نهاية الأفكار

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 4

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1422 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-272-7

نهاية الأفكار

«في مباحث الألفاظ»

تقرير أبحاث العلامة المحقق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي طاب ثراه

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الاسلامي (الثابعة)

لجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 1

المجلد 1 و 2

اشارة

سرشناسه: عراقي، ضياء الدين، 1240 - 1321.

عنوان و نام پدیدآور: نهاية الأفكار «في مباحث الألفاظ» / تقرير أبحاث ضياء الدين العراقي ؛ تأليف محمد تقي البروجردي النجفي.

مشخصات نشر: قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم ، مؤسسة النشر الإسلامي، 1422ق.=1380.

مشخصات ظاهري: 4 ج. (در 3 مجلد).

فروست: (مؤسسة النشر الاسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم؛ 196، 198، 199.

شابك: (دورة): 3-272-470-964-978؛ ج. 2-1: 0-950-470-964-978

ج. 3: 7-951-470-964-978؛ ج. 4: 4-952-470-964-978.

یادداشت: عربي.

یادداشت: چاپ قبلی: مؤسسة النشر الإسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1405 ق.= 1365.

یادداشت: ج. 1-4 (چاپ ششم: 1435 ق. = 1393).

یادداشت: كتابنامه.

یادداشت: ج. 3. في مبحث القطع والظن وبعض الأصول العلمية. - ج. 4. في مبحث الاستصحاب.

موضوع: مباحث ألفاظ.

شناسۀ افزوده: جامعۀ مدرسين حوزۀ علميۀ قم. دفتر انتشارات اسلامي.

رده بندی كنگره: 1380 9 ن 4 ع / 164 BP

رده بندی دیویی: 297/31

شمارۀ كتابشناسي ملّي: 17890-81م.

نهاية الأفكار (ج 1و2)

تأليف: الفقيه المحقّق والأصولي المدقّق الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (طاب ثراه)

تقرير أبحاث: العلّامة المحقّق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 608

الطبعة: السابعة

المطبوع: 300

التاريخ: 1438 ه.ق

شابك ج 1-2: 0-950-470-964-978

ISBN 978-964-470-950-0

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

اشارة

الصورة

ص: 3

بسمه تعالی

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد بن عبد اللّه المصطفى وآله الغر الميامين.

و بعد فإن الانسان انسان بفكره وثقافته. والأمم حية بحياة افكارها و علومها. والعلماء هم أصحاب الدور الأسمى في قيادة الأمة والحفاظ على حياتها الفكرية و احياء تراثها العلمي وإثراءه.

والأمة الاسلامية - بفضل ثقافة القرآن الالهية وتربية الرسول الاعظم والمعصومين من آله - امتازت بعلماء فطاحل و مفكرین عظام، إرتووا من معين الحق الذي لا ينضب، وخلدتهم دروسهم بألسنتهم وأقلامهم بما جَسَّدته كُتُبهم من ثقافتهم وأفكارهم.

و تراثنا العلمى الاسلامي الثر فى مختلف الفنون خير شاهد على ما نقول، بالرغم من ضياع كثير مما حبرته اقلام علمائنا الكرام.

و منذ سنوات قامت مؤسسة النشر الاسلامي بمهمة احياء تراثنا العلمي العظيم في المجالات العلمية الاسلامية وكرّست جهودها لابرازه بما يتناسب و روح العصر في عالمى الطباعة والتحقيق و نشره على صعيد يحفظه من الضياع والتلف. واليوم تقدم هذه المؤسسة للأمة الاسلامية والحوزات العلمية خدمة جديدة وعطاءً ثميناً لعظيم من علمائنا المحققين في علم اصول الفقه هو آية اللّه الشيخ المحقق الآغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) صاحب الفكر الثاقب الذي ربى جيلاً من العلماء العظام و منهم تلميذه المدقق الحجة الشيخ محمدتق البروجردى النجف (قدس سره) فانه بتقريراته هذه قد أحيا دقائق افكار استاذه و اعان علی حل معضلات بیانه.

و نشكر العلامة الجليل الحجة الشيخ محمد المؤمن والعلامة الجليل الحجة الشيخ محمد مهدى الأصفى على ما بذلاه من جهد وافر فى هذا المجال بتهيئة النسخة المخطوطة وتصحيحها وبالتقديم لها فلله تعالى درهما و على اللّه أجرهما، و لهما منا ومن الامة الاسلامية والحوزات العلمية جزيل الشكر. ونسأله تعالى ان يوفقهما و ايانا لمواصلة الدرب انه خير معين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة

الجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

اشارة

هذا الكتاب واحد من كتب معدودة تمثل قمة الفكر الأصولى عند الشيعة الامامية، في مجال اصول الاستنباط .

فقد اعطى إنفتاح باب الاجتهاد فى الفقه فرصة طيبة لنمو حركة الاجتهاد ونمو العلوم المرتبطة بهذه الحركة، وفى مقدمتها علم أصول الفقه فى الحوزات العلمية الامامية. وهيا اللّه تعالى لهذا العلم في العصور الاخير أبطالاً من فحول العلماء عمقوا ابحاث هذا العلم، ومتنوا قواعده وأحكموا أسسه، ووضعوا أصوله على أسس متينة قوية، واكتشفوا آفاقاً جديدة من هذا العلم، لم يفتحه اللّه تعالى على من سبقهم من العلماء من قبل، وذلك من أمثال الوحيد البهبهاني، وشريف العلماء، والشيخ الانصارى و الخراسانی (ملا محمد كاظم)، والشيخ محمد حسين الاصبهاني والميرزا النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي.

و في عصر العلمين الاخيرين بلغ علم الاصول ذروته. وكانا بحق مدرستين في الفكر الاصولى المعاصر، تخرج عليها بصورة مباشره أو غير مباشرة الكثير من علمائنا المعاصرين، ولا تزال آراؤهما فى الاصول مداراً للبحث والتحقيق ومحوراً للمناقشات والرد والايجاب في الدراسات الاصولية العليا (ابحاث الخارج).

و الكتاب الذي بين ايدينا من ثمرات هذه المدرسة الاصولية، التي مطالبه الاستاذ المحقق العراقي، وقرره وكتبه تلميذه المحقق الشيخ محمد تقى البروجردي، رحمهما اللّه، وفى هذه الاسطر القليلة في مقدمة الكتاب أود ان اشير الى بعض الجوانب البارزة من حياة العلمين الفقيدين: الاستاذ والمقرر رحمهما اللّه راجياً أن يوفقني اللّه تعالى لتقديم هذا

ص: 5

العلمين رحمهما اللّه الى الوسط العلمى فى دراسة موسعة ان شاء اللّه .

المحقق العراقي

آية اللّه الفقيه الاصولى المحقق الشيخ ضياء الدين العراق - ولد في مدينة عراق (أراك) وانتقل فى بداية شبابه الى اصفهان للدراسة، وتخرج على يد علمائها، وانتقل بعد ذلك الى النجف الاشرف لاستكمال دراساته واعمال العلمية.

يقول تلاميذه: ان المحقق العراقى جاء الى النجف الاشرف مجتهداً حضر دروس المحقق السيد محمد الفشاركی، و دروس المحقق الخراسانى (صاحب الكفاية) حضور تحقيق، وكان فيهما من ابرز الفضلاء يومذاك .

و استقل بعد ذلك فى التدريس على مستوى الدراسات العليا (الخارج)، واستمر في التدريس على هذا المستوى فى الفقه والاصول قرابة ستين سنة في النجف الاشرف، وتخرج على يده خلال هذه الفترة حدود ثلاثة آلاف من الفقهاء والمجتهدين والعلماء. ولا نعرف في فقهائنا في الادوار الاخيرة من امضى ستين عاماً في التدريس على مستوى الخارج (الدراسات العليا).

و درس الأصول دورات عديدة خلال هذه الفترة كما درس اهم ابواب الفقه : (الصلاة دورة كاملة، والاجارة، والقضاء، والشهادات، والغصب، والمكاسب، وغير ذلك من الكتب الفقهية).

و لما كان المحقق العراقي رحمه اللّه بعيداً عن اجواء الزعامة الدينية فقد أتاح اللّه تعالى له فرصة مباركة للتفرغ للعلم تحقيقاً وتدريساً و تأليفاً.

و قد نشأ على يده في هذه الفترة نخبة من فقهائنا المعاصرين الكبار نذكر منهم : المرحوم آية اللّه اليثربي وآية اللّه السيد محمود الشاهرودي، وآية اللّه السيد ابوالقاسم الخوئى، وآية اللّه السيد محسن الحكيم، وآية اللّه الشيخ موسى الخونسارى، وآية اللّه الشيخ حسين الحلى، وآية اللّه الشيخ محمد تقى البروجردى، وآية اللّه السيد يحيى اليزدي، وآية اللّه الميرزا حسن اليزدى، وآية اللّه السيد حسن البجنوردی، وآية اللّه الميرزا هاشم الأملى، وآية اللّه السيد عبداللّه الشيرازي، وآية اللّه الشهيدى التبريزي، وآية اللّه الشيخ

ص: 6

آقا بزرگ الشاهرودي، وآية اللّه السيد عباس الاصفهاني (نجل استاده السيد محمد فشاركي)، وغيرهم من الفقهاء المعاصرين وفحول المحققين، واساطين الفقه والاصول.

و خلَّف المحقق العراقي من بعده مجموعة من المؤلفات العلمية في حقلى الفقه والاصول تتميز جميعاً بالدقة، والعمق والاصالة والمتانة العلمية، نذكر فيما يلى بعضها :

1 - دورة فقهية استدلالية كاملة بعنوان شرح التبصرة.

طبع منها كتاب الطهارة، والصلاة، والزكاة، والخمس، والصوم، والاعتكاف، والقضاء، والشهادات، والمكاسب. ويصدر قريباً ان شاء اللّه سائر مجلدات هذه الدورة الفقهية.

2 - حاشية استدلالية على العروة الوثقى مخطوطة.

- حاشية موسعة على كفاية الاصول لاستاذه المحقق الخراساني يتعرض فيها لاراء صاحب الكفاية.

4 - حاشية على كتاب فوائد الاصول تقريرات بحث المحقق النائيني بقلم المحقق الكاظمي.

و في هذه التعليقات يتناول المحقق العراقى نقاط الاختلاف في الرأى بينه وبين المحقق النائيني. وهذا الكتاب يعتبر مصدرا اساسياً لدراسة وجوه الاختلاف بين المدرستين الاصوليين المعاصرين ( مدرسة المحقق العراقى ومدرسة المحقق النائيني).

5 - مقالات الاصول : خلاصة وافية لاراء المحقق العراق في الاصول في مجلدين.

6 - تعليقه على رسائل الشيخ الانصارى يتعرض فيها لاراء الشيخ الانصاري الكبير (قدس اللّه سره).

و مما يلفت النظر ان المحقق العراقى يطرح فى هذه الكتب الاربعة اراءه الاصولية في أربعة قوالب علمية مختلفة تماماً و ان كان الرأى والتصورات واحدة في الاغلب، وليس في هذه الكتب الاربعة تكراراً للعرض.

7 - كما صدر من تقارير ابحاثه رحمه اللّه فى الاصول (نهاية الافكار) الكتاب الحاضر لآية اللّه الشيخ محمد تقى البروجردي رحمه اللّه و (بدائع الافكار) لآية اللّه الشيخ الميرزا هاشم الآملي حفظه اللّه من فقهاء الحوزتين العلميتين النجف الاشرف و قم المقدسة

ص: 7

واساتذتهما البارزين.

* * *

وقد كان رحمه اللّه كثير الاشتغال، عميق النظر والرأى، يُعَدُّ في القمة من فقهائنا المعاصرين من امثال شريف العلماء، بحاثاً، قوى الحجة، دؤوباً في الاعمال العلمية دائم التفكير، يستغرق في التفكير العلمي، مرتباً من الناحية العلمية. لا يفارقه العمل العلمي تفكيراً، أو تدريساً، او تاليفاً، الا فى اوقات العبادة والراحة. وكان في حياته الشخصية زاهد أقانعاً باليسير من اسباب الحياة المادية، معرضاً عن الدنيا وزينتها، مقبلاً على أعماله العلمية، ورعاً تقياً في حدود اللّه، حلو المعاشرة، خفيف الروح، عذب البيان.

و قد وافاه الاجل في النجف الاشرف 1361 ه. ق و دفن في الضلع الغربي من الصحن الحيدري الشريف.

المحقق البروجردي

اشارة

اما المقرر فهو آية اللّه المحقق الفقيه الشيخ محمد تقى البروجردي رحمه اللّه، ولد في بروجرد، وتلقى مبادئ العلم فى بروجرود، ثم انتقل الى النجف الاشرف في بدايات شبابه، وتلمذ على اساتذتها في السطح.

ثم حضر في ابحاث الخارج دروس المحقق العراقى والمحقق النائيني، وآية اللّه السيد ابوالحسن الاصفهاني رحمهم اللّه وكان حضوره فى هذه الدروس حضور تحقيق، وكان أكثر استفادته من المحقق العراقى فى الأصول وآية اللّه الاصفهاني في الفقه.

كان رحمه اللّه بحاثاً، معروفاً بقوة الرأى ودقة النظر، وسلامة الفكر في مسائل الفقه والاصول. وكان كثير النقاش لاستاذيه العراقي والاصفهاني في مجالس الدرس.

حضر الاصول على المحقق العراقي رحمه اللّه أكثر من أربع دورات كاملة وكتب ابحاث المحقق العراقى فى الاصول ثلاث دورات، كما كتب تقارير ابحاث استاذيه الآخرين المحقق النائيني وآية اللّه الاصفهانى فى الفقه والاصول بصورة متفرقة.

له من المؤلفات:

ص: 8

1 - نهاية الافكار

و هو دورة كاملة لدروس استاذه العراقى فى الاصول، طبع منه في حياته رحمه اللّه المباحث العقلية (ضمن الجزئين الثالث والرابع من الكتاب)، وتحت الطبع الان الجزء الاول والثانى من الكتاب فى مباحث الالفاظ، ويمتاز هذا الكتاب بالاستيفاء الكامل والدقيق لمطالب المحقق العراقى مع سلاسة التعبير و وضوح البيان وهو من هذه الناحية من أفضل الكتب الأصولية التي تجمع بين سلاسة وسهولة التعبير وعمق ودقة المحتوى.

و هذا الكتاب منذ أن صدر منه الجزء الثالث والرابع في النجف الاشرف الى اليوم موضع اهتمام وعناية أساتذة البحث الخارج والفضلاء والطلاب في الحوزات العلمية في الدراسات الاصولية.

2 - حاشية استدلالية واسعة على العروة الوثقى

صدر منه الجزء الاول في النجف الأشرف والجزء الثانى في بيروت ونسأل اللّه تعالى التوفيق لطبع بقية مجلداته. وهذا الكتاب يمثل خلاصة ارائه رحمه اللّه في الفقه.

و فى هذا الكتاب تتجلى مكانة المؤلف الفقهية وقدرته العلمية، كما يتضح للقارى من هذا الكتاب ذوق المؤلف السليم والصافى فى الاستنباط والاجتهاد، وقد انهى رحمه اللّه هذه التعليقات الى كتاب الحج. وتوفى فجأة اثر عارض قلبي عند اشتغاله بكتابة هذه التعليقات فسقط القلم من يده، وأسلم روحه اللّه تعالى. ولما زرت مكتبته الشخصية رحمه اللّه أحببت ان أقرأ آخر كلمة صدرت من قلمه قبل ان يسقط القلم من يده، فتصفحت التعليقة فوجدت ان الكلمة الاخيرة التي كتبها قبل ان يسقط القلم من يده هي: (وقضى آمده وانتهى) وتأتى هذه الجملة بمناسبة طبيعية ضمن الكلام، وبهذه الجملة ينتهي امده رحمه اللّه في هذه الدنيا ويمضى الى ربه الغفور الرحيم.

3 - حاشية فتوائية فارسية على توضيح المسائل مخطوطة
4 - رسالة في الرد على الفرقة البابية، مخطوطة.
5 - رسالة فى منجزات المريض، مخطوطة.
6 - رسالة فى الاجتهاد والتقليد، مطبوعة.

و قد قرأ المرحوم آية اللّه البروجردى هذه الرسالة قبل الطبع فاعجب بها كثيراً، وكان يثني عليها في مجالسه.

ص: 9

7 - رسالة فى إرث الزوجة من الاراضي والعقار، مطبوعة.

و غيرها من المؤلفات الناقصة والكاملة.

و قد عاش رَدْحاً طويلاً من عمره الشريف في النجف الاشرف طالباً، ثم محققاً، وعالماً، ثم مدرساً على مستوى الدراسات العليا - الخارج- ثم هاجر الى قم، و زوال التدريس في الحوزة العلمية في قم.

و كان يحضر ابحاثه نخبة من الفضلاء ثم هاجر الى طهران وتوفى فيها في 24 ذق 1391 ه.ق و دفن في مدينة قم بمقبرة ابوحسين.

و قد كان رحمه اللّه دؤوباً على الدراسة والتحقيق، قوى الحجة في المناقشة، سليم الرأى، بحاثاً ثاقب النظر، عذب البيان.

كما كان معروفاً بالتقوى والاعراض عن الدنيا والزهد فيها، شأنه في ذلك شأن استاذه رحمه اللّه، خفيف الروح، لا يعطى من وقته ونفسه للتكلفات التي يتكلفها الناس عادة فى مثل وضعه وظروفه. وكان كثير الذكر اللّه كثير التلاوة لكتاب اللّه. لا يفوته التهجد فى آناء الليل، طويل الجلوس فى مجالس العبادة والدعاء والذكر، غيوراً على حدود اللّه ومعالم واصول طريقة أهل البيت عليهم السّلام، أبي النفس، مترفعاً عن مغريات الحياة الدنيا، متواضعاً جمّ التواضع.

رحمه اللّه وتغمده برحمة، واسكنه فسيح جنانه، ونفعنا به.

محمد مهدى الآصفي

قم المقدسة في 1 محرم 1405

ص: 10

نهاية الأفكار

«في مباحث الألفاظ»

تقرير أبحاث العلامة المحقق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي طاب ثراه

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الاسلامي (الثابعة)

لجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين واللعنة الأبدية على أعدائهم وغاصبي حقوقهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.

اما بعد فهذا تأليف منيف مشتمل لمهمات الأصول من إفادات شيخنا العلامة الأستاذ الشيخ ضياء الدين العراقي أدام اللّه ظله على رؤوس الأنام مما استفدتها في درسه الشريف ، حسب فهمي القاصر ، واللّه هو الموفق للصواب ، وقد سميتها بنهاية الأفكار (1) ورتبتها على مقدمة ومقاصد وخاتمة اما المقدمة فيذكر فيها أمور :

الامر الأول في بيان تعريف العلم وموضوعه

اشارة

« كما هو المتداول بين أرباب التصانيف »

فنقول وعليه التكلان :

اعلم : بان كل من قنن قانونا أو أسس فنا من الفنون لابد وان يلاحظ في نظره أولا في مقام تأسيس الفن غرضا ومقصدا خاصا ، ثم يجمع شتاتا من القواعد والمسائل

ص: 3


1- الموجود فى النسخة التى بخطه الشريف قدس سره : وقدسميتها بالتحفة الغروية ، الاّ انّه لمّا كان الموجود فى اوّل مباحث القطع - وهو الذى طبع من الكتاب فى زمن حياته قدس سره : بعنوان الجزء الثالث - ان الكتاب موسوم بنهاية الافكار فلذلك غيّرنا ما فى الاصل ايضاً ليتوافق الكلّ. واللّه الموفق للصواب. المصحّح.

الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص ، كما عليه أيضا قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الأول ، حيث إنه قد جرى ديدنهم على تدوين شتات من القواعد الخاصة مما كانت وافية بغرض مخصوص ومقصد خاص لهم وجعلهم إياها فنا خاصا وموسومة باسم مخصوص كالصرف والنحو والهيئة والهندسة والفقه والأصول وغير ذلك.

ومن المعلوم أيضا - كما عرفت انه لايكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن الا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض والمقصد الخاص ومرتبطة به ، دون غيرها من القضايا التي لايكون لها دخل في ذلك الغرض ولا مرتبطة به ، فمن كان غرضه مثلا هو صيانة الفكر عن الخطأ كما في علم المنطق أو صيانة الكلام عن الغلط لابد له من تدوين القضايا والقواعد التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا الغير المرتبطة به ، وعلى ذلك ربما أمكن اشتراك العلمين أو أزيد في بعض المسائل بان كان مسألة واحدة من مسائل العلمين باعتبارين كما سنبينه ( إن شاء اللّه تعالى ).

وعلى كل حال فحقيقة كل فن وعلم عبارة عن نفس تلك القواعد والواقعية والكبريات النفس الامرية المحفوظة في مرتبة ذاتها والمعروضة للعلم تارة وللجهل أخرى ، لا صورها التصورية أو التصديقية ، فكان لعلم النحو والصرف واقع محفوظ في نفس الامر وهي القواعد الخاصة وان لم يكن لها محصل في العالم أصلا ، وبهذا الاعتبار أيضا يقال بان المسألة الكذائية من اجزاء فن دون فن آخر ، فكانت أسامي هذه الفنون كالنحو والصرف والفقه والكلام وغيرها حاكيات عن نفس تلك القواعد الواقعية بأجمعها مع قطع النظر عن ادراكها ومحصلها ، ومن ذلك صح إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى كما في قولك فلان عالم بالنحو والصرف وفلان جاهل بهما ، فلو انه كان العلم والفن عبارة عن العلم بتلك القواعد لما كان مجال لإضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى ، كما لايخفى.

وعلى ذلك فما في بعض التعابير من التعبير عن تلك الفنون بالعلم بها - كقولهم في مقام التعريف : بأن النحو علم بكذا ، وان الصرف علم بكذا - لا يخلو عن مسامحة واضحة ، الا إذا كان ذلك منهم باعتبار وجوده الادراكي الذي هو في الحقيقة إحدى مراتب

ص: 4

وجود الشيء ، كما أنه يمكن ان يكون التعبير بالصناعة أيضا باعتبار استنباط مسائل ذلك الفن ، ولكن حق التعبير في مقام شرح عناوين العلوم هو التعبير عنها بما عرفت بكونها عبارة عن القواعد الخاصة التي لها دخل في الغرض الذي دعى إلى تدوينه ، كالاقتدار على التكلم الصحيح مثلا في علم النحو.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال إضافة الموضوع إلى العلم فإنه على ما ذكرنا لابد وان يراد من العلم في اطلاقه على العناوين الخاصة وإضافة الموضوع الخاص إليه نفس القواعد الواقعية والا فلا معنى لإضافة الموضوع إلى التصديق بها لان معروض التصديق هو النفس ومتعلقه نفس القواعد فلا مجال بعد لإضافة الموضوع الخاص إليه.

كما أنه في إضافة الغاية إليه أيضا لابد وان يراد من العلم هذا المعنى فيما لو أريد من الغرض والغاية ما يترتب على نفس القواعد الواقعية لا الاغراض المترتبة على تحصيل العلم بها لان ذلك لايكون تحت ضبط بل يختلف باختلاف الاغراض الداعية إلى تحصيلها ، فقد لايكون غرض المحصل لعلم النحو مثلا حفظ كلامه عن الخطأ والغلط بل كان غرضه شيئا آخر.

تذكار فيه ارشاد :

اعلم بان المراد من الغرض والغاية في كل شيء هو المقصد الأصلي الذي دعى إلى تحصيل مقدماته للتوصل بها إليه ، ومن ذلك لابد من ترتبه عليها ، وعليه فكما انه لابد في كل فن من غرض وغاية في نظر الجاعل له كذلك لابد وأن يكون ذلك الغرض والغاية مترتبا على قواعد ذلك العلم والفن ، وهذا بحسب أصل الكبرى مما لا اشكال فيه ، نعم انما الكلام في صغرى الغرض الداعي إلى جعل العلم وتمهيد قواعده وانه أي شيء؟

وفى مثله نقول بأنه لو جعلنا الغرض في كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا ، وبعبارة أخرى ، حيث اتصاف ذوات الأعمال القابلة للصدور من فاعلها بالصحة قولا أو فعلا أو استنباطا كاتصاف الكلام هيئة بالصحة في النحو ، ومادة في الصرف ، وافعال المكلفين في الفقه ، ونحو ذلك ، فلازمه هو كون التصحيح المزبور مترتبا على نفس القواعد الواقعية بلا دخل لشيء آخر

ص: 5

فيه أصلا ، إذ القواعد المزبورة حينئذ من مبادئ اتصاف هذه الأمور بالصحة في قبال مبادئ ايجاد هذه الأمور الصحيحة خارجا فارغا عن أصل اتصافها بها فتكون من قبيل المقدمة المنحصرة لتصحيح الأمور المزبورة من دون مدخلية لشيء آخر فيه ، من جهة انه بمجرد جعل القواعد يترتب عليها الاتصاف بالصحة الذي هو الغرض من العلم والفن وان لم يتحقق بعد في الخارج أصلا ، فان مبادئ الوجود غير مرتبط بمبادئ اتصاف الشيء بالصحة ، هذا إذا جعلنا الاغراض من العلوم المتداولة عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا أو غيرها ، ولقد عرفت في مثله ترتب العنوان المزبور بقول مطلق على نفس القواعد الواقعية بلا مدخلية الشيء آخر فيه.

واما لو جعلنا الاغراض عبارة عن وجود الأعمال الصحيحة في الخارج كحفظ الكلام هيئة في النحو ومادة في الصرف وحفظ فعل المكلف في الفقه وحفظ استنباط الاحكام في القواعد الأصولية بل وحفظ استنباط حقايق الأشياء ومعرفتها في مثل قواعد العلوم الفلسفية والرياضية وهكذا ، فلا جرم ما يترتب على القواعد حينئذ لما لايكون الا الحفظ من جهة ، لا الحفظ على الاطلاق ، من جهة وضوح استحالة ترتبة حينئذ على نفس القواعد الواقعية ، بل ولا على العلم بها أيضا لمكان مدخلية إرادة العالم والمحصل لها في ذلك أيضا ، فلابد وأن يكون الغرض والمقصد الأصلي الذي هو مورد ارادته النفسية عبارة عما يترتب على هذه القواعد وليس هو الا الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب عدمه من قبلها ، لا الحفظ بقول مطلق ، من جهة ان ذلك مما يستحيل تمشى الإرادة التوصلية بالنسبة إليه لأنها لاتكاد تتعلق الا بما يترتب على ذيها ، بل ومثل هذا المعنى جار في كل امر كان لإرادة الغير مدخل في تحققه كما في الملكية في البيع مثلا ونحوها ، فإنها من جهة إناطتها في التحقق على ايجاب البايع وقبول المشترى لايكاد تمشى الإرادة والقصد الجدي من البايع في ايجابه إلى حصول الملكية في الخارج بقول مطلق ، بل ما هو المتمشى من قبله لايكون الا التوصل إلى وجود الملكية من ناحية ايجابه الراجع إلى سد باب عدمها من قبله ، لا السد بقول مطلق ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات الشرعية والأحكام التكليفية المتعلقة بأفعال المكلفين حيث إنه لايكون الغرض والمقصود من الايجاب والخطاب أيضا فيها الا حفظ وجود المرام من ناحية ايجابه وخطابه لا الحفظ على الاطلاق ، فان ذلك مما لايكاد ترتبه على مجرد ايجابه وخطابه ،

ص: 6

نظرا إلى مدخلية اختيار المكلف والمأمور وارادته أيضا ، كما هو ظاهر. وحينئذ ففي المقام أيضا بعد أن كان تحقق الكلام الصحيح والاستنباط الصحيح منوطا بإرادة المتكلم والمستنبط المحصل للقواعد فيستحيل كونه هو الغرض والمقصد الأصلي من العلم ، فلابد حينئذ من جعل الغرض والمقصد الأصلي عبارة عما يترتب على الأمور المزبورة وهو لايكون الا الحفظ من جهة لا الحفظ على الاطلاق.

وعلى ذلك فلا مجال لما قد يتوهم من الاشكال في أصل الغرض والغاية للعلم وانكاره ونفى كون تمايز العلوم بتمايز الاغراض من جهة ما يرى من تخلفه كثيرا لأنه كثيرا يتعلم الشخص قواعد النحو والصرف ومع ذلك لايتحقق عنوان الحفظ المزبور من جهة تكلمه غلطا على غير القواعد ولو عن تعمد منه في ذلك ، مع أن الغرض مما لابد منه ومن ترتبه البتة ، إذ فيه ان غاية ذلك انما هو نفى كون عنوان الحفظ عن الخطأ في المقال مثلا غرضا لعلم النحو مثلا ، لا نفى أصل الغرض والغاية للعلم كلية ، كيف وقد عرفت بأنه مما لابد منه في كل فن ليكون هو الداعي والباعث على تمهيد قواعده ، على أنه نقول بعدم اضرار ذلك أيضا في كون الحفظ المزبور هو الغرض الداعي على جعل قواعد العلم ، وذلك لما عرفت بان الغرض في أمثال هذه النتائج التي فيها مدخلية لإرادة الغير ليس الا الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب عدمه من ناحية تلك القواعد لا الحفظ على الاطلاق حتى من ناحية غيرها ، ومثل ذلك أيضا كما عرفت مما لايكاد تخلفه على كل حال ، حيث إنه بمجرد تمهيد القواعد يترتب عليها الحفظ من جهة ، ولو لم يكن لها محصل في العالم أصلا أو كان لها محصل ولكنه لم يتحقق في الخارج من جهة تعمد المحصل لها على التكلم غلطا على خلاف قواعد النحو والصرف ، كما هو ظاهر ، خصوصا مع امكان جعل الغرض والمقصد الأصلي من كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا الذي هو مترتب لا محالة بقول مطلق على نفس القواعد بلا دخل لشيء آخر فيه.

وعلى كل حال فسواء جعلنا الغرض في العلوم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها أو عنوان الحفظ على ما شرحناه ، فلاينبغي الاشكال في عدم كون دخل القواعد فيه من باب دخل المؤثر في المتأثر بنحو كان بينهما المؤثرية والمتأثرية ، بل وانما هو من باب دخل طرف الإضافة وما تقوم بها لنفس الإضافة والمضاف بوصف كونه

ص: 7

مضافاً ، فان عنوان الحفظ المزبور والصحة المسطورة انما هو منتزع من تطبيق من يطبق القواعد المعهودة من كل علم على ما ينسب إليه الحفظ المزبور والصحة المسطورة ، فالقواعد الواقعية في الحقيقة منطبقة على مواردها ومن هذا الانطباق ينتزع العنوانان ، والا فالمؤثر في وجود الأعمال الصحيحة خارجا انما هو إرادة الفاعل لايجاد الأعمال الصحيحة ، وعلى ذلك فكانت القواعد الواقعية طرا طرفا لهذه الإضافة ، وكان للحفظ المزبور أيضا جهات عديدة تترتب كل جهة على قاعدة من تلك القواعد بلحاظ مطابقتها معها ، كما في صحة الصلاة مثلا وحفظها ، حيث إن صحتها انما هي بلحاظ مطابقتها باجزائها وشرائطها لتلك القواعد المجعولة في باب الصلاة الراجعة بعضها إلى اجزائها وبعضها إلى شرائطها وموانعها ، فمن مطابقتها بجهاتها الراجعة إلى اجزائها وشرائطها لمجموع تلك القواعد ينتزع عنها عنوان الصحة ، كما أن من عدم مطابقتها لمجموعها ينتزع عنها عنوان الفساد ، وهكذا الكلام في عنوان حفظ لكلام عن الغلط الذي جعل غرض العلم النحو ، حيث إنه كان لعنوان الحفظ المزبور جهات عديدة وإضافات متعددة إلى كل قاعدة من قواعد الفن إضافة خاصة ، وكان انتزاع عنوان الحفظ المسطور من مطابقة الكلام لمجموع تلك القواعد الواقعية ، وحينئذ فإذا كانت القواعد الواقعية على شتاتها طرفا للإضافة بالنسبة إلى الغرض فلا جرم لايكاد يكون دخلها في الغرض الا بنحو دخل طرف الإضافة في المضاف بوصف كونه مضافا ، لا دخلا تأثيريا ، كما هو واضح.

نعم لو حصلت تلك القواعد وبلغت إلى مرحلة الوجود الادراكي ربما تصير في مثله سببا لحصول الغرض تارة وشرطا له أخرى ، فإنه لو كانت القواعد من القواعد الفكرية كقواعد المنطق فما يترتب عليها حينئذ من صحة الفكر وصونه عن الخطأ كان قهريا ، بخلاف ما لو كانت من غيرها كقواعد النحو والصرف فان ما يترتب عليها حينئذ انما كان مجرد الاقتدار على التكلم الصحيح والاستنباط الصحيح والا فنفس التكلم الصحيح وتحققه في الخارج منوط بإرادة المحصل لها.

ثم إن ذلك أيضا في مرحلة تحصل تلك القواعد ذهنا ، والا فمع قطع النظر عن ذلك فكما عرفت لا سببية ولا مسببية بينهما بل لايكون بينهما إلا مجرد الإضافة.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا لم يكن دخل القواعد الواقعية في الغرض الا من قبيل دخل طرف الإضافة كما شرحناه ، لا من قبيل المؤثرية والمتأثرية فلا يبقى مجال كشف جامع

ص: 8

وحداني بين الشتات المتفرقة بالبرهان المعروف بمحض وحدانية الغرض القائم بها ، بخيال ان الغرض إذا كان واحدا فلابد بمقتضى برهان - امتناع تأثر الواحد بما هو واحد عن المتعدد بما هو كذلك - من كشف جامع وحداني بين تلك الشتات ليكون تأثيرها في ذاك الغرض الوحداني باعتبار ذاك الجامع الساري المحفوظ في ضمنها ، إذ نقول بان ما أفيد لو تم فإنما هو في فرض كون النسبة بين الغرض والقواعد من قبيل المؤثرية ، والا فعلى فرض كونها من قبيل طرف الإضافة فلا مجال لجريان البرهان المزبور ، كي يلتجأ بذلك إلى تخريج جامع وحداني بين قواعد العلم فيجعل ذلك الجامع المستخرج من بين الشتات المتفرقة عند عدم جامع صوري بينها هو الموضوع للعلم والفن.

وثانيا على فرض كون دخلها في الغرض بنحو المؤثرية نمنع أيضا اقتضاء البرهان المزبور في المقام لتخريج الجامع الوحداني بينها بمحض وحدة الغرض القائم بها ، وذلك لوضوح ان مجرد وحدة الغرض وجودا ولو مع اختلاف الجهات فيه غير موجب للزوم وحدة سنخية بين الشتات المختلفة من جهة انه من الممكن حينئذ ان تكون تلك القواعد على شتاتها كل واحدة منها مؤثرة بخصوصيتها في جهة خاصة من ذلك الغرض دون جهة أخرى ولا برهان يقتضى استحالة مثل ذلك ، نعم لو كان الغرض بسيطا محضا غير ذي جهات أمكن بمقتضى البرهان المزبور المصير إلى تخريج جامع وحداني بين شتات القواعد ، ولكن على ذلك لايختص الجامع المزبور بين موضوعات المسائل ، بل لابد حينئذ من انتزاع الجامع بين المحمولات بل وبين المحمولات والموضوعات أيضا.

ولكنه أنى ينتهى الامر في أمثال المقام إلى ذلك كي يصار لأجله إلى كشف جهة جامعة بين الموضوعات المختلفة عند عدم جامع صوري بينها من باب الاتفاق ، وجعلها موضوعا للعلم ، ويصار بذلك أيضا إلى كون تميز العلوم بعضها عن الآخر بتمايز موضوعاتها ، كيف وان غالب العلوم لايكون فيها جامع صوري بل ولا معنوي بين موضوعات مسائلها كما في كثير من مسائل الفقه لمكان كون النسبة بين بعضها والبعض الآخر من قبيل الوجود والعدم كما في الصلاة بالقياس إلى الصوم ، فان من المعلوم انه لا جامع متصور بينهما ولو معنويا بعد كون الصوم عبارة عن نفس الترك ومجرد ان لا يفعل بشهادة صحة الصوم فيما لو تبيت في الليل ونام إلى الغروب بخلاف الصلاة التي هي من الأمور الوجودية فأي جامع متصور حينئذ بين الوجود والعدم. بل وكذلك الامر بالنسبة

ص: 9

إلى نفس الصلاة التي هي مركبة من مقولات متعددة متبائنة كالفعل والإضافة ونحوها ، وهكذا غيرها من مسائل الفقه المغايرة بعضها مع البعض الآخر موضوعا ومحمولا مع معلومية عدم تصور جامع قريب بينها. وهكذا الكلام في الكلمة والكلام في علم النحو نظراً إلى وضوح تقوم الثاني بنسبة معنوية خارجة عن سنخ القول واللفظ فلايمكن حينئذ دعوى كون الجامع بينهما هو ما يتلفظ به من اللفظ والقول ، مع فرض تقوم الكلام بأمر معنوي خارج عن سنخ اللفظ. وهكذا التصور والتصديق والفصاحة والبلاغة.

وكذا الكلام في علم الأصول فان من البداهة انه لا جامع متصور فيها من جهة ان عمدة مسائلها انما هي حجية الامارات الملحوظ فيها جهة الإرائة والكاشفية عن الواقع والأصول الملحوظ فيها جهة عدم الإرائة عن الواقع والسترة عنه ، ولا جامع بين الإرائة واللارائة عن الواقع في طرفي النقيض.

وحينئذ فأين الموضوع الوحداني في هذه العلوم يمتاز به بعضها عن البعض الآخر كي يبقى مجال القول بكون ميز العلوم بقول مطلق بتمايز موضوعاتها ، خصوصا بعد ما يرى من تعريفهم إياه بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، فإنه فيما ذكرنا من العلوم لايتصور موضوع وحداني فيها حتى يكون البحث عن عوارضه الذاتية ، لأنه إذا نظرنا إلى موضوعات مسائلها المعروضة للعوارض المبحوث عنها في العلم نرى بأنها لا تكون الا عبارة عن المتكثرات بلا جامع ذاتي بينها ، واما الجامع العرضي فهو وان كان متصورا فيها ولكنه لايكون مثل هذا الجامع العرضي الانتزاعي معروضا لعارض حتى يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، كما هو ظاهر.

نعم قد يكون لبعض العلوم موضوع وحداني سار في موضوعات مسائله بنحو تكون الخصوصيات المأخوذة في مسائله على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات الموضوع المزبور مستقلا ، نظير الفاعلية والمفعولية بالإضافة إلى عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة ، كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية كعلم الحساب المبحوث فيه عن الاعراض الطارية عن ذات العدد ككون العدد منطقا أو اصم وكالجمع والتفريق والضرب وأعمال الكسور ، وكعلم الهندسة المتعرض للوازم المقدار العارضة عليه غالبا بنفسه كمبحث الاشكال والنظريات من الهندسة ونحو ذلك ، فإنه في أمثال هذه العلوم أمكن دعوى وجود موضوع وحداني للعلم مبحوث فيه عن عوارضه

ص: 10

الذاتية فأمكن من هذه الجهة دعوى كون امتيازها عن غيرها بميز موضوعاتها المتخالفة بنحو التباين أو العموم والخصوص خصوصا بعد كون غاياتها غالبا من سنخ واحد بملاحظة كونها عبارة عن استنباط حقايق الأشياء بلوازمها.

ولكن مثل هذه الجهة لا توجب جرى جميع العلوم على منوال واحد حتى مثل العلوم الأدبية والنقلية التي هي في تمام المعاكسة مع العلوم العقلية ، لأنها كما عرفت علاوة عن عدم تصور الموضوع الوحداني لها كانت غاياتها أيضا في كمال الامتياز عن الآخر من حيث الاختلاف بحسب السنخ كما في حفظ الكلام عن الغلط في علم النحو ، حيث إنه سنخ غير مرتبط بحفظ الفكر عن الخطأ الذي هو الغرض في علم المنطق ، وهكذا حفظ فعل المكلف وحفظ الاستنباط وغير ذلك.

بل ولئن تدبرت ترى بان الامر كذلك في العلوم العقلية أيضا حيث إن غاياتها أيضا مختلفة بحسب السنخ وان كان في بدو النظر يرى كونها من سنخ واحد.

وعلى ذلك فكان الحري الحقيق ان يقال في وجه تمايز العلوم بان ميزها انما هو من جهة الاغراض الداعية على تدوينها ، لا انه من جهة تمايز موضوعاتها ، وان وحدة العلم وتعدده انما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدده ، وعليه فمتى كان الغرض والمهم واحدا كانت القواعد الدخلية في ترتب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علم واحد وكانت تفرد بالتدوين وان كانت متعددة موضوعا ومحمولا ، كما أنه لو كان الغرض والمهم متعددا يكون تكثر العلوم حسب تكثر الاغراض وعليه فلو أراد من هو بصدد تدوين العلم والفن في علم العربية وكان غرضه الاطلاع على جميع خصوصيات ألفاظ العرب مما يرجع إلى مادة اللفظ وهيئته ، فعند ذلك لابد بمقتضى ما ذكرنا من جعل العلوم العربية كلها علما واحدا وان يفردها بالتدوين أيضا ، وان كان لغرضه ذلك جهات متعددة راجعة بعضها إلى مادة الكلمة وبعضها إلى هيئتها وبعضها إلى هيئة الكلام ، إذ حينئذ يكون البحث في كل جهة من تلك الجهات في الحقيقة بابا من ذلك العلم لا علما مستقلا ، كما أنه لو تعلق غرضه بالتكلم الصحيح من حيث خصوص الاعراب والبناء لابد وان يجعل النحو علما برأسه في قبال الصرف ونحوه من العلوم العربية ، وليس له جعل العلوم العربية كلها علما واحدا ، وهكذا الكلام في غيره من العلوم. فحينئذ لابد من ملاحظة سعة دائرة الغرض وضيقها في وحدة العلم وتعدده ، وعليه أيضا ربما تكون المسألة الواحدة

ص: 11

مع وحدتها باعتبار دخلها في مهمين أو أزيد من مسائل علمين أو أكثر ، فمن جهة وفائها بهذا الغرض تكون من مسائل هذا العلم ، كما أنه من جهة أخرى تكون من مسائل علم آخر ، كما أنه ربما تكون المسائل المتعددة مع اختلافها وشتاتها بلحاظ دخلها في غرض واحد ومهم فارد من مسائل علم واحد.

وحينئذ فصح لنا بعد البيان المزبور دعوى ان تمايز العلوم بقول مطلق بتمايز الاغراض الداعية على تدوينها لا بتمايز موضوعاتها. ولئن أبيت من ذلك فلك ان تجعل العلوم صنفين صنف منها لايكون امتيازها الا باغراضها كما في العلوم الأدبية والنقلية ، وصنف منها يكون امتيازها بتمايز موضوعاتها كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية ، بناء على ما تقدم من امكان دعوى وجود موضوع وحداني فيها سار في موضوعات مسائلها بنحو كانت الخصوصيات المأخوذة فيها على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات ذلك الموضوع الوحداني ، لأجرى الجميع حتى الأدبية والنقلية على منوال واحد والقول بان ميز العلوم كلية بميز موضوعاتها.

وعليه أيضا لابد من التفرقة والتفصيل في العلوم أيضا في وجه نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله بجعل النسبة بينها في مثل العلوم الرياضية بنحو الاتحاد ومن قبيل نسبة الكلى إلى افراده والطبيعي ومصاديقه ، وفى مثل العلوم الأدبية والنقلية بنحو العينية ومن قبيل نسبة الكل إلى اجزائه ، لأجرى جميع العلوم في ذلك على منوال واحد والقول بان النسبة بين موضوع العلم وموضوعات المسائل بقول مطلق على نحو الاتحاد كما في الكلى وافراده والطبيعي ومصاديقه ، كما افاده في الكفاية. كيف وقد عرفت بأنه في كثير من العلوم كالعلوم الأدبية والنقلية وغيرها لايكون الموضوع فيها الا عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها ، بملاحظة عدم تصور موضوع وحداني فيها ولو معنويا بحيث يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية. واما تلك الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية عليها من قبل وحدة الغرض القائم بالمجموع فهي كما عرفت غير مجدية فيما هو المقصود والمهم ، لان موضوع العلم كما عرفوه عبارة : عما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، ومثل هذه الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية لاتكاد تكون معروضة لعرض ولا مبحوثا عنها في العلم عن عوارضها الذاتية ، كما هو ظاهر.

ص: 12

في شرح العرض الذاتي

وحيث اتضح لك ما شرحناه في شرح موضوع العلم فلنعطف الكلام إلى بيان العوارض الذاتية الواقعة في كلماتهم في تعريفهم موضوع العلوم بأنه : ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، حيث إنه قد اختلف كلماتهم في مقام شرح المراد من العرض الذاتي ، فنقول وعليه التكلان :

ان توضيح المرام في المقام يحتاج إلى تمهيد مقدمة ، وهي ان الأوصاف المنسوبة إلى الشيء تارة يكون انتزاعها عن نفس ذات الشيء بلا جهة خارجية في البين زائدة عن ذات الموصوف كما في الأبيضية والأسودية المنتزعين عن البياض والسواد وكالموجودية المنتزعة عن الوجود ، وأخرى يكون انتزاعها عن جهة خارجة عن ذات الموصوف. وعلى الأخير فتارة يكون اتصاف الموصوف بالوصف من جهة اقتضاء ذاته كما في توصيف العقل بالمدركية والانسان بقوة الضحك والتعجب ، وأخرى يكون ذلك باقتضاء امر خارجي على نحو السببية والعلية المعبر عنه باصطلاح الأصول بالمقتضى أو على نحو الشرطية بلا اقتضاء لذلك في نفسه كما في حركة اليد لحركة المفتاح وكالمجاورة في عروض الحرارة من النار للماء. وعلى الأخير فتارة لايكون ذلك الامر الخارجي بنفسه معروضا لذلك العرض أصلا بل وانما كان شأنه مجرد السببية لعروض الوصف والعرض على الشيء كما في نحو المجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء مستقلا ، ومثله كلية الجهات التعليلية الموجودة لعروض الوصف على شيء واتصافه به كالفاعلية والمفعولية ونحوهما في عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة ، وأخرى بعكس ذلك بان كان الامر الخارجي - وهو الواسطة بنفسه معروضا للعرض. وعلى الأخير فتارة يكون ذو الواسطة أيضا معروضا للعرض المزبور ولو ضمنا كما في خواص النوع فإنه في مثل ذلك يكون العرض المزبور عارضا للجنس أيضا غايته بنحو الضمنية لا الاستقلالية ، ومن ذلك أيضا كلية الاعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقيدية نظير الوجوب العارض للصلاة بخصوصية عنوانها ، وهكذا غيرها ، فان مثل ذلك ملازم لعروض العرض وهو الوجوب لفعل المكلف الذي هو بمنزلة الجنس ولو ضمنا لا استقلالا ، وأخرى يكون تمام

ص: 13

المعروض للعرض والوصف حقيقة هو الواسطة بلا عروضه لذي الواسطة أصلا ولو بنحو الضمنية ، كما في الخواص المترتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى جنسها ، كالمدركية للكليات وللأمور الغريبة ، حيث إن تمام المعروض لها حينئذ انما هي جهة الفصلية خاصة دون جهة الجنسية ولو بنحو الضمنية. وذلك أيضا تارة على نحو يكون الوصف قابلا للحمل على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه كما في المثال المتقدم في الخواص العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس ، حيث إن مثل المدركية وان لم تكن بالدقة حقيقة عارضة على الجنس بل كان تمام المعروض لها هي جهة الفصلية التي هي أجنبية عن جهة الجنسية مع ما كان بينهما من الاتحاد في الوجود وعدم تحصله الا بالفصل ، ولكنه بملاحظة قابلية الفصل الذي هو الواسطة للحمل على الجنس صح بهذا الاعتبار حمل خواصه عليه أيضا في مثل قولك : بعض الحيوان مدرك الكليات ، ومن ذلك أيضا حمل الضحك والتعجب على الحيوان بناء على كونها من خواص فصله ، حيث إن صحة حملها على الحيوان في قولك بعض الحيوان ضاحك أو متعجب ، انما هو بتبع حمل فصله عليه ، والا فلايكون جهة الجنسية والحيوانية معروضة لهما ولو على وجه الضمنية بوجه أصلا ، وأخرى على نحو لايكون قابلا للحمل على ذي الواسطة نظراً إلى عدم قابلية الواسطة المعروضة للوصف للحمل على ذيها ، وذلك كما في السرعة والبطؤ العارضين على الحركة العارضة للجسم ، وكالاستقامة والانحناء العارضين للخط القائم بالجنس ، فان الوصف في الأمثلة المزبورة علاوة عن عدم عروضها على ذي الواسطة لايكون قابلا للحمل عليه أيضا نظراً إلى عدم صحة حمل الواسطة عليه ، حيث لايقال الجسم حركة أو خط ، فكما لايصح القول حينئذ بان الجسم حركة أو خط لايصح القول أيضا بأنه سرعة أو بطؤ.

وحيثما عرفت هذه فنقول : انه لا اشكال حسب ما يستفاد من كلماتهم في شرح الاعراض الذاتية في دخول ما عدا الثلاثة الأخيرة في الاعراض الذاتية فان تخصيص العرض الذاتي بما كان المقتضى للعروض فيه هو نفس ذات الشيء بلا واسطة لا في الثبوت ولا في المعروض أو تعميمه بما يعم ذلك وما يحتاج إلى الواسطة في الثبوت بالمعنى الذي ذكرناه دون الواسطة في العروض ، مع أنه بعيد غايته ، ينافي ما هو المصرح به في كلماتهم من عموم المراد من العرض الذاتي لما يحتاج إلى الواسطة في العروض أيضا بنحو الجهة التعليلية الموجبة لعروض الوصف على نفس الذات مستقلا واتصافها به

ص: 14

حقيقة كالمجاورة للنار بالنسبة إلى عروض الحرارة للماء وكالفاعلية والمفعولية الموجبة لعروض الرفع على ذات الكلمة. وحينئذ فلا اشكال في دخول ذلك أيضا في المراد من العرض الذاتي المبحوث عنه في العلم.

كما لا اشكال أيضا في خروج القسم الأخير من الأقسام الثلاثة الأخيرة عن العرض الذاتي ودخوله في الاعراض الغريبة وهو ما كان تمام المعروض له مستقلا هو الواسطة دون ذيها مع عدم قابلية للحمل على ذي الواسطة أيضا ، كما مثلنا به في مثال السرعة والبطؤ العارضين للحركة العارضة على الجسم ، والانحناء والاستقامة العارضين على الخط القائم بالجنس ، فان مثل هذه العوارض كما عرفت مع عدم عروضها على ذي الواسطة لا تكون قابلة للحمل عليه أيضا.

نعم انما الكلام والاشكال في القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة الأخيرة في كونهما من الاعراض الذاتية أو الغريبة ، وهما صورة كون العروض على الواسطة مستقلا وعلى ذيها ضمنا ، كالأعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقييدية وكالعوارض الثابتة للنوع بالقياس إلى الجنس ، وصورة كون العروض حقيقة وبالدقة على الواسطة دون ذيها ولو على نحو الضمنية مع قابلية حمل الوصف على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه ، كما مثلنا له بالخواص المرتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس كالمدركية للكليات. ومبنى الاشكال فيهما انما هو من جهة عدم تنقيح المراد من العرض الذاتي وان المدار في كون شيء عرضا ذاتيا هل على مجرد اتحاد معروض العارض مع ذي الواسطة وصحة حمل العرض عليه بالحمل الشايع الصناعي ولولا يكون ذو الواسطة الذي يحمل عليه العرض معروضا له حقيقة بل كان تمام المعروض له هو الواسطة ، أو انه لابد من كون العرض ثابتا له حقيقة وبالدقة وعلى نحو الاستقلال؟ فعلى الأول يدخل القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة الأخيرة أيضا في العرض الذاتي ، بخلافه على الثاني فإنه يدخلان حينئذ في الاعراض الغريبة.

ولكن الذي يظهر من جماعة كصاحب الاسفار وغيره دخولهما في الاعراض الغريبة حيث قال فيما حكى عنه في مقام تميز الاعراض الغربية عن الذاتية ما مضمونه : ان كل عرض ثابت لنوع متخصص الاستعداد من غير ناحية هذا العرض فهو من الاعراض الغريبة المبحوث عنها في علم آخر يكون هذا النوع موضوعه وكل عرض ثابت لشيء

ص: 15

بنحو يكون هذا العرض موجبا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو من الاعراض الذاتية. ونحوه كلام غيره : بان الاعراض الثابتة لعناوين خاصة بخصوصيات منوعة لابد وان يبحث عنها في علم يكون هذا العنوان الخاص موضوعه ولا يبحث في علم آخر يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بنحو العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد ونحو ذلك. فان مقتضى كلامهم هو عدم الاكتفاء في العرض الذاتي على مجرد عروض العارض على الشيء ولو ضمنا كما في الاعراض الثابتة للنوع العارضة على الجنس أيضا بنحو الضمنية ، ولازمه الاشكال في الاكتفاء بصرف صحة حمل العارض على الشيء بالحمل الحقيقي وصرف اتحاد معروض العرض وهي الواسطة وجودا مع ذيها مع كون تمام المعروض للعرض مستقلا هي الواسطة بطريق أولى ، فإنه إذا كان الاعراض الثابتة للنوع والمقيد والخاص بالنسبة إلى جنسه ومطلقه وعامه من الاعراض الغريبة مع صدق العروض فيها على الجنس والمطلق والعام بنحو الضمنية فكونها من الاعراض الغريبة في صورة عدم صدق العروض على ذي الواسطة ولو ضمنا انما كان بطريق أولى.

وعليه يمكن ان يقال بدخول مثل هذه العوارض الثابتة للعناوين بجهات تقييدية كالأعراض الثابتة للنوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه ومطلقه والاعراض الثابتة للفصل بالقياس إلى جنسه في الاعراض الغريبة ، وان تمام المدار في العرض الذاتي للشيء هو كونه ثابتا له دقة وعلى نحو استقلال ولو بجعل الخصوصيات المأخوذة فيه من الجهات التعليلية كما عرفت في مثل الفاعلية لعروض الرفع على ذات الكلمة - لا من الجهات التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع بخصوصية منوعة ، من غير فرق بين ان يكون ثبوت العرض والوصف له بلا واسطة امر خارجي أو معها ، ولابين كون الامر الخارجي الذي هو الواسطة مساويا أو أعم أو أخص. كما أن المدار في العرض الغريب انما هو على صحة سلب العارض حقيقة في مقام العروض وعلى نحو الاستقلال عن ذي الواسطة ، كان تمام المعروض للعرض هو خصوص الواسطة أم لا بل كان ذوها أيضا معروضا له على نحو الضمنية ، كما في موارد كون الواسطة من الجهات التقييدية ، من غير فرق فيه أيضا بين كون الواسطة التي هي من الجهات التقييدية مساوية أو أعم أو أخص. فعلى جميع التقادير مهما كان العرض قائما حقيقة بالواسطة كان نسبته إلى ذي الواسطة من

ص: 16

الاعراض الغريبة.

وحينئذ فعلى كان تقدير لا مجال للقول بالتفصيل بين كون الواسطة مساوية وبين كونها أعم أو أخص بل لابد من ملاحظة كون الواسطة من الجهات التعليلية الموجبة لعروض الشيء على شيء أو من الجهات التقييدية الموجبة لصحة سلب العروض على نحو الاستقلال عن الجامع بينها ، فعلى الأول يكون العرض المنسوب إلى الشيء من الاعراض الذاتية وعلى الثاني يكون من الاعراض الغريبة لذلك الشئ.

وبذلك ربما ظهر أيضا دفع ما ربما يتوهم من الاشكال : بان موضوع المسائل بالقياس إلى موضوع العلم انما كان من قبيل النوع والجنس والمقيد والمطلق فعلى القول بكون العرض الثابت للنوع بالنسبة إلى جنسه عرضا غريبا يلزم كونها من الاعراض الغريبة لا الذاتية مع أنه ليس كذلك قطعا. إذ نقول : بأنه كذلك فيما لو كانت الخصوصيات المأخوذة في موضوعات المسائل من قبيل الجهات التقييدية الدخيلة في المعروض كي تكون المسألة بذلك بالنسبة إلى موضوع العلم من قبيل النوع بالنسبة إلى جنسه ، ولكنه ليس الامر كذلك بل وانما كانت الخصوصيات المأخوذة فيها من قبيل الجهات التعليلية نظير الفاعلية والمفعولية الموجبة لطرو الرفع والنصب على ذات الكلمة ، ومعه فيخرج موضوع المسائل عن النوعية. ثم إن ذلك أيضا في صورة تخريج موضوع وحداني للعلم والا فمع عدم تخريج الموضوع الوحداني - كما في العلوم العربية والنقلية وغيرها كما عرفت - فلا يضر أيضا جهة كون الخصوصية المأخوذة في موضوع المسألة من الجهات التقييدية في كون العرض عرضا ذاتيا ، إذ حينئذ ليس هناك موضوع وحداني للعلم كي يجيء الاشكال المزبور ، وانما كان الموضوع فيه عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها ، وفي مثله لابد من ملاحظة شخص المحمول في كل قضية قضية بالنسبة إلى شخص الموضوع في تلك القضية في ثبوته حقيقة وبالدقة على الاستقلال لشخص ذاك الموضوع أم لا ، وعليه فلا يشكل علينا في مثل الوجوب العارض للصلاة التي هي فعل المكلف بخصوصية عنوانها ، بل وانما الاشكال على القول بتخريج الموضوع الوحداني بين موضوعات المسائل وجعل موضوع الفقه عبارة عن نفس فعل المكلف ، فإنه عليه يكون نسبة الفعل إلى عنوان الصلاة من قبيل نسبة الجنس إلى نوعه فيتوجه الاشكال حينئذ من جهة عدم كون الموضوع الذي هو فعل المكلف مستقلا في مقام المعروضية للوجوب ، من جهة ما هو المفروض من كون

ص: 17

معروض تلك الأحكام انما هو فعل المكلف بما هو متخصص بخصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها ، وان جهة الصلوتية والحجية أيضا كانت تحت الحكم. ومن ذلك ظهر انه لا يجديه أيضا ضم حيثية الاقتضاء والتخيير ، إذ نقول : بأنه ان أريد بذلك اقتضاء الفعل مستقلا ففساده واضح من جهة بداهة مدخلية خصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها لعروض الوجوب أو الحرمة ، وان أريد به اقتضائه ولو بنحو الضمنية فغير مثمر ، إذ يعود حينئذ الاشكال المزبور من لزوم كون العرض بالنسبة إلى الجامع في ضمن العناوين الخاصة وهو ذات فعل المكلف من العوارض الغريبة. واما الالتزام بكفاية مجرد كون الشيء معروضا للعرض ولولا بنحو الاستقلال بل بنحو الضمنية في كونه عرضا ذاتيا له ، فمع انه مناف لما هو المصرح به في كلماتهم من كون مثله من العرض الغريب ، يلزمه ادخال مسائل العلوم السافلة في العلوم العالية التي يكون موضوعها من قبيل الجنس والمطلق بالنسبة إلى موضوع علم السافل ، كما في علم الهندسة الذي يكون الموضوع فيه وهو المقدار من قبيل الجنس للجسم التعليمي الذي هو موضوع علم المجسمات. فمن ذلك لابد من جعل العنوان المزبور من العناوين المشيرة إلى العناوين الخاصة التي هي موضوعات المسائل ، ومعه فيخرج عن الوحدة وينطبق على ما ذكرناه.

في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه

ثم انه بعد ما اتضح ما ذكرناه نقول : بأن فن الأصول بعد أن كان عبارة عن جملة من القواعد خاصة الوافية بغرض مخصوص كان من جملة العلوم ، وان موضوعه أيضا عبارة عن نفس موضوعات مسائله على اختلافها وشتاتها ، من دون احتياج إلى اتعاب النفس في تخريج الموضوع الوحداني له ، خصوصا بعد ما يرى من عدم الطريق إلى كشف الجامع الوحداني المعنوي بينها بعد فرض كون الغرض ذا جهات عديدة ، بل وعدم امكانه أيضا مع رجوع مسائل الأصول إلى صنفين : صنف لو حظ فيها الحكاية والكشف عن الواقع وهو الامارات ، وصنف لو حظ فيه عدم الإرائة وحيث السترة للواقع وهو الأصول ، من جهة ما عرفت من عدم تصور جامع ذاتي بين هذين الصنفين باعتبار رجوعه إلى الجامع بين النقيضين.

ص: 18

كعدم الاحتياج أيضا إلى اتعاب النفس بجعل الموضوع فيه عبارة عن عناوين متعددة : تارة الأدلة الأربعة فارغا عن دليليتها كما عن القوانين ، وأخرى ذوات الأدلة الأربعة كما عن الفصول قدس سره كي يورد على الأول بلزوم خروج كثير من مهمات المسائل الأصولية كمبحث حجية الكتاب وحجية الخبر الواحد ، وعلى الثاني بلزوم خروج مباحث الألفاظ طرا كالبحث عن أن الامر للوجوب والبحث عن العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق أيضا ، بل وخروج مبحث حجية خبر الواحد أيضا ، نظراً إلى عدم كون البحث المزبور عن كون الامر حقيقة في الوجوب والنهى في الحرمة وعن العموم والخصوص عن الأوامر والعمومات الواردة في الكتاب والسنة ، وعدم كون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن حال السنة الواقعية التي هو قول المعصوم وفعله وتقريره. وارجاعه إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد كثبوتها بالمتواتر غير مفيد ، من جهة ان البحث عن ثبوتها حقيقة ليس من عوارضها واما تعبدا فمن عوارض مشكوكها لا من عوارض السنة الواقعية.

كما أنه لا وجه أيضا لاتعاب النفس في تخريج الجامع الوحداني بين مسائله ببعض التكلفات. ولئن أبيت الا من لزوم جامع في البين بين المسائل ولو بنحو المشيرية لكان الأولى هو ان يقال : بأنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العلمية شرعية كانت أم عقلية ، لان ذلك هو المناسب أيضا لما هو الغرض الباعث على تدوينها ، وهو استنباط الاحكام والوظائف الفعلية.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في تعريفه أيضا وانه لا وجه لما هو المعروف من تعريفه : بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، وذلك لما فيه من الخلل من جهات : تارة من جهة اخذ العلم في تعريفه مع أن العلم والفن كما عرفت عبارة عن نفس القواعد الواقعية الوافية بغرض مخصوص دون العلم والتصديق بها ، بشهادة صحة إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى في قولك فلان عالم بالأصول وفلان جاهل به. وأخرى من جهة لفظ الاستنباط الظاهر في إرادة وقوع القواعد واسطة لا ثبات الواقع وسببا للعلم به ، فإنه حينئذ يلزمه خروج الأصول العلمية كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها عن مسائل الأصول مع أنها من أهم مسائله ، من جهة ان مضمون هذه الأمور لايكون الا أحكاما ظاهرية منطبقة على مواردها ، وقضية الاستنباط فيها انما كان عبارة عن مقام تطبيقها

ص: 19

على مواردها بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي واليأس عنه ، وأين ذلك ومقام وقوعها طريقا وواسطة لا ثبات الحكم الشرعي. نعم ونفس تلك القواعد تكون مضامينها أحكاما كلية ظاهرية مستنبطة من الامارات الحاكية عن الواقع كالأحكام الفرعية ، ولكن ذلك غير مرتبط بمقام تطبيقها على الموارد في مقام العمل ، بل ويلزمه أيضا خروج الامارات كخبر الواحد ونحوه بناء على القول بكون مفاد دليل الحجية فيها هو تنزيل المؤذي وجعل المماثل في الظاهر ، فإنه على هذا القول أيضا يلزم خروج الامارات عن مسائل الأصول بلحاظ عدم وقوعها في مقام تشكيل القياس وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، نعم بناء على القول بتتميم الكشف كما هو المختار يدخل مبحث الأمارات في التعريف المزبور لوقوعها حينئذ وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، حيث تقع وسطا في القياس ، فيقال : ان هذا مما قام على وجوبه خبر الواحد وكل ما هو كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا فهذا منكشف ، فتكون حينئذ من القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.

وثالثة من حيث التقييد بالشرعية ، إذ يخرج حينئذ كثير من المسائل الأصولية أيضا كالبرائة والاشتغال العقليين ومسألة الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في غيره من التعاريف الاخر التي أفادوها في المقام في ميزان كون المسألة أصولية ، ككونها مما يتعلق بالعمل مع الواسطة في قبال المسائل الفقهية التي تعلقها بالعمل كان بلا واسطة. وذلك لخروج المسائل العملية الأصولية أيضا على هذا الميزان بلحاظ تعلقها بالعمل بلا واسطة بانطباقها على مواردها.

وبالجملة نقول : بان القواعد المبحوث عنها في الأصول حيثما كانت على صنفين : صنف منها لو حظ فيها جهة الكشف والحكاية عن الواقع كشفا تاما أو ناقصا وكان شأنها الوقوع في طريق استنباط الاحكام كالأمارات ، وصنف آخر منها لو حظ فيها حيث السترة وعدم الكشف والحكاية عن الواقع وكان مما ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل عند تحيره وجهله بالواقع كالقواعد العملية من نحو الاستصحاب وغيره ، وكان الصنفان كل واحد منهما دخيلا في الغرض الخاص الداعي على تدوين العلم وجمع قواعده ، فلا جرم كان الحري الحقيق هو تعريفه بما ذكرنا : بأنه القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الاحكام الكلية الإلهية أو الوظائف العملية الفعلية عقلية كانت أم شرعية ،

ص: 20

ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي ( كما في قولك : هذا ما أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان كذلك فهو واجب كذلك ) أو الحكم الشرعي الظاهري ( كقولك بعد اثبات حجية الاستصحاب : هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا وشك لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض اليقين به بالشك فيه ) أو حكما عقليا ( كقولك : هذا مما لم يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين ) نعم على هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في مسائل الفقه بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.

ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ قدس سره المسألة الأصولية بما يكون امر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد ، قبال المسألة الفقهية التي يكون تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة الطهارة التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب والسنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية ، بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لايكون الا من وظائف المجتهد خاصة ، بملاحظة اشتراط الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما ، ولا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه : بأنه صناعة يقتدر بها على استنباط الاحكام الفرعية ونحوه ، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى امر واحد ولكل منها جهة مناسبة مع تلك القواعد فكل إلى ذاك الجمال يشير وحينئذ فلاينبغي النقص والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.

نعم بقى في المقام اشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه ، ومحصل الاشكال : هوان ميزان كون المسألة أصولية - على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس - ان كان على وقوعها في طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا - كمبحث الامر والنهى والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ونحوها مما شأنها اثبات

ص: 21

الوضع والظهور - من مسائل الأصول ، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون الا تعيين الظهور واثبات كون الشيء ظاهرا في كذا ، كظهور هيأة الامر في الوجوب وظهور النهى في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا ، ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذه لايكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد بل يحتاج في مقام انتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى لكبري القياس الآخر ، بان نقول في القياس الأول : هذا امر وكل امر ظاهر في الوجوب فهذا ظاهر في الوجوب ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبري في قياس آخر ، ونقول في القياس الثاني : هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل على طبقه بمقتضى ما دل على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد بقولك : هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه. وان كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة ، فعليه وان اندفع الاشكال المتقدم الا انه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية - كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال - في المسائل الأصولية ، بملاحظة وقوع نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط ، وهذا كما ترى ، مع أن ديدنهم على اخراج مسائل المشتق ونحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي ، فيبقى حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأمر والنهي والعام والخاص الخ.

وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن مسائل الأصول ، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو اثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو اثبات كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول ، وأين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام والخاص المتكلفة لاحراز الظهور في الكلمة والكلام؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا احراز الظهور في شيء كظهور المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية ، نقول بان غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الاحكام لأنفسها ، والمسائل الأصولية انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية

ص: 22

فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لا ثبات كيفية تعلق الحكم بموضوعه كانت داخلة في مسائل الأصول ، كما هو الشأن أيضا في مبحث المفهوم والمنطوق حيث إن دخوله باعتبار تكفله لبيان إناطة سنخ الحكم بشيء الذي هو في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته ، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لا ثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقات أيضا عن مسائل الأصول ، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ عدم تكلفها الا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم ، لأنفسه لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.

نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ولو بالواسطة من كون السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له ، ويمكن الاعتذار عنه بان عدم تدوينهم إياها في الأصول حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول ، فتدبر.

الامر الثاني في الوضع

اشارة

فنقول : انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعرفها كل أحد ، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة ، أم لا؟ بل تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين : قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري ( عز اسمه ) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى المخلوقين فقال : بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة

ص: 23

لمعانيها حسب جعله سبحانه ، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين : أحدهما خلق التواريخ عن ذكره ، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل ، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات ، لان ذلك من الأمور المهمة التي لايمكن الغفلة عنها عادة ، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا ، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.

وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه ، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.

أقول : وفيه ما لايخفى ، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم ( على نبينا وآله وعليه السلام ) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني ، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب عليه؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من طوائف كثيرة؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها ، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور ، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم ، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لايكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر ، كما في كثير من الجوهريات والآلات ، ومن المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لايتوجه عليه شيء من المحذورين.

ثم انه نقول : على قولك ( بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام اظهار ما في ضمائرهم ) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى اللّه تعالى

ص: 24

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط؟ لايقال : بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح ، فإنه يقال : يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن ، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين الألفاظ ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن ، ومن المعلوم انه في ذلك لايحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما ، كما لايخفى.

في تعريف الوضع :

ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان : انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار ، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان ، ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لايكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لايرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لايكون

ص: 25

فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح ، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لايكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى ، كما هو واضح.

كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، ولا من سنخ الاعتباريات التي لايكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين ، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها ، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لايكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي ، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة ، فكما ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لايكون الا الذهن وبوجود النار وتحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية ، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى ، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين ، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى ، فقبل وجود طرفيها خارجا لايكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى ، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها.

وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لايكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها ، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة لاحداث هيئة في الخارج ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي ، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان

ص: 26

المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.

وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك : المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس ، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص ، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شيء إلى شيء من دون منشأ خارجي لذلك ، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه ، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لايكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى الخارج ، كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتعهد وانكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه ، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية ، فإنه من هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال : بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال : بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا ، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى ، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به ، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه ، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد ، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام

ص: 27

التكليفية ، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه ، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله : من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولايجوز لغيره ذلك ، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية ، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية ، وهكذا غيرهما من الوضعيات ، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة بوجه أصلا ، هذا.

وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، بل وانها من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية ، على أن ارجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم ، فإنه بعد أن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو : اما ان تكون إرادة نفسية ، واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظراً إلى قالبية اللفظ له ، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة ، واما ان لايكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا - مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا

ص: 28

توسيط لفظ في البين أصلا ، كما لايخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع ، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك ، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظراً إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى ، فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة أخرى ، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني ، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجيء فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية ، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.

لايقال : انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلى.

فإنه يقال : كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي ، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا ، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي ، والا فقبل إرادة التفهيم لايكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح.

ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا

ص: 29

ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل ، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام والخاص.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية ، إذ نقول : بان في مثل قوله : الناس مسلطون على أموالهم ، وقوله : لايجوز التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه ، لايكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف ، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه ، وحينئذ نقول : بان مثل هذه الإضافة بعد ما لايمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل ، والأول بديهي الفساد فإنه - مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها - يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله : لايجوز التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه ، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في رتبة لا حقة عنها ، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف الانسان في شيء - بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني من كون نشؤها من قبل الجعل.

وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول : بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع ( جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا ) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما ، كقولك عند تسميتك ولدك : جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال ، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد ، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال : من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين

ص: 30

في اللفظ : اللحاظ العبوري الآلي تارة ، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى - نظراً إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظراً استقلاليا - فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لايكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى ، وحينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى ، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة ، كما هو واضح. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه.

بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني قدس سره لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لايكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال : بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي والفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين ، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين ، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من الوضع ، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج ، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج ، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.

ص: 31

في اقسام الوضع

وعلى كل حال يبقى الكلام في اقسام الوضع

فنقول :

انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام. ولابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات : الأول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي ، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام ، الثالث في بيان ما هو الواقع منها ، فنقول :

اما المقام الأول : فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة : عام الوضع والموضوع له ، وخاصهما ، وعام الوضع وخاص الموضوع له ، وعكسه ، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا ، وعلى الأول فاما ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلى الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته ، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه ، فباعتبار الأول يكون من عام الوضع والموضوع له ، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له ، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له ، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له ، فهذه اقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.

فنقول : اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين : الأول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام ووضع اللفظ بإزائه كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من المعنى الكلام العام. ولايخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الأحكام التكليفية ، من كونه باعتبار كلية متعلقه ، فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى إرادات واحكام جزئية ، كقوله : لا تشرب الخمر - والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين - كذلك أيضا عمومية الوضع وكليته

ص: 32

انما كانت باعتبار كلية متعلقه ، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها ، كيف وانه في الفرض لايحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة ، فان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين ، ومعه لايحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شيء نسميه آلة الملاحظة ، كي لأجل عموميتها وكليتها يتصف الوضع بالكلية والعمومية ، كما هو واضح.

الثاني : من قسمي عموم الوضع والموضوع له : هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لايكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل ، وذلك بان يلاحظ معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية ، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك ، فهذا أيضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له. ولايخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة ، لان المعنى الموضوع له بعد أن لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية ، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية ، ولكن مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.

وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور ، فإنه على الأول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان

ص: 33

بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي لايكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية ، ومن ذلك دائما يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين : أحدهما على نفس الجامع والآخر على الخصوصية ، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن ، كما هو واضح.

بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الأول من عام الوضع والموضوع له ، وذلك فإنه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان : من وضع أسامي الأجناس للمهية المهملة ، لما كان لايمكن لحاظ المهية المهملة مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد ، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان لها موجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة ، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لايكون له وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده ، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس : من كونها للطبيعة المطلقة الصادقة على القليل والكثير ، لايحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع ، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين ، بل الموضوع له في أسامي الأجناس - كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى - عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء ، ومن ذلك نقول بأنه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة ، وعليه لا محيص بعد عدم امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع. ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل

ص: 34

عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته ، فتدبر. هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.

واما القسم الثاني منها : وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، ففيه أيضا يتصور صور ثلاث :

الأولى : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلى عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية ، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلى مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر ، كما نظيره في باب التكاليف من قوله : أكرم من في الصحن ، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.

الثانية : ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلى والشخصي ، كما في لحاظ عنوان الشيء أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر ، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة ، كما قد يتوهم ان وضع أسماء الإشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال : هذا الانسان وهذا زيد. والفرق بينه وبين سابقه واضح ، فإنه على الأول يكون الموضوع له دائما معنى جزئيا بخلافه في هذا القسم ، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي ، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلى وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.

الثالثة : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلى عبارة عن معنى اجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي ، لا من قبيل نسبة الكلى والفرد ، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلى معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. ولعله من هذا القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجيء ، إذ يمكن

ص: 35

ان يقال : بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر ، أو الإشارة والمعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير عنها بالفارسية ب ( أو ) و ( أين ) ونحو ذلك ، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات ، فان ذلك لايكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى ابهامي ، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك : هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته ، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن : تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان ، وهو كما ترى! كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي وان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره ، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم اجراء احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا ، مع أنه أيضا كما ترى! وذلك بخلافه على المعنى الأول ، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد ، كما هو واضح. وسيجيء زيادة بيان لذلك إن شاء اللّه تعالى في محله ، فانتظر.

واما القسم الثالث منها : أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح ، كما في الاعلام الشخصية.

واما القسم الرابع منها : أعني خاص الوضع وعام الموضوع له ، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلى الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام الأربعة المزبورة ، فنقول :

اما القسم الأول : فلا اشكال في امكانه بل وقوعه أيضا ، كما في أسامي الأجناس. ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث ، كما في الاعلام الشخصية.

ص: 36

واما القسم الثاني : فالظاهر هو امكانه أيضا ضرورة امكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها ، إذ معرفة العنوان الكلى العام معرفة للافراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال ، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا مجال للاشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات والشيء ونحوهما - لايمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية ، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر ، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا ، بل هو من المستحيل ، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي ، والمبائن لايمكن ان يكون وجها للمبائن. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي لا مجال لهذا الاشكال ، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان اجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في امكان هذا القسم أيضا.

واما القسم الرابع : أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له ، فقد يقال بامكانه أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها للافراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم امكانه واستحالته ، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح ، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لايمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك أيضا ، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها ، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له ، فتدبر.

ص: 37

واما المقام الثالث فنقول : انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الأقسام الثلاثة أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول : اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه ، كما في الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات والافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل ، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية.

في شرح المعاني الحرفية

فهنا جهات من الكلام :

الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان : الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول :

اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها :

أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا ، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية ، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف ، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لايكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك زيد في الدار ، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها ، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف ، وحينئذ فلايكون للحروف معنى

ص: 38

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.

ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية ، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه ، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى ، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لاتدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية ، وهو كما ترى! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى المدينة وعليه ونقول : بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لايكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا ، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية ، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى ، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها ، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ

ص: 39

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجيء ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام ، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون بدال آخر وهذا الدال لايكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك : ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.

وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها : بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها : تارة بأنها ما دل على معنى في غيره ، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية ، قبالا للاسم الذي عرفوه : بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير ، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي ، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها ، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول ، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.

وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :

أحدها : ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني قدس سره وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية ، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر ، وانما

ص: 40

الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظراً إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.

ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله : زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة ، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى ، فان ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء ، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.

نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه بديهي البطلان ، إذ لايصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء ( من خير من إلى ) وبدل سرت من البصرة إلى الكوفة ( سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة خصوصية حال المتعلق ، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم اطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي : منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله : سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد والغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال : أحدهما ما هو المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه ، وثانيهما ما به قوام الاستعمال ، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى ، ولا من جهة وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من

ص: 41

الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة ، كما هو واضح.

الثاني من المشارب : ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض ، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.

والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح ، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الأسمى ، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لايكون معناه كذلك ، بخلافه على مشرب الكفاية فإنه عليه لايكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة ، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى استقلالا وبما هو شيء في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي وبالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان الاستقلالية والتبعية على المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة أحسن من تلك ، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير ، فإنه في الحقيقة على الأول لايكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي ، بخلافه على الثاني ، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي ، كما هو واضح.

الثالث من المشارب في الحروف : ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والإضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين ، فكان لفظ في في قولك : الماء في الكوز مثلا

ص: 42

موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وهكذا لفظ من في قولك : سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما سيأتي إن شاء اللّه ، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشايع ، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك أمورا ثلاثة : مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما ، وهكذا في مثال الماء في الكوز ، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لايكاد يغنى عنه الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.

ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى : المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشيء المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.

وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الأخير. وذلك : اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه ، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) فلانه لا سبيل إلى دعواه أيضا ، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه أيضا ، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا ، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط

ص: 43

الجزئية الخاصة المفصلة؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا والمصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية ، أو المصير إلى أن الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة ، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له ، وعلى الأول وان كان يلزم عليه هذا المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة ، وهو كما ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.

نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشي ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته ، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شيء في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه ، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية في الحروف والاستقلالية في الأسماء ، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها ، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه ، وهو العمل الماتى عن داع قربى ، فلايكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر ، كذلك في المقام أيضا ، فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الأسماء تفهيم معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع وضعه أيضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه

ص: 44

ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد ، لان ذلك كما عرفت من المستحيل ، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه ، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح.

والى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية قدس سره في جوابه عن الاشكال المزبور بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفى الأسماء بما هو هو وان كان في عبارته قصور في إفادة ذلك ، لا ان المقصود من ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم ، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك ، ولا ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية ، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لولا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلاينبغي ان ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور. وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان أيضا على امتناعه ، نظراً إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات والمصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظراً إلى فرض كونها حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لايخفى ، مع أن ذلك كما ترى خلاف الوجدان.

وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لاينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين ، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لايرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة ، لا انه يرى من لفظ في الشيء المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لايصح الاكتفاء أيضا بذكر متعلق واحد بقولك

ص: 45

سرت من أو من البصرة بل لابد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول الحروف من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين.

ثم انه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين المفهومين ، يبقى الكلام في أنها ايجادية توجد باستعمال الأداة ، أو انها غير ايجادية بل كانت منبئة تنبئ عنها الأداة والهيئات كما في الأسماء ، حيث إن فيها وجهين :

وقد ذهب بعض الأساطين إلى الأول والتزم بكونها ايجادية حيث أفاد في وجه ايجادية معاني الحروف بان الأسماء انما كانت موضوعة للطبايع المجردة عن خصوصية الارتباط بالغير فكان المفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط أحدهما بالآخر عند لحاظهما ، ولكنك بقولك : ( الماء في الكوز ) توجد بلفظ ( في ) ربطا بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ ( في ) والا فبدونه كان المفهومان أجنبيين لا ربط لأحدهما بالآخر ، وهكذا في نحو السير والبصرة ، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات لايجاد معانيها ، بل وهكذا الهيئات أيضا إذ كان مفهوم كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته ، استعمل فيه كلمة الماء أم لا ، كان الاستعمال في ضمن الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب كلامي ، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه ، الا ان الهيئة الكلامية توجد ربطا بينه وبين البارد بعد أن لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني الاسمية فإنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم ويكون استعمالها لاخطارها في الذهن. وحينئذ فكم فرق بين الأسماء وبين الحروف والهيئات ، فان الأسماء كلها تكون حاكية ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان هذه طرا تكون آلة لاحداث معانيها. ثم انه استشهد لذلك أيضا بالخبر المروي في المعالم عن أبي السلام عن أبي الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : ( الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ، بتقريب ان في العدول في الحروف عن الانباء كما في الأسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على أنه لا معنى للحروف تكشف عنها الأداة كما في الأسماء والافعال وان معانيها معان ايجادية تحدث باستعمال ألفاظها. نعم في نسخة أخرى هكذا بدل ( والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ( والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ) ولكنه رجح الأول من جهة علو

ص: 46

مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية ، بخلاف ما في النسخة الأخرى فان فيها شواهد الجعل ، باعتبار انه لايكون مثل هذا التفسير مختصا بالحرف فيجرى في الاسم والفعل أيضا فان الاسم أيضا لايكون بفعل ولا حرف ، فكان من نفس هذا التعبير في الحروف بأنها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمينان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار دقته وغموضه خفى على الرواة فصحفوا الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بأنها ما لا تكون اسما ولا فعلا. هذا محصل ما أفيد في وجه كون معاني الحروف معاني إيجادية لا أنبائية.

وقد يظهر من بعض آخر ( (1) ) التفصيل في الحروف بين مثل أداة النداء ولام الامر والحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف فالتزم بالايجادية في نحو أداة النداء والاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالأنباء في غيرها هذا.

ولكن التحقيق خلافه وانه لايكون مداليل الحروف إلا كمداليل الأسماء في كونها أنبائية محضة لا ايجادية. وما أفيد في وجه كون مداليل الحروف والهيئات ايجادية من التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في أسامي الأجناس من كون مداليلها عبارة عن نفس الطبايع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ حينئذ بعد عراء المعنى الأسمى دائما في الذهن عن خصوصية الارتباط بالغير أمكن المجال لدعوى ايجادية خصوصية جهة ارتباط أحد المفهومين بالآخر ، والا فعلى ما هو التحقيق من مسلك السلطان - من وضع أسامي الأجناس للمهية المبهمة والجامع بين الفاقد للخصوصية وواجدها الذي لايكاد تحققه في الذهن الا مقرونا مع إحدى الخصوصيتين : اما التجرد والاطلاق ، واما الواجد للقيد والخصوصية فلايكاد يتم هذه المقالة ، حيث إنه بعد عدم امكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد ، نقول : بأنه إذا لو حظ المعنى الأسمى مقرونا مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة ، والماء في الكوز ، والزيد على السطح ونحو ذلك ، وأريد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة ،

ص: 47


1- هذا البعض صاحب الحاشية ، الشيخ محمد تقي قدس سره ( المؤلف « قده » ).

ومن المعلوم حينئذ انه كما أن ذات المعنى الأسمى وهو الطبيعة المهملة تحتاج إلى كاشف في مقام الكشف عنها ، كذلك أيضا جهة خصوصية ارتباطه بالغير ، فيحتاج تلك أيضا إلى كاشف يكشف عنها ، ولايكون الكاشف عنها الا الإرادة والهيئات كما هو الشأن أيضا عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية ، حيث إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد للقيد والخصوصية وأخرى في ضمن الواجد لها. وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة ، كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير ، فهي أيضا مما تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الأداة والهيئات. وحينئذ فلايكون مداليل الحروف والهيئات إلا كمداليل الأسماء في كونها منبئة تنبئ عنها الأداة لا انها كانت موجدة بالأداة ، كما لايخفى.

وبالجملة نقول : بان من راجع وجدانه يرى أنه كما أن في مرحلة الخارج هيئات ونسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر آخر وخشب فوق خشب وكون شيء في وعاء كالماء في الكوز ، كذلك أيضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور هيئات ونسبا على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن أحجارا موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة والخاصة ونلاحظ ماء في كوز كما أن لنا ان نلاحظ أحجارا بنحو لايكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر غير مرتبط بالحجر الأول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط أحدهما بالآخر. وبعد ذلك نسئل عن هذا القائل ونقول : بأنه إذا تصور شخص ولا حظ الحجر الموضوع على حجر آخر بهذا الارتباط الخاص فأراد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن لتفهيمه بان ما في ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر على حجر بجعل ( الحجر ) حاكيا حسب وضعه عن الذات المعروضة للهيئة و ( على ) عن حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين ، أو انه لابد أيضا وان يوجد النسبة والارتباط بين مفهومي الحجرين بالأداة؟ لا شبهة في أنه لا سبيل إلى الثاني لأن المفروض حينئذ هو تحقق تلك الإضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل هذا الاستعمال فيكون

ص: 48

ايجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل. وحينئذ فتعين الأول باعتبار ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما في ذهنه من الصورة الخاصة ، ومعه لا محيص الا من المصير إلى كون الأداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الأسماء ، وان في قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود والسطح ونحو كاشفا عن مداليلها ، كذلك لفظ في ومن وعلى أيضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء والكوز ، والارتباط بين مفهومي السير والبصرة ، ومفهومي الصعود والسطح.

كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لايجادية مداليل الحروف والهيئات ، فإنه ان أريد بايجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون النفس من الخلاقية للصور في وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب ، ولكنه نقول : بان هذا المعنى لايكون مختصا بمداليل الحروف والهيئات فيجرى في الأسماء أيضا ، ففي مثل الماء في الكوز كان كل واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات النفس حسب ما لها من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف ، ولكن لايكون الموضوع له حينئذ هو هذه المفاهيم بقيد وجودها في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به اللحاظ والتصور ، وذلك أيضا لا بما هو ، بل بما هو يرى خارجيا وفي هذه المرحلة كما لايكون مداليل الأسماء ايجادية كذلك الحروف أيضا. وان أريد بايجاد معاني الحروف كون الحروف موجدة لها في مقام الاستعمال فهو أيضا امر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال أداتها إذ هو حينئذ من تحصيل الحاصل وغير محتاج إليه ، على أنه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الأسماء عن مداليلها انما هو تحقق مضامينها في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها كما هو شأن كل محكى بالنسبة إلى حاكيه ، وحينئذ فلو كان شأن الأداة والهيئات هو الموجدية لمداليلها التي هي الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ والأداة المتأخر عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين ، نظراً إلى علية الأداة لوجود الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع في الصقع المتأخر بما يكون صقعه متقدما عليه بمرتبتين وهو كما ترى ، بل لازمه أيضا هو اخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في نحو سر من البصرة إلى

ص: 49

الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار ، من جهة ان لازم موجدية الأداة والهيئات حينئذ للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين ، أعني ذات السير والبصرة ، الملازم ذلك لكونه في عرض الطلب المنشأ بالهيئة ، من جهة انه كما أن لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد والارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة كذلك الهيئة أيضا علة لايجاد الطلب. ومن المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما وهما الطلب والتقيد أيضا ، ولازمه هو خروج جهة التقييد عن حيز الطلب وتجريد متعلقه عنه ، من جهة استحالة اخذ ما هو في عرض الطلب في متعلقه وفي رتبة سابقة عليه ، مع أن ذلك كما ترى ، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على اخذ جهة التقيد أيضا في الذات في مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد بأمر كذا وكذا ، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد مقدمة لحيث التقيد ، لا على تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد ، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من البصرة انما هو السير الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة ، فهذا أيضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني الحروف والهيئات ايجادية احداثية. ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها ، فإنه لايكاد يترتب عليه هذا المحذور من جهة امكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب ، نظراً إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين العرضية بين المنكشفين أيضا كما هو واضح.

فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع أسامي الأجناس : من كونها موضوعة للمهية المهملة والجامع بين الطبيعة المجردة والمقيدة لا محيض من الالتزام بكون الحروف أيضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند ملاحظة مفهومي الاسمين مرتبطا أحدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لابد في مقام الحكاية القاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل الاسم حاكيا عن مدلوله والأداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الأداة للربط الخاص بين المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الأداة كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا أيضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من

ص: 50

قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب الثابتة لايكون الحروف والهيئات الا كاشفة عنها ككشف الأسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها أيضا لايكون شأن الحروف والهيئات الا الكشف والانباء عنها.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ضعف ما أفيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل أداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة والاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن ايقاع النسبة ، وبين مثل الأداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء والطائفة الأولى موجدة لها ، بخيال ان قولك : يا زيد وأنت وهذا ونحوها انما هو موجد لمصاديق النداء والإشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء والإشارة والخطاب ، فكما انك بتحريك اليد والعين توجد مصداق النداء حقيقة ومصداق الإشارة والخطاب والبعث نحو الشيء كذلك أيضا بتلك الأداة فإنك بقولك يا زيد توجد مصداق النداء ، وبقولك أنت توجد فردا للخطاب ، وبقولك هذا توجد مصداق الإشارة ، وبقولك ليضرب مصداق البعث إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الأداة الجارة من نحو قولك : الماء في الكوز ، وسرت من البصرة إلى الكوفة فإنه فيها قبل الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى.

إذ نقول : بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذا الأداة للنداء الخارجي والإشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من التطهير بتحرك اليد والرأس والعين للإشارة والنداء والخطاب ، فإنه على هذا الاس لا محيص من القول بكونها آلات لايجاد معانيها وان معانيها معان احداثية. ولكنه توهم فاسد ، كيف وان المعنى الحرفي ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين الخارجين فلو انه كان مثل هذه الأداة موضوعا لايقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني الخارجي يلزم كون معانيها من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات ، وهو كما ترى ، حيث لا يلائم مع حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت وعليه أيضا اطباقهم انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم ، كما يشهد لذلك أيضا

ص: 51

استعمال تلك الأداة أحيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو سخرية كما هو كذلك أيضا في أداة التمني والترجي ونحوها كقولك : يا ليتني كنت جمادا أو حمارا ، مع كون الاستعمال المزبور أيضا على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك أيضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لايقاع الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي وأخرى لا ، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنيته ، بل بما انه يرى خارجيا تصورا وان كان تصديقا يقطع بخلافه. وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرنا من الكاشفية فيها أيضا كما في الأسماء حيث كانت الأداة المزبورة حينئذ كاشفة عن صورة ايقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت بين المفهومين التي هي مفاد الأداة الجارة. نعم لما لايكون مثل هذا الربط الايقاعي ملحوظا الا خارجيا ربما أوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ايقاع الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروى عن علي علیه السلام ففيه ما لايخفى إذ مضافا إلى اجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما عرفت والى كونه مرويا من طرق غيرنا كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث إنه ليس مسئلتنا تلك من المسائل التي يستدل لها بالاخبار الآحاد كما لايخفى. مع أنه يمكن توجيه الرواية أيضا بما لاينافي ما ذكرناه من الكشف والانباء في الحروف ، بان يقال : بان النكتة في العدول فيها في الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق الهيئة في الذهن كما هو كذلك أيضا في النسب الخارجية ، كالنسب بين ذوات الأخشاب بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج ، وذلك أيضا بضميمة ما كان بين الألفاظ ومعانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها ، فإنه باعتبار ان الأداة مرآة لمعانيها التي هي النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن أضيف صفة الموجدية في الرواية إلى الأداة فعبر عنها بهذه العناية بأنها أو جدت معنى في غيره فتأمل.

وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، ولقد

ص: 52

عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين مع كونها أيضا كالأسماء انبائية لا احداثية من دون فرق في ذلك بين كون النسب ايقاعية أو وقوعية كما هو واضح.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها وخصوصه ، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام الوضع وخاص الموضوع له حتى أنه يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الأصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فإنه على ما حكى عنه الأستاذ قال : بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها ، ولعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد ، حيث كان شخص الربط الحاصل من إضافة السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى الكوفة في قولك : سرت من الكوفة ، وهو أيضا غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى مكان آخر ، وهكذا ، حيث إنه حينئذ يقال : بأنه بعد عدم جامع في البين بين تلك الروابط الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمى لا حرفي لا مناص الا من القول بخصوص الموضوع له فيها هذا.

ولكن نقول : بأنه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم انسباق معنى عام في الذهن في موارد استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منها هي اشخاص الروابط الخاصة المبائنة بعضها مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها ، والا فبناء على القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن تصورناه فلا قصور في دعوى عموم الوضع والموضوع له ، إذا مكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف منها من الروابط الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن جامع بين اشخاص تلك الروابط الذي به تمتاز الروابط الخاصة من كل صنف عن اشخاص الروابط الخاصة من صنف آخر ، كما نشاهد ذلك بالوجدان أيضا في الروابط الخاصة من كل صنف وطائفة كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الأخرى من الروابط الانتهائية والظرفية والاستعلائية ونحوها ، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن

ص: 53

بنحو أمكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية ولكنه في مقام الوضع أمكن وضع اللفظ بإزائه ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة الموضوع له ، إذ يكفي في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه اجمالي بالإشارة الا جمالية إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة ، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف كالوضع عاما لا خاصا ويكون استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال والمدلول.

هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين القول بالايجاد فيها أو القول بالكشف والانباء ، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها أوضح كما لايخفى. هذا كله في الجهة الأولى.

في شرح معاني الهيئات

واما الجهة الثانية فيقع البحث فيها في شرح مفاد الهيئات الطارئة على المواد في الجمل التامة والناقصة وبيان الفارق بينهما :

فنقول اما مفاد الهيئات في المركبات والجمل التامة والناقصة كلية فهو على ما تقدم في شرح المعاني الحرفية عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم كما في قولك زيد قائم ، حيث إن مفاد الهيئة في تلك الجملة عبارة عن النسبة الكلامية والربط القائم بالمفهومين أعني مفهومي زيد والقيام. وفي كون تلك النسبة المدلول عليها بالهيئة في الجمل ايجادية أو انبائية الخلاف المتقدم ، وقد تقدم تحقيق القول فيه وانه لايكون الا من قبيل الكشف والانباء لا الايجاد والاحداث. وهذا من غير فرق بين المركبات التامة أو الناقصة من المركبات التقييدية التوصيفية ، حيث كان مداليل الهيئات فيها طرا عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم ، مع كونها أيضا حاكية وكاشفة عنها لا موجدة لها.

نعم بينهما فرق من جهة أخرى من حيث كون النسبة ايقائية أو وقوعية حيث كان المحكى للهيئة في الجمل التامة مطلقا عبارة عن ايقاع النسبة ، بخلافه في الجمل الناقصة و

ص: 54

المركبات التقييدية حيث كان المحكى للهيئة فيها عبارة عن وقوع النسبة لا ايقاعها ، إذ كما أنه في الإضافات الخارجية الحاصلة من مثل وضع الحجر على حجر آخر يتصور حيثيتان ، حيثية ايقاع النسبة أعني خرجها من العدم إلى الوجود المعبر عنها بالمعنى المصدري ، وحيثية وقوع النسبة وثبوتها المعبر عنها بالمعنى الاسم المصدري ، كذلك يتصور هاتان الحيثيتان في النسب والروابط الذهنية بين المفاهيم فيتصور النسبة تارة من حيث ايقاعها وصدورها ، وأخرى من حيث وقوعها وثبوتها ، فارغا عن ايقاعها ، باعتبار تفرع وقوع الشيء وثبوته دائما على ايقاعه. فكان المحكى للجمل التامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية أم شرطية هي النسب الايقاعية ، وللجمل الناقصة في المركبات التقييدية التوصيفة كزيد القائم هي النسب الثابتة. ومن ذلك أيضا يختلف كيفية استعمالها حيث كان استعمال الهيئة في الجمل التامة من باب الهيئة بعنوان الموقعية للنسب الذهنية بخلاف المركبات التقييدية حيث كان ذلك من باب ذكر اللفظ ولحاظ معنى مفروغ التحقق في الذهن. وبهذه الجهة نقول أيضا بان مفاد الهيئة دائما في الجمل الناقصة والمركبات التقييدية في طول مفاد الهيئة في الجمل التامة وفي رتبة متأخرة عنها باعتبار كونها نتيجة لمفاد القضايا الحملية والجمل التامة. ولعله إلى ذلك أيضا يشير ما هو المشهور بينهم من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ، فكون القضية التوصيفية اخبارا قبل العلم بها انما كان بلحاظ ان الملحوظ فيها حينئذ هو النسبة لكن لا من حيث ثبوتها بل من حيث ايقاعها ، كما أن كون القضية الحملية توصيفية بعد العلم بها انما هو بلحاظ ان الملحوظ فيها هو ثبوت النسبة فارغا عن ايقاعها.

ثم انه ربما يفرق بينهما من جهة أخرى وهي عدم اقتضاء المحكى للمركبات التقييدية للوجود خارجا وكونه عبارة عن ذات المهية بما هي قابلة للوجود والعدم ، ومن ذلك يحمل عليها الوجود تارة والعدم أخرى كما في قولك زيد الضارب موجود أو معدوم ، إذ التقيد المزبور لا يقتضى الا تضيق دائرة الذات واخراجها عما لها من سعة الاطلاق ، وهذا بخلافه في المركبات التامة فان للمحكى فيها اقتضاء الوجود الخارجي ، ولذلك لايصح ان يقال زيد قائم موجود أو معدوم ، بل وانما الصحيح فيها هو المطابقة واللامطابقة للواقع ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه فيه الا ما ذكرناه من حكايتها تصورا عن النسبة الخارجية بين زيد والقيام في قولك زيد قائم واقتضاء المحكى فيها للوجود في الخارج. و

ص: 55

من ذلك أيضا لايكون وزان القيود الواقعة في حيز الجمل الناقصة والمركبات التقييدية على وزان القيود الواقعة في حيز الجمل التامة حيث كان صقع التقييد في الأول هو صقع نفس ذات المهية القابلة للوجود والعدم ، بخلافه في الثاني فان صقع التقييد فيه عبارة عن صقع موجودية ذات خارجا. وربما يثمر ذلك في جريان الأصول في الاعدام الأزلية بنحو السلب المحصل فإذا كان القيد واقعا في حيز الجمل الناقصة كالقرشية للمرأة والكرية للماء والشرط المخالف للكتاب ونحو ذلك فعند الشك في تلك القيود أمكن استصحاب اعدامها ولو بنحو السلب المحصل ، فإنه بعد أن كان معروض التقيد حينئذ هو الذات العارية عن حيث الوجود أو العدم لا هي بوصف موجوديتها وكان الوجود من العوارض الطارية على الذات المتقيدة بالوصف والقيد فلا جرم لا مانع من جر عدم الوصف والقيد الناشئ من عدم الموصوف إلى زمان وجوده من دون اقتضاء حيث عدم موجودية الذات في الخارج لسلب هذا التقيد كي يلزمه عدم صحة جريان استصحاب عدم الوصف إلى زمان وجود الموصوف كما لايخفى. وهذا بخلافه في القيود الواقعة في حيز الجمل التامة فإنه لما لايكون صقع التقيد فيها عبارة عن صقع ذات المهية بل كان صقعه صقع موجودية الذات خارجا يلزمه لا محالة عدم صحة استصحاب عدم الوصف المتحقق في ظرف عدم الموصوف. وتنقيح الكلام فيه موكول إلى محله فالمقصود في المقام هو مجرد الإشارة إلى ما يترتب عليهما من الثمرة.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك بيان الفارق بين الجمل التامة وبين الجمل الناقصة في القضايا التقييدية وان كون الجملة تامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية انشائية كانت أم أخبارية انما هو باعتبار اشتمالها على النسبة الايقاعية قبالا للجمل الناقصة في القضايا التقييدية المشتملة على النسب الثابتة ، يبقى الكلام في بيان الفارق بين الجمل الأخبارية والانشائية وما به امتياز إحديهما عن الأخرى بعد اشتراكهما في الاشتمال على النسب الايقاعية.

فنقول : اما ما كان منها متمحضا في الأخبارية والانشائية كقولك زيد قائم المتمحض في الأخبارية ، وقولك : اضرب المتمحض في الانشائية فالفرق بينهما واضح ، باعتبار حكاية النسبة الايقاعية في الأول عن نسبة ثابتة خارجية تطابقها تارة ولا تطابقها أخرى بخلافه في الثاني فإنه لايكون فيه محكى تحكي عنه النسبة الايقاعية

ص: 56

الذهنية كي تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى بل لا تكون الجملة فيه الا مشتملة على نسبة ايقاعية ارسالية بين المبدأ والفاعل من دون مدخلية فيه لقصد الجدية والهزلية كما هو كذلك في الاخبار أيضا لان هذه الأمور انما كانت من دواعي الاخبار والانشاء فإنه كما يخبر أو ينشأ هزلا يخبر وينشأ جدا أيضا ، فلايكون حينئذ من مقوماتها كما هو واضح. ومن ذلك ظهر أيضا عدم دلالة الهيئة في مثل اضرب في فرض الجد بالارسال على الطلب الحقيقي الذي هو عين الإرادة أو ما ينتزع عن مقام اظهارها كالايجاب والالزام والتحريك الا على نحو الالتزام دون المطابقة ، من جهة ان مفاد الهيئة كما عرفت عبارة عن النسبة الايقاعية الارسالية بين المبدأ والفاعل وحينئذ فدلالتها على الطلب انما هو باعتبار كون هذه النسبة من شؤون الطلب ولازمه كما هو واضح. وسيجيء لذلك مزيد بيان في محله إن شاء اللّه. وكيف كان فهذا كله في الجمل المتمحضة في الأخبارية والانشائية.

واما ما كان منها صالحا للامرين كقولك اطلب وبعت وزوجت مما تصلح لان تكون اخبارا تارة وانشاء أخرى ، فقد يقال : بان الفرق بينهما حينئذ انما هو من جهة قصد الحكاية وقصد الموجدية ، وانه ان قصد المستعمل في مقام الاستعمال الحكاية بها عن نسبة ثابتة خارجية تكون اخبارا ، وان قصد بها موجديتها للمبدأ تكون انشاء فكان تمام الميز والفرق حينئذ بين كون الجملة أخبارية وبين كونها انشائية من جهة قصد الحكاية والموجدية. ولكن فيه ما لايخفى ، من أنه لا مدخل لقصد الموجدية في انشائية الانشاء بوجه أصلا بل هو من الطوارئ للانشاء الخارجة عما به قوام انشائية الانشاء ومن ذلك ترى صدق الانشاء حقيقة في الانشاءات الهزلية من مثله قوله ملكتك السماء ونحوه مع انتفاء قصد الموجدية فيها ، فان صدق ذلك كاشف ان ما به تحقق الانشاء الكلامي غير القصد المزبور وان قصد الموجدية كقصد الهزلية من الدواعي للانشاء الخارجة عما به قوام انشائية الانشاء ، كيف ولازم دخل القصد المزبور في الانشاء في فرض الجد بايجاد المبدأ في الخارج وفى الوعاء المناسب ان يكون المتحقق هناك قصدين طوليين أحدهما ما به قوام تحقق الانشاء وثانيهما قصد الجد بالايجاد بالانشاء الكلامي ، مع أن ذلك كما ترى مخالف لما هو قضية الوجدان في الانشاءات الجدية الحقيقية كما هو واضح.

وربما يفرق بينهما أيضا من جهة قصد الحكاية وعدم قصدها بأنه ، ان كان استعمل الجملة حاكيا بها عن نسبة ثابتة تكون اخبارا ، وان كان المستعمل استعملها لا بقصد

ص: 57

الحكاية عن واقع ثابت تكون انشاء وحينئذ فيكون الاخبار والانشاء مشتركين في الاشتمال على النسبة الايقاعية الكلامية الا ان للاخبار خصوصية زائدة لم تكن تلك الخصوصية في الانشاء ، هذا. ولكن فيه ان هذا الفرق وان كان وجيها في نفسه الا انه بعيد أيضا باعتبار اقتضائه لاشتمال كل اخبار على الانشاء أيضا مع أن ذلك خلاف ما بنوا عليه من المقابلة بين الانشاء والاخبار كما هو واضح.

وحينئذ فالتحقيق في الفرق والميز بينهما هو ان يفرق بينهما من جهة المحكى من حيث كونه في الاخبار عبارة عن وقوع النسبة وثبوتها وفى الانشاء ايقاعها الذي هو خروجها من العدم إلى الوجود ، وذلك انما هو من جهة ما هو قضية الارتكاز والوجدان من قولك بعتك اخبارا حيث كان المتبادر منه هو الحكاية عن نسبة ثابتة محفوظة قبال كونه انشاء المتبادر منه الحكاية عن نسبة ايقاعية ، وحينئذ فإذا استعمل المستعمل الجملة في ايقاع نسبة كلامية حاكيا بها عن واقع ثابت تكون الجملة اخبارية وإذا استعملها فيها حاكيا بها عن نسبة ايقاعية توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها تكون جملة انشائية فيكون كل من الاخبار والانشاء حينئذ مشتركا في جهة الحكاية في نحو قوله بعت اخبارا أو انشاء الا ان الفرق بينهما كان من جهة المحكى فتأمل. ثم إن ذلك كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الاثبات فحيث ان طبع مثل هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحتاج في احراز كونها انشاء من قيام قرينة في البين توجب صرفها عن الاخبارية والحكاية عن الواقع الثابت والا فطبعها كان على الاخبار. هذا كله في شرح ما هو مفاد الهيئات في الجمل والافعال في المركبات التامة والناقصة وبيان الفارق بين الجمل الانشائية والاخبارية.

واما كون الموضوع له فيها عاما أو خاصا فقد ظهر مما قدمناه في المعاني الحرفية ، ولقد عرفت ما هو التحقيق فيها من كون الموضوع له بل المستعمل فيه كالوضع فيها عاما لا خاصا.

في المبهمات

الجهة الثالثة في المبهمات كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها من

ص: 58

الأسماء المتضمنة للمعنى الحرفي حيث إنه وقع فيها الخلاف من حيث عمومية الموضوع له فيها وخصوصيته. ولتنقيح المرام في المقام أيضا لا باس بالإشارة الاجمالية إلى شرح ما هو مفاد هذه الأسماء وما هو المعنى والموضوع له فيها.

فنقول : واجمال القول فيها هو ان المعنى والموضوع له في هذه الأسامي على ما هو المتبادر المنساق منها ويشهد عليه اطباقهم من التعبير عنها بالمبهمات عبارة عن معان ابهامية تكون نسبتها إلى الذوات التفصيلية من قبيل الاجمال والتفصيل لا من قبل الكلى والفرد مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة كخصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية ونحوها ، ففي أسماء الإشارة كهذا يكون المعنى والموضوع له عبارة عن معنى ابهامي اجمالي يكون نسبته إلى الخصوصيات والذوات المفصلة من زيد وعمرو نسبة المجمل إلى المفصل المعبر عنه بالفارسية ب ( أين ) ، نظير الشبح الذي تراه في البعيد في كونه مع ابهامه واجماله عين الذوات التفصيلية من زيد أو عمرو أو حيوان أو حجر بعد انكشاف الغطاء ولذلك تحتاج دائما إلى عطف بيان كما في قولك هذا الانسان وهذا الحمار وهذا زيد. لا ان الموضوع له فيها عبارة عن اشخاص الذوات المخصوصة والعناوين التفصيلية كما توهم ، والايلزمه انسباق مفهوم زيد والانسان في مثل قولك هذا زيد وهذا الانسان في الذهن مرتين تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ زيد ولفظ الانسان ، مع أنه كما ترى. ولا ان الموضوع له فيها عبارة عن نفس الإشارة إلى الذوات التفصيلية التي هي معنى حرفي كما يوهمه ظاهر تعبير بعض من علماء الأدب كابن مالك في منظومته بذا المفرد مذكر أشر ، كيف وانه بعد أن لم تكن المقصود من الإشارة مفهومها الذي هو معنى اسمى بل كان المقصود مصداق الإشارة يلزم خروجها عن الاسمية رأسا إلى الحرفية ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها أخرى ووقوعها فاعلا ومفعولا كقولك ضربني هذا وضربت هذا ، مع أن ذلك أيضا كما ترى.

وحينئذ فلا محيص من القول فيها بما ذكرناه من وضعها لجهة عرضية ابهامية منطبقة على الصور التفصيلية والذوات الخاصة بتمام الانطباق مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة وهي خصوصية الإشارة الذهنية لا الإشارة الخارجية كما توهم بخيال ان لفظ هذا انما هو بمنزلة الإشارة باليد والعين ، وانه كما أنه بتحريك اليد والعين مشيرا إلى زيد يوجد

ص: 59

ويتحقق مصداق الإشارة الخارجية كذلك بلفظ هذا يتحقق مصداق الإشارة إلى الذوات المفصلة ، فالتزم لذلك بكونها آلات لايجاد مصداق الإشارة والخطاب وان معانيها معان ايجادية لا اخطارية. ولكنه توهم فاسد كما بيناه سابقا ونقول في المقام أيضا : بان لازم ذلك هو ان يكون استعمال هذا في قولك هذا الانسان الكلى أحسن من الحمار مجرد لقلقة لسان حيث لم يكن هناك إشارة خارجية أصلا ، مع أنه كما ترى. وحينئذ فبعدان لايرى بالوجدان فرق بين هذا الانسان الكلى وهذا زيد من حيث كونهما على حد سواء فلا محيص من دعوى ان الموضوع له فيها هي الجهة العرضية الاجمالية المشتملة لخصوصية الإشارة الذهنية ، ومعه يبطل القول بالايجادية أيضا حيث كان معناها حينئذ معاني اخطارية قد استعمل فيها أسامي الإشارة كما في ساير الأسماء.

ومن ذلك البيان ظهر حال الضمائر أيضا ، فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية اجمالية متحدة مع ما يماثل مفهوم مراجعها ، مع اشتمالها أيضا على خصوصية الغيبة والحضور.

وكذا الموصولات فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية قبال خصوصيات الصور المعبر عنها بالفارسية ب ( آن كس ) قبال الموصوفات المعبر عنها بالفارسية ب ( كس ) مع اشتمالها لها أيضا على خصوصية زائدة وهي المعهودية.

وبعد ما عرفت ذلك نقول بأنه حيثما كان المعنى في تلك الأسامي متخصصا بخصوصيات زائدة من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية لا بمفهومها بل بمصداقها ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، فلا جرم باعتبار خصوصية التقيدات لابد من المصير فيها إلى كونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له ، لولا ما تصورناه من القسم الآخر لعام الوضع والموضوع له ، والا فبناء على ما تصورناه أمكن المصير فيها أيضا إلى عام الوضع والموضوع له بدعوى الوضع فيه للقدر الجامع بين الخصوصيات الذي لايكاد تحققه في الذهن الا توأما مع الخصوصية. بل ولئن ألغيت جهة التقيد بتلك الخصوصيات من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية عن المعنى والموضوع له فيها وجعلت المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ذات ذاك المعنى الابهامي بما انها ملازمة مع خصوصية الإشارة في أسماء الإشارة وخصوصية الغيبة والخطاب في الضمائر وخصوصية المعهودية في الموصولات لا مقيدة بالخصوصيات المزبورة ولا مطلقة أيضا ، كان امر عمومية الموضوع له فيها أوضح ، حيث أمكن تصوير عمومية الموضوع له فيها بالوضع العام المشهوري بلا

ص: 60

احتياج إلى ما تصورناه من القسم الآخر لعام الوضع والموضوع له. فيقال حينئذ بان الموضوع له في كل من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات عبارة عن الذات المبهمة التي هي معنى كلي ، لكنها بما هي ملازمة مع خصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية ، وعليه أيضا لايكون دلالة تلك الأسامي على الإشارة والغيبة والخطاب الا بالملازمة ، كما هو كذلك أيضا في لام الامر في قولك ليضرب فان دلالته على الطلب انما كان بالملازمة لا بالمطابقة لأنه لا يدل الا على وقوع المبدأ وصدوره من الفاعل متعلقا للطلب فبهذه الجهة دل على الطلب أيضا. وسيأتي لذلك مزيد بيان أيضا إن شاء اللّه تعالى في مبحث الأوامر.

الامر الثالث

لايخفى عليك ان حقيقة الاستعمال سواء في المعنى الحقيقي أو فيما يناسبه من المعنى المجازى حسب ما يدركه الطبع والذوق من المناسبات انما يتحقق بجعل اللفظ في مقام الاستعمال فانيا في المعنى فناء المرآة في المرئي بحيث بالقائه كان المعنى هو الملقى إلى المخاطب ويكون اللفظ مما به ينظر إلى الغير لا مما فيه ينظر ، وعليه يستحيل اطلاق اللفظ وإرادة شخصه منه بنحو كان اللفظ حاكيا عن شخص نفسه كحكايته عن معناه عند استعماله فيه ، ضرورة استلزامه حينئذ لاجتماع النظرين فيه : أحدهما النظر العبوري الآلي والآخر النظر الاستقلالي ، حيث إنه باعتبار كونه حاكيا يكون منظورا فيه بالنظر الآلي وباعتبار كون شخصه أيضا محكيا يكون منظورا بالنظر الاستقلالي وهو كما ترى كونه من المستحيل. وعليه فلايحتاج في ابطاله إلى ما عن الفصول قدس سره من لزوم تركب القضية من جزئين بل من جزء واحد بملاحظة امتناع تحقق النسبة بدون المنتسبين. وما يرى من قوله زيد لفظ فهو غير مربوط بباب الاستعمال بل هو من قبيل القاء الموضوع والحكم عليه كما في اعطائك زيدا درهما وقولك انه درهم فيكون لفظ زيد حينئذ هو الموضوع الملقى إلى المخاطب فحكمت عليه بأنه لفظ وحينئذ فلايرتبط ذلك بالاستعمال الذي حقيقة عبارة عن جعل اللفظ فانيا في المعنى كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر حال ما إذا أطلق لفظ وأريد صنفه أو نوعه كقوله : ضرب

ص: 61

فعل ماض ، مريدا به نوعه ، أو زيد في ضرب زيد فاعل ، مريدا به صنفه ، فإنه لو كان ذلك من باب جعل شخص اللفظ الملقى خارجا امارة لنوعه أو صنفه لا من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل شخص اللفظ مرآة وفانيا فيما يستعمل فيه فلا مانع عن صحته ، ضرورة امكان جعل الشخص والجزئي الخارجي امارة لنوعه لكي ينتقل المخاطب من الشخص إلى نوعه وصنفه ثم الحكم على النوع من ذلك المرئي والموجود الخارجي الجزئي من دون ان يترتب عليه محذور أصلا. بل ولئن تأملت ترى صحة الاطلاق على النحو المزبور بنحو يعم الحكم شخص اللفظ المذكور أيضا ، فإنه بعد ما لم يكن ذلك من باب الاستعمال بل من باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه فأمكن الحكم عليه أيضا بما انه فرد ومصداق للكلي ، كما هو واضح.

واما لو كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل اللفظ فانيا في المعنى ففيه اشكال ينشأ من امتناع كون الفرد والجزئي مرآة للطبيعي والكلي من جهة ان الفرد والكلي وان كانا متحدين وجودا خارجا ولكنهما متغايران مفهوما وذهنا ، ومع تغايرهما وتباينها لايمكن حكاية الفرد بما انه فرد وجزئي عن الطبيعي والكلي ، كيف ولازمه هو امكان القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام لا امتناعه كما التزموا به ، فان عمدة ما أوجب مصيرهم إلى امتناعه انما هو هذه الجهة من عدم امكان حكاية الفرد والجزئي بما هو فرد عن الكلي والطبيعي كي يصح جعله آلة لملاحظة المعنى العام الكلي. وحينئذ فإذا امتنع ذلك هناك يلزمه القول في المقام بامتناع اطلاق اللفظ وإرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أيضا إذا كان من باب استعمال. هذا إذا لم يرد من الطبيعي والنوع ما يشمل شخص اللفظ المذكور ، وأما إذا أريد به ما يعم هذا الفرد أيضا فامر الاستحالة أوضح ، لأنه مضافا إلى ما ذكر يترتب عليه محذور اجتماع اللحاظين في شخص اللفظ المذكور : اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي ، وهو كما عرفت من المستحيل.

لايقال : كيف ذلك مع أنه في الحقيقة من افراد الطبيعة المطلقة.

فإنه يقال : نعم ولكن النظر إلى شخص اللفظ في مقام الاستعمال بعد كونه آليا يلزمه لا محالة تضيق في دائرة المحكى والملحوظ بنحو يخرج عنه شخص هذا اللفظ ، إذ المحكى والملحوظ حينئذ لايكون في لحاظه الا الطبيعة الغير القابلة للانطباق

ص: 62

على شخص هذا الفرد الحاكي.

فتلخص انه لا فرق بين اطلاق اللفظ وإرادة شخصه وبين اطلاقه وإرادة نوعه أو صنفه فإذا كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال فكما لايجوز ذلك في الصورة الأولى لايجوز في الصورة الثانية أيضا. وأما إذا لم يكن الاطلاق من باب الاستعمال بل من باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه وصنفه فكما يجوز ذلك في الصورة الثانية كذلك يجوز في الصورة الأولى أيضا حيث أمكن القاء شخص لفظ والحكم عليه بأنه لفظ كما هو واضح.

الامر الرابع

هل الألفاظ موضوعه للمعاني المرادة للافظها أو انها موضوعة لذات معانيها من حيث هي مع قطع النظر عن كونها مرادة أو غير مرادة؟ فيه وجهان بل قولان :

أولهما منسوب إلى العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي الخواجة نصير الدين ( قدهما ) بان الدلالة تتبع الإرادة ، ولعل وجه استفادة ذلك من كلامهما انما هو من جهة الملازمة بين تبعية الدلالة تتبع الدلالة للإرادة وبين كون الموضوع له المعنى المقيد بكونه مرادا ، بتقريب ان طرف العلقة الخاصة بعد أن كان هو المعنى المراد فقهرا يلزمه ان يكون الدلالة الحاصلة من العلقة المزبورة أيضا تابعة للإرادة. وهذا بخلاف ما لو كان المعنى والموضوع له ذات المعنى مجردا عن حيثية الإرادة فإنه عليه لايبقى مجال للتبعية المزبورة الا إذا أريد التبعية في مقام الاثبات والكشف عن الواقع وكان المراد من الدلالة هي الدلالة التصديقية.

ولكن التحقيق هو الثاني من وضع الألفاظ لذات المعاني من حيث هل بل وامتناع وضعهما للمعاني المرادة ، وذلك لوضوح ان الإرادة سواء أريد بها اللحاظ المقوم للاستعمال ، أو إرادة تفهيم المعنى ، أو إرادة الحكم في مقام الجد انما هي من الأمور المتأخرة رتبة عن المعنى فيستحيل حينئذ اخذها قيدا في ناحية المعنى والموضوع له ، فلا محيص حينئذ من تجريد المعنى والموضوع له عن الإرادة مطلقا سواء بمعناها المقوم للاستعمال أعني اللحاظ أو بمعنى إرادة التفهيم أو الحكم والمصير إلى أن الموضوع له في الألفاظ عبارة عن ذات المعنى بما هي عارية عن خصوصية كونها ملحوظة باللحاظ الاستعمال أو مرادة بإرادة

ص: 63

التفهيم أو الحكم ، ومعه يبطل القول بوضعها للمعنى المراد كما هو واضح.

نعم لهذا الكلام مجال فيما لو أريد وضعها للمعاني المقرونة بكونها مرادة على نحو القضية الحينية لا التقيدية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، وذلك أيضا بالتقريب الذي ذكرناه سابقا في شرح مرام الكفاية في وجه عدم صحة استعمال الحروف مكان الأسماء ، بان يقال في المقام أيضا بان الداعي والغرض من الوضع بعد أن كان هو تفهيم المعنى والمقصود باللفظ وكان التفهيم أيضا ملازما مع إرادة المعنى حين القاء اللفظ فلا جرم يقتضى هذا الضيق تضيقا في دائرة وضعه وبتبعه أيضا يتضيق موضوع وضعه بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم الإرادة فيختص المعنى والموضوع له حينئذ بحال إرادة المعنى أي لحاظه أو إرادة التفهيم أو الحكم وان لم يكن مقيدا بها ، إذ على هذا التقريب يسلم القول المزبور عن الاشكال المذكور حيث لا محذور يرد عليه ثبوتا.

ولكنه فرع اثبات ان الغرض من الوضع انما هو تفهيم المعنى ، والا فبناء على المنع عن ذلك كما هو الأقوى من دعوى ان الغرض من الوضع انما هو مجرد جعل العلقة بين اللفظ ومعناه بنحو ينتقل الذهن عند سماعه بانتقال تصوري إلى معناه ولو كان صدوره من خرق الهوى أو من شيء آخر فلا يتم ذلك كما هو واضح. كيف وانه لولا ذلك لما كان وجه لاحتياجهم في الدلالة التصديقية في استفادة إرادة المتكلم للمعنى إلى ضم مقدمات الحكم من مثل كون المتكلم في مقام الإفادة ، إذ لو كان ذلك بمقتضى الوضع يكفيه نفس وضع الواضع كما في الحمل على المعنى الحقيقي ولايحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، مع أنه خلاف ما تسالموا عليه من اشتراط كون المتكلم في مقام الإفادة في استفادة إرادة المعنى.

ثم انه مما يشهد لما ذكرنا أيضا انسباق ذات المعنى وتبادرها عند سماعنا اللفظ من النائم والساهي أو من خرق الهوى فإنه لولا كونها أي الألفاظ موضوعة لذات المعاني لما كان وجه لانسباقها في الذهن عند صدوره من النائم والغافل والساهي. وتوهم ان ذلك انما كان من جهة انس الذهن لا انه من حاق اللفظ ، يدفعه الألفاظ الغير المأنوسة الاستعمال فإنه يرى فيها أيضا انسباق ذات المعنى منها في الذهن بمجرد العلم بالوضع ، ولو كان صدوره من النائم الذي هو غير مريد قطعا أو من خرق الهواء ، فيكون ذلك حينئذ أقوى شاهد لما ذكرناه من وضعها لنفس المعاني من حيث هي لا للمعاني المرادة.

واما كلام العلمين ( قدس سرهما ) من التبعية المزبورة فغير ظاهر في إرادة الدلالة

ص: 64

التصورية التي هي محل البحث لولا دعوى ظهوره في إرادة الدلالة التصديقية وفيها نحن نقول أيضا بتبعية الدلالة للإرادة ، ولذا لا نحكم بان الكلام ظهورا في المعنى بالظهور التصديقي الا في مورد أحرز ولو من الخارج ان المتكلم كان في مقام بيان مرامه من لفظه وفي مقام الإفادة كما هو واضح.

الامر الخامس

لايخفى انه لا وضع للمركبات من المواد والهيئات علاوة عن وضع المفردات ووضع الهيئات الخاصة وضعا نوعيا للدلالة على النسب الايقاعية ، ضرورة كفاية وضع المفردات ووضع الهيئات عن وضع آخر لها بجملتها من المادة والهيئة فارتكاب وضع آخر حينئذ للمجموع يكون لغوا ومستدركا. ومن ذلك البيان ظهر أيضا فساد ما عسى يتوهم من أن للمركبات وضعين : وضع للمواد خاصة ووضع آخر لمجموع المادة والهيئة. وجه الفساد هو انتفاء الحاجة حينئذ إلى الوضع للمجموع لان المحتاج إليه حينئذ بعد وضع المواد انما هو الوضع لخصوص الهيئات لا لها وللمواد أيضا كما هو واضح.

الامر السادس

هل الألفاظ كما كان لها وضع للمعنى الحقيقي كذلك لها وضع آخر نوعي لما يناسبه من المعنى المجازي حسب أنحاء العلائق والمناسبات ، أو لايكون لها الا وضع واحد للمعنى الحقيقي وان صحة استعماله في المعنى المجازي لمناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في الموارد الخاصة غير مندرجة تحت ضابط كلي؟ فيه وجهان. أقويهما الثاني ، فان كل ما يتصور من المناسبات والعلاقات النوعية من نحو علاقة المجاورة وعلاقة الحال والمحل والسببية والمسببية ونحوها يرى بالوجدان بأنه لا يدور مدارها صحة الاستعمال في المعنى المجاري ، ولذا لايجوز استعمال الحمار في زيد بعلاقة الحال والمحل فيما لو كان زيد دائما راكبا على الحمار ، مع أنه لو كان في البين وضع نوعي باعتبار تلك المناسبات والعلاقات النوعية يلزمه جواز الاستعمال المزبور. وحينئذ فنفس عدم صحة الاستعمال المزبور مع وجود العلائق النوعية وصحته بدون وجود تلك العلائق كاشف قطعي عن أن

ص: 65

مناط صحة الاستعمال المجازي انما هو على مناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في مواردها لا على وجود العلائق النوعية كما هو واضح.

الامر السابع في الحقيقة والمجاز

وتعرف الحقيقة بأمور :

منها : تنصيص الواضع بقوله : اني قد وضعت اللفظ الكذائي لمعنى كذائي ولا اشكال في ثبوت الوضع ولكن الكلام في فرض ثبوت صغراه حيث لايكاد حصول العلم بذلك خصوصا بالنسبة إلينا.

ومنها : تنصيص أهل اللغة حيث كانوا هم المرجع في تعيين الأوضاع ويقبل قولهم فيما قالوا اما من جهة كونهم من أهل الخبرة ، أو من جهة الشهادة ، أو الانسداد. ولكن الاشكال فيه أيضا من جهة عدم ثبوته نظراً إلى عدم كونهم بصدد تعيين الأوضاع حتى يثبت الوضع بقولهم بل وانما هم بصدد تعيين ما يستعمل فيه اللفظ ومن الواضح انه بمثل ذلك لايكاد يثبت الوضع نظراً إلى أعمية الاستعمال من الحقيقة ، كما هو واضح.

ومنها : التبادر وهو انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ وحاقه عند سماعه بلا كونه لقرينة حالية أو مقالية ، ولا اشكال أيضا في ثبوت الوضع بذلك حيث إنه كان امارة على كون المعنى المنساق في الذهن من اللفظ معناه الحقيقي الموضوع له. نعم قد يورد عليه باستلزامه محذور الدور الباطل من جهة توقف التبادر والانسباق على العلم بالوضع - من جهة انه لولاه لايكاد تبادر المعنى من نفس اللفظ وحاقه وتوقف العلم بالوضع وكون المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي على التبادر فيدور. وبعين هذا التقريب أورد هذا الاشكال على الشكل الأول بان العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى وتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة. وقد أجيب عنه في المقامين بالاجمال والتفصيل بان العلم الذي يتوقف التبادر عليه انما هو العلم الاجمالي الارتكازي ، والعلم الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي ، فان الانسان بحسب ماله من الارتكاز يتبادر المعنى في ذهنه من اللفظ وبالتبادر يلتفت تفصيلا بان المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي وحينئذ فيرتفع الدور المزبور باختلاف العلمين وكون الموقوف على التبادر غير الموقوف

ص: 66

عليه التبادر. هذا إذا أريد تبادر المعنى عند شخص المستعلم الذي هو جاهل بالأوضاع ، واما لو أريد بالتبادر تبادر المعنى عند أهل المحاورة فالامر أوضح ، حيث لايكاد مجال لتوهم الاشكال المزبور حتى يحتاج إلى الجواب عنه بالاجمال والتفصيل إذ عليه يكون ما يتوقف على التبادر هو علم المستعلم الجاهل بالأوضاع وما يتوقف التبادر عليه هو علم أهل المحاورة فيكون الموقوف عليه غير الموقوف عليه.

