداً على مجموعة الكفايات التي يمتلكها هو))(25)، فالآثار السياقية المعرفية هي التي تنتج عملية التأويل انطلاقاً من المقدمات المنطقية للأقوال والقضايا التي يتكون منها السياق (التضمينات السياقية) و (إعادة تقيم المعلومات) و (إلغاء القضية الضعيفة التي تتناقض مع الموجود في الذاكرة)(26)، ويمكن تشجير ذلك:

أنتجه في ضوء السياق الافتراضي

المتکلم

المنجز القولي

المخاطب

إعادة قراءته في ضوء التأويل التداولي

1. وظيفة الأمر بين السياق الافتراض وآليات التأويل.

الأمر وهو طلب حصول الفعل من المخَاطَب لم يكن حاصل وقت الطلب: على وجه الاستعلاء مع الإلزام، وله أربع صيغة:

1. فعل الأمر، قال تعالى: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ» (مریم / 12)

2. المضارع المجزوم بلام الأمر: قال تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» (الطلاق / 7)

3. اسم فعل الأمر: قال تعالى: «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا

ص: 444

اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة / 105)

4. المصدر النائب عن فعل الأمر: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» (الانعام / 151).

وقد تخرج صيغ الأمر عن مقتضى الظاهر، فتدلُّ على معانٍ غير معناها الأصلي تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال(27)، والمتكلم يوظف هذه الدلالات في سياق افتراضي، من أجل تحقيق مقاصده الخطابية، وإيجاد التواصل، وقد وجدنا في عهد الإمام علي (عليه السلام) كثرة استعماله هذا الأسلوب، فضلا عن خروجه على مقتضى الحال، وأكثر الصيغ دوراناً (فعل الأمر) و(المضارع المجزوم بلام الأمر)، والنحاة يفرقون بين هاتين الصيغتين، فذكروا أنّ فعل الأمر مقتصر على مقام الخطاب، أمّا الفعل المضارع المقترن بلام الأمر يستعمل مع الغائب والمتكلّم(28).

قال الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) بقوله: ((اعلم یا مالك أنّي قد وجّهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دولٌ قبلك من عدلٍ وجورٍ، وأن النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدلّ على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))(29).

يجرّد الإمام رمزية (مالك)، ويضعه في سياقه الافتراضي بعد التنبيه عليه بأن عليه أن يعلم، مع أن (مالك) يعلم بأنه ذاهب إلى بلاد جرت عليها دول من عدل و جور، ثم يعقد تقابل:

ينظرون من أمورك مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك

ويقولون فيك مثل ما کنت تقول فيهم

وهذه معارف مشتركة بين طرفي الخطاب استثمرها المتكلم، ليصل إلى تقرير حقيقة في نفس المتلقي باستعمال القصر ب(إنما) التي تفيد تذكير المتلقي وتنبيه، قال عبد القاهر

ص: 445

الجرجاني ((اعلم أن موضوع (إنما) على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحّته أو لما يُنَزَّل هذه المنزلة تفسير ذلك أنك تقول للرجل: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك ويدفع صحته، ولكن لمن يعلمه ويقرُّ به، إلا أنّك تريد أن تنبه للذي يجب عليه من حق الأخ وحُرمة الصاحب))(30)، وهذا السياق المعرفي وفر آليات الإنتاج وتأويل الخطاب في التواصل مركزه (العمل الصالح)، وقد استعان المتكلم بالإشارة وهي أن يتضمن الكلام القليل معانٍ كثيرة، تتأتي من إماء ولمحة دالة(31).

وهذا عين ما أراده الإمام تأكيده وتنبیه مالك (رضي الله عنه) و تثبيتها في ذهن المتلقي، وحثه عليها، وترغيبه بها، لهذا وجهه من جديد بقوله: ((فليكن أحبَّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))، لذا نجد تقدیم خبرها - یکن - (أحبَّ الذخائر) على اسمها (ذخيرة) للتحبيب والترغيب بالعمل الصالح قال سيبويه: ((كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني))(32).

وقال الإمام علي (عليه السلام)) في عهده المالك (رضي الله عنه): ((والصق بأهل الورع والصدق ثم رُضهم على ألا يُطرُوك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تُحدث الَّزهو، وتدني من العزَّة))(33).

المتكلم في سياقه الافتراضي يوجه المتلقي الكوني، ويرشده إلى ملازمة أهل الورع والصدق، ويجعل هذه الفرضية منطلقه إلى اختبار واختيار من يلازم الحاكم، وبما أن (مالك) عُهد إليه ولآية مصر، واقتضت الصلة والمناسبة خطاب الإمام (عليه السلام).

فمتلقي الخطاب يصل بتأويله إلى قصد الخطاب وهو (النهي عن ملازمة غير الورعين والصادقين)، وهذا يمثل قوة إنجازية متمخضة من أصل الطلب (والصق بأهل الورع والصدق)، وكشف الخطاب عن مزايا هؤلاء، وبرر عدم ملازمتهم؛ لأنهم يكثرون من الإطراء الذي يحدث الزهو، ويدني من العزة.

ص: 446

أمّا الصيغة الثانية التي استعمله الإمام علي (عليه السلام) فكانت (الفعل المضارع المقترن بلام الأمر) قال الإمام (عليه السلام): ((وليكن نَظَرك في عمارة أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً))(34).

الفرضية التي يقدمها المتكلم في سياق الطلب، وهي (الاهتمام والعناية بالعمارة)، ولا يكن نظرك في استجلاب الخراج، لأن الخراج لا يدرك إلا بالعمارة، لهذا نجد تخاطب الشرطي الذي أوجده الخطاب ولَّد قوة إنجازية (لا تطلب الخراج إلا بعد عمارة البلاد)، والمتكلم أستعمل أداة الشرط (من) التي تفيد دلالة العموم(35)، والغرض الذي خرجت إليه هو (التكليف )*، وهو بذلك يريد توجيه خطابه إلى كل من ترأس، فيصبح تکلیفه العمارة، ولا يتسنى له بعد ذلك طلب الخراج قبل العمارة، ويمكن تشجير ذلك:

من طلب الخراج بغير عمارة - أخرب البلاد - القوة الانجازية - وأهلك العباد - لا تطلب الخراج الا بعد عمارة البلاد - ولم يستقم أمره - القوة الانجازية

ومتلقي الخطاب يدرك في سياقه التأويلي التداولية، مقاصد الخطاب، ويتحقق القصد التواصلي، الذي هو هدف كل خطاب، الذي بدوره يولد تأثير في متلقي الخطاب الكوني المعني بأصل الخطاب.

وقال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك: ((وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحق وأعملها في العدل وأجمعها لرضى الرَّعية، فإن سُخط العامة يُجحف برضى الخاصة، وإن سُخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة))(36).

ص: 447

بنائية الخطاب قائمة أساساً على الطلب الذي يفيد التوجيه والإرشاد، وقد وظف الخطاب اسم التفضيل (أحبَّ، أوسط، أعم، أجمع) التي تفيد أن شيئين قد اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة(37) في تأكيد مضمون الخطاب من الحث على إرضاء العامة من الرعية، وكسبهم، ولو على حساب الخاصة، لأن رضى العامة هو الأساس، وهو المعيار في عدالة الحكومة، لذا يولد الخطاب قوة إنجازية (لا تسخط العامة برضي الخاصة، ولا ترضي الخاصة بسخط العامة، لأن سخط الخاصة يغتفر)، ويمكن التشجير ذلك:

احب الامور - أوسطها في الحق - أعملها في العدل - أجمعها لرضى الرعية - القوة الانجازية (لا تسخط العامة برضى الخاصة)

وعلى وفق مبدأ الصلة بين التأثير السياقي والجهد الإدراكي يتحقق البعد التأويلي بآلياته المعرفية التواصلية، فينجز فعل التأثير.

2. وظيفة النهي بين السياق الافتراض وآليات التأويل:

النهي وهو طلب الكفّ عن الفعل على وجه الاستعلاء، وله صيغة واحدة، وهي الفعل المضارع المقرون بلا الجازمة قال تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا» (الأعراف/ 56).

وقد تخرج صيغة النهي عن مقتضى الظاهر، فتدلُّ على معانٍ غير معناها الأصلي - طلب الكفّ عن الفعل إلى معانٍ تُفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال (38)، وعن طریق هذه المعاني يحقق المتكلم في سياقه الافتراضي هدفه التخاطبي؛ لأنه لا يقصد

ص: 448

توجيه الخطاب لشخص معين، ولكن اقتضت المناسبة ذلك، وتوجيه الخطاب لذلك الشخص - مالك - بالنهي، وهو لا يتصور منه ذلك، فمن باب أولى أن يكون لغيره.

قال الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه): ((وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فأنّهم صنفان إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظيرٌ لك في الخلق))(39).

السياق الخطابي يأشر أن الطلب خرج من معناه الأصلي إلى معناه المجازي ألا وهو (النصح والإرشاد)، وحقيقة الخطاب أنه ليس موجه إلى شخص مالك الأشتر، بل موجه إلى عموم مَن يريد أن يكون حاكماً، أو هو حاکم بالفعل، ثم قال (ولا تكوننَّ)، طلب الكف عن فعل لمن لا يتوقع منه القيام بذلك، وتعبير ((النهي عن الكون أبلغ عن تلك الصفة، فقولك (لا تكن ظالماً) أبلغ من قولك (لا تظلم)؛ لأن (لا تظلم) نهي عن التلبس بالظلم، وقولك (لا تكن ظالماً) نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على الصفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة))(40)، فأسلوب طلب (فعل الأمر) و (النهي)، التي وظفها الخطاب في سياقه الافتراضي، حتى يولد قوة إنجازية (بما أنه أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق فيجب عليك أن تشعر قلبك الرحمة والمحبّة، واللطف، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً)، أفاد التأويل ذلك من الخصيصة البنائية للتتابع الطلب:

أشعر قلبك - الرحمة - المحبة - اللطف - القوة الانجازية - (ولا تكوننٌ سبعاً ضارياً)

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ولا تنصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنَّ على عفوٍ ولا تحجبن بعقوبة، ولا

ص: 449

تسرعنَّ إلى بادرةٍ وجدت منها مندوحةً، ولا تقولنَّ إنّي مؤمَّر آمر فأطاع، فإنَّ ذلك أدغالٌ في القلب ومنهكةٌ للدين وتقربٌ من الغير))(41).

المسلمات الحوارية التي أستعملها المتكلم في سياقه الافتراضي تتابع النواهي (ولا تنصبنَّ) و (لا تندمنَّ) و (ولا تبجحنَّ) و (لا تسرعنَّ) و (لا تقولنَّ)، نجد أن الإمام سوغ طلبه، وبرره في قوله (ولا تنصبنَّ نفسك لحرب الله، فإنه لا يَدَي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته)، ليصل بنا إلى أهداف الخطاب الذي يعد القوة الإنجازية (مع قدرة الله عفى ورحم، فعليك أن تكون عفواً ورحيماً)، أمَّا بناء الخطاب في ضوء بنية التشارط يكون (بما أن الله عفواً ورحيماً إذاً عليك أن تكون عفواً ورحيماً بالعباد)

لا تنصبن نفسك لحرب الله - فانه لا یدي لك بنقمته - القوة الانجازية - (الله مع قدرته عفى ورحم) - ولا غنى بك من عفوه

وفي قوله (ولا تقولنَّ إنّي مؤمَّر آمر فأطاع، فإنَّ ذلك أدغالٌ في القلب ومنهكةٌ للدين وتقربٌ من الغير)، والكشف عن البعد الإشاري (أني)، يولد متناقضات في السلوك، والمبادئ التي يحرص الخطاب على بيانها، والإشارة إليها والتلويح بها في ضوء نظرية الصلة، والكفاية الإدراكية للمتلقي متسعة لكشف المعاني الضمنية المفترضة عبر المنجز القولي المتولد في سياقه الثقافي المعرفي، لذا لم يكتفِ بالكفاية التواصلية السابقة وفعلها التأثيري، بل أخذ يولد كفاءة تأويلية جديد الضمير الإشاري(أنا)، وهذا فيه مفسدة للقلب وإضرار للدين.

ص: 450

لا تقولن اني مؤمر آمر فأطاع - فأن ذلك إدغال في القلب - لا تفسد قلبك، ولا تضر دينك - منهكة للدين وتقرب من الغير

وقال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك: ((ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً و يعدلُ بك عن الفضل، ويعدك الفقر ولا جباناً يُضعفك عن الأمر ولا حريصاً يُزيّنُ لك الشًّر بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتَّى يجمعها سوء الظَّنَّ بالله))(42).

لا يمكن حمل النهي في الخطاب على ظاهره ؛لأنه من غير الممكن أن يقع من متلقي الخطاب المباشر منه هذا الفعل، أنمّا متلقي الخطاب عام؛ لذا خرج النهي إلى النصح والإرشاد، ومقتضى الخطاب يأشر بأن المتلقي مؤمن، ويحمل قيم سماوية تدعوه إلى ترك هذه الأفعال؛ لأنها قبيحة ولا تتلاءم مع ما يؤمن به؛ لذا نجد المتكلم ويولد تضادات، هي مقاصد الخطاب.

1 - لا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر

2 - ولا جباناً يضعفك عن الأمر

3 - ولا حريصاً يُزيّن لك الشَّر بالجور

فالخطاب يستلزم أن يكون الحاكم (لا يعدل عن الفضل) و (ولا يكون ضعيفاً عن الأمر) و (لا يزين له الشرَّ بالجور)، وهذه القيم حسنة، تدلل على إيمان الحاكم، وهذا يدلل على حسن الظن بالله، وحتى يتم تحقيق الفعل التأثير في المتلقي، أتم الإمام علي (عليه السلام) الحجة على متلقي الخطاب بأن البخل والجبن والحرص غرائز يجمعها سوء الظنَّ بالله، وما يريد أن يقوله الخطاب (لا تسوء الظن بالله) فتكون بخيلاً، وجباناً، وحريصاً.

3. وظيفة الشرط بين السياق الافتراض وآليات التأويل:

ص: 451

ينماز أسلوب الشرط بدلالته الافتراضية التي يستدعيها المتكلم من أجل تحقيق قضية يوجبها السياق، ومناسبات القول، وهذا الاستدعاء وليد بنية تلازمية لا غنى لإحداهما عن الآخر إحداهما يسمى شرطاً، والأخرى تسمی جواباً، فمعنى الشرط أن يقع الشيء الوقوع غيره(43) أي: يتوقف الثاني على الأول نحو: إن زرتني أكرمتك، فالإكرام متوقف على الزيارة، ونحو قوله تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ» (محمد / 7).

فالآلية التي يعمل بها التشارط بأن يصل الشرط بالجواب أو السبب بالنتيجة، حتى لا يتصور الانفكاك بينهما، وهذا ما يوظفه صاحب الخطاب في توجيه المتلقي وجهة محددة تستلزم توليد قوة إنجازية، ففي قولنا (إن تدرس تنجح)، فأن القوة الإتجارية المتولدة عن جملة الشرط (ادرس)، كي يقع النجاح، فإن كان هدفك النجاح فعليك أن تدرس، فالنجاح لا يتحقق من دون الدراسة، ولهذا لا يصحّ دخول أدوات على ما كان ماضي اللفظ والمعنى، وأصل العلاقة بين طرفي الشرط سببيّة، إلا أن الاستعمال اللغوي يكشف عن خروج هذه العلاقة عن الأصل، فقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) الأعلى / 9)، فالتذكير لم يكن مسبباً عن نفع الذكر؛ لأن: ((الأمر بالتذكير واقع في كل وقتٍ، والتذكير نفع أو لم ينفع)) (44).

في ضوء ما تقدم يولد المتكلم في سياقه الافتراضي قوة إنجازية، لا تتحقق إلا عن طريق فرضية يفرضها في السبب، أي الشرط، ثم يرتب النتيجة، إي الجواب عليها، وهو بذلك يريد أن يحقق القضية المراد تحقيقها في أصل الخطاب أي: إن الأمر لم يقع بعد ولكن المتكلم يفرضه بسياقه، من أجل تحقيق قضية مترتبة على القضية المفروضة، ولكن ليس المقصود إثبات في ذهن المتلقي المباشر؛ لأنه ليس المقصود بأصل الخطاب، بل المتلقي الكوني، والمناسبة هي التي اقتضت الخطاب، قال الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك (رضي الله عنه) ((إذا أحدث لك ما أنت فيه من سُلطان أبهةً، أو مخيلةً، فانظر

ص: 452

إلى مُلك الله فوقك وقدرته منك على مالا تقدر عليه من نفسك فإنَّ ذلك يُطامِنُ إليك طماحك، ويكفُّ عنك من غربك، ويفيءُ إليك بما عزب عنك من عقلك))(45).

المسلمة الحوارية التي يفرضها المتكلم في سياقه (إن السلطان يحدث أبهةً أو مخيلةً)، وهذا الفعل قبيح، فعليك (النظر إلى ملك الله فوقك وقدرته منك) عسى أن ترجع عن هذا الفعل، وتتذكر ملك الله وقدرته عليك، وهنا يقيناً لا يقصد بالمخاطَب مالك الأشتر، بل المخاطَب كوني، والإمام وظفَّ المناسبة بتوجيه من يتزعم أو يترأس، والفرضية من المعارف المشتركة عند مالك الأشتر، وبما أن مالك الأشتر يؤمن بملك الله وقدرته، فلا يقع في نفسه الأبهة أو المخيلة، أمَّا الذين لا يؤمنون فيقع في نفوسهم الأبهة أو المخيلة، فالقوة المتولدة الإنجازية (لا يكون في سلطانكم أبهة ولا مخيلة)، (فإن كان ذلك فهذا دليل عدم إيمانكم بملك الله وقدرته)، ومتلقي الخطاب في ضوء نظرية الملائمة يؤول المعطى اللغوي، ليصل إلى هدف الخطاب وهو (التوجيه والإرشاد)، المتمثل بالنهي عن الأفعال القبيحة، الذي سوغ ذلك (الشرط المنفك أو الاحتمالي )(46) أو الشرط الافتراضي، والمراد من هذا الشرط تثبيت السبب المحتمل الذي صير النتيجة محتملة، فالرابط للصيغة إذا كان... إذن كان(47)، وما كان لهذا الفهم أن يكون لولا أن أنسق الشرطي أوجد تأويلاً مناسباً يتناغم مع ما يريد المتكلم أثباته في ذهن المتلقي.

وقد استعمل الإمام علي (عليه السلام) البنية الشرطية المتصدرة بالأداة (إن) في عهده لمالك (رضي الله عنه) فقال: ((فإن شكوا ثقلاً أو علَّةً أو انقطاع شربٍ أو بالةٍ أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطشٌ خفَّفت عنهم بما ترجون أن يصلح به أمرهم(48))).

الفرضية التي يقدمها المتكلم شكوت الناس للحاكم نتيجة الغرق أو إجحاف عطش...، وهذه الفرضية متعارف عليها بين طرفي الخطاب استعمل فيها المتكلم أداة

ص: 453

الشرط (إن) التي تخرج إلى ((المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها، والمستحيلة، وسائر الافتراضات الأخرى، فهي لتعليق أمر بغيره عموماً))(49)، ولكن أوجدها - الفرضية - حتى يستلزم من خلالها، توجيه الحاكم بتخفيف الضرائب عن كاهلهم، ومستوى التخفيف يوازي مستوى الأضرار، حتى يمكّنهم هذا التخفيف من إعادة الانتعاش إلى مزارعهم وإصلاح حالهم، فالقوة الإنجازية التي توفرها بنية الخطاب المتلازم على الحاكم (تخفيف الأضرار على الناس)، ومتلقي الخطاب يفهم ذلك التأويل المعنى تداولياً، لأن دلالات السياق وقرائن الأحوال لأداة الشرط (إن) تحقق أغراض معنوية كثيرة منها: التبكيت والتعجيز، أو الاستبعاد، أو التهكم، أو تقوية الحجاج والإلزام، أو التجاهل... وغيرها(50).

وقال الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك (رضي الله عنه): ((إذا قُمت في صلاتك للنَّاس فلا تكوننَّ منفراً ولا مضيعاً، فإنَّ في النَّاس مَن به العلة وله الحاجة، وقد سألتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجَّهني إلى اليمن كيف أُصلّي بهم، فقال: صلِّ بهم كصلاة أضعفهم، كُن بالمؤمنين رحيماً))(51).

مقتضى الخطاب الشرطي أن مالك الأشتر يصلي بالناس جماعة؛ كونه الحاكم والمسؤول؛ لذا نجد المتكلم يستعمل الأداة (إذا) التي تدخل على محقق الوقوع أو راجح الوقوع(52) وهي الفرضية التي يقدمها المتكلم، المسَلَّم بها ومتعارف عليها بين طرفي الخطاب، كي يصل إلى النهي عن (التنفير) و (التضييع)، لأن الصلاة في أصلها محبوب، وهي عن فلا يجوز تنفير الناس منها، فضلا عن ذلك التقصير فيها، فالقوة الإنجازية المتولدة بنية التلازم الشرطي (على الحاكم والمسؤول تخفيف صلاته، ولا يثقل، وإلا أحدثت أضراراً بالناس، ولا يخفف بحيث يضيع أجر الصلاة)، ويسند ويعزز مقاصد الخطاب بتسبب هذا التوجيه والإرشاد، لأن في الناس من به علة وحاجة، وهذا العمل من سنة

ص: 454

النبوية، لأن الإمام علي (عليه السلام) استدل بالحديث النبوي الشريف (صلِّ بهم كصلاة أضعفهم)، ومقتضى الخطاب يستلزم الرحمة بالمؤمنين، لاسيما الضعفاء منهم، وأصحاب الحوائج، أي: على الحاكم - العبد - أن يتصف بمعبوده، ففي ضوء هذا السياق الافتراضي نجد المتلقي يؤول الخطاب تداولياً؛ ليقف على القصد التواصلي.

ص: 455

الخاتمة

السياق الافتراضي وليد السياق الثقافي والاجتماعي، والسياق الثقافي والاجتماعي الذي كان حاضر في عهد الإمام علي (عليه السلام)، سياق لا يحترم القيم الإسلامية، ولا يراعي شؤون العباد، لاسيما أن السلطة غرائزها عدَّ، تؤدي بصاحبها إلى المهالك، وتفقد العباد مصالحهم، وهذا ما يفسر (النصح والإرشاد) في عموم العهد.

أمَّا الفعل التداولي التأويلي يمثل إعادة قراءة لإنتاج القول، في ضوء المعارف المشتركة التي دعت المتكلم إلى عدم إظهارها، متوخيه من المتلقي إعادة إنتاجها من جديد، وهذا يعتمد على الكفاءة اللغوية للمتكلم، والكفاءة التأويلية للمتلقي في إيجاد (القوة الانجازية) في الخطاب، التي تمثل القصد التواصلي، والأغراض التي يخرج إليها الخطاب.

أثبت البحث نتائج قراءة جديدة يمكن اجمالها في:

1. أوضح البحث أن وظيفة السياق الافتراضي إثبات قضية في نفس المتلقي عن طريق ملائمة الأنساق التركيبة للسياقات الاجتماعية، وبهذا يتحرك المتلقي في ضوء القدرة التأويلية المؤشر إلها في أصل الخطاب.

2. أثبت البحث بأن الفرضيات متغايرة لتغاير السياقات الخارجية، فللسياق أثر في إيجاد الصلة أو المناسبة بين ما قيل وما يراد أن يقال، وهذا ما يسهم بصورة فاعلة في عمليتي الإنتاج والتلقي.

3. كشف البحث أن السياق الافتراضي في ضوء نظرية الصلة يمثل وحدة بنائية، فلا يكون معطى قبلياً ثابتاً يوجه تأويل الخطاب، بل يمثل متغيراً بنائياً تؤسسه عملية التخاطب.

4. بيَّن البحث أن المعطى اللغوي - الأمر - خرج من دلالته الأصلية إلى دلالته المجازية، وقد وظف ذلك في إنتاج الخطاب الافتراضي؛ لتحقيق التلقي التداولي، لإيجاد

ص: 456

مولدات تأثيرية توجيهه إرشادية.

5. بيَّن البحث أن المعطى اللغوي - النهي - خرج عن دلالته الأصلية إلى دلالته المجازية؛ ليؤدي وظائف توجيهيه، ويكشف عن قيم أخلاقية سلبيه ترافق الحاكم، هذا مما ولد كفاية أنجازية أصبحت هي هدف التخاطب، والقصد التواصلي.

6. بينَّت البحث أن البنية الشرطية لم تغادر معناها المركزي، وأن المعاني الافتراضية التي خرجت إليها معان وظيفية مستفادة من السياق، استثمرها المتكلم في توجيه الخطاب، وبيان القيم التي يجب أن يتحلى بها الحاكم.

6. كشف البحث خصوصية الخطاب الإمام علي (عليه السلام)، بأنه خطاب أرشادي توجيهه، تغايرت فيه الأساليب، لتغاير الثقافة المعرفية للمتلقي، والمتلقي كوني، وليس خاص، يستهدف كل من يريد أن يحكم، أو هو حاكم؛ لذا أصبح هذا العهد وثيقة تاريخية على مر العصور.

ص: 457

الهوامش

- ذكر المتأخرون أغراض متعدد للأداة (من) منها: التكليف، والابتهال، والتهديد...، ينظر: الجنى الداني في حروف المعاني: للمرادي: 110 - 114.

(1) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: د. محمود أحمد نحلة: 14.

(2) المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا 2: 143.

(3) البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي: محمود البستاني: 114 - 145.

(4) التداولية عند علماء العرب: د. مسعود صحراوي: 32.

(5) لسانیات التلفظ وتداولية الخطاب: ذهبية حمو الحاج: 124.

(6) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: جون سيرل: 204 - 205،

(7) مدخل إلى اللسانيات التداولية: الجيلالي دلاش: 34.

(8) ينظر: الاستدلال الحججي وآليات الخطاب: د. رضوان الرقبي: 68 (بحث)

(9) نظرية الصلة أو المناسبة: دان سبيربر و ودیدري ولسن: 135.

(10) القاموس الموسوعي للتداولية: جاك موشلار وآن ریبول: 147.

(11) الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم: 209. (بحث )

(12) ینظر: الافتراض المسبق مفهوماً تداوليا في الفكر اللغوي العربي عند القدامی: د. عصام شحادة: 43.

(13) ينظر: دائرة الأعمال اللغوية: د.شكري المبخوت: 9.

(14) ينظر: اللسانيات الوظيفية: مدخا نظري: د. أحمد المتوكل: 117.

(15) علم اللغة النظامي مدخل إلى النظرية اللغوية عند هاليداي: د. محمود أحمد نحلة: 59.

(16) الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم: 199. (بحث)

(17) ينظر: اللغة والتأويل: عمارة ناصر: 60.

ص: 458

(18) لسانيات النص: محمد الخطابي: 196.

(19) المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: 13.

(20) لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب: د. ذهبية حمو الحاج: 122 - 123.

(21) لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب: 195.

(22) مفهوم التأويل عند المحدثين: أحمد مداس: 118.

(23) ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني: عادل فاخوري 145 (بحث).

(24) ينظر: المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن: 9. (بحث)

(25) التداوليات علم استعمال اللغة: د. حافظ إسماعيل عليوي: 128.

(26) ينظر: المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن: 12.. (بحث)

(27) تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطيب القزويني: 104.

(28) ينظر: رصف المباني في شرح حروف المعاني: للمالقي: 226 - 227.

(29) نهج البلاغة: شرح د. صبحي الصالح: 544 - 545.

(30) دلائل الإعجاز: للجرجاني: 232 - 233.

(31) ينظر: نقد الشعر: قدامة بن جعفر: 154 - 155.

(32) الكتاب: سيبويه: 1: 15.

(33) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 549.

(34) المصدر نفسه: 556.

(35) ينظر: التركيب الشرطي في النحو والأصول: سعود بن عبد الله الزدجالي: 89.

(36) نهج البلاغة: شرح: د. صيحي الصالح: 547.

(37) ينظر: شرح الكافية في النحو: لرضي الدين الاستربادي: 2: 112 - 114.

(38) تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطيب القزويني: 106.

(39) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 545.

(40) أساليب المعاني في القرآن: جعفر باقر الحسني: 110 - 111.

ص: 459

(41) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 545 - 546.

(42) نهج البلاغة: شرح: صبحي الصالح: 548.

(43) ينظر: المقتضب: للمبرد: 2: 42.

(44) الصاحبي في فقه اللغة: لابن فارس: 438

(45) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 546.

(46) ينظر: التراكيب اللغوية في العربية (دراسة وصفية تطبيقية): د. هادي نهر: 202.

(47) ينظر: النص والسياق: استقصاء البحث في الخطاب الدلالي التداولي: فان دايك: 116.

(48) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 557.

(49) معاني النحو: د. فاضل صالح السامرائي: 4: 59.

(50) ينظر: من نحو المباني إلى نحو المعاني: بحث في الجملة وأركانها: د. محمد طاهر الحمصي: 359 - 361.

(51) نهج البلاغة: شرح: د. صبحي الصالح: 557

(52) من نحو المعاني إلى نحو المباني: بحث في الجملة وأركانها: 397.

ص: 460

ثبت المصادر والمراجع

- لقرآن الكريم مصدر العربية الأول

1. أساليب المعاني في القرآن: جعفر باقر الحسيني، ط 1، مؤسسة بوستان کتاب، إيران 1428 ه.

2. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: د. محمود أحمد نحلة، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1432 ه - 2011 م.