نعم قد يورد على التبادر اشكال آخر ، وحاصله ان مجرد تبادر المعنى ولو من حاق اللفظ غير موجب لكونه كذلك في زمن صدور الاخبار عن الأئمة علیهم السلام حتى يحمل عليه ما ورد عنهم في مقام الاستنباط فان من المحتمل حينئذ كون المعنى المتبادر من اللفظ حين صدوره في ذلك الزمان شيئا آخر غير ما هو المتبادر عندنا الآن ، ومع هذا الاحتمال لايكاد يجدي هذا التبادر في مقام الاستنباط أصلا الا إذا انضم إليه امر آخر وهو أصالة عدم النقل المعبر عنها بأصالة تشابه الأزمان كي يثبت بها كون المعنى المتبادر في سابق الزمان أيضا هو المعنى المتبادر عندنا. ولكن فيه انه وان كان الامر كذلك ولكنه نقول بأنه لا مانع من اجراء الأصل المزبور بعد كونه من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم كما في أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد ، إذ لولا تلك الأصول العقلائية لانهدم أساس الاستنباط في المسائل الشرعية ، وحينئذ فبعد تبادر المعنى من اللفظ يحمل عليه اللفظ الصادر ويحكم بمعونة الأصل المزبور بكونه كذلك في زمن صدوره أيضا.

ومنها عدم صحة السلب المعبر عنه بصحة الحمل أيضا فإنه قيل بكونه مما يثبت به الوضع أيضا لكونه علامة ان المعنى هو المعنى الحقيقي. وفي قباله صحة سلب المعنى بقول مطلق فإنه أيضا من علائم المجاز ، فهما علامتان حينئذ للحقيقة والمجاز. وقد أورد عليه بما أورد على التبادر باستلزامه الدور المحال ، ولكن الجواب هناك حرفا بحرف وكلمة بكلمة.

نعم هنا اشكال آخر وحاصله هو منع كون مجرد صحة العمل من علائم الحقيقة كما في استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء والملزوم في اللازم فإنه نرى صحة الحمل في تلك الموارد كقولك الانسان ناطق والانسان ضاحك وكاتب وهكذا مع أنه لا شبهة في كونه مجازا حيث لايصح استعمال اللفظ الموضوع لاحد المفهومين في المفهوم الآخر على

ص: 67

الحقيقة. بل ومن ذلك ظهر الحال في موارد الحمل الذاتي كقولك الانسان حيوان ناطق حيث إنهما مع كونهما متحدين ذاتا ووجودا خارجا ، لايصح استعمال أحدهما في الآخر نظراً إلى ما بين المفهومين من التغاير وكونه في أحدهما بسيطا وفى الآخر مركبا. وبالجملة نقول بان المدار في الحقيقة وصحة الاستعمال انما هو على وحدة المفهوم منهما كما في الانسان والبشر ، وصحة الحمل ولو بالحمل الذاتي فضلا عن الشايع الصناعي الذي مداره الاتحاد في الوجود لاتقتضي وحدة المفهوم الموجبة لصحة استعمال أحد اللفظين في الآخر بنحو الحقيقة لأنه يكفي في صحة الحمل مجرد الاتحاد وجودا أو ذاتا وان اختلفا في حدود المفهوم ، وعليه فلايكون مجرد عدم صحة السلب وصحة الحمل من علائم الحقيقة بقول مطلق وكاشفا عن وحدة المفهوم كما هو واضح. نعم صحة السلب بقول مطلق من علائم المجاز من جهة كشفه حينئذ عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى خلو كلمات السابقين عن ذلك حيث إنهم جعلوا صحة السلب بقول مطلق من امارات المجاز وما تعرضوا لصحة الحمل وعدم صحة السلب في جعله في عداد امارات الحقيقة.

ومنها الاطراد في استعمال بلا معونة قرينة في البين حالية أو مقالية ، ولا اشكال ظاهرا أيضا في كونه من علائم الحقيقة كما كان عدم الاطراد كذلك من علائم المجاز فإنه بعد أن يرى اطراد استعمال لفظ في مقامات متعددة في معنى وانه في جميع تلك الموارد ينسبق منه معنى واحد يقطع عادة بان الانسباق المعهود في تلك الموارد كان من نفس اللفظ وحاقه لا انه كان من جهة قرينة مخفية في البين أو مناسبة طبيعية ، ففي الحقيقة يكون الاطراد من قبيل السراج على السراج حيث إنه كان طريقا إلى التبادر الحاقي الذي هو طريق إلى الحقيقة ، وعلى كل حال فلا اشكال في كونه علامة الحقيقة ومما يثبت به الوضع ولو باعتبار كونه طريقا على الطريق ، غير أن الكلام فيه في تشخيص موارد الاستعمالات بأنها كانت من جهة القرائن الخاصة والمناسبات الطبيعية أم لا. ثم إن اشكال الدور الوارد في التبادر غير جار في الاطراد كي يحتاج إلى الجواب عنه بما عرفت من الاجمال والتفصيل بداهة عدم توقف الاطراد على العلم بالوضع ولو اجمالا أصلا.

***

ص: 68

الامر الثامن

قد اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها على أقوال : ثالثها التفصيل بين الألفاظ المتداولة الكثيرة الدوران وبين غيرها ، بالثبوت في الأول دون الثاني.

وليعلم بان مورد النزاع في هذا البحث بين الفريقين نفيا واثباتا انما هو في المهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، والا ففي المفردات كالركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها وكذا المخترعات العرفية لا مجال لجريان هذا البحث والنزاع ، إذ فيها لايكون استعمال الشارع ألفاظها الا في معانيها العرفية أو اللغوية كما في استعماله غيرها من الألفاظ المتداولة كالماء والتراب والحجر ونحوها ، ومجرد اعتبار الشارع فيها بعض القيود عند الامر بها والبعث نحوها بالايجاد بدال آخر عليه غير موجب لجريان النزاع فيها أيضا ، إذ عليه لايكون استعمال الشارع تلك الألفاظ الا في نفس معانيها العرفية أو اللغوية غايته انه في مقام المطلوبية أفاد بعض القيود والخصوصيات فيها بدال اخر. ومن ذلك البيان ظهر خروج المعاملات طرا كالبيع والصلح والإجارة ونحوها عن حريم هذا النزاع حيث كان حقايقها عرفية أمضاها الشارع ، غايته انه اعتبر فيها بعض القيود الوجودية أو العدمية بدال آخر ككونه مقترنا بأمر كذا وفي حال عدم كذا. وعليه فلاينبغي عد ذلك تفصيلا في المسألة كما يظهر عن بعض حيث فصل بين العبادات والمعاملات إذ التفصيل المزبور فرع عموم النزاع وجريانه حتى في المخترعات العرفية كما هو واضح.

بل ومن هذا البيان ابتناء هذا النزاع وجريانه في العبادات أيضا على أن يكون حقائقها مستحدثة في شرعنا ، والا فبناء على ثبوتها في الشرايع السابقة وكون الاختلاف فيها بين الشريعتين في خصوصيات الافراد نظير اختلافها بحسب حالات المكلفين كما ينبئ عنه غير واحد من الآيات من مثله قوله عز من قائل : أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (1) وقوله سبحانه لإبراهيم علیه السلام واذن في الناس بالحج (2) وقوله

ص: 69


1- سورة مريم ، الآية 31.
2- سورة الحج ، الآية 27.

سبحانه : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (1) تخرج أيضا عن حريم النزاع إذ عليه يكون ألفاظها حقايق لغوية قد استعملها الشارع في معانيها المعهودة الثابتة في اللغة ، غاية ما هناك انه صلی اللّه علیه و آله بعض الشرائط والموانع فيها بدوال أخر.

واما ما قيل من أن مجرد ثبوت هذه المعاني قبل شرعنا ومعهوديتها عند العرف لا يقتضى معهوديتها عندهم بتلك الألفاظ الخاصة المستعملة فيها في شرعنا فيمكن حينئذ كونها حقيقة شرعية بوضع الشارع تلك الألفاظ الخاصة لتلك المعاني والمهيات المخصوصة وضعا تعيينيا أو تعينيا فان العبرة والمدار في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها انما هو على صيرورة تلك الألفاظ حقيقة في تلك المعاني والمهيات بوضعه صلی اللّه علیه و آله ، كانت تلك المعاني ثابتة قبل شرعنا ومعهودة عند العرف أو كانت حادثة في شرعنا ، وعليه فلايوجب مجرد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة كون ألفاظها حقائق لغوية كي تخرج عن حريم النزاع ما لم يثبت ان تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في عرف اللغة في سابق الزمان واما دعوى ان تلك الألفاظ بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان فخال عن البرهان ، حيث لا برهان يساعده ولا شاهد له غير ما يرى في الكتاب العزيز من اطلاق تلك الألفاظ فيه على تلك المعاني ، وهو كما ترى مما لا شهادة فيه على ذلك ، لان غاية ما يوجبه انما هي الدلالة على وجود سنخ تلك المهيات والمعاني في الشرايع السابقة واما انها مما يعبر عنها أيضا بتلك الألفاظ في ذلك الزمان فلا كما لايخفى. فمدفوع بأنه يكفي في الشهادة على ذلك ما في قوله سبحانه ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) فإنه لولا معهودية حقيقة الصوم بمثل هذا اللفظ عند العرف لكان اللازم حينئذ إقامة البيان على ما هو المراد من الصوم إذ حينئذ كان المجال لسؤالهم من النبي صلی اللّه علیه و آله بأنه أي شيء كان واجبا على الأمم السابقة فصار واجبا علينا ، وحينئذ فنفس هذا الاطلاق بضم عدم التعرض لتفسيره بالامساك المخصوص أقوى شاهد على معهودية الصوم الذي كان واجبا على الأمم السابقة بهذا اللفظ عند عرف اللغة. وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه

ص: 70


1- سورة البقرة ، الآية 183.

بعد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة يكون ألفاظها أيضا حقايق لغوية فيخرج عن حريم النزاع.

نعم لو اغمض عن هذه الجهة وقلنا بكون هذه المهيات مستحدثة في شرعنا أو كونها ثابتة في الشرايع السابقة ولكنها بغير تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع ، لما كان مجال حينئذ لانكار الحقيقة الشرعية ، تارة بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها كان من باب المجاز ومعونة القرائن ، وأخرى كما عن الباقلاني - بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ دائما كان في معناها اللغوي لا غير ولكنه أفاد بعض الخصوصيات من الشرائط والموانع بدوال خارجية ، فكان لفظ الصلاة مثلا في جميع الموارد في كلامه صلی اللّه علیه و آله مستعملة في الدعاء وأفاد الخصوصيات من الترتيب والموالاة ونحوها من الشرائط والاجزاء والموانع بدوال أخر خارجية ، وثالثة بغير ذلك. إذ ذلك كله ينافيه ما عليه ديدن العقلاء في اخترائهم الماهيات ، فان كل مخترع لماهية من الصدر الأول إلى الآن بنائه وديدنه على وضع لفظ مخصوص أيضا بإزاء ما اخترعه من الماهية لا انه يستعمل فيه اللفظ مجازا بلا وضع اسم خاص لما اخترعه ، ومن المعلوم أيضا ان الشارع في مقام شارعيته واختراعه لتلك الماهيات أو امضائه لها بين رعيته ما جاوز هذه الطريقة المألوفة ، حيث إنه من المستبعد جدا ان يكون له في ذلك طريقة خاصة غير ما جرى عليه ديدن العقلاء ، وإلا يلزم عليه البيان بكونه غير سالك لما هو طريقة العقلاء لكي لا يحملوا اللفظ الصادر منه عند خلوه عن القرينة على المعنى الشرعي مع أنه صلی اللّه علیه و آله لم يقم بيانا على ذلك فكان نفس عدم بيانه لذلك كاشف كون جريه على طبق ديدن العقلاء فيثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.

واما الاشكال عليه بان صيرورة اللفظ حقيقة في معنى لسانه صلی اللّه علیه و آله لابد وأن يكون بأحد الامرين ، اما وضعه صلی اللّه علیه و آله ابتداء أو كثرة استعماله ، وهما ممنوعان ، اما الأول فلبعده غايته لأنه لو كان لو صل إلينا مع أنه لم ينقل أحد من المؤرخين انه صلی اللّه علیه و آله قام يوم كذا في مجلس كذا وقال اني وضعت لفظ الصلاة للأركان المخصوصة ، خصوصا مع وفور الدواعي على نقل ما يصدر منه صلی اللّه علیه و آله واما الثاني فمن جهة احتياجه إلى مضى زمان طويل بنحو يصير اللفظ إلى حد الحقيقة ، فمندفع بأنه كذلك مع انحصار الوضع بما ذكر وليس كذلك ، بل له طريق ثالث ،

ص: 71

وهو ان يتحقق بنفس الاستعمال الذي هو من قبيل الانشاء الفعلي نظير المعاطاة في المعاملات كما في قولك في مقام تسميتك ولدك جئني بولدي محمد ، قاصدا تحقق العلقة الوضعية بنفس هذا الاستعمال ، بل ومن ذلك أيضا ما للمصنفين في كتبهم من الاصطلاحات الخاصة ، كالحاكم والمحكوم والوارد والمورود ونحو ذلك. نعم لابد في ذلك من إقامة قرينة على وضعه كي لايحتاج بعد ذلك إلى إقامة قرينة على المراد كما في المجاز. وعدم كون مثل هذا الاستعمال حقيقة ولا مجازا غير ضمائر بالمقصود بعد عدم كونه أيضا من المستنكرات. وحينئذ لو ادعى القائل بالثبوت مثل هذا المعنى كان دعواه في محله حيث لا يرد عليه محذور ، كما هو واضح.

ثم إن الثمرة بين القولين انما هي في الألفاظ المستعملة في لسانه صلی اللّه علیه و آله من دون تعويل على القرينة ، فإنه بناء على الثبوت يحمل على المعنى الشرعي وبناء على عدم الثبوت يحمل على المعنى اللغوي ، فتدبر.

الامر التاسع

اشارة

قد وقع التشاجر والخلاف بين الاعلام في أن الألفاظ أسام للمعاني الصحيحة أو لأعم منها والفاسدة ، ولتنقيح المرام نقدم أمورا فنقول :

الامر الأول : ان مورد الخلاف كما عرفت في عنوان البحث انما هو الوضع لخصوص الصحيح أو لأعم منه والفاسد واما احتمال وضعها لخصوص الفاسدة قبالا للقولين الأولين فلم يعهد من كلماتهم بل لم يتوهمه أحد منهم. كما أن الظاهر هو اختصاص هذا النزاع بخصوص الألفاظ المستعملة في المعاني المخترعة الشرعية كألفاظ العبادات ونحوها لا مطلقا حتى الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة كالركوع والسجود ونحوهما مما اخذ موضوعا للتكليف في لسان الشرع ولو مقيدا بأمور وجودية أم عدمية ، لان مثل هذه مما لايتصور فيها اتصافها بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، حيث كان أمرها دائما دائرا بين الوجود والعدم. نعم قد يتصور جريانه بالنسبة إلى المركبات الخارجية أيضا مما كان لها القابلية للاتصاف بأحد الامرين تارة وبالآخر أخرى ، ولكن مورد كلامهم انما كان في المخترعات الشرعية من نحو الصلاة والحج ونحوهما.

ص: 72

الثاني من الأمور : ان مثل هذا النزاع غير مبتن على القول بثبوت الحقيقة الشرعية كما توهمه بعض ، بل يجري النزاع ولو على القول بعدم الثبوت حيث كان مرجع النزاع على هذا القول إلى أن العلاقة النوعية التي اعتبرها الشارع ابتداء في استعمال تلك الألفاظ مجازا هل هي بين المعنى اللغوي وخصوص الصحيح منها بحيث يحتاج استعمالها في الأعم إلى رعاية علاقة أخرى بينه وبين الأعم ، أو بين الأعم والصحيح من باب سبك المجاز عن مجاز ، أو ان تلك العلاقة النوعية ابتداء كانت بين المعنى اللغوي وبين الأعم من الصحيح من تلك الماهيات؟ كما أنه يجرى النزاع أيضا على قول الباقلاني من استعمال الشارع تلك الألفاظ في خصوص معانيها اللغوية مع ضم قرينة عامة على اعتبار بعض القيود ، إذ مرجع النزاع على هذا القول أيضا إلى أن تلك القرينة العامة هل بنحو تدل على اعتبار جميع الاجزاء والشرائط والموانع أو بنحو تدل على اعتبارها في الجملة؟ نعم لو كان اعتبار الاجزاء والشرائط على هذا القول بمعونة القرائن الشخصية الدالة كل واحدة منها على اعتبار جزء أو شرط أو مانع لاشكل جريان النزاع على هذا القول ، ولكن الفرض بعيد جدا فإنه مضافا إلى ضعف هذا المسلك في نفسه ولذا لم يذهب إليه الا الباقلاني لايظن التزامه بالقرائن الشخصية لكل واحد من الاجزاء والشرائط والموانع ، وعليه فكان المجال لجريان هذا النزاع على كلا القولين في المسألة السابقة.

الثالث من الأمور : لايخفى ان الصحة في المقام وكذا في غير المقام انما هي بمعناها اللغوي والعرفي أي التمامية بالإضافة إلى الأثر المهم ، وفي قبالها الفساد بمعنى النقصان الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث لم يترتب عليه الأثر المرغوب منه. وحينئذ فكانت الصحة في جميع الموارد بمعنى واحد وهو التمامية بلا اختلاف في معناها وحقيقتها أصلا. واما ما يرى من الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في تفسيرها تارة باسقاط الإعادة والقضاء كما عن الفقيه ، وأخرى بموافقة الامر والشريعة كما عن المتكلم ، وثالثة بغير ذلك فإنما هو بلحاظ ما هو المهم عند كل طائفة من الآثار والاغراض ، لا ان الاختلاف بينهم كان في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها ، فغرض الفقيه لما تعلق باثر خاص منها وهو المسقطية للإعادة والقضاء فسرها بما يوافق غرضه ، كما أن غرض المتكلم تعلق باثر خاص آخر منها وهو تحقق الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة عليه ففسرها بما وافق غرضه من موافقة الامر والشريعة ، مع وفاقهم على وحدة معناها ، فكان كل منهم

ص: 73

مشيرا إلى تلك الحقيقة بتوسيط ما هو المهم في نظره في إضافة تمامية الشيء بالقياس إليه بلا اختلاف بينهم في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها. ولئن شئت قلت بان اختلاف الفقيه والمتكلم انما هو فيما هو مصداق الصحة الذي يختلف باختلاف الأنظار لا في مفهومها ، والا فالصحة حقيقتها من الأمور الاعتبارية الطارية على الشيء بلحاظ ما يترتب على الشيء من الآثار من دون اختلاف في حقيقتها أصلا.

ومن ذلك نقول أيضا بان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان بحسب الأنظار والآثار ، فربما يكون الشيء صحيحا بنظر بلحاظ ترتب الأثر المقصود عليه في هذا النظر ، وفاسدا بنظر آخر لعدم ترتب الأثر المرغوب منه عليه في هذا النظر ، كما في الاتيان بالمأمور به الظاهري على القول بالاجزاء عند كشف الخلاف فإنه يكون صحيحا بنظر الفقيه وفاسدا بنظر المتكلم كما هو واضح. ومن ذلك البيان انقدح أيضا جهة أخرى وهي عدم امكان اخذ عنوان الصحة مفهوما أو مصداقا قيدا في ناحية المعنى والموضوع له ، لان هذه الحيثية حينئذ انما هي كعنوان الموضوعية والكلية والجزئية من العناوين المنتزعة عن رتبة متأخرة عن الشيء فإنها بعد كونها بمعنى تمامية الشيء التي هي عبارة أخرى عن مؤثريته ووفائه بالغرض فلا جرم كان انتزاع عنوانها عن رتبة متأخرة عن ترتب الأثر عليه ، نظير العلية والموضوعية ، لان الشيء باعتبار انه واف بالغرض ويترتب عليه الأثر ينتزع عنه الصحة ويتصف بكونه صحيحا ، ومعه يستحيل اخذ مثل ذلك مفهوما أو مصداقا في ناحية ذات المعنى والموضوع له الذي هو الموضوع للآثار ، من دون فرق في ذلك بين الصحة الفعلية أو الشأنية ففي الثاني أيضا تكون الصحة مفهوما ومصداقا من العناوين الطارية على الشيء المنتزعة عن رتبة متأخرة عن قابلية الشيء بنحو يترتب عليه الأثر المهم ، وهذا واضح بعد وضوح كون القابلية المزبورة من العوارض الطارية على الذات الزائدة عليها.

نعم الذي يمكن اخذه فيه انما هو المعنى الملازم للصحة لا المقيد بها. وعليه فتحريرهم النزاع بالوضع لخصوص المعنى الصحيح أو الأعم لابد وأن يكون بضرب من العناية والمسامحة والا فقد عرفت كونه من المستحيل. وحينئذ فكان الأولى في مقام تحرير النزاع هو تحريره بان اللفظ هل هو موضوع للمعنى الملازم للصحة خارجا أو المعنى الغير الملازم لها فتدبر.

ص: 74

وعلى كل حال فالظاهر أن المراد من الصحة في المقام عند القائل بالصحيح هو الصحة الاقتضائية على معنى كون الشيء تاما في مرحلة اقتضائه في المؤثرية ويقابلها الفساد بمعنى عدم تماميته في مرحلة الاقتضاء في التأثير ، لا ان المراد هو الصحة الفعلية الملازمة للمؤثرية الفعلية ، كيف وان مثل هذا المعنى في العبادات منوط بقصد القربة المعلوم بالبداهة خروجه عن المسمى جزما نظراً إلى استحالة اخذه فيه كما هو واضح ، ومعه لا محيص وأن يكون مورد البحث والكلام من الصحة والتمامية هو الصحة الاقتضائية لا الفعلية.

نعم يبقى الكلام حينئذ بالنسبة إلى غير قصد القربة من الشرائط الاخر كالطهور والقبلة والتستر ونحوها في عموم النزاع وجريانه بالنسبة إليها أيضا أو اختصاصه بخصوص الاجزاء؟ فنقول : الذي يظهر من المشهور من القائلين بالصحيح من مثل استدلالهم بمثل قوله : لا صلاة الا بطهور ولا صلاة الا إلى القبلة ، هو الأول من تعميم النزاع بالنسبة إلى الشرائط أيضا فان استدلالهم بما ذكر لنفى الحقيقة بدون الطهور والقبلة ظاهر بل صريح في إرادة الصحة والتمامية حتى بحسب الشرائط أيضا. وعليه فلا يبقى مجال لتخصيص هذا النزاع بخصوص الاجزاء وجعل المراد من الصحة والتمامية هو التمامية بحسب الاجزاء دون الشرائط كما لايخفى.

نعم قد يشكل عليه بان ذلك كذلك فيما لو كانت الشرائط راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المؤثر والمقتضى ولو بنحو دخول التقيد وخروج القيد الراجع إلى كون حقيقة الصلاة مثلا عبارة عن الاجزاء الخاصة من الركوع والسجود ونحوهما مع تقيدات خاصة بالطهارة والقبلة والستر ، والا فبناء على رجوعها إلى مقام الدخل في قابلية المحل للتأثر والانوجاد نظير الشرائط في العلل التكوينية الخارجية كما في مثل يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة في الاحراق ، فلا جرم يلزمه خروج الشرائط طرا عن مركز هذا النزاع ، من جهة ان ما فيه اقتضاء الصحة حينئذ ليس الا نفس الاجزاء وانما كان دخل الشرائط في مقام اتصافها بالصحة والمؤثرية الفعلية ، كما هو الشأن في العلل التكوينية الخارجية أيضا كالنار مثلا فان ما ينشأ منه الاحراق الا النار بلا مدخل لحيث يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة الا في مرحلة اتصافها بالمؤثرية الفعلية. وعليه فبعد ان لم يكن المراد من الصحة هو الصحة الفعلية بشهادة خروج مثل قصد القربة ، بل كان المراد منها هو الصحة

ص: 75

الاقتضائية على معنى كون الشيء تاما في عالم اقتضائه في التأثير ، فلا جرم يلزمه تخصيص النزاع بخصوص الاجزاء في التمامية والنقصان مع الالتزام بخروج الشرائط عن مقام الدخل في المسمى والتسمية لا تعميمه حتى بالنسبة إلى الشرائط ، الا على فرض إرادة القائل بالصحيح الوضع للصحيح الفعلي ، وعليه أيضا يتوجه اشكال قصد القربة كما هو واضح.

وعليه فلابد من تنقيح ان الشرائط هل هي راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المقتضى ولو بنحو دخول التقيد ، أو هي راجعة إلى مرحلة الدخل في قابلية المحل والمقتضى بالفتح للتأثر والانوجاد من قبل المقتضي بالكسر وما ينشأ منه الوجود ، كي يلزمه انحصار ما فيه اقتضاء الصحة في المقام بخصوص الاجزاء؟ وفي مثله ربما كان المتعين هو الثاني ، نظراً إلى ما تقتضيه النصوص من استناد المقربية والنهى عن الفحشاء إلى عنوان الصلاة بضميمة معلومية كون الصلاة من العناوين القصدية التي قوام تحققها بالقصد إلى عنوانها عند الاتيان بها ، بشهادة عدم صدق الزيادة الحقيقية عند الاتيان بشيء من اجزائها قرائة أو ركوعا أو غير هما لا بقصد الصلوتية ، حيث إنه بعد عدم قصدية التقيدات الخاصة بالطهارة والستر والقبلة وتوصليتها ، بشهادة اجماعهم على صحة صلاة من صلى مع الغفلة عن الشروط مع اتفاق وجدان صلوته لجميع ما اعتبر فيها من الطهارة والستر والقبلة ونحوها واقعا ، يستفاد من المقدمتين المزبورتين ان الصلاة التي هي المؤثرة في النهى عن الفحشاء والمقربية عبارة عن خصوص الاجزاء وان الشرائط خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل في المقتضي ، لأنه لولا خروجها عنه يلزمه تركيب الصلاة من الأمور القصدية وغيرها. وهو كما ترى مما لايمكن الالتزام به ، لمنافاته لما بنوا عليه وما هو المرتكز من قصدية عنوان الصلاة كما هو واضح فتأمل. وعليه فلا يبقى مجال للقائل بالصحيح لا دخال الشرائط في المسمى بدعواه الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط بعد فرض عدم التزامه بالصحيح الفعلي ، هذا.

اللّهم الا ان يقال حينئذ بان الشرائط بمقتضى البيان المزبور وان كانت خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل في الاقتضاء بل كان المسمى وما فيه الاقتضاء للتأثير هو خصوص الاجزاء ، دونها مع التقيدات الخاصة ، ولكنه مع ذلك أمكن دعوى دخلها في مقام التسمية ، حيث يمكن ان يقال بكونها بمقتضى قوله : لا صلاة الا بطهور ، والا إلى

ص: 76

القبلة ، مما لها الدخل في أصل اتصاف الاجزاء بالصلوتية بحيث لو لاها لما كاد اتصافها بكونها صلاة أصلا ، وعليه فللقائل بالصحيح كمال المجال لدعوى الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط مع التزامه أيضا بالصحيح الاقتضائي دون الفعلي والتزامه أيضا بان ما هو المقتضي للصحة وللنهي عن الفحشاء هو خصوص الاجزاء وانها هي المسماة بالصلاة دون غيرها كما لايخفى.

بقى شيء وان لم يكن له مساس بما نحن بصدده وهو ان الصحة والفساد في المقام بل وكذا في غير المقام ، هل هي مجعولة أو انتزاعية صرفة من التكليف ، أو انها من الأمور الواقعية؟ حيث إن فيها وجوها ، ولكن التحقيق فيها هو التفصيل بين كونها بمعنى سقوط الإعادة والقضاء كما عند الفقيه فجعلية كما في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات حيث كان سقوط الإعادة والقضاء بجعل من الشارع وحكم منه بالسقوط ، وبين كونها بمعنى موافقة الامر كما عند المتكلم فانتزاعية صرفة من التكليف والامر ، وبين كونها بمعنى المؤثرية في الملاك والمصلحة فامر واقعي لا جعلي ولا انتزاعي من التكليف والامر فتدبر.

الرابع من الأمور : لايخفى ان هذا النزاع انما يختص جريانه بالمعاني القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، واما ما لايكون كذلك مما يدور امره دائما بين الوجود والعدم وكان وجوده مساوقا لصحته فلا يجري فيه هذا النزاع. وعلى هذا فيختص هذا النزاع بعناوين العبادات كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا يجرى في عناوين المعاملات كالبيع والصلح والنكاح ونحوها لان تلك العناوين مما يدور أمرها دائما بين الوجود والعدم ، حيث كان صحتها وترتب الأثر عليها مساوق وجودها وتحققها كما أن عدم ترتب الأثر عليها مساوق عدم وجودها فلايتصور لها وجود حينئذ يترتب عليها الأثر تارة ولايترتب عليها أخرى. وهذا بخلافه في العبادات فإنها باعتبار تركبها كانت قابلة للاتصاف بالصفين المزبورين بحيث يترتب عليها الأثر تارة ولايترتب عليها أخرى ولذلك كان لجريان النزاع فيها كمال مجال. نعم لو قلنا في المعاملات بان تلك العناوين من البيع والصلح والإجارة ونحوها أسام للأسباب وهي العقود دون المسببات يدخل المعاملات أيضا في عموم النزاع ، حيث إنها باعتبار تركبها حينئذ من اجزاء كالايجاب والقبول واشتمالها على شرائط خاصة من نحو صدورها عن البالغ العاقل وممن له الأهلية

ص: 77

كانت قابلة للصحة تارة والفساد أخرى ، فبذلك يجرى فيها النزاع أيضا.

اشكال ودفع : قد يتوهم منافاة ما ذكرنا من خروج عناوين المسببات في المعاملات عن حريم هذا النزاع من جهة دوران أمرها بين الوجود والعدم وعدم قابليتها للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، مع ما بنوا عليه من جريان أصالة الصحة فيها عند الشك في صحتها وفسادها من جهة الشك في بعض ما اعتبر فيها ، حيث كان قضية بنائهم على جريان أصالة الصحة فيها هي قابليتها للوصفين المزبورين فيلزمه حينئذ دخولها في حريم هذا النزاع. ولكنه مدفوع بمنع التنافي لان ما يرى من بنائهم على جريان أصالة الصحة في البيع الصادر مثلا عند الشك في صحته وفساده فإنما هو باعتبار اجرائهم القائدة المزبورة في سببه الذي هو العقد الصادر ، باعتبار كون ترتب المسبب شرعا من لوازم صحة العقد وتماميته في عالم مؤثريته لا ان ذلك من جهة اجرائهم القاعدة في نفس المسبب حتى يرد الاشكال التنافي وهذا واضح.

وهم ودفع آخر : اما الوهم فهو انه قد يشكل في العبادات أيضا بلزوم خروجها عن محل النزاع ، نظراً إلى دعوى بساطتها وان الصلاة مثلا عبارة عن العطف الخاص الذي هو امر بسيط غاية البساطة وكان الافعال والأذكار الخاصة من قبيل المحققات لذلك العطف الخاص ، نظيره الطهارة بالقياس إلى الغسلات والمسحات فيلزمها خروجها أيضا على هذا المبنى عن حريم النزاع لعين ما ذكر من المناط في عناوين المسببات في المعاملات من العقود والايقاعات ، بل ولازمها حينئذ هو تعين المصير فيها إلى الاشتغال عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته أو ما نعيته دون البراءة ، نظراً إلى كون مرجع الشك حينئذ إلى الشك في مرحلة الفراغ والخروج عن عهدة ما ثبت الاشتغال به يقينا وهو الامر البسيط لا إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف ، كما هو واضح.

وتوضيح الدفع هو انه انما يتوجه هذا الاشكال بناء على كون الامر البسيط أمرا آنيا غير متدرج الحصول من قبل الاجزاء والشرائط المعهودة وهو في محل المنع جدا ، من جهة منافاته لما نطق به الأخبار الواردة في شرح الصلاة من نحو قوله علیه السلام تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وما دل على قاطعية بعض الأمور لها كالحدث والاستدبار ونحوهما ، بل الذي يمكن القول به على فرض البساطة هو كونها أمرا ممتدا ذا مراتب من أول التكبيرة إلى آخر التسليم بنحو يكون كل جزء مؤثرا في تحقق مرتبة منها ، وعليه فلايقتضي مجرد

ص: 78

بساطتها خروجها عن محل النزاع بل لجريان النزاع المزبور فيها حينئذ كمال مجال ، إذ كان مرجع النزاع المزبور إلى أن الصلاة هل هي اسم لتلك المرتبة الخاصة الناشئة من قبل مجموع الاجزاء والشرايط والممتدة من أول التكبيرة إلى اخر التسليم التي هي منشأ للآثار أو انها اسم للأعم منها ومن غيرها من المراتب الاخر الناشئة من قبل بعض الاجزاء والشرائط؟

ومن ذلك البيان ظهر الجواب عن شبهة مرجعية الاشتغال أيضا عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته للواجب ، إذ نقول بأنه بعد فرض كون الامر البسيط أمرا ممتدا ذا مراتب فلا جرم مرجع الشك في دخل المشكوك إلى الشك في تعلق التكليف بأزيد من تلك المرتبة المعلومة ، وفي مثله كان لجريان البراءة فيها كمال مجال بناء على جريانها في كلية الأقل والأكثر الارتباطيين.

ثم إن هذا كله في فرض تسليم البساطة بالمعنى المزبور والا فبناء على المنع عن ذلك أيضا والقول بالبساطة فيها بمعنى آخر بجعل الصلاة عبارة عن امر معنوي منطبق خارجا على الافعال والأذكار المعهودة فلا موقع لهذا الاشكال ، فضلا عما لو قلنا بأنها عبارة عن نفس الافعال والأذكار المعهودة المتقيدة بقصد الصلوتية على نحو خروج القيد ودخول التقيد كما هو الظاهر المنساق من النصوص الواردة في شرح حقيقة الصلاة ، إذ عليها كان امر جريان النزاع المزبور فيها بل والنزاع الآخر أيضا من جهة مرجعية البراءة أو الاشتغال أوضح كما هو واضح.

الخامس من الأمور : وهو العمدة في الباب ، انه على كلا القولين في المسألة لابد من تصور جامع في البين يكون هو المسمى بالصلاة مثلا ، حيث لا اختصاص لذلك على القول بالأعم ، بل على القول بالصحيح أيضا لابد من وجود الجامع أيضا عنده بين الافراد الصحيحة ، نظراً إلى ما يرى من الاختلاف الفاحش بين افراد الصحيح حسب اختلاف الموارد والاشخاص بحسب حالاتهم ، كما في صلاة العالم القادر المختار وصلاة العاجز غير القادر على اختلاف مراتب العجز المتصور فيه البالغ إلى صلاة الغريق المشرف على الهلاك ، بل وكذلك بالنسبة إلى افراد صلاة العالم القادر المختار حيث إن فيها أيضا اختلافا عظيما من حيث الكمية والكيفية كصلاة القصر والاتمام وصلاة الصبح والظهر والمغرب وصلاة الكسوف والعيد والجنازة ونحوها ، إذ حينئذ لا محيص على القول بالصحيح أيضا

ص: 79

من كشف جامع بين تلك الافراد المختلفة كمية وكيفية يكون هو المسمى بالصلاة عنده ، فرارا عن محذور الاشتراك اللفظي فيها وجعل الصلاة من قبيل متكثر المعنى.

وحيث إن تصور الجامع بين افراد الصحيح في غاية الصعوبة والاشكال لعدم جامع صوري بينها يدور عليه مدار التسمية ولا جامع معنوي أيضا بينها ، التزم بعض كالشيخ قدس سره على ما في التقرير بالصحيح الشخصي فقال بان الصلاة اسم لخصوص صلاة العالم القادر المختار التي هي تامة الاجزاء والشرائط ، وان ما عداها من الصلوات الاخر ابدال لها لا انها صلاة حقيقة وان اطلاقها على مثل صلاة الناسي لبعض الاجزاء والشرائط وصلاة المريض ونحو هما من باب التوسعة بمعنى ان المتشرعة توسعوا في تسميتها بالصلاة من جهة حصول ما هو الأثر المقصود من الصلاة التامة الاجزاء والشرائط وهو المسقطية للإعادة والقضاء منها أيضا. ولكن فيه ما لايخفى إذ ذلك بعد عدم تماميته في نفسه لايكاد يندفع به الاشكال المزبور أيضا ، إذ نقول بأنه بعد وضوح كثرة الاختلاف بين الصلوات الثابتة في حق العالم القادر المختار كمية وكيفية كما بين صلاة الكسوف والعيدين وصلاة الجنازة والقصر والاتمام والصبح والظهر والمغرب ونحوها فيسئل عنه بأنه أي واحدة منها تجعل أصلا والبقية بدلا؟.

فلا محيص حينئذ بعد بطلان القول بالأصلية والبدلية في مثل تلك الصلوات من القول بأحد الامرين ، اما الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها ، واما الالتزام بكشف الجامع وقدر المشترك بينها. وبعد بطلان الاشتراك اللفظي فيها بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون ، في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة غير ما يصلى الاخر ، بلا محذور لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، يتعين الوجه الثاني من الالتزام بالجامع بين افراد صلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط. وعليه نقول بأنه إذا أمكن تصور الجامع بين هذه فلا داعي إلى اتعاب النفس وجعل مثل صلاة الناسي والعاجز ابدالا للصلاة ، بل من الأول توسع دائرة ذلك الجامع بنحو يشمل الصلوات الاضطرارية وصلاة الناسي للجزء أو الشرط كي لا نحتاج إلى اتعاب النفس بجعل ما عدا الصلوات التامة الاجزاء والشرائط الثابتة في حق العالم القادر ابدالا للصلاة.

نعم لو كان قضية الالتزام بالصحيح الشخصي من جهة الاستفادة من الأخبار الواردة في شرح حقيقة الصلاة لا من جهة عدم تصور الجامع والقدر المشترك بينها فله وجه ،

ص: 80

حيث يسلم عما أوردنا عليه من الاشكال ، ولكن الكلام حينئذ في أصل استفادة هذا المطلب من النصوص إذ لايكاد استفادة ذلك من شيء من النصوص لولا دعوى استفادة خلافه منها إذ المستفاد من مثل النصوص الواردة في الناسي للقرائة والسجدة والتشهد وفي الجاهل التارك للاجهار أو الاخفات بالقراءة وكذلك القصر والاتمام بمثل قوله علیه السلام ( قد تمت صلوته ولا يعيد ) وكذلك النصوص الواردة في الصلوات الاضطرارية بالنسبة إلى العاجز ، هو كون الصلوات المزبورة صلاة حقيقية لا انها ابدال للصلاة وان ما هو المسمى بالصلاة هو خصوص الصلاة الثابتة في حق العالم القادر المختار كما هو واضح.

وحينئذ فعلى كل حال لا مجال لما افاده في التقرير من الالتزام بالصحيح الشخصي بوجه أصلا كما لايخفى. وحينئذ فبعد بطلان احتمال الاشتراك اللفظي وتعدد الوضع بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد صلاة تغاير صلاة الآخر كالصلاة اليومية وصلاة الخسوف والعيدين وصلاة الجنازة من دون رعاية عناية في البين من نحو التأويل بالمسمى ، وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع دون بعض بجعل البقية ابدالا كما عن التقرير فلا محيص من الكشف عن قدر مشترك بين تلك المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المسمى بالصلاة ويدور عليه مدار التسمية والصحة ، مع كونه أيضا من التشكيكيات التي تنطبق على الزائد والناقص بتمام الانطباق ، فينطبق على الفرد المشتمل على ثلاثة اجزاء والفرد المشتمل على أربعة اجزاء وهكذا الفرد المشتمل على تمام الاجزاء والشرائط الذي هو صلاة الكامل العالم المختار ، نظير مفهوم الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة والخمسة ، ونظير مفهوم الكلمة الصادق على كل حرفين من حروف التهجي وعلى الثلاثة وعلى الأربعة فصاعدا ، ومفهوم الكلام الصادق على كل كلمتين فصاعدا.

وطريق كشف الجامع حينئذ انما هو أحد الامرين على سبيل منع الخلو :

الأول استكشافه من جهة ما ذكرنا من صدق مفهوم الصلاة على الصلوات المختلفة بحسب الكمية والكيفية وانسباق وحدة المفهوم منها الحاكية عن اتحاد الحقيقة ، نظير تمسكهم بانسباق مفهوم واحد من الوجود على كونه مشتركا معنويا ومتحدا في الحقيقة ، حيث إن الانسباق المزبور وصدق الصلاة على الصلوات المختلفة في قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة تخالف صلاة الآخر ، من دون رعاية عناية و

ص: 81

تأويل بالمسمى يقتضي قهرا وجود جامع بين تلك المختلفات مع كونه من قبيل التشكيكيات الصادقة على القليل والكثير. وحينئذ نقول بأنه بعد عدم جامع صوري محفوظ في البين بين تلك الافراد وعدم جامع مقولي ذاتي أيضا - لالتيام الصلاة خارجا من مقولات متعددة كالكيف والوضع والفعل والإضافة ونحوها - فلابد في تصويره من أن يجعل الجامع المزبور عبارة عن الجامع الوجودي.

وذلك انما هو بان يؤخذ من كل مقولة من تلك المقولات المتعددة جهة وجودها ، بالغاء الحدودات الخاصة المقومة لخصوصيات المقولات ، مع تحديد الوجود المزبور أيضا بان لا يخرج عن دائرة أفعال الصلاة واجزائها على اختلافها حسب اختلاف حالات المكلفين ، ثم جعله أيضا من التشكيكيات الصادقة على الزائد والناقص وعلى القليل والكثير ، فيقال في مقام شرح حقيقة الصلاة بأنها عبارة عن رتبة خاصة من الوجود المحدود بكونها من الدائرة المزبورة مع اشتمالها أيضا على الأركان ولولا بوصف مقوليتها بل بجهة وجودها الساري فيها - نظير تحديد مفهوم الكلمة مثلا الملتئمة من حرفين فصاعدا بكونها مشتملة على الحرف أو حرفين من حروف التهجي - وجعلها من طرف غير الأركان من الافعال والأذكار مبهما محضا وعلى نحو اللابشرط كي تصدق على ذي اجزاء خمسة وذي اجزاء سبعة فصاعدا بحيث يشار إليها في مقام الإشارة الاجمالية بما هو معراج المؤمن وما هو قربان كلي تقي وما هوناه عن الفحشاء والمنكر ، فإنه على هذا البيان يكون مفهوم الصلاة بعينه من قبيل مفهوم الكلمة المنطبق على كل حرفين من حروف التهجي فصاعدا ، ومن قبيل مفهوم الجمع الصادق على كل ثلاثة وأربعة فصاعدا على اختلاف مراتب الجمع قلة وكثر فينطبق الصلاة أيضا على كل واحدة من افراد الصلاة من صلاة الكامل العالم المختار وصلاة المضطر والغريق ونحوها من المصاديق المختلفة كيفية وكمية ، نحو انطباق الكلي المتواطي على افراده ومصاديقه ، ومع ذلك أيضا باعتبار جعلها لا بشرط من طرف غير الأركان يكون من قبيل الحقايق التشكيكية المتصورة في الكم الملتئم من اجزاء مختلفة بحسب المصداق من حيث الزيادة والنقصان.

واما ما قيل من استلزام هذا المعنى لجواز اتيان المكلف بأي نحو من الافراد والمصاديق في مقام الامتثال نظراً إلى تحقق الجامع المزبور الذي هو مورد تعلق التكليف والامر باتيان أي فرد من الافراد مع قضاء الضرورة من الدين ببطلانه ، من جهة ضرورية

ص: 82

ان لكل شخص حسب اختلاف الحالات والعوارض الطارية عليه من السفر والحضر والاختيار والاضطرار والصحة والسقم وظيفة خاصة معينة بحيث لو أتى في مقام الامتثال بغير ما هو الوظيفة المقررة في حقه لما كان آتيا بالصلاة وما هو المأمور به في حقه ، فمدفوع بان هذا المحذور انما يتوجه لولا مدخلية الحالات الخاصة في حصر مصداق الجامع في حقه بصدور فعل خاص من فاعله ولو من جهة إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بصدور فعل خاص منه ، والا فمع مدخلية تلك الحالات الخاصة في ذلك فلا مجال لهذا الاشكال فان عدم جواز اتيان المكلف العالم المختار مثلا بصلاة المضطر والغريق في مقام الامتثال انما هو من جهة مدخلية تلك الحالة الخاصة في جزئية الشيء الفلاني وشرطيته بنحو يستحيل تحقق الجامع المزبور بدونه ، كمدخلية كل حالة مخصوصة في انحصار المرتبة الخاصة من مراتب الجامع المزبور بها ، بملاحظة دوران التسمية مدار تأثيرها المختص كل مرتبة منها بطائفة خاصة ، وعليه يلزمه انحصار مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة بفرد خاص بنحو لايكاد تحقق الجامع منه بدونه.

ولئن شئت فاستوضح ذلك بما لو تعلق الغرض مثلا بشرب الماء المشبع والرافع للعطش الجامع بين ماء الكوز وماء الجرة وماء الحب وماء الشط مع فرض اختلاف الاشخاص حسب استعداد مزاجهم واختلاف حالاتهم الطارية عليهم في مقدار الرافع للعطش وفرض وجود الماء المزبور أيضا في ضمن هيئات مخصوصة واشكال متعدده ، حيث إنه باعتبار اختلاف الاشخاص قد يختلف مصداق المشبع من الماء أيضا في حقهم فيكون مصداق المشبع بالنسبة إلى شخص ماء الكوز على شكل خاص وهيئة مخصوصة ومصداق المشبع بالنسبة إلى آخر ماء الجرة على هيئة خاصة وبالنسبة إلى ثالث يكون مصداق المشبع في حقه ماء الحب ، وهكذا ، فصار مصداق المشبع من الماء الرافع للعطش في حق كل شخص غير ما هو المصداق في حق الاخر. وفى المقام أيضا كذلك حيث نقول بان الغرض الذي هو تكميل العباد المعبر عنه بقربان كل تقى تعلق بالجامع المزبور وان لهذا الجامع مصاديق متعددة مختلفة بحسب الكيفية والكمية حسب اختلاف حالات المكلفين فكان مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة مخصوصا بفرد خاص ولو بلحاظ إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بفعل خاص من فاعله بنحو لايكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج ولاتحقق الغرض الذي هو التكميل الا به.

ص: 83

وعلى هذا فتلخص ان حقيقة الصلاة التي رتب عليها غرض التكميل لا تكون الا عبارة عن معنى بسيط وحداني لايكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود من المقولات الخاصة بعد الغاء خصوصيات الحدود والمقولات المحدودة بكونها من أول التكبيرة إلى آخر التسليم مثلا ، ولها جهة كلية بالنسبة إلى الافراد العرضية ينطبق عليها بنحو التواطئ ، وكلية بالقياس إلى الاجزاء والافراد الطولية ينطبق عليها بنحو السريان والتشكيك ، نظير مفهوم الجامع الصادق على الثلاثة والأربعة وغيرها من مراتب الجمع على اختلافها قلة وكثرة ، نعم في عالم تنزل تلك الحقيقة ومرحلة تحققها في الخارج ، تحتاج إلى خصوصيات الحدود والمقولات ، نظراً إلى استحالة تحقق تلك الحقيقة في الخارج الا محدودة بحدود خاصة وفي ضمن المقولات المخصوصة من الكيف والفعل والإضافة والوضع ونحوها ، وذلك أيضا على اختلاف حالات المكلفين في الدخل في لزوم صدور فعل خاص من فاعله الذي لايكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج ، ومرجع ذلك كله إلى كون دخل الحدود والمقولات الخاصة من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة الصلاة بلا ان يكون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة بوجه أصلا كي يلزمها كونها أمرا مركبا من المقولات المتعددة كما هو واضح. وبذلك أيضا يجمع بين ما ذكرنا من بساطة حقيقة الصلاة وبين ما ورد في شرح الصلاة بأنها ركوع وسجود وقراءة ونحوها ، حيث يحمل تلك النصوص على بيان المصداق الخارجي للصلاة.

الثاني : من طرق كشف الجامع على صحيح استكشافه من جهة وحدة الأثر المترتب عليها على ما يقتضيه النصوص الواردة في مقام اثبات بعض الخواص والآثار للصلاة من نحو قوله علیه السلام الصلاة قربان كلي تقى وانها معراج المؤمن وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، حيث إنه جهة القرب والتكميل بعد أن كان اثرا بسيطا غاية البساطة فلا بد بمقتضي وحدته وبساطته من كشف جامع وحداني بسيط بين تلك المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط نظراً إلى استحالة تأثير المتبائنات بما هي كذلك في واحد بسيط. واما احتمال ان يكون الأثر الوحداني في المقام اثرا ذا جهات متعددة مختلفة يؤثر كل امر من تلك الأمور المتعددة في جهة من ذلك الأثر ، فمدفوع بان جهة المقربية والمعراج ليست الا عبارة عن تكميل العبد وبلوغ نفسه بمرتبة خاصة من الكمال بها يصير العبد موردا للألطاف الإلهية والعنايات الخاصة

ص: 84

الرحمانية ، ومن المعلوم بداهة ان مثل ذلك لايكون الا أمرا بسيطا وحدانيا غير ذي جهات ، وعليه فبعد امتناع المتبائنات في امر وحداني بسيط فلا بد بمقتضي بساطة الأثر ووحدته من وجود جامع وحداني في البين بين تلك الافراد المتعددة المختلفة بحيث نشير إليه بنحو الاجمال بما هو قربان كل تقى وما هو معراج المؤمن وان لك يمكننا تحديده تفصيلا ، مع امكان تحديده بوجه اجمالي أبسط أيضا بالإشارة إلى تلك الحقيقة بالوجود المحفوظ بين تلك المراتب من مرتبة صلاة الغريق إلى مرتبة صلاة الكامل العالم المختار ، بالغاء خصوصيات الحدود والمراتب الخاصة ، فيقال بان حقيقة الصلاة عبارة عن معنى وحداني بسيط غير ذي جهات لا تكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود المحفوظ بين المراتب من الصلاة المختلفة المحدودة حدها من التكبيرة إلى آخر التسليم ، بالغاء خصوصيات التكبيرة والقيام والركوع والسجود ونحوها ، بجعل تلك الحدود والمقولات الخاصة من المشخصات الفردية للصلاة لا من مقولات حقيقتها.

ثم لايخفى عليك انه كما يستكشف الجامع الافرادي بمقتضى البيان المزبور بين افراد الصلوات المختلفة كذلك لابد من الكشف عن جامع اجزائي أيضا بين الاجزاء من افراد الصلوات يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط مع كونه أيضا من قبيل الحقايق التشكيكية الصادقة على الزائد والناقص ، والفرق بينه وبين الجامع الافرادي هو الفرق بين الطبيعة الصرفة المتحققة بأول وجود فردها والطبيعة السارية في ضمن جميع الافراد ، فيكون الجامع الافرادي من قبيل الأول والجامع الاجزائي من قبيل الثاني ، من حيث عدم تحققه بمرتبة المؤثر الفعلي منه الا في صورة تحقق مجموع الاجزاء ، وان تحقق مرتبة أخرى غير مؤثرة فعلا بتحقق بعض الاجزاء ، مثلا لو فرضنا تركب فرد من اجزاء ثمانية أو عشرة يكون المؤثر الفعلي من الجامع المزبور الساري في مجموع الاجزاء الثمانية أو العشرة وما دون تلك المرتبة يكون مؤثرا شأنيا لا فعليا فإذا تحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو العشرة يتحقق الجامع الافرادي أيضا لان تحققه انما هو بأول وجوده فرده. وأما إذا لم يتحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو العشرة بل كان المتحقق في الخارج من ذي اجزاء ثمانية سبعة اجزاء ومن ذي اجزاء عشرة ثمانية ففي مثله لم يتحقق المرتبة المؤثرة الفعلية من الجامع المزبور بل المتحقق في مثله هو المرتبة المؤثرة الشأنية منه.

فإذا تمهد لك هذه الجهة نقول بأنه بعد أن كان للجامع المتصور المزبور بين الافراد

ص: 85

عرض عريض ومراتب متفاوتة وكان المؤثر الفعلي منه من كل فرد ومرتبة هو الساري في مجموع الاجزاء من ذي اجزاء خمسة وذي اجزاء ستة وذي اجزاء ثمانية وهكذا والمؤثر الشأني منه من كل فرد ومرتبة هو الساري لا في ضمن مجموع الاجزاء ، فلك ان تعتبر الجامع أيضا بين الصحيح والأعم بعين ما اعتبرته بين افراد الصحيح من البرهان فتأخذ من كل فرد ومرتبة جزء أو جزئين وتجعل الجامع عبارة عن الأعم من واجد هذا الجزء الذي يكون مؤثرا فعليا ومن فاقده الذي يكون مؤثرا شأنيا ، حيث لا نعنى من الفاسد الا ما كان مؤثرا شأنيا وغير تام في نفسه في عالم المؤثرية الفعلية وتشير إليه في مقام الإشارة بالوجود المحفوظ بين المرتبة المؤثرة الشأنية الفاقدة لبعض الاجزاء وبين المرتبة المؤثرة الفعلية الواجدة لتمام الاجزاء. وعليه ما مر من تصوير الجامع على الأعم ثبوتا كتصويره على الصحيح واضح لاينبغي الارتياب فيه ، نعم لو كان كلام حينئذ فإنما هو في مرحلة الاثبات ومقام وضع اللفظ في أن الصلاة هل هي موضوعة للجامع بين افراد الصحيح أو انها موضوعة للأعم من الفاسد والصحيح؟ والا فاصل امكانه ثبوتا بعد الالتزام بالصحيح النوعي بمقتضي ما ذكرنا مما لا يعتريه ريب كما هو واضح.

ثم إن في المقام وجوها اخر أفادوه في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد لا باس بالإشارة إلى بعضها ، فنقول :

ان منها ما عن المحقق القمي قدس سره بان الصلاة اسم لجملة من الاجزاء كالأركان مثلا وان بقية الاجزاء خارجة عن المسمى وان كانت داخلة في المأمور به ومنها ان الصلاة عبارة عن معظم الاجزاء من غير مدخلية لخصوصية جزء أو جزء. ومنها تنظيره بباب الاعلام الشخصية كزيد من حيث إنه زيد في جميع الحالات من دون ان يضر في التسمية تبادل الحالات من الصغر والكبر والصحة والسقم وكذلك نقصان بعض اجزائه كاليد والرجل وغيرها.

ولكن يرد على الأول بان ذلك مجرد فرض لا واقعية له إذ نرى بأنه لا جامع صوري متصور بين تلك المختلفات يدور عليه المسمى وجودا وعدما. ويرد على الثاني أيضا بعد عدم إرادة مفهوم معظم الاجزاء قطعا بل ما يصدق عليه هذا المفهوم ، بأنه يلزمه كون شيء واحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى. وعلى الثالث بمنع المقايسة المزبورة للفرق الواضح بين المقامين فإنه في الاعلام الشخصية يكون في البين شيء محفوظ في جميع

ص: 86

تلك الحالات المتبادلة المختلفة لا تغير ولا تبدل وهو الموجود الشخصي والتشخص الخاص الذي به قوام شخصيته ، وهذا بخلاف المقام حيث إنه لايكون في البين ما يجمع شتات تلك المختلفات مع تركبها من المقولات المختلفة ، الا على النحو الذي تصورناه من الجامع الوجودي. وعليه يرجع هذا التقريب إلى ما قربناه سابقا فلايكون تقريبا آخر للجامع.

وعلى كل حال فبعدان ظهر لك امكان تصوير الجامع ثبوتا على كل واحد من القولين في المسألة بما ذكرناه من البيان ، يبقى الكلام في مقام اثبات ان الوضع هل هو لخصوص الصحيح أو للأعم منه والفاسد؟

فنقول انه يمكن ان يستدل للوضع للأعم بأمور :

منها : صلوح التقسيم إلى الصحيح والفاسد في قولك : الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ، فان في ذلك شهادة على الوضع للأعم ، لأنه لولا ذلك يلزم ان يكون الاستعمال المزبور استعمالا مجازيا محتاجا إلى رعاية عناية في البين ، وهو كما ترى مما يشهد الوجدان بخلافه.

ومنها : صدق الصلاة وصحة اطلاقها على صلوات مختلفة في قولك : هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة بعضها فاسدة وبعضها صحيحة ، فإنه لولا كونها مشتركا معنويا بينهما يلزم محذور استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد أو عدم صحة الاطلاق المزبور ، وحيث إن الاطلاق المزبور كان صحيحا بالوجدان فلا جرم بعد بطلان استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد واستحالته يثبت المطلوب من الوضع للأعم.

ومنها : ملاحظة ما استقر عليه ديدن العرف والعقلاء في مخترعاتهم من المركبات الخارجية وغيرها من الوضع للأعم من الصحيح منها والفاسد لكي لايحتاجوا في استعمالهم إياها في الفاسد إلى رعاية عناية وعلاقة ، فإنه بعد القطع بأنه لم يكن للشارع في هذا الباب ديدن خاص وطريقة مخصوصة على خلاف ديدن العرف والعقلاء وانه من هذه الجهة كأحد من أهل العرف يكشف به الوضع للأعم لا لخصوص الصحيح.

ومنها : قوله علیه السلام : لا تعاد الصلاة من سجدة وتعاد من ركعة وقول علیه السلام : ( لا تعاد الصلاة الا من خمس ) فإنه بناء على الوضع للأعم يكون الصلاة في الفقرتين مستعملة في الجامع وأريد خصوصية الفرد الصحيح والفاسد بدالين ومدلولين

ص: 87

بلا لزوم محذور في البين من نحو استخدام أو غيره. وهذا بخلافه على القول بالوضع للصحيح فإنه عليه يلزم اما استعمال لفظ الصلاة في أكثر من معنى واحد أي المعنى الحقيقي والمجازي بناء على رجوع الضمير في قوله ( وتعاد ) إلى تلك الصلاة المذكورة في الصدر ، أو المصير إلى نحو استخدام ورعاية عناية في البين ، وهما كما ترى.

ومنها : ما دل على مبطلية الزيادة في الصلاة من نحو قوله علیه السلام : ( من زاد في صلوته فعليه الإعادة ) خصوصا على القول بتصوير الزيادة الحقيقية في الصلاة كما حققناه في محله فان تصوير الزيادة الحقيقية لايكاد يمكن الا بجعل دائرة اختراع ماهية الصلاة أوسع من دائرة المأمور به ومن المعلوم ان ذلك لايكاد ينفك عن الوضع للأعم ، كما هو واضح. وحينئذ فبمقتضى تلك البيانات لا باس بالالتزام بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد.

بقى الكلام فيما استدل به الفريقان لا ثبات الوضع للصحيح أو الأعم ، فنقول :

اما ما استدل به للوضع للصحيح فأمور :

منها : التبادر بمعنى انسباق الصحيح عند اطلاق الصلاة. ومنها : صحة سلبها عن الفاسدة حقيقة وان صح اطلاقها عليها بالعناية والمشاكلة.

وفيه : اما التبادر فلو أريد تبادر خصوص الصحيح ولو بمعونة القرائن الخارجية كما هو الغالب ولو بمثل عدم اقدام المسلم على العمل الفاسد في قولك : فلان يصلي ، فهو مسلم ولكنه غير مفيد حيث لا يثبت ذلك كونها موضوعة للصحيح. وان أريد تبادر خصوص الصحيح من حاق اللفظ مهما أطلق ففي المنع عنه كمال مجال بل لنا دعوى ان المتبادر منها عند اطلاقها هو الأعم.

واما صحة السلب ففيه انه ان أريد صحته عما هو المأمور به فهو صحيح ولكنه لا يثبت الوضع لخصوص الصحيح. وان أريد صحته ولولا بما هي مأمور بها بل بما هي معنى اللفظ فهو ممنوع جدا لكونه أول الدعوى.

ومنها : الآيات والاخبار المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة من نحو الصلاة معراج المؤمن ، وانها قربان كل تقي ، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، بتقريب ان فيها الدلالة بعكس النقيض على أن كل ما لايكون معراج المؤمن وما لايكون قربان كل تقى لا تكون بصلاة ، فيستفاد منها عدم كون الفاسدة صلاة حقيقة وان صح اطلاقها عليها

ص: 88

عناية.

ولكن فيه ما لايخفى ، فان الاستدلال المزبور انما هو من قبيل التمسك بعموم العام لا خراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن موضوعه ، فرارا عن لزوم التخصيص على تقدير دخوله في موضوع العام ، فهو نظير ما لو ورد بأنه يجب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد ولكنه شك في أنه هل هو من افراد العالم المحكوم بوجوبه كي يكون عدم وجوب اكرامه من باب التخصيص ، أو انه خارج عن العام موضوعا كي يكون خروجه من باب التخصص والخروج الموضوعي ، ففي المقام أيضا قد علم من الخارج عدم كون الفاسدة مما يترتب عليها تلك الخواص والآثار وانما الشك في أنها صلاة حقيقة ليكون تخصيصا في الاطلاق أو عموم ما دل على أن كل صلاة يترتب عليها تلك الخواص والآثار ، أو انها لا تكون بصلاة حقيقة ليكون عدم ترتب تلك الخواص والآثار على الفاسدة من باب التخصص والخروج الموضوعي فاستدل بتلك الأدلة على خروجها عن الموضوع. وعلى كل حال نقول تمامية الاستدلال المزبور مبني على حجية أصالة العموم والاطلاق مطلقا حتى فيما كان الشك من جهة الشك في خروج ما هو خارج قطعا عن حكم العام عن موضوعه ، والا فبناء على اختصاص حجيته بما لو كان الشك ممحضا في خروج ما كان داخلا في موضوع العام عن حكمه فلا مجال للتمسك بتلك الأخبار المزبورة لا ثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة ، وسيجيء في محله انشاء اللّه تعالى عدم حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك باعتبار ان عمدة الدليل على حجية أصالة العموم والاطلاق انما هو السيرة التي هي من الأدلة اللبية ، والقدر المتيقن منها انما هو مورد الشك في خروج فرد عن حكم العام فارغا عن أصل فرديته للعام موضوعا.

ومن العجب ان الكفاية مع بنائه على عدم حجية أصالة العموم والاطلاق الا في مورد الشك في خروج ما هو داخل في العام موضوعا عن حكمه ، بنى في المقام على التمسك بالاخبار المزبورة المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة لا ثبات عدم كون الصلاة الفاسدة صلاة حقيقة. نعم هو قدس سره رجع عن ذلك في حاشيته على الكفاية واستشكل على كلامه بما استشكلنا عليه من عدم حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك فراجع.

ومنها : قوله علیه السلام لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة الا بطهور. وتقريب

ص: 89

الدلالة انما هو من جهة ظهور النفي في نفى الحقيقة فيستفاد منها حينئذ ان الصلاة التي لا تكون فيها الفاتحة أو الطهور لا تكون بصلاة حقيقة.

ولكن فيه انه وان سلم ظهور النفي في غير المقام في نفى الحقيقة ولكن ظهوره في المقام في ذلك ممنوع ، إذ نقول بظهوره في المقام في نفى الصحة ولو من جهة الانصراف أو نفى الحقيقة عما هو المأمور به بما هو كذلك ، وعليه لايكاد يفيد في اثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة كما هو واضح.

ومنها : دعوى القطع بان طريقة كل واضع ومخترع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة الأجزاء والشرائط والمؤثرة الفعلية ، والشارع أيضا غير متخطي عن تلك الطريقة المتداولة بين العرف والعقلاء فيثبت بذلك وضعها لخصوص الصحيح المؤثر في الغرض دون الأعم منه والفاسد.

وفيه أيضا ما لايخفى ، إذ نمنع أولا كون طريقة الواضعين المخترعين للمهيات على الوضع لخصوص الصحيح المؤثر الفعلي بل نقول باستقرار طريقتهم في مثل ذلك على الوضع للأعم ، من جهة انه كثيرا ما تقضي الحاجة وتمس إلى الاستعمال في الفاسدة ومن المعلوم ان قضية ذلك انما هو لزوم وضعها للأعم لكي لايحتاجوا عند استعمالهم اللفظ في الفاسدة إلى القرينة وهو واضح. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا باستقرار طريقة العقلاء في وضع اللفظ لمخترعاتهم من المركبات لخصوص الصحيح منها ، نقول : بأنه من الممكن ان يكون للشارع في المقام طريقة خاصة على خلاف ما عليها ديدن العقلاء تقتضي الوضع للأعم ولو من جهة تعلق الغرض على تسهيل الامر على المكلفين امتنانا عليهم في جواز تمسكهم بالاطلاقات في نفى ما شك في اعتباره شطرا أو شرطا وعدم رجوعهم إلى الأصول العملية من البراءة أو الاشتغال ، حيث إنه من الواضح انه لايكاد الوصول إلى مثل هذا الغرض الا بوضع اللفظ للأعم دون الصحيح فإنه على تقدير الوضع لخصوص الصحيح لايبقى مجال لرجوع المكلفين عند الشك إلى الاطلاقات من جهة عدم احرازهم المسمى حينئذ وكونه من باب التمسك بالعام مع الشك في أصل مصداقية المشكوك للعام كما هو واضح. هذا كله فيما استدل به للقول بالصحيح.

واما ما استدل به للقول بالأعم فأمور أيضا :

منها : التبادر بمعنى انسباق الأعم من اطلاق لفظ الصلاة والصوم والحج.

ص: 90

ومنها : عدم صحة سلبها عن الفاسدة حيث يرى بالوجدان عدم صحة سلب الصلاة عن الصلاة التي نقص منها بعض اجزائها خصوصا إذا كان الناقص من الاجزاء الغير الركنية كما هو ذلك في المركبات العرفية ، بل ولئن صح سلبها عنها فإنها هو باعتبار الصحة حيث يقال : بأنها ليست بصلاة صحيحة لا انها لا تكون بصلاة حقيقة.

ومنها : قوله علیه السلام : ( بنى الاسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، يعنى الولاية ، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير الولاية لم يقبل منه صوم ولا صلاة ) بتقريب ان الاخذ بأربع أي الصلاة والصوم والحج والزكاة مع بطلان عبادة تاركي الولاية انما يتم بناء على كونها أسامي للأعم والا لما كانوا آخذين بأربع فلايصح القول بأنهم آخذين بأربع.

وفيه ما لايخفى ، فإنه لو تم البيان المزبور فغايته اثبات استعمال الأربع في قوله علیه السلام فاخذ الناس بأربع في الفاسدة وهو غير مثبت للوضع للأعم الذي هو المدعي باعتبار أعمية الاستعمال من الحقيقة. مع أنه نقول : بأنه بعد أن كان المراد من الأربع التفصيلي في صدر الرواية بقرينة بناء الاسلام عليها هو الصحيح بلا اشكال فلابد وان يحمل الأربع الاجمالي أيضا على الصحيح ، ولو باعتقادهم ، من جهة ما هو المعلوم من كون المراد من الأربع الاجمالي هو ذاك الأربع التفصيلي في صدر الرواية ، وعليه فلايكون الأربع الاجمالي أيضا الا مستعملا في الصحيح ، غايته هو الصحيح باعتقادهم دون الصحيح الواقعي النفس الأمري وهو أيضا لايكون من المجاز كما لايخفى. مع أنه لو سلم استعمال الأربع الاجمالي في الفاسدة من جهة فقدانها للولاية نقول بان مجرد ذلك غير مضر بدعوى القائل بالصحيح من جهة ان مقصودهم من الصحيح على ما تقدم انما هو الصحيح من غير ناحية قصد التقرب كما يكشف عنه اتفاقهم على خروج مثل قصد التقرب عن الصحة ، وحينئذ فإذا كانت الولاية من شؤون القربة المصححة للعبادة فللقائل بالصحيح دعوى خروجها أيضا كنفس قصد القربة ، وعليه فلايكون استعمال الأربع الاجمالي الا فيما هو الصحيح عند القائل به كما هو واضح.

ومنها : قوله علیه السلام ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) بتقريب انه بعد عدم امكان حمل الرواية على إرادة الصحيح منها من جهة معلومية عدم قدرة الحائض في حال المحيض على

ص: 91

ايجاد الصحيح ومعلومية اعتبارها في صحة توجه النهى إليها ، فلابد من حملها على الأعم بإرادة الجامع مع إفادة خصوصية الفرد الفاسد منها بدال اخر.

وفيه : أيضا انه اما ان يحمل النهى الوارد في الرواية على النهى المولوي الذاتي الناشي عن مفسدة ذاتية في متعلقه في حال الحيض ، واما ان يحمل على مجرد التشريع باعتبار مزاحمة مصلحة الصلاة في حال الحيض مع مفسدة أقوى في البين ، واما ان يحمل على الارشاد إلى مانعية الحيض عن صحة الصلاة ، فعلى الأول لا دلالة لها على المطلوب من الوضع للأعم بوجه أصلا من جهة ان كون الشيء عبادة ومنهيا عنه بالنهي المولوي الذاتي حينئذ لايتصور الا بكون الشيء من الآلات الموضوعة للخضوع ومن ابزار العبودية نظير تقبيل اليد والرجل ورفع القلنسوة في العرفيات الموضوعة عندهم من ابزار العبودية ومن آلات الخضوع ، فان مثل هذا المعنى هو الذي يكون قابلا لتعلق النهى المولوي به ، كما أنه يكفي في مقربيته ووقوعه عبادة فعلا مجرد رضاء المولى به وعدم نهيه عن الاتيان به ، وبهذه الجهة أيضا صححنا النيابة في العبادات حيث قلنا بأنه يكفي في صحة العبادة ووقوعها عن الغير مجرد رضاء ذلك الغير باتيان العبادة عن قبله كما نظيره في الخضوعات العرفية من نحو تقبيل اليد والرجل عن قبل الغير حيث إنه مع امر ذلك الغير بتقبيل يد الأمير مثلا عن قبله أو رضائه به يقع ذلك التقبيل الصادر عن النائب خضوعا عن ذلك الغير ويكون ذلك مقربا له دون النائب المباشر للتقبيل ، نعم عند عدم رضائه بذلك أو نهيه عنه لا يقع ذلك خضوعا له ولا مقربا له. وعلى ذلك نقول : بأنه من الواضح حينئذ عدم دلالة الرواية على القول بالأعم لولا دعوى دلالتها على القول بالصحيح كما هو الظاهر ، حيث إنه للقائل بالصحيح حينئذ دعوى كونها مستعملة في الراوية في خصوص الصحيح باعتبار ان الفساد حينئذ مستند إلى قضية نهى الشارع وعدم رضائه باتيان الحائض الصلاة في حال الحيض ، لا إلى قصور في نفس العبادة في عالم اقتضائها للمقربية ، ولقد عرفت بان مثل قصد القربة خارج عن المسمى عند الصحيحي أيضا وان ما هو المسمى عنده انما هو الصحيح من غير ناحية قصد القربة ، والمفروض في المقام أيضا انه لولا نهى الشارع لا قصور في صلاة الحائض في عالم مقربيتها. هذا كله بناء على حمل النهى في الرواية على النهى المولوي الذاتي.

واما بناء على الاحتمال الثاني من حمله على مجرد التشريع فكذلك أيضا ، حيث نقول

ص: 92

بكونها مستعملة في الرواية في خصوص الصحيح وان البطلان والفساد انما نشأ من جهة فقد الامر وخلوها عن قصد القربة الذي هو خارج عن المسمى قطعا عند الصحيحي أيضا.

واما بناء على الاحتمال الثالث من حمل النهى فيها على الارشاد إلى مانعية الحدث وهو الحيض عن صحتها فعليه وان كانت للرواية دلالة على المطلوب ، ولكنه أيضا مبنى على أن يكون الاطلاق المزبور في قوله صلی اللّه علیه و آله ( دعي الصلاة ) بلحاظ حال الحيض بنحو يتحد ظرف الجري مع ظرف النسبة الحكمية ، والا فبناء على تغاير الظرفين وكون الاطلاق المزبور بلحاظ حال قبل الحيض وهو حال الطهارة فلاتدل أيضا على مطلوب الأعمى من الاستعمال في الأعم ، إذ المعنى حينئذ ان الصلاة التي يؤتى بها في حال الطهارة لا تأتى بها في حال الحيض ، ومن المعلوم حينئذ كونها مستعملة في خصوص الصحيح.

ومنها أي من أدلة القول بالأعم صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه كالحمام مثلا مع حصول الحنث بفعلها فيه أيضا ، بتقريب ان صحة النذر وحصول الحنث لايكون الا بوضعها للأعم ، والا فبناء على الصحيح يلزم عدم حصول الحنث بفعلها فيه بل عدم صحة النذر رأسا ، لان النذر الصحيح هو ما يجب الوفاء به يأمر الشارع بالوفاء به ، واعتبار القدرة على المتعلق تركا وايجادا مما لابد منه في صحة توجيه التكليف بالوفاء بالايجاد أو الترك ، وحينئذ فمع فرض وضعها للصحيح يلزمه كونها منهيا عنها بمقتضي توجه التكليف بالترك إليه ، ولازم كونها منهيا هو فسادها على ما برهن في محله من اقتضاء النهى عن العبادة لفسادها ، ومع فسادها لايكون له القدرة على الحنث بايجاد الصلاة الصحيحة ، لان كل ما أوجده يقع فاسدا بمقتضى النهى المزبور ، ومع عدم قدرته على الحنث لايكاد توجه التكليف بالوفاء به إليه ، ولازمه هو عدم انعقاد نذره من أصله ، مع أن ذلك خلاف البداهة من صحة النذر وحصول الحنث ، فيكون ذلك برهانا اجماليا تاما على أن المسمى والموضوع له هو الأعم دون الصحيح ، لأنه على الأعم لا يلزم محذور في البين أصلا.

وفيه ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه بعد معلومية اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر ، اما ان يحمل الكراهة في المواضع المزبورة على أقلية الثواب كما التزم به جماعة من

ص: 93

الأصحاب نظراً إلى اعتبارهم الرجحان الفعلي في العبادة ، واما ان تحمل على معناها المصطلح لكن بجعل المكروه عبارة عن خصوصية كينونة الصلاة مثلا في الحمام مع ابقاء ذات العبادة على ما هي عليها من الرجحان والمحبوبية الفعلية.

فعلى الثاني نقول : بان النذر وان كان صحيحا في فرض تعلقه بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام لا بذات الصلاة ولكن لازمه أيضا هو صحة الصلاة المزبورة عند حصول الحنث واتيانه بالصلاة في الحمام ، فلا يلزم حينئذ من مجرد حصول الحنث بفعلها فيه فسادها كي ينفع القائل بالأعم. وتوهم عدم انفكاك الخصوصية عن الذات لمكان اتحادها معها فتسري الحرمة حينئذ إلى أصل الصلاة فتقع فاسدة ، مدفوع بمنع اقتضاء هذا المقدار من الاتحاد للسراية إلى ذات الصلاة والا لاقتضى السراية إليها ولو في غير مورد تعلق النذر بها ، فيلزمه حينئذ بطلان الصلاة في الحمام ونحوه باعتبار سراية المرجوحية من الخصوصية على الفرض إلى ذات العبادة ولو في غير مورد تعلق النذر مع أن ذلك كما ترى لايظن بأحد الالتزام به. هذا بناء على فرض تعلق النذر بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام واما لو فرض تعلق النذر في الفرض المزبور بنفس العبادة ، ففي مثل الفرض نلتزم بعدم انعقاد النذر من رأسه وذلك لا من جهة عدم القدرة على الحنث بل من جهة انتفاء الرجحان في المتعلق الذي هو ترك الصلاة كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر انه كذلك الامر أيضا في الفرض الأول وهو فرض حمل الكراهة على أقلية الثواب حيث إن لازمه بعد اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر هو عدم صحة النذر المزبور من رأسه لان مجرد كونها أقل ثوابا لايوجب مرجوحيتها حتى يكون تركها راجحا فصح النذر على تركها.

وحينئذ فالأولى في المقام هو التمثيل بباب العهد واليمين بناء على عدم اعتبار الرجحان في متعلقهما فإنه حينئذ يسلم عن الاشكال المزبور. وعليه نقول أيضا بأنه وان كان صح العهد واليمين ويحصل أيضا الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه ولكن نقول : بان مجرد صحة العهد واليمين وحصول الحنث لاينافي تعلقهما بالصحيح إذ نقول بان ما تعلق به العهد واليمين حينئذ انما هو الصحيح لولا هذا العهد لا الصحيح على الاطلاق حتى من جهة هذا العهد ، وعليه كان العهد صحيحا ويقع الحنث أيضا بفعلها لان ما أوجده انما كان هو الصحيح لولا العهد ، وما الفساد من قبل العهد فهو غير

ص: 94

مناف لصحة متعلقه وصحة عهده لأنه نتيجة وجوده نعم لو كان متعلق النذر هو الصحيح الفعلي حتى بالنظر إلى هذا العهد لما كان يتحقق الحنث بفعلها فيتوجه المحذور المزبور ، ولكن ذلك من المستحيل لاستحالة تقيد المتعلق وهو المسمى بالصحيح حتى من قبل هذا الحكم العهدي المتأخر ، كما هو واضح. على أن غاية ذلك هو عدم صحة تعلق النذر والعهد بفعل الصحيح وأين هذا والقول بان المسمى هو الأعم دون الصحيح؟ كما لايخفى. وحينئذ فالأولى في اثبات الوضع للأعم دون الصحيح هو التشبث بما ذكرناه سابقا من التبادر وصحة التقسيم ونحوهما.

بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين ، فنقول : انه قيل بظهور الثمرة بين القولين في أمور :

منها : ظهورها من حيث مرجعية البراءة والاشتغال عند الشك في مدخلية شيء شطرا أو شرطا في المأمور به ، بتقريب انه على الصحيح كان المرجع هو الاشتغال باعتبار الشك في تحقق ما هو المسمى بالصلاة بدون المشكوك بخلافه على الأعم فإنه عليه يكون المرجع عند الشك هو البراءة بناء على جريانها في الارتباطيات.

وفيه ما مر سابقا من عدم ابتناء الرجوع إلى البراءة بكونه من خواص القول بالأعم ، بل هو كذلك أيضا حتى على القول بالصحيح ، ولو على القول ببساطة المأمور به ، حيث إن التكليف المتعلق بالمأمور به بعد انحلاله إلى تكاليف ضمنية فبالنسبة إلى المشكوك يشك في أصل توجه التكليف بالنسبة إليه ، وحينئذ فعلى القول بجريان البراءة في الارتباطيات يجوز للصحيحي أيضا الرجوع إليها عند الشك في شرطية شيء أو شطريته ، كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى بناء الأكثر على الرجوع إلى البراءة عند الشك في دخل شيء في المأمور به جزء أو شرطا مع مصيرهم في المقام إلى الصحيح.

وقد يفصل في مرجعية البراءة والاشتغال بين الصحيح الشخصي والنوعي ، بتقريب انه على الصحيح الشخصي يكون مرجع الشك في الشرطية أو الجزئية في البدل إلى الشك في كون الفاقد بدلا أم لا ، فأصالة العدم تقضي بالاحتياط والاشتغال ، بخلافه على الصحيح النوعي فان للرجوع إلى البراءة عليه كمال مجال. ولكن يدفعه ان الشك في البدلية حيثما كان مسببا عن الشك في جزئية المشكوك أو شرطيته فلا جرم تجرى البراءة فيه ومعه لايبقى مجال التفرقة بينهما ، كما لايخفى.

ص: 95

ومنها : ظهورها في مسألة النذر فيما لو نذر اعطاء درهم لمن يصلي ، بتقريب انه على الأعم يتحقق البراءة باعطائه لمن يصلى الفاسدة من جهة صدق الصلاة عليها حقيقة بخلافه على الصحيح فإنه لايحصل الوفاء بالنذر الا في صورة احراز كونها صحيحة ولو من جهة أصالة الصحة في فعل المسلم.

وفيه أيضا ما لايخفى ، فإنه بعد تقيده بما لو كان المنذور هو المسمى بالصلاة نمنع كونها ثمرة للمسألة ، حيث نقول بأنها حينئذ ثمرة لمسألة فرعية ، لان المسألة الأصولية على ما ذكرنا ها غير مرة هي التي يقع نتيجتها في طريق الاستنباط وتكون منتجة لحكم كلي فرعى ، كما في مسألة حجية خبر الواحد ، والثمرة المفروضة في المقام لا تكون كذلك إذ لا تكون تلك الا من باب تطبيق كبرى فرعية وهي مسألة وجوب الوفاء بالنذر على المورد ، وعليه فلايكون جواز الاعطاء الا ثمرة لمسألة فرعية دون الأصولية ، كما هو واضح.

ومنها : صحة التمسك بالاطلاقات والأصول اللفظية عند الشك في دخل بعض الأمور في المأمور به جزء أو شرطا على القول بالأعم وعدم صحته على الصحيح ، للشك في تحقق المسمى بدونه وعدم العلم بدخوله في موضوع الاطلاق ، فلابد على القول بالصحيح من الرجوع إلى الأصول العملية براءة أو اشتغالا.

وفيه أيضا ان ذلك وان كان ثمرة للمسألة ، الا انه نقول بكونه مجرد فرض لا واقع له من جهة ابتنائها على أن يكون تلك المطلقات من مثل أقيموا الصلاة واردة مورد البيان من جهة الاجزاء والشرائط لا في مقام الاهمال وهو أول شيء ينكر ، حيث نقول : بان ورود ها انما كان لمحض التشريع من غير أن تكون بصدد البيان من هذه الجهات ، وعليه تكون الثمرة المزبورة بحكم العدم. هذا كله بالنسبة إلى الاطلاقات اللفظية ، واما الاطلاقات المقامية ففي فرض تماميتها يصح على كلا القولين الرجوع إليها عند الشك في دخل شيء في المأمور به. كما هو واضح. هذا كله في العبادات.

الكلام في ألفاظ المعاملات

واما المعاملات كالبيع والصلح والإجارة ونحوها فيبقى الكلام فيها في أنها كالعبادات داخلة في محل النزاع أو خارجة عن موضوع النزاع ، فنقول :

ص: 96

انه ان قلنا بان تلك العناوين أسام للأسباب كما هو المترائي من ظاهر من عبر عنها في مقام شرحها بعقودها بقولهم البيع مثلا عقد كذا فلا اشكال في دخولها في محل النزاع فكان للنزاع فيها في كونها أسامي للصحيح أو الأعم كمال مجال باعتبار كونها حينئذ من الأمور القابلة للاتصاف بالصحة بمعنى ترتب الأثر عليها تارة وبالفساد بمعنى عدم ترتب الأثر عليها أخرى. نعم لما كان هذا النزاع مخصوصا بالمخترعات الشرعية ولا يجرى في الأمور العرفية أمكن دعوى خروج الأسباب عن مورد النزاع من هذه الجهة ، نظراً إلى أن العقد والايقاع والايجاب والقبول أمور عرفية لا تكون من المخترعات الشرعية ، فبهذه الجهة لا مجال للنزاع فيها في كونها موضوعة للصحيح أو الأعم ، كما هو واضح. هذا كله بناء على القول بكون عناوين المعاملات أسامي للأسباب.

واما على القول بكونها أسامي للمسببات كما هو التحقيق وعليه المعظم بأنها أمور بسيطة ناشئة من قبل أسبابها الخاصة وانها مما يتوصل إلى وجودها بعقودها وان عقودها بمنزلة الأسباب الموجدة لها لا انها نفسها ، فقد يقال : بأنه لا اشكال في خروجها عن محل النزاع ، تارة من جهة انها بنفسها آثار ، ومحل الكلام انما هو في المؤثرات التي يترتب عليها الآثار تارة ولايترتب عليها الآثار أخرى ، لما مر ان معنى كون الشيء صحيحا عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر المقصود كما أن معنى كونه فاسدا عبارة عن كونه بحيث لايترتب عليه الأثر المقصود ، فعلى هذا يختص النزاع المزبور بالمؤثرات ولا يشمل الآثار نفسها ، وأخرى من جهة انها أمور بسيطة دائرة أمرها بين الوجود والعدم غير متصور فيها التمامية والنقصان ، لما تقدم من اختصاص هذا النزاع بما يكون قابلا للامرين بحيث يتصف بالصحة والتمامية تارة وبالفساد والنقصان أخرى.

ولكنه يدفع ذلك ، اما الأول فبأنها وان كانت بنفسها آثارا ولكنها بالنسبة إلى الاحكام المترتبة عليها من مثل جواز التصرف وحرمة تصرف الغير بل بالنسبة إلى مثل السلطنة التي هي من الأحكام الوضعية مؤثرات ، وحينئذ فمن هذه الجهة لا مجال للاشكال فيها في دخولها في محل النزاع. واما الاشكال الثاني من كونها أمورا بسيطة دائرة بين الوجود والعدم فله وجه ، بناء على رجوع تخالف الشرع والعرف إلى تخطئة الشارع للعرف في الموارد الخاصة كما في بيع المنابذة والبيع الربوي ما يرونه مصداقا للبيع مع اتحاد البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ، والا فبناء على رجوع ذلك إلى تعدد

ص: 97

حقيقة البيع عند العرف والشرع لا مجال لهذا الاشكال ، فإنه عليه أمكن قابلية البيع مع كونه بسيطا غاية البساطة للاتصاف بالصحة والفساد.

ولتوضيح المرام نذكر المحتملات المتصورة في موارد تخالف الشرع والعرف ، فنقول : ان المحتملات المتصورة لعدم امضاء الشارع لكثير من المعاملات العرفية كبيع المنابذة والملامسة والبيع الربوي وغيرها ثلاثة :

الأول : ان يكون من باب تخطئة الشارع نظر العرف في عدهم غير البيع مصداقا حقيقيا للبيع ، ومرجع ذلك إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ، ولكن العرف لما أخطئوا في نظرهم وتخيلوا بزعمهم غير البيع بيعا حقيقيا خطاهم الشارع بأنه لايكون مصداقا للبيع وانه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

الثاني : ان يكون ذلك من باب التخصيص والاخراج الحكمي والتنبيه على أن جميع البيوع العرفية وان كان بيعا حقيقة حتى في نظر الشارع الا ان الأثر الشرعي مرتب على بعض مصاديق البيع لا على جميع مصاديقه ، ومرجع ذلك أيضا إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ولكن الشارع لم يرتب الآثار الا على بعض مصاديقه.

الثالث : ان يكون ذلك من باب ان الأثر الشرعي مرتب على ما هو مصداق للبيع عند الشارع لا على الجامع المنطبق على المصداق الشرعي والعرفي ، ومرجع هذا الوجه إلى أن للبيع حقيقة مصداقين : أحدهما منسوب إلى الشارع ومضاف إليه وهو الموضوع للآثار الشرعية ، والآخر منسوب إلى العرف وهو الموضوع للآثار الخاصة عندهم. والفرق بين الوجهين الآخرين هو انه في الأول يكون جميع المصاديق من البيوع العرفية بيعا حقيقة في نظر الشارع أيضا ولكنه مع ذلك يخص حكمه ببعض افراده ومصاديقه ، بخلافه على الأخير فإنه عليه يكون للبيع مصداقان : مصداق شرعي ومصداق عرفي ، نظير مفهوم الايجاب الذي كان له مصداقان : مصداق شرعي ومصداق عرفي ، فكان الأثر الشرعي مرتبا على ما هو مصداق للبيع عند الشارع. فهذه وجوه ثلاثة متصورة للاختلاف.

وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم ، فان لازم الوجه الأول هو عدم قابلية البيع للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى نظراً إلى دوران امره دائما بين الوجود والعدم ، بخلافه على الآخرين فإنه عليهما قابل لان يوجد البيع ويكون مؤثرا شرعا

ص: 98

تارة وغير مؤثر أخرى. هذا كله في مقام التصور.

واما مقام التصديق : فأبعد الوجوه هو الوجه الأوسط لمخالفته لما عليه ارتكاز الأصحاب فان السلطنة على الملك من لوازم ملكية الشيء ، فالتصديق بتحقق مصداق البيع والملكية مع نفى السلطنة على الملك ربما يعد من التناقض ، فمن هذه الجهة لا مجال للمصير إلى الوجه الثاني بل لا مجال لتوهمه. وحينئذ فيدور الامر بين الوجه الأول والأخير وفى مثله نقول : بأنه ان بنينا على أن البيع امر واقعي انتزاعي عن منشأة غير منوط بالجعل يتعين المصير إلى الوجه الأول من ارجاع موارد عدم امضاء الشارع للبيوع العرفية في الموارد الخاصة إلى تخطئة الشارع الأنظار العرفية فيما يرونه مصداقا للبيع وللنقل والانتقال ، ولازمه هو خروج المسببات من عناوين المعاملات عن مورد البحث والنزاع. واما ان بنينا على كون تلك المسببات من الأمور الاعتبارية الجعلية يتعين المصير إلى الوجه الا خير حيث لايتصور حينئذ وجه لتخطئة الشارع للعرف ، لان البيع المضاف إليهم والمصداق المختص بهم متحقق لا محالة في جميع الموارد حسب اعتبارهم إياه. نعم البيع الشرعي والمصداق المضاف إليه يكون تحققه تابع اعتبار الشارع وجعله إياه فمع عدم اعتبار الشارع إياه في مورد لاتحقق للبيع الشرعي وانما المتحقق هو البيع العرفي والمصداق المختص بهم. فعلى ذلك فاطلاق القول بخروج عناوين المعاملات عن حريم النزاع بتقريب انها أمور بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم مما لا وجه له ، بل اللازم هو التفصيل بين المسلكين والقول بالخروج عن مورد النزاع على أحد المسلكين دون الاخر.

ثم إن المتعين من هذين الوجهين أيضا هو الوجه الأخير فان دعوى كون تلك المسببات من الأمور الواقعية بعيد جدا ، بل هي من الأمور الاعتبارية الجعلية التي قوام تحققها بالجعل ، نعم بعد الجعل والاعتبار يصير من قبيل الأمور الواقعية نظير الارتباط المتحقق بين اللفظ والمعنى الحاصل بالجعل والوضع أو من كثرة الاستعمال ، فكما ان أصل تلك العلاقة والارتباط تكون تابعة للجعل في أصل تحققها وبعد الجعل تصير من الأمور الواقعية كذلك تلك المسببات ، وعليه فتدخل في حريم النزاع.

ثم إن الثمرة تظهر من مقام التمسك بالاطلاق من مثل ( أحل اللّه البيع ) عند الشك في مدخلية شيء في البيع ، فإنه على الأعم لا باس بالتمسك بالاطلاق في نفى ما شك في اعتباره. ولا كذلك الامر على الصحيح ، فإنه عليه مع الشك في مدخلية شيء في صحته عرفا يشك في

ص: 99

تحقق المسمى بدونه ومعه لايبقى مجال للتمسك بالاطلاق. نعم بعد احراز البيع العرفي بما له من الشرائط لو شك في دخل شيء في صحته شرعا يجوز التمسك باطلاق مثل ( أحل اللّه البيع ) في نفى ما شك في اعتباره شرعا حتى على الصحيح. هذا بناء على المسلك الأخير من جعلية البيع ونحوه ، واما بناء على المسلك الأول ففي التمسك بالاطلاقات اللفظية في نفى ما شك في اعتباره شرعا في صحته البيع اشكال ينشأ من احتمال خطأ العرف فيما يرونه مصداقا للبيع ، حيث إنه مع هذا الاحتمال يشك لا محالة في أصل تحقق البيع بدون المشكوك ، من جهة معلومية عدم اتباع فهم العرف الا في مقام كشف المفاهيم لا في مقام تطبيق المفهوم على المصداق الخارجي فارغا عن معلومية المفهوم. وحينئذ فمع احتمال خطأ العرف في تطبيق مفهوم البيع على المورد لم يجز التمسك بالاطلاق ، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو وجود الاطلاق المقامي في المقام ، حيث إنه بعد ما يرون العرف الفرد الغير الواجد للمشكوك بحسب ارتكازهم مصداقا حقيقيا للبيع ويرتبون عليه الآثار من النقل والانتقال ومع ذلك لم يردعهم الشارع يكشف ذلك عن أن ما يكون بيعا عندهم بيع شرعي أيضا ، والا لكان عليه التنبيه بذلك ببيان : ان غير الواجد لايكون حقيقة مصداقا للبيع وانه مصداق زعمي تخيلي. وحينئذ فبهذا الاطلاق الموصوف بالمقامي يستكشف ان جميع ما يراه العرف بيعا بيع حقيقة لذي الشارع الا ما خرج قطعا بالردع كبيع المنابذة والبيع الربوي ونحوهما ، فيكون الاطلاق المقامي حينئذ مثمرا لثمرة الاطلاق اللفظي. ومن ذلك أيضا نتمسك به لنفى اعتبار مثل قصد القربة مع عدم جريان في الرسائل من منعه عن التمسك بالاطلاق في مورد قائلا بأنه ليس ذلك تقييدا في دليل العبادة حتى يدفع بالاطلاق ، وتجويزه التمسك به في مورد آخر في ضمن تقريب دليل الانسداد ، حيث نقول بان نظره في المنع عن التمسك بالاطلاق إلى الاطلاق اللفظي وفى التجويز إلى الاطلاق المقامي.

تنبيه

قد يكون الشيء مطلوبا في العبادة ومندوبا إليه فيها من جهة جزئيته ودخله

ص: 100

الشطري في المهية المخترعة كالقراءة والركوع والسجود في الصلاة ، وقد يكون من جهة دخله الشرطي على نحو يكون تقيده داخلا في المهية المطلوبة دون نفسه وهذا كالطهور والستر والقبلة ، وقد يكون من جهة كونه من قبيل الواجب في الواجب فيكون مطلوبيته في تلك العبادة من جهة انحصار ظرفه فيها وتوقف وجوبه على وجوبها ووجودها لا من باب دخالته في المطلوب بنحو الشطرية أو الشرطية وهذا القسم لم أجد له مثالا في الصلاة ولكنه متصور في الحج وقد يكون من جهة كونه مستحبا في الواجب بنحو يوجب وجوده صيرورة الفرد من أفضل الافراد نظير القنوت وسائر الأذكار المندوبة في الصلاة ، حيث إنها لا تكون مما لها الدخل في أصل الواجب بنحو الشرطية أو الشرطية ولايكون الاخلال بها ولو مع العمد أيضا منافيا للامتثال ، ولكنها عند وجودها توجب مزية للفرد الواجد لها على الفاقد وتكون جزء للفرد لا للطبيعة ، لأنها من قبيل اللا بشرط بالنسبة إليها فتحقق معها وبدونها ، غاية الأمران الفرد المشتمل عليها يصير من أكمل الافراد وأفضلها. وهذا واضح. خصوصا على ما بيناه من أن الصلاة معنى تشكيكي مختلف المراتب ولها حدود تبادلية كالنور والخط.

ثم لايخفى ان تصوير الواجب في واجب ربما يستلزم ورود نقض على منكري معقولية الترتب المدعين لاستحالته ، بتقريب ان تعدد الامر يقتضي تعدد القدرة على الامتثال ومع عدم القدرة على الجمع بين الضدين يستحيل توجه التكليف بهما دفعة بالايجاد في زمان واحد ، توضيح الورود انه لو تم هذا المحذور لجرى نظيره في المقام أيضا فيلزمه الالتزام بعدم معقولية الواجب في واجب ، من جهة ان مقتضى القدرة على الشيء هو القدرة على تركه ونقيضه والا فمع فرض عدم القدرة على الترك والنقيض لايكاد تحقق القدرة على الفعل أيضا ، وعليه نقول : بأنه لو اعتبرت القدرة الفعلية على الامتثال في صحة توجه التكليف بالضدين يلزمه اعتبارها في المقام أيضا ، وحيث انه لايكون للمكلف في المقام القدرة على عصيان كلا الامرين في زمان واحد يترتب عليه عدم تصور الواجب في الواجب ، لان ظرف أحد الواجبين حيثما كان هو ظرف إطاعة الواجب الاخر فلا جرم لم يتصور القدرة الفعلية على عصيان كلا الامرين فيتوجه حينئذ النقض المزبور ، ومن ذلك كنا نورد هذا الاشكال على من ادعى استحالة الامر بالضدين ولو بنحو الترتب.

ص: 101

واما حل الاشكال : فهو ان القدرة الفعلية على الامتثال والعصيان انما تعتبر فيما لو كان الامر ان عرضيين ، واما لو كان الامر ان طوليين فلا يعتبر فيهما الا القدرة الطولية ، وحينئذ نقول : بان القدرة الطولية على عصيان الامرين كما كانت متحققة في المقام ومصححة للامر بايجاد شيء في واجب آخر كذلك متحققة في الامر بالضدين بنحو الترتب فتدبر.

الامر العاشر

لاينبغي الاشكال في امكان الاشتراك بالنسبة إلى معنيين وأزيد بل وقوعه أيضا في لغة العرب بل وفي غيرها من اللغات كما في لفظ شير بالفارسية الذي هو اسم للأسد الذي هو الحيوان المفترس واسم أيضا لللبن كقول الشاعر :

«آن يكى شير است اندر باديه *** وان يكى شيراست اندر باديه»

وحينئذ فدعوى امتناعه كما عن بعض مدعيا لاستلزامه الاخلال بالتفهيم والتفهم المقصود من الوضع بلا نصب القرينة على المراد واستلزامه التطويل بلا طائل معها في غير محلها ، لما عرفت من الوقوع الذي هو أدل دليل على امكانه.

وحينئذ فما ذكر من المحذور على تقدير تماميته يكون من الشبهة في قبال البداهة ، خصوصا مع عدم تماميته أيضا ، حيث نقول : بأنه كثيرا ما يتعلق الغرض بالاجمال المعلوم عدم حصوله غالبا الا بذلك ، فلايكون حينئذ اخلال بالغرض. واما حديث لزوم التطويل بلا طائل مع نصب القرينة فهو أيضا ممنوع إذا كان الاتكال على القرينة الحالية ، مع لزوم الاحتياج على المجاز إلى قرينتين : إحديهما صارفة والأخرى معينة للمراد ، بخلافه على الاشتراك فإنه لايحتاج الا إلى قرينة واحدة معينة للمراد.

نعم هنا وجه آخر للقول بالامتناع ، وهو ان قضية الوضع حيثما كان عبارة عن نحو اختصاص خاص بين اللفظ والمعنى وكونه على نحو المرآتية والفناء لا مطلق الاختصاص ولو على نحو الا مارية ، فلا جرم يلزمه امتناع اختصاص لفظ واحد بذلك الاختصاص الخاص بالمعنيين المتبائنين أو أزيد بنحو كان اللفظ مرآة وفانيا فيهما.

ولكن يدفع هذا الوجه أيضا بأنه انما يتوجه هذا المحذور فيما لو كان قضية الوضع

ص: 102

جعل المرآتية الفعلية للفظ على الاطلاق بنحو يلزمه ظهور اللفظ في المعنى ظهورا فعليا بقول مطلق ولو مع وجود المانع أو المزاحم ، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور من امتناع ان يكون للفظ واحد ظهور فعلى في المعنيين المتبائنين ، ولكن هذا المعنى ممنوع جدا بل المقدار الذي يقتضيه قضية الوضع من العلقة والاختصاص بينه وبين المعنى انما هو صيرورة اللفظ ظاهرا في المعنى ظهورا فعليا لولا ما يمنعه ويزاحمه ، وبعبارة أخرى ان ما يقتضيه الوضع من العلاقة والاختصاص لايكون الا عبارة عن كون اللفظ بنحو فيه اقتضاء المرآتية والظهور في المعنى الموضوع له بحيث لو أطلق ينسبق منه المعنى الفلاني لولا ما يزاحمه ويمنعه ، لا ان مقتضاه هو الظهور الفعلي والمرآئية الفعلية حتى مع وجود المانع أو المزاحم. وحينئذ نقول : بأنه على ذلك لايكاد يتوجه المحذور المزبور فإنه من الممكن حينئذ ان يكون للفظ واحد اقتضاء المرآتية والظهور بالنسبة إلى أزيد من معنى واحد ، غايته انه من جهة تصادم المقتضيين في مرحلة الفعلية لايكون له ظهور فعلى في واحد من المعنيين الا إذا كان هناك ما يمنع عن فعلية أحدهما فيؤثر الاخر حينئذ في الفعلية ويصير عند اطلاقه ظاهرا فعليا في المعنى الآخر ، كما هو واضح.

ثم إن في قبال هذا القول قولا آخر بوجوب الاشتراك بملاحظة تناهى الألفاظ وعدم تناهى المعاني ، ولكنه أيضا في غير لتناهي المعاني الكلية ولو كان جزئياتها غير متناهية ، على أن للمنع عن تناهى الألفاظ أيضا كمال مجال ، لما يرى بالوجدان من بلوغها إلى غير النهاية بتركيب الحروف بعضها مع بعض ، ومع تسليم ذلك نمنع الاحتياج إلى المعاني بأزيد من الألفاظ المستعملة في ألسنة الناس بتركيب بعض الحروف مع بعضها ، وعلى تقدير الاحتياج أحيانا بأزيد من ذلك مما لم يوضع له لفظ يمكن تفهيمه بمعونة القرائن ، فيبطل حينئذ ما ادعي من وجوب الاشتراك ، كما لايخفى.

الامر الحادي عشر

اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في وجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على نحو الاستقلال بنحو كان كل واحد من المعنيين أو المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه على أقوال : ثالثها عدم الجواز بنحو الحقيقة والجواز على نحو المجاز ، ورابعها التفصيل بين المفرد وبين

ص: 103

التثنية والجمع بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني. وقبل الخوض في المرام لا بأس من تمهيد مقدمة لبيان الأنحاء المتصورة من الاستقلال في المقام لكي يعلم ما هو المراد من الاستقلال المأخوذ في عنوان البحث لا يختلط عليك الامر فيما هو الحق الحقيق من هذه الأقوال.

فنقول وعليه التكلان : ان المحتملات المتصورة من الاستقلال المبحوث عنه في المقام أمور :

الأول : إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ في الذهن في قبال عدم الاستقلال الذي هو بمعنى انضمامه مع الغير فيه سواء كان مستقلا بحسب اللحاظ أيضا كما لو تعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ مستقل أو لم يكن مستقلا بحسب اللحاظ بان تعلق لحاظ واحد بالمجموع ، وذلك من جهة انه لا تلازم بين تعدد المعنى الملحوظ وبين تعدد اللحاظ ، فيمكن ان يكون المعنى الملحوظ مع كونه متعددا متعلقا للحاظ واحد ، كما في لحاظك نقاطا متعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع ، كامكان كون كل واحد منهما متعلقا للحاظ واحد مستقل ، كما أنه يمكن في طرف العكس ان يكون الملحوظ مع كونه غير مستقل بذاته مورد تعلق لحاظات متعددة مستقلة كما في تصورك النقاط المتعددة خطا طويلا بالغاء حدوداتها الخاصة وجعلك كل جزء منه مورد لحاظ مستقل ، بحيث تحكم عليه بان هذا الطرف من الخط أحسن من الطرف الآخر. وتوهم ان لحاظ الشيء ليس الا عبارة عن تصوره وايجاده في الذهن فمع فرض وحدة المتصور وجودا في الذهن لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظات متعددة مستقلة ، كما أنه في فرض تعدد المتصور لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظ واحد ، مدفوع بان تصور الشيء كما ذكرت انما هو عبارة عن ايجاد الشيء في الذهن ، واما اللحاظ فهو عبارة عن توجه النفس إلى شيء ملحوظ بعد تصوره وايجاده في الذهن ، ولذلك ترى في تصورك الخط الواحد بأنك إذا لاحظت أوله وآخره تحكم عليه بأن أوله أحسن من اخره.

الثاني : إرادة استقلال المعنى في عالم اللحاظ بمعنى ان يكون المعنيان كل واحد منهما مورد لحاظ مستقل في قبال ما لو كان المجموع مورد تعلق لحاظ واحد.

الثالث : إرادة استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم في قبال عدم استقلاله بحسبها ، كان المعنى بحسب ذاته أو بوصف كونه ملحوظا متعددا أم لا ، حيث لا تلازم أيضا بين استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم وبين الاستقلال بالمعنيين المتقدمين فيمكن ان يكون

ص: 104

المعنى مع كونه مستقلا في ذاته أو بوصف كونه ملحوظا غير متعلق لإرادة التفهيم رأسا فضلا عن تبعيتها في الاستقلال والضمنية لاستقلاله بحسب اللحاظ أو بحسب ذاته.

ورابعها : إرادة الاستقلال حسب مرحلة إرادة الوجود والحكم أو الاعراض الخارجية كما في العام الافرادي في قبال عدم استقلاله بحسبه كما في العام المجموعي. فهذه محتملات أربعة متصورة فيما هو المراد من الاستقلال المبحوث عنه.

واما مقام التصديق : فينبغي القطع بعدم إرادة الاستقلال بالمعنيين الأخيرين بل وخروجهما عن حريم النزاع ، بداهة ان إرادة التفهيم باللفظ وكذا إرادة الحكم ، انما هي من دواعي الاستعمال ، ومن هنا قد يتحقق الاستعمال ومع ذلك لايكون في البين إرادة ولا إرادة وجود أصلا ، بل وخصوصا الأخير ، حيث إنه قد يكون إرادة الوجود متحققة بلا ذكر لفظ أصلا ، وعليه فلاينبغي توهم إرادة القائل بالامتناع مثل هذه الصورة خصوصا بعد اجتماع هذين المعنيين مع وحدة اللحاظ المتعلق بهما تفصيلا أم اجمالا عند تعلق إرادة الوجود بكل واحد منهما. واما ما يترائى من بعض التعابير من كون المعنيين كل واحد منهما بحيث يقع موردا للنفي والاثبات أو الحكم بهما ، فالمراد منه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الحكمية الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ باعتبار تفرعها على لحاظ المنتسبين ، نظراً إلى أن استقلال المعنى بالإضافة إلى مثل هذه النسبة الكلامية فرع على لحاظ كل من المنتسبين مستقلا في مقام إرجاع المحمول إليه خصوصا مع اختلاف المنتسبين من جهة الايجاب والسلب ، فان ايقاع الايجاب والسلب حينئذ لكل واحد منهما لا محالة يحتاج إلى لحاظ كل منهما بلحاظ مستقل بنحو يكون كل واحد منهما تمام الملحوظ في لحاظه ، لا ان المراد هو استقلال المعنيين بحسب إرادة الوجود كما هو واضح. كيف وان لازمه هو خروج فرض استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل إذا اعتبر تعلق حكم واحد بالمجموع كما في العام المجموعي عن حريم النزاع ، مع أنه كما ترى ، إذ لاينبغي الاشكال في دخول مثل هذا الفرض في مورد النزاع بينهم.

وحينئذ يدور الامر في المراد من الاستقلال بين الاحتمالين الأولين ، وهو استقلال ذات المعنى الملحوظ أو استقلاله بوصف الملحوظية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ.

وحينئذ نقول : بأنه لو كان المراد من الاستقلال عبارة عن استقلال المعنى الملحوظ

ص: 105

بذاته لا بوصف كونه ملحوظا كان الحق مع القائل بالجواز عقلا لضرورة عدم محذور عقلي فيه بعد امكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة مبائن كل واحد مع الاخر واستعمال اللفظ فيها ، كما في لحاظك النقاط المتعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع ، وحينئذ فلو كان فيه كلام فلابد وأن يكون في جوازه لغة كما سيجيء لا في جوازه عقلا. واما لو كان المراد من الاستقلال هو استقلال المعنى بحسب اللحاظ وبوصف الملحوظية بنحو يقتضي تعدد النسبة في النسبة الكلامية لكان الحق مع يدعى الامتناع عقلا ، بداهة استحالة إرادة المعنيين المتبائنين من اللفظ الواحد بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل في آن واحد فلابد حينئذ من تنقيح هذه الجهة وان المراد من الاستقلال المبحوث عنه أي واحد من المعنيين.

وحينئذ نقول : بان الظاهر على ما يظهر من كلماتهم إرادة الاستقلال بالمعنى الثاني وهو الاستقلال بوصف الملحوظية بنحو كان المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ ، لا ملحوظا تمامه باللحاظ ولو ضمنا ، حيث إن ذلك ظاهر جماعة منهم كصاحب الكفاية قدس سره وصاحب البدايع وصاحب الفصول وغيرهم ، قال في الكفاية في بيان المراد من الاستقلال المبحوث عنه : ( هو ان يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه ) حيث إنه ظاهر بل صريح فيما ذكرناه من الاستقلال ، نظراً إلى أن حقيقة الاستعمال بعد أن كان عبارة عن ذكر اللفظ ولحاظ المعنى ، فيكون قوله قدس سره : ( كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه ) معناه كون كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ كما لو لم يكن الا ذاك ، لا كون كل واحد منهما ملحوظا تمامه ولو بلحاظ ضمني. ومثله عبارة البدايع حيث قال : ( اعلم أن لإرادة المعنيين صورا أحدها ان يطلق المشترك ويراد به المعنيان بنحو الاستقلال ) ثم فسره بقوله : ( على أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا للنفي والاثبات كما تقول : أقرأت الهندان ، تريد حاضت هذه وطهرت تلك ، على سبيل التوزيع حتى كأنك ذكرت اللفظ مرتين ) ومن المعلوم صراحة هذا الكلام أيضا منه فيما ذكرناه في المراد من الاستقلال المبحوث عنه باعتبار اقتضاء قوله : على أن يكون كل منها ( الخ ) لتعدد النسبة واختلافها الملازم ذلك مع تعدد اللحاظ أيضا. ونحوه ما عن الفصول قال فيما حكى عنه في تحرير محل النزاع : ( الرابع ان يستعمل اللفظ في كل واحد من المعنيين على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده كما إذا كرر اللفظ و

ص: 106

أريد ذلك ) قال : وهذا محل النزاع. وظاهره ارادته من قوله : ( على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده ) الإرادة الاستعمالية التي هي مقومة لحقيقة الاستعمال ، لا إرادة التفهيم أو الوجود كما يشهد لذلك قوله بعد ذلك : ( ولا فرق بين ان يكون كل واحد منهما متعلقا للحكم ومناطا للنفي والاثبات أو يكون المجموع كذلك ) ، وعليه فينادي كلامه بان ما هو محل النزاع انما هو صورة استقلال المعنيين في مرحلة اللحاظ لا استقلالهما بحسب ذاتهما ولولا بوصف الملحوظية.

وربما يشهد لما ذكرنا أيضا الموارد الخاصة التي استشكلوا فيها من جهة محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد :

منها : في مثل قوله علیه السلام : كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر وكل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام ، حيث إنهم استشكلوا على من يقول بامكان استفادة قاعدتي الاستصحاب والطهارة في الأول واستفادة قاعدتي الاستصحاب والحلية في الثاني ، حيث قالوا بعدم امكان استفادة القاعدتين معا من الرواية واستحالتها ، نظراً إلى احتياج القاعدة إلى أن يكون النظر فيها إلى أصل ثبوت المحمول وهو الحلية والطهارة ، واحتياج الاستصحاب إلى أن يكون النظر فيها إلى حيث استمرار المحمول فارغا عن أصل ثبوته فيلزم حينئذ من إرادة القاعدتين اجتماع النظرين فيه في آن واحد وهو محال.

ومنها : في مبحث البراءة في قوله سبحانه : « لايكلف اللّه نفسا الا ما آتيها » حيث استشكلوا فيها أيضا بعدم امكان إرادة الفعل والتكليف معا من الموصول ، بتقريب انه بناء على تقدير إرادة الحكم منه يكون نسبته إلى التكليف من قبيل نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ، وعلى تقدير إرادة الفعل من الموصول يكون نسبته إليه من قبيل نسبة الفعل المفعول به ، فعلى فرض إرادة الحكم والفعل منه يلزم اجتماع النظرين فيه باعتبار اقتضاء تعدد النسبة التعدد في ناحية النظر واللحاظ أيضا.

ومنها : في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » من حيث امكان استفادة الاستصحاب وقاعدة اليقين منه فراجع.

ومنها : غير ذلك من الموارد الاخر ، حيث إنه يعلم من ذلك كله بان ما هو مورد البحث في الجواز والامتناع انما هو صورة استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما مستقلا في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع استقلالهما في الملحوظية أيضا ، لا صورة

ص: 107

مطلق استعمال اللفظ في المتعدد ولو بنحو كان المجموع متعلقا للحاظ واحد.

وعليه نقول : بأنه لو بنينا في وضع الألفاظ على المرآتية كما هو التحقيق أيضا فلاينبغي الاشكال في أن الحق مع من يدعى الامتناع العقلي من جهة ما فيه من استلزامه لاجتماع اللحاظين في آن واحد في لفظ واحد للحاظ واحد وهو من المستحيل. واما لو بنينا فيها على الا مارية التي لازمها سببية اللفظ لانتقال الذهن بدوا إلى المعنى الموضوع له كما شرحناه سابقا نظير الدخان الذي هو سبب لانتقال الذهن إلى وجود النار بدوا وبلا توسيط شيء فقد يقال فيه بالجواز واختاره الأستاذ دام ظله في درسه الشريف أيضا ، بتقريب ان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين والنظرين في منظور واحد ، وهو غير متحقق بناء على الا مارية ، لأنه عليها لايكون اللفظ واسطة للانتقال وموردا لتعلق اللحاظ بدوا كما على المرآتية بحيث يكون الانتقال إلى المعنى بتوسيط اللفظ ومن باب السراية منه إليه حتى يلزمه اجتماع اللحاظين والنظرين في شيء واحد ، بل وانما اللفظ على هذا المبنى يكون سببا لانتقال الذهن بدوا وبلا واسطة إلى المعنى ، نظير سببية الدخان للانتقال إلى وجود النار وسببية شيء كذائي للانتقال إلى ملزومه ولوازمه. وحينئذ فإذا كان المعنى متعددا ذاتا وكان اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى لا انه كان واسطة للانتقال وللسراية منه إلى المعنى ، فلا باس بان يتعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ مستقل لأنه ليس من باب اجتماع اللحاظين في شيء واحد حتى يقال بامتناعه واستحالته ، ومجرد كون اللحاظين مجتمعين في آن واحد حينئذ غير ضائر بعد فرض تعدد المتعلق فإنه ليس بأعظم من اجتماع الضدين كالحب والبغض وغيرهما من صفات النفس مع أن اجتماعهما في الآن الواحد عند فرض تعدد المتعلق مما لايكاد ينكر كما في محبة الانسان لولده وبغضه لعدوه. وحينئذ فإذا أمكن اجتماع الضدين في الآن الواحد عند فرض تعدد المتعلق فليكن كذلك في المثلين في مفروض المقام. وعليه فلاينبغي مجال الاشكال في امكان استعمال اللفظ الواحد في المعنيين على الا مارية بإرادة كلا المعنيين منه المعنى الحقيقي والمجازي كما هو واضح.

أقول : ولكن الذي يقوى في النظر هو عدم الفرق في الاستحالة بين المسلكين وانه لا يجدي في رفع الاستحالة مجرد تعدد المتعلق كما يجدي في مثل الحب والبغض والإرادة والكراهة ، إذ نقول بان النفس بعد ما توجهت إلى شيء ولاحظته بتمام التوجه واللحاظ

ص: 108

يستحيل توجهها في ذاك الآن إلى شيء آخر يغايره ويباينه على نحو توجهها بما توجهت إليه أولا. وهذا المعنى من الوجدانيات التي لا تحتاج إلى إقامة البرهان عليه ، ولذا ترى من نفسك عند توجهك إلى أمر من الأمور العلمية أو غيرها الغفلة في ذلك الآن عن بقية الأمور ومن المعلوم انه ليس ذلك الا من جهة ما أشرنا إليه من الاستحالة. ومقايسته المقام بسائر صفات النفس من الحب والبغض ونحوهما ممنوعة ، بان مثل الحب والبغض ونحوهما أمور قهرية عارضة على النفس بلحاظ مناشئها الخاصة ، فمن ذلك أمكن اجتماعها عند فرض تعدد المتعلق وأين ذلك واللحاظ الذي هو من الأمور الاختيارية للنفس! فعلى ذلك لا فرق في الاستحالة بين القول بمرآتية اللفظ للمعنى أو اماريته فان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين في آن واحد للحاظ واحد ، كان في العالم لفظ أم لا قلنا بمرآتية اللفظ أو أماريته كما هو واضح.

اللّهم الا ان يدعى بان ذلك انما يتم فيما لو كان المعنيان كل واحد منهما متعلقا لتمام اللحاظ على معنى ان تمام اللحاظ كما تعلق بهذا المعني كذلك تعلق أيضا بذلك المعنى الآخر ، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور ولو على امارية اللفظ باعتبار ان لازم تعلق تمام اللحاظ بشيء هو الغفلة عما عداه. ولكنه ليس كذلك ، بل المدار في الاستقلال بحسب اللحاظ انما هو استقلال كل من المعنيين في عالم تعلق اللحاظ على نحو كان كل منهما تمام الملحوظ لا تمام الملحوظ بتمام اللحاظ ، والفرق بينهما واضح.

فعلى ذلك فلا بد من التفصيل بين القول بالمرآتية وبين القول بالأمارية في الجواز والامتناع ، بالمصير إلى الجواز عقلا في الثاني والامتناع عقلا في الأول ، ولكن حيث إن التحقيق في المسلكين هو مسلك المرآتية دون الا مارية كما تقدم بيانه في محله فلا جرم يتعين القول بالامتناع عقلا من دون فرق في الاستحالة بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد وبين التثنية والجمع فان مناط الاستحالة متحقق على جميع الصور والتقادير. واما الانتقاض ببابي العام الاستغراقي والوضع من حيث كون كل فرد من افراد العام محكوما بحكم شخصي مستقل وهكذا في الوضع في عام الوضع وخاص الموضوع له ، فمدفوع بما مر سابقا من خروج نحو ذلك عما هو مورد الكلام ، فان مورد الكلام كما عرفت انما هو صورة استعمال اللفظ في المتعدد بما هو متعدد بحسب اللحاظ بنحو يكون المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ باللحاظ لا بحسب إرادة الوجود خارجا ، على أن الحكم في

ص: 109

مثل قوله أكرم العالم لايكون الا حكما واحدا متعلقا بأمر واحد وهو العنوان العام ، غايته هو انحلاله بحسب التحليل إلى احكام متعددة حسب تعدد افراد العام وأين ذاك وتعدده في مرحلة الانشاء الكلامي كما هو واضح كيف ولازمه انتهاء الامر إلى انشاءات احكام غير متناهية عند عدم تناهي افراد العام وهو كما ترى.

وكيف كان فهذا كله بناء على كون المراد من الاستقلال المبحوث عنه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ ، وعليه قد عرفت بان التحقيق فيه هو الامتناع عقلا مطلقا بناء على ما هو التحقيق في وضع الألفاظ من المرآتية لا الأمارية من دون فرق بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد والتثنية والجمع. واما بناء على إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ من الاستقلال المبحوث عنه فعليه قد عرفت جوازه عقلا مطلقا ولو على المرآتية في الألفاظ نظراً إلى وضوح امكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة بما هي متعددة. وحينئذ فالاستعمال بهذا النحو مما لا مجال لدعوى امتناعه عقلا بل ولا يظن من القائل بالامتناع إرادة هذه الصورة فان تمام همهم في المنع عقلا انما هو صورة استقلال المعنيين بوصف الملحوظية.

نعم بعد ما أمكن هذا القسم من الاستعمال في نفسه ولم يقم برهان عقلي على امتناعه يبقى الكلام في جوازه لغة وانه هل يجوز ذلك مطلقا أو لايجوز كذلك أو يفصل بين المفرد وغيره؟ فنقول انهم ذكروا في المنع عن صحة الاستعمال على الوجه المزبور وجوها :

منها : ما افاده بعض المحققين في بدايعه حيث قال ما حاصله : ان الاستعمال على الوجه المزبور امر ممكن لم يقم على المنع عنه دليل عقلي ، ولكنه يمنع عن صحة استعماله عدم معهودية الاستعمال بهذا النحو في كلام العرب نظما ونثرا كما يظهر عند التتبع واستقراء كلماتهم ممن يعتد بشأنه من الخطباء وغيرهم ، فإذا فرض عدم مساعدة أهل اللسان على مثل هذا النحو من الاستعمال وخروجه عما هو المأنوس والمتعارف عندهم فلا جرم يكون الاستعمال غلطا غير صحيح من جهة عدم كونه من اللغة المتحاور فيها علاوة عما نرى بالوجدان من ابائه عن التعبير عن المعاني المختلفة بلفظ واحد ولو في الموارد المطلوب فيها الايجاز والاختصار.

أقول : ولايخفى عليك انه لو تم هذا الدليل لكان مقتضاه عدم الفرق في المنع بين المفرد وغيره ولا بين ان يكون الاستعمال بنحو الحقيقة أو المجاز.

ص: 110

ومنها : ما افاده صاحب المعالم قدس سره حيث منع عن الاستعمال المزبور في المفرد بنحو الحقيقة لاعتباره قيد الوحدة في الموضع له ، والتزم بالجواز في غيره حيث قال بعد اختيار الجواز : لنا على الجواز انتفاء المانع بما سنبينه من بطلان ما تمسك به المانعون ، وعلى كونه مجازا في المفرد تبادر المعنى منه مفردا عند اطلاق اللفظ فيفتقر إرادة الجميع إلى الغاء قيد الوحدة فيصير اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه لكن وجود العلاقة المصححة للتجوز أعني علاقة الكل والجزء يجوزه فيكون مجازا. واستدل أيضا على كونه بنحو الحقيقة في التثنية والجمع بأنهما في قوة تكرار المفرد بالعطف ( انتهى كلامه قدس سره ) أقول : الظاهر أن مراده قدس سره من الوحدة التي اعتبرها في المعنى والموضوع له هي وحدة المعنى وانفراده عن الشريك في مرحلة الوضع لا الوحدة الذاتية التي يعتبرها العقل من المعنى كي يرد عليه : بأنه لا شبهة في بقاء المعنى على حاله حتى في حال استعمال اللفظ في المتعدد من دون انقلابه عما هو عليه من الوحدة الذاتية بانضمام الغير معه فكان المعنى على وحدته ولو انضم إليه الف معنى في مقام الاستعمال حيث كان المستعمل فيه حينئذ عبارة عن الف واحد ولا وحدة المعنى وجودا على معنى كون المعنى منفردا دائما بحسب الوجود ، كي يرد عليه : بأنه لا معنى لدعوى وضع اللفظ للمعنى بشرط انفراده في عالم الوجود وعدم وجود معنى آخر ، كيف وان مثل ذلك مما لاينبغي ان يحتمل صدوره عن عاقل فضلا عن مثله قدس سره الشريف وحينئذ فيتعين ان يحمل الوحدة المذكورة في كلامه على ما ذكرناه من وحدة المعنى وانفراده عن الشريك حال الوضع.

نعم على ذلك أيضا يتوجه عليه اشكال المحقق القمي قدس سره بعدم امكان اخذ مثل هذه الوحدة الناشئة من قبل قصر الوضع قيدا في ناحية المعنى والموضوع له لأنها باعتبار نشوها من قبل قصر الوضع تكون في رتبة متأخرة عن ذات المعنى والموضوع له ، ومع فرض تأخرها عنه رتبة يستحيل اخذها قيدا له وحينئذ فلابد من تجريد المعنى عن مثل هذه الوحدة أيضا ومع التجريد لايبقى الا ذات المعنى عارية عن حيث التقيد بالوحدة ، وعليه فلايكون استعمال اللفظ المفرد في المتعدد من الاستعمال المجازي ، بل امره دائر بين كونه غلطا من رأسه وبين كونه استعمالا حقيقيا. بل قد يقال بالمنع عن صحة الاستعمال المزبور مجازا أيضا ولو مع تسليم تقيد المعنى بقيد الوحدة والانفراد ، بتقريب ان المستعمل فيه اللفظ لما كان هو المعنى الملحوظ معه آخر فلا جرم يكون

ص: 111

الاستعمال المزبور من الاستعمال في المعنى المباين نظراً إلى مباينة المعنى المقيد بالانفراد عن الشريك مع المعنى معه الشريك وحينئذ فبعد ما لم يكن علاقة في البين تجوز الاستعمال المزبور فلا جرم يصير الاستعمال غلطا محضا.

ومنها : ما افاده المحقق القمي قدس سره في وجه المنع عن صحة الاستعمال المزبور حيث قال ما حاصله : بان الوضع انما كان في حال وحدة المعنى وانفراده ولو لم يكن بشرط الوحدة وحينئذ يكون التعدي عن تلك الحالة إلى حالة أخرى يعنى حالة انضمام الغير مع المعنى تعديا عما هو وظائف الوضع وخارجا عن قانونه ، وكل استعمال لا يلاحظ فيه وظائف الوضع كان خارجا عن قانون اللغة وكان من الأغلاط لعدم كونه من الحقيقة ولا المجاز. ولقد أورد عليه بان حال الوحدة بعد ما لم تكن قيدا للوضع ولا للموضوع له لا مانع عن جواز الاستعمال المزبور ، ومن ذلك ترى انه لا مانع عنه في الاعلام مع أن الوضع فيها كان في حال بعض الأوصاف حيث يصح استعمالها في مسمياتها عند زوال تلك الأوصاف بل وعند طرو ما يضادها أيضا. أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال عليه قدس سره إذ نقول : بان الغرض من الوضع بمقتضي صرافة الطبع بعد أن كان هو مرآتية اللفظ للمعنى في حال انفراده عن الشريك لا مطلقا حتى في حال عدم انفراده وانضمام معنى آخر إليه ، فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة الغرض وعدم سعته يطرء نحو ضيق أيضا على موضوع وضعه فيكون وضعه بهذا الاعتبار مقصورا في حال وحدة المعنى وانفراده عن الشريك ويكون الموضوع له أيضا عبارة عن نفس ذات المعنى لكن لا الذات المطلقة ولو كان معها الشريك ولا المقيدة بقيد الانفراد ، لما تقدم في جواب صاحب المعالم من امتناع اخذ مثل القيد الناشي من جهة قصر الوضع في ناحية المعنى والموضوع له. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم امكانه اخذ الوحدة والانفراد في ناحية الموضوع له وعدم اطلاقه أيضا حسب قصور دائرة الوضع فلا جرم لايبقى في البين الا ذات المعنى في حال الوحدة بنحو القضية الحينية لا الوصفية المعبر عنه في كلامه قدس سره بان الموضوع له هو المعنى في حال الوحدة لا بشرط الوحدة كي تكون قيدا للمعنى ولا لا بشرط الوحدة. وحينئذ فعلى ذلك لايبقى مورد للاشكال المزبور ، إذ نقول : بان عدم صحة الاستعمال المزبور حينئذ انما هو من جهة عدم اطلاق المعنى الموضوع له وتضيفه الناشي من قبل قصور الوضع إذ حينئذ يصير الاستعمال المزبور خارجا عن

ص: 112

قانون الوضع واللغة ويكون من الأغلاط.

نعم لو أن أحدا منع عن ذلك لابد له من المنع عن المقدمة الأولى بدعوى : ان الغرض من الوضع انما هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنا لا جعل المرآتية المطلقة له كي يلزمه قصور وضعه عن الشمول الا لحال انفراد المعنى عن الشريك فيترتب عليه عدم صحته استعماله في حال انضمام الغير معه ، وحينئذ فإذا لم يقتض الوضع الا مطلق مرآتية اللفظ للمعنى ولو في ضمن الغير يترتب عليه صحة الاستعمال في المعنيين فإذا كان اللفظ بحسب وضعه مشتركا بين المعنيين يكون استعماله فيهما استعمالا حقيقيا وإذا لم يكن. اللفظ مشتركا يكون الاستعمال المزبور بالنسبة إلى المعنى الحقيقي استعمالا حقيقيا لتحقق المرآتية بالنسبة إلى المعنى الآخر يكون الاستعمال استعمالا مجازيا ، هذا.

ولكن الانصاف هو بعد دعوى كون قضية الوضع هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنية كيف ولازمه في مثل قوله أكرم العالم مثلا هو الحكم بالاجمال من جهة عدم امكان استفادة ان العالم هو تمام الموضوع لهذا الحكم وذلك لاحتمال ان يكون الاستعمال المزبور في قوله ( العالم ) استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي الملازم في المثال لكون عنوان العالم جزء الموضوع لحكم وجوب الاكرام وجزئه الاخر معنى آخر مجازي ، ومن المعلوم انه مع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بان تمام الموضوع للحكم المزبور هو عنوان العالم ما لم يكن هناك ما يدفع الاحتمال المزبور ، وحيث انه لايكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم نفس احتماله موجب للتوقف وعدم الحكم بأنه تمام الموضوع للحكم المزبور ، مع أن ذلك كما ترى خلاف ما استقر عليه بناء أهل المحاورة ، حيث لا شبهة في حكمهم في نحو المثال المزبور بان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وهذا بخلافه على المرآتية المطلقة فإنه عليه يكون للفظ بمقتضي وضعه ظهور في معناه وبمقتضى أصالة الظهور يحكم في المثال بان ما هو تمام الموضوع للحكم انما هو عنوان العالم الذي كان اللفظ حاكيا عنه ويدفع به احتمال كونه جزء الموضوع. بخلافه على مطلق المرآتية فإنه عليه لايكون للفظ ظهور في أن عنوان العالم هو تمام الموضوع للحكم بوجوب الاكرام كي يقتضي أصالة الظهور فيه دفع احتمال انضمام الغير معه في عالم الموضوعية للحكم ، بل أقصى ما يقتضيه الوضع حينئذ انما هو ظهور اللفظ في دخل

ص: 113

عنوان العالم في الموضوع ، واما كونه تمام الموضع فلا ، وحينئذ فبعد احتمال إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ العالم فلا جرم لابد من سد باب هذا الاحتمال ، وحيث انه لايكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم لابد من التوقف والحكم بالاجمال. واما أصالة عدم القرينة فهي أيضا غير مثمرة ، لان أقصى ما تقتضيه انما هو نفى وجود الامارة على إرادة المجاز لا نفى احتمال إرادة المجاز واقعا ، نعم هي مثمرة بناء على المرآتية المطلقة لأنه عليه يكون وجود الامارة على المجاز مانعا عن التمسك بأصالة الحقيقة والظهور ، فبعد جريان أصالة العدم تجرى أصالة الظهور ويثبت بها ان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وحينئذ فنفس بناء أهل المحاورة وارتكازهم على عدم الاعتناء باحتمال إرادة المعنى المجازي في نحو المثال المزبور واستفادتهم ان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم ربما يساعد على المرآتية المطلقة وعليه يتوجه الاشكال المتقدم حيث إنه في فرض الاستعمال في المتعدد يدور امر ذلك الاستعمال بين كونه غلطا رأسا باعتبار خروجه عما عليه قانون الوضع واللغة كما افاده المحقق القمي قدس سره حتى بالنسبة إلى معناه الحقيقي وبين كونه مجازا بناء على فرض وجود العلائق المجوزة للاستعمال فعلى كل حال يخرج الاستعمال المزبور عن كونه استعمالا حقيقيا كما هو واضح. وكيف كان فهذا كله في المفرد.