3. البلاغة الحديثة في ضوء المنهج الإسلامي: د. محمود البستاني، ط 1، دار الفقة، قم 1424 ه.

4. التداوليات علم استعمال اللغة: إعداد وتقديم: د. حافظ إسماعيلي علوي، ط 1، عالم الكتب الحديث، إربد - الأردن، 1432 ه - 2011 م.

5. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية: د. هادي نهر، (د - ط)، ساعدت الجامعة المستنصرية على نشر، مطبعة الارشاد، بغداد العراق، 1408 ه - 1987 م.

6. التركيب الشرطي في النحو والأصول مقاربة في المفهوم والقضايا النحوية والدلالة والأثر الفقهي: سعود بن عبد الله الزدجالي، (ط 1)، دار الفارابي، بيروت - لبنان، 2008 م.

7. تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: للخطیب (جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني (ت 739 ه)، قرأه وكتب حواشيه وقدم له: د. ياسين الأيوبي، ط 1، المطبعة العصرية، بيروت لبنان، 1428 ه / 2008 م.

ص: 461

8. الجنى الداني في حروف المعاني: حسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه)، تحقيق: د. فخر الدين قباوة والأستاذ: محمد ندیم فاضل، ط 1، المطبعة الصليبية، 1392 ه - 1973 م.

9. دائرة الأعمال اللغوية: د. شکري المبخوت، ط 1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي - ليبيا، 2010 م.

10. دلائل الإعجاز في علم المعاني: الجرجاني (أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد، (ت 471 ه)، تحقيق: د. رضوان الداية، د. فایز الداية، ط 1، دار قتيبة 1983 م.

11. رصف المباني في شرح حروف المعاني: للإمام أحمد بن عبد النور المالقي (ت 702 ه)، تحقيق: أحمد محمد الخراط، ط 2، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1405 ه.

12. شرح الكافية في النحو: لرضي الدين الإستربادي (ت 686 ه)، ط 3 دار الكتب العلمية، بيروت، 1982 م.

13. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها: أبو الحسين أحمد بن فارس ابن زکریا (ت 395 ه)، تحقيق: أحمد صقر، (د - ط)، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، د - ت).

14. علم اللغة النظامي مدخل إلى النظرية اللغوية عند هاليدي: د. محمود أحمد نحلة، المعرفة الجامعية، الإسكندرية - مصر 1930 ه - 2009 م.

15. القاموس الموسوعي للتداولية: جاك موشلر - آن ریبول، ترجمة: مجموعة من الأساتذة الباحثين بإشراف: عز الدين المجدوب، مراجعة خالد میلاد، ط 2، المركز الوطني للترجمة - دار سیناتر، تونس، 2010 م.

16. القصدية بحث في فلسفة العقل: جون سيرل: ترجمة: أحمد الأنصاري، دار الكتاب العربي، بیروت لبنان، 2009 م.

ص: 462

17. الكتاب: أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر المعروف بسیبویه (ت 180 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط 4، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1988 م.

18. لتداولية عند العلماء العرب: د. مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، 2005 م

19. لسانیات التلفظ وتداولية الخطاب: ذهبية حمو الحاج، ط 2، دار الأمل، تيزي وزر، 2012 م.

20. لسانیات النص: محمد الخطابي، ط 1، المركز الثقافي، لبنان - بيروت 1991 م.

21. اللسانيات الوظيفية: مدخل نظري: د. أحمد المتوكل:، منشورات عکاظ، الرباط - المغرب، 1989 م.

22. اللغة والتأويل: مقاربة في الهرمينوطيقا الغربية، والتأويل العربي الإسلامي: عمارة ناصر، ط 1، دار الفارابي، بيروت - لبنان، 2007 م.

23. مدخل إلى اللسانيات التداولية: الجيلالي دلاش، ترجمة: محمد يحياتن، ط 1، دیوان مطبوعات الجزائر، 1992 م.

24. معاني النحو: د. فاضل صالح السامرائي، ط 2، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 1423 ه - 2003 م.

25. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية: جميل صليبا، (د - ط)، الشركة العلمية للكتاب، دار الكتاب العالمي، بیروت، 1994 م.

26. المقتضب: أبو العباس محمَّد بن يزيد المبِّرد، (285 ه)، تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بیروت، (د ت).

27. من نحو المباني إلى نحو المعاني. بحث في الجملة وأركانها: د. محمد طاهر الحمصي، ط 1، دار سعد الدين للطباعة والنشر، سوريا، 1424 ه - 2003 م

28. النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي؛ فان دايك، ترجمة:

ص: 463

عبد القادر قنیني، (د - ط)، إفريقيا الشمالية، المغرب، 2000 م.

29. نظرية الصلة أو المناسبة: دان سبيربر و ودیدري ولسن: ترجمة الأستاذ هشام عبد الله الخليفة ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان 2016.

30. نقد الشعر: قدامه بن جعفر بن زیاد، تحقیق : محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب العلمي بيروت ،(د ت).

31. نهج البلاغة: ضبطه نصَّه وابتكر فهارسه العلمية: د. صبحي الصالح، ط 1، أنوار الهدى، إيران - قم، 1426 ه

البحوث المنشورة في الدوريات والمجلات

1. الاستدلال الحججي وآليات الخطاب: د. رضوان الرقبي، عالم الكتب، العدد: 29، المجلد: 40، أكتوبر - ديسمبر، لسنة 2011 م.

2. الافتراض المسبق مفهوماً تداولياً في الفكر اللغوي عند العرب القدامى: د. عصام شحادة علي، المؤتمر العلمي الخامس للغة العربية وآدابها، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، 2015 م.

3. الاقتضاء في التداول اللساني: عادل فاخوري، مجلة عالم الفكر، العدد: 2، المجلد: 20، الكويت، 1989 م.

4. الترجمة والتأويل التداولي: د. أحمد کروم، عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 41، أبريل - يونيو، لسنة: 2013 م.

5. مفهوم التأويل عند المحدثين: أحمد مداس، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد خيضر بسكرة، العدد: 4، لسنة 2009 م.

6. المقاربة التداولية: المصطلح والمنهج: د. هاجر مدقن، مجلة مقاليد، العدد 2 الجزائر، ديسمبر 2011.

ص: 464

تقنية الوصف وأثرها في الإبلاغ في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة في ضوء النظرية التداولية

اشارة

الدكتوره فاطمه عبد الأمير السلامي الكلية الإسلامية الجامعه - النجف الأشرف

ص: 465

ص: 466

المقدّمة

في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر شرح لمجموعة معينة من طبقات المجتمع المدني خصها الإمام (عليه السلام) بأوصاف معينة وحث ولي الأمر على مراعاة اتصاف هذه الفئات بتلك الأوصاف، وتسعى هذه الدراسة للكشف عن البعد التداولي في هذه الأوصاف، ولمَ أكد عليها الإمام (عليه السلام) دون غيرها؟ ولما ذكرها بهذا التسلسل بالذات؟ وما أفادت هذه الأوصاف في أصحابها وفي المجتمع.

وتقف هذه الدراسة عند مفهوم (الوصف) وتعدها إحدى التقنيات الخطابية في الإبلاغ؛ ذلك بأن المبلغ يسعى للتأثير في المبلغ إليه باستعماله لأوصاف معينة بحد ذاتها، ويكون هناك قصد تداولي وراء كل وصف يستعمله المبلغ في ابلاغه للخبر أو الحادثة أو القضية.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون على خمس فقرات تسبقها مقدمة وتمهيد وتليها خاتمة بأهم نتائج البحث:

أولاً: تصنيف البشر ووصفهم بشكل عام.

ثانياً: تصنیف طبقات المجتمع المدني باعتبارهم (خاصة وعامة) وذكر أوصافهم.

ثالثاً: وصف من لا يصلح للمشورة.

رابعاً: وصف الجند.

خامساً: وصف القضاة.

ص: 467

التمهيد: تقنية الوصف في الخطاب الإبلاغيّ

عند تتبّعنا لجهود علمائنا الأوائل نجدهم وقفوا عند ظاهرة (الوصف) في العربية وقفة متأنّية لاسيّما فيما يتّصل منها بجانب الشعر، فقدامة بن جعفر (ت 327 ه) يعرّف الوصف بأنّه: ((ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات))(1)، في حين لا يقتصر الوصف على ذكر الشيء بما فيه من وجهة نظر ابن رشيق القيروانيّ (ت 456 ه)، وإنّما يتعدّى ذلك فيكون عبارةً عن: إخبار عن حقيقة الشيء(2).

ويبدو على نظرة قدامة للوصف أنّها لا تقوم على تفضيل ممارسة النقل أو الإبلاغ الذي يُقرّب الموصوف إلى ذهن الموصوف له، أو المتلقّي غير المطّلع عليه عياناً، وإنّما يقع التفضيل على ممارسة تقوم على الانتقاء؛ ومن ثَمّ الأداء باختيار أثر الصفات تمثيلاً للمعنى المراد إيصاله، ويضيف ابن رشيق إضافةً جوهريّة، ذات قدرٍ من الأهمّيّة؛ إذ لا يغفل في تفضيلة الأداء الذي يحقّق الوظيفة الأساسيّة للوصف قدرته على الإبلاغ(3).

أمّا في العصر الحديث فقد وقف الدارسون طويلاً عند قضيّة الوصف، ولاسيّما السرديّون منهم(4)، لما له من أثر كبير في التعبير الروائيّ، ومن التعريفات الحديثة المهمّة للوصف تعريفه بأنّه ((الخطاب الذي يسم كل ما هو موجود، فيعطيه تميّزه الخاصّ وتفرّده داخل نسق الموجودات المشابهة له أو المختلفة عنه))(5).

ولم يبقَ الوصف مرتبطاً بالسرد، وإنّما حصل تغيير كبير في علاقتهما معاً، إذ تقدّم الوصف إلى الأمام، وحصل على مكانة خاصّة به(6)، فصرنا الآن أمام مصطلح جديد هو (النصّ الوصفيّ) الذي يتوجّب على قارئه معرفة المعجم وإدراك التصنيفات الدلاليّة والصور المجازيّة الواردة فيه إذا أراد فهمه(7).

ص: 468

ولهذا ف(الوصف) سواء أكان في القرآن الكريم أم في أيّ نصّ من النصوص البشريّة الراقية فهو إحدى تقنيّات الإبلاغ في ذلك النصّ؛ إذ بوساطة هذه التقنيّة يعمل (المبلِّغ) على التأثير في (المبلَّغ إليه) باستعماله أوصافاً معيَّنة بحدّ ذاتها، بل ويعمل على إثارة انتباهه نحوها، إذ يكون هناك قصد تداوليّ وراء كلّ وصف يستعمله (المبلِّغ) في إبلاغه للخبر أو الحادثة أو القضيّة.

ويمكن تقسيم هذه التقنيّة على قسمين:

(1). تقنيّة الوصف البسيط: ويُقصَد بها ((الوصف الذي يُعطى من خلال جملة وصفيّة مهيمنة قصيرة، لا تحتوي إلّا على بعض التراكيب الوصفيّة الصغرى))(8).

(2). تقنيّة الوصف المركب: وهي القطعة الوصفيّة الكاملة التي تتكوّن من مجموعة جمل مترابطة مع بعضها، ومحتوية على أوصاف يكمل بعضها بعضاً.

ولا تُعَدّ هذه التقنيّة وصفاً لظاهرة أو لحدث أو لشخصيّة فقط، وإنّما لها بُعد تداوليّ يُفهم من انتقاء العبارات فيها، وتراتيبها الواحدة تلو الأخرى، والتأكيد على ذکر جزئیّات معيّنة دون أخرى، وإبرازها أكثر من غيرها.

وعند قراءة (عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر) قراءة دقيقة متأنّية، سنلاحظ بأنّ الإمام (عليه السلام) قد استعمل هذه التقنيّة في خطابه الإبلاغيّ، وفي أكثر من موضع، ومن أهمّ هذه المواضع تلك التي تحدّث فيها عن طبقات المجتمع الإنسانيّ، إذ وصف الإمام (عليه السلام) كلّ طبقة منها بأوصاف معيّنة، سعى من خلالها إلى إبلاغ وليّ الأمر أو المسؤول بطبيعة أفراد هذه الفئات وبأهمّ ما يمتازون به سلباً وإيجاباً، وأهم هذه المواضع سنقف عليها ونبيّنها في الفقرات الآتية من البحث.

ص: 469

(أوّلاً): تصنيف البشر ووصفهم بشكلٍ عامّ:

صنّف الإمام علي (عليه السلام) البشر على صنفين من حيث المعاملة في عبارته المشهورة هذه: ((فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق))(9).

وهذا التصنيف يحمل وصفاً أي (تصنیف بالوصف) فتتمّ معاملة البشر بناءً على صفتين: إمّا بوصفه أخاً أو بوصفه نظيراً، وتقنيّة الوصف هنا هي تقنيّة الوصف البسيط، فالعبارة تتكوّن من جملتين كل جملة اختصّت بوصف معيّن لصنف من الناس.

وهذا تقسیم عامّ للإنسانيّة يكشف عن كيفيّة تعامل (الحاکم) مع أبناء رعيّته بعدالة، فجميع طبقات المجتمع نجدها منضوية تحت هذين الصنفين (أخ لك في الدين) و(نظير لك في الخلق).

ومن الملاحظ على كلامه (عليه السلام) أنّه لم يقل (أخ لك في الشريعة الإسلاميّة)، فهو يخاطب مالك الأشتر (رضي الله عنه) وهو (مسلم)، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»(10)، ولكن إذا أردنا فهم البعد التداوليّ لهذا الوصف سنجد فيه تعميماً أوسع، إذ لم تحصر الأخوّة هنا في (شريعة الإسلام) فقط، وإنّما هناك رابط أخويّ يجمع بين أبناء (الدين) الواحد بشتّى شرائعه السماويّة، ذلك إذا فهمنا من الدين هنا معنى الطاعة والانقياد للشريعة الإلهيّة(11). فالدين ((عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلّا به، ولم يبيّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلّا إيّاه، ولم ينصب الآيات الدالة إلّا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحقّ الذي هو حقّ الاعتقاد وحق العمل، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمراً واحداً وإنّما اختلاف الشرائع بالكمال الله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله))(12).

ص: 470

فإذا كنت مسلماً عامل المسلمين بوصفهم أخوة لك، لهم ما لك وعليهم ما عليك، وكذلك بالنسبة لباقي أبناء الشرائع الإلهيّة الأخرى، فجميع هذه الشرائع السماويّة تنبع من الدين الإلهيّ الواحد.

هذا بالنسبة للصنف الأوّل، أمّا الصنف الثاني وهم الذين يخالفون الحاكم في الدين وهم من رعیّته و تحت لوائه، ويقع ضمنهم حتّى مَن لا دين له، فقد أمره الإمام (عليه السلام) بأن يعاملهم بوصفهم (نظراء له) في الخلق، ويتّضح ذلك بقول الإمام (عليه السلام): (نظير لك في الخلق)، والنظير في اللغة: يعني (المثل)(13)، فهو إنسان مثلك بغض النظر عن كونه أسوداً أو أبيضاً، عربيّاً أو أعجميّاً، بدويّاً أو حضريّاً، وإذا تبع الحاكم هذه المعاملة فسيتجنّب الطائفيّة والعصبيّة القبليّة والشعوبيّة وكل ما يتعلّق بذلك.

وقد اكتسبت عبارة الإمام علي (عليه السلام) هذه بهذين الوصفين البسيطين بُعداً تداوليّاً عالميّاً، انطلق من تعامل الحاكم مع الرعيّة، ومن ثَمّ طُبّق على تعامل الفرد مع أبناء المجتمع فتتحقّق العدالة المدنيّة والاجتماعيّة ويتمّ الابتعاد عن الفساد والقتل على الهوية ونبذ الطائفيّة وتهميش الآخر والحفاظ على حياة هانئة لجميع الناس.

مسلم - اهل الکتاب - أخ في الدین - لك - نظیر في الخلق - ابيض - اسود - عربي - اعجمي - بدوي - حضري

الحاکم = مالك الاشتر

بعد تداولي

مخطّط رقم (1):

إذا طَبّق كلّ (إنسان) هذا المبدأ في تعامله مع باقي البشر سادت العدالة العالم أجمع

ص: 471

(ثانياً): تصنيف طبقات المجتمع المدنيّ باعتبارهم (خاصّة وعامّة) وذكر:

أوصافهم:

ثمّ بدأ الإمام علي (عليه السلام) باعطاء تصنیف آخر للرعيّة من حيث مكانتهم في المجتمع إلى (أهل العامّة وأهل الخاصّة) ووضّح للحاكم كيفيّة التعامل مع كلِّ منهم من خلال إبلاغه بأوصاف معيّنة موجودة فيهم، وذلك في قوله (عليه السلام): ((وَلْيَكُنْ

أَحَبَّ الاُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ

سُخْطَ الْعَامَّةِ يْجُحِفُ بِرِضَ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَی الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالِاْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الِاْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ هُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))(14).

ففي هذا النصّ نلاحظ استعمال الإمام (عليه السلام) لمجموعة من الأوصاف میّز بها أهل الخاصّة وأهل العامة وبما أنّ الوصف هنا تكوّن من مجموعة عبارات ارتبطت مع بعضها فالوصف هنا مرکَّب، ويمكن توضيح تقنيّة الوصف المركَّب بالمخطّط الآتي:

مخطَّط رقم (2):

اهل الخاصة - اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء - اقل معونة في البلاء - اكره للانصاف - اسال بالالحاف - اقل شكراً عند الإعطاء - ابطا عذراً عند المنع - اضعف صبراً عند ملمات الدهر - اهل العامة - عماد الدين - جماع المسلمين - العدة للأعداء - اهل کتاب

التأكيد على اظهار الصفات السيئة (الشخصية) والعامة

التأكيد على إظهار الصفات الحسنة

ص: 472

نلاحظ على صفات (أهل الخاصّة) تأكيد الإمام (عليه السلام) على إبراز صفاتهم الذاتيّة وكيفيّة تعاملهم مع الحاكم في وقت الرخاء (أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء - أقلّ شكراً عند الإعطاء) وفي وقت الشدّة (أقلّ معونةً في البلاء - أضعف صبراً عند ملمّات الدهر)، وقد استعمل الإمام (عليه السلام) صيغة (أفعَل) التفضيل في جميع الأوصاف التي ذكرها كما في: (أثقل - أقلّ - أكره أسأل أبطأ - أضعف) وهذه الصيغة تدلّ على:

1. اشتراك شيئين في صفة واحدة، وقد زاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة(15)، أي تحصل مفاضلة بينهما في تلك الصفة، وفي خطاب الإمام (عليه السلام) نلاحظ بأنّه استعمل هذه الصيغة في صفات سيّئة غير حسنة، ليبيّن بأنّ من يتّصف بهذه الصفات قد بلغ أعلى مرتبة فيها من باقي أفراد الرعية؛ إذ أنّ هناك فرقاً بين قولنا مثلاً: (فلان کاره للإنصاف) وبين قولنا: (فلان أكره للإنصاف)، ففي القول الأول بيّنّا موقفه الذاتيّ بأنّه (کاره للإنصاف)، أمّا في الثاني فإنّنا قسناه بغيره فظهر هو الأشدّ كرهاً للإنصاف، وهكذا بالنسبة لباقي الصفات.

2. وكذلك التكرار في استعمال هذه الصيغة، يعمل على تنبيه المتلقّي على مساوئ هؤلاء فيزيد ذلك من نفوره منهم وابتعاده عنهم.

فالحاكم إذا اجتمع بالأغنياء والمترفين وذوي الثروة ولازمهم وصار كالصديق لهم فسيعزلونه عن الشعب، فيخسر شعبه، وإذا خسر شعبه فلن يغني عنه هؤلاء - الذين اتّصفوا بهذه الصفات السيّئة –- شيئاً بل سيخسر نفسه أيضاً(16).

ولهذه القطعة الوصفيّة التي عرّف عن طريقها الإمام ب(أهل الخاصّة) بعد تداولي يفهمه متلقّي هذا الخطاب الكريم، وهو أنّ من كانت هذه أفعالهم مع الحاكم أيام الشدّة والرخاء فلا خير فيهم أبداً، لأنهم يتّصفون بالبخل والطمع والجشع، ويقدّمون مصلحتهم الشخصيّة على كلّ شيء، فإن سيطروا على الحاكم وتفكيره وقراراته فقد

ص: 473

سيطروا على الحكم، وبالتالي انعزل الحاكم عن الرأي العامّ وفسدت الدولة.

أمّا (أهل العامة) فقد أكّد الإمام (عليه السلام) على صفاتهم العامّة (عماد الدين - جماع المسلمين - العدّة للأعداء) بغضّ النظر عن صفاتهم الشخصيّة، ذلك بأنّ المهمّ في الحاكم استماعه لأهل العامّة لأنهم جيشه وعزّته، فبهم ينتصر على الأعداء، و بهم تقوی دولته، فإن رضوا عنه لا يستطيع أحد الوقوف في وجهه، لأنّ الكثرة تغلب القلة والنصر للغلبة.

ولا يعني تفضيل الإمام (عليه السلام) أهل العامّة على الخاصّة، أن لا يكون للحاكم خواصّ من القوم يجتمع معهم في خلواته، فقد ذكر الإمام (عليه السلام) صفات مهمّة يجب توفّرها فيمن يتّخذهم الحاكم خاصّة له من الناس، وذلك في قوله (عليه السلام): ((وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ

وَأوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِمًا عَلَی ظُلْمِهِ، وَلا آثمِاً عَلَی إِثْمِهِ، أوُلئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ))(17).

أهم وصف في اختيار خواص الحاكم أكد عليه الإمام (عليه السلام) و عدّه شرطاً مهماً في اختيار هؤلاء الأشخاص هو (عدم إعانة الظالم على ظلمه أو الآثم على إثمه)، ومن الملاحظ على خطاب الإمام (عليه السلام) أنه أراد الإبلاغ عن قضية مهمة لها انعكاسها على المجتمع وعلى الدولة فيما بعد، فبدأ من الأساس ولم يذكر شروطاً معينة لاختيار خواص الحاكم ووزرائه بل استعمل (عليه السلام) تقنية الوصف المركب هنا، لبيان أهمية توفر هذا الوصف (عدم الإعانة على الفساد)، وقد فصل الإمام (عليه السلام) هذا الوصف، بانتقاء عبارتين تركب منهما الوصف وهما (من لم يعاون ظالماً على ظلمه) و(ولا آثماً على إثمه)، وقد قصد الإمام (عليه السلام) ذكر (الظلم) قبل (الإثم)؛ ذلك

ص: 474

بأنّ دائرة الظلم أوسع وأبشع من الإثم، فالظالم يظلم الآخرين عادةً فضلاً عن ظلمه لنفسه ومن ساعده فإنه يسهم في انتشار هذا الظلم وزیادته، أمّا (الآثم) فهو الذي يقترف الإثم لنفسه أكثر من غيره، وإن لم يجد من يشجّعه أو يعاونه في اقتراف الإثم فسيقلّل من اقتراف هذه الآثام، وبالتالي قلّ الفساد الاجتماعيّ والفرديّ، ومن لم يُعِن أمثال هؤلاء فهو: (أقلّ مؤونة، وأحسن معونة، وأحني عطفاً، وأقل لغيرك إلفاً) أيّها الحاكم فاتّخذ من اتّصف بهذا الوصف خاصّةً لك.

وإذا قارنّا بين هذه الأوصاف الثلاثة الأخيرة التي ذكرها الإمام (عليه السلام) وبين المقطع السابق في (العهد) الذي ذكرت فيه الأوصاف السيئة لأهل الخاصّة، سنلاحظ بأن الإمام (عليه السلام) ذکرها بالصيغة ذاتها، (صيغة أفعل)، ولكن هنا جاءت الصيغة التفضيل هؤلاء حقاً على غيرهم، فاستعمال (أفعل) التفضيل هنا إيجابي، وأيضاً تكررت هذه الصيغة، فكأنّما هناك مقابلة بين المقطع السابق في العهد وهذا المقطع، ويمكن بيانه بما يأتي:

أهل الخاصة (المقطع السابق)

خاصة الحاكم من الوزراء (المقطع الحالي)

أثقل مؤونة - أخف مؤونة

أقل معونة - أحسن معونة

أضعف صبراً - أحنى عطفاً على الحاكم

ومن هذه الأوصاف التي أبلغ عنها الإمام (عليه السلام) في المقطع الحالي نفهم بعداً تداولياً مهماً هنا، وهو أنّ من كانت هذه أوصافهم فهم أحسنوا الظنّ بالله تعالى وتوكّلوا عليه، فلم تغن لهم الدنيا وما فيها شيئاً، فهم يبتغون مرضات الله تعالى، لذلك فهم يقدمون أفضل ما لديهم للحاكم وللدولة حتى تقوى ويصلح ما فيها، بينما كان أهل الخاصّة في المقطع السابق متعلقين بالدنيا فهي شغلهم الشاغل فكانوا لا يطيقون صبراً في الأزمات ولا يشكرون في الرخاء، بل يريدون هل من مزيد، وأمثال هؤلاء سبب الخراب للدولة.

ص: 475

وفي نهاية هذا المقطع يبلّغ الإمام (عليه السلام) عن أفضل الخواصّ ويطلب من الحاكم أن يجعله الأقرب إلى نفسه من الجميع وهو من كان (أقولهم بمر الحق لك)، وينبغي علينا هنا التمعّن في هذه العبارة وفي دقّة اختيار الإمام (عليه السلام) لهذا الوصف هنا إذ لم يقل (أقولهم بالحق لك) وإنما قال (أقولهم بمرّ الحق)، إذ هناك حقائق مُرّة، تؤذي عند سماعها، وتتطلّب شجاعةً للتصريح بها، وكثير من المقربين والأصدقاء يتهربون منها ولا يستطيع الإبلاغ عنها لشخص معين، لذلك أكد الإمام (عليه السلام) على الاستشارة بأمثال هؤلاء في الدولة، واستماع الحاكم إليهم دائماً، لأنّ كلام هؤلاء الحقيقي الصادق يهدف إلى صلاح الحاكم وصلاح دولته، ((فالحق مر وثقيل على أهل الهوى والجهل، وأما أهل العلم والعدل فالحق ضالتهم أنّی کان ويكون، ويجهرون به، ولا يخشون فيه لومة لائم))(18)، أي أنّهم يملكون شخصيّة مستقلة وتفكيراً مستقلاً، فهم يعينونك في الحق ولا يعينونك في الباطل(19).

(ثالثاً): وصف من لا يصلح للمشورة:

أبلغ الإمام (عليه السلام) عن بعض الأشخاص الذين لا يصلحون للمشورة في أي أمر من أمور الدولة، فعلى الحاكم الابتعاد عن استشارة أمثالهم، لأنهم يتّصفون بهذه الأوصاف، والتي ذكرها الإمام (عليه السلام) عندما قال: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الاُمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ))(20).

ومن الملاحظ بأنّه ((ليس المراد بالمشورة هنا النظام الشوري في مقابل الاستبداد والدكتاتورية، بل مجرد الاستئناس برأي من ترى منه الوعي والنصيحة.. والإمام ينهي عن الأخذ برأي الجبان والبخيل والحريص، وهذان الاثنان سواءٌ في القبض والإمساك، ص: 476

ولكن الحريص أكثر جشعاً وشرهاً يكدح ليل نهار في السعي لدنياه، أما البخيل فقد يكون كسولاً، والإنسان على وجه العموم ينظر إلى الأشياء ويتصورها من خلال ذاته... ومن هنا وخوفاً من الفقر يأمر البخيل بالإمساك، والجبان بالاستسلام حرصاً على الحياة، ويأمر الحريص بالكدح لمجرد الجمع والادّخار))(21).

وقد ربط الإمام (عليه السلام) جميع هذه الأوصاف ب: (سوء الظن بالله تعالى)؛ ذلك بأن بخل البخيل وخوفه من الفقر وضياع المال، وخوف الجبان على حياته، وحرص الحريص واستمراره في الجمع والادّخار جميعها تنبع من سوء الظنّ بالله تعالى، وعدم الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره، ومن هنا يفهم المتلقّي الحالي لهذا الخطاب الإبلاغي - فضلاً عن المتلقي الأول لهذا الخطاب - مالك (رضي الله عنه) - بُعداً تداولياً ينشأ من دائرة سوء الظنّ بالله تعالى، وهو افتقار كل من البخيل والجبان والحريص صفة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وعدم الإيمان الحقيقي به تعالى، لذلك كان تفكيرهم محدوداً مادياً وآنياً، ولهذا يجب عليه الابتعاد عن استشارة هؤلاء، فالإمام (عليه السلام) في الحقيقة (يوصي بالتحلي بثلاث قيم وملكات مهمة ومؤثرة على مستوى التدبير والإدارة: السخاء، الشجاعة، والقناعة)(22)، ويمكن بيان ذلك في المخطط الآتي:

المخطط رقم (3):

البخيل - يخاف الفقر - الجبان - يستسلم خوفا من الموت - الحریص - دائم الشره ولایشبع خوفاً من الخسارة -سوء الظن بالله بعد تداولي - فقدان جميع هؤلاء لصفة التوكل على الله بعد تداولي تعالى وبأنه قادر على كل شيء

وبما أنّ جميع هؤلاء قد جمعهم سوء الظن بالله تعالى، فعلى الحاكم الابتعاد عنهم وعدم الأخذ بشورتهم، لأن أفكارهم أنانية وفاسدة تؤدي إلى خراب البلد وفساد الحاكم، فإذا أراد مساعدة الفقراء واستشار بخيلاً أو حريصاً زيّنا له الخسارة وضياع الأموال، وإن

ص: 477

أراد قتال المفسدين ثبّطه الجبان عن ذلك وهكذا.

وهذه الأوصاف التي حذّر منها الإمام (عليه السلام) هنا قد أبلغه بها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من قبل، إذ ورد عن الرسول (صلی الله عليه واله وسلم) قوله للإمام علي (عليه السلام): ((يا علي، لا تشاور جباناً فإنه يضيّق عليك المخرج، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاور حريصاً فإنه يزين لك شرَّها، واعلم یا علي، أن الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة يجمعها سوء الظن))(23)، وفي هذا بیان لشدة مساوئ هؤلاء على نظام الحكم في الدولة.

رابعاً: وصف الجند:

بما أنّ للجيش دوراً مهمّاً في الحفاظ على أمن وأمان البلد الذي يحمونه ويقاتلون دونه، فقد خصّص له الإمام (عليه السلام) قطعة وصفيّة أبلغ عن طريقها بأهم أوصاف الجند، وقد كان هذا الوصف کما يأتي:

(1). وصف عامّ، وذلك في قوله (عليه السلام): ((فَالْجُنُودُ، بِإِذْنِ اللهِ، حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الاَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ))(24).

وقد أبلغ الإمام (عليه السلام) هنا عن مجموعة من الأوصاف العامة في الجيش، والتي تكشف عن مكانتهم وأثرهم في الدولة، فهم حصن أهل الدولة، ومحل شرف الولاة ورفعتهم، فكلما كان الجيش قوياً منظّماً متماسكاً هابه الأعداء، وبالتالي انعكست هذه الهيبة على واليه وقائده، و بهم عزّة الدين، فهم من يحامي عنه ويقف بوجه أعدائه، وفي الوقت نفسه فجيش كل دولة بمثابة صمام الأمان لأهلها، وجميع هذه الأوصاف التي ذكرها الإمام (عليه السلام) و أبلغ عنها الحاكم تدل على وصف يتركب منها جميعاً، وهو التماسك والترابط الذي يجب أن يتصف به جیش الدولة، حتى يحافظ على هيبتها، ومن هذا التماسك والترابط نصل إلى معنى تداولي وهو أن يتحقق جميع هذه الصفات

ص: 478

تتحقق القوة، فجيش الدولة هو مصدر قوّتها.

ومن الملاحَظ بأن ترتیب هذه الأوصاف التي كونّت هذا الوصف المركب للجند، جاء بحسب الجند لكل قضية، إذ قدّم الإمام (عليه السلام) (الرعية) أولاً، فأول عمل للجيش هو الحفاظ على سلامة الرعية، فقال (عليه السلام): (حصون الرعية)، ومن ثَمّ تأتي أهمّيّة الجيش للحاکم (زین الولاة)، ومن ثَمّ ذكر (عليه السلام) بأنهم (عز الدين)، إذن قدّم (عليه السلام) مصلحة الناس والمجتمع أولاً، وأخّر الدين، إذن لا ينبغي القتال باسم الدين في كل وقت، وإنما يجب مراعاة المصلحة العامة أولاً، وأخيراً قال (عليه السلام): (سبل الأمان).

ويمكن توضيح الوصف المركّب للجند بالمخطّط التالي:

الجند - حصون الرعية - زين الولاة - عز الدين - سبل الامان - التماسك والترابط - معنی تداولي (القوة)

(2). وصف خاصّ (لرؤساء الجند)، وذلك في قوله (عليه السلام): ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ

أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلاِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ

يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَی الاْقْوِيَاءِ،

وَمِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ))(25).

فهنا إبلاغ من الإمام (عليه السلام) للحاكم بأن يختار ((لرئاسة الجيش الناصح لأمّته ومهمّته، والمخلص لدينه وضميره، والحليم الذي يملك نفسه، ويكظم غيظه، ويقبل العذر، ويرحم الضعيف، ويشتد على القوي كي لا يطمع في جوره و تحيزه وممن لا يثيره

ص: 479

العنف أي يصبر على الكلمة القاسية والحركة النابية، ويتمهل حتى يتدبر العواقب، فيعمل بموجبها، شأن العاقل الحكيم، ولا يقعد به الضعف، إذا سكت لا يسكت عن عجز بل لحكمة ورويّة، وبكلمة يلين من غير ضعف، ويقوي من غير عنف))(26).

وقد أكّد الإمام (عليه السلام) هنا على الصفات الشخصيّة في اختيار رؤساء الجند، وأوّل وصف هو (معرفة الله تعالى ورسوله ومعرفة الإمام)، ومن ثَمّ ذكر وصفاً مهمّاً هو (أنقاهم جيباً) وهذا تعبير کنائي عن العفّة والأمانة؛ لأنّ الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه عادةً، وقد أكد الإمام (عليه السلام) على هذا الوصف ووجوب تحلّي أمير الجيش به لأجل الغنائم، فهو الذي يقسمها بين جنده(27)، وبعد هذين الوصفين المهمين ذكر (عليه السلام) الأوصاف الباقية التي تتعلق بمعاملة أمير الجيش لجنوده.

ومن تقنيّة الوصف المركب هذه لرؤساء الجند نصل إلى معنىً تداوليٍّ مهمّ لم يصرّح به الإمام (عليه السلام)، وإنّما فهمناه من هذه التقنية، وهو اشتراط صفة العدالة فيمن يعيَّن رئيساً للجند؛ ذلك بأنّه: ((لا تستقيم الحياة وتطيب إلّا بالعدالة، وهي المساواة في جميع الحقوق والواجبات بين الجميع، فإذا اختلّ ميزانها ساد الظلم، وفسدت الأوضاع.. ومن البداهة أنّه لا عدالة بلا قوّة، والقوّة بلا عدالة استبداد، ومعنى هذا أنّ القوّة والعدالة عنصران أساسيّان للحياة الطيّبة والوجود القديم، والجند هم مصدر القوّة وأساسها، و بهم يُصان الدين والوطن، ویستتبّ الأمن والنظام))(28).

ثمّ اشترط الإمام (عليه السلام) بأن يكون أقرب رؤساء الجند إلى الحاكم مَن ((مَنْ

وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ))(29)، ذلك بأنّه يكون قريباً منهم، عالماً بمشاكلهم وحوائجهم، فإن أراد الحاكم معرفة أحوال جنده سأل هذا الرئيس المقرَّب منهم، والذي قرّبته منهم إنسانيّته التي يمتلكها.

ص: 480

خامساً: وصف القضاة:

يبلّغنا الإمام (عليه السلام) بأوصاف محدَّدة يجب على الحاكم مراعاتها عند اختياره للقضاة، ويتّضح ذلك بقوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الاُمُورُ، وَلا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلا يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلا يْحَصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَی الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ ...))(30).

ويبدو أنّ كلمة (اختر) في كلام الإمام أعلاه ((تشير إلى أنّ القضاة لا يُنتخَبون بآراء الناس، كما هو المتداوَل في بعض البلدان المعاصرة، بل يختارهم القائد والإمام بشكلٍ مباشر أو بواسطة الأفراد الموثوقين؛ لأنّ مسألة صلاحيّة القضاة ليست شيئاً يمكن الرجوع فيه إلى آراء الناس للحكم في ذلك))(31).

وقد اشترط الإمام (عليه السلام) في القاضي المختار من قبل الحاكم (أن يكون أفضل الرعيّة وأقربهم إلى الحاكم) فهذا وصفٌ عام ذكر بعده الإمام (عليه السلام) مجموعةً من الأوصاف شكّلت لنا الوصف المركّب للقاضي، وقد وصلت إلى اثني عشر وصفاً تقريباً(32)، وكما يأتي:

الوصف - المقصود منه

1. ممن لا تضيق به الأمور - المعرفة والعلم

2. لا تمحِّكه الخصوم - سعة الصدر

3. لا يتمادى في الزلّة - غير لجوج ومعاند

4. لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه - القدرة على الاعتراف بالخطأ

5. لا تشرف نفسه على طمع - لا يطمع بالرشوة

6. لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه - الإحاطة بالقضيّة من جميع الجوانب

ص: 481

7. أوقفهم في الشبهات - محتاط

8. آخذهم بالحجج - يعتمد على الأدلة القوية والمقبولة

9. أقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم - لا ينفعل بسهولة

10. أصبرهم على تكشُّف الأمور - الصبر والتريُّث

11. أصرمهم عند اتّضاح الحكم - الحزم

12. ممن لا يزهيه إطراء ولا يستمليه إغراء - بعيداً عن الغرور والعُجب

وإذا أردنا بيان أهمّ وصف أكّد عليه الإمام (عليه السلام) من خلال تفصيله لجميع هذه الأوصاف، وبهذا الترتيب سنلاحظ بأنّه أكّد على وصفين مهمّين تقع جميع الأوصاف السابقة ضمنها، وهما (العلم) و(الحلم) كما موضَّح أدناه:

العلم - سعة المعرفة - الاحاطة بالموضوع من جميع الجوانب - محتاط في اخذ القرار - الاعتماد على الأدلة - الحزم - الحلم - سعة الصدر - عدم الفساد - عدم الانفعال - الصبر والتريث - القدرة على الاعتراف بالخطا

وصف مركب بعد تداولي

التأكيد على الصفات الذاتيّة في القاضي، لأنّ بيده مصائر الناس، فلا يؤخذ بنظر الاعتبار منصبه أو مكانته أو نسبه في المجتمع لأن جميع ذلك لا يحقّق العدالة في الدولة

وبعد انتهاء الإمام (عليه السلام) من ذكر هذه الصفات، أبلغنا بأنّ ((أُولئِكَ

قَلِيلٌ(33))، فكأنّه (عليه السلام) يجيب الحاكم الذي يتفاجأ بهذه الصفات المذكورة جميعاً

ص: 482

وتأخذه الحيرة بأنّه كيف سيحصل على قضاة لدولته يتّصفون بهذه الصفات النادرة؟ فيبيّن الإمام (عليه السلام) قلّتهم وندرتهم في جميع الأزمان، إذ لم يحدّد القلّة في زمن مالك (رضي الله عنه) فقط، وإنّما تركها مطلقة، وفي هذا إشارة تداولية إلى أنّ إقامة العدالة في الدولة ليست بالأمر السهل، وإنّما تتطلّب من حاكم الدولة السعي الحثيث والبحث عن الأشخاص الجيّدين، فلو تمّ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب لاستتبّ الأمن في العالم أجمع، ولكن ربّما أنّ هؤلاء الأشخاص نادرين فلذلك نلاحظ القضاء غير عادلٍ في كثيرٍ من الأحيان.

ص: 483

الخاتمة:

في ختام هذا البحث، نخلص إلى أنّ الخطاب الإبلاغيّ للإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر (رضي الله عنه) كان خطاباً غنيّاً بتقنيّات لسانيّة نصّيّة وتداوليّة عدّة، كان من أهمّها (تقنيّة الوصف)، وقد لاحظنا استعمال الإمام (عليه السلام) لهذه التقنيّة بنوعيها (الوصف البسيط، والوصف المركَّب)، مع أنّ الوصف المركّب هو الغالب في عهد الإمام (عليه السلام)، وقد كان إبلاغ الإمام (عليه السلام) عن هذه الأوصاف مقصوداً، إذ أكّد عليها دون غيرها، وذكرها على وفق ترتيب معيَّن فهمنا منه نحن اليوم كمتلقّين لهذا الخطاب الإبلاغيّ الكريم أبعاداً تداوليّة مهمّة لم يصرّح بها الإمام (عليه السلام) وإنّما فهمناها بوساطة إحدى التقنيّات التداوليّة المهمّة والمؤثّرة في الخطاب الإبلاغيّ، ألا وهي تقنيّة الوصف.

ص: 484

هوامش البحث:

(1) نقد الشعر، قدامة بن جعفر: 130.

(2) يُنظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيروانيّ: 2 / 294.

(3) أنساق التداول التعبيري: 54 - 55.

(4) يُنظر: بلاغة السرد في الرواية العربيّة، إدريس الكريوي: 223 وما بعدها، والوصف في الرواية العربية روايات حنان الشيخ نموذجاً، د. حنان إبراهيم العمايرة: 13 وما بعدها.

(5) وظيفة الوصف في الرواية، عبد اللطيف محفوظ: 11.

(6) البناء الفنّيّ في الرواية العربية في العراق / الوصف وبناء المكان، د. شجاع العاني: 8.

(7) في نظريّة الوصف الروائيّ، د. نجوى الرياحيّ: 140.

(8) وظيفة الوصف في الرواية: 48.

(9) نهج البلاغة، جمع السيد الشريف الرضيّ، شرح: محمّد عبده: 458.

(10) آل عمران: 19.

(11) يُنظر: تاج العروس، الزبيدي، مادة (دین): 35 / 56.

(12) الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائيّ: 3 / 93.

(13) ينظر: الصحاح، الجوهري، مادة (نظر): 2 / 831.

(14) نهج البلاغة: 459 - 460.

(15) ينظر: المهذب في علم التصريف، د. صلاح مهدي ود. هاشم طه شلاش: 260.

(16) ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 35.

(17) نهج البلاغة: 461.

(18) في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية: 4 / 60.

ص: 485

(19) نفحات الولاية: 10 / 343.

(20) نهج البلاغة: 461.

(21) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 59.

(22) نفحات الولاية، الشيرازي: 10 / 333 - 334.

(23) علل الشرائع: 2 / 559.

(24) نهج البلاغة: 463.

(25) نهج البلاغة: 463.

(26) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 70 - 71.

(27) يُنظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 17 / 52.

(28) في ظلال نهج البلاغة: 4 / 66.

(29) نهج البلاغة: 464.

(30) نهج البلاغة: 465 - 466.

(31) نفحات الولاية: 10 / 388.

(32) لقد فصّل شرّاح النهج القول في هذه الصفات، يُنظر: في ظلال نهج البلاغة: 4 / 75 - 77، ونفحات الولاية: 10 / 389 - 394.

(33) نهج البلاغة: 466.

ص: 486

مصادر ومراجع البحث:

- القرآن الكريم.

- أنساق التداول التعبيري / دراسة في نظم الاتصال الأدبي (ألف ليلة وليلة أنموذجاً تطبيقياً) ، الدكتور فائز الشرع، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، ط 1، 2009 م.

- بلاغة السرد في الرواية العربية / رواية علي القاسمي مرافئ الحب السبعة نموذجاً، إدريس الكريوي، دار الأمان، الرباط، ط 1، 1435 ه - 2014 م.

- البناء الفني في الرواية العربية في العراق / الوصف وبناء المكان، د. شجاع مسلم العاني، دار الشؤون العامة آفاق عربية، بغداد، العراق، ط 1، 2000 م.

- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205 ه)، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ط 1، 1965 م.

- شرح نهج البلاغة، عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله مدائني الشهير بابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، ط 2، 1967 م.

- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه).

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد.

- في ظلال نهج البلاغة / محاولة لفهم جديد، شرح محمد جواد مغنيّة، انتشارات كلمة الحق، إيران، ط 1، 1427 ه.ق.

- في نظرية الوصف الروائي / دراسة في الحدود والبنى المرفولوجية والدلالية، د.نجوى الرياحي القسنطيني، دار الفارابي، بيروت، لبنان، ط 1، 2008 م.

ص: 487

- المهذب في علم التعريف، د. صلاح مهدي الفرطوسي ود. هاشم طه شلاش، مطابع بيروت الحديثة، ط 1، 2011 م.

- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 1، 1997 م.

- نفحات الولاية، شرح عصري جامع لنهج البلاغة، ناصر مکارم الشيرازي بمساعدة مجموعة من الفضلاء، إعداد: عبد الرحيم الحمراني، ط 1، نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قم، إيران.

- نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر (ت 337 ه)، تحقيق: الدكتور عبد المنعم الخفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، مصر، ط 1، 1980 م.

- نهج البلاغة، جمع السيد الشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبده، خرّج مصادره: فاتن محمد خليل، مؤسسة التاريخ العربي، بیروت، لبنان، بدون تاریخ.

- الوصف في الرواية العربية / روایات حنان الشيخ نموذجاً، د. حنان إبراهيم العمايرة، دار الفارس، الأردن، ط 1، 2011 م.

- وظيفة الوصف في الرواية، الأستاذ الدكتور عبد اللطيف محفوظ، النبأ للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا، ط 1، 2014 م.

ص: 488

مبدأ التأدُّب في عهد الإمام عليّ (علیه السلام) إلى مالك الأشتر (رحمه الله) (قراءة تداولية)

اشارة

الأستاذ الدكتور حميد الفتلي

ص: 489

ص: 490

المقدِّمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين وصلَّى الله على مُحمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.. وبعد:

فإنَّ عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى واليه مالك الأشتر حين ولَّاه مصر جبايةَ خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، يُعَدُّ من أطول العهود المكتوبة وأكثرها أهمية في فصاحته وأُسلوبه وتنسيق عبارته وعمق دلالاته ورونق تنسيقه وحسن تنظيمه، وهو بَعدُ يُعَدُّ دستورًا مهمًّا کشف فيه الإمام (عليه السلام) لواليه كيفية تدبير شؤون دولته و تنظيم علاقات المجتمع السياسية والعسكرية والدينية والاقتصادية، فضلاً عن حرص الإمام على وجوب التزام واليه بالعدل والإنصاف وحسن التدبير وسموّ الأخلاق في إدارة المجتمع.

والذي يهمّنا هنا دراسة هذا العهد من الجانب اللُّغويّ، ولاسيَّما ما يتعلّق بالدراسة التداولية فعقدت العزم على دراسة مبدأ مهمٍّ من مبادئ التداولية لم يحظَ بتلك الشهرة والأهمِّية من لدن الدارسين وهو مبدأ التأدُّب.

والحقّ أنَّ مفهوم هذا المبدأ كان معروفًا في التراث اللُّغويّ العربي، ولاسيَّما التراث الإسلامي، إلاَّ أنَّ علماءنا لم يطلقوا عليه هذه التسمية، وإنَّما كانوا يومئون إليه بالضمير تارةً وبالكناية تارةً أُخرى، وبالتلويح أحيانًا. وقد وَرَدَت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحثُّ على الالتزام بهذا المبدأ من قبيل قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» [النحل: 125]، وقوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» [الإسراء: 23].

ونجد في القرآن عددًا من الآيات ضمَّت هذا المبدأ من قبيل قوله تعالى: «وَقَالُوا

ص: 491

مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ» [الفرقان: 7]، قِيلَ: إنَّ عبارة يأكل الطعام كناية عن الحدث؛ لأنَّه ملازم أكل الطعام(1)، فإنَّ القرآن استعمل الكناية للابتعاد عن ذكر ما يُستقبَح ذكره تأدُّبًا.

ومنه قوله تعالى: «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» [البقرة: 222].

و قوله تعالى: «نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» [البقرة: 223].

و قوله تعالى: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ» [البقرة: 237].

وقد عَبَّر القرآن عن تلك المعاني بهذه الألفاظ تحفُّظًا في التعبير بالقبيح وتصوّنًا من الفحش، وهي من الكنايات المهذّبة الراقية في أدب التعبير القرآني(2).

ومنه قوله تعالى: «وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ» [الممتحنة: 12]، فكنَّى القرآن بأُسلوبٍ راقٍ بهذا التعبير عن الشيء المستقبَح، وهو الزنا تأدُّبًا عن ذکره؛ لأنَّه قبيح(3).

و رُويَ عن ابن عبّاس قوله: «إنَّ الله کریم یکنِّي ما يشاء»(4).

وغير ذلك من الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون دراسة مستقلّة في هذا الباب.

وبعد فإنَّ مبدأ التأدب من المبادئ التواصلية التداولية التي تعكس ثقافة المجتمعات، فنحن اليوم نستعمل ألفاظًا من قبيل ضمير الجمع للمفرد تعظيمًا له، فيُقال: أهلاً بكم، ومرحبًا بكم، للمفرد، أو استعمال عبارات بعينها من قبيل: دولتكم، وجلالتكم، وسماحتكم، ومن قبيل دام ظله، ودام بقاؤه، وحفظه الله.

وسيتكفّل هذا البحث بتعريف هذا المبدأ بوصفه مبدًا تخاطبيًّا تواصليًّا تداولیًّا، فيبيّن الباحث في أوّله تعريف التداولية بصورة يسيرة، ثُمَّ يَعرُض إلى مبدأ التعاون الذي أقَرَّه غرايس، وتوضيح قواعده، ويتناول البحث تعريف مبدأ التأدُّب، ويتطرق إلى أُصوله في تراثنا اللُّغويّ العربي، وأهمّ المراحل أو الأطوار أو الاتّجاهات التي مَرَّ بها، بدءًا من

ص: 492

غرايس، فلايكوف، ثُمَّ ليتش، ثُمَّ براون وليفنسون، ثُمَّ يختم البحث بالحديث عن عبدالرحمن طه ومبدأ الصدق عنده، ثُمَّ تجري قراءة تطبيقية لما صدر عن الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده في ضمن هذا المبدأ.

وأخيرًا اللهَ أسألُ أن يأخذ هذا البحث مكانه بين الدراسات، وأن يفتح الباب واسعًا الدراسة مبدأ التأدُّب في تراثنا اللُّغويّ العربي.

التداولية:

تناول اللسانيّون المحدثون مصطلح التداولية وشاع عندهم، وهو ترجمة للمصطلح الإنجليزي (pragmatics)، وهو المذهب التواصلي الجديد، فالتداولية ليست علمًا لُغويًّا محضًا بالمعنى التقليدي، علمًا يلتقي وتفسير البنى اللُّغوية ويتوقّف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، ولكنَّه علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللُّغويّة في مجال الاستعمال، ويدمج من ثَمَّ مشاريع معرفية متعدّدة في دراسة ظاهرة التواصل اللُّغويّ وتفسيره.

وإنَّ قضية التداولية هي إيجاد القوانين الكلية للاستعمال اللُّغويّ والتعرُّف على القدرات الإنسانية للتواصل، وتصير التداولية من ثَمَّ جديرة بأن تُسمَّی (علم الاستعمال اللُّغويّ)(5).

وعَرَّفها بعضهم بأنَّها العلاقة بين العلامة ومفسِّرها(6).

وقِيلَ: هي التحديد الضمني للسياق فيما تؤول إليه الكلمة(7).

وقِيلَ: هي اتّجاه في الدرس اللساني معنيٌّ بأثر التفاعل التخاطبي في موقف الخطاب(8)، ويُفهَم من كُلّ هذه التعريفات أنَّ وظيفة التداولية إقامة علاقة بين المتكلّم والسياق.

والذي يعنينا هنا ما تفرَّعَ أو تمخَّضَ عن التداولية من قواعد ومبادئ من أهمّها مبدأ التأدُّب الذي يقوم عليه هذا البحث. وقبل الخوض في ذلك ينبغي الحديث عن مبدأ

ص: 493

التعاون الذي قرَّرَه غرایس بوصفه المبدأ الأوّل أو القاعدة الأُولى من قواعد التداولية.

مبدأ التعاون:

يرى غرايس أنَّ المتخاطبين يخضعون ويلتزمون أثناء ممارسة عملية التخاطب ببعض المبادئ العامة، ويهدف غرايس من وراء هذه المبادئ تحقيق ما يأتي:

1. إنَّ الجمل الخبرية لا تخضع کُلّها لشروط الصدق.

2. توضيح كيفية اشتغال آليات التأويل التي تجعل المؤوِّل ينتقل من الشكل اللُّغويّ الحرفي إلى ما يتضمَّنه الملفوظ من معنى.

3. فحص الإطار النفسي - المنطقي الذي يقع فيه التبادل الكلامي.

ویری ویلسون وسبيربر أنَّ النجاح الذي حقَّقه تحليل غرايس يعود أساسًا إلى مبدأ التعاون، فقبل ظهور أعمال غرایس كان تأويل الملفوظ يقوم على مبدأين:

1. معنى الجملة المتلفّظ بها.

2. السياق.

وهما عاملان متغيِّران؛ لذلك أضاف غرایس عاملاً ثالثًا هو مبدأ التعاون الذي يضمّ مجموعة من التعاليم الحوارية يحترمها کُلّ مسهم في عملية التواصل، ويؤكِّد غرايس أنَّ الحوار لا تقوم له قائمة إلاَّ إذا احترم المتخاطبان مبدًا أوّلیًّا وأساسًا قائلاً: ليكن إسهامك في الحوار مطابقًا لما يفرضه عليك هدف واتّجاه التبادل الكلامي الذي التزمت به.

وبناءً على ذلك فإنَّ الممارسة اللُّغويّة عند غرایس تقوم باعتبارها نشاطًا إنسانيًا على مبدأ التعاون بين الأطراف لتحقيق العملية التخاطبية التامّة.

وبناءً على هذا المبدأ العامّ صاغ غرايس قواعد فرعية متعلّقة بمبدأ التعاون، وهي:

ص: 494

قاعدة الكمّ: وهي متعلّقة بكمّية المعلومات التي يجب عرضها أو تقديمها وتترتّب عنهما القاعدتان:

- لتكن مساهمتك في التخاطب حاملةً ما يفي بحاجة مخاطبك.

- لا تجعل مساهمتك في التخاطب حاملةً في الإفادة أكثر ممَّا ينبغي.

قاعدة الكيف: وترتبط بقاعدة مفادها الصدق في التخاطب، لتكن مساهمتك في التخاطب صادقةً، ومنها كذلك تتفرّع قاعدتان:

- لا تقل ما تعتقد أنَّه كذب.

- لا تقل ما لا تملك إثبات صحّته.

قاعدة العلاقة: وتتعلّق بقاعدة أساسية مفادها: لتكن مساهمتك في صلب موضوع التخاطب، بمعنى أن يناسب القول ما هو مطلوب أو بتعبير البلاغيين لكُلّ مقام مقال.

قاعدة الصيغة: وترتبط على عكس سابقاتها بكيفية القول وتنبني على قاعدة أساسية هي تحرّي الوضوح في العملية التخاطبية وتتفرَّع إلى:

1 - اجتنبْ الغموض.

2 - اجتنبْ اللَبْس.

3 - ليكن كلامك موجزًا.

4 - ليكن كلامك مرتّبًا(9).

وإنَّ غرايس حين قرَّرَ هذا المبدأ وصاغ قواعده الفرعية لم يجعل الباب مغلقًا، وإنَّما ترکه مفتوحًا لتنضاف إليه مبادئ وقواعد تداولية أُخرى تكمله وتسير معه جنبا إلى جنبًا ومنها:

ص: 495

الاستلزام الحواري:

وهو من المبادئ التي أغنى بها غرايس الدرس التداولي وسماه بالاستلزام التحادثي أو مبدأ الصدق(10).

وهو عبارة عن عملية تواصل في ضوء التعاون يظهر المرسِل تعاونًا ما، إمَّا بشكل ظاهري أو بشكل فعلي، ومهما يكن من أمر يفترض المتلقّي تعاونًا ما لا يتّصل بمقول قول المرسِل، بل يتّصل بما يقصده المرسل، ويقوم الاستلزام الحواري بفكّ شفرة المرسلِ وتأویل مقصده(11).

فالمتكلّم في كثير من الأحيان يقول شيئًا (المعنى المعلن)، ويضمِّن كلامه معنًى آخر غير صريح (المعنى المضمَّن)، والفرق بين المعنيين أنَّ الأوّل هو ما تعنيه الكلمة في قيمتها الظاهرة، وما يمكن التعبير عنه وتفسيره بمصطلحات شروط الصدق، أمَّا المعنى الثاني فهو الأثر الذي ينوي المتكلِّم إحداثه في السامع معوِّلاً في ذلك على قدرة هذا السامع على الوصول إلى ذلك المعنى... ففي الاستلزام الحواري يضطلع كُلٌّ من السياق والمعارف المشتركة بين المتفاعلين بدور مهمٍّ في التعرُّف على ما يتضمَّنه الملفوظ من استلزامات بالمواضع والاصطلاح(12).

والجدير بالذكر أنَّ الاستلزام الحواري مترجم عن المصطلح الانجليزي (Implicaturecuture)، وقد اختلفت ترجمته فمنهم مَنْ ترجمة إلى التضمين(13)، وآخر ترجمه إلى الاقتضاء(14)، ومنهم من أطلق عليه التلويح الحواري(15).

وإنَّ هذا المفهوم كان يُطلق عليه البلاغيون العرب مصطلح التعريض، وهو أن يكنِّي عن الشيء ويعرِّض به ولا يصرِّح(16).

ولا نريد الخوض في هذا المبدأ وقواعده، إنَّما الذي يعنينا منه ما يتعلَّق بمبدأ التأدُّب، إذ يمكن أن يندرج الاستلزام في ضمن مبدأ التعاون تارةً، وفي مبدأ التأدُّب تارةً أُخرى

ص: 496

بحسب مقتضى السياق وقصد المتكلّم.

مبدأ التأدُّب

يُقال: أدُبَ یأدُب أدَبًا، فهو أديب، وأدُبَ الرجل: حسُنَت أخلاقه وعاداته، وتأدَّبَ يتأدَّبُ تأدُّبًا فهو متأدِّب، والمفعول متأدَّب به(17).