واما التثنية والجمع : فالمصرح به في كلام جماعة منهم صاحب المعالم جوازه بنحو الحقيقة ، نظراً إلى دعوى كونهما في قوة تكرير المفرد بالعطف. ولكن التحقيق خلافه ، إذ نقول : بان ما يرى من التعدد في التثنية والجمع فإنما ذلك من جهة إفادة العلامة ذلك ، حيث كانت موضوعة بمقتضي وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد ، لا انه كان من جهة الاستعمال في المتعدد حتى يقال بجوازه في التثنية والجمع ، فالمدخول في مثل الرجلين والعينين لايكون إلا مستعملا في معنى واحد وهو صرف الطبيعة الا ان الهيأة فيهما دلت بمقتضي وضعها على تقيد ما يراد من المدخول بالتعدد وكونه في ضمن الوجودين ، وعليه فلايرتبط ذلك بمسألة استعمال اللفظ في المعنيين ، كما هو واضح. هذا إذا أريد من المدخول صرف الطبيعة التي هي معنى كلي قابل للتعدد ، ومن العلامة إفادة التعدد من المدخول ، أو تقيده بالتعدد كما هو التحقيق في كلية أوضاع الهيئات ولقد عرفت انه خروج عن كونه من الاستعمال في المتعدد. ومثله ما لو أريد التعدد من مجموع المدخول و

ص: 114

العلامة ، ولو بدعوى وضع المجموع مادة وهيئة للمتعدد نظير أوضاع الجوامد كما توهم ، إذ على ذلك المسلك أيضا يخرج الاستعمال المزبور عن كونه من الاستعمال في المتعدد ، كما هو واضح. واما لو أريد من المدخول التعدد : فاما ان يراد من العلامة أيضا تعدد ما يراد من المدخول على ما هو قضية وضعها ، واما ان يجعل العلامة قرينة على إرادة التعدد من نفس المدخول ، فان كان الأول ففساده واضح ، من جهة استلزامه حينئذ لان يكون مفاد التثنية في قولك ( رجلان وعينان ) أربعة ، وهو كما ترى ، فإنه مع مخالفته للوجدان لا يلتزم به أحد ، وان كان الثاني فلازمه صحة استعمال اللفظ في المتعدد ولو في المفرد ، فيبطل القول بالتفصيل بين المفرد وبين التثنية والجمع ، كما هو واضح. ولكن التحقيق في التثنية والجمع هو ما عرفت من أن استفادة التعدد انما هو من مدلول الهيئة والعلامة باعتبار وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد وفي ضمن الوجودين ، وعليه قد عرفت بخروجها رأسا عن باب استعمال اللفظ في المتعدد ، فإنه بعد انحلال الوضع فيهما إلى وضعين بحسب المدخول والعلامة ، فلا جرم يكون المدخول دالا على صرف الطبيعة القابلة للتعدد والعلامة على تقيده بالتعدد.

ثم إن هذا كله في مثل أسامي الأجناس مما كان قابلا للتعدد واما ما لايكون قابلا للتعدد كالاعلام الشخصية وأسماء الإشارة فيشكل فيها امر التثنية الجمع إذ لا يجري فيها ما ذكرناه في تثنية أسامي الأجناس ، فلا بد فيها اما من الالتزام بان الوضع انما كان من قبيل وضع الجوامد وان مثل زيدان وهذان مثلا وضع مادة وهيئة مجموعا لفردين على خلاف أوضاع التثنية والجمع في أسامي الأجناس ، واما من الالتزام بكفاية مجرد الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في المعنى أيضا ، أو الالتزام بالتأويل بالمسمى ليصير كليا قابلا للتعدد فيرد عليه العلامة. ولكن الجميع كما ترى ، اما الأول فلبعده جدا لكونه على خلاف الارتكاز فان وضع تثنية الاعلام بحسب الارتكاز انما هو كتثنية أسامي الأجناس وحينئذ فالتفرقة بينهما بجعل وضع التثنية والجمع في غير الاعلام الشخصية وضعا انحلاليا وفيها من قبيل وضع الجوامد في غاية السخافة كما هو واضح. واما الثاني فبمنع كفاية مجرد الاتفاق في اللفظ في التثنية والجمع بل يعتبر فيها علاوة عن الاتفاق في اللفظ الاتفاق بحسب المعنى أيضا. واما الثالث فبان التأويل بالمسمى من المجاز المحتاج إلى رعاية عناية فيه وهو مما يأبى عنه الطبع والذوق في مثل

ص: 115

زيدان وحسنان حيث لايكاد انسباق الذهن منه إلى المسمى بزيد بوجه أصلا ، نعم قد يفضى الحاجة إلى التأويل المزبور في بعض الموارد كما في قولك جئني بمن هو مسمى بزيد ، أو اعط الدرهم من هو مسمى بمحمد لكن ذلك أيضا مع إقامة القرينة الخاصة عليه وأين ذلك والمقام الذي لايرى فيه قرينة على ذلك ، على أنه لو سلم ذلك في مثل الاعلام الشخصية لايكاد يجرى الكلام المزبور في مثل أسماء الإشارة كهذين ونحوه مما له توغل محض في التعريف. ودعوى عدم كون مثل هذين من التثنية حقيقة بل هو من باب كونه موضوعا للإشارة إلى فردين بعيد جدا ، فان الظاهر أن مثل هذين تثنية لهذا ، لا انه موضوع بمجموعة مادة وهيئة للإشارة إلى الفردين من المذكر كما هو واضح ، وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتوجه الاشكال بأنه كيف المجال لتثنية الاعلام وأسماء الإشارة مع عدم قابلية المدخول فيها للتعدد.

وحينئذ فالأولى في حل الاشكال هو ان يقال : بان التثنية والجمع في باب الاعلام في نحو زيدان وزيدون انما هو باعتبار لفظ زيد الذي هو كلي قابل للتعدد لا باعتبار مدلوله ومعناه ، نظير باب استعمال اللفظ في نوعه ، فأريد من المدخول حينئذ نفس طبيعة اللفظ ومن العلامة تقيده بالتعدد ولكنه لا بنحو يكون اللفظ بنفسه منظورا استقلاليا في قبال معناه بل بما انه مرآة إلى معناه بحيث كان النظر إليه نظراً عبوريا وكان المنظور بالاستقلال هو المعنى ، كما في قولك : رأيت زيد بن أي زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، في قبال ما لو كان المنظور بالاستقلال هو اللفظ خاصة ، كقولك : اكتب زيدين أو اقرأ زيدين ، حيث كان النظر الاستقلالي فيهما بتمامه إلى خصوص اللفظ بلا نظر إلى مدلوله ومعناه ، وعليه فيدفع الاشكال المزبور حيث نقول : بأنه يراد من العلامة في مثل زيدين فردان من طبيعة لفظ زيد على نحو يكون كل فرد حاكيا عن معنى خارجي. هذا بالنسبة إلى الاعلام الشخصية.

واما أسماء الإشارة فالامر فيها أسهل بناء على ما تقدم منا في المبهمات من دعوى كونها موضوعة للذوات المبهمة بما هي متخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية ونحوهما بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، حيث إنه على هذا المسلك يكون المدخول في مثل هذين والذين وهما ، مفاده كليا قابلا للتعدد ، كما في أسامي الأجناس ، فمن هذه الجهة يكون حالها حال أسامي الأجناس بلا ورود اشكال فيها ، نعم على المسلك الآخر فيها من وضعها

ص: 116

لمصداق الإشارة إلى المفرد المذكر كما ادعى لا شكل امر التثنية والجمع فيها ، فمن ذلك لابد من القول في مثل هذين بان الوضع فيه انما هو كوضع الجوامد بدعوى ان هذين وضع مادة وهيئة وضعا واحدا للإشارة إلى الفردين من المذكر فلايكون تثنية حقيقة ، ولكنه قد تقدم سخافة هذا المسلك ، فان لازم جعلها موضوعة لنفس الإشارة انما هو صيرورة معناها معنى حرفيا ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها أخرى مع أنه كما ترى ، وحينئذ فكان صحة اجراء احكام الأسماء عليها كاشفا عن فساد المسلك المزبور. وهذا بخلافه على ما اخترناه من المسلك في أوضاع المبهمات من جعل الموضوع له فيها عبارة عن الذوات المبهمة المتخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية أو غيرهما ، حيث إنه باعتبار اسمية مداليلها كان المجال لاجراء احكام الاسم عليها كما أنه باعتبار كلية مداليلها يصح أيضا تثنيتها وجمعها كما في أسامي الأجناس من دون منافاة ذلك أيضا مع كونها معرفة لما تقدم في محله بأن جهة تعرفها انما كانت بلحاظ تقيد مداليلها بالإشارة أو المعهودية الذهنية كما لايخفى فتدبر.

تنبيه

قد يقال : بأنه كيف منعتم عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع أنه واقع في الكتاب العزيز على ما نطق به غير واحد من الاخبار بان للقرآن بطونا سبعة أو سبعين ، ولكنه يندفع ذلك بامكان ان يكون المراد من البطون في الاخبار ما هو من اللوازم للمعنى المطابقي التي كان بعضها اخفى من بعض ولا يصل إليها عقولنا ولايعلمها الا من خوطب به ، إذ عليه لايكون ذلك مربوطا بمسألة استعمال اللفظ في المتعدد كي ينتج للقائل بالجواز ، ومع الغض عن ذلك نقول أيضا : بأنه يمكن ان يكون المراد من البطون هي المصاديق العديدة لمعنى واحد كلي التي تتفاوت في الظهور والخفاء ، وعليه أيضا لايرتبط ذلك بباب استعمال اللفظ في المتعدد إذ المستعمل فيه حينئذ لايكون إلا معنى واحدا كليا ، غايته انه لذلك المعنى الكلي مصاديق عديدة بعضها اخفى من بعض بحيث لا يصل إليها عقولنا ولايعلمها الا النبي صلی اللّه علیه و آله والوصي والأئمة من ولده علیهم السلام لكونهم هم المخاطبين به فباعتبار خفاء تلك المصاديق وعدم علمنا به

ص: 117

عبّر عنها في الاخبار المروية عنهم علیهم السلام بالبطون ، فتدبر.

الامر الثاني عشر في المشتقات

اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال ، أو انه حقيقة في الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ ، وذلك بعد وفاقهم على كونه مجازا في الاستقبال ، ولتنقيح المرام في المقام لابد من ذكر أمور :

الأول في بيان الحال المتنازع فيه في المقام وانه عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ وتلبسه بها؟ أو انها عبارة عن حال الجري والتطبيق على المصداق الخارجي كما هو ظاهر بعضهم حسب اقتضاء تحريرهم عنوان البحث ، أو انه عبارة عن حال النسبة الكلامية ، وتوضيح المقال في ذلك يحتاج إلى بيان ما هو مورد النزاع وانه هل هو في مدلول الكلمة والمفرد أو في مدلول الهيئة؟ فنقول : لاينبغي الاشكال في أن ما هو مورد البحث والكلام بين الاعلام وما يرجع إليه لب النزاع انما هو مدلول الكلمة وان ما هو المدلول لكلمة الضارب والعالم ونحوهما مع قطع النظر عن مرحلة جريه وتطبيقه على المصداق الخارجي أو ورود حكم عليه ووقوعه في حيز الهيئة الكلامية هل هو عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق أو المبدأ القائم بالذات مطلقا ( على اختلاف المسلكين في المشتق من مأخوذية الذات فيه أو عدم مأخوذية الذات فيه وكونه عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط ) أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها متحققة في سابق الزمان؟ حيث كان القائل بالتلبس في الحال يدعى وضع المشتق للذات المتلبسة بالمبدأ على الاطلاق الملازم لعدم انطباقه خارجا الاعلى المتلبس بالمبدأ في الحال ، والقائل بالأعم يدعى الوضع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة من الذات مما مضى الملازم لصحة جريه وتطبيقه خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ سابقا المنقضي عنه في الحال.

ولئن شئت فاستوضح ذلك بقولك زيد الضارب حيث ترى في ذلك نسبا طويلة مترتبة بعضها على بعض :

الأولى : نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه

ص: 118

على المصداق الخارجي كما لو كنا نحن ونفس مفهوم الضارب بما هو هذا المفهوم حيث يرى من ذلك ذات لها نسبة إلى المبدأ أو مبدأ له نسبة إلى الذات بنسبة قيامية مثلا ، كان في العالم لهذا المفهوم مصداق أو لم يكن.

الثانية : نسبة انطباق تلك المتلبس والمتصف بالمبدأ على المصداق الخارجي وهو زيد مثلا في مثل قولك : زيد الضارب والشجرة المثمرة فان مثل هذه النسبة كان ظرفها متأخرا عن ظرف نسبة تلبس الذات بالمبدأ.

الثالثة : النسبة الحكمية في مثل قولك : أكرم زيدا الضارب حيث نسبت الاكرام إلى زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ فبهذه الجهة كان ظرف هذه النسبة متأخرا عن الأوليين.

وبعد ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن ما هو مورد البحث والنزاع انما هو النسبة بالمعنى الأول وهي نسبة تلبس الذات بالمبدأ أو نسبة قيام المبدأ بالذات ، على اختلاف المسلكين ، دون نسبة انطباق الذات المتلبسة على المصداق ، كيف وانك في وقولك : زيد الضارب والشجرة المثمرة ترى ان المشتق بما له من المدلول ينطبق على زيد ويجري عليه ، وحينئذ فلا محيص مما ذكرنا من جعل مورد البحث والنزاع في مدلول الكلمة ، أعني كلمة الضارب والعالم ، مع قطع النظر عن مقام جريه وانطباقه على المصداق أو ورود حكمه عليه ، فينازع بان مدلول هذه الكلمة عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو الاطلاق بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه الا على المتلبس بالمبدأ في الحال ، أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى الملازم لصحة انطباقها خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ خارجا المنقضي عنه في الحال ، وعليه يكون النزاع في صحة اطلاق المشتق وجريه على الذات المنقضي عنها المبدأ في الحال وعدم صحته من لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته ، لا انه بنفسه مورد البحث والنزاع كما هو واضح. ومن ذلك البيان ظهران الحال المتنازع فيه في المقام لابد وأن يكون عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ ، دون حال الجري والتطبيق كما يقتضيه ظاهر بعضهم ، ودون حال النسبة الكلامية ، كيف وانه على الآخرين لا يرجع النزاع في الحقيقة والمجاز إلى المجاز في الكلمة والحقيقة فيها ، بل مرجعه حينئذ إلى المجاز في الاسناد والحقيقة فيه الذي هو خارج عن مدلول الكلمة ، وهو المشتق ، كما هو واضح.

ص: 119

ومن ذلك نقول : بان حق تحرير عنوان المسألة في المقام هو تحريره بان المشتق ، أي كلمة ضارب مثلا ، هل موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق ، أو انه موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى بالغاء عنوان الحال رأسا ، كي لا يختلط بحال الجري والتطبيق أو حال النسبة الكلامية أو تحريره بان المشتق موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ حال تلبسها به ، أو انه موضوع له يعمه وغيره من حالات خلو الذات عن المبدأ لكي ينطبق على ما ذكرناه.

الامر الثاني قد عرفت بأنه على القول بالأعم كما يصح اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلا كذلك يصح اطلاقه وجريه على المنقضي عنه المبدأ فعلا بمحض تلبس الذات به في سابق الزمان ، ولو كان حال الجري متلبسا بما يضاد الوصف السابق. واما على القول بالتلبس الفعلي فلابد في صحة اطلاق المشتق وجريه من فعلية تلبس الذات بالمبدأ في الظرف الذي لو حظ فيه الجري ، فإذا كان زيد غير متلبس بالقيام في الحال وقد كان تلبسه به في سابق الزمان لايصح اطلاق القائم عليه في الحال بقولك زيد قائم الآن ، نعم لو كان جرى المشتق لا بلحاظ الحال بل بلحاظ ظرف تلبسه به ماضيا أو مضارعا صح الجري المزبور أيضا وكان بنحو الحقيقة ، ففي مثل زيد كان قائما بالأمس أو زيد يكون قائما في الغد يكون بنحو الحقيقة إذا كان التلبس بالقيام أيضا في الأمس في الأول وفي الغد في الثاني ، وإذا كان التلبس في أمس الأمس يكون مجازا على هذا القول ، كما أنه في الثاني إذا كان التلبس في غد الغد يكون مجازا على القولين ، وحينئذ فلابد على القول باعتبار التلبس الفعلي من ملاحظة فعلية التلبس في الزمان الذي لو حظ فيه الجري ماضيا أو مضارعا أو حالا.

بل ولئن دققت النظر ترى ان العبرة كلها على زمان المجرى عليه لا على زمان الجري والتطبيق فإذا كان المجرى عليه بالجري الفعلي هو القطعة المتلبسة بالمبدأ من الذات سابقا ، أو كان هو القطعة المتلبسة به لا حقا صح الجري وكان بنحو الحقيقة ولو كان الجري فعليا وحينئذ فلايحتاج على القول بالتلبس الفعلي في صحة الجري حقيقة إلى اتحاد ظرف الجري مع ظرف المجرى عليه كما في الأمثلة المتقدمة كي يحتاج إلى جعل الجري أيضا بلحاظ حال التلبس ماضيا أو مضارعا فنقول : زيد كان قائما بالأمس أو يكون قائما في الغد أو الآن ، وعمدة النكتة في ذلك انما هو تساوى تلك القطعات الثلاث

ص: 120

في المصداقية لهذا المفهوم الكلي الذي هو مدلول كلمة القائم وهو الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق فإنه كما أن القطعة المتلبسة بالقيام فعلا مصداق حقيقي للقائم فيصدق عليه هذا المفهوم كذلك أيضا القطعة المتلبسة به سابقا فإنه بمجرد تلبسها بالقيام يصير تلك القطعة فردا ومصداقا حقيقيا للقائم ويصدق عليه هذا المفهوم كصدقه على المتلبس الحالي بالمبدأ من دون ان يخرج تلك القطعة عن الفردية بوجه أصلا ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى القطعة المتلبسة بالقيام لا حقا فإنه بعد ما يرى العقل تلبسها بالقيام في الغد يرى كونها مما ينطبق عليها مفهوم القائم فيحكم فعلا بكونها فردا ومصداقا له وان لم يكن لها وجود في الخارج فعلا ، لان مصداقية شيء وفرديته لعنوان كلي غير منوط بوجوده فعلا في الخارج لان الخارج دائما ظرف وجود الفرد فارغا عن مصداقيته وفرديته ، ومن ذلك لو وقع مثل هذا العنوان موضوعا لحكم الشرعي في لسان الدليل كقوله أكرم العالم مع كون المطلوب هو صرف وجود الاكرام المضاف إلى طبيعة العالم المنطبق على أول وجود منه ترى حكم العقل في مثله بالتخيير بين اكرام الفرد الفعلي الموجود حال الخطاب وبين اكرام غيره من الافراد التدريجية التي توجد بعد ذلك ، نظير حكمه بالتخيير بين الافراد التدريجية من الصلاة من أول الظهر إلى الغروب في الفرائض اليومية فلو لا مصداقية الموجود المتأخر للعام فعلا لما كان وجه لحكمه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الفعلي وبين الاتيان بالفرد الاستقبالي في موطنه كما هو واضح فتدبر. وحينئذ نقول : بأنه إذا كانت تلك القطعات الثلاث من الذات أي القطعة المتلبسة بالمبدأ سابقا والقطعة المتلبسة به حالا والمتلبسة به لاحقا كل واحدة منها مصداقا لمفهوم القائم وينطبق عليها هذا المفهوم الكلي بنحو الحقيقة فلا جرم يلزمه صحة جرى مفهوم القائم فعلا على القطعة السابقة واللاحقة كصحة جريه على القطعة المتلبسة بالقيام فعلا فيصح حينئذ ان يجرى المشتق فعلا ويطبقه على تلك القطعة من الذات التي تلبست سابقا بالقيام أو التي تتلبس به في المستقبل كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر نكتة أخرى وهي عدم كفاية مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه حقيقة في المتلبس الفعلي أو الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ في استنتاج النتيجة المعروفة من وجوب الاكرام وعدم وجوبه في مثل قوله : يحب اكرام العالم ، وكراهة البول تحت الشجرة المثمرة في قوله : يكره البول تحت الشجرة المثمرة ما لم ينضم إليه

ص: 121

دعوى ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف الاكرام خارجا مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس ، ولو للانصراف ، إذ لولا دعوى مثل هذا الظهور للهيئة الكلامية في اتحاد الظرفين أمكن في أمثال تلك الموارد دعوى ان الجري الفعلي فيها كان على المجرى عليه السابق لا على المصداق الفعلي ، ولقد عرفت كون الجري المزبور حينئذ على نحو الحقيقة ولو على القول بالتلبس الفعلي ولازمه حينئذ هو وجوب الاكرام وكراهة البول على كلا القولين ولو مع عدم تلبس الذات بالمبدأ فعلا بان كان تلبسها به في سابق الزمان ، وعليه فتنتفي الثمرة المزبورة التي جعلوها ثمرة البحث بين القولين في المسألة. نعم لو ورد في لسان الدليل : بأنه أكرم من كان عالما بالأمس أو أكرم العالم الفعلي بنحو يستفاد منه كون ظرف الجري فيه بعينه هو ظرف المجرى عليه لكان المجال لاستنتاج النتيجة المزبورة فإنه على القول بالأعم يجب الاكرام في المثالين المزبورين ولو لم يكن التلبس بالمبدأ متحققا بالأمس في المثال الأول وبالفعل في الثاني ، بخلافه على القول بالتلبس الفعلي فإنه عليه لايجب الاكرام في المثالين إلا إذا كان التلبس بالمبدأ متحققا في ظرف الجري الذي هو الأمس أو الآن كما هو واضح ، ولكن مثل هذا اللسان لعدم وجوده في الأدلة أو لندرته يحلق بالعدم ومعه يتوجه الاشكال المزبور في استنتاجهم الثمرة المزبورة بين القولين في المسألة بقول مطلق. وحينئذ فلا محيص في استنتاج النتيجة المزبورة على الاطلاق من نزاع آخر في مدلول الهيئة الكلامية من نحو قوله : أكرم العالم واهن الفاسق ويكره البول تحت الشجرة المثمرة علاوة عن النزاع في مدلول كلمة المشتق وهي العالم والفاسق ونحوهما ، من دعوى ظهور الهيئة في الكلام في اتحاد ظرف الاكرام المضاف إلى العالم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس كما هو الظاهر أيضا ، كي بعد اثبات هذا الظهور للهيئة في نحو تلك القضايا في اتحاد الظرفين ولو من جهة الانصراف يترتب النتيجة المزبورة فتدبر.

الامر الثالث لايخفى عليك خروج المصادر والافعال عن حريم هذا النزاع لان المشتق المبحوث عنه في المقام انما هو المفاهيم الجارية على الذوات المنتزعة عنها بلحاظ اتصافها بالمبدأ واتحادها معه وجودا ، وعليه فيخرج قهرا المصادر المجردة والمزيدة ، وكذا الافعال ماضيها ومضارعها وأمرها ونهيها ، نظراً إلى انها غير جارية على الذوات ، من جهة ان المصادر وكذا الافعال لا دلالة فيها بمقتضي وضعها الا على مجرد المبدأ ونسبة له إلى ذات

ص: 122

ما بنسبة تصورية كما في المصدر ، أو نسبة تصديقية كما في الافعال ، وحينئذ فلايكون فيها ما يكون وجهة وعنوانا للذات وجاريا عليها ، ومجرد الاسناد بين الفعل والفاعل في قولك : زيد ضرب غير الحمل والاتحاد كما لايخفى. ومن ذلك البيان ظهر أيضا نكتة الفرق بين المشتق ومبدئه من حيث اباء الثاني عن الجري على الذات والحمل عليها دون الأول ، حيث كان السر في امتناع الأول عن الجري على الذات من جهة اخذه بنحو يرى كونه في قبال الذات فمن هذه الجهة يأبى ويعصى عن الجري عليها ، بخلاف المشتق فإنه باعتبار اخذه وجهة وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا يأبى عن الجري على الذات والحمل عليها ، وسيجيء مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء اللّه تعالى ، فالمهم والمقصود في هذا المقام انما هو اخراج المصادر والافعال عن حريم النزاع وتخصيص مورد النزاع بما يكون جاريا على الذات.

على أن هذا النزاع انما يختص بمورد يتصور فيه الانقضاء والبقاء وهذا المعنى غير متصور في المصادر والافعال فان المصادر وكذا الفعل الماضي لايتصور فيهما الذات القابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى وكذا فعل المضارع فإنه لايتصور فيه أيضا الانقضاء كما لايخفى.

ثم انه لما انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف البيان إلى ذكر شطر من المباحث الراجعة إلى المشتقات وكيفية أوضاعها من المصادر والافعال والأسماء وبيان الفارق بين الافعال والأسماء وان كان الأنسب هو ذكر هذه الجهة في التنبيهات عند التعرض لبيان مفهوم المشتق من حيث التركيب والبساطة فنقول : ان هنا جهتين من الكلام

الجهة الأولى : اعلم أن كل باب من أبواب المشتقات من مصادرها وأفعالها مثل الضرب ( بالسكون ) وضرب ( بالفتح ) وضارب ومضروب ونحوها كان كل واحد منها مشتملا على هيئة مخصوصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره من الصيغ سارية في جميعها بحيث لايكاد يمكن التلفظ بها باعتبار اندكاكها الا في ضمن هيئة مخصوصة ولو كانت تلك الهيئة هيئة ضاد وراء وباء ، ولهذه المادة السارية المحفوظة في جميع تلك الصيغ أيضا معنى هو مثلها في التجرد بنحو لايمكن تصوره واخطاره في الذهن الا بتعين خاص كان ذلك التعين هو المعنى الاسم المصدري أو غيرهما ، وحينئذ فكانت تلك المادة المحفوظة في جميع تلك الصيغ من المصادر والافعال والأسماء بما لها من المعنى

ص: 123

الساري فيها هو الأصل المحفوظ في المشتقات ، دون غيرها كالمصدر أو الفعل ، كما اشتهر ان الأصل في المشتقات هو المصدر كما عن جماعة من علماء الصرف أو هو الفعل كما عن جماعة أخرى منهم ، إذ من الواضح انه لا أصل لهذا الأصل بعد وضوح المباينة التامة بين المعنى المصدري بما له من الحدود مع غيره من المشتقات كوضوح البينونة بين بعضها وبعضها الاخر ، ومعه كيف يمكن ان يكون المصدر أو الفعل هو الأصل المحفوظ في المشتقات ومادة سارية فيها ، كيف وان المصدر أيضا كغيره من الصيغ من الماضي والمضارع وأسماء الفاعلين والمفعولين ، فكان له أيضا هيئة خاصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره ، تدل المادة فيه على معنى حدثي والهيئة على إضافة هذا المبدأ إلى ذات ما ونسبته إليها بنسبة تصورية ، وحينئذ فما هو الأصل المحفوظ والساري في جميع المشتقات لايكون الا ذلك المعنى الحدثي المجرد عن جميع التعينات وان لم يمكن تصوره واخطاره في الذهن الا في ضمن تعين خاص ، نعم لما كان الأقرب إلى ذلك المعنى المجرد هو المصدر من بين سائر المشتقات باعتبار دلالته على مجرد المبدأ وهو الحدث المضاف إلى ذات ما وعرائه عن خصوصية الزمان ، وبعده كان الأقرب إليه الفعل الماضي والمضارع بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين نظراً إلى تقدمهما الرتبي عليها من جهة اشتمالهما على النسب التامة كما هو الشأن في كلية المركبات التامة بالقياس إلى القضايا التقييدية والمركبات الناقصة فبهذا الاعتبار أمكن دعوى ان ما هو أقرب إلى ذلك المعنى المجرد ، من جهة قلة وجدانه للخصوصيات بحسب اللفظ والمعنى ، يكون أصلا بالنسبة إلى ما كثر فيه الخصوصية بحسب المعنى أو اللفظ ، فنجعل مدار الأصلية والفرعية على مثل هذه الأقربية الاعتبارية ، وندعي ان المصدر أصل بالنسبة إلى الفعل الماضي والمضارع وغيرهما من المشتقات ، وان فعل الماضي أصل بالنسبة إلى المضارع لمكان اشتمال فعل المضارع على خصوصية زائدة ولو بحسب اللفظ ، وان فعل مضارع أصل بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين باعتبار تقدمه الرتبي عليها.

وعلى ذلك أيضا أمكن توجيه كلامهم في أصلية المصدر بالنسبة إلى سائر المشتقات بجعل مدار الأصلية على الأقربية إلى ذلك المعنى المجرد الساري في جميع المشتقات بتقريب ان المصدر حيثما كان أقرب إلى ذلك المعنى المجرد من سائر المشتقات أوجب ذلك كونه أصلا لسائر المشتقات ومادة سارية فيها بالنظر العرفي المسامحي فأطلقوا عليه بأنه هو

ص: 124

الأصل في المشتقات. لايقال : على ذلك لم لا يجعل الأصل فيها المعنى الاسم المصدري مع أنه من جهة تجرده عن خصوصية النسبة أيضا يكون أقرب من المعنى المصدري ، فإنه يقال : نعم ، ولكنه باعتبار تجرده عن النسبة بل وعدم كون الوضع فيه وضعا انحلاليا وكونه من قبيل وضع الجوامد عد كونه مبائنا مع سائر المشتقات وخارجا عنها فلذلك لم يعتنوا بجهة أقر بيته فجعل الأصل فيها ما كان من سنخ المشتقات مما يكون واجدا للنسبة ويكون وضعه انحلاليا ، ومن المعلوم ان الأقرب منها حينئذ لايكون الا المصدر كما هو واضح.

واما ما يظهر من بعضهم : من أن الأصل فيها هو الفعل الماضي أو المضارع فلعل الوجه فيه هو جهة تقدم الفعل رتبة باعتبار اشتماله على النسب التامة على المصدر واسم الفاعل والمفعول لأنهما أي المصدر والوصف لاشتمالهما على النسب الناقصة يكونان من القضايا التقيدية المتأخرة رتبة عن القضايا التامة كما عرفت بيانه في مبحث الحروف ، هذا ، ولكن لايخفى عليك ان ذلك كله انما هو لمحض المماشاة مع القائلين بان المصدر أو الفعل هو الأصل في المشتقات وإلا فقد عرفت ان حديث الأصلية والفرعية مما لا أصل له وان كلا من المصدر والفعل أصل برأسه في قبال البقية كما هو واضح.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر لك حال الوضع في المشتقات من كونه وضعا انحلاليا باعتبار المادة والهيئة لا وضعا جامديا كي يكون مجموع المادة والهيئة في كل واحد من الصيغ موضوعا لمعنى خاص ، فكانت المادة السارية في كل واحد من المصدر وغيره من كل باب موضوعة بوضع نوعي للدلالة على نفس الحدث وهو المعنى المجرد المحفوظ فيها ، وكانت الهيئة أيضا في كل واحد من الصيغ موضوعة بوضع شخصي للدلالة على نسبة الحدث إلى الذات فوضع من الهيئة مثلا ما كان على زنة فعل ( بالسكون ) للدلالة على نسبة الحدث إلى الذات وهكذا ما كانت على زنة فعل ( بالتحريك ) ويفعل وفاعل ومفعول وفعيل ومفعل ومفعال ونحو ذلك كل ذلك للدلالة على النسبة على اختلاف أنحائها من الصدور والايجاد والوقوع والحلول والظرفية وغيرها كما هو واضح.

الجهة الثانية : قد اشتهر في كلماتهم دلالة الفعل على زمان حتى أنهم أخذوا الاقتران بالزمان في تعريفه وجعلوه فارقا بينه وبين الأسماء ، فعرفوا الاسم بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، والفعل بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه

ص: 125

مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، قال شارح الجامي : ( الفعل ما كان دالا على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة باعتبار معناه التضمني أعني الحدث ) ونحوه كلام ابن مالك في منظومته قال :

( المصدر اسم ما سوى الزمان من *** مدلولي الفعل كامن من امن )

وظاهر كلامهما هو كون الزمان مدلولا تضمنيا للفعل. وأصرح من ذلك عبارة نجم الأئمة حيث قال فيما حكى عنه ، في شرح قول ابن الحاجب : الاسم ما دل على معنى غير مقترن بأحد الأزمنة ، ما لفظه المحكى عنه : ( قوله غير مقترن صفة بعد الصفة لقوله معنى ، ويبين معنى قوله غير مقترن ببيان قوله في حد الفعل : بأنه ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، أي على معنى واقع في أحد الأزمنة الثلاثة معينا بحيث يكون ذلك الزمان المعين أيضا مدلول ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى بوضعه له أولا ، فيكون الظرف والمظروف مدلولي لفظ واحد بالوضع الأصلي ) إنتهى ، ومثله أو ما يقرب منه عبائر غيره من النحويين فراجع حيث ترى اطباقهم ظاهرا على دلالة الفعل على الزمان بمقتضى وضعه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو خلافه كما يظهر وجهه بالتأمل فيما ذكرنا من انحلال الوضع في المشتقات إلى وضع نوعي للمادة فيها ووضع شخصي للهيئة في كل واحد من الصيغ ، إذ نقول : بان الدلالة المزبورة لو كانت فاما ان تكون من طرف المادة أو من طرف الهيئة مع أنه لايكون في شيء منهما الدلالة وضعه على ذلك ، وذلك اما المادة فلما تقدم بان وضعهما انما هو للدلالة على نفس المعنى الحدثي خاصة ولذلك لا ينسبق في الذهن جهة خصوصية الزمان في مثل المصدر والوصف، واما الهيئة فكذلك أيضا لأنها انما وضعت للدلالة على مجرد النسبة بين المبدأ والفاعل وحينئذ فأين الزمان الذي ادعى كونه جزء من مدلولي الفعل؟ وأين الدال عليه بعد عدم دلالة شيء من المادة والهيئة عليه؟ نعم لو قيل : بان الوضع في المشتقات أو في خصوص الافعال كان من قبيل الوضع في الجوامد كان لما ذكروه كمال مجال حيث أمكن حينئذ دعوى وضع مجموع المادة والهيئة للمعنى المقيد بالزمان ، ولكنه خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون من انحلال الوضع في المشتقات طرا إلى وضعين : وضع للمادة نوعيا ووضع للهيئة شخصيا ، بل وخلاف ما هو المنساق المتبادر في الذهن أيضا من مثل قوله : ضرب زيد من جهة وضوح انه لا يجيء ولا ينسبق في الذهن منه الا الحدث المرتبط بالذات لا المعنى التركيبي من

ص: 126

الحدث والزمان. هذا كله مضافا إلى ما أورد عليه أيضا بلزوم الالتزام بالمجاز أو تعدد الوضع في الافعال المنسوبة إلى المجردات مثل ( كان اللّه ولم يكن معه شيء ) و « كان اللّه على كل شيء قدير » وفى الافعال المنتسبة إلى نفس الزمان كقولك : مضى الزمان وانقضى الدهر ، فإنه بعد وضوح عدم مأخوذية الزمان في نحو هذه الأفعال في الأمثلة المزبورة ، فلا بد على تقدير اخذ الزمان جزء لمدلول الفعل اما من التجريد عن خصوصية الزمان والالتزام بالمجاز واما الالتزام بتعدد الوضع وكلاهما فاسدان كما هو واضح.

نعم : حيثما ان في الافعال في مثل الفعل الماضي والمضارع خصوصية زائدة عن المعنى الحدثي الذي هو مبدء الاشتقاق بنحو ينسبق منها في الذهن جهة السبق في الماضي واللحوق في المضارع أمكن دعوى الدلالة عليه بنحو الالتزام ، بتقريب انه كما أن للمبدأ نحو خصوصية وربط خاص بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل كذلك له نحو خصوصية وربط بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه بنحو ينتزع عنه مفهوم السبق في الماضي واللحوق في المضارع وذلك أيضا لا بمعنى خصوص السبق واللحوق الزمانيين بل الأعم منه ومن غيره ، فيكون السبق زمانيا فيما لو انتسب إلى الزمانيات ، وذاتيا فيما لو انتسب إلى نفس الزمان ، ورتبيا فيما لو انتسب إلى المجردات كقولك وجد العلة فوجد المعلول مع وضوح عدم تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان. وحينئذ فيقال : بان المادة في الافعال موضوعة للدلالة على نفس الحدث والهيئة فيها لتلك الخصوصية والربط الخاص القائم به بنحو ينحل ذلك الربط بالتحليل إلى نحوين من الربط : ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل والذات وربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق ، وحينئذ فبهذا الاعتبار تكون الهيئة في الافعال دالة على الزمان ولكنه لا بالمطابقة ولا بالتضمن بل بنحو الالتزام نظير دلالتها على الفاعل والذات حيث كانت تلك أيضا بنحو الالتزام كما لايخفى. ولعله إلى ذلك أيضا نظر صاحب الكفاية قدس سره من قوله : نعم لايبعد ان يكون لكل من الماضي والمضارع خصوصية موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي وفى الحال أو الاستقبال في المضارع. ثم انه بمثل هذا البيان أيضا أمكن ان يوجه كلامهم بدلالة الفعل على الزمان وذلك بحمل الدلالة في كلامهم على الدلالة بنحو الالتزام بالبيان الذي ذكرنا ودخول الزمان فيه على الدخول بنحو خروج القيد ودخول التقيد وان كان لا يساعد لهذا الحمل كلام بعضهم فتدبر.

ص: 127

الامر الرابع لايخفى عليك اختصاص هذا النزاع بخصوص الأوصاف التي تنتزع من امر خارج عن الذات بنحو أمكن تخلف الذات عنها ويتصور فيها الانقضاء فيخرج حينئذ الأوصاف المنتزعة عن حاق ذات الشيء التي لايكاد يتصور تخلف الذات عنها كالمحمولات بالضميمة كالحيوانية والانسانية والناطقية والصاهلية ، فإنها بملاحظة عدم تخلف الذات عنها لايكاد يتصور فيها الانقضاء حتى تكون مطرحا للنزاع كما لايخفى.

نعم قد يشكل الامر حينئذ بالنسبة إلى بعض المفاهيم كأسماء الزمان ونحوها من الأمور التدريجية الغير القارة فإنه لما لم يكن فيها ذات ممتدة قارة قابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى أشكل عليهم بلزوم خروجها عن موارد النزاع فمن ذلك وقعوا في حيص وبيص وصاروا بصدد دفع الاشكال بوجوه :

منها : ما افاده صاحب الكفاية قدس سره حيث أجاب عن الاشكال بان انحصار مصداق مفهوم عام كلي بفرد كما في المقام لايكون موجبا لوضع اللفظ بإزاء الفرد دون المفهوم العام فلا غرو في مثل أسماء الزمان بالمصير فيها إلى الوضع للأعم غايته انحصار مصداق هذا المفهوم في الخارج في فرد خاص كانحصار فرد واجب الوجود بالذات فيه تعالى مع كونه كليا قابلا للانطباق على الكثير بمعنى انه لو فرض محالا مصداق آخر له لكان ينطبق عليه هذا المفهوم بلا كلام.

أقول : ولايخفى عليك انه لما كان الاشكال في المقام بعينه هو الاشكال المعروف في استصحابات الأمور التدريجية الغير القارة من حيث عدم بقاء الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة كان الحري عليه قدس سره ان يجيب عنه في المقام بما أجاب عنه في ذلك المقام فإنه قدس سره فصل في ذلك المقام بين الحركة القطعية والحركة التوسطية فقال : بان الانصرام والتدرج انما هو في الحركة القطعية وهي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان لا التوسطية وهي كونه بين المبدء والمنتهى لأنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا ، إذ لا يحقى عليك انه لو تم ذلك هناك أمكنه أيضا في هذا المقام تصوير الامر القار بين حالتي التلبس والانقضاء فلا وجه حينئذ لالتزامه في المقام بأصل الاشكال ثم الجواب بمثل البيان المزبور بان انحصار مفهوم عام بفرد ( الخ ).

ولكن أصل هذا الجواب أيضا غير مجد لدفع الاشكال المزبور هناك أيضا ، إذ قلنا في ذلك البحث بان مثل هذه الوحدة المنتزعة عما بين المبدأ والمنتهى انما هي وحدة اعتبارية

ص: 128

عرضية منتزعة عن تعاقب الافراد وتلاحقها والا ففي الخارج لايكون الا اشخاص تلك الحصص المتبادلة المتعاقبة لا انه كان في الخارج جهة وحدة شخصية ذاتية حقيقية. وحينئذ فإذا لايكون في الخارج الا الافراد المتعددة المتعاقبة فلا جرم يبقى الاشكال على حاله ولايكاد يجدي في دفعه مجرد اعتبار مثل تلك الوحدة العرفية وانتزاعها عن تعاقب تلك الحصص والافراد بعد أن لا قرار لنفس تلك الحصص في الخارج.

وحينئذ فالعمدة في الجواب عن الاشكال هو ما ذكرناه هناك بان الأزمنة والآنات وان كانت وجودات متعددة متعاقبة متحدة بالسنخ ولكنه حيثما لايتخلل بينهما سكون يكون المجموع يعد عند العرف موجودا واحدا مستمرا نظير الخط الطويل من نقطة إلى نقطة كذائية فبهذا الاعتبار يكون أمرا واحدا شخصيا مستمرا من أوله إلى اخره ، فيصدق عليه كلما شك فيه ( انه شك في بقاء ما علم بحدوثه ) فيشمله دليل حرمة النقض. وحينئذ فبعين هذا الجواب نجيب عن اشكال المقام أيضا حيث أمكن لنا تصور امر قار وحداني يتصور فيه الانقضاء بمثل البيان المزبور وان بلغ تلك الافراد المتعاقبة ما بلغ إلى انقضاء الدهر فان مناط الوحدانية حينئذ انما هو بعدم تخلل سكون في البين فيما بين تلك الافراد فما لم يتخلل عدم بينهما يكون المجموع موجودا واحدا شخصيا مستمرا. نعم ذلك انما هو فيما لم يكن تلك القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذة موضوعا للأثر في لسان الدليل معنونة بعنوان خاص كالسنة والشهر واليوم والساعة ونحوها والا فلا بد من لحاظ جهة الوحدانية في خصوص ما عنون بعنوان خاص من القطعات فيلاحظ جهة المقتلية مثلا في السنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة بجعل مجموع الآنات التي فيما بين طلوع الشمس مثلا وغروبها أمرا واحدا مستمرا فيضاف المقتلية إلى اليوم والشهر والسنة فتدبر.

الامر الخامس الظاهر أنه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص اسمى الفاعل والمفعول وما بمعنا هما من الصفات المشبهة بالفعل وما يلحق بها بل يعم كل ما كان جاريا على الذات وان كان من الجوامد كالرقية والزوجية ونحوهما ، كما يشهد له ما عن فخر المحققين في الايضاح في باب الرضاع فيمن كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجة صغيرة له ، حيث قال فيما حكى عنه : انه تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرة الأولى واما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف فاختار الوالد المصنف رحمه اللّه وابن إدريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق

ص: 129

بقاء المشتق منه ( انتهى ) ومن الواضح صراحة كلامه قدس سره في دخول مثل هذا النحو من الجوامد أيضا في محل النزاع ومن ذلك بنى الحرمة في المرضعة الثانية على عدم اشتراط التلبس الفعلي في المشتق، وربما يشهد لذلك أيضا بل يدل عليه ما رواه في الوسائل عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر علیه السلام ففيه قيل له علیه السلام : ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له أخرى فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه فقال أبو جعفر علیه السلام : أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا فاما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته ( الخبر ) (1) فان تعليله علیه السلام لعدم حرمة الكبيرة الثانية بقوله : لأنها أرضعت ابنته ظاهر في أنه لايكون الحكم المزبور تعبديا وانه على طبق القواعد، وفيه أيضا تخطئة لابن شبرمة لما تخيله من كون المشتق حقيقة في الأعم ودلالة على أن المشتق حقيقة في المتلبس الفعلي هذا.

نعم قد يشكل تحريم المرضعة الأولى أيضا بمقتضي القواعد بتقريب ان السبب الموجب لنشر الحرمة وهو عشر رضعات أو خمس عشرة رضعة كما كان موجبا لاتصاف المرضعة بالأمومة فتحرم كذلك موجب أيضا لخروج الصغيرة عن الزوجة واتصافها بالبنتية فيكون العنوانان أي الأمومة والبنتية كلا هما معلولين عرضيين للرضاع يترتب فاء واحد بينه وبينهما من دون تقدم لأحدهما على الاخر ولو بحسب المرتبة ، وحينئذ فيشكل بأنه كيف الحكم بتحريم الأمومة مع أنه لايكون في البين زمان بصدق فيه عليها انها أم الزوجة لأنه قبل كمال الرضعة الأخيرة وان كان يصدق الزوجة على الصغيرة الا ان الكبيرة في ذلك الآن لم تكن بأم لها وبعد اكمال الرضعة الأخيرة وان تحققت الأمومة لها ولكنه في رتبة تحقق هذا العنوان خرجت الصغيرة عن الزوجية وتعنونت بالبنتية ، فلابد حينئذ وأن يكون حرمة الكبيرة الأولى أيضا مبنية على عدم اعتبار بقاء المشتق منه في صدق المشتق ، مع أن ظاهر الايضاح بل ظاهر الرواية هو كون الحكم بالتحريم بالنسبة إلى المرضعة بمقتضي القواعد.

واما توهم ان التحريم حينئذ في الرواية انما هو بلحاظ جرى الزوجية للصغيرة بحال تلبسها الذي هو آن قبل تحقق عشر رضعات لا بلحاظ الحال الفعلي الذي هو ظرف تلبس

ص: 130


1- الوسائل، الباب 14 مما يحرم بالرضاع، الحديث 1.

المرضعة بالأمومة ، فمدفوع بأنه مناف للحكم بعدم تحريم المرضعة الثانية معللا بأنها أرضعت ابنته والا فبهذا الاعتبار يصدق على الثانية أيضا انها أم زوجته فلا وجه حينئذ للتفكيك بينهما كما لايخفى.

كما أن توهم عدم تكفل الرواية الا لبيان عدم تحريم الثانية التي أفتى بحرمتها ابن شبرمة وسكوتها عن حكم المرضعة الأولى ولو من جهة كونه مطابقا للواقع وان لم يكن بمقتضى القواعد بل من جهة التعبد المحض ، يدفعه ظهور الرواية في كون الحكم في الفقرتين على طبق مقتضى القواعد هذا.

وحينئذ فالتفصي عن الاشكال المزبور لايكون الا بالتشبث بفهم العرف بدعوى ان المعيار في اتحاد الظرفين انما هو على الأنظار العرفية لا على النظر الدقى العقلي وان العرف في مثل الفرض يرى ظرف الأمومة متحدا مع ظرف الزوجية بملاحظة شدة اتصال أحد الظرفين بالآخر فيرون المرضعة الأولى من هذه الجهة اما لزوجته الفعلية وان لم يكن كذلك بحسب الدقة العقلية ، بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك بحسب الدقة أيضا نظراً إلى أن الأمومة وان كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة لكنها متقارنة معها زمانا كما هو شأن كل معلول مع علته. وحينئذ فإذا كانت الأمومة متحدة ظرفها زمانا مع ظرف علتها وكانت الزوجية أيضا متحققة للصغيرة في ذلك الظرف فلا جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضا بحسب الزمان على نحو الدقة العقلية ، وحينئذ فإذا لم يكن المعيار في اتحاد الظرفين على الاتحاد بحسب المرتبة بل على الاتحاد بحسب الزمان وكان الظرفان أيضا متحدين بحسب الزمان فقهرا يندفع الاشكال المزبور من رأسه بلا حاجة أيضا إلى التشبث بفهم العرف والمصير إلى تسامحهم في مدلول الكلام كما هو واضح فتدبر.

الامر السادس قال في الكفاية : ( ان اختلاف المشتقات حسب اختلاف مباديها من كون المبدأ حرفة في بعضها أو صنعة وبعضها القوة أو الملكة أو الاعداد لايوجب تفاوتا واختلافا في الهيئة التي هي الجهة المبحوث عنها في المقام إذ لا يتفاوت حالها باختلاف ما يراد من مباديها من الأمور المذكورة ) ومقصوده قدس سره من ايراد هذا التنبيه انما هو منع القائل بالأعم عن التشبث بمثل التاجر والقاضي والكاسب والمجتهد ونحوها مما يصح اطلاقها على غير المتلبس الفعلي بالمبدأ وانه ليس للقائل بالأعم

ص: 131

الاستدلال بالأمثلة المزبورة لاثبات الوضع للأعم باعتبار انه في الأمثلة المزبورة أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة أو الاعداد ، فلا يضر حينئذ تلك الأمثلة بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بوجه أصلا هذا محصل مرامه قدس سره .

أقول : ولايخفى ان ما افاده قدس سره بحسب الكبرى وان كان تاما الا ان تمام الاشكال في تحقق صغرياتها ، إذ نمنع كون الأمثلة المزبورة مما أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة وإلا يلزم كونه كذلك في غير الأسماء من المصادر والافعال أيضا لأنه بعد انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة لايكاد يفرق بين الأسماء والمصادر والافعال ، مع أنه كما ترى! حيث لايكاد ينسبق الذهن من اطلاق لفظ اتجر يتجر واتجار والتجارة وكذا لفظ قضى يقضى قضاء واقض ( بصيغة الامر ) واجتهد يجتهد اجتهادا ونحو ذلك الا المبدأ الفعلي المنسوب إلى الذات دون الحرفة أو الصناعة أو الملكة ، وحينئذ فعلى ما سلكه قدس سره لابد اما من الالتزام بتعدد الوضع في المواد بدعوى وضع المادة في غير الأوصاف للمبدأ الفعلي أعني الحدث الخاص وفي الأوصاف للحرفة أو الصناعة أو الملكة ، أو الالتزام بالمجاز في خصوص الأوصاف ، وهما كما ترى ، ضرورة بعد أن يكون للمواد وضعان في الأمثلة المزبورة وضع في خصوص الأوصاف ووضع في غير الأوصاف من المصادر والافعال كبعد المجازية أيضا في خصوص الأوصاف ، لعدم مساعدة العرف والوجدان عليه كما لايخفى.

وحينئذ فالذي يقتضه التحقيق هو ان يقال : بان ما يرى من صحة اطلاق التاجر والقاضي والمجتهد والبقال والنجار ونحوها حتى في حال عدم الاشتغال الفعلي بالتجارة والقضاوة والاستنباط بل وفي حال الاشتغال بما يضادها كالأكل والشرب والنوم انما هو من جهة ان في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته الناشي ذلك الاقتضاء من جهة تكرر المبدأ منه في الخارج وجعله حرفة أو صنعة له كما في الكاسب والتاجر والبقال ونحوها ، أو من جهة جعل جاعل كالحاكم والقاضي ونحوهما ، أو من جهة تحقق الملكة له كما في المجتهد والمستنبط والمهندس ونحوها أو من جهة أخرى غير ذلك ، ففي الحقيقة لما كان قضية الحرفة والصناعة والملكة ونحوها تحقق المبدأ في الخارج أوجب ذلك اعتبار العرف بل العقلاء وجود المقتضى ( بالفتح ) أيضا عند تحقق مقتضيه ( بالكسر ) فمن هذه الجهة يحكمون بوجوده فيطلقون عليه الكاسب والتاجر والقاضي والمجتهد ولو في حال

ص: 132

الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة كما هو الشأن أيضا في غير المقام حيث كان بنائهم على الحكم بوجود المقتضى ( بالفتح ) وترتيب آثار الوجود عليه عند تحقق مقتضيه ( بالكسر ) ومن ذلك مسألة اشتراط سقوط الخيار في حين العقد مع أنه لا وجود له بعد واسقاطه من قبل اسقاط ما لم يجب ، ومسألة إجارة الدار والدكاكين وتمليك منافعها فعلا بعد السنة والسنتين مع أنه لا وجود للمنفعة فعلا حال الانشاء والتمليك. وحينئذ فعلى ذلك يكفي هذا المقدار في صحة اطلاق التاجر والقاضي والمجتهد على الذات حتى في حال الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة بلا اضراره بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي ، بلا احتياج أيضا إلى رفع اليد عما يقتضيه قضية وضع المادة من الفعلية في الأوصاف على خلاف المصادر والافعال بالحمل على إرادة الملكة أو الحرفة والصنعة فيها في الأوصاف بل تبقى المادة حينئذ على حالها كما في المصادر والافعال ويصار إلى صحة الاطلاق بما ذكرناه من البيان كما لايخفى.

الامر السابع قد عرفت في بعض الأمور المتقدمة ان مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه للأعم أو المتلبس الفعلي لا يثمر في استنتاج النتيجة المعروفة الا بانضمام دعوى ظهور الهيئة الكلامية في القضايا في اتحاد ظرف النسبة مع ظرف التلبس الذي هو ظرف وجود المصداق. ولقد عرفت ظهور الهيئة الكلامية في القضايا طرا في ذلك ولو من جهة الانصراف ، ولكن نقول : بان هذا الظهور انما يكون ويتبع فيما لو يكن في البين قرينة حالية أو مقالية أو عقلية على الخلاف والا فلا مجال لهذا الظهور ولا لاتباعه على فرض الظهور أيضا مثل ما لو فرض كون المبدأ أو اتصاف الذات به آنيا غير قابل للدوام والاستمرار كالضرب والقتل ونحوهما ، فإنه في تلك الموارد من جهة عدم قابلية المبدأ للدوام والاستمرار لايكون للقضايا ذلك الظهور بل ربما يكون فيها الظهور على الخلاف من مغايرة الظرفين ، وكذا الامر في الموارد التي كان للمبدأ قرار واستمرار ولكنه قامت في البين قرينة حالية أو مقالية على اختلاف الظرفين كما لو كان الحكم المترتب في البين استقباليا بالنسبة إلى عنوان المبدأ فإنه في تلك الموارد يستفاد ان تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به في آن علة لترتب الحكم عليه إلى الأبد بلا حاجة في ابقاء الحكم عليه إلى بقاء تلبسه بالمبدأ كما في مثل ( السارق والسارقة فاقطعوا الخ ) وعلى ذلك نقول : بأنه ليس للقائل بالأعم التمسك ببعض الأمثلة لاثبات مطلوبه من نحو قوله : اقتل القاتل أو

ص: 133

الضارب ، وقوله سبحانه : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » « والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما » الخ إذ نقول : بان هذه كلها من الموارد التي قامت القرينة العقلية أو غيرها على مغايرة ظرف الحكم مع ظرف وجود المصداق وان الجري والتطبيق فيها كان على المجري عليه السابق أي القطعة المتلبسة بالمبدأ في السابق لا على القطعة الفعلية كي يلزمه اتحاد الظرفين فيكون تلبس الذات في تلك الموارد علة لترتب حكم الجلد أو القطع عليه إلى الأبد ولو بعد انقضاء المبدأ عنه ، كما يشهد لذلك قضية التفريع أيضا في قوله سبحانه : السارق والسارقة فاقطعوا ، والزانية والزاني فاجلدوا ، وحينئذ فلاينافي قضية وجوب الجلد وقطع اليد عدم صحة اطلاق السارق والزاني الفعلي عليه كي يشكل بأنه كيف ذلك مع فرض عدم صدق السارق الفعلي عليه فتدبر.

الثامن من الأمور : لايخفى عليك انه لا أصل في المسألة يحرز به أحد الاحتمالين من الوضع للأعم أو المتلبس الفعلي ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية معارضة بأصالة عدم ملاحظة العمومية ، ومع تسليم عدم احتياج الثانية إلى ملاحظة العمومية وانها يكفيها عدم ملاحظة الخصوصية ، نقول بأنه لايكاد يثبت بها الوضع للأعم ، من جهة عدم الدليل على اعتبار مثل هذا الأصل في مقام تعيين الأوضاع ، ولا سيرة من العقلاء أيضا على ذلك كي بمعونة عدم الردع يستكشف الامضاء ، وانما القدر الذي عليه سيرة العقلاء انما هو في الشكوك المرادية وأين ذلك ومقام تعيين الأوضاع! كما لايخفى. وحينئذ فلو ورد دليل على وجوب اكرام العالم أو إهانة الفاسق فينتهى الامر إلى الأصول العلمية من استصحاب وجوب أو حرمة إذا كان في البين حالة سابقة ، كما لو رود دليل على وجوب اكرام زيد العادل حال تلبسه بالعدالة فانقضى عنه العدالة بعد ذلك واتصف بما هو ضدها فإنه حينئذ يشك في وجوب اكرامه فيستصحب حكمه السابق وهو وجوب الاكرام ، وأما إذا لم يكن في البين حالة سابقة فيرجع إلى البراءة للشك في أصل التكليف بالاكرام بالنسبة إليه ، ويفرض ذلك فيما لو كان ورود الدليل على وجوب اكرام العادل بعد انقضاء العدالة عن زيد. وبالجملة فبعد انتهاء الامر إلى الأصول العلمية يختلف مجاريها بحسب اختلاف الموارد استصحابا أو براءة واشتغالا فلابد من لحاظ خصوصيات الموارد باعطاء كل حكمه.

وإذا عرفت هذه الأمور فلنشرع فيما هو المهم والمقصود من الوضع للأعم أو

ص: 134

لخصوص المتلبس الفعلي ، فنقول : ان الأقوال في المسألة وان كثرت من القول بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي ، والقول بالوضع للأعم ، والتفصيل بين المحكوم والمحكوم عليه ، وغيره من التفاصيل المذكورة في المطولات الا انا نكتفي بذكر القولين الأولين لكونهما هما العمدة في الباب.

فنقول : ان المختار من القولين المزبورين هو الأول من الوضع لخصوص المتلبس الفعلي.

لنا على ذلك أولا : التبادر حيث كان المتبادر من اطلاق قولك زيد قائم أو عادل هو خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ دون الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ ، بل وصحة سلب القائم والعادل عن المنقضي عنه القيام والعدالة حقيقة ، فإنه يصح ان يقال : انه ليس بقائم أو عادل فعلا حقيقة بل هو قاعد وفاسق فعلا ، فان من الواضح انه لو كان المشتق حقيقة في الأعم لما صح السلب المزبور عمن كان سابقا متلبسا بالقيام والعدالة ، مع أن صحة سلب القائم والعادل عنه في الوضوح كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار ، كيف وقد عرفت بأنه يصدق عليه فعلا ما يضاده بحسب الارتكاز لضرورة صدق القاعد الفعلي عليه بعد انقضاء القيام عنه وصدق الجاهل والفقير عليه فعلا بعد انقضاء العلم والغنى عنه ، وهكذا في مثل الاكل والفارغ عن الاكل والمشتغل به فإنه بعد فراغه عن الاكل لايكاد يصدق عليه عنوان المشتغل بالاكل بل يصدق عليه بالضرورة عنوان الفارغ ، والمشتغل والفارغ أيضا من المشتقات.

بل ولئن تدبرت ترى كون هذا الوجه برهانا تاما مستقلا على عدم كون المشتق حقيقة الا في خصوص المتلبس الفعلي كما قرب أيضا بتقريب انه لا ريب في مضادة الأوصاف المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادة بحسب الارتكاز كالأبيض والأسود والعالم والجاهل ونحوها بنحو يأبى الارتكاز عن صدقها على موضع واحد في زمان واحد ، ومن المعلوم ان مثل هذه المضادة الارتكازية انما يتم على مسلك من اعتبر التلبس الفعلي لان لازمه حينئذ كون شخص واحد في زمان واحد مصداقا فعليا للأبيض والأسود والعالم والجاهل والقائم والقاعد والمشتغل والفارغ ونحوها وهو مما يكذبه الوجدان السليم بحسب ما له من الارتكاز بالمضادة بين تلك الأوصاف. واما بناء على القول بالأعم فلا يتم ذلك لان لازمه ان لايكون مضادة بين الأوصاف المزبورة بل كان بينها المخالفة التي لازمها عدم الاباء عن الاجتماع في موضوع واحد ، كما هو الشأن في كلية المتخالفين

ص: 135

كالسواد والحلاوة ، مع أنه ليس كذلك قطعا لقضاء الوجدان حسب ما له من الارتكاز بالمضادة التامة بين القائم والقاعد وبين العالم والجاهل والصحيح والمريض والأبيض والأسود ، كالمضادة بين مبدئيها. وحينئذ فكان نفس تلك المضادة الارتكازية بين الأوصاف المزبورة أقوى شاهد وأعظم برهان على بطلان القول بالأعم.

ولايخفى عليك بأنه هذا التقريب لايبقى موقع للاشكال عليه بما أفيد من منع المضادة بين نفس الأوصاف لكون التلبس بالوجود المطلق أعم من التلبس الفعلي ، فيمكن ان يكون جسم واحد مثلا يصدق عليه مفهوم الأبيض بمعنى اتصافه بالبياض الذي وجد فيه فانقضى عنه حال النسبة ويصدق عليه مفهوم الأسود أيضا على معنى اتصافه بالسواد المتلبس به في الحال فهذان العنوانان مما لا تضاد بينهما أصلا وانما التضاد بين مبدئيهما ولا يلزم من ذلك اجتماعهما في موضوع واحد بوجه أصلا. إذ فيه ما لايخفى فإنه بعدان كان مراد القائل بالأعم هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه المبدأ في الحال كصدقة على المتلبس الفعلي نظراً إلى دعوى كونه من المصاديق الحقيقية لمفهوم الأبيض والأسود بحيث يصح اطلاقه عليه فعلا بقولك هذا الجسم ابيض فعلا بمحض تلبسه بالبياض سابقا ، فلا جرم لا موقع لهذا الاشكال لأنه بعد تحقق المضادة الارتكازية بينهما كما فيما بين مبدئيهما واباء الوجدان عن صدق القائم والمشتغل عليه فعلا في حال تلبسه بالقعود وفراغه عن المبدأ يتم المطلوب ويبطل به دعوى القائل بالأعم ، واما المنع عن أصل تلك المضادة حتى بحسب الارتكاز فليس الا المكابرة مع الوجدان.

ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا اندفاع ما أورد من الاشكال على صحة السلب المزبور كما عن الفصول قدس سره فيما حكى عنه : من تقريب انه ان أريد من صحة السلب صحته مطلقا فغير سديد إذ لا يصدق على من انقضى عنه القيام انه ليس بقائم مطلقا لا في الحال ولا في الماضي بل يصدق عليه انه قائم في الجملة ولو في الماضي ، وان أريد به صحته مقيدا فغير مفيد لان علامة المجاز انما هو صحة السلب مطلقا وفيما انقضى عنه المبدأ انما يصح السلب مقيدا بالحال لا مطلقا ومثل ذلك لايكون من علائم المجاز كما لايخفى. وجه الاندفاع هو ما عرفت من أن هم القائل بالأعم إنما هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضي عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي ، نظراً إلى كونه من الافراد الحقيقية لهذا العنوان بمحض التلبس السابق ، ومن المعلوم انه يكفي في ابطاله صحة سلب

ص: 136

القائم الفعلي عنه إذ عدم صدق القائم الفعلي عن المنقضي عنه القيام يكفي في عدم كونه من المصاديق الحقيقية للعنوان كما هو واضح. نعم لو اعتبر التقيد المزبور في طرف المادة لا في طرف الاتصاف بالعنوان كما في قولك في زيد الذي انقضى عنه القيام فعلا : انه ليس بقائم بالقيام الفعلي بل هو قاعد بالقعود الفعلي لاتجه الاشكال المزبور بان سلب القائم بالقيام الفعلي عن زيد لايقتضي سلبه عنه بمطلق القيام ولو في الماضي. ولكن نقول أيضا : بان سلب القائم بالقيام الحالي عن زيد لما كان يلازم صحة سلب الاتصاف بالقائم الفعلي فبهذا لاعتبار يتم السلب المزبور في ابطال قول مدعى الوضع للأعم ، وذلك لما تقدم من أن هم القائل بالأعم انما هو صدق المشتق بما له من المعنى فعلا وفى الحال على المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي بالمبدأ. وحينئذ فيكون صحة السلب المزبور كاشفا عن عدم كون المنقضى عنه القيام حالا من المصاديق الحقيقة لعنوان القائم والا لما كاد يصح السلب المزبور كما في المتلبس الفعلي من جهة منافاة هذا المعنى بالضرورة مع صحة سلب العنوان الحالي عنه كما هو واضح.

ثم إن هذا كله بناء على جعل التقيد بالحال معتبرا في ناحية المسلوب الذي هو المحمول أي الوصف أو المبدأ ولقد عرفت بأنه على التقديرين يتم السلب المزبور لا ثبات المطلوب بلا ورود اشكال عليه. واما بناء على اعتباره في ناحية السلب أو الموضوع فالامر أوضح ، فإنه على الأول قد سلب معنى القائم بقول مطلق عن الموضوع المطلق غايته بالسلب المقيد كونه بلحاظ الحال الفعلي وهو حال الانقضاء ، وعلى الثاني قد سلب معنى القائم أيضا بقول مطلق بالسلب المطلق عن الذات المقيدة بكونها في حال انقضاء المبدأ عنها وعلى التقديرين يكون صحة السلب المزبور وافيا لاثبات المطلوب فلا يفرق حينئذ بين السلب المقيد ( بالإضافة ) والسلب المقيد ( بالتوصيف ) والسلب عن المقيد فتدبر. ولكن الأستاذ ( دام ظله ) لم يتعرض لفرض صورة ارجاع القيد إلى السلب أو إلى الموضوع وانما تعرضه كان لصورة ارجاعه إلى المسلوب الذي هو المحمول.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا اندفاع ما أورد أيضا على التبادر المدعى : من دعوى ان مثل هذا التبادر لايكون مستندا إلى حاق اللفظ وانما هو من جهة قضية الاطلاق الناشي من جهة غلبة الاطلاق على المتلبس الفعلي ، ولا أقل من احتمال ذلك فلايكون دليلا على المدعى لان التبادر الذي يثبت به الوضع انما هو التبادر المستند إلى

ص: 137

حاقّ اللفظ لا مطلقا ولو المستند إلى قضية الاطلاق. توضيح الدفع : انه لو كان الامر كما ذكر من استناد التبادر إلى قضية الاطلاق الناشي من جهة الغلبة يلزمه لا محالة صحة اطلاقه أيضا على المنقضى عنه المبدأ بلا رعاية عناية في البين كما في اطلاقه على المتلبس الفعلي ، من جهة بداهة انه لايمنع مجرد الغلبة وكثرة الاطلاق عن صحة الاطلاق على الفرد النادر ، ومن ذلك ترى صحة اطلاق الانسان على من له رأسان وأياد أربع مع أنه من الندرة ما لايخفى ، مع أنه بشهادة الارتكاز نرى عدم صحة اطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ فعلا بل وصحة سلبه عنه كما عرفت وحينئذ فيتم دعوى القائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.

ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرناه من التقريب لا ثبات الحقيقة في خصوص المتلبس الفعلي لايكاد يفرق في أنحاء المشتقات بين كونه محكوما أو محكوما عليه وبين اسم الفاعل والمفعول وبين المأخوذ من المبادئ اللازمة أو المتعدية إلى غير ذلك من التفاصيل ، فلا بد من المصير إلى كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي بقول مطلق كما هو واضح.

بقى الكلام في ذكر أدلة القول بالأعم ، فنقول : انه استدل للأعم أيضا بوجوه :

منها : التبادر الذي قد عرفت خلافه وان التبادر لايكون الا خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.

ومنها : صحة الاطلاق وعدم صحة السلب كما في نحو مظلوم ومقتول وشهيد ونحو ذلك وفيه ان ما يرى من صحة الاطلاق فإنما هو بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال النسبة وحال الجري والتعليق ، ولقد عرفت كونه بنحو الحقيقة حتى عند القائل بالتلبس الفعلي نظراً إلى أن المجري عليه بهذا الجري انما كان عبارة عن قطعة خاصة من الذات التي تلبست سابقا بالمبدأ ولكنه لا يجدي ذلك للخصم. نعم انما يجدي ذلك له فيما لو كان المجري عليه أيضا عبارة عن القطعة الفعلية من الذات ولكن نحن نمنع حينئذ عن صحة الاطلاق المزبور بل نقول بصحة سلبه عنه وانه لايصح ان يقال لزيد المضروب سابقا انه مضروب فعلا كما يصح ذلك في المضروب الفعلي ، واما اطلاق مقتل الحسين علیه السلام على اليوم العاشر من المحرم فهو من باب التشبيه لا من باب انه حقيقة في الأعم.

ص: 138

ومنها : صحة الاطلاق في مثل التاجر والقاضي والمجتهد حتى في حال النوم ونحوه. والجواب عنه قد تقدم في الامر السادس فراجع.

ومنها : استدلال الإمام علیه السلام بقوله سبحانه ( لا ينال عهدي الضالمين ) لا ثبات عدم لياقة عابد الصنم والوثن لمنصب الخلافة والإمامة بتقريب : انه لولا الوضع للأعم لما تم الاستدلال بالآية المباركة لعدم اللياقة لمنصب الإمامة. وفيه ما تقدم بان الجري فيه انما هو بلحاظ حال التلبس السابق لا بلحاظ الحال الفعلي فيكون مبني استدلاله علیه السلام على أن التلبس بعبادة الصنم ( التي هي أعظم أنحاء الظلم ولو في زمان ) علة لعدم النيل بمنصب الخلافة والإمامة إلى الأبد وعليه لايكاد يفيد ذلك للقول بالأعم كما هو واضح. نعم غاية ما هناك انما هو لزوم رفع اليد عما يقتضيه ظاهر الهيئة الكلامية من اتحاد ظرف النسبة والحكم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس فإنه على ذلك يختلف الظرفان حيث كان ظرف الحكم بعدم النيل بالخلافة فعليا وظرف وجود المصداق فيما مضى من الزمان المتقدم ، ولكنه نقول : بأنه لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة الخارجية أو الداخلية على المغايرة بين الظرفين وكون الشرك باللّه عز وجل علة لحدوث الحكم بعدم النيل بمنصب الخلافة وبقائه إلى الأبد خصوصا بعد عدم كون الظهور المزبور ظهورا وضعيا بل ظهور اطلاقيا ، مع أنه لو فرض كونه ظهورا وضعيا لا اطلاقيا وقلنا بجريان أصالة الظهور فيه حتى مع وجود القرينة على الخلاف نقول بأنه لايقتضي ذلك أيضا اثبات الوضع في مدلول الكلمة وهي المشتق ، كما هو واضح.

ومنها : آيتا حد السارق والزاني من قوله سبحانه : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » (1) و « الزانية والزاني فاجلدوا » الخ (2) والجواب عن ذلك أيضا هو ما تقدم في الامر السادس ومحصله في جميع ذلك كله : هو ان تلك الموارد التي يكون الاتصاف بالعنوان ولو في آن علة لحدوث الحكم وبقائه إلى الأبد من دون احتياج في بقاء الحكم إلى بقاء الاتصاف بالعنوان أصلا ، كما هو واضح.

هذا كله فيما استدل به للقول بالأعم ، ولقد عرفت عدم تمامية شيء من الوجوه

ص: 139


1- سورة المائدة ، الآية 38.
2- سورة النور ، الآية 2.

المزبورة لا ثبات كون المشتق حقيقة في الأعم وان التحقيق هو كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي ، لما ذكرنا من التبادر وصحة السلب عن المنقضي عند المبدأ وارتكاز المضادة ، من غير فرق بين وقوعه محكوما أو محكوما عليه وبين كونه مأخوذا من المبادئ المتعدية أو اللازمة وبين اسم الفاعل والمفعول كما مرت الإشارة إليه.

نعم في المقام قول آخر بالتفصيل بين القول بتركيب المشتق من المبدأ والذات وبساطته وجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط : من دعوى كونه حقيقة في الأعم على الأول وفي خصوص المتلبس الفعل على الثاني ، نظراً إلى عدم تصور الانقضاء عليه ، وسيجيء الكلام فيه وفي عدم صحته أيضا في تنبيهات المسألة عند التعرض لبيان بساطة المشتق وتركبه إن شاء اللّه تعالى.

وينبغي التنبيه على أمور

الامر الأول :
اشارة

انه قد وقع الكلام بين الاعلام في أن المشتق بسيط أم مركب من المبدأ والذات. ولتنقيح المرام لابد من بيان المتحملات المتصورة في التركب والبساطة في المقام.

اما تركبه فله صورتان : الأولى تركب المشتق بحسب المفهوم على معنى ان يكون مفهوم المشتق عبارة عن معنى تركيبي ، وهو الذات التي تثبت لها المبدأ وفي قباله بساطة مفهومه وعدم تركبه. الثانية تركبه بحقيقته وبمنشأ انتزاعه مع بساطة أصل مفهومه كما نظيره في مثل الانسان ، حيث إنه مع بساطة مفهومه وعدم تركبه يكون حقيقته مركبة من الامرين عند التحليل : الحيوان والناطق فيقال فيه : انه حيوان ناطق ، من دون ان يكون مثل هذا التركيب التحليلي العقلي في منشأه موجبا لتركب مفهومه وفي قبال ذلك بساطته حتى بحقيقته ومنشأ انتزاعه علاوة عن بساطة مفهومه هذا. ولكن الظاهر هو عدم إرادة القائل بالتركيب التركب بالمعنى الأول ، كيف وانه من البعيد كله دعويهم كون المفهوم من المشتق هو المعنى التركي أي الذات الثابت لها المبدأ بل الظاهر هو ارادتهم من التركب تركبه بحقيقته وما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم مع بساطة أصل مفهومه وتسليم انه لايكاد ينسبق في الذهن من مثل القائم والقاعد الا الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج. وعليه فيكون مركز النزاع في المشتق من جهة التركب والبساطة في أصل

ص: 140

حقيقته لا في مفهومه ، فحيث ان المنسبق من مثل القائم والقاعد ونحوهما في الذهن كان هو الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج من الهيئة الخاصة وكان ذلك الشكل والصورة الخاصة منحلا بحسب التحليل إلى ذات ومبدأ قائم بها ، وقع الخلاف بينهم في أن كلمة المشتق ، وهو القائم مثلا ، موضوع لمجموع هذه الأمور الثلاثة بحيث كان جهة الذات أيضا جزء للمدلول؟ أم لا بل تكون جهة الذات خارجة عن المدلول رأسا؟ ثم على فرض خروج الذات عن المدلول فهل المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات؟ أم لا بل يكون المشتق عبارة عن نفس المبدء محضا بحيث كان جهة قيامه بالذات كنفس الذات خارجة عن المدلول؟

وعلى هذا ربما تكون المحتملات المتصورة على البساطة أيضا ثلاثة : الأول كونه أي المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات التي هي معنى حرفي مع خروج الذات عن مدلوله ، فبساطته على هذا المعنى انما هي بالإضافة إلى الذات والا ففي الحقيقة يكون أيضا مركبا من الامرين ، الثاني كونه عبارة عن امر وحداني وهو المبدأ محضا مع خروج جهة قيامه بالذات أيضا كنفس الذات عن المدلول. وهذا أيضا يتصور على وجهين : الأول كونه عبارة عن المبدأ محضا لكن لا مطلقا بل في حال قيامه بالذات واتحاده معها بنحو القضية الحينية لا التقييدية ، الثاني كونه عبارة عن نفس المبدأ محضا قبالا للذات لكن بما هو مأخوذ بعنوان اللابشرطي فيكون الفرق بينه وبين المصدر - كما أفادوه كالفرق بين الجنس والفصل والهيولي والصورة من جهة اللابشرطية والبشرط لائية.

فهذه الصور المتصورة من التركب والبساطة في المقام. وربما يختلف بعضها مع بعض آخر منها بحسب اللوازم ، فان من لوازم المعنى الأول وكذلك المعنى الثاني من البساطة عدم جواز حمل المشتق على الذات من جهة انتفاء شرط الحمل الذي هو الاثنينية بحسب المفهوم في الذهن ، فان المبدأ على المعنيين بعد ما لايرى في الذهن منفكا عن الذات بل يرى متحدا معها فلا جرم لايكون مثل هذا الصقع من صقع الحمل على الذات كي يصح فيه الحمل ، نعم في مقام الحمل على المصداق كما في قولك : زيد عالم أو ضارب صح الحمل لتحقق أركانه التي هي اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما بنحو من الاتحاد في الخارج ، ولكنه أجنبي عن مقام حمل المبدأ على الذات في مدلول الكلمة. وهذا بخلافه على البساطة بالمعنى الأخير ، فإنه عليه باعتبار اخذ المشتق عبارة عن مجرد

ص: 141

المبدأ المقابل للذات كان لصحة الحمل على الذات كمال مجال وذلك من جهة تحقق ركنية وهما اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما في الخارج.

ومن جملة اللوازم أيضا انه على المعنيين الأولين من البساطة ربما صح جعل العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل ونحوهما موضوعا للأحكام من نحو الاطعام والاكرام كما في قولك : أطعم العالم وأكرم العادل وقبل يد العالم ورجله ، فإنه بعد ما كان المشتق اخذ وجهة وعنوانا للذات بنحو كان النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان تبعيا كما في النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه كما سيجيء ، فلا جرم من هذه الجهة صح جعلها موضوعا للأحكام المزبورة ، ولايتوجه الاشكال عليه بأنه كيف يصح إضافة الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل إلى عنوان العالم مع أنه لا يد للمبدأ ولا بطن له حتى يصح تعلق التكليف باطعامه وتقبيل يده ، فإنه على ما ذكرنا يكون ما أضيف إليه الاكرام والاطعام هو نفس الذات خاصة غايته لا مطلقا بل بما هي متجلية بجلوة العلم والعدالة. وذلك بخلافه على المعنى الأخير من البساطة من جعله عبارة عن نفس المبدأ قبالا للذات ، إذ عليه لا مجال لإضافة الاحكام المزبورة إلى العناوين المزبورة ولو اعتبر كونها لا بشرط الف مرة ، فان لازمها كونها منظورة بالنظر الاستقلالي من دون نظر إلى الذات في عالم من العوالم الا تبعا للعنوان ، ولازمه هو توقف الحكم في مقام إضافة الاكرام والاطعام على نفس العنوان وهو المبدأ فيتوجه حينئذ الاشكال المزبور.

ومن ذلك البيان ظهر الحال بناء على القول بالتركيب أيضا ، حيث إن الاشكال يتوجه بالنسبة إلى جزئه الذي هو المبدأ.

كما أنه من البيان المزبور ظهر أيضا نكتة الفرق بين البساطة بالمعنى الثاني وبين البساطة بالمعنى الأخير ، فإنهما وان اشتركا في بساطة العنوان وكونه عبارة عن نفس المبدأ خاصة الا انهما يفترقان من تلك الجهة ، فان المبدأ على البساطة بالمعنى الثاني لما اخذ كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فلا جرم بهذا الاعتبار يكون ملحوظا وجهة وعنوانا للذات وبهذا الاعتبار يكون النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان المتحد معها تبعيا ، فيصح حينئذ إضافة الاكرام والاطعام إليه في قولك : أكرم العالم واطعم العادل ولكن مثل هذا الاعتبار لا يتأتى على البساطة بالمعنى الأخير كما شرحناه فتدبر.

ص: 142

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الجهة فلنذكر ما يقتضيه التحقيق في المقام من المحتملات المزبورة للتركب والبساطة.

فنقول : اما احتمال تركب المشتق من المبدأ والذات فلا شبهة في كونه بمعزل عن التحقيق ويظهر وجهه مما قدمناه سابقا في كيفية أوضاع المشتقات وانحلال الوضع في كل واحد منها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ نقول : بأنه لو كان الذات مأخوذة في الأوصاف فلا جرم الدال عليها اما ان يكون هي المادة أو الهيئة ، مع أنه ليس في شيء منها الدلالة عليها أصلا ، إذ لمادة لاتدل حسب وضعها النوعي الساري في جميع الصيغ الا على نفس الحدث ، واما الهيئة الخاصة فيها ففي أيضا لاتدل الا على قيام هذا المبدأ بالذات الذي هو معنى حرفي وحينئذ فأين الدال على الذات؟ نعم لو قيل بان الوضع في خصوص الأوصاف من بين المشتقات من قبيل الوضع في الجوامد من دعوى وضع المادة والهيئة فيها مجموعا للذات المتلبسة بالمبدأ لكان لدعوى تركب المشتق من المبدأ والنسبة والذات كمال مجال ، ولكنه كما عرفت خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون في كلية المشتقات التي منها الأوصاف من انحلال الوضع فيها كما هو واضح.

وحينئذ فبعد بطلان القول بالتركيب من المبدأ والذات يدور الامر بين المحتملات الثلاثة المتصورة على البساطة من الوضع لامرين : المبدأ وإضافة قيامه بالذات كي يكون دلالته على الذات من جهة الملازمة ، أو الوضع لأمر واحد وهو المبدأ خاصة لكنه في حال كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فتكون الإضافة أيضا كنفس الذات خارجة عن المدلول ، أو الوضع للمبدأ قبالا للذات لكنه بما هو ملحوظ بعنوان اللا بشرطي كما تقدم بيانه ، وفي مثله لاينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو المعنى الأول من البساطة : من جعله عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته بما انه ملحوظ وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها ، فان هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيئة ، حيث نقول : بان المادة في الأوصاف وضعت للدلالة على نفس الحدث ، والهيئة فيها وضعت للدلالة على إضافة قيام المبدأ بالذات ، وهذا بخلافه على المعنى الثاني والثالث فإنه عليها لابد من اخراج الأوصاف عما يقتضيه قاعدة انحلال الوضع في المشتقات المصير إلى دعوى كون الوضع في خصوص الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد من وضع مجموع المادة والهيئة فيما بوضع وحداني لمعنى حدثي خال عن

ص: 143

الإضافة والنسبة على خلاف بقية الصيغ من المصادر والافعال وهو كما ترى ، وخصوصا مع ما في المعنى الثالث من استلزامه لبعض التوالي الفاسدة التي منها ما ذكر ، ومنها عدم صحة جعل تلك الأوصاف موضوعات للأحكام الخاصة من مثل الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل كما مرت الإشارة إليه ، فان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي لو كان يجدي فإنما هو بالنسبة إلى مقام الحمل لا في مقام إضافة الاحكام المزبورة إليه من نحو قولك : أكرم العالم واطعم العالم والنظر إلى وجه العالم عبادة والى باب داره عبادة ، وذلك من جهة وضوح ان ما هو الموضوع للأحكام المزبورة في مقام النسبة الحكمية ليس الأنفس الذات دون المبدأ وان لو حظ كونه بالعنوان اللابشرطي الف مرة كما هو واضح ، ومنها عدم تصور جريان النزاع المعروف في المشتق في أنه للأعم أو المتلبس الفعلي على هذا القول من جهة عدم تصور الانقضاء فيه كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، ومنها غير ذلك من التوالي الفاسدة.

ومن ذلك نقول : بان أردأ المباني والمسالك في المقام هو المسلك الأخير بملاحظة ما فيه من التوالي الفاسدة التي لايمكن الالتزام بواحد منها ، بخلافه على المسلك الأول من البساطة الذي اخترناه وسلكناه فإنه عليه لايتوجه شيء من التوالي الفاسدة بل عليه يجمع بين ما يقتضيه ظواهر القضايا من مثل قوله ( أكرم العالم ) من إناطة الاكرام إلى نفس العنوان وبين كون المتعلق وما أضيف إليه الاكرام هو نفس الذات دون المبدأ ودونها والمبدأ معا ، مع الالتزام أيضا ببساطة المشتق وعدم تركبه من المبدأ والذات كما هو قضية القول بالتركيب وعدم الخروج أيضا عن قاعدة انحلالية الأوضاع في المشتقات في خصوص الأوصاف ، فان الجمع بين الأمور المزبورة لايكاد يمكن الا بالمصير إلى ما ذكرنا من جعل مفاد الأوصاف عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته لا بما ان المبدأ يكون ملحوظا استقلالا في قبال الذات بل بما انه وجه وعنوان للذات بنحو لايرى من مثل العالم والقائم والقاعد الا الذات المتجلية بجلوة العلم والقيام والقعود. وربما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا ما وقع منهم من الصدر الأول إلى الآن من التعبير عن المشتق في مقام تحرير أصل عنوان المسألة وغيره بالذات المتلبسة بالمبدأ فان في تعبيرهم بالتلبس بالمبدأ شهادة على أن المبدأ في الأوصاف لايكون الا مأخوذا كونه لباسا للذات ووجها لها بنحو كان النظر إلى الذات في مقام الحكم على العنوان استقلاليا والى نفس المبدأ تبعيا

ص: 144

نظير النظر الذي إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه أيضا كما هو ذلك أيضا في مقام الخارج.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا وجه صحة جعل الأوصاف محمولات في القضايا في مثل قولك : زيد قائم أو عالم ، إذ نقول : بان لحاظ المبدء بالعنوان اللابشرطي أعني لحاظه لا في قبال الغير وان كان مصححا للحمل كما أفادوه في مقام الفرق بين الأوصاف والمصادر من حيث اباء الثاني وعصيانه عن الحمل دون الأول وكذا في اجزاء المركب في المركبات الخارجية والتحليلية في نحو الجنس الفصل والهيولي الصورة لكن ما هو المصحح للحمل في الحقيقة بعينه هو المصحح في صورة وقوع الأوصاف موضوعا للأحكام ، وذلك لما يرى بالوجودان من عدم الفرق بين صورة جعل تلك الأوصاف موضوعا للأحكام في القضايا وبين صورة جعلها محمولا فيها ، وان ما هو المحمول في مثل زيد ضارب بعينه هو الموضوع للحكم في مثل قوله : أطعم الضارب ، من دون رعاية عناية في البين أصلا ، فيكون يكشف ذلك عما ذكرناه من المناط وانه انما هو باعتبار اخذ المبدء ولحاظه وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا من جهة اعتباره بعنوان اللابشرطية والايلزمه الاحتياج إلى رعاية عناية في البين في صورة جعل الأوصاف موضوعا في القضايا. وحينئذ ففي ذلك أيضا شهادة على بطلان المسلك الثالث في البساطة ، لأنه على ذلك المسلك لايكون المشتق الا عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات فليس هناك ذات حينئذ كي يصح ان يجعل المبدء وجها وعنوانا لها كما لايخفى.

لايقال : بأنه على المعنيين الأولين من البساطة كما يمكن ان يكون المبدء ملحوظا تبعا للذات ووجها لها كذلك يمكن ان يكون ملحوظا استقلالا لا تبعا للذات وعليه فلايختص الاشكال بالمسلك الأخير.

فإنه يقال : نعم انه وان أمكن ذلك أيضا الا ان المعين لتبعيته للذات في مقام اللحاظ انما هو وقوعها موضوعا لبعض الاحكام الخاصة من نحو وجوب الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل ونحوهما مما لايصح الا بنفس الذات فكان مثل هذا المعنى قابلا للسريان في جميع الموارد بخلافه على المعنى الآخر كما هو واضح.

اخطار : قد تقدم في أصل المسألة قول لبعض الاعلام بالتفصيل في كون المشتق حقيقة في الأعم أو المتلبس الفعلي بين كون المشتق مركبا أو بسيطا وانه على الأول يتعين القول بكونه حقيقة في الأعم وعلى الثاني يكون حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي

ص: 145

نظرا إلى أن الحمل لايكون الا بملاك الاتحاد في الوجود والاتحاد لايكون الا في ظرف الوجود. ولكن التحقيق يقتضي خلافه ، إذ نقول : بأنه اما على القول بالتركب سواء كان ثلاثيا أو ثنائيا فلا شبهة في أنه قابل في نفسه للاختصاص بالمتلبس الفعلي أيضا ولا يتعين القول به للقول بالحقيقة في الأعم ، كما عرفت شرحه مفصلا ، بل قد عرفت فيما سبق بمقتضي الأدلة المتقدمة تعين القول بالمتلبس الفعلي ، واما على القول بالبساطة فعلى البساطة بالمعنى الثاني أيضا يكون قابلا للامرين إذ مرجع النزاع حينئذ إلى أن المشتق حقيقة في المبدأ بمقدار اتحاده مع الذات وتطابقه معها كي يختص بالمتلبس الفعلي ، أو انه حقيقة فيه لا بهذا النحو بل مع تجويز كون الذات أوسع منه كي يعم حال التلبس وغيره. نعم على المعنى الثالث في البساطة لما كان لم يؤخذ فيه ذات ولم تلحظ الأنفس المبدأ في قبال الذات يتعين عليه القول بخصوص المتلبس الفعلي لكن ذلك أيضا لا من جهة انه هو المختار في المسألة بل من جهة عدم تصور جريان هذا النزاع فيه لعدم تصور الانقضاء فيه. وهذا بخلافه على المعاني الاخر فإنه فيها تكون الذات ملحوظة اجمالا اما ضمنا أو استقلالا بلحاظ المبدأ تبعا لها فتكون قابلة بهذه الجهة لجريان النزاع فيها في كونه للأعم أو المتلبس الفعلي. وعليه فالتفصيل المزبور بين القول بالتركب وبين القول بالبساطة خال عن التحصيل كما لايخفى.

بقى الكلام فيما استدل به الشريف
اشارة

على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية.

فنقول : انه استدل على البساطة فيما حكى عنه بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من الذات والمبدأ فلا يخلو : اما ان يكون المأخوذ هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو مصداقها والشيئية الخاصة ، وعلى التقديرين لايمكن دعوى اخذ الذات في مفهومه ومعناه لعدم خلوه عن المحذور ، وذلك اما على الأول ( من فرض اخذ مفهوم الذات فيه ) فمن جهة لزوم دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان المشتق من الذاتيات كالناطق وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا له ، لأنه على هذا التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير

ص: 146

الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل ، فهو أيضا يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان ، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل وهو الناطق ، وهو واضح. واما على الثاني ( وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق الذات والشيئية الخاصة ) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة في مثل الانسان ضاحك ضرورية ، لان مصداق الذات حينئذ لايكون الا الانسان وثبوته لنفسه ضروري ، بل ولزومه أيضا دخول النوع في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه.

ولكن لايخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه هذه المحاذير : من لزوم دخول العرض في الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى ، ولكنك قد عرفت مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه لايكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا معنى بسيطا ، وان ما هو محل البحث والنزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل المعقول بأنه علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم ومنشأ انتزاع هذا المفهوم؟ أم لا؟ بل هو بحسب الحقيقة مركب بحيث في مقام الانحلال ينحل إلى جهة مبدأ وذات ، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب الحقيقة عند التحليل ، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركب من المبدأ والذات والنسبة لايترتب عليه شيء من المحاذير من جهة ان القول بذلك لايقتضي دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الاغماض عن ذلك والبناء على جريان هذا الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول : بان ما أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في فرض كون المأخوذ هو مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم من دون كونها عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي والا فبناء على إرادة دخولها بما هي مرآة جمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة انسانا وسادسة غير ذلك

ص: 147

على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات ، فلايتوجه هذا المحذور إذ يمكن ان يقال حينئذ : بان ما هو المحمول والمعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لايخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول : بان ما افاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء على التركب من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات وأخرى مصداقها ليس على ما ينبغي ، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق الثلاثة : من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم ، وأخرى هذا المفهوم بما هي مرآة اجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما يناسبها ، وثالثة مصداق الذات ، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو الشق الأوسط من الشقوق الثلاثة.

وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها كما هو واضح من دون احتياج إلى التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول بان كون الناطق فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلاينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك كي يتوجه عليه اشكال الكفاية قدس سره بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من المعنى دون تصرف فيه ، ولا إلى سلب الفصلية عن الناطق حقيقة والمصير إلى كونه من أظهر الخواص وانه فصل مشهوري كما في الكفاية ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث من دعوى ان المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما افاده بعض الاعلام ، كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه بناء على التركب فهل المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله فصلا مشهوريا ومن أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لايكون الا أمرا اعتباريا منتزعا عن منشئه من دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لايكون بأقل من محذور دخول العرض في الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول : بان الناطق فصل حقيقي للانسان ومع ذلك لايتوجه الاشكال لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو منشأ انتزاع مفهوم الذات والشيء الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما و

ص: 148

رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما افاده من الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي في مثل الناطق.

واما ما افاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق الذات والشيئية الخاصة ، فيمكن دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول : من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة بالوصف دون الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا فكذلك المقيد أيضا فلايكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا ، وعليه فقضية زيد كاتب أوضاحك قضية ممكنة لا ضرورية.

ولا يرد عليه ما في الكفاية : من عدم اضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو خروج القيد ودخول التقيد بما هو معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ثبوت الانسان المقيد بالضحك للانسان ، واما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين : قضية الانسان انسان وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة ، وذلك من جهة ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين : ايقاعية ووقوعية والمراد من الأول هو حصول النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن أصل ثبوتها وتحققها ، فكانت النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع ، وكانت القضايا المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا المشتملة على النسب الثانية مسماة بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم ، فعلى ذلك لو قيل ( الانسان ضاحك أو كاتب ) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان انسان له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدي حينئذ تقيد المحمول بوصف امكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.

ص: 149

أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد أن كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من الموضوع ومعه لايكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان ، هذا بناء على فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع ومعه يكون ثبوته له بالامكان لا بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لايكاد يجدي تلك في المقام بعد عدم اقتضائه لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى التوأم للانسان أيضا يكون بالامكان لا بالضرورة. وحينئذ فما افاده في الفصول في اثبات عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وان كان قد شطر هو قدس سره فيه ويا ليته لم يشطر في كلام نفسه.

تذييل ( وفيه إشارة إلى ما سبق )

وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ نقول : بأنه كما على القائل بالتركب من المبدء والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة والنسبة هل هو مفهوم الذات والشيء أو مصداقها؟ بل ولابد أيضا ذلك على المعنى الثالث. نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق ولم تلحظ أصلا إذا المشتق عليه عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات ولذا التجأ في مقام الفرق بين المشتق والمصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية.

وحينئذ نقول مقدمة : بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها مرآة لشيء آخر وأخرى تكون مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك : أكرم من في الصحن مشيرا به إلى الأشخاص الخاصة

ص: 150

من زيد وعمرو وبكر وعلى الثاني فتارة يجعل ذلك مرآة إلى الأشخاص والمصاديق الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة إلى الأنواع والأصناف. والفرق بينهما واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال بالخصوصية من حيث التشريع وعدمه كما في صورة اكرام زيد العالم بقصد الخصوصية الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب أكرم العالم فإنه على بعض التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك.

وبعد ما عرفت ذلك نقول : بان تلك المحتملات الثلاثة وان كانت جارية في الذات ولكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها مرآة إلى الأنواع والأصناف ، فان الاحتمال الأول مما لايمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم دخول العرض في الفصل في مثل الناطق ، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه كما في قوله : أكرم العالم ، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه غاية البعد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم والضاحك ، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع والأصناف بما يناسب في كل مشتق حسب اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها ، وبذلك نجمع بين اتحاد المشتقات من وجه واختلافها من وجه فنقول : بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق كالعالم والقائم والضارب ونحوها عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو موجه بوجه المبدء المأخوذ فيه ، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا ، ولذلك أيضا دفعنا ما أورده المحقق الشريف من الاشكال في مثل الناطق فقلنا : بان ما هو الفصل الحقيقي في مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه المبدأ دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.

الامر الثاني :

لايخفى عليك انه لا فرق فيما ذكرنا في المشتقات بين الأوصاف الجارية على الممكنات

ص: 151

وبين الأوصاف الجارية على الواجب سبحانه ، فكما انه في الأوصاف الجارية على غيره سبحانه تجرى المحتملات المتصورة الأربعة في التركب الانحلالي والبساطة ، كذلك تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه كالعالم والقادر والحي ، إذ لا وجه لتخصيص النزاع المزبور بالأوصاف الجارية على الممكن الا ملاحظة عدم تصور المغايرة في الواجب بين الذات والوصف نظراً إلى رجوع جميع الصفات الثبوتية الكمالية إلى ذاته تعالى وكون علمه سبحانه عين ذاته وذاته المقدسة عين قدرته وارادته وهكذا بلا ان يكون فيه سبحانه حيث وحيث ، فإنه من اجل ملاحظة هذه الجهة ربما يتوهم تعين القول الرابع بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه ، بل ولعل مثل هذه الجهة أيضا ألجأ أهل المعقول في مصيرهم إلى بساطة المشتق مطلقا وجعلهم إياه عبارة عن صرف المبدأ المقابل للذات. ولكنه توهم فاسد إذ نقول بأنه في الواجب سبحانه وان لم يكن حيثية دون حيثية ولا مغايرة بين علمه وقدرته وارادته وذاته فكان هو سبحانه بحتا بسيطا من جميع الجهات وكان علمه بين ذاته وذاته عين قدرته وارادته لرجوع جميع الكمالات إلى ذاته ووجوده ، ولكن نقول بان عقول الممكنات طرا لما كانت قاصرة على الإحاطة بذلك الواحد الأحد ولم تدرك منه سبحانه الا بقدر قابليتها واستعدادها فلا جرم إذا كان هم عقول الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو ارادته سبحانه يصير مدركه لا محالة محدودا في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة ، والعلم أخرى ، وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة ، وهكذا ، من دون ان يكون تلك الحيثيات الانتزاعية الناشئة من جهة قصور النظر راجعة إليه سبحانه. وحينئذ فإذا كانت تلك المغايرة والحيثيات ناشئة من جهة قصور درك عقول الممكن لذلك الواحد الأحد ، فلا جرم المحتملات الأربعة المزبورة تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه من كونه موضوعا للمبدء مع الذات والتلبس بأجمعها كما هو قضية القول بالتركب الانحلالي أو موضوعا للمبدء والنسبة ، أو لنفس المبدأ فقط. كما أن المصحح للحمل فيها أيضا هو المغايرة المزبورة ذهنا الناشئة من جهة قصور درك العقل إذ لايحتاج في صحة الحمل إلى أزيد من المغايرة بين المفهومين من وجه واتحادهما خارجا. نعم غاية ما هناك هو كون الاتحاد بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه عينيا وبالنسبة إلى الأوصاف الجارية على غيره سبحانه اينيا فتدبر.

ص: 152

الامر الثالث

قد علم مما سبق ان الهيئة في المشتق تدل على قيام المبدء بالذات على اختلاف أنحاء القيام حسب اختلاف المبادي صدورا أو حلولا أو وقوعا ، ففي المبادئ اللازمة تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الحلول كالميت والقائم والذاهب ونحوها وفي المبادي المتعدية كالضارب ونحوه تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الصدور وفي مثل المقتول والمضروب والمقتل تدل الهيئة على قيام المبدء بالذات بنحو الوقوع عليه أو فيه ، وفي مثل العالم الجاري على الممكن تدل على القيام بنحو الحلول ، وفى الجاري عليه سبحانه تدل على القيام بنحو الاتحاد العيني لكونه منتزعا عن بعض الجهات المدركة من الذات ، والجامع في الكل هو القيام بذات المجري عليه بنحو من أنحائه.

نعم في مثل المولم والمقيم ربما يقع الاشكال بلحاظ ان المبدأ وهو الأعم والقيام فيهما لايكون له قيام بذات المجري عليه بل قيامهما انما كان بالغير وجهة ايجادهما واصدارهما كان قائما بذات المجري عليه ، نعم هذا الاشكال لايتوجه في مثل الضارب فان الايجاد فيه مستفاد من نفس المبدء وقيام الايجاد والاصدار كاف فيه ، بخلافه في مثل المؤلم والمقيم إذا المبدأ فيهما كان لازما ولايكون باصداري وحينئذ فجعل مثل الضارب في عداد المؤلم والمقيم في الاشكال كما في الكفاية مما لا وجه له. وعلى كل حال فلابد حينئذ في التفصي عن الاشكال من الالتزام بأحد الامرين اما رفع اليد عما ذكرناه من لزوم قيام المبدء في المشتقات بنفس ذات المجري عليه والاكتفاء بمطلق القيام ولو بالغير ، أو الالتزام باختلاف الهيئات وان الهيئة في بعضها تدل على صرف قيام المبدء بالذات وبعضها على قيام ايجاد المبدء كما في المؤلم والمقيم.

واما توهم ان المبدأ في المؤلم والمقيم انما كان هو الايلام والإقامة وهما دالان على الايجاد فالهيئة فيهما تدل على قيام هذا الايجاد بالذات من دون احتياج إلى دلالة الهيئة عليه كي يلتزم باختلاف الهيئات ، فمدفوع بما تقدم بان المبدأ في المشتقات لايكون هو المصدر بل وانما المبدأ في الجميع هو المعنى الساري في جميع الصيغ من الافعال والمصادر والأسماء والمزيد وغيره ، وارجاع علماء الأدب صيغ كل باب من المزيد وغيره إلى

ص: 153

مصدره وجعلهم المصدر من كل باب أصلا ومبدأ لسائر الصيغ استحساني محض ، والا ففي الحقيقة ما هو المبدأ والأصل في جميع الهيئات من كل باب لايكون الا المعنى المحفوظ الساري في ضمن الجميع ، وعليه فألف اكرام مثلا لايكون جزء للمادة بل وانما هي مقوم للهيئة نظير الف ضارب وميم مقتول ومضروب.

كما أن توهم ان الهيئة الطارية على المادة في نحو المؤلم والمقيم هيئتان طوليتان دالة إحديهما على الايجاد والأخرى على القيام بالذات ، مدفوع بأنه من المستحيل ، لكونه أشبه شيء بطرو الصورتين على مادة واحدة في زمان واحد ، وبطلان هذا المعنى واضح لايحتاج إلى البيان.

وحينئذ فلا محيص الا من الالتزام بأحد الامرين المزبورين اما الالتزام باختلاف الهيئات أو رفع اليد عما ذكرناه من دلالة الهيئة على قيام المبدأ بالذات والاكتفاء في هيئات المشتقات بمطلق القيام بالذات ولولا بذات المجري عليه ، وفي مثله ربما كان المتعين هو الأول فنلتزم باختلاف الهيئات في المشتقات باختلاف الأبواب الثلاثي والمزيد ولكنه لا بنحو التباين بل بنحو القلة والكثرة فكان هيئة اسم الفاعل في أبواب الثلاثي المجرد مثلاتدل على قيام المبدء وتزداد في مثل باب الافعال فتدل هيئة اسم الفاعل فيها على قيام ايجاد المبدأ بالذات المجري عليها ، وكذا في باب الانفعال والافتعال فتدل الهيئة على قيام القبول والتطوع بالذات ، وقد تزيد أيضا فتدل على قيام المضاعفة كما في باب التفعيل ، وهكذا فتدبر.

دفع وهم : قد يقال بعدم دلالة المشتق على النسبة التي هي معنى حرفي نظراً إلى اقتضائه حينئذ تضمن المعنى الحرفي فيلزمه لا محالة كونه مبنيا لا معربا ، بل ومن هذه الجهة أنكر دلالة سائر الصيغ على النسبة الناقصة حتى المصدر أيضا. ولكنه مدفوع حيث نقول بان ما دل على النسبة الناقصة انما هي الهيئة القائمة بالمادة العارية عن النسبة وانه لايكاد يقتضي مجرد ذلك بناء الاسم إذ الأسماء المبنية هي التي وضعت بوضع واحد لما اشتمل على النسبة وأين ذلك والمقام الذي كان الدال على النسبة نفس الهيئة! كيف وان لازم هذا المعنى هو الغاء الهيئة عن الوضع المستقل رأسا والمصير إلى كون وضع المشتقات من قبيل وضع الجوامد وهو كما ترى.

الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس

ص: 154

الذات بالمبدأ حقيقة ، بل يكفي فيه مطلق تلبسها به ولو عناية أو ادعاء كما في الميزاب جار بأي نحو فرض من العنايات ، اما بتصرف في مدلول الكلمة واستعمالها في غير معناها الحقيقي ، واما بتصرف في الاسناد مع ابقاء الكلمة على معناها الحقيقي بان كان الاسناد أي اسناد الجريان إلى غير ما هو له ، واما بتصرف في الامر العقلي بمعنى التصرف في موضوع الجريان بادعاء كون الميزاب من مصاديق ما هو موضوع الجريان ثم اسناد الجريان إليه مع ابقاء الكلمة والاسناد على حالهما نظير قولك رأيت أسدا مريدا به الرجل الشجاع بعد ادعائك كونه هو الأسد ، فإنه على كل تقدير يصح جرى المشتق على الذات ، وان كان المتعين من بين المحتملات المزبورة هو الأخير لكونه أقل عناية من غيره وأقرب إلى الاعتبار وما يقتضيه الوجدان ، فعلى ذلك لا وجه لما في الكفاية من المصير إلى المجاز في الاسناد في مقام الرد على الفصول ، وان كان لا مجال أيضا لما افاده الفصول من الالتزام باعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة كما لايخفى. هذا تمام الكلام في المشتقات.

ص: 155

الكلام في المقاصد فنقول :

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

وفيه مباحث :

المبحث الأول
اشارة

فيما يتعلق بمادة الامر ، ويقع الكلام فيه في جهات :

الجهة الأولى :

في معنى الامر فنقول وبه نستعين ان الامر يطلق على معان : منها الطلب كما يقال امره بكذا أي طلب منه كذا. ومنها الشأن ومنه شغلني امر كذا أي شأن كذا. ومنها الفعل ومنه وما امر فرعون برشيد أي فعله. ومنها الشيء كقولك رأيت اليوم أمرا عجبا. ومنها الحادثة والغرض كقولك وقع اليوم امر كذا وجئتك لأمر كذا. ومنها غير ذلك. ولكن التحقيق كونه حقيقة في خصوص الشيء الذي هو من الأمور العامة العرضية لجميع الأشياء الشامل للفعل والشأن والحادثة والشغل ونحو ذلك فكان اطلاقه في تلك الموارد المختلفة بمعناه غايته من باب الدالين والمدلولين حيث أريد تلك الخصوصيات بدوال أخر من غير أن يكون الامر مستعملا في تلك الموارد في مفهوم الغرض والتعجب والفعل ولا في مصداقها بوجه أصلا. نعم ذلك كله بالنسبة إلى غير المعنى الأول وهو الطلب واما بالنسبة إليه فهو وان كان أيضا أمرا من الأمور وشيئا من الأشياء فكان من مصاديق ذلك العنوان العام العرضي ، ولكن الظاهر كونه موضوعا بإزائه بالخصوص أيضا قبالا لوضعه لذلك المعنى العام العرضي ، كما أن الظاهر هو كونه من باب الاشتراك اللفظي دون الاشتراك المعنوي بملاحظة عدم جامع قريب بينهما ، كما يشهد لذلك قضية اختلافهما من حيث الاشتقاق وعدمه فإنه بمعنى الطلب يكون معناه اشتقاقيا فيشتق منه صيغ كثيرة من المصدر والفعل الماضي والمضارع واسمى الفاعل و

ص: 156

المفعول كما يقال : امر يأمر آمر مأمور بخلافه على كونه بمعنى الشيء فإنه عليه يكون من الجوامد. وربما يشهد لذلك أيضا قضية الجمع فيهما ، من مجيئه على الأول على الأوامر وان كان على غير القياس ، وعلى الثاني على الأمور ، والجمع يرد الأشياء إلى أصولها وحينئذ فلاينبغي الاشكال في كونه موضوعا بالخصوص للطلب أيضا.

ثم إن محل الكلام في المقام انما هو الامر بمعنى الطلب دونه بمعنى الشيء فلابد حينئذ من بيان انه هل هو موضوع للطلب الحقيقي والإرادة القائمة بالنفس بحيث كان القول أو الإشارة مبرزا لها وكاشفا عنها؟ أو انه موضوع للطلب المبرز بالقول أي مفهومه المبرز بالقول أو بالأعم منه ومن الإشارة ونحوها؟ أو انه موضوع لنفس ابراز الطلب بالقول أو الإشارة؟ حيث إن فيه وجوها ، أبعدها الأول ، لما يرى من عدم صدق الامر على مجرد الإرادة النفسانية الغير البالغة إلى مرحلة الابراز حيث لا يصدق على من كان طالبا لشيء من عبده ومريدا له منه بلا ابراز ارادته بالقول أو نحوه أنه آمر به ، بل الصادق عليه انه طالب ومريد غير آمر ، على أن لازم ذلك هو ان يكون استعماله دائما في غير معناه الموضوع له لان ما يجيء في الذهن عند الاستعمال لايكون الا صورة الإرادة ومفهومها لا حقيقتها وعليه فلايكون استعماله في معناه الحقيقي الذي هو الإرادة القائمة بالنفس.

وحينئذ فبعد بطلان هذا المعنى يدور الامر بين كونه حقيقة في الطلب المبرز بما هو مبرز بالقول أو الإشارة بنحو خروج القيد ودخول التقيد أو كونه حقيقة في ابراز الطلب وهو القول الحاكي عنه ، ولكل منهما وجه وجيه ، وان كان قد يقال بتعين الأخير نظراً إلى ظهور العنوان وهو الامر في الاختيارية وكونه على الأخير اختياريا بتمامه من الابراز والتقيد بالطلب ، بخلافه على الأول ، فإنه من جهة جزئه الركني وهو الطلب غير اختياري. ولكنه توهم فاسد ، فان ما ذكر مجرد استحسان لا يثبت به الوضع خصوصا مع استلزام الأخير لعدم صحة الاشتقاقات منه باعتبار عدم كون معناه حينئذ معنى حدثيا قابلا للاشتقاق ، لان ما هو المبرز حينئذ انما كان هو الهيئة ومعناه لايكون الا معنى جامديا غير حدثي بخلافه على الأول فان المعنى عليه بنفسه يكون معنا حدثيا قابلا للاشتقاق منه. وما قيل من أنه على الأول أيضا يلزمه خروج الصيغ كلها عن المصداقية للامر من جهة عدم كونها عبارة عن نفس الطلب وانما هي مبرزات عنه ، مدفوع بأنه لو سلم ذلك فإنما يرد هذا المحذور لولا كونها وجوها للطلب ولو من جهة شدة حكايتها عنه و

ص: 157

الا فبهذا الاعتبار تكون عين الطلب ويحمل عليها الطلب بالحمل الشايع.

وبالجملة نقول : بأنه بعد لم يقم دليل معتد به على تعين أحد الاحتمالين بالخصوص حتى يؤخذ به ، وما ذكر من الوجوه تقريبات استحسانية محضة خصوصا مع عدم ترتب ثمرة في البين على كونه حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، من جهة ان القائل بكونه حقيقة في ابراز الطلب انما يدعى كونه حقيقة فيه بما انه حاك عن الطلب وبما هو وجه له لا بما انه نفس الابراز ولو مع عدم الحكاية عن الطلب ، وحينئذ فالأولى هو صرف الكلام عن تلك الجهة.

نعم ينبغي ان يعلم بأنه على كلا التقديرين لا خصوصية لخصوص الابراز بالقول في صدق الامر بل الابراز بما انه يعم القول والإشارة ونحوها ، واما ما يرى في بعض الكلمات من التعبير عنه بالطلب بالقول فإنما هو لمكان الغلبة لا من جهة خصوصية في الابراز القولي ، كما هو واضح.

نعم يبقى الكلام في جهة أخرى وهي ان الامر هل هو عبارة عن نفس الطلب أي المفهوم المتنزع عن حقيقته غايته بما انه يرى عين الخارج لا بما انه مفهوم ذهني ولا بما هو كما في كلية مداليل الألفاظ كي يكون لازمه عدم انطباقه على مجرد الطلب الانشائي؟ أو أنه عبارة عن هذا المفهوم لكنه بما هو موقع باستعمال اللفظ فيه بقصد الايقاع المعبر عنه بالطلب الانشائي؟ حيث إن فيه وجهين اختار ثانيهما في الكفاية حيث قال : بان لفظ الامر حقيقة في الطلب الانشائي الذي لايكون طلبا بالحمل الشايع بل طلب انشائي سواء أنشأ بمادة الامر أو بمادة الطلب ، مثل آمرك واطلب منك كذا ، أو بصيغة افعل. ولكن التحقيق يقتضي خلافه وانه لايكون الامر حقيقة الا في نفس المفهوم بما هو حاك عن الطلب الحقيقي الخارجي ، فما هو المستعمل فيه في مثل اطلب منك بداعي الانشاء لايكون الأنفس المعنى وصرف المفهوم ، غايته ان استعماله فيه مكيف باستعمال انشائي بمعنى كونه بداعي موقعية المفهوم وموجديته ، فكان حيث الانشائية من شؤون نحو الاستعمال وكيفياته القائمة به لا انه مأخوذ في ناحية المستعمل فيه ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، لأنه من المستحيل اخذ مثل هذه الجهة ولو تقيدا في ناحية المستعمل فيه ، وهذا واضح بعد وضوح تأخر الاستعمال عن المستعمل فيه تأخر الحكم عن موضوعه. وحينئذ فلا محيص من دعوى ان المعنى انما كان عبارة عن صرف المفهوم بما انه حاك عن الطلب

ص: 158

الحقيقي الخارجي الذي بوجه عينه دون الطلب الانشائي ، على أن لازم هذا القول هو صدق الامر والطلب ولو لم يكن في البين في الواقع طلب ولا إرادة كما في الأوامر الامتحانية والأوامر المنشأة بداعي السخرية ، مع أنه كما ترى ، إذ المتبادر من قوله : امر بكذا ، انما هو البعث نحو الشيء عن إرادة جدية دون البعث بغيرها من الدواعي. واما احتمال ان المراد من الطلب المذكور في عبارته هو الطلب الموقع بالاستعمال بما هو موصوف بوصف الموجدية ولو باعتبار كاشفية المستعمل فيه اللفظ عن الإرادة الجدية دون الطلب الانشائي بما هو طلب انشائي ، فمدفوع بأنه وان أمكن هذا الحمل فيرتفع به المحاذير ويصدق عليه أيضا الطلب الانشائي باعتبار كونه موقعا باستعمال اللفظ في مفهومه بعنوان مرآتية المفهوم عن الطلب الحقيقي ويصدق عليه أيضا بهذا الاعتبار الطلب الحقيقي بنحو الحمل الشايع ، ولكنه يبعده ما صرح به هو قدس سره بان مدلول الامر ليس هو الطلب الذي يصدق عليه الطلب بالحمل الشايع ، وعليه فيتجه الاشكال المزبور من لزوم صدق الامر عند الخلو عن الإرادة. فتلخص ان الامر على مسلك الكفاية قدس سره عبارة عن الطلب بما هو منشأ وموقع ، فكان الانشاء الذي هو من شؤون نحو الاستعمال ومن كيفياته مقوما لتحقق الامر ، ومن هذه الجهة يكون الامر على مسلكه منتزعا عن الرتبة التي بعد الانشاء المتأخر عن الاستعمال ، فيكون تأخره عن نفس مفهوم الطلب المستعمل فيه اللفظ بمرتبتين من دون دخل للإرادة الجدية أيضا في صدق الامر وتحققه. واما على ما سلكناه فيكون الامر عبارة عن نفس الطلب أي مفهومه بما هو حاك عن الطلب الحقيقي القائم بالنفس ، فبهذا الاعتبار يصدق عليه الطلب الحقيقي ويحمل عليه بالحمل الشايع.

الجهة الثانية :

بعد ما عرفت من أن الامر حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، فهل يعتبر فيه أيضا العلو؟ أو انه لا يعتبر فيه ذلك فيصدق الامر على مطلق الطلب الصادر ولو كان صدوره من المساوي أو السافل؟ فيه وجهان : أقويهما الأول لصحة سلبه عن الطلب الصادر عن السافل والمساوي حيث يصح ان يقال : انه ليس بأمر حقيقة بل هو سؤال والتماس ،

ص: 159

كيف وان الامر انما هو مساوق ل ( فرمان ) بالفارسية ، وهو يختص بما لو كان الطالب هو العالي دون السافل أو المساوي إذ لا يصدق ( فرمان ) على الطلب الصادر عن غير العالي. واما ما يرى من تقبيح السافل المستعلى فيما لو امر سيده بأنك لم أمرت سيدك ومولاك فإنما هو على استعلائه وتنزيل نفسه عاليا الموجب لصدور الامر منه ، لا ان التقبيح على امره ، لصدق الامر عليه حقيقة بعد استعلائه. ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان توهم كفاية أحد الامرين في تحقق حقيقة الامر : اما العلو والاستعلاء ، وذلك فان غير العالي لايكاد يصدق على طلبه الامر الذي هو مساوق ( فرمان ) ولو استعلى غاية الاستعلاء ، كما أن العالي بمحض صدور الامر منه يصدق على طلبه وأمره ، الامر و ( فرمان ) وان لم يكن مستعليا في امره بل كان مستخفضا لجناحه. وعليه فما هو المعتبر في حقيقة الامر انما كان هو العلو خاصة ، واما الاستعلاء زائدا عن جهة العلو فلا يعتبر فيه بوجه من الوجوه ، كما هو واضح.

الجهة الثالثة :

في أن الامر هل هو حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي؟ أو انه حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الوجوبي والاستحبابي؟ فيه وجهان : أظهر هما الثاني ، لصدق الامر حقيقة على الطلب الصادر من العالي إذا كان طلبه استحبابيا حيث يقال له : انه امر وبالفارسية ( فرمان ) من دون احتياج في صحة اطلاق الامر عليه إلى رعاية عناية في البين ، حيث إن ذلك كاشف عن كونه حقيقة في مطلق الطلب والا لكان يحتاج في صدق الامر وصحة اطلاقه على الطلب الاستحبابي إلى رعاية عناية في البين ، كما هو واضح. ومما يشهد لذلك بل يدل عليه أيضا صحة التقسيم إلى الوجوب والاستحباب في قولك : الامر اما وجوبي واما استحبابي ، وهو أيضا علامة كونه حقيقة في الجامع بينهما.

نعم لا اشكال في ظهوره عند اطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي بحيث لو أطلق وأريد منه الاستحباب لاحتاج إلى نصب قرينة على الرخصة في الترك ، ومن ذلك أيضا ترى ديدن الأصحاب ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في الفقه في الأوامر الواردة عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة علیهم السلام ، حيث كانوا يحملون الأوامر الواردة عنهم على

ص: 160

الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء كقوله : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، ونحوه ، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم يأخذون بالوجوب فيما لو تقم عليه قرينة على الاستحباب ، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر واحد كقوله : إمسح ناصيتك ، حيث إنهم أخذوا بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه امر واحد ، وهكذا غير ذلك من الموارد التي يطلع عليها الفقيه ، ومن المعلوم أنه لايكون الوجه في ذلك الا حيث ظهور الامر في نفسه في الوجوب عند اطلاقه ، وحينئذ فلا اشكال في أصل هذا الظهور.

نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة؟

فنقول : اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي وغيره بشهادة صحة التقسيم وصحة الاطلاق على الطلب الغير الإلزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع للوجوب ، من نحو قوله : سبحانه « فليحذر الذين يخالفون عن امره » وقوله عز من قائل مخاطبا لإبليس : ( ما منعك ان تسجد إذ أمرتك ) وقوله صلی اللّه علیه و آله : ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلی اللّه علیه و آله أيضا لبريرة حين قال له أتأمرني يا رسول اللّه : ( لا بل أنا شافع ) من تقريب انه جعل المخالفة للامر في الأول ملزوما لوجوب لحذر ، وفى الثاني للتوبيخ ، وفى الثالث للمشقة ، وحيث لايجب الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولايصح التوبيخ عليه ولا كان مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا ، فلا جرم يستفاد من ذلك كونه حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك الأدلة من جهة قوة ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد منه ، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر الاستحبابي أمرا حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول : بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة الاستدلال المزبور على جواز التمسك بعموم العام للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم العام عن موضوعه ، إذ بعد أن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من وجوب الحذر

ص: 161

والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لا ثبات عدم كون الامر الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص ، نظير ما لو ورد خطاب على وجوب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد لكنه يشك في أنه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب التخصيص أو انه لايكون مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص ، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم والاطلاق عن إفادة اثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء العرف والعقلاء ، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص المشكوك المرادية وهو لايكون الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه ، وحينئذ فلايمكننا التمسك بالأدلة المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الإلزامي خصوصا بعد ما يرى من صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي ، كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى الوضع.

واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن ذلك ترى صاحب المعالم قدس سره فإنه بعدان اختار كون الامر حقيقة في خصوص الوجوب قال : بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة علیهم السلام ان استعمال الامر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فمن ذلك استشكل أيضا وقال : بأنه يشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم علیهم السلام . وحينئذ فلا يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في خصوص الوجوب ، كما هو واضح.

وحينئذ فلابد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة وتقريبه من وجهين :

أحدهما : ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لايقتضي المنع عن الترك ، فلا جرم عند الدوران مقتضي الاطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي ، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد ، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد ، وحينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا

ص: 162

استحبابيا.

وثانيهما : ولعله أدق من الأول تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك للامتثال ، بتقريب أن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب خروج العمل عن اللا اقتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب ، وأخرى يكون اقتضائه لتحريك العبد بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عما يترتب على ايجاده من المثوبة الموعودة ، وفي مثل ذلك نقول : بأن قضية اطلاق الامر يقتضي كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم الاقتضاء للوجود بحيث يقتضي سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة ، لان غير ذلك فيه جهة نقص فيحتاج ارادته إلى مؤنة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول : بأن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء التحريك للايجاد وكان لاقتضائه مراتب ، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره إلى مرتبة السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضي الاطلاق كونه على النحو الأتم والأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب ، فتدبر.

الجهة الرابعة :

في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة والعدلية وبين الأشاعرة ، فذهبت الأشاعرة إلى المغايرة بينهما ، والباقون إلى اتحادهما مستدلين لذلك : بانا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشيء وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها النزاع في البين.

منها : ما أفاده في الكفاية ، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما وجه كلام القائلين بالمغايرة ، حيث قال ما ملخصه : الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و

ص: 163

الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشايع هو عين الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم أي مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم الإرادة ، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو عين انشاء الإرادة ، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث ، ولكنه لما كان المنصرف إليه الطلب عند اطلاقه هو الطلب الانشائي وكان في الإرادة بعكس ذلك حيث كان المنصرف إليه عند اطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي منها كان مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة ، ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما يستفاد من قضية اطلاقهما حسب الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد ، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا لرجوع النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية اطلاق لفظ الطلب بان المستفاد منه هل هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند اطلاقها أو ان المستفاد منه هو غيره؟.

ومنها : أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل عقيب تصور الشيء والتصديق بفائدته ، والإرادة عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل ، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة النفس والإرادة عن الاشتياق التام.

ومنها : جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام ابراز الإرادة من البعث والايجاب والوجوب واللزوم ، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام ابراز الإرادة بالامر نحو الشيء بالايجاد.

ومنها : غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات ، إذ نقول وان كان يتضح بها المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين ، ولكن لا يساعد شيء منها كلام القائلين بالمغايرة حيث نقول : بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ، كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية الخالية عن الإرادة في مواردها ، كما في امر إبراهيم علیه السلام بذبح ولده إسماعيل علیه السلام ، واستدلالهم أيضا بتكليف اللّه

ص: 164

سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان اللّه سبحانه امر الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك ، إذ حينئذ يستحيل تعلق ارادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق ارادته سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون فيستحيل تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهما لابد وان يستكشف عن عدم تعلق ارادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب من المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم على ما هو مقتضى مذهبهم وانكارهم التحسين والتقبيح العقليين بأنه من الممكن امر اللّه سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا ، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما يحكى عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف عن المراد ولأن يكون تابعا لمصلحة في نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لايجوز تخلفها عن المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له.

وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة : منها لزوم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء على الاتحاد كما في موارد الامر بما انتفي شرط تحققه ، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر بالشيء مع خلوه عن المصلحة كما في الأوامر الامتحانية ، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة ، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بان الطلب وما يحكى عنه الامر عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.

ومما يشهد لذلك أيضا انكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، وهذا هو العلامة قدس سره حيث أنكر عليهم بانا لم نجد عند الامر بشيء أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لايكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور

ص: 165

به ولو كان هناك شيء آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء بحيث لا يتعقله إلا الأوحدي من الناس ، ومع ذلك كيف يجوز وضع لفظ الامر المتعارف في الاستعمال بإزائه ، إذ من الواضح حينئذ انه لولا إرادتهم من الطلب والامر ما ذكرنا لما كان وجه لانكار القائل بالاتحاد عليهم ، كما هو واضح.

وعليه نقول أيضا بأنه لايكاد يلائم شيء من التوجيهات المزبورة كلامهم بوجه أصلا ، حيث إن الطلب بمعنى الانشائي منه كما هو توجيه الكفاية وان يساعد عليه اللازم الأول من قابلية تعلقه بالمحال لعدم استلزامه لإرادة الايجاد من المكلف ، ولكنه لا يساعد عليه جهة موضوعيته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال. واما كونه بمعنى حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب فهو أيضا غير قابل للتعلق بالمحال ولايصحح أيضا كونه لصلاح في نفسه فبقى بعد الاشكالات بحالها. وأما كونه بمعنى الاشتياق فهو وان يصحح جواز تعلقه بالمحال كما في اشتياق المريض إلى شفاء مرضه والمحبوس إلى الفرار من السجن والتخلص منه واشتياق الانسان إلى عود شبابه ويمكن أيضا وقوعه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما لو أحرز العبد اشتياق مولاه إلى شيء ولكنه أيضا لايصحح كونه لصلاح في نفسه. وحينئذ فبقرينة استدلالهم بمثل الأوامر الامتحانية يعلم بعدم إرادتهم من الطلب الاشتياق نحو الشيء ولا من الإرادة حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب. واما كونه بمعنى البعث والتحريك والوجوب واللزوم ونحوها فهو أيضا غير محكى بالامر لما عرفت من كونها أمورا انتزاعية متأخرة عن الامر يعتبرها العقل عن مقام ابراز الإرادة فلايمكن ان يكون محكيا للامر ، كما هو واضح.

نعم هنا معنى آخر غير المذكورات وغير العلم والإرادة والحب والبغض يمكن بعيدا ان يوجه به كلام القائل بالمغايرة ، وهو البناء والقصد ، المعبر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات ، حيث إنه كان من جملة أفعال النفس ، ولذا قد يكون يؤمر به كما في البناء على وجود الشيء كالبناء في باب الاستصحاب وفى الشكوك المعتبرة في الصلاة ، وقد يكون ينهى عنه كما في التشريع المحرم ويسمى بأسام مختلفة حسب اختلاف متعلقه ، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وان خالفها في أنها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس ، فكما ان الحب قد يتعلق بأمر موجود مفروغ التحقق فيقال له العشق والشعف ، وقد يتعلق بايجاد الشيء أو ايجاد الغير إياه فيقال له الإرادة ، كذلك هذا البناء

ص: 166

فإنه قد يتعلق بالأول وقد يتعلق بالثاني ، فيسمى بالاعتبار الأول تنزيلا كالبناء على كون الشك يقينا أو العدم وجودا وكالبناء على كون الأكثر موجودا أو الموجود هو الأكثر ، وبالاعتبار الثاني قصدا ، وعند تعلقه بما ليس في الشرع تشريعا ونحو ذلك ويشهد لما ذكرنا ملاحظة كلماتهم في باب التصديق المعتبر في الايمان بأنه ليس مجرد العلم والمعرفة بل هو فعل جناني معبر عنه بالفارسية ب ( گردن دادن ) و ( گرويدن ) و ( باور كردن ) فراجع كلماتهم.

وحينئذ نقول بان مثل هذا البناء والقصد لما كان قابلا للتعلق كما في بناء الغاصب على ملكية مال المغصوب في مقام البيع وكالبناء على ربوبية بعض المخلوقين وكالبناء على جزئية شيء للواجب في باب التشريع ، ومن جهة اختياريته كان قابلا لان يكون لصلاح في نفسه ، وأمكن أيضا ان يكون محكيا للامر موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فلا محالة أمكن توجيه كلماتهم الفاسدة بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد ، والإرادة على تلك الكيفية النفسانية بل عليه لا مجال للانكار عليهم أيضا بانا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض لما عرفت من وجود امر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد. وحينئذ فلو ادعى القائل بالمغايرة بان ما هو المسمى بالطلب عبارة عن مثل هذا القصد الذي هو بالضرورة غير الإرادة لايمكننا المسارعة في الرد عليهم بعدم وجدان امر وراء الإرادة والعلم والحب والبغض بل ولئن سلم مبانيهم الفاسدة لا مفر عن الالتزام بمقالتهم من المغايرة بين الطلب والإرادة. وحينئذ فاللازم هو إبطال أصل تلك المباني الفاسدة التي هي عبارة عن انكار التحسين والتقبيح العقليين ، وعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد ، وعن شبهة الأوامر الامتحانية التي أوجب مصيرهم إلى كون الامر لصلاح في نفسه لا في متعلقه ، وشبهة كون العباد مجبورين في أفعالهم الموجب لعدم امكان تعلق الإرادة بفعلهم.

فنقول : اما الأول فابطاله لايحتاج إلى البرهان بعد ثبوته بالوجدان وان كان ايكال من لا وجدان له إلى الوجدان غير خال عن المصادرة لكن تفصيله موكول إلى محله ، ونتيجة ابطال هذه المقدمة انما هو نفى كون الامر حاكيا عن البناء والقصد كما وجهنا به كلامهم ، وذلك انما هو لوضوح انه لايرى العقل حسن العقوبة على المخالفة بمحض كون المحكى بالامر هو البناء والقصد الخالي عن الإرادة ، بل في مثله عند فرض الخلو عن

ص: 167

الإرادة ترى حكم العقل بقبح العقوبة. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو حصر موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحسن العقوبة على المخالفة بنفس الإرادة الواقعية بما انها مبرزة بالامر ، فعند خلو المورد حينئذ عن الإرادة لا حكم للعقل بوجوب الإطاعة ولا يرى حسن العقوبة على المخالفة. واما دعواهم بانعزال العقل عن التحسين والتقبيح فغير مسموعة منهم ، كما هو واضح.

واما الثاني : فبطلانه أيضا واضح حيث إنه قد خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية ، فان ما يستحيل تخلفه انما هو الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، وما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه « انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » انما هو الأول دون الثاني ، على أن لنا أيضا المنع عن لزوم تخلف ارادته سبحانه عن المراد حتى في الإرادة التشريعية ، وبيانه يحتاج إلى مقدمة بها أيضا يتضح الجهة الفارقة بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، وهي ان كل آمر ومريد لفعل من الغير تارة يتعلق ارادته بحفظ وجود العمل على الاطلاق بنحو تقتضي سد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة العبد والمأمور ولو بايجاد الإرادة له تكوينا ، وأخرى تتعلق بحفظ وجوده لا على نحو الاطلاق بل في الجملة ومن ناحية ما هو مبادي حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال وهو طلبه وأمره. وحينئذ فإذا كانت الإرادة المتعلقة بفعل العبد من قبيل الأول فلا جرم لابد لا من سد جميع أبواب عدمه المتصورة حتى من جهة شهوة العبد ، وأما إذا كانت من قبيل الثاني فالمقدار اللازم انما هو حفظ وجوده بمقدار تقتضيه الإرادة ، فإذا فرض ان المقدار الذي تعلق الإرادة والغرض بالحفظ انما هو حفظ المرام من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال وما يرجع إلى نفس المولى من ابراز ارادته والبعث ، فالمقدار اللازم في الحفظ حينئذ انما هو ايجاد ما هو من مبادي حكم العقل بالامتثال لا ايجاد مطلق ما كان له الدخل في الحفظ حتى مثل شهوة العبد والمأمور ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت هذه الجهة نقول بان ما كانت منها من قبيل الأول فهي المسماة بالإرادة التكوينية وهي كما ذكر يستحيل تخلفها عن المراد إذ هي بعد تعلقها بحفظ الوجود بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات فلا جرم يكون ترتب وجود المراد عليها قهريا فيستحيل تخلفها عنه والا لزم الخلف ، واما ما كانت من قبيل الثاني فهي المسماة بالإرادة التشريعية ، ولكن نقول بان تلك أيضا غير متخلفة عن المراد فان

ص: 168

المفروض ان المقدار الذي تعلق الإرادة بحفظه انما هو حفظ المرام في الجملة بسد باب عدمه من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال لا حفظه بقول مطلق وهو يتحقق بابراز ارادته واظهارها بأمره وطلبه وبعثه بقوله افعل كذا ، ومن المعلوم بداهة انه على هذا أيضا لا تخلف لها عن المراد من جهة انه بابراز ارادته تحقق ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وانسد المقدار الذي كان المولى بصدد حفظه من جهته ، وحينئذ فلايكاد يضر مخالفة الكفار وأهل العصيان في الواجبات والمحرمات ، إذ لا يستلزم مخالفتهم تخلف ارادته سبحانه عن مراده ، كما هو واضح.

وحينئذ فتمام الخلط والاشتباه نشأ عن الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ومقايسة إحداهما بالأخرى ، فحيث ان الإرادة التكوينية يكون ترتب المراد عليها قهريا نظراً إلى تعلقها بحفظ وجوده بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات ، تخيل ان الإرادة التشريعية أيضا مثلها في عدم الانفكاك عن المراد ، وحينئذ فمن جهة مخالفة الكفار وأهل العصيان استشكل عليه الامر فالتزم فرارا عن الاشكال بالمغايرة بين الطلب والإرادة وان اللّه سبحانه وان أمر الكفار بالايمان وطلبه منهم ولكنه لم يرد منهم الايمان. ولكنك قد عرفت وضوح الفرق بينهما وانه لا مجال لمقايسة إحديهما بالأخرى ، فتأمل تعرف حقيقة الحال في إرادتك صدور حمل من عبدك من حيث كونك تارة بصدد حفظ مرامك وسد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة عبدك ولو بضربك إياه وجبره على الايجاد ولو بأخذ يده ونحو ذلك ، وأخرى في مقام حفظه من ناحية امرك إياه وابراز إرادتك باعتبار قيام المصلحة بالوجود في ظرف صدوره عن العبد عن إرادته واختياره لا مطلقا مع صحة مؤاخذتك إياه لو أمرته فخالف ولم يطع ، وهذا واضح لا سترة عليه.

وامّا صحة طلبه سبحانه الايمان والعمل بالأركان منهم حينئذ مع علمه الفعلي بعدم صدور الايمان منهم لعدم اختيارهم الايمان وإرادتهم العمل بالأركان ، فلأجل إعلامهم بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولئلايكون للناس على اللّه حجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة وانه سبحانه لم يكن ليظلمهم بل هم باختيارهم عدم الإطاعة يظلمون ، وفى الحديث ( ان أظلم الناس من يظلم على نفسه ).

ص: 169

واما الجواب عن شبهة الجبر فلم يتعرض الأستاذ له تفصيلا خوفا على بعض الطلاب من دخول بعض الشبهات في أذهانهم القاصرة بل وانما أحال الجواب إلى وقت آخر يقتضيه المقام ، نعم أفاد في دفع الشبهة وفسادها بنحو الاجمال محيلا ذلك إلى قضاء الوجدان بالفرق الواضح بين حركة يد المرتعش وحركة يد المختار ، وهو كما أفاد ( دام ظله ) حيث نرى ونشاهد بالوجدان والعيان كوننا مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وفى مقام الإطاعة العصيان وان مجرد علمه سبحانه بالنظام الأكمل غير موجب لسلب قدرتنا واختيارنا فيما يصدر عنا من الافعال والأعمال كما يقول به الجبرية ( خذلهم اللّه سبحانه ) بل كنا بعد مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وان عدم صدور العمل منا في مقام الإطاعة انما هو باختيارنا وعدم إرادتنا الايجاد لترجيحنا ما نتخيل من بعض الفوائد العاجلة على ما في الإطاعة من المنافع المحققة الآجلة الأخروية من غير أن نكون مجبورين في ايجاد الفعل المأمور به أو تركه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

والى ذلك أيضا يشير بعض ما ورد من النصوص عن الأئمة المهديين صلوات اللّه عليهم أجمعين بان كل مولود يولد على الفطرة الا ان أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (1) وان كل انسان في قلبه حين ولادته نقطة بيضاء ونقطة سوداء (2) وكان لقلبه أذنان ينفث في أحدهما الملك وفى الآخر الشيطان (3) وان لكل نفس مكانا في الجنة هو له إذا سلك سبل الخير ومكانا في النار إذا سلك سبل الشر. حيث إن افراد الانسان بأجمعها خلقت من نطفة أمشاج ومن رقائق العوالم العلوية والسفلية وخمرت طينته منهما ، فبعضهم باختيارهم لما لا حظ المنافع الأخروية ورجحها على ما يترائى في نظره من اللذائذ الدنيوية الفانية فسلك من هذه الجهة سبيل التوحيد كان سلوكه لسبيل التوحيد منشأ

ص: 170


1- الحديث منقول بالمعنى ولفظه على ما في صحيح فضل بن عثمان الأعورعن أبي عبد اللّه علیه السلام هكذا : « ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه » « الحديث ». رواه في الوسائل ، الباب 48 من أبواب الجهاد ، الحديث 3.
2- في خبر زرارة ، قال أبو جعفر علیه السلام : ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء « الحديث » أصول الكافي ، ج 2 ، ص 273 - الوسائل الباب 40 من جهاد النفس ، الحديث 14.
3- أصول الكافي : طبعة الآخوندي ، ج 2 ، ص 266.

لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه وانعدمت النقطة السوداء ، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل الشر ترجيحا لما يترائى في نظره من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه مسلك الشر منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه ، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من أهل الفسوق والعصيان من غير أن يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا ، كما لايخفى. والى ما ذكرنا أيضا لابد وان يحمل الخبر المعروف بان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه (1) حيث إنه على فرض صدوره عن الإمام علیه السلام وعدم كونه من الموضوعات ، محمول على تقدم علم سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات بعضهم الآخر اللذائذ الدنيوية على الفوائد الجليلة الأخروية ، والا فلابد من طرحه لمخالفته لما يحكم به بداهة العقل والوجدان ولما نطق به الكتاب السنة المتواترة.

وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة والعصيان ، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لايقدر عليه العباد ، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على ارادته واختياره في ايجاد الفعل المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل عدم تحقق علته التي هي ارادته للايجاد بسوء اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه سبحانه منه حينئذ مع علمه بعدم صدور الفعل منه من جهة عدم ارادته ، فهو كما تقدم لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلايكون لهم على اللّه سبحانه الحجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة من جهة اعلامهم بما فيه الصلاح والفساد ، فتدبر.

ص: 171


1- توحيد الصدوق ، الباب 58 ( باب السعادة والشقاء ) الحديث 3 وفيه عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ».

واما شبهة الأوامر الامتحانية فنقول في الجواب عنها : بان الأوامر الامتحانية على قسمين : الأول ما لايكون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه لا بعنوانه الأولى ولا بعنوانه الثانوي وهذا نظير ما لو كان الامر بالايجاد لمحض امتحان العبد وفهم انه هل كان بصدد الإطاعة والامتثال أم لا ، الثاني ما يكون مصلحة في متعلقه بالعنوان الثانوي وان لم يكن فيه مصلحة بالعنوان الأولى وهذا نظير ما لو كان الغرض هو امتحان العبد فيما يصدر منه من العمل كما في امر العبد بصنع الغليان والشاي مثلا لاختباره في أنه ماهر في ذلك لكي ينتفع به عند ورود الضيف عليه أو انه لايكون له المهارة فيه فإنه في هذا الفرض وان لم يكن في متعلق امره وهو الغليان مصلحة بعنوانه الأولى بل ولعله كان فيه مفسدة لما كان للمولى من وجع الصدر بنحو يضربه شرب الغليان والشاي ولكنه بالعنوان الثانوي كان فيه المصلحة وبذلك صار متعلقا لغرضه.

وبعد ذلك نقول : بان الأوامر الامتحانية ما كان منها من قبيل الثاني فنلتزم فيها بعدم انفكاكها عن إرادة العمل حيث نقول في مثلها بتعلق الإرادة الحقيقية من المولى بايجاد العمل من المأمور وانه أي المأمور يستحق العقوبة على المخالفة فيما لو خالف. واما ما كان منها من قبيل الأول الذي فرضنا خلو المتعلق عنه المصلحة بقول مطلق حتى بالعنوان الثانوي فمثلها وان كان خاليا عن الإرادة الحقيقية ولكنه نحن نمنع كونها طلبا وامرا حقيقيا أيضا حيث نقول بكونها حينئذ طلبا وامرا صوريا لا حقيقيا ، ومن ذلك أيضا نمنع موضوعية مثل هذه الأوامر لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانه لايكاد يحكم العقل فيها بوجوب الإطاعة ، ولذلك أيضا ترى ان المولى كان في كمال الجهد بان لا يطلع العبد بواقع قصده وكون امره لمحض امتحانه ، واما نفس الامتحان الذي هو الغرض من هذا البعث فهو أيضا غير متوقف على الامر الحقيقي بل هو يترتب بمحض تخيل العبد كونه أمرا حقيقيا ناشئا عن إرادة جدية متعلقة بالعمل وان لم يكن كذلك بحسب الواقع ونفس الامر بل كان أمرا صوريا ، كما هو واضح. وعلى هذا فما تخلف الطلب عن الإرادة في شيء من الأوامر الامتحانية كما توهمه الأشعري ، فإنه في مورد كان الطلب طلبا حقيقيا قد عرفت عدم انفكاكه أيضا عن الإرادة الحقيقية المتعلقة بايجاد العمل ، وفي مورد لايكون فيه إرادة حقيقية متعلقة بالعمل فلايكون الطلب أيضا طلبا حقيقيا بل طلبا صوريا ، فيبطل حينئذ دعوى الأشعري من مغايرة الطلب مع الإرادة وكان التحقيق

ص: 172

هو الذي عليه الجمهور من اتحاد الطلب والإرادة.

بقى شيء : وهو ان الطلب والإرادة بناء على اتحادهما كما هو التحقيق هل يمكن في مقام تعلقه بشيء ان يكون لمصلحة في نفسه أم لا بل لابد وأن يكون تعلقه بالشيء لمصلحة في ذلك الشيء؟ حيث إن فيه وجهين ، وربما يترتب عليه ثمرات مهمة ، منها في مسألة الملازمة المعروفة بين حكم العقل والشرع ، حيث إنه بناء على امكان ان يكون الإرادة لمصلحة في نفسها يسقط النزاع المزبور إذ حينئذ بمجرد درك العقل حسن شيء أو قبحه لايمكننا كشف حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة ، كما أنه كذلك أيضا في طرف العكس فإذا حكم الشارع بوجوب شيء أو حرمته لايمكن الكشف به عن حسن ذلك الشيء الذي امر به الشارع أو قبحه ، من جهة احتمال ان يكون حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة لمصلحة في نفس حكمه وطلبه. وهذا بخلافه على الثاني من كونه لمصلحة في متعلقه ، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لدعوى الملازمة خصوصا من طرف حكم الشرع ، فيتم ما بنوا عليه من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، إذ حينئذ بمجرد حكم الشارع في شيء بالوجوب أو الحرمة يستكشف منه لا محالة كشفا قطعيا عن حسن ذلك الشيء أو قبحه. نعم في تمامية تلك الملازمة من طرف حكم العقل فيما لو أدرك حسن شيء أو قبحه اشكال كما سيأتي ينشأ من عدم كون مجرد الصلاح في شيء علة لحكم الشارع فيه بالوجوب بل وانما غايته كونه مقتضيا لذلك فيمكن حينئذ ان يمنع عن تأثيره مانع أو مزاحم.

وعلى كل حال : فالذي يقتضيه التحقيق في أصل المسألة هو الوجه الثاني وهو لزوم كون الإرادة في مقام تعلقه بشيء لمصلحة في ذلك الشيء لا لمصلحة في نفسها ، والعمدة في ذلك انما هي الوجدان حيث يرى الانسان بالوجدان وماله من الجبلة والارتكاز في تعلق حبه أو بغضه بشيء انه انما يكون لما يجد في ذلك الشيء من الخصوصية الموجبة لملائمة النفس وانبساطها أو الخصوصية الموجبة لمنافرة النفس واشمئزازها ، وانه بدون تلك الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لايكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك الشيء بوجه أصلا ، كيف وانه لولا ذلك لاتجه عليه اشكال الترجيح بلا مرجح في الامرين المتساويين في جميع الخصوصيات بل في أمر واحد بأنه لم صار ذلك الشيء محبوبا لا مبغوضا؟ إذ حينئذ لا محيص الا من دعوى ان تعلق الحب والبغض بشيء انما هو

ص: 173

لخصوصية في ذلك الشيء أوجبت تلك الخصوصية انبساط النفس فتعلق به الميل والمحبة أو اشمئزازها فتعلق به المبغوضية. وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب والبغض فلا جرم يتبعهما الإرادة والكراهة أيضا فإنهما تابعتان لمقدماتهما التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له فلا تكون الإرادة أيضا في تعلقها بشيء الا لصلاح في نفس ذلك الشيء لا لصلاح في نفسها. وحينئذ ففي مثل هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في اثبات لزوم كون الإرادة لمصلحة في خصوص متعلقها وبطلان توهم كونها لصلاح في نفسها بلا احتياج إلى اتعاب النفس في إقامة البرهان عليه أيضا كما هو واضح.

ثم إن الظاهر أن عمدة المنشأ لتوهم امكان كون الإرادة لمصلحة في نفسها انما هو ملاحظة موارد الإقامة فيما لو كان قصد الإقامة لأجل ترتب حكم وجوب الصوم والتمام ، حيث إنه بعد أن يرى عدم ترتب حكم وجوب التمام على إقامة عشرة أيام خارجا ولا عليها مع القصد المزبور بشهادة ترتب حكم وجوب التمام بمحض تحقق قصد إقامة عشرة أيام منه في مكان مع اتيان صلاة أربع ركعات وان لم يتحقق منه في الخارج إقامة عشرة أيام بل زال قصده ونوى الخروج من محل الإقامة فخرج منه إلى مكان آخر تخيل من هذه الجهة ان ترتب حكم وجوب التمام ووجوب الصوم انما كان على مجرد قصد إقامة عشرة أيام وارادته ذلك لا على نفس الإقامة الخارجية ولا عليها والقصد المزبور ، فمن تلك الجهة استظهر حينئذ انه إذا أمكن في مورد تعلق الإرادة والقصد لا لصلاح في ذلك الشيء بل لصلاح مترتب على نفس القصد والإرادة كما في ناوي الإقامة عشرة أيام لأجل وجوب التمام فليكن كذلك في غير ذلك المورد أيضا ، لان الأمثال سواء فيما يجوز وفيما لايجوز ، فإذا جاز وأمكن في مورد يجوز ويمكن في جميع الموارد ، هذا.

ولكن نقول في دفع تلك الشبهة : بان ترتب وجوب التمام انما كان على نفس الإقامة الخارجية غايته لا على وجودها المنحفظ بقول مطلق حتى من غير ناحية القصد والإرادة بل على وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور فهو الذي كان موضوعا لحكم الشرع بوجوب الصوم والتمام ، فإذا انحفظ وجودها من الجهة المزبورة يترتب عليها الحكم بالتمام لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور ، وعلى ذلك فلايرتبط ذلك بمقام ترتب وجوب التمام على صرف القصد المزبور بوجه أصلا بل هو كما عرفت مترتب على نفس الإقامة

ص: 174

الخارجية ، وحينئذ فتعلق القصد بها من ناوي الإقامة انما هو جهة ما يرى بنظره من ترتب وجوب التمام على الإقامة ، فإنه بعد أن يرى ذلك يتعلق بها قصده وتتمشى منه الإرادة إلى وجودها وبمجرد تعلق قصده بها يتحقق ما هو موضوع حكم الشارع بوجوب التمام. نعم غاية ما هناك انه لابد حينئذ من جزم المكلف بانحفاظ وجود الإقامة عشرة أيام خارجا من سائر الجهات لكي يتحقق منه القصد إليها ويتمشى منه الإرادة إلى وجودها ، والا فبدون الجزم المزبور فضلا عن الجزم بالخلاف وخروجه في الأثناء عن محل الإقامة يستحيل تمشى القصد والإرادة منه إليها بوجه أصلا كما لايخفى ، وحينئذ فصح لنا ان نقول بقول مطلق : بان الإرادة لاتكاد تكون الا لمصلحة في متعلقها.

بقى شيء لايخفى عليك ان ما ذكرنا من لزوم تبعية الإرادة لمصلحة في متعلقها وامتناع كونها لصلاح في نفسها ليس المقصود منه هو عليه مجرد الصلاح في الشيء لتعلق الإرادة به كي يلزمه انه مهما وجد صلاح في فعل أو شيء لابد ان يكون هناك إرادة أيضا متعلقة بذلك الشيء كما لعله مبنى القائل بالملازمة ، بل المقصود من ذلك هو كون الصلاح في الشيء مقتضيا لتعلق الإرادة بذلك الشيء على معنى مؤثرية ذلك الصلاح الكائن في الفعل في توجه الإرادة الفعلية بذلك الفعل لولا وجود المانع أو المزاحم في البين.

فحينئذ فإذا كان الصلاح المزبور يتوقف تأثيره الفعلي في الإرادة بعدم وجود المانع أو المزاحم نقول : بان مانعية الشيء قد تكون في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية بل وفي مباديها من الرجحان والمحبوبية أيضا وقد تكون في تأثيرها في مقام ابراز الإرادة بالامر والبعث نحو المراد لا في أصل الإرادة الفعلية ، ويفرض الثاني فيما لو كان القصور من طرف المولى في عدم تمكنه من ابراز مقصده إلى المكلف والمأمور خوفا على نفسه أو على غيره ، كما يفرض ذلك فيما لو كان عنده عدو بحيث لو أبرز إرادته لعرض عليه الحسد وقتله في الحال ، ونحو ذلك من الأمور المانعة عن ابراز المقاصد ، كما أنه من هذا القبيل مسألة الدلالة على ولى اللّه على ما ورد من الأخبار الكثيرة بان النبي صلی اللّه علیه و آله كان مأمورا من قبل على نصب ولى اللّه بالخلافة من بعده لكنه صلی اللّه علیه و آله خوفا عن خروج الناس عن دينهم لم يظهر ذلك إلى أن نزلت قوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما انزل الخ. وعلى كل حال نقول : بأنه في مثل هذا الفرض لما كانت الإرادة الفعلية متحققة يجب على المكلف والمأمور عند علمه بإرادة المولى وفعليتها المبادرة باتيان ما هو مطلوب

ص: 175

المولى من جهة استقلال العقل حينئذ بلزوم الاتيان والإطاعة وعدم جواز المخالفة بمحض عدم ابراز المولى ارادته وعدم امره وبعثه نحو المراد ، كما هو واضح. فتمام المقصود من هذا الاطناب انما هو لزوم عدم الاعتناء بمثل هذا المانع وان وجوده كعدمه بنظر العقل فيما هو همه من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة.

نعم ما كان منها أي من الموانع من قبيل الأول الذي كان مانع عن تأثير المصلحة في أصل الإرادة خاصة أو فيها وفي ما هو من مباديها من الرجحان والمحبوبية ، كما في مسألة الضد المبتلى بالأهم ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى ، حيث إنه في الأول يؤثر المانع في عدم تعلق الإرادة بالهم وفى الثاني في عدم الرجحان والمحبوبية الفعلية ، ففيها لا مجال لوجوب الاتيان وحرمة المخالفة ، من دون فرق بين ان يكون المانع راجعا إلى المكلف والمأمور كما في المثال حيث كان المانع عن توجه الإرادة الفعلية نحو الضدين هو عدم قدرة المأمور على الامتثال ، أو كان المانع راجعا إلى المولى. كما لولا حظ المولى في عدم إرادة الفعل الذي فيه صلاح مصلحة أهم كانت في نظره من مثل مصلحة التسهيل على العباد على ما ينبئ عنه مثل قوله صلی اللّه علیه و آله ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) حيث إنه يستفاد منه ان المصلحة الكائنة في السواك مصلحة ملزمة ولكنها لمزاحمتها لمصلحة التسهيل رخص الشارع في تركه وما أوجبه على المكلفين.

وعلى ذلك ربما يترتب أيضا مبنى انكار قاعدة الملازمة المدعاة بين حكم العقل والشرع ، إذ على هذا البيان يتوجه على القاعدة المزبورة ان مجرد درك العقل حسن الشيء أو قبحه لايوجب كشف حكم شرعي على طبقه بالوجوب أو الحرمة من جهة احتمال مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخرى في نظر الشارع أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أوجبت تلك المصلحة الترخيص على خلاف ما يقتضيه مصلحة الفعل. وحينئذ فمع هذا الاحتمال كيف يمكن كشف الحكم الشرعي من الوجوب أو الحرمة على طبق ما أدركه العقل والحكم بوجوبه وحرمته ، كما هو واضح. نعم في مقام العمل أمكن لنا دعوى وجوبه عملا من جهة قاعدة المقتضى والمزاحم على ما تقرر في محله : بأن العقلاء بعد احرازهم وجود المقتضى للشيء في مقام يجرون عملا على طبق ذلك المقتضى من دون اعتنائهم باحتمال وجود المانع أو المزاحم في البين ولو في مورد لم يكن هناك أصل يقتضى التعبد بعدمه كما هو واضح ، فتدبر.

ص: 176

المبحث الثاني
اشارة

فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه أيضا جهات من البحث.

الجهة الأولى : في بيان مدلول صيغة الامر

فنقول : انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة : منها الطلب. ومنها الترجي والتمني كما في قول الشاعر :

الا يا أيها الليل الطويل الا انجلى

بصبح وما الاصباح منك بأمثل

ومنها التهديد كقوله سبحانه : « اعملوا ما شئتم » (1). ومنها الانذار ومنه قوله تعالى : « قل تمتع بكفرك قليلا » (2) ، « وتمتعوا في داركم ثلاثة أيام » (3). ومنها التسخير والإهانة والتسوية كقوله سبحانه : « كونوا قردة خاسئين » (4) ، وقوله تعالى : « اخسئوا فيها ولا تكلمون » (5) ، وقوله عز من قائل : « فاصبروا أو لا تصبروا » (6). ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجب ونحوها مما هو مذكور في المطولات.

ولكن التحقيق خلافه وأنه لايكون دلالة للصيغة بنفسها على شيء من المعاني المزبورة ما عدا المعنى الأول وهو الطلب ، بل ولا كانت الصيغة مستعملة في شيء منها بوجه أصلا ، بل ما هو مدلول الصيغة لايكون الا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أو

ص: 177


1- سورة فصلت ، الآية 40.
2- سورة الزمر ، الآية 8.
3- سورة هود ، الآية 65.
4- سورة الأعراف ، الآية 166.
5- سورة المؤمنون ، الآية 108.
6- سورة الطور ، الآية 16.

النسبة الارسالية كما سنحققه وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة القرائن الخارجية المقتضية لها لا من جهة ان الصيغة قد استعملت فيها ، كما هو واضح. ولقد أجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بلا مدخلية لتلك المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ ، فان تلك على ما أفاده هو قدس سره من الدواعي من حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو التهديد وأخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة التعجيز وخامسة غير ذلك ، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا ، كما هو واضح.

نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية؟ أو انها موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية وان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينها إن شاء اللّه.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، ووجهه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر والافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين ونحوها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ عليه نقول : بان صيغة اضرب مثلا لما كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لاتدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين المبدء والفاعل ، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي ، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي ، وحينئذ فلايكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية قدس سره وعليه فلابد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشي هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري ، ففي الحقيقة منشأ هذا التلازم انما هو التلازم الخارجي بين منشئيهما وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الخارجية وعدم انفكاك أحد الامرين عن الآخر ، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم وكان المفهوم وجها لمنشأه وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الحقيقية ملازمة في مرحلة الخارج فينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين من جهة كونه وجها لمنشئه إلى مفهوم الآخر كذلك ( يعني من حيث كونه أيضا وجها لمنشئه ) بانتقال

ص: 178

تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج أصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده خارجا ، نعم في مقام التصديق لابد من احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل ليحرز به وجود الإرادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة. فعلى ذلك فدلالة الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة كونه بنفسه هو المدلول للصيغة ، وبين الامرين بون بعيد.

نعم جعل الطلب مدلولا بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية قدس سره في المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في الحروف والأسماء وجعل الفارق بينهما بلحاظ الآلية والاستقلالية ، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما كما سلكناه بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والإضافات الخاصة المتقومة بالطرفين لا محيص من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة الارسالية الايقاعية ، وعليه فكان دلالتها على الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول كما شرحناه لا من جهة كونه هو المدلول لها كما لايخفى. نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل : وهو أصالة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال وكون الداعي عليه هو الإرادة الحقيقة للفعل دون غيرها من الدواعي ، كما هو واضح.

الجهة الثانية

انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة ، فهل هي حقيقة في خصوص الطلب الإلزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق الجامع بين الإلزامي والاستحبابي؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟ فيه وجوه : أضعفها الأخير. فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص الطلب الإلزامي. وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي بما تقدم سابقا في مادة الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله صلی اللّه علیه و آله لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ونحو هما. ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده. نعم ظهورها في خصوص الوجوب عند اطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث لا تأمل لاحد من

ص: 179

الأصحاب في حملها على الوجوب عند اطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة وتسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو الوضع أو قضية الاطلاق بأحد التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها ، إذ لايترتب عليه فائدة مهمة بوجه أصلا ، وان لم يبعد دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا خصوصا بعد ما يرى من صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه.

واما التشبث بأصالة عدم القرينة لا ثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت الجواب عنها بأنها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلاء في كشف المرادات لا في تعيين الأوضاع ، حيث إنه لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ باطلاقها حتى في تعيين الأوضاع.

لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظراً إلى ما هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الأزمان المقتضي لكون وضعها لخصوص الطلب الإلزامي ، فتدبر.

الجهة الثالثة

إذا وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله : تغتسل ، وتعيد الصلاة ، ويتوضأ ، وقوله علیه السلام : إذا حال الحول اخرج زكاته ، ونحو ذلك فلا اشكال في أنه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من موارد الاخبار ، بل وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل ، وانما الكلام والاشكال في أنها هل كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما هو مفاد الصيغة مجازا؟ أو انها مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة الايقاعية لكنه بداعي إفادة ملزومه وهو الطلب والبعث؟ نظير باب الكنايات كما في قولك : زيد كثير الرماد ، مريدا به إفادة ملزومة الذي هو جوده وسخائه ، حيث إن استعمالك ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي هو جوده وسخائه ففي المقام أيضا كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل

ص: 180

في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو العبث والطلب ، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها في معناها الحقيقي الاخباري وكان الغرض والداعي من الاستعمال أيضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث والارسال كما هو قضية الوجه الثاني ، ولكن اعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الإرادة والطلب كما هو الشأن في غير المقام من موارد الاخبار بوجود المقتضي ( بالفتح ) عند تحقق مقتضيه ، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجيء المطرو برودة الهواء أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات. ففي المقام أيضا نقول : بان المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وارادته للفعل علة لصدوره من المكلف ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلا جرم فيما يرى طلبه متحققا يرى كأنه وجود المقتضي ( بالفتح ) وهو العمل في الخارج ، فمن هذه الجهة يخبر بوقوعه من المكلف بمثل قوله : تعيد الصلاة وتغتسل. فهذه وجوه ثلاثة :

لكن أضعفها أولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الأول بين الوجهين الأخيرين.

وعند ذلك نقول : انه وان كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الأوجه هو الوجه الأخير بملاحظة أقر بيته إلى الاعتبار والوجدان وشيوعه أيضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم الآثار على الأشياء التي منها الاخبار بوقوعها بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها ، كما كان من ذلك أيضا اخبار أهل النجوم بتحقق أمورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها ، كما هو واضح. وعلى هذا البيان أيضا ربما كان دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظراً إلى اقتضاء الاخبار بوجود الشيء وتحققه وجوبه أيضا ، بلحاظ ان الشيء ما لم يجب لم يوجد. فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فإنه لم يكن بتلك المثابة من المناسبة مع الاخبار ، وهذا بخلافه في الصيغة فإنها ليست بتلك المثابة من الآكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب أيضا.

نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصححية مجرد وجود الإرادة وتحققها للاخبار

ص: 181

بوجود الفعل من المأمور والمكلف ، وذلك بتقريب ان الإرادة الواقعية لا تكون مما لها الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال كي بهذه العناية كانت مصححة للاخبار بوجود العمل والمقتضي وتحققه من المكلف ، بل وانما تمام العلة لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث إنه بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في الواقع إرادة للمولى أصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا ، وبدون علمه بإرادة المولى لايكاد حكم عقله بالإطاعة بوجه أصلا ولو فرض ان إرادة المولى كانت متحققة في الواقع ونفس الامر. وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو الإرادة بوجودها العلمي لا الواقعي يتوجه عليه : بأنه حين الاخبار حيثما لايكون للمكلف علم بالإرادة كما هو المفروض فأين المصحح لاخباره بعد فرض عدم مدخلية للإرادة الواقعية ولو بنحو الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة؟ هكذا أورد عليه الأستاذ.

ولكن نقول : بان إرادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لاعلام المكلف والمأمور به ، وكان الاعلام سببا لحكم عقله بالإطاعة ، وحكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق العمل منه في الخارج ، فقهرا بهذه السلسلة الطولية تكون الإرادة سببا ومقتضيا لوجود العمل وتحققه ، ومعه نقول بأنه يكفي هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار ، كما هو واضح.

وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله أوجه من الوجوه المتقدمة ، وهو ان يقال : بان استفادة الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بايقاع النسبة التي هي مدلول الجمل ، وذلك أيضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والإرادة ، بتقريب : انه كما أن اخراج المبدء من كمون الفاعل خارجا وايقاع النسبة بينه وبين الفاعل في الخارج ملازم مع إرادة الوجود ولايمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة الايقاعية الذهنية ، فإذا كان المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي ملازمته مع إرادة الوجود من المكلف ، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في تلك الجمل هو النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بايقاع تلك النسبة الايقاعية في مقام استعمال الجملة الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل

ص: 182

الاخبارية ، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بايقاع النسبة أيضا عن قصد الانشاء بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت ، كما لايخفى. ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع.

الجهة الرابعة

هل اطلاق الصيغة يقتضي التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيفما اتفق في سقوط الغرض الداعي على الامر به؟ أم يقتضى التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا اتى عن داع قربى؟ وعلى فرض عدم اقتضائه لشيء من الامرين فهل الأصل العملي يقتضي التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به الا باتيانه عن داع قربى أم لا؟ فهنا مقامان :

المقام الأول : فيما يقتضيه الاطلاقات والأصول اللفظية ، وتوضيح المرام في هذا المقام يقتضي رسم أمور :

الأول : فنقول : انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان الواجب التعبدي هو الذي لايكاد حصول الغرض الداعي على الامر به الا باتيانه على وجه قربى ، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به بمجرد وجوده وتحققه كيفما اتفق ولولا يكون الاتيان به عن داع قربى بل ولو كان حصوله من غير إرادة المكلف واختياره ، كما في مثل غسل الثوب من الخبث حيث إنه بمحض تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به أيضا ولو كان ذلك بمثل اطارة الريح إياه في الماء. نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لابد من إتيان العمل عن داعي أمره سبحانه ، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على عنوان الإطاعة وهذا العنوان مما لايكاد تحققه الا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى ، لكن مجرد ذلك لايقتضي تعبديته ، حيث إن المدار في التعبدية والتوصلية على امر آخر قد ذكرناه.

ثم إن ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو أجود التعاريف وأحسنها ، لا ما قيل في تعريفهما : بان الواجب التعبدي هو ما لايعلم انحصار المصلحة فيه في شيء والتوصلي بخلافه ، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي

ص: 183

لايعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شيء ، على أن التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما هو المهم في مثل المقام ، حيث إن المهم والمقصود من التعبدي في المقام هو الذي لايحصل الغرض الداعي على الامر به ولايسقط امره الا باتيانه على وجه قربى ، ويقابله التوصلي الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيفما اتفق ، كما هو واضح.

الامر الثاني : لايخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من امكان اخذ القربة قيدا للمأمور به أو عدم امكانه انما هو مجرد اثبات امكان التمسك بالاطلاقات ، لا فعلية التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما ذكرناه سابقا في مسألة الصحيح والأعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة التمسك بالاطلاقات نظراً إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في مقام البيان بل في مقام أصل تشريع المركب ، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك بالمطلقات انما كانت مبنية بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان ، فتدبر.

الامر الثالث : وهو العمدة في الباب ان عبادية الشيء وما به قوام كون الشيء عبادة عبارة عن كون الشيء من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى المولى ، ومرجعه إلى كون الشيء بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه. وحينئذ نقول : بان مثل هذا المعنى تارة يكون جعليا وأخرى ذاتيا ، ومن قبيل الأول الأمور الموضوعة ابزارا للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلاء لان تكون آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض الطوائف ورفع اليد إلى الاذن عند طائفة أخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد عند طائفة ثالثة ، وهكذا غير ذلك من الأمور المجعولة عند العرف والعقلاء آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية ، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الأمور وكونها آلات للعبودية مجرد اتيانها بقصد كونها خضوعا وتعظيما ، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان تعظيما وخضوعا ، نظير الصلاة مثلا ، حيث إنه بمجرد اتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد كونها تعظيما ، كما في القيام للغير بقصد التعظيم ، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع ، كما أنه يكفي أيضا في مقربية مثل هذه الأمور مجرد اتيانها للمولى وتخصيصها له بلام الصلة بجعل خضوعه له دون غيره ، من دون احتياج في مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى اتيانها بداعي أمرها وجعل اللّه سبحانه غاية عمله ، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية

ص: 184

بنفس اتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره ، كما هو واضح. نعم يحتاج في مقربية هذه الأمور فعلا ان لايكون مخلا بغرض المولى من جهة أخرى ومبغوضا فعليا للمولى والا فلايكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه أصلا وان لم تخرج بعد أيضا من جهة عباديتها ، إذ كان مثل هذه الأمور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى ، ومن ذلك أيضا نقول بامكان حرمة العبادة ذاتا من غير أن تكون جهة حرمتها ومبغوضيتها منافية مع عباديتها وان كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لابد في مقربيتها ان لا تكون مبغوضة للمولى. نعم كما عرفت لايحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى ، من جهة ان مقربية مثل هذه الأعمال كانت مستندة إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن ايجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى باتيانها ، كما هو واضح.

ثم إن في قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف أخرى ذاتية غير جعلية وهي مطلق ما امر به بداعي امره فان كون مثل هذه الأعمال من وظائف العبودية انما هو ذاتي لا جعلي كما في القسم الأول وكان مقربيتها أيضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية بوجه أصلا ، لأنه من المستحيل حينئذ توجه النهى إلى مثل هذا العنوان الذي اخذ في حقيقته تعلق الامر بذاته وحينئذ فلايمكن انفكاك عباديتها عن جهة مقربيتها. بخلاف الوظائف الجعلية ، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان ، ولذلك قلنا بامكان الالتزام بحرمة العبادة ذاتا كما في صلاة الحائض بلا احتياج إلى ارجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.

ثم انه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في مقربيتها مجرد اتيانها لله بلام الصلة ، واما في الوظائف الغير الجعلية فلايكفي هذا المقدار في مقربيتها بل لابد في مقربيتها من اتيانها بداعي أمرها وجعل اللّه سبحانه غاية عمله الراجع إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى ، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين من القرب! من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام الصلة للمولى في أحدهما وعدم كفايته في الآخر ولزوم الاتيان به بداعي امره.

ومن الجهات الفارقة أيضا بينهما انه على الأول يختص بخصوص بعض الأعمال المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع الأعمال ، بخلافه على الثاني ، فإنه عليه

ص: 185

لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الأعمال التي أمر المولى بها ، فكل عمل أو فعل أمر المولى به إذا اتى به بداعي أمره كان مقربا ولو كان من الافعال العادية من نحو الأكل والشرب وغيرها ويحكم العقل أيضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.

ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين أيضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل الخضوعات الجعلية نظراً إلى كونها قابلة للنيابة والتسبيب فإنه حينئذ بنفس نسبتها إلى الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر ، فإنه لا شبهة حينئذ في أنه إذا خضع المأمور لزيد أو قبل يده عن قبل الآمر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان ذلك الغير أيضا هو المتقرب بعمله ، بل ربما لايحتاج إلى الامر أيضا فيتقرب بعمل غيره عنه بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب منه كما لو خضع أحد لزيد وقبل يده عن قبل الغير فإنه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوعا له لا للفاعل فكان الفاعل بمنزلة الآلة لايجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذا الخضوع إلى شخص الفاعل بوجه أصلا.

وحينئذ نقول : بأنه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية ، فليكن كذلك في العبادات أيضا ، فكان النائب إذا اتى بما هو آلة الخضوع ولو بجعل الشارع كالصلاة والصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن بقل الغير يقع هذه الخضوعات حقيقة لذلك الغير وكان هو المتقرب بعمل النائب لكن مع تسبيبه إياه في ايجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا أقل من رضائه بذلك ، ففي الحقيقة مقربية هذه الخضوعات للغير منوطة بأمرين : أحدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله ، وثانيهما رضاء ذلك الغير وطيب خاطرة به بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له ولما كان متقربا به ، فإذا تحقق الأمران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير ، وعليه فلا يرد اشكال في باب النيابة في العبادات. وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر إذ عليه كان امر تصحيح النيابة في العبادات في غاية الاشكال نظراً إلى استحالة صدور مثل هذا المعنى عن النائب ، إذ الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو متوجه إلى المنوب عنه دون النائب ، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي

ص: 186

أمرها؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟.

لايقال : هذا كذلك لولا دليل التنزيل والا فبملاحظة دليل التنزيل لا اشكال في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره إليه من جهة صيرورته هو إياه بهذا لاعتبار ، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا للمنوب عنه.

فإنه يقال : كلا ، وان مجرد التنزيل لايوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر المتوجه إلى المنوب عنه إليه ، وفي مثل ذلك نقول : بان اتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو اثر لكان مؤثرا في مقربية نفس النائب دون المنوب عنه ، لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة ، وفي مثله يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة ، كما هو واضح. وتنقيح المرام بأزيد من ذلك موكول إلى محله ، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة من الخضوعات الجعلية والخضوعات الغير الجعلية والإشارة إلى امكان تصحيح النيابة في العبادة في الأمور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في الخضوعات الغير الجعلية وهي العبادة بداعي الامر.

ثم هنا شيء ، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان بها لله بلام الصلة لا الغاية إلى احراز كونها من قبيل القسم الأول ، والا فمع الشك فيها في أنها من قبيل القسم الأول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمره أو من قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته ، يشكل جواز الاكتفاء بها باتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه ، نعم غاية ما هناك حينئذ في احراز كونها من قبيل الأول انما هو التشبث بمثل أدلة النيابة في موارد ثبوت مشروعيتها في أبواب العبادات وذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية ، فتأمل.

ثم إن هنا جهات أخر من القرب أيضا ، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه الذاتي الذي هو ملاك الامر به ، فان الظاهر كما سيأتي في مبحث الضد هو كفاية مجرد الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا احتياج إلى الامر الفعلي بها.

ص: 187

وبعد ما عرفت ذلك نقول : انه لا اشكال في جواز اخذ القرب بغير معنى دعوة الامر في المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي ، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة اتيانها لوجهه الاعلى. وانما الكلام والاشكال في امكان اخذ القرب الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز اخذ مثل القرب الناشي عن داعي الامر في المأمور به وعدم جوازه يظهر أيضا حال اخذ الجامع بين هذا القرب والقرب الناشي عن اتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشي من دعوة الملاك والمصلحة ، من حيث جواز اخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الامر ، لأنه إذا لايجوز اخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به لايجوز اخذ جامع القرب الناشي من دعوة الامر ومن دعوة الرجحان والمصلحة ، كما هو واضح.

وبعد ذلك نقول : بان التحقيق كما عليه أهله هو عدم جواز اخذ القرب الناشي من دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر ، لان القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه ، ولازمه هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر ، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم عليه : بأنه عقيب الامر ومترتب عليه ترتب المعلول على علته ، وحينئذ فمع كونه مرئيا في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع هذا الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟.

ولا مجال أيضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية أيضا جزء للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بأنه حيث يجوز ذلك بلا اشكال يجوز أيضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من وضوح الفرق بين البابين ، من جهة ان اخذ العلم جزء للموضوع انما هو بلحاظ امر آخر وهو حكم وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب ، وأين ذلك والمقام المفروض فيه اخذ الدعوة الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر! فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه واستحالته.

واما ما يتوهم من امكان تصحيح ذلك بنحو اخذ الطبيعي في متعلقة القابل

ص: 188

للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة الدعوة كما أنه يمكن له أيضا ان يأمر بما تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر ، وحينئذ فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور لأنه من افراده ومصاديقه ، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لا من طرف المأمور ولا من طرف الآمر ، اما عدم محذور فيه من طرف المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به ، واما من طرف الآمر فكذلك لما ذكرنا من امكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وامكان الامر أيضا بما تصوره من الموضوع المقيد ، واما شبهة محذور كون الشيء في رتبتين فيدفعه أيضا اختلاف الظرفين والوجودين ، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة بحسب الوجود الخارجي وما هو مأخوذ في متعلق الامر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هي الدعوة بوجودها ذهنا ولحاظا ، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور أيضا.

فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد أن كانت مرئية بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص هذا الامر المتعلق بالمقيد ، فلا جرم يرى كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا المصداق وانطباقه عليه خارجا ، إذ ذلك حينئذ بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشي عن الامر به ، كما في قوله : يجب الصلاة المتقيدة بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب ، فكما انه بالتحديد المزبور تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك أيضا بتحديد العقل إياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة ، فان قضية ذلك أيضا توجب ضيقا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام بباب الاغراض والغايات الداعية على الأعمال من حيث كونها متقدمة على الإرادة لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا ، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين ، فإنه في باب الاغراض والغايات انما يكون ترتبها على موضوع الإرادة لا على نفسها ، كما هو الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح الإرادة من

ص: 189

تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا اللحاظ على شخص الامر ، وهذا هو الذي قلنا باستحالة اخذ مثله قيدا في موضوع شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، فإنه في مثله يستحيل شمول القيد المزبور ولو بلحاظه بنحو الطبيعي لمثل هذا الفرد الناشي عن قبل الامر المزبور ، كما هو واضح. وعلى ذلك نقول : بأنه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظراً إلى أنه لا امر آخر في البين كي يتمكن المأمور من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر ، واما شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه. وعليه فلا محيص بناء على اخذ الدعوة في المأمور به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين : يكون أحدهما متعلقا بذات المأمور به والآخر في طول الامر الأول باتيانه بداعي أمره ، والا ففي فرض وحدة الامر يستحيل اخذ دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو واضح.

نعم لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى شخص نفسه ، كما قيل ، بتقريب : ان المأمور به بعد أن كان عبارة عن الذات المتقيدة بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعوا إلى ذات المقيد وهي الصلاة مثلا كذلك يدعوا إلى قيد ها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول : بأنه يمكن دفع هذا المحذور من جهة انحلال الامر إلى أمرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة : متعلقة إحديهما بذات المقيد والأخرى بقيد الدعوة ، حيث نقول حينئذ : بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى دعوة تلك القطعة الأخرى من الامر الضمني المتعلق بذات المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد إلى أمرين ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين ، فكما انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر فأمكن تعلق أحد الامرين بذات المقيد والآخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لاتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا كلام ، كذلك بناء على الانحلال ، لان لام انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني بذات المقيد وتعلق امر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما في صورة استقلال الامرين ، فكان

ص: 190

الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى ايجاد ذات المقيد عن داعي الامر الضمني المتعلق به ، ومعه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة شخصه ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جزء كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فباتيان ذات الصلاة عن دعوة الامر الضمني المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به أيضا ، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من الامتثال أيضا كما ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها إذ نقول : بان مثل هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط الامر عنه إلى قصد الامتثال ، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفي نحققه كيفما اتفق ، وفي مثله نقول : بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بمكان من المقدورية للمكلف بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظراً إلى توصليتها وتحققها بنفس الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الآخر توصليا ولكن نقول : بأنه لا ضير في الالتزام بمثله ، فتأمل. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم امكان أخذ دعوة الامر قيدا في موضوع هذا الامر.

ثم إن ما ذكرناه من الاشكال جار في الإرادة أيضا حرفا بحرف ، ففي لب الإرادة أيضا لايمكن اخذ دعوة الإرادة في موضوعها بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو الحال بالنسبة إلى مرحلة الرجحان والمصلحة أيضا حرفا بحرف.

ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم امكان اخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا يلزم منه تعلق الامر والإرادة بنفس ذات العمل مطلقا ولو منفردة عن الدعوة كما توهم بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو سقوط الامر بالاتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان الغرض بعد على حاله يحدث امر آخر متعلقا بالعمل وهكذا إلى أن يؤتى بداعي امره فيحصل الغرض ويسقط الامر ، إذ نقول : بأنه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في العبادات بنفس الذات ولو مجردة عن الدعوة ، بل قيامه بالذات مع الدعوة ، فلا جرم في مثله يستحيل أوسعية دائرة الإرادة والامر عن دائرة قيام الغرض والمصلحة ، بل في مثله

ص: 191

بمقتضي تبعية الإرادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الإرادة والامر أيضا حسب تضيق دائرة الغرض والمصلحة بنحو لايكاد تعلقها الا بالذات التوئمة مع الدعوة ، وعلى ذلك فموضوع الإرادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لايكون مطلقا أيضا بل هو انما يكون عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة ، ومنشأ هذا الضيق كما عرفت انما هو من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة وعدم سعته للشمول لحال خلو المتعلق عن الدعوة ، حيث إنه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق أيضا في ناحية الإرادة والامر بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع ، كما هو واضح. وحينئذ فاذن لايكون موضوع الامر والإرادة مطلقا ، فلا جرم باتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لايسقط أيضا أمره ، إذ سقوطه حينئذ انما هو باتيان العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان الامر والإرادة على حاله ، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث امر جديد ، كما هو واضح.

نعم هنا تقريب آخر لعدم اطلاق دائرة المأمور به ، ولكنه يختص بخصوص الامر ولا يتأتى بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الرجحان والمحبوبية ، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان الغرض من الامر المولوي والبعث الذي هو ابراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره ومحركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها من الدواعي فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو الامر أيضا فلايكون له سعة اطلاق أزيد من دائرة الغرض ، ولازمه قصوره عن الشمول للعمل المأتى عن غير دعوة الامر ، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه أيضا عبارة عن الحصة المقرونة بالدعوة ، فلايكون مطلقا ولا مقيدا بالدعوة أيضا.

بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات أيضا ، حيث إنه بالتقريب المزبور نثبت عدم انفكاك الامر فيها أيضا عن الدعوة كما في العبادات ونقول بعدم انطباق عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتي به عن غير دعوة الامر ، ولذا لايستحق المثوبة على الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولايكاد يصدق عليه عنوان الإطاعة ، ومجرد حصول الغرض الأصلي وسقوط الامر بمجرد تحقق العمل في الخارج كيفما اتفق ولو في فرض وجوده باختيار الناشي عن دعوة شهوته لايقتضي تعلق امره بوجود المطلق و

ص: 192

لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف ، كما هو واضح.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الإرادة وكذا مباديها من الشوق والمحبة ، ووجهه ظاهر من جهة ان الإرادة وكذا مباديها امر قهري ناش عن قيام الغرض والمصلحة في المتعلق ، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده لا باختيار المكلف وباختياره الناشي عن دعوة شهوته يتبعه الإرادة أيضا قهرا كما في الواجبات التوصلية ، فان الغرض والصلاح فيها لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت الإرادة أيضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فإنه لما كان فعلا اختياريا لايكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها ، بل تبعيته انما كانت للغرض المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية ، ومن هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق الواجبات حتى التوصليات ، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولولا مقيدا بها ، كما عرفت.

وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهما في كون المأمور به بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الإرادة ومباديها ، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا مطلقا كانت الإرادة وكذا مباديها أيضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها ، بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة كانت الإرادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة أيضا متعلقة بمطلق وجوده ، لكن بالنسبة إلى مقام فعلية الإرادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركين في عدم تعلق الامر الا بالحصة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه من أن غرض الآمر من الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة متعلق الامر وتخصيصه بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشي عن شهوته ، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للامر في مقام امره ، فتدبر.

فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الامر وشخصيته ، ولقد عرفت في مثله لزوم تجريد متعلق الأوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي الامر شخصيا أم طبيعيا ، من جهة امتناع اخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.

واما بناء على تعدد الامر والإرادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في

ص: 193

المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الآخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي أمرها ، حيث إنه لا يرد عليه حينئذ ما ذكرناه من الاشكال في صورة وحدة الامر ، فإذا يرى المولى بان الحصة من الذات الملازمة مع داعي الامر فيها الغرض والمصلحة ، يترشح نحوها الإرادة قهرا من قبله ، ثم بعد ما يرى أن لداعويته أيضا دخلا في الغرض يترشح إرادة أخرى في طول الإرادة الأولى نحو هذا الداعي ، بل مثل هذا المعنى مما لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث إنه لايمكن تصحيحه الا بالتزام بتعدد الإرادة في مقام اللب.

نعم هنا اشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الامر الثاني ، ببيان ان الامر الأول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة ولو مع عدم قصد امتثاله كما هو قضية الامر الثاني من فرض توصليته واما ان لايسقط بمجرد الموافقة والآتيان بذات العبادة بدون قصد امتثاله ، وعلى التقديرين لا مجال لا عمال المولوية في الامر الثاني ، وذلك اما على الأول فواضح من جهة انه بعد سقوط الامر الأول لايبقى مجال لموافقة الامر الثاني نظراً إلى عدم امكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة بنفس العمل وحينئذ فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور ، واما على الثاني فكذلك أيضا وذلك لان عدم سقوط امره حينئذ ليس الا من جهة عدم حصول غرضه الداعي على الامر به ، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه. وحينئذ نقول : بأنه إذا كان الوجه في عدم سقوط الامر الأول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به عن قصد الامتثال بنحو يحصل معه غرضه ، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر في الوصلة إلى تحصيل غرضه باعمال جهات المولوية في امره ، لان الامر المولوي انما يتعلق بشيء لايكون في البين داع عقلي على تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لايبقى مجال لأعمال المولوية ، كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذا الاشكال ، إذ نقول ، بأنه لو تم هذا الاشكال فإنما هو على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها ، والا فبناء على مبنى البراءة كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى فلا موقع لهذا الاشكال ، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى

ص: 194

من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا ، وبيانه انما هو بأمره به مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان ، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد أخل بما هو مرامه وغرضه ، ومن المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره ، إذ لا نعني من الامر المولوي الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان ، كما هو الشأن أيضا في الامر الأول المتعلق بذات العبادة ، فكما ان الامر الأول امر مولوي ورافع لموضوع حكم العقل بالبرائة بلا كلام ، كذلك الامر الثاني المتعلق بقصد الامتثال فهو أيضا امر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية لرفع موضوع حكم العقل بالبرائة.

نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه الاشكال المزبور ، إذ يمكن أن يقال حينئذ بأنه بعد حكم العقل واستقلاله بالاشتغال لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه ، من جهة إمكان اتكاله حينئذ على قضية حكم العقل بالاشتغال ، ومعه لا يلزم من عدم بيانه اخلال منه بغرضه كي يجب عليه البيان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك أيضا ، إذ نقول حينئذ : بأنه على هذا البيان وان لم يجب على المولى الامر المولوي بداعي الامر ، من جهة جواز اتكاله على حكم العقل بالاشتغال ، الا انه لو أمر بها حينئذ لا يلزم منه اللغوية ، كيف وان للمولى حينئذ بيان كل ما له الدخل في تحقق غرضه بالامر به ، ويكفي في فائدته ارتفاع موضوع حكم العقل بالاشتغال ، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال كحكمه بالبرائة انما هو في ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع حكم عقله بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبرائة. نعم لو انحصر فائدة الامر المولوي باحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لأمكن دعوى لغوية امره مولويا مع حكم العقل الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك ، بل نقول : بان من الفوائد أيضا اعلام المكلف بما له المدخلية في حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو واضح. وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر أمرا مولويا لا ارشاديا. نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به ، فإنه في هذا الفرض يصير أمره الثاني لغوا محضا ، ولكن الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا

ص: 195

في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشيء ، فإنه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع دون غيره ، كما هو واضح ، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي الامر المتعلق بها ، كما هو واضح.

ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر ، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية أخيرا : بأنه من المقطوع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد ، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله : صل أو يجب الصلاة ، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول بعنوان داعي الامر ، كما نظيره في مثل قوله علیه السلام ( إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله ( وجب ) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.

ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث نقول فيها أيضا : بان الأثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر ، كيف وانه على هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال : بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام علیه السلام انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي ، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب اثر المؤدى ، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم ، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لايصير مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال : بأنه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل

ص: 196

شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية ، إذ نقول : بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه ، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن افراد متعددة ، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الأثر لموضوع آخر ، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع آخر لاثر آخر وهكذا ، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.

وعلى ذلك نقول : بأنه بعد أن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام ، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في المقام ونقول : بأنه بعد امكان تعدد الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والآخر في طول الأول باتيانها بداعي أمرها. واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله علیه السلام : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، وقوله علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين ، كما في قوله : وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني قدس سره في كفايته من دعوى القطع بأنه لايكون في العبادات الا امر واحد ، إذ ذلك انما يرد بناء ، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج ، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور ، إذ ما في الخارج حينئذ لايكون الا انشاء

ص: 197

واحدا وامرا واحدا ، فتدبر.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه ، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية أم لاتقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شيء منهما.

فنقول : بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشي عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا ، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك باطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ باطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الإرادة وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى إقامة البيان على التقيد.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظراً إلى ما تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي الامر ، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا : بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الإرادة ، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لايكاد يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية اطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع من دائرة المأمور به ، وحينئذ فلا باس بالتمسك باطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية

ص: 198

الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، وان كان ذلك أيضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس ، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز ، إذ مجرد ارتكازية داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لايقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح.

ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعي الامر والإرادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة ، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد شخصي ، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لأنه فرع امكان التقيد ، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لايمنع عن اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام ، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام ، والا لتحقق الاخلال منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك باطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع قربى من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه. واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ ، فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة والشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه ، مع أنه لو اغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه ، نعم العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامه الناس ، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه ، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.

ص: 199

واما المقام الثاني : فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول :

اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، نظراً إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل ، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره ، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشيء للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط وتحصيل الجزم بالفراغ ، ولايكون ذلك الا باتيان العمل عن قصد امتثال امره ، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته وتنجزه على المكلف ، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره ، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إنه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبرائة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب : ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض ارتباطية الواجب لايكون الا بالاتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لايعلم بالخروج عن عهدته نظراً إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ فلابد من الاحتياط باتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل ، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين ، كما أنه لو بنينا

ص: 200

على أن المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة العقلية في المقامين.

وبعد ذلك نقول : بأنه وان كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الأقل والأكثر الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن المحذور ، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال وايضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار ، فنقول : انه بعد الجزم بعدم كون مجرد التكليف بشيء واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية ، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذي هو عبارة عن حكم العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف ، نقول بأنه لا شبهة في أن هم العقل في حكمه بالفراغ في فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة ، وحينئذ فإذا كان المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الأقل نظراً إلى فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل فلا جرم هذا المقدار من الاشتغال لايقتضي الا الاتيان بذات الأقل ولولا في ضمن الأكثر لأنه باتيانه يحصل الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة ، واما عدم اتصاف المأتى به وهو الأقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم سقوط أمره في فرض وجوب الأكثر واقعا نظراً إلى ارتباطية التكليف فهو لايقتضي أيضا اتيانه في ضمن الأكثر إذ ذلك انما يكون كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة القصور في المأتي به وهو الأقل ، وهو ممنوع جدا ، بل نقول بان عدم سقوط امره وعدم اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق بالأقل عن الشمول لحال وجوده لا في ضمن الأكثر لا من جهة قصور في طرف الأقل المأتى به ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الأكثر في نفسه تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان نقول : بأنه لايقتضي قضية الاشتغال بالأقل أيضا بحكم العقل الا الاتيان بما هو متعلقه فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفته وبالاتيان بالأقل يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة الامر المعلوم وان لم يقطع بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الأكثر

ص: 201

واقعا ، وذلك لما تقدم من أن هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة الاتصاف أيضا ، فتدبر.

وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام أيضا ونقول بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة الامر ، وحينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر الارتباطيين.

بل ولئن تأملت ترى امر جريان البراءة في المقام أوضح من جريانها في الأقل والأكثر ، إذ دوران الامر في المقام بعد أن كان بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقل المتلازمين ثبوتا وسقوطا فمن الأول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات المأمور به وانما الشك في تعلق تكليف وإرادة أخرى بعنوان دعوة الامر ، فمن هذه الجهة تجرى البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم اجمالي في البين. وهذا بخلافه في الأقل والأكثر الارتباطيين ، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين ولو متلازمين في مقام الثبوت والسقوط ، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية أيضا ، وفي مثله ربما كان المجال للخدشة في جريان البراءة عن الأكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي ، وان كان مثل هذه الدعوى ضعيفة أيضا في نفسها ، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد عليه.

وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا اشكال فيها.

واما البراءة النقلية كحديث الرفع ونحوه فان بنينا على جريان البراءة عقلا فلا اشكال في جريان البراءة النقلية أيضا ، واما لو بنينا على الاشتغال والاحتياط عقلا نظراً إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ففي جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء ، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية في هذا الفرض أيضا نظراً إلى عدم كون حكم العقل بالاحتياط حينئذ حكما تنجزيا كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي ، بل نقول بان حكمه ذلك

ص: 202

كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه ، وحينئذ فبجريان مثل حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط ، فتأمل. هذا بناء على أن يكون مفاده رفع مطلق الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك ، إذ نقول بان رفعها حينئذ انما هو برفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما يقتضيه حكم العقل بالاحتياط ، إذ لا مانع عنه بعد فرض تعليقية حكم العقل بذلك ، كما هو واضح.

نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه اشكال ينشأ من عدم كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية والمانعية حتى يرفع به ، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة ، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به ولو بالالتزام بتعدد لب الإرادة ربما لا يفرق في جريانها بين المقام وبين الأقل والأكثر ، فتدبر. لكن لايخفى عليك ان الأستاذ لم يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة السابقة. (1)

ص: 203


1- (*) قالوا ان التعبدى قد يطلق على ما يعتبر فيه مباشرة المكلف او صدوره عن ارادته او اتيانه في مصداق غير محرّم ومقابله التوصلى الذى لا يعتبر فيه شيء من ذلك. وحيث ان المؤلف المقرر لم يتعرض لما افاده استاذه المحقق «قدس سرهما» هيهنا وتعرض له العلامة آية اللّه الأمل دامت بركاته في تقريره لبحث الاستاذ فلذا نأتى بما افاده تتميما للفائدة . «المصحح» قال هنا ما لفظه : تتميم هل اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضي الاعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضي شيئاً من ذلك وايضاً هل يقتضي اطلاقه صدور الفعل عن اختيار او لا يقتضي ذلك وايضاً هل يقتضي اطلاقه كون الفعل المأمور به غير محرم حين صدوره من الفاعل او لا يقتضي ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة مواضع: الموضع الأول فالتحقيق يقضي ان اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه لا يكفي صدور الفعل بالتسبيب او الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بلا تسبيب او استنابة و بيان ذلك يتوقف على تمهيد (مقدمة) وهي ان التخيير مطلقاً . بين فعلين او افعال لابد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الأفعال الذي يحصل به غرض المكلف فلا محالة تكون خصوصيات الافعال الخير بينها خارجة عن حيز الارادة ومباديها من المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينها مخاطباً ومأمورا به حين عدم الآخر لا مقيداً أو مشروطاً بعدمه ليلزم الدور ولا مطلقاً ليلزم كون الوجوب في كل منهما تعيينياً وان شئت فعبر عن الوجوب المزبور بالارادة الناقصة اعني بها ارادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له ، هذا كله فيا لوكان كل من الفعلين او الافعال مقدوراً للمكلف ، واما اذا خرج احدهما عن قدرته وبقى أحدهما مقدوراً له أو كان كذلك حين جعل الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منها واجباً تعيينياً لانحصار الخطاب فيه ( ولكن التحقيق) يقضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله فيا لو كان كل منهما مقدوراً حين الخطاب او كما لو كان كل منهما مقدوراً حين الخطاب - فيما لو كان احدهما ممتنعاً حين جعل الحكم - وذلك لان الوجوب عبارة عن الارادة التشريعية التي اظهرها الشارع بما يدل عليها للمكلف ولا ريب في أن الارادة تتبع في مقام تعلقها بالمراد المصلحة القائمة فيه ولا شبهة ايضاً فى ان المصلحة الداعية الى ايجابه تخييراً حين القدرة على كلا الفعلين لا تتغير عما هي عليه حين امتناع احدهما واذا كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية المقتضية للوجوب التخييرى لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع احد الفعلين هو الوجوب التعييني اذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن مصلحة اخرى تسانحه. و مما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فانه عليه يسقط وجوب القضاء عن الولي كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل الخصوصية فاعله فيه غاية الأمر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب الى مكلف خاص كما يظهر ذلك من المثالين المزبورين وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي الى وجوب ذلك الفعل على المكلف به فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول الغرض بكل من فعلي المكلف أو أفعاله المقتضى ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينها كذلك يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصلياً كان ام تعبديا كما اشرنا اليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن قدرة المكلف واختياره لا يصح ان يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم ان هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان فعله سقط المكلف التكليف وإلا بقى مخاطباً به لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه عن الى المكلف في حين عدم فعل غيره اياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت ان الخطاب بكل من الفعلين او الافعال متوجه الى المكلف حين عدم الآخر، ومن هذا البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطاً بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه اليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري كما اشرنا اليه كما ظهران الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به فى الواجب التخييرى و ذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، كما ظهر ايضاً ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه و بين التسبيب الى فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلف وبين التسبيب الى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين نفس فعل الغير كما لا يخفى وانما العقل يرشد المكلف الى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب اليه بما يراه سبباً لصدور الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الاعاظم (قده) في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته. (إذا عرفت هذه المقدمة) تعرف ان اطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقاً في جميع الأحوال وازمان الامكان لا أنه قضية حينية اي انه ثابت في حين دون حين وحال دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم . حصول الغرض بفعل غیره « ان قلت ان مقتضى اطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها و ان صدرت من الغير (ولا يتوهم) تقييده بتقيد اطلاق الهيئة بخصوص الصادر من المأمور الخروج فعل الغير عن قدرته ( لان ذلك) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب اطلاقها إلا من جهة الحجية لا في أصل الظهور حتى يسرى الى المادة «قلت» الأمر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه الخطاب والطلب المقتضى الحصره في فعل المأمور فيمنع عن تمامية اطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في ما صدر عن الغير لكي يزاحم مع اطلاق الهيأة في مطلوبية فعل المأموروان صدر من الغير. هذا مقتضى الاطلاق ومع عدمه فقتضى الأصل العملي هي البراثة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الاجمالى باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلا مطلقاً اي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهي صلاة الظهر وهذا العلم الاجمالي غير موجود في محل الكلام لانه يعلم تفصيلا بانه مخاطب بهذا الفعل الخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفاً تخييراً باحد الامرين وبما ان المكلف يعلم انه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له و يشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع الى البرائة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان اصالة الاشتغال بتوهم . ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والاصل يقتضي عدم كونه مسقطاً وذلك لانه يكون هو بنفسه مجرى لاصالة البرائة فيكون هذا الاصل حاكماً على اصل عدم كون فعل الغير مسقطاً. ومن هنا يظهر لك الجواب عن توهم بعض الاعاظم (قده)» في المقام لصحة جريان اصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره المتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح جريان اصالة الاشتغال او استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل «وذلك» لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هوتام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب اذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكاً من الاول فلا تتم فيه اركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه الى البرائة ولا مجال للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص الحكومة البراثة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الاقل والاكثر. الموضع الثاني في ان اطلاق الخطاب هلى يقتضي صدور الفعل عن اختيار اولا يقتضي ذلك وغاية ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة اليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة التمسك به إلا انه يمكن النظر في ذلك بما اشرنا اليه فيما سبق من انه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فاذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان كان مقيداً عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف اطلاق المصلحة القائمة فيها. اطلاقها عن و لكن قد يستشكل) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار الحصول الغرض الداعى اليه و لكن ذلك ينا في مقتضى اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة فى حال الاختيار ومقتضى اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي الكلام الواحد (و) يمكن الجواب) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالاضافة الى حالتي الاختيار والاضطرار و بعد تقيده عقلا بحال الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالى بالاضافة الى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فانه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالى بالاضافة الى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقييد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق بالاضافة الى الاتيان بالفرد الاضطراري. ومن هنا يظهر الجواب عن اشكال آخر وهوان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيارلان الداعي اليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة، وملخص الجواب أن اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلا ينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الارادة والمصلحة مطلقاً وان قيدت حجية الهيئة في فعلية الارادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري. و بهذا يتضح لك عدم تماعية ما ذهب اليه بعض الاعاظم في المقام حيث أفاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري مسقطاً له لكان التكليف مشروطاً بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك يكونه مسقطاً يشك يكون التكليف مطلقاً او مشروطاً ومقتضى اصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه في محل الكلام ولا يخفى مافيه لما عرفت آنفا من ان الخطاب مطلق بالاضافة الى الفعل الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الاسقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الاحوالي بالاضافة الى الاتيان بالفرد الاضطراري وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الانيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق، واما اذا لم يكن في المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي البرائة الرجوع الشك حينئذ الى الشك في الاقل والاكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك المزبور هي البرائة ومعه لا مجال للرجوع الى استصحاب التكليف الحكومة اصالة البراثة عليه. الموضع الثالث في ان اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم اولا يقتضي والتحقيق يقضي ذلك بالاول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع ام بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان ملاك النهي لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهي عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي الى اصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال ، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البرائة كما تقدم في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الاعاظم من النظر وقد اشرنا اليه فيما سبق فراجع.

ص: 204

ص: 205

ص: 206

ص: 207

ص: 208

الجهة الخامسة

لايخفى عليك ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، من جهة احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى مؤنة زائدة غير مناسبة مع قضية الاطلاق ، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر ، والتخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ ( أو ) مثلا بقوله : يجب هذا أو ذاك ، والكفائي إلى التقيد بصورة عدم اقدام الغير. وهذا بخلافه في النفسي التعييني العيني ، فإنه واجب على كل تقدير ، فكان هذه القيود كلها يدفعها قضية اطلاق الصيغة.

الجهة السادسة

إذا ورد أمر عقيب الحظر أو توهمه ، فهل هو ظاهر في الوجوب؟ كما لو لم يكن في البين حظر ولا توهمه ، أو لا؟ وعلى الثاني فهل هو ظاهر في الاستحباب؟ أو في الإباحة؟ كما ينسب إلى المشهور ، أو انه تابع لما قبل النهى لو علق الامر على زوال علة النهى؟ أو مطلقا؟ وجوه بل أقوال. والظاهر أن مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد كان متعلق الامر بعينه هو المتعلق للنهي من حيث العموم والخصوص كما في قوله : لاتكرم النحويين ، أو لاتكرم زيدا ، وقوله بعد ذلك : أكرم النحويين ، أو أكرم زيدا ، والا فمع اختلاف متعلق الأمر والنهي من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن موضوع هذا النزاع نظير قوله : لاتكرم النحويين ، وقوله : أكرم الكوفيين منهم ، فإنه في مثله لابد من التخصيص أو التقييد الكاشف عن عدم تعلق النهى بالخاص من أول الامر ، كما يشهد لذلك بناء العرف في نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص والمقيد.

وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم ، نقول : بأنه ان بنينا على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في أن لازمه هو الحمل على الوجوب ما لم يكن

ص: 209

في البين قرينة قطعية على الخلاف ، حيث إن مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لايمنع عن الحمل على الحقيقة ، وأما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب ، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي ظهوره فيما كان ظاهرا فيه ، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب أيضا بحيث لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم بالمعارضة بينهما ، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب لا مقتضي في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الإباحة بالمعنى الأخص بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شيء مما ذكر الا مع قيام القرينة في البين على إرادة الندب أو الإباحة أو على حكم ما قبل النهى ، والا فمع خلو المقام عن القرينة لايكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الإباحة بالمعنى الأخص ، نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل واباحته بالمعنى الأعم الذي هو جامع بين الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخص ، ومن ذلك يحتاج في تعيين إحدى الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين. نعم يمكن ان يقال باستفادة الاستحباب في خصوص العبادات نظراً إلى إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية المتعلق ورجحانه ، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظراً إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه ، ففي الحقيقة استفادة الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب ، كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا ظهر لك حال النهى الواقع عقيب الوجوب أو توهمه ، حيث نقول فيه أيضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.

الجهة السابعة :

هل الصيغة تقتضي المرة أو التكرار أو لاتقتضي الا صرف وجود الطبيعي الذي يتحقق بأول وجوده؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير كما ستعرف.

وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار ، حيث إن فيها وجوها ثلاثة :

ص: 210

الأول : ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.

الثاني : ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات ، والفرق بينهما هو انه على الأول يكون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على الثاني فإنه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية الفردية خارجة عن دائرة الطلب ، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي ، حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية بخلافه على الثاني ، فإنه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع المحرم أيضا في قصده الخصوصية نظراً إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة الطلب والامر ، كما هو واضح.

الثالث : ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات والفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح ، إذ على هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال بالمتعدد فيما لو أوجد دفعة افرادا متعددة فإنه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع ، بخلافه على المرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فإنه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.

ولكن الاحتمال الأول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد ، فإنه لو كان المراد من المرة في المقام هو الفرد لكان اللازم هو ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي : في أنه بعد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل الامر يدل على فرد واحد أو على افراد متعددة؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال البحث الآتي ، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في قبال البحث الآتي قرينة قطعية على عدم ارادتهم من المرة في المقام الفرد والافراد ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين ، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الأخير نظراً إلى كونه هو المنساق منها في الذهن عند العرف ، ومن ذلك لو أتى بالماء مثلا في ظروف متعددة دفعة واحدة لايقال : بأنه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا ، بل يقال : انه أتى بالماء مرة واحدة. هكذا أفاده الأستاذ. ولكن أقول : بان عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما هو باعتبار اضافته إلى الاتيان لا بلحاظ اضافته إلى المأتي به وهو الماء ، فحيث ان الاتيان لم يكن الا اتيانا واحدا أضيف إليه المرة فقيل : بأنه أتى بالماء مرة واحدة ، والا

ص: 211

فباعتبار اضافتها إلى نفس المأتى به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور ، كما هو واضح.

وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود الخارجي؟ أو المرة بنحو لا بشرط على معنى وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة الزائد لغوا فيه وجهان : أظهر هما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم ، فان ظاهر هم انما هو على صيرورة الزائد على المرة ( بأي معنى فرضناها ) لغوا محضا ، في قبال القائل بالتكرار الذي يقول بتحقق الامتثال بالزائد أيضا لا انه كان مخلا أيضا بالامتثال بالنسبة إلى أول وجود ، كما هو واضح ، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة. واما القول بالتكرار فيحتمل فيه أيضا وجهان ، فإنه على المعنيين من الوجودات أو الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو الارتباط كما في العام المجموعي ، وأخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو كان كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي ، والفرق بينهما واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة ، فإنه على الثاني يكون كل فرد وكل وجود موردا لتكليف مستقل حسب انحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها امتثال مستقل غير مرتبط بامتثال الآخر ، بخلافه على الأول فإنه عليه وان لو حظ الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان المجموع موضوعا وحدانيا في مقام تعلق الطلب والامر ، فمن هذه الجهة لايكاد تحقق الامتثال الا باتيان الطبيعي خارجا متكررا ولايكاد يكون لاتيان المجموع الا امتثال واحد ولا على مخالفتها الأعقاب واحد ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة ، فنقول : قد عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة هو الوجه الأخير من عدم دلالة الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه أصلا ، كيف وان المادة فيها حسب وضعها النوعي على ما تقدم من انحلال أوضاع المشتقات مادة وهيئة لاتدل الا على صرف الطبيعي ، كما هو ذلك أيضا في ساير الصيغ من المصدر وغيره ، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف

ص: 212

انتفائها أيضا في الصيغة. ولعله إلى ذلك أيضا نظر الفصول في انكاره دلالة الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر المجرد عن اللام والتنوين باجماع من علماء الأدب ، فكان تمام نظره في النقض بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع وغيرهما ، لا ان نظره إلى أن المصدر هو الأصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه اشكال الكفاية : بان المصدر ليس أصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها وفي قبالها ، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة أيضا عليهما. نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين : وضع المادة المشتركة في الجميع وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من الصيغ وضعا شخصيا وان الوضع في كل واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا لمعنى خاص ، لأمكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار لايقتضي عدم دلالة الصيغة عليهما ، ولكن الكلام حينئذ في أصل هذا المبني فإنه خلاف ما عليه المحققون في أوضاع المشتقات ، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها إلى وضعين : وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات الخاصة ، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدء في الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على أحد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى الكلام فيها في الهيئة وهي أيضا كما عرفت غير مرة لاتدل الا على طلب ايجاد الطبيعة أو النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلايكون فيها أيضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال بذلك لا من جهة ان الامر يقتضي المرة كما هو واضح. كما أن تحقق الامتثال باتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع كانطباقه في الأول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الامر للتكرار كما توهم.

ومن ذلك البيان ربما أمكن ارجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو المشهور نظراً إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق الامتثال بايجاد المأمور به دفعة ولو في

ص: 213

ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال باتيان ثاني الوجود وثالثه ، كما هو واضح فتدبر.

بقى الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهي أمور :

منها قوله صلی اللّه علیه و آله ( إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) وفيه ما لايخفى ، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر في مثل الصلاة اليومية وصوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها ، نقول بأنه ينافي ذلك ما في ذيل تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم واللّه لو قلت نعم لوجب ) الخ (1) فان ما هو المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.

ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما لايخفى حيث إن تكرر الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب إناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان وإناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت وأين ذلك واقتضاء الامر للتكرار كما لايخفى.

ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الأوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام والاستمرار ، بتقريب : انه كما أن قضية اطلاق الهيئة في النواهي هي الدوام والاستمرار بملاحظة اقتضاء اطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية ومبغوضية الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد. وتحكيمه على قضية اطلاق المادة فيها في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من

ص: 214


1- لم أجد الحديث في مجامع أخبارنا وألفاظه على ما أخرجه في التاج هكذا : « عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول اللّه فسكت ، حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » رواه مسلم والنسائي والترمذي « انتهى » التاج / ج 2 ص 108 ، الباب 2 من كتاب الحج « المصحح ».

جهة عليه الهيئة لتحقق المادة خارجا ، كذلك في الأوامر أيضا ، حيث إنه بعين هذا التقريب أي تقريب اطلاق الهيئة وتحكيمه على اطلاق المادة يستكشف في الأوامر أيضا عن أن المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف وجودها المتحقق بأول وجودها كما هو واضح ، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء الامر للتكرار هذا.

ولكن فيه أيضا ما لايخفى ، إذ نقول : بان ما أفيد وان تم لا ثبات الدوام والاستمرار في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب المزبور في باب الأوامر من جهة وضوح الفرق بين المقامين ، وحاصل الفرق بين المقامين في جريان اطلاق الهيئة وصحة تحكيمه على اطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الأوامر هو ان صحة تحكيم اطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام الاستمرار منه انما هو من جهة عدم ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار ، بخلافه في الأوامر فإنه فيها يلزم من تحكيم قضية اطلاق الهيئة على اطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد ، فمن هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب الأوامر عن جريان اطلاق الهيئة فيها والاخذ بها ، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى اطلاق المادة فيها على حاله سليما عن المزاحم ، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق بأول وجوده دون الطبيعة السارية ، وعليه فلا مجال للتشبث بمثل هذا البيان أيضا لا ثبات التكرار في الأوامر وان صح ذلك في باب النواهي ، كما هو واضح. (1)

ثم انه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الأقوال المزبورة فنقول : أما الثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فظاهرة فيما لو أتى دفعة

ص: 215


1- أقول ولايخفى عليك انه لا يتم هذا التقريب في باب النواهي أيضا ويظهر وجه من جهة تبعية الهيئة ثبوتا اطلاقا وتقييدا للمادة حسب تقدمها عليها وكيفية قيام المصلحة بها بصرف وجودها أو بوجودها الساري ، إذ حينئذ تكون الهيئة تابعة للمادة ومن شؤونها ، وحينئذ فمع جريان الاطلاق في المادة لايبقى مجال لجريان الاطلاق في طرف الهيئة حتى يقع بينهما التزاحم باعتبار كون قضية اطلاقها حاكما على اطلاقها ، ومعه كيف المجال لدعوى تقديم اطلاق الهيئة على اطلاقها وتحكيمها عليها وان كان الأستاذ دام ظله مصرا بذلك في مقام ابداء الفرق بين الأوامر والنواهي فتأمل. «المؤلف، قدس سره»

واحدة بأفراد متعددة ، فإنه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع امتثالا واحدا ، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع باعتبار كونها وجودا لها ، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد منها لا بعينه ، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة ، والا فلا يقع الامتثال بواحد منها أصلا ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم إرادة القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللابشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال ، هذا إذا اتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة. وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها فإنه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك تشريعا محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فإنه حينئذ لابد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به أيضا. نعم على تفسير المرة بالوجود الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما بالفرض الأول وهو صورة الاتيان بأفراد متعددة دفعة واحدة. هذا كله بناء على تفسير المرة بالفرد أو الوجود الواحد ، واما بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا ثمرة بينها وبين القول بالطبيعة ، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالطبيعة.

وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالافراد والوجودات فتظهر أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد واحد فإنه على القول بالطبيعة يتحقق الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتى به بخلافه على القول بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا ، بل وتظهر الثمرة أيضا عند الاتيان بأفراد متعددة دفعة ، إذ على القول بالطبيعة من جهة انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثالا واحدا دونه على القول بالتكرار فإنه عليه يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة ايجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا. هذا على التكرار بمعنى الوجودات ، وأما على التكرار بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا حيث إنه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود أيضا بخلافه على الطبيعة فإنه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال ، كما يأتي الكلام فيه في مبحث الاجزاء انشاء اللّه تعالى.

ص: 216

واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.

بقى شيء وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الأمور القابلة للدوام والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر كي يتحقق التعدد؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو الأمور الآنية غير القابلة للدوام والاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الأمور القابلة للاستمرار يكفي في تكرارها استمرارها بنحو لايتخلل فصل في البين بان يقصد بها في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا احتياج إلى تخلل فصل في البين؟ فيه وجهان : مقتضي ظاهر العنوان هو الأول من لزوم تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه القرار والاستمرار ، لكن مقتضي استدلالهم بباب النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار تكرر الوجود ، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار. وعليه ربما تظهر الثمرة أيضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة وتعدده على القول بالتكرار فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثال للامر به كما هو الشأن أيضا في باب النواهي فيما لو ترك شرب الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله : لا تشرب الخمر فيكون هذا القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للامر بالقيام ، وهكذا الأمور التدريجية كالحركة والتكلم والقرائة فان حالها حال الأمور القابلة للدوام والاستمرار ، فبناء على القول بالطبيعة يكون مجموع الحركة والتكلم والقرائة من أولها إلى آخرها وجودا واحد للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود إلى طرو فصل في البين بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك ، وهكذا في التكلم والقرائة فما دام كان مشغولا بالتكلم والقرائة كان ذلك يعد وجودا واحدا للقرائة ولايتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر. واما على التكرار على النحو المزبور يتحقق التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للامر بها. نعم لو كان الامر متعلقا لا بعنوان القراءة بقول مطلق بل بعنوان قرائة الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرائته بل اتصل قرائته بقرائة حمد آخر وحينئذ فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة ويكون من باب الامتثال عقيب الامتثال كما هو واضح.

ص: 217

الجهة الثامنة :

هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لاتقتضي شيئا منهما الا طلب ايجاد الطبيعة الجامعة بين الفور والتراخي؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير ، نظراً إلى عدم اقتضاء وضع المادة وكذا الهيئة لشيء من ذلك ، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف الطبيعي ، واما الهيئة فلعدم دلالتها أيضا الا على طلب الطبيعة المجامع مع الفور والتراخي ، بل ومع الشك أيضا ربما كان قضية اطلاق المادة هو سقوط الغرض وتحقق الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان امر التمسك بقضية اطلاق المادة في المقام أهون من المقام السابق نظراً إلى سلامته عن المزاحمة مع اطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء لاطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح ، وحينئذ فمقتضى اطلاق المادة هو تحقق الامتثال باتيان الطبيعة وايجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.

نعم لو اغمض عما ذكرنا لايتوجه على القول بالفور بعدم مأخوذية الزمان في المشتقات ، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية الفور انما هو إلى مجرد الاستعجال والمسارعة في ايجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الأزمنة بعد الامر بلا مدخلية للزمان فيه بنحو القيدية أصلا ، كما أن نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما يقابل ذلك ، ومعه لايتوجه عليه الاشكال المزبور كما هو واضح.

وكيف كان فاستدل للفور بأمور :

منها : ما قيل في وجه ابطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الإرادة عن المراد وذلك بتقريب : ان الإرادة التشريعية انما هي كالإرادة التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة الاقتضاء والعلية حيث كانت الإرادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت الإرادة التشريعية مقتضية له ، وحينئذ فكما ان الإرادة التكوينية لايمكن تخلفها عن المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الإرادة التشريعية حيث إن مقتضاها أيضا لزوم اتصال حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الإرادات التشريعية بمنزلة حركة المريد في الإرادة التكوينية ولا نعني من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو

ص: 218

المأمور به متصلا بطلب الآمر. وفيه ان قضية الامر بشيء ليست الا البعث نحوه بالايجاد فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم لايقتضي الامر به أيضا الا ايجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي ، وما ذكر من امتناع تخلف الإرادة ولو التشريعية عن المراد متصلا بها كلام شعري وسيأتي بطلانه أيضا في مبحث المعلق والمشروط بما لا مزيد عليه إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : قوله سبحانه : « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » بتقريب الدلالة فيه على وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالايجاد على ما هو قضية ظهور الامر في الوجوب. وفيه أيضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر لخروج المندوبات طرا وخروج كثير من الواجبات أيضا كالصلاة اليومية ونحوها ، نقول : بأنه انما يتم ذلك لولا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة والاستباق إلى ايجاد المأمور به والا فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة ارشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليلا على وجوب الفور والمسارعة ، كما لايخفى.

بقى الكلام في أنه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال ، هل الواجب هو الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت المكلف بالمأمور به في الآن الأول بعد الامر يجب عليه الاتيان به في الآن الثاني ولايجوز التراخي؟ أم لا بل يجوز له التراخي في الآن الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الآن الأول؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن المأمور به في الآن الثاني رأسا عند الاخلال بالفور في الآن الأول ولو من جهة كونه من قبيل وحدة المطلوب؟ فيه وجوه : أظهرها أولها ، كما هو قضية استدلالهم بآية المسارعة والاستباق حيث إن من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا ففورا ، بل ذلك أيضا مما تقتضيه قضية استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه أيضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا ، كما هو واضح.

وأما الاحتمال الأخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثاني الحال عن المأمور به لو لم يأت المكلف به في الآن الأول فهو أبعد الوجوه ولا يساعد عليه استدلالهم بل ولا كلماتهم أيضا ، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه سقوط التكليف في ثاني الحال ، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم ارادته القائل بالفور ، ومعه يدور الامر بين الوجهين الأولين وعند ذلك قد عرفت تعين الوجه

ص: 219

الأول منهما دون الثاني ، كما هو واضح.

وأما القول بالتراخي فاستدل عليه أيضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بأنه لايقتضي مجرد ذلك كون الصيغة والامر للتراخي ، وذلك لامكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي ، ولذلك أيضا ترى تحقق الامتثال باتيانه في الآن الأول بعد الامر والطلب ، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بايجاد المأمور به في الآن الثاني والثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال ، ولكنه لايكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه أيضا القائل بالتراخي ، لان أقصى ما يدعيه انما هو جواز التراخي وعدم وجوب الفور فيقابل القائل بالفور ، واما وجوبه فلا.

وأما ما يظهر من السيد قدس سره في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في الفور وأخرى في التراخي والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فإنما هو على حسب ما هو ديدنه من ارجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من كون الاستعمال علامة الحقيقة وان كان قد شاع الجواب عنه أيضا بأعمية الاستعمال من الحقيقة ، مع أن كلامه قدس سره انما هو في بيان رد القائل بالفور بأنه كما استعمل الصيغة في الفور استعملت أيضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص الفور. وعليه فلا ثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي ، إذ بعد عدم التزامهم بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو بعينه ، ومن ذلك أيضا يمكن المنع عن تثليث الأقوال في هذه المسألة وانه لايكون فيها الا قولان : قول بالفور وقول بالطبيعة فتدبر ، هذا.

ولكن أقول : بان ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة والا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه ، ومن ذلك ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثه ان لم يأت به في الآن الأول بعد الامر فإنه حينئذ يجب بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الآن الأول بحيث لو لم يأت به ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه العقوبة ، بل ولعل الامر كذلك مع الظن بالفوت إذا كان اطمينانيا ، كما في الأزمنة التي كثر فيها الأمراض من نحو الطاعون والوباء ونحوهما أعاذنا اللّه منها إن شاء اللّه تعالى ، فإنه في نحو ذلك أيضا ربما

ص: 220

كان يحكم العقل أيضا بوجوب المبادرة والاستعجال باتيان الواجب في أول وقته وأول أزمنة تمكنه منه. واما مع الظن غير الاطميناني أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير للاستصحاب فتدبر. هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي ، ولكن الأستاذ دام ظله لم يتعرض لهذا الفرع الأخير فافهم.

ص: 221

المبحث الثالث : في الاجزاء
اشارة

قد وقع الخلاف والكلام بين الأصحاب في اقتضاء الاتيان بالمأمور به على وجهه للاجزاء وعدمه. وقبل الخوض في المرام ، ينبغي تمهيد مقدمة لبيان عناوين الألفاظ الواقعة في حيز البحث.

فنقول : ان من العناوين الواقعة في حيز موضوع البحث كلمة ( على وجهه ) والظاهر أن المراد منها كما قربة في الكفاية هو النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد الامتثال مثلا ، لا الاتيان بالمأمور به على وجه وجوبه أو استحبابه وكونه متميزا عن غيره كما يدعيه القائل بوجوب قصد الوجه والتميز كما يشهد لذلك تعرضهم طرا لهذا البحث بهذه العناوين المزبورة مع ذهاب كثير منهم بل أكثرهم على عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به لا شرعا ولا عقلا ولا الكيفية الخاصة المعتبرة في المأمور به شرعا مثل عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من العناوين الخاصة التي بها صار المأمور به متعلقا للامر والطلب ، كيف وانه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه يلزمه لغوية القيد المزبور إذ عليه كان في ذكر المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) نظراً إلى عدم خلو المأمور به عن مثل هذه الكيفيات فيكون القيد المزبور حينئذ توضيحيا محضا. وحينئذ فيتعين ما ذكرناه من كون المراد منها النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد التقرب والامتثال ، وعليه يكون القيد المزبور احترازيا لا توضيحيا ، لكن ذلك أيضا بناء على تجريد متعلق الامر في العبادات عن قصد التقرب وجعله من الكيفيات المعتبرة في المأمور به عقلا لا شرعا كما هو مسلك

ص: 222

الكفاية ، والا فبناء على القول باعتباره في المأمور به شرعا يكون توضيحيا محضا ، كما أنه كذلك أيضا بناء على جعل المأمور به عبارة عن الحصة الملازمة مع قصد التقرب الناشي عن دعوة الامر بنحو القضية الحينية لا التقييدية بالتقرب الذي ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم انفكاك المأمور به بما هو مأمور به عن قصد دعوة الامر حتى في التوصليات ، إذ عليه أيضا يكون كلمة ( على وجهه ) لمحض التوضيح ، لأنه بعد عدم اتصاف الذات غير المقرونة بقصد التقرب بكونها مأمورا بها يكون في ذكر كلمة المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) كما هو واضح.

ومن العناوين كلمة ( الاجزاء ) والظاهر أن المراد منه انما هو معناه اللغوي أعني الكفاية كما في الكفاية وان اختلف ما يكفي عنه من حيث سقوط التعبد به ثانيا تارة ، وسقوط القضاء أخرى فالمراد منه انما هو كفاية الاتيان بالمأمور به على وجهه في عدم التعبد باتيانه ثانيا في الوقت أو في خارجه ، كان قضية عدم التعبد به بنحو العزيمة أو بنحو الرخصة.

ومن العناوين كلمة ( الاقتضاء ) والظاهر أن المراد منها أيضا هو الاقتضاء بحو العلية والتأثير بحسب مقام الثبوت لا الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة بحسب مقام الاثبات ، ومن ذلك أيضا نسب الاجزاء في عنوان البحث إلى الاتيان دون مدلول الصيغة. نعم في الاجزاء بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري يمكن ان يقال : بان الاقتضاء فيهما هو الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة ، نظراً إلى رجوع جهة البحث حينئذ إلى مدلول الصيغة من جهة الدلالة على وفاء المأتى به الاضطراري بمصلحة المأمور به الاختياري.

وعلى كل حال فلايرتبط هذا البحث بالبحث المتقدم من دلالة الصيغة على المرة أو التكرار كما توهم بخيال ان القول بعدم الاجزاء هو عين القول بالتكرار في المسألة السابقة كعينية القول بالاجزاء مع القول بالمرة ، إذ نقول : بان البحث في المسألة المتقدمة انما هو في تعين ما هو المأمور به بأنه هل هو مجرد الطبيعة؟ أو المرة بمعنى الفرد أو الدفعة؟ أو التكرار بمعنى الموجودات أو الدفعات؟ بخلافه في المقام فان البحث فيه انما هو في ذاك المأمور به المتعين هناك بان الاتيان به على وجهه يجزي عن التعبد به ثانيا أم لا ومعه لايرتبط إحدى المسئلتين بالأخرى كما هو واضح ، خصوصا إذا جعلنا الاقتضاء في المقام بمعنى العلية والتأثير لسقوط الامر ثبوتا إذ عليه يكون الفرق بين المقامين أوضح ، نظراً إلى رجوع

ص: 223

البحث في تلك المسألة إلى دلالة الصيغة على المرة أو التكرار ، ورجوعه في المقام إلى اقتضاء الاتيان بالمأمور به ثبوتا لسقوط الامر.

ومما ذكرنا ظهر أيضا جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء وعدم ارتباط إحديهما بالأخرى ، كما توهم أيضا بخيال أن التعبية بعينها عبارة عن القول بعدم الاجزاء كعينية القول بالاجزاء مع القول بكونه بأمر جديد ، وتوضيح الفرق هو ان البحث هو تلك المسألة انما هو في مورد عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه اما لعدم الاتيان به رأسا أو الاتيان به على غير وجهه المعتبر فيه شرعا ، بخلاف المقام فان البحث فيه انما هو في مورد الاتيان بالمأمور به على وجهه ، فهما متقابلان حينئذ كما هو واضح.

وإذ تمهدت هذه الجهة فلنرجع إلى هو المهم والمقصود فنقول : ان الكلام في الاجزاء وعدمه يقع تارة في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن الاتيان به ثانيا وكذا الاتيان بالمأمور به الاضطراري والمأمور به بالامر الظاهري عن مثله ، وأخرى في اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري في عدم التعبد به بعد رفع الاضطرار ، وثالثة في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن المأمور به بالامر الواقعي في سقوط التعبد به بعد انكشاف الخلاف ، فهنا مقامات ثلاثة وينبغي اشباع الكلام في كل واحد من المقامات المزبورة ، فنقول :

اما المقام الأول

فيقع الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن التعبد به ثانيا ، فنقول لاينبغي الاشكال في أن الاتيان بالمأمور به الواقعي بجميع ما اعتبر فيه شرعا وعقلا كان موجبا لسقوط الامر عن الطبيعة المأمور بها ومجزيا عن التعبد به ثانيا من جهة انه بمجرد الاتيان بالطبيعي في الخارج في فرض مطلوبية صرف الوجود لا الوجود الساري يتحقق الامتثال وينطبق عليه عنوان الإطاعة ومعه يسقط الامر والتكليف عنه لا محالة ولايبقي مقتض للاتيان به ثانيا بوجه أصلا ، كما لايخفى. هذا إذا كان قضية الاتيان بالمأمور به في الخارج علة تامة لحصول الغرض الداعي على الامر به ولقد عرفت ان الاجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذ بسقوط الغرض وسقوط الامر بسقوطه بمجرد الموافقة وإيجاد المأمور به ، واما لو لم يكن مجرد الاتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض وتحققه بل كان لاختيار المولى أيضا دخل في حصول غرضه كما نظيره في العرفيات في مثل أمر المولى عبده باتيان الماء واحضاره عنده لأجل الغرض

ص: 224

الذي هو رفع عطشه بشر به إياه حيث إنه في مثل هذا الفرض لايكون مجرد الاتيان بالماء واحضاره عند المولى علة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه بل كان لاختيار المولى وارادته إياه للشرب أيضا دخل في تحققه لكونه هو الجزء الأخير من العلة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه ، ففي مثل حيثما كان الإرادة المتعلقة بايجاد الماء بحسب اللب إرادة غيرية وتكون الإرادة النفسية لبا هي المتعلقة بحيث رفع العطش ، فلا جرم يبتنى جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا وعدم جوازه على القولين في باب مقدمة الواجب : بان الواجب هل هو مطلق المقدمة ولو لم توصل أو ان الواجب هو خصوص الموصلة منها؟ فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة يكون حال هذا الغرض حال الفرض السابق من علية الاتيان بالمأمور به لسقوط الامر وحصول الغرض ، فكما انه في ذلك الفرض باتيان المأمور به يسقط الامر والتكليف ولايجب على المكلف بل لايجوز عليه الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة ، كذلك في هذا الفرض فباتيان المأمور به في هذا الفرض أيضا يسقط الامر به فلايجوز له الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر الأول فضلا عن وجوبه. واما على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلقها فلازمه هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إياه ، إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتي به الأول حيثما كان الغرض الداعي على الامر بعد بحاله كان الامر بالايجاد والآتيان أيضا على حاله من الفعلية ، غايته ان ليس له الفاعلية والمحركية بعد الاتيان بالمأمور به أولا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا انه يسقط رأسا بمجرد الاتيان بالمأمور به ، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعلية الامر وفاعليته هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا ما دام بقاء الماتى به الأول على صلاحيته للوفاء بغرض المولى ووجوب الاتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتى به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إياه إذ حينئذ ربما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الاتيان بفرد آخر من الطبيعي المأمور به كما لايخفى ، ونتيجة ذلك في فرض تعدد الاتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معا وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغوا محضا لا انه يتحقق به الامتثال أيضا كي يكون قضية الاتيان بالمأمور به متعددا من باب الامتثال عقيب الامتثال ، فعلى ذلك فما وقع في كلماتهم من التعبير عن المأتى به ثانيا بكونه من الامتثال بعد الامتثال لا يخلو عن تسامح واضح كما هو واضح ، لأنه على كل

ص: 225

تقدير لايكاد يكون قضية الاتيان بثاني الوجود حقيقة من باب الامتثال بعد الامتثال.

ثم إن ما ذكرناه من التشقيق بين كون الاتيان بالمأمور به تارة علة لحصول الغرض وأخرى مقتضيا لذلك على معنى مدخلية اختيار المولى إياه في تحقق غرضه انما هو بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات فربما أمكن دعوى ظهور الأدلة في علية الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض وسقوط الامر نظراً إلى تحقق الامتثال بمحض ايجاد المأمور به في الخارج ، وعليه فلا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان إطاعة الامر الأول الا إذا قام دليل بالخصوص على جوازه ومشروعيته ، كما في باب إعادة من صلى فرادى جماعة حيث ورد الامر فيه بالخصوص على إعادة الصلاة جماعة معللا فيه بان اللّه يختار أحبهما فيستكشف منه حينئذ عدم كون مجرد الاتيان بالمأمور به علة لحصول الغرض بل وان لاختيار المولى أيضا دخلا في حصول غرضه ، كما نظيره في مثال الامر بالماء لأجل غرض رفع العطش ، اللّهم الا ان يقال : بان الامر بإعادة من صلى منفردا جماعة انما هو لأجل تحصيل المصلحة القائمة بخصوصية الجماعة حيث إنه لما كان لايمكن استيفاء تلك المصلحة الا بإعادة الصلاة امر جديدا استحبابا بإعادة أصل الصلاة على الكيفية الخاصة ، وعليه فلا مجال لاستكشاف عدم علية مجرد الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض الداعي على الامر به ومدخلية اختيار المولى أيضا في ذلك ، ولكن مثل هذا المعنى ينافيه قضية التعليل الوارد في الخبر ( بان اللّه سبحانه يختار أحبهما إليه ) فان مقتضي التعليل المزبور هو مدخلية اختيار المولى أيضا في حصول غرضه ومرامه ولازمه وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى وأحبه منهما وصيرورة الآخر لغوا محضا فتدبر.

وعلى ذلك أيضا يمكن ان يحمل عليه كلام الجبائي من مصيره إلى عدم الاجزاء ، وذلك بارجاع كلامه إلى عدم الاجزاء بالمعنى الذي ذكرناه امكانا ، نظراً إلى احتمال عدم كون المأتى به علة تامة لحصول الغرض وسقوط الامر بشهادة التعليل الوارد في الامر بإعادة من صلى فرادى جماعة ، وعلى كل فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول.

وأما المقام الثاني

فيقع البحث فيه في اجزاء المأتى به الاضطراري عن المأمور به الواقعي الاختياري ، على معنى عدم وجوب الإعادة بعد طرو الاختيار في الوقت وعدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، في قبال عدم اجزائه ولزوم الاتيان بالمأمور به الاختياري بعد طرو الاختيار إعادة في الوقت وقضاء في خارجه ، فنقول :

ص: 226

ان الكلام في هذا المقام تارة يكون بالنسبة إلى الإعادة في الوقت فيما لو طرء الاختيار قبل انقضاء الوقت وأخرى بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت.

اما الأول فتنقيح الكلام فيه يحتاج إلى بيان ما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا أولا ثم في تعيين ما وقع عليه اثباتا ، فنقول : اما الأول فالامر فيه كما افاده في الكفاية : من أن الفعل الاضطراري تارة يكون وافيا بتمام مراتب المصلحة التي تكون في الفعل الاختياري وأخرى لايكون كذلك بل يبقى مقدار من المصلحة والغرض ، وعلى الثاني فتارة يكون المقدار الباقي مما يمكن استيفائه وأخرى لايمكن استيفائه مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري ، وعلى الأول من فرض قابلية المقدار الباقي للاستيفاء فتارة يكون مما يجب استيفائه باعتبار كونه لازم التحصيل في نفسه وأخرى لايجب استيفائه بل يستحب. فهذه الشقوق المتصورة فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري.

وربما يختلف هذه الشقوق بحسب اللوازم من حيث الاجزاء وعدمه ، فان من لوازم الشق الأول الاجزاء وعدم وجوب الإعادة نظراً إلى سقوط الامر حينئذ بسقوط الغرض الداعي عليه ولو مع كون الاضطرار ناشئا عن سوء اختيار المكلف فان لازم وفائه بتمام الغرض والمصلحة هو قيام الغرض والجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري كما في الواجب المخير غايته ان ظرف أحد الفردين هو ظرف عدم التمكن من الفرد الآخر ، ولازم ذلك هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عقلا بملاحظة سقوط الامر بسقوط أصل الغرض والمصلحة : واما جواز البدار في هذا الفرض ولو مع القطع بطرو الاختيار بعد ساعة فيبنى على أن الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت فعلى الأول يجوز له البدار وباتيانه للفعل الاضطراري يسقط الامر والتكليف ولايجب عليه الاتيان بالفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار وعلى الثاني لايجوز له البدار لعدم الموضوع حينئذ للفعل الاضطراري.

كما أن من لوازم الشق الثالث أيضا الاجزاء وعدم وجوب الإعادة بلحاظ عدم التمكن حينئذ من استيفاء المقدار الباقي من المصلحة مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري ، نعم في هذا الفرض ربما يلزم عدم جواز البدار مع العلم بطرو الاختيار فيما بعد ، من جهة ما يلزمه حينئذ من تفويت مقدار من المصلحة الملزمة بلا وجه يقتضيه ، نعم

ص: 227

مع العلم ببقاء الاضطرار أو الاطمينان بذلك يجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بل وكذلك أيضا مع الشك في ذلك للاستصحاب أي استصحاب اضطراره إلى آخر الوقت فإذا انكشف الخلاف وارتفع اضطراره قبل خروج الوقت يجزيه ما اتى به من الفعل الاضطراري ، لكن ذلك أيضا مبنى على أن يكون موضوع الحكم هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت والا فلا مجال للاجزاء ، كما هو واضح.

واما الشق الثاني فمن لوازمه هو عدم الاجزاء وجواز البدار بلا كلام والوجه فيه واضح بعد ملاحظة بقاء مقدار من المصلحة الملزمة الممكنة الاستيفاء.

واما على الشق الرابع فمن لوازمه أيضا هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة كما في الشق الأول والثالث ، نعم يستحب حينئذ الإعادة تحصيلا لذلك المقدار الباقي من المصلحة غير الملزمة الممكنة الاستيفاء ، واما جواز البدار في هذا القسم وعدم جوازه فيبتنى على التفصيل : من أن الموضوع هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.

واما تنقيح هذه الجهة فيحتاج إلى المراجعة إلى كيفية السنة أدلة الاضطرار من عمومات نفى الحرج وأدلة الاضطرار وقاعدة الميسور ونحوها ، وفي مثله أمكن دعوى ان المستفاد من نحو تلك العمومات التي مصبها الاضطرار إلى الطبيعة هو خصوص الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت نظراً إلى قضية ظهورها في الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق ، إذ حينئذ لايكاد تحقق الاضطرار إلى الطبيعة كك الا بعدم التمكن من شيء من الافراد التدريجية للمأمور به الاختياري ، وهذا لايكون الا في صورة بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت والا ففي فرض طرأ عليه الاختيار قبل خروج الوقت بمقدار يمكنه الاتيان بالمأمور به الاختياري لايكاد يصدق الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما هو واضح. وعلى ذلك ربما يسقط النزاع المزبور في الاجزاء وعدمه بالنسبة إلى الإعادة كما لايخفى.

نعم بالنسبة إلى مثل أدلة التيمم كقوله سبحانه : « إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » إلى قوله سبحانه : « فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا » (1) أمكن استفادة ان الموضوع هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار إلى الطبيعة إلى آخر الوقت نظراً إلى دعوى

ص: 228


1- سورة المائدة ، الآية 6.

ظهورها بقرينة صدر الآية وهو قوله : « إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا » الخ في كفاية مجرد عدم القدرة على الطهارة المائية في أول الوقت وعند القيام إلى الصلاة في مشروعية الطهارة الترابية وجواز الدخول معها في الصلاة ، كما ربما يؤيد ذلك أيضا ملاحظة الصدر الأول في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله من تفكيكهم بين الصلوات واتيان كل صلاة في وقت فضيلتها وعدم تأخيرها إلى ما بعد وقت فضلها ، حيث إنه يستفاد من ذلك حينئذ ان الاضطرار المسوغ للطهارة الترابية هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.

ومثل ذلك أيضا الأدلة الآمرة بالتقية بايجاد العبادات على وفق مذهبهم بالحضور في جماعاتهم والصلاة معهم والوضوء على كيفية وضوئهم ، حيث إنه يستفاد من تلك الأدلة أيضا كفاية مجرد الابتلاء بهم ولو في جزء من الوقت في جواز الاتيان بالمأمور به تقية وعلى وفق مذهبهم من دون احتياج إلى بقاء الابتلاء بهم إلى آخر الوقت خصوصا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم ابتلاء الانسان بهؤلاء الفسقة الفجرة ( خذلهم اللّه تعالى ) في تمام أوقات الصلوات من أول وقتها إلى آخره ، إذ حينئذ من الامر بايجاد العبادة تقية يستفاد ان الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار. وعليه ففي مثله ربما كان كمال المجال البحث في اجزاء المأتى به الاضطراري عن الإعادة بالنسبة إلى المأمور به الاختياري.

وحينئذ فلابد في الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة من لحاظ الموارد ودليل الاضطرار الجاري فيها بأنه من قبيل أدلة التيمم وأدلة التقية؟ أو من قبيل عمومات نفى الحرج وعمومات الاضطرار من نحو حديث الرفع وغيره؟ ففي الأول يكون المجال للبحث عن اجزاء المأتي به الاضطراري عن الإعادة في الوقت ، بخلافه في الثاني فإنه عليه لا مجال للبحث عن اجزاء الفعل الاضطراري الا بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت كما هو واضح.

وعلى كل حال فهذا كله فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا : من الوفاء بتمام مصلحة الفعل الاختياري ، أو الوفاء ببعضها مع كون البعض الباقي ممكن التحصيل في نفسه ولو بفعل آخر في الوقت أو في خارجه وذلك أيضا بنحو اللزوم أو الاستحباب ، أو غير ممكن التحصيل.

واما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري من الوجوه المزبورة فيحتاج إلى المراجعة

ص: 229

إلى أدلة الاضطرار وملاحظة كيفية ألسنتها.

وقبل الخوض في هذه الجهة ينبغي بيان ما يقتضيه الأصل في المسألة عند الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه بتمامه وعند الشك في مفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الفعل الاختياري وعدم مفوتيته في فرض احراز عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري فنقول :

اما لو كان الشك من الجهة الثانية فلاينبغي الاشكال في أن المرجع فيه هو حكم العقل بعدم الاجزاء ووجوب الاحتياط كما هو الشأن في جميع الموارد الراجعة إلى الشك في القدرة على الامتثال وتحصيل الغرض ، حيث إنه بالفرض قد علم ببقاء مقدار من المصلحة الملزمة من جهة عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مراتب مصلحة الفعل الاختياري ، وانما الشك في القدرة على استيفاء تلك المرتبة من المصلحة باعتبار الشك في مفوتية المأتى به الاضطراري لتلك المرتبة الباقية ولو من جهة مضادته معها وفي مثله يكون المرجع هو الاحتياط عقلا لا غير ، كما هو واضح.

واما لو كان الشك من الجهة الأولى بان كان الشك في وفاء المأتى به الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري أو عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحته ، فالمرجع فيه أيضا هو الاحتياط ، لاندارجه حينئذ في باب التعيين والتخيير باعتبار رجوع الشك حينئذ إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة المحتملة للبقاء بخصوص الفعل الاختياري أو بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري ، كي يكون لازمه عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري على الأول ووفائه به على الثاني ، فيندرج حينئذ في تلك المسألة ويكون من صغريات ذلك الباب وفي مثله لابد من الاحتياط بناء على ما هو التحقيق في تلك المسألة من مرجعية الاحتياط فيها دون البراءة.

نعم لو اغمض عن ذلك لابد من البراءة في مثل هذا الفرض ولا ينتهى المجال إلى اثبات عدم الاجزاء ووجوب الإعادة ببعض الاستصحابات كاستصحاب بقاء المصلحة واستصحاب بقاء التكليف بالفعل الاختياري واستصحاب عدم مسقطية المأتي به الاضطراري للتكليف بالفعل الاختياري ونحوها ، إذ نقول :

اما الأول وهو أصالة بقاء المصلحة فلما فيه من عدم اقتضائه لا ثبات التكليف بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار الا على المثبت باعتبار عدم كون ترتب الوجوب

ص: 230

والتكليف على بقاء المصلحة الا عقليا محضا لا شرعيا من جهة انه من لوازم بقاء المصلحة والغرض على حاله وحينئذ فالاستصحاب المزبور لايكاد يجدي شيئا حيث لايكون المستصحب بنفسه اثرا شرعيا بل ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي ، واما نفس هذا الوجوب فهو وان كان اثرا شرعيا الا ان لايكون ترتبه على بقاء المصلحة شرعيا كما هو واضح.

واما أصالة بقاء الاشتغال بالتكليف الاختياري فهو أيضا غير جارية من جهة القطع بانتقاض الحالة السابقة حال طرو الاضطرار والقطع بارتفاع التكليف الاختياري عند الاضطرار ، وحينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار كان الشك في أصل التكليف بالفعل الاختياري.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال أصالة عدم مسقطية الفعل الاضطراري إذ ذلك أيضا مما لا مجال لتوهمه بعد فرض القطع بارتفاع التكليف الاختياري حال الاضطرار ، ومن ذلك البيان ظهر فساد مقايسة المقام بباب الماليات فيما يثبت اشتغال الذمة بعين مخصوص ولم يتمكن من أدائها فدفع ما هو بدل عنها ثم تمكن من أداء تلك العين حيث تجري فيها أصالة عدم المسقطية ويحكم بوجوب أداء تلك العين ، إذ نقول : بان جريان أصالة عدم المسقطية في المثال انما هو باعتبار ثبوت الاشتغال بالمبدل حين أداء البدل وهذا المعنى لايتحقق في مثل المقام المفروض ارتفاع التكليف الاختياري حال طرو الاضطرار فتدبر.

واما الاستصحاب التعليقي وهو أصالة وجوب الفعل الاختياري على فرض طرو الاختيار بتقريب : انه قبل الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية مثلا يقطع بأنه لو طرأ الاختيار لوجب عليه الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية وبعد الاتيان بها مع الطهارة الترابية يشك في ذلك والأصل يقتضي بقائه ، وحينئذ فبعد زوال الاضطرار يحكم بمقتضى الاستصحاب المزبور بوجوب الإعادة ففيه أيضا ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه من المعلوم اجمالا حينئذ عدم جريان هذا الاستصحاب اما من جهة عدم الموضوع له واما لعدم كون البقاء مستندا إلى حيث الاختيار ، فإنه على تقدير وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري يقطع بسقوط الوجوب والتكليف فلا موضوع حينئذ للاستصحاب المزبور ، وعلى تقدير عدم وفائه بتمام مصلحته لايكون الوجوب المزبور

ص: 231

بقائه مستندا إلى حيث الاختيار بل وانما هو مستند إلى ذاته باعتبار اقتضاء تلك المرتبة من المصلحة الملزمة الباقية ، وفي مثله حيثما شك في بقائه من جهة الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام المصلحة أو ببعضها لا مجال لا ثبات الوجوب بمقتضي الاستصحاب المزبور.

وحينئذ فلو اغمض عما ذكرناه من اندراج المسألة عند الشك في صغريات مسألة التعيين والتخيير الجاري فيها الاحتياط لا محيص في المسألة الا من البراءة باعتبار رجوع الشك حينئذ بعد الاتيان بالفعل الاضطراري في أصل فوت مصلحة الفعل الاختياري وفي أصل التكليف به ، وحينئذ فكان العمدة في تقريب عدم الاجزاء بمقتضي الأصول عند الشك هو ما ذكرنا من الاندراج في مسألة التعيين والتخيير بالتقريب الذي قربناه فتدبر.

هذا كله بالنسبة إلى الإعادة في الوقت ولقد عرفت بان مقتضي الأصل في ذلك عند الشك في كلا الفرضين هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة.

واما بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت في فرض بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت فان كان الشك في أصل وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحته فمقتضى الأصل فيه أيضا كما تقدم بالنسبة إلى الإعادة من جهة رجوع الشك حينئذ أيضا إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة الملزمة المشكوك وفاء الفعل الاضطراري بها بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري في الوقت أو بخصوص الفرد الاختياري ولو في خارج الوقت فيندرج في مسألة التعيين والتخيير والمختار فيها هو الاحتياط ، كما عرفت.

واما ان كان الشك في قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء في خارج الوقت مع القطع بعدم وفاء الفعل الاضطراري الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري ، فان احتمل ان يكون تلك المرتبة من المصلحة الباقية لخصوصية وقوع الفرد الاختياري في الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت تقتضيه ، فلا اشكال في أن مقتضي الأصل حينئذ هو البراءة عن القضاء باعتبار رجوع الشك حينئذ في أصل وجود المصلحة في خارج الوقت كي يترتب عليه وجوب التدارك بالقضاء ، من غير فرق في ذلك بين القول : بان القضاء بالامر الأول وانه من باب تعدد المطلوب ، أو القول : بكونه بأمر جديد اما بمناط الجبران أو

ص: 232

بمناط آخر غير ذلك أو بمناط اقتضاء فوت المصلحة في الوقت لحدوث مصلحة ملزمة في خارج الوقت أو غير ذلك ، واما ان لم يحتمل ذلك بل أحرز ولو من جهة قضية الاطلاق ان تلك المرتبة من المصلحة غير المستوفاة مترتبة على الجامع بين الفعل الاختياري في الوقت وخارجه بحيث كان الشك ممحضا في القدرة على استيفائها من جهة الشك في مفوتية الفعل الاضطراري لها ، ففي هذا الفرض لابد من الاحتياط بمناط قاعدة الشك في القدرة من دون فرق أيضا بين القول بتبعية القضاء للأداء أو القول بكونه بأمر جديد.

ثم إن ذلك أيضا مع قطع النظر عن أدلة القضاء بان يمنع شمولها لصورة فوت بعض المصلحة في الوقت اما لانصرافها إلى صورة فوت التمام من رأس كما لعله هو التحقيق أيضا أو لا أقل من كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب والا فمع فرض اطلاق تلك الأدلة حتى لصورة فوت بعض المصلحة أيضا فلا ينتهي الامر إلى تلك الأصول من جهة وجود دليل اجتهادي حينئذ على عدم الاجزاء ووجوب القضاء بمحض فوت المصلحة في الوقت ولو ببعض مراتبها. واما توهم عدم تكفل أدلة القضاء لا ثبات قابلية المحل للوجود فمع الشك في القابلية المزبورة حينئذ لا مجال للتمسك بأدلة القضاء لا ثبات الوجوب الفعلي ، فمدفوع بان شأن أدلة القضاء دائما انما هو رفع الشك عن هذه الجهة واثبات قابلية المحل للوجود ففي كل مورد امر فيه بالقضاء لا محالة من نفس الامر به يستكشف قابلية المحل للتحقق كما هو واضح. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليها انما هو الاشكال عليها من الجهة الأولى : من منع اطلاقها لصورة فوت بعض المصلحة وانصرافها إلى صورة فوت التمام أو مانعية ذلك عن الاخذ باطلاقها باعتبار كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب ، وعليه فينتهى الامر عند الشك إلى الأصول العلمية العقلية ولقد عرفت بان مقتضاها عند القطع بفوت بعض المصلحة والشك في القدرة على استيفائه هو البراءة في فرض والاحتياط في فرض آخر فتدبر. وكيف كان فهذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا من الوفاء بتمام الغرض أو بعضه وكون البعض الباقي ممكن الاستيفاء أو غير ممكن الاستيفاء.

وأما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري إثباتا فيحتاج استفادته إلى ملاحظة كيفية الأدلة المتكلفة للفعل الاضطراري ، من نحو قوله : التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين ، وقوله علیه السلام : رب الصعيد رب الماء. ونحو أوامر التقية المتكلفة لا ثبات

ص: 233

الاتيان بالمأمور به على وفق مذهبهم تقية ، ونحو قاعدة الميسور ، وعمومات أدلة الحرج والاضطرار من نحو قوله سبحانه : ما جعل اللّه عليكم في الدين من حرج ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ، وحديث الرفع من قوله صلی اللّه علیه و آله ( وما اضطروا إليه ) ونحو ذلك من الأدلة والعمومات فنقول :

أما الأدلة الواردة في التيمم عند عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء والغسل ، من نحو قوله صلی اللّه علیه و آله : التراب أحد الطهورين فلا شبهة في ظهوره في نفسه في قيام المصلحة بالجامع بين الطهارة المائية والترابية نظراً إلى ظهوره في فردية التيمم حقيقة أو جعلا وتنزيلا لما هو الطهور المأمور به في مثل قوله : لا صلاة الا بطهور فان لازم فرديته للطهور حينئذ هو وفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة ، ولازمه هو الاجزاء عقلا وعدم وجوب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت ، كما أن لازمه أيضا هو جواز البدار وجواز تفويت الفرد الاختياري بإراقة الماء عمدا ولو بعد دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء كما نظيره في مثل الحاضر والمسافر.

نعم ربما يعارض هذا الظهور ظهور قوله سبحانه : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ فان ظاهره هو كون الطهارة المائية بخصوصيتها دخيلا في المطلوب لا بما انها مصداق لجامع الطهور وان ما هو الشرط هو الجامع بين الطهارة المائية والطهارة الترابية كي يكون الامر بالخصوصية في حال وجدان الماء ارشادا إلى حصر مصداق الجامع في هذا الحال بهذا المصداق ، ضرورة ان ذلك كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الامر بالخصوصية ، وحينئذ فإذا كان كذلك يلزمه لا محالة أيضا قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع بين الفردين ، وإلا فيستحيل تعلق الإرادة والطلب بالخصوصية مع فرض قيام المصلحة بالجامع. وعلى هذا فيتحقق التنافي بين هذا الظهور وبين ظهور مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : التراب أحد الطهورين ، بناء على ما قربناه من ظهوره ولو بالاطلاق في فردية التيمم لما هو الطهور المأمور به في الصلاة ووفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة ، وفي مثله لابد من تقديم ظهور قوله سبحانه من الامر بالغسل على ظهور دليل التيمم لمكان اقوائية ظهوره من ظهوره لكونه ظهورا وضعيا وهذا ظهور اطلاقي ناش من مقدمات الحكمة ، وحينئذ فيرفع اليد عن حجية ظهور دليل التيمم في حيث وفائه بتمام المصلحة بدليل الامر بالغسل ، لا عن أصل ظهوره كما قد يتوهم بان

ص: 234

الظهور الاطلاقي منوط ومتعلق بعدم ورود البيان على خلافه والظهور الوضعي صالح للبيانية وللقرينية عليه وبمجرد تحقق الظهور الوضعي يرتفع أصل ظهوره الاطلاقي ، إذ قد مر منا مكررا بطلان هذا التوهم بتقريب : ان عدم البيان الذي هو من جملة مقدمات الاطلاق انما هو عدم البيان متصلا بالكلام الذي يقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو إلى آخر الدهر ، وحينئذ فإذا لم يقم المتكلم في كلامه الذي أوقع به التخاطب قرينة متصلة به كما في المقام فلا جرم يستقر الظهور الاطلاقي لكلامه ومع استقرار هذا الظهور يتحقق التنافي والتعارض لا محالة بينه وبين ما ينافيه في كلام آخر منفصل عنه ومعه لابد في تقديم أحدهما على الآخر من لحاظ اقوائية أحد الظهورين على الآخر ونتيجة ذلك هو الاخذ بما هو الأقوى منهما في مقام الحجية ورفع اليد عن حجية ظهور الآخر لا عن أصل ظهوره كما في المقام - حسب ما قررناه من لزوم رفع اليد عن حجية ظهور قوله : ( التراب أحد الطهورين ) في قيام المصلحة بالجامع ووفاء التيمم بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.

ثم إن هذا كله بالنسبة إلى حيث ظهور دليل التيمم بمدلوله المطابقي في قيام المصلحة بالجامع ، واما بالنسبة إلى حيث ظهوره بمدلوله الالتزامي في الاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد ارتفاع الاضطرار والتمكن من استعمال الماء فيؤخذ بظهوره ذلك نظراً إلى عدم ظهور لدليل وجوب الوضوء على خلاف ظهوره يقتضي عدم الاجزاء ووجوب الإعادة ، وذلك من جهة سكوته من جهة قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء وعدمه ، وحينئذ فيكون ظهور دليل التيمم في الاجزاء ونفى الإعادة بمدلوله الالتزامي على حاله سليما من المعارض فيجب الاخذ حينئذ بظهوره ذلك ونتيجة ذلك حينئذ بعد هذا الجمع هو الحكم بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ولكن بمناط المفوتية للمصلحة القائمة بالخصوصية ، لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.

ومن ذلك أيضا يترتب عليه حرمة التفويت بمقتضي قضية الامر بالخصوصية ، فلايجوز عليه حينئذ إراقة الماء عند دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء بإراقته وان كان لو فعل ذلك يجزي ما أتى به من التيمم عن الطهارة المائية ولايجب عليه إعادة الصلاة بعد ارتفاع الاضطرار ووجدان الماء ، كما يشهد عليه أيضا اجماعهم على عدم جواز اتلاف الماء واراقته بعد دخول الوقت. خصوصا في فرض استمرار الاضطرار إلى آخر

ص: 235

الوقت ، إذ لولا ما ذكرنا : من قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع ومفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الخصوصية لما كان وجه لاجماعهم على عدم جواز التفويت كما هو واضح.

وأما توهم عدم امكان الجمع بين قيام المصلحة بالخصوصية وحرمة التفويت وبين الاجزاء بمناط الوفاء ببعض الغرض فلابد اما من القول بعدم الاجزاء رأسا بناء على فرض قيام المصلحة بالخصوصية أو القول بالاجزاء بمناط الوفاء بتمام الغرض ولازمه هو عدم حرمة التفويت أيضا فالجمع بين الامرين مما لا وجه له ، فمدفوع بأنه كذلك إذا كانت المصلحة المزبورة مرتبة واحدة تدور أمرها بين قيامها بالجامع أو الخصوصية وليس كذلك بل نقول : بأن لها مراتب مرتبة منها كانت قائمة بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري ومرتبة أخرى ملزمة منها كانت قائمة بالخصوصية ، وحينئذ فبإتيان الفعل الاضطراري تتحقق تلك المرتبة من المصلحة القائمة بالجامع وتبقى تلك المرتبة الأخرى القائمة بالخصوصية فحيث انها بعد استيفاء المرتبة القائمة بالجامع غير قابلة للتحصيل يحكم بالاجزاء مع حرمة التفويت فتدبر.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال الأدلة المتكلفة للتقية مما كان مصبها الوضع مثل الأدلة الدالة على اتيان العبادة على وفق مذهبهم كالصلاة مع التكتف والافطار حين غروب الشمس لا ما كان منها مصبها التكليف خاصة كالافطار في سلخ شهر رمضان المبارك ، إذ نقول فيها أيضا : بأن المستفاد من أدلتها بقرينة ما في بعض تلك الأخبار من امر الإمام علیه السلام باتيان الصلاة أولا في الدار ثم الحضور في جماعتهم انما هو اجزاء الفعل الاضطراري تقية عن الفعل الاختياري بنحو لايجب مع اتيانه الإعادة في الوقت فضلا عن القضاء في خارجه ، لكن الاجزاء المزبور لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الفعل الاختياري من المصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتب المصلحة ومفوتيته للمراتب الاخر.