وقد تناول اللُّغويّون المحدثون هذا المبدأ في ضمن مباحث التداولية؛ لأنَّها تعتدُّ بالبعد التفاعلي في اللُّغة، واعتبر التداوليون اللُّغة أداةً للتطبيع الاجتماعي لتمتين الروابط بين الأفراد، وقد تناولوا قضية التفاعل الحاصل بين المتكلّمين ساعة التخاطب ضمن جملة من المباحث أو المبادئ، ومن بينها مبدأ التأدُّب الذي يعني «مجموعة من الطرائق المتعارف عليها داخل جماعة لُغويّة يتمثَّل دورها في الحفاظ على قدر من الانسجام في أثناء التفاعل بين المتكلّمين برغم ما يترتّب على كُلّ لقاء واحتكاك من أخطار»(18).

ويُعَدُّ هذا المبدأ سلوکًا تخاطبيًا تحكمه الأعراف والقواعد الاجتماعية وهي تختلف من شخص إلى آخر، ومن بيئة إلى أُخرى، فمبدأ التأدُّب مبدأ اجتماعي أخلاقي قبل أن يكون نمطًا لُغويًّا محدّدًا فقد تستعمل بيئة لُغويّة أُسلوبًا تخاطبيًا لا تستعمله بيئة أُخرى مع وحدة الظرف بينهما.

وهذا المبدأ عَدَّه التداوليون المحدثون من أهمّ المواضيع التي بدأت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي «تستقطب اهتمام اللسانيين التداوليين وتتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى حقل جديد للبحث ما فتئت الكتابات تتتالى والمقاربات في إطاره تتنوَّع، والمحدث يستدرك على القديم، ويفتح في تناول التأدُّب آفاقًا جديدةً اتّسعت بمقتضاها أكتاف الظاهرة وتعدّدت مجالات تطبيقها بعد أن كانت في النشأة والأصل مقصورة على المحادثات الشفوية»(19).

وإنَّ هذا المبدأ يضمّ مجموعة من القواعد التي ينبغي على الفرد مراعاتها.

ص: 497

وقد أشار مجموعة من اللُّغويّين وعلماء الاجتماع إلى بعض تلك القواعد، ومنهم العالم فرایزر في ما سمّاه (المنظور الاجتماعي المعياري في حسن المعاشرة والوجيز في التأدُّب)، فقد احتوى هذا المصنّف على مجموعة من القواعد تهدف إلى تعليم النساء سياسة الخطاب المتأدِّب من نحو هاتين القاعدتين (تجنَّبي الخوض في المواضيع التي يُفترَض أنَّ فيها إحالة مباشرة على أحداث أو ملابسات ربَّما تكون أليمة، إن كنتِ على يقين من عدم صحّة زعم من المزاعم، ومن أنَّ في ذلك الزعم أذًى لشخص آخر قد يكون غائبًا فيمكنك أن تشعري السامع في لطف وهدوء بأنَّه أخطأ أمَّا إذا كانت الكذبة ممَّا لا يترتّب عليها آثار تُذکَر فغضي الطرف عنها»(20).

ثُمَّ تطوّرت هذه القواعد لتشمل المجتمع برمَّته وتحدّدت بموجبها أُصول التخاطب بين الأفراد.

مبدأ التأدُّب عند العرب:

لم يحظَ هذا المبدأ عند قدماء اللُّغويّين العرب بعناية خاصّة، ولم يُفرَد له باب من أبواب اللُّغة أو الأدب، وإنَّما كان يُفهَم من عباراتهم وأُسلوب كتاباتهم وبحسب ما تدعو إليه الحاجة أو تقتضيه المناسبة، ولم تكن عنايتهم به واضحة؛ لأنَّ «تلك الكتابات كانت تعتبر التأدُّب من الاستعمال اللُّغويّ ولم تكن وقتئذٍ تنظر إليه على أنَّه جزء من النحو، وما يوجد في تلك الكتابات من إشارات عابرة يعكس نظرة معيارية للظاهرة»(21).

على أنَّنا يمكن أن نعثر على هذا المبدأ في نتاجات البلاغيين فقد أشاروا إليه في حدیثهم عمَّا يُعرَف لديهم بأُسلوب الحكيم الذي يعني التأدُّب الذي نصَّ عليه المحدثون، وأُسلوب الحكيم بحثه أرباب البلاغة في باب الخروج على مقتضى الظاهر، وهو عند علماء البلاغة صرف کلام المتكلّم أو سؤال السائل عن المراد منه، وحمله على ما هو الأُولى بالقصد، أو إجابته على ما هو الأَولى بالقصد، وسمَّاه الشيخ عبدالقاهر الجرجاني

ص: 498

المغالطة(22).

وقال عنه السكاكي: «ولهذا النوع - أعني إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفنّنة إذ ما من مقتضی کلام ظاهريّ إلاَّ ولهذا النوع مدخل فيه بجهة من جهات البلاغة على ما ننبّه على ذلك، منذ اعتنينا بشأن هذه الصناعة ونرشد إليه تارةً بالتصريح وتارةً بالفحوى، ولكلٍّ من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها»(23).

ولأُسلوب الحكيم قسمان:

الأوّل: «تلقّي المخاطِب بغير ما يترقَّب، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهًا على أنَّه الأَولى بالقصد إليه.

والثاني: تلقّي السائل بغير ما يتطلَّب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهًا على أنَّه الأولى بحاله أو المهمّ له»(24).

فمثال الأوّل ما فعله القبعثری بالحجّاج، إذ قال له الحجّاج متوعِّدًا: (لأحمنّك على الأدهم). يريد الحجّاج: القيد الحديد الأسود: فقال القبعثری «مثلُ الأمير يحمل على الأدهم والأشهب) يعني: الفرس الأسود والفرس الأبيض، فقال له الحجّاج: أردت الحديد، فقال القبعثری: لأن يكون حديدًا خيرٌ من أن يكون بليدًا، ومراده تخطئة الحجّاج بأنَّ الأليق به الوعد لا الوعيد(25).

وقد جرت هذه المحادثة بين الرجلين بسبب أنَّ الحجاج بلغه أنَّ القبعثرى لما ذكَرَ الحجّاج بينه وبين أصحابه في بستان، قال: اللَّهم سوِّد وجهه، واقطع عنقه، واسقني من دمه، فوُشِيَ به إلى الحجّاج فلمَّا مثُل بين يديه وسأله عن ذلك، قال: إنَّما أردت العنب، فقال له الحجّاج ما ذُکِرَ.

ومثال الثاني قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ

ص: 499

وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» [البقرة: 215]، سألوا النبيّ (صَلَّی اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن حقيقة ما ينفقون مالهم، فأُجيبوا ببيان طرق إنفاق المال تنبيهًا على أنَّ هذا هو الأولى والأجدر بالسؤال عنه، ومنه قول الحجّاج البغدادي(26):

قَالَ: ثَقَّلْتُ إِذْ أتَيْتُ مِرَارًا *** قُلْتُ ثَقَّلْتَ كَاهِلي بالأَيَادِي

قالَ: طَوَّلْتُ. قُلْتُ: أَوْلَيْتَ طَوْلاً *** قَالَ: أَبْرَمْتُ قُلْتُ: حَبْلَ وِدَادِي

فصاحب ابن حجّاج يقول له: قد ثقلت عليك بكثرة زياراتي، فيصرفه عن رأيه في أدب وظرف، وينقل كلامه من معنى إلى معنى آخر، وكقول الشاعر(27):

ولمَّا نعى الناعي سَألنَاهُ خشيةً *** وللعَينِ خوفَ البينِ تسكابُ أمطارِ

أجاب قضي: قلنا قضى حاجة العلى *** فَقالَ مَضَى: قُلنَا بِكُلِّ فَخَار

وقِيلَ لشيخ هِرمٍ: كم سنّك؟ فقال: إنِّي أنعم بالعافية، فترك الشيخ الهرم الإجابة عن السؤال الموجّه إليه، وصرف سائله في رفق عن ذلك، وأخبره أنَّ صحّته موفورة إشعارًا للسائل بأنَّ السؤال عن الصحّة أولى وأجدر(28).

مراحل التأدُّب:

مَرَّ هذا المبدأ لدى التداوليين المحدثين بمنعطفات أو قل: مراحل تباينت بين لُغويّ وآخر، أو عالم اجتماع وآخر، ويمكن تشخيص ذلك في المراحل الآتية:

1 - مرحلة غرايس

يُعَدُّ بول غرايس من أعلام التداولية الأوائل، وقد عُنِيَ عنايةً أُولى بمبدأ التعاون الذي أرسى دعائمه في مقاله الشهير (المنطق والمحادثة) الذي نشره عام 1957 م، ويقتضي أنَّ المتكلّمين متعاونون في تسهيل عملية التخاطب، وهو يرى أنَّ مبادئ المحادثة المتفرِّعة عن مبدأ التعاون هي التي تفسِّر كيف نستنتج المفاهيم الخطابية، وهي المبادئ

ص: 500

التي يمكن تلخيصها في ما يأتي: مبدأ النوعية، مبدأ الكمّية، مبدأ الأُسلوب (الكيفية)، ومبدأ العلاقة (المناسبة).

وقد نبَّهَ غرایس بعد عرضه قواعد مبدأ التعاون على وجود غيرها من قبيل قواعد التأدُّب التي تتمُّ مراعاتها من طرف المتكلّمين، ولكنَّ مبدأ التأدُّب عنده لا يرقى في تقديره إلى تلك القواعد الأربع العامّة(29).

إذن فإنَّ هذه المرحلة يمكن أن نطلق عليها بأنَّها مرحلة تهميش مبدأ التأدُّب وجعله مبدًا ثانويًا تاليًا لمبدأ التعاون.

وقد اعترف ضمنًا بضرورة هذا المبدأ في الخطاب التداولي وأثار في هذا المقال مشکلاً مهمًّا يتمثَّل في أنَّ المنوال القائم على شروط الصدق يمكننا التعرُّف على المعاني الحرفية والعرفية للملفوظات، ولكنَّه يظلُّ منوالا محدودًا؛ لأنَّه يضيق عن استيعاب ما يُعبِّر عنه الخطاب البشري اليومي من معانٍ أُخرى.

وعَرَّف غرايس هذا المبدأ بقوله: فالمتكلِّم في كثير من الأحيان يقول شيئًا (المعنى المعلن)، ويضمِّن كلامه معنًى آخر غير صريح (المعنى المضمَّن)، والفرق بين المعنيين أنَّ الأوّل هو ما تعنيه الكلمة في قيمتها الظاهرة وما يمكن التعبير عنه وتفسيره بمصطلحات شروط الصدق، أمَّا المعنى الثاني فهو الأثر الذي ينوي المتكلّم إحداثه في السامع معِّولاً في ذلك على قدرة هذا السامع على الوصول إلى ذلك الفهم الملفوظ - أيّ ملفوظ كان - لا ينفع فيه الاكتفاء بالتحليل القضويّ ولا يستوفيه الدليل الذي يقف عند المعاني الحرفية(30).

وهذا التعريف هو تمام ما قاله البلاغيون ما يُعرَف عندهم بمخالفة مقتضى الحال أو ما سمَّاه عبدالقاهر الجرجاني بالمغالطة، وأطلق عليه السكاكي أُسلوب الحكيم الذي مَرَّ ذكره.

ص: 501

2 - مرحلة روبن لايكوف

اقترحت روبن لايكوف مبدًا آخر إلى جانب مبدأ التعاون الذي اقترحه غرایس سمته صراحة مبدأ التأدُّب الذي يستجيب للظواهر ذات الطابع الاجتماعي والعلائقي ويحتوي هذا المبدأ على قاعدتين كبريين تندرجان ضمن كفاءة المتكلّم التداولية، هما: كن واضحًا، وكن متأدِّبًا، وقد أشارت لايكوف إلى أنَّ العلاقة بين هاتين القاعدتين تتّسم أحيانًا بالتقابل وأين الغلبة تكون للتأدُّب حين يجد المتكلّم نفسه مضطرًا إلى أن يقدِّم الأهم (التأدُّب) على المهمّ (الوضوح)، وأنَّ حرص المتكلّم على عدم إزعاج المخاطَب ومضايقته في أثناء المحادثة يفوق حرصه على أن تكون تدخُّلاته واضحة مفهومة(31).

ويقوم هذا المبدأ عندها على قواعد ثلاث:

1. قاعدة التعفُّف، ومقتضاها: لا تفرض نفسك على المخاطَب.

2. قاعدة التشکُّك، ومقتضاها: لتجعل المخاطَب مختار بنفسه.

3. قاعدة التودُّد، ومقتضاها: لتظهر الودّ للمخاطَب(32).

3 - مرحلة ليتش

أشار ليتش إلى أنَّ هذا المبدأ في ضمن مقاربة بلاغية، إذ فَرَّق داخل المقاربة البلاغية بين بلاغتين: بلاغة نصية تقوم على مجموعة من المبادئ من قبيل مبدأ التسلسل ومبدأ الوضوح ومبدأ الإيجاز ومبدأ التعبير والإفصاح، وبلاغة تفاعلية بين شخصية تحتوي على ثلاث مجموعات من القواعد: مجموعة القواعد التي تنضوي في إطار مبدأ غرایس المعروف بمبدأ التعاون، ومجموعة القواعد التي تندرج في مبدأ التأدُّب ومجموعة القواعد التابعة لمبدأ السخرية(33).

ويعتقد ليتش أنَّ مبدأ التأدُّب يفوق في الأهمِّية مبدأ التعاون الذي أرسى قواعده

ص: 502

غرايس منطلقًا في تصوّره هذا من أنَّ كُلّ سياق يوجّهه هدف تواصلي محدَّد، وأنَّ الغاية من استعمال المتكلّم اللُّغة هو إحداث أثر في ذهن السامع، وأنَّ الدور المناط بالتداولية هو جعل المعنى النحوي للملفوظ بسبب من القوّة التداولية التي يحملها، فالذي يشغل بال لیتش هو فهم تلك العلاقات التي تقوم بين المعنى والقوّة الكامنة فيه فهمًا قد يساعد مبدأ التعاون على تحقيقه.

ومبدأ التأدُّب عند ليتش لا يحلّ محلّ مبدأ التعاون ولا يلغيه، بل يكمله، وله صورتان، هما(34):

1. أكثِر من الكلام المؤدَّب.

2. قلَّلْ من الكلام غير المؤدَّب.

وجعل ليتش المبدأ التأدُّب قواعد هي:

1. قاعدة اللباقة، وهي تقوم على التقليل من التكاليف والخسائر التي يمكن أن يتكبَّدها السامع والترفيع من الفوائد التي يجنيها.

2. قاعدة الكرم، ومدارها على جعل المتكلّم يجني من الفوائد أقلّها، وجعل السامع يجني من تلك الفوائد أكثرها.

3. قاعدة الاستحسان، ومدارها على التقليل من ذم السامع والقدح فيه والإكثار من مدحه والثناء عليه.

4. قاعدة التواضع، ومدارها على التقليل من إطراء الذات والإكثار من نقدها.

5. قاعدة الاتّفاق، ومدارها على التقليص من التعابير الدالّة على أنَّ الذات في خلاف الآخر والإكثار من التعابير التي تظهر الذات على اتّفاق السامع.

6. قاعدة التعاطف، ومدارها على التقليص على كُلّ ما من شأنه أن يولّد الكراهة والنفور بين المتكلّم والسامع والإكثار من التعابير الدالّة على التعاطف بینهما.

ص: 503

كما أنَّه حدَّدَ نوعين من التأدُّب الأوّل مطلق والآخر نسبي.

ويعتقد ليتش أنَّ الأعمال اللُّغويّة تأتي في أربعة أنماط:

1. أعمال تنافسية، وتتمُّ بالأمر والسؤال والطلب والاعتذار.

2. أعمال بهيجة، وتتمُّ بالعرض والاستدعاء والتحية والشكر والتهنئة.

3. أعمال تعاونية من قبيل الإخبار والإرشاد.

4. أعمال تصادمية مثل الاتهام والتهديد والشتم والتقريع.

وجعل الأوّلَين من التأدُّب في حين استبعد الآخرَين(35).

4 - مرحلة براون وليفنسون

لم يختلف مبدأ التأدُّب كثيرًا عند هذين العالمَين اللذين أشارا إليه في كتابهما المشترك (السؤال والتأدُّب) الذي نُشِرَ عام 1987 م، فإنَّ مبدأ التأدُّب عندهما ضرب من الاستلزام التحادثي على النحو الذي ذكره غرایس، فحين يقول متکلم يسرُّني مجيئك غدًا لحضور حفل زفاف ابنتي، فإنَّه لا يضمِّن في هذا الملفوظ طلبًا فقط، بل هو يضمِّن أيضًا مقصدًا آخر يتمثَّل في أن يظهر في مظهر المتأدِّب، وهذا ما يجرِّد التأدُّب من العفوية ويجعله سلوكًا فردیًا ومتّسمًا بالاستراتيجية والقصد.

ويكون الغرض منه تجنُّب ما من شأنه أن يعطِّل سير المحادثة ويعرِّض أحد طرفيها أو كليهما للخطر والحرج(36).

ويقوم تصوّر المؤلِّفين المبدأ التأدُّب على مفهوم أساس وهو (ماء الوجه) الذي يفيد من أهمّ ما يفيد تقدير الفرد لذاته، وأطلقا على هذا المبدأ مبدأ التواجه، وقوامه مقابلة الوجه للوجه، ويمكن أن يُصاغ کما يأتي: «لتصُنْ وجهَ غيرك»، ويرتكز هذا المبدأ على مفهومين، هما:

ص: 504

أ. قيمة الوجه الاجتماعية: يجب على المتكلّم أن يصون وجه غيره، ففي ذلك صيانة لوجهه، وهكذا ينعكس على الاحترام والتعاون المتبادَل بينهما.

ب. نسبة تهديد الوجه: هو الالتزام بعدد من استراتيجيّات التخاطب لضمان الاحترام المتبادَل بين المتخاطبين، ممَّا يستدعي تصنيفًا للأفعال التي تهدِّد الوجه، فهما يربطان بين الأفعال اللُّغويّة وبين نسبة تهديدها للوجه(37).

5- مبدأ التصديق

لقد عرض طه عبدالرحمن هذه المبادئ ونقدها وحاول أن يوجد بدائل إسلامية لها، مستفيدًا من التراث العربي الإسلامي، وجاء بمبدأ آخر هو مبدأ التصديق الذي نجد له جذورًا وصورًا مختلفة في التراث العربي، وقوام هذا المبدأ عنصران اثنان:

أحدهما: نقل القول ويتعلق بالجانب التبليغي من المخاطبة.

الثاني: تطبيق القول الذي يتعلّق بالجانب التهذيبي.

ويتفرَّع عن مبدأ التصديق الذي أقَرَّه طه عبدالرحمن ثلاث قواعد:

قاعدة القصد: لتتفقّد قصدك في كُلّ قول تلقي به إلى الغير.

قاعدة الصدق: لتكن صادقًا فيما تنقله إلى غيرك.

قاعدة الإخلاص: لتكن في تودّدك للغير متجرِّدًا من أغراضك.

ویری طه عبدالرحمن أنَّ هذه القواعد أفضليات هي:

1. أن يفعل المتكلّم ما لم يقل أفضل له من أن يقول ما لم يفعل.

2. أن يسبق فعل المتكلم قوله أفضل له من أن يسبق قوله فعله.

3. أن يكون المتكلّم أعمل بما يقول أفضل له من أن يكون غيره أعمل به(38).

وقد أفاد طه عبد الرحمن في مبادئه هذه من التراث الإسلامي، ولاسيَّما في جانبه

ص: 505

التبليغي من كتاب (أدب الدنيا والدين) للماوردي.

مبدأ التأدُّب في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):

بعد هذه القراءة المتأمّلة والإجمالية في هذا المبدأ والوقوف على قواعده، والمراحل التي مَرَّ بها وبيان موقف اللُّغويّين منه، والوقوف على ما يرافقه من مبادئ من نحو مبدأ التعاون ومحاولة الوصول إلى جذور هذا المبدأ في التراث اللُّغويّ والبلاغي العربي، نعرض في قابل الصفحات إلى عهد الإمام عليّ (عليه السلام)، وما وَرَدَ فيه من مبدأ التأدُّب.

وأوّل ما يطالعنا في عهد الإمام حاملاً هذا المبدأ قوله (عليه السلام): «فَلْيَكُنْ أَحَبَّ

الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ

الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فيما أَحْبَّت أو كَرِهْت»(39).

فقد وَرَدَت هنا عبارات عِدَّة وظّفها الإمام توظيفًا تداوليًا تأدُّبیًا رائعًا توزّعت بين جمل طلبية بأُسلوب الأمر، وهو من الأعمال التنافسية التي جعلها ليتش من مبدأ التأدُّب، وهو قوله (عليه السلام): «فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ...» وقوله (عليه السلام): «فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ »، وأُخرى خبرية « فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فيمَ أَحْبَّت أو كَرِهْت».

فإنَّه كان يمكن للإمام أن يكون الأُسلوب التداولي لديه على وفق مبدأ التعاون المباشر، ولكنَّه مال إلى أُسلوب التأدُّب، فبدلاً من أن يوجِّه الخطاب بشكل مباشر فيه تقريع الأمير المأموره، وبأُسلوب الأمر المباشر، قال: «فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ

مِنْهَا...»، بمعنى: أنَّك ينبغي ألاَّ تكون جشعًا، تأكل أموال المسلمين أو تكون ظالمًا للرعية، وجَّهه بالحكمة التي تقول: «إِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَّت أو كَرِهْت»، أي: ألزم نفسك واكبح جماحها.

ص: 506

وقد استعمل الإمام (عليه السلام) مع واليه أُسلوب المعلِّم المرشد ففسَّر له الشحَّ ما هو، فقال: أن تنتصف منها فيما أحبّت أو كرهت، أي: لا تمكِّنها من الاسترسال في الشهوات، وكن أميرًا عليها، ومسيطرًا وقامعًا لها من التهوّر والانهماك(40).

فهنا يمكن أن نقول: إنَّ كلا المبدأين: التعاون والتأدُّب، حاضران في هذه القطعة من العهد.

ثُمَّ ننتقل إلى عبارة أُخرى له (عليه السلام) يتّضح فيها هذا المبدأ، وهو قوله: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(41).

فهنا يرِدُ هذا المبدأ بطريقة النهي، وهو قوله (عليه السلام): «وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا»، فقد نهى الإمام واليه بأُسلوب بلاغي غير مباشر مضمِّنًا مبدأ التأدُّب، وهو قوله (سَبُعًا ضَارِيًا)، إذ المعنى الوضعي المفردة السبع هو الحيوان المعروف، وبضميمة لفظة (ضَارِیًا) تتكوَّن صورة من صور التجرُّؤ والتسلُّط على الناس ونهب أموالهم، فقد طرح الإمام هذه الدلالات بطريقة الاستلزام الحواري، وهو صورة من صور هذا المبدأ الذي لا تدلّ الألفاظ فيه على معانيها المباشرة، وإنَّما يُراد بهذه الألفاظ معاني أُخَر، وهو ما يُعرَف لدى البلاغيين بالكناية أو الاستعارة، أو أُسلوب الحكيم الذي عرضنا له في صدر هذا البحث.

فقد أوصى الإمام (عليه السلام) الوالي بالرعيّة خيرًا، وألاَّ يظلمهم؛ لأنَّهم إمَّا أن يشتركوا معه في الإنسانية أو في الدين، وأُسلوب التأدُّب يتجلَّى في الجملة الخبرية، فإنَّهم صنفان، أي: لا يحقّ ظلمهم رعاية لهم؛ لأنَّهم إخوة لك في الدين أو الخلق، ويشير هذا إلى قاعدة التودُّد التي أشارت إليها لايكوف.

ثُمَّ ينتقل الإمام (عليه السلام) مخاطبًا واليه بمنتهى أساليب اللطف والأدب والرقّة

ص: 507

فينصحه بما يقرِّبه إلى ربّه فيقول: «وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ، فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»(42).

فحملت هذه العبارة صورًا رائعة من الاستعارة فضلاً عن حسن الفاصلة والتضادّ ودقّة العبارة فابتدأت بأسلوب النهي المؤكَّد بنون التوكيد (وَلاَ تَنْصِبَنَّ) الذي يدلّ على حرص الإمام على واليه بألاَّ يكون في هذا المقام الذي يبعده من الله، والإمام عندما يخاطب واليه فإنَّه يعني كُلّ الناس فهو من باب (إيَّاك أعني واسمعي يا جارة).

ثُمَّ يقول له بأُسلوب تهذيبي «فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ» فخرق مبدأ التعاون في هذا النصّ يستلزم حواریًا أنَّ لفظة اليد هنا لا تدل على معناها الوضعي، وإنَّما أراد بها القوّة أو السلطة، ونحو ذلك.

وقد استوحى الإمام هذا المعنى من قوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» [الفتح: 48]، واليد هنا من باب الاستعارة التخييلية، بمعنى أنَّ الله قويٌّ لا يعلوه أحد في قوّته(43).

واللام في (لك) مقحمة بين المضاف والمضاف إليه، كما قالوا: لا أبا لك، ثُمَّ يقول الإمام: «وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»، فحسن الفاصلة واضح بين نقمته ورحمته ممَّا يجعل الخطاب سائغًا متقبَّلاً في نفس المخاطَب، ودلالة النقمة التي تضادها الرحمة يوضِّح حرص الإمام على الأُسلوب التأديبي التربوي ببيان وسائل الترغيب التي تقابل وسائل الترهيب.

ثُمَّ يمضي الإمام في التواصل التخاطبي المفعم بمبدأ التأدُّب لواليه، إذ يقول: «وَإِذَا

أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فيِهِ مِنْ سُلطْاَنِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ الله فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَی مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَمَلِكَ»(44).

فأمره عند حدوث الأُبّهة والعظمة لأجل الرئاسة والإمْرَة أن يذكر عظمة الله تعالى

ص: 508

وقدرته على إعدامه وإيجاده، وأمانته وإحيائه، والمخيلة: الكبر، ويُقال: فلانٌ ذو خال وذو مخيلة(45).

ثُمَّ يُبيِّن الإمام أنَّ تواضعك لله يكفّ من سطوتك وتجبُّرك وحدّتك وسرعة بطشك، وكُلّ هذه المعاني التربوية مستفادة من قوله (عليه السلام): ««يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ»، وهي استعارة لطيفة، إذ الأصل في الغرب هو حدّ السيف، ويُستعمَل لحدّة الشباب ونشاطه، فنراه (عليه السلام) استعمل في تخاطبه هذا بعض الاستعارات والكنايات التي تفضي إلى أُسلوب التأدُّب أو الاستلزام الحواري(46).

ثُمَّ يردف (عليه السلام) ذلك بتحذير يوجّهه إلى واليه، وهو قوله: ««إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ»(47).

ولم يخرق الإمام في هذا المقطع من التخاطب مبدأ التعاون، فإنَّ حديثه لواليه مباشر يكتسيه الوضوح، إلاَّ أنَّنا يمكن أن نتلمَّس أُسلوب التأدُّب في ذيل هذا المقطع «فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال»، فإنَّ الإمام يذکِّر واليه بقدرة الله وعظمته، يريد أن يحثّه بأُسلوب بارد على عدم التجبُّر والتكبُّر والتسلُّط.

ثُمَّ يوجِّه الإمام واليه بتعليمه درسًا أخلاقيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا في كيفيّة إدارة الحكم والتعامل مع الرعية بأُسلوب تهذيبي مستعملاً أُسلوب التأدُّب وقاعدة التشكُّك التي أشارت إليها لايكوف وبیَّنّاها في صدر هذا البحث، إذ يقول: «وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَ الْعَامَّةِ»(48).

ولا يبعد هذا الأُسلوب التخاطبي عن سابقه كثيرًا، فإنَّ الإمام طلب من واليه أُمورًا وجعله يختار ما صلح منها بنفسه بعد أن بیَّنَ له الصحيح من غيره في خطابه له، وهذا ما أطلق عليه ليتش الأعمال البهيجة التي تتمُّ بالعرض والاستدعاء والتحيّة، وجعلها من

ص: 509

مبدأ التأدُّب كما أشرنا إليها عنده، وقد عرَّفَه الإمام «أنَّ قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامّة فإنَّه لا مبالاة بسخط خاصّة الأمير مع رضا العامّة، فأمَّا إذا سخطت العامّة لم ينفعه رضا الخاصّة... لأنَّ الخاصّة لا يُغنون عنه شيئًا عند تنكّر العامّة له، وكذاك لا يضرّ سخط هؤلاء إذا رضيت العامّة؛ وذلك لأنَّ هؤلاء عنهم غنًى ولهم بدل، والعامّة لا غنى عنهم ولا بدل منهم»(49).

وقد بيَّن الإمام في خطابه هذا لواليه أنَّ ميله للخاصّة على حساب العامّة لا يجوز له من وجهتين: إمَّا «الوجهة الدينية فواضح لمكان الظلم والجور، وإمَّا من الوجهة السياسية فلأنَّ سخط العامة یهزُّ كيان الدولة بالإضرابات والمظاهرات وربَّما بالثورة المسلَّحة، ورضا الخاصّة لا يُجدي شيئًا في هذه الحال، والعنف يزيد النار اشتعالاً»(50).

فمع أنَّ هذا المقطع يشير إلى قضية إدارية إلاَّ أنَّه لا يخلو من أُسلوب التأدُّب.

ثُمَّ يتواصل الإمام مع واليه على نسق واحد من أُسلوب التأدُّب الذي تضمَّنَ جميع قواعد هذا المبدأ وأنواعه، ومنه (مبدأ التواجه) الذي أشار إليه براون وليفنسون يقوم على تقدير الشخص لذاته، ومفهومه (لتصُنْ وجه غيرك)، فنسمع الإمام يقول: «وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ، وَأشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ، فإنَّ في النَّاسِ عُيُوبًا، الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَی مَا غَابَ عَنْكَ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللهُ مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ»(51).