وعمدة النكتة في استفادة هذين الامرين منها انما هي من جهة قضية الامر باتيان الصلاة في الدار أولا والحضور بعد ذلك في جماعتهم ، وذلك لما فيه من الدلالة ولو بالالتزام على نقصان الفرد الاضطراري بحسب الغرض والمصلحة عن الفرد الاختياري ، كدلالته أيضا على عدم امكان تحصيل المقدار الباقي من المصلحة بعد الاتيان بالفرد الاضطراري ، والا فمع فرض وفائه بجميع مراتب المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري الذي لازمه

ص: 236

قيامها بالجامع بينهما لا مجال للامر بالاتيان بالصلاة أولا في الدار. كما أنه في فرض عدم اجزائه وعدم مفوتيته للمقدار من المصلحة الملزمة لا مجال أيضا للامر بالاتيان بها أولا في الدار نظراً إلى تمكن المكلف حينئذ من اعادتها بعد ارتفاع التقية خصوصا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم كون الابتلاء بالتقية في تمام الوقت فيكون نفس الامر بالاتيان بها في الدار كاشفا قطعيا عن أن الفرد المأتى به تقية غير واف بتمام ما في الفرد الاختياري من الغرض والمصلحة وانه يبقى بعد مرتبة منها ملزمة في نفسها غير قابلة للاستيفاء بعد استيفائها ببعض مراتبها بالفرد الاضطراري ، من غير فرق في هذه الجهة بين القول ببدلية الفعل الاضطراري أو فرديته للطبيعة ، إذ على الفردية أيضا يمكن القول بالاجزاء بمناط المفوتية من جهة كون الطبيعي من التشكيكيات وكون الفرد الاضطراري مرتبة ضعيفة منها والفرد الاختياري مرتبة شديدة منها ، كما في مثل النور والبياض والحمرة ونحوها ، فمن هذه الجهة كان التكليف أولا متعلقا بمرتبة شديدة من الطبيعة وهو الفرد الاختياري ثم بعد تعذر ذلك كان التكليف متعلقا بالمرتبة الضعيفة منها التي هي الفرد الاضطراري لما فيه أيضا من الوفاء ببعض مراتب الغرض والمصلحة. ومن ذلك أيضا نقول : بأنه لا مجال لاستفادة الاجزاء بمجرد احراز فردية الفعل الاضطراري للطبيعة المأمور بها الا باحراز أحد الامرين : اما احراز قيام تمام المصلحة الملزمة بما لها من المراتب بالجامع بينهما كي يلزمه وفائه بتمام المصلحة الملزمة ، أو احراز مفوتية الفعل الاضطراري للمقدار الباقي من المصلحة الملزمة القائمة بالخصوصية ، كما استفدناها من قضية الجمع بين الامر بالخصوصية والامر بالفعل الاضطراري في باب التيمم وباب التقية.

هذا كله بالنسبة إلى أدلة التقية ولقد عرفت ان المستفاد منها جمعا بينها وبين الأدلة المثبتة للتكليف بالخصوصية هو الاجزاء مطلقا حتى بالنسبة إلى الإعادة فضلا عن القضاء لكن لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتبها مع مفوتيته لبعض المراتب الباقية.

واما مثل قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله : كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ، فمحل الكلام في البحث عن الاجزاء وعدمه فيها كما عرفت يختص بالاجزاء بالنسبة إلى خصوص القضاء دون الإعادة ، من جهة ما تقدم من

ص: 237

ان المستفاد منها هو كون مصبها مورد الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق ، إذ عليه لايكاد يتحقق موضوع لهذا البحث بالنسبة إلى الإعادة باعتبار اقتضاء الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق للاضطرار إليها في تمام الوقت ، وعلى ذلك نقول :

اما مثل قاعدة الميسور فلا شبهة في أن فيها اقتضاء عدم وفاء المأتي به الاضطراري بتمام الغرض والمصلحة ، لوضوح ان الميسور من الشيء الذي هو نصفه أو ربعه لايكون تمام الشيء حتى في مرحلة الوفاء بالمصلحة ، وحينئذ فباب احتمال الاجزاء عن القضاء فيها بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة مسدود قطعا ، وحينئذ فلو كان هناك إجزاء لابد وأن يكون بمناط المفوتية لمصلحة الخصوصية وفي مثله أمكن دعوى عدم استفادة الاجزاء من مثلها نظراً إلى عدم اقتضاء مجرد الامر بالميسور من الطبيعة في الوقت لعدم وجوب القضاء في خارج الوقت ولو من جهة عدم قابلية المقدار الفائت من المصلحة للاستيفاء. وحينئذ فإذا شك في قابليته للاستيفاء وعدم قابليته لذلك يرجع إلى الأصول على التفصيل المتقدم ، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم شمول دليل القضاء لصورة فوت بعض المصلحة واختصاصه صرفا أو انصرافا بفرض فوت تمام المصلحة كما هو التحقيق أيضا ، والا فلا تنتهي النوبة إلى مقام الأصول بل يحكم بعدم الاجزاء ووجوب القضاء بنفس أدلة القضاء ، كما هو واضح. هذا إذا كان مصب القاعدة هو الطبيعة كما في الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل.

واما لو كان مصبها هو الفرد كما في الاضطرار الطاري في حال الاشتغال بالعمل فيمكن استفادة الاجزاء من القاعدة المزبورة حتى بالنسبة إلى الإعادة بناء على جريانها حينئذ حتى مع القطع بطرو الاختيار فيما بعد بتقريب : ان قضية قاعدة الميسور حينئذ انما هو لزوم الاتيان بالميسور من هذا الفرد الذي اقتضى وجوب اتمامه دليل الامر بالطبيعة وقضية لزوم اتيانه بالميسور منه انما هو اتيانه بعنوان الفردية للطبيعة كما لو كم يطرء في البين اضطرار ، وقضية ذلك هو الاجزاء لا محالة وعدم وجوب الإعادة والقضاء. ولكن الأستاذ دام ظله لم يفرق بين الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل وبين الاضطرار الطاري بعد الاشتغال بالعمل ، ولكن عمدة نظره إلى انكار متعلق الامر بالاتمام بالنسبة إلى مثل هذا الفرد الذي طرأ الاضطرار بترك بعض اجزائه وشرائطه ولو مع العلم بالتمكن من الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد آخر.

ص: 238

واما عمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله ( كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ) بناء على كونها جملة مستقلة كما ادعاه بعض الاعلام بان الموجود في بعض النسخ الصحيحة هكذا ( التقية في كل شيء وكل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ) لا مربوطا بقضية الصدر كما في أكثر النسخ بأن ( التقية في كل شيء اضطر إليه ابن آدم ) الخ (1) إذ عليه لايرتبط بمطلق الاضطرار بل تختص بالاضطرار في التقية الذي عرفت الحال فيه مفصلا ، فتطبيقها تارة يكون على نفس الجزء أو الشرط أو المانع المضطر إليه ، وأخرى على نفس المركب والمقيد باعتبار ان الاضطرار إلى الجزء أو الشرط يوجب الاضطرار إلى نفس المركب والمقيد ، فعلى الثاني لا اشكال في أنه لا مقتضى للاجزاء ، لان مفاد دليل الاضطرار بعد تطبيقه على المركب والمشروط انما هو جواز ترك المركب والمشروط تكليفا عند تعذر جزئه وشرطه وحينئذ فبعد طرو الاختيار يجب القضاء بلا كلام ، واما على الأول من فرض تطبيقه على نفس الجزء أو الشرط المتعذر فمقتضاه هو الاجزاء لا محالة من جهة اقتضاء تطبيقه حينئذ على الجزء أو الشرط المتعذر لرفع جزئية ما كان جزء وشرطية ما كان شرطا في حال الاختيار وقضية ذلك لا محالة كانت هو الاجزاء.

وهكذا الحال في عمومات الحرج من نحو قوله سبحانه ( ما جعل اللّه عليكم في الدين من حرج ) حيث إنه بتطبيقها على الجزء أو الشرط الحرجي يستفاد الاجزاء بلحاظ اقتضائها لتحديد دائرة الشرطية والجزئية والمانعية بغير صورة الحرج كما يشهد له أيضا ما في خبر عبد الاعلى مولى آل سام من تطبيقه علیه السلام تلك القاعدة على شرطية المباشرة في المسح بقوله علیه السلام : ( يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل ، قال اللّه تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة ) ، حيث إنه علیه السلام اخذ بأصل المسح والقى قيد مباشرة البشرة بنفس تلك القاعدة فأمر بايجاد المسح على المرارة هذا.

ولكن الأستاذ دام ظله منع عن تطبيق تلك العمومات على الجزء والشرط والمانع ببيان ان مفاد تلك العمومات انما كان أحكاما امتنانية ولابد في تطبيقها على مورد ان لا

ص: 239


1- الوسائل ، ج 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.

يلزم منها خلاف امتنان على المكلف من جهة أخرى فمن هذه الجهة لا مجال لتطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر باعتبار ما يلزمها حينئذ من اثبات التكليف بما عدا الجزء أو الشرط المتعذر وهو بنفسه خلاف الارفاق على المكلف لأنه لو لاها لكان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر نظراً إلى قضية انتفاء المركب والمقيد بانتفاء اجزائه وقيده فينحصر حينئذ تطبيقها على نفس المركب والمقيد كي لازمه سقوط التكليف بالمرة عن المكلف بالنسبة إلى الفاقد للجزء أو الشرط المتعذر. ثم انه لما كان يرد عليه اشكال تطبيق الإمام علیه السلام قاعدة نفى الحرج على الشرط المتعذر كما في رواية عبد الاعلى المتقدمة أجاب عنه بان قضية التطبيق على الشرط المتعذر في تلك الرواية انما هي باعتبار وقوع المكلف على كل تقدير في مشقة التكليف : اما التكليف بالتيمم في فرض سقوط التكليف بالوضوء من جهة تعذر المسح على البشرة واما التكليف بالوضوء بالغاء شرطية المباشرة على ما هو قضية التطبيق على شرطية مباشرة الماسح للبشرة فمن هذه الجهة لم يلزم من التطبيق على الشرط المتعذر خلاف امتنان على المكلف ، بخلافه في غير ذلك المقام مما كان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر فإنه في أمثال تلك المقامات لو طبق تلك العمومات على الجزء أو الشرط المتعذر يلزم منها اثبات التكليف بالفاقد فيلزم من تطبيقها خلاف الامتنان على المكلف هذا.

ولكن أقول : بأنه يتوجه عليه انه في غير ذلك المورد أيضا لا يخلوا المكلف عن مشقة التكليف : اما التكليف بالقضاء بناء على فرض تطبيقها على نفس المركب والمقيد واما التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر على فرض تطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر وحينئذ فإذا كان المكلف في كلفة التكليف على كل تقدير لا بأس بتطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر في سائر المقامات أيضا. ولئن قيل : بان ثبوت التكليف بالقضاء في خارج الوقت انما هو من لوازم عدم الاتيان بالمأمور به خارجا في الوقت لا من لوازم تطبيق دليل الحرج أو الاضطرار على المركب والمقيد ، نقول : بأنه يكفي لنا حينئذ في اثبات التكليف بالبقية كما في باب الصلاة ما دل على انها لا تترك بحال ، من دون احتياج إلى اثبات وجوب البقية بأدلة الحرج والاضطرار حتى يرد عليه اشكال خلاف الارفاق في فرض تطبيقها على الجزء والشرط المتعذر فتدبر.

ص: 240

وكيف كان فقد تلخص من جميع ما ذكرنا في الفعل الاضطراري ان مقتضي القاعدة الأولية المستفادة من الأدلة المثبتة للاجزاء والشرائط هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة في الوقت بعد ارتفاع الاضطرار أو القضاء في خارج الوقت ، ولكن مقتضي القاعدة الثانوية المستفادة من أدلة الاضطرار في باب التقية وباب التيمم حسب الجمع بين أدلتها وبين الامر بخصوصية الفرد الاختياري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء في خارج الوقت مع حرمة التفويت أيضا بالاختيار بلحاظ مفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الخصوصية ، ولذلك قلنا بان الاجزاء فيها كان بمناط التفويت للمقدار الباقي من المصلحة لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة واما في مطلق الاضطرار في غير باب التقية والتيمم مما كان دليله قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار والحرج فعدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة قطعا لعدم الموضوع له في فرض طرو الاختيار في الوقت ، وعلى اشكال أيضا في الاجزاء بالنسبة إلى القضاء ينشأ مما عرفت من عدم استفادة المفوتية لمصلحة الخصوصية من العمومات المزبورة فلابد حينئذ من الرجوع إلى اما يقتضيه الأصل العملي ، ولقد تقدم ان مقتضي الأصل مع احتمال قيام المصلحة الباقية الفائتة بالفرد الاختياري الواقع في الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت موجبة لكون الفرد الاختياري الواقع فيه ذا مزية زائدة على الفرد الاضطراري الواقع فيه والفرد الاختياري الواقع في خارج الوقت هو البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت ، لعدم احراز بقاء مصلحة ملزمة حينئذ في خارج الوقت كي يكون الشك في القدرة على استيفائها. واما مع احراز قيام المصلحة الفائتة بالجامع بين الفرد الاختياري في الوقت والفرد الاختياري في خارجه وتمحض الشك في القدرة على استيفائها فمقتضى الأصل هو الاحتياط لا غير فتدبر.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك الحال في الحكم بجواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه ، فإنه فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار إلى الطبيعة كما في باب التقية بل وباب التيمم أيضا على ما استفدناه من الآية الشريفة كان الحكم فيه هو جواز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار وطرو الاختيار عليه في الوقت فضلا عن فرض الشك في زوال اضطراره فيه ، وذلك انما هو من جهة اقتضاء قضية الامر باتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه الذي هو مطلق الاضطرار ، فإنه من ذلك ربما يستفاد الترخيص فيما يستتبعه

ص: 241

الفعل الاضطراري من تفويت مصلحة الخصوصية ، ولاينافي ذلك ما ذكرناه آنفا من حرمة التفويت ، لان ذلك انما هو بلحاظ قبل حال طرو الاضطرار لا بلحاظ حال طرو الاضطرار الذي هو مورد البحث في هذا المقام. فلا تنافي حينئذ بين حرمة اتلاف الماء مثلا في الوقت وادخال نفسه في موضوع ( من لم يجد ) وبين جوازه بداره باتيان الصلاة مع التيمم في فرض تحقق الاضطرار وان استلزم ذلك تفويت مقدار من المصلحة الملزمة من جهة امكان ابتلائها في هذا الحال بمصلحة أخرى أهم وهي مصلحة التسهيل مثلا. نعم لو لم يكن في البين حينئذ امر من الشارع باتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه أمكن لنا دعوى عدم الجواز بلحاظ مقدمية المأتى به الاضطراري لتفويت مصلحة الخصوصية بناءا على القول بها لكن لازمه أيضا هو عدم الاجزاء بلحاظ وقوعه حينئذ حراما ومنهيا عنه وإلا فبناء على القول بمنع المقدمية وكونه مجرد التلازم الخارجي كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه في مبحث الضد إن شاء اللّه تعالى لا مقتضي لعدم الجواز أيضا فيجوز له البدار وان عصى بتفويته لمصلحة الخصوصية. هذا كله فيما إذا كان موضوع التكليف هو مطلق الاضطرار بالطبيعة.

وأما ما كان موضوعه هو الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما استفدناه من نحو قاعدة الميسور وعمومات الحرج والاضطرار ففيها لا مقتضي لعدم جواز البدار إلا من جهة التشريع ، من جهة وضوح عدم استلزام البدار باتيان الفعل الاضطراري حينئذ لتفويت مصلحة الفعل الاختياري وحينئذ فلابد من ملاحظة شقوق المسألة ، فمع العلم بطرو الاختيار في الوقت لايجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بعنوان الامر به من جهة كونه حينئذ تشريعا محرما. واما مع عدم العلم بطرو الاختيار في الوقت واحتمال بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت ، فان بنينا على كفاية احتمال الامر في صحة العبادة مع الامكان ، فلا اشكال في أن لازمه هو جواز بداره فيجوز له حينئذ البدار باتيان الفعل الاضطراري بداعي احتمال الامر ، فإذا بقى اضطراره من باب الاتفاق إلى آخر الوقت يجزيه عن القضاء في خارج الوقت على التفصيل المتقدم وإذا لم يبق اضطراره إلى آخر الوقت يجب عليه الإعادة في الوقت ، من جهة كشف اختياره في الوقت عن عدم الامر بالفعل الاضطراري وعدم رجحانه حين الاتيان به. وأما ان بنينا على إعتبار الجزم بالامر في صحة العبادة ومشروعية الدخول فيها ، فلازمه هو عدم جواز البدار ووجوب تأخيره إلى

ص: 242

وقت يقطع قطعا عاديا بعدم زوال اضطراره. نعم لو انتهى الامر إلى هذه المرحلة أمكن دعوى جواز البدار بمقتضي أصالة بقاء الاضطرار ، حيث إنه علي يقين منه فعلا وقد شك في زواله في الآنات المتأخرة قبل خروج الوقت فيستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره كما في صورة القطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت. واما توهم عدم اليقين الفعلي بالاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق حتى بالنسبة إلى افرادها التدريجية ، فمدفوع بأنه حين تحقق الاضطرار كما يصدق الاضطرار إلى الطبيعة بالنسبة إلى فردها الفعلي كذلك يصدق الاضطرار أيضا في ذلك الآن بالنسبة إلى بقية افرادها التدريجية في الآنات المتأخرة من جهة وضوح عدم تمكنه فعلا من الاتيان بافرادها التدريجية ، فيصدق حينئذ انه كان مضطرا إلى ترك الطبيعة بقول مطلق فعلا ، وحيث انه يشك في بقائه إلى آخر الوقت يستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره فعلا حتى مع الظن بزوال اضطراره فيما بعد بل ومع الاطمينان به أيضا.

وحينئذ فعلى كل تقدير التفصيل في جواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه بين صورة رجاء زوال العذر في الوقت والظن ببقاء العذر إلى آخر الوقت أو الشك به مما لايقتضيه القواعد ، بل فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار كباب التقية بل التيمم على اشكال في الأخير يجوز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار في الوقت فضلا عن الظن أو الشك في بقاء اضطراره إلى آخر الوقت. وفيما كان موضوعه الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق لايجوز البدار مع القطع بزوال العذر لمكان التشريع ، ومع عدم القطع بذلك يجوز البدار للاستصحاب المزبور ، فتدبر.

هذا كله في المقام الثاني.

واما المقام الثالث

فمحل الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري من الواقع عند كشف الخلاف إعادة وقضاء فنقول :

ان الكلام في هذا المقام يقع تارة في الامارات وأخرى في الأصول.

اما الأولى ( وهي الامارات ) ، فان بنينا فيها على الطريقية كما هو التحقيق فلاينبغي الاشكال في عدم اقتضائها للاجزاء وانه يجب الإعادة في الوقت عند انكشاف الخلاف أو القضاء في خارج الوقت ، ووجه عدم الاجزاء فيها على هذا القول واضح ، لأنه لم يحدث

ص: 243

حينئذ بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كي أمكن القول فيها بالاجزاء اما بمناط الوفاء بتمام المصلحة الواقعية أو بمناط المفوتية لها ، بل ولو كان هناك مصلحة فإنما هي في أصل الجعل والترخيص على خلاف الواقع وهي غير مرتبطة بالمتعلق كي يجيء فيه احتمال المفوتية أو الوفاء بالتمام. ولا مجال أيضا لتوهم كفاية المصلحة في الجعل عن المصلحة القائمة بالمتعلق ، والايلزمه الاجزاء ولو مع عدم الاتيان المكلف بما هو مؤدى الامارة نظراً إلى تحقق الغرض الذي هو التسهيل على العباد وعدم وقوعهم في كلفة تحصيل الواقعيات بنفس جعل الامارة حجة ولو لم يأت المكلف بما هو مؤدى الامارة ، مع أن ذلك كما ترى لا يتوهمه ذو مسكة.

وحينئذ فإذا لم يحدث بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كما على الموضوعية ولايكون قضية الامر بسلوك الامارة في ظرف المخالفة الا أمرا صوريا منتجا للمعذورية عن تبعة مخالفة الواقع فلا جرم يلزمه عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف من غير فرق في ذلك بين ان يكون دليل حجية الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع أو بلسان ايجاب العمل على طبق مؤدى الامارة أو بلسان تتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف ، فان تلك الألسنة كما تجري على الموضوعية تجرى أيضا على الطريقية من جهة ان المناط في الموضوعية والطريقية انما هو كون الامر بالعمل على طبق المؤدى أمرا حقيقيا ناشئا عن مصلحة مستقلة في المتعلق في صورة المخالفة أو كونه أمرا صوريا في فرض المخالفة ، من دون اثمار لتلك الألسنة في الطريقية والموضوعية بوجه أصلا. نعم كون دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى انما يثمر في جهة أخرى أجنبية عن تلك الجهة وهي مقام تحكيم الامارة على الأصول وعدم تحكيمها ، لا بالنسبة إلى مقام الطريقية والموضوعية. فالمقصود من هذا البيان انما هو بيان عدم اثمار اختلاف تلك الألسنة في الطريقية والموضوعية كما توهم كي يقال : بأنه إذا كان بلسان تتميم الكشف لابد من القول بالطريقية وإذا كان بلسان تنزيل المؤدى لابد من الموضوعية ، فتدبر. وكيف كان فهذا كله على القول بالطريقية كما هو المختار ، ولقد عرفت بأنه على هذا المبنى لا محيص من عدم الاجزاء بمقتضي القواعد كان دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان آخر غير هذين.

واما على الموضوعية والسببية على معنى صيرورة المؤدى ذا مصلحة مستقلة بسبب

ص: 244

قيام الامارة اقتضت تلك المصلحة ايجاب العمل على طبقه وان خالفت الواقع لا على معناها المستحيل الذي يوجب انقلاب الواقع عما عليه إلى التكليف بمؤدى الامارة كما يقوله القائل بالتصويب ففيها تفصيل من جهة اختلاف الحال حينئذ في الحكم بالاجزاء حسب اختلاف كيفية السنة دليل الامارة من كونه بلسان تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تعبدا أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان ثالث غير هذين ، فنقول :

أما إذا كان دليل الحجية بلسان تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تعبدا فلازمه قهرا هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف ، ضرورة ان المصلحة الواقعية حينئذ على ما هي عليها وهي تقتضي لزوم تحصيلها باتيان المأمور به إعادة في الوقت وقضاء في خارجه وحينئذ لا وجه لتوهم الاجزاء في مثل هذا الفرض الا من جهة دعوى المضادة بين المصلحتين وعدم التمكن من استيفاء المصلحة الواقعية مع استيفاء هذه المصلحة فلا بد في الحكم بالاجزاء حينئذ من اثبات هذه المضادة ، والا فمع عدم اثبات هذه الجهة لا محيص من وجوب الإعادة ولو من جهة الشك في القدرة ، كامر تفصيله سابقا.

ومن ذلك يظهر الكلام أيضا فيما لو كان مفاد دليل الحجية مجرد ايجاب العمل على طبق المؤدى كما لو كان في لسان الدليل : انه إذا أخبر العادل بوجوب شيء أو حرمته يجب ذلك الشيء أو يحرم ، إذ نقول في هذا الفرض أيضا بعدم اقتضاء مثل هذا اللسان للاجزاء وعدم وجوب الإعادة الا بمناط المضادة والمفوتية فمع عدم احراز هذه الجهة لابد من الإعادة أو القضاء ولو بمناط الشك في القدرة.

وأما إذا كان بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فمقتضى القاعدة فيه أيضا هو عدم الاجزاء فيما لو كان بلسان التعبد بترتب آثار الواقع على المؤدى ، إذ حينئذ من حين كشف الخلاف يرتفع التعبد المزبور أيضا فيجب من حين كشف الخلاف ترتيب آثار الواقع التي منها وجوب الإعادة والقضاء : نعم في هذا الفرض لو كان بلسان اثبات التوسعة الحقيقية في الأثر الواقعي بما يعم الواقع والظاهر كما لو كان بلسان : أن ما هو الشرط في لباس المصلي مثلا أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فمقتضى القاعدة فيه قهرا هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة بل على هذا الفرض لا مجال لكشف الخلاف نظراً إلى وقوع المأمور به حينئذ في ظرف ايقاعه واجدا لما هو شرطه حقيقة.

ص: 245

وحينئذ فصار متحصل الكلام في الامارات هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء على الطريقية مطلقا وعلى الموضوعية أيضا كذلك الا في صورة واحدة وهي صورة كون مفاد دليل الامارة بلسان تنزيل المؤدى مع اقتضائه أيضا لتوسعة الأثر الذي هو موضوع التكليف الواقعي حقيقة لا عناية وتعبدا. هذا كله على الطريقية والموضوعية بمعناها الممكن منه ، وأما على الموضوعية بمعناها المستحيل كما يدعيه القائل بالتصويب فالاجزاء فيها واضح نظراً إلى عدم تصور كشف الخلاف حينئذ.

واما الأصول العملية فهي على أنحاء حسب اختلاف ألسنتها من كونها تارة بلسان التنزيل كالاستصحاب وأخرى بلسان رفع المشكوك فيه كما في حديث الرفع ودليل الحجب ونحوهما وثالثة بلسان اثبات الصغرى لما هي الكبرى الكلية المستفادة من الأدلة الواقعية كما في قاعدتي الحلية والطهارة فلابد من افراز كل واحد منها بالبحث مستقلا في استفادة الاجزاء وعدمه فنقول :

اما الاستصحاب فإن بنينا على رجوع التنزيل فيه في لا تنقض اليقين إلى نفس اليقين ، على معنى اخذ اليقين فيه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو التحقيق أيضا على ما حقق في محله فلاينبغي الاشكال في عدم اقتضائه للاجزاء بل لا مجال لتوهمه من جهة ان قضية النهى عن نقض اليقين حينئذ ليست الا المعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي في لزوم الحركة على طبقه من دون اقتضائه لمصلحة حينئذ في نفس العمل كي أمكن تصور الاجزاء فيه بأحد المناطين المزبورين سابقا وحينئذ فعند انكشاف الخلاف لما كانت المصلحة الواقعية على حالها بلا استيفاء تماما أو بعضا فلا جرم تقتضي وجوب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت وهو واضح.

واما ان بنينا على رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن وان اليقين في دليله لو حظ مرآة إلى المتيقن لا استقلالا كما هو مختار الكفاية قدس سره فان قلنا : بان مفاد لا تنقض عبارة عن جعل مما ثل الأثر للمشكوك في ظرف الشك كما اختاره في الكفاية في مبحث الاستصحاب فلا اجزاء أيضا فإنه إذا كان الشرط في الصلاة مثلا بحسب ظواهر الأدلة هو الطهارة الواقعية الثابتة للشيء بعنوانه الأولى فلا جرم لايكاد يفيد مثل هذه الطهارة الظاهرية الاستصحابية في الحكم بالاجزاء بل لايكاد يجدي أيضا في أصل جواز الاتيان بالصلاة مع مثل هذه الطهارة الا إذا فرض ان ما هو الشرط في دليل الكبرى هو الأعم

ص: 246

من الطهارة الواقعية والظاهرية الاستصحابية فيجوز له الدخول معها حينئذ في الصلاة ويجزى المأتى به معها أيضا عن الإعادة والقضاء باعتبار اتيانه حينئذ بما هو المأمور به واجدا لما هو شرطه وهو الطهارة.

واما ان قلنا : بأنه ليس مفاد لا تنقض عبارة عن جعل المماثل وانه ليس مفاده الا مجرد التعبد بالطهارة في ظرف الشك بمحض اليقين بالطهارة سابقا فحينئذ القول بالاجزاء وعدمه مبني على إفادة مثل هذا التنزيل لا ثبات التوسعة الحقيقية لدائرة الشرطية في كبرى الدليل بما يعم الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة التعبدية التنزيلية فبناء على استفادة هذه الجهة كما اختاره في الكفاية في مبحث الاجزاء لا جرم يلزمه الاجزاء قهرا وعدم وجوب الإعادة ، بل على هذا المسلك لا معنى لانكشاف الخلاف أيضا لأنه بعد استفادة التوسعة لدائرة الشرطية من دليل حرمة النقض يكون المأتى به مع الطهارة التعبدية الاستصحابية واجدا لما هو شرطه بحسب الواقع ومعه لا معنى لانكشاف الخلاف كما لايخفى ، والا فبناء على عدم إفادة مثل هذا التنزيل الا مجرد التعبد بوجود ما هو الشرط الواقعي في المورد بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في الأثر فلا مجال أيضا للاجزاء بوجه أصلا كما لايخفى ، إذ حينئذ بعد انكشاف الخلاف تقتضي الشرطية والجزئية الواقعية لوجوب الإعادة أو القضاء.

وحينئذ فاستفادة الاجزاء في المأتى به بالامر الاستصحابي الجاري في تنقيح ما هو موضوع التكليف بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره منوط بأحد الامرين : اما استفادة إفادة مثل هذا التنزيل للتوسعة الحقيقية في دائرة ما هو شرط المأمور به في كبرى الدليل بما يعم الطهارة الواقعية الحقيقية التعبدية التنزيلية ، واما استفادة إفادته لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك مع الالتزام أيضا بان ما هو الشرط في كبرى الدليل أعم من الواقع والظاهر ليكون دليل حرمة النقض من باب الورود دون الحكومة كما على الأول ، ولكن مسلك الكفاية في باب الاستصحاب حيث كان على استفادة جعل مماثل الأثر كان الحري عليه في المقام تقريب الاجزاء بمناط الأخير وهو الورود دون الحكومة.

ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون مثل هذا المسلك بل وسابقه خلاف التحقيق ، فان التحقيق على ما حققناه في محله هو رجوع التنزيل في حرمة النقض إلى نفس اليقين ملحوظا كونه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو مسلك الكفاية ، ومن ذلك

ص: 247

أيضا نلتزم بقيام الاستصحاب مقام الامارات والقطع الطريقي كما في باب الشهادة ، ونلتزم أيضا بتقديم مثل الاستصحاب على قاعدة الحلية والطهارة بمناط الحكومة دون الورود ودون التخصيص ، وعليه كما عرفت لابد من القول بعدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف. بل وعلى فرض تسليم اخذ اليقين في دليل حرمة النقض مرآة إلى المتيقن وعبور التنزيل من اليقين إليه نقول : بان غاية ما يقتضيه التنزيل المزبور حينئذ انما هو مجرد التعبد بوجود الأثر وتحققه عند الشك لا التوسعة الحقيقية لدائرة الأثر والشرطية الواقعية ولا اقتضاء جعل مماثل الأثر للمشكوك حقيقة كي يحتاج إلى التصرف في ظاهر دليل كبرى الأثر بجعله عبارة عن الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية حتى يترتب عليه الاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف ، وعليه لا محيص من القول بعدم الاجزاء ، من جهة انه بانكشاف الخلاف وحصول العلم بالنجاسة يرتفع التعبد المزبور ومع ارتفاعه لابد بمقتضي شرطية الطهارة الواقعية والحلية الواقعية من الإعادة والقضاء الا إذا كان هناك دليل بالخصوص على عدم وجوب الإعادة والقضاء كما في الطهارة الخبثية.

كيف وان نفس الالتزام بجعل مماثل الأثر حقيقة أو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر لا يخلو عن محذور شديد بلحاظ ما يترتب عليهما من التوالي الفاسدة : فإنه مما يترتب على الأول لزوم عدم جريان استصحاب الطهارة في ماء تالف فعلا قد غسل به ثوب نجس أو توضأ به سابقا باعتقاد الطهارة ، من جهة انه في ظرف الشك الذي هو ظرف جريان الاستصحاب لا وجود للماء المغسول به الثوب النجس حتى أمكن جعل الطهارة الحقيقية ولو ظاهرية له ، فلابد حينئذ اما من القول بجواز جعل الطهارة الحقيقية حينئذ للماء التالف أو الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في مثل الفرض عند الشك في طهارة الماء التالف الذي غسل به الثوب النجس سابقا ، مع أنهما كما ترى ، فان الأول منهما مستحيل في نفسه والثاني منهما خلاف الاجماع فإنه جماع منهم يجرى استصحاب الطهارة بالنسبة إلى الماء التالف ويحكم بطهارة الثوب المغسول به وبصحة الوضوء السابق وصحة الصلاة المأتى بها مع ذلك الوضوء بلا كلام. ومما يترتب عليه بل وعلى الأخير أيضا من التوالي الفاسدة في نحو قوله : كل ثوب نجس غسل بماء طاهر يطهر ، فإنه بناء على أعمية الطهارة في الماء في كبرى الأثر من الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة الظاهرية

ص: 248

الاستصحابية يلزمه الحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة حتى بعد انكشاف الخلاف ، فيلزمه الحكم أيضا بطهارة ملاقيه وجواز الدخول معه في الصلاة بمحض انغساله سابقا بماء محكوم بالطهارة شرعا بمقتضي الاستصحاب ، لكونه مما صدق عليه انه ثوب نجس وقد غسل في زمان غسله بماء طاهر مع أنه كما ترى لايكاد التزام أحد به.

فلا محيص حينئذ من اجل هذه المحاذير والتوالي الفاسدة من المصير إلى أن الطهارة المعتبرة في ناحية الماء في دليل كبرى الأثر عبارة عن خصوص الطهارة الواقعية ، وان ما هو مفاد دليل حرمة النقض في فرض رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن عبارة عن مجرد التعبد بوجود الأثر وتحقق الطهارة في المورد الراجع إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية ما دام الشك بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا اقتضاء لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك ، وعليه فلا محيص من القول بعدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف ، كما هو واضح.

واما ما كان منها بلسان رفع المشكوك فيه كحديث الرفع والحجب فتوهم الاجزاء فيها انها هو من جهة خيال اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية والشرطية الواقعية واقتضائها بالملازمة لتحديد دائرة المأمور به بما عدا الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية ، ولكنه من الغفلة عن استحالة اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية نظراً إلى أن العلة للرفع حينئذ انما كان هو الجهل والشك بالجزئية وهو من جهة تأخره الرتبي عن الجزئية الواقعية لايكاد يقتضي رفع ما هو في الرتبة السابقة بوجه أصلا بل ما هو المرفوع حينئذ لايكون الا ما هو نقيض هذا الرفع المتأخر عن الشك وهو لايكون الا الوجود في تلك المرتبة المتأخرة عن الشك لا الوجود في الرتبة السابقة عن الشك وهو الجزئية الواقعية لأنه لايكون نقيضا لهذا الرفع المتأخر ، فيستحيل حينئذ تعلق الرفع في المرتبة المتأخرة حقيقة بالوجود في المرتبة السابقة على الشك أعني الجزئية الواقعية. وحينئذ فبعد عدم اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية حقيقة فلا بد وأن يكون الرفع رفعا تعبديا تنزيليا بلحاظ عدم وجوب الاحتياط في مقام العمل وعليه نقول : بأنه بعد انكشاف الخلاف لابد من الإعادة ، لاقتضاء الجزئية الواقعية حينئذ وجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف ، هذا.

ص: 249

على أن مثل هذا اللسان باعتبار سوقه قي مقام الامتنان لايكاد يرفع الا ما يكون في وجوده ضيق على المكلف وهو لايكون الا ايجاب الاحتياط لأنه هو الذي يكون المكلف في ضيق من جهته وهو الذي في رفعه امتنان على المكلف دون التكليف الواقعي أو الجزئية الواقعية ، لعدم كونهما بوجود هما الواقعي ضيقا على المكلف حال الجهل حتى يقتضى الامتنان رفعه ، كما هو واضح. ومعلوم حينئذ في مثله انه لا مجال لتوهم الاجزاء بعد انكشاف الخلاف كما لايخفى ، هذا. ولكن الأستاذ دام ظله اقتصر في بحثه على الاشكال الأول ولم يتعرض لهذا الاشكال ولعله من جهة عدم جريان هذا الاشكال في مثل حديث الحجب لعدم كونه كحديث الرفع مسوقا في مقام الامتنان.

وكيف كان قد يورد عليه اشكال آخر في أصل اقتضاء اللسان المزبور لا ثبات التكليف بالبقية ، بتقريب : ان ثبوت التكليف بما عدا الجزء المشكوك الجزئية انما هو من لوازم عدم كونه جزء واقعيا ، وبعد عدم اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية الواقعية حقيقة لا مجال أيضا لا ثبات التكليف بالبقية بمحض جريان دليل الرفع واقتضائه لنفى الجزئية ظاهرا الا على القول بالمثبت ، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم اقتضاء أدلة نفس الاجزاء والشرائط المعلومة أيضا لاثبات وجوب الاتيان بها مطلقا حتى في فرض عدم انضمام بقية الاجزاء لعدم اطلاق لها يقتضى التكليف بها حتى في حال عدم انضمام بقية الاجزاء الاخر ، كما يكشف عنه عدم تمسكهم باطلاق أدلة الاجزاء المعلومة لا ثبات التكليف بها في مبحث الأقل والأكثر ، هذا. ولكنه يمكن التفصي عن هذا الاشكال بان ثبوت التكليف بما عدا المشكوك الجزئية حينئذ وان كان مبنيا على المثبت ولكنه من جهة جلاء الواسطة فيه لا يضر به جهة المثبتية ، إذ هو حينئذ نظير الأبوة والبنوة من حيث فهم العرف من جهة شدة الملازمة بينهما عدم انفكاك تنزيل أحدهما عن تنزيل الآخر ، فتأمل.

واما قاعدة الحلية المستفادة من قوله علیه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ) فيتصور فيها وجوه : فإنه تارة يكون المراد من تلك الحلية خصوص الحلية الاقتضائية الناشئة من مثل مصلحة التسهيل أو غيرها ، وأخرى يكون المراد ما يعمها والحلية اللا اقتضائية الناشئة من جهة عدم اقتضاء الحرمة فيه. فان كان الأول فلازمه عدم صحة تطبيقها على شرط المأمور به في كبرى الأثر من

ص: 250

نحو قوله : يجوز الصلاة فيما يحل اكله ، لان موضوع الأثر في هذا الدليل عبارة عن خصوص الحلية اللااقتضائية فمع الشك في كون الوبر من حلال الاكل بالحلية اللااقتضائية لا يفيد تلك القاعدة في تطبيق كبرى الأثر على المورد حتى يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة كما هو واضح.

وان كان الثاني فتارة نقول بان القاعدة من الأصول التنزيلية المحرزة للواقع كما هو الشأن في قاعدة الطهارة أيضا وان مفادها عبارة عن اثبات الحلية الواقعية في المورد تعبدا وتنزيلا لا اثبات الحلية الحقيقية الظاهرية للشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ، وأخرى نقول بأنها من القواعد المتكلفة لا ثبات الحلية الظاهرية للشيء حقيقة بعنوان كونه مجهول الحكم في طول الحلية الواقعية ، وعلى الأول فمفاد القاعدة تارة يكون هو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية نظير الاستصحاب بناء على القول باقتضاء دليل حرمة النقض لجعل المماثل للأثر حقيقة ، وأخرى يكون مفادها مجرد التعبد بوجود الشرط والبناء على كون المشكوك حلالا واقعيا بلا اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهي الشرطية فضلا عن اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة نفس الشرط وهي الحلية. فهذه وجوه متصورة في تلك القاعدة.

وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم ، فإنه بناء على اقتضائها لجعل الحلية الظاهرية الحقيقية في المورد لا اشكال في أنه لايكاد يثمر في تطبيق كبرى الأثر على المورد ، لان الأثر في كبرى الدليل في نحو قوله : يجوز الصلاة في ما يحل اكله ، انما هو مترتب على محلل الاكل الواقعي لا على ما يعمه والحلية الظاهرية ، وحينئذ فمع الشك في كون الوبر من محلل الاكل الواقعي لا يثمر في التطبيق مجرد كون المورد محللا ظاهريا ومعه لايكاد يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة حتى ينتهى الامر بعد ذلك إلى البحث عن الاجزاء وعدمه ، كما هو واضح. نعم إنما يثمر ذلك في مقام التطبيق فيما إذا استفيد من دليل كبرى الأثر تعميم الحلية بما يعم الواقع والظاهر ، إذ حينئذ بجريان القاعدة المزبورة يصير المورد من المصاديق الحقيقية لما هو شرط المأمور به ولازمه قهرا حينئذ هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة باعتبار وقوع العمل حينئذ واجدا حقيقة لما هو شرطه وعدم تصور انكشاف الخلاف معه.

ومن ذلك البيان يظهر انه كذلك الامر أيضا في فرض اقتضائها للتوسعة الحقيقية في

ص: 251

دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية ، إذ لازم هذا المعنى أيضا قهرا يكون هو الاجزاء. واما توهم امتناع الحكومة بهذا المعنى من التوسعة الحقيقية باعتبار عدم كون الدليل الحاكم حينئذ في رتبة المحكوم وامتناع ان يكون للحلية الواقعية سعة اطلاق يشمل المرتبة المتأخرة عن نفسها ، فمدفوع بان ذلك كذلك بالنسبة إلى نفس الشرط وهو الحلية الواقعية ، فإنه بعد امتناع سعة الدائرة فيها بنحو تشمل المرتبة المتأخرة عن الشك بها يستحيل اقتضاء القاعدة المزبورة للتوسعة الحقيقية فيها حتى بالنسبة إلى مرتبة الشك المتأخر عنها ، واما بالنسبة إلى اثرها الذي هو الإناطة والشرطية فلا وجه لدعوى استحالته بل هو امر ممكن في نفسه فإنه من الممكن جدا التوسعة الحقيقية في دائرة الشرطية على معنى قيامها بما يعم الحلية الواقعية الحقيقية والحلية التعبدية التنزيلية ، لأنها مما أمرها بيد الشارع والجاعل فكما ان للشارع جعل الإناطة لخصوص الحلية الواقعية كذلك له جعلها لما يعمها والحلية التعبدية التنزيلية. وحينئذ فإذا عبدنا الشارع في مورد بأنه حلال الاكل واقعا وكان لسان دليل التعبد بلسان التوسعة الحقيقية لدائرة كبرى الأثر ، فلا جرم يلزمه جواز الدخول معه في الصلاة ، كما أن لازمه القهري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عند انكشاف الخلاف وتبين كونه من محرم الاكل. هذا بناء على اقتضاء القاعدة للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر.

واما بناء على عدم اقتضائها الا مجرد التعبد بالبناء على الحلية الواقعية فعليه وان كان يثمر أيضا في تطبيق كبرى الأثر على المورد فيجوز الدخول معه في الصلاة ولكن لايلزمه حينئذ نفى وجوب الإعادة والاجزاء عند انكشاف الخلاف بل مقتضي دليل شرطية الحلية الواقعية انما هو عدم الاجزاء وجوب الإعادة والقضاء عند تبين الخلاف وانكشاف كونه غير حلال الاكل ، من جهة انه من حين انكشاف الخلاف يرتفع التعبد المزبور فيقتضي قضية الشرطية الواقعية من ذاك الحين وجوب الإعادة ، كما هو واضح. هذا كله حسب مقام التصور.

وأما بحسب مقامين التصديق فلاينبغي الارتياب في أن المتعين من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير ، فان دعوى كون القاعدة مسوقة لا ثبات الحقيقية الظاهرية للشيء المشكوك الحكم بعيدة غايته لاستلزامه عدم جواز تطبيق كبرى الأثر على الموارد المشكوكة الا بالالتزام بترتب كبرى الأثر في الخطاب الواقعي في نحو قوله : يجوز الصلاة فيما

ص: 252

يحل اكله ، على الأعم من الحلال الواقعي والظاهري ، وهو كما ترى خلاف ظاهر الخطاب ، من جهة وضوح ظهورها في خصوص الحلال الواقعي دون الأعم ، كما هو واضح. كما أن مثلها في البعد أيضا دعوى كونها مسوقة للتوسعة الحقيقية في دليل كبرى الأثر ، إذ نقول حينئذ : بأنه على ذلك وإن لم يلزم رفع اليد عن ظهور الأدلة المتكلفة لكبري الأثر ، ولكنه أيضا خلاف الظاهر جدا ، فان القدر الذي يقتضيه هذا اللسان في القاعدة من التنزيل المزبور انما هو مجرد التعبد بالبناء على وجود الشرط وتحققه وكون المشكوك حلالا واقعيا ، واما اقتضائه للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر فلا ، وعليه كما عرفت كان مقتضي القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الاجزاء ، من جهة اقتضاء دليل الشرطية الواقعية حينئذ بعد تبين الخلاف وارتفاع التعبد المزبور وجوب الإعادة. هذا كله في تطبيق دليل الحلية على شرط المأمور به.

واما تطبيقها على نفس ترك الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية أو الشرطية فتقريبه انما هو باعتبار تأدية ترك المشكوك على تقدير اعتباره إلى ترك المركب ، حيث إنه حينئذ يشك في حرمة ترك المركب من جهة ترك المشكوك الجزئية والشرطية ، فيقال بمقتضي القاعدة بحليته ويستفاد منها بنحو الان أيضا كون المأمور به عبارة عن ما عدا الجزء المشكوك الجزئية فيترتب عليها جواز الاقتصار على ما عدا الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية ، هذا. ولكن فيه أيضا ان مجرد تكفل القاعدة لحلية ترك الكل والمركب من جهة ترك مشكوك الجزئية والشرطية ظاهرا لايقتضي نفى الجزئية الواقعية حتى يترتب عليه تحديد المأمور به بالبقية ، وعلى فرض اقتضائها لذلك لايكاد يترتب عليه تحديد دائرة الوجوب بما عدا المشكوك الجزئية ، إذ تعلق الوجوب حينئذ بالبقية ليس من الآثار الشرعية لعدم جزئية المشكوك فيه بل هو من اللوازم العقلية لعدم مدخلية الجزء المشكوك في المركب ، فان من لازمه العقلي حينئذ محدودية دائرة الوجوب بحد أقل ، فحينئذ اثبات الوجوب للبقية بمقتضي القاعدة المزبورة لا يخلو عن مثبت واضح. هذا كله في قاعدة الحلية.

واما قاعدة الطهارة فيأتي فيها أيضا المحتملات المتصورة في قاعدة الحلية وتقريب الاجزاء فيها أيضا بأحد الامرين : اما بدعوى ترتب الأثر في كبرى الخطاب الواقعي على مطلق الطهارة أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية مع الالتزام بأن مفاد

ص: 253

قاعدة الطهارة اثبات الطهارة الظاهرية الحقيقية ، أو بدعوى كون مفاد القاعدة مع كونها بلسان التنزيل لا بلسان جعل الطهارة الظاهرية هو اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر بما يعم الطهارة التعبدية التنزيلية أيضا مع الالتزام بظهور الأدلة في خصوص الطهارة الواقعية ، فإنه على هذين التقريبين لا محالة يلزمها الاجزاء وعدم وجوب الإعادة من جهة واجدية المأمور به حينئذ لما هو مصداق الشرط حقيقة ، والا فبناء على فرض اختصاص دليل كبرى الأثر بخصوص الطهارة الواقعية وعدم تكفل القاعدة أيضا أزيد من التعبد بثبوت الطهارة الواقعية في المورد والمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية فلا مجال لتوهم الاجزاء فيها بوجه من الوجوه ، من جهة انه بانكشاف الخلاف يرتفع التعبد المزبور من حينه فبقى دليل اشتراط الطهارة الواقعية حينئذ على حاله فيقتضي وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.

ولقد عرفت ان التحقيق حينئذ من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير من كون القاعدة ممحضة لمحض اثبات الطهارة تعبدا وتنزيلا بلحاظ المعاملة مع المشكوك معاملة الواقع بلا اقتضائها لا ثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا لا ثبات جعل الطهارة الظاهرية للمشكوك كي يحتاج في صحة التطبيق على شرط المأمور به إلى التصرف في دليل كبرى الأثر بارتكاب خلاف الظاهر فيه ، وذلك لما عرفت آنفا من بعد هذين غاية البعد خصوصا مع استلزامهما لبعض التوالي الفاسدة التي لايمكن الالتزام به من نحو لزوم القول بطهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى بعد انكشاف الخلاف وتبين نجاسة الماء ، وذلك انما هو من جهة انغسال الثوب حينئذ بماء طاهر حقيقي بمقتضى القاعدة وعدم ورود نجاسة عليه بعد ذلك فكان انكشاف الخلاف على هذين المسلكين من قبيل ما لو ورد نجاسة على الماء بعد غسل الثوب به ، فكما ان ورود النجاسة على الماء لايوجب نجاسة الثوب المغسول به في الزمان السابق كذلك انكشاف الخلاف ، فإذا كان الماء بمقتضى القاعدة محكوما بالطهارة الحقيقية وغسل به الثوب المزبور في حال محكوميته بالطهارة يلزمه لا محالة طهارة الثوب بمقتضي ما دل على : ان الثوب النجس إذا غسل بماء طاهر يطهر ، ولازمه عدم مؤثرية انكشاف الخلاف البعدى في زوال الحكم بالطهارة في طرف الثوب ، فيلزمه حينئذ جواز لبسه في الصلاة بعد ذلك على هذين المسلكين وكذا الكلام فيما لو توضأ من الماء المزبور في زمان محكوميته بالطهارة ، فإنه

ص: 254

على المسلكين المزبورين يلزم القول بجواز الدخول في الصلاة مع ذلك الوضوء حتى بعد انكشاف نجاسة الماء ، وكذا نظائر ذلك ، مع أن ذلك كما ترى لايمكن الالتزام به لاستلزامه تأسيس فقه جديد. وحينئذ كان مثل هذه التوالي الفاسدة مما يكشف بها كشفا قطعيا عن بطلان الوجهين الأولين ومعه يتعين الوجه الأخير ، فإنه على هذا المسلك لايكاد يتوجه شيء من تلك المحاذير ، لان الماء المزبور على هذا المسلك انما كان محكوما بالطهارة تعبدا وتنزيلا ، وحينئذ فبانكشاف الخلاف يرتفع التعبد بالطهارة من حينه وبعد ارتفاعه يبقى دليل شرطية الطهارة الواقعية على حاله ، فيقتضي هذا الدليل بطلان الوضوء المزبور وعدم طهارة الثوب المزبور ، كما يقتضي أيضا وجوب إعادة الصلاة المأتية بذلك الوضوء وفي ذلك الثوب.

هذا كله مضافا إلى ما يرد على الوجه الأول أيضا إذ نقول فيه مضافا إلى ما فيه من مخالفته لظاهر الأدلة من الاختصاص بالطهارة الواقعية انه من المستحيل أيضا إرادة الطهارة الواقعية والظاهرية من لفظ واحد في نحو قوله : كل ثوب غسل بماء طاهر فقد طهر ووجهه يظهر بعد ملاحظة طولية المحكيين وهما الحكمان في كون أحدهما في رتبة متأخرة عن الشك بالآخر الموجب لعدم امكان اجتماعهما في لحاظ واحد وامتناع حكاية قوله ( طاهر ) عنهما ، إذ حينئذ في حكايته عن الطهارة الواقعية لم يلحظ الا نفس الحكم الواقعي بخلافه في حكايته عن الطهارة الظاهرية فإنها باعتبار كونها في رتبة متأخرة عن الشك بالواقع يحتاج إلى لحاظ الواقع ولحاظ الشك به أيضا وهو كما ترى ولعل ذلك هو السر أيضا في عدم ذهابهم إلى استفادة التعميم من الأدلة المتكلفة لكبري الأثر كما لايخفى. بقى أمور لم يتعرض لها الأستاذ دام ظله

الأول : لا اشكال في عدم جريان هذا النزاع في موارد القطع بالامر مع انكشاف الخلاف بعده ، ووجهه واضح ، من جهة أنه حينئذ لا امر شرعي في البين حتى يجرى فيه النزاع المزبور ، بل وانما هو امر زعمي تخيلي من المكلف ومعه كان الامر الواقعي باقيا على حاله بلا موافقة فيجب الإعادة حينئذ إطاعة للامر الواقعي. نعم لو كان القطع مأخوذا شرعا بنحو الموضوعية كما في ذوي الأعذار بناء على جواز البدار لهم بمجرد القطع ببقاء العذر إلى آخر الوقت يدخل في محل البحث فيجري فيه النزاع المزبور من حيث الاجزاء وعدمه بعد انكشاف الخلاف.

ص: 255

الثاني : ان انكشاف الخلاف قد يكون بالقطع وأخرى بأمارة ظنية معتبرة وعلى التقديرين : تارة يقطع أو ظن بالخطأ في اجتهاده الأول وأخرى يقطع أو يظن بخطأ الامارة عن الواقع لا في اجتهاده ، والأول كما لو قام عنده امارة على عدم وجوب السورة مثلا فبان بعد ذلك عدم جامعية الامارة المزبورة لشرائط الحجية ، والثاني كما لو قطع بخطأ الامارة عن الواقع أو ظن بذلك مع القطع في الحال بكونها واجدة لشرائط الحجية وبعد ذلك نقول :

اما في فرض كشف الخطأ في اجتهاده فسواء كان ذلك بالقطع أو بالظن المعتبر فلاينبغي الاشكال في أن لازمه هو عدم الاجزاء بل لا مجال لتوهمه خصوصا في فرض كشف الخلاف بالقطع ، من جهة كشفه حينئذ عن عدم امر ظاهري في البين ، لان الامارة الغير الجامعة لشرائط الحجية وجودها كعدمها ، فلابد حينئذ من الإعادة ، هو واضح.

واما في الصورة الثانية من فرض الكشف عن خطأ الامارة عن الواقع ، فان كان كشف الخلاف قطعيا فالاجزاء أو عدمه مبني على ما تقدم من حجية الامارة على الكشف والطريقية أو على نحو السببية والموضوعية ، واما ان كان كشف الخلاف أيضا ظنيا من جهة قيام أمارة ظنية أخرى على خلاف الامارة الأولى ففي هذا الفرض تارة يكون في البين ما يوجب ترجيح الامارة الثانية بحسب السند أو الدلالة من نحو موافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوهما من المرجحات ، وأخرى لايكون في البين ما يوجب ترجيحها عليها لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة بل كانتا متساويتين من تمام الجهات ، فعلى الأول حكمه حكم صورة انكشاف الخلاف بالقطع فيبتني على ما تقدم من الموضوعية أو الطريقية في الامارات ، وعلى الثاني ينتهي الامر إلى التخيير في الاخذ بين الخبرين ، فان اخذ بالامارة الأولى فلا اشكال ، وان اخذ بالامارة الثانية فلابد من إعادة الأعمال الواقعية على طبق الامارة الأولى على الطريقية كما هو المختار ، من جهة انه بالأخذ بالامارة الثانية يصير مدلولها حجة عليه وحيث إن مفادها عبارة عن وجوب السورة مثلايجب عليه إعادة ما صلى من الصلوات بدونها ، وهذا واضح. نعم على الموضوعية لايجب عليه الإعادة على التفصيل المتقدم سابقا.

الثالث : قد تبين مما قدمناه في الاجزاء في الامارات أنه لا تلازم بين القول بالاجزاء وبين القول بالتصويب الباطل وانه يمكن القول بالاجزاء فيها ولو على الموضوعية و

ص: 256

السببية من دون استلزامه للقول بالتصويب كما في الاجزاء بمناط المفوتية أو الوفاء بتمام الغرض ، ضرورة ان الاجزاء بأحد المناطين المزبورين غير ملازم للقول بالتصويب المحال ، فان التصويب الباطل انما هو الذي يدور التكليف معه مدار قيام الامارة أو الذي يوجب قيام الامارة انقلاب الواقع عما هو عليه حتى بمرتبة اقتضائه إلى التكليف بالمؤدى ، ومثل هذا المعنى كما عرفت غير ملازم مع القول بالاجزاء ، كما لايخفى.

هذا تمام الكلام في الأصول والامارات.

ص: 257

المبحث الرابع : في مقدمة الواجب
اشارة

قد وقع الكلام بين الاعلام في أن ايجاب الشيء يقتضي ايجاب مقدماته أم لا وذلك بعد الفراغ عن وجوبها عقلا بمناط اللابدية ، فمحل الكلام انما هو وجوبها شرعا بالوجوب الغيري نظراً إلى دعوى الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته ، واما وجوبها بالوجوب الشرعي النفسي فهو أيضا مما لو يتوهمه أحد كالوجوب الشرعي الطريقي وكيف كان فتحقيق المرام في المقام يحتاج إلى بيان أمور :

الامر الأول :

قد عرفت أن مورد الكلام في المقام بين الاعلام انما هو وجوب المقدمة بالوجوب الشرعي الغيري ، لا مطلق وجوبها ولو عقليا بمناط اللابدية ، ولا وجوبها الشرعي النفسي أو الطريقي ، من جهة ان الأول منها كما عرفت مورد اطباق الفريقين والأخيرين أيضا مورد اطباقهم بالعدم خصوصا الأخير منها وهو الطريقي باعتبار عدم تصور الوجوب الطريقي بالنسبة إلى المقدمة ، فمرجع هذا البحث في الحقيقة عندهم إلى البحث عن الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته. ومن ذلك أيضا لايختص هذا النزاع بخصوص مقدمة الواجب بل يجري في مقدمة الحرام والمكروه والمستحب كما هو واضح. كما أن الظاهر هو عدم اختصاص النزاع بخصوص المقدمات التبعية غير الواقعة تحت الخطاب المستقل كما لعله يظهر من بعضهم حسب جعلهم مورد النزاع الوجوب التبعي الغيري الشرعي بل يعم البحث هذه وما وقع منها مورد الامر في حيز خطاب مستقل كالوضوء والغسل ونحوهما

ص: 258

لان مجرد وقوعها تحت خطاب اصلى مستقل لايقتضي وجوبها شرعا بالوجوب الغيري لامكان كون الامر بها في تلك الخطابات ارشاديا إلى وجوبها العقلي بمناط اللابدية ، فتأمل.

الامر الثاني :

هل المسألة من المسائل الفرعية ، أو هي من المسائل الأصولية العقلية ، أو من المبادي الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشيء ، أو من المسائل الكلامية باعتبار رجوعها إلى البحث عن استحقاق المثوبة على الموافقة والعقوبة على المخالفة؟ فيه وجوه أبعدها الأخير من جهة وضوح أن المقدمة على القول بوجوبها ليست مما يترتب عليها المثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة فان المثوبة والعقوبة كانتا من تبعات موافقة الواجب النفسي ومخالفته لا من تبعات مطلق الواجب ولو غيريا ، وما يرى من استحقاق العقوبة عند ترك المقدمة فإنما هو من جهة تأدية تركها إلى ترك ذيها الذي هو الواجب النفسي لا من جهة انما مما يقتضي مخالفتها في نفسها مع قطع النظر عن ترتب ترك ذيها استحقاق العقوبة عليها ، كما لايخفى. ومعه لا مجال لعد المسألة من المسائل الكلامية ، وحينئذ يدور الامر بين كونها من المسائل الفرعية أو من المسائل الأصولية أو المبادي الاحكامية.

نعم قد يقال حينئذ بتعين كونها من المسائل الفرعية نظراً إلى ظاهر عنوان البحث وكون المقدمة أيضا فعلا من أفعال المكلف ، فيكون البحث عن وجوبها حينئذ كالبحث عن حكم سائر أفعال المكلف في كونه فرعيا محضا لا أصوليا ، وعليه فكان ذكرها في المقام حينئذ لمحض الاستطراد.

ولكن فيه أن عنوان البحث وان كان هو البحث عن وجوب المقدمة وعدم وجوبها ولكن المهم المبحوث عنه كما عرفت لما كان ثبوت الملازمة بين حكم شيء بواحد من الأحكام الأربعة وبين حكم مقدماته بلا نظر إلى خصوص الوجوب ، فلا جرم لا تكون من المسائل الفرعية غير المناسبة لتعرض الأصولي إياها في الأصول ، بل عليه تكون المسألة أصولية محضة ، إذ البحث عن الملازمة حينئذ كالبحث عن سائر الأحكام العقلية غير المستقلة فلا ترتبط حينئذ بالمسألة الفرعية.

ومع الغض عن ذلك والاخذ بظاهر عنوان البحث نقول بعدم ارتباطها أيضا بالمسألة الفرعية لان الملاك في المسألة الفرعية ، على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها انما هو

ص: 259

وحدة الملاك والحكم والموضوع ، فكان المحمول فيها دائما حكما شخصيا متعلقا بموضوع وحداني بملاك خاص كما في مثل الصلاة واجبة في قبال الصوم واجب والحج واجب ، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام فلايكون تعلق الوجوب بعنوان المقدمة من باب تعلق شخص حكم بموضوع وحداني بمناط وحداني خاص ، بل بعد أن كان عنوان المقدمية من الجهات التعليلية لا التقييدية لا جرم الحكم المحمول على العنوان المزبور يكون حاكيا عن وجوبات متعددة مختلفة شدة وضعفا بموضوعات عديدة بملاكات متعددة ، فكان حال المقدمة حينئذ بعد كون وجوبها بمناط دخلها في ذيها حال كل واجب يترشح إليه الوجوب من جهة دخله في ترتب المصلحة الخاصة عليه ، فيختلف الوجوب فيها حينئذ حقيقة وملاكا باختلاف ما يترتب على المقدمات نظير اختلاف الوجوبات باختلاف المصالح المترتبة عليها ، وعليه فلايكون هذا العنوان في المقام حاكيا عن محمول واحد متعلق بموضوع واحد بملاك واحد كما في الصلاة واجبة ، والصوم واجب بل هو يكون حاكيا ومرآة موضوعا ومحمولا عن موضوعات متعددة محكومة بأحكام متعددة بمناطات مختلفة ، ومن المعلوم حينئذ أنه لايكون في البين حينئذ جهة وحدة في البحث المزبور الا حيثية الملازمة التي عرفت كونها محط النظر والبحث ، وعليه لايكاد ارتباطها بالمسألة الفرعية بوجه أصلا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا من عدم اختصاص مورد البحث بخصوص مقدمة الواجب بل عمومه في مقدمات الحرام والمكروه والمستحب أيضا مع مالها من الاختلاف بحسب المراتب والمناط ، فكان المقام من هذه الجهة من قبيل البحث عن أن فعل المكلف هل يكون محكوما بالأحكام الخمسة أم لا ومعلوم حينئذ عدم ارتباطها بالمسألة الفرعية ، كما هو واضح.

على أنه ينطبق عليه أيضا ميزان المسألة الأصولية ، فان ميزان كون المسألة أصولية كما أفادوه هو ما يكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي على معنى وقوع نتيجتها كبرى في القياس لصغرى يقيد الحكم الفرعي ، ومثل هذا الميزان ينطبق على المسألة كما في قولك : ( هذه مقدمة الواجب وكل مقدمة الواجب واجبة فهذه واجبة ) كما ينطبق في فرض جعل النزاع في ثبوت الملازمة ، غايته انه على ذلك يحتاج إلى تشكيل قياسين في انتاج الحكم الفرعي ، بخلافه على ظاهر عنوان البحث ، فإنه لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد. واما توهم انتقاضه بمثل الشرط المخالف للكتاب والسنة لوقوع نتيجتها أيضا كبرى

ص: 260

في القياس في قولك : ( هذا شرط مخالف للكتاب وكل ما هو كذلك فاسد فهذا فاسد ) مع وضوح كونها من أجلي المسائل الفرعية ، فيدفعه شخصية الحكم المحمول فيها ، بخلاف الحكم المحمول في المقام على عنوان المقدمية ، ومعه لا وجه لجعل المسألة من المسائل الفرعية غير المناسبة لتعرض الأصولي إياه في الأصول لمحض الاستطراد.

ثم إن ذلك كله بناء على الاخذ بظاهر عنوان البحث وهو وجوب المقدمة ، والا فبناء على الاخذ بما هو المهم في المقام من ثبوت الملازمة وعدمها فعدم ارتباطها بالمسألة الفرعية أوضح.

وعلى ذلك فهل هي من المسائل العقلية كالبحث عن غيرها من الملازمات أم هي من المبادئ الاحكامية باعتبار كونها بحثا عن لوازم وجوب الشيء وانه هل من لوازم وجوب الشيء وجوب مقدماته أم لا كالبحث عن أن من لوازم الشيء حرمة ضده ، فيه وجهان : حيث تناسب المسألة كلا منهما ، فإنه بعد فراغ من دلالة الصيغة على الوجوب كما يناسب البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته كذلك يناسب البحث عن لوازم وجوب الشيء وان كان الأنسب هو الأول ، وعليه تكون المسألة من المسائل العقلية الأصولية حيث كانت من الاحكام العقلية غير الاستقلالية وكان ذكرها في المقام للمناسبة المزبورة لا انها كانت لفظية كما ربما يظهر من بعض كصاحب المعالم قدس سره حسب استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات ، اللّهم الا ان يقال في وجه ذلك : بأنه من جهة كشف الدلالة عن ثبوت الملازمة وعدم الدلالة عن عدم ثبوتها ، بتقريب أنه على فرض الثبوت لا محالة يكون اللفظ دالا عليها بنحو الالتزام فكان البحث حينئذ في دلالة الصيغة على الوجوب وهو بهذا الاعتبار عين البحث عن ثبوت الملازمة بين الإرادتين. ولايخفى أنه على ذلك لايتوجه عليه اشكال الكفاية : بأنه إذا كان نفس الملازمة ثبوتا محل الاشكال لا مجال لتحرير النزاع في مرحلة الكشف والاثبات ومقام الدلالة بإحدى الدلالات ، لان مقام الدلالة فرع ثبوت أصل المعنى. إذ نقول : بان ما أفيد من عدم المجال لا يراد البحث في مقام الدلالة مع الاشكال في أصل ثبوت المعنى انما يتم بالنسبة إلى المدلول المطابقي الذي يمكن فيه تخلف الدلالة واما بالنسبة إلى المدلول الالتزامي فحيث انه لا ينفك ثبوت الملازمة عن دلالة اللفظ عليها بنحو الالتزام فلا يتم هذا الاشكال ، إذ عليه يكون البحث عن دلالة الصيغة عين البحث عين ثبوت الملازمة و

ص: 261

يستكشف بنحو الان من دلالة الصيغة عن ثبوت الملازمة ومن عدم دلالتها عن عدم ثبوت الملازمة بين المعنيين. نعم يرد عليه حينئذ أن مجرد ثبوت الملازمة بين معنيين ما لم يكن اللزوم بنحو البين بالمعنى الأخص لايرتبط بمقام الدلالة اللفظية حتى تكون المسألة لفظية وداخلة في مباحث الألفاظ ، وعليه ينحصر الامر في المسألة في كونها عقلية محضة وكان ذكرها في مباحث الألفاظ للمناسبة المزبورة ، فتأمل.

الأمر الثالث :
اشارة

انهم قسموا المقدمة إلى تقسيمات :

منها تقسيمها بالداخلية والخارجية

وذكروا ان الداخلية هي الأمور المأخوذة في ماهية المأمور به وحقيقته المعبر عنها بالاجزاء ، واما الخارجية فهي الأمور الدخيلة في تحقق المأمور به الخارجة عن حقيقته وماهيته ، كما في السبب والشرط والمانع والمعد ، على ما يأتي تفصيلها إن شاء اللّه تعالى. فنقول : اما المقدمات الخارجية فسيأتي الكلام فيها في كونها مورد البحث اثباتا ونفيا. اما المقدمات الداخلية فلا اشكال في وجوبها بالوجوب النفسي الضمني ، وانما الكلام في وجوبها بالوجوب الغيري ، ومنشأه انما هو الاشكال في أصل مقدمية الاجزاء وتحقق ملاك المقدمية فيها ، وغاية ما قيل أو يمكن ان يقال في وجه مقدمية اجزاء المركب دعوى ان المقدمة هي نفس ذوات الافعال بلا شرط وذا المقدمة هو الكل الذي عبارة عن ذوات الافعال بشرط الاجتماع بنحو كان للهيئة الاجتماعية أيضا دخل فيه ، نظير الهيئة السريرية الحاصلة من اتصال الأخشاب بعضها ببعض ، فان من المعلوم حينئذ ان تلك الذوات بملاحظة معروضيتها للهيئة متقدمة على الكل طبعا ، فتحقق فيها ملاك المقدمية ، هذا.

ولكن التحقيق خلافه وانه لا مجال لاعتبار المقدمية في اجزاء المركب من جهة وضوح ان الملاك في مقدمية شيء لشيء انما هو كون الشيء مما يتوقف عليه وجود الشيء وفى رتبة سابقة عليه ، إذ لايكاد انتزاع هذا العنوان الا عما تقدم على الشيء رتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء كما في قولك : ( وجد فوجد ) وقضية ذلك لا محالة هي المغايرة والاثنينية في

ص: 262

الوجود بين المقدمة وذيها ، والكاشف عن ذلك كان هو الفاء المزبور في قولك : وجد فوجد ومن المعلوم حينئذ انتفاء مثل هذا الملاك بالنسبة إلى اجزاء المركب نظراً إلى أن المركب لايكون في الحقيقة الا نفس الاجزاء بالأسر وفي ذلك لايكون بينها وبين الاجزاء المغايرة والا ثنينية بحسب الهوية أو الوجود بوجه أصلا ، ومن هذه الجهة أيضا نقول بعدم المجال لاعتبار المقدمية بين الطبيعي وافراده كما توهم ، لان الطبيعي بعد اتحاده مع فرده خارجا لا مغايرة ولا اثنينية بينهما حتى يجيء فيه ملاك المقدمية وصح تخلل الفاء الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما ، كما هو واضح.

نعم لا يعتبر في صحة تخلل الفاء المزبور لزوم المؤثرية والمتأثرية بين الوجودين كما بين العلة والمعلول ، بل يجري ذلك في مثل العارض والمعروض أيضا كما في الصورة السريرية العارضة على الأخشاب المتعددة المتصل بعضها ببعض بالكيفية الخاصة ، ولكن ذلك أيضا غير مرتبط بعنوان الاجتماع والانضمام في المركبات الاعتبارية من جهة ان عنوان الاجتماع وكذا الترتب والانضمام انما كان انتزاعها في المركبات الشرعية عن جهة وحدة الامر المتعلق بالمتكثرات الخارجية كما أن عنوان الانفراد والاستقلال أيضا كان انتزاعهما عن تعدد الامر المتعلق بالمتكثرات ، حيث إنه من تعلق تكليف واحد بعدة أمور يطرء عليها وحدة اعتبارية ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والتركب والانضمام فيقال بأنها مجتمعات تحت وجوب واحد ، ومن تعلق تكاليف متعددة بها ينتزع عنها عنوان الانفراد والاستقلال في مقام عروض الوجوب فيقال بأنها واجبات متعددة مستقلة وان فرض كونها في الخارج متلازمات الوجود لملازمتها مع هيئة خارجية كما في اجزاء السرير وبهذه الجهة أيضا يمتاز العمومات المجموعية والاستغراقية حيث إن تمام الميز بينهما انما هو في وحدة الإرادة القائمة بالمجموع وتعددها ، كما هو واضح.

وعلى ذلك فبعد ما لايمكن اخذ مثل هذه الوحدة الاعتبارية الطارية على المتكثرات الخارجية من قبل وحدة التكليف والوجوب في متعلق هذا التكليف وموضوعه ، فلا جرم في رتبة تعلق الوجوب لايبقى الا الذوات المتكثرة الخارجة ولايكون متعلق الوجوب ومعروضة الا نفس الذوات المتكثرة ، ومعه لايبقى مجال لاعتبار الكلية والجزئية للواجب إذ لايكون في هذه المرحلة امر وحداني تعلق به الوجوب حتى ينتهى الامر إلى مقدمية الاجزاء بوجه أصلا ، ولئن شئت فاستوضح ذلك بذوات أمور متعددة في الخارج حيث

ص: 263

ترى انها مما لا اقتضاء في ذاتها للتركب والانضمام لولا طر وجهة وحدة عليها من وحدة اللحاظ والمصلحة أو التكليف ، نظراً إلى قابليتها لكونها مستقلات في عالم اللحاظ والمصلحة والتكليف بصيرورة كل واحد منها معروضا للحاظ مستقل ومصلحة مستقلة وتكليف مستقل ، وقابليتها أيضا لكونها منضمات ومجتمعات في عالم اللحاظ والمصلحة والوجوب بتعلق لحاظ واحد ومصلحة واحدة وتكليف واحد بالجميع ، إذ حينئذ بتعلق اللحاظ الواحد أو المصلحة الواحدة والتكليف الواحد يطرء عليها جهة وحدة اعتبارية في تلك المرتبة المتأخرة ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والارتباط والانضمام ونحوها من العناوين ، كالكلية للمجموع والجزئية لكل واحد من الذوات ، فاعتبار الكلية انما هو بلحاظ ملاحظة اجتماع الذوات بأسرها تحت تكليف واحد ، واعتبار الجزئية بلحاظ ملاحظة كل واحد منها بشرط لا لكن في عالم العروض لا بحسب الخارج ، وعلى ذلك فدائما كان العنوانان المزبوران وهما الكلية والجزئية اعتبارين عرضيين منتزعين عن مرحلة تعلق الإرادة الواحدة بالأمور المتعددة المتكثرة بلا طولية بينهما أصلا.

ومن ذلك البيان يظهر الكلام في الذوات المعروضة للهيئة الخارجية كما في اجزاء السرير ، إذ نقول فيها أيضا بعدم كون مناط التركب في الواجبات واستقلاله على مثل هذه الهيئة الخارجية العارضة على ذوات الأخشاب المتعددة ، نظراً إلى إمكان كون كل واحدة من ذوات الأخشاب المزبورة حينئذ تحت مصلحة مستقلة وتكليف مستقل بنحو كان كل واحدة منها واجبة بوجوب نفسي مستقل في قبال الأخرى ، غايته كونها حينئذ متلازمات الوجود في الخارج ، كامكان كون الجميع حينئذ تحت مصلحة واحدة وتكليف واحد ، وربما ينتج ذلك في كيفية التقرب بالامر من جهة الضمنية والاستقلالية وفي وحدة العقوبة والمثوبة وتعددهما في صورة الموافقة والمخالفة ، فان ذلك حينئذ برهان تام على عدم كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على مثل هذه الوحدات الخارجية وان تمام المناط في التركب والاستقلال في الواجب على وحدة الوجوب المتعلق بالمتكثرات وتعدده وانه من تعلق وجوب واحد على المتكثرات ينتزع عنوان الكلية للمجموع والجزئية للآحاد وان فرض عدم اجتماعها في الخارج تحت هيئة خارجية ، كما أنه بتعلق وجوبات متعددة بها ينتزع عنها استقلال كل واحد منها في عالم الوجوب وان فرض كونها في الخارج مجتمعات تحت هيئة خارجية.

ص: 264

وحينئذ فبعد ان كان مناط التركب في الواجب واستقلاله على وحدة الامر وتعدده ولايمكن أيضا اخذ مثل تلك الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة الامر في موضوعه ومتعلقه فكان متعلق الامر عبارة عن ذوات المتفرقات الخارجية ، فلا جرم يبطل القول بمقدمية الاجزاء ، من جهة انه حينئذ لم يكن في البين امر وحداني تعلق به الوجوب والتكليف حتى يجيء توهم المقدمية للاجزاء ، إذ لايكون الواجب وما تعلق به الوجوب حينئذ الا الذوات المتعددة المتكثرة ولا كان في هذه المرحلة الكلية ولا الجزئية بوجه أصلا.

ثم إن هذا كله بناء على فرض خروج وصف الاجتماع عن الدخل في الملاك والمصلحة. واما بناء على مدخلية حيث وصف الاجتماع أيضا في المصلحة فقد يتوهم حينئذ تحقق مناط المقدمية في الاجزاء ، بتقريب : ان هذه الهيئة الاجتماعية حينئذ نظير الصورة السريرية الحاصلة من الأخشاب العديدة ، فتكون الذوات بملاحظة معروضيتها للهيئة الاجتماعية مقدمة عليها طبعا فتحقق فيها ملاك المقدمية. ولكنه مدفوع مضافا إلى ما ذكر من عدم كون مناط التركب على مثل هذه الهيئة الخارجية باعتبار امكان كون كل واحد من الذوات والهيئة واجبا بوجوب مستقل بان غاية ذلك انما هي مقدمية ذوات الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة هي جزء المركب لا بالنسبة إلى نفس المركب الذي فرضناه عبارة عن ذوات الاجزاء والهيئة الاجتماعية ، ففي هذا الفرض أيضا لايكون معروض الوجوب الا الأمور المتكثرة التي منها الهيئة الاجتماعية. وبالجملة نقول : بأنه اما ان يجعل الواجب في الفرض عبارة عن خصوص الهيئة الاجتماعية واما ان يجعل الواجب عبارة عن الذوات والهيئة الاجتماعية ، فعلى الأول وان كان يلزمه مقدمية الذوات للواجب من جهة كونها مما يتوقف عليها الهيئة الاجتماعية كما في ذوات الأخشاب بالنسبة إلى الصورة السريرية ، ولكنه حينئذ خارج عن مفروض البحث ، من جهة صيرورة الذوات حينئذ من المقدمات الخارجية لا الداخلية ، وعلى الثاني يكون الواجب عبارة عن الأمور المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة إذ حينئذ وان يطرأ من قبل الهيئة المزبورة وحدة اعتبارية على الذوات المزبورة ، ولكنه بعد أن كان معروض الوجوب عبارة عن منشأ هذا الاعتبار وهو الذوات المزبورة والهيئة الخارجية العارضة عليها لكونها هي التي تقوم بها المصلحة دون هذا الامر الاعتباري ، فلا جرم يكون معروض الوجوب

ص: 265

عبارة عن المتكثرات الخارجية لا انه عبارة عن امر وحداني مركب حتى ينتهى الامر إلى مقدمية الاجزاء للواجب المركب ، فينتهى الامر إلى البحث عن كونها واجبة بالوجوب الغيري للكل والمركب. نعم على هذا الفرض يتصور لذوات الاجزاء مناط المقدمية ولكنه لا بالنسبة إلى المركب كما هو مفروض البحث بل بالنسبة إلى الهيئة التي هي جزء الواجب ، وبالنسبة إليها أيضا تكون الاجزاء من المقدمات الخارجية لا الداخلية كما هو مفروض البحث.

وحينئذ فبمقتضى ما ذكرنا صح لنا بقول مطلق نفى المقدمة في اجزاء المركب الارتباطي سواء على فرض مدخلية الهيئة الخارجية في الغرض والمصلحة أو عدم مدخليتها نظراً إلى ما ذكرنا من كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على وحدة الوجوب المتعلق بالمتكثرات وتعدده وخلو معروض الوجوب عن مثل تلك الوحدات الاعتبارية المصلحة لاعتبار الكلية والجزئية والتركب والانضمام وكونه عبارة عن ذوات المتكثرات الخارجية ، إذ حينئذ لايكون في رتبة سابقة عن تعلق الوجوب والتكليف جهة وحدة تقتضي تعلق الوجوب بأمر وحداني مركب بما هو مركب بوجه أصلا ، لما عرفت من أن هذه الجهة من الوحدة المصححة لاعتبار التركب والانضمام والكلية والجزئية للواجب انما هي ناشئة من قبل وحدة التكليف المتعلق بالأمور المتكثرة وهي مضافا إلى اعتباريتها من جهة معلوليتها للتكليف وتأخرها الرتبي عنه من الممتنع اخذها في موضوع التكليف ومتعلقه.

لايقال : بان ذلك كذلك بالنسبة إلى الوحدة الطارية من قبل الوجوب والتكليف ، واما بالنسبة إلى الوحدة الناشئة من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة فلا بأس بأخذها في موضوع التكليف ومتعلقه ، وحينئذ فأمكن اعتبار التركب في الواجب بهذا الاعتبار.

فإنه يقال : نعم وان أمكن ذلك ولا يلزم منه المحذور المتقدم من اخذ الشيء المتأخر عن الشيء في رتبة سابقة عليه ، ولكن من الواضح حينئذ ان ما تعلق به الوجوب لايكون الا عبارة عن ما تقوم به المصلحة واللحاظ وهو لايكون الا الذوات المتكثرة الخارجية لكونها هي المؤثرة في الغرض والمصلحة دون العنوان الطاري عليها من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة ، فلابد حينئذ من الغاء هذه الوحدات طرا وتجريد المتعلق منها حتى الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة المصلحة واللحاظ بجعله عبارة عن الذوات المتكثرة

ص: 266

الخارجية التي تعلق بها اللحاظ والمصلحة ، ولازمه لا محالة حينئذ هو بطلان القول بمقدمية الاجزاء ، لعدم امر وحداني حينئذ في البين تعلق به الوجوب وعدم كون هذا الموطن موطن اعتبار الكلية والجزئية للواجب لما تقدم من كونهما اعتبارين عرضيين منتزعين عن مرحلة تعلق إرادة واحدة بالأمور المتكثرة الخارجية باعتبار اللحاظ بشرط لا تارة وبشرط شيء أخرى ، أي لحاظ كل جزء تارة في حيال نفسه وفي قبال الغير بنحو لو انضم إليه شيء كان خارجا عنه في عالم عروض الوجوب من جهة قصر اللحاظ عليه فقط ، ولحاظه بشرط شيء أخرى أي لحاظه منضما مع غيره ، والا ففي رتبة قبل الامر والوجوب لا كلية ولا جزئية ولا تركب ولا انضمام في البين بوجه أصلا.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مجرد اعتبار الكلية والجزئية في موطن بعد الامر لايكون أيضا مصححا لمقدمية الاجزاء للمركب بعد فرض عينية المركب والاجزاء ، من جهة ان المقدمية كما عرفت تقتضي الاثنينية والمغايرة مع ذيها في الوجود والطولية بينهما بحسب المرتبة بنحو يصح تخلل الفاء بينهما وتلك المغايرة الاعتبارية بينهما باعتبار اللحاظ لا بشرط وبشرط لا لاتقتضي المغايرة والطولية بينهما ، كما لايخفى.

وعليه فاصل هذا التقسيم أي تقسيم المقدمية بالداخلية والخارجية مما لا مجال له بوجه من الوجوه. نعم انما يتصور المقدمية بالنسبة إلى الاجزاء في المركبات الحقيقية العقلية التي لها وجود مستقل وصورة مستقلة غير صور الاجزاء كالأجسام الملتئمة من العناصر الخاصة ، فإنها باعتبار انقلاب الاجزاء فيها عما لها من الصور العنصري الخاص إلى الصور الجسمية أو النباتية وصيرورتها مواد لها أمكن دعوى مقدمية الاجزاء المادية للمركب باعتبار تقدمها عليه وكونها من علل قوامه ، واما بالنسبة إلى المركبات الارتباطية الجعلية فلا مجال لهذا الكلام حتى فيما كان منها تحت هيئة خارجية كالأخشاب العديدة المعروضة للهيئة السريرية حتى مع كون الهيئة أيضا مما لا لها الدخل في الغرض والمصلحة ، كما في الصلاة حسب ما يستفاد من أدلة القواطع ، حيث يستفاد منها ان للصلاة هيئة إتصالية وانها أيضا مما لها الدخل في غرض النهى عن الفحشاء ، فإنه في هذا النحو من المركبات التي لايكون لها وجود وحداني حقيقي في الخارج لايكاد يكون معروض الوجوب فيها الا الذوات المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة العارضة عليها ، ومعه كيف يمكن اتصاف ذوات الاجزاء فيها بالمقدمية للمركب ، ولعمري

ص: 267

ان تمام المنشأ في مصير من صار إلى مقدمية الاجزاء انما هو من جهة الخلط بين المركبات الحقيقية العقلية التي انقلب فيها الاجزاء حال تركبها عما لها من الصور الخاصة إلى صورة أخرى ثالثة وبين هذا النحو من المركبات الاعتبارية الجعلية ومقايسة إحديهما بالأخرى ، ولكنك بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف وضوح الفرق بينهما وعدم صحة مقايسة أحدهما بالآخر.

ثم انه لو بنينا على تحقق مناط المقدمية في اجزاء المركب اما مطلقا أو في خصوص ما كان منها تحت هيئة خارجية مع كون الهيئة أيضا مما لها الدخل في الغرض والمصلحة حيث قلنا في تلك الصورة بتحقق مناط المقدمية في الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة العارضة عليها ، نقول بامتناع اتصافها بالوجوب الغيري بعد فرض ثبوت الوجوب النفسي الضمني لها نظراً إلى محذور اجتماع المثلين في موضوع واحد الذي هو من المستحيل. واما توهم تأكد الوجوب فيها حينئذ واشتداده فمدفوع بامتناع ذلك مع طولية الحكمين ، كما أن توهم اجداء مثل هذه الطولية حينئذ في رفع المحذور المزبور مدفوع بان الطولية الموجبة لرفع محذور اجتماع المثلين أو الضدين انما هي الطولية في ناحية الموضوع كما في موارد الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، حيث كان متعلق أحد الحكمين عبارة عن ذات الشيء ومتعلق الاخر هي الذات في الرتبة المتأخرة عن الشك بحكمه ، واما في فرض وحدة الموضوع وعدم تعدد الرتبة فيه فلايكاد يفيد مجرد الطولية بين الحكمين في رفع محذور اجتماع الحكمين المتضادين أو المثلين ، لان العقل كما يأبى عن ورود حكمين عرضيين على موضوع وحداني كذلك يأبى عن ورود الحكمين الطوليين أيضا كما هو واضح فتأمل.

لايقال : بأنه انما يتوجه المحذور المزبور بناء على تعلق الاحكام بالخارج اما بدوا أو بتوسيط العناوين والصور ، واما بناء على تعلقها بالعناوين والصور الذهنية ولو بالنظر الذي ترى خارجية بلا سرايتها منها إلى الخارج ، فلا جرم يرتفع المحذور المزبور ، من جهة تغاير المتعلقين حينئذ ، لان لحاظ الجزء منفردا لا في ضمن الغير ولحاظه في ظرف الانضمام بالجزء الآخر صورتان متغايرتان في الذهن غير صادقة إحداهما على الأخرى ، ومعه فلا بأس بتعلق الوجوب النفسي بإحدى الصورتين والوجوب الغيري بالأخرى.

فإنه يقال : نعم وان كان المتعلق في الاحكام والإرادات هي العناوين والصور الذهنية فأمكن تعلق الحكمين بالعنوانين المتغايرين ولو مع اتحادهما بحسب المعنون

ص: 268

الخارجي ، ولكن نقول : بأنه انما يجدي ذلك في رفع محذور اجتماع المثلين في ظرف اختلاف العنوانين بحسب المحكى والمنشأ أيضا بنحو كان كل عنوان حاكيا عن منشأ غير ما يحكى عنه الاخر لا في مثل المقام الذي كان المحكى فيها واحدا بحسب المنشأ أيضا. نعم لو كان المراد من اعتبار الاجزاء بشرط لا اعتبارها بشرط لا عن الانضمام في الخارج لكان لما أفيد كمال مجال من جهة اختلاف العنوانين حينئذ بحسب المحكى والمنشأ ، ولكن الالتزام بذلك مشكل جدا ، من جهة رجوعه حينئذ إلى وجوب المقدمة بشرط عدم الايصال إلى ذيها ، لان اعتبارها بشرط لا عن الانضمام في الخارج عبارة عن اعتبارها بشرط عدم الايصال وهو كما ترى لايمكن الالتزام به ، والا فبناء على إرادة اعتبارها بشرط لا في عالم عروض الوجوب ، فلا جرم يلزمه اتحاد العنوانين بحسب المحكى والمنشأ علاوة عن اتحادهما بحسب المعنون الخارجي ، وعليه يلزمه في صورة الانضمام في الخارج اجتماع الوجوبين في نفس تلك الأجزاء باعتبارين وهو كما ترى من المستحيل وانه لا يجدي في دفع المحذور مجرد تلك المغايرة الاعتبارية ، كما هو واضح.

وحينئذ فعلى كل تقدير الاجزاء المعبر عنها بالمقدمات الداخلية تكون خارجة عن محل النزاع اما لعدم ملاك المقدمية فيها كما هو التحقيق أو لامتناع اتصافها بالوجوب الغيري بعد وجوبها بالوجوب النفسي.

ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في باب الأقل والأكثر الارتباطيين من جهة مرجعية البراءة أو الاشتغال ، فإنه على القول بالوجوب الغيري للاجزاء ربما يتعين الامر في تلك المسألة في المصير إلى الاشتغال نظراً إلى وجود العلم الاجمالي بالتكليف وعدم صلاحية العلم التفصيلي بمطلق وجوب الأقل أعم من الغيري والنفسي ، للانحلال ، لمكان تولده من العلم الاجمالي السابق عليه وتحقق التنجز في الرتبة السابقة. واما على القول بعدم وجوب الاجزاء بالوجوب الغيري اما من جهة انتفاء ملاك المقدمية فيها أو من جهة محذور اجتماع المثلين فأمكن القول بمرجعية البراءة في تلك المسألة نظراً إلى رجوع الامر حينئذ إلى علم تفصيلي بتعلق إرادة الشارع بذات الأقل ولولا بحده وهو الخمسة مثلا والشك البدوي في تعلقها بالزائد ، واما العلم الاجمالي فإنما هو متعلق بحد التكليف وانه الأقل أو الأكثر كالخط الذي تردد حده بين الذراع أو الذراعين ، ومثل هذا العلم لا اثر له في التنجز لان المؤثر منه انما هو العلم الاجمالي بذات التكيف لا بحده ، وتنقيح الكلام بأزيد من

ص: 269

ذلك موكول إلى محله ، فالمقصود في المقام مجرد الإشارة إلى ثمرة البحث.

ومن التقسيمات تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية

فالعقلية هي التي يتوقف عليها الشيء عقلا بنحو يستحيل تحققه بدونها. واما الشرعية فهي التي يتوقف عليها وجود الشيء شرعا لا عقلا كالطهارة للصلاة. والعادية هي التي يتوقف عليها وجود الشيء عادة وان لم يتوقف عليها عقلا ولا شرعا ، كتحصيل العلم في الأزمنة المتمادية للبلوغ إلى مرتبة الاجتهاد ونصب السلم للصعود على السطح. نعم في الكفاية أورد على التقسيم المزبور وادعى برجوع الجميع إلى العقلية ، بتقريب : انه بعد اعتبار الشارع شرطية شيء لشيء كالطهارة للصلاة أو بعد اقتضاء العادة توقف شيء على شيء ، لا محالة يصير التوقف عقليا ، من جهة استقلال العقل بعد توسيط الشارع أو قضاء العادة باستحالة تحقق المشروط بدون شرطه واستحالة الصعود على السطح لغير الطائر بدون نصب السلم مثلا هذا. ولكن نقول : بأنه بعد توسيط جعل الشارع واعتباره أو قضاء العادة وان كان الامر كما ذكر من صيرورة التوقف عقليا ، الا ان هذا المقدار لايقتضي رجوع الشرعية والعادية إلى العقلية ، من جهة ان حكم العقل بالتوقف حكم وارد على المقدمة فارغا عن الإناطة التي هي مناط مقدمية الشئ.

وحينئذ نقول : بان محط النظر في هذا التقسيم انما هو في أصل تلك الإناطة من كونها تارة ذاتية محضة بلا توسيط شيء من جعل شرعي أو قضاء عادى وأخرى شرعية محتاجة إلى اعتبار الشارع إياها كالصلاة في ظرف الطهارة فان الإناطة بين الصلاة والطهارة حينئذ لم تكن ذاتية وانما هي من جهة توسيط جعل الشارع إياها من جهة انه لولا جعل الشارع لم يكن إناطة بين الطهور والصلاة بل كان العقل يجوز تحقق الصلاة بدون الطهارة ، ومجرد دخلها في المصلحة أيضا لايقتضي إناطة الصلاة بها قهرا لامكان ان لا يعتبرها الشارع فيها في مقام الامر بها ولو من جهة مصلحة أخرى كمصلحة التسهيل على المكلفين. وهكذا الامر في العاديات فإنه لولا قضاء العادة لما كان إناطة بنظر العقل بينهما بوجه أصلا لتجويزه تحقق ذيها بدونها كما في علوم المعصومين علیهم السلام حيث

ص: 270

انها كانت حاصلة لهم من غير اشتغالهم بتحصيل العلم في مرور الزمان. نعم بعد تحقق الإناطة بتوسيط جعل الشارع أو بتوسيط قضاء العادة يكون التوقف عقليا ، لكن عرفت عدم كون محط النظر من التقسيم المزبور على ذلك وانما محطه في أصل الإناطة بين الوجود ، وعليه فالتقسيم المزبور يكون في محله ، كما هو واضح.

ومن التقسيمات تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة العلم

فالأولى هي ما يتوقف عليه وجود الشئ. والثانية ما يتوقف عليه صحة الشيء بنحو يستحيل اتصاف الذات بها بدونها. والثالثة ما يتوقف عليه العلم بالشيء كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة. ولكن الظاهر عدم كون مقدمة الصحة قسما برأسه لكونها اما راجعة إلى مقدمة الوجوب أو إلى مقدمة الواجب ، من جهة ان دخل الشيء اما ان يكون في اتصاف الذات بالوصف العنواني واما ان يكون دخله في وجود المتصف فارغا عن أصل الاتصاف فعلى الأول يرجع إلى مقدمة الوجوب وسيأتي إن شاء اللّه تعالى خروجها عن حريم النزاع وعلى الثاني يرجع إلى مقدمة الواجب. واما مقدمة العلم فقد يقال بخروجها أيضا عن حريم النزاع ، لأنه ليس لنا مورد يكون تحصيل العلم واجبا شرعا حتى ينازع في وجوب مقدماته ، وهو كذلك في غير المعارف الاعتقادية المطلوب فيها المعرفة نفسيا كالعلم بوجود الصانع وصفاته الثبوتية والسلبية ومعرفة النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام وعقد القلب والانقياد لهم ، واما في الأحكام الشرعية فالامر كما ذكر من خروج مقدمات العلم عن حريم النزاع بناء على التحقيق من عدم وجوب قصد الوجه والتميز شرعا في الواجبات ، إذ حينئذ لايكون لنا مورد في الأحكام الشرعية كان العلم واجبا شرعا حتى ينازع في وجوب مقدماته.

وذلك اما في مقام فراغ الذمة عند العلم الاجمالي بالتكليف فواضح ، لان وجوبه حينئذ لايكون الا عقليا محضا ارشادا منه إلى عدم الوقوع في محذور مخالفة التكليف الثابت المنجز بمقتضى العلم الاجمالي.

ص: 271

واما وجوب الفحص في الشبهات البدوية الحكمية فكذلك أيضا ، فان وجوبه أيضا لايكون الا عقليا محضا ، اما من جهة عدم تحقق موضوع حكمه بالقبح لاختصاصه بالشك المستقر غير الزائل بالفحص عن وجود التكليف ، أو من جهة منجزية احتمال التكليف للواقع على تقدير وجوده وعدم معذورية المكلف لولا الفحص في رجوعه إلى الأصول النافية ، بل حينئذ لو ورد من الشارع حكم فيه بالوجوب لايكون حكمه الا ارشادا محضا كما هو واضح.

ومن ذلك أيضا يظهر الحال فيما ورد من الامر بوجوب التعلم كقوله : ( هلا تعلمت ) فإنه أيضا لايكون الا ارشاديا محضا إلى ما يحكم به العقل من وجوب التعرض للأحكام الصادرة من الشارع والفحص عنها بالمقدار اللازم وعدم جواز الرجوع إلى البراءة والايتوجه الجواب عنه أيضا بأنه : ( ما علمت بوجوب التحصيل العلم بالأحكام الشرعية ) كما أجيب عن عدم العمل بالأحكام الشرعية ، فان انقطاع الجواب حينئذ كاشف عن أن وجوب تحصيل العلم من الارتكازات العقلية ، وعليه فلايكون الامر به الا ارشاديا محضا لا شرعيا مولويا.

وهكذا الكلام في بعض الشبهات الموضوعية الواجب فيها الفحص كما في باب الزكاة ومسألة الاختبار عند اشتباه الدم وتردده بين العذرة والحيض ، فان الفحص في الثاني انما هو من جهة العلم الاجمالي حينئذ بإحدى الوظيفتين : اما وجوب الصلاة والصوم عليها أو حرمتها وحرمة الدخول في المسجد ، إذ حينئذ يكون وجوب الفحص أيضا واجبا ارشاديا لا مولويا. واما الفحص في الأول فهو وان كان على خلاف القواعد الجارية في كلية الشبهات الموضوعية ، ولكن نقول بان الامر بالتسبيك حينئذ انما هو من جهة رفع احتمال التكليف نظراً إلى منجزية الاحتمال المزبور حينئذ للواقع وعدم معذورية المكلف حينئذ لولاه في الرجوع إلى الأصول النافية ، كما ذكرنا تحقيق الكلام في ذلك في شبهات البراءة عند التعرض لوجوب الفحص عن الاحكام في صحة الرجوع إلى البراءة ، وعليه أيضا لايكون وجوب الفحص الا ارشاديا محضا. وهكذا الكلام في الأوامر الواردة في الفحص عن الماء غلوة أو غلوتين في جواز التيمم ، فان ذلك أيضا لايكون الا ارشاديا محضا إلى حكم العقل باعتبار حكمه بمقتضي قاعدة الاشتغال بلزوم الفحص لرفع احتمال وجود الماء في الانتقال إلى التيمم.

ص: 272

وحينئذ فبعد ما لايكون في الشرعيات مورد يكون العلم واجبا شرعيا بالوجوب المولوي ، فلا جرم لايبقى مجال للنزاع في مقدمة العلم والبحث عن وجوبها شرعا. نعم لو بنينا على وجوب نية الوجه والتميز في الواجبات فباعتبار توقف الوجه والتميز على العلم بوجه المأمور به ربما يدخل مقدماته حينئذ في حريم النزاع ، ولكن بعد أن كان التحقيق هو عدم وجوبها شرعا فلا محالة يخرج مقدمات العلم بقول مطلق عن حريم النزاع ، كما لايخفى.

ومن التقسيمات : تقسيمها إلى المقتضى والشرط والمانع

وقد عرفوا المقتضى وهو السبب والعلة في لسان الحكم بما يلزم من وجوده الوجود دائما ذاتا ، والشرط بما يلزم من عدمه العدم ، والمانع بما يلزم من وجوده العدم. وهذا التعبير يقتضى اختلاف المقتضى مع الشرط والمانع في كيفية الدخل في وجود المعلول وتحققه وعدم كون الجميع على وزان واحد في ذلك وان مناط دخل كل غير ما هو المناط في الاخر ، والا لما كان وجه للعدول في الشرط والمانع عن التعريف المزبور للمقتضي وهو كك ، فان ملاك المقدمية في المقتضي عبارة عن حيثية المؤثرية ، إذ هو في الحقيقة عبارة عن معطى الوجود لأنه هو الذي يخرج المعلول من كمونه ويستند إليه وجوده ، كما في مثل النار والاحراق ، حيث يرى أن ما ينشأ ويتولد منه الاحراق انما هو النار خاصة. وهذا بخلافه في مثل الشرط والمانع ، فان دخلهما فيه لايكون على نحو دخل المقتضي في كونه بنحو المؤثرية والمتأثرية بل وانما كان بمناط آخر غير المؤثرية كما ستعرف ، كيف ولا اشكال بينهم في أن عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة حسب تفسيرهم إياها بالأمور الثلاثة : المقتضي والشرط وعدم المانع ، ويكشف عنه أيضا التزامهم بترشح الحرمة الغيرية نحو المانع في مثل الصلاة في غير المأكول وبنائهم على جريان ( كل شيء لك حلال ) في مشكوك المانعية عند الشك في كون اللباس من المأكول أو غيره ، بتقريب اقتضاء القاعدة حلية المشكوك ولو غيريا والترخيص في ايجاد الصلاة فيه.

مع أنه من المستحيل ان يكون دخل عدم المانع في تحقق المعلول بنحو المؤثرية كما في

ص: 273

المقتضى ، لضرورة انه لا سنخية بين الوجود والعدم ، فكيف يمكن دخل العدم المزبور في وجود المعلول بنحو المؤثرية فلا محيص حينئذ اما من اخراج عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة واما من الالتزام بوجه آخر في مناط مقدمية عدم المانع غير مناط المؤثرية ، بدعوى مدخلية في قابلية المعلول والأثر بلحاظ اضافته إليه لتحقق والانوجاد من قبل موجده ومؤثره ، والأول كما ترى خلاف ما أطبقوا عليه من كون عدم المانع من اجزاء العلة ومن مقدمات وجود المعلول ، فتعين الثاني بعد بطلان المؤثرية فيه.

واما توهم ان ذلك انما هو بالنسبة إلى العدم المطلق لا مطلقا حتى بالنسبة إلى العدم المضاف فان الثاني مما له شائبة من الوجود ومن ذلك يتميز أحدهما عن الآخر كعدم زيد في قبال عدم عمرو والا فلا ميز بين الاعدام فمدفوع بان مجرد إضافة العدم إلى المهية لايصير العدم المزبور وجودا كيف وان المضاف وهو العدم بنفسه نقيض الوجود واما المضاف إليه وهو المهية فايضا غير مقتض للوجود لان حيثيتها حيثية عدم الاقتضاء للوجود والعدم ، ولذا قيل : بان المهية من حيث هي ليس الا هي لا موجودة ولا معدومة ، وحينئذ لايبقى في البين الا نفس الإضافة التي هي من الأمور الاعتبارية وهي أيضا غير مقتضية للوجود. وبالجملة ان إضافة العدم إلى المهية ليس الا كإضافة ماهية إلى ماهية أخرى فكما ان إضافة ماهية إلى ماهية لاتقتضي وجودا كذلك في إضافة العدم إليها ، بل في إضافة المهية إلى المهية ربما يكون الامر أهون ، لكون الماهية بنفسها غير آبية عن الوجود بخلافه في العدم فإنه بنفسه نقيض الوجود وطارد له ، نعم الإضافة المزبورة كما ذكر موجبة لتميز الاعدام بعضها عن بعض كقولك : عدم زيد غير عدم عمرو ، ولكن مجرد ذلك لا يقتضى موجوديته ومؤثريته في الوجود ، كما هو واضح.

ومن ذلك وقعوا في حيص وبيص في وجه دخل عدم المانع ، فأفاد بعضهم ان مناط الدخل فيه انما هو من جهة منافاة وجوده مع تأثير المقتضي وحيلولته بينه وبين اثره ، كما في رطوبة الخشب المانعة عن تأثير النار في الاحراق الفعلي. ولكن فيه ما لايخفى ، إذ نقول بان مرجع ذلك إلى جعل المانع من اضداد تأثير المقتضى الذي هو الأثر المترتب عليه ، من جهة ان تأثير الشيء عبارة عن عين اثره كالايجاد والوجود وانما الفرق بينهما بالاعتبار بلحاظ اضافته إلى الفاعل تارة والى القابل أخرى ، ومثل هذا المعنى كما ترى مناف مع مقدمية العدم المزبور ، لان لازم مضادة وجوده مع تأثير المقتضى واثره هو صيرورة وجوده في

ص: 274

رتبة تأثير المقتضي الذي هو اثره ، ولازمه بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين هو صيرورة عدمه أيضا في تلك الرتبة وهو كما ترى مناف مع مقدمية العدم المزبور للأثر وكونه من اجزاء العلة التامة ، فلا بد حينئذ في حفظ المضادة المزبورة من اخراج عدم المانع عن المقدمات والا فمع حفظ المقدمية فيه يستحيل ان يكون وجه دخله بمناط المضادة والمنافاة المزبورة ، كما هو واضح.

واضعف من ذلك جعل مناط دخل عدم المانع جهة منافاة وجوده مع مناط المطلوب ومصلحته ، إذ نقول : بان مرجع ذلك أيضا إلى جعل وجود المانع من اضداد المصلحة المترتبة على المطلوب ، ولازمه بمقتضى انحفاظ الرتبة بين النقيضين ان يكون عدمه في رتبة لا حقة عن المطلوب ، وهو كما ترى من المستحيل اجتماعه مع فرض مقدمية عدم المانع للمطلوب لان مقتضى مقدمية العدم المزبور هو كونه في رتبة سابقة على المطلوب بنحو يتخلل بينهما الفاء المزبور ، فكيف يمكن حينئذ جعله من اضداد مصلحة المطلوب نعم لهذا الكلام مجال بناء على عدم مقدمية عدم المانع ، ولكن الالتزام بذلك أيضا كما عرفت مناف لما تسالموا عليه من مقدميته وكونه من اجزاء العلة التامة بل ولاستدلالهم بدليل الحلية في مشكوك المانعية في مسألة غير المأكول لا ثبات الحلية الغيرية والترخيص في ايجاد الصلاة فيه حتى من القائل المزبور.

وحينئذ نقول : بأنه بعد ما لايمكن ان يكون دخل عدم المانع في المطلوب بمناط المؤثرية والمتأثرية لاختصاص مثل هذا الدخل بخصوص السبب والمقتضى وعدم تصوره في الاعدام ، ولا بمناط المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مصلحته ، فلا محيص وأن يكون مناط الدخل فيه وكذا الشرائط بوجه آخر ، وليس ذلك الا دعوى دخله في قابلية المعلول والأثر للتحقق والانوجاد من قبل موجده ومؤثره على معنى دخله في تحدد الطبيعة بحد خاص يكون بذلك الحد قابلا للتحقق ، بحيث لولا ذلك الحد الخاص الناشي من إضافة الطبيعة إلى العدم المزبور ككون الشيء في ظرف عدم كذا لما كان قابلا للتحقق من قبل موجده ومقتضيه ، ومرجع هذا الدخل في الحقيقة إلى دخل طرف الإضافة في الإضافة ودخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، ومن المعلوم أيضا كفاية هذا المقدار من الدخل في مقدمية عدم المانع بنظر العقل للمطلوب وتقدمه الرتبي عليه وصحة تخلل الفاء بينهما في قولك : وجد المانع فعدم المطلوب ، وذلك لما تقدم سابقا بأنه لا

ص: 275

يحتاج في صحة تخلل الفاء المزبور بين الشيئين اعتبار المؤثرية والمتأثرية بينهما ، ولذلك يصح هذا التخلل فيما بين العارض والمعروض أيضا مع أنه لايكون بينهما اعتبار المؤثرية والمتأثرية ، بل وفيما بين عدم العلة وعدم المعلول في قولك : عدم العلة فعدم المعلول بل يكفي فيه مجرد التقدم الرتبي لاحد الامرين على الآخر ولو كان ذلك بمناط انحفاظ الرتبة بين النقيضين كما في العلة والمعلول ، فان وجود العلة لما كان في رتبة سابقة على وجود المعلول يكون عدمها أيضا بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين في رتبة سابقة على عدمه فصح تخلل الفاء بينهما مع أنه لا تأثير بين الاعدام.

وحينئذ نقول في المقام أيضا : بان العدم المزبور من حيث وقوعه طرفا للإضافة ومنشئيته لتحدد الشيء بحد خاص ينال العقل جهة المقدمية منه ويرى كونه في رتبة سابقة على الحد المزبور بنحو يفصل الفاء المزبور بينهما الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما ، كما كان ذلك أيضا بالقياس إلى بعض الأمور الوجودية ككون الشيء مثلا في ظرف وجود كذا وفي مكان كذا فإنه قد يكون الشيء لايكون فيه القابلية للوجود والتحقق ولو مع وجود مقتضيه وتماميته في مرحلة اقتضائه الا إذا كان محدودا بحدود خاصة ناشئة تلك الحدود من اضافته إلى بعض الأمور الوجودية والعدمية ، واما دخل مثل هذا الحدود في القابلية المسطورة فهو لايكون إلا ذاتيا فلا يعلل بأنه لم وبم ، لان مرجع ذلك إلى أن ما هو القابل للتحقق من الأول هو الشيء المحدود.

ومن ذلك أيضا يندفع بعض الاشكالات المتوهمة بالنسبة إلى تأخر وجود الممكنات مع سعة فيض الباري عز اسمه وقدرته على كل شيء ، إذ نقول : بان عمدة الوجه فيه انما هو من جهة عدم قابليته للوجود والتحقق باعتبار مدخلية بعض الأمور في قابليته للوجود كمرور الزمان ونحوه.

ومن ذلك البيان أيضا ظهر وجه دخل الشرائط وانه لايكون دخلها الا كدخل عدم المانع في كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري الراجع إلى دخلها في قابلية الأثر للتحقق باعتبار كونها مما تقوم به الحدود الخاصة التي بها يكون الأثر قابلا للتحقق لا بدونها ، لا ان دخلها كان من قبيل دخل المقتضى بنحو المؤثرية والمتأثرية ، ولذلك أيضا لم يعرفوا الشرائط بما عرفوا به المقتضي بل عرفوه بما يلزم من عدمه العدم ، قبال المقتضى الذي يلزم من وجوده الوجود ولو لذاته

ص: 276

ثم انه لا يفرق فيما ذكرنا بين ان يكون الشرائط راجعة إلى مقام التأثير الفعلي وبين رجوعها إلى مقام أصل الاقتضاء ، فإنه على كل تقدير لا دخل لها الا في حدود الشيء غايته انه على الأول يرجع دخلها إلى قابلية الأثر والمقتضى ( بالفتح ) للتحقق ، وعلى الثاني يرجع دخلها إلى قابلية المقتضى في اقتضائه للتأثير باعتبار ان ما هو المؤثر من الأول هو الوجود المحدود بالحدود الخاصة ، واما دخل هذه الحدود في القابلية المزبورة في المقتضى فهو كما عرفت لايكون الا ذاتيا غير معلل بلم وبم.

وعلى ذلك فدخل الشرائط وكذا الموانع لايكون الا كونها طرفا للإضافة ومحدده للشيء بحدود خاصة ، وهذا المقدار من الدخل أيضا كما عرفت يكفي في نيل العقل جهة المقدمية منها وكونها في رتبة سابقة على المحدود كما هو واضح ، ولئن شئت فاستوضح ذلك بمثل الصلاة التي ورد انها قربان كل تقى وتنهى عن الفحشاء وما اعتبر الشارع فيها من القيود الوجودية والعدمية ككونها عن طهور وكونها إلى القبلة وفي حال الستر وكونها في ظرف عدم امر كذائي ، إذ لا اشكال حينئذ في أن ما يترتب عليه النهى عن الفحشاء والكمال والقرب ليس الا ذات الصلاة التي هي موضوع الامر في خطاب أقيموا الصلاة وان دخل تلك القيود المعتبرة فيها من الطهور والقبلة والستر وعدم التكتف ونحوها لايكون الا في حدود تلك الطبيعة الناشئة تلك الحدود من إضافة الصلاة إلى الأمور المزبورة ولو من جهة ان ما هو المؤثر في كمال العبد من الأول هي الطبيعة المحدودة بالحدودات الخاصة والذات الواجدة للتقيد بالأمور الخاصة لا مطلق الطبيعة ولو فاقدة عن التقيدات والإضافات المزبورة ، إذ حينئذ يكون مرجع تلك القيود المعتبرة فيها إلى تضيق في دائرة الطبيعة المزبورة واخراجها عما لها من الاطلاق ثبوتا في عالم مؤثريتها في القرب والكمال باعتبار تلك التقيدات الحاصلة للطبيعة من اضافتها إليها ، ومن ذلك تكون التقيدات والإضافات طرا داخلة في المطلوب ، والقيود نفسها خارجة عنه ومقدمة للمطلوب باعتبار كونها مما تقوم به تلك التقيدات والإضافات كما اشتهر بان التقيد جزء والقيد خارج ، من دون فرق فيما ذكرنا بين الشرائط والموانع ، من جهة انه لا نعنى بالمانع الا ما اعتبر عدمه قيدا للمطلوب حسب ما عرفت آنفا.

فعلى ذلك فجميع القيود من الشرائط والموانع سواء كانت راجعة إلى أصل اقتضاء الشيء أو إلى تأثيره الفعلي واثره يكون مناط دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في

ص: 277

الامر الاعتباري ودخل ما به الإضافة والتقيد في التقيد ، لا من باب المؤثرية والمتأثرية كما في المقتضى ، ولا من باب المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مناطه.

نعم في العلل الخارجية قد يشتبه الامر بين الملازمات والشرائط وبين الأضداد والموانع كما لعله هو العمدة في ذهاب من ذهب إلى كون دخل عدم المانع من باب منافاة وجوده مع المطلوب ولكنه بعد التأمل فيما ذكرنا في العلل والمعلولات الشرعية كالصلاة وما اعتبر فيها من القيود الوجودية والعدمية بالنسبة إلى حيث القرب والنهى عن الفحشاء لا مجال لهذه التجشمات إذ حينئذ يقطع بان دخل الشرائط والموانع لايكون الا في الحدود والتقيدات وان ما هو المؤثر لايكون الا المقتضى خاصة ، غايته بما انه محدود بحدود خاصة ، ولكن لا يلزم من ذلك أي من اخذ التقيدات جزء تأثيرها في المعلول وفى الصلاح والفساد ، كي يشكل بأنها من جهة كونها أمورا اعتبارية غير صالحة للمؤثرية في الوجود فلابد وأن يكون المؤثر هو منشأ اعتبارها ، إذ حينئذ نقول : بان ما هو المؤثر والمعطى للوجود انما هو عبارة عن وجود المحدود ، فمن قبل وجوده ينشأ وجود الأثر ومن قبل حده ينشأ حد الأثر ، فتدبر.

وقد يقرب وجه دخل الشرائط بأنه اما متمم للفاعل في فاعليته أو متمم للقابل. ولكن نقول : بأنه على الأول من متمميته للفاعل ان أريد دخله في حدود الفاعل وفي أصل الاقتضاء والفاعلية ولو باعتبار انه لولا تلك الحدود الخاصة للشيء لايكون تاما في اقتضائه في التأثير فهو وان كان صحيحا ، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه في وجه دخل الشرائط ، فلايكون ذلك البيان تقريبا آخر في وجه دخل الشرائط. وان أريد من المتممية للفاعل دخلها في ترتب الأثر وبعبارة أخرى أريد من ذلك كونها من اجزاء المقتضى بحيث عند وجودها يترتب الأثر عليها وعلى المقتضى معا ، فعليه وان كان دخلها حينئذ بنحو المؤثرية الا انه يلزمه وقوعها في عرض المقتضي لا من مقدماته وفي رتبة سابقة عليه فيلزمه حينئذ نفى المقدمية عن مثل الطهور والستر والقبلة ونحوها بالنسبة إلى الصلاة التي هي مقتضيه للنهي عن الفحشاء ونفى الوجوب الغيري لها من جهة ان مقدمية الأمور المزبورة للصلاة تقتضي كونها في رتبة سابقة عن الصلاة ، وهو كما ترى مناف لما عليه عامة الأصحاب من مقدمية الأمور المزبورة للصلاة بل مناف أيضا لما يقتضيه لسان أدلة اعتبارها من نحو قوله علیه السلام : لا صلاة الا بطهور ، ولا صلاة الا إلى القبلة ونحو

ص: 278

ذلك ، فان مثل هذه الأدلة ينادى بان ما هو الواجب والمأمور به هو الصلاة المتقيدة بكونها عن طهور والى القبلة وفي حال الستر ونحو ذلك وان اعتبار الأمور المزبورة انما هو من جهة كونها مما تقوم به تلك التقيدات ، كما هو واضح.

واما على الثاني من متممية الشرائط للقابل ، فنقول أيضا : بأنه ان أريد من القابل نفس ماهية الأثر فلا ريب في أنه يرجع حينئذ إلى ما ذكرنا ، من جهة ان قضية دخلها فيه حينئذ ليس الا في استعداده وقابليته للتحقق عند وجود علته ، فلايكون دخلها حينئذ دخلا تأثيرها بل انما هو من قبيل دخل طرف الإضافة في الإضافة كما حققناه ، وان أريد من القابل المحل الذي يوجد فيه الأثر كالخشب الذي هو محل الاحراق والنفس التي هي معروضة الكمال بدعوى ان اليبوسة مثلا موجبة لاستعداد الخشب وقابليته لورود الاحراق عليه وكذا الطهور مثلا موجب لاستعداد النفس وقابليتها لورود الكمال عليها من قبل الصلاة ، فعليه وان أمكن دعوى كون الشرائط مؤثرات في الاستعداد والقابلية المزبورة نظراً إلى كون القابلية حينئذ أمرا وجوديا لكونها مرتبة من كمال الشيء ، ولكنه حينئذ ينقل الكلام في دخل القابلية المزبورة في تحقق الأثر وانه هل هو بنحو المؤثرية أو بنحو الدخل في حدوده ، إذ حينئذ ما له دخل في الأثر لايكون الا القابلية المزبورة ، واما الشرائط الخارجية فإنما هي مقدمة للقابلية التي هي الشرط في الحقيقة في تحقق الأثر ، فلا محيص حينئذ بعد اللتيا والتي من المصير إلى كون دخل الشرائط في المعلول من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ودخل ما تقوم به الحدود في المحدود لا من باب المؤثرية والمتأثرية ، كما لايخفى.

ثم انه مما ذكرنا من المناط في مقدمية الشرائط والموانع يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف في الشرائط المتأخرة وعدم لزوم انحزام قاعدة عقلية : من لزوم تحقق المعلول قبل وجود علته ، إذ نقول : بان ذلك يرد إذا كان دخل الشرائط أيضا كالمقتضي بنحو المؤثرية إذ حينئذ يتوجه الاشكال المزبور في شرطية الوجودات المتأخرة ، والا فبناء على ما قررناه من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري لايكاد مجال للاشكال المزبور ، حيث أمكن حينئذ تصوير الشرطية للوجودات المتأخرة بعين تصويرها للوجودات المقارنة والمتقدمة ، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشيء بوجوده المقارن محددا للماهية بحد خاص تكون بذلك الحد قابلة للتحقق عند وجود مقتضيها كذلك يمكن ذلك في الوجود

ص: 279

السابق المعدوم حال وجود الأثر وفى الوجود المتأخر ، فيمكن ان يكون الشيء بوجوده السابق المعدوم حين الأثر دخيلا في قابلية الأثر للتحقق أو في تمامية المقتضى في اقتضائه في التأثير ، كامكان ان يكون الشيء بوجوده المتأخر دخيلا في القابلية المزبورة نظراً إلى مدخلية الحدود الخاصة للشيء الحاصلة من اضافته إلى الامر المتقدم أو المتأخر في قابليته لتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه. واما دخل تلك الحدود في القابلية المزبورة فهو كما عرفت لايكون الا ذاتيا ، لان مرجع ذلك إلى أن ما له القابلية للتحقق من الأزل هي الطبيعة المحدودة بالحدود الخاصة الناشئة من اضافتها إلى امر كذائي مقارن أو سابق أو لا حق.

وحينئذ فلو ورد في لسان الدليل إناطة الشيء بأمر متأخر زمانا عن الشيء كإناطة صحة الصوم للمستحاضة بغسل الليلة المتأخرة وإناطة صحة العقد والملكية في عقد الفضولي بإجازة المالك في الأزمنة المتأخرة وإناطة الصحة في الصلاة بعدم العجب فيما بعد مثلا لما كان مجال للاشكال عليه ورفع اليد عما يقتضيه ظاهر القضية من مدخلية الأمور المتأخرة في صحة الامر السابق حين وجوده وترتب الغرض والمصلحة عليه ، مدعيا لاستحالة ذلك نظراً إلى تلك القاعدة العقلية الفطرية : من توقف المعلول على وجود علته التامة التي منها الشرائط وعدم الموانع واستحالة تحقق المعلول قبل وجود علته التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع.

فتمام المنشأ في الاشكال المزبور حينئذ انما هو من جهة تخيل كون الشرائط أيضا مؤثرات في عالم دخلها في الأثر وجعل مناط المقدمية فيها بعينه هو المناط المتحقق في طرف المقتضى ، ولقد عرفت انه على هذا التوهم يستحيل تصور الشرطية للوجودات المتأخرة بل المتقدمة المعدومة أيضا ، والا فبناء على ما عرفت من المناط في مقدمية الشرائط في مرحلة دخلها في المطلوب من كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري كما في عدم المانع فلا باس بتصوير الشرطية للوجودات المتأخرة ، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشيء بإضافته إلى امر مقارن محدودا بحد خاص قابلا للتحقق بذاك الحد كذلك في اضافته إلى امر سابق معدوم حين وجوده أو اضافته إلى امر لاحق موجود في موطنه والجامع هو مدخلية وجود الشيء في موطنه مقارنا كان أو سابقا أو لا حقا في حدود الأثر حسب اضافته إليه في قابليته للتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه ، ومن المعلوم انه على ذلك

ص: 280

لايكاد يلزم انخرام قاعدة عقلية أصلا من لزوم تحقق المعلول والأثر قبل وجود علته ومؤثره ، إذ لا مؤثرية ولا متأثرية حينئذ في البين حتى يتوجه المحذور المزبور وانما غايته هو تأخر ما به الحدود زمانا عن الحدود وهو مما لا ضير فيه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

ومن ذلك البيان يظهر لك ضعف ما أفيد أيضا على بطلان الشرط المتأخر كما عن بعض الاعلام ، من تقريب : ان تعلق التكاليف بمتعلقاتها في القضايا الطلبية انما هو على نحو القضايا الحقيقية التي يلزم في فعليتها فعلية متعلقاتها بما لها من الاجزاء والقيود التي لها دخل في تحققها ، وحينئذ فلابد أولا من تحقق تلك القيود التي لها دخل في الموضوع حتى يتحقق الموضوع بما له من الحدود والخصوصيات فيترتب عليه الوجوب والحرمة ومثل هذا المعنى مناف عقلا مع تأخر القيود المفروض دخلها فيه لضرورة اقتضائه لزوم مجيء الحكم قبل وجود موضوعه ومتعلقه ، لما ذكرنا من عدم تحقق الموضوع خارجا الا بعد تحقق القيود التي لها دخل فيه ، وهو كما ترى من المستحيل.

إذ نقول : بان ما أفيد من لزوم تحقق الموضوع بما له من الاجزاء والتقييدات والحدود قبل مجيء الحكم وان كان صحيحا ، ولكن المدعي هو تحقق بجميع ما يعتبر فيه من الحدود والتقييدات فعلا بمحض تحقق القيود في مواطنها مقارنا أو سابقا أو لا حقا نظراً إلى كشف تحقق القيد في موطنه المتأخر في الواقع عن كون الامر السابق محدودا بالحدود التي بها يترتب عليه الأثر. واما دعوى لزوم تحقق تلك القيود وما به الحدود المزبورة أيضا في فعلية الحكم فلا دليل يساعد عليه من جهة ان الذي يقتضيه البرهان المزبور انما هو توقف الحكم في فعليته على فعلية وجود موضوعه بما له من الحدود والإضافات المأخوذة فيه. واما توقفه على فعلية الموضوع بماله من الحدودات وما به الإضافات والقيود فلا ، لان ما هو الداخل في الموضوع لايكون الا الحدود والتقيدات واما ما به الحدود والتقيد فهي خارجة عن الموضوع ومع خروجها عنه لايكاد يقتضي البرهان المزبور لزوم تحققها أيضا في فعلية الحكم ، كما هو واضح.

وحينئذ نقول : بأنه بعد ما أمكن ثبوتا شرطية الامر المتأخر للسابق على ما ذكرنا من وقوعه طرفا للإضافة للامر المتقدم فلو ورد دليل يقتضي بظاهره إناطة شيء بأمر متأخر لا مجال للاستيحاش وصرف الدليل عن ظاهره إلى شرطية التعقب بالامر المتأخر بجعل التعقب نفسه الذي هو من الأمور المقارنة شرطا كما عن بعض الاعلام تبعا للفصول إذ

ص: 281

مثل هذا التكلف ليس منشأه الا تخيل انحصار ملاك المقدمية بما في المقتضي من المؤثرية والغفلة عن أن في البين ملاكا آخر متصورا في المقدمية وهو كون الشيء طرفا للإضافة والحدود ، كما كان ذلك قطعا في مثل عدم المانع الذي يستحيل دخله بملاك المؤثرية ، على أن في الالتزام بكون الشرط هو التعقب بالامر المتأخر لا نفس الامر المتأخر في موطنه ما لايخفى فإنه مضافا إلى منافاة ذلك لما عليه القائل المزبور من كون التقيدات باعتبار كونها أمورا اعتبارية غير قابلة للمؤثرية في الغرض ولتعلق الامر بها وان الامر والتكليف لابد من تعلقه بما هو منشأ اعتبارها وهو الامر المتأخر ، نسئل عنه بان دخل ذلك الامر المتأخر في موطنه في التقيد المزبور المعبر عنه بالتعقب هل هو بنحو المؤثرية أو على نحو دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري فعلى الأول يعود محذور انخرام القاعدة العقلية من لزوم تحقق الأثر قبل وجود المؤثر وعلى الثاني نقول بأنه لا داعي حينئذ إلى ارتكاب خلاف الظاهر في تلك القضايا ، بل بعد ما أمكن ان يكون الشيء بوجوده المتأخر في موطنه منشأ لتحقق الإضافة والتقيد المزبور فمن الأول لم لا تجعل الشرط نفس الامر المتأخر في موطنه وتجعل ظواهر الأدلة على حالها في اقتضائها لكون المنوط به للامر الفعلي هو الشيء بوجوده المتأخر وهل الالتزام بالتعقب المزبور حينئذ الا من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب؟.

وحينئذ فلا محيص في حل الأعضال المزبور عن الشرائط المتأخرة في الواجبات الشرعية من المصير إلى ما ذكرنا بجعل الشروط طرا طرفا للإضافات وجعل دخلها في المشروط من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، كما افاده في الكفاية بأحسن بيان في شرح شرائط الواجب وان خالف في شرائط الوضع والتكليف فجعل الشرط فيهما عبارة عن الشيء بوجوده علمي اللحاظي الذي هو امر مقارن دائما مع المشروط.

ثم انه مما ذكرنا ظهر حال شرائط الوجوب والتكليف وقيوده أيضا ، فان قيود الوجوب بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشيء واتصاف الذات بوصفه العنواني بكونه صلاحا ومحتاجا إليه كما يأتي بيانه في المبحث الآتي في شرح الواجب المشروط في مثال قيود الواجب الراجعة إلى كون دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجودها هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني فلا جرم يكون قضية دخلها أيضا من باب دخل طرف الإضافة في الإضافة ودخل ما به التقيد في التقيد ومعه أمكن فيها أيضا تصوير الشرطية للامر المتأخر بالنسبة

ص: 282

إلى التكليف ، بداهة ان قضية كون الشيء شرطا له حينئذ ليس الا كونه بحيث يحصل للشيء بالإضافة إليه خصوصية يكون بتلك الخصوصية متصفا بكونه صلاحا ومصلحة وهذا كما أنه قد يكون بالنسبة إلى المقارن كذلك قد يكون بالنسبة إلى المتقدم والمتأخر فيمكن ان يكون الشيء بوجوده المتأخر منشأ لإضافة وخصوصية خاصة في الامر السابق توجب اتصافه بتلك الخصوصية بكونه مصلحة وصلاحا بحيث لولا حدوث المتأخر في موطنه لما كان للسابق تلك الإضافة الموجبة لتعنونه بالوصف العنواني المزبور ومع امكان ذلك فلا بأس في تصوير الشرطية في الامر المتأخر بالنسبة إلى الوجوب والتكليف غايته انه يحتاج حينئذ في فعلية الإرادة والتكليف من القطع بتحقق المنوط به في موطنه حيث إنه مع القطع المزبور يرى كون المتعلق متصفا فعلا بالصلاح ومحتاجا إليه فيتوجه إليه الإرادة فعلا من دون ان تخرج عن الإناطة أيضا إلى الاطلاق ، كما نظيره في العرفيات في مثال شراء اللحم اليوم للضيافة لمن يرد عليه الضيف في الغد حيث إنه ترى من نفسك مع العلم بورود الضيف عليك في الغد احتياجك فعلا إلى شراء اللحم واتصافه بكونه محتاجا إليه ، ومن ذلك تصير بصرافة طبعك بصدد شرائه وهكذا في اكرامك اليوم من يكرمك في الغد فيما لو كان اكرامه إياك في الغد منشأ لاتصاف اكرامك اليوم إياه بالمصلحة والصلاح حيث إنه مع العلم بصدور الاكرام منه في الغد ترى احتياجك اليوم إلى اكرامه لما ترى فيه حينئذ مع الصلاح والمصلحة فمن ذلك يتوجه منك الإرادة والاشتياق فعلا إلى اكرامه منوطا باكرامه الآتي الذي تعلم بتحققه في موطنه.

وعلى ذلك فيمكن المصير في شرائط التكليف أيضا من المقارن والمتقدم والمتأخر إلى كون المنوط به هو نفس الشرط بوجوده في موطنه مقارنا أو متقدما أو متقدما أو متأخرا من دون احتياج إلى جعل الشرط عبارة عن الشيء بوجوده العلمي اللحاظي كما افاده في الكفاية في التفصي عن الاشكال المعروف حيث جعل الشرط في المتقدم والمتأخر مجرد لحاظه إذ نقول : بان ذلك انما يتم بالنسبة إلى مرحلة تعلق الإرادة وفعليتها حيث كان ما له الدخل فيها هو الشيء بوجوده العلمي لا بوجوده الخارجي ، كما هو الشأن أيضا في كلية الغايات. واما بالنسبة إلى مقتضيات الاحكام من المصالح والاغراض فلا شبهة في أن ماله الدخل فيها في اتصاف الشيء بالصلاح والمصلحة بنحو الشرطية أو غيرها انما كان هو الشيء بوجوده الخارجي لا بوجوده العلمي واللحاظي ، بل العلم واللحاظ في ذلك لايكون الا

ص: 283

طريقا محضا ولذلك قد يتخطى عن الواقع فيكشف عدم تحققه عن فقد العمل المشروط للمصالح ، ولذلك ترى المولى الذي يتصور في حقه الخطأ كالموالي العرفية قد يحصل له الندم على فعله وطلبه بأنه لم امر به مع كونه في الواقع غير ذي المصلحة ، فلو انه كان الدخيل فيها أيضا هو الشيء بوجوده العلمي كما في الإرادة والاشتياق لما كان وجه لانكشاف الخلاف وكشف فقد الشرط في موطنه المتأخر عن فقد العمل للمصلحة وحينئذ فكان ذلك برهانا تاما على أن ماله الدخل في مقام المصالح والاغراض هو الشيء بوجوده الخارجي وكون العلم واللحاظ فيه طريقا محضا ، ومعه لا محيص في حل الأعضال المزبور من المصير إلى ما ذكرناه بجعل الشرائط طرا طرفا للإضافات وجعل دخلها من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري.

ولعله إلى ذلك أيضا يرجع ما أفاده في شرح شرائط الواجب والمأمور به في مقام التفصي عن الاشكال المزبور ، حيث إن كلامه ظاهر بل صريح في أن دخل الشروط انما هو باعتبار وقوعها طرفا للإضافات. ولكن الأستاذ دام ظله نسب إليه القول بشرطية اللحاظ في جميع القيود حتى الراجعة إلى الواجب والمأمور به ولعله من جهة ما سمعه مه مشافهة في درسه الشريف ، والا فكلامه في الكفاية ينادي بظاهره بالتفصيل بين شرائط الوجوب والوضع وبين شرائط الواجب فلاحظ كلامه تعرف ما ذكرناه.

ثم إن هذا كله بناء على عدم ارجاع مثل هذه القيود أيضا إلى المتعلق كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى في مبحث الواجب المشروط واما بناء على رجوعها أيضا إلى المتعلق كما هو مبنى القول برجوع المشروطات إلى المطلقات فالامر أوضح ، من جهة رجوعه حينئذ إلى ما تقدم من دخل الامر المتأخر في حدود الموضوع وخصوصياته التي بها يكون منشأ للآثار ومتعلقا للغرض بنحو يكشف عدم وجوده في موطنه المتأخر عن عدم كون السابق محدودا بالحدود التي بها يكون منشأ للآثار. واما توهم استلزام ذلك لوجود الحكم وفعليته قبل وجود موضوعه بما له من الحدود فقد عرفت الجواب عنه بمنع الاستلزام المزبور نظراً إلى تحقق الموضوع حينئذ بماله من الحدود والإضافات والتقيدات فعلا بمحض تحقق ما به الحدود في موطنه المتأخر. وما افاده من كون التكاليف الشرعية بنحو القضايا الحقيقية أيضا لايقتضي أزيد من لزوم فعلية الموضوع بما له من الحدود والإضافات في فعلية الحكم وتحققه.

ص: 284

واما لزوم تحقق ما به الحدود والإضافات أيضا في فعلية الحكم ، فلايقتضيه البرهان المزبور بعد فرض خروج القيود بنفسها عن الموضوع وكون الداخل فيه هو التقيد بها ، ولذلك لا شبهة في صحة التكليف الفعلي باكرام من يقوم في الغد أو يموت في العام البعد بنحو خروج القيد ودخول التقيد ولو بنحو القضية الحقيقية وانه يجب على المأمور والمكلف فعلا اكرامه إذا علم ولو باخبار المعصوم علیه السلام إياه بان زيدا يقوم في الغد أو يموت في العام البعد وليس ذلك الا من جهة فعلية الموضوع حينئذ بما له من الإضافة والتقيد الخاص بمحض تحقق القيد في الموطن المتأخر.

وحينئذ فالذي يقتضيه التحقيق في حل الاعضال الوارد على الشرائط المتأخرة سواء في شرائط التكليف أو شرائط الواجب والمأمور به هو ما ذكرنا من اخراج الشرائط طرا عن كونها معطيات الوجود ومؤثرات وجعلها طرفا للإضافات والتقيدات والمصير إلى كون دخلها من قبيل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، فإنه على ما ذكرنا يندفع الاشكال المزبور من رأسه فيما ورد من الأدلة المقتضية لشرطية الامر المتأخر للتكليف أو الواجب والمأمور به ، فأمكن الاخذ حينئذ بظاهرها من الإناطة بالامر المتأخر من دون احتياج إلى صرف تلك الأدلة عن ظاهرها والتكلف فيها بارجاعها إلى الشرط المقارن تارة بالالتزام بان الشرط في الحقيقة عبارة عن تعقب الشيء الحالي بالامر المتأخر لا نفس الامر المتأخر بوجوده في موطنه المتأخر ، وأخرى بان الشرط عبارة عن امر واقعي مقارن مع المشروط حقيقة وكان الكاشف عنه الامر المتأخر ، وثالثة بان الشرط هو الامر المتأخر لكن لا بوجوده الخارجي المتأخر بل بوجوده العلمي اللحاظي ، ورابعة بان الشرط هو الامر المتأخر لكن بوجوده الدهري دون الزماني والالتزام بان تلك المتفرقات بحسب الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ، كما هو المنسوب إلى العلامة الشيرازي قدس سره وان كان نفى هذه النسبة عنه بعض الاعلام مدعيا باني كنت سألته عن هذه النسبة شفاها فأنكرها وبالغ في الانكار ثم قال بأني انما ذكرت ذلك في أثناء البحث احتمالا لا مختارا. وعلى كل حال فهذا كله في شرائط التكليف والواجب ولقد عرفت بان تصوير شرط المتأخر فيها بمكان من الامكان.

* * *

ص: 285

تصوير الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية

واما الأحكام الوضعية فهي باعتبار كونها من الاعتبارات الجعلية يكون امر تصوير الشرط المتأخر فيها أوضح مما في باب التكاليف. ولتوضيح المرام في المقام لابد من الإشارة الاجمالية إلى حقيقة الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية ونحوهما ، فنقول :

اعلم أن الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وان كانت من سنخ الإضافات والاعتبارات ولكنها لا تكون من سنخ الإضافات الخارجية المقولية المحدثة لهيئة في الخارج التي قيل بان لها حظا من الوجود وان الخارج ظرف لوجودها ، كالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية كالإضافة الخاصة بين ذوات أخشاب السرير المحدثة للهيئة السريرية في الخارج وذلك لما نرى بالعيان والوجدان من عدم كون الملكية كذلك وانه لايوجب ملكية شيء لشخص احداث هيئة خارجية بينه وبين الشخص كما يوجبه الإضافات الخارجية ، إذ يرى أن المال المشتري بعد صيرورته ملكا للمشتري بواسطة البيع كان على ما له من الإضافة الخارجية بينه وبين البايع قبل ورود الشراء عليه من دون ان يكون صيرورته ملكا للمشتري منشأ لتغير وضع أو هيئة بينهما في الخارج أصلا. نعم لا تكون أيضا من سنخ الاعتباريات المحضة التي لا صقع لها الا الذهن ولا كان لها واقعية في الخارج ، كالنسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية كالانسان والحيوان الناطق وكالكلية والجزئية وكالوجودات الا دعائية التنزيلية التي لا واقعية لها في الخارج وكان واقعيتها بلحاظها واعتبارها.

بل وانما تلك الأحكام سنخها متوسطة بين هاتين فكانت من الإضافات التي لها واقعية في نفسها مع قطع النظر عن لحاظ لا حظ واعتبار معتبر في العالم وكان الخارج تبعا لطرفها ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، نظير كلية الملازمات ، فكما ان الملازمة بين النار والحرارة مما لها واقعية في نفسها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها لا مقوما لها كما في الاعتباريات المحضة ولذا لو لم يكن في العالم لا حظ كانت الملازمة المزبورة متحققة كذلك الملكية والزوجية ونحوهما أيضا فإنها أيضا بعد تحقق منشأ اعتبارها الذي هو الجعل مما لها واقعية في نفسها حيث كانت مما يعتبرها العقل عند تحقق منشأ اعتبارها

ص: 286

بنحو كان اللحاظ طريقا محضا إليها لا مقوما لها ، كما هو الشأن في العلقة الوضعية الحاصلة بين اللفظ والمعنى من جهة تخصيص الواضع أو كثرة الاستعمال فإنها أيضا مما لها واقعية في نفسها غير منوطة بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل كان اللحاظ والاعتبار بعد تحقق منشأ اعتبارها الذي هو الوضع طريقا إليها ، ومع ابائك عن تسميتك هذه بالإضافة وتقول بان المصطلح منها هي الإضافات الخارجية ، فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، حيث لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.

وبعد ذلك نقول : بان مثل هذه الإضافات النحوية لكونها خفيف المؤنة جدا يكفي في اعتبارها وتحققها تحقق منشأ اعتبارها فيتحقق بمجرد جعل الجاعل واعتباره من دون احتياج إلى مؤنة زائدة بوجه أصلا ، كما في قولك : المال لزيد ، فإنه بهذا التخصيص يتحقق الملكية له ، كما كان هو الشأن أيضا في العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى حيث كان تحققها بتحقق منشأ اعتبارها الذي هو وضع الواضع أو كثرة الاستعمال. وحينئذ فإذا كانت هذه الإضافات من الاعتباريات الجعلية التي قوام تحققها بالجعل ، نقول : بأنها لا محالة تكون تابعة لكيفية جعل الجاعل واعتباره ، وحينئذ فمتى اعتبر الجاعل بجعله الملكية السابقة أو المتأخرة أو المقارنة يلزمه تحقق الملكية واعتبارها على نحو كيفية جعله ولايمكن اعتبارها بوجه آخر غير ما يقتضيه الجعل.

فعلى ذلك نقول : بأنه لو أنيط أصل جعل الملكية برضا المالك واجازته بمقتضي قضية ( تجارة عن تراض ) لايلزمه ان يكون المجعول والمحكوم به وهو الملكية أيضا من حين تحقق الرضا ، نظراً إلى وضوح كون المحكوم به حينئذ عاريا عن القيد المزبور كما هو الشأن في كلية شرائط الوجوب في الواجبات المشروطة - كما سنحققه من امتناع رجوعها إلى الموضوع بل لابد حينئذ من لحاظ ان المجعول والمحكوم به في هذا الجعل هو الملكية المقارنة أو الملكية المتأخرة أو المتقدمة ، فإذا كان المحكوم به هو الملكية من حين العقد ولو من جهة اقتضاء الاطلاق لا جرم يلزمه اعتبار الملكية من الحين بمعنى الحكم في ظرف الإجازة بتحقق الملكية حقيقة من حين العقد ، ولايكون فيه محذور ، من جهة ان غاية ما في الباب حينئذ انما هو اختلاف ظرف منشأ الاعتبار وهو الجعل مع ظرف المعتبر وهو الملكية زمانا ، ومثل ذلك مما لا ضير فيه بعد عدم جريان المؤثرية والمتأثرية في الأمور الاعتبارية بالنسبة إلى مناشئها.

ص: 287

وعلى ذلك فيمكن لنا الالتزام بالكشف الحقيقي المشهوري من دون لزوم انخرام قاعدة عقلية أصلا ، فان مبنى الانخرام انما هو جعل دخل الشرائط دخلا تأثيرها ، والا فعلى ما ذكرنا من رجوعها إلى مقام الدخل في القابلية ولو من جهة محدديتها لدائرة الماهيات المنوط بها القابلية المزبورة ، فلا مجال لدعوى انخرام القاعدة أصلا ، خصوصا في الاعتباريات الجعلية التي عرفت خروج شرائطها وأسبابها عن حيز المؤثرية وامكان اختلاف ظرف الجعل زمانا مع ظرف المجعول ، كما في المقام ، حيث كان الكاشف فيه كما عرفت من باب تقدم المجعول زمانا على الجعل الذي هو منشأ اعتباره.

ثم لايخفى عليك ان هذا المعنى من الكشف غير مرتبط بالكشف على مذاق الفصول الذاهب إلى شرطية التعقب بالإجازة المتأخرة ، إذ على ما ذكرنا يكون أصل الجعل حسب اقتضاء إناطة التجارة بالرضا في ظرف الإجازة ، ولكن المجعول والمحكوم به انما هو الملكية من حين العقد ، على معنى انه في ظرف الإجازة يتعلق الجعل بالملكية من حين العقد فيتحقق من حين الرضا حقيقة الملكية من حين العقد ، والا فقبل الإجازة حيثما لاتحقق للجعل كان المال باقيا على ملك البايع حقيقة ، فكان الإجازة من حين وجودها موجبة لقلب الملكية السابقة التي كان للبايع إلى ملكية أخرى للمشتري ، لكن ذلك بخلافه على مشرب الفصول ، إذ على مسلكه قدس سره كان أصل الجعل واعتبار التجارة والمجعول الذي هو الملكية متحققة للمشتري من حين العقد على تقدير تحقق الإجازة فيما بعد ، ومن ذلك على مسلكه لو علم بتحقق الإجازة من المالك فيما بعد يجوز للمشتري التصرف والمبيع باعتبار كونه ملكا له حقيقة دون البايع ، بخلافه على ما ذكرنا ، فإنه لايجوز له ذلك ولو مع القطع بتحقق الإجازة من المالك في الموطن المتأخر نظراً إلى كونه بعد ملكا للبايع.

ومن ذلك البيان ظهر الفرق بين ما ذكرنا وبين الكشف الحكمي الذي هو مسلك الشيخ قدس سره فإنه على الكشف الحكمي يكون كل من الجعل والمجعول وهو الملكية من حين الإجازة كما على النقل الا انه تعبدا يترتب عليه احكام الملكية من حين العقد ، بخلافه على ما ذكرنا ، فإنه عليه يكون ترتيب آثار الملكية من حين العقد ، من جهة تحقق الملكية حقيقة بهذا الجعل المتأخر من حينه لا من جهة التعبد الشرعي وتنزيل ما لايكون ملكا بمنزلة الملك.

نعم على ما ذكرنا ربما يتوجه اشكال ، وحاصله : هو لزوم ملكية العين المبيعة في الأزمنة

ص: 288

المتخللة بين العقد والإجازة على هذا المعنى من الكشف الحقيقي لمالكين وهما البايع والمشتري ، بخلافه على الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول حيث لا يلزم منه هذا المحذور. ولكنه يندفع هذا المحذور أيضا باختلاف الرتبة بين الملكيتين ، حيث كان ملكية البايع للمبيع في رتبة قبل الإجازة وملكية المشتري لها في الرتبة المتأخرة عنها ، ومع هذا الاختلاف بحسب الرتبة لا مانع من ذلك كما لايخفى.

ثم إن ذلك كله انما هو بحسب مقام الثبوت ونفس الامر ، ولقد عرفت ان كون الشيء شرطا متأخرا للشيء سواء في الأحكام التكليفية أو الوضعية بمكان من الامكان بعد اخراج الشرائط عن حيز المؤثرية.

واما بحسب مقام الاثبات والدلالة : ففيما لم يكن في البين قرينة واضحة على مدخلية الشيء منوط به بوجوده المتأخر أمكن استفادة الشرط المقارن بمقتضي ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف وجود المنوط به مع ظرف الإناطة ، كما هو كذلك في كلية العناوين الاشتقاقية وغيرها ، ولذلك قلنا في مبحث المشتق ، بأنه لابد في استنتاج النتيجة المعروفة في مثل كراهة البول تحت الشجرة المثمرة ووجوب اكرام العالم من اثبات ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف النسبة وهي إضافة البول إلى الشجرة والاكرام إلى العالم مع ظرف جرى العنوان وتطبيقه على الذات الملازم لاتصاف الشجرة فعلا بالمثمرية في حال إضافة البول إليه ، والا فمع قطع النظر عن ظهور الهيئة الكلامية في ذلك لا مجال لانتاج النتيجة المعروفة بين القولين في النزاع المعروف في مدلول كلمة المشتق ، من جهة احتمال كون الجري في الحكم بالكراهة فعلا على المصداق المتلبس بالمبدء سابقا أو المصداق المتلبس به فيما يأتي من الزمان أو المصداق الحالي. وحينئذ ففي المقام أيضا نقول بان طبع الإناطة بشيء وان كان يلائم ثبوتا مع التقدم والتقارن والتأخر من جهة ما ذكرنا من عدم اقتضائها الا تقدم المنوط به على المنوط رتبة لا زمانا ، الا انه في مرحلة الاثبات ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف المنوط به مع ظرف الإناطة التي هي عبارة عن نسبة المنوط به إلى الشيء يقتضى كون المنوط به شرطا مقارنا ، فبمقتضى هذا الظهور لابد في جميع الموارد من المصير إلى استفادة كون المنوط به شرطا مقارنا الا إذا كان هناك قرينة على خلاف الظهور المزبور تقتضي كونه شرطا متقدما أو متأخرا.

نعم في مثل الرضا والإجازة في بيع الفضولي يمكن ان يقال بعدم اقتضاء البيان المزبور

ص: 289

في إناطة التجارة بالرضا في قوله تجارة عن تراض الا كون الإجازة شرطا مقارنا في أصل الجعل واعتبار المبادلة بثبوت التجارة التي هي مضمون عقده ، واما اقتضائه لكون المحكوم به وهو الملكية أيضا من حين الإجازة والرضا ، فلا ، وحينئذ فإذا اقتضى العقد ثبوتها من حينه ولو من جهة اعتبار العقد علة لوجودها المستتبع لتوجه القصد إلى الملكية من الحين فلازمه ليس الا الحكم في ظرف الرضا بثبوت الملكية وتحققها من حين العقد لا من حين الإجازة كما ذكرنا ، ولازمه هو المصير في مثله إلى الكشف الحقيقي دون النقل ودون الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول. نعم لو كان القيد وهو الرضا في قوله : تجارة عن تراض راجعا إلى المحكوم به وهو الملكية لا إلى أصل اعتبار المبادلة والحكم بثبوت التجارة ، يتعين بمقتضي الظهور المزبور في الجملة الكلامية القول بالنقل إذا لم يكن في البين دليل على التنزيل في لزوم ترتب آثار الملكية من حين العقد ، والا فالقول بالكشف حكما بمقتضي دليل التعبد. ولكنك عرفت عدم رجوعه الا إلى أصل الجعل وان المجعول وهو الملكية كان عاريا عن القيد المزبور كما هو شأن جميع الواجبات المشروطة ، ومعه لا بد من القول بالكشف الحقيقي عند المشهور لا غير ، فتدبر.

تذييل

قد يظهر مما قدمناه سابقا من اختلاف المقدمات في كيفية دخلها في المطلوب من حيث كونها مؤثرات ومعطيات الوجود تارة كما في المقتضي ، ومعطيات القابلية أخرى باعتبار محدديتها للماهية المنوط به القابلية المزبورة كما في الشرائط والموانع طرا اختلافها لا محالة في مناط ترشح الوجوب الغيري إليها أيضا ، فإذا كان للمطلوب حينئذ مقدمات عديدة راجعة بعضها إلى مقام الدخل في التأثير وبعضها إلى مقام الدخل في حدود الماهية والمطلوب على اختلاف أنحاء الحدود والإضافات التي بها يكون المطلوب قابلا للتحقق فلا جرم يلزمها حينئذ اختلافها بحسب مناط الوجوب الغيري الملازم لاختلافها بحسب الوجوب الغيري المترشح إليها أيضا ، فيكون من تعلق الوجوب النفسي بالمطلوب يترشح وجوبات غيرية متعددة بالنسبة إلى كل مقدمة وجوب مستقل بلحاظ ما فيها من

ص: 290

المناط الخاص في قبال المقدمة الأخرى. نعم لو فرض تركب مقدمة من تلك المقدمات من اجزاء متعددة كالوضوء والغسل فحينئذ تكون اجزاء هذه المقدمة واجبة بوجوب ضمني غيري لا بوجوبات غيرية مستقلة ، نظراً إلى أن دخل الجميع حينئذ نحو دخل واحد في المطلوب ، فمن ذلك لايترشح إليها وجوب واحد غيري ، ولازمه صيرورة كل واحد من الاجزاء واجبا بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري استقلالي ، كما هو واضح.

ولايخفى انه على ذلك البيان يندفع الاشكال المعروف على وجوب المقدمات من تقريب : ان مناط ترشح الوجب الغيري على المقدمة ان كان هو ترتب الوجود عليه مستقلايلزمه في فرض تعدد المقدمة عدم وجوب شيء منها باعتبار عدم كون هذه المقدمات شيء منها مما يترتب عليه الوجود ، وان كان مناط الوجوب الغيري هو ترتب الوجود ولو على مجموع المقدمات في صورة تعددها فحينئذ يلزمه تعلق وجوب واحد بمجموع المقدمات ولازمه هو اتصاف كل واحد منها بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري مستقل ، وهو أيضا مما لايمكن الالتزام به - لان كل من قال بوجوب المقدمة قال بوجوب كل مقدمة في صورة تعددها مستقلا لا ضمنا وان كان المناط الوجوب الغيري من جهة لزوم الانتفاء عند الانتفاء فعليه وان يصحح هذا اللازم ولكنه يترتب عليه محذور آخر وهو لزوم وجوب كل واحد من اجزاء المقدمة بوجوب غيري مستقل ، لان الاجزاء كل واحد منها مما فيه المناط المزبور وهو الانتفاء عند الانتفاء مع أن ذلك أيضا كما ترى ، فإنه مضافا إلى عدم التزامهم به لعله يكون من المستحيل باعتبار استلزامه حينئذ لاجتماع المثلين فيها : أحدهما الوجوب الضمني الغيري باعتبار تعلق الوجوب الغيري بالمجموع ، والآخر الوجوب الغيري المستقل باعتبار ما في كل واحد منها من الملاك المزبور.

وتوضيح الدفع يظهر مما ذكرنا ، فإنه على ما ذكرنا من اختلاف المقدمات في مناط الدخل في المطلوب لايكاد مجال لتوجه الاشكال المزبور ، إذ نقول حينئذ : بان وجوب كل واحد من هذه المقدمات بوجوب غيري مستقل انما هو باعتبار ما يخصه من الملاك الخاص المغاير مع الملاك الخاص في المقدمة الأخرى ، لأنه باختلاف تلك المناطات يختلف تلك الوجوبات الترشحية أيضا فيتعلق بكل مقدمة وجوب مغاير مع الوجوب المتعلق بالمقدمة الأخرى ، واما عدم وجوب اجزاء المقدمة الا بوجوب ضمني غيري فإنما هو باعتبار قيام مناط خاص وحداني بالمجموع وعدم تصور نحو دخل على حدة للاجزاء يوجب ترشح

ص: 291

الوجوب الغيري المستقل إليها ، فتمام المنشأ حينئذ لتوهم الاشكال المزبور انما هو من جهة عدم التفرقة بين المقدمات في مناط دخلها في المطلوب وتخيل اتحاد الجميع في كيفية الدخل في المطلوب الذي هو مناط ترشح الوجوب الغيري إليها ، والا فبناء على ما ذكرنا من اختلافها في مناط الدخل لايكاد مجال لأصل الاشكال كما لايخفى ، كيف وانه لو اغمض عما ذكرنا لايكاد يجدي أيضا ما أفيد في التفصي عنه كما في التقريرات من دعوى المغايرة باعتبار لحاظ الاجزاء منضما تارة ومستقلا أخرى ، ووجهه يظهر مما قدمناه سابقا في بيان امتناع اتصاف الاجزاء في الواجبات النفسية بالوجوب الغيري ولو مع تسليم ملاك المقدمية فيها ، فراجع هناك تعرف.

ومن التقسيمات : تقسيمها إلى مقدمة الوجوب ومقدمة الواجب وتقسيم الثاني إلى المعلق والمنجز

ولا اشكال بينهم في خروج مقدمات الوجوب عن حريم النزاع وعدم وجوبها ، وهو كذلك من جهة خروج مثل هذه القيود عن حيز الطلب بمباديه من الميل والمحبة أيضا ، كما ستطلع عليه.

ولتنقيح المرام في المقام لابد من بيان مقدمة في شرح اختلاف القيود في كيفية دخلها في المصلحة وعدم كونها على نمط واحد ، فنقول : اعلم بان القيود في دخلها في المصلحة على ضربين : منها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشيء واتصاف الذات بكونها صلاحا ومحتاجا إليها بحيث لو لاه لما كاد اتصاف الذات بكونه مصلحة وصلاحا ، ومنها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه وتحقق ما هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني ، كما يوضح ذلك ملاحظة الاسهال بالقياس إلى وجود المرض وشرب الدواء والمسهل ، حيث ترى ان دخل المرض فيه انما هو في أصل اتصاف الاسهال بكونه صلاحا ومصلحة بملاحظة ان اتصافه بكونه صلاحا ومحتاجا إليه انما هو في ظرف تحقق المرض وفوران الأخلاط والا ففي ظرف صحة المزاج وتعادل الأخلاط لايكاد يكون فيه المصلحة بل ربما كان فيه كمال المفسدة من جهة أوله إلى تلف النفس ، وهذا بخلافه في شرب الدواء والمسهل

ص: 292

فان دخله في ظرف المرض لايكون الا في وجود ما هو المتصف بكونه مصلحة ومحتاجا إليه فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني ، وحينئذ فكل واحد من المرض وشرب الدواء والمسهل وان كان دخيلا في مصلحة الاسهال الا ان دخل كل على نحو يغاير دخل الآخر ، من حيث كون دخل أحدهما في أصل الاحتياج واتصاف الأثر بكونه صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن تحققه في الخارج ، وكون دخل الآخر في وجود ما هو المتصف بالمصلحة والصلاح وتحققه فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني المزبور.

ومن ذلك البيان ظهر اختلاف مثل هذين القيدين بحسب المرتبة أيضا باعتبار دخل الأول في اتصاف الذات بالوصف العنواني والثاني في تحقق ما هو المتصف خارجا فان في مثل ذلك لا محالة ما هو من قبيل الأول يكون في رتبة سابقة على ما كان من قبيل الثاني ، من جهة انه بدونه لايكاد يتحقق موضوع المتصف كي ينتهى إلى مقام دخل قيود وجود المتصف ، ولذلك أيضا بدون قيود الاتصاف لايكاد الانتفاء الا بنحو السلب بانتفاء الموضوع ، بخلافه في فرض تحقق قيود الاتصاف ، إذ حينئذ يكون انتفاء المصلحة بانتفاء قيود المحتاج إليه من قبيل السلب بانتفاء المحمول ، نظراً إلى تحقق الاتصاف بالوصف العنواني بمجرد تحقق قيود الاتصاف ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه بعد أن كان قيود الوجوب والتكليف من القيود الراجعة إلى أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وبكونها صلاحا ومصلحة قبال قيود الواجب الراجعة إلى وجود ما هو المتصف فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني فلا محالة يلزمه عدم وجوب تحصيلها أيضا نظراً إلى خروجها حينئذ عن حيز الطلب والإرادة بل وعن مباديها من الاشتياق والمحبوبية أيضا وصيرورة الإرادة بمباديها منوطة بفرض تحققها من باب الاتفاق ، نظراً إلى ما يقتضيه حينئذ جبلة النفس وفطرته من عدم كون الانسان بصدد تحصيل الاحتياج إلى الشيء وجعل نفسه محتاجا إليه ، بل وعدم اشتياقه إليه أيضا الا لأجل رفع احتياج أعظم وصيرورته من مقدمات وجود محتاج إليه آخر ، كما يشهد لذلك المثال المزبور حيث ترى ان الانسان بمقتضي جبلته لايكون بصدد تحصيل المرض كي به يتصف الاسهال بالوصف العنواني ويصير في حقه ذا مصلحة وصلاح ، بل ولا كان له اشتياق ولا ميل إليه ، بل ولعله يكون مبغوضا عنده فضلا عن

ص: 293

الميل والاشتياق إليه ، كما نظيره أيضا في مثال العصيان بالنسبة إلى الكفارة وعدم الاتيان بالصلاة في الوقت بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت بناء على كونه بأمر جديد ، وهكذا نظائره في الشرعيات والعرفيات. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه فارغا عن أصل تحقق الاحتياج واتصاف الذات بكونها صلاحا ومصلحة فان الانسان بمقتضي جبلته ، كان بصدد تحصيلها ، الا إذا كان القيد من القيود غير الاختيارية أو من القيود التي اعتبر في مقدميتها وجودها من باب الاتفاق كما سنذكرها إن شاء اللّه تعالى فان مثل تلك القيود حينئذ وان كانت خارجة عن حيز الإرادة الا انها غير خارجة بالنسبة إلى مبادي الإرادة من الاشتياق والميل والمحبة كما هو واضح.

ومن هذا البيان ظهر أيضا فساد توهم رجوع جميع القيود إلى المتعلق وارجاع جميع المشروطات إلى المعلقات كما عن التقريرات بجعل منشأ الاختلاف في القيود في الخروج عن حيز الإرادة اختلاف أنحاء وجودها : من اخذ بعضها بنحو يترشح إليها الإرادة واخذ بعضها بنحو لايترشح إليها الإرادة اما لخروجها عن تحت الاختيار أو من جهة دخلها بوجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشئ عن سائر الدواعي غير دعوة الامر مع اتحاد الجميع في كيفية الدخل في الغرض والمطلوب ، توضيح الفساد يظهر مما قدمنا من اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة ، من حيث رجوع بعضها إلى الدخل في أصل الاحتياج واتصاف الذات بكونها مصلحة وصلاحا ، ورجوع بعضها وهو قيود الواجب إلى الدخل في تحقق المحتاج إليه والمتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني ، إذ في مثله يكون قيود الواجب باعتبار دخلها في وجود المحتاج إليه وتحقق ما هو المتصف بالوصف العنواني في رتبة متأخرة عن قيود الأصل الاتصاف.

ومعه كيف يمكن اخذ ما هو راجع إلى أصل الاتصاف في ناحية الموضوع في عرض قيود المحتاج إليه ، مع انك عرفت بخروج قيود الاحتياج والاتصاف عن دائرة الإرادة بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق باعتبار ما يقتضيه جبلة الانسان من عدم كونه بصدد تحصيل الاحتياج لولا وجود احتياج أعظم في البين ، بل وعدم تعلق الميل والاشتياق إليه أيضا ، بل وصيرورته مبغوضا عنده ، كما في مثال المرض وفي النذر المترتب عليه وجوب الوفاء بالمنذور حيث كان أصل النذر الذي هو سبب للوجوب مكروها وكذا في

ص: 294

العصيان المترتب عليه وجوب الكفارة. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه والمتصف بالمصلحة والصلاح فإنها وان أمكن خروجها عن تحت الإرادة اما لعدم كونها اختيارية أو من جهة ان الدخيل في المطلوب هو وجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشي عن سائر الدواعي غير دعوة الامر والإرادة ، الا انها غير خارجة عن مباديها من الميل والمحبة والاشتياق نظراً إلى ما هو قضية الوجدان من اشتياق الانسان بمقتضي جبلته وفطرته بعد احتياجه إلى الشيء وصيرورته في حقه ذا مصلحة وصلاح إلى مقدمات وجوده وان فرض كونها خارجة عن الاختيار ، ومن ذلك ترى انه يتمنى وجودها في الليل والنهار لكي ينال بها إلى ما احتاج إليه واتصف في حقه بالمصلحة والصلاح ، وحينئذ فبعد هذا الاختلاف التام بين هذين القسمين من القيود كيف يمكن دعوى رجوع الجميع حتى ما كان منها دخيلا في أصل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح إلى الموضوع؟ كما لايخفى.

في تصوير الواجب المشروط على المختار

ثم انه بعد ما اتضح وجه عدم وجوب تحصيل قيود الوجوب والتكليف لخروجها عن حيز الطلب والإرادة بنحو كان الطلب والإرادة بمباديها منوطة بها يبقى الكلام في أن إناطة الطلب والإرادة بها هل تكون بوجودها خارجا بحيث لا طلب ولا إرادة الا في ظرف وجود تلك القيود في الخارج ، كما عليه المشهور ، من حيث مصيرهم إلى انتفاء الإرادة حقيقة عند انتفاء تلك القيود خارجا؟ أو ان إناطة الطلب والإرادة فيها كانت بوجودها لحاظا على نحو الطريقية للخارج وان لم تكن متحققه في الخارج في الواقع؟ فيه وجهان. وفي مثله نقول : بان الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني من كونها تابعة فرض وجود تلك القيود في لحاظه وتصوره على نحو الطريقية إلى الخارج بنحو يلزمه فعلية الطلب وتحققه قبل تحقق المنوط به في الخارج غايته لا مطلقا بل منوطا بفرض وجوده ولحاظه ، لا تابعة وجود تلك القيود في الخارج حتى لايكون للطلب وجود الا في ظرف وجود القيود في الخارج. وتنقيح المرام يحتاج إلى بيان مقدمتين :

الأولى : ما شرحناه آنفا من اختلاف القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة ، من رجوع بعضها إلى مقام الدخل في أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وكونها صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن مقام تحقق الموضوع المتصف في الخارج ، ورجوع

ص: 295

بعضها إلى مقام الدخل في تحقق الموضوع المتصف في الخارج فارغا عن أصل الاتصاف بالمصلحة ، ولقد عرفت أيضا بان كل ما كان من قبيل الأول يكون خارجا عن حيز الإرادة بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق ويكون الطلب بمباديه منوطا بوجوده وان كل ما كان من قبيل الثاني يكون تحت الطلب بمباديه الا إذا كان القيد من القيود غير الاختيارية أو كان الدخيل هو وجوده الاتفاقي فيخرج حينئذ عن حيز الطلب والإرادة لا عن مباديها من الميل والمحبة والاشتياق.

المقدمة الثانية : لايخفى عليك ان قيود الاتصاف وان كان دخلها بالنسبة إلى المصلحة بوجودها الخارجي حيث يستحيل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح الا في ظرف تحقق هذا القيود في الخارج ، إلا ان دخلها بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الميل والمحبة والاشتياق لايكون الا بوجودها العلمي اللحاظي لا بوجودها الخارجي ، حيث إن الميل والمحبة وكذا الاشتياق والإرادة انما تكون تابعة للعلم بكون المتعلق ذا مصلحة وصلاح ، فمع العلم بكونه ذا صلاح ولو من جهة العلم بوجود قيود الاتصاف في الخارج لا محالة يتوجه نحوه الميل والاشتياق والإرادة فيحدث في النفس تلك الحالة الانقداحية الموجبة لطلبه وبعثه وان لم يكن كذلك في الواقع ونفس الامر ولايكون ذلك الشيء الا ذا مفسدة محضة ، كما أنه في صورة العكس والعلم بكونه غير ذي المصلحة أو ذا مفسدة محضة لا محالة لايكاد يتعلق به الميل والمحبة والشوق والإرادة وان فرض كونه في الواقع ذا مصلحة محضة ، وعلى ذلك فكم فرق بين المصلحة وبين الإرادة والاشتياق ، فان المصلحة باعتبار كونها من الاعراض التي ظرف عروضها واتصافها هو الخارج تحتاج في عروضها إلى تحقق قيود الاتصاف في الخارج بخلاف الاشتياق والإرادة ونحوهما مما كان ظرف عروضها هو الذهن حيث لايكون دخل تلك القيود فيها الا بوجودها اللحاظي دون الخارجي.

كما كان ذلك هو الشأن أيضا بالنسبة إلى معروض الإرادة كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى حيث لايكون المعروض لها أيضا الا العناوين والصور الذهنية دون الخارج ، نظراً إلى أن الخارج انما كان ظرفا لسقوط الإرادة لا لثبوتها ، غايته انه لا بنحو يلتفت إلى ذهنية تلك الصورة ومغايرتها مع الخارج بل بنحو يرى كونها في لحاظها ذلك عين الخارج بلحاظ طريقية لحاظها إلى الخارج من دون سرايتها منه إلى الخارج ، وبهذه

ص: 296

الجهة من الاتحاد والعينية بين تلك الصورة الذهنية وبين الخارج أيضا ربما تكتسب تلك الصورة الذهنية لون المصلحة من الخارج فتتصف بكونها ذات مصلحة فيتعلق بها الإرادة والشوق ، وكذا بالعكس فيكتسب الخارج لون المطلوبية والمرادية من تلك الصورة فيتصف بكونه مرادا ومطلوبا ، والا فالمصلحة لايكاد تقوم الا بالخارج ، وكذا الإرادة لاتكاد تتعلق الا بالصور الذهنية ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان كان ذلك شأن الاشتياق والإرادة من كونها تابعة للعلم بالمصلحة في المتعلق وكونه ذا صلاح لا تابعة لكونه كذلك في نفس الامر فكان العلم واللحاظ مع كونه طريقا إلى الخارج له موضوعية بالنسبة إلى مرحلة تعلق الاشتياق والإرادة نقول : بأنه لابد من لحاظ كيفية العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق.

وفي ذلك نقول : بأنه لا شبهة حينئذ في فرض إناطة المصلحة بشيء في اختلاف كيفية العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق وانه كما أنه مع العلم بوجود المنوط به وتحققه في الخارج وفي موطنه يتحقق العلم الفعلي المطلق بالمصلحة في المتعلق ويتبعه أيضا الميل والمحبة والاشتياق والإرادة ، كذلك يتحقق العلم الفعلي أيضا في فرض لحاظ المنوط به طريقا إلى الخارج حيث إنه بعد احراز أصل الملازمة والإناطة يلزمه في فرض لحاظ المنوط به العلم بالمصلحة في المتعلق بنحو لو كان في مقام تشكيل القضية يشكلها بنحو القضية الشرطية فيحكم بالحكم التصديقي في فرض لحاظ المنوط به بتحقق المصلحة في المتعلق ولو مع القطع بعدم تحقق المنوط به إلى الأبد الملازم للقطع بعدم تحقق التالي إلى الأبد ، من دون ان يكون هذا القطع المنوط بفرض وجود القيد منافيا مع القطع المطلق فعلا بالعدم كما في مثال فساد العالم على تقدير تعدد الآلهة وتحقق النهار على تقدير طلوع الشمس ، حيث إنه بمقتضي الملازمة بين الوجودين يتحقق قطع منوط بوجود التالي في فرض وجود المقدم وتحققه ، بنحو يوجب تشكيل القضية بنحو الشرطية ، كما في قولك : لو كان فيهما آلهة لفسدتا ولو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، فتحكم فعلا بالحكم الجزمي بفساد العالم وبوجود النهار لكن لا مطلقا بل منوطا بفرض تحقق المنوط به ووجوده في الخارج ولو مع القطع الفعلي بعدم تحقق المنوط به للتالي من جهة ان هذا العلم المنوط لا يلازم العلم بتحقق المنوط به في الخارج بل يجتمع ولو مع القطع بعدمه للتالي الملازم للقطع بعدم تحقق المنوط إلى الأبد ومن ذلك قلنا بعدم المضادة والمنافاة بين هذا

ص: 297

العلم المنوط بفرض وجود المنوط به وبين العلم الفعلي المطلق بعدم تحقق المنوط في الخارج كما لايخفى.

نعم قد يتصور في هذا الفرض أيضا العلم الفعلي الغير المنوط بوجود المصلحة في الامر الاستقبالي بنحو يتشكل القضية على نحو القضية الحملية ، لكن مثل هذا العلم لابد وأن يكون في فرض القطع بتحقق المنوط به في الخارج وفي موطنه ، إذ حينئذ يقطع بالقطع المطلق فعلا بتحقق المصلحة في الامر الاستقبالي ، كما في القطع بوجود الحرارة في الغد الناشي من جهة القطع بتحقق النار فيه ، ومن ذلك كان له ان يخبر بوجود الحرارة في الغد من دون الإناطة بشيء بنحو القضية الحملية كما كان له ان يخبر بوجوده منوطا بنحو القضية الشرطية نظراً إلى عدم اقتضاء القطع بتحقق المنوط به في الخارج لخروج القضية عن الإناطة كي لايتصور فيه العلم المنوط. وهذا بخلافه في صورة عدم القطع بالانطباق في الخارج أو القطع بالعدم فإنه في هذا الفرض لايكاد يتصور الا العلم المنوط ولازمه انحصار القضية بالقضية الشرطية ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما اتضح لك هذه الجهة من تبعية الاشتياق والإرادة للعلم بالمصلحة في المتعلق وفعلية العلم بالمصلحة أيضا منوطا بفرض القيد ولحاظه في الذهن على نحو الطريقية إلى الخارج نقول : بأنه لا مانع حينئذ من الالتزام بفعلية الاشتياق والإرادة في الواجبات المشروطة قبل حصول شرطها في الخارج فإنه بعد ما علم منوطا بفرض القيد ولحاظه في الذهن بوجود المصلحة في المتعلق فقهرا بمقتضى التبعية المزبورة منوطا بفرض القيد ولحاظه يتوجه نحوه الاشتياق والإرادة أيضا من دون حالة منتظرة في البين أصلا كما لايخفى. نعم فاعلية مثل هذه الإرادة المنوطة ومحركيتها نحو المراد لا تكون الا في ظرف تحقق القيد خارجا الذي هو ظرف اتصاف المتعلق بالمصلحة ، فيفكك بين فعلية الإرادة وفاعليتها بجعل فعليتها في ظرف الانشاء وفاعليتها في ظرف تحقق القيد في الخارج الذي هو ظرف الاتصاف بالمصلحة ، ونتيجة فعلية الإرادة حال الانشاء انما هي لزوم تحصيل بعض المقدمات المفوتة التي لايمكن تحصيلها في ظرف تحقق قيد المصلحة في الخارج. نعم لابد في هذه المرحلة أي مرحلة فعلية الإرادة وفاعليتها بالنسبة إلى مقدماته المفوتة من القطع بتحقق القيد في موطن الخارج والا فمع قطعه بعدم تحققه للتالي لايكاد مجال لتحقق الإرادة ولو منوطا ، من جهة انه في فرض القطع بالعدم يقطع بعدم اتصاف

ص: 298

الذات في الخارج بالمصلحة ومع قطعه ذلك يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الموجبة لطلبه وبعثه.

نعم لو كانت الإرادة عبارة عن مجرد الاشتياق إلى الشيء ولو لم يكن بالغا إلى حد الانقداح أو كان لفرض القيد ولحاظه في الذهن موضوعية محضة ولم يكن طريقا إلى الخارج كما في قول الشاعر بالفارسية :

اگر عقلت منم بگذر از اين كار *** كه كار عاشقي كاريست دشوار

وبعبارة أخرى : ان كنت مولاك فافعل ذلك حيث جعل المنوط به في المثال نفس الفرض لأمكن دعوى فعلية الإرادة المنوطة حتى مع القطع بعدم حصول القيد في موطن الخارج ، ولكنهما كما ترى مخالف للوجدان ، وذلك اما الأول فواضح ، واما الثاني فكذلك أيضا لان ما له الدخل في المصلحة بعد أن كان هو الوجود الخارجي لا محالة يكون الفرض واللحاظ أيضا طريقا إلى الخارج ومعه لايكاد تعلق الإرادة الفعلية بالشيء ولو منوطا مع القطع بعدم تحقق المنوط به والقيد في موطن الخارج. نعم مع الشك في ذلك أمكن تعلق الإرادة به رجاء تحقق المنوط به في الخارج ولكن مثل هذا الفرض غير متصور في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى الشارع الذي لايكاد يتصور في حقه الجهل.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك عدم تمامية ما عليه المشهور من المشروط في القضايا الشرعية الطلبية من عدم فعلية الإرادة والطلب الا في ظرف تحقق المنوط به في الخارج.

واما قياس الاحكام الطلبية بالاعراض الخارجية في مثل النار حارة في إناطة فعلية الحرارة بوجود النار وتحققها في الخارج فمدفوع بالفرق الواضح بين المقامين من حيث كون الخارج في القضايا الخارجية ظرف العروض والاتصاف بخلافه في القضايا الطلبية فإنه باعتبار كون المحمول فيها من الأوصاف الذهنية لايكاد يكون ظرف العروض بل الاتصاف فيها الا الذهن وانما كان الخارج ظرفا لتطبيق ما هو المعروض والمتصف على الموجود الخارجي ، وعلى ذلك فلايرتبط القضايا الطلبية بالقضايا الخارجية كي يتم المقايسة المزبورة ويصير المنوط به للطلب هو الشيء بوجود الخارجي.

وعليه فلا محيص بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى كون المنوط به للطلب والإرادة عبارة عن فرض القيد ولحاظه والالتزام بفعلية الإرادة والطلب في ظرف فرض القيد و

ص: 299

لحاظه قبل تحقه في الخارج من دون حالة منتظرة في البين إلى ظرف تحقق القيد في الخارج ، وبه أيضا يجمع بين ظهور القضايا الشرطية الطلبية في رجوع القيد إلى الهيئة وبين ظهور الهيئة فيها في الدلالة على فعلية الطلب. نعم محركية هذه الإرادة وفاعليتها نحو المراد لا تكون الا في ظرف حصول القيد والمنوط به في الخارج الذي هو ظرف اتصاف الذات بالمصلحة ، ولكن مثل هذه الجهة أجنبية عما هو مفاد الانشاء في الخطابات لأنها عبارة عن مرتبة تأثير الخطاب بوجوده عند العقل في وجوب الامتثال لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا أيضا ظهر عدم صحة ما أفيد كما عن بعض الاعلام في تقريب عدم فعلية الإرادة والطلب في الواجبات المشروطة الا بعد حصول شرطها خارجا بأن الأحكام الشرعية في القضايا الطلبية سواء كان على نحو القضية الشرطية أو الحملية انما هي من سنخ القضايا الحقيقية المترتب فيها الحكم على العناوين المقدرة وجوداتها فيحتاج حينئذ في فعلية الحكم فيها إلى فعلية موضوعها بما له من القيود والا فقبل وجود موضوعها لايكاد يكون الا فرض الحكم لا حقيقته كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأحكام الوضعية كالملكية مثلا. كما في العقود التمليكية كالوصية حيث إن حقيقة الملكية انما يكون تحققها وفعليتها بعد تحقق الموت والا فقبل موت الموصى لايكون الا فرض الملكية ففي المقام أيضا كذلك فلايكون مفاد الخطابات في القضايا المشروطة وغيرها من نحو الحج وغيره الا مجعولا فرضيا بفرض وجود موضوعه الذي هو المستطيع ، ولازمه هو إناطة الحكم في فعليته بفعلية وجود موضوعه خارجا بما له من القيود كإناطة فرضه بفرضه.

إذ نقول : بان القضايا الحقيقية بالمعنى المصطلح الذي يلزم من فرض وجود الموضوع فرض الحكم ومن فعلية الموضوع خارجا فعلية الحكم أجنبية عن القضايا الطلبية ، حيث نقول : بان القضية بالمعنى المصطلح انما تتصور بالنسبة إلى الاعراض الخارجية التي كان الخارج ظرفا لعروضها واتصافها كما في النار حارة وكما في الأحكام الوضعية كالملكية ونحوها ، فإنها باعتبار كونها من الأمور التي كان الخارج ظرفا لعروضها يوجب لا محالة فرض وجود الموضوع فيها فرض محموله وفعلية الموضوع فعلية محموله ، واما بالنسبة إلى الإرادة ونحوها من الصفات الذهنية التي كان ظرف عروضها الذهن والخارج ظرف اتصافها ، فلايتصور فيها القضية الحقيقية بوجه أصلا حتى يناط فعلية الإرادة فيها بفعلية

ص: 300

موضوعها ، من جهة ان المنوط به والموضوع كما ذكرنا لايكون الا لحاظ الموضوع وفرضه لا وجوده الخارجي ، غايته انه لابد وأن يكون الملحوظ الذهني بنحو يرى خارجيا على وجه لايلتفت إلى ذهنيته ، كما هو الشأن أيضا في مثل القطع والظن في تعلقهما بالموضوع وما أنيط به. وحينئذ فبعد ان كان الموضوع للإرادة والاشتياق هو فرض وجود الموضوع ولحاظه طريقا إلى الخارج فلا جرم في ظرف فرض وجود الموضوع وفرض وجود المنوط به يتحقق حقيقة الاشتياق والإرادة ، لا انه يتحقق من فرضه فرض الاشتياق وفرض الإرادة ، كما هو الشأن أيضا في العلم بالمصلحة على ما بيناه.

ومن ذلك البيان ظهر انه لا يفرق في ذلك بين اخذ القيود في الواجبات المشروطة في ناحية الموضوع أيضا وبين عدم اخذها فيه كما هو المختار ، فإنه على الأول أيضا نقول بأنه في ظرف فرض وجود الموضوع ولحاظه حيثما يعلم بوجود المصلحة فيه يتحقق حقيقة الاشتياق والإرادة لا فرضه ، غاية ما هناك انه لايكون الاشتياق وإرادة على نحو الاطلاق كما في الواجبات المطلقة بل كان الاشتياق منوطا بالفرض المزبور ، كما في مثال الحج فإنه إذا لا حظ الشارع الحج في ظرف لحاظ الاستطاعة طريقا إلى الخارج يقطع منوطا بالفرض المزبور بكونه ذا مصلحة محضة ومع قطعه ذلك بمقتضي تبعية الإرادة للعلم بالمصلحة يتوجه نحوه الميل والمحبة والاشتياق فعلا فيطلبه ويريده منوطا بالفرض المزبور ، كيف وان الغرض من الانشاء بعد أن كان هو التوصل إلى وجود المراد لا جهة مطلوبيته نفسا يكون نفس الانشاء الفعلي في الواجبات المشروطة كاشفا قطعيا عن فعلية اشتياقه وارادته للمطلوب بلحاظ تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية وعدم امكان التفكيك بينهما ، وحينئذ فكان ذلك أقوى شاهد وأعظم برهان على ما ذكرنا من عدم إناطة الطلب في فعليته في القضايا المشروطة بوجود المناط به وهو الشرط خارجا وأجنبية القضايا الطلبية شرطية كانت أم حملية عن القضايا الحقيقية التي يلزم من فرض الموضوع فرض الحكم فيها ومن فعليته فعلية وجود الحكم ، والا فعلى القول بعدم فعلية الطلب الا بعد حصول المنوط به في الخارج يلزم اما الالتزام بمطلوبية الانشاء المزبور نفسيا واما الالتزام بالتفكيك بين الإرادة الغيرية في المقدمات وبين إرادة ذيها في الفعلية ، وهو كما ترى! فان الأول منهما مخالف للوجدان وكذا الثاني لان تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في

ص: 301

رابعة النهار وانه لايمكن فعلية الإرادة الغيرية بدون فعلية الإرادة النفسية لذيها باعتبار رجوعه إلى تحقق المعلول بدون تحقق علته.

فلا محيص حينئذ بمقتضى ما ذكرنا من الالتزام في جميع الواجبات المشروطة بفعلية الطلب فيها قبل حصول شرطها ، غايته انه يفكك فيها كما ذكرنا بين الفعلية وبين الفاعلية فيجعل فاعلية الطلب في ظرف حصول المنوط به في الخارج الذي هو ظرف اتصاف الذات بالمصلحة.

فتمام المنشأ حينئذ لتوهم عدم فعلية الطلب في المشروطات قبل حصول الشرط في موطن الخارج وجعل القضايا الطلبية من سنخ القضايا الحقيقية بالمعنى المصطلح انما هو من جهة خلط هذه الصفات الذهنية من الإرادة والاشتياق والمحبة وغيرها بالاعراض الخارجية التي ظرف عروضها الخارج كالحرارة والبرودة والاحكام المجعولة كالملكية ونحوها مما ظرف عروضها واتصافها هو الخارج ومقايسة أحدهما بالآخر ، ولكنك بعد التأمل فيما ذكرنا في هذه الصفات من عدم احتياجها في فعليتها إلى وجود المتعلق خارجا لكونها مما ظرف عروضها الذهن وان الخارج ظرف اتصافها ترى أجنبية القضايا الطلبية بقول مطلق عن القضايا الحقيقية وانها ليست مما يوجب فرض وجود الموضوع فيها فرض الحكم كما في الأحكام الوضعية من نحو الملكية.

نعم لو قيل بان الأحكام التكليفية مجعولة بحقايقها كالأحكام الوضعية في المعاملات لأمكن دعوى كونها من سنخ القضايا الحقيقية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا لفرض محموله وفعلية وجود الموضوع لفعلية محموله ، ولكن ذلك أيضا فاسد جدا من جهة وضوح ان لب الأحكام التكليفية وروحها ليس الا عبارة عن الإرادة الفعلية وابرازها بانشاء أو اخبار ، وشيء منهما لايكون مجعولا ، من جهة كون أحدهما من مقولة الكيف والآخر من مقولة الفعل ، فلم يكن حينئذ شيء يكون من الاعتبارات الجعلية حتى يتعلق به الجعل حتى يحتاج في فعليته إلى فعلية وجود موضوعه في الخارج كما في الأحكام الوضعية في المعاملات من نحو الملكية ونحوها كما هو واضح. نعم الذي تحتاج إلى فعلية وجود الموضوع خارجا انما هو مرتبة فاعلية هذه الإرادة المبرزة ومحركيتها بحيث يحتاج إلى تطبيق الموضوع في الخارج ، ولكن هذه المرتبة كما ذكرنا مرتبة تأثير الخطاب في حكم العقل بلزوم الامتثال لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه فلايقتضي حينئذ احتياج الإرادة في مقام

ص: 302

محركيتها إلى تطبيق الموضوع خارجا إناطة أصل وجودها وفعليتها بوجوده في الخارج.

ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في المقدمات الوجودية للواجب فإنه على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف في المشروطات يترتب عليه وجوب الاتيان بالمقدمات الوجودية المفوتة حالا عند العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج فيما بعد ، لان الوجوب النفسي بعد أن كان فعليا بالنسبة إلى ذيها لا جرم يقتضي على الملازمة ترشح الوجوب الغيري إلى مقدماته فيصير مقدماته الوجودية حينئذ واجبة من الحين بالوجوب الغيري فيجب الاتيان بها مع العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بخلافه على مسلك المشهور في المشروط فأنه على هذا المسلك لما كان لايكون التكليف بالنسبة إلى ذيها فعليا الا بعد حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا مجال لدعوى وجوب مقدماته الوجودية من الحين بالوجوب الغيري ، فلابد حينئذ اما من الالتزام بعدم وجوبها رأسا أو الالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي التهيئي العقلي ، وهذا وان التزم به المشهور المنكرون لفعلية التكليف في المشروطات قبل حصول شرطها نظراً إلى دعوى استقلال العقل في نحو هذه المقدمات بوجوب تحصيلها فرارا عن تفويت الواجب في ظرفه ، ولكنه مع كونه التزاما بما لا يلزم لا يخلو عن اشكال واضح ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى في تنبيهات المسألة.

في تصوير المعلق
اشارة

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا في الواجب المشروط على المختار يظهر لك امكان تصوير الواجب المعلق أيضا وهو الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء ولكن الواجب فيه مقيد بأمر استقبالي غير اختياري حتى في ظرفه ولو لكونه قهري الحصول والتحقق في موطنه كالوقت مثلا ، كما في الحج في الموسم ، أو مقيدا بأمر اختياري لكن لا بمطلق وجوده بل بوجوده الاتفاقي الناشي من جهة غير اختيار المكلف ، أو بوجوده الناشي من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والتكليف ، إذ نقول حينئذ بان مثل هذه القيود بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف بالصلاح والمفسدة لا في أصل الاحتياج واتصاف الذات بالمصلحة والصلاح كما في قيود التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فلا جرم تبعا للعلم الفعلي بقيام المصلحة التامة المطلقة

ص: 303

بالمقيد المزبور يتعلق به الاشتياق الفعلي المطلق البالغ إلى حد الانقداح المعبر عنه بالإرادة أيضا بلا حالة منتظرة في البين ولا إناطة لها في فعليتها بحصول القيود المزبورة في الخارج ، بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا بوجه أصلا.

نعم غاية ما هناك هو خروج القيود المزبورة من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها عن حيز التكليف بالايجاد محضا لا عن مباديها أيضا فكان جميع مبادئ الإرادة من الميل والمحبة والاشتياق متحققة بالنسبة إليها ، ولكنها من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها كانت خارجة عن حيز التكليف بالايجاد ، ولكن مجرد خروجها عن حيز التكليف أيضا غير مقتض لإناطة أصل التكليف في فعليته بحصولها في الخارج كما في قيود الوجوب في المشروطات على مسلك المشهور بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا ، كيف وان قضية كونها قيودا للواجب ليست الا دخل تقيداتها في المطلوب بنحو الجزئية ، وحينئذ فكما ان الامر بالمركب من الاجزاء الخارجي لايكون في فعليته بكل جزء منوطا بوجود الجزء الآخر بل ولا بفرضه ولحاظه أيضا بل كانت الاجزاء في عرض واحد في كونها متعلقا للامر والتكليف ، غاية الامر انه لايكون للتكليف المتعلق بها اطلاق يقتضي مطلوبية المركب حتى في ظرف فقد بعض الاجزاء ، وذلك أيضا لمكان توئمية الاجزاء في مشموليتها للطلب ثبوتا وسقوطا أيضا ، كذلك المركب من الاجزاء التحليلية وهي التقيدات ففيها أيضا لايكون الامر بالمقيد ببعض القيود منوطا في فعليته بحصول قيوده في الخارج ولا بفرضها ولحاظها أيضا من غير فرق في ذلك بين أن يكون القيد من القيود الاختيارية أو من القيود الغير الاختيارية ، غاية الامر في فرض عدم اختيارية القيد أو فرض كون الدخيل في الغرض هو وجوده الاتفاقي ولو مع اختياريته يخرج القيد حينئذ عن حيز نفس التكليف بالايجاد ، فلايكون التكليف بالمقيد حينئذ مطلقا بنحو يقتضي حفظ وجود المقيد على الاطلاق حتى من ناحية ما هو خارج عن اختيار المكلف أو من ناحية ما كان دخله بوجوده من باب الاتفاق ، لا أنه يوجب نفى التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل حصول قيده كما هو واضح ، فيكون مرجع التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل خارجا عن الاختيار إلى التكليف بسد باب عدمه فعلا من ناحية ما هو تحت قدرة المكلف واختياره من المقدمات الوجودية والأضداد في ظرف العلم بانسداد عدمه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار ونتيجة ذلك انما هي لزوم حفظ المقيد فعلا من قبل

ص: 304

مقدماته الوجودية الاختيارية عند العلم بانحفاظه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار كما هو واضح.

وعلى ذلك فحيثما أمكن تصور الواجب المعلق أيضا في قبال المشروط منه فلا جرم يكون الأقسام في الواجب ثلاثة لا انه ينحصر بالقسمين المطلق والمشروط كما قيل من امتناع المعلق واستحالته ، وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من امكان تصور قسم ثالث للواجب أيضا ، وراء المطلق المنجز والمشروط ، وهو الذي يكون الواجب أمرا استقباليا مقيدا بزمان الاستقبال وكان الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء حتى في الفرض واللحاظ ، في قبال المشروط المشهور الذي يكون الوجوب فيه منوطا بوجوب الشرط والمنوط به في موطن الخارج الملازم لعدم فعليته أيضا قبل حصول شرطه في الخارج ، وفي قبال المشروط لدى المختار الذي يكون الوجوب فيه فعليا لكن منوطا بفرض الشيء ولحاظه لا مطلقا كما هو واضح.

ثم انه قد يقرب وجه ابطال المعلق واستحالته وامتناع تعلق التكليف الفعلي بالامر الاستقبالي قبل حصول ظرفه بان حقيقة الإرادة بعد أن لم تكن عبارة عن مجرد الميل والمحبة والاشتياق نحو الشيء بل كانت عبارة من تلك الحالة الانقداحية الحاصلة في النفس المستتبعة لتحريك العضلات نحو المراد فلا جرم تحتاج في فعليتها وتحققها إلى أن تكون في ظرف الاشراف على المراد الذي هو ظرف القدرة عليه من جهة انه بدونه يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الخاصة الموجبة لتحريك العضلات ، من غير فرق في ذلك بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، فكما انه في الإرادة التكوينية لايتحقق حقيقة تلك الحالة الانقداحية المحركة للعضلات الا في ظرف اشراف المريد على العمل وفي ظرف القدرة عليه كذلك أيضا في الإرادة وفعليتها من كونها في ظرف اشراف المأمور والمكلف على المراد وفي ظرف القدرة عليه.

ومحصل هذا التقريب انما هو دعوى احتياج الإرادة في فعليتها وتحققها إلى كون المراد مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة وانه بدونه لايكاد تحقق تلك الحالة الانقداحية المعبر عنها بالإرادة بوجه أصلا ، فيقال حينئذ بان الامر الاستقبالي لما كان غير مقدور للمكلف قبل حصول قيده أو ظرفه فلا جرم يمتنع توجيه التكليف الفعلي أيضا نحوه بالايجاد ، فمن ذلك لابد من جعل التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده الخارج عن

ص: 305

الاختيار في الخارج ، ومعه يرجع تلك المعلقات إلى المشروط إذ لا نعنى من المشروط الا ما كان الوجوب فيه منوطا بوجود قيده في الخارج فيبطل حينئذ القول بالمعلق بواسطة امتناع تعلق الوجوب الفعلي بالامر الاستقبالي والمقيد ببعض القيود الغير الاختيارية ، ومن أجل هذا البيان أيضا قيل بلزوم المصير إلى تدريجية فعلية التكليف بالاجزاء في المركبات التدريجية كالصلاة ونحوها وان فعلية التكليف بكل جزء من المركب انما هو في ظرف الاشراف عليه الذي هو ظرف الفراغ عن الاتيان بالجزء السابق عليه ، لا ان التكيف بالجميع كان فعليا من الأول ، هذا

ولكنك خبير بما في هذا التقريب ، إذ نقول بأنه وان كان لابد في صحة توجيه التكليف الفعلي نحو الشيء من كونه مقدورا للمكلف وبدون القدرة عليه لايصح الطلب والبعث إليه فعلا ، ولكنه نمنع اعتبار كونه مقدورا له بلا واسطة في ظرف الإرادة ، بل نقول بأنه يكفي في فعلية الإرادة والتكليف بالعمل مطلق القدرة على ايجاده في ظرفه ولو بتوسيط مقدماته ، لان قدرته الفعلية على المقدمات هي عين القدرة على ايجاد العمل في ظرفه ، حيث إنه كان له فعلا حفظ المطلوب الاستقبالي بايجاد مقدماته الوجودية الاختيارية كما كان له عدم حفظه وتفويته بعدم ايجاد مقدماته الوجودية فعلا ، ومن المعلوم حينئذ انه يكفي هذا المقدار من القدرة الفعلية على المطلوب الاستقبالي في صحة توجيه البعث والتكليف الفعلي نحوه

كيف وان لازم البيان المزبور من اعتبار القدرة بلا واسطة على العمل في صحة البعث الفعلي هو الالتزام بعدم فعلية التكليف في الواجبات المطلقة أيضا فيما كان منها يحتاج إلى مقدمات عديدة لأنها أيضا غير مقدورة قبل حصول مقدماتها في الخارج ، فلابد وأن يكون فعلية التكليف فيها أيضا في ظرف حصول مقدماتها الذي هو ظرف الاشراف على المطلوب وظرف القدرة عليه ، ولازمه هو انكار الإرادة الغيرية رأسا في كلية الواجبات بالنسبة إلى المقدمات الوجودية لأنه في ظرف عدم حصول المقدمات إذا لم تكن الإرادة النفسية متحققة بالنسبة إلى ذيها بملاحظة عدم امكان الانبعاث نحوه فلا جرم يمتنع تصور الإرادة الغيرية أيضا بالنسبة إلى مقدماته الوجودية ، وحينئذ فلابد من نفى الوجوب الغيري عن تلك المقدمات رأسا والالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي التهيئي ، وهذا وان التزم به بعض من سلك مثل هذا المسلك كصاحب تشريح الأصول

ص: 306

فيما حكاه الأستاذ دام ظله ولكن مثل هذا الالتزام كما ترى لايمكن المصير إليه وذلك لما فيه من مخالفته لما عليه اطباق العقلاء بل وبداهة الوجدان القاضي بغيرية تلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات الوجودية كما في إراداتنا التكوينية المتعلقة بمثل المشي إلى السوق لشراء اللحم والى الحمام للغسل من الجنابة والى مسجد الكوفة للصلاة فيه ونحو ذلك ، وعليه فيتوجه عليهم الاشكال بأنه إذا كانت تلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات الوجودية إرادة غيرية توصلية بالوجدان لا نفسية ولو تهيئية فيستحيل انفكاكها عن فعلية الإرادة بذيها لان تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.

وحينئذ فبمقتضى هذا البرهان بعد قضاء الوجدان بكون الإرادة المتعلقة بالمقدمات إرادة غيرية توصيلة لا محيص من الالتزام بفعلية الإرادة النفسية بالنسبة إلى ذيها أيضا قبل حصول مقدماته ، كي منها يترشح إرادة غيرية نحو مقدماته والمصير إلى كفاية مطلق مقدورية العمل ولو بالواسطة في صحة توجيه التكليف الفعلي نحوه وعدم احتياجها أي الإرادة في فعليتها إلى اعتبار كون المتعلق مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة والتكليف كي تحتاج إلى لزوم كونها في ظرف الاشراف على العمل ، كما هو واضح.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الإرادة في الواجبات المطلقة المنجزة وفي الإرادات التكوينية فأمكن فعلية الإرادة فيها قبل حصول المقدمات الوجودية فليكن كذلك في الواجبات المعلقة أيضا ، فأمكن فيها تعلق الإرادة الفعلية حالا بالمقيد بالقيد الاستقبالي كالزمان قبل حصوله ، فلا تحتاج إلى كونها في ظرف الاشراف على الواجب الذي هو ظرف حصول قيده ، كما كان يشهد لذلك أيضا نفس الانشاء الصادر من المولى حيث إنه بعد أن كان ذلك لأجل التوصل به إلى وجود المراد البعدي لا من جهة مطلوبية الانشاء نفسا فلا محالة تكون الإرادة المتعلقة به إرادة غيرية توصلية ، ومعه بمقتضي عدم انفكاكها عن إرادة ذيها لابد من الالتزام بكون الإرادة المتعلقة بالفعل البعدي فعلية حال الانشاء كي منها يترشح إرادة غيرية إلى الانشاء المزبور ، نعم غاية ما في الباب ان محركية هذه الإرادة لنفس المطلوب كانت في ظرف الاشراف عليه الذي هو ظرف حصول قيده ، واما قبل ذلك فلا تكون محركيتها الا لمقدماتها الوجودية كما هو الشأن أيضا في الواجبات المطلقة المنجزة التي تحتاج إلى مقدمات عديدة ، حيث كانت الإرادة بحدوثها محركة و

ص: 307

باعثة نحو مقدمات المطلوب وببقائها إلى حين حصول المقدمات محركة نحو نفس المطلوب ، لا انه عند حصول المقدمات يحدث في النفس حالة أخرى توجب البعث نحو المطلوب ، كما هو واضح.

وقد يقرب ابطال المعلق واستحالته بوجه آخر ولو مع تسليم كفاية مطلق المقدورية ولو بالواسطة في صحة التكليف الفعلي بالعمل وذلك بتقريب ان المقيد بالقيد الغير الاختياري كالزمان مثلا تبعا لعدم اختيارية قيده قبل حصول قيده غير مقدور للمكلف بقول مطلق لا بالواسطة ولا بدونها ، من جهة وضوح عدم قدرة المكلف والمأمور على الاتيان بالعمل البعدي قبل حصول قيده وظرفه لا بالواسطة ولا بدونها ، فان ما هو مقدور له حينئذ انما كان ذات المقيد لا بوصف كونه مقيدا ، وذات المقيد لم تكن مما يترتب عليه الغرض والمصلحة ، بل المترتب عليه الغرض والمصلحة هو المقيد بوصف كونه مقيدا فإذا كان ذلك غير مقدور له قبل حصول قيده في الخارج فلا جرم يستحيل تعلق التكليف الفعلي بايجاده ومعه فلا محيص وأن يكون التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده في الخارج. ومن هذه الجهة أيضا يندفع شبهة الانتقاض المزبور بالواجبات المطلقة التي لها مقدمات وجودية حيث نقول بان صحة التكليف الفعلي في الواجبات المطلقة قبل حصول مقدماتها الوجودية مع كونه في الحقيقة من البعث إلى امر متأخر انما هو من جهة كونه مقدورا للمكلف ولو بواسطة القدرة على مقدماته ، حيث إنه من اجل ذلك يصير البعث الفعل والانبعاث إليه متصفا بصفة الامكان بخلافه في الفعل المتقيد بأمر غير مقدور كالمتقيد بالزمان المتأخر ، حيث إنه باعتبار امتناع تحققه قبل حضور وقته وحصول قيده غير مقدور للمكلف على الاطلاق حتى بالواسطة ، فمن ذلك لايكاد يصح البعث الفعلي نحوه الا بعد حضور وقته وحصول قيده ، بجعل فعلية التكليف منوطة بوجود القيد في موطن الخارج ولا نعنى من المشروط الا هذا.

وقد يقرب ذلك بعبارة أخرى وهي ان المعتبر في صحة البعث الفعلي نحو الشيء انما هو امكان انبعاث المكلف إليه وقوعيا علاوة عن الامكان الذاتي فيقال حينئذ بأنه لا ريب في تحقق هذا المعنى حينئذ في فعل له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل ، وذلك انما هو من جهة كونه في نفسه أمرا ممكنا قابلا للوقوع في كل آن ولو في زمان عدم وجود علته ، كما في الاحراق ، حيث إنه امر ممكن قابل للتحقق في كل زمان حتى في زمان عدم حصول علته غير أن عدم

ص: 308

تحققه وامتناعه كان من جهة عدم حصول علته لا من جهة امتناعه في نفسه بالامتناع الوقوعي ، وحينئذ فإذا كان الامكان الذاتي والوقوعي محفوظا فيه مع عدم حصول علته وامتناعه بالغير فلا جرم أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا ، من جهة المعيار في صحة البعث الفعلي انما كان هو امكان الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي ، فإذا أمكن الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا ، وهذا بخلافه في الفعل المتقيد بالزمان المتأخر فإنه لما كان يمتنع تحققه في نفسه قبل حضور وقته وحصول قيده فلايكاد اتصاف الانبعاث إليه بوصف الامكان الوقوعي ومعه لايكاد يصح البعث الفعلي نحوه أيضا من جهة ما عرفت من الملاك في صحة البعث الفعلي نحو الشيء وانه امكان الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي ، فعلى ذلك الفرق بين فعل له مقدمات وجودية اختيارية غير حاصلة وبين الفعل المتقيد بأمر غير مقدور كالمتقيد بالزمان المتأخر من حيث صحة البعث الفعلي في الأول وعدم صحته في الثاني الا بعد حصول الواجب انما هو من جهة محفوظية الامكان الوقوعي في الأول وعدم محفوظيته في الثاني ، باعتبار امتناع تحققه في نفسه قبل حضور وقته وحصول قيده ، فمن ذلك لا محيص من جعل الطلب في نحو هذه الأمور منوطا بحصول قيده في الخارج كما في المشروطات. هذا غاية ما أفيد في وجه بطلان المعلق وفى الفرق بينه وبين المطلق الذي له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل.

ولكنه كما ترى لايكاد يجدي شيئا ، إذ نقول أولا : بان ما أفيد من الفرق المزبور بالملاك المسطور انما يفيد في مثل الاحراق ونحوه من الأمور التي لم يكن لها ما يمنع عن قابلية وقوعها في زمان علتها ، لا في فعل كل ما له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل كالصلاة ونحوها مما اعتبر فيها الهيئة الخاصة المعهودة التي ينافيها ويضادها بعض الأمور فان مثل الصلاة باعتبار ما لها من الهيئة الاتصالية المعهودة لا اشكال في كونها مضادة مع فعل مثل الوضوء والغسل ونحوهما كمضادتها مع سائر المنافيات من الافعال التي يوجب وقوعها في أثنائها خروج تلك الهيئة عن كونها هيئة صلاتية ، وعلى ذلك نقول بأنه من الواضح انه مع تلك المضادة لايكاد اتصاف الصلاة بالامكان الوقوعي في كل زمان حتى في زمان عدم وجود مقدمتها التي عبارة عن الوضوء والغسل ، وحينئذ يتوجه شبهة الانتقاض بالواجبات المطلقة إذ يقال حينئذ بأنه يكفي في امتناعها الوقوعي تلك المضادة الجائية من قبل ما اعتبر فيها من الهيئة الخاصة وان كان في الفعل المتقيد بالزمان المتأخر

ص: 309

جهة أخرى زائدة وهي امتناع تحققه بذاته قبل حضور وقته.

وثانيا نقول : بان امكان الانبعاث نحو المطلوب وان كان مما لابد منه عقلا في صحة البعث الفعلي ولكن نقول : بان لا دليل على اعتباره في ظرف التكليف بل يكفي فيه امكانه في ظرف العمل لان الذي يحكم العقل باستحالته من التكليف بما لايقدر عليه المكلف انما هو في مورد خروج الفعل عن المقدورية بقول مطلق حتى في ظرفه لا مطلقا كما هو واضح.

ومع الغض عن ذلك نقول : بأنه انما يجدي ذلك في ابطال المعلق إذا كان المقصود من اثبات المعلق اقتضاء البعث الفعلي نحو الفعل المتقيد بالزمان المتأخر لحافظية وجود المقيد بقول مطلق حتى من ناحية قيوده الخارجة عن الاختيار ولكنه ليس كذلك ، والا لاقتضى هذا البيان عدم صحة البعث الفعلي نحوه حتى في ظرف حصول قيده من باب الاتفاق من جهة ان مجرد حصول القيد غير الاختياري لايوجب صيرورة المقيد بما هو مقيد اختياريا بقول مطلق ، بل المقصود اقتضاء التكليف المزبور للامر بسد باب عدمه من قبل ما هو تحت اختيار المكلف من المقدمات في ظرف انسداد عدمه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار ، وعليه نقول : بان ذلك كما أنه يوجب صحة التكليف بالمقيد بعد حصول قيده في الخارج وكان مرجع التكليف به حينئذ إلى التكليف بسد باب عدمه من ناحية بقية القيود الاخر الاختيارية كذلك يوجب صحة التكليف الفعلي نحوه أيضا قبل حصول قيده في الخارج نظراً إلى تمكنه فعلا من هذا المقدار من الحفظ كتمكنه من عدم حفظه أيضا بتفويت تلك المقدمات وعدم ابقاء قدرته إلى ظرف حصول القيد الذي هو ظرف الواجب ، وحينئذ فإذا فرض تمكنه فعلا من حفظ المقيد بالوقت الاستقبالي من قبل المقدمات الاختيارية وكانت المصلحة أيضا تامة في قيامها بالمقيد فعلا فلا جرم قضية الاشتياق الفعلي إلى المقيد المزبور البعث الفعلي نحوه يوجب ذلك وجوب الاتيان بما له من المقدمات الاختيارية التي لولا تحصيلها في الحال لما كان له القدرة على تحصيلها في ظرف الواجب من جهة ترشح الوجوب الغيري حينئذ إلى تلك المقدمات ولا نعنى من فعلية الوجوب في المعلق قبل حصول قيده الا هذه المقدار

فعلى ذلك لايبقى مجال لانكار المعلق والمصير إلى رجوعه إلى المشروط ونفى التكليف الفعلي فيه قبل حصول قيده بمثل البيانات المزبورة ، كيف وان نفس صدور الانشاء من

ص: 310

المولى في هذه الموارد بعد معلومية كونه لأجل التوصل إلى وجود المراد البعدي لا من جهة مطلوبية نفسا بمقتضي تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية واستحالة الانفكاك بينهما أقوى شاهد وأعظم برهان على فعلية إرادة المطلوب وتحققها أيضا ، كيف وان كثيرا ما لايكون للمولى إرادة فعلية في ظرف حصول قيد الواجب وذلك لما يعرض عليه من الحالات المنافية معها كالنوم والغشوة والغفلة ونحو ذلك كما لو قال افعل غدا كذا مع كونه في الغد نائما أو مغشيا عليه ، فعلى هذا المسلك يلزم القول بخلو هذا الانشاء عن الطلب والمصير إلى عدم وجوب شيء على المأمور في ظرف الغد ، مع أنه كما ترى ، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه الاتيان بما امره المولى به في الغد وانه لو تركه يصح للمولى ان يعاقبه ، ولايصح له الاعتذار بأنه لم يصدر من المولى طلب ولا بعث فعلى ، لان الانشاء منه غير متكفل للبعث الفعلي وفي ظرف الغد كان المولى نائما غير مريد للفعل بإرادة فعلية ، وهكذا فيما لو علق المولى طلبه بما هو ضده كالنوم والغشوة بقوله : ( ان نمت فافعل كذا في حال نومي وان غشي على فاصنع كذا واعط زيدا كذا وان مت فافعل كذا ) فإنه على ما ذكرنا من عدم فعلية الإرادة في ظرف الانشاء يلزم عدم وجوب شيء على العبد في الأمثلة المزبورة من جهة عدم ملزم عليه في البين يقتضي وجوب الاتيان بالمأمور به بعد فرض خلو الانشاء المزبور عن الطلب وانتفائه أيضا بالوجدان في حال النوم والغشوة ، مع أنه كما ترى ، فان بداهة الوجدان قاض بوجوب الاتيان عليه بما هو المأمور به في ظرف واستحقاقه للعقوبة على الترك فيما لو خالف ، ومعلوم ان لايكون له وجه الا انشائه المتكفل لفعلية طلبه ومن ذلك يصح للمولى ان يحتج عليه بذلك بقوله : « اني بعثتك نحو العمل وطلبته منك بقولي افعل كذا في الغد ان نمت أو غشي على » كما هو واضح وحينئذ فكان ذلك كله من الموهنات للقول بانكار المعلق وارجاعه إلى المشروط فتدبر.

نعم لو كان لابد من انكاره وارجاعه إلى المشروط ، فكان الحري حينئذ ارجاعه إلى المختار من المشروط الذي لاينافي مع فعلية الإرادة كما صنعه بعض الاعلام في درره فيلتزم حينئذ بفعلية الإرادة المنوطة بالفرض واللحاظ كما حققناه المستتبعة لعدم محركيتها نحو المطلوب الا في ظرف تحقق الشرط والمنوط به في الخارج مع تأثيرها أيضا في نفس المكلف فعلا بالنسبة إلى المقدمات المفوتة ، وان كان ذلك أيضا خلاف التحقيق ، كما مر

ص: 311

سابقا عند بيان اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد ، بان قيود المحتاج إليه غير راجعة إلى الطلب كي يكون الطلب بمباديه منوطا بوجودها ولو في الفرض واللحاظ ، وانما كان ذلك شأن قيود الاحتياج حيث إنها كانت راجعة إلى الطلب دون المتعلق ، من غير فرق في ذلك بين أنحاء القيود من حيث الاختيارية وغير الاختيارية غايته انه في فرض عدم اختيارية القيد أو دخله بوجوده الاتفاقي تكون خارجة عن الطلب نفسه لا عن مباديه أيضا ، ومجرد هذا المقدار من الخروج أيضا عن حيز الطلب غير مقتض لإناطة الطلب بوجوده ولو في الفرض واللحاظ فضلا عن الخارج ، كما هو واضح.

وحينئذ فعلى التحقيق تكون الأقسام في الواجب ثلاثة : أحدها الواجب المنجز ، وثانيها المعلق الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء ولو في الفرض واللحاظ والواجب مقيدا استقباليا ، وثالثها المشروط الذي يكون الوجوب فيه لدى المختار فعليا منوطا بفرض القيد ولحاظه وغير فعلى لدى المشهور الا بعد حصول الشرط في الخارج في قبال المعلق الذي عرفت فعلية الوجوب فيه واطلاقه ، فكان الفرق حينئذ بين المعلق وبين المختار من المشروط من جهة اطلاق الإرادة وإناطته والا فهما مشتركان لدى المختار في فعلية الوجوب والتكليف.

ثم انه بعد أن ظهر امكان كل من المعلق والمشروط ثبوتا يبقى الكلام في مقام الاثبات في امكان كون القيد في حيز الخطاب من قيود الطلب والهيئة أو قيود المتعلق وعدم امكانه.

فنقول : الذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قدس سره على ما في التقريرات هو المنع عن جواز كون الشرط من قيود الهيئة والطلب ، حيث منع عن جواز كونه من قيود الطلب والتزم بتعين رجوعه إلى المادة والمتعلق ولو مع اقتضاء القواعد العربية خلافه ، ولكن الظاهر بقرينة الاستدلالي الآتي اختصاص المنع المزبور بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل بالهيئة محضا كقوله ان جاءك زيد فأكرمه والا ففي فرض انشائه بمادة الوجوب كقوله ان جاءك زيد يجب عليك اكرامه أو اطلب منك كذا لايتوجه المنع المزبور ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فعمدة ما أفيد في تقريب امتناع كون الشرط من قيود الهيئة و

ص: 312

الطلب ولزوم كونه من قيود المادة وجهان : تارة بما اختاره الكفاية من المسلك في الحروف والهيئات : من جعل معانيها معاني آلية لمتعلقاتها وجعل الفارق بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي بتقريب ان لازم آلية المعنى فيها ومرآتيته هو عدم جوازه تقييده نظراً إلى اقتضاء التقييد لكونه ملحوظا استقلالا واستلزام ذلك لانقلاب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الأسمى بل واستلزامه لاجتماع النظرين أيضا النظر الآلي والاستقلالي ، وأخرى بان معاني الهيئات كالحروف معان جزئية لكونها من قبيل الوضع العام وخاص الموضوع له ، فلا اطلاق للفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة حتى يصح تقييده ، مع أن تفرع تقيد الشيء على اطلاقه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار هذا.

ولكن يرد على الوجهين المزبورين المنع عن أصل المبني فإنه قد تقدم في محله ان الحروف وكذا الهيئات معانيها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات القائمة بالطرفين ، فكان الفرق حينئذ بينها وبين الأسماء من جهة نفس المعنى والملحوظ لا من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي كما عليه مسلك الكفاية ، كما أنه قد تقدم أيضا عموم الموضوع له فيها كالوضع نظراً إلى تحقق القدر المشترك بين الإضافات الخاصة من كل سنخ منها ، وعليه فلا مانع عن ورود القيد على الهيئة بوجه أصلا ، على أنه لو سلم كون المعنى فيها جزئيا وخاصا فإنما هو باعتبار الخصوصيات الذاتية ، وهذا المقدار لايقتضي خروج المعنى فيها عن الاطلاق وعن قابلية التقييد بالنظر إلى الطواري والعوارض اللاحقة ، ولذلك ترى ان زيدا مع كونه جزئيا وخاصا كان مطلقا بالنظر إلى الحالات والطوارئ العارضة عليه من نحو القيام والقعود ونحوهما.

نعم لو أريد من خصوصية المعنى فيه وجزئيته كونه خاصا وجزئيا بقول مطلق على معنى اشتماله على جميع ما بفرض من الخصوصيات حتى الناشئة من الطوارئ الخارجية بحيث كان انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد لكان لما ذكر من عدم قابلية المعنى في الهيئة للتقييد كمال مجال ، وعليه أيضا لايكاد يتوجه الاشكال الكفاية قدس سره بأنه انما يمنع عن التقييد فيما لو أنشأ أولا غير مقيد لا ما إذا أنشأ من الأول مقيدا بنحو الدالين والمدلولين فإنه غير انشائه أولا ثم تقييده ثانيا ، إذ نقول بأنه على هذا الفرض لا محالة يكون القيد المزبور من خصوصيات الطلب المدلول بالهيئة حيث كان

ص: 313

انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد ومعه لايبقى مجال لتقيده بالقيد المزبور ، كيف وانه على فرض عدم كون ذلك من خصوصياته لابد وأن يكون المدلول في الهيئة هو الطلب المجامع مع الخصوصية تارة وغير الجامع معها أخرى فيلزم كونه مطلقا من هذه الجهة وهو خلف بالفرض ، لأن المفروض هو كونه جزئيا غير قابل للتقييد. ومن ذلك ظهر عدم المجال لما افاده أيضا من حديث تعدد الدال والمدلول لان ذلك انما يكون في فرض تجريد الهيئة عن تلك الخصوصية بجعلها عبارة عن الطلب المجامع معها تارة والمفارق عنها أخرى كي يكون الدال على ذات الطلب الهيئة وعلى الخصوصية القيد الخارجي والا فمع عدم تجريد ها عنها كما هو الفرض من اخذ الخصوصية فيها لا جرم يكون الدال على الذات والخصوصية هو الهيئة فقط ، كما هو واضح.

ولكن الذي يسهل الخطب هو بطلان أصل الفرض فان جزئية المعنى في الحروف والهيئات لو قيل بها فإنما هي باعتبار الخصوصيات الذاتية لا مطلقا حتى بالنظر إلى الخصوصيات الناشئة من الطوارئ والعوارض الخارجية خصوصا الناشئة منها من الجهات التعليلية كالعلة والشرط فإنها مما لايكاد يمكن اخذها في ذات المعنى ، ومن ذلك ترى الفرق الواضح بين مثل قوله : أكرم زيدا لعلمه أو ان كان عالما وبين قوله أكرم زيدا العالم من حيث كون تمام الموضوع للحكم في الأول هو زيدا وفى الثاني زيدا المتقيد بالخصوصية بنحو خروج القيد ودخول التقيد بحيث كان زيد جزء الموضوع والجزء الآخر هو التقيد بالعلم والخصوصية ، وعليه فلا يمنع مجرد جزئية المعنى في الهيئة عن تقيدها وارجاع الشرط إليها فأمكن اثباتا أيضا كل من المعلق والمشروط.

واما ما افاده قدس سره من البرهان الآخر في امتناع كون الشرط من قيود الطلب ولزوم كونه من قيود المتعلق فقد عرفت الجواب عنه سابقا بأنه من الخلط بين أنحاء القيود بجعل دخلها في المطلوب على نمط واحد وليس كذلك فراجع هناك تعرف. نعم لو اغمض عن ذلك لايتوجه عليه اشكال الكفاية بان الشيء المقيد مع العلم بقيام الغرض به كما يمكن ان يبعث إليه فعلا ويطلبه حالا كذلك يمكن ان يبعث إليه ويطلبه استقبالا وعلى تقدير تحقق شرط متوقع الحصول ولو لأجل مانع في البين عن الطلب والبعث إليه فعلا قبل حصوله وحينئذ فلايكون طلبه وبعثه الفعلي الا في ظرف حصول ذلك القيد الملازم لارتفاع المانع ، إذ مضافا إلى منافاته مع ما يقتضيه ظهور القضايا

ص: 314

الشرطية في كون المنوط به للطلب هو نفس القيد والشرط لا أمرا آخر ملازما لوجوده كما يقتضي البيان المزبور من جعل الطلب من تبعات عدم المانع الذي هو ملازم لوجود القيد ، نقول بأنه مع تمامية المصلحة في المتعلق وهو المقيد وعدم مزاحمتها مع مفسدة أهم وجودا لا محالة يكون مجرد الالتفات إلى تلك المصلحة غير المزاحمة مع المفسدة علة تامة للاشتياق التام البالغ إلى حد الإرادة ، وفي مثله لايكاد يمنع عنه ما ذكر من المانع والمفسدة المزبورة بعد عدم مزاحمتها وجودا مع مصلحة المطلوب ، وذلك من جهة ان تلك المفسدة حسب ترتبها على الإرادة والطلب تكون معلولة للطلب وفى رتبة متأخرة عنه فيستحيل حينئذ مانعيتها عن نفس الطلب فضلا عن ممانعتها عن مصلحة المطلوب والمتعلق. وتوهم ان المانع حينئذ عن الطلب حقيقة هو العلم بترتب المفسدة على الطلب لا نفس المفسدة فلا محذور مدفوع بان مانعية العلم انما تكون باعتبار كشفه عن معلومه فكان ما هو المانع بنظر العقل هو نفس المعلوم والمنكشف دون العلم وحينئذ يتوجه المحذور المزبور بأنه كيف يمكن مانعية ما هو معلول الشيء وفي رتبة متأخرة عنه عن ذلك الشيء؟ ومن ذلك أيضا نقول بامتناع تبعية الاحكام لمصالح في نفسها وانها لابد من كونها تابعة لمصالح في متعلقاتها فتصح الكلية المدعاة بان الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية وان كل ما حكم الشرع بوجوبه يحكم العقل بحسنه.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة ما افاده من المقايسة المزبورة بما في موارد الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع وفى الاحكام التي لم يكشف عنها النبي صلی اللّه علیه و آله ولا الأئمة علیهم السلام فبقيت إلى زمان القائم عجل اللّه فرجه الشريف إذ نقول بان عدم فعلية تلك الأحكام في الموارد المزبورة يمكن ان يكون من جهة مزاحمة مصالحها لمصالح أخرى أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أو لمفسدة كذلك بحسب الوجود ، فلايرتبط حينئذ بالمقام المفروض خلو المتعلق فيه عن المفسدة ، وحينئذ نقول : بان المولى بعد أن لاحظ المقيد وعلم بان فيه مصلحة غير مزاحمة مع المفسدة لا جرم يحدث في نفسه الاشتياق التام فيريده فعلا من دون حالة منتظرة أصلا.

نعم ابراز تلك الإرادة واظهارها ربما يحتاج إلى عدم المانع إذ لايكفي فيه مجرد العلم بالمصلحة ولا الاشتياق التام نحوه ، ومن ذلك نرى بالوجدان ان الانسان ربما يشتاق إلى الشيء بل يريده أيضا من عبده بإرادة فعلية ولكن مع ذلك لا يتمكن من ابراز الإرادة و

ص: 315

اظهارها خوفا عما يترتب عليه من المفاسد في نظره ، كما لو فرض انه كان هناك عدو له يقتله بمحض اظهاره للإرادة أو يحسد عليه فيضره ونحو ذلك من المفاسد ، كما لعله من هذا القبيل ولاية ولى اللّه علیه السلام حيث كان عدم اظهار النبي صلی اللّه علیه و آله للولاية للناس من أول الامر لمكان خوفه صلی اللّه علیه و آله من أن يرتد الناس عن دينهم لما يرى صلی اللّه علیه و آله من ثقل الولاية عليهم ، فمن ذلك أخر اظهارها مدة متمادية مع ما فيها من المصالح أعلاها إلى أن شدد عليه ونزل الآية المباركة : « يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك »

نعم إذا كان عدم اظهار الإرادة علة تامة لعدم تحقق الوجود في الخارج مع فرض قيام المصلحة به فحينئذ يستكشف من عدم اظهار الإرادة عدم بلوغها إلى مرتبة الفعلية من جهة كشفه إنا عن ابتلاء المصلحة المزبورة فيه بمفسدة أخرى أهم وجودا كما في الاحكام التي لم يكشف عنها النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة المعصومون علیهم السلام وكما في موارد الامارات والأصول المؤدية إلى خلاف الواقع. ولكن مثل ذلك كما عرفت غير مرتبط بالمقام المفروض خلو مصلحة المتعلق عن الابتلاء بالمفسدة وجودا خصوصا مع تحقق الانشاء الفعلي أيضا من المولى. وحينئذ فلايكاد يجدي ذلك لدفع ما أورده الشيخ قدس سره في لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاع المشروطات إلى المعلقات ثبوتا واثبات كون الطلب في القضايا الشرطية منوطا بحصول الشرط وتحققه في الخارج بحيث لا طلب ولا إرادة قبل حصول الشرط خارجا ، بل العمدة في الجواب عنه هو الذي ذكرناه من الفرق بين أنحاء القيود في مقام دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد فراجع تعرف.

وحينئذ فعلى التحقيق بعد ما أمكن كل من المعلق والمشروط ثبوتا واثباتا أيضا برجوع القيد الواقع في القضية إلى الهيئة تارة والمادة أخرى فلا جرم يكون المتبع في استفادة انه من أي القبيل هو لسان الدليل ، وفي مثله يفرق بين مثل قوله : ان جاءك زيد فأكرمه أو يجب اكرامه أو قوله : أكرم زيدا ان جاءك الظاهر في إناطة الوجوب بمادته بالمجيء وبين قوله : أكرم زيدا الجائي بنحو القضية الوصفية الظاهر في اطلاق الوجوب وفي كون الموضوع هو الذات المتقيدة والمتصفة بالوصف العنواني في قبال القضايا الشرطية الظاهرة في أن تمام الموضوع للحكم في القضية هو نفس الذات محضا.

ص: 316

ثم انه يظهر من بعض الاعلام عدم صحة ما في التقريرات من لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاعها إلى المادة لدى الشيخ قدس سره حيث قال نقلا عن أستاذه السيد العلامة الشيرازي قدس سره بأنه ليس المراد من تقييد المادة لدى الشيخ قدس سره ما يقتضيه ظاهر التقريرات بل المراد هو تقييد المادة من حيث ورود النسبة عليها وبعبارة أخرى المادة المنتسبة ، لان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج ، كما في الحج مثلا فإنه مطلقا غير متصف بالوجوب بل المتصف بالوجوب هو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية فما لم يجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ( انتهى )

أقول : وأنت خبير بعدم اجداء مثل هذا الحمل أيضا لدفع ما أورده من الاشكال على المشروط ، فإنه ان أريد بالمادة المنتسبة المادة المتقيدة بمفهوم الانتساب الذي هو معنى اسمى لا حرفي فهو كما عرفت خارج عن محل الكلام ومن ذلك خصصنا الاشكال من الأول بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل منشأ بالهيئة وان أريد بها المادة المتقيدة بالنسبة بما هي معنى حرفي ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد فلا شبهة حينئذ في أنه غير واف حينئذ بدفع ما ذكر من الاشكال من حيث جزئية المعنى أو مرآتيته فان النسبة بما هي معنى حرفي حيثما يكون جزئيا ومغفولا عنه بالفرض تمنع عن جواز ارجاع القيد إلى المادة المنتسبة والا فمن الأول أيضا يجوز ارجاعه إلى نفس الهيئة فلايحتاج إلى التجشم المزبور كما هو واضح وان أريد بها المادة في حال كونها منسوبة إلى الهيئة لا بما هي متقيدة بالانتساب إليها بنحو دخول التقيد وخروج القيد فهذا غير ما ذكره التقريرات من جهة وضوح انه ليس المراد من تقيد المادة في كلامه تقيدها بما هي مطلقة وعارية عن ورود النسبة عليها بل المراد هو تقيدها في حال كونها تحت الهيئة لا مطلقة ولا مقيدة بالانتساب ، كما لايخفى.

تنبيهان :

الأول : لاينبغي الاشكال في عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب وقيوده في المشروط وخروجها عن حريم النزاع ، وهكذا الحال في القيود الوجودية للواجب في المعلق

ص: 317

مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ، فإنها أيضا غير واجبة التحصيل ولو كانت مقدورة للمكلف ، والسر في ذلك واضح. وذلك اما بالنسبة إلى قيود الوجوب في المشروط ، فلما تقدم من خروجها عن حيز الإرادة والطلب بمباديه من الاشتياق والمحبوبية أيضا ، واما بالنسبة إلى القيود الوجودية للواجب في العلق مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ولو مع مقدوريتها فكذلك أيضا ، وذلك اما على القول برجوعه أيضا إلى المشروط فظاهر ، واما على المختار فلأنها حسب دخلها في وجود المتصف والمحتاج إليه وان كانت غير خارجة عن حيز مبادئ الإرادة من المحبوبية والاشتياق حتى مع عدم مقدوريتها ولكن قضية اخذها بوجودها من باب الاتفاق توجب خروجها حينئذ عن حيز الطلب بنحو يستحيل ترشح التكليف. إليها.

واما سائر القيود الوجودية للواجب من المقدمات المفوتة التي لايقدر على تحصيلها فيما بعد في زمان الواجب في المعلق وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في المشروط ، فلا اشكال فيها أيضا في ثبوت الوجوب لها في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها في الحال قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بناء على ما اخترنا سابقا من فعلية الإرادة والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج في غاية الوضوح ، لان مقتضي فعلية الوجوب والتكليف فيهما حينئذ هو ترشح الوجوب الغيري إلى تلك المقدمات فتصير حينئذ واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واما بناء على القول بعدم فعلية الإرادة والتكليف بهما قبل حصول القيد في الخارج ففيه اشكال ، من جهة انه من المستحيل حينئذ ثبوت الوجوب الغيري لتلك المقدمات في الحال مع عدم فعلية الوجوب بالنسبة إلى ذيها ، فعلى ذلك لو قيل بوجوبها في الحال فلابد وأن يكون بوجوب نفسي ولو تهيئي لا غيري مقدمة ، وهو أيضا مما يحتاج إلى قيام دليل عليه بالخصوص من اجماع أو غيره يقتضي وجوب تحصيلها بوجوب نفسي تهيئي ، وحينئذ فان قام في البين نص أو اجماع على وجوب تحصيل تلك المقدمات تعبدا فهو والا فمقتضى القاعدة بعد عدم فعلية الوجوب والتكليف بالنسبة إلى ذيها هو عدم وجوبها وان كان أدى تركها في الحال إلى ترك الواجب في ظرفه عند حصول قيده وشرطه من جهة امتناع تحققه في ظرفه حينئذ بعد ترك تلك المقدمات في الحال.

واما ما أفيد كما عن بعض الاعلام من ثبوت الوجوب العقلي لها حينئذ بمناط تلك

ص: 318

القاعدة العقلية المسلمة ، وهي قاعدة ان الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار عقابا كما في السقوط إلى الأرض لمن ألقى نفسه بالاختيار من شاهق ، بتقريب انه وان كان بترك تحصيل مقدمات الواجب قبل حصول شرط الوجوب يمتنع حصول الواجب في ظرفه وعند تحقق شرائط الوجوب ، ولكن هذا الامتناع حيثما كان مستندا إلى سوء اختياره لتركه تحصيل مقدماته الوجودية في أول أزمنة الامكان لا محالة يعاقب على ترك الواجب في ظرفه ، فمن ذلك يحكم بداهة العقل بوجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الامكان لتحصيل القدرة حتى لايترتب على تركها فوت الواجب والملاك في ظرفه ، فمدفوع بان قضية الامتناع بالاختيار انما لاينافي العقاب إذا كان الامتناع ناشيا عن سوء الاختيار لا مطلقا ولو كان ناشيا عن حسن الاختيار بواسطة ترخيص شرعي أو عقلي في البين على الترك ، إذ حينئذ لاينبغي الاشكال في أنه ينافيه العقاب ، كما يكشف ذلك موارد القطع بعدم حصول المنوط به والشرط في الخارج مع مخالفة قطعة للواقع وحصول الشرط والمنوط به في الخارج ، فإنه حينئذ لا اشكال في أنه ترك الاتيان بالمقدمات الوجودية المفوتة للواجب فامتنع بذلك الاتيان بالواجب في ظرفه لايكاد يترتب عليه العقوبة بوجه أصلا ، وهكذا في موارد الجهل بأصل وجوب الامر البعدي حيث لايترتب العقوبة على تركه في موطنه بمجرد عدم اتيانه في الحال بالمقدمات الوجودية المفوتة ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا كان موضوع العقاب في القاعدة المزبورة عبارة عن الامتناع الناشئ عن سوء الاختيار لا مطلق الامتناع ولولا عن سوء الاختيار نقول بأنه لابد حينئذ مع قطع النظر عن تلك القاعدة من اثبات وجوب تلك المقدمات عقلا أو شرعا في الحال كي يترتب على ترك تحصيلها كون الامتناع امتناعا عن سوء الاختيار فيترتب عليه الحكم باستحقاق العقوبة عليه بمقتضي القاعدة المزبورة ، والا فلايمكن اثبات وجوبها وكونه امتناعا عن سوء الاختيار بمقتضي تلك القاعدة من جهة ما فيه من الدور الواضح. وحينئذ نقول بأنه إذا لم يقم دليل خاص من اجماع أو غيره على كونها واجبة بالوجوب النفسي ولو التهيئي وامتنع أيضا كونها واجبة بالوجوب الغيري الترشحي من جهة ما هو الفرض من انتفاء التكليف الفعلي بذيها قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا جرم تبقى المقدمات تحت الترخيص العقلي ، وحينئذ فإذا ترك المقدمات المزبورة فامتنع الواجب في ظرفه لأجل تركه تحصيل المقدمات من الأول فلا جرم لايكاد يكون الامتناع

ص: 319

المزبور امتناعا عن سوء الاختيار حتى يترتب عليه بمقتضي القاعدة المزبورة الحكم باستحقاق العقوبة عن التفويت ، كما هو واضح. وحينئذ فمن أين يمكن اثبات وجوب المقدمات المزبورة بمقتضي القاعدة المزبورة حتى أمكن استكشاف وجوبها الشرعي أيضا ولو بنحو متمم الجعل؟

واما توهم كفاية العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد وابتلائه بغرض المولى بعد حصول الشرط في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات من الحين واستحقاقه للعقوبة على تفويته بترك تحصيل مقدماته الوجودية من الحين ، من جهة انتهاء امتناعه في ظرفه إلى اختياره ، كما يشهد عليه ضرورة الوجدان فيمن يعلم ابتلائه بعد ساعة بعطش شديد في بر لايكون فيه ماء مع كونه قادرا في الحال على تحصيل الماء وحفظه لوقت احتياجه إلى الشرب لرفع عطشه ، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه تحصيل الماء في وقته وحفظه إلى وقت احتياجه بحيث لو لم يحصل الماء ولم يحفظه فأصابه من العطش ما أصاب يكون مذموما عند العقلاء على ما اصابه من العطش بواسطة عدم تحفظه وعدم تحصيله الماء عند تمكنه منه ، ومن المعلوم انه لايكون له وجه الا وجوبه عليه من الأول

فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب فيما بعد من قبل مقدماته الوجودية الاختيارية فهو صحيح ، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه من فعلية الوجوب والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج ، من جهة انه لا نعنى من فعلية الوجوب والتكليف فيهما قبل حصول الشرط الا هذا المقدار وعليه أيضا يكون وجوب المقدمات الوجودية وجوبا غيريا ترشحيا لا نفسيا تهيئيا ، وان أريد انه لايكون في الحال تكليف فعلى بالنسبة إلى ذيها ولو بهذا المقدار وان فعلية التكليف بقول مطلق انما يكون فيما بعد وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في الخارج الا ان مجرد العلم بحصول الشرط في الخارج وثبوت التكليف فيما بعد موجب لوجوب تحصيل مقدماته الوجودية من الحين واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب في ظرفه بترك تحصيل مقدماته الوجودية بلحاظ انتهاء فوت الواجب في ظرفه إلى اختياره ، فهو ممنوع جدا ، حيث نقول بان ما هو المصحح للعقوبة على تفويت الواجب انما هو البيان في ظرف التكليف لا مطلقه ولو في القبل ، كما هو الشأن أيضا في طرف العكس حيث كان اللابيان الموضوع لقبح العقوبة هو خصوص اللابيان في ظرف التكليف لا مطلق عدم البيان ولو

ص: 320

مع انقلابه بالنقيض في ظرف التكليف ، ومن ذلك لو علم في الحال بأنه يتوجه إليه تكليف من المولى في الغد لابتلائه بغرض كذا وكذا ولكنه غفل في الغد عن التكليف فلم يأت بالمأمور به أو انقلب علمه شكا فأجرى البراءة عن التكليف لايكاد يستحق العقوبة عليه ، كما أنه في فرض العكس لو قطع بعدم التكليف في الغد ثم انقلب قطعه في الغد إلى القطع بالوجود يستحق العقوبة عليه لو خالفه. وحينئذ نقول بأنه إذا كان المدار في البيان وكذا اللابيان على البيان في ظرف التكليف فلا جرم بعد فرض عدم التكليف الفعلي بذيها قبل حصول الشرط والمنوط به خارجا لايكاد يجدي مجرد العلم بحصول المنوط به والشرط وفعلية التكليف والغرض بذيها بعد ذلك في وجوب تحصيل مقدماته الوجودية واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب بوجه أصلا الا باثبات كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب البعدي من قبل مقدماته الاختيارية ومعه يرجع لا محالة إلى ما ذكرناه ، كما هو واضح.

ثم إن هذا كله في غير المعرفة من المقدمات ، واما هي فقد يقال كما عن بعض الاعلام بأنها تكون واجبة بالوجوب الطريقي لتنجيز الواقع عند الإصابة كما في سائر الطرق بحيث كان العقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، ولكن التحقيق خلافه إذ نقول بان التعلم لا يخلوا امره اما ان يكون تركه يؤدى إلى الغفلة عن أصل التكليف في ظرفه ، واما ان لايكون كذلك بل كان بعد يحتمل وجود التكليف ، وعلى الثاني اما ان يتمكن من الاحتياط في ظرفه بالجمع بين المحتملات واما ان لا يتمكن من الاحتياط كما لو دار الامر بين الوجوب والحرمة في فعل شخصي. فعلى الأول يكون حال التعلم حال المقدمات المعدة التي يلزم من عدم تحصيلها عدم القدرة على الواجب في ظرفه لأنه بعد تأدية تركه إلى الغفلة عن التكليف يكون غير قادر على الاتيان بالواجب ومعه يكون حكمه حكم سائر المقدمات المفوتة ، طابق النعل بالنعل. واما على الثاني فلا وجه لوجوبه رأسا مع فرض تمكنه من الاحتياط البناء على صحة عمل المحتاط التارك لطريقي الاجتهاد والتقليد الا إذا فرض كونه غير معذور في هذا الجهل تكليفا ، وعليه يكون وجوبه ارشاديا محضا لا طريقيا. واما على الثالث فكذلك أيضا حيث إنه لايكون وجوبه الا ارشاديا محضا لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف الواقعي كما في موارد العلم الاجمالي بالتكليف في الجمع بين المحتملات. فعلى كل تقدير حينئذ لا معنى لدعوى

ص: 321

وجوب التعلم بالوجوب الطريقي كما في الطرق بل هو مما يدور امره بين كونه واجبا بملاك المقدمات المعدة التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه وبين كونه بملاك الارشاد العقلي لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف كما في الجمع بين المحتملات في موارد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كما هو واضح.

وكيف كان فعلى ما اخترناه في المشروط والمعلق من فعلية الوجوب فيهما قبل المنوط به والقيد في الخارج ووجوب المقدمات الوجودية قد يتوجه الاشكال بالنسبة إلى بعض المقدمات الوجودية للواجب كالوضوء والغسل قبل دخول وقت الصلاة حيث يقال بان لازم القول بفعلية الوجوب والتكليف في المشروطات والمعلقات قبل حصول قيودها في الخارج هو لزوم اتصاف مثل هذه المقدمات بالوجوب الغيري إما على التخيير فيما لو علم بتمكنه من تحصيل الوضوء والغسل بعد دخول الوقت وإما على التعيين إذا يعلم بعدم تمكنه من تحصيلهما في ظرف الواجب لولا تحصيلهما في الحال ، ولازمه هو الالتزام بوجوب تحصيل الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة بل ولزوم ابقائهما إلى ما بعد دخول الوقت إذا فرض كونه متطهرا قبل دخول الوقت ، مع أنه لايكون كذلك من جهة قيام الاجماع منهم على عدم وجوب تحصيل الطهارة الحدثية قبل الوقت حتى مع العلم بعدم تمكنه من تحصيلها في الوقت وعدم وجوب ابقائها أيضا إلى ما بعد دخول الوقت. ولكن الجواب عن ذلك انما هو بدعوى ان أصل وجوب الطهور كالصلاة كان منوطا بدخول الوقت بمقتضى قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) فكان عدم وجوب التحصيل الوضوء والغسل قبل دخول الوقت من جهة التعليق المزبور الظاهر في أن ما فيه ملاك المقدمية للصلاة هو الطهور بعد الوقت فلا اشكال حينئذ يرد على ما ذكرنا.

واما ما قد يقال : من اقتضاء ذلك حينئذ لعدم جواز الاكتفاء بالطهارة الحاصلة قبل الوقت لأجل غاية أخرى من الغايات إذا فرض بقائها من باب الاتفاق إلى ما بعد دخول الوقت مع أنه ليس كذلك قطعا ، فمدفوع بان ما هو المقدمة انما هو الطهارة بعد الوقت ولو بوجودها البقائي فلا يعتبر فيها كونها حادثة أيضا بعد الوقت وحينئذ فإذا فرض انه كان متطهرا قبل الوقت فبقيت من باب الاتفاق إلى أن دخل الوقت يجوز الاكتفاء بها في الدخول في الصلاة ، وبعبارة أخرى ما هو المقدمة هو الطهارة بعد الوقت بما هي جامعة بين وجودها الحدوثي أو وجودها البقائي فيه من باب الاتفاق ، ومن ذلك لو فرض بقائها

ص: 322

إلى حين دخول الوقت يجب عليه تخييرا أو تعيينا في فرض الانحصار ابقائها وحفظها إلى أن يأتي بالصلاة معها وحينئذ فلا اشكال يرد في البين من هذه الجهة أيضا.

هذا بالنسبة إلى نفس الوضوء والغسل ولقد عرفت ان عدم وجوبها قبل الوقت انما هو على قواعد التعليق المستفاد من ظاهر قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) ومن قوله سبحانه : ( فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الظاهر في إناطة الوجوب في الطهور كأصل الصلاة بدخول الوقت. واما سائر مقدماته كتحصيل الماء وحفظه ونحوهما فلابد من تحصيلها تخييرا أو تعيينا إذا فرض العلم بعدم التمكن منه في الوقت لولا تحصيلها في الحال ، وذلك أيضا على القواعد التي ذكرناها في كلية المقدمات الوجودية ، وعليه أيضا يكون ما ورد على وجوب حفظ الماء قبل الوقت من النصوص على طبق القواعد ، لا انه كان ذلك حكما تعبديا من الشارع ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : لو شك بالشك البدوي في قيديه شيء للوجوب أو الواجب بنحو التعليق أو التنجيز ، فان كان القيد حاصلا بالفعل فلا اشكال حيث لا ثمرة في البين يترتب عليه ، وأما إذا كان غير حاصل بالفعل فمقتضى الاطلاق في جميع الصور هو ثبوت الوجوب ، وفى الثالثة عدم وجوب تحصيل المشكوك القيدية. ومع عدم الاطلاق فالبرائة نتيجتها التقييد في الأول ونتيجتها الاطلاق في الأخيرين. هذا إذا كان الشك في أصل تقيد الوجوب أو الواجب.

وأما إذا علم بأصل التقييد ولكنه دار الامر بين كونه قيدا للوجوب أو الواجب ، فأصالة الاطلاق تجرى في كل من الهيئة والمادة وبعد التساقط يكون المرجع هو الأصل العملي. ولا ينظر حينئذ في ترجيح أحد الاطلاقين على الاخر إلى حيث الأقوائية كما توهم ، لان ذلك انما يكون فيما لو كان التعارض بين الاطلاقين في نفسهما لا في مثال المقام الذي كان التعارض بينهما لأجل العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما ، إذ حينئذ لايكون مجرد اقوائية أحدهما موجبا لارجاع القيد إلى الآخر فتأمل. هذا إذا كان التقييد في دليل منفصل ، واما لو كان ذلك في دليل متصل فالامر أظهر ، إذ حينئذ باتصال الكلام بذلك وصلاحيته للعروض على كل واحد منهما لاينعقد الظهور الاطلاقي لواحد منهما ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه هو البراءة عن وجوب تحصيل القيد فيما إذا كان الدوران بين المشروط وبين المطلق المعلق أو المنجز. وأما إذا كان الدوران

ص: 323

بين المشروط وبين المعلق فلا ثمرة بالنسبة إلى القيد لأنه غير واجب التحصيل على كل تقدير. وكذلك الامر بالنسبة إلى نفس الواجب وذلك اما في فرض حصول القيد في الخارج فواضح من جهة وجوب الاتيان بالمأمور به والواجب حينئذ على كل تقدير ، واما في فرض عدم حصوله فللعلم بعد الفائدة. في الاتيان حينئذ إما لعدم وجوبه رأسا لو فرض رجوعه إلى الهيئة والوجوب واقعا وإما من جهة انتفاء قيده على فرض رجوعه إلى المادة والواجب ، فعلى كل تقدير يقطع بعدم الفائدة في ايجاده حينئذ ، كما هو واضح. ولعله إلى ذلك أيضا نظراً القائل بالعلم بتقييد المادة على كل تقدير من جهة استلزام تقييد الهيئة أيضا لبطلان محل الاطلاق في المادة ، لعدم انفكاكها حينئذ عن وجود قيد الهيئة فتدبر.

ومن التقسيمات تقسيم الواجب إلى النفسي

فالغيري فالغيري هو الذي يكون الغرض من ايجابه التوصل به إلى وجود واجب آخر ، والنفسي ما لايكون كذلك كالمعرفة باللّه سبحانه والصلاة والصوم والحج ونحوها من العباديات والتوصليات.

ثم إن وجود هذين القسمين في الواجبات وان كان وجدانيا غير قابل للانكار ولكن الظاهر هو كون الغرض من ذلك دفع ما يتوهم وروده من الاشكال من لزوم ترتب مثوبات وعقوبات كذلك على فعل واجب واحد له مقدمات عديدة نظراً إلى تخيل ان المثوبة والعقوبة تابعتان لفعل مطلق الواجب وتركه ، إذ يستشكل حينئذ بأنه على الملازمة من وجوب المقدمة أيضا يلزم ترتب مثوبات متعددة على فعل واجب واحد له مقدمات متعددة وعقوبات كذلك على تركه بما له من المقدمات ، لأنه ترك واجبات متعددة ، فمن اجل ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم فقسموا الواجب إلى الغيري والنفسي للتنبيه على أنه ليس مطلق الواجب مما يترتب عليه فعلا وتركا استحقاق المثوبة والعقوبة حتى يتوجه الاشكال المزبور وان الذي يترتب عليه ذلك انما هو خصوص الواجب النفسي واما الواجب الغيري فحيث انه كان وجوبه لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر فلايكاد يترتب عليه فعلا أو تركا استحقاق المثوبة والعقوبة بوجه

ص: 324

أصلا وحينئذ فلاينافي القول بوجوب المقدمة شرعا وحدة المثوبة والعقوبة على فعل الواجب وتركه كي يكون مجال للاشكال المزبور ، هذا.

أقول : ولكن لايخفى عليك ما في هذا الجواب والاشكال المزبور ، حيث إنه مبني على كون مدار استحقاق المثوبة والعقوبة على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، والا فبناء على كونهما من تبعات عنوان التسليم للمولى وعنوان الطغيان عليه بما انه ابراز للجرئة عليه والتمرد عن امره ونهيه الجامعين بين الانقياد والإطاعة والتجري والعصيان كما هو التحقيق على ما حققناه في مبحث التجري فلا مجال لهذا الجواب ولا موقع أيضا للاشكال المزبور ، نظراً إلى امكان الحكم حينئذ بترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا مع الالتزام بعدم تعدد المثوبة والعقوبة عند تعدد المقدمات بلحاظ كونهما تابعتين في الوحدة والتعدد لتعدد التسليم والطغيان ووحدتيهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، وذلك انما هو من جهة وضوح انه كما يتحقق عنوان التسليم والطغيان بموافقة الأوامر النفسية ومخالفتها كذلك يتحقق أيضا بموافقة الأوامر الغيرية ومخالفتها ، ومن ذلك بمجرد كونه في صراط الإطاعة وشروعه في مقدمات المأمور به ترى انه يمدحونه العقلاء ويحكمون باستحقاقه الأجر والثواب من دون انتظار منهم في المدح وحكمهم باستحقاق الأجر والثواب إلى وقت اتيانه بما هو المطلوب النفسي للمولى كما لايخفى ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ما ذكرنا من تحقق عنوان التسليم بموافقة الامر الغيري أيضا كتحققه بموافقة الامر النفسي ، والا لكان اللازم عدم الحكم باستحقاق الأجر والثواب فعلا الا بعد اتيانه بما هو المطلوب النفسي. وهكذا الامر في طرف الطغيان فإنه أيضا مما يتحقق بمجرد شروعه في مقدمات الحرام أو تركه لما هو مقدمة الواجب حيث إنه يصدق عليه بأنه ممن أبرز الجرئة على المولى وصار بصدد التمرد عن امره ونهيه ، ومن اجل ذلك يصير موردا للتوبيخ والذم من العقلاء بلا حالة منتظرة أيضا في ذلك إلى وقت فوت الواجب النفسي ، كما فيمن رمى سهما لقتل مؤمن مع كون السهم يبلغ إليه بعد ساعة فإنه من الحين يصير هذا الرمي موردا للذم عند العقلاء ، كما هو واضح.

وعلى ذلك نقول : بأنه إذا كان مدار المئوية والعقوبة على عنوان التسليم والطغيان لا على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته وكان التسليم أيضا

ص: 325

يتحقق بموافقة الامر الغيري ومخالفته كتحققهما بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، فلا قصور في الحكم بترتب المثوبة والعقوبة على الواجبات الغيرية التوصلية أيضا بل وترتب القرب عليها أيضا فيما لو كان الاتيان بها بداعي أمرها ، ومن ذلك قلنا سابقا في مبحث قصد القربة باشتراك الواجبات التوصلية مع التعبدية من جهة المقربية نظراً إلى عدم انفكاك الامر بها عن القربة وعدم اتصاف المأتى به فيها بعنوان المأمور به الا باتيانها عن دعوة أمرها ، وان تمام الفرق بين التوصلي والتعبدي انما كان من جهة مدخلية حيث القرب في سقوط الامر وسقوط الغرض في العبادات وعدم مدخلية في التوصليات ، من جهة سقوط أمرها وحصول الغرض فيها بمحض حصول العمل وتحققه كيفما اتفق ولولا عن داع قربى ، كما هو واضح.

واما اشكال لزوم تعدد المثوبة والعقوبة في فعل واجب واحد له مقدمات وتركه بترك ما له من المقدمات ، فغير وارد ، من جهة ما عرفت من أن وحدة المثوبة والعقوبة تابعة وحدة التسليم والطغيان وتعددهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، فإذا لايكون الغرض حينئذ الا واحدا لايكون له الا تسليم واحد وطغيان كذلك ، ومعه لايكاد يترتب عليه الا مثوبة واحدة وعقوبة كذلك وان كان له مقدمات عديدة لا تحصى ، وعلى ذلك فالتسليم وان كان يتحقق بمجرد شروع العبد في المقدمة ويستحق عليه المثوبة ، ولكنه لما كان الغرض واحدا فلا محالة يكون التسليم أيضا واحدا ويمتد هذا التسليم الواحد إلى زمان الاتيان بذيها الذي هو المطلوب النفسي ، كما أنه كذلك أيضا في طرف الطغيان حيث إنه يتحقق بمجرد الشروع في المقدمة ويمتد إلى زمان تحقق الحرام في الخارج ، لا انه يتعدد التسليم والطغيان بتعدد المقدمات حتى يلزمه تعدد المثوبة والعقوبة أيضا كما هو واضح ، كوضوح ان استحقاقه للمثوبة والعقوبة على التسليم والطغيان بشروعه في مقدمات الواجب أو الحرام أيضا انما يكون فيما إذا استمر على ذلك ولم يحصل له البداء بعد ذلك في العصيان أو الإطاعة ، والا فلو حصل له البداء بعد ذلك وحصل منه الطغيان بترك الواجب يكون طغيانه ذلك بعكس التوبة من الحين رافعا لما استحقه على تسليمه السابق بحيث كأنه لم يفعل شيئا ولم يتحقق منه التسليم أصلا مع صدور هذا الطغيان منه ، كما أنه في صورة العكس يكون الامر بالعكس. فإذا كان بصدد ترك الواجب أو فعل الحرام وأتى ببعض المقدمات ثم ندم واتى بالواجب أو ترك الحرام

ص: 326

يكون تسليمه ذلك باتيان الواجب وترك الحرام رافعا لما استحقه على طغيانه من الحين بحيث كأنه لم يتحقق منه الطغيان أبدا ، نعم لو كان عدم حصول الواجب والمأمور به لا من جهة حصول البداء له وطغيانه بل من جهة عدم تمكنه منه خارجا لموت أو مرض أو غير ذلك مع كونه بصدد الامتثال واتيان المأمور به يدخل ذلك حينئذ في الانقياد فيستحق المثوبة حينئذ على انقياده ، كما أنه في فرض العكس يكون الامر بالعكس فيندرج في التجري ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فعلى ما ذكرنا من تبعية المثوبة والعقوبة ودورانهما مدار عنوان التسليم والانقياد للمولى وتبعيتهما أيضا في الوحدة والتعدد مدار تعدد التسليم والطغيان ووحدتهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده يظهر لك عدم المجال أيضا لما أفيد في دفع الاشكال المزبور من تخصيص المثوبة والعقوبة بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، إذ نقول بأنه لا وجه حينئذ لهذا التخصيص بعد صدق عنوان التسليم والطغيان على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا وان مجرد وحدة المثوبة والعقوبة أيضا على فعل واجب واحد وتركه غير مقتض للالتزام بكونهما من تبعات خصوص موافقة الامر النفسي ومخالفته ، بل يلتزم حينئذ بترتبهما أيضا على موافقة الامر الغيري ومخالفته لمكان تحقق عنوان التسليم والانقياد بذلك ، ويدفع الاشكال المزبور من جهة وحدة التسليم والطغيان ووحدة الغرض بما ذكرناه من البيان ويقال بعدم استحقاقه على فعل واجب له مقدمات الا مثوبة واحدة ولا على تركه بترك ما له من المقدمات ما لا تحصى الا عقوبة واحدة ، كما لايخفى. وعلى ذلك فلو فرض انه يعطى على فعل كل مقدمة ثوابا مستقلا فلابد وأن يكون ذلك من باب التفضل لا من باب الاستحقاق ، كما أنه من ذلك أيضا ما ورد في فضل زيارة مولانا أبي عبد اللّه الحسين روحي وارواح العالمين فداه بأنه لكل قدم ثواب حج وعمرة ، وان الامر بقصر الاقدام أيضا انما هو من جهة ان تكثر المقدمات فيزداد بذلك مقام التفضل عليه باعطائه ذلك الأجر والثواب العظيم الذي وعد اللّه زائريه ، نسأل اللّه سبحانه ان يكتبنا من زوار قبره الشريف ويحشرنا معه ولا يسلب عنا مجاورة قبر أبيه علیه السلام .

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا من قابلية الأوامر الغيرية لترتب المثوبة والعقوبة وقابليتها أيضا للمقربية باتيان متعلقها بداعي أمرها ، يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف

ص: 327

على الطهارات الثلاث التي ثبت عباديتها من بين المقدمات ، من تقريب انه كيف المجال لمقربيتها ولترتب المثوبة عليها مع أن الامر الغيري بما هو امر غيري من جهة توصليته لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله ، إذ نقول بان ذلك كله مبني على تخصيص المثوبة والعقوبة والقرب والبعد بموافقة الامر النفسي ومخالفته والا فعلى ما ذكرنا من المدار في استحقاق المثوبة والعقوبة بكونه على عنوان التسليم للمولى وبالفارسي ( فرمانبردارى از مولى وتن زير بار مولى دادن ) فلا جرم يندفع تلك الاشكالات وذلك : اما اشكال ترتب المثوبة فمن جهة تحقق موضوعه وهو عنوان التسليم كما أوضحناه ، واما اشكال المقربية فكذلك أيضا من جهة تحقق القرب حينئذ باتيانها بداعي محبوبيتها ومراديتها للمولى ولو بإرادة غيرية.

وعلى ذلك لايحتاج في التفصي عن الاشكال إلى الجواب عنه تارة بما أفيد في الكفاية من كشف رجحان نفسي في هذه الطهارات بدعوى ان مقربيتها حينئذ انما هي لكونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية وان الاكتفاء بأمرها الغيري لمكان أنه لايدعو الا إلى ما هو عبادة في نفسه ، وأخرى بكشف عنوان بسيط يكون هو المأمور به كما عن الشيخ بدعوى انه ربما لا تكون تلك الحركات والسكنات محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذي صارت بهذا العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلابد حينئذ في اتيانها بذلك العنوان من حيلة وهي قصد ذلك الامر المقدمي وذلك أيضا لا من جهة اقتضاء الامر الغيري لذلك بل من جهة الإشارة إلى ذلك العنوان نظراً إلى عدم دعوة هذا الامر الا إلى ما هو الموقوف عليه فالاتيان بالطهارات حينئذ بقصد أمرها كان من جهة احراز العنوان الذي لأجله صارت تلك الحركات والسكنات مقدمة وموقوفا عليها ، كي يورد عليه بما في الكفاية من امكان الإشارة الاجمالية حينئذ إلى ذلك العنوان البسيط بوجه آخر ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا مع كون الداعي إليها شيئا آخر من شهوة أو غيرها ، وعدم وفائه أيضا بدفع اشكال ترتب المثوبة بلحاظ ان قصد الامر لأجل احراز عنوان المقدمة لا لكون المأمور به مطلوبا على جهة التعبد به غير موجب لاستحقاق المثوبة عليه من جهة ، وثالثة بغير ذلك مما هو مذكور في التقريرات وغيره.

وبالجملة فهذه الأجوبة كلها كما ترى مبنية على عدم قابلية الأوامر الغيرية من جهة

ص: 328

توصليتها للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقتها ، والا فعلى ما ذكرنا من قابليتها كالأوامر النفسية لكلا الامرين لايتوجه أصلا هذا الاشكال حتى يحتاج إلى تلك الأجوبة.

نعم قد يتوجه هنا اشكال آخر على الطهارات ولو مع البناء على قابلية الامر الغيري كالنفسي للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقته وذلك انما هو بتقريب ان الامر الغيري انما يتعلق بالمقدمة فارغا عن كونها مقدمة وموقوفا عليها ، والمقدمة في مثل الوضوء والغسل بعد أن كانت عبادة لابد من عباديتها في رتبة سابقة على الامر حتى يتعلق بها الامر الغيري ، وحينئذ فإذا كانت مقدميتها بما هي عبادة متوقفة خارجا على هذا الامر الغيري يلزم الدور وهو محال. ولكن يدفع هذا الاشكال أيضا بما دفعنا به في مبحث قصد القربة عن كلية العبادات بالالتزام بأمرين يتعلق هذا الامر الغيري بذات الوضوء وذات الغسل باعتبار كونها مما لها الدخل في تحقق ذيها ومما يتوقف عليها وجود الواجب ولو بنحو الضمنية لأنها أيضا مما يلزم من عدمها العدم مع الكشف أيضا عن تعلق امر غيري آخر بوصفها وهو اتيانها بداعي أمرها المتعلق بها ، فإذا اتى المكلف حينئذ بالوضوء في الخارج بداعي امره الغيري يتحقق الوضوء القربى الذي جعل مقدمة للصلاة. وعليه أيضا لايحتاج في الجواب عنه إلى كشف رجحان نفسي في نفس هذه الطهارات كما صنعه في الكفاية كما لايخفى. خصوصا مع ما يرد عليه على مسلكه من عدم اجداء تعدد الرتبة لمحذور اجتماع الحكمين المتماثلين أحدهما الرجحان النفسي القائم بذات المقدمة في رتبة سابقة على الامر الغيري وثانيهما رجحانه الثابت في رتبة متأخرة عن الامر الغيري فتأمل.

وكيف كان فقد يشكل على التقسيم المزبور بلزوم خروج أكثر الواجبات النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا نظراً إلى غيريتها بحيث لب الإرادة من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد هو غرض الاغراض الذي هو في الشرعيات تكميل العباد وقربهم إلى المبدء الاعلى وفى العرفيات استراحة النفس ، كما يتضح ذلك في امرك بشراء اللحم المعلوم كونه لأجل الطبخ الذي هو لغرض الاكل الذي هو لرفع الجوع الذي هو لغرض استراحة النفس ، وهكذا سائر الواجبات العرفية حيث إنها من جهة انتهائها بالآخرة إلى استراحة النفس التي هي غرض الاغراض تكون الإرادة المتعلقة بها إرادة غيرية.

ص: 329

وقد تصدى في الكفاية لدفع الاشكال ، وقال ما حاصله : ان الفرق بينهما من جهة الداعي والباعث فإذا كان الداعي والباعث على طلب شيء وارادته المصلحة الكائنة في نفس العمل فالواجب نفسي وان كان فيه أيضا ملاك المقدمية ، واما لو كان الداعي والباعث على طلبه المصلحة المقدمية فالواجب غيري وان كان فيه أيضا مصلحة مستقلة فإنه يخرج حينئذ عن كونه نفسيا ويكون واجبا غيريا. ولكنه كما ترى فإنه لو فرض تصوره في الشرعيات غير جار في الواجبات العرفية المتداولة بين أنفسنا ، وذلك من جهة وضوح ان الداعي والباعث في جميع الواجبات العرفية هو حيث مقدميتها ومن ذلك ترى انه لو أمرت عبدك باتيان الماء فسألك عن انك لأي غرض أمرت باتيان الماء تقول بأنه لغرض الشرب ولو سأل عن ذلك أيضا تقول بأنه أريد الشرب لغرض رفع العطش وهو لغرض استراحة النفس التي هي غرض الاغراض ، وحينئذ فإذا كان لب الإرادة في جميع الواجبات العرفية غيريا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف الحال لهذا التقسيم.

وقد أجيب أيضا عن الاشكال بان حقيقة الإرادة التشريعية بعد ما كانت عبارة عن إرادة الفعل من الغير يكون الواجب النفسي عبارة عما كان مرادا من المكلف لا لأجل مراد آخر منه ، والواجب الغيري ما كان مرادا لأجل مراد آخر منه أيضا ، فإذا أراد شراء اللحم من زيد لغرض الطبخ فان كان طبخه أيضا مرادا منه يكون ذلك واجبا غيريا وان لم يكن طبخه مرادا منه يكون واجبا نفسيا ، وعليه فمثل الصلاة والصوم والحج ونحوها مما لم يرد من المكلف مصالحها يكون من الواجب النفسي ، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور ، ولكن فيه ان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن إرادة وجود العمل بما انه فعل اختياري للمكلف وان إضافة نشو كونه منه انما هو من جهة اقتضاء توجيه التكليف بالايجاد إليه ، وذلك أيضا بلحاظ انه من جهة كونه فعلا الاختياري غير قابل للتحقق الا من قبله والا فلايكون المراد بالإرادة التشريعية الا نفس فعل الغير. وعليه نقول : بأنه إذا لايكون الامر بشراء اللحم من جهة مطلوبية الشراء نفسا مع قطع النظر عن الطبخ بل كان ذلك من جهة مقدميته لغرض الطبخ الذي هو لغرض الاكل فلا جرم لا تكون هذه الإرادة الا غيرية ، ومعه يتوجه الاشكال المزبور من لزوم خروج أكثر الواجبات النفسية كما لايخفى.