فإنَّ الإمام يطلب منه أن يستر عيوب رعيّته وألاَّ يكشفها للآخرين وأن يحفظ ماء وجه رعيّته وإن كان فيهم عيوب، مبيِّنًا له أنَّ مَنْ ستر عيوب الناس ستر الله عيوبه، وأنَّ حفظ عيوب الآخرين أو حفظ ماء وجوههم هو من مرتكزات مبدأ التأدُّب، فإنَّه «يجب على المتكلِّم أن يصون وجه غيره، ففي ذلك صيانة لوجهه هو»(52).

ص: 510

وهكذا نحلِّق مع الإمام في عهده إلى واليه وهو يسدي إليه النصائح الواحدة تلو الأُخرى، ويحثُّه على ضرورة التواضع وعدم الشعور بالزهوّ والخيلاء، ويظهر هذا جليًّا في العبارة التي خاطبه بها، وهي قوله (عليه السلام): «وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلا يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطلِ لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ»(53).

فهذا النمط من التخاطب يمكن أن يكون في ضمن دائرة قاعدتي التواضع والتعاطف اللتين أشار إليهما ليتش في مبدأ التأدُّب عنده.

فإنَّ الإمام (عليه السلام) بخطابه هذا يحثُّ واليه على ضرورة التزلُّف لأهل الورع والتقوى، وأن يعوِّدهم على ألاَّ يقولوا فيه إلاَّ الحقّ، وألاَّ يقولوا فيه ما ليس فيه بُغية لمدح؛ لأنَّ ذلك يورث الزهوّ والخيلاء، وهو خلاف ما ينبغي أن يكون الوالي الذي يريده س الإمام أن يكون متواضعًا في تخاطبه وتعامله مع الناس، وألاَّ يزيده إطراء القوم عليه إلاَّ تواضعًا، وقد وَرَدَ في الخبر أنَّ رجلاً «أثنى على الإمام عليّ (عليه السلام) في وجهه ثناءً أوسع فيه - وكان عنده متّهمًا - فقال له: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك»(54).

ثُمَّ ينتقل الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك، إذ بيَّنَ لواليه كيفيّة إدارة الدولة وقيادة المجتمع ويُبيِّن له أيضًا طبقات ذلك المجتمع وواجبات كُلّ طبقة وحقوقها، ثُمَّ يرسم له الطريق الأمثل لقضية الخراج وجبايته، وعمارة البلاد، ويوضح له كيفيّة التعامل مع المجتمع بوصفه قائدًا لذلك المجتمع بذات الأُسلوب الذي ابتدأ به العهد حتَّى يصل إلى آخره على هذا النسق من الأُسلوب التأدُّبي، وهذه الطريقة الراقية من الحاكم مع واليه مرشدًا إيَّاه تارة ومحذِّرًا له تارةً أُخرى، بالأمر مرّةً وبالنهي أُخرى، حتَّى نصل إلى أواخر العهد، فنراه يوجِّهه إلى عدم الغضب والتروّي في الحكم وعدم الشموخ وعدم البطش بالرعية بأُسلوب تأدُّبي حكيم فنستمع إليه يقول: «امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ

ص: 511

حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الاْخْتِيَارَ»(55).

فاستعمل الإمام في هذا المقطع أنماطًا من الاستعارة لإيصال مراده إلى مخاطبه بصورة غير مباشرة فوظَّف تلك الألفاظ توظيفًا تداوليًا في ضمن مبدأ التأدُّب من قبيل حمية أنفك، ويُطلق هذا المعنى على الجمل الموجع أنفه بالخزامة، وسورة: سطوة، وحدّك: بأسك، وغرب لسانك، أي: حدّه(56).

فخرق مبدأ التعاون واضح هنا إلى أُسلوب الاستلزام الحواري بتوظيف الألفاظ توظيفًا غير مباشر بطريق الاستعارة أو الكناية التي قرَّرَها علماء البلاغة وعَرفها التداوليون بأُسلوب الاستلزام الحواري.

فأمره من خلال ذلك بأن يدع الشموخ والتعالي على الناس لا لشيء، إلاَّ لأنَّه الوالي، وأن يملك نفسه عند الغضب، ويكفّها عن الأذى، وألاَّ يُطلق لسانه يمينًا وشمالاً على غير هدًى، حتَّى يسكن غضبه فيملك الاختيار، ولو اندفع معه لتغلّب الهوى والجهل على عقله وعاقب مَنْ لا ذنب له، وتكلّم بما يشين، وتجاوز الحدود، وأمكن عدوّه من نفسه، فيجب أن يتذكّر وقوفه بين يدي الله للحساب والجزاء(57).

كانت هذه وقفة مع بعض فقرات عهد الإمام وبحث مبدأ التأدُّب فيه، وحرصتُ على أن ألتقط الفقرات التي يتّضح فيها هذا المبدأ، فكان اختياري قسمًا منها وترك القسم الذي يتعلّق بأُسلوب إدارة الدولة وأحكام الحكم والسياسة إذ لم يتّضح فيها هذا المبدأ.

وأخيرًا الله أسأل أن يقرّبني هذا العمل إليه وأن يجعلني خادمًا للعربية وعلومها، ولاسيَّما فيما يتعلّق بتراث مُحمّد وآل مُحمّد.

***

ص: 512

الهوامش:

1. - ينظر: إعراب القرآن وبيانه: 6 / 672.

2. - ينظر: التصوير القرآن للقيم الخلقية والتشريعية، علّي علّي صبح: 1 / 174.

3. - ينظر: البرهان: 2 / 306.

4 - معترك الأقران: 1 / 218.

5. - التداولية عند العلماء العرب، د. مسعود صحراوي: 16.

6. - ينظر : وصف اللُّغة العربية دلالياً: 117.

7. - ينظر: تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية: 8.

8 - البراغماتية وعلم الدلالة: 177.

9. - ينظر: النظرية التداولية المفهوم والتصوّر، د. رضوان الرقبي (بحث)، ومفهوم؟؟؟ التخاطب بين مقتضى التبليغ ومقتضى التهذیب، طه عبد الرحمن، مجلَّة كلية الآداب، بني ملال 14، 1994، ص 43 - 44.

10. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

11. - الاستلزام الحواري من أُسس انسجام الخطاب (مقال).

12. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية، والتداولية عند العلماء العرب: 34 - 35، وشعر أبي نواس دراسة تداولية (أطروحة دكتوراه)، حسین عمران مُحمّد، 2015، جامعة ديالى، ص 248.

13. - ينظر: التداولية، عبد السلام عشيري: 65.

14.. ينظر: الاقتضاء في التداول اللساني (بحث)، عادل فاخوري، مجلَّة عالم الفكر، أكتوبر / نوفمبر ديسمبر، ع 3، 1989، م 141.

15. - ينظر: نظرية الفعل الكلامي بين علم اللُّغة الحديث والمباحث اللُّغويّ في التراث العربي الإسلامي، هشام عبدالله الخليفة، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 2007.

16. - البديع في البديع لابن المعتز: 1 / 39.

17. - ينظر: لسان العرب، والمصباح المنير، ومعجم اللُّغة العربية المعاصرة، مادّة (ادب).

18. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية (بحث).

19. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

20. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

ص: 513

21. - نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

22. - ينظر: البلاغة العربية: 1 / 498.

23. - مفتاح العلوم: 155، وينظر: أساليب البلاغة: 1 / 264.

24. - أساليب البلاغة: 1 / 264.

25. - جواهر البلاغة: 319.

26. - ينظر: خزانة الأدب: 1 / 259.

27. - ينظر: جواهر البلاغة: 1 / 319، وعروس الأفراح: 2 / 279.

28. - ينظر: علم البديع، عبدالعزیز عتیق: 1 / 182.

29. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

30. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث)، ونظرية غرايس والبلاغة العربية، باديس لهويمل، مجلَّة المخبر، أبحاث في اللُّغة والأدب الجزائري، جامعة مُحمّد خيضر، بسكره، ع 7، 2011، ص 46.

31. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

32. - ينظر: النظرية التداولية (المفهوم والتصوّر)، رضوان الرقبي (بحث)، واستراتيجية الخطاب مقاربة لُغويّة تداولية، عبدالهادي بن ظافر الشهري: 100.

33. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

34. - نظرية التأدُّب في اللسانيات الحديثة (بحث).

35. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية.

36. - ينظر: نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية (بحث).

37. - ينظر: الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث، طه عبدالرحمن أنموذجاً: 177.

38. ينظر: اللسان والميزان: 249 - 251.

39. - نهج البلاغة: 17 / 22.

40. - ينظر: نهج البلاغة: 17 / 23.

41. - نهج البلاغة: 17 / 23.

42. - نهج البلاغة: 17 / 23.

43. - ينظر: التحرير والتنوير: 26 / 157.

44. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

ص: 514

45. - ينظر: بهج الصباغة: 13.

46. - ينظر: شرح نهج البلاغة: 17 / 23، وبهج الصباغة: 13.

47. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

48. - ينظر: شرح نهج البلاغة: 17 / 24.

49. - شرح نهج البلاغة: 17 / 23.

50. - في ظلال نهج البلاغة: 1 / 253، وينظر: دراسات في نهج البلاغة، مُحمّد مهدي شمس الدين: 1 / 110.

51. - شرح نهج البلاغة: 17 / 25.

52. - الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث: 177.

53. -شرح نهج البلاغة: 17 / 31.

54. - بحار الأنوار: 46 / 103.

55. - شرح نهج البلاغة: 17 / 77.

56. - ينظر: المصباح المنير مادّة (حمي، سور، غرب).

57. - في ظلال نهج البلاغة: 1 - 2.

ص: 515

المصادر والمراجع:

1. القرآن الكريم.

2. استراتيجية الخطاب مقاربة لُغويّة تداولية، عبدالهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتّحدة، 2004 م.

3. إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين درویش، دار الإرشاد للشؤون الجامعية، حمص، سورية، دار اليمامة، دمشق، بيروت، ط 4، 1415 ه

4. بحار الأنوار، للمجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.

5. البديع في البديع، لابن المعتزّ، دار الجيل، 1990 م.

6. البراغماتية وعلم الدلالة، د. عليّ هادي، دار الفكر، بیروت، 2000 م.

7. البرهان في علوم القرآن، للزرکشي، تحقيق: مُحمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1957 م.

8. البلاغة العربية، عبد الرحمن الميداني الدمشقي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، 1996 م.

9. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، الشيخ مُحمّد تقي التستري، تحقيق: مؤسسة نهج البلاغة، دار أمير کبير للنشر، 1997 م.

10. التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984.

11. تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، عمر بلخير منشورات الاختلاف، الجزائر، 2003.

12. التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2005 م.

13. التصوير القرآن للقيم الخلقية والتشريعية، عليّ عليّ صبح، المكتبة الأزهرية للتراث.

14. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي، تحقيق: نجوى أنس، دار إحياء التراث

ص: 516

العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت.

15. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبدالقادر البغدادي، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1997 م.

16. دراسات في نهج البلاغة، مُحمّد مهدي شمس الدين، بيروت، ط 2، 1972 م.

17. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، تحقيق: مُحمّد إبراهيم، دار الكتاب العربي، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

18. شعر أبي نواس دراسة تداولية، حسين عمران مُحمّد، أُطروحة دكتوراه، جامعة ديالي، 2015 م.

19. عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، بهاء الدين السبكي ، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية.

20. علم البديع، لعبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان.

21. في ظلال نهج البلاغة، مُحمّد جواد مغنية، دار الكتاب الإسلامي، 2005.

22. لسان العرب:، لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414.

23. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1998 م.

24. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيّومي، المكتبة العلمية، بيروت.

25. معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1988 م.

26. معجم اللُّغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، عالم الكتب.

27. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، منشورات ذوي القربى، ط 2، 1423 ه.

28. مفتاح العلوم، للسكاكي، ضبطه وكتب هوامشه وعلّق عليه: نعیم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1987 م.

ص: 517

29. نظرية الفعل الكلامي بين علم اللُّغة الحديث والمباحث اللُّغوية في التراث العربي الإسلامي، هشام عبدالله الخليفة، مكتبة لبنان ناشرون، 2007 م.

البحوث

1. الاستلزام الحواري في الدرس اللساني الحديث (طه عبدالرحمن أُنموذجاً)، لیلی کادة، جامعة بسكرة.

2. الاستلزام الحواري من أسس إنسجام الخطاب، أحمد عبد المنعم عطيَّة، مقال على الشبكة العنكبوتية.

3. الاقتضاء في التداول اللساني، عادل فاخورين مجلَّة عالم الفكر، ع 3، 141، 1989 م.

4. مفهوم التخاطب بين مقتضى التبليغ ومقتضى التهذیب، طه عبد الرحمن، مجلَّة كلية الآداب، بني ملال، ع 1، 1994 م.

5. نظرية التأدُّب في اللسانيات التداولية، د. حاتم عبيد، عالم الفكر، م 43، 2014 م.

6. النظرية التداولية (المفهوم والتصوّر)، د. رضوان الرقبي (بحث).

7. نظرية غراس والبلاغة العربية، بادریس هويمل، مجلَّة المخبر أبحاث في اللُّغة والأدب الجزائري، جامعة مُحمّد خيضر، بسكرة، ع 7، م 46، 2011 م.

ص: 518

حُجّية الإقناع بالتعليل في عهد الامام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله)

اشارة

الدكتور

وسام حسين جاسم العبيدي

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) / فرع واسط

ص: 519

ص: 520

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفصح من نطق الضاد أبي القاسم المصطفى الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد

فالحديث عن خطاب الإمام عليّ (عليه السلام) لا يروي غُلّة المتعطشين إلى سحر بیانه، سواءٌ أكانوا من خصومه، أم من محّبيه، فكلامه - كما قيل - «سيّد الكلام»؛ ولذلك تشعّبتِ الدراساتُ التي تناولت كلماتُهُ النبيّةُ، إلى فُنونٍ كثيرة، بين لُغوّيةٍ وبلاغيّةٍ، ومُعجميَّةٍ، ولسانيةٍ، وتداوليةٍ، وفنّيةٍ، و.. الخ من معارف إنسانية جمّة، ولم ينضبْ بعد ذلك المعين الخالد من كلمات السفر العلويّ الأقدس، إذْ إنّه حظي برعاية الغيب، وکلاءة الرب العظيم، فأنّى له أنْ يُدْثر؟!

إلا أنّي آثرتُ الخوضَ في ملمحٍ أخّاذٍ للنظر، وبارزٍ عن سواه من الملامح الإسلوبية في رسالةِ الإمام إلى عامله مالك بن الأشتر (رضوان الله عليه) الذي ولّاه حُکم مصر، إلا وهو (التعليل) بوصفه آليةً يضمن بها المتلقّي مقبوليةَ ما يُلقيه من کلام، فقد جعل (تولمين) من التعليل الوظيفة الأساسية للحجج، وهذا من خلال عملية الانتقال من المعطى إلى النتيجة التي تُذكّرنا في القياس بالمقدمات والنتائج، أما سبب اختياري للتعليل فلما وجدتُهُ من إكثار لتوظيفٍ هذه التقانة الإسلوبية بقصدٍ وإتقان عمد إليها الإمام علي (عليه السلام) وهو يكتبُ عهدًا فيه المعالم العامة إلى جنب التفاصيل الدقيقةِ من الأوامر والنواهي والإرشادات التي بموجبها يتمُّ الحكم العادل، وينجح الوالي في تحقيق هدفه السليم إذا ما راعي تطبيق هذه الإرشادات، فقد كانت التعليلات تترادفُ هنا وهناك إلى جنب تلك الإرشادات؛ لتضيء المسير الصحيح للوالي الذي كُلّف بولاية شؤون

ص: 521

الرعية ومتابعة شؤونهم، فضلاً عمّا يتعلّق به من أمور تخصّ الجانب الإداري والقضائي والسياسي، كذلك لتعرف الآخرين من ولاةٍ وحُكّام بما يجب عليهم أنْ يلتزموه فيما لو قيض لهم ولاية مِصرٍ من الأمصار. وبعد أنْ استوت المادة على سوقها كان لي أنْ أضعها على وفق الخطة الآتية:

التمهيد: مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحًا.

المبحث الأول: في حُجّية الإقناع بالتعليل وطرائقه.

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي

المبحث الثالث: استراتيجيّات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي

الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصل البحث إليها.

المصادر والمراجع.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 522

التمهيد

مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحًا.

في اللغة: التعليل (تفعيل) مصدر من الفعل (علّلَ) وهو فعلٌ ثلاثيٌ مزيدٌةٌ عينهُ بالتضعيف، ومعناه: السقي بعد سقي، وجَنْيُ الثمرة مرّةً بعد أخرى، والعلّة - بالكسر - المرض، والحدثُ يُشغِلُ صاحبهُ عن حاجته، كأنّ تلك العلة صارت شُغلاً ثانيًا منعه عن شُغله الأوّل().

ومن المعلوم صرفیًّا أن أحد معاني البناء (فعّل) هو الإزالة أو السلب، وهنا جاء الفعل (علّل) أي أزال العلة، كما هو الحال في الفعل (مرّض) أي أزال المرض. ولا تُزال العِلّة الموجبة للبسٍ وإبهامٍ يعتري فهم قضية ما لا بُدّ من الامتثال إليها إلا بإيضاح الحكمة من وراء امتثاله سواءٌ أكانت تلك القضية خبرًا أم إنشاءً.

أما في الاصطلاح: فالتعليل في عمومه بیان علّة الشيء، وتقریر ثبوت المؤثّر لإثبات الأثر، ويُطلق على ما يُستدلُّ فيه من العلّة على المعلول().

وقد ذكر الكفوي (ت: 1094 ه) تعریفًا آخر للتعليل: ((هُوَ أَن يُرِيد الْمُتَكَلّم ذكر

حكم وَاقع أَو متوقع فَيقدم قبل ذكره عِلّة وُقُوعه، لكَون رُتْبَة الْعلَّة مُتَقَدّمَة على الْمَعْلُول))(). وفيه يشترط أن تتقدّم العلة على الحكم الذي يُطلقه المتكلم، ولا أرى ثمة موجبًا لهذا الشرط، فقد تتقدّم العلّة أو تتأخّر، بحسب مقتضى الحال وسياق الكلام الذي يُحيط بالمتكلّم (الباث) والمُرسَل إليه الخطاب (المتلقّي).

ونكتفي بالتعريف الذي يتّصل بصُلب بحثنا إلى أنه طريقة في إثبات حكم أو نفيه أو وجوده أو عدمه، وذلك بإظهار العلة التي تُبرز مشروعيته()، فيحرص المُرسل على ربط الأفكار والوصل بين أجزاء الكلام بجعل بعضها أسبابًا الأخرى ابتغاءً لإقناع المُرسل

ص: 523

إليه بصواب الحكم الذي يحمله علیه؛ لأنّ هناك تعريفاتٍ كثيرةً للتعليل تنتمي لحقول معرفية متنوّعة مثل النحو والمنطق()،.. الخ.

وفي ميدان البلاغة، ففي مقدار ما تتبعته من مصادر بلاغية قد نفتقد تعريفًا للتعليل بالمعنى الحقيقي الذي يتّصل بموضوع بحثنا، إلا اللهم ما ذكره ابن أبي الإصبع العدواني (ت: 654 ه) في بابٍ سمّاه بالتعليل، من تعريف له ((وهو أن يريد المتكلم ذکر حکم واقع، أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول، كقوله سبحانه: «لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيها أخذتم عذاب عظيم» فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب... الخ))().

أما في سائر كتب البلاغة وبخاصة في مباحث علم البديع، نجد ثمة انزياحًا للتعليل، يقع تحت عنوان (حسن التعليل) و عُرّف بقولهم: ((أن ينكر الأديب صراحة، أو ضمناً، علة الشيء المعروفة، ويأتي بعلة أخرى أدبية طريفة، لها اعتبار لطيف، ومشتملة على دقة النظر، بحيث تناسب الغرض الذي يرمي إليه، يعني أن الأديب: يدّعى لوصف علّةً مناسبة غير حقيقية، ولكن فيها حسن وطرافة، فيزداد بها المعنى المراد الذي يرمي إليه جمالا وشرفاً))(). ونعتقد أنَّ هذا الضرب من التعليل لا يدخل في صميم ما قصدناه؛ ذلك لأنّه يقوم على إنكار علّة الشيء الأصلية، ونصب علّةٍ يبتدعها القائل من ابتکار خياله الخصب؛ لتكون مُلفِتةً للقارئ، وشاغلةً له عن أصلِ العِلّة؛ ولذلك قرنه الجرجاني (ت: 471 ه) بالتخييل؛ لأنّ بوساطته يقوم الشاعر بإثبات أمرٍ هو غير ثابتٍ أصلاً ويدّعي دعوةً لا طريق إلى تحصيلها ويقول قولاً يخدع فيه نفسه().

وأرى أنّها بسبب ما بيّناه، لا تتوافر في النص القرآني، ولا في النص النبوي أو العلوي؛ لبُعد تلك الغاية التي عُدّت من المُحسّنات المعنويّة عن الغاية المقصديّة التي قامت عليها سُداة النصوص المقدّسة ولحُمتها.

ص: 524

أما بخصوص العهد العلوي، فينبغي لنا أنْ نبيّن بصفةٍ عامةٍ أنّه ينضوي تحت جنس الرسالة، وتُعرّف بأنّها: ((النص المدّون الذي يبعثه المرسل إلى المرسل إليه))()، وتُعبِّر عن شؤون خاصة أو عامة(). وقد أخذت الرسالة مساحة شاسعة في المُدوّنة العربية الإسلامية لاسيما في الحقبة التي تلت نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي()، حيث تنوّعت موضوعاتها، فكان بعضها يحوي ((وصفا للخَلقِ والخُلُقِ ووصفا للأمكنة والأشخاص أو قصة للأخبار والأعمال))(). فضلاً عن اختلافها بين الطول والاختصار، فكان كثيرٌ من مؤلّفات القرون السالفة تحمل عنوان الرسالة، ممّا يُظهر تمدُّد المصطلح واتّساع مظلّته المعرفيّة في الذهنية العربية.

وعمومًا نجد الرسائل التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) كانت على قسمين:

الأول: رسائل سلطانية أو ديوانية: وهي رسائل عامة أو تكون ذا موضوعات رسميّة()

الآخر: رسائل إخوانية أو شخصية تعبر عن حالة كاتبها، وتنقل مشاعره إلى من يكتب إليهم()، أو تعبر عن موضوعاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ بحسب الظروف الخاصة.

وفي ضوء هذا التقسيم، نجد الرسالة التي وجّهها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رض)، تنضوي تحت القسم الأول، إلا أنّها وُصِفت بالعهد من بين جميع رسائله، الأمر الذي يدفعنا إلى التعرُّف على سبب تسميتها بالعهد.

يُطلق العَهْدُ على الوَصِيِّة، ومنه اشتُقَّ العَهْدُ الذي يكتب لِلْوُلاةِ، وعلى المَوْثِق وعلى الالْتِقاء والإلمامِ يقال: ما لي عَهْدٌ بكذا، وإنَّه لقريبُ العَهْد بهِ، كذلك يُطلق على المنزلِ الذي لا يكادُ القوم إذا انْتَأوْا عنه رجَعُوا إليه(). وقد توسّع أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي (ت: 224 ه) في دلالة مفهوم العهد إلى أَشْيَاء مُخْتَلفَة، فَمِنْهَا الحِفاظ ورِعاية الْحُرْمَة وَالْق وَمِنْهَا الْوَصِيَّة، كما ورد في قوله تَعَالَی: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم يَعْنِي

ص: 525

الْوَصِيَّة وَالْأَمر وَمن الْعَهْد أَيْضا الْمان كقوله تَعَالَی: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِيْنَ وَقَالَ: فَأتِّمُواْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَی مُدَّتِهِمْ وَمن الْعَهْد أَيْضا الْيَمين كقول الرجل: عليّ عهد اللَّه، وَمن معانيها أَن تعهد الرجلَ على حَال أَو فِي مَكَان كقول القائل: عهدي بِهِ فِي مَكَان كَذَا وَكَذَا وبحال كَذَا كَذَا().

ولعلّ دلالة الوصية في لفظة العهد كانت أكثرها حضورًا في رسالة الإمام (عليه السلام) لمالك، علمًا أن ما يُكتب للولاة يُسمى بصفةٍ عامة عهدًا اشتقاقًا من قولهم: عهدتُ إلى فلان، أي: أوصيته(). ومن هذا الباب كان الرسالة التي بعثها الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك مستحقّةً لوصف العهد؛ لما اشتملت عليه من توصيات كثيرة، وإرشادات حول مجمل السلوكيات التي ينبغي على الحاكم السير عليها، وما فيها من الغايات التي تصبُّ في سداد الحكم وصلاحه، فقد احتوى على ((أهم القواعد والأصول التي تتعلق بالقضاء والقضاة، وإدارة الحكم في الإسلام، وقرّر فيه قواعد مهمة في التضامن الاجتماعي، بل التعاون الإنساني لإقامة العدل، وحسن الإدارة والسياسة و بیان صلاح الهيئة الاجتماعية، وبيان الخراج وأهميته، وكيف يجب أنْ تكون المعاملة فيه والنظر في عمارة الأرض وما يتعلق بذلك من أصول العمران، وما فيه صلاح البلاد، و منابع ثروته وما للتجارة والصناعة من الأثر في حياة الأمة، إلى غير ذلك من القواعد الهامة التي تهدف إلى أسمى هدف في العدل الإسلامي))()، كذلك أنَّ هذه الوصايا المدوّنة في هذه الرسالة لم توجّه إلى شخصٍ عاديٍّ من الناس، بل كان من خيرة أصحاب الإمام علي (عليه السلام) وحواريّيه، وبهذا تحقّق الوصايا في هذا العهد - على الرغم من الإطالة فيها - هدفها الأساس؛ لأنّها توجّه إلى شخصٍ محدّدٍ بعينه، بإمكانه حين يواجه خطابًا ما، يستعين بتجاربه السابقة، معتمدًا على ما تراكم لديه من معارف سابقة تجمّعت لديه، وبذلك يكون قادرًا على الاحتفاظ بالخطوط العريضة للخطاب الموجّه إليه(). ولذا قيل إن العهد يقتضي الوفاء بالوعد()، بلحاظ هذه الخصوصية التي يتميّز بها المُخاطَب.

ص: 526

وحسبُنا ممّا قيل في المُخاطَب في هذا العهد المُبارك أنّه ((كان أنجد الناس وأجر أهم، ولم يكن في حروب الجمل وصفين أحد أمضى منه، وكان مع علي وقال له علي يوماً: یا مالك من أشجع أنا أو أنت؟ فقال: أما قتل الأقران فأنت، وأما شق الصفوف فأنا. ودس علیه معاوية من سمه في شربة عسل فمات فقال معاوية «إن لله جنوداً منها العسل» وقال علي لما بلغه موته: «ذلك رجل كأنما قد مني قداً، لو كان حجراً لكان صلداً، ولو كان حديداً لكان افرنداً»))().

المبحث الأول: في حُجّية الإقناع بالتعليل وطرائقه

في هذا المبحث سنتناول الآتي:

المطلب الأول: حُجّية الإقناع بالتعليل.

يأخذ التعليل موقعه في الخطاب باعتبار المتكلم وموقعه الذين يُحدّدان نسبة الحجة من عدمها في خطاب الآخر، وبصفة عامة تتحدّد قيمة الخطاب ككل، حين يكون سلوك الأفراد إزاء الخطاب مرهونٌ بحجة صاحبه، ومن ثمّ يُضفى للخطاب مشروعيته المرتبطة بالمنزلة المُعتَرفِ بها له، ومن هنا كان دأبُ محلِّلي الخطاب في النظر إلى الشروط التي تجعل الخطاب ذا حجةٍ، أي الإبانة عن السياق الذي يجعل الخطاب مشروعًا وفعّالاً الذي يتوقّف بدوره على منزلة المشاركين في التخاطب وطبيعة الإطار المكاني والزماني(). فالإقناع يتوسّل عبر الحجاج بوصفه الآلية الأبرز التي يستعملها المُرسل، ليحقق ما يصفه (بيرلمان وتیتکاه) بإذعان العقول بالتصديق لما يطرحه المرسل أو العمل على زيادة الإذعان الذي يمثّل الغاية من كل حجاج().

لا تختلف فهوم الباحثين - على اختلاف انتماءاتهم المعرفية - عن اكتناه معنى التعليل،

ص: 527

بكونه تفسيرًا يُقدّمه المتكلّم لتسويغ الأمر عند متلّقيه الذي يُراد منه الامتثال الفعلي لتطبيقه والإذعان النفسي لقبوله، يقول التهانوي (ت: 1158 ه): ((التعليل وفائدته التقرير، فإنّ النفوس أبعث على قبول الأحكام المعلّلة من غيرها))().

مما تقدّم بيانه تظهر جليًّا أهمية التعليل بوصفه أحد المقومات التي تعضّد الإقناع الذي يبتغيه المتكلم في خطابه للمتكلم، سواء أكان منطوقًا كما هو الحال في الخطابة المباشرة للجمهور، أو كان مكتوبًا، كما هو الحال في الرسائل()، فلا يتسنى لهذه الغاية - أي الإقناع - إلا من أدرك أنَّ ((الخطابة علم له أصول وقوانين، من سار في طريقها عد خطيبا، وهو یعنی بدراسة طرق التأثير، ووسائل الإقناع، وصفات الخطيب، وما ينبغي أن يتجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة، وأساليبها، وترتيبها))(). وقد عدّ أرسطو البراهين أبرز بل أهم وسائل الإقناع().