ص: 330

وحينئذ فالأولى في الجواب انما هو بجعل التقسيم المزبور بلحاظ مقام التحميل ومرحلة البعث والا لزام لا بلحاظ لب الإرادة وعليه يكون الواجب الغيري هو الذي امر به لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر ثبت وجوبه بتحميل مستقل ، والواجب النفسي ما لايكون كذلك ، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور في الواجبات النفسية في مثل الصوم والصلاة والحج ونحوها في الشرعيات ، ومثل شراء اللحم وسقى الماء في العرفيات ، لأنه فيما لما لم يثبت تحميل وايجاب على ما يترتب عليها من الاغراض كان ايجابها ايجابا نفسيا بحسب مقام التحميل ، وان كان غيريا بحسب لب الإرادة على ما عرفت. ولا منافاة أيضا بين غيرية الشيء ومقدميته بحسب لب الإرادة وبين نفسيته بحسب مرحلة التحميل والايجاب ، إذ يمكن ان يكون الشيء مع كونه غيريا بحسب لب الإرادة نفسيا بحسب مقام التحميل. ثم انه مما يشهد على ما ذكرنا أيضا من كون التقسيم بلحاظ مقام التحميل لا بلحاظ لب الإرادة تعريفهم الواجب الغيري بما ذكرنا ، بأنه ما امر به لأجل التوصل إلى وجود واجب آخر لا ما امر به لأجل التوصل به إلى امر آخر ولو لم يرد تحميل بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

ومن التقسيمات تقسيمه أيضا إلى النفسي والتهيئي

والمراد من الواجب التهيئي هو ما كان المقصود من ايجابه التوصل به إلى ايجاب شيء آخر. وعمدة الغرض من هذا التقسيم انما هو الفرار عن شبهة المقدمات المفوتة للواجبات الموقتة قبل وقتها ، فإنهم بعد أن بنوا على عدم فعلية التكليف بالموقت قبل حصول وقته أشكل عليهم وجوب مقدماته الوجودية قبل حصول الوقت ، فمن ذلك التزموا بوجوبها وجوبا تهيئيا فرارا عن محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، فصاروا في مقام هذا التقسيم ، والا فعلى ما ذكرنا من فعلية الوجوب في الموقتات والمشروطات قبل حصول وقتها وشرائطها لايحتاج إلى مثل هذا التقسيم ، ومن ذلك أيضا لم يكن لهذا القسم من الواجب عين ولا اثر في كلمات القدماء ، وانما حدث ذلك في زمان المتأخرين من جهة شبهة وجوب المقدمات المفوتة في الموقتات والمشروطات قبل حصول وقتها وشرائطها. وعلى كل حال نقول : بان هذا التقسيم أيضا كسابقه كان بلحاظ مقام التحميل والايجاب المنتزع عن مرحلة ابراز الإرادة واظهارها ، لا بلحاظ لب الإرادة والاشتياق ، والا فبحسب لب الإرادة لا تخلو إرادة الشيء عن النفسية والغيرية ، كما لايخفى.

ص: 331

ومن التقسيمات أيضا تقسيمه إلى الأصلي والتبعي

فالأصلي هو ما كان ايجابه مقصودا بخطاب مستقل كالصلاة والوضوء في مثل قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) والتبعي ما كان ايجابه لا بخطاب مستقل بل بتبع خطاب متعلق بأمر آخر. والغرض من هذا التقسيم أيضا انما هو الفرار عما يورد على القول بوجوب المقدمة بأنه كيف ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة غير ملتفت إليها بل وكثيرا ما يكون الآمر قاطعا من باب الاتفاق بعدم مقدمية الشيء لمطلوبه ، كما نظيره كثيرا في العرفيات في مثل الامر بشراء اللحم مع الغفلة عن مقدمية المشي إلى السوق لذلك ، ومع هذه الغفلة كيف يمكن دعوى وجوب المقدمة بقول مطلق ، فمن ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم لبيان انه لا يلزم في وجوب الشيء غيريا أم نفسيا ان يكون بايجاب أصلي وخطاب مستقل بل يكفي فيه كونه تبعا لايجاب امر آخر عند ثبوت الملازمة بينهما ، كما في المتلازمين في الحكم ، حيث إنه بعد ثبوت الملازمة بين الشيئين في الحكم يكون ايجاب أحدهما كافيا عن ايجاب الاخر وصيرورته موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، بلا احتياجه إلى خطاب على حدة. ففي المقام أيضا نقول : بأنه بعد التلازم بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته يكون نفس ايجاب الشيء قهرا مستتبعا لايجاب جميع ما يتوقف عليه الشيء من المقدمات بنحو الاجمال ، فتكون كل واحدة من المقدمات حينئذ واجبة بعين ايجاب ذيها وان لم يكن الآمر ملتفتا إليها بنحو التفصيل ولا أوجبها بخطاب أصلي مستقل ، وعليه فيرتفع الاشكال على وجوب المقدمات التي لم تقع بالاستقلال تحت خطاب اصلى مستقل.

ومن ذلك ظهر أيضا ان هذا التقسيم كسابقه انما كان بلحاظ مقام التحميل ومرحلة الايجاب المنتزع عن مقام ابراز الإرادة لا بلحاظ لب الإرادة ولذلك يجرى القسمان في الواجب النفسي أيضا من كون ايجابه وطلبه تارة أصليا كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، وأخرى تبعيا كما في المتلازمين في الحكم ، والا فبحسب لب الإرادة لا مجال للتبعية والأصلية بهذا المعنى ، كما هو واضح.

هل الواجب مطلق المقدمة أم لا

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الأمور يبقى الكلام في أن المقدمة بناء على وجوبها هل هي واجبة على الاطلاق بلا دخل لحيث قصد الايصال إلى ذيها ولا إلى حيث ايصالها إليه خارجا ، أو انها واجبة بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها اما بكون القصد

ص: 332

المزبور قيدا للوجوب أو قيد للواجب كما هو ظاهر التقريرات اما مطلقا أو في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم كما في انقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير وارضه فيعتبر فيه قصد التوصل إلى الواجب في وجوبها ووقوعها على صفة الوجوب دون غيره ، أو انها واجبة بشرط الايصال خارجا إلى ذيها كما عليه الفصول وذلك أيضا اما بكونه أي الايصال قيدا للوجوب أو للواجب ، فيه وجوه وأقوال : أقواها في النظر الوجه الأول وسيظهر وجهه من ابطال التفاصيل المزبورة إن شاء اللّه تعالى.

فنقول : اما عدم اعتبار حيث قصد التوصل ودخله في اتصافها بالوجوب فظاهر ، بلحاظ ان ملاك الحكم الغيري انما كان ثابتا لذات المقدمة وحيثية القصد المزبور كانت أجنبية عن ذلك بالمرة ، ومن ذلك لو أتى بالمقدمة لا بقصد التوصل كان اتيانه ذلك محصلا لما هو غرض الآمر بلا كلام ، وحينئذ فمع أجنبية القصد المزبور عن ذلك لايكاد يترشح الوجوب الغيري أيضا الا على نفس ذات المقدمة وهو واضح ، هذا إذا أريد من دخل قصد التوصل في الواجب دخل التقيد به في موضوع الوجوب ، واما ان أريد به إناطة موضوع الوجوب بكونه في ظرف القصد إلى ذي المقدمة ، نظير إناطة التجارة بكونها عن تراض الملازم ذلك لاعتبار الموضوع في عالم الجعل في رتبة متأخرة عن القيد والمنوط به ففساده أفحش بلحاظ استلزامه لكون المقدمة التي هي موضوع الوجوب الغيري في الرتبة المتأخرة عن القصد المزبور التي هي رتبة وجود ذيها ، وهو كما ترى من المستحيل ، فان المقدمة لابد من كونها في رتبة سابقة عن وجود ذيها فيستحيل حينئذ اخذها في رتبة وجود ذيها كما هو واضح ، هذا كله ، مضافا إلى ما عرفت من أجنبية القصد المزبور عن ذلك هذا كله فيما لو أريد كونه قيدا وشرطا للواجب ، واما لو أريد كونه قيدا للوجوب فبطلانه أظهر من جهة استلزامه حينئذ لتوجه الايجاب نحو الشيء في ظرف أرادته للتوصل الملازم لإرادة المقدمة ، ومرجعه إلى تعلق الايجاب بالشيء في ظرف وجوده تكوينا لأنه في ظرف إرادة المقدمة يكون الوجود قهري الحصول والتحقق ، وهو كما ترى من المستحيل ، من جهة وضوح أن مثل هذا الظرف ظرف لسقوط الوجوب عنه ، فيستحيل كونه ظرفا لثبوته وهو أيضا واضح.

وحينئذ فعلى كل تقدير لا مجال لاخذ قصد التوصل قيدا وشرطا لا للواجب ولا للوجوب ، خصوصا بعد ملاحظة سائر الواجبات الشرعية والعرفية التي تكون ارادتها

ص: 333

بحسب اللب غيرية للتوصل بها إلى وجود ما هو المراد والمطلوب النفسي الذي هو غرض الاغراض وغاية الغايات ، مع بداهة عدم اعتبار قصد التوصل فيها حتى في العباديات منها وكفاية الاتيان بها بداعي أمرها في وقوعها على صفة الوجوب وفي مقربيتها.

ومن ذلك اندفع ما قيل في تقريب اعتبار القصد المزبور في الواجب في وقوعه على صفة الوجوب ، بأن ذلك لايكون من جهة تقيد موضوع الوجوب بذلك بل وانما هو من جهة اقتضاء الغرض الداعي إلى ايجابه ، بتقريب ان الغرض من الامر بالمقدمة بعد أن كان هو التوصل بها إلى ذيها لا مطلوبيتها في ذاتها فالمطلوب الجدي الحقيقي قهرا بحكم العقل يكون عبارة عن نفس التوصل ، وحينئذ فلابد في وقوعها على صفة الوجوب وصيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب من الاتيان بها عن قصد التوصل بها إلى ذيها ، والا فمع عدم الاتيان بها كذلك لايكاد وقوعها على صفة الوجوب ومصداقا له وان كان يجتزى بها حينئذ وكانت محصلة لغرضه ، ففي الحقيقة كان قضية اعتبار القصد المزبور من جهة قصور الوجوب المتعلق بالمقدمة عن الشمول لها في حال عدم اقترانها بقصد التوصل لا من جهة تقيد موضوع الوجوب بالقصد المزبور.

وجه الاندفاع يظهر مما عرفت في أكثر الواجبات الشرعية والعرفية التي لا تكون إراداتها بحسب اللب الا غيرية مع وضوح عدم اعتبار قصد التوصل فيها ، لا في وقوعها على صفة الوجوب ولا في مقربيتها ، على أن كون الغرض من المقدمة هو التوصل لايقتضي اعتبار قصده فيها في وقوعها على صفة الوجوب ، وان حصول القرب باتيانها عن قصد التوصل بها إلى ذيها غير موجب لانحصار القرب بذلك ، بل هو كما يتحقق بذلك يتحقق أيضا باتيانها بداعي أمرها ومراديتها للمولى ، ومن ذلك نقول بان شأن الأوامر الغيرية كلية انما كان هو التوسعة في مقام التقرب باتيان متعلقه عن دعوته ، وعليه فلا مجال أيضا لاثبات اعتبار قصد التوصل في المقدمة في وقوعها على صفة الوجوب بمثل هذا البيان أيضا كما هو واضح.

ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا حال ما إذا كانت المقدمة منحصرة بالفرد المحرم مع تقديم جانب الوجوب بمقتضي أهمية مصلحة الوجوب من مفسدة الحرمة كانقاذ الغريق المتوقف على المشي في الأرض المغصوبة حيث نقول فيه أيضا بان الواجب حينئذ لايكون الا ذات المقدمة قصد بها التوصل إلى ذيها أم لم يقصد لعدم دخل حيث قصد

ص: 334

التوصل في وقوعها على صفة الوجوب وصيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب ، وحينئذ ( فما أفيد ) كما عن بعض الاعلام من لزوم قصد التوصل في مثل هذا الفرض مع بناءه على عدم لزومه في غيره بتقريب أن اذن الشارع حينئذ في الغصب مع كونه مبغوضا ذاتا من جهة أهمية مصلحة الانقاذ من مفسدة فعل الغصب انما يوجب الاذن في الغصب على الاطلاق ولولا بدون قصد التوصل إذا لم تكن في البين مزية راجحة في الفرد المشتمل على الخصوصية بالنسبة إلى الفرد الفاقد لها ، والا فلابد من الاقتصار في مقام الضرورة على خصوص ما فيه المزية الراجحة من جهة ان الضرورة انما تتقدر بقدرها فإذا كانت الضرورة تدفع بما فيه تلك المزية الخاصة لا مجال لاختيار الفرد الآخر الذي لايكون فيه تلك المزية ، وحينئذ ففي المقام الغصب المقصود به التوصل إلى الانقاذ والغصب غير المقصود به التوصل إليه وان كانا متساويين من جهة ملاك المقدمية للانقاذ الواجب ، ولكن القسم الأول لاشتماله على الخصوصية لما كان فيه مزية زائدة على القسم الثاني فقهرا بحكم العقل يكون هو المتعين في مقام دفع الضرورة ويكون غيره على حرمته ( منظور فيه ) إذ نقول بان ذلك لو تم فإنما هو في مثل الكلي المتواطئ الذي يشتمل كل فرد منه على حصة من الطبيعي غير الحصة المأخوذة في الفرد الآخر كما قيل بان الطبيعي مع الافراد كالآباء مع الأولاد في أنه مع كل فرد أب من الطبيعي غير الأب الذي يكون مع الفرد الآخر إذ حينئذ بانضمام الخصوصيات يتعدد الحصص والافراد حقيقة ومع تعددها يتوجه الاشكال بان أهمية مصلحة الانقاذ لاتقتضي الا مطلوبية الجامع بين الفردين والحصتين وهو انما يقتضي تخيير المكلف بين الفردين إذا لم تكن هناك لاحد الفردين باعتبار الخصوصية المأخوذة فيه مزية راجحة على الفرد الاخر والا يتعين خصوص ما فيه المزية الراجحة ، لا في مثل المقام الذي هو من قبيل التشكيكيات إذ في مثله لايكاد اقتضاء الخصوصية لتغير في الذات بحيث تباين الذات في حال عدم وجدانها للخصوصية فتكون هناك حصتان وفردان أحدهما واجد للخصوصية والآخر فاقد لها كما في افراد المتواطئ بل الذات حينئذ حال وجدانها للخصوصية بعينها هي تلك الذات حال فقدانها لها وانما كان الاختلاف ممحضا في الوجدان والفقدان.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا اقتضى أهمية الانقاذ في المثال مطلوبية شخص هذه الذات المحفوظة بين الحالتين وهو الغصب ومغلوبية مفسدته فلا جرم بعد هذه المغلوبية لا يفرق

ص: 335

بين حال وجدانها لخصوصية قصد التوصل وبين حال فقدانها لها ، ومعه فلا يتعين عليه قصد التوصل بها إلى الواجب ، بل كان له الخيار حينئذ بين الاتيان بها مقرونة بقصد التوصل وبين الاتيان بها غير مقرونة بذلك كما هو واضح ، على أنه مع الاغماض عن ذلك وتسليم كون المقام من قبيل الكلي والجامع المتواطي لا من قبيل الجامع التشكيكي نقول بأنه انما يتعين ويجب عليه قصد التوصل إذا كان تلك المزية القائمة بالخصوصية في نفسها بنحو من الاهتمام بحيث تمنع عن النقيض وتمنع عن تأثير المفسدة في المبغوضية إذ حينئذ يتعين عليه اختيار الفرد الواجد للخصوصية بحكم العقل جمعا بين الغرض القائم بالجامع وبين الغرض القائم بالخصوصية وإلا فإذا لم تكن المزية بالغة إلى مرتبة المنع عن النقيض وعن تأثير المفسدة في المبغوضية فلا جرم كان مقتضى أهمية مصلحة الانقاذ وتأثيرها في مطلوبية الجامع بين الفردين هو التخيير بينهما ، نعم غاية ما هناك حينئذ هو استحباب اختيار الفرد الواجد للخصوصية لا انه يتعين عليه ذلك.

ومن هذا البيان ظهر بطلان مقايسة المقام بصورة وجود فرد مباح وعدم انحصار المقدمة بالحرام في لزوم اختيار الفرد المباح ، إذ نقول بان لزوم اختيار الفرد المباح هناك انما كان من جهة اقتضاء تلك المفسدة غير المزاحمة القائمة بالخصوصية فإنها من جهة خلوها عن المزاحم لما كانت مؤثرة في المبغوضية الفعلية في الخصوصية كان العقل يحكم بمقتضي الجمع بين الغرضين بتعين خصوص الفرد المباح وتطبيق الجامع عليه ، وهذا بخلاف المقام الذي لا يوجد فيه فرد مباح ، إذ فيه بعد لا بدية الاتيان بأحد الفردين بمقتضي أهمية الانقاذ فقهرا يكون نتيجة الامر بالجامع فيهما بعد عدم بلوغ رجحان الخصوصية إلى مرتبة المنع عن النقيض هو التخيير بينهما ، كما هو واضح.

كما أنه من ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة المقايسة بمسألة المتوسط في الأرض المغصوبة التي لها طريقان للخروج عنها أحدهما أقرب من الآخر من حيث تعين اختيار الأقرب منهما بحكم العقل ، إذ نقول بان حكم العقل هناك بلزوم اختيار سلوك الأقرب منهما في مقام الخروج انما هو من جهة استلزام غيره لزيادة التصرف في مال الغير التي هي محرمة شرعا فلايرتبط حينئذ بالمقام الذي لايكون الامر فيه كذلك كما لايخفى.

فلا محيص حينئذ ولو على البناء بكون المقام من قبيل الجامع المتواطي من المصير إلى التخيير بين الفردين وعدم تعين الفرد الواجد للخصوصية فيسقط القول باعتبار قصد

ص: 336

التوصل ولزومه على كل تقدير ، هذا كله بالنسبة إلى قصد التوصل.

واما نفس الايصال الخارجي فعدم اعتباره أيضا واضح لو أريد دخله بنحو القيدية للوجوب أو الواجب كما هو ظاهر الفصول ، وذلك اما عدم اعتباره ودخله في الوجوب فظاهر من جهة ان حيثية الايصال والترتب نظير عنوان الموضوعية انما كانت منتزعة عن رتبة متأخرة عن وجود ذي المقدمة ، وحينئذ فإناطة الوجوب المتعلق بها بالوصف المزبور تكون ملازمة لإناطته بوجود موضوعه ، وهو من المستحيل ، من جهة كونه حينئذ من تحصيل الحاصل ، من دون فرق في ذلك بين ان نقول بمقالة المشهور في الواجب المشروط أو بما ذكرنا بجعل المنوط به هو الشيء بوجوده العلمي اللحاظي طريقا إلى الخارج ، فإنه بعد ما لابد في مقام الايجاب والإناطة من لحاظه في ظرف لحاظ قيده فقهرا في هذا الظرف أي في ظرف القيد يرى كون الوجود متحققا إذ يرى كونه ظرفا لوجود المقدمة الذي هو ظرف سقوط الامر عنها ، ومعه يستحيل كونه ظرفا لثبوت الامر بها كي أمكن البعث نحوها بالايجاد ، كما هو واضح ، هذا كله بناء على احتمال كونه قيدا للوجوب

واما بناء على احتمال كونه قيدا للواجب لا للوجوب كما لعله ظاهر الفصول فلا يخلو اما ان يراد من اعتبار الايصال ودخله كونه على نحو الظرفية للواجب ، بجعل موضوع الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة لكن في ظرف الايصال وترتب ذيها عليها الملازم لاعتبار الذات في عالم معروضيتها للوجوب في رتبة متأخرة عن القيد المزبور نظير قوله تجارة عن تراض الظاهر في أن موضوع الحكم في جواز التصرف ونحوه هو التجارة الناشئة عن تراضي الطرفين ، واما ان يراد من اعتبار الايصال دخله في موضوع الوجوب بنحو خروج القيد ودخول التقيد كما في سائر المقيدات ، بحيث كان معروض الوجوب وموضوعه عند التحليل مركبا من أمرين أحدهما ذات الموضوع والاخر حيثية التقيد بقيد الايصال إلى ذيها ، فكان الفرق حينئذ بين ذلك وسابقه انه على الأول يكون معروض الوجوب الغيري عبارة عن نفس الذات محضة وكان حيث الايصال والترتب المزبور من جهة اخذه ظرفا مقدمة لنفس الذات بلحاظ انه بدونه لايكاد يتحقق ما هو موضوع الحكم أعني الذات الخاصة بخلافه على الوجه الأخير فإنه عليه كان موضوع الوجوب الغيري عبارة عن الذات مع وصف التقيد فكان حيث الترتب والايصال مقدمة بالنسبة إلى اجزاء الموضوع وهو التقيد لا بالنسبة إلى تمام الموضوع حتى حيثية الذات أيضا.

ص: 337

وعلى أي حال نقول : بأنه كان المراد من اعتبار حيث الايصال ودخله في الواجب بنحو القيدية اعتباره فيه على الوجه الأول فبطلانه ظاهر من جهة استلزامه لاخذ موضوع الوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن وجود ذيها ، وهو كما ترى من المستحيل ، حيث إنه ينافي جدا مقدمية الذات لوجود ذيها ، وترتب مثل هذا المحذور عليه انما هو من جهة اقتضاء الترتب المزبور بنحو الظرفية للذات تقدمه عليها الملازم لتأخر المقدمة رتبة عنه وعن وجود ذيها أيضا وهذا كما عرفت مناف لمقدمية الذات لوجود ذيها وكونها في رتبة سابقة عليه كما هو واضح ، وان كان المراد من اعتبار الايصال دخله في الواجب على الوجه الثاني فعليه وان يسلم عن هذا الاشكال بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ الا تقدمه على حيث وصف التقيد لا على نفس الذات ، فكانت الذات حينئذ محفوظة في رتبة سابقة على ذي المقدمة وعلى حيثية وصف الايصال والترتب ، الا انه يتوجه عليه كونه مخالفا لما يقتضيه الوجدان إذ بداهة الوجدان قاض بأنه لا مدخلية لعنوان الايصال والترتب فيما هو معروض الوجوب الغيري وان ما هو المعروض للوجوب الغيري لايكون الا ذات المقدمة لا هي مع التقيد بوصف الايصال إلى ذيها وان حيثية الايصال انما كانت من الاغراض الداعية إلى ايجابها فكانت من الجهات التعليلية لا من الجهات التقييدية كما لايخفى.

ثم انه أورد عليه أيضا بوجوه آخر لم يتعرض لها الأستاذ :

منها استلزامه لمحذور اتصاف ذي المقدمة مع كونه واجبا نفسيا بالوجوب الغيري ببيان ان اخذ التقيد بالايصال المنتزع عن مرحلة ترتب ذي المقدمة على المقدمة في موضوع الوجوب يقتضي كونه مشمولا للوجوب الغيري فيجب حينئذ تحصيله كوجوب تحصيل ذات المقدمة ، ولازمه هو صيرورة ذي المقدمة بلحاظ مقدمية التقيد المزبور متصفا بالوجوب الغيري ، فيلزمه اجتماع الوجوبين فيه : أحدهما الوجوب النفسي والاخر الوجوب الغيري بملاك مقدميته للمقدمة ، وهو كما ترى من المستحيل ، خصوصا في مثل المقام الذي يستلزم سراية الوجوب من ذي المقدمة بتوسيط مقدمته إلى نفسه.

ومنها لزوم اتصاف المقدمة بالوجوب بعد وجود ذيها وهو من المحال ، من جهة ان مثل هذا الصقع هو صقع سقوط الامر عن ذيها الملازم لسقوطه عنها أيضا فلايمكن ان يكون صقعا لثبوته

ص: 338

ومنها استلزامه لمحذور تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه رتبة نظراً إلى ما هو المفروض من مقدمية المقيد لوجود ذي المقدمة ومقدمية ذي المقدمة لتحقق التقيد المزبور. ولكن يمكن ان يدفع هذه المحاذير ، وذلك : اما المحذور الأول فبدعوى قصور الوجوب الغيري حينئذ في سرايته وعوده إلى ذي المقدمة بعد سرايته منه إلى المقدمة إذ حينئذ وان كان ملاك المقدمية متحققا في ذي المقدمة ولكنه بعد قصور الوجوب الغيري وعدم قابليته لايكاد اتصاف ذي المقدمة الا بوجوب واحد وهو الوجوب النفسي.

واما المحذور الثاني فدفعه انما هو بدعوى ان معروض الوجوب الغيري ، انما كان المقيد لكن بالنظر التصوري الذي لايقتضي المفروغية في الوجود الخارجي كما في القضايا التقييدية في المركبات الناقصة كزيد القائم الذي يحمل عليه الوجود تارة والعدم أخرى ، كقولك زيد القائم موجود أو معدوم ، لا بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية موضوعه في الخارج كما في القضايا التصديقية في المركبات التامة كزيد قائم وعمر وقاعد ، والاشكال المزبور انما يتوجه على الوجه الثاني دون الأول فإنه بعد عدم اقتضائه مفروغية الموضوع في الخارج في لحاظه بشهادة صحة حمل الوجود عليه تارة والعدم أخرى لايترتب عليه كون صقعه صقع وجود ذي المقدمة الذي هو صقع سقوط الامر عن المقدمة حتى يتجه الاشكال المزبور ، ومن ذلك أيضا يتضح الفرق بين هذا الفرض وبين فرض كونه قيدا للوجوب الذي قلنا باستحالته لمثل هذا المحذور فان عدم امكان اخذه قيدا لأصل الوجوب انما هو من جهة احتياج شرائط الوجوب وقيوده لدخلها في اتصاف الموضوع بالمصلحة والصلاح إلى لحاظها بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية وجودها في الخارج في مقام البعث والتكليف نظراً إلى أنه لولا لحاظها كذلك لايرى اتصاف الموضوع بكونه صلاحا ومصلحة كي يطلبه ويريده ، وهذا بخلافه في قيود الواجب التي لايكون دخلها الا في وجود المتصف فارغا عن أصل الاتصاف فإنها حينئذ لا تحتاج في مقام معروضيتها للوجوب الا إلى اللحاظ التصوري.

اما الاشكال الثالث فله وجه بل لا محيص عنه لو قيل بمقدمية التقيد أيضا كذات المقدمة لما هو الواجب والمطلوب النفسي ، ولكنه ليس كذلك بل ولا يظن أيضا التزام القائل بدخل حيث الايصال والترتب في الواجب به ، وذلك من جهة وضوح ان تمام همه من اخذ الايصال قيدا في الواجب انما هو اثبات ان موضوع الوجوب الغيري و

ص: 339

معروضه هي الذات الخاصة دون الذات المجردة عن القيد المزبور مع تسليمه لان ما هو المقدمة وما فيه ملاك الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة ، لا هي مع وصف التقيد بالايصال بحيث كان للوصف المزبور دخل في تحقق الواجب كما هو واضح.

وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو الذي ذكرنا من مخالفته لمقتضي الوجدان باعتبار ان ترشح الوجوب الغيري انما يكون على ما فيه ملاك المقدمية والتوقف ، وما فيه الملاك المزبور بعد ، لايكون الا ذات المقدمة لا هي مع وصف التقيد بالايصال فلا جرم لايترشح الوجوب أيضا الا على الذات المقدمة كما لايخفى.

ثم انه قد يقرب القول المزبور أيضا بوجه آخر ، وهو ان الغرض من مطلوبية المقدمة وايجابها حيثما كان هو التوصل بها إلى وجود ذيها في الخارج فلا جرم يقتضي ذلك تخصيص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة ولا نعنى من اعتبار الايصال إلى الواجب في المقدمة وفي موضوع الوجوب الغيري الا هذا المعنى من عدم تعدي الوجوب عن المقدمة الموصلة إلى غيرها ، ولكن فيه ما لايخفى ، إذ نقول بان الغرض من الامر بكل مقدمة ليس الا ما يترتب على وجودها من الملاك وحينئذ فإذا كان دخل كل مقدمة من حيث كونها سادة لباب من أبواب عدم ذيها في الخارج فلا جرم لايكاد يكون الغرض من ايجاب كل مقدمة الا ذلك ، وفي مثله يستحيل كونه هو التوصل إلى الوجود وترتب الواجب عليها ، كيف وانه بعد مدخلية الإرادة أيضا في تحقق الواجب يستحيل كون الترتب المزبور من آثار مجموع المقدمات فضلا عن كل واحدة منها ، وحينئذ فإذا لم يكن دخل كل مقدمة الا كونها سادة لباب من أبواب عدم ذيها ولا كان الغرض من ايجاب كل مقدمة أيضا الا ما يترتب عليها من الحفظ من جهتها لاترتب الوجود ، فلا محيص بمقتضي البيان المزبور من الالتزام بان الواجب هو نفس ذات المقدمة لا هي بما انما موصلة نظراً إلى وضوح ترتب مثل هذا الغرض حينئذ بمحض تحقق المقدمة في الخارج وان لم يتحقق بقية المقدمات ولم يترتب عليها ذوها في الخارج أصلا كما لايخفى.

نعم لنا مسلك آخر في تخصيص الوجوب الغيري بخصوص المقدمة الموصلة لكن لا بمناط تقييد الواجب بالايصال إلى ذيها ، كما يقتضيه ظاهر الفصول ، بل من جهة قصور الوجوب الغيري في نفسه عن الشمول للمقدمة الا في حال الايصال إلى ذيها ، نظير ما ذكرنا غير مرة في الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء في المركبات الارتباطية في

ص: 340

اختصاص شمولها لكل جزء من المركب بحال انضمام بقية الاجزاء أيضا وقصورها بنفسها لضمنيتها عن الشمول لجزء عند عدم انضمام بقية الاجزاء ، وذلك انما هو بتقريب ان دخل كل مقدمة وان لم يكن الأسد باب عدم ذيها من قبلها وفي ذلك أيضا لا يفرق بين حال انفكاكها عن بقية المقدمات الملازم لعدم الايصال إلى ذيها وبين حال عدم انفكاكها عنها ، من جهة انه بتحقق كل مقدمة يترتب عليها لا محالة الحفظ من جهة وسد باب العدم الذي هو ملاك وجوبها الغيري ، انضمت إليها بقية المقدمات أم لا ، ترتب عليها وجود ذيها في الخارج أم لم يترتب ، الا ان التكليف المتعلق بكل واحد من السدود المزبورة حيثما كان تكليفا انحلاليا ضمنيا حسب انحلال التكليف بالواجب إلى تكاليف متعددة متعلقة بالسدود المزبورة وكان من جهة ضمنيته في تعلقه بالسد من هذا الجهة وتلك الجهة قاصر الشمول لحال عدم تحقق بقية السدود وعدم انحفاظ المطلوب من الجهة الأخرى على ما هو شأن كلية التكاليف الضمنية في المركبات الارتباطية فلا جرم نقصها وقصورها ذلك يوجب كون الطلب الغيري المترشح منها إلى المقدمات الموجبة للسدود المزبورة أيضا طلبا ناقصا غير تام بنحو يقصر في تعلقه بكل مقدمة عن حال انفرادها عن بقية المقدمات الاخر إذ لايمكن حينئذ ان يكون هذا الطلب الغيري الناشي من الطلب الضمني طلبا مستقلا تاما في حد نفسه وقابلا للامتثال على الاطلاق حتى في ظرف عدم تحقق بقية المقدمات للتالي ، مع كون الطلب المترشح منه هذا الطلب الغيري طلبا ناقصا غير تام في نفسه ، وفي ذلك أيضا لا يفرق بين ان نقول بكون المقدمات بأجمعها تحت تكليف واحد أو تحت تكاليف متعددة بصيرورة كل مقدمة تحت تكليف غيري مستقل ، فإنه على كل تقدير لايكون المترشح الا تكليفا غير يا ناقصا وذلك : اما على الأول فظاهر لأنه بعد خروج الإرادة التي هي من المقدمات عن حيز التكليف فقهرا يكون التكليف المتعلق ببقية المقدمات تكليفا ناقصا غير تام واما على الثاني فكذلك لكونه مقتضي ضمنية الطلب المتعلق بالسدود المزبورة.

وعلى ذلك نقول : بأنه إذا كان التكليف المتعلق بكل مقدمة تبعا للتكليف النفسي الضمني المترشح منه ناقصا غير تام نفسه بنحو يقصر عن الشمول لحال عدم تحقق بقية المقدمات فلا جرم يوجب نقصه وقصوره ذلك تخصيص المطلوب أيضا بما لايكاد انفكاكه عن بقية المقدمات التي منها الإرادة الملازم ذلك مع الايصال إلى وجود ذيها في

ص: 341

الخارج ، ومعه يكون الواجب قهرا عبارة عن خصوص ما هو ملازم مع الايصال بنحو لايكاد انفكاكه في الخارج عن وجود الواجب لا مطلق وجود المقدمة ولو في حال الانفكاك عن الايصال وعن ترتب الواجب عليها ، وعليه فالواجب بما هو واجب وان لم يكن مقيدا بقيد الايصال ولكنه لقصور في حكمه عن الشمول لحال انفكاك عن بقية المقدمات لايكون مطلقا أيضا بنحو يشمل حال عدم الايصال إلى وجود ذيه فهو أي الواجب حينئذ عبارة عن ذات المقدمة بما انها توأمة وملازمة مع الايصال وترتب ذيها عليها ، لا بشرط الايصال كما هو مقتضي كلام الفصول ولا لا بشرط الايصال كما هو مقتضي القول بوجوب المقدمة مطلقا كما لايخفى.

ومن ذلك البيان ظهر ان مجرد تمامية المقدمة بذاتها فيما هو ملاك الوجوب الغيري وهو الحفظ من جهة غير مقتض لاتصافها بالوجوب على الاطلاق ولو في حال انفكاكها عن سائر المقدمات الاخر وعدم ايصالها إلى ذيها ، إذ نقول بأنه انما يقتضي ذلك لولا ما في حكمها من القصور الناشئ من قصور الامر الضمني عن الشمول للسد من جهة ولو مع عدم تحقق بقية السدود والا فمع مثل هذا القصور في الحكم لايكاد اتصافها بالوجوب أيضا الا في ظرف اجتماع بقية المقدمات الاخر.

كما أنه من ذلك ظهر حال الغرض الداعي إلى الامر بالمقدمة أيضا فان الغرض من الامر بكل مقدمة وان كان هو جهة وفائها بما يخصها من سد باب عدم ذيها من قبلها الا انه من جهة ضمنيته باعتبار تعلقه بمجموع السدود يكون قاصر الشمول في تعلقه بالسد من هذه الجهة عن حال عدم تحقق بقية السدود ، فمن ذلك لايكاد اقتضائه لايجاب المقدمة الا في حال تحقق سائر المقدمات الملازم لتحقق بقية السدود من الجهات الاخر أيضا ، والا لاقتضى وجوب الاتيان ولو بمقدمة واحدة عنه عدم التمكن من الاتيان بسائر المقدمات نظراً إلى تمامية تلك المقدمات حينئذ ووفائها بما هو ملاك وجوبها الغيري ، مع أنه ليس كذلك قطعا فتأمل.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال لا ثبات وجوبها مطلقا كما أفيد في الكفاية من دعوى انه من المعلوم بداهة سقوط التكليف عن المقدمة بمجرد الاتيان بها من دون انتظار ترتب ذيها عليها في ذلك بحيث لايبقى مع الاتيان بها الا طلبه وايجابه بالنسبة إلى ذيها كما لو لم تكن هذه بمقدمة أو كانت حاصلة من أول الامر ، وحينئذ فلو اعتبر في اتصافها بالوجوب ترتب

ص: 342

ذيها عليها خارجا لما كاد يسقط عنها التكليف بمجرد الاتيان بها ، مع أن سقوط التكليف عنها حينئذ في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، كوضوح ان سقوطه عنها أيضا انما كان من جهة الموافقة لا من جهة ارتفاع الموضوع أو العصيان والمخالفة فسقوط التكليف عنها حينئذ وعدم الامر بها ثانيا بعد الاتيان بها كاشف قطعي عن وقوعها على صفة الوجوب وعدم دخل حيث الايصال إلى ذيها في ذلك

إذ نقول : مضافا بالنقض باجزاء المركبات الارتباطية والمشروطات بالشرط المتأخر المعلوم فيها أيضا عدم وجوب الاتيان ثانيا بالجزء المأتي به من المركب ما دام على صلاحيته للانضمام ببقية الاجزاء مع معلومية عدم سقوط الامر عنه الا بعد لحوق الجزء الأخير من المركب بلحاظ توأمية الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء ثبوتا وسقوطا ان عدم وجوب الاتيان بالجزء المأتى به هناك وبالمقدمة في المقام انما هو من جهة سقوط الامر حينئذ عن المحركية والفاعلية لا من جهة سقوطه بالمرة ، فحيث انه لم يكن قصور في طرف المأتى به أوجب اتيانه سقوط امره عن الفاعلية والمحركية نحو الاتيان ثانيا وثالثا ولكن الامر والتكليف لقصور فيه قد بقى على فعليته إلى حين لحوق بقية الاجزاء في المركبات وتحقق بقية المقدمات في المقام ، ومن ذلك لو فرض خروج المأتى به عن القابلية بالمرة يجب الاتيان به ثانيا بنفس التكليف الأول ، وليس ذلك الا من جهة بقاء التكليف به بعد ذلك على فعليته وكون الساقط مع الاتيان هو مرتبة محركيتها لا مرتبة فعليته ، ولا تنافي أيضا بين فعلية الامر والتكليف وعدم فاعليته حيث أمكن التفكيك بينهما ومن ذلك أيضا فككنا نحن بين التكليف وفاعليته فيما تصورناه من الواجب المشروط ، وعليه فلا مجال للكشف عن وجوب المقدمة على الاطلاق بمحض سقوط الامر بها عن المحركية والفاعلية باتيان ذات المقدمة.

بل لا محيص ، بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى أن الواجب من المقدمات هو خصوص ما يلازم خارجا مع الايصال وترتب ذيها في الخارج عليها ، فيكون حيثية الايصال على ذلك حينئذ من قبيل العناوين المشيرة إلى ما هو الواجب بأنه عبارة عن الذات الخاصة التوأمة مع الايصال بنحو لايكاد انفكاكها في ظرف التطبيق على الخارج عن وجود ذيها وكان اخذه في الموضوع أيضا في قولنا : ( الواجب هو المقدمة الموصلة ) لمحض كونه معرفا لما هو الواجب لا من جهة كونه قيدا له كما يقتضيه ظاهر كلام الفصول قدس سره كما

ص: 343

هو واضح.

نعم قد يقال حينئذ بعدم انفكاك هذا القول عن القول باعتبار قصد التوصل نظراً إلى دعوى احتياج امتثال الامر الغيري حينئذ إلى تطبيق عنوان الواجب على المأتى به واحتياج التطبيق المزبور إلى قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها أو قصد ذيها ، من جهة انه بدون القصد المزبور لايكاد تطبيق عنوان الواجب على المأتى به حتى يصح اتيانها بداعي أمرها ، فمن ذلك لايكاد انفكاك القول بوجوب المقدمة الموصلة عن القول باعتبار قصد التوصل ، ولكنه مدفوع إذ نقول بان المحتاج إليه في مقام تطبيق عنوان الواجب على المقدمة انما هو العلم بترتب ذيها عليها خارجا فيكفي حينئذ مجرد العلم بتحقق الواجب فيما بعد في تطبيق الواجب على المأتى به وان لم يكن من قصده التوصل بالمقدمة إلى ذيها ولا كان أيضا قاصدا ومريدا لذيها حال الاتيان بها بوجه أصلا كما لايخفى.

بقى الكلام في بيان الثمرة بين القولين

فنقول : قد يقال كما في الفصول : بظهور الثمرة بين القولين في الضد العبادي الذي يتوقف على تركه فعل الواجب بناء على مقدمية ترك الضد لفعل الضد الواجب كما في الصلاة بالنسبة إلى الا زالة ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة تقع العبادة فاسدة لا محالة من جهة كون فعلها حينئذ نقيضا للترك الواجب وصيرورتها حراما ومبغوضا بمقتضى النهى عن النقيض ، واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا تبطل بل تصح من جهة خروج فعلها حينئذ عن كونه نقيضا للترك الواجب ، نظراً إلى أن الواجب بعد كونه عبارة عن الترك الخاص فنقيضه لايكون الا رفعه الذي هو ترك الترك الخاص دون الفعل المطلق ، بشهادة امكان ارتفاع كل من الفعل المطلق والترك الموصل بالترك المجرد غير الموصل كامكان ارتفاع كل من الترك الموصل والترك المجرد بالفعل المطلق ، مع وضوح امتناع ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، وحينئذ فإذا لم يكن الفعل المطلق نقيضا للترك الموصل بل كان مما يقارن ما هو النقيض ، من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، فلا جرم لا يحرم أيضا بمقتضي وجوب الترك الموصل ، ومعه تقع صحيحة لا محالة بلحاظ عدم سراية حرمة الشيء إلى ما يلازمه ويقارنه ، هذا.

ص: 344

وقد أورد عليه بأنه يكفي في فساد العبادة وبطلانها حينئذ مقدمية فعلها لترك الضد الواجب ، فان مقتضى مبغوضية الترك المزبور حينئذ انما هو مبغوضية ما هو عليه ، فإذا فرض ان العبادة كانت مقدمة وعلة لترك الواجب فلا جرم تقع مبغوضة ومعه تقع فاسدة من هذه الجهة ، فلايحتاج حينئذ إلى اثبات كون فعلها نقيضا للترك الواجب كي يشكل بما أفيد بان الفعل المطلق لايكون نقيضا للترك الخاص وانما كان مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، ولايقتضى حرمة شيء أيضا حرمة ما يلازمه ويقارنه إذ على كل تقدير تقع العبادة حينئذ فاسدة سواء على القول بوجوب مطلق المقدمة أو القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

ولكن فيه انه مبنى على مقدمية فعل الضد لترك الضد الاخر ، وهو في محل المنع ، فان القائل بمقدمية الضد انما يدعى فعلية التوقف من طرف الوجود خاصة لا مطلقا حتى من طرف العدم أيضا ، ومن ذلك يمنع استناد الترك المزبور إلى وجود ضده بل يسنده إلى الصارف وعدم تحقق مقتضيه وهو الإرادة ، وحينئذ فإذا كان الترك مستندا إلى الصارف وعدم الإرادة لا إلى وجود ضده فلا جرم تكون الثمرة المزبورة على حالها ، حيث لا موجب في البين حينئذ يقتضي حرمة العبادة على القول بالمقدمة الموصلة حتى تقع فاسدة ، كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى في الاشكال عليه هو المنع عن كون الفعل مما يقارن النقيض وانه بنفسه نقيض للترك الواجب بدعوى ان نقيض المقيد بعد انحلاله إلى جزئين أحدهما ذات الترك والاخر التقيد بالخصوص يتحقق بأحد الامرين : اما بقلب ذات الترك أو بقلب التقيد ، فنقيض الترك كان هو الفعل ونقيض القيد هو عدم التقيد ، وحينئذ فإذا تحقق أحد الامرين لا محالة ينطبق عليه النقيض ويصير مبغوضا ، كما هو ذلك أيضا في كلية المركبات ، ومن ذلك اشتهر ان المركب كما ينتفي بانتفاء مجموع الاجزاء كذلك ينتفي بانتفاء أحد اجزائه ، وعلى ذلك نقول بأنه إذا تحقق الفعل الذي هو نقيض ذات الترك فبتحققه ينطبق عليه أول نقيض وبذلك يصير مبغوضا ، فيصير فاسدا لا محالة إذا كان عبادة.

واما الاشكال عليه : بأنه بعد معلومية انه لايكون لوجود واحد الا نقيض واحد فلابد من اعتبار جامع في البين يكون هو النقيض حقيقة ، وهو غير متصور في المقام ، نظراً إلى

ص: 345

عدم تصور الجامع بين الوجود والعدم ، فلابد حينئذ من جعل النقيض عبارة عن رفع الترك الخاص الملازم للوجود والغاء الفعل بالمرة عن كونه نقيضا للترك الخاص ومعه تتم الثمرة المزبورة ، فمدفوع بأنه كذلك إذا كان وحدة الموضوع ذاتية والا فلو كانت اعتبارية كما في المقام وفي كلية المركبات فلا جرم حسب تكثر الوجودات يتكثر النقيض أيضا حقيقة ، غايته انه من جهة ان المجموع تحت امر واحد لا يتصف بالمبغوضية الا أحد النقائض المنطبق عليه أول نقيض ، من جهة خروج البقية بعد ذلك عن دائرة المحبوبية الضمنية بقلب وجود واحد منها بالنقيض.

ولئن شئت قلت : بان المركبات كما أن وحدتها ليست الا بالاعتبار والا فهي متكثرات حقيقة كذلك الامر في نقيضها فوحدتها أيضا لا تكون الا بالاعتبار ، وقضية ذلك كما عرفت هي مبغوضية أحد النقائض المنطبق عليه أول نقبض من جهة خروج البقية بعد ذلك عن دائرة المبغوضية من غير فرق في ذلك بين المركبات الخارجية كالصلاة والحج والوضوء والغسل وبين المركبات التحليلية كالمقيدات من جهة انه وان لم يكن للمقيد في الخارج الا وجود واحد ولا كان لحيثية التقيد ما بإزاء في الخارج الا ان تعدد الجهات والحيثيات فيه لما كانت توجب انحلال الامر به إلى الأوامر المتعددة تكون لا محالة كالمتكثرات الخارجية فيكون لكل حيثية نقيض مستقل غير أنه كان المتصف بالمبغوضية هو أول نقيض من جهة خروج بقية الحيثيات الاخر بعد ذلك عن دائرة المطلوبية ، وعليه نقول في المقام أيضا بان نقيض ذات الترك الذي هو إحدى الحيثيات المأخوذة في الموضوع بعد أن كان رفعه المساوق للوجود الذي هو الفعل فقهرا يصير الفعل بمقتضى النهى عن النقيض مبغوضا ومنهيا عنه ، ومعه يقع لا محالة باطلا إذا كان عبادة ، فيرتفع حينئذ الثمرة المزبورة ، من جهة بطلان الضد العبادي حينئذ على كل تقدير.

ثم إن هذا كله مسلك اخذ الايصال قيدا للواجب كما عليه ظاهر الفصول قدس سره واما على ما سلكناه في تخصيص الوجوب المقدمة الموصلة من جعل الموضوع عبارة عمالايكاد انفكاكه عن بقية المقدمات الاخر الملازم قهرا مع الايصال وترتب وجود ذيها في الخارج فلا بأس باستنتاج النتيجة المزبورة في تصحيح الضد العبادي ، إذ نقول حينئذ بان الوجوب المتعلق بالمقدمة بعد كونه ناقصا غير تام بنحو لايكاد يشمل الا الترك في حال إرادة الضد الواجب فلا محالة يكون البغض الناشئ من

ص: 346

هذا الوجوب الناقص بالنسبة إلى النقيض وهو الفعل أيضا بغضا ناقصا غير تام بحيث لنقصه وقصوره لا يشمل الا الفعل في حال إرادة الضد ، لا مطلق وجوده ولو في ظرف الصارف وعدم إرادة الواجب ، وحينئذ فإذا خرج الفعل في ظرف الصارف وعدم الإرادة عن دائرة المبغوضية لاختصاص البغض بالفعل في حال إرادة الواجب ولم يتمكن أيضا من الفعل الا في ظرف الصارف وعدم إرادة الضد الواجب من جهة امتناع اجتماع إرادة الواجب مع فعل ضده وهو الصلاة فلا جرم يقع الفعل منه غير مبغوض فيقع صحيحا ، ومعه يتجه النتيجة المزبورة.

نعم لو كان نتيجة تعلق الوجوب الناقص بالمقدمة هو البغض التام في طرف النقيض بحيث يقتضي مبغوضية النقيض على الاطلاق لاتجه الاشكال المزبور فتنتفى الثمرة المزبورة ، ولكنه في محل المنع جدا ، فإنه كما عرفت لايكاد اقتضاء تعلق الوجوب الناقص بشيء بالنسبة إلى النقيض الا البغض الناقص ، وحينئذ فلا يبقى في البين الا جهة مقدمية الوجود لترك الضد الواجب الذي هو مبغوض بالبغض التام ، وهذا أيضا مما قد عرفت الجواب عنه باستناد الترك حينئذ دائما إلى الصارف وعدم وجود المقتضي وهو الإرادة لا إلى وجود الفعل ، فان صحة استناد عدم شيء إلى عدم وجود الشرط أو إلى وجود المانع انما يكون في ظرف وجود مقتضيه وتحققه ، والا ففي ظرف عدم تحقق المقتضي لايكاد استناد العدم الا إلى عدم المقتضي ، ومن ذلك ترى انه مع أنه عدم وجود النار لايكاد صحة استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع وهو الرطوبة مثلا أو إلى عدم تحقق شرطه ، بل وانما الصحيح استناده إلى عدم وجود المقتضي وهو النار وليس ذلك الا من جهة سبق المقتضى رتبة على بقية اجزاء العلة من الشرط والمانع ، كما سيجيء زيادة تحقيق لذلك إن شاء اللّه تعالى في مبحث الضد ، وحينئذ فحيث ان الفعل مسبوق دائما بالصارف وعدم إرادة الضد الواجب فلا جرم يكون عدم الضد مستندا إلى الصارف دون الفعل ومع يقع الفعل العبادي قهرا غير مبغوض فيقع صحيحا ، هذا.

وقد تظهر الثمرة أيضا بين القولين في ضمان الأجرة على المقدمة فيما لو امر بالحج أو الزيارة عنه واخذ المأمور بالمشي فمات قبل الوصول إلى المقصد ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة يستحق المأمور الأجرة على ما اتى به من المقدمات من جهة أن الامر بالحج عنه امر بمقدماته التي منها المشي وطي الطريق وبذلك يستحق عليه الأجرة على المقدمة ،

ص: 347

واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا استحقاق له للأجرة على المقدمة نظراً إلى عدم كون المأتي به من المقدمات مأمورا به حتى يقتضي ذلك تضمين الآمر للأجرة عليه ، وذلك من جهة فرض اختصاص امره بخصوص المقدمة الموصلة ومجرد تخيل المأمور واعتقاده بكون المقدمة المأتي بها واجبة ومأمورا بها أيضا غير مقتض لضمان الامر ، والا لاقتضى تضمينه في غيره من الموارد الاخر كما لو اعتقد بان زيدا امره بكنس داره فكنس داره بموجب هذا الامر الزعمي ، مع أنه كما ترى لايظن من أحد الالتزام به.

وتظهر الثمرة أيضا في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم كالمشي في الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون المشي المزبور واجبا وان لم يترتب عليه الانقاذ ، واما على المقدمة الموصلة يقع المشي المزبور حراما مع عدم الايصال ، سواء قصد به الايصال أيضا أم لم يقصد ، غايته انه مع قصد الايصال يكون منقادا كما أنه مع عدم قصد الايصال يكون واجبا إذا كان ترتب عليه الانقاذ الواجب غايته انه يكون متجريا حينئذ في فعله كما هو واضح ...

ثمرة أصل المسألة

واما ثمرة الصل المسألة فقد يقال بظهورها في موارد : منها في مسألة النذر فيما لو نذر ان يأتي بواجب من الواجبات فإنه على القول بالملازمة ووجوب المقدمة يحصل البرء باتيان المقدمة بخلافه على القول بعدم وجوبها. ومنها حصول الفسق بترك واجب له مقدمات متعددة نظراً إلى صدق الاصرار على الحرام الموجب للفسق. ومنها عدم جواز اخذ الأجرة على المقدمة بناء على الملازمة بلحاظ خروجها حينئذ عن ملكه وعن حيطة سلطانه من حيث الفعل والترك فكان اخذ الأجرة عليها اكلا للمال بالباطل.

ولكن لايخفى عليك ما في الوجوه ، وذلك :

اما الأول فلمنع كونه ثمرة أصولية ، إذ هو انما يكون ثمرة لمسألة فرعية لأنه من تطبيق كبرى فرعية وهي كبرى وجوب الوفاء على المورد وأين ذلك والمسألة الأصولية التي من شأنها وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي؟ وبالجملة نقول بان المسألة الأصولية عبارة عما وقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي لا في طريق

ص: 348

تطبيق الحكم الشرعي الكلي على المورد ومسألة بر النذر انما كانت من قبيل الثاني لا من قبيل الأول فلا تكون حينئذ ثمرة لمسألة أصولية كما هو واضح.

واما الثاني فلانه بترك مقدمة واحدة يحصل العصيان للواجب ، إذ لا يتمكن معه بعد من الواجب ، ومعه يخرج بقية المقدمات عن حيز الوجوب كي يكون تركها حراما فيتحقق الاصرار الموجب لحصول الفسق ، مضافا إلى ما عرفت سابقا بأن تعدد العصيان انما يكون تابعا لتعدد الغرض ، فإذا لايتحقق من ترك الواجب بما له من المقدمات العديدة الا فوت غرض واحد لايكاد ترتب عليه إلا عصيان واحد.

واما الثالث فلوضوح عدم اقتضاء مجرد وجوب شيء على المكلف عينا أم كفاية لخروجه عن المالية بحيث لايجوز له أخذ الأجرة بإزائه ما لم يعتبر كونه على نحو المجانية ، ومن ذلك ترى جواز اخذ الأجرة على كثير من الواجبات كالصناعات الواجبة عينا أم كفاية وكموارد المخمصة التي امر فيها ببذل الأموال ، فان ذلك كله شاهد عدم اقتضاء مجرد الامر ببذلك الأعمال والأموال ووجوب اتلافها لخروجها عن المالية رأسا بحيث كان اخذ العوض بإزائه من اكل المال بالباطل ، وحينئذ فيحتاج حرمة أخذ الأجرة عليه إلى قيام دليل بالخصوص يقتضي ايجاب بذله على نحو المجان كما ورد في مثل الاذان والقضاء ونحوهما ، والا فلو كنا نحن ومجرد وجوب العمل عليه عينا أم كفاية فلايقتضي هذا المقدار خروجه عن المالية حتى يحرم عليه اخذ الأجرة بإزائه كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى جعلها أي الثمرة التوسعة في التقرب ، فإنه بناء على الملازمة كما يتحقق القرب باتيان المقدمة بقصد التوصل بها إلى ذيها كذلك يتحقق باتيانها بداعي أمرها ومطلوبيتها لدى المولى ولو غيريا بناء على ما عرفت من صلاحية الامر الغيري أيضا للمقربية ، واما على القول بعدم الملازمة فلايكاد يصح التقرب بالمقدمة الا باتيانها بقصد التوصل بها إلى ذيها.

وربما يجعل من الثمرة أيضا اجتماع الوجوب والحرمة عند كون المقدمة محرمة مع عدم الانحصار نظراً إلى اندراجه على الملازمة حينئذ في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فيبتني على الخلاف في تلك المسألة ، فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي له الاتيان بالمقدمة بداعي كونها مرادة للمولى بخلافه على القول بالعدم فإنه لايندرج في باب الاجتماع حتى يبتني على الخلاف في تلك المسألة. وأورد عليه في الكفاية بالمنع عن اندراجه في مسألة

ص: 349

الاجتماع على الملازمة بدعوى ان الواجب بعد كون عنوان المقدمية من الجهات التعليلية لا التقييدية عبارة عما هو بالحمل الشايع مقدمة لا عنوانها ، وحينئذ فعلى الملازمة يكون المقام من باب النهى عن العبادة أو المعاملة لا من باب الاجتماع كي يكون مبنيا عليه. ولكن فيه أن المقدمية وان كانت من الجهات التعليلية لا التقييدية ولكن الواجب بعد كونه في المقام عبارة عن الجامع بين الفردين والخصوصيتين ، فلا محالة يندرج في مسألة الاجتماع حيث يصير الفرد المحرم حينئذ مجمع العنوانين فكان بأحد العنوانين وهو الجامع المنطبق عليه متعلقا للحكم الوجوبي وبالعنوان الآخر متعلقا للحكم التحريمي ، لا في مسألة النهى عن العبادة أو المعاملة الذي ملاكه توارد الحكمين على موضوع واحد من جهة واحدة ، وهذا واضح بعد معلومية عدم سراية مصلحة الجامع إلى الخصوصية ولا مفسدة الخصوصية إلى الجامع المزبور ووقوف كل منهما على نفس متعلقه ، فإنه في مثله ينحصر التزاحم بين الملاكين في عالم الوجود محضا والا ففي مقام التأثير في الحب والبغض لايكون بينهما مزاحمة أصلا كما لايخفى.

تأسيس الأصل في المسألة

بقى الكلام في تأسيس الأصل في المسألة عند الشك في الملازمة ووجوب المقدمة

وليعلم بأن الشك في وجوب المقدمة وان كان يتصور على وجوه : تارة من جهة الشك في أصل مقدمية شيء للواجب ، وأخرى من جهة الشك في وجوب ذيها مع العلم بأصل المقدمية واصل الملازمة ، وثالثة من جهة الشك في أصل ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، الا ان الجهة المبحوث عنها في المقام انما هي خصوص الجهة الأخيرة التي يكون الشك ممحضا في أصل ثبوت الملازمة نظراً إلى خروج ما عداها عن مفروض الكلام في المقام فنقول حينئذ :

اما نفس الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها فلا اشكال في أنه لا أصل فيها ، فإنها من جهة كونها أزلية وجودا وعدما لا حالة سابقة لها حتى يجرى فيها الاستصحاب ، وحديث الرفع أيضا غير جار فيها لعدم كونها أمرا شرعيا ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي ، لان ترتب فعلية الوجوب عليها حينئذ ترتب عقلي لا شرعي ، كما هو واضح.

واما نفس وجوب المقدمة فهو وان كان مسبوقا بالعدم حيث يكون حادثا بحدوث

ص: 350

وجوب ذي المقدمة الا انه من جهة عدم قابلية المورد لا يجري فيه الأصل أيضا ، لان جريان مثل هذه الأصول انما كان في مورد قابل للوضع الرفع ، ومع كون فعلية الوجوب على الملازمة من اللوازم القهرية لوجوب ذي المقدمة لايكون المحل قابلا للرفع كي يجرى فيه الأصل فيقتضي عدم فعلية وجوبها ، ولئن شئت قلت بالعلم التفصيلي حينئذ بعدم جريان الأصل فيه ، اما لعدم وجوبها واقعا على تقدير عدم ثبوت الملازمة واما لعدم قابلية المورد للرفع على تقدير ثبوت الملازمة كما هو واضح ، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بجريان الأصل في طرف الوجوب فلا مجال للاشكال عليه من جهة انتفاء الأثر العملي بدعوى انه بعد حكم العقل بلا بدية الاتيان بالمقدمة لايترتب على نفى وجوبها ثمرة أصلا من حيث الحركة والسكون ، وذلك لامكان الجواب عنه بعدم الانحصار الأثر حينئذ بحيث الحركة والسكون وانه يكفي فيه التوسعة في التقرب باتيان المقدمة بداعي مراديتها حيث إنه بنفي وجوبها حينئذ يترتب نفى هذا الأثر فيتضيق بذلك دائرة التقرب. وأما توهم عدم كون مثل هذا الأثر حينئذ شرعيا لأنه من كيفيات الإطاعة التي هي من الآثار العقلية فلايكاد يمكن اثباتها بمثل هذه الأصول التعبدية ، فمدفوع بأنه كنفس الإطاعة من لوازم مطلق وجوب الشيء ولو ظاهرا ، هذا.

ولكن مع ذلك كله يشكل الاكتفاء بمثل هذا الأثر في جريان الاستصحاب ينشأ من عدم كونه اثرا للمستصحب حتى يجري الاستصحاب بلحاظه وكونه من آثار نفس الحكم الاستصحابي ، إذ حينئذ جريان الاستصحاب بلحاظ مثل هذا الأثر لعله من المستحيل ، فلابد حينئذ من التماس اثر في البين للمستصحب حتى يكون جريان الاستصحاب بلحاظه ، وحيثما لايكون في البين اثر عملي يترتب على المستصحب فلا مجال لجريانه بوجه أصلا كما لايخفى.

أدلة الأقوال في وجوب المقدمة

وإذ عرفت ذلك فلنشرع في الاستدلال على وجوب المقدمة ، فنقول :

انه يكفي دليلا على وجوبها الوجدان بان من يريد شيئا ويطلبه يريد بالجبلة مقدماته أيضا بحيث لو التفت إلى المقدمية تفصيلا يجعلها في قالب الطلب ويطلبها أيضا بطلب مستقل مولوي بقوله ادخل السوق واشتر اللحم ، كما أنه يوضح ذلك أيضا لحاظه الإرادات

ص: 351

التكوينية حيث ترى انه متى تريد شيئا تريد بالجبلة مقدماته أيضا فمتى تعلق إرادتك بشرب الماء لغرض هو رفع العطش تقصد تحصيله فتصير بصدد تحصيله بشراء ونحوه وإذا كان تحصيله يتوقف على المشي إلى مكان تقصد المشي إلى ذلك المكان ، وهكذا غيره من المقدمات ، بخلاف ما لايكون مقدمة من الملازمات القهرية كالمشي تحت السماء ونحوه فإنها وان كانت مما لابد منه عقلا الا انها غير مقصودة ولا مرادة في مشيك بوجه أصلا ، وحينئذ فإذا كان ذلك شأن الإرادات التكوينية المتعلقة بالاغراض كذلك تكون مثلها الإرادات التشريعية ، حيث لا فرق بينهما الا في كون الأولى محركة لنفس المريد والثانية للمأمور نحو المراد ، ففي الإرادات التشريعية أيضا يلازم إرادة الشيء والبعث نحوه البعث نحو مقدماته بحيث مع الالتفات إلى مقدميتها يجعلها في قالب طلب مثله فيبطلها ويأمر بايجادها ، بل قد عرفت سابقا بان ذلك مقتضي أكثر الواجبات في العرفيات والشرعيات حيث كان وجوبها بحسب اللب وجوبا غيريا من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد يكون هو المراد والمطلوب النفسي ، وعليه ففي نفس هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في اثبات الوجوب الغيري للمقدمات عن الاستدلال على وجوبها بل ولعله هو العمدة في الباب.

والا فمع الغض عنه لايكاد يتم الاستدلال على وجوبها بالبرهان المعروف عن البصري بأنه لو لم تجب لجاز تركها وحينئذ فان بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لايطاق والاخراج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.

وذلك لما فيه بأنه ان أريد من التالي في الشرطية الأولى الإباحة الشرعية فعليه وان صدق الشرطية الثانية حيث لايمكن بقاء الواجب على وجوبه مع ترخيص الشارع في ترك مقدمته الا ان الملازمة حينئذ ممنوعة نظراً إلى عدم اقتضاء مجرد عدم وجوب المقدمة للترخيص في تركها ، وان أريد به مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك من جهة عدم اقتضاء فيه للالزام فهو وان كان صحيحا ولكنه نمنع حينئذ صدق إحدى الشرطيتين وهو لزوم التكليف بما لايطاق أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، فأنه بعد عدم اقتضاء مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك لخروج الواجب عن القدرة نقول ببقاء الواجب حينئذ على وجوبه ولزوم الاتيان به بايجاد مقدماته بمقتضي اللابدية العقلية هذا بناء على إرادة الجواز وعدم المنع الشرعي عما أضيف إليه الظرف في قوله ( وحينئذ ) ، واما لو

ص: 352

أريد منه نفس الترك فعليه بعد تقييده بما إذا كان الترك في آخر الوقت بحيث لا يتمكن معه من الواجب نقول بان الواجب وان لم يبق على وجوبه حينئذ الا انه حيثما كان ذلك بالعصيان وسوء الاختيار فلا محالة يستحق عليه العقوبة من جهة تمكنه من الاتيان بالواجب وحكم عقله بلزوم اتيان المقدمة من باب اللابدية ارشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقوبة.

نعم لو أريد من الجواز اللاحرجية في الفعل والترك شرعا وعقلايترتب عليه أحد المحذورين وهو لزوم خروج الواجب عن وجوبه ولكنك عرفت بالمنع حينئذ عن الملازمة من جهة عدم اقتضاء مجرد عدم الوجوب شرعا جواز تركها شرعا حتى ينافي مع التكليف بالواجب بل وانما غايته هو عدم كونها محكومة بحكم شرعي وحينئذ فيكفي في لزوم الاتيان بها حكم العقل باللابدية كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر الجواب أيضا عما افاده بعض لاثبات وجوبها بأنها لو لم تجب بايجابه يلزم ان لايكون تارك الواجب المطلق عاصيا ومستحقا للعقوبة مع أن التالي باطل قطعا فالمقدم مثله ، إذ نقول بأنه كذلك لولا كون الترك عن سوء اختياره وحكم عقله بلابدية الاتيان ارشادا إلى ما في الترك من العصيان المتتبع للعقوبة كما لايخفى.

وحينئذ فالعمدة في اثبات وجوبها هو ما ذكرناه من قضية الوجدان والارتكاز في الواجبات العرفية وفى الإرادات التكوينية للانسان المتعلقة بما له مقدمات ، وعليه أيضا لا يفرق في المقدمات بين السبب وغيره من جهة ان ملاك ترشح الوجوب الغيري انما هو كونها مما لها الدخل في المطلوب وفى حصول الغرض ، فإذا كان الشيء مما له الدخل في حصوله وتحققه سواء كان بنحو المؤثرية كما في المقتضى أو بنحو الدخل في القابلية أو غير ذلك يترشح إليه الإرادة الغيرية فيصير واجبا بالوجوب الغيري.

وعليه فلا وجه لما ذكروه من التفصيل تارة : بين السبب وغيره بتقريبين تارة بان القدرة لما كانت غير حاصلة على المسببات وحدها الا في حال انضمام أسبابها إليها فلا جرم لابد وأن يكون الأسباب أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بالمسببات ، من جهة بعد اختصاص التكليف حينئذ بالمسببات وخروج الأسباب بالمرة عن حيز التكليف ، وأخرى بان التكليف لما كان لايمكن تعلقه الا بأمر مقدور للمكلف ولايكون المقدور الا الأسباب دون المسببات لأنها من الآثار المترتبة على الأسباب فلابد من صرفه عنها

ص: 353

إلى الأسباب. وأخرى : بين الشرائط الشرعية وغيرها بدعوى وجوب الشرايط الشرعية دون غيرها من تقريب انه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنه ليس مما لابد منه عقلا أو عادة.

إذ فيه ما لايخفى ، اما التفصيل الأول : فان أريد من عدم اختصاص التكليف بالمسبب في التقريب الأول تعلق التكليف بمجموع المسبب والسبب ففساده واضح حيث لايقتضي مجرد عدم القدرة على الشيء الا في حال انضمام أسبابه كون أسبابه أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بحيث يكون تكليفه بمجموع السبب والمسبب ، مع أنه على ذلك يكون السبب واجبا بالوجوب النفسي الضمني لا بالوجوب الغيري الذي هو محل البحث. وان أريد به اقتضاء التكليف بالمسبب حينئذ لتعلق تكليف غيري أيضا بسببه لكونه مما يتوقف عليه وجود المسبب وبدونه لايكاد تحققه في الخارج فهو مما لا يفرق فيه بين السبب وغيره ، فيجري في جميع المقدمات كانت من معطيات الوجود أو من معطيات القابلية واما التقريب الثاني للتفصيل المزبور فهو مع كونه انكارا التفصيل حقيقة من جهة رجوعه إلى تعلق الامر النفسي بدوا في هذه الموارد بالسبب ، نقول بان المسبب حيثما كان مقدورا للمكلف ولو بسببه يكفي هذا المقدار في صحة التكليف به ، فإنه لا يعتبر في صحة التكليف بالشيء أزيد من القدرة عليه ، كانت بلا واسطة أو معها ، ومعه لا وجه لصرف التكليف عن المسبب وارجاعه إلى سببه كما هو واضح.

واما ما قيل بان العلة والمعلول اما ان يكون لكل منهما وجود ممتاز عن الاخر في الخارج كما في شرب الماء ورفع العطش حيث كانا أمرين ممتازين وجودا في الخارج واما ان يكونا عنوانين لفعل واحد غايته طوليا لا عرضيا ، كالالقاء والاحراق المتصف بهما فعل المكلف في الخارج حيث كان صدق عنوان الالقاء متقدما على صدق عنوان الاحراق. فان كانا من قبيل الأول ففي مثله يتعلق الإرادة الفاعلية بالمعلول أولا لقيام المصلحة به ثم تتعلق بعلته وسببه لتوقفه عليها ، ونحوه الإرادة التشريعية الامرية فأنها أيضا تتعلق أولا بالمعلول والمسبب ثم بعلته وسببه فيصير سببه واجبا بالوجوب الغيري المقدمي. واما ان كانا من قبيل الثاني كما في الالقاء والاحراق وعنوان الغسل والتطهير ونحوهما فيلزمه كون الامر بالمسبب والمعلول عين الامر بسببه وعلته والامر بالسبب عين الامر بالمسبب ، لأنه في تعلق الامر بالمسبب يكون السبب مأخوذا فيه لا

ص: 354

محالة كما أنه في تعلقه بالسبب يكون معنونا بالمسبب ، فعلى كل تقدير يكون الامر بكل منهما أمرا بالآخر وفى مثله لايكاد اتصاف السبب بالوجوب الغيري بوجه أصلا كما لايخفى ، فمدفوع بان مثل عنوان الالقاء والاحراق عنوانان ممتازان وجودا كل منهما عن الآخر حيث كان الالقاء الذي هو فعل المكلف سببا لملاصقة الخشب مع النار التي هي سبب لتحقق الحرقة في الخارج ، فالحرقة حينئذ لها وجود مستقل في قبال الالقاء الذي هو من فعل المكلف ، نظير حركة اليد وحركة المفتاح اللتين هما وجود ان من الحركة إحديهما معلولة للأخرى ، نعم غاية ما هناك انه ينتزع من وجود المعلول عنوانان : أحدهما عنوان الاحراق بالإضافة إلى الفاعل والآخر عنوان الحرقة بالإضافة إلى نفسه ، نظير الايجاد والوجود ، ولكن مجرد ذلك لايقتضي صدق عنوان الاحراق وانطباقه حقيقة على الالقاء الذي هو فعل المكلف. وعليه فإذا كان العنوانان كل منهما وجودا عن الاخر في الخارج فلا محالة يكون حالهما حال شرب الماء ورفع العطش في اتصاف الالقاء بالوجوب الغيري عند تعلق الامر بالاحراق وعدم كون الامر بالاحراق أمرا حقيقة بالالقاء كما هو واضح.

ثم إن هذا كله إذا كان المسبب والمعلول من آثار فعل المكلف خاصة على معنى كون فعله علة تامة لتحققه بحيث لايكون لفعل الغير أيضا واختياره دخل في ترتب المسبب والمعلول وتحققه.

وأما إذا كان لفعل الغير واختياره أيضا دخل في تحققه كعنوان حقيقة البيع مثلا الذي هو مترتب على مجموع ايجاب البايع وقبول المشتري فقد يقال حينئذ بأن التكليف بالمسبب وهو البيع حقيقة تكليف بسببه وهو الايجاب من جهة خروج المسبب حينئذ بعد مدخلية قبول المشتري عن حيز قدرة البايع حتى بالواسطة ، فمن ذلك لو ورد امر بشخص ببيع داره لا جرم لابد بعد خروجه عن حيز قدرته من صرفه إلى سببه وهو ايجابه الناشي منه من جهة امتناع بقائه على ظاهره في التعلق بعنوان البيع ، ولكنه أيضا مدفوع بأنه كذلك إذا كان قضية الامر بالبيع أمرا بايجاده على الاطلاق وأما إذا كان أمرا بحفظ وجوده من قبل ما هو تحت قدرته واختياره فلا يلزم ارجاعه وصرفه عنه إلى سببه ، بل يجعل الامر في تعلقه بالمسبب على حاله حينئذ ويقال بأن والواجب هو حفظ وجوده من قبل ما هو تحت اختياره ، كما هو الشأن أيضا في كلية المقيدات ببعض القيود غير الاختيارية ،

ص: 355

إذ كان مرجع التكليف بها أيضا إلى التكليف بسد باب عدمه وحفظه من قبل ما هو تحت الاختيار في ظرف انحفاظه من قبل سائر القيود غير الاختيارية وحينئذ فإذا كان الواجب هو حفظ وجود المعلول والمسبب من قبل ما هو فعل اختياري للمكلف وهو ايجابه وكان هذا المقدار من الحفظ بتوسيط القدرة على الايجاب تحت قدرته واختياره فلا جرم يكون الايجاب الذي هو مسبب لهذا المقدار من الحفظ متصفا بالوجوب الغيري لا بالوجوب النفسي كما توهم فتدبر هذا كله في التفصيل الأول.

واما التفصيل الثاني بين الشرائط الشرعية وغيرها : بدعوى انه لولا وجوبها لما كان شرطا ، ففيه أيضا انه ان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في الثبوت بالنسبة إلى الشرطية والمقدمية بحيث لولا امر الشارع لما كان مقدمة وشرطا ففساده واضح من جهة بداهة ان الامر الغيري انما يتعلق بما هو مقدمة الواجب وشرطه فلو كان مقدميته متوقفة على الامر الغيري بها لدار. وان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في الاثبات بالنسبة إلى المقدمية والشرطية بحيث يكشف امر الشارع به عن كونه مقدمة وشرطا في الواقع ، ففيه مع أنه كثيرا ما يكون دليل الشرطية بغير لسان التكليف كما في قوله : « لا صلاة الا بطهور ، ولا صلاة الا إلى القبلة » نقول بأنه لايكون ذلك تفصيلا في المسألة لان مقتضاه حينئذ هو وجوب كل ما يتوقف عليه الواجب بالوجوب الغيري ولو كان الطريق إلى المقدمية غير امر الشارع كما هو واضح. ثم إن هذا كله في مقدمة الواجب

مقدمة المستحب والمكروه والحرام

واما مقدمة المستحب : فحكمها حكم مقدمة الواجب ، طابق النعل بالنعل ، كما أن مقدمة المكروه حكمها حكم مقدمة الحرام كما سنحرره.

واما المقدمة الحرام : فلا اشكال بينهم في أنه على الملازمة لايكون وزانها وزان مقدمة الواجب في اتصاف كل مقدمة من المقدمات بالحرمة الفعلية. كما في مقدمة الواجب ، وان ما هو المحرم لايكون الا العلة التامة أو الجزء الأخير منها الذي لايبقى معه الاختيار على ترك الحرام ، ولعل هذا التفكيك بين مقدمة الواجب والحرام انما هو من جهة ان المطلوب في الواجب انما كان هو الوجود وهو مما يتوقف تحققه على حصول جميع المقدمات بحيث بانعدام واحدة منها ينتفي المطلوب فمن ذلك يسرى

ص: 356

المحبوبية إلى كل واحدة من المقدمات ، بخلافه في طرف الحرام ، فإنه بعد أن كان المبغوض فيه هو الوجود يكون المطلوب فيه هو الترك وحيث إن الترك يتحقق بترك إحدى المقدمات فلايكون الواجب الا أحد التروك تخييرا ، فيتعين ذلك حينئذ في المقدمة الأخيرة التي لايبقى معها اختيار ترك الحرام ، فإذا وجب ترك المقدمة الأخيرة حينئذ فقد حرم فعلها بمقتضى النهى عن النقيض ، ولكن ذلك أيضا في مثل الافعال التوليدية التي لايحتاج في اختياريتها الا إلى إرادة سابقة على المتولد منه ، والا ففي غيرها مما يحتاج بعد تمامية المقدمات إلى إرادة محركة للعضلات نحوه كالصلاة مثلا فلا محالة تكون المقدمة الأخيرة فيها هي تلك الإرادة التي هي خارجة عن حيز التكليف ، إذ تكون العلة التامة للحرام حينئذ مركبة من الإرادة وغيرها ، وفي مثلها لايكاد اتصاف شيء من المقدمات بالحرمة بمقتضى البيان المزبور إذ كان استناد الحرام حينئذ إلى الإرادة وعدم الصارف عنه التي هي أسبق رتبة من غيرها. ومن ذلك نقول أيضا بعدم حرمة ترك مقدمات الواجب بمقتضي النهى عن النقيض نظراً إلى استناد ترك الواجب دائما ولو في ظرف ترك بقية المقدمات إلى وجود الصارف وعدم الإرادة من جهة سبقها رتبة على غيره كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن هذا كله بناء على مسلك المشهور من وجوب مطلق المقدمة. واما على ما ذكرنا من تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة اما بنحو التقييد كما عليه ظاهر الفصول واما على ما اخترناه من جعل الواجب ولو بلحاظ قصور في امره عبارة عن الذات التوامة مع وجود بقية المقدمات الملازمة للايصال قهرا فلا اشكال في البين في مثل المقام إذ حينئذ تكون مقدمات الحرام حالها كحال مقدمات الواجب فتكون كل مقدمة من مقدماته متصفة بالحرمة الغيرية في ظرف انضمامها ببقية المقدمات الملازم لترتب الحرام عليها. ومن ذلك أيضا نقول بأنه لو أتى بمقدمة الحرام ولولا بقصد التوصل بها إلى المحرم بل بقصد التوصل بها إلى امر واجب واتفق بعد ذلك ترتب الحرام عليها كان ما اتى به حراما فعليا في الواقع ، كما أنه لو اتفق عدم ترتب الحرام عليها لايكون ما اتى به حراما وان كان من قصده التوصل به إلى الحرام. فالمدار حينئذ في اتصاف المقدمة بالحرمة وعدم اتصافها بها على ترتب الحرام عليها وعدمه.

ثم إن الثمرة بين المسلكين تظهر في التوضي في المصب الغصبي بالماء المباح مع تمكنه

ص: 357

من المنع عن وصول ماء الوضوء إلى المصب ولو بجعل كفه مانعا عنه ، فإنه على المشهور من تخصيص الحرمة بالجزء الأخير يقع وضوئه صحيحا من جهة ان الجزء الأخير من العلة حينئذ انما هو عدم ايجاد الحائل عن وصول الماء إلى المصب الغصبي الذي هو امر أجنبي عن وضوئه فيكون هو المحرم والمنهي عنه دون وضوئه ، فمن ذلك يقع وضوئه صحيحا من غير فرق بين علمه بذلك من الأول وبين صورة عدم علمه به ، ولكن ذلك بخلافه على ما اخترناه ، إذ عليه في ظرف عدم منعه عن وصول الماء إلى المصب يقع أصل وضوئه حراما ومنهيا عنه فيقع باطلا إذا كان من نيته عدم ايجاد المانع عن وصول الماء إلى المصب. نعم لو لم يعلم بذلك من الأول كما لو كان بانيا من الأول على احداث المانع عن وصول ماء وضوئه إليه فاتفق بعد ذلك وصول الماء إليه ولو من جهة حصول البداء له عن احداث المانع يقع وضوئه صحيحا وان كان حراما في الواقع ، نظراً إلى وضوح عدم اقتضاء مجرد وقوع وضوئه على وجه الحرمة في الواقع لفساد وضوئه وبطلانه كما هو واضح فتدبر

ص: 358

المبحث الخامس : في الضد
اشارة

قد اختلفوا في أن الامر بالشيء هل يقتضي النهى عن ضده أم لا؟ وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان أمرين :

الأول : الظاهر أن المسألة انما هي من المسائل الأصولية من جهة رجوعها إلى البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده فتكون كالبحث عن سائر الملازمات فكان ذكرها حينئذ في مباحث الألفاظ مع كونها من المسائل العقلية لمحض المناسبة ، ويمكن أيضا ان تكون من المبادي الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشيء وانه هل من لوازمه هو حرمة ضده أم لا ، فإنه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب اقتضت المناسبة البحث عن لوازمه بأنه هل من لوازم وجوب الشيء هو حرمة ضده أم لا أو وجوب مقدمته أم لا كما تقدم. واما احتمال كونها من المسائل الفرعية نظير ما قيل في مقدمة الواجب فبعيد جدا ، حيث إنه لايكاد يناسب ذلك عنوان البحث المزبور ، بخلاف مسألة وجوب المقدمة فإنه يتطرق فيها احتمال كونها مسألة فرعية بمقتضي عنوان البحث ، مضافا إلى ما عرفت في المسألة السابقة من عدم انطباق ميزان المسألة الفرعية عليها وحينئذ فيدور الامر بين كونها من المبادي الاحكامية أو من المسائل الأصولية العقلية ولكل منهما وجه ، وان كان الا وجه هو الثاني.

الامر الثاني : في تحرير مفردات عنوان البحث من الأمر والنهي والشيء والاقتضاء والضد ، فنقول : اما الأمر والنهي فالظاهر أن المراد بهما يعم النفسي والغيري والأصلي والتبعي ، كم ان المراد بالشيء أيضا هو ما يعم الفعل والترك كما في تروك الصوم لا انه

ص: 359

عبارة عن خصوص الفعل كما ربما يتوهم. واما الثالث فالمراد به هو الاقتضاء في مرحلة أصل الثبوت لا الاقتضاء في مقام الكشف والدلالة والاثبات ، ولذلك يجري هذا النزاع في الأوامر المستكشفة من الاجماع والعقل أيضا. واما الرابع وهو الضد فالظاهر أن المراد به هو مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا فإنه تارة يطلق ويراد به معناه الأخص وهو المعاندة بين الشيئين على نحو لايمكن اجتماعهما في محل واحد مع جواز ارتفاعهما كالسواد والبياض ، وأخرى يطلق ويراد به مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا بنحو لايجوز ارتفاعهما أيضا ، فكان اطلاقه في المقام بمعناه الأعم الشامل للنقيض لا بمعناه الأخص ، نعم ذلك بمعناه الأخص أيضا لايختص بالوجوديين كما توهم بل يعمه وما لو كان أحدهما أمرا عدميا كالترك الخاص بالنسبة إلى الفعل المطلق بل وأما إذا كانا معا عدميين كما في صوم يومين مع فرض عدم قدرة المكلف خارجا الا على أحد الصومين.

وإذ عرفت ذلك فاعلم بان الكلام يقع في مقامين : تارة في الضد الخاص ، وأخرى في الضد العام بمعنى الترك.

اما المقام الثاني فسيجيء انه لا اشكال فيه في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده بمعنى الترك والنقيض ، وانما الكلام فيه بأنه أي الاقتضاء بنحو العينية أو التضمن أو الالتزام ، وسيجيء تحقيق الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

واما المقام الأول ففي اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص اشكال بين الاعلام ، والبحث فيه في الاقتضاء وعدمه يقع من جهتين :

الأولى : من جهة مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر كما عليه مبنى كثير منهم حيث بنوا على حرمة الضد المأمور به بمناط مقدمية تركه لفعل الضد الواجب. الثانية : من جهة مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر بدعوى اقتضاء هذا التلازم للتلازم بين حكميهما وصيرورة ترك الضد واجبا أيضا واقتضاء وجوب الترك بمقتضى النهى عن النقيض لحرمة فعله.

ولايخفى عليك حينئذ ان النزاع من الجهة الأولى يكون صغرويا محضا ، فإنه بعد الفراغ عن الكبرى وهي التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته كان الكلام في اثبات الصغرى وهي مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الاخر ، بخلافه في النزاع من الجهة الثانية فإنه يكون في أصل كبرى لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم ، والا فاصل

ص: 360

الصغرى وهو التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر مما لا كلام فيه ، فهاتان الجهتان حينئذ متعاكستان في الجهة المبحوث عنها ، وبعد ذلك نقول :

اما الجهة الأولى فتقريب الاقتضاء انما هو من جهة قضية المنافرة والمعاندة بين الوجودين وعدم اجتماعهما في التحقق ، بدعوى اقتضاء تلك المنافرة والمعاندة لمقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر نظراً إلى وضوح كون عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة للشيء ، فإذا ثبت حينئذ مقدمية عدمه لوجود الضد الواجب فلا جرم يجب بوجوب مقدمي غيري بمقتضى كبرى التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ومع وجوبه يقع فعله لا محالة بمقتضى النهى عن النقيض حراما ومنهيا عنه ، هذا

وقد أورد عليه بمنع المقدمية نظراً إلى انتفاء السنخية بين الوجود والعدم واستحالة كون العدم من مقدمات وجود الشيء ومن اجزاء علته ، ولكن فيه ما تقدم سابقا من ابتناء هذا الاشكال على اتحاد المقدمات طرا في كيفية الدخل في وجود المعلول ورجوع دخل الجميع إلى المؤثرية والمتأثرية كما في المقتضى ، فإنه على هذا المبني لا محيص من اخراج عدم المانع بقول مطلق عن المقدمات وعن كونه من اجزاء العلة التامة نظراً إلى انتفاء السنخية بين الوجود والعدم وامتناع تأثير العدم في الوجود ، والا فبناء على اختلاف المقدمات في كيفية الدخل في المعلول ورجوع بعضها إلى كونها معطيات الوجود كما في المقتضي ورجوع بعضها الاخر إلى كونها معطيات الحدود للوجود والقابلية كما في الشرط وعدم المانع على ما شرحناه سابقا فلا مجال للمنع عن مقدمية عدم الضد بالبيان المزبور.

وحينئذ فالأولى هو المنع عن المقدمية بما في الكفاية : من دعوى عدم اقتضاء مجرد المعاندة والمنافرة بين الضدين وعدم الاجتماع في الوجود لمقدمية عدم أحدهما لوجود الاخر وللتوقف الموجب لتخلل الفاء بينهما الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة بل وان غاية ما يقتضيه ذلك انما هو التلازم بين وجود أحدهما مع عدم الآخر ، كما هو الشأن أيضا في النقيضين ، حيث لايكاد اقتضاء بينهما لمقدمية ارتفاع أحدهما لثبوت الآخر ، كيف وانه لو اقتضى مجرد هذه المنافرة والمعاندة التوقف الموجب لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر لاقتضى مقدمية عدم الضد الاخر أيضا لوجود هذا الضد ، من جهة ان المعاندة والمنافرة كانت من الطرفين ، فكما ان هذا الضد لايكاد يتحقق الا في

ص: 361

ظرف عدم ضده كذلك ذلك أيضا لايتحقق الا في ظرف عدم ذلك ، وهو واضح الاستحالة ، من جهة استلزامه لكون الشيء في رتبتين ، وبيان ذلك انا لو فرضنا في مثل الصلاة والإزالة مثلا توقف الإزالة على عدم الصلاة توقف الشيء على عدم مانعه ، فلازم التوقف والمقدمية هو تقدم العدم المزبور على وجود الإزالة ، ولازم ذلك بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين تقدم وجود الصلاة أيضا على الإزالة ، نظراً إلى كونها في رتبة عدمها الذي هو مقدم رتبة على وجود الإزالة ، فإذا فرضنا حينئذ بمقتضي المعاندة المزبورة توقف الصلاة أيضا على عدم الإزالة توقف الشيء على عدم مانعه يلزمه لا محالة بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين تقدم الإزالة أيضا وجودا وعدما على وجود الصلاة ، ولازمه حينئذ صيرورة كل من الصلاة والإزالة في رتبة متأخرة عن الاخر الملازمة لكون كل منهما في رتبتين ، وهو كما ترى مقطوع استحالته ، وحينئذ فكان ذلك برهانا قطعيا على استحالة ما ادعى من المقدمية بين الضدين كما هو واضح ، هذا.

وقد أورد على المقدمية أيضا من جهة محذور الدور ، بتقريب انه كما يتوقف وجود أحد الضدين على عدم الضد الاخر توقف الشيء على عدم مانعه كذلك يتوقف العدم المزبور أيضا على وجود هذا الضد توقف عدم الشيء على وجود مانعه ، لبداهة ثبوت المعاندة من الطرفين والمطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح ، من جهة توقف كل منهما حينئذ على الاخر.

وأجيب عن الدور المزبور بان فعلية التوقف انما كانت من طرف الوجود خاصة لا من طرف العدم ، بدعوى ان عدم الشيء انما يستند إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه ، والا ففي ظرف عدم وجود المقتضي لايكاد استناده الا إلى عدم ثبوت المقتضي له لا إلى وجود المانع ، ومن ذلك ترى عدم صحة استناد عدم الاحراق إلى وجود الرطوبة مع عدم وجود النار أو عدم تحقق شرطه الذي هو المماسة والمحاذاة الخاصة ، بخلافه في ظرف وجود أصل النار وتحقق المحاذاة الخاصة ومماسة الجسم مع النار إذ صح حينئذ استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع والرطوبة ، وعلى ذلك فحيث أنه تحقق الصارف في المقام عن الوجود فلا جرم في مثله يكون عدم الضد مستندا إلى عدم الإرادة والصارف الذي هو أسبق رتبة من المانع لا إلى وجود الضد حتى يلزم الدور ، كما هو واضح ، هذا.

ص: 362

وقد أورد عليه الأستاذ في الدورة السابقة بأنه بعد أن كان المعلول استناده في طرف الوجود إلى مجموع اجزاء العلة من المقتضي والشرط وعدم المانع في عرض واحد بتخلل فاء واحد بينهما في قولك : ( وجدت العلة بأجزائه فوجد المعلول ) لا بتخلل فائين بقولك : ( وجد فوجد فوجد المعلول ) والايلزمه خروج مثل عدم المانع عن كونه من أجزاء العلة التامة في التأثير في تحقق المعلول ، فلا جرم بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين لابد وأن يكون عدمه أيضا عند انتفاء العلة باجزائها مستندا إلى انتفاء الجميع في عرض واحد بنحو تخلل فاء واحد على نحو استناد وجوده إلى مجموع اجزاء العلة لا إلى خصوص بعض اجزائها وهو عدم المقتضي ، فيبطل حينئذ ما ادعى من الترتب والطولية بين اجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط والمانع في مقام التأثير الفعلي في وجود المعلول ، وان ما يرى من عدم صحة استناد عدم الاحراق في المثال المزبور عند عدم وجود النار وتحقق المحاذاة الخاصة إلى الرطوبة ووجود المانع فإنما هو فيما إذا أريد استناده إلى خصوص المانع ، والا فصحة استناده حينئذ إلى عدم المجموع مما لا ريب فيه ، كما هو واضح. واما صحة استناده إلى خصوص عدم المقتضي مع انتفاء الشرط ووجود المانع أيضا فلعله من جهة اقوائية المقتضي حينئذ من بين اجزاء العلة عند العرف في استناد العدم إليه ، والا فبحسب الدقة لايكون العدم الا مستندا إلى عدم وجود علته التامة التي من اجزائها الشرط والمانع ، ومن ذلك ربما يكون الامر بالعكس في استناد العدم عرفا إلى شيء كما في الخشبة التي تحت البحر ، حيث صح استناد عدم احراقه إلى وجود الماء عند كونه تحت البحر عرفا ، ولايصح استناده إلى عدم وجود النار ، بل ولئن علل عدم احراقه إلى عدم وجود النار والحال هذه ترى بأنه يضحك عليه العرف.

وحينئذ فإذا لايكون اجزاء العلة التامة في عالم التأثير في المعلول الا في عرض واحد ومرتبة واحدة بنحو لايتخلل بينه وبين المجموع إلا فاء واحد نقول في المقام أيضا بان العلة التامة لوجود الصلاة إذا كانت هي الإرادة وترك ضدها الذي هو الإزالة حسب ما هو المفروض من مقدمية الترك للوجود ولم يكن بينهما في مقام التأثير في الأثر ترتب وطولية ، بل كان استناده إلى مجموع الامرين في عرض واحد بتخلل فاء واحد كقولك : ( وجدت الإرادة وترك الإزالة فوجدت الصلاة ) فلا جرم في طرف العدم أيضا بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين لايكونان الا في رتبة واحدة ، فإذا قلب حينئذ كل من الإرادة و

ص: 363

الترك إلى النقيض بقلب الإرادة إلى عدمها والترك إلى الفعل فقهرا يكون العدم مستندا إلى مجموع الامرين من وجود الصارف وفعل الضد الذي هو المانع ، لا انه مستند إلى خصوص الصارف وعدم الإرادة ، وعليه يتوجه محذور الدور المزبور نظراً إلى فعلية التوقف حينئذ من الطرفين ، كما هو واضح ، هذا.

ولكن الأستاذ ( دام ظله ) أجاب عن ذلك أخيرا ، وبنى على الترتب والطولية بين اجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط والمانع ، والتزم بتقدم المقتضي على الشرط والمانع رتبة بمقتضي ما بنى عليه من اختلاف اجزاء العلة في كيفية الدخل في وجود المعلول برجوع بعضها كالمقتضي إلى كونها مؤثرات ومعطيات الوجود ، ورجوع بعضها إلى كونها معطيات الحدود للوجود كالشرط وعدم المانع ، فإنه عليه يكون المقتضي باعتبار كونه مؤثرا ومعطيا لأصل الوجود مقدما رتبة على ما يكون دخله في حدود ولو بنحو دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، كتقدم ذات الوجود على حده العارض عليه رتبة ، وحينئذ فعند انتفاء المقتضي ووجود المانع لا جرم يكون العدم مستندا إلى عدم ثبوت المقتضي ، ولا مجال لاستناده إلى وجود المانع أو عدم شرطه الا في ظرف ثبوت أصل المقتضي للوجود ، وحينئذ ففي المقام أيضا حيثما كان عدم الإرادة والصارف أسبق رتبة من الشرط والمانع بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين فقهرا يكون العدم عند عدم الإرادة مستندا إلى الصارف لا إلى وجود المانع وهو الضد حتى يتوجه محذور الدور المزبور ، وهو واضح.

وحينئذ فالعمدة في الاشكال على المقدمية هو ما ذكرنا من لزوم كون الشيء في رتبتين نظراً إلى مقدمية ترك كل واحد من الضدين بعد كون المطاردة من الطرفين لوجود الضد الاخر ، بل ذلك أيضا لازم للاشكال الثاني أيضا نظراً إلى بقاء غائلة الدور وهو لزوم كون الشيء في رتبتين بعد على حاله وان اندفع فعلية التوقف بالبيان المزبور ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان ظهر بطلان مقدمية ترك الضد الاخر فلا جرم لايبقى في البين الا مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الاخر ، وفي مثله نقول بان من الواضح أيضا عدم اقتضاء مجرد التلازم بين الشيئين التلازم بين حكميهما أيضا بحيث لابد وان يكون محكوما بحكم ملازمه كي بعد اثبات وجوب الترك بالمناط المزبور يحكم بحرمة نقيضه وهو الفعل بمقتضي النهى عن النقيض ، وذلك لان غاية ما يقتضيه الملازمة

ص: 364

المزبورة انما هو عدم كون أحدهما محكوما بما يضاد حكم الاخر لا وجوب كونه محكوما بحكمه ، كيف وان دعوى سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الاخر مما يحكم بخلافها بداهة الوجدان والارتكاز عند طلب شيء والامر به ، من حيث وضوح وقوف الطلب والامر والحب والبغض على نفس متعلقه وعدم سرايتها منه إلى ما يلازمه من الأمور الاخر بوجه أصلا.

وعليه فلا مجال لاثبات حرمة فعل الضد حتى يترتب عليه فساده إذا كان عبادة ، لا بمناط التلازم ولا بمناط المقدمية ، خصوصا على ما تقدم منافي المبحث المتقدم من تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، فإنه على المقدمية أيضا حينئذ لايكاد اتصاف فعل الضد المقرون بوجود الصارف بالحرمة الفعلية من جهة خروجه حينئذ عن دائرة ما هو نقيض الواجب ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون الضدان مما لهما ثالث بحيث أمكن تركهما معا أم لا كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان ظهر عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص لا بمناط الملازمة وجدانا ولا بمناط المقدمية برهانا نقول :

فاعلم أن الضدين اما ان يكونا متساويين بحسب الملاك والمصلحة واما لا ، بل يكون أحدهما مزية على الاخر بحسب الملاك وعلى التقديرين لا يخلوان من كونهما مضيقين أو موسعين أو مختلفين فهذه صور عديدة وينبغي التعرض لكل واحدة من الصور بما يخصها من الحكم فنقول :

أما إذا كانا متساويين في الملاك والمصلحة وكانا أيضا مضيقين ، فان لم يكن لهما ثالث كما في الحركة والسكون والنوم واليقطة فلا اشكال في أن الحكم فيهما هو التخيير عملا بمعنى اللاحرجية نظير التخيير بين الفعل والترك في النقيضين ، لا التخيير الشرعي بمعنى الالزام بأحد الفعلين فإنه بعد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ولا من تركهما معا فقهرا في مثله بعد تساوى الملاكين يحكم العقل فيهما بالتخيير وعدم الحرج في الفعل والترك ، ومعه لايكاد مجال لالزام شرعي في البين ولو تخييري بوجه أصلا لأنه في ظرف ترك أحد الضدين يكون الضد الاخر قهري الحصول ومعه لايبقى مجال اعمال الجهة المولوية بالامر بهما تخييرا ، كما هو واضح. ولئن شئت قلت بان الامر التخييري بشيئين بعد أن كان مرجعه إلى المنع عن ترك المجموع فلا جرم يختص بما إذا تمكن

ص: 365

المكلف من ترك كلا الامرين كما في ضدين لهما ثالث ، والا ففي مثل المقام المفروض عدم تمكن المكلف من ترك كلا الامرين لايكاد مجال للامر التخييري واعمال الجهة المولوية لا بالنسبة إلى ترك المجموع ولا بالنسبة إلى أحد الفعلين نظراً إلى امتناع الأول في نفسه وقهرية حصول أحد الفعلين ، كما هو واضح. هذا إذا كان الضد ان مما ليس لهما ثالث.

وأما إذا كان الضدان مما لهما ثالث بحيث يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين معا كما في الامر بانقاذ الغريقين وكما في مثل الصلاة والإزالة ففي مثله لا اشكال في أنه ليس له ترك كلا الامرين معا وانه يجب عليه الاتيان بأحد الامرين مخيرا بينهما لا مجرد التخيير بينهما عملا كما في الصورة الأولى بلا الزام شرعي أو عقلي في البين ، وذلك من جهة ان الممنوع حينئذ انما هو وجوب كل واحد منهما عليه بالزام تعييني على الاطلاق بنحو يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك في حال وجود الاخر ، واما وجوب كل واحد منهما عليه تخييرا فلا مانع يمنع عنه بعد فرض تمكن المكلف من اتيان أحد الامرين وتمكنه أيضا من ترك الجميع ، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لأعمال الجهة المولوية بالامر بهما تخييرا ، وهذا بخلافه في الصورة الأولى فإنه فيها من جهة عدم تمكن المكلف من ترك كلا الامرين وقهرية حصول أحد الامرين عند ترك الاخر الا جرم لايبقى في مثله مجال الامر المولوي بأحد الامرين ولو بنحو التخيير بوجه أصلا فهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام ، وانما الكلام فيها ينتهي إليه مرجع هذا التخيير وانه هل هو راجع إلى تقييد الطلب في كل من الامرين بعدم الاخر وعصيانه؟ أو راجع إلى غير ذلك؟ بل مثل هذا الكلام لايختص بالمقام فيجري في كلية التخييرات الشرعية.

فنقول : ان المتصور في ذلك هو أمور :

أحدها : رجوعه إلى تقييد الطلب في كل من الواجبين بعدم الاخر اما بعدمه المحفوظ قبل الامر واما بعدمه المتأخر عن الامر المنتزع عنه عنوان العصيان الذي هو نقيض الإطاعة.

وثانيها : رجوعه إلى تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر مع اطلاق الطلب فيهما ، وذلك أيضا اما بأخذ القيد في كل منهما مطلق عدم الاخر بنحو يقتضي وجوب تحصيله واما بأخذه عبارة عن العدم الناشي من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والطلب بحيث

ص: 366

لايقتضي الطلب وجوب تحصيله.

وثالثها : رجوعه إلى وجوب كل واحد منهما على التعيين ولكنه لا بايجاب تام بنحو يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك الملازم مع وجوده ضده بل بايجاب ناقص مقتضاه عدم المنع الا عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر الراجع إلى ايجاب حفظ الوجود في كل منهما من قبل سائر الجهات في ظرف انحفاظ وجوده من قبل بديله وعدم ضده من باب الاتفاق ، إذ الشيء بعد أن كان له أنحاء من العدم بالإضافة إلى فوت كل مقدمة من مقدماته ووجود كل ضد من أضداده تبعا لحدود وجوده الحاصلة بالقياس إلى وجود مقدماته وعدم اضداده ، فلا جرم بعد خروج أحد تلك الاعدام من حيز التكليف اما لعدم القدرة أو لغير ذلك كما في المقام من فرض عدم تمكن المكلف من الجمع بين الوجودين لايكون قضية التكليف بالايجاد حينئذ الا وجوب سد بقية الاعدام في ظرف انسداد عدمه من باب الاتفاق من قبل بديله وضده ، ومرجعه إلى كونه أمرا بمتمم الوجود لا بالوجود على الاطلاق بنحو يقتضي وجوب سد جميع الاعدام حتى العدم الملازم مع وجود ضده ، ومرجع ذلك بالآخرة إلى تخصيص الواجب في كل منهما بما يكون ملازما مع عدم الآخر من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الواجب ولا في الوجوب ، بل من جهة قصور الوجوب في نفسه حينئذ عن الشمول لغير ذلك ، هذا كله بحسب مقام التصور.

واما بحسب مقام التصديق فلاينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو الوجه الأخير ، وذلك لما في غيره من عدم خلوه عن المحذور وذلك :

اما الوجه الأول من فرض تقييد الطلب في كل منهما بعصيان الاخر أو بعدمه من باب الاتفاق المحفوظ قبل الامر فواضح ، إذ الشق الثاني منه غير دافع لمحذور المطاردة بين الامرين ، من جهة بقاء المطاردة بينهما بعد على حاله ، بملاحظة تحقق ما هو الشرط فيهما قبل الاتيان بواحد منهما ، واما الشق الأول فهو وان اندفع به محذور المطاردة ، نظراً إلى وقوع تأثير كل منهما في رتبة الآخر الا انه يتوجه عليه حينئذ محذور طولية الامرين وتأخر كل منهما عن الاخر برتبتين حسب إناطة كل منهما بعصيان الاخر.

واما الوجه الثاني من فرض تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر فهو أيضا بشقيه كذلك ، لان مقتضي الإناطة حينئذ هو تأخر كل من الواجبين رتبة عن عدم الاخر ، و

ص: 367

لازمه بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين هو تأخر كل من الوجودين عن الاخر وهو ملازم لكون كل منهما في رتبتين ، وهو كما ترى من المستحيل ، خصوصا مع ما يرد على الشق الأول منه من لزوم وقوع المطاردة بين الامرين ، بلحاظ اقتضاء اطلاق الامر في كل منهما لزوم ترك الضد الاخر من باب المقدمة واقتضاء الامر به عدم تركه ولزوم ايجاده ، إذ حينئذ يصير كل واحد منهما وجودا وعدما موردا للتكليف الإلزامي وهو محال.

وعليه فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين الوجه الأخير الذي عرفت رجوعه إلى وجوب كل واحد منهما على التعيين ، لكنه لا بايجاب تام كي يقتضي النهى عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك الملازم مع وجود الاخر بل بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال الترك الراجع في الحقيقة إلى ايجاب متمم الوجود لا ايجاب الوجود على الاطلاق ، وفي مثله يرتفع المطاردة بين الامرين ، حيث لا تنافي بين هذين الامرين بالضدين بعد كونهما من قبيل متمم الوجود وعدم اقتضائهما لوجوب الحفظ على الاطلاق كما في الامر التأمين كما هو واضح. وعليه أيضا لا داعي إلى رفع اليد عن الامرين على الاطلاق والمصير إلى الزام عقلي تخييري فيهما بل يؤخذ حينئذ بوجوب كل منهما على التعيين غايته انه من جهة محذور المطاردة والوقوع في ما لايطاق يرفع اليد عن اطلاق الامرين واقتضائهما للحفظ على الاطلاق ويصار إلى وجوب كل منها بايجاب ناقص راجع إلى ايجاب حفظ المرام من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من قبل ضده من باب الاتفاق ، من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق بوجه أصلا كما لايخفى.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في كلية التخييرات الشرعية أيضا إذ نقول برجوع الامر التخييري في جميع الموارد إلى ايجاب كل واحد من الفردين أو الافراد لكن بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر مع كون الترك في حال وجود الاخر تحت الترخيص كما صنعه صاحب الحاشية قدس سره في تعريف الواجب التخييري حيث عرفة بأنه طلب الشيء مع المنع عن بعض أنحاء تروكه في قبال الواجب التعييني الذي مرجعه إلى ايجابه وطلبه مع المنع عن جميع أنحاء تروكه الراجع في الحقيقة إلى كون الواجب في كل واحد من الفردين التخييريين هي الحصة الملازمة مع عدم الاخر لا مطلق وجودهما على الاطلاق ، لا إلى وجوب الجامع بين الفردين

ص: 368

كما افاده بعضهم ، ولا إلى وجوب أحد الفردين بلا عنوان أو أحدهما المعين عند اللّه وهو الذي يختاره المكلف لعلمه سبحانه أزلا بما يختاره في مقام الايجاد ، وذلك لان الأول مع أنه غير متصور في كثير من الموارد كما في فرض الدوران بين فعل شيء وترك الاخر وفي الضدين كالصلاة والإزالة مثلا مخالف لظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الفردين ، من جهة وضوح ظهورها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيتهما لا بما ان الوجودين كل منهما مصداق لما هو الواجب وهو الجامع كما هو واضح. واما الثاني فلما فيه أيضا بان عنوان أحد الفردين بلا عنوان امر عرضي انتزاعي لايكون له ما بإزاء في الخارج ولا كان قابلا لقيام المصلحة به فلايمكن ان يكون موردا للالزام واما مصداق أحد الفردين والخصوصيتين على نحو النكرة فهو وان كان قابلا لان يقوم به المصلحة ويصير موردا للالزام ولكنه أيضا مناف لما يقتضيه ظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الوجودين. واما الثالث فهو أيضا كذلك إذ يكون منافيا لما اقتضه الأدلة الآمرة بكل واحد من الوجودين من جهة ظهورها في وجوبها كل واحد من الوجودين بخصوصيته ، نعم لا يرد عليه حينئذ محذور لزوم عدم اتصاف الوجودين بالوجوب في ظرف عصيان المكلف وعدم اختياره لواحد منهما ، وذلك من جهة وضوح ان اختيار المكلف حينئذ طريق إلى ما هو الواجب عند اللّه لا انه يكون له موضوعية وهو واضح.

وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين قهرا ما ذكرنا ، إذ عليه تبقى الأدلة على ظاهرها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيته غايته انه رفع لليد عما يقتضيه ظهور الوجوب في كل منهما في الوجوب التام وايجاب حفظ الوجود على الاطلاق بارجاع الوجوب فيهما إلى ايجابين ناقصين على نحو لايقتضي كل منهما بمقتضي النهى عن النقيض الا المنع عن تركه في حال ترك الآخر وذلك أيضا لا من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق بل من جهة قصور في نفس الوجوبين حينئذ في اقتضاء حفظ الوجودين على الاطلاق حتى في حال وجود الاخر وهذا القصور أيضا ناش من جهة ما بين ملاكهما من التضاد الموجب لخروج أحد الوجودين عن كونه ذا مصلحة عند تحقق الاخر ، ونتيجة ذلك كما عرفت هو حرمة ترك كلا الوجودين ووجوب الاتيان بأحدهما كما هو واضح.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في الضدين المتساويين ظهر أيضا حال ما ذا كان أحدهما أهم والاخر مهما فإنه فيهما أيضا أمكن بالتقريب المزبور الجمع بين

ص: 369

الامرين في رتبة واحدة ، امر تام بالأهم وأمر ناقص بالمهم على نحو كان مقتضاه لزوم حفظ المهم من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل ضده الأهم ، إذ نقول بان عمدة المحذور في عدم جواز الامر بالضدين كما عرفت انما هو محذور لزوم ايقاع المكلف فيما لايطاق بلحاظ اقتضاء كل واحد من الامرين ولو بتوسيط حكم العقل بلا بدية الإطاعة والامتثال لصرف القدرة نحو متعلقه ، إذ حينئذ بعد أن لايكون للمكلف الا قدرة واحدة ولا يتمكن من الجمع بين الإطاعتين ربما يقع المكلف من ناحية اقتضاء الامرين في محذور ما لايطاق وحيث إن ذلك ينتهى بالآخرة إلى الشارع والمولى ربما يصدق ان المولى هو الذي أوقع المكلف في ما لايطاق ، ولكن نقول بأنه من المعلوم ان هذا المحذور انما يكون إذا كان الامر ان كل واحد منهما تاما بنحو يقتضي حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده ، والا فإذا لم يكونا كذلك بل كانا ناقصين كما تصورناه في المتساويين أو كان أحدهما تاما والاخر ناقصا غير تام بنحو لايقتضي الا حفظ متعلقه من قبل مقدماته وسائر أضداده غير هذا الضد فلا محذور أصلا ، حيث لايكون مطاردة بين الامرين في مرحلة اقتضائهما حتى يكون منشأ لتحير العقل ويصدق ان المولى من جهة امره أوقع المكلف في ما لايطاق ، وذلك لان الامر بالأهم حسب كونه تاما وان اقتضى حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده فيقتضي حينئذ افناء المهم أيضا ، ولكن اقتضائه لافناء المهم انما هو بالقياس إلى حده الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى بالقياس إلى بقية حدوده الاخر التي لا تضاد وجود الأهم وحينئذ فإذا لايكون الامر بالمهم حسب نقصه مقتضيا لحفظ متعلقه على الاطلاق حتى من الجهة المضافة إلى الأهم بل كان اقتضائه للحفظ مختصا بسائر الجهات والحدود الاخر غير المنافية مع الأهم في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل الأهم. وبعبارة أخرى كان قضية الامر بالمهم من قبيل متمم الوجود الراجع إلى ايجاب حفظ المهم من قبل مقدماته وسائر أضداده في ظرف انحفاظه من قبل الضد الأهم من باب الاتفاق فلا جرم يرتفع المطاردة بينهما ، حيث إن الذي يقتضيه الامر بالأهم من افناء المهم بالقياس إلى الحد المضاف عدمه إليه لايقتضي الامر بالمهم خلافه ، وما اقتضاه الامر بالمهم من ايجاب حفظ متعلقه من سائر الجهات الاخر لايقتضي الامر بالأهم افنائه من تلك الجهات فأمكن حينئذ الجمع بين الامرين في مرتبة واحدة من دون احتياج إلى الترتب المعروف ، كما هو واضح.

ص: 370

ولئن شئت فاستوضح ذلك بما إذا ألم يكن في البين الا امر واحد بشيء لكن في ظرف تحقق بعض مقدماته أو انعدام بعض أضداده من باب الاتفاق ، كما لو امر بايجاد شيء كذائي في ظرف تحقق المقدمة الكذائية ، فإنه لا شبهة حينئذ في أن ما اقتضاه مثل هذا الامر انما هو لزوم حفظ الشيء من قبل سائر المقدمات والأضداد غير تلك المقدمة الكذائية ، لا لزوم حفظه على الاطلاق ، ومن ذلك لايكاد يكون مثل هذا الامر الا أمرا بمتمم الوجود ولازمه قهرا هو خروج الواجب ببعض حدود وجوده عن حيز الالزام وصيرورته بالقياس إلى الحد المضاف إلى المقدمة الكذائية تحت الترخيص الفعلي بحيث يجوز له تفويت المأمور به من قبل تلك المقدمة كما لو أنيط وجوبه بتحقق تلك المقدمة ، وعليه نقول : بأنه كما لا منافاة بين هذا الالزام وبين الترخيص في الترك بالقياس إلى الحد المضاف إلى المقدمة الكذائية مثلا وأمكن ان يكون الشيء ببعض حدود وجوده تحت الالزام وببعض حدود وجوده تحت الترخيص كذلك لا منافاة بين هذا الالزام وبين الالزام على الترك بالقياس إلى الحد المضاف إلى ضده بتبديل الجواز هنا بالالزام فأمكن حينئذ ان يكون المهم بالقياس إلى حده الملازم مع عدم الأهم تحت الالزام بالترك ، وبالقياس إلى سائر حدود وجوده الحاصلة بقياسه إلى سائر المقدمات وعدم بقية الأضداد تحت الالزام ، بالفعل في ظرف انحفاظ وجوده من قبل عدم الأهم من باب الاتفاق ، إذ في مثل ذلك لايكاد مجال المطاردة بين الامرين في مرحلة اقتضائهما في صرف القدرة نحو متعلقه ، بل ولا المطاردة أيضا بين الإطاعتين ، بلحاظ انه في ظرف إطاعة الأهم لا موضوع لإطاعة الامر بالمهم إذ كان اطاعته خارجا رافعة لعنوان الإطاعة عن المهم لا لوجودها فارغا عن الاتصاف ، وفي ظرف إطاعة المهم كان إطاعة الامر بالأهم منطردا لمانع سابق كالشهوة مثلا لا ان إطاعة المهم كانت طاردة لإطاعة الامر بالأهم ، ومعه لا وجه لدعوى سقوط الامر عن المهم بقول مطلق في ظرف ثبوته للأهم بمحض اقتضاء الامر بالأهم افناء المهم ، بصرف القدرة نحو متعلقه ، كي نحتاج في اثبات الامر بالمهم إلى الترتب المعروف والطولية بين الامرين ، بل لنا حينئذ بمقتضى البيان المزبور اثبات الامر بالمهم في عرض ثبوت الامر بالأهم وفي رتبته.

نعم لو كان قضية الامر بالأهم حينئذ هو لزوم افناء المهم بقول مطلق حتى من قبل حدوده المضافة إلى سائر المقدمات وعدم سائر الأضداد كان اللازم هو المصير إلى سقوط

ص: 371

الامر عن المهم على الاطلاق وعدم الامر به ولو ناقصا ، ولكنه ليس كذلك قطعا لما عرفت بان القدر الذي يقتضيه الامر بالأهم من طرد المهم وافنائه انما هو طرده بالقياس إلى الحد الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى بالنظر إلى بقية الحدود المضافة إلى مقدماته وعدم سائر أضداده ، لأنه بالقياس إلى بقية حدوده الاخر لايكون مزاحما مع الأهم حتى يقتضي طرده وافنائه ، وحينئذ فإذا فرضنا خروج المهم بحده المضاف إلى عدم الأهم عن حيز التكليف بالحفظ ولايقتضي أمره الناقص الا حفظه وسد باب عدمه بالقياس إلى بقية حدوده الاخر غير المزاحمة للأهم فلا جرم لايبقى مجال المطاردة بين مقتضي الامرين كي بالجمع بينهما يصدق بأن المولى أوقع المكلف بأمره في ما لايطاق ، فصح حينئذ الالتزام بثبوت الامر بالمهم في رتبة الامر بالأهم.

لايقال بأنه كذلك إذا كان قضية الامر بالمهم هو مجرد سد باب عدمه المضاف إلى مقدماته وسائر أضداده ولو لم ينضم إلى تلك السدود السد من قبل الضد الأهم ، وليس كذلك قطعا من جهة وضوح عدم انتاج هذا المقدار لوجود المهم فان المهم لابد في تحققه ووجوده وان ينسد جميع أبواب عدمه حتى عدمه الملازم مع وجود ضده والا فبدونه لايكاد انتهاء مجرد السد من بقية الجهات إلى وجوده بوجه أصلا ، وعليه فلابد وأن يكون مقتضى الامر بالمهم على نحو يوجب وصل بقية السدود بالسد المضاف إلى الأهم كي بذلك يتحقق الوجود ، وحيث أن ذلك يلازم قهرا الحفظ من قبل الحد المضاف إلى الأهم ، فقهرا يعود محذور المطاردة بين الامرين إذ يكون قضية الامر بالمهم حسب اقتضائه لتحقق صفة الوصل المزبور هو حفظه من ناحية حده الملازم للأهم ، وقصية الامر بالأهم حينئذ هو عدم حفظه بالقياس إلى ذلك الحد بل وجوب افنائه فيقع بينهما المطاردة.

فإنه يقال نعم ان المطلوب بالمهم وان كان هو الحفظ من بقية الحدود الملازم مع الحفظ من جهة الأهم ، ولكنه بعد خروج الحفظ من تلك الجهة عن حيز أمر المهم لرجوع امره إلى الامر بمتمم الوجود الراجع إلى ايجاب الحفظ من تلك الحفظ من بقية الجهات في ظرف انحفاظه من الجهة المزبورة من باب الاتفاق فقهرا يرتفع بينهما المطاردة والمزاحمة إذ حينئذ يصير المطلوب بالمهم هو الذات الواجدة للملازمة مع عدم الأهم من باب الاتفاق ، وفي مثله أيضا ربما يكون وصف الوصل بالملزم به من قبل المهم قهري الحصول في ظرف فعلية الامر ، من جهة كونه حينئذ من اللوازم القهرية للحفظ من قبل بقية الحدود كما هو واضح

ص: 372

وعليه فلا بأس بالجمع بين الامرين في الضدين على نحو ما عرفت أمر ناقص بالمهم وأمر تام بالأهم ، حيث نقول بأن القدر الذي يقتضيه الأهم من عدم الامر بالمهم بمقتضى المطاردة انما هو عدم الامر به مطلقا على نحو يقتضي حفظ المهم على الاطلاق ومن جميع الحدود لا عدم الامر به بقول مطلق ولو ناقصا كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم الحاجة إلى التشبث بالترتب والطولية في اثبات الامر التام بالمهم بإناطة امره بعصيان الأهم ، وذلك لأنه وان كان هذا التقريب أيضا بنفسه تقريبا تاما نفيسا ويرتفع به محذور المطاردة بين الامرين بلحاظ صيرورة الامر بالمهم حسب اناطته بعصيان الأهم في رتبة متأخرة عن سقوط امر الأهم الا أنه غير محتاج إليه بعد امكان الجمع بين الامرين في مرتبة واحدة واندفاع محذور المطاردة بينهما بجعل الامر بالمهم أمرا ناقصا غير تام ، بل ولئن تدبرت ترى كون مثل هذا التقريب في طول التقريب الذي ذكرناه وعدم وصول النوبة إلى الامر التام بمقتضى الترتب الا في فرض عدم امكان تأثير مصلحة المهم في الامر الناقص في رتبة الامر بالأهم ، وذلك من جهة أنه بعد تأثير المصلحة في الامر الناقص وصيرورة امره في رتبة الامر بالأهم قهرا يلزمه كون سقوطه أيضا في رتبة سقوط الأهم ، وحينئذ فإذا سقط الأهم بالعصيان يلزمه سقوطه عن المهم أيضا ومع سقوطه لايبقى مجال للامر التام بالمهم من جهة عدم المقتضى له في هذه الرتبة ، فمن ذلك لابد اما من تأثير المصلحة في رتبة سابقة في الامر الناقص فقط أو بقائه بلا تأثير في الرتبة السابقة وتأثيره في الامر التام في رتبة متأخرة عن العصيان ، وفي مثله من المعلوم أنه عند الدوران يكون المتعين هو الأول ، فان عدم تأثير المصلحة في الامر الناقص في رتبة الأهم وبقائها إلى المرتبة المتأخرة مما لا وجه يقتضيه بعد قابلية المحل وعدم المانع عن التأثير ، بخلافه في تأثيره في الامر التام فان عدم تأثيره فيه اما في مرتبة الأهم فمن جهة المحذور العقلي واما في مرتبة عصيانه فمن جهة عدم المقتضى له مع فرض تأثيره سابقا في الامر الناقص الساقط في مرتبة سقوط الأهم ، ففي الحقيقة يكون مرجع الدوران بينهما من قبيل الدوران بين التخصيص والتخصص ، إذ كان عدم تأثير المصلحة في الامر الناقص من باب التخصيص وفى الامر التام في الرتبة المتأخرة بعد تأثيره أولا في الامر الناقص من باب التخصص ، وفي مثله من المعلوم ان المتعين هو الثاني من جهة أولوية التخصص من التخصيص.

ص: 373

الكلام في الترتب

نعم لو اغمض عن ذلك كان هذا التقريب في نفسه تقريبا نفسيا تاما في اثبات الامر التام بالمهم وفي رفع محذور المطاردة بين الامرين ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر أمور :

الأول ان النسبة الواقعة في القضايا على ما مر منا غير مرة على ضربين ، فإنه تارة تلاحظ النسبة من حيث خروجها من كتم العدم إلى الوجود وأخرى تلاحظ من حيث ثبوتها ووقوعها فارغا عن أصل ايقاعها ، فهي بالاعتبار الأول تعبر عنها بالنسبة الايقاعية وبالاعتبار الثاني بالنسبة الوقوعية ، كما أن القضية باعتبار اشتمالها على النسبة الأولى تكون من القضايا التامة الملحوظ فيها ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول أو بين المبدء والفاعل ، كقولك زيد قائم وزيد ضرب ، وباعتبار اشتمالها على النسبة بالمعنى الثاني تكون من القضايا التقييدية والمركبات الناقصة ، وحيث إن النسبة بالمعنى الأول تكون مقدمة على النسبة بالمعنى الثاني بملاحظة تفرع الثبوت والوقوع دائما على الايقاع كانت القضايا التقييدية التوصيفية باعتبار اشتمالها على النسبة الثابتة الوقوعية في رتبة متأخرة عن القضايا التامة ونتيجة لها.

الامر الثاني لا اشكال في أن مقام عروض الإرادة وتأثيرها ، انما هو مرحلة النسبة الايقاعية ، حيث إنه كان طلب الشيء بعثا نحو الشيء وارسالا للفاعل نحو المبدء بايجاده واخراجه من كتم العدم إلى الوجود لا مرحلة النسبة الثابتة الوقوعية ، لوضوح ان مثل هذه المرحلة مرحلة وجود المراد الذي هو مرحلة سقوطه فلايمكن ان يكون ذلك ظرفا لعروض طلبه وثبوته ، كيف وانه مضافا إلى كونه حينئذ من طلب الحاصل يلزمه كون طلبه في مرتبة وجود مراده ، وهو كما ترى من المستحيل ، من جهة استحالة أن يكون للشيء سعة واطلاق يشمل مرتبة وجود معلوله وبالعكس ، بل بعد أن يكون نسبة الإرادة إلى المراد نسبة العلية والمعلولية فقهرا مقتضى تخلل الفاء بينهما هو محدودية كل منهما بحد خاص غير متجاوز عن ذلك الحد ، فيكون مرتبة الإرادة في رتبة قبل الفاء والمراد في رتبة بعد الفاء ، وفي مثله لايكاد يكون اقتضاء الإرادة وتأثيرها إلا في مرتبة ذاتها التي هي رتبة قبل الفاء دون مرتبة بعد الفاء التي هي رتبة وجود المراد بل كان مثل هذه الرتبة رتبة سقوطها عن التأثير كما هو واضح.

الامر الثالث لا اشكال في أن عنوان الإطاعة انما كان منتزعا عن مرتبة وجود المراد

ص: 374

والمقتضى بالفتح المتأخر عن رتبة الامر والإرادة ، ومثله أيضا عنوان العصيان حيث إن انتزاعه أيضا انما كان عن مرتبة وجود المقتضى بالفتح لأنه نقيض للإطاعة فيكون ذلك أيضا في رتبة متأخرة عن الامر والإرادة ، ولازم ذلك كما عرفت هو عدم شمول الامر والإرادة لمرتبة اطاعته التي هي مرتبة وجود المراد ولا لمرتبة عصيانه ، من جهة تأخر رتبتيهما عن رتبته ، ومن ذلك يكون اقتضائه للتأثير دائما في مرتبة قبل العصيان ، نعم قضية تقارن العلة زمانا مع المعلول انما هو وجود الامر في زمان الإطاعة والعصيان ، ولكن مع ذلك كل في رتبة نفسه ، كما في حركة اليد وحركة المفتاح ، حيث أنهما مع تقارنهما زمانا يكون كل منهما في رتبة نفسه إحديهما قبل الفاء والأخرى بعده ، وهو واضح.

وإذ عرفت ذلك نقول : بان مقتضى إناطة امر المهم بعصيان الأهم قهرا وقوع امره حسب الإناطة المزبورة في رتبة متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم ، ومعه يرتفع لا محالة محذور المطاردة بين الامرين حيث إنه في مرتبة اقتضاء امر الأهم لا امر بالمهم حتى يزاحم مع الأهم في اقتضائه ، من جهة أن أمره انما كان في رتبة متأخرة عن العصيان الذي هو متأخر عن الامر بالأهم ، وفي مرتبة ثبوت الامر للمهم واقتضائه في التأثير لا وجود للامر ولا اقتضاء له في التأثير حيث كان مثل هذه المرتبة مرتبة سقوطه عن التأثير دون ثبوته ، وعليه فما اجتمع الأمران في مرتبة واحدة حتى يقع بينهما المطاردة والمزاحمة في مرحلة اقتضائهما في التأثير.

واما ما قيل كما في الكفاية بأن طلب المهم وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم فلا يلزم في تلك المرتبة اجتماع طلبهما الا أنه في مرتبة طلب المهم كان اجتماع لطلبهما من جهة فعلية الامر بالأهم أيضا في تلك المرتبة بملاحظة عدم سقوطه بعد ما لم يتحقق المعصية ، ومعه يتوجه محذور المطاردة والمزاحمة في تلك المرتبة ، فمدفوع بما عرفت في المقدمة الثالثة من استحالة أن يكون لكل امر اطلاق وسعة يشمل مرتبة إطاعة نفسه وعصيانه ، كيف وأنه إذا فرض انه لايكون الامر بالمهم في مرتبة الامر بالأهم لكونه في رتبة متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم فكيف يمكن ان يكون الامر بالأهم في مرتبة الامر بالمهم ، ومجرد وجود أمر الأهم وفعليته في زمان العصيان أيضا لا يقتضى وجوده وفعليته في مرتبته ، فضلا عن كونه في المرتبة المتأخرة عن العصيان التي هي رتبة الامر بالمهم ، كما عرفت نظيره في مثل حركة اليد والمفتاح ، حيث أنهما مع كونهما

ص: 375

متقارنتين زمانا متفاوتتان بحسب المرتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء في قولك وجدت فوجدت ، وعليه فلا يبقى في البين الا مجرد مقارنة الامرين زمانا واجتماعهما في زمان واحد ، ولكنه بعد اختلافهما بحسب الرتبة وكون المدار في التأثير على الرتبة لا الزمان كما في كلية العلل والمعلولات لايكاد يضر حيث اجتماع طلبهما بحسب الزمان ، إذ كان اقتضاء كل واحد من الامرين وتأثيره حينئذ في مرتبة نفسه ، فكان تأثير الامر الأهم في رتبة قبل العصيان وتأثير المهم في رتبة بعد العصيان ، فتدبر.

ثم إنه مما ذكرنا ظهر لك حال بقية الشقوق والصور من فرض كونهما موسعين أو مختلفين أيضا ، فعلى ما ذكرنا من امكان الجمع بين الامرين بالضدين إما بنحو ما ذكرنا أو بنحو الترتب لا بأس باتيان ما هو الموسع منهما بداعي أمره ، فإذا كان الموسع عبادة كان للمكلف التقرب بها باتيانها بداعي أمرها بلا احتياج في تصحيحها إلى حيث رجحانها الذاتي ، نعم لو بنينا على مسلك من يقول باستحالة الجمع بين الامر بهما ولو في رتبتين أيضا لكان المتعين حينئذ في تصحيحها هو حيث رجحانها الذاتي ، من جهة انه بمزاحمة هذا الفرد مع المضيق فقهرا بحكم العقل يخرج عن دائرة الطبيعة المأمور بها ، ومع خروجه عنها لا جرم يختص الامر أيضا بغيره من الافراد الاخر ، فلا يبقى مجال تصحيحها حينئذ باتيانها بداعي أمرها.

واما توهم أن الفرد المزاحم مع المضيق بعد كونه كالأفراد الباقية في الوفاء بالغرض وعدم كون خروجه من باب التخصيص الكاشف عن خلوه عن المصلحة والوفاء بالغرض رأسا فأمكن التقرب به باتيانه بقصد الامر بالمتعلق بالطبيعة والجامع ، فمدفوع بأن داعوية الامر في التكاليف بعد أن كانت عبارة عن كون الامر علة فاعلية للايجاد فلا جرم بخروج هذا الفرد عن دائرة الطبيعة المأمور بها يتضيق دائرة الطبيعي المأمور به بما عدا هذا الفرد ، ومعه لايكاد اقتضاء للامر المتعلق بالطبيعة بالنسبة إليه في الداعوية حتى يصح جعله داعيا ومحركا نحوه بالايجاد ، وهذا هو الذي اشتهر بينهم بأن الامر لايدعو الا إلى متعلقه من جهة أن داعوية الامر انما هي باقتضائه للايجاد فمع عدم اقتضاء فيه بالنسبة إلى هذا الفرد يستحيل داعويته نحوه كما هو واضح.

ثم إن هذا كله فيما يتعلق بالضد الخاص.

واما الضد العام بمعنى الترك فلا إشكال فيه في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عنه

ص: 376

كما تقدم ، وانما الكلام والاشكال في أنه هل هو بنحو العينية أو التضمن أو من جهة الالتزام حيث إن فيه وجوها ، وفي مثله كان المتعين هو الأخير من كونه على نحو الالتزام دون العينية والتضمن.