ولعلَّ القول بوحدة الخطبة والرسالة ينطلق من توصيفي شكليٍّ لهما في أنّهما ((متشاکلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية، وقد يتشاکلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل؛ فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتّاب في السهولة والعذوبة؛ وكذلك فواصل الخطب، مثل فواصل الرسائل؛ ولا فرق بينهما إلا أنّ الخطبة يشافه بها، والرسالة يكتب بها؛ والرسالة تجعل خطبة، والخطبة تجعل رسالة، في أيسر كلفة))(). إلا أنّه لا يذوّب الفروق الأخرى التي تُميّز جنس الرسالة عن جنس الخطابة، فالأول - بصفةٍ عامة - يخصُّ مُخاطبًا بحدّ ذاته، ممّا يوفّر على المُرسِل مراعاة خصوصيّة المُرسل إليه الثقافية والاجتماعية، كذلك تركّز على شتى الوسائل الإقناعية التي تعمل على تثبیت القضية وترسيخ الفكرة التي يُؤمن بها المُرسل في ذهن المُرسَل إليه بصورة قوية؛ وذلك للتعويض النفسي الذي يُراد للرسالة القيام به، فيما لو كان المُرسِل والمُرسَل إليه متقابلين وجهًا لوجه، فتعمل عوامل أخرى مختصٌّ بعضها بالكلام مثل جهارة الصوت وسعة

ص: 528

الفم، وبعضها غير مختصٍّ بالكلام مثل (شخصية المرسل، وعلامات وجهه، ورباطة الجأش وسكون الجوارح وقلة اللحظ، وحركات يديه، وما يحمله في يديه من عصًا أو نحوها، والمكان الذي يختاره لإلقاء خطبته.. الخ) عملها في التأثير الإيجابي على الرسل إليه (الجمهور) من قبولٍ وامتثال لما يطرحه من آراء وأفكار، حتى وإنْ كانت بعيدة عن لغة البرهان العلمي الدقيق، ((فإنّ كلّ فرد من أفراد العامة إذا كان قليل الثقافة والمعرفة هو أبعد ما يكون عن الاقتناع بالطرق البرهانية أو الجدلية))()، أما الرسالة فكان عليها أنْ تُضاعف من حُججها وبراهينها؛ لأنّها ((خطابٌ قصديٌ موجّهٌ يروم إيقاع التأثير في المتقبل ودفعه إلى ترجيح رأي على آخر، وهو أمر يقتضي من المُرسِل وصف الحُجّة ورفد البيان بالحجج قصد إقناع المُرسِل إليه))(). وعلى ضوء هذا الفرق الجوهري بين الخطبة والرسالة، فالرسالةُ بحسب ما بيّناه تُحقّق قدرًا كبيرًا من الإقناع، فيما لو رُوعي فيها الممكنات الضرورية التي تعمل على تغيير رأي الآخرين بعيدًا عن الطرائق الأخرى مثل الإكراه أو الاسترحام الذين يكفلان تحقيق مآرب المتكلّم حين ينأى بخطابه عن العقل والفكر لإقناع الفرد بتبنيّ آراء ورفض آراءٍ أخرى().

وقد عُدّ التعليل أحد وسائل الحجاج في القرآن الكريم، انطلاقًا من كون الحجّة هي ما يُراد بها إقناع المخاطب، والتأثير في موقفه وسلوكه()، لأنّ المتكلم بوساطته يقدّم فكره ويُبيّن سببها، ((والنفوس أبعثُ على قبول الأحكام المُعللّة من غيرها))(). ومن الطبيعي أنْ يستشري التعليل في آيات القرآن الكريم، ويتمدّد في أوردة كثيرٍ من موضوعاته، عبر حروفه (اللَّامُ وَإِنَّ وَأَنْ وَإِذْ وَالْبَاءُ وَكَيْ وَمِنْ وَلَعَلَّ وَقَدْ) لتعضيد الغاية التي أُنزِل القرآن من أجلها، ألا وهي «تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ».

وبعد تتبُّع كلام السيوطي الذي نقلناه آنفًا، ظهر لنا أنّه مأخوذٌ من قول سابقه الزركشي (ت: 794 ه) في ضمن حديثه عن التعليل، وتمام کلامه مُعرّفًا التعلیل

ص: 529

بقوله: ((بأن يذكر الشيء معللا فإنه أبلغ من ذكره بلا علة لوجهين: أحدهما: أن العلة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلة المنصوصة. الثاني: أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعللة بخلاف غيرها))().

المطلب الثاني: طرائق التعليل:

لما كان القرآن الكريم المثال الأجلى والشاهد الأعظم على إعجاز اللغة العربية، وإظهارها بأكمل صورة، ولبيان تأثُّر الإمام علي (عليه السلام) بوصفه التلميذ النجيب المدرسة القرآن مبنىً ومعنىً، كان لنا أنْ نقف عند الطرائق التي وظّفها الباري سبحانه وتعالى لإظهار التعليل من خلالها؛ لإظهار أثرها في خطاب الإمام علي (عليه السلام) الذي وُصِف بأنه (دون كلام الخالق وفوق کلام المخلوقين). وقد تنبّه علماء القرآن إلى تلك الطرائق، ومنهم الزركشي، فقد فصّل القول في الطرائق الدالة على التعليل منها():

الأول: التصريح بلفظ الحكمة (العِلّة) كقوله تعالى: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ». وقال: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»()، والحكمة هي العلم النافع. والعمل الصالح.

الثاني: أنه فعل كذا لكذا أو أمر بكذا لكذا كقوله تعالى: «ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»().

الثالث: الإتيان بكي، كقوله تعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»()، فعلل سبحانه الفيء بين هذه الأصناف کیلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.

الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً»().

الخامس: اللام في المفعول له، وتقوم مقامه الباء، نحو: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا».

السادس: الإتيان بإن، كقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»().

ص: 530

السابع: أن والفعل المستقبل بعدها تعليلا لما قبله، كقوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا»().

الثامن: [من أجل] في قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ»، فإنه لتعليل الكتب، وعلى هذا فيجب الوقف على: من النادمين وظن قوم أنه تعليل لقوله: «مِنَ النَّادِمِينَ»، أي من أجل قتله لأخيه وهو غلط لأنه يشوش صحة النظم ويخل بالفائدة.

التاسع: التعليل بلعل، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، قیل: هو تعليل لقوله: [اعبدوا] ، وقيل لقوله: [خلقكم].

العاشر: ذكر الحكم الكوني أو الشرعي عقب الوصف المناسب له، فتارة يذكر بأن وتارة بالفاء وتارة يجرد. فالأول: كقوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ». والثاني: كقوله: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»(). والثالث: كقوله: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ»().

الحادي عشر: تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى: «وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ»().

الثاني عشر: إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه و أمره، كقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً»().

ولا تنحصر طرائق التعليل في القرآن الكريم با ذكرناه آنفًا، فهناك كثيرٌ منها لا يحصرُها أداةٌ، أو تركيبٌ مطَّرد، إنما السياق هو الحاكم على وجود التعليل من عدمه في القرآن الكريم. كذلك يُلاحظ أنَّ الاستعمال القرآني يفرض على أداةٍ تعليلية من دون أخرى، تخصیصًا في بيان علّة الغرض الحقيقي، مثلما نجد ذلك بين الأداتين (كي)

ص: 531

واللام، فالأولى تستعمل لبيان الغرض الحقيقي، أما اللام فتستعمل له ولغيره، إذن فهي أوسع استعمالا من الأولى، وهذا ما نراه في الاستعمال القرآني().

وعلى الرغم من شيوع التعليل في مجمل آيات الذكر الحكيم، إلا أنّه ليس شرطًا یُناط بكل حُكم، أو يُعقّب به مضمون تلك القصة، فهنالك أحكام جزئية أوردها الله سبحانه وتعالى، لم يعقّب بعدها بذكر العلّة التي سيق الحكمُ من أجلها، وما ذكره القُشيري (ت: 465 ه) في سبب نزول قوله تعالى: «مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ»() يوافق ما ذكرناه في هذا المورد - وإنْ كان توجهه الصوفي مُحرّکًا رئيسًا في فهمه للنص القرآني - إذ يقول: ((نزلت حين أمر الله رسوله بقطع بعضها فقالت اليهود: أي فائدة في هذا؟ أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟ فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفي هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعيّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه: لم؟ لم يفلح، وكلّ مرید یکون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجيء منه شيء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الإعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجري، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله - بسرّه وقلبه - فليس من الله في شيء»().

ص: 532

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي

عُدَّ العهد العلوي لمالك الأشتر من أطول الرسائل التي كتبها الإمام سواء أكان إلى أصحابه أم كان من مُناوئيه، وقد تخلّل العهد أساليبٌ كثيرة تمظهرت بين الإنشائية والخبريّة، فضلاً عن الأساليب البيانية والبديعية، والحجاجية التي فرضتْ وجودها الطبيعي بمقتضى طبيعة المقام وما يفرزه من أسلوب يُؤدّي أثره البليغ في إيصال الفكرة بأبلغ الطرق، واستساغة الإرشاد الذي يوجهه المُخاطِب (المُرسِل) للمُخاطَب (المُرسَل إليه) آخذًا طريقه إلى القلب والعقل، مُعبّرًا عن صدقِ نوايا المُخبِر بتلك الإرشادات، وتفاعله الواقعي مع تلك الوصایا، وكيف لا يكون ذلك حاله وهو القائل: ((من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعلیم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأدیبه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم))().

وفي هذا المبحث سأتناول التعديلات التي أردفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ذكره الوصايا والإرشادات التي وجّهها إلى عامله مالك الأشتر (رضوان الله عليه) بحسب موضوعاتها؛ ذلك لأنّ تلك التعليلات لم تكن جميعها على منحىً واحد، بل كان بعضها يأخذُ اتّجاهًا دينيًّا، وبعضها الآخر اتّجاهًا دنيويًّا يعبّر عن وعي الإمام (عليه السلام) وحرصه لمتطلّبات المجتمع وما يبتغيه من الحاكم، وفي الوقت نفسه يشخّص المسؤولية التي تترتّب على الحاكم وهو يُدير دفّة قيادة أمةٍ من الناس باسم الإسلام، وينحو بهم إلى الجادّة الوسطى، فكان عليه أنْ يُظهر تلك المساحة الواسعة النطاق للحكم الشرعي وميزات تطبيقه فيما لو رُوعِي الالتزام به من قِبل الحاكم وحاشيته أو الرعية بحسب تنوّع طبقاتها المهنيّة، فكانت التعليلات الاقتصادية والإداريّة والقانونيّة والأخلاقية والاجتماعية، إلى آخره من تعليلات اجتهدنا في تصنيفها بحسب هذه الموضوعات، وسنستعرضها فيما يأتي:

ص: 533

1 - تعليلات اجتماعية:

وأعني بها تلك التعليلات التي تراعي الجانب الاجتماعي. ومن تلك التعليلات قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده العلوي مُخاطبًا الأشتر: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق))(). وفي وصف الإمام للرعية أنّهم إما إخوةٌ للحاكم في الدين الذي يُراعي تطبيقه، وإما أن يكونوا مناظرين له في الخلق في حال كونهم لا يدينون بدين الحاكم، إلا أنهم بشرٌ لا يختلفون عن رتبة جنس الحاكم من هذه الجهة، فيجب عليه مراعاة حقوقهم وعدم الإجحاف بهم، وهذا التعليل الذي ذكره الإمام إنّما ينسجم وتعاليم الإسلام السمحاء في التعامل مع الآخرين الذين لا يدينون بدين الإسلام؛ لأنهم یُشاركوننا في الأصل الإنساني الذي يقتضي المساواة في الأمور الإنسانية، فمبدأ المساواة فرضه الإسلام على الناس جميعًا، حين يعلن القرآن الكريم هذه المساواة المطلقة بلا قيود ولا استثناءات()، فيقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»().

وفي مقطع آخر من العهد يقول الإمام (عليه السلام): ((ثم ألصق بذوي الاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة. ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالا على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به. وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك))().

ص: 534

وفي هذا التعليل، اهتمام بالجانب الاجتماعي، حين يأمر الإمام صاحبه بالتقرّب إلى أصحاب الحسب والأعمال الشريفة والمعروفين بمواقفهم النبيلة مع أبناء مجتمعهم، فمثل هذه المخالطة تؤثر في الحاكم وتجعله أكثر حرصًا وإظهارًا لهذه الخلال الكريمة بمقتضى کونه حاكمًا ينبغي أنْ يكون أسوة لجميع فئات المجتمع.

ثمّ يبيّن الإمام علي (عليه السلام) سبب نهيه لمالك عن عدم تفقد أمور رعیته مهما كانت صغيرة، أنّ ذلك الفعل يدعو رعيته إلى التعاطف معه، ويجعلهم قريبين منه، فيبذلون له النصيحة، ويُسارّونه بما غفل عنه من سلوكٍ قد تُشين بسمعته وتودي به إلى موارد الظلم.

وفي مقطعٍ آخر من العهد ينهى الإمام مالك عن القيام بأمرٍ يُثير رعيته، إذ يكون في هذا الأمر، مدعاةً لتذمرهم من الحاكم ومن ثم يكون ذلك التذمر سببًا لتآلبهم عليه الحاكم، فيقول: ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فیکون الاجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها))(). وفي مجاراة الرعية على ما اعتادوه من أعمال صالحة تحقيقٌ للألفة التي ينبغي أنْ تكون في داخل النسيج المجتمعي، أما لو نُقِضت تلك السنن الصالحة بسنّةٍ مُحدثة تحت أي عنوان أو مُسمّی، فستعمل على إشغال الرعية عما يُراد لها من السير بمقتضى السلوك القويم الذي دعت له سُنن السابقين، فلا يلحق الحاكم منها غير الوزر والعقوبة الأخروية.

2 - تعليلات اقتصادية:

وهي التي تُظهِر الجانب الاقتصادي في العلّة المعقّبة للأمر أو النهي، بمعنى أنّها تنظر إلى العلة بمنظور علم الاقتصاد وما يفترضه من جوانب ينبغي مراعاتها في تطبيق بعض الأحكام وتنفيذها من قبل الناس. ومن الشواهد على التعليلات الاقتصادية التي أشار

ص: 535

إليها الإمام علي ع قوله في العهد العلوي: ((وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغیر عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة - أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم))().

يرى الباحث أنّ هذا التعليل العلوي قد احتوى عدّة تعليلات ضمنية، فهو - إنّ صح الوصف عليه - تعليلٌ متراكب، لأن كل تلك الأوامر التي ذُكِرت فيها، إنما سیقت لغرضٍ واحد، ألا وهي الإصلاح في الأرض، لكن هذه العلّة لا تتحقق إلا بعد إجراءاتٍ عدّة ذكرها الإمام ع لصاحبه، وكل تلك الإجراءات تؤدّي إلى هذه النتيجة التي ابتغاها الإمام وراء خطابه العليّ.

وفي مقام صرف أجور ومستحقّات الرعية من بيت مال المسلمين، يُوصي الإمام (عليه السلام) بدفع تلك المستحقّات التي لا معاش لهم من دونها، فيقول: ((ولا يثقلن عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إحراز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر))().

يبين الإمام إنّ دفع الأموال بشكلٍ منتظم إلى رعيته الذين يعملون على إدامة موارد

ص: 536

الدولة الاقتصادية، سوف يظهر أثره الإيجابي فيما بعد حين تضيق بالدولة مُلمّة، فتجد التكاتف والظن الحسن لشدّ أزر الدولة متحقّقًا، أمّا لو كان الإجحاف في حقوق الرعية والفقر هو الحالة العامة لهم مع استئثار للأموال للحاكم وخاصّته، فيكون ذلك أدعى للنقمة عليه، بل يكون مدعاةً للانتفاض والانقضاض على تلك الحكومة والتمرّد على نظامها الذي طالما أكل حقوق الرعية، وانشغل بملذاته عن معاناتهم، وفي ختام هذه الوصية، يقف الإمام مبيّنًا استئثار الحكّام بموارد الدولة وبشاعة استغلالهم لها أنّه ناتجٌ من قلة إيمانهم بالله مما ينعكس على سوء ظنهم بالواهب الرزاق، كذلك أنهم لم يستفيدوا من تجارب من تصدّی للحكم وساس الناس بالباطل فكان آخر مآله إلى التراب مستقبلاً شرّ حساب.

وفي مقطعٍ آخر من عهده الميمون، يُوصي الإمام ع الأشتر بالاهتمام بطبقة التجّار، فيقول: ((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك، وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها. فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته))().

من المعلوم أنّ تحقق الرفاه الاقتصادي وإدامة عجلة الاقتصاد لا تتحقّق إلا بوجود طبقة من الناس لها باعها الطويل بأمور التجارة، وهذه الطبقة إنما تعمل على توفير ما تحتاجه الرعية من مأكل وملبس، من الضروريات وغيرها، فلا بدّ إذن لأجل توفير حاجات الرعية من الاهتمام بهذه الطبقة وتوفير ما تستلزمه الرعاية بهم، من تسهيلات إدارية معتمدة من قِبل الدولة، وحماية توفّر لها من قبل الجهاز الأمني آنذاك (الشرطة) لحفظ بضائعها من التعرّض للسرقة أو التلف وترخيص لبضائعها، كلّ تلك الإجراءات تقوم الدولة بتوفيرها، كذلك يُبيّن الإمام لصاحبه أنّ هذه الفئة جديرة بهذه الرعاية الكريمة منه؛ ذلك لأنها ليست بفئةٍ من الناس همّها الانتفاض على السلطة أو الوثوب

ص: 537

عليها حين يضعف نظامها، ملتفتًا إلى الطبيعة العامة التي تؤلف رجال التجارة، فهم منشغلون إلى أداء عملهم التجاري ومتابعة شؤونه، الأمر الذي يجعلهم أكثر الناس تودّ الأمن والأمان في جهاز الدولة؛ لتمشية أمورها، وتيسير طرق قوافلها دخولاً وخروجًا من مكانٍ لآخر، وبهذا يكونوا مسالمين غير طامحين إلا إلى تحقيق أيسر السبل وأمنها السيرورة تجارتهم في البلاد.

3 - تعليلات سياسية:

وهي التعليلات التي تراعي الجانب السياسي الذي لا يتعدّى مفهومه عن استصلاح الْخلق بإرشادهم إِلَى الطَّرِيق المنجي فِي العاجل والآجل()، ذلك لأنّها تمثّل القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال(). وبهذا يفتتح الإمام علي (عليه السلام) عهده إلى مالك بقوله: ((هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها))()، فالأمر الذي وجّهه الإمام لم يكن إلا لغايات تصبُّ في الصالح العام للرعية، وتمثّل الطريق الأنجع لتحقيق صلاحها، وذلك يتمّ عبر جباية الخراج التي هي من أهم موارد الدولة، وتنظيم هذا الجانب لا يكون إلا عبر الجهاز الحاكم الذي يرشّد ويقنّن تلك الموارد لطبقات الرعية، كذلك من العلل السياسية التي ذكرها الإمام هو جهاد الإعداد، ومن الطبيعي أنْ ينصرف قصد الإمام إلى الجهاد الدفاعي لا الهجومي، وحين تكون للدولة القوة على حفاظ كيانها من الاعتداء الخارجي، تتحقّق بذلك هيبة الدولة المستمدّة من هيبة الرعية وشعورهم بالانتماء إلى وطنهم، ولا يتمّ الأخير إلا عبر الشعور الحقيقي لدى كل مواطن بأنّ حقّه يصله کاملاً وأن له حقوقٌ تُؤدّى إليه، فيشعر قبال ذلك أنّ عليه واجبات إزاء تلك الدولة، من أهمّها الانخراط في جيوشها التي بوساطتها تحفظ البلاد کرامتها وتتحقّق سيادتها.

ص: 538

أمّا استصلاح الأهل وعمارة البلاد، فكلاهما علّتان توجبان هذه الأوامر والإرشادات العلوية؛ لأنّهما ركيزتان أساسيتان من ركائز إقامة الحكم ورعاية شؤون الناس، فلا بُدّ من متابعة شؤون الرعية عبر الأجهزة الناظمة التي تضبط إيقاع المجتمع وتجعله يسير وفق الأسس والضوابط المرعية، أما لو تُرك الحبل على الغارب، فمن الطبيعي أنْ تُهدر الحقوق، وتضيع الواجبات، وتتهاوى إثر ذلك أسس الدولة السليمة نتيجة ذلك الانهيار المجتمعي، فالبلاد لا تعمر مرافقها ولن تعمّر طويلاً إلا إذا كانت أجهزتها الرقابية والتنفيذية قائمة على تحقيق العدل وإنصاف الرعية فيما بينهم وتحديد واجبات كلّ طبقة إزاء أخرى، وبتلك العلل السياسية التي أوردها الإمام في عهده المبارك، توضّحت الغايات التي ترسم طريقًا لاحبًا لسياسة الدولة السليمة إزاء مواطنيها.

وبعد ذلك الموضع من بداية العهد يقول الإمام (عليه السلام) لمالك بصيغة الغائب إمعانًا في النُصح والتوجيه والتنزّل في مخاطبة الآخر من دون إشعارٍ للمخاطَب بأن هذه الأوامر هي واجبات مفروضة على الحاكم، فيقول: ((أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه))() وفي هذا المقطع يُبيّن الإمام أنّ علّة تحقيق الأمر بتقوى الله وإيثار طاعته سبحانه واتّباع الدستور الإلهي المتمثل بالقرآن الكريم، تتمثّل بالسعادة، وفي المقابل ترتفع الشقاوة التي يستلزم حصولها بضياع هذه العلّة، كذلك بيّن العامله أنّ علّة انتصاره لله في تحقيق مُراد الشريعة الغراء وتطبيق دستورها على الرعية، يضمن له النصر الإلهي والعزّة في الدنيا والآخرة، وحينها تتحقق هيبة الدولة المستمدة من اعتمادها على أسس إسلامية صحيحة.

ومن التعليلات السياسية التي تنبّه الحاكم على كيفية التصرّف مع أعدائه، قوله:

ص: 539

((ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإنّ في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمنا لبلادك. ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل. فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن))(). يبيّن الإمام مالك ما في الصلح وهو ((في اللغة اسم من المصالحة وهي المسالمة بعد المنازعة والموافقة بعد المخالفة))(). من فوائد تعود عليه وعلى أتباعه، ففيه ارتياح لجنده من القتل والقتال، وكما هو معلوم أنّ القتال أمرٌ تكرهه النفس، وفيه أمانٌ لرعيته من بطش الأعداء وتنكيلهم فيما لو تمكّنوا من كسر شوكة الدولة المتمثّلة بالجيش، كل تلك الأسباب التي ذكرها الإمام (عليه السلام) كانت عللاً تؤدّي غايتها في إقناع المُخاطب باختيار الصُلح مع الدول التي يفترضُ الإمام سلفًا أنّها ستكون في موقف المعادي والطامع في حكومة مالك على مصر، وهذا الافتراض ليس إلا استشعارًا دقيقًا للتنافس الموجود في كل زمان بين الدول على السيطرة والاستيلاء على ما يجاورها من دول، إلا أنّه في الوقت نفسه يُحذّره من الغفلة عن أعدائه في حال الصلح، فرُبّما كان الصلح تمهيدًا لتنفيذِ مخطّطٍ يبیّته المناؤون الذين يتّخذون الصلح سبيلاً لإيقاع غدرهم بالطرف الآخر.

وفي مقطعٍ آخر من رسالته الشريفة، يوجّه الإمام ع صاحبه إلى من يختارهم بمنصب وزراء في حكومته بقوله: ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة))(). وهنا تكون العلّة السياسية واضحة في عدم اختیار من تسنّم منصب الوزير فيما سبق من حكوماتٍ سالفة؛ لما صدر منهم من سوء إدارة وابتعادهم عن السلوك القويم الذي يكشف مدى تمثّلهم بالمبادئ الإسلامية السامية، فلا بُدّ والحال هذه أنْ يُبعدوا عن منصب الوزارة في حكومةٍ تُعلن التزامها بالحق شعارًا لها، فهم يمثّلون بطانة الظلم وأعوانًا للآثمين من الحكّام، ولا يصلح حالهم بعد أنْ عركتهم التجارب وأظهرت حقائقهم.

ص: 540

ويُلفت الإمام ع صاحبه الأشتر إلى ضرورة التحلّي بالعدل وإيثار مصلحة الرعية على مصلحته الشخصية، بقوله: ((ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور. وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))()، فالعلّة من التزام الحاكم بالعمل الصالح ظاهرةٌ من كونهِ أمرًا محبوبًا للنفس، ومحقّقًا لرضا الله تعالى، وهو في الوقت نفسه يترك انطباعًا في نفوس الرعية لا أجمل منه من حيث كونه سببًا للذكر الحسن على ألسنتهم، وبعكسه سيكون التذمّر والذكر السيء نصيبه منهم، فالصالح من الحُكّام لا يُعرف بين رعيّته إلا بمقدار ما يتركه فيهم من صلاح وإيثار الحقوقهم وجعلها أولى مهام تصدّيه للحكم، وبهذا التعليل الذي ذكره الإمام ع كان الإقناع مُجديا بأعلى درجاته وأبلغها أثرًا في نفس متلقّيه، لما أحاطه طلبه من مسوّغات متنوّعة التوجّهات نفسية كانت أو اجتماعية.

وفي جانب التعامل مع الطرف المناوئ للدولة، يُرشد الإمام واليه الأشتر إلى ضرورة الالتزام بالجانب الأخلاقي في سياسته مع ذلك الطرف، إذ لا يمكن نقض العهد والتخلّي عنه بحُجّة أنّ ذلك الطرف مُخالفٌ للحق، فيقول: ((وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود))()، فالوفاء بالعهد في هُدنةٍ أو صلح مع ذلك الطرف، يُؤمّن كثيرًا من المصالح المشتركة بين البلدين، مما ينعكس على أمن البلاد، بل يُقرّب من وجهات النظر بين البلدين، ومن ثمّ يدعو إلى السلم والوئام بين شعبيهما. مُرشدًا في ذلك التوجيه إلى أنّه فريضةٌ حثّ الخطاب القرآني على تحقيقه، وبذلك تكون التوجيهات السياسية منسجمة والرؤى الإسلامية التي تضمن تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

ص: 541

4 - تعليلات أخلاقية:

كان للتعليلات الأخلاقية حضورٌ بين سائر التعليلات في العهد العلوي لمالك الأشتر، إذ كان بعض الإرشادات ينطوي على علل أخلاقية، تبيّن مشروعية السلوك الذي ينبغي اتّخاذه من قبل الحاكم، فهي - بحسب هذا الوصف - كالضوء الكاشف لما وراء الفعل المطلوب؛ ذلك لأنّ كثيرًا من الأحكام قد يتّخذها الحاكم إلا أنّها تعكس رغبة عارمة في التسلّط وإلغاء حقوق الأكثرية من رعیته لأجل تكريس مصلحته الشخصية، أما حين تكون سلوكياته صادرة عن وازع أخلاقي متين، فمن الطبيعي أنْ تُرشد الآخرين وتعلّمهم النهج الصحيح الذي ينبغي أنْ يطبقه الجميع من دون استثناء.

ومن قبيل التعليلات الأخلاقية التي وردت في ذلك العهد المبارك قوله (عليه السلام): ((وليكن أبعد رعيتك منك وأشنوهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها. فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك))().

یُقرّر الإمام أنّ المِصلحة العامة هي الأولى بالرتبة بالنسبة إلى تعامله مع الرعية، فلا بُدّ إذن من مُراعاة حقوق الأكثرية من الناس، وذلك بأنْ يعدل في التعامل معهم، لا أنْ يكون المقدّم من ينصّب نفسه عينًا على الناس، يبتغي من وراء ذلك التزلف للحاکم، ومن كان حاله ذلك فلا ينبغي الإنصاتُ له، بل يُجب أنْ يكون أبعد الناس عن الحاكم؛ لأنّ الحاكم إنما يُراد منه توفير الخدمات لرعيته وإنصافهم وتوزيع موارد الدولة عليهم بالسوية، لا أنْ يكون رقيبًا عليهم، فيذلّ طائفةً منهم ويعزّ آخرين، لأجل تحقيق مآرب سیاسية لا تحقّق إلا منافع شخصية زائلة بزواله عن الحكم.

كذلك يأمر الإمام صاحبه الأشتر بأنْ يبتعد عن آفاتٍ أخلاقية تعبّر عن علل فاسدة لا ينبغي لمسلمٍ أنْ يقع فيها، فيقول: ((فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب

ص: 542

ستره فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتی يجمعها سوء الظن بالله))()، فالعورةُ الأخلاقية التي تصدر من أحد من الناس لا يمكن أنْ تكون مثار اتّهام و تشنیع لصاحبها من قِبَل الآخرين، إنما يجب معالجتها بالخُلُق الحسن المتمثّل بعدم التشهير بل بالنصح والتوجيه، فالله كفيلٌ أنْ يغطّي عورة المؤمن الأخلاقية إن سعى في إصلاح عورة أخيه المؤمن، كذلك حين يبيّن له أنْ من يتصف بهذه الصفات غير الحميدة من بخلٍ وجُبنٍ وحرص، إنّما تكشف عن سوء ظنّ صاحبها بالله؛ لأنّ الله سبحانه هو الذي يرزق عبده من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، كذلك هو الذي يتكفل بحفظه ورعايته، فيستحيل على الله أنْ ينسى عبده أو يتركه والقدر.

ويُوصي الإمام (عليه السلام) صاحبه بضرورة الاختلاط بأهل الورع في دينهم ودنياهم، ممّن صدقوا في تعاملهم مع الله ومع الناس؛ لما يعكسه الاختلاط فيهم من تأثّرٍ بأخلاقهم وسلوكهم، وفي الوقت نفسه يُحذّره من عاقبة أنْ يجعلهم تبعًا له، ومنقادین لسطوة دولته، الأمر الذي يدفعهم إلى المُداجاة وعدم النصح والإرشاد، بل يوافقونه ویمالئونه على الباطل، مما سيولّد في نفس الحاكم الزهو والتغطرس، ویری حینئذٍ سيئاته حسناتٍ، فيقول: ((والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة))(). وفي هذا التعليل الذي ذكره الإمام تمتينٌ للجانب الأخلاقي الذي يجب توفره في الحاكم العادل حين لا يغترّ بما تحت يديه من قوّةٍ، فيجعلها أدوات يسخّرها من أجل الاستفراد بالحكم، فيقرّب من يشاء ويُستضعف من يشاء لدواعٍ تكرّس الظلم والجور، ولعلّ تنبيهه الرشید بعدم ترويض أهل الورع من رجال الدين عن مدح الحاكم تفعيلٌ للدور الرقابي الذي ينتقد أداء الحكومة من علماء المصر وكبراء الفقهاء الذين يُؤتمنُ الدين بحوزتهم ويُصان الرعية بفضل علمهم، فلا تضيع حقوقٌ بعد رشادهم، ولا تُهدرُ كرامة البلد بحضورهم في ميدان الإصلاح والتوجيه.

ص: 543

وينبّه الإمام علي (عليه السلام) إلى ضرورة اختلاف المعاملة بين الرعایا بحسب السلوك الصادر منهم، فيقول: ((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الاساءة على الاساءة. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا))()، فإنْ الإحسان الصادر من الشخص لا بُد من مجازاته بالإحسان والتكريم والإشادة بفعله، وفي المقابل حين تصدر الإساءة من آخر لا بُدّ من محاسبته والأخذ بيده ونهيه عن فعله هذا، الأمر الذي سيدفعه إلى الكفّ عن إساءة الآخرين، أما لو كانت القيم متساوية سواء أكان الشخص مُحسنًا أم مسيئًا، فهنا تضيع الحقوق، بل أكثر من ذلك، حينها يتشجّع المُبطل على باطله، ويضعف المُحسن عن أداء سلوكه الحسن مع الآخرين؛ لضياع المكاييل الأخلاقية التي بموجبها يثمر السلوك الأخلاقي الجيّد بين الرعية ومن ثم يكون هدفًا أسمي يسعى المجتمع إلى تحقيقه.

ويُؤكد الإمام علي (عليه السلام) في مقطعٍ آخر من عهده المبارك، أنّ الذكر الطيب لمن يُبلي حسنًا سوف يدفعه إلى تقديم الأفضل، ويحرّض الآخرين على القيام بالفعل نفسه؛ لما علموه من حسنِ وقعه على الآخرين وتقديرهم له بالمدح والثناء، فيقول: ((فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلی ذوو البلاء منهم. فإن كثرة الذكر الحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله))().

ومن إرشاداته الأخلاقية لمالك أنْ يولي المناصب الإدارية لمن عركته التجارب فبان صدق مخبره عن مظهره، وذلك بقوله: ((وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا))(). كلُّ هذه الصفات التي أردفها الإمام (عليه السلام) كانت بمثابة العلل الكفيلة بتسويغ إيلاء أصحابها مناصب إدارية

ص: 544

في الدولة؛ وذلك لما تمتّعوا به من صفات تجعلهم بمنأى عن الطمع الذي يُتاح لمن يكون بيده منصبًا ما، ومن كان جديرًا بهذه الصفات لا يُخشى عليه من أداء أمانةِ المنصب وما يتعرّض إليه من إغراء، إذ المنصب يمثّل أمانة ومسؤولية كبيرة لا يُوفّق لأدائها إلا من أخلص نفسه لله، فضلاً عن تجربته وحنكته في إدارة الأمور.

المبحث الثالث: استراتيجيات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي:

لمن يتأمّل عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، يجد فيه عدة خصائص، تجعله متميّزًا عن سواه من العهود والمواثيق التي كانت له مع ولاۃ آخرين، وبخاصّة حين نسلّط الضوء على أسلوب التعليل، فهو مدار بحثنا، نجد ثمّة تضافر الخصائص التعليل العلوي، ولعلّ الإحاطة بكلّ الخصائص الإسلوبية للتعليل، أمرٌ لا يمكن إحرازه بصورة نهائية، إلا أننا سوف نقوم بتظهير تلك الخصائص على مستويين:

أولاً: توفّرها على مبدأ الحجاج:

عُدّت ألفاظ التعليل من بين الأدوات اللغوية الصرفة بوصفها أحد تقنيات الحجاج()، ولما كان الحجاج يهتم بدراسة ((تقنيات الخطاب التي من شأنها أنْ تُؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أنْ تزيد في درجة ذلك التسليم))()، فلا بد إذن من بيان إجمالي للخصائص التي يُضفيها التعليل في العهد العلوي؛ لما يحتجنه من وفرةٍ إقناعيةٍ تخصّبُ فاعلية النص التأثيرية وتدفع بالمُرسَل إليه أن يُقبل على ما يتضمنه من إخبارٍ وإنشاء إقبال المُسلّم من دون أدنى شكٍّ بنوایا صاحب النص. وهذا ما يأمله الأخير (الباث) من توظيفه لتقانة التعليل في خطابه.

وسنتناول بعض تلك الخصائص التي تميّز بها التعليل في العهد العلوي، ومنها:

ص: 545

1 - التزامهُ بضوابط التداول الحجاجي وتقنياته:

وهذه الضوابط لا يخلو منها خطابٌ حجاجيٌّ يبتغي التأثير في المُخاطَب و حمله على فعل شيءٍ ما أو الانتهاء من فعلٍ ما. وأهم تلك الضوابط التي أجدُها قد تحقّقتْ في التعليل في العهد العلوي():

أ - أن يكون الحجاج ضمن إطار الثوابت الدينية والعرفية، فليس كلّ شيء قابل للنقاش وللحجاج.

ب - أن تكون دلالة الألفاظ محدّدة، والمرجع الذي يُحيل عليه الخطاب مُحدّدًا؛ لئلا ينشأ من عدم التدقيق مشكلة في تأويل المصطلحات.

ت - ألا يقع المرسِل في التناقض بقوله أو بفعله.

ث - موافقة الحجاج لما يقبله العقل، وإلا بدا زيف الخطاب ووهن الحجّة.

ج - توفّر المعارف المشتركة بين طرفي الخطاب، مما يُسوّغ قبول المرسَل إليه لحجج المُرسِل، أو إمكانية مناقشتها أو تفنيدها، وإلا انقطع الحجاج بينهما وتوقّفت عملية الفهم والإفهام، بل الإقناع.

ح - أن يأخذ المُرسِل في اعتباره تكوين صورة عن المُرسَل إليه، أقرب ما تكون إلى الواقع قدر الإمكان، أي أن يُراعي المُرسِل طبيعة المُرسِل إليه الذهنية.

خ - مناسبة الخطاب الحجاجي للسياق العام؛ لأنه الكفيل بتسويغ الحجج الواردة في الخطاب من عدمها.

د - ضرورة خلوّ الحجاج من الإبهام والمغالطة والابتعاد عنهما.

ذ - امتلاك المُرسِل ثقافة واسعة خصوصًا ما يتعلق بالمجال الذي يدور ضمنه الحجاج کالمجال السياسي.

وحين نُجرّد النظر إلى عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك بوصفه نصًّا أدبیًّا، نجده

ص: 546

هدف عبر مجموعة من الأقوال والأفعال الإنجازية إلى تغيير وضع المتلقي، ومن ثمّ تغيير موقفه السلوكي وذلك من خلال ثنائية (افعل ولا تفعل) وهذا الهدف هو ما تتغياه التداولية التي تتجاوز الأقوال والملفوظات إلى الفعل الإنجازي والتأثير الذي يتركه ذلك الإنجاز، فعناصره الثلاثة المكوّنة من فعل القول والفعل المتضمن في القول أو ما يسمى بالفعل الإنجازي، والفعل الناتج عن القول، الذي ينتج عن القول من أثر فعله على المخاطب كإقناعه وحثّه وإرشاده وتوجيهه()، كلّ هذه العناصر قد حضرت في هذا العهد، وجعلته عبر التعليل يُحقق هدفه المنشود.

2 - توفّرها على (العوامل / الروابط) الحجاجية:

تعدّ الروابط الحجاجية واحدة من الأدوات الحجاجية التي تربط بين القضايا في الخطاب، إذ تُسهم في إنجاز القيمة الحجاجية فيه، وتساعد الخطيب على جلب السامعين إليه؛ ذلك لما تحتويه من علاقة منطقية بين القضايا، مما تدفع المتلقّي لذلك الخطاب إلى الخضوع والتسليم بمضمونه().

وقد اهتمّ دیکرو بظاهرة العوامل / الروابط الحجاجية، نظرًا لما تُحدثه هذه الأخيرة من انسجام في الخطاب، وقيادة للمستمع إلى الاتجاه الذي يريده المتكلم والإخضاع له، تتمركز هذه الروابط أساسًا في أبنية اللغة، وهي على أشكال مختلفة كما قال شكري المبخوت: ((إذا كانت الوجهة الحجاجية محددة بالبنية اللغوية، فإنها تبرز في مكونات متنوعة ومستويات مختلفة من هذه البنية فبعض هذه المكونات يتعلق بمجموع الجملة، أي هو عامل حجاجي في عبارة ديکرو، فيقيّدها بعد أن يتم الإسناد فيها ومن هذا النوع نجد: النفي والاستثناء المفرغ والشرط، والجزاء. ونجد مكونات أخرى ذات خصائص معجمية محددة، تؤثر في التعليق النحوي وتتوزع في مواضع متنوعة من الجملة، ومن هذه الوحدات المعجمية حروف الاستئناف بمختلف معانيها والأسوار (بعض، كل،

ص: 547

جميع) وما اتصل بوظائف نحوية مخصوصة، كحروف التعليل أو ما تمحّض لوظيفة من الوظائف قط وأبدًا))().

ولا يخفى ما قدّمته الروابط التي تخصّ التعليل في العهد العلوي المالك الأشتر من أثرٍ جليٍّ في بناء الخطاب وجعله متماسك البنية، فضلاً عن تدعيمه بالعلل التي تسوّغ مثل هذه القضايا التي تحقق النتائج على وفقها، وهنا سأستعرض بعضًا من تلك الروابط مبيّنًا دلالتها وأثرها المتكوّن بين النتيجة (الطرح) والحجة فيما يأتي:

1 - الفاء:

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا تحدثن سنة تضر بشئ من الماضي تلك السنن - الفاء - فيكون الاجر لمن سنها . والوزر عليك بما نقضت منها.

2 - فإنّ

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم - فإنّ - فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق

2 - فلا يكونن لك بطانة - فإنّ - فإنهم أعوان الاثمة وإخوان الظلمة.

3 - ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا - فإنّ - فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق

3 - لأنّ

الأطروحة (النتيجة) - الروابط - الحجة

1 - ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم - لأنّ - لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله

ص: 548

إنّ تقدير المتكلم (الباث) لردود أفعال المخاطب (المُرسَل إليه) يجعله يستنبط حججًا افتراضيةً بناءً على ذلك التقدير، ولما كان الخطاب الحجاجي يفترض مواجهةً لخطاب حقيقي أو تقديري يتوقعه المتكلم ويفترض وجوده في ذهن المتكلم، فهو في هذه الحالة سوف يُسهم في تحقيق النشاط التواصلي الذي تفرضه البنية اللغوية ذاتها، أو السياق النصي للخطاب(). وهذا ما تحقق في بناء خطاب العهد العلوي بالنسبة لروابط التعليل بين القضية المطلوب تحقيقها من قبل المخاطَب والعلّة المترتّبة على تحقيقها، فالفاء حرفٌ له دلالات عديدة تختلف باختلاف تموضعها في الكلام، لكن دلالتها في هذه الأمثلة لا تتجاوز التعليل والتفسير، حيث تأتي مباشرة بعد الانتهاء من إلقاء النتيجة لتُحيل إلى ما يفسره ويعلل مضمونه من حجج().

3 - توفّرها على الانسجام الداخلي:

ويتحقّق الانسجام الداخلي باشتراك وسائل عدّة من أبرزها (القياس، والمثال، والشاهد) التي تؤدّي إلى الانسجام الذي يتقوّم بدوره على مبدأين أساسيين هما: السببية، وعدم التناقض، أو مع موجّهات خارج النص مثل القيم والمواضعات الاجتماعية أو المخزون الثقافي الذي يحيط بذهن المُرسِل(). وقد برزت مثل هذه الوسائل مرافقةً للتعليل الذي أردفه الإمام علي (عليه السلام) في إرشاداته. وتشترك هذه الوسائل بأنها صور من القياس الخطابي - أو ما يُسمّى بالمُضمر - الذي يقوم على الاحتمالات، ويُعرّف بأنه ((آلية من آليات الذهن البشري، تقوم بالربط بين شيئين على أساس جملة من الخصائص المشتركة بينهما للوصول إلى استنتاجٍ ما، بألفاظٍ فيها شيءٌ من الالتباس والاشتراك، بناء على أنّ القياس يقوم على التجربة، التي ينطلق منها المتكلم لتشكيل صورة استدلالية))().

ومن الأمثلة على القياس الخطابي في العهد العلوي قوله الشريف: ((أنصف الله

ص: 549

وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان الله حربا حتى ينزع ويتوب. وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد))().

عبر هذا النص، أبان الإمام (عليه السلام) لصاحبه عاقبة عدم إنصاف الرعية ومآل ترکها باستلزامها عدة أمور لا يُحمد عقباها، فمن لا يُنصف فإنه يكون ظالمًا لهم، ومن كان ظالما لعباد الله كان الله له خصمًا من دون العباد، ومن خاصمه الله لا بُد من أن تُدحض حجته ويبوء بالخسران ويزول عن ملکه مکللاً بالوزر والآثام. كل تلك المنازل التي ذكرها الإمام (عليه السلام) للحاكم الذي يستبدّ بحكمه ويطغى بسلطانه، كانت مرتّبةً لأجل إقناع الآخر بضرورة العدل مع الرعية، وهي مراتب اقتضاها العرف والمخزون الثقافي الذي يشترك فيه كلٌّ من المُرسِل والمُرسَل إليه.

وشاهدٌ آخر يُدلّل بوضوح على فاعلية استراتيجية القياس الخطابي وأثره في إقناع المتلقّي، قوله (عليه السلام): ((وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ویشاب الحق الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب))(). وهذه الحجج التي توفّر عليها النص، إنّما سیقت لأجل نهي الوالي عن الابتعاد عن العامةِ من الرعية، والاستئثار عنهم بحاشيته المقربين، ولما كانت هذه الظاهرة تُؤشّر خطورتها المتعيّنة على الحاكم، فلا بُدّ إذن من التنبيه منها، بوصفها آفةً أخلاقية تأتي عليه بما لا يُحمدُ عُقباه، فضلاً عن كونها ظاهرة قد لا يتخلّص منها إلا من أوتي حظًّا عظيمًا وزُهدًا في متاع الدنيا

ص: 550

وزخرفها، فكانت الحجج تتعاضد تباعًا في هذا النص، ملتزمةً مبدأ الترتيب، فالحجج قد لا تتساوى فيما بينها ولكنها تترتب في درجات قوةً وضعفًا، ومأتى هذا الترتيب من كون الظواهر الحجاجية تتطلب وجود طرف آخر، تقيم معه علاقة استلزام()، كذلك اعتمدت هذه الحجج على أمور مُتسالمٍ عليها عند الجميع، فلا يمكن لأحد أنْ يختلف في مدى صدقها من كذبها، الأمر الذي يوثّق الحجج ويجعلها أكثر إقناعًا وتأثيرًا على بعث المرسل له على السلوك المطلوب تحقيقه من المُرسِل.

ومن الأفكار التي أولاها محللو الخطاب أهمية لأثرها في البرهنة بالقياس المضمر، هي فكرة الكم؛ لكونها تهم أكبر عدد من الناس، أو تكون مقبولة على العموم، ومن ثم تُظهر مقبوليته على الجمهور()، ولعل قول الإمام (عليه السلام) موصيًا باتّخاذ الجادة الوسطى في التعامل، والوقوف مع العامة يُدلل بوضوح على ذلك، ((وليكن أحب الامور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء. وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الامة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم))()، وفي هذا القول توجيهٌ لمالك أنْ يكون مرضيًّا في حكمه عند العامة من رعيّته، ويستلزم من ذلك أنْ لا ينشغل عنهم برعاية الخاصة ممّن سيتولى مناصب في دولته من إداريين وغيرهم؛ لأنّ التواصل مع العامة سيجعله أكثر قربًا من همومهم واحتياجاتهم، فيوليهم رعايته؛ لأنّ اعتماد الدولة في حال الضيق ومداهمتها من الأعداء على العامة من الناس، أما الخاصة فهم أكثر ثقلاً على كاهل الدولة وأقلهم شكرًا وعرفانًا بجميل ما تقدمه الدولة لهم من مُتع وهبات، فينبغي والحال هذه أنْ لا يشكّلوا عائقًا إزاء الحاكم العادل من الوصول إلى عامة شعبه، والاقتراب من

ص: 551

همومهم وتحقيق مطالبهم. ويظهر في هذا النص من الرسالة توظيف لحجّة المقارنة التي تقوم ((على الاحتجاج لشيء أو لشخص أو لقيمة أو لرأي، باعتماد أفضليته على طرف ثانٍ من جنسه أو قبيله))(). إذ يحتّج المُرسِل على الطرف الآخر (المُرسَل إليه) بجعله مُذعنًا أنْ يختار قراره بين خيارين أحدهما يعود عليه بالفائدة والآخر لا يرقى إلى مميزات الأول، وهنا تكون المقارنة بين أمرين سبيلاً لاختيار أفضلها، ومن ثمّ يكون المُرسِل محقّقًا لمُراده في جعل المُرسِل إليه مُذعنًا لما يريده من أمر.

4 - استراتيجية الاستدلال بالشاهد:

من الأمور التي توفّرت على القياس الخطابي، ما كان موظّفًا عبر آلية الاستدلال بالشاهد القرآني، والنبوي، ومعلومٌ أنّ ((الحجة القرآنية تُرجَّح على ما سواها من الحجج الأخر؛ لأنها برهان صادق وحجة قاطعة، ودليل يقيني التأليف قطعي الاستلزام، وهي تعمل على تثبيت المعاني في الأذهان))().

ونلحظ أنّ ثمة نمطين في استدلال الإمام علي (عليه السلام) بالشاهد القرآني: الأول لا يُشير إلى قائل النص، بل يشي إلى النص بصورة غير مباشرة، ومثاله قوله (عليه السلام): ((وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه))(). وفي هذا النص يستحضر القارئ له نصوصًا كثيرة تحمل في مطاويها مضمون هذه الفقرة.. منها قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ»، وقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(). إذ تعمل هذه الشواهد القرآنية الراكزة في ذهن المتلقي على تثبيت الطرح الذي يبثّه المُرسِل، وتُوكّد مضمونه.

ومن الشواهد التي تتصل بالاستدلال المضمر بآيات القرآن الكريم، قوله (عليه السلام): ((وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة

ص: 552

بالسوء إلا ما رحم الله))()، ويظهر في ذيل النص الأنف الذكر، استشهاده بقوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ»() ومن الواضح أنّ استدلاله بهذه الآية القرآنية، يجعل المتلقّي أكثر تعاطيًا للإرشاد الموجّه إليه، وأن لا تأخذه العزة بنفسه والتباهي بمؤهلاته النفسية، وذلك حين يتذكّر - عبر هذا الاستشهاد القرآني - أنّ نبيًّا لا ينره نفسه عن الخطأ، ما لم يطلب المدد الإلهي والعون على أنْ يعصمه من الوقوع في الهفوات والسقوط في شباك الشهوات التي تُتاح بصورة مغرية للذين يتصدّون للحكم بين الناس.

وفي موارد أخرى من تعليلات الإمام (عليه السلام) لمالك، كانت الاستشهاد واضحًا ظاهرًا بالقرآن الكريم، ومن ذلك قوله: ((واردُدْ إلى الله ورسوله ما يضلعك یا آنها عد و من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة))()، وفي هذا النص إرشادٌ وتوجيهٌ إلى القرآن والرسول في حال التنازع، والاستدلال على صحة التعليل بالقرآن الكريم يمثّل أعلى تقانة تبتغي إقناع المتلقي وجعله في مقام الإذعان والتسليم.

وما يُلاحظ في هذا النص، أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكتف باستدلاله بالآية، بل عرّج على كشف النقاب عن مضمونها عبر آلية التفسير، وهي من أهم الصور البلاغية ذات الدور الفعال في الميدان الحجاجي(). والتفسير القوي بحسب (بيرلمان) يمكن أنْ يعدّ صورة حجاجيةً يتباين أثرها باختلاف المتلقي، فإذا كان متأثّرًا بهذا التفسير يكون حينها صورة حجاجية، أما إذا انصرف التفسير إلى اهتمامه بالجانب التزييني للخطاب فيعد صورة أسلوبية().

ص: 553

ومن استدلالاته على صواب سلوكٍ يُرشد إلى صلاحه بين العامة، فضلاً عن كونه معبّرًا عن موافقته للحكم الشرعي، قوله مُشيرًا إلى قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): ((وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم فقال: «صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما»)). وفي هذا القول تظهر فاعلية الإقناع، حين يكون الأمر المطلوب تحقيقه من قِبَل المُرسَل إليه ممضيًّا على مشروعيته من حُجّةٍ لا يُردّ لها قول عند الطرفين، فلا بُد من أنْ تكون مثل هذه الحجة باعثةً لمصداقية القول، ومؤكّدةً على صوابه حكمًا وتطبيقا.

ويستشعر الإمام علي (عليه السلام) ضرورة توظيف الشاهد النبوي بوصفه باعثا على أهمية الفعل الذي ينبغي الأخذ به من قبل الوالي، فيقول: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسا تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه الله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع»))(). فيبيّن الإمام أهمية هذا الفعل - ألا وهو تخصيص جزء من وقته للنظر في شؤون الرعية - بما سيفرزه من نتائج تمثّل علّةً تسوغ للحاكم الأعلى الممثّل بشخص الإمام علي (عليه السلام) مثل هذا الطلب، وفي الوقت نفسه تُحببه إلى نفس الوالي (المُرسَل إليه) فيتحرّك إلى تطبيق ذلك التوجيه من دون إكراه.

ومن الشواهد على توظيفه للنص النبوي بصورة غير مباشرة، عن طريق التناص، قوله (علیه السلام) ناهيًا مالكًا عن إحداثه أعمالاً لم تكن من قبل، أو منعه بعض السنن التي كانت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر

ص: 554

بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها))()، إذ يتناصّ هذا التوجيه مع حديث النبي (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا»(). وفحوى ذلك التوظيف أنّه يعكس إيجابية الفعل المطلوب تحقيقه من قبل الوالي، بكونه فعلاً ينمّ عن صلاح من يدعو إليه؛ لأنّه يكشف حقيقة اتّباعه للرسول الكريم (ص) ومشايعته له في القول والفعل.

5 - استراتيجية التعريف:

عُد التعريف أحد الصور البلاغية الموظّفة في تدعيم الحجاج في الخطاب، ويقوم مفهومه على اتّخاذ ماهية موضوع القول دليل الدعوى()، أما الباعث على توظيف التعريف فهو إقناع السامع، وتذكيره ببعض مظاهر الحقيقة التي يمكن أنْ يتناساها أو يغفل عنها، أي أنّه يوظّف - بحسب عبد الله صولة - ((لا على سبيل شرح معنى الكلمة إنما لتبرز بعض المظاهر الحافة بواقعةٍ ما، مما من شأنه أنْ يعزب عن ذهن السامع))()، وقد تتداخل وظيفة كل من التعريف والتفسير؛ لاشتراكهما في تقديم تفاصيل عن الظاهرة وتحديد معالمها، مما يدفع إلى جذب المُرسِلَ إليه واستمالته().

ويلحظ أنّ ثمة أنماط ظهرت في تقانة التعريف وظّفها الإمام (عليه السلام) في عهده لمالك، تختلف باختلاف مقام الخطاب، فتارةً يُوجز في التعريف، مثل قوله: ((وشُحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف))().

وتارةً يكون الإطناب في التعريف، مثل قوله: ((فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الامن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما

ص: 555

يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم))(). وهنا قدّم التعريف لوصف الجهاز الدفاعي الذي تقوم بقوّته الدولة، كذلك يُلحظ في هذا المقطع من الرسالة، أنّ الإمام (عليه السلام) قدّم التعريف بوصفه خبرًا؛ ليمهّد عبر هذا التسويغ إلى ضرورة الاعتناء بطبقة الجند، ورعاية حقوقهم، وسدّ حاجتهم من المعاش الذي يُؤخذ من الخراج؛ ليكون ذلك دافعًا للحاكم على مراعاة هذه الطبقة التي يعود أثرُها الإيجابي على البلاد بأسرِها.

وفي نمطٍ آخر من أنماط التعريف، تكون مجموعة الصفات مُحدّدات تبيّن حقيقة الشي. المُراد إظهاره، أو تمييزه عن سواه، فتمنعها من الدخول في حيز الحكم المُثبت بحق القضية المُعّرفة. والشاهد عليه قوله (عليه السلام): ((ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الاخلاق، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملا، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك. ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل))(). وفي هذا النص جملة من الصفات بالإمكان عرضها على النحو الآتي:

لا تبطره الكرامة - لا تقصر به الغفلة - خير الكتّاب - ولا يضعف عقدًا اعتقده لك - ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك - ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور

كل تلك الصفات التي ذكرها الإمام علي (عليه السلام) في خطابه آنف الذكر

ص: 556

شكّلت روابط حجاجيّة تعاضدت فيما بينها لتقيم حدًّا فاصلاً بين الكاتب الذي يكون مقرّبًا من دون الآخرين من الكُتاب، فتأتي هذه الصفات لتكون سبيلاً للتنافس الشريف بين الكتاب، ولا تكون المناصب الرفيعة حِكرًا لمن يتزلّف للحاكم على حساب سمعته الملطّخة بأدران الظلم والفساد، وتاريخ عمله غير المهني. فتوضع مثل هذه الأوصاف لتكون حجّةً بين الحاكم والرعية، وعلى أساس مضمونها يُقيّم الذي يكون أهلاً للتصدي لمثل هذا المنصب.

وفي مثالٍ آخر نلحظ ذلك النضد الرفيع لمجمل الصفات التي يتطلّب الإمام (عليه السلام) اجتماعها في القاضي، فيقول: ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصره رمهم عند اتضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء))().

ومن خلال الشكل التوضيحي أدناه يتبين لنا عدة خصال تتوفّر في القاضي الذي ينصّب نفسه حاكمًا يقضي بين الناس، وهي صفات تحدد شخصية القاضي الوظيفيّة، بمعنى أنّها تبين وظيفته التي تُؤهّله أنْ ينظر في قضايًا الرعية، وتكشف علّة اختياره من دون الآخرين، ((وكأن الإمام (عليه السلام) بعد أنْ أوجب على عامله أن ينتخب للقضاء أفضل رعيته علمًا وتهذيبًا أراد أن يلفت نظره إلى جهة مهمة هي فوق العلم والثقافة الواسعة، وهي خاصية نفسية بحتة، وأنّ كلمته (عليه السلام) (أوقفهم في الشبهات) تكشف لك بوضوح عن مقصده الشريف، فهو قد اشترط أنْ يكون القاضي أو الحاكم - زيادة على ما هو عليه من الفضل - من ذوي النفوس الحساسة والذكاء المتقد والنباهة الشديدة))(). ومعلومٌ أنّ إكثار الصفات التي ذكرها الإمام (عليه السلام) تبثّ

ص: 557

حزمة من المؤثّرات الإقناعية على المتلقّي (الوالي مالك الأشتر) تجعله أكثر تحرّزًا واحتياطًا في اختياره القاضي النزيه الذي يتحرّى العدل والإنصاف في حكمه بين الناس.

لا تضيق به الأمور - أوقفهم في الشبهات

لا تمحكه الخصوم - أقلهم تبرما بمراجعة الخصم

لا يتمادى في الزلة - أصبرهم علی تکشف الامور

لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه - أصرمهم عند اتضاح الحکم

لا تشرف نفسه على طمع - لا يزدهيه إطراء

لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه - ا يستميله إغراء

الخاتمة:

آن لنا أن نختم تلك الرحلة البحثية في رحاب تلك الرياض المونقة الدالّة على عظمة الإسلام وعظمة قائله ومدى اندكاكه وتفانيه في الكيان الإسلامي شريعةً وتطبيقًا. ومن تلك النتائج التي أسفر البحث عنها:

* أبان البحث مصطلح التعليل لغةً واصطلاحًا ومن ثمّ كشف النقاب عن أهمية أثره في الخطاب، كونه أحد الوسائل المهمة في إقناع المتلقي ودفعه للتصديق ومن ثم العمل بمضمون الخطاب.

* أظهر البحث عدة دلالات لغوية لمصطلح (العهد) إلا أنّه يرجّح دلالة الوصية من بين الدلالات الأخر في تحديد وصف رسالة الإمام علي (عليه السلام) بالعهد؛ لتضافر الوصايا بشكلِ ملفتٍ في فِقَرها.

* لم تقف طرائق التعليل عند أدوات معيّنة، بل تعدّدت وتنوّعت، ولا ضابط لها إلا التحديد الذي يُعيّنه السياق. وقد تتبادل أدوات التعليل دلالالتها، وهذا التبادل قد

ص: 558

يحكم السياق باختياره، وقد يحكم التنوّع اللهجي والتوسّع في استعمال اللغة العربية.

* تنوّعت موضوعات التعليل في العهد العلوي من اجتماعية إلى سياسية واقتصادية وأخلاقية، ولا يخفى طُغيان التعليلات الأخلاقية على ما سواها، بل شكّلت هذه التعليلات أساسًا لكل الموضوعات التي طرحها الإمام (عليه السلام) في عهده المبارك.

* وفّر الإمام علي (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر طاقة حجاجيّة انطلقتْ عبر ثنيّات التعليل التي أبرزها عقب كل توجيهٍ وإرشاد، وكان لاستشهاده بالقرآن الكريم وحديث الرسول الأكرم (ص) في تعليله بعض تلك التوجيهات، أثرٌ بليغ في حقنه جُرعاتٍ من الإقناع الذي يمثّل غايةَ المُرسِل وهدفه من صناعته الخطاب وتوجيهه للآخرين.

* توفّرت جميع السمات الحجاجية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، فضلاً عن أثر الروابط / العوامل الحجاجية في انسجام الخطاب وجعله متماسكًا يرفدُ بعضه بعضًا، مما يُضفي عليه جماليات أسلوبية شكليّة تمتّن المضمون القولي فيه.

* کاد القياس الخطابي - لاسيما المضمر منه - نصيبٌ وافر في اشتغاله على استراتيجيات الإقناع في الخطاب؛ لأنه يعتمد على أولويات ومسلّمات عقلية واستلزامات لا يختلف عليها اثنان، مما يُسهم في جعل الخطاب مصوغًا بطريقة تراتبية تتضمن مقدّمات وتنتهي إلى نتائج، وهذه الطريقة الصورية في المنطق هي الأكثر شيوعًا في التفكير، فلذا كانت أكثر حضورًا؛ لأثرها الطيب في إنتاج الإقناع وتخصيبه في الخطاب.

* وأخيرًا كان التأكيد على مضمون العدل والإنصاف في أكثر تعليلات العهد؛ لأثره البليغ في إقامة الحكم الصحيح المعبّر عن الإسلام الحقيقي، ولا يستبعد التعريض بالجور السائد آنذاك.

ص: 559

الهوامش:

1. ينظر: الصحاح، الجوهري: 5 / 1773. مادة (علل).

2. دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، الأحمد نكري: 2 / 107.

3. الكليات، الكفوي: 294.

4. ينظر: المنطق الفطري في القرآن الكريم، محمود يعقوبي: 95.

5. ينظر: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهانوي: 1 / 489، ونظرية التعليل في النحو العربي بين القدماء والمحدثين، د. حسن خميس سعيد الملخ: 29.

6. تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، ابن أبي الإصبع العدواني المصري: 309. والآية المذكورة في الاقتباس من سورة الأنفال: 68.

7. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي: 306.

8. أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني: 275.

9. الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، غانم جواد رضا: 16.

10. ينظر: المعجم الأدبي، جبور عبد النور: 122.

11. ينظر: الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي: 86.

12. أساليب النثر الفني، لطيف محمد العكام: 80.

13. ينظر: التوجيه الأدبي، طه حسين: 15.

14. ينظر: التوجيه الأدبي: 16، وروائع البيان في خطاب الإمام - الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رمضان عبد الهادي: 134.

15. ينظر: كتاب العين، الفراهيدي البصري: 1 / 102.

16. ينظر: غريب الحديث، الهروي: 3 / 137.

17. ينظر: نهج البلاغة: 3 / 2.

18. مصادر نهج البلاغة وأسانيده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب: 3 / 424 - 425. نقلا عن كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 2 / 280.

19. ينظر: لسانيات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي: 61.

20. ينظر: الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري: 57.

21. ينظر: فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، أبو عبيد الأندلسي: 98.

22. المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، دومينيك مانغونو: 12 - 13.

23. ينظر: استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي الشهري: 456.

ص: 560

24. موسوعة کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: 1 / 225.

25. ينظر: کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري: 142. والباحث يتفق مع جملة مع العسكري وغيره من العلماء والباحثين الذين يذهبون إلى وحدة الخطابة والرسالة.

26. الخطابة الإسلامية، عبد العاطي محمد شلبي: 10.

27. ينظر: الخطابة، أرسطو: 181.

28. کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر: 136.

29. المنطق، محمد رضا المظفر: 3 / 338.

30. استراتيجيات الحجاج في رسائل الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، (بحث غير منشور)

31. ينظر: نظريات في أساليب الإقناع - دراسة مقارنة، د. علي رزق: 21.

32. ينظر: الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجا، إيمان در نوبي: 95.

33. الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي: 2 / 250.

34. سورة النحل: من الآية 89.

35. البرهان في علوم القرآن، الزرکشي: 3 / 91.

36. ينظر: البرهان في علوم القرآن: 3 / 91 - 100.

37. سورة النساء: 113.

38. سورة المائدة: 97.

39. سورة الحشر: 7.

40. سورة النحل: 89.

41. سورة النساء: 160.

42. سورة المزمل: 20.

43. سورة الأنعام: 156.

44. سورة المائدة: 32.

45. سورة البقرة: 21.

46. سورة الذاريات: 15 - 16.

67. سورة المائدة: 38.

68. سورة الحجر: 46.

49. سورة الزخرف: 33.

50. سورة البقرة: 22.

ص: 561

51. لمسات بيانية في نصوص من التنزیل، د. فاضل صالح السامرائي: 178.

52. سورة الحشر: 5.

53. لطائف الإشارات = تفسير القشيري، القشيري: 1 / 33.

54. نهج البلاغة: 3 / 169.

55. نهج البلاغة: 3 / 92.

56. ينظر: التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي محمد جاد: 62.

57. سورة الحجرات: 13.

58. نهج البلاغة: 3 / 101.

نهج البلاغة: 3 / 98.

60. نهج البلاغة: 3 / 106 - 107.

61. نهج البلاغة: 3 / 107 - 108.

62. نهج البلاغة: 3 / 110.

63. ينظر: الكليات: 510.

64. ينظر: کشاف اصطلاحات الفنون: 993.

65. نهج البلاغة: 3 / 91.

66. نهج البلاغة: 3 / 91.

97. نهج البلاغة: 3 / 117.

68. دستور العلماء: 2 / 180.

69. نهج البلاغة: 3/ 96.

70. نهج البلاغة: 3 / 92.

71. نهج البلاغة: 3 / 118.

72. نهج البلاغة: 3 / 95.

73. البلاغة: 3 / 96.

74. نهج البلاغة: 3 / 97.

75. نهج البلاغة: 3 / 97.

76. نهج البلاغة: 3 / 102.

77. نهج البلاغة: 3 / 105.

78. ينظر: الحجاج في كتب الردود النقدية - الفلك الدائر على المثل السائر أنموذجا، صالح المغرة:

ص: 562

12.

79. الحجاج أطره ومنطلقاته من خلال مصنّف في الحجاج، الخطابة الجديدة لبيرلمان وتيتكا، عبد الله صولة، ورد ضمن أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم: 299.

80. البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري: 465 - 468.

81. ينظر: التداوليات وتحليل الخطاب، د. جميل حمداوي: 24 - 25.

82. ينظر: الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، نعيمة يعمران: 28.

83. نظرية الحجاج في اللغة، شكري المبخوت، ضمن كتاب: (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): 377.

84. ينظر: تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، آمنة بلعلي: 117.

85. ينظر: الخطاب الحجاجي أنواعه وخصائصه - دراسة تطبيقية في (كتاب المساكين) للرافعي، هاجر مدقن: 116.

86. ينظر: في بلاغة الخطاب الإقناعي - مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، د. محمد العمري: 71.

87. الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي: 93.

88. نهج البلاغة: 3 / 94.

89. نهج البلاغة: 3 / 115.

90. ينظر: الحجاج في اللغة، شكري المبخوت: 363.

91. في بلاغة الخطاب الإقناعي: 72.

92. نهج البلاغة: 3 / 94 - 95.

93. دراسات في الحجاج، سامية الدريدي: 123.

94. بلاغة الإقناع - قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 2014 م: 38.

95. نهج البلاغة: 3 / 91.

96. سورة المنافقون: 8.

97. سورة محمد: 7.

98. نهج البلاغة: 3 / 91.

99. سورة يوسف: 53.

100. نهج البلاغة: 3 / 103.

101. ينظر: الحجاج في المثل السائر لابن الأثير، 29.

ص: 563

102. ينظر: المصدر نفسه: 29.

103. نهج البلاغة: 3 / 115.

104. نهج البلاغة: 3 / 113.

105. المصدر نفسه: 3 / 98.

106. المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة: 2 / 350.

107. ينظر: الجدل في القرآن الكريم - فعالية في بناء العقلية الإسلامية: 169.

108. الحجاج أطره ومفاهيمه، عبد الله صولة: 323.

109. ينظر: الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير: 29.

110. نهج البلاغة: 3 / 92.

111. نهج البلاغة: 3 / 99.

112. نهج البلاغة: 3 / 108 - 109.

113. نهج البلاغة: 3 / 103 - 104.

114. الراعي والرعية، توفيق الفكيكي: 78.

ص: 564

المصادر:

* القرآن الكريم.

* الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: 911 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط، 1974 م.

* أساليب النثر الفني، لطيف محمد العكام، مطبعة الآداب، النجف، ط 1، 1974 م.

* استراتيجيات الحجاج في رسائل الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، (بحث غير منشور)

* استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي - ليبيا، ط 1، 2004 م.

* أسرار البلاغة، أبو بكر عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 ه)، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاکر، مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة، د.ت.

* البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت: 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1957 م.

* بلاغة الإقناع - قراءة حجاجية في خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، رائد حاكم الكعبي، مجلة العميد، السنة الثالثة، المجلد الثالث، العدد الأول، 2014 م.

* البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، محمد العمري، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2005 م.

* تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر و بيان إعجاز القرآن، ظافر ابن أبي الإصبع العدواني المصري (ت: 654 ه) تقديم وتحقيق: الدكتور حفنی محمد شرف، الجمهورية العربية المتحدة - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، د.ت.

* تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية المعاصرة، آمنة بلعلي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 1، 2002 م.

* التداوليات و تحليل الخطاب، د. جميل حمداوي، شبكة الألوكة.

* التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي محمد جاد، قدم له: محمد السيد الجلیند، دار الميمان للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 2009 م.

* التوجيه الأدبي، طه حسين، أحمد أمين، عبد الوهاب عزام، محمد عوض محمد، المطبعة الأميرية،

ص: 565

القاهرة، 1950 م.

* الجدل في القرآن الكريم - فعالية في بناء العقلية الإسلامية، محمد التومي، شركة الشهاب للنشر والتوزيع، باب الواد، الجزائر، د.ت.

* جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي، ضبط وتدقيق وتوثيق: د. يوسف الصميلي، المكتبة العصرية، بيروت، د.ت.

* الحجاج أطره ومفاهيمه، عبد الله صولة.

* الحجاج في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، حسين بوبلوطة، رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، 2010 م.

* الحجاج في النص القرآني - سورة الأنبياء أنموذجا، إيمان درنوبي، رسالة ماجستير، جامع-ة الحاج لخضر - باتنة، الجزائر، 2013 م.

* الحجاج في كتاب المثل السائر لابن الأثير، نعيمة يعمران، (رسالة ماجستير) جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012 م.

* الحجاج في كتب الردود النقدية - الفلك الدائر على المثل السائر أنموذجا، صالح المغرة، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري، 2012 م.

* الخطاب الحجاجي أنواعه وخصائصه - دراسة تطبيقية في (كتاب المساكين) للرافعي، هاجر مدقن، (رسالة ماجستير) جامعة ورقلة - الجزائر، 2003 م.

* الخطابة الإسلامية، عبد العاطي محمد شلبي، عبد المعطي عبد المقصود، المكتب الجامعي الحديث، 2006 م.

* الخطابة، أرسطو، الترجمة العربية القديمة، تر: عبد الرحم بدوي، دار القلم، بيروت، 1979 م.

* دراسات في الحجاج، سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، ط 1، 2009 م.

* دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (المتوفى: ق 12 ه)، عرب عباراته الفارسية: حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية - لبنان / بيروت، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

* الراعي والرعية، توفيق الفكيكي، صححه وضبط متونه: أياد الحسيني، دار الغدير، مطبعة معراج، ط 1، 1429 ه.

* الرسائل الفنية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، غانم جواد رضا، دار التربية، بغداد، العراق، 1978 م.

ص: 566

* روائع البيان في خطاب الإمام - الجوانب البلاغية واللغوية في بيان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رمضان عبد الهادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1423 ه - 2002 م.

* الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت: 393 ه) تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م.

* غریب الحديث، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (ت: 224 ه)، تحقيق: د. محمد عبد المعید خان، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حیدر آباد - الدكن، ط 1، 1964 م: 3 / 137.

* الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (ت: نحو 395 ه)، حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، د.ت.

* فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (ت: 487 ه)، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، ط 1، 1971 م.

* في بلاغة الخطاب الإقناعي - مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، د. محمد العمري، أفريقيا الشرق، المغرب، بیروت - لبنان، ط 2، 2002 م.

* کتاب الصناعتين - الكتابة والشعر، أبو هلال العسكري (ت: 395 ه)، تحقيق: على محمد البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، ط 2.

* كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت: 170 ه)، تحقيق: د مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

* الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بیروت، د.ت.

* لسانیات النص - مدخل إلى انسجام الخطاب، محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2006 م.

* لطائف الإشارات = تفسير القشيري، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (ت:

465 ه)، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، ط 3، د.ت.

* لمسات بيانية في نصوص من التنزیل، د. فاضل صالح السامرائي، دار عمار، عمان - الأردن،

ص: 567

ط 3، 2003 م.

* مصادر نهج البلاغة وأسانیده، عبد الزهراء الحسيني الخطيب، دار الأضواء، بيروت - لبنان، ط 3، 1985 م.

* المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، دومینیك مانغونو، ترجمة: محمد يحياتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ط 1، الجزائر، 2008 م.

* المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة العبسي (ت: 235 ه)، تحقيق: کمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1، 1409 ه.

* المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بیروت، ط 1، 1979 م.

* المنطق الفطري في القرآن الكريم، محمود يعقوبي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د.ت.

* المنطق، محمد رضا المظفر، انتشارات اسماعیلیان، قم، ط 12، 1925 ه.

* موسوعة کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي ابن القاضي محمّد حامد بن محمد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (ت: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية: د. جورج زيناني، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، ط 1، 1996 م

* نظریات في أساليب الإقناع - دراسة مقارنة، د. علي رزق، دار الصفوة، بيروت - لبنان، ط 1، 1994 م.

* نظرية التعليل في النحو العربي بين القدماء والمحدثين، د. حسن خميس سعيد الملخ، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، ط 1، 2000 م.

* نظرية الحجاج في اللغة، شكري المبخوت، ضمن كتاب: (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم) إشراف حمادي صمود، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس، كلية الآداب - منوبة.

* نهج البلاغة، الشريف أبو الحسن محمد الرضي (ت: 406 ه)، شرح: محمد عبده، تصحیح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفكر، بیروت، 1965 م.

ص: 568

المُحتَوَیات

مرجعيات الخطاب الإحالية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر دراسة تداولية

المقدمة...7

التمهيد: الإحالة في الدراسات اللسانية الحديثة...8

وتنقسم الإحالة على قسمين:...9

أولا: مرجعيات الخطاب السياسي...12

ثانيا: مرجعيات الخطاب الاقتصادي...17

ثالثا: مرجعيات الخطاب الاجتماعي...20

الخاتمة:...25

الهوامش...26

المصادر والمراجع...36

أدوات الطلب ودلالتها البلاغية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر

المقدمة...41

التمهيد...42

أ - العامل الذاتي:...42

ص: 569

ب - العامل السياسي:...43

ج - العامل التاريخي:...43

د - العامل النفسي:...44

المبحث الأول: أسلوب الامر...45

المبحث الثاني: أسلوب النهي...46

المبحث الثالث: أسلوب النداء...48

المبحث الرابع: السمات البلاغية...49

أولا: الايجاز:...49

ثانيا: التوازن التركيبي:...49

قائمة المصادر...51

الهوامش...53

التماسك النصي في رسالة الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (العطف والضمير أنموذجًا)

ملخص البحث...57

التمهيد...59

المبحث الأول: العطف...63

المبحث الثاني: الضمير...72

المصادر والمراجع...80

الهوامش...83

ص: 570

أثرُ القَوَائمِ في تَكشيفِ الدَّلالاتِ عهدُ الإمام عليّ (عليه السلام) لمالك الأَشْتر أنموذجًا (مقاربةٌ تداوليّةٌ)

المقدمة...89

المطلب الأول: أثر القوائم في الثقافة (مقاربة تداولية)...91

أولاً: القوائم مقاربة تأصيلية:...91

ثانياً: في الاصطلاح:...92

ثالثاً: أهمية القوائم في الثقافة التداولية:...92

المطلب الثاني: القوائم في عهد الإمام عليه السلام (مالك الأشتر) دراسة تطبيقية 95

القائمة الأولى: أعمال الوالي ووظائفه:...97

القائمة الثانية: صفات الوالي والقائد الإيمانية:...98

القائمة الثالثة: قائمة ذخائر العمل الصالح والسعادات:...99

القائمة الرابعة: معايير قبول الأعمال لدى الإنسان...100

القائمة الخامسة: صفات المُبعدين عن المشاورة...101

القائمة السادسة: طبقات الرعيّة:...101

القائمة السابعة: واجبات الجنود ومسؤولياتهم:...102

القائمة الثامنة: صفات الجندي المثالي:...103

القائمة التاسعة: صفات القاضي:...104

القائمة العاشرة: واجبات الوالي تجاه القاضي:...105

القائمة الحادية عشرة: معايير اختيار العمّال:...106

القائمة الثانية عشرة: صفات كُتّاب الديوان:...107

القائمة الثالثة عشرة: أقسام التجار وأهل الصناعات:...108

ص: 571

القائمة الرابعة عشرة: أعمال التجّار الإيجابية:...109

القائمة الخامسة عشر: صفات التجّار السلبية:...109

القائمة السادسة عشرة: أصناف الطبقة السفلى:...110

القائمة السابعة عشرة: مساويء احتجاب الوالي عن الرعية:...110

القائمة الثامنة عشرة: وصايا تعامل الوالي مع البطانة (الحاشية):...111

القائمة التاسعة عشرة: فوائد الصلح المحمود:...112

القائمة العشرون: عواقب سفك الدماء:...112

المطلب الثالث: المقاربات التداولية في قوائم عهد الإمام(عليه السلام):...113

ومن المقاربات التداولية التي نَرْقُبُها في العهد الشريف، ما يأتي:...114

أولاً: المعجم القُرآنيّ والحديثي:...114

ثانياً: قواعد التخاطب اللساني:...118

1 - الافتراض المسبق:...118

2 - القول المُضْمَر:...120

ثالثاً: الأفعال الكلامية المباشرة وغير المباشرة:...121

خاتمة البحث ونتائجه:...124

مصادر البحث ومراجعه...126

الهوامش...130

صور الانزياح البيانية في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي (رضي الله عنه) (دراسة دلالية)

مقدمة...137

التمهيد...139

نظرة على مدلول الانزياح الدلالي:...139

ص: 572

أولاً: صور الانزياح الدلالي المجازي:...143

1 - العلاقة السببیة:...144

2 - العلاقة المسببیة:...146

3 - علاقة الكلية:...147

4 - علاقة الجزئية:...148

ثانياً: صور الانزياح الدلالي الاستعاري:...150

ثالثا: صور الانزياح الدلالي الكنائي:...153

الخاتمة:...157

الهوامش:...159

المصادر:...161

الثنائیات المهیمنة في عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

مقدمة:...165

تمهید...166

مفهوم الثنائيات المهيمنة...166

أولا: الثنائيات:...166

ثانياً: مفهوم المهمینة:...169

المبحث الأول: الثنائیات المتوافقة...170

أولا: ثنائیة الخاص والعام...171

ثانیا: ثنائیة الإجمال والتفضیل:...175

المبحث الثاني: الثنائيات الضدّية...180

ثنائية الحضور والغياب:...181

ص: 573

الخاتمة...186

المصادر والمراجع...187

الهوامش...190

الإشهار في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الاشتر (رضي الله عنه)

الخلاصة...194

المدخل...195

الإشهار...196

معاني مفاهيم العهد...197

جماليات العهد الفنية...203

الخاتمة...208

قائمة الهوامش...210

قائمة المصادر...213

حرمة سفك الدماء في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)

دراسة تداولية

المقدمة...217

التمهید...219

شذرات لغوية في عهد مالك الأشتر (رضوان الله تعالى عليه)...219

لماذا سمي بالعهد؟...219

المبحث الأول: مفهوم التداولية في اللغة والاصطلاح...226

المبحث الثاني: حرمة سفك الدماء في العهد دراسة تداولية...229

ص: 574

عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) دراسة تداولية 232

أولاً: الدعوة إلى الصلح...232

ثانياً: حرمة سفك الدماء...236

الخاتمة ونتائج البحث:...239

التوصيات...240

المصادر والمراجع:...241

الهوامش...245

التقابل وسلطة المعنى دراسة في عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر

مدخل البحث...253

مدخل...254

التقابل اصطلاحا...255

المبحث الاول: تقابل الذوات...257

المبحث الثاني: تقابل الصفات...263

المبحث الثالث: تقابل الشواهد...268

الخاتمة...271

الاحالات...271

المصادر...275

ألفاظ الأخلاق في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر دراسة في ضوء نظرية الحقول الدلالية

المقدِّمة...279

التمهيد: مفهوم الأخلاق عند العلماء...281

ص: 575

أولًا: مفهوم الأخلاق عند اللغويين:...281

ثانيًا: مفهوم الأخلاق عند العلماء المسلمين:...282

المبحث الأول: نظرية الحقول الدلالية تأصيلًا وتعريفًا وتطوّرًا...284

المبحث الثاني: الحقول الدلالية في عهد الإمام (عليه السلام)...287

أولًا: ألفاظ الأخلاق المحمودة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام):...288

أ - حقل الألفاظ المرتبطة باللين...288

1. الرَّحْمَة...288

2. اللطف...289

3. المَوَدَّة...289

4. العفو والصفح...290

5. الرِّفْق...290

ب - حقل الألفاظ المرتبطة بالعدل:...291

1. العدل...291

2. الإنصاف...291

3. الأوسط...292

4. السَّهْمُ...292

5. قَوَد البَدَن...293

ت - حقل الألفاظ المرتبطة بالصِّدق...293

1. الصِّدق...293

2. الوفاء...294

3. الأمانة...295

ث - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصَّبر...295

1. الصبر...295

ص: 576

2. قلَّة التبرُّم...296

3. كسر النفس...296

ج - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالصلة:...296

1. الصلة...296

ح - الألفاظ الأخلاقيَّة المرتبطة بالإعانة...299

1. الرِّفد والإعانة...299

2. الرِّعایة...299

ثانيًا: ألفاظ الأخلاق المذمومة في عهد الإمام عليّ (عليه السلام)...300

خ - حقول الألفاظ المتعلقة بالخديعة...301

1. الغش...301

2. الخیانة...301

3. الخَتْل:...301

4. التصنُّع...302

د - حقل الألفاظ المرتبطة بالتعالي...302

1. التَّبَجُّح...302

2. حميَّة الأنف...303

1. النَّخوة...303

2. تصعُّر الخد...303

ذ - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالظلم...304

1. الظلم...304

2. الجور...305

3. الحَيْف...305

ر - حقل الألفاظ المتعلّقة بالخصومة...306

ص: 577

1. الخصومة...306

2. الحقد...306

3. الشنآن...306

ز - حقل الألفاظ المتعلِّقة بالتحقير...307

1. التحقير...307

2. التعيير...307

س - حقل الألفاظ المتعلّقة بالبخل...308

1. البخل...308

2. الشُحَّ...308

نتائج البحث...309

المصادر والمراجع...311

الهوامش...315

ظواهر اسلوبية في عهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث...325

مقدمة...326

المبحث الأول: اسلوبية الطلب...328

أ - اسلوب الامر...328

ب - النهي:...331

تتحدد الانماط الاسلوبية في ثلاثة انماط:...332

المبحث الثاني: أفعل التفضيل...334

التفضيل في الدرجات حسب القوة...335

ص: 578

المبحث الثالث: البنية الاستعارية...338

خاتمة...344

الهوامش...346

المصادر والمراجع...351

أثر التوازي التركيبي في بنية المفارقة

دراسة نصية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

المقدمة...357

توطئة:...358

التوازي التركيبي:...359

المتوازيات الفعلية...360

المتوازيات الفعلية في سياق الإثبات:...360

المتوازيات الفعلية في سياق النفي:...361

المتوازيات الفعلية في سياق النهي:...364

المتوازيات الاسمية...365

الخاتمة...369

الهوامش...370

جريدة المصادر...372

عهد الامام علي (عليه السلام) للأشتر

قراءة في ضوء نظرية (بيرلمان) الحجاجية

1. الوقائع:...379

2. الحقائق:...380

3. الافتراضات:...381

ص: 579

القیم:...382

الهرمیات:...384

المعاني والمواضع:...386

بعض الخصائص الاسلوبية عند باليرمان واثرها الحجاجي:...390

1. الاطناب:...390

2. التكرار:...391

3. اللفظ الحسي:...392

الهوامش...393

المصادر والمراجع...395

عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه) دراسة تحليلية تطبيقية

المقدمة...399

المبحث الأول: التحليل البنيوي...401

توطئة...401

المستوى الصوتي:...401

المستوى الصرفي:...403

المستوى التركيبي...404

المستوى البلاغي...405

المبحث الثاني: التحليل السيميائي...408

توطئة:...408

المستوى السطحي...409

ص: 580

1. البنية السردية السطحية:...409

المستوى العميق...411

البنية السردية العميقة...411

المستوى العميق...411

1 - سمیاء العنوان...411

2 - سيمياء الشخصيات...413

أ - الشخصيات الرئيسة:...414

ب - الشخصيات الثانوية:...415

3 - سيمياء الزمان والمكان...418

المبحث الثالث: التحليل على وفق بعض الانزياحات اللغوية...419

توطئة...419

سيمياء الصور:...420

الانزياح المعجمي:...421

الانزياح الصرفي...423

الانزياح التركيبي...426

الانزياح البلاغي:...427

الخاتمة...429

الهوامش...430

المصادر...434

ص: 581

السياق الافتراضي والتأويل التداولي قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)

ملخص البحث...439

مدخل مفاهيمي: السياق الافتراضي والتأويل التداولي...440

1. السياق الافتراضي:...440

2. التأويل التداولي...442

الخاتمة...456

الهوامش...458

ثبت المصادر والمراجع...461

تقنية الوصف وأثرها في الإبلاغ في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر) دراسة في ضوء النظرية التداولية

المقدّمة...467

التمهيد: تقنيّة الوصف في الخطاب الإبلاغيّ...468

(أوّلاً): تصنيف البشر ووصفهم بشكلٍ عامّ:...470

(ثانياً): تصنیف طبقات المجتمع المدنيّ باعتبارهم (خاصّة وعامة)...472

خاصة الحاكم من الوزراء (المقطع الحالي)...475

أهل الخاصة (المقطع السابق)...475

(ثالثاً): وصف من لا يصلح للمشورة:...476

رابعاً: وصف الجند:...478

خامساً: وصف القضاة:...481

الخاتمة:...484

ص: 582

هوامش البحث:...485

مصادر ومراجع البحث:...487

مبدأ التأدب في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) قراءة تداولية

المقدمة:...491

التداولية:...493

مبدأ التعاون:...494

الاستلزام الحواري:...496

مبدأ التأدب:...497

مبدأ التأدب عند العرب:...498

مراحل التأدب:...500

مبدأ التأدب في عهد الإمام علي (عليه السلام):...506

الهوامش:...513

المصادر والمراجع:...516

حجية الاقناع بالتعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

المقدمة:...521

التمهيد: مفهوما التعليل والرسالة لغة واصطلاحاً:...523

المبحث الأول: في حجية الاقناع بالتعليل وطرائقه:...527

المطلب الأول: حجية الاقناع بالتعليل:...527

المطلب الثاني: طرائق التعليل:...530

ص: 583

المبحث الثاني: موضوعات التعليل في العهد العلوي...553

1 - تعليلات اجتماعية:...534

2 - تعليلات اقتصادية:...535

3 - تعليلات سياسية:...538

4 - تعليلات اخلاقية:...542

المبحث الثالث: استراتيجيات الإقناع بالتعليل في العهد العلوي:...545

توفرها على مبدأ الحجاج:...545

الخاتمة:...558

الهوامش:...560

المصادر:...565

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.