وذلك اما عدم كونه بنحو العينية فواضح ، فإنه لا وجه له الا توهم ان حقيقة النهى عبارة عن طلب الترك قبال الامر الذي هو عبارة عن طلب الوجود وان ترك الترك في المقام بعد أن كان عبارة أخرى عن الوجود الذي هو طارد العدم قهرا كان طلب الوجود أيضا عبارة أخرى عن النهى عن النقيض الذي هو عبارة عن طلب ترك الترك ومقتضاه حينئذ هو عينية الامر بالشيء مع النهى عن النقيض بحسب المنشأ وان لم يكن كذلك بحسب المفهوم ، ولكنه فاسد جدا ، وذلك لما سيجيء من أن حقيقة النهى عن الشيء ليس الا عبارة عن الزجر عن الوجود في قبال الامر الذي هو الارسال والبعث نحو الوجود لا أنه عبارة عن طلب الترك كي يلزمه اشتراكه مع الامر في جزء المدلول وهو الطلب فيلزمه عينيتهما في المقام بحسب المنشأ ، وعليه فمن الواضح المغايرة التامة بين مدلوليهما علاوة عما كان بين مفهوميهما من المغايرة ، كما هو واضح.

واما عدم كونه بنحو التضمن والجزئية فظاهر أيضا ، من جهة ابتناء القول بالجزئية على تركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن الترك ، والا فعلى التحقيق من بساطة حقيقة الوجوب وعدم تركبه لايبقى مجال دعوى كون الاقتضاء المزبور من جهة التضمن.

وحينئذ يتعين الامر بكونه على نحو الالتزام ، نظراً إلى ما هو الواضح من الملازمة التامة بين إرادة الشيء وكراهة تركه بحسب الارتكاز بحيث لو التفت إلى الترك ليبغضه ويمنع عنه ، نعم لا بأس بدعوى العينية بينهما بحسب الانشاء بلحاظ كونه مبرزا عن مبغوضية الترك كابرازه عن محبوبية الوجود ومطلوبيته فتدبر.

ص: 377

المبحث السادس

قد اختلفوا في جواز امر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه وعدم جوازه على قولين ، وقد نسب القول بالجواز إلى الأشاعرة ، ولكن الظاهر أن المراد من الشرط المنتفى انما هو شرط وجود المأمور به لا شرط نفس الامر ، لان ذلك مما لا مجال للنزاع فيه ، إذ لاينبغي الاشكال في عدم جوازه حتى من الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، نظراً إلى رجوعه حينئذ إلى البحث عن جواز تحقق المعلول بدون علته التامة ، وهو كما ترى لا يتوهمه من له أدنى شعور ، هذا إذا أريد من الانتفاء الانتفاء بقول مطلق ، واما لو أريد انتفاء شرط بعض مراتب الامر فهو أيضا مما لاينبغي الاشكال في جوازه ، فإنه إذا كان للامر مراتب من حيث الانشاء والفعلية والتنجز أمكن لا محالة الامر به بمرتبة انشائه مع انتفاء شرطه بالنسبة إلى مرتبة فعليته أو مرتبة تنجزه أو الامر به بمرتبة فعليته مع انتفاء شرط مرتبة تنجزه ، إذ لا محذور عقلايترتب عليه كي يصار لأجله إلى عدم جوازه وامتناعه ، كيف وان الدليل على امكانه حينئذ هو وقوعه في العرفيات والشرعيات كما في موارد الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع ، بل ولعل كثيرا من الاحكام بعد واقفة على مرتبة انشائها ولم تصل إلى مرتبة فعليتها إلى أن يقوم الحجة عجل اللّه تعالى فرجه كما لعله من ذلك أيضا قوله علیه السلام : « ان اللّه سبحانه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا الخ » وحينئذ فيتعين إرادة انتفاء شرط وجود المأمور به ، وعليه أيضا ينبغي تخصيص مورد النزاع بالانتفاء الموجب لسلب قدرة المأمور على الامتثال واتيانه واجدا لشرطه لا مطلق الانتفاء ولو المستند إلى اختيار المكلف مع تمكنه من تحصيله ، فان ذلك أيضا مما لا

ص: 378

مجال للنزاع فيه ، إذ لا اشكال في جواز ذلك كما في تكليف الجنب بالصلاة عند دخول الوقت مع تمكنه من تحصيل الطهارة ، ومن ذلك كان الواجب عليه حينئذ تحصيل شرطها الذي هي الطهارة ، فإنه لولا وجوب الصلاة عليه لما كان الواجب عليه تحصيل الطهارة ، وهو واضح بعد وضوح كون وجوب الطهارة عليه وجوبا غيريا ترشحيا من وجوب ذيها.

وعليه فيرجع هذا النزاع إلى النزاع المعروف بين الأشاعرة وغيرهم من جواز تعلق التكليف بالمحال وعدم جوازه من جهة رجوع التكليف بالمشروط حينئذ مع انتفاء شرط المأمور به وعدم تمكن المكلف من تحصيله إلى التكليف بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، فيندرج حينئذ في ذلك النزاع الذي أثبته الأشاعرة حسب زعمهم الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم على اللّه سبحانه تكليف عباده بما لا يقدرون عليه. وربما يبتني ذلك أيضا على النزاع المتقدم في مسألة وحدة الطلب والإرادة وتغايرهما ، بجعل الطلب عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال مع كونه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، كما هو ظاهر استدلالهم بالمغايرة ، إذ حينئذ على القول بالاتحاد كما هو التحقيق يكون عدم جوازه من جهة كون التكليف بنفسه محالا لا من جهة انه تكليف بالمحال ، نظراً إلى وضوح استحالة تعلق الإرادة الفعلية بالممتنع ، بخلافه على القول بالمغايرة فان المحذور فيه انما هو من حيث كونه تكليفا بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، وفي مثله نقول بأنه على القول بالمغايرة وتسليم هذا المبنى الفاسد لا باس بالقول بالجواز في المقام ، ولكن الذي يسهل الخطب هو فساد أصل المبني لما عرفت في محله من اتحاد حقيقة الطلب والإرادة وانه لايتصور معنى آخر يكون هو الطلب في قبال الإرادة بحيث كان موضوعا للحكم بوجوب الامتثال وكان قابلا أيضا للتعلق بالمحال ، وعليه فكان التحقيق في المقام هو عدم جوازه من جهة ما عرفت من كون مثل هذا التكليف بنفسه محالا ، كما هو واضح.

* * *

ص: 379

المبحث السابع : ( في أنه هل الامر والطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي )

وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان ما هو مركز التشاجر والكلام بتمهيد مقدمتين : فنقول :

المقدمة الأولى : لا اشكال في أنه على كلا القولين في المسألة لابد عند طلب شيء والامر به من لحاظ موضوع الطلب وتصوره واحضاره في الذهن ، كي بذلك يتمكن من طلبه والبعث إليه والا فبدونه يستحيل تحقق الطلب والبعث إليه وهو واضح.

الثانية : ان من المعلوم ان لحاظ الطبيعة يتصور على وجوه : منها لحاظها بما هي في الذهن ومحلاة بالوجود الذهني ، ومنها لحاظها بما هي شيء في حد ذاتها ، ومنها لحاظها بما هي خارجية بحيث لايلتفت إلى مغايرتها واثنينيتها مع الخارج ولا يرى في هذا اللحاظ التصوري الا كونها عين الخارج ومتحدة معه بحيث لو سئل بأنه أي شيء ترى في هذا اللحاظ يقول بأنه ما أرى الا الخارج وان كان بالنظر التصديقي يقطع بخلافه فيرى كونها غير موجودة في الخارج.

وفي ذلك نقول : بان من الواضح أيضا انه ليس المقصود من تعلق الامر بالطبيعي عند القائل به هو الطبيعي بما هو موجود في الذهن من جهة وضوح انه بهذا الاعتبار مع كونه كليا عقليا غير قابل للصدق على الخارج لايكون مما تقوم به المصلحة حتى يتعلق به الامر والطلب ، فلا يتوهم أحد حينئذ تعلق الطلب والامر به بهذا الاعتبار كما لايخفى ، كوضوح عدم كون المقصود أيضا هو الطبيعي بالاعتبار الثاني من جهة وضوح ان الطبيعة بهذا الاعتبار ليست الا هي فلا تكون هي أيضا مركب المصلحة حتى يتعلق بها الامر والطلب ، بل وانما المقصود من ذلك عند القائل به هو الطبيعي بالاعتبار الثالث الذي يرى كونها عين الخارج.

وعليه فمركز النزاع بين الفريقين في أن معروض الطلب وموضوعه هو الطبيعة أو الوجود انما هو في الطبيعي بالاعتبار الثالث فالقائل بالطبيعي يدعي تعلق الطلب والامر بنفس الطبيعي والعناوين بما هي ملحوظة كونها خارجية لا بمنشأ انتزاعها وهو الوجود

ص: 380

لا بدوا ولا بالسراية ، والقائل بالوجود يدعي عدم تعلقه الا بالمعنون الخارجي الذي هو منشأ انتزاع العناوين والصور الذهنية.

وإذ عرفت ذلك نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو الأول من تعلق الامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة إلى الخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما كان ذلك هو الشأن في سائر الكيفيات النفسية من المحبة والاشتياق بل العلم والظن ونحوها أيضا ، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركب الذي يعتقد بوجود شيء بالقطع المخالف للواقع فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحققه في الخارج ، إذ نقول بأنه لولا ما ذكرنا من تعلق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة خارجية يلزم خلو الصفات المزبورة عن المتعلق في مثل الفرض المزبور ، فإنه بعد مخالفة قطعه للواقع لايكون في البين شيء تعلق به تلك الصفات ، مع أن ذلك كما ترى من المستحيل جدا ، لوضوح أن هذه الصفات من العلم والظن والمحبة والاشتياق والإرادة كما كان لها إضافة إلى النفس من حيث قيامها بها كذلك لها إضافة أيضا إلى متعلقاتها بحيث يستحيل تحققها بدونها ، بل وقد يقطع الانسان ويذعن بعدم تحقق شيء كذائي في الخارج إلى الأبد ومع ذلك يشتاق إليه غاية الاشتياق ويتمنى وجوده كقولك « يا ليت الشباب لنا يعود » فان ذلك كله كاشف تام عن تعلق تلك الصفات المزبورة بنفس العناوين والصور الذهنية لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي وهو الوجود ، غايته بما هي ملحوظة بحسب النظر التصوري عين الخارج لا بما انما شيء في حيال ذاتها بحيث يلتفت عند لحاظها إلى مغايرتها مع الخارج ، ولئن شئت فاستوضح ما ذكرنا بالرجوع إلى الأكاذيب المتعارفة بين الناس في ألسنتهم ليلا ونهارا فإنه لا شبهة في أن الذي يخبر كذبا بثبوت القيام لزيد في قوله زيد قائم مثلا لا يلاحظ ولا يري من زيد والقيام والنسبة بينهما في لحاظه ونظره الأزيد أو القيام الخارجيين والنسبة الخارجية بينهما ، لا المفهوم منها بما انه شيء في قبال الخارج ، ولا الوجود الحقيقي الخارجي ، لأنه حسب اذعانه وتصديقه مما يقطع بخلافه والا يخرج اخباره بقيامه عن كونه كذبا كما هو واضح.

وعلى ذلك فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية ، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه ، لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي لا بدوا ولا

ص: 381

بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، كيف وان الخارج بعد كونه ظرفا لسقوط الإرادة والطلب يستحيل كونه ظرفا لثبوتها ، فيستحيل حينئذ تعلق الإرادة والطلب بالمعنون الخارجي ولو بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، من جهة رجوعه حينئذ إلى طلب الحاصل المحال كما هو واضح. وارجاعه كما في الكفاية إلى إرادة صدور الوجود من المكلف وجعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته لا إلى طلب ما هو صادر وثابت في الخارج حتى يكون من طلب الحاصل المحال ، كما ترى ، فإنه بعد أن كان الايجاد وجعل الشيء بسيطا معلولا للطلب وفي رتبة متأخرة عنه بنحو يتخلل بينهما الفاء الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة كقولك أردت ايجاد الشيء فأوجدته يستحيل وقوعه موضوعا للطلب ومتعلقا له.

فعلى ذلك لايبقى مجال جعل المتعلق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الايجاد وإفاضته بمعنى جعله بسيطا كما في الكفاية والفصول من اشراب الوجود في مدلول الهيئة مع جعلهم المادة عبارة عن نفس الطبيعة من حيث هي ، وذلك لما عرفت ما فيه من امتناع تعلق الطلب بالخارج وبالوجود ولو بمعنى جعله بسيطا لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، خصوصا مع ما يلزمه من لزوم تجريد الهيئة عن الوجود في نحو قوله أوجد الصلاة نظراً إلى ما هو الواضح من عدم انسباق الوجود في المثال مرتين في الذهن تارة من جهة المادة وأخرى من جهة الهيئة ، والالتزام فيه بالمجاز أيضا كما ترى.

ولعمري ان عمدة ما دعاهم إلى مثل هذا الالتزام انما هو لحاظهم الطبيعي بما أنه شيء في حيال ذاته وفى الخارج وعدم تصورهم إياه مرآة إلى الخارج بنحو ما ذكرنا ، فمن ذلك أشكل عليهم بان الطبيعة من حيث هي ليست الا هي فلايمكن ان يتعلق بها الامر والطلب ولأن الطلب انما يتعلق بما يقوم به الأثر والمصلحة والأثر والمصلحة بعد أن لم تكن قائمة الا بالوجود والماهية الخارجية لايتعلق الطلب أيضا الا بالوجود والماهية الخارجية فالتجأوا من هذه الجهة إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة وجعلوه متعلقا للطلب فرارا عن الاشكال المزبور ، والا فعلى ما ذكرنا من الاعتبار الثالث للطبيعة وهو لحاظها خارجية لايكاد مجال لهذا الاشكال حتى يحتاج في التفصي عنه إلى اشراب الوجود في الهيئة ، إذ عليه نقول بأن المصلحة حسب كونها من الاعراض الخارجية وان لم تكن قائمة الا بالخارج الا ان الطبيعي بهذا الاعتبار بعد ما لم يكن مغايرا مع الخارج بل

ص: 382

كان بينهما الاتحاد والعينية بالاعتبار المزبور يلزمه قهرا صيرورة كل من الخارج والصور الذهنية متلونا بلون الآخر في مرحلة الاتصاف ، فمن ذلك تتصف الصور الذهنية بلحاظ الاتحاد المزبور بكونها ذات مصلحة ، كاتصاف الخارج أيضا بالمرادية والمطلوبية ، نظير باب الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من حيث سراية صفات كل منهما إلى الآخر لأجل ما كان بينهما من الاتحاد ، ففي الحقيقة كان هذا الاتحاد موجبا لنحو توسعة في دائرة النسبة في مقام الاتصاف في صدق المطلوبية والمرادية على الخارج وصدق ذي الأثر والمصلحة على الصور الذهنية ، والا ففي مرحلة العروض لايكون المعروض للطلب الا العناوين والصور الذهنية كما أنه في طرف المصلحة أيضا لايكون المعروض لها الا الوجود والماهية الخارجية.

بل وعلى هذا البيان أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالوجود إلى الطبيعة بالاعتبار الثالث الملحوظة خارجية في قبال الاعتبار الثاني لها وهو لحاظها بما هي شيء في حيال ذاتها ، إذ على هذا الاعتبار لما كان لايرى من الطبيعة في ذلك اللحاظ الا الوجود ولا يرى بينهما المغايرة صح ان يقال بان الامر متعلق بالوجود لا بالمهية من حيث هي بإرادة هذا الوجود الزعمي التخيلي لا الوجود الخارجي ولو بجعله بسيطا ، فيتحد القولان من جهة رجوعهما حينئذ إلى امر واحد ولكن ذلك أيضا بالنسبة إلى كلمات السابقين الذين لم يتعرضوا لتفصيل المسألة وأو كلوها إلى ما هو المرتكز في الأذهان ، والا ففي كلمات المتأخرين المتعرضين لتفصيل المسألة كصاحب الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) على ما عرفت من مصيرهم إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة في الأوامر لا يجري هذا التوجيه ، ولكن قد عرفت أيضا سخافة أصل المبني في نفسه وعدم امكان المصير إلى تعلق الطلب بالوجود الخارجي الذي هو نتيجة الطلب ولو بمعنى جعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته على حسب ما تقدم بيانه مفصلا.

نعم لو كان المقصود من الوجود الذي جعلوه متعلقا للطلب في الأوامر هو مفهوم الوجود مرآة إلى الخارج على نحو ما قلناه في الطبيعي لا مصداقه وحقيقته الخارجية لكان يسلم عن هذه الاشكال ، إذ لايترتب عليه حينئذ محذور طلب الحاصل ولا محذور تعلق الطلب والامر بأمر متأخر عنه رتبة ، ولكن نقول بأنه مع بعد ذلك في نفسه لا داعي

ص: 383

حينئذ إلى مثل هذا الالتزام بل من الأول يصار إلى أن المتعلق هو الطبيعي غايته بما هو مرآة إلى الخارج ، كيف وانه ليس في البين ما يقتضي المصير إلى الالتزام المزبور لا من طرف المادة ، كما هو واضح ، ولا من طرف الهيئة أيضا لأنها على ما تقرر في محله لاتدل الا على نسبة ارسالية بين المبدء والفاعل أو طلب ما تدل عليه المادة فأين حينئذ مفهوم الوجود وأين الدال عليه؟ خصوصا مع ما يرد عليه من لزوم تكرر الوجود وانسباقه مرتين في الذهن في مثل قوله أوجد الصلاة تارة من جهة المادة وأخرى من ناحية الهيئة ، مع أنه كما ترى! والالتزام في مثل ذلك بالتجريد أوهن ، لوضوح انه لايكاد يرى فرق في مدلول الهيئة بين قوله صل وبين قوله أوجد الصلاة ، على أنه كثيرا ما يكون العنوان المأخوذ في حيز الطلب من العناوين العرفية الانتزاعية كما في المثال من قوله أوجد الصلاة وقوله أعدم الطبيعة ونحو ذلك مما لايمكن فيها اشراب حيث الوجود من الهيئة ، كما هو واضح.

وعليه فلا محيص من الغاء الوجود عن البين بالمرة والمصير إلى أن المتعلق للطلب والامر هي نفس العناوين والصور الذهنية بما انها ملحوظة خارجية دون المعنونات الخارجية ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوان من العناوين الانتزاعية أو من الطبايع المتأصلة كالصلاة والصوم ونحوهما.

ومن ذلك نقول أيضا بأن حق تحرير عنوان البحث هو تحريره بأنه إذا تعلق الامر بعنوان هل يسري منه إلى منشأ انتزاعه الذي هو المعنون الخارجي أو انه يقف الطلب والامر على نفس العنوان ولا يتعدى عنه إلى المعنون الخارجي ، لا تحريره بما هو الشايع بان الطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي من جهة ما عرفت بأنه كثيرا ما يكون المتعلق من العناوين الانتزاعية التي لايمكن فيها اشراب الوجود في الهيئة كما في الطبايع المتأصلة ، كما هو واضح.

المبحث الثامن

في أنه إذا تعلق الامر بعنوان فهل يسري إلى افراده ومصاديقه على نحو يكون الافراد بما لها من الحدود الفردية والخصوصيات الشخصية تحت الطلب والامر أم لا وعلى الثاني من عدم سرايته إلى الخصوصيات الفردية فهل يسرى إلى الحصص المقارنة لخواص

ص: 384

الافراد كما في الطبيعة السارية أم لا بل الطلب والامر يقف على نفس الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص؟

وتوضيح المرام هو أنه لا اشكال في أن الطبيعي إذا كان له افراد يكون كل فرد منه مشتملا على مرتبة من الطبيعي غير المرتبة التي يشتمل عليها الفرد الآخر ومن ذلك يتصور للطبيعي مراتب عديدة حسب تعدد الافراد مغايرة كل مرتبة منه باعتبار محدوديتها بالحدودات الفردية مع المرتبة الأخرى ، كما في الانسان حيث أنه كان الانسانية الموجودة في ضمن زيد بملاحظة محدوديتها وتقارنها لخواصه غير الانسانية الموجودة في ضمن عمرو المقارنة لخواصه ، فهما حصتان ومرتبتان من الانسانية انسانية قارنت خواص زيد وانسانية قارنت خواص عمرو ، وهكذا ، من غير أن ينافي ذلك أيضا اتحاد تلك الحصص بحسب الذات والحقيقة وكون الجميع تحت جنس واحد وفصل فارد من حيث صدق حيوان ناطق على الجميع وعلى كل واحدة من الحصص من الحصص كما لايخفى ، ومن ذلك أيضا قيل واشتهر بأن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء مع الأولاد ، لا كنسبة الأب الواحد مع الأولاد وان مع كل فرد أبا من الطبيعي غير ما يكون مع الابن الآخر مع اتحاد تلك الآباء على اختلافها وتباينها بحسب المرتبة بحسب الحقيقة والذات واندراج الجميع تحت جنس واحد وفصل وبهذه الجهة أيضا ترى اشتمال هذه الحصص كل واحدة منها على جهات وحيثيات شتى ينتزع بها منها عناوين مقوماتها العالية كالجوهرية والجسمية والنامية والحساسية والحيوانية ، كما في زيد الذي هو فرد الانسان حيث يشتمل على جميع حدود مقوماته العالية من الجوهرية والجسمية إلى أن يبلغ إلى جهة الانسانية التي هي جهة مشتركة بينه وبين عمرو وخالد مع زيادة جهة أخرى فيه التي بها امتيازه عن عمرو وخالد ، وكذلك الانسان بالنسبة إلى الحيوان والجسم النامي والمطلق والجوهر ، وهكذا كل سافل بالنسبة إلى عالية فأنه لابد من اشتماله على جميع مقوماته العالية مع زيادة جهة فيه بها امتياز عن سائر الحصص المشاركة معه في جنسه وفصله القريبين ، وهو معنى قولهم بان كل ما هو مقوم للسافل أيضا ولا عكس ، وعليه أيضا اعتبارهم في التعريف الحقيقي للشيء بلزوم الاخذ بجميع مقوماته من الداني والعالي والاعلى.

وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى المقصود من سراية الامر من الطبيعي الملحوظ فيه صرف

ص: 385

الوجود إلى أفراده ومصاديقه وعدم سرايته ، وفي ذلك نقول بان التحقيق في المقام هو القول الثاني من وقوف الطلب على نفس الطبيعي وعدم سرايته لا إلى الخصوصيات الفردية ولا إلى الحصص الموجودة في ضمن الافراد المقارنة لخواصها ، إذ نقول بأنه يكفي في الدليل لذلك الوجدان عند طلب شيء والامر به كما في طلبك الماء للشرب ، فإنه قاض بداهة بأنه لايكون المطلوب الا صرف الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص من دون مدخلية في ذلك للحصص ، فضلا عن الخصوصيات الفردية كماء الكوز والجرة والحب ونحو ذلك ، ولذلك لو عرض عليك تلك الحصص وهذه الخصوصيات لكنت تنفى الجميع وتقول بأن المطلوب انما كان صرف الطبيعي والقدر المشترك دون الحصص ودون خصوصيات الافراد ، كيف وأن الطلب حسب معلوليته للمصلحة لايتعلق الا بما تقوم به المصلحة فمع قيام بصرف الطبيعي والجامع وعدم سرايتها إلى الحدود الفردية ولا إلى الحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى الحدود الفردية أو الحصص المقارنة لخواصها ، على أن لازم ذلك هو صيرورة كل واحد من الافراد والحصص واجبا تعيينيا لكونه مقتضي سراية الطلب إليها ، وهو كما ترى ، لايظن توهمه من أحد وحينئذ فيكون ذلك كله برهانا تاما على وقوف الطلب حسب تبعيته للمصلحة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية فضلا عن سرايته إلى الحدود الفردية ، كما هو واضح.

ثم إن ما ذكر من عدم سراية الطلب إلى الحصص وخروجها عن دائرة المطلوبية انما هو خروجها بالقياس إلى الحيثية التي بها امتياز هذه الحصص الفردية بعضها عن البعض الاخر المشارك معها في الجنس والفصل القريبين ، واما بالنسبة إلى الحيثية الأخرى التي بها اشتراك هذه الحصص وامتيازها عن افراد النوع الآخر المشاركة معها في جنسها القريب ، وهي الحثيثة التي بها قوام نوعيتها ، فلا بأس بدعوى السراية إليها ، بل ولعله لا محيص عنه ، من جهة ان الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقومها العالي ليست الأعين الطبيعي والقدر المشترك ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبية كما لايخفى ، فعلى ذلك تكون الحصص المزبورة كل واحدة منها بالقياس إلى بعض حدودها وهي حدودها الطبيعية تحت الطلب والامر وبالقياس إلى حدودها الخاصة تحت الترخيص وخارجة عن دائرة المطلوبية ، لا أنها على الاطلاق تحت الطلب والامر كما في

ص: 386

الطبيعة السارية ولا خارجة كذلك عن دائرة الطلب ونتيجة ذلك هو رجوع التخيير بين الحصص والافراد أيضا إلى التخيير الشرعي لا العقلي كما قيل ، إذ بعد أن لم تكن قضية عدم السراية على ما بيناه الا خروج الحصص عن دائرة الطلب بالقياس إلى حدودها الخاصة والجهة التي بها امتياز بعض هذه الحصص عن البعض الاخر المشارك معها في جنسها وفصلها القريبين ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها ، بل كانت الحصص بالقياس إلى هذه الجهة تحت الطلب والامر ، فقهرا يلزمه صيرورتها موردا للوجوب التخييري ، حيث أنه كانت الحصص حينئذ ببعض حدودها تحت الالزام الشرعي وببعض حدودها الأخرى تحت الترخيص ، ومرجع ذلك على ما بيناه مرارا إلى وجوب كل واحدة منها بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك في حال ترك البقية ، مع كون الترك في حال الوجود تحت الترخيص ، ومقتضاه هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد منها والعصيان بترك الجميع.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للالتزام بخروج الافراد عن تحت الالزام الشرعي والمصير فيها إلى التخيير العقلي كما في الكفاية وغيرها ، بل لابد من ارجاع التخيير فيها إلى التخيير الشرعي ، نعم لو قلنا بوقوف الطلب في تلك الواجبات على نفس الطبيعي وصرف الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها لاتجه القول فيها بالتخيير العقلي إذ لايبقى مجال حينئذ لدعوى وجوب الحصص والافراد بالوجوب الشرعي ، ولكن عمدة الكلام فيه حينئذ في أصل المبني ، والوجه فيه هو ما عرفت من أن الحصص من حيث حدودها الطبيعية لا تكون الا عين الطبيعي والقدر المشترك بينها ، غايته انها كانت محفوظة في ضمن الافراد نظير ما تصورناه في مبحث الوضع من القسم الآخر في تصور عموم الوضع والموضوع له ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن حيز الطلب ، كما لايخفى.

واما ما قيل بأن الطلب بعد تعلقه بالعناوين والصور الذهنية لا بالمعنونات الخارجية يستحيل سرايته إلى الحصص الفردية من جهة ان الحصص بصورها الذهنية حينئذ مبائنة مع الطبيعي ولو كانتا ملحوظتين خارجيتين فهما حينئذ صورتان متباينتان في الذهن ومع تباينهما يستحيل سراية الطلب من إحديهما إلى الأخرى ، فمدفوع بأنه كذلك

ص: 387

إذا لايكون الطبيعي مأخوذا لا بشرط والا فقضيته بعد لحاظهما خارجيتين واتحادهما خارجا بحسب المعنون والمنشأ كانت هي السراية لا محالة.

كاندفاع ما قيل أيضا بان صرف الطبيعي بعد ما كان انطباقه على خصوص أول وجود فلا جرم في ظرف الانطباق لا مجال لدعوى السراية بلحاظ كونه ظرف سقوط الطلب لا ثبوته ، واما في طرف قبل الانطباق فكذلك أيضا من جهة انه حينئذ كما يكون قابلا للانطباق على أول وجود كذلك يكون قابلا أيضا للانطباق على ثاني الوجود وثالثه ، وفي مثله لا مجال لدعوى السراية إلى واحد منهما. وجه الاندفاع : هو انا نفرض الكلام في ظرف قبل الانطباق ونقول بان كل واحد من هذه الافراد إذا فرضناه غير مسبوق في وجوده بفرد آخر فقهرا ينطبق عليه أول وجود وفي مثله يسرى إليه الطلب من جهة انطباق الطبيعي عليه حينئذ من دون احتياج في سراية الطلب إلى الانطباق الفعلي عليه في الخارج حتى يتوجه المحذور المزبور ، وعليه لايبقى مجال التشكيك في سراية الطلب إلى الحصص من حيث حدودها الطبيعية بمثل هذه البيانات ، كما هو واضح.

واما الانتقاض حينئذ بمورد العلم الاجمالي من حيث وقوف العلم مع كونه أيضا من صفات النفس كالإرادة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الخصوصيات ، بشهادة الشك التفصيلي الوجداني بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ، فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك عدم سرايته إلى الطرفين بخصوصيتهما فهو مسلم ولكنه غير ضائر بما نحن بصدده ، إذ نحن أيضا نسلم ونقول بخروج الحصص الفردية بحدودها الخاصة التي بها امتياز بعض تلك الحصص عن البعض الآخر ، فلايتوجه حينئذ الانتقاض المزبور ، وان أريد بذلك عدم سراية العلم إلى الطرفين على الاطلاق حتى بحدودهما الجامعي فهو ممنوع جدا ، بل نقول فيه أيضا بالسراية إلى الطرفين لكن بحدودهما الجامعي على نحو ما عرفت في الطبيعي وافراده ، فتأمل.

وعلى ذلك فالطلب المتعلق بالطبيعة ان لو حظ بالقياس إلى نفس الطبيعة اللابشرطية التي هي القدر المشترك بين الحصص يكون طلبا تعيينيا ، وان لو حظ بالقياس إلى الحصص المقارنة مع الخصوصيات يكون طلبا تخييريا ومرجعه على ما عرفت إلى تعلق طلب ناقص بكل واحدة من الحصص الفردية بنحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك من ناحية حدودها الطبيعية التي بها اشتراك هذه الحصص بعضها مع

ص: 388

بعض آخر ، وحيث إن الترك من هذه الجهة ملازم مع ترك بقية الحصص صح ان يقال بان ترك كل واحدة من الحصص في ظرف ترك البقية كان تحت المنع وفي ظرف وجود حصة منها كان تحت الترخيص ، ونتيجته على ما عرفت هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد وتحقق العصيان بترك جميع الافراد.

بل وعلى ما ذكرنا أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالسراية إلى الحصص إلى السراية إليها بحدودها المقومة لنوعها ، لا مطلقا حتى بحدودها الخاصة التي بها امتياز حصة عن أخرى ، وارجاع القول بعدم السراية أيضا عدم السراية إلى الحصص لكن بحدودها الخاصة ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها المقومة لنوعها إذ عليه يتوافق القولان ويرتفع النزاع من البين ، كما هو واضح ، فتأمل.

المبحث التاسع : في أنه إذا نسخ الوجوب يبقى الجوازم لا

والظاهر أن المراد بالجواز المتنازع فيه هو خصوص الجواز الاقتضائي الذي هو في ضمن الوجوب والاستحباب والإباحة لا الأعم منه والجواز اللا اقتضائي الناشي من عدم المقتضي للشيء فعلا أم تركا ، من جهة وضوح أن مثل هذا المعنى من الجواز بعد ورود الدليل على وجوبه مما يقطع بارتفاعه فلا معنى حينئذ للنزاع في بقائه بعد نسخ الوجوب ، كما هو واضح ، وإذ عرفت ذلك نقول بأن الكلام في المقام في بقاء الجواز وعدمه يقع تارة في أصل امكان بقائه ثبوتا ، وأخرى فيما يقتضيه الأدلة اثباتا فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فلاينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بين ارتفاع الوجوب وبين ارتفاع جوازه ، وذلك من جهة انه بعد أن كان له مراتب عديدة من حيث أصل الجواز والرجحان الفعلي وحيث الالزام والمنع عن النقيض فلا جرم أمكن ان يكون المرتفع لأجل دليل النسخ هو خصوص جهة الزامه ومنعه عن النقيض مع بقاء رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض على حاله ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة رجحانه الفعلي أيضا مع بقائه على الجواز بمعنى تساوي فعله وتركه ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة جوازه أيضا ، وحينئذ فأمكن ثبوتا بقاء كل واحد من هذه المراتب بعد ارتفاع الوجوب بدليل النسخ من

ص: 389

غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا ، وعلى هذا البيان أيضا لايحتاج في اثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على قيام الفصل الاستحبابي مقامه ، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة التي إذا زالت مرتبة منها باجراء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص ، وعليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا ، كما لايخفى.

وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو بخصوص مرتبة الزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض؟

وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو رفع خصوص جهة الزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه باستحبابه ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبه فكما انه هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك يثبت استحبابه ، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.

ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل هذا الجمع بل لابد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وان كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفى المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم بمقتضي نظره وحكومته هذه لايبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره بل في مثله لابد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وان كان ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره ، وعليه أيضا لايبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان المزبور بل لابد حينئذ من التماس دليل آخر في البين ، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو

ص: 390

العمدة أيضا في عدم ملاحظتهم لقاعدة الجمع المزبور في المقام مع بنائهم على أعمالها كثيرا في الفقه بنحو صار من الجموع المتعارفة ، هذا.

اللّهم الا ان يقال بمزاحمة المحكوم في المقام مع أصل حكومة دليل الناسخ ومقدار نظره حيث يصرفه إلى خصوص جهة الالزام وحيث المنع عن الترك وفي مثله لا يتأتى ما ذكر من لزوم تقديم دليل الحاكم ولو كان أضعف ظهورا ، من جهة ان ذلك انما هو في ظرف ثبوت أصل حكومته وقوة نظره ، بل لابد حينئذ من لحاظ التعارض بينهما وحينئذ إذا فرضنا اقوائية دليل المنسوخ في مطلق الرجحان من ظهور دليل الناسخ في النظر إلى جميع المراتب فلا جرم توجب مثل هذه الأقوائية لصرف دليل الناسخ إلى خصوص مرتبة الالزام وجهة المنع عن النقيض.

وحينئذ فلئن خودش في ذلك فلابد من الخدشة في أصل المطلب بدعوى قوة ظهور دليل الناسخ في نظره إلى رفع جميع مراتب الحكم ، كما لعله ليس ببعيد أيضا لظهوره في رفعه لأصل الحكم الثابت بدليل المنسوخ بما له من المراتب ، وعليه لايبقى مجال للاخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق الرجحان لاثبات الاستحباب ، نعم لو فرضنا اجمال دليل الناسخ في نفسه وتردده بين رفع خصوص جهة الزامه أو رفعه حتى بمرتبة رجحانه وجوازه ففي مثله لا بأس بدعوى الرجوع إلى دليل المنسوخ لاثبات مطلق الرجحان لولا دعوى سراية اجماله إليه أيضا ، فتدبر.

واما الاستصحاب فيبتنى جريانه على أن يكون المشكوك عرفا من مراتب ما هو المتيقن سابقا بحيث على تقدير بقائه يعد كونه عرفا بقاء لما علم بتحققه سابقا لا كونه أمرا مبائنا معه وحادثا غيره ، والا فلا مجال لجريان الاستصحاب أيضا من جهة عدم اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا ، فتدبر.

المبحث العاشر

إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير فالمرجع فيه كما عرفت إلى وجوب كل واحد منها لكن بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون هناك غرض

ص: 391

واحد يقوم به كل واحد منهما ولو بملاحظة ما هو القدر الجامع بينهما أو اغراض متعددة بحيث كان كل واحد منهما تحت غرض مستقل وتكليف مستقل وكان التخيير بينهما من جهة عدم امكان الجمع بين الغرضين اما من جهة التضاد بين متعلقيهما كما في المتزاحمين ، أو من جهة التضاد بين نفس الغرضين في عالم الوجود بحيث مع استيفاء أحد الغرضين في الخارج لايبقى مجال لاستيفاء الآخر ، أو في مرحلة أصل الاتصاف بحيث مع تحقق واحد الوجودات واتصافه بالمصلحة لاتتصف البقية بالغرض والمصلحة ، حيث أن مرجع الجميع إلى تعلق وجوب ناقص بكل واحد من الوجودات بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، لاتعلق الوجوب التام بكل واحد منها مشروطا بعدم الآخر ، ولا وجوب أحد الوجودات لا بعينه ، أو أحدها المعين عند اللّه

نعم غاية ما هناك من الفرق بين الصور المزبورة انما هو من جهة وحدة العقوبة وتعددها عند ترك الجميع ، حيث إنه في بعضها كالصورة الأولى والأخيرة لايترتب على ترك الجميع الا عقوبة واحدة ، وفي بعضها الآخر كالصورة الثانية والثالثة تترتب عقوبات متعددة حسب وحدة الغرض وتعدده.

لايقال بأنه مع المضادة المزبورة لايكاد يستند إلى المكلف عند تركه للجميع الأفوت أحد الاغراض ، من جهة فوات البقية عليه على كل تقدير ، ومعه كيف يمكن استحقاقه للعقوبات المتعددة ، وبعبارة أخرى ان استحقاق العقوبة لابد وأن يكون على ما هو تحت قدرة المكلف واختياره فإذا لم يكن للمكلف حينئذ بمقتضي المضادة المزبورة بين المتعلقين أو الغرضين في عالم الوجود الا القدرة على تحصيل أحد الغرضين لا جرم لايترتب على تركه للجميع أيضا الا عقوبة واحدة

فإنه يقال نعم وان كان لا قدرة للمكلف على الجمع بين الغرضين ولكن مجرد ذلك لايمنع عن استحقاقه للعقوبات المتعددة عند ترك الجميع ، من جهة تمكنه حينئذ من الاتيان بأحد الوجودين واخراج البقية عن حيز الوجوب الفعلي ، فتأمل.

لايقال على ذلك في الصورة الأخيرة أيضا لابد من الالتزام بتعدد العقوبة فما وجه التفرقة بينها وبين غيرها؟.

إذ يقال بان عدم الالتزام فيها بتعدد العقوبة انما هو من جهة عدم صدق ترك المتصف بالمصلحة الا على أحد التروك نظراً إلى ما كان بينها من المضادة في أصل

ص: 392

الاتصاف بالمصلحة ، وبالجملة ان ترتب العقوبة انما هو ترك الشيء في ظرف الفراغ عن اتصافه بكونه تركا لما فيه الغرض والمصلحة ، ومثل هذا المعنى انما يصدق في الصورة الثانية والثالثة ، واما في الصورة الأخيرة فلايكاد صدق ترك المتصف الاعلى أحد التروك فمن ذلك لايكاد يترتب على تركه للجميع الا عقوبة واحدة ، فتأمل.

بقى الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر حيث إنه قد يقال بامتناعه واستحالته نظراً إلى أنه باتيان الأقل ووجوده ولو في ضمن الأكثر يتحقق الواجب لا محالة ويحصل الغرض ومع حصول الغرض وتحقق الواجب به يكون الزائد عليه لا محالة زائدا عن الواجب فيكون خارجا عن دائرة الوجوب فلايمكن حينئذ تعلق الوجوب به ، ولكن فيه انه كذلك إذا كان الأقل مأخوذا بنحو اللابشرط من جهة الزيادة وليس كذلك بل نقول بأنه مأخوذ على نحو بشرط لا بحيث كان لحده أيضا دخل في الواجب وفى حصول الغرض ، وعليه فيرتفع الاشكال المزبور حيث لايكون الآتي بالأكثر حينئذ آتيا بالأقل بحده في ضمنه حتى يتوجه الاشكال المزبور ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون للأقل الكائن في ضمن الأكثر وجود مستقل بحيث كان هناك تخلل سكون في البين كما في التسبيحات أم لا كما في مثل الخط الطويل الذي رسم دفعة ، وذلك من جهة أنه بالتجاوز عن حد الأقل الذي فرض كونه تسبيحة واحدة أو نصف ذراع من الخط مثلا ينتفى الأقل ويكون المأتى به من أوله إلى آخره امتثالا للامر بالأكثر دون الأقل ، كما هو واضح.

نعم قد يشكل على ما ذكرنا أيضا بأن الأكثر بعد أن أخذ لا بشرط من طرف الزيادة وقد وجب الاتيان بذات الأقل أيضا على كل تقدير فلا جرم لايبقى طرف التخيير الا نفس الحدين وهما الوقوف على الأقل أو التعدي والتجاوز عنه وحينئذ فحيث أنه مع الاتيان بذات الأقل لا محيص له من أحد الحدين ولايمكنه ترك كليهما يندرج لا محالة في التخيير العملي العقلي بمناط اللاحرجية نظير التخيير بين النقيضين أو الضدين اللذين ليس لهما ثالث لا في التخيير الشرعي من جهة عدم المجال حينئذ لأعمال المولوية بالامر التخييري نحو الحدين ، لما ذكرنا غير مرة بان مرجع الامر التخييري بأحد الامرين انما هو إلى النهى عن تركهما معا وهو انما يصح في مورد يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين والا فمع عدم تمكنه من ذلك ولا بدية اتيانه بأحد الامرين عقلايكون الامر باتيان أحد

ص: 393

الفردين لغوا محضا ، فعلى ذلك حينئذ يتسجل الاشكال بأنه كيف المجال للتخيير الشرعي بين الأقل والأكثر مع كون ذات الأقل واجبة الاتيان على كل تقدير وكون التخيير بين الحدين أيضا عقليا محضا بمناط اللاحرجية ، هذا.

ولكن يمكن التفصي عن هذا الاشكال أيضا بان ما هو طرف التخيير حينئذ انما كان هو الأقل بما هو متقيد بحد الأقلية ، فكان لحيث التقيد أيضا دخل في موضوع الوجوب وفي مثله معلوم بداهة كمال المجال لتعلق الامر المولوي التخييري بأحد الامرين اما الأقل أو الأكثر ، وحينئذ فتمام الخلط انما هو من جهة الغاء حيث التقيد بحد الأقلية عن موضوع الوجوب ولحاظ ذات الأقل عارية عن التقيد المزبور فمن ذلك استشكل بان ذات الأقل حينئذ بعد أن كانت واجبة الاتيان على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير فلا جرم لايبقى في البين الا نفس الحدين الذين عرفت بأنه لايكون التخيير فيهما الا تخييرا عقليا بمناط اللاحرجية ، والا فبناء على ملاحظة مجموع الذات مع التقيد المزبور لايبقى مجال الاشكال المزبور أصلا ، من جهة وضوح ان الأقل حينئذ بوصفه لايكون واجب الاتيان على كل تقدير ، كما هو واضح. وعلى ذلك فمن اخذ الأقل بشرط لا محددا بحد الأقلية يرتفع تلك الاشكالات بأجمعها على التخيير بين الأقل والأكثر ، نعم على ذلك يكون مرجع التخيير المزبور إلى التخيير بين المتبائنين نظراً لأي مبائنة الأقل حينئذ ولو بحده مع الأكثر ، فتدبر.

المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي

وهو سنخ من الوجوب متعلق بفعل كل واحد من آحاد المكلفين ، ومرجعه كما في الواجب التخييري إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو تروكه في حال ترك بقية المكلفين ، غير أن الفرق بينهما هو توجه التكليف هناك إلى المكلف بكلا شقي التخيير من جهة كونه نتيجة التكليف التعييني بالجامع بخلافه في المقام حيث إنه بعد عدم قدرة شخص مكلف واحد على كل الشقين لايكاد يصح توجيه التكليف التعييني إليه بالجامع بمعناه الاطلاقي القابل للانطباق على فعل نفسه وفعل غيره ، ومن ذلك لايكون التكليف المتوجه إلى

ص: 394

كل مكلف الا تكليفا ناقصا متعلقا بشق واحد ولايكون امره الناقص الا أمرا واحداً

بل ولئن تأملت ترى جريان الشقوق المتصورة في الواجب التخييري في المقام أيضا من حيث تعلق غرض وحداني تارة بجامع فعل المكلفين القابل للانطباق على فعل كل واحد من آحادهم ، وأخرى تعلق اغراض متعددة بفعل كل واحد من المكلفين مع كونها بنحو لايكاد حصول الغرض في واحد مع حصوله وتحققه في الاخر نظراً إلى ما كان بين تلك الاغراض حينئذ من المضادة اما في مرحلة الوجود والتحقق واما ما في مرحلة أصل الاتصاف بالغرض والمصلحة ، حيث إن مرجع الجميع كما عرفت إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين ، ففي جميع الصور كان المكلفون كل واحد منهم مكلفا بالايجاد ولكن بتكليف ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك البقية ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف بفعل بعضهم عن الجميع واستحقاقهم جميعا للعقوبة عند اخلالهم بالامتثال مع امتثال الجميع أيضا واستحقاقهم للمثوبة لو أتوا بالمأمور به دفعة واحدة ، نعم هذا الأخير مخصوص بالفرض الأول وهو فرض قيام الغرض الوحداني بالجامع فان قضيته حينئذ هو تحقق الامتثال بفعل الجميع فلا يجري في بقية الفروض لأنه فيها حسب مضادة تلك الاغراض القائمة بأفعالهم اما بحسب الوجود أو الاتصاف لايكاد انتهاء النوبة إلى امتثال الجميع مع اتيانهم دفعة واحدة حتى يترتب عليه استحقاقهم أجمع أيضا للمثوبة بل ومقتضي بطلان الترجيح بلا مرجح حينئذ هو عدم حصول الغرض وعدم تحقق الامتثال من واحد منهم أيضا ، كما لايخفى ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ان ما ذكرناه من الفروض الاخر في الواجب الكفائي مجرد فرض وبيان امكان جريان فروض الواجب التخييري في الكفائي أيضا ، والا فما هو الواقع في الواجبات الكفائية طرا انما هو خصوص الفرض الأول ، وعليه فكما أنه باخلالهم بالامتثال يستحق الجميع العقوبة كذلك باتيانهم جميعا للمأمور به دفعة واحدة يتحقق الامتثال من الجميع ويستحق الجميع المثوبة ، نعم على فرض وقوع ما عدا الفرض الأول فيها أيضا يبقى الكلام في أنه هل يمكن فيها تصوير إناطة التكليف بكل واحد منهم بعدم اتيان البقية كي يلزمه المصير إلى كون التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا تاما منوطا بعدم اتيان البقية أم لايمكن فينحصر تكليفهم كما في الواجب التخييري بالتكليف الناقص حسب ما عرفت ، وفي ذلك كان التحقيق هو الثاني ، وذلك فإنه ان أريد من

ص: 395

الإناطة إناطة كل واحد من التكاليف بعصيان البقية فعدم امكانه واضح ، من جهة ما يلزمه حينئذ من تأخر كل واحد من هذه التكاليف عن الآخر برتبتين ، وهو من المستحيل كما عرفت ، وان أريد إناطة كل واحد منها بعدم البقية أي العدم السابق على الامر والتكليف فكذلك أيضا ، إذ حينئذ وان لم يرد عليه المحذور المتقدم من جهة وقوع التكاليف حينئذ في رتبة واحدة الا انه بعد تحقق المنوط به بالنسبة إلى الجميع يلزمه ان يكون كل واجد منهم مكلفا بتكليف فعلى تام بالايجاد ، ومثل هذا المعنى بعد فرض مضادة تلك المصالح والاغراض وامتناع اجتماعها في الوجود والتحقق يكون من المستحيل ، لاستحالة البعث الفعلي التام نحو أمور يمتنع اجتماعها في التحقق ، فمن ذلك لا محيص في المقام أيضا كما في الواجب التخييري من ارجاع تلك التكاليف إلى التكليف الناقص بجعل التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا ناقصا على نحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك بقية المكلفين ونتيجة ذلك كما عرفت انما هو سقوط التكليف عن الجميع بفعل البعض منهم مع استحقاق الجميع للعقوبة عند اخلالهم جميعا بالواجب والمأمور به ، كما هو واضح.

المبحث الثاني عشر ، في الواجب الموقت

وهو الذي كان للزمان دخل فيه شرعا ، وفي قباله غير الموقت وهو الذي لايكون للزمان دخل فيه شرعا وان كان مما لابد منه فيه عقلا.

ثم إن قضية دخله فيه شرعا تارة تكون من جهة كونه قيدا للهيئة وللطلب وأخرى من جهة كونه قيدا للمادة وللمتعلق الراجع إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف فارغا عن أصل الاتصاف والاحتياج ، حيث إنه يجري فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود الاخر ، نعم لو بنينا على عدم امكان المعلق واستحالته في نفسه لكان المتعين في المقام هو ارجاعه عقلا بقول مطلق إلى الهيئة والطلب ولو كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى المتعلق والمادة حتى في ما لو كان دخله في المصلحة من قبيل الدخل في وجود المتصف والمحتاج إليه ، غير أن الفرق حينئذ بينه وبين سائر المشروطات من جهة الإناطة حيث كان إناطة الطلب به في المقام عقلية وفي سائر المشروطات شرعية. وأما

ص: 396

بناءً على المختار من امكان المعلق أيضا كالمشروط فيجرى فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود ، فيكون قيدا للهيئة وللطلب تارة وللمتعلق أخرى.

ثم إن الزمان المأخوذ في الواجب ظرفا ان كان بقدر الواجب لا أوسع فمضيق كالصوم مثلا ، وان كان أوسع منه فموسع وأمثلته كثيرة كالصلوات اليومية وصلاة الكسوف والخسوف ونحوها. واما كونه أضيق من الواجب فغير ممكن من جهة امتناع التكليف بما لا يسعه وقته وظرفه مع إرادة ايجاد الواجب بتمامه في ذلك الوقت وهو واضح ، نعم لا باس به لو أريد ايجاده فيه ولو ببعض اجزائه لا بتمامه ولكن ذلك حينئذ خارج عن الفرض نظراً إلى أن الموقت حينئذ انما هو الواجب ببعض اجزائه لا بتمامه ومن أوله إلى آخره.

واما الاشكال في امكان الموسع أيضا فمدفوع بما عرفت من وقوعه الذي هو أدل على امكانه ، كالأمثلة المزبورة ، ومرجعه إلى مطلوبية الكلي الجامع بين الافراد التدريجية المنتجة للتخيير بين الافراد المزبورة. وفي كون مثل هذا التخيير عقليا أو شرعيا وجهان أوجههما الثاني ، كما تقدم بيانه مفصلا ، فراجع.

نعم يبقى الكلام حينئذ في اقتضاء الامر بالموقت مع الاخلال به في الوقت لوجوبه في خارج الوقت وعدمه ، وفي ذلك نقول : ان مجمل الكلام فيه ان قضية دليل الموقت اما ان تكون على نحو وحدة المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه ، واما ان تكون على نحو تعدد المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد به بلحاظ تمام المطلوب لا أصله ، واما ان لا يستفاد منه شيء من الوجهين بل كان مجملا من هذه الجهة ومرددا بين التقييد في أصل المطلوب أو تمامه.

فان كان من قبيل الأول فلا اشكال في عدم اقتضاء الامر بالموقت لوجوب الاتيان به في خارج الوقت مع الاخلال به في الوقت ، لولا دعوى اقتضائه لعدم وجوبه.

كما أنه على الثاني أيضا لا اشكال في اقتضائه وجوب الاتيان به في خارج الوقت بعكس القسم الأول من غير فرق في ذلك بين ان يكون التوقيت بدليل متصل أو منفصل

واما ان كان من قبيل الثالث فان كان بدليل متصل بالكلام فلا اشكال أيضا في عدم اقتضاء دليل الواجب لوجوبه في خارج الوقت ، من جهة انه باتصاله به يوجب اجماله اجمالا لدليل الموقت أيضا ، ومعه لايبقى له ظهور حتى يصح التمسك به لاثبات الوجوب بعد انقضاء الوقت ، نعم لو كان التوقيت حينئذ بدليل منفصل وكان لدليل

ص: 397

الواجب أيضا اطلاق بان فرض كونه في مقام البيان من هذه الجهة لا في مقام أصل المشروعية لكان قضية اطلاقه حينئذ هو ثبوت الوجوب في خارج الوقت أيضا ولكن ذلك أيضا مجرد فرض ، إذ نقول أولا بظهور دليل التوقيت في وحدة المطلوب وفي كون التقييد به بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه وعلى فرض عدم ظهوره واجماله من تلك الجهة لايكون لدليل العبادة في تلك الموقتات من نحو قوله : « أقيموا الصلاة » اطلاق يصح التمسك به لاثبات الوجوب في خارج الوقت لأنها طرا على ما حقق في محله في مبحث الصحيح والأعم كانت واردة في مقام أصل المشروعية لا في مقام البيان من تلك الجهات ، وعليه فلا يبقى مجال التمسك بدليل الموقتات في العبادات لاثبات الوجوب في خارج الوقت ، بل لابد حينئذ من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلا كنا نحن ونفس تلك الأدلة لايمكننا اثبات الوجوب به بعد انقضاء الوقت كما هو واضح.

نعم لو شك ولو يعلم من دليل الموقت بان التقييد بالوقت كان بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمام المطلوب ربما كان مقتضى الأصل وهو الاستصحاب بقائه في خارج الوقت أيضا إذ حينئذ يشك عند ذهاب الوقت في ذهاب أصل المطلوبية أو ذهاب مرتبة منه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر فيستصحب حينئذ بقائه ولو ببعض مراتبه ، نظير الاستصحاب الجاري في اللون الخاص إذا شك في ذهابه من رأسه أو ذهابه ببعض مراتبه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر ، ومعه فلا يجرى فيه أصالة البراءة عن الوجوب ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ما عرفت من ظهور الأدلة في وحدة المطلوب وفى كون التقيد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لاتمامه وحينئذ فلابد في اثبات وجوب القضاء في خارج الوقت وفاقا للمحققين من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلايكفيه نفس الامر الأول ، كما هو واضح.

نعم ربما ينافي ما ذكرنا ظهور مادة القضاء في التدارك المقتضي لوفاء المأتى به في خارج الوقت ببعض مراتب مصلحة الموقت ، حيث إن لازمه هو قيام المصلحة من الأول بالجامع بين الفرد الواقع في الوقت والفرد الواقع في خارجه ، ولازمه هو تعلق الامر الأول أيضا من الأول بالجامع بين الفردين لا بخصوص الفرد الواقع في الوقت ، ولازمه أيضا ان يكون وجوب الاتيان به في خارج الوقت بنفس الامر الأول لا بأمر جديد ، ولكنه يندفع ذلك بأنه وان كان الامر كذلك انه انه نقول بان فردية المأتي به في خارج الوقت للجامع

ص: 398

لما كانت في طول الافراد الواقعة في الوقت وفي رتبة متأخرة عن سقوط الامر والتكليف عنها ، فقهرا مثل هذه الطولية توجب تضيقا في دائرة الطبيعة المأمور بها بالامر الأول بنحو يخرج عنها مثل هذا الفرد ، فمن ذلك يحتاج في اثبات وجوبه بعد عدم شمول الامر الأول له إلى امر آخر يقتضي وجوبه في خارج الوقت ، وعليه فلا تنافي بين القول بان القضاء بأمر جديد وبين ما يقتضيه ظهور مادة القضاء في الوفاء ببعض مراتب مصلحة الموقت ، كما لايخفى.

المبحث الثالث عشر: في أنه هل الامر بالامر بشيء امر بذلك الشيء حقيقة أم لا

وتحقيقه ان يقال بان كلا الوجهين ثبوتا امر ممكن ، حيث إنه يمكن ان يكون الامر بالامر بشيء لا لأجل التوصل به إلى وجود ذلك الشيء في الخارج بل لأجل مطلوبية امر الآمر الثاني نفسيا كما أنه يمكن ان يكون ذلك لأجل التوصل إلى وجود الشيء في الخارج فحيث انه كان ذلك الشيء مطلوبا له أمر بالامر به ، الا انه في مقام الاثبات كان الظاهر من نحو تلك القضايا ولو بملاحظة قضية الارتكاز هو الثاني من كون الامر بالامر بشيء لمحض التوصل إلى الوجود ، لا من جهة مطلوبية أمر الآمر الثاني نفسيا وان لم يترتب عليه الوجود في الخارج.

وعلى ذلك فلا بأس باستفادة شرعية عبادة الصبي مما ورد من أمر الأولياء بأمر الصبيان باتيان العبادات ، نعم هذا المقدار من الشرعية أيضا لا يفي باثبات وفاء المأتي به حال الصغر بمصلحة الواجب كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب فيما لو كان بلوغه بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها ، من جهة ان القدر الذي يستفاد من قضية الامر بالامر انما هو كون فعلهم في حال عدم البلوغ مشروعا وواجدا للمصلحة ، واما كون هذه المصلحة من سنخ تلك المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ فلا ، ومن هذه الجهة أيضا تشبث بعضهم للاجتزاء به وعدم الإعادة بعد البلوغ باثبات المشروعية من جهة نفس الخطابات الأولية ، وحاصله انما هو دعوى شمول اطلاق الخطابات في التكاليف مثل أقيموا الصلاة ونحوه للصبي الذي يبلغ بعد يوم أو نصف يوم أو ساعة ، حيث إن

ص: 399

دعوى انصرافها عن مثل هذا الصبي أيضا كما ترى بعيدة غايته ، إذ لايكاد يفرق العرف في شمول تلك الخطابات بين البالغ سنه إلى خمس عشرة سنة كاملة وبين من نقص سنة من ذلك بيوم أو نصف يوم أو ساعة واحدة ، بل كان العرف يرى شمول تلك الخطابات لكل منهما وحينئذ فإذا شمل تلك الخطابات لمثل هذا الصبي يتعدى عنه بمقتضي عدم الفصل إلى من هو دون ذلك في العمر إلى أن يبلغ في طرف القلة إلى ست أو سبع سنين فيستفاد من ذلك حينئذ ان الصبي المميز والمراهق كالبالغ في كونه ممن شرع في حقه العبادة على نحو مشروعيتها في حق البالغين من حيث اشتمال عباداته على المصالح الملزمة ، غاية الامر بمقتضي دليل رفع القلم يرفع اليد عن جهة الزام التكليف ويقال بأنه غير مكلف بالايجاد بتكليف لزومي في حال عدم بلوغه ، ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف عنه بالايجاد لو فرض بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، نظراً لأي استيفائه بفعله حينئذ قبل البلوغ لتلك المرتبة من المصلحة الملزمة الداعية على الامر والتكليف هذا. ولكن فيه انه لا قصور في هذا التقريب لاثبات المشروعية بالمعنى المزبور لولا دعوى كون اعتبار البلوغ في أذهان المتشرعة بمقتضى دليل ( رفع القلم ) ونحوه في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الخاصة الموجبة لصرف الخطابات إلى خصوص البالغين ، كما لعله ليس ببعيد أيضا والا فلا مجال لاثبات مثل هذا النحو من الشرعية أيضا حتى يترتب عليه الاجتزاء به عن فعل الواجب بعد البلوغ فيما لو كان بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، كما لايخفى.

المبحث الرابع عشر

إذا ورد امر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله كقوله : صل ، صل ، ففي كون الامر الثاني تأكيدا للامر الأول فلايجب الا الاتيان بالشيء مرة واحدة أو تأسيسا فيجب الاتيان به متكررا وجهان ، بل قولان ، مقتضي اطلاق المادة في صرف الطبيعي هو الحمل على التأكيد فإنه من جهة عدم قابليته للتكثر غير قابل لتعلق الطلب التأسيسي به مرتين الا مع التقيد بوجود ثم وجود ، كما أن مقتضي اطلاق الهيئة هو كونه للتأسيس الموجب للاتيان به متكررا ، فيدور الامر حينئذ بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين اما عن اطلاق المادة في

ص: 400

صرف الطبيعي بحمله على الطبيعة المهملة أو وجود ووجود واما من رفع اليد عن اطلاق الهيئة وظهورها في التأسيس مع ابقاء اطلاق المادة في صرف الطبيعي على حاله ، وفى مثله قد يقال بلزوم الحمل على التأكيد ترجيحا لاطلاق المادة على الهيئة باعتبار كونها معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة عليها ، إذ يقال حينئذ بجريان أصالة الاطلاق فيها في رتبة سابقة بلا معارض. ولكن يدفعه ان المادة كما كانت معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة عليها كذلك الهيئة أيضا باعتبار كونها علة لوجود المادة في الخارج كانت في رتبة سابقة عليها فمقتضى تقدمها الرتبي عليها حينئذ هو ترجيح اطلاقها على اطلاق المادة. وبالجملة نقول : بأنه بعد أن كان لكل من الهيئة والمادة نحو تقدم على الآخر فلا وجه لملاحظة حيث تقدم المادة عروضا وترجيح اطلاقها على اطلاق الهيئة ، بل لنا حينئذ دعوى تعين العكس بحسب أنظار العرف نظراً إلى عدم اعتنائهم بحيث تقدم المادة على الهيئة في مقام العروض بعد ما يرون كون الهيئة علة لوجود المادة في الخارج وفي رتبة سابقة عليها ، إذ حينئذ يجرى فيها أصالة الاطلاق في رتبة سابقة فلابد معه حينئذ من التصرف في المادة برفع اليد عما هو قضية اطلاقها في الطبيعة الصرفة ، هذا. ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة من اشكال ينشأ من جهة ما عرفت من وجود ملاك التقدم حينئذ في كل واحدة منهما نعم مع الشك وعدم ترجيح أحد الاطلاقين على الآخر كان مقتضي الأصل هو التأكيد لأصالة البراءة عن التكليف الزائد.

ثم إن هذا كله إذا لم يكن هناك ذكر شرط أو سبب في البين والا فمقتضى قوة ظهور الشرط في السببية التامة على الاستقلال ربما كان هو لزوم الاتيان بالشيء مكررا ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى في مبحث المفاهيم.

ص: 401

المقصد الثاني في النواهي

وفيه أيضاً مباحث ،
المبحث الأول

الظاهر أن مفاد الهيئة في النهى عبارة عن الزجر عن الطبيعة المعبر عنه بالفارسية ب « بازداشتن » قبال الامر الذي يكون مفاد الهيئة فيه عبارة عن البعث إلى الطبيعة والارسال نحوها ، مع كون مفاد المادة فيهما عبارة عن صرف الطبيعة لكنه بما هي ملحوظ كونها خارجية لا بما هي هي ولا بما هي موجودة في الذهن كما عرفت بيانه مفصلا وبهذا الاعتبار أي : اعتبار الطبيعة خارجية أيضا صح إضافة كل منهما إلى الوجود بجعل الامر عبارة عن الارسال والبعث إلى الوجود والنهى عبارة عن الزجر عن الوجود ، والا فمتعلقهما في الحقيقة لايكون الا الطبيعة ، كما تقدم بيانه. وعليه تكون الهيئة في كل من الأمر والنهي مغايرا مع الآخر بتمام المدلول حيث كان مدلول الهيئة في الامر عبارة عن البعث والارسال إلى الوجود وفى النهى عبارة عن الزجر عن الوجود ، لا انه كان التغاير بينهما في بعض المدلول وجزئه ، كما يقتضيه كلام الفصول حسب اشرابه الوجود في مدلول الهيئة في الامر والترك في مدلول الهيئة في النهى ، وجعله مدلول الهيئة في الامر عبارة عن طلب وجود الطبيعة وفى النهى عبارة عن طلب ترك الطبيعة. إذ ذلك مضافا إلى ما عرفت سابقا من عراء الهيئة في الأوامر أيضا عن هذه الجهة وعدم دلالتها الا على النسبة الارسالية بين المبدء والفاعل ، نقول بان ذلك مخالف لما هو مقتضى الوجدان والارتكاز أيضا فان في مثل قوله : ( لا تضرب ) لايكاد ينسبق من الهيئة فيه الا الزجر والمنع عن الضرب وايجاده في الخارج ، لا انه ينسبق منها طلب ترك

ص: 402

طبيعة الضرب ، كما هو واضح.

وعليه أيضا لايبقى مجال للاشكال المعروف في الترك : بان الترك ومجرد ان لا يفعل لكونه أمرا عدميا خارج عن تحت قدرة المكلف واختياره فلايصح ان يتعلق به البعث والطلب وان كان فيه ما فيه أيضا يظهر وجهه من جهة ان كون الترك كك أزلا لايوجب خروجه عن تحت المقدورية بقول مطلق حتى بحسب البقاء والاستمرار الذي عليه مدار التكليف وحينئذ فإذا كان الترك بحسب البقاء تحت قدرته حيث كان له في كل آن قلبه بالنقيض وهو الفعل فأمكن لا محالة تعلق الطلب والبعث به ، كما هو واضح.

ثم لايخفى عليك انه كما أن لحاظ الطبيعي في الأوامر يتصور على وجهين : تارة على نحو السريان في ضمن الافراد المنتج لمطلوبية الحصص الفردية كلها وانحلال التكليف المتعلق بالطبيعي إلى التكاليف المتعددة حسب تعدد الحصص وأخرى لحاظه بنحو صرف الوجود المنتج لمطلوبية أول وجود الطبيعي ، كك تصورا يتأتى هذان الوجهان في النواهي أيضا ففيها أيضا قد يكون المأخوذ في حيز النهى الطبيعة بما هي سارية في ضمن الافراد وقد يكون المأخوذ فيه هو صرف وجودها المنطبق على أول وجودها كما يتصور ذلك في العرفيات في مثل النهى عن اكل الفوم لأجل ما فيه من الرائحة الكريهة الموجبة لتنفر طباع العامة واشمئزازهم حيث إنه في مثله ربما يتحقق تمام المبغوض في الوقعة الواحدة بصرف الوجود منه المنطبق على أول وجود الاكل منه ويخرج ثاني وجود الاكل منه في تلك الوقعة عن تحت المبغوضية إذا فرض عدم كونه سببا لازدياد تلك الرائحة الكريهة ، نعم قل ما يتفق وجود هذا القسم في النواهي النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا ولئن لوحظ وتأمل يرى عدم وجود هذا القسم في النواهي خصوصا في الشرعيات حيث إن المبغوض فيها طرا انما كان من قبيل الوجود الساري لا صرف الوجود ، ومن ذلك لايسقط التكليف بعصيان واحد أو بالاضطرار إلى المخالفة مرة واحدة ولو عند اطلاقها حتى أنه أوجبت هذه الجهة ظهورا ثانويا لها في الحمل عليها عند اطلاقها بخلافه في الأوامر فان المنصرف منها عند اطلاقها انما كان هو صرف الطبيعي دون الوجود الساري منه.

ومن اجل ذلك وقعوا في حيص وبيص بأنه كيف هذا التفكيك بين الأوامر والنواهي وانه ان كان الحمل على صرف الوجود كما في الأوامر من جهة اقتضاء مقدمات الحكمة فكيف لا توجبه في النواهي أيضا حيث يحمل فيها على الوجود الساري ولو مع اطلاقها؟

ص: 403

وان كان الحمل على الوجود الساري من جهة خصوصية في النواهي تقتضي الحمل على ذلك على خلاف ما اقتضته الحكمة ، فهي منفية بالفرض من جهة وضوح ان قضية النهى لا تكون الا الزجر عن تلك الطبيعة التي تعلق بها الامر مقيدة كانت أو مطلقة ومجرد الاختلاف بينهما بالايجاب والسلب أيضا غير موجب للتفرقة المزبورة ، كما لايخفى.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه غير نقية عن الاشكال : منها ان منشأ الحمل على الوجود الساري في النواهي من جهة كون طبع المفسدة في القيام بالشيء كلية قيامها به بوجوده الساري في ضمن تمام الافراد بخلافه في الأوامر حيث إن طبع المصحلة في قيامها بالشيء قد يكون بصرف وجوده وقد يكون بوجوده الساري ، وفيه ما لايخفى فإنه بعد ما يتصور في العرفيات قيام المفسدة أيضا بصرف وجود الشيء كما في اكل الفوم واكل الأشياء المضرة التي لا يفرق فيها بين القليل والكثير والدفعة والدفعات لا مجال لدعوى هذه الكلية حيث أمكن في النواهي الشرعية ان تكون المفسدة فيها على نحو صرف الوجود.

ومنها : دعوى كونه من جهة الغلبة حيث إن كل ما يرى من النواهي يرى كونه من قبيل الوجود الساري دون صرف الوجود ، وفيه أيضا انه وان كان لا سبيل إلى انكار ذلك الا ان الكلام في ذلك النهى الصادر في بدو الشريعة بأنه ما وجه حمله عند الاطلاق وعدم القرينة على الوجود الساري على خلاف الأوامر.

ومنها : ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو من جهة اقتضاء الاطلاق ومقدمات الحكمة ، نظراً إلى دعوى اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف خصوصيات الموارد وعدم كونها على حد سواء في الجميع ، وان من الخصوصيات الموجبة لاختلاف نتيجة الاطلاق خصوصية المورد بحسب الايجاب والسلب فتوجب هذه الخصوصية للحمل على صرف الوجود في الأوامر وعلى الوجود الساري في النواهي.

وفيه ان ما ذكر من اختلاف نتيجة الاطلاق والحكمة بحسب اختلاف خصوصيات الموارد متين جدا ولكنه ليس منه الاختلاف بحسب الايجاب والسلب جدا ، فان مثل هذه الجهة لا توجب اختلافا بينهما فيما هو قضية الاطلاق في المتعلق الواحد في مثل قوله اضرب وقوله لا تضرب ، كما هو واضح.

ومنها : ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو جهة كونه مقتضي اطلاق الهيئة والطلب فيها ، بدعوى ان مقتضي اطلاق الهيئة والطلب في كل من الأمر والنهي

ص: 404

انما كان هو الارسال الموجب لبقاء الطلب بعد الايجاد أيضا الا ان الاكتفاء بايجاد واحد في الأوامر انما كان من جهة تقديم اطلاق المادة فيها في صرف الوجود على قضية اطلاقها وذلك أيضا بملاحظة ما يلزمه من فرض العكس بعد عدم تعين مرتبة خاصة من التكرار الموجب للوقوع في محذور العسر والحرج ، وهذا بخلافه في النواهي فإنه فيها لما لا يلزم هذا المحذور قدم فيها اطلاق الهيئة ولو بملاحظة كونها علة لوجود المادة في الخارج على اطلاق المادة في صرف الوجود ، وفيه ان مجرد لزوم العسر والحرج لايقتضي تقديم اطلاق المادة على اطلاق الهيئة في الأوامر والاكتفاء بايجاد واحد في تحقق الامتثال وسقوط التكليف وذلك من جهة امكان التحديد حينئذ بما يرتفع معه العسر والحرج المزبوران وحينئذ فإذا فرض تقدم اطلاق الهيئة على الطلاق المادة من جهة قضية عليتها لوجود المادة في الخارج يلزمه تقديم اطلاقها على اطلاقها في الأوامر أيضا والمصير إلى لزوم الايجاد متكررا إلى أن يبلغ حد العسر والحرج.

ومنها : ان لزوم التكرار والدوام والاستمرار في النهى انما هو من جهة انه لايكاد يصدق ترك الطبيعي عقلا والانزجار عنه الا بترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية ، إذ حينئذ لابد في مقام الإطاعة وامتثال النهى من ترك الطبيعي بما له من الافراد الدفعية والتدريجية والا فمع تحقق فرد واحد لايكاد يصدق الامتثال والطاعة بل يصدق العصيان والمخالفة وهذا بخلافه في الأوامر فإنه بعد ما كان وجود الطبيعي بوجود فرد واحد يكتفى في مقام الإطاعة بايجاد فرد واحد من جهة تحقق تمام المطلوب وهو الطبيعي بوجود واحد.

وفيه انه ليس الكلام في مقام الإطاعة إذ لا شبهة في أنه لابد في مقام امتثال النهى عن الطبيعي من ترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية ، بل وانما الكلام في طرف العصيان والمخالفة في اقتضاء النهى لزوم ترك بقية الافراد حتى بعد العصيان نظراً إلى اقتضائه لكون المبغوض هو الوجود الساري دون صرف الوجود وحينئذ فلا يفيد ما ذكر لدفع الاشكال المزبور كما هو واضح ، هذا.

وقد تصدي شيخنا الأستاذ دام ظله لدفع الاشكال بوجه آخر حيث أفاد بما حاصله ان مبني الاشكال وأصله انما نشأ من جهة توهم كون مقتضي الاطلاق وقرينة الحكمة هو الطبيعة الساذجة الصرفة الغير القابلة للانطباق الا على أول وجود ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بأنه إذا كان طبع الاطلاق في الأوامر عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي

ص: 405

مطلوبية صرف الطبيعي المنطبق على أول وجود وبذلك يكتفى في مقام الإطاعة وسقوط الامر بايجاد فرد واحد من جهة انطباق تمام المطلوب وهو الطبيعي الصرف عليه كك طبع الاطلاق في النهى عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي أيضا كون المبغوض هو صرف الطبيعي المنطبق على أول وجود ، ولازم ذلك هو عدم لزوم ترك بقية الافراد عند العصيان والمخالفة بايجاد فرد واحد بلحاظ انطباق ما هو تمام المبغوض عليه مع أنه ليس كك فما وجه التفرقة حينئذ بين الأمر والنهي؟ والا فبناء على كون مقتضي الاطلاق وقرينة الحكمة عند عدم التقيد في كل من الأمر والنهي هو الحمل على الطبيعة المهملة التي هي مدلول اللفظ بما هي جامعة بين الطبيعة الصرفة والطبيعة السارية لايكاد يتوجه الاشكال المزبور ، إذ حينئذ يكون الفرق بين الأمر والنهي في اقتضاء الأول للاكتفاء بايجاد فرد واحد واقتضاء الثاني لعدم ايجاد شيء من الافراد واضحا ، حيث إن الاكتفاء بفرد واحد في الأوامر انما هو من جهة تحقق ما هو تمام المطلوب وهو الطبيعة المهملة بوجود فرد واحد فمن ذلك يسقط الامر ويتحقق الامتثال بذلك.

واما في النواهي فعدم الاكتفاء بذلك انما هو من جهة اقتضاء طبع الاطلاق المزبور لعدم ايجاد الطبيعة المهملة مطلقا ولو في ضمن ثاني الوجود وثالثه. ومن ذلك حينئذ يستفاد ان ما هو المبغوض وما فيه المفسدة هو الطبيعي بوجوده الساري لا بصرف وجوده المنطبق على أول وجود ولازم ذلك أيضا هو لزوم الانزجار عن جميع افراد الطبيعي ولو مع العصيان والمخالفة.

أقول : وفيه نظر ينشأ من أن الاكتفاء في الأوامر بايجاد فرد واحد في سقوط الامر وتحقق الامتثال ان كان من جهة انطباق ما هو المطلوب وهو الطبيعة المهملة عليه يلزمه القول به في طرف النهى أيضا فلابد فيه أيضا من المصير إلى عدم لزوم ترك بقية الوجودات عند المخالفة بلحاظ تحقق ما هو تمام المبغوض وهو الطبيعة المهملة بمجرد الاتيان والمخالفة بايجاد فرد واحد ، والا فلا وجه للاكتفاء بايجاد فرد واحد في الأوامر أيضا بل لابد فيه أيضا كما في النواهي من دعوى مطلوبية الطبيعة المهملة على الاطلاق ولو في ضمن ثاني الوجود وثالثه ، فتأمل.

* * *

ص: 406

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي
اشارة

قد اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد بجهتين ولكونه مجمع العنوانين على أقوال ثالثها الجواز عقلا والامتناع عرفا وتوضيح المقصد يقتضى رسم أمور :

الأول :

لايخفى عليك ان المسألة حيث كانت نتيجتها مما تقع في طريق الاستنباط تكون من المسائل العقلية الأصولية ، لا من مباديها الاحكامية ، فإنه مضافا إلى بعده لا يناسب أيضا ظهور عنوان البحث وهو جواز الاجتماع وعدم جوازه والا لاقتضى تحرير عنوانه بالبحث عن لوازم الوجوب والحرمة ، ولا من المسائل الكلامية أيضا ، إذ ذلك مضافا إلى ما عرفت من النتيجة نقول بان المهم عند الفريقين بعد أن كان في سراية النهى إلى متعلق الامر وموضوعه عند وحدة المجمع وجودا وعدمه يكون مرجع البحث إلى البحث عن أصل اجتماع الحكمين المتضادين وعدمه في موضوع واحد ومن المعلوم حينئذ عدم ارتباط ذلك بمسألة التكليف بالمحال كي يندرج بذلك في المسائل الكلامية المتنازع فيها بين الأشاعرة وغيرهم ، إذ حينئذ على السراية يكون التكليف بنفسه محالا حتى بمبادئه من الاشتياق والمحبوبية باعتبار كونه من اجتماع الضدين في موضوع واحد لا انه تكليف بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، كما لايخفى ، واما احتمال كونها من المسائل الفرعية فبعيد غايته عن ظاهر عنوان البحث المزبور حيث لايكاد مناسبته مع كونها مسألة فرعية. وهذا بخلاف مسألة مقدمة الواجب فان الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة حيث كانت وجوب مقدمة الواجب شرعا أمكن فيها اندراجها في المسألة الفرعية وان كان التحقيق في ذلك المقام أيضا خلافه كما عرفت.

ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا كون المسألة عقلية محضة حيث كانت من الملازمات العقلية الغير المستقلة فكان ذكرها في المقام حينئذ لمحض المناسبة لا انها لفظية كما ربما يوهمه التعبير بالامر والنهى الظاهرين في الطلب بالقول ولذلك يجري هذا لنزاع فيما لو كان ثبوت الوجوب والحرمة بغير اللفظ من اجماع ونحو أيضا ، واما القول بالامتناع العرفي فليس المقصود منه دلالة اللفظ على الامتناع بل المقصود منه هو كون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف وان كان اثنين بحسب الدقة العقلية كما هو واضح.

ص: 407

الثاني من الأمور

المراد من الواحد المبحوث عنه في العنوان هو مطلق ما هو مندرج تحت العنوانين اللذين تعلق بأحدهما الامر وبالآخر النهى وان كان كليا كالصلاة في المغصوب حيث إنها باعتبار صدقها على كثيرين تكون كليا ومع ذلك يكون ذا وجهين ومجمعا للعنوانين لا الواحد السنخي الذي لايكون مجمعا للعنوانين كما في السجود لله وللشمس والقمر ونحو ذلك مما تعدد فيه متعلق الأمر والنهي وجودا.

بل ولئن تأملت ترى اختصاصه أيضا بالواحد الكلي وعدم شموله لما يعمه والشخصي كشخص الصلاة الواقعة في هذا الغصب ، إذ ذلك أيضا وان كان مجمعا للعنوانين ولو بتوسيط كلي عنوان الصلاة في الغصب الا ان المناسب للمسألة بعد كونها أصولية لا فقهية هو خصوص الكلي دون ما يعمه والشخصي ، كما هو واضح. نعم لو قيل بكونها أي المسألة من المبادي الاحكامية لا من المسائل الأصولية لأمكن دعوى تعميم المراد لما يعم الكلي والشخصي ، ولكن ذلك أيضا لولا دعوى انصراف العنوان إلى ما هو مجمع العنوانين ومصداق لهما بلا واسطة ، فان مصداقية شخص هذه الصلاة الواقعة في الغصب للكليين بعد أن كان بتوسيط كلي الصلاة في الغصب فقهرا بمقتضي الانصراف المزبور يختص الواحد المبحوث عنه في العنوان بالواحد الكلي ولايكاد يعمه والواحد الشخصي كما لايخفى ، بل قد يقال حينئذ بعدم امكان شمول العنوان ولو مع قطع النظر عن الانصراف لما يعم الكلي والشخصي نظراً إلى عدم امكان كون الواحد الشخصي مصداقا للجامع في عرض الكلي فتدبر.

الثالث من الأمور

لايخفى عليك ان عمدة النزاع بين الفريقين في هذه المسألة انما هو في سراية النهى إلى موضوع الامر ومتعلقه عند وحدة المجمع وجودا أو عدمه ، فكان القائل بالجواز يدعى عدم السراية والقائل بالامتناع يدعى السراية ، ومن هذه الجهة يكون تمام البحث بين

ص: 408

الفريقين صغرويا محضا والا فعلى فرض السراية المزبورة لايكاد يظن من أحد الالتزام بالجواز ، كما أنه في فرض عدم السراية وتعدد المتعلقين في المجمع لايظن من أحد الالتزام بالامتناع ، ومن ذلك ترى ان القائل بالجواز تمام همه اتمام عدم السراية اما بنحو مكثرية الجهات أو من جهة تعدد حدود الشيء أو غير ذلك ، وحيث كان كك نقول : ان مدرك القول بالجواز على ما يأتي بيانه مفصلا تارة يكون من حيث مكثرية الجهات بنحو يكون الوجود الواحد مجمع الجهتين ومركز الحيثين فيكون إحدى الجهتين معروض الامر والأخرى معروض النهى غايته انه كان المركزان موجودين بوجود واحد من غير فرق عنده بين كون متعلق الامر صرف وجود الشيء أو الوجود الساري ولا بين كون متعلقه هو الطبيعي أو الافراد بدوا أو بتوسيط السراية إليها من الطبيعي.

وأخرى يكون مبنى الجواز من جهة وقوف الامر على نفس الطبيعي وعدم سرايته إلى الفرد ولا إلى الوجود خارجا وان لم يكن اختلاف بين العنوانين بحسب المنشأ ولا كان تكثر جهة في البين أصلا كما عن المسلك المتقدم.

وثالثة يكون من جهة اختلاف أنحاء حدود الشيء الواحد بنحو ينتزع من مراتب وجود الشيء واحد من كل حد ومرتبة عنوان غير ما ينتزع من المرتبة الأخرى منه كما عرفت تحقيقه في مبحث الواجب التخييري حيث قلنا فيه بامكان ان يكون الشيء الواحد مع وحدته وجودا ومهية ببعض حدوده تحت الالزام وببعض حدوده تحت الترخيص فيكون الشيء على هذا المسلك مع وحدته وجودا وجهة ببعض حدوده تحت الامر وببعض حدوده الآخر تحت النهى.

وإذ عرفت ذلك نقول بأنه بعد هذا الاختلاف في مسالك الجواز وتعدد المشارب المزبورة فيه ، لا وجه لتحديد مركز النزاع في عنوان المسألة بصورة اختلاف العنوانين حقيقة وتباينهما منشأ.

كما أنه لا وجه أيضا لتحرير المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية في وجود واحد ولو بجهتين ، حيث إن ذلك مما لايكاد يصح على شيء من المشارب المزبورة.

وذلك : اما على مشرب مكثرية الجهات فظاهر لوضوح ان تكثر الجهة انما كان يجدي في رفع محذور اجتماع الضدين لا في رفع محذور التكليف بالمحال ومالا يطاق فلايكاد يمكن حينئذ اجتماع الامر الفعلي ولو بجهة مع النهى الفعلي بجهة أخرى في المجمع مع كون

ص: 409

الجهتين متلازمتين وجودا ، وذلك من غير فرق بين كون متعلق الامر هو الوجود الساري المنتج لوجوب الحصص الفردية كل واحدة منها على التعيين أو صرف الوجود المنتج للوجوب التخييري في الافراد ، إذ كما أنه لايمكن الامر التعييني بالمجمع ولو بجهة مع النهى عنه بجهة أخرى ملازمة معها وجودا من جهة كونه من التكليف بالمحال وبما لايطاق كك أيضا لايمكن الامر التخييري به مع النهى المزبور الموجب لمبغوضية الوجود من جهة ان مرجع التخيير كما عرفت انما هو إلى كون ترك هذا المجمع بلا بدل منهيا عنه ومثل هذا المعنى لايكاد يجامع النهى عنه الموجب لمبغوضية وجوده المستتبع لمحبوبية تركه ولو ، لا إلى بدل ، واما الالتزام باشتراط المندوحة حينئذ في تصحيح فعلية الأمر والنهي فهو كما ترى حيث لايكاد يجدي وجود المندوحة حينئذ في تصحيحها على مثل هذا المسلك بل انما يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد.

ومن هذا البيان ظهر لك الحال أيضا على مسلك مكثرية حدود الشيء واختلاف أنحاء حفظ وجوده فإنه على هذا المسلك أيضا لايكاد يمكن اجتماع الأمر والنهي الفعليين في شيء واحد باختلاف أنحاء حدوده من جهة استلزامه للتكليف بالمحال وان كان معروض التكليفيين مختلفين من جهة ما عرفت من أن مثل هذا الاختلاف في الحدود انما كان يجدي في رفع محذور اجتماع الضدين لا في محذور التكليف بما لا يطاق. واما اشتراط المندوحة فلقد عرفت عدم اجدائه على هذا المسلك أيضا في رفع غائلة التكليف بالمحال.

نعم انما يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبايع إلى الافراد والتزامه بعدم وجوب الفرد بالوجوب التخييري الشرعي ولكنه على هذا المسلك أيضا لايكاد انتهاء النوبة إلى اجتماع الأمر والنهي الفعليين في المجمع. إذ لم يتعلق حينئذ امر شرعي بالمجمع ولو تخييرا لا بدوا ولا بتوسيط السراية من الطبيعي حتى يكون فيه اجتماع الأمر والنهي كما هو واضح.

وحينئذ فعلى جميع هذه المسالك والمشارب المزبورة في الجواز لايصح تحرير عنوان المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية بوجه أصلا كما لايخفى ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون المهم عند القائل بالجواز على جميع المسالك والمشارك المزبورة عبارة عن تصحيح العبادة في المجمع ، وحيث انه أي التصحيح

ص: 410

المزبور غير مبتن على فعلية الامر والتكليف في المجمع بل يكفي فيه مجرد رجحانه الغير المنوط بالقدرة كما هو كذلك أيضا في مثل الضد العبادي المبتلى بالأهم فلايحتاج إلى اثبات فعلية الامر والتكليف في المجمع كي يتوجه الاشكال المزبور ويبتنى على بعض المسالك وهو مسلك عدم السراية ، مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا في تصحيح العبادة أمكن اثباته بنحو الترتب ، كما لايخفى.

الرابع من الأمور في الفرق بين المسألة وبين مسألة النهى في العبادات

فنقول : قد يقال كما في الفصول في الفرق بين المسئلتين ما هذا لفظه وعبارته : أعم ان الفرق بين المقام والمقام المتقدم وهو ان الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا اما في المعاملات فظاهر واما في العبادات فهو ان النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ولو كان بينهما العموم المطلق وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد بان تعلق الامر بالمطلق والنهى بالمقيد « انتهى ».

ولكنه فاسد لما عرفت من اختلاف المباني والمشارب في الجواز إذ نقول حينئذ بعدم تماميته على جميع المشارب المزبورة حتى مشرب مكثرية الحدود إذ عليه يجرى هذا النزاع ولو مع اتحاد المتعلقين حقيقة كقوله صل ولا تصل في مكان كذا حيث تكون الصلاة حينئذ ببعض حدودها تحت الامر وببعض حدودها الأخرى تحت النهى ومن ذلك قلنا بعدم احتياج مثل هذا المسلك إلى اختلاف العنوانين بحسب الجهة والمنشأ كما في مسلك تعدد الجهة وانه يكتفى فيه بمجرد اختلاف أنحاء حدود شيء واحد وجهة فاردة.

وفى الكفاية : ان الفرق بين المسئلتين هو ان الجهة المبحوث عنها في المقام في أصل سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيهما وجودا وعدم سرايته من جهة تعددهما جهة ، بخلاف مسألة النهى في العبادات ، فان الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة انما هي في اقتضاء النهى لفساد العبادة بعد الفراغ عن تعلقه بها والتوجه إليها فلايرتبط حينئذ إحدى المسئلتين بالأخرى ، نعم على القول بالسراية والامتناع وتقديم جانب النهى يكون المقام من صغريات المسألة الآتية حيث يبحث فيها حينئذ عن اقتضاء ذلك النهى لفساد العبادة وعدمه هذا ، ولكن فيه ما لايخفى إذ نقول بأنه لا وجه لجعل المسألة

ص: 411

على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات تلك المسألة الآتية لضرورة وضوح الفرق مع ذلك بين المسئلتين حيث إن الفساد في المقام على الامتناع وتقديم النهى انما كان مستندا إلى العلم بالنهي لا إلى النهى بوجوده الواقعي بل في الحقيقة يكون الفساد في المقام حينئذ من جهة انتفاء قصد القربة من جهة انه مع العلم بالنهي لايكاد يتحقق القرب المعتبر في صحة العبادة ، بخلافه في المسألة الآتية حيث إن الفساد فيها انما كان مستندا إلى نفس النهى بوجوده الواقعي ومن ذلك لايكاد يفرق فيها بين العلم بالنهي أو الجهل به فتفسد العبادة على كل حال ومن المعلوم انه لايكون الوجه فيه الا من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وكشف النهى عنها عن تخصيص الملاك والمصلحة من الأول بما عدا هذا الفرد المنهى عنه من الافراد الاخر ومن ذلك يندرج تلك المسألة في مسألة تعارض الدليلين وتكاذبهما ، من جهة تكاذب الدليلين حينئذ وتمانعهما في أصل الملاك والمصلحة أيضا مضافا عن تمانعهما في مقام الحكم فلابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض فيهما بالرجوع إلى المرجحات السندية ، وهذا بخلاف المقام حيث إنه باعتبار وجود الملاكين فيهما يندرج في صغريات مسألة التزاحم ولو على الامتناع أيضا نظراً إلى تحقق المزاحمة حينئذ بين الملاكين في عالم التأثير في الرجحان والمرجوحية كما يكشف عنه حكمهم بصحة العبادة في الغصب مع الغفلة أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور لا عن تقصير ولو مع البناء على تقديم جانب النهى حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه لحكمهم بالصحة مع الجهل بالموضوع أو الحكم بل لابد من الحكم بالبطلان وفساد العبادة مطلقا كما هو واضح ، ومن ذلك نقول أيضا في المقام بلزوم الرجوع فيه إلى قواعد باب التزاحم فيقدم ما هو الأقوى من الملاكين في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية وان كان أضعف سندا من غيره ، لا إلى قواعد باب التعارض والترجيح بالمرجحات السندية من حيث العدالة والوثوق ، كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام ( دام ظله ) (1) على ما قرر من اندراج مورد التصادق في المقام على الامتناع في صغرى باب التعارض نظير العامين من

ص: 412


1- قد توفي ره يوم السبت عند ارتفاع النهار في السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1355. « المؤلف » ومراد المؤلف قدس سره من هذا البعض هو المحقق النائيني قدس سره الشريف « المصحح ».

وجه كالعالم والفاسق فيما لو ورد الامر باكرام العالم والنهى عن اكرام الفاسق ، بدعوى ان التزاحم انما يكون بين الحكمين في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد الفراغ عن أصل تشريع الاحكام حسب ما تقتضيه الملاكات ، كما في الضدين مثلا ، وفي مورد اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كون المتعلقين متغايرين بالذات ومختلفين بالهوية ، واما التزاحم بين الملاكين في عالم تشريع الاحكام وجعلها فهو غير مرتبط بباب التزاحم بل هو مندرج في صغرى باب التعارض الذي ملاكه تنافى الدليلين باعتبار مدلوليهما في مقام الجعل والتشريع.

إذ فيه ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه لاوجه لما أفيد الا الجمود بظاهر لفظ تزاحم الحكمين والا فلا نعنى نحن من باب التزاحم الا صورة الجزم بوجود الملاكين والغرضين في المورد مع ضيق خناق المولى من تحصيلهما الذي من نتائجه لزوم تقديم أقوى الملاكين منهما وان كان أضعف سندا من الآخر ، ومنها لزوم تقديم مالا بدل له بحكم العقل في التأثير في فعلية حكمه وتشريعه على ماله البدل ، ومنها تقديم المطلق منهما بحكم العقل على المشروط بالقدرة ، ومنها غير ذلك من نتائج باب التزاحم ، كما أنه لا نعنى من باب التعارض الا صورة عدم احراز الملاكين والغرضين في المورد بل صورة العلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين الذي من نتائجه أيضا الرجوع إلى قواعد التعارض من الترجيح بالمرجحات السندية بالأعدلية والأوثقية ونحوهما والتخيير في الاخذ بأحد الخبرين عند فقد المرجحات أو تساوى الخبرين فيها بمقتضي اخبار العلاج ، وعلى ذلك فكل مورد أحرز فيه وجود الغرضين كان ذلك داخلا في باب التزاحم ويجري عليه احكامه من غير فرق في ذلك بين ان يكون تزاحم الغرضين والملاكين في عالم تأثيرهما في الرجحان والمرجوحية كما في المقام على الامتناع ، أو كان التزاحم بينهما في عالم الوجود ومقام التأثير في فعلية الحكمين. وكل مورد لم يحرز فيه وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق بل أحرز عدم وجود الملاك والغرض في أحد الموردين يكون ذلك من باب التعارض الذي من حكمه الاخذ بالأرجح سندا من حيث العدالة والوثوق.

وعليه نقول : بأنه بعد أن أحرز في المقام وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق في المجمع ولو على القول بالامتناع بشهادة أعمالهم فيه نتائج باب التزاحم وحكمهم بصحة الصلاة مع الجهل بالغصبية أو بحرمته فلا وجه لاخراج

ص: 413

مورد التصادق على الامتناع عن باب التزاحم وادراجه في صغريات باب التعارض على خلاف مشى القوم في ذلك ، الا إذا كان لك اصطلاح خاص في ذلك ، هذا.

مع أنه نقول بان ما أفيد من الضابط في بيان الفرق بين البابين وجعله التزاحم باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال وفي عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام وجعلها على طبق ما اقتضته الملاكات انما يتم بناء على كون القدرة أيضا كالعلم من شرائط تنجز الخطابات والتكاليف ، والا فبناء على ما هو التحقيق وعليه أيضا بناء الأصحاب من الفرق بين القدرة والعلم من رجوع القدرة ولو بحكم العقل إلى كونها شرطا لأصل فعلية الخطاب والتكليف في مرحلة سابقة عن تنجزه ، بخلاف العلم فإنه باعتبار كونه في رتبة لاحقة عن الخطاب غير صالح لتقييد أصل مضمون الخطاب فلابد فيه من رجوعه إلى كونه من شرائط تنجزه لا من شرائط نفسه ، فلا جرم عند عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما لاتنتهي النوبة (1) إلى مقام تشريع الحكمين على الاطلاق حتى في مثل الضدين نظير عدم تشريع اطلاق الحكمين في مجمع العامين من وجه ولازمه حينئذ هو المصير إلى دعوى اندراجه أيضا في صغرى باب التعارض مع أنه كما ترى لايكاد التزامه به.

واما دعوى الالتزام حينئذ بكون القدرة أيضا كالعلم من شرائط تنجز التكليف لا من شرائط أصل التكليف وفعليته فمدفوعة بأنه مع كونه خلاف التحقيق مناف أيضا لما ذهب إليه هو قدس سره في مبحث الضد من الالتزام بالترتب في تصحيح الامر بالضدين فإنه لولا كونها شرطا ولو بحكم العقل في أصل توجيه التكليف الفعلي إلى المكلف لما يحتاج في اثبات فعلية الامر بالضدين إلى تكلف الترتب بجعل أحد الامرين منوطا بعصيان الامر بالأهم وفى الرتبة المتأخرة عن سقوطه كما هو واضح وحينئذ فيتجه عليه الاشكال المزبور من لزوم مصيره في مثل الضدين والمتلازمين اللذين يلازم امتثال أحدهما مخالفة الاخر إلى الاندراج في صغرى باب التعارض من جهة امتناع تشريع حكمين فعليين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر ولزوم كون الحكم الفعلي في مقام الجعل والتشريع على طبق أحد الملاكين.

ص: 414


1- كذا في الأصل والصحيح : « تنتهي النوبة » كما يظهر للمتأمل [ المصحح ].

واما دعوى الالتزام بذلك حينئذ في فرض كون التلازم دائميا كاستقبال القبلة واستدبار الجدي في قطر العراق دون ما لو كان التلازم اتفاقيا فيدفعها منع الفارق بينهما حيث إنه لو كانت القدرة من شرائط نفس التكليف السابق عن مرحلة تنجزه لايكاد يفرق في الاستحالة بين العجز الدائم أو الحاصل من باب الاتفاق فكما انه يمتنع أصل تشريع الحكمين في فرض كون العجز دائميا ، كك يمتنع اطلاق تشريع الحكمين على الثاني أيضا بنحو يشمل مورد العجز من باب الاتفاق نظير امتناع تشريع الحكمين على الاطلاق في العامين من وجه الشامل للمجمع ، إذ لا فرق بينهما حينئذ الا من جهة كون الممتنع على الأول أصل تشريع الحكمين وفي الثاني اطلاق تشريعهما ، وحينئذ فلابد من ادراج مورد العجز الحاصل من باب الاتفاق أيضا في باب التعارض بين الاطلاقين ، لا التفكيك بينهما بادراج العجز الدائمي في صغرى باب التعارض والعجز الاتفاقي في صغرى باب التزاحم ،

وتوهم ان التفكيك المزبور حينئذ من جهة لغوية أصل التشريع في العجز الدائمي بخلافه في العجز الاتفاقي حيث يحسن معه أصل تشريع الحكمين ويحسن معه الخطابان أيضا يدفعه ان لازم ذلك هو الالتزام بمثله في الجهل أيضا فلابد فيه من الفرق بين الجهل بالخطاب وعدم العلم به للتالي وبين غيره لا بالتزام تقييد الخطاب به في الأول دون الثاني مع أنه كما ترى حيث إن العلم والجهل باعتبار كونهما في رتبة متأخرة عن الخطاب غير صالحين لتقيد مضمون الخطاب بهما ، كما هو واضح. وسيأتي مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء اللّه تعالى.

الخامس من الأمور

ان العناوين المنتزعة عن وجود واحد تارة يكون اختلافها في صرف كيفية النظر بلا اختلاف فيها بحسب المنظور والمنشأ نظير الاختلاف من حيث الاجمال والتفصيل كالانسان وحيوان ناطق حيث كان الاختلاف بينهما ممحضا بصرف كيفية النظر من حيث الاجمال والتفصيل والا وفى الحقيقة لايكون المنظور فيهما الا شيئا واحدا ، ونظير الاختلاف بنحو اللابشرطية والبشرط لائية كما بين الهيولي والجنس بناء على انتزاعهما عن جهة واحدة إذ حينئذ يكون تمام الفرق بينهما من جهة كيفية النطر من

ص: 415

حيث اللابشرطية والبشرط لائية فإذا لوحظ تلك الجهة بشرط لا بنحو يرى كونها في قبال الغير يكون مفهوم الهيولي ، وإذا لوحظت لا بشرط - بأن لوحظ ذاتها المحفوظة بين الحدين بلا لحاظ حد في الملحوظ بنحو يرى كونها في قبال الغير يكون مفهوم الحيوان.

وأخرى : يكون اختلافها من جهة اختلاف في منظورها لا انه كان الاختلاف بينها ممحضا بصرف كيفية النظر وذلك أيضا تارة بنحو يحكى كل عنوان عن جهة خارجية متأصلة ولو كانت من المحمولات بالضميمة كعناوين الأوصاف الحاكية عن الكم والكيف والفعل والأين ونحو ذلك ، وأخرى بنحو يحكى كل عنوان عن جهة غير متأصلة في الخارج وذلك أيضا على قسمين : فان المحكى حينئذ تارة يكون عبارة عن الإضافات والنسب الخارجية التي كان لها أيضا نحو خارجية اما بالالتزام بحظ من الوجود لها كما قيل ، واما بان الخارج كان ظرفا لنفسها ولولا لوجودها وبالجملة كانت من الأمور التي لها واقعية ولا تنوط في واقعيتها بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل لو لم يكن في العالم لاحظ ومعتبر كان لمثل تلك الأمور جهة واقعية كما في الفوقية والتحتية وأمثالهما ، وأخرى عبارة عن الأمور الاعتبارية المتأصلة ولو في عالم الاعتبار وبالجملة كانت من الاعتباريات التي لها واقعية عند تحقق مناشئها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها كالملكية والزوجية ونحوهما لا انها متقومة باللحاظ والاعتبار كي تنوط واقعيتها بلحاظ لاحظ واعتبار معتبر كالاعتبارات المحضة.

ثم إن العنوانين المختلفين في المنشأ المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاكهما في غير المنشأ تارة : يكون اختلافهما في تمام المنشأ ، على وجه يكون منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه غير المنشأ في الآخر ، كما لو كانا من مقولتين أحدهما من مقولة الفعل والآخر من مقولة الأين مثلا ، نظير الصلاة والغصب بناء على كون الصلاة من مقولة الفعل والغصب من مقولة الأين بجعله عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا عبارة عن الفعل الشاغل للمحل ، ونظير عناوين المشتقات بناء على عدم اخذ الذات فيها وكونها عبارة عن نفس المبدء الملحوظ لا بشرط كالعالم والفاسق ونحوهما

وأخرى : يكون اختلافهما في جزء المنشأ مع اشتراكهما في الجزء الآخر نظير عناوين المشتقات بناء على اخذ الذات فيها بنحو يكون مصب الحكم مجموع المبدأ والذات ، إذ حينئذ يكون اختلاف العنوانين كالعالم والفاسق في جزء المنشأ والا فهما مشتركان في

ص: 416

جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة ، ومثل ذلك كل مورد لايكون الجامع في العنوانين بسيطا ومأخوذا من مقولة واحدة بل كان مركبا من الذات مع عارضها أو من مقولتين أحدهما الفعل مثلا والآخر من مقولة أخرى كالأين أو غيره من الإضافات فإنه في مثله يكون المجمع باعتبار ذاته وجهة فعله واجدا للحدين وباعتبار النسبيات الاخر واجدا للإضافتين أحدهما مقوم أحد الجامعين والآخر مقوم الجامع الآخر كما في مثل الغصب والصلاة بناء على كونهما من مقولة الفعل المنضم ببعض الإضافات الاخر بجعل الصلاة عبارة عن الافعال الخاصة المقرونة بالإضافات المعهودة من الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية ، والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع بين الركوع والسجود وبين غيره من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فإنه في مثله يكون الغصب والصلاة لا محالة من قبيل العنوانين المشتركين في جزء المنشأ الممتازين في الجزء الآخر حيث كانا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى من الإضافات والنسبيات الأخرى.

وثالثة : يكون اختلافهما في صرف الحد المأخوذ فيهما مع اتحادهما ذاتا بل ومرتبة أيضا في خصوص المجمع وان اختلفا مرتبة في غيره نظير الجامع المأخوذ بين زيد وعمرو المنتزع من تحديد الانسان في عالم الاعتبار بحد خاص لايكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد المنتزع من تحديد الانسان بحد لايكون انطباقه الا عليهما فحينئذ يكون زيد مع وحدته ذاتا وجهة ومرتبة مجمع الجامعين بمعنى وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو مع كون النسبة بين الجامعين المزبورين بنحو العموم من وجه. ومن ذلك ظهر ان مجرد اختلاف العنوانين المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاك أحدهما عن الآخر في غير المجمع لايقتضي لزوم كونهما من مقولتين وكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، وذلك من جهة ما عرفت من امكان كونهما من مقولة واحدة حينئذ وكان الاختلاف بينهما من جهة لحد محضا كما مثلنا بالجامع المأخوذ بين زيد وعمرو من تحديد الانسان بحد خاص لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد منتزع من تحديد الانسان بحد آخر لا ينطبق الا عليهما ، فان زيدا حينئذ مع وحدته ذاتا يكون مجمع الجامعين من جهة وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو ، وهكذا لو فرض جامع بين الضرب

ص: 417

والاكل منتزع من تحديد الفعل بحد لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر كك بين الأكل والشرب حيث كان الاكل حينئذ مجمع الجامعين بمعنى كونه واجدا للحدين المأخوذين من مقولة الفعل الشامل أحدهما للضرب دون الشرب والآخر للشرب دون الضرب مع كونهما من مقولة واحدة وكون التركيب فيه اتحاديا لا انضماميا ، كامكان كون العنوانين أيضا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى كما في العالم والفاسق بناء على اخذ الذات في المشتق وتركب حقيقته من المبدأ والذات حيث إن العنوانين حينئذ في المجمع وان اختلفا ببعض الجهات الا انهما اشتركا في جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة وحيثية فاردة.

وعليه فلا يبقى مجال المصير في مثل الصلاة والغصب المنتزعين من فعل المكلف إلى لزوم كونهما من مقولتين متغايرتين بمحض اختلاف العنوانين وتعدد حقيقتهما كما عن بعض الاعلام قدس سره فيما أسسه في مقدمات مرامه من دعوى ان العنوانين العرضيين بينهما العموم من وجه المنتزعين من وجود واحد لايمكن ان يكونا من مقولة واحدة بل لابد وان يكونا من مقولتين مختلفين أحدهما من مقولة الفعل مثلا والآخر من مقولة أخرى كالاين ونحوه مستنتجا من ذلك أن الصلاة بعد أن كانت من مقولة الفعل فلابد وأن يكون الغصب من مقولة الأين وكونه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل الشاغل للمحل ليكون كلاهما من مقولة واحدة ويكون التركيب بينهما اتحاديا. وذلك لما عرفت من الاشكال فيه بان مجرد اختلاف العنوانين العرضيين المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاكهما عن الآخر في غير المجمع لايقتضي كونهما من مقولتين متغايرتين وكون التركيب بينهما انضماميا ، بل حينئذ كما يمكن كونهما من مقولتين مختلفين كك يمكن أيضا كونهما من مقولة واحدة بحيث كان التركيب بينهما اتحاديا في المجمع وكان الاختلاف بينهما في الحد محضا كما في المثال المتقدم من فرض الجامعين أحدهما بين زيد وعمرو المنتزع من تحديد الانسان بحد لايكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد منتزع من تحديد الانسان بحد لايكاد انطباقه الا عليهما خاصة كامكان كونهما مشتركين في بعض المنشأ وفي مقولة ومختلفين في مقولة أخرى أيضا ، إذ حينئذ نقول بأنه من الممكن حينئذ ان يكون كل من الصلاة والغصب من مقولة الفعل غايته منضما ببعض النسبيات الاخر فتكون الصلاة مثلا عبارة عن الافعال المخصوصة المقترنة بالإضافات المعهودة من

ص: 418

الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية الجامعة بين كونها في الدار المغصوبة أو في غيرها والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدون اذنه ورضاه الجامع بين أفعال الصلاة وغيرها من الافعال الاخر. ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك لا محالة لايكون برهان عقلي يقتضي كون الغصب من مقولة الأين ، وعبارة عن اشغال المحل بالفعل في فرض كون الغصب من مقولة الفعل ، كما هو واضح. نعم يمكن أيضا ان يكون الغصب بحسب العرف أو اللغة عبارة عن اشغال المحل بالفعل ومن مقولة الأين ، ولكن مثل هذا النزاع راجع إلى الوضع اللغوي فلايرتبط بمقام اللابدية العقلية المدعاة ، كما لايخفى.

وبالجملة فالمقصود من هذا التطويل هو بيان عدم اقتضاء مجرد اختلاف العنوانين المنتزعين من وجود واحد بحسب المنشأ لكونهما من مقولتين بحيث كان المحكى من كل عنوان مقولة غير ما يحكى عنه العنوان الاخر نظراً إلى ما عرفت من امكان اشتراكهما في مقولة واختلافهما في مقولة أخرى ، بل وامكان كونهما من مقولة واحدة وحقيقة فاردة مع كون الاختلاف بينهما ممحضا بصرف الحد المأخوذ فيهما أو بحسب المرتبة كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها الذي هو منتزع عن مرتبة من الصوت الزائد عن أصل القراءة.

ومن هذا البيان ظهر أيضا عدم صحة ابتناء القول بجواز الاجتماع على كون التركيب بين العنوانين في المجمع انضماميا لا اتحاديا بل وانما المدار كله في ذلك - كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى على اختلاف العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على معنى كون المحكى في كل عنوان غير المحكى في العنوان الآخر وعدم اختلافهما كك ، فإذا كان العنوانان متغايرين بتمام المنشأ نقول فيه بالجواز من غير فرق بين كونهما من مقولتين ممتازتين الملازم لكون التركيب بينهما في المجمع انضماميا أو من مقولة واحدة كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها ، حيث نقول بأنه من الممكن حينئذ كون إحدى الجهتين من هذا الوجود الوحداني وهي الجهة الحيوانية تبعا لقيام المصلحة بها محبوبة والجهة الأخرى منه وهي الجهة الناطقية مبغوضة ومتعلقة للنهي من دون سراية الحكم من إحدى الحيثيتين إلى الحيثية الأخرى ، وهكذا في مثال القراءة وحيثية الجهر بها حيث يمكن الالتزام فيه بجواز الاجتماع من جهة امكان كون أصل

ص: 419

القراءة تبعا لقيام المصلحة بها محبوبا وحيثية الجهر المنتزع عن مرتبة من الصوت الزائد عن أصل القراءة مبغوضة ومنهيا عنها مع وضوح كون التركيب بين العنوانين في أمثال ذلك اتحاديا لا انضماميا.

السادس من الأمور

لايخفى عليك ان العناوين المأخوذة في حيز الخطابات تارة : تكون من قبيل الجهات التعليلية وأخرى تكون من قبيل الجهات التقييدية ومرجع الأولى إلى خروج العنوان المزبور بنفسه عن كونه موضوعا للحكم وكونه من العناوين المشيرة إلى ما هو موضوع الحكم ومتعلقه وسببا لطرو الحكم عليه نظير عنوان المقدمية الذي هو من العناوين المشيرة إلى الدوات الخاصة الخارجية الموقوف عليها فعل الواجب كالطهارة والستر والقبلة ونحوها ومن ذلك أيضا كلية العناوين الاعتبارية المحضة التي من جهة اعتباريتها غير قابلة لتعلق الطلب بها وكان الطلب تبعا لقيام المصلحة متعلقا بمنشأ اعتبارها ، كما أن مرجع الثانية إلى كون ذلك العنوان المأخوذ في حيز الخطاب موضوعا بنفسه في القضية للحكم اما تماما أو جزء لا كونه مرآة إلى امر آخر يكون هو الموضوع حقيقة للحكم في القضية ومن ذلك كلية القضايا التوصيفية من نحو قوله : أكرم زيدا الجائي الظاهر في مدخلية عنوان المجيء أيضا بنحو القيدية في موضوع الحكم ومتعلقه ، قبال القضايا الشرطية من نحو قوله : أكرم زيد ان جائك ، أو إن جائك زيد فأكرمه ، الظاهر في أن تمام الموضوع للاكرام الواجب هو ذات زيد من غير مدخلية لعنوان المجيء في الموضوع ولو بنحو القيدية وانه انما كان علة وسببا لوجوب اكرامه وحينئذ فتمام المعيار في كون العنوان المأخوذ في حيز الخطاب من قبيل الجهات التعليلية أو التقييدية على ما ذكرناه ، لا ان المعيار فيه على كون التركيب بين العنوانين في المجمع اتحاديا أو انضماميا ، وذلك لوضوح انه لا تلازم بين كون العنوانين من قبيل الجهات التعليلية وبين كون التركيب بينهما في المجمع اتحاديا ولا بين كونها من قبيل الجهات التقييدية وبين كون التركيب بينهما انضماميا ، وذلك من جهة انه من الممكن حينئذ ان يكون العنوانان من قبيل الجهات التعليلية ، ومع ذلك يكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، كامكان كونهما من الجهات التقييدية ومع ذلك يكون

ص: 420

التركيب بينهما اتحاديا كما عرفت في مثال الجنس والفصل بل القراءة بالقياس إلى الجهر بها. وعليه فما أفيد كما عن بعض الاعلام قدس سره كما في التقرير من أن العنوانين المنتزعين من وجود واحد إذا كانا من قبيل الجهات التعليلية لابد وأن يكون التركيب بينهما اتحاديا ، وإذا كانا من الجهات التقييدية لابد وأن يكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا منظور فيه.

السابع من الأمور

لايخفى ان الطبيعي والفرد وان كانا متغايرين مفهوما وفي عالم التصور حيث كانا صورتين متبائنتين في الذهن بحيث لايكاد انتقال الذهن في مقام لحاظ الطبيعي وتصوره إلى الفرد ، وبهذه الجهة أيضا لايكاد سراية الحكم المتعلق بالطبيعي والكلي إلى الفرد ، الا على مبنى سخيف : من تعلق الاحكام بالخارجيات ، والا فعلى المذهب الحق كما حققناه في محله : من تعلق الاحكام بالعناوين وبالصور الذهنية يستحيل سراية الحكم من كل صورة في نظر إلى الصورة الموجودة في نظر وتصور آخر ، الا ان الفرد لما كان يحكى عما يحكى عنه عنوان الكلي وزيادة مفقودة في الكلي فكانا متحدين في جهة ومختلفين في زيادة الفرد لخصوصية زائدة عن الطبيعي وكانت الصور أيضا في مقام تعلق الاحكام بها مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية ، فقهرا تلك الجهة الواحدة الخارجية فيهما بعد قيام المصلحة بها بأي صورة تتصور أو شكل يتشكل توجب التلازم بين الصورتين المتحدتين في الجهة الخارجية في تعلق الإرادة والكراهة أيضا ، فيتعلق الحكم المتعلق بالطبيعي بالفرد أيضا لكن من حيث الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا بتمامه حتى بمشخصاته الفردية وحينئذ فإذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي فقهرا يسرى الحكم المزبور من الطبيعي إلى الحصص المحفوظة في ضمن الافراد من الطبيعي دون الخصوصيات الزائدة عنها ، بمعنى ان كل فرد إذا لوحظ كان الطبيعي المحفوظ في ضمنه متعلقا للإرادة أو الكراهة بالتقريب المزبور ، لا انه بمحض النظر إلى الطبيعي والكلي يسرى حكمه إلى الفرد أيضا وذلك لما عرفت من أن الطبيعي والفرد مفهومان متغايران في الذهن ، فيستحيل في هذا النظر سراية الحكم من أحد المفهومين إلى الاخر ، هذا إذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية.

ص: 421

وأما إذا كان متعلقا بصرف وجود الطبيعي الغير القابل للانطباق الاعلى أول وجود فكذلك أيضا ، غاية الامر انه في فرض تعلق الحكم بالطبيعة السارية يكون الحصص المحفوظة في ضمن كل فرد بتمام حدودها مشمولة للحكم ، ومن ذلك يصير كل فرد بما انه مصداق للطبيعي واجبا تعيينا ، بخلافه في فرض تعلقه بصرف وجود الطبيعي الجامع بين الافراد فان مشمولية الحصص الفردية حينئذ للوجوب انما يكون ببعض حدودها أعني حدودها المقومة لطبيعتها واما الحدود المقومة لشخصية الحصة المحفوظة في كل فرد التي هي مقسمة للطبيعي لا مقومة له فهي خارجة عن حيز الوجوب ومرجع ذلك كما عرفت في مبحث الواجب التخييري إلى لزوم سد باب العدم في كل حصة وفرد من قبل حدود عاليها المقومة لطبيعتها دون حدودها المقومة لشخصيتها المقسمة لطبيعتها الراجع ذلك إلى وجوب كل فرد من الافراد لكن بوجوب ناقص بنحو لايقتضي المنع الا عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك الملازم لترك بقية الحصص الأخرى ، ونتيجة ذلك كما عرفت سابقا هي صيرورة الافراد المزبورة واجبة بوجوب تخييري شرعي لا بوجوب تخييري عقلي محض كما هو مبنى القول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته منه إلى الافراد أصلا ، فتدبر.

الثامن من الأمور
اشارة

التزاحم بين المصلحة في الشيء ومفسدته تارة يكون في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية ومن حيث ايراث الحب والبغض ، وأخرى يكون التزاحم بينهما في عالم الوجود والتحقق بحيث يدور الامر بين وجود المفسدة وفوت المصلحة وبالعكس ، فعلى الأول لاينبغي الاشكال في أن الأثر للأقوى منهما ولا يلاحظ في هذه المرحلة مقام مزاحمتهما في عالم الوجود ، وان فرض امكان دركهما معا ولو في ضمن فردين ، وحينئذ فلو فرض قيام مصلحة أهم بصرف الطبيعي والجامع فقهرا بمقتضي ما عرفت في المقدمة السابقة من سراية المحبوبية من الجامع إلى الفرد ولو ببعض حدوده يصير الفرد بحدوده المقومة لعاليه تحت المحبوبية الفعلية وتلغو المفسدة المزبورة عن التأثير في المبغوضية فيه بالقياس إلى هذا الحد لمكان أهمية المصلحة المزبورة واما بالقياس إلى حدوده المقومة

ص: 422

لشخصيته فحيث انه لا تزاحمها المصلحة تبقى المفسدة القائمة بالفرد بجميع حدوده على حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد في حدوده المقومة لشخصيته فيصير الفرد المزبور حينئذ ببعض أنحاء حدوده وهو الحد الجامعي المستلزم لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى أهمية المصلحة تحت المحبوبية الفعلية وببعض حدوده الاخر وهو الحد المقوم لشخصية الحصة تحت المبغوضية الفعلية هذا بالنسبة إلى مقام مزاحمة الملاكين في عالم التأثير في الحب والبغض.

واما بالنسبة إلى مقام مزاحمتها في عالم الوجود فحيث انه أمكن حفظ كلا الغرضين ولو في ضمن وجودين فلا جرم يرجح العقل جانب المفسدة المهمة ومبغوضية الفرد من ناحية حدوده المشخصة على المصلحة الا هم المؤثرة في محبوبيته من ناحية حدوده الجامعي جمعا بين الغرضين ، وبهذه الجهة تصير الإرادة الفعلية على وفق المفسدة المهمة ولو كانت في أدنى درجة الضعف والمصلحة في أعلى درجة القوة من غير أن يلاحظ في ذلك درجات المصلحة والمفسدة وتأثيراتهما في المحبوبية والمبغوضية بوجه أصلا ، الا إذا فرض وقوع المزاحمة بينهما في عالم الوجود أيضا بحيث لا يتمكن من الجمع بين الغرضين فيؤثر الأقوى درجة منهما ويكون الإرادة الفعلية أيضا بحكم العقل على وفقه ، والا فمع عدم صدق المزاحمة بينهما حقيقة في هذه المرحلة وامكان الجمع بينهما ولو في ضمن وجودين فلا محالة يكون الترجيح بحكم العقل في لزوم الجمع بين الغرضين مهما أمكن للمفسدة المهمة وتكون الإرادة الفعلية أيضا على وفقها وان كانت في أدنى درجة الضعف حتى البالغة إلى حد الكراهة.

ومن هذا البيان ظهر حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا فإنه بمقتضى ما ذكرنا أمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة فيما لو كان الامر متعلقا بالجامع المنتج لوجوب كل فرد تخييرا ، والنهى متعلقا بالطبيعة السارية ، كالأمر بالصلاة الجامعة بين الصلاة في الحمام وبين الصلاة في غيره من الأمكنة مع النهى التنزيهي عن الصلاة في الحمام أو في موضع التهمة مثلا ، وذلك انما هو بالتفكيك بين حدود الفرد من حيث حدوده الجامعة وحدوده المشخصة له بالتقريب المتقدم من دون حاجة إلى الالتزام فيها بأقلية الثواب أو غيرها من المحامل الاخر ، كما هو واضح.

ثم إن هذا كله فيما لو كان الامر متعلقا بصرف الطبيعي الجامع بين الافراد.

واما لو كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي بحيث يقتضي مطلوبية كل واحدة من الحصص على نحو التعيين ، فلا جرم لايكاد يتم التفكيك المزبور بين مقام تأثير الملاكين

ص: 423

في الرجحان والمرجوحية وبين مقام تأثيرهما في الايجاد ، نظراً إلى أن المفسدة حينئذ كما تقتضي مبغوضية الفرد بتمام حدوده كك المصلحة أيضا تقتضي محبوبية الفرد بتمام حدوده وفي مثله لا محالة يكون الأثر للأقوى منهما حتى في عالم الوجود أيضا مصلحة كانت أو مفسدة ، والوجه فيه واضح ، لان المزاحمة حينئذ كما تكون بينهما في عالم التأثير في الحب والبغض ، كك تكون المزاحمة بينهما في عالم الوجود أيضا ، وفي مثله يكون الأثر لما هو الغالب منهما ، ومن ذلك أيضا لا يجري ما ذكرنا في النواهي التنزيهية في موارد يكون الامر بنحو الطبيعة السارية إذ لايمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة بالتقريب المتقدم ، بل بعد الفراغ عن صحة العبادة لابد من المصير إلى محامل أخر : اما بصرف النهى عن ظاهره والحمل على أقلية الثواب ، أو بصرفه عن نفس العبادة إلى حيثية ايقاعها وكينونتها في وقت كذا ومكان كذا نظير النهى عن جعل الماء للشرب في كأس كثيف ، أو غير ذلك من المحامل الاخر.

في بيان ما هو الحق في المسألة

وحيث اتضح لك هذه الأمور فنقول : ان اختلاف العنوانين لو كان في صرف كيفية النظر لا في المنظور فلاينبغي الاشكال فيه في عدم جواز الاجتماع ، وذلك لوضوح ان المنظور بعد ما كان فيهما واحدا ذاتا وجهة لايكاد يتحمل طرو الصفتين المتضادتين المحبوبية والمبغوضية ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بتعلق الاحكام بالخارجيات أو بالعناوين والصور الذهنية ، وذلك لان الصور وان كانت متغايرة ولكنها بعد ما كانت مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية وكان المنظور فيهما واحدا ذاتا وجهة فقهرا يرى المنظور فيهما غير قابل لطرو الصفتين المتضادتين عليه وهما المحبوبية والمبغوضية ، ومن ذلك أيضا نقول بامتناع اتصاف اجزاء المركب بالوجوب الغيري مع فرض كونها واجبة بوجوب الكل نفسيا ، وعدم اجداء مجرد الاختلاف في النظر فيها من حيث اللابشرطية والبشرط لائية في رفع محذور اجتماع المثلين بعد اتحاد الذات الملحوظة في ضمن الاعتبارين.

ومثله في عدم الجواز ما لو كان العنوانان من العناوين الاعتبارية المحضة الغير القابلة لقيام المصالح بها فإنه في مثل ذلك أيضا يكون مركب المصالح والحب والبغض هي الذات المعروضة لها ، وانها في ظرف وجود منشأها كانت من الجهات التعليلية

ص: 424

لمصلحة الذات المعروضة لها وحينئذ فإذا كانت الذات المعروضة لها واحدة ذاتا وجهة فقهرا تأبى عن ورود الصفتين المتضادتين عليها من الحب والبغض والإرادة والكراهة.

واما لو كان اختلاف العنوانين في المنظور لا في صرف كيفية النظر ، فان كان الاختلاف بينهما بتمام المنشأ على وجه يكون منشأ انتزاع كل بتمامه غير المنشأ في الآخر ففي مثل ذلك لا باس بالالتزام بجواز الاجتماع ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوانين من مقولتين مختلفين أو من مقولة واحدة ، كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها ، وكذا القراءة بالقياس إلى الجهر بها ، إذ حينئذ بعد تغاير الجهتين أمكن تعلق الحكمين المتضادين بوجود واحد على وجه يكون مركب كل حكم جهة غير الأخرى ، ومجرد وحدة الوجود في الخارج وعدم قابليته للتقسيم وللإشارة الحسية خارجا غير مانع عن ورود الحكمين المتضادين عليه ، بعد حل العقل إياه في مقام التحليل بجهة دون جهة ومرتبة دون أخرى ، إذ حينئذ من جهة هذا التحليل العقلي يتميز معروض الحكمين بنحو يرتفع التضاد من البين ، فكان معروض أحد الحكمين جهة ومرتبة غير معروض الحكم الآخر. ومن غير فرق أيضا بين كون التركيب في المجمع انضماميا أو اتحاديا ، ولا بين كون العنوانين من قبيل الجهة التعليلة أو التقييدية ، ولا بين القول بوقوف الطلب على الصور أو سرايته إلى الخارجيات ، ولا بين كون الامر متعلقا بصرف الطبيعة أو بالطبيعة السارية ، فإنه على جميع تلك التقادير مهما اختلف معروض الحكمين ذاتا أو جهة أو مرتبة كما لو كان معروض أحد الحكمين هو حدوث الشيء ومعروض الآخر بقائه يصار فيه بالجواز على جميع التقادير حتى على القول بتعلق الاحكام بالخارجيات ، من جهة انه باختلاف المعروضين يرتفع غائلة محذور التضاد من البين ، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان اختلاف العنوانين بتمام المنشأ.

واما لو كان اختلافهما ببعض المنشأ بان كانا مشتركين في جهة أو مقولة وممتازين في جهة أو مقولة أخرى ففي مثله لابد من المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما ، من جهة عدم تحملها لطرو الصفتين المتضادتين عليها ، المحبوبية والمبغوضية ، فمن ذلك لابد وأن يكون الأثر لما هو الأقوى منهما مناطا مصلحة أو مفسدة ، من غير فرق بين ان يكون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو بالجامع وبصرف وجودها.

الا على مسلك من يقول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته إلى

ص: 425

الافراد بوجه أصلا ولو من حيث حدودها الطبيعية ، بخيال ان الطبيعي والفرد صورتان مبتائنتان في الذهن والامر بعد تعلقه بالصور لا بالخارجيات لا يتعدى بوجه من الوجوه إلى الافراد ، وان الافراد حينئذ انما كانت واجبة بوجوب تخييري عقلي لا بوجوب تخييري شرعي ، وأيضا إن صرف الطبيعي والجامع بعد ما كان غير قابل للانطباق الا على أول وجود فلا جرم قبل الانطباق لايكون هناك أول وجود حتى يسرى إليه الحكم وكك بعد الانطباق ، نظراً إلى أن مثل هذا الظرف لسقوط الطلب عن الطبيعي فلايمكن كونه ظرفا لثبوته فمن ذلك يستحيل سراية الطلب إلى الفرد ، فإنه على هذا المسلك لا بأس بالالتزام بصحة العبادة باتيان هذا الفرد بداعي الامر بالطبيعي ، بل على هذا المسلك يخرج المسألة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد من جهة ان الوجود والفرد على ذلك لايكون الا مبغوضا محضا ، كما هو واضح.

ولكنك قد عرفت في المقدمة السابقة فساد المسلك المزبور وان التحقيق هو سراية الحكم من الطبيعي والجامع إلى الافراد بالتقريب المتقدم في شرح السراية ، وعليه فلابد من المصير إلى عدم جواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما نظراً إلى عدم قابليتها لطرو الصفتين المتضادتين عليها سواء فيه بين ان يكون الامر أيضا كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو كان متعلقا بصرف وجود المنتج لمحبوبية الافراد تخييرا إذ كما أن مبغوضية الشيء بجميع حدوده تنافى محبوبيته التعيينية كك تنافى أيضا محبوبيته التخييرية فان مرجع كون الشيء محبوبا تخييريا إلى كون تركه لا إلى بدل مبغوضا ومنهيا عنه وهو مما ينافي بداهة مبغوضية التعيينية الملازمة لمحبوبية تركه ولولا إلى بدل ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما امتنع الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بين العنوانين ولم تتحمل لطرو الصفتين المتضادتين عليها من المحبوبية والمبغوضية ، فلا جرم في مقام التأثير كان الأثر لما هو الأقوى منهما ملاكا مصلحة أو مفسدة ، وحينئذ لو كان الأقوى هو النهى فقهرا تصير الجهة المشتركة بجميع حدودها بمقتضي المفسدة الغالبة مبغوضة محضا لا محبوبة.

واما لو كان الأقوى هو الامر ، فان كان متعلقا بالطبيعة السارية فكذلك أيضا حيث إنه تصير الجهة المشتركة حينئذ بجميع حدودها بمقتضي المصلحة الغالبة محبوبة محضا لا مبغوضة عكس الصورة الأولى وان كان متعلقا بصرف الطبيعي والجامع ففي هذا الفرض يمكن الجمع بين الرجحان الفعلي والمرجوحية الفعلية بالنسبة إلى الجهة

ص: 426

المشتركة وذلك لما تقدم في المقدمة الثامنة من أن مقتضى المصلحة الأهم في الجامع المستتبع للسراية إلى الفرد حينئذ انما هو التأثير في رجحان الفرد ومحبوبيته بالقياس إلى بعض أنحاء حدوده وهو حدوده الجامعي لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدوده المشخصة. وحينئذ فإذا فرض قيام المفسدة المغلوبة بالفرد بجميع حدوده حسب تعينها فلا جرم المقدار الذي تزاحمها المصلحة الأهم في الجامع في عالم التأثير انما هو بالقياس إلى حدوده الجامعي المقومة لعاليه. واما بالقياس إلى حدوده المشخصة المقومة لسافله فحيث انه لا تزاحمها المصلحة الأهم فقهرا تبقى المفسدة المهمة على حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد من حيث حدوده المشخصة فيصير الفرد والجهة المشتركة حينئذ ببعض أنحاء حدوده وهو حده الجامعي المستتبع لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى المصلحة الأهم في الجامع تحت الرجحان والمحبوبية الفعلية ، وببعض حدوده الاخر وهو حده المشخص له المقوم لسافله تحت المرجوحية والمبغوضية الفعلية ، بمقتضى خلو المفسدة المهمة عن المزاحم بالقياس إلى مثل هذه الحدود ويخرج عن كونه محبوبا فعليا على الاطلاق ومبغوضا فعليا كك ، كما هو واضح.

ثم إن ذلك كما عرفت بالنسبة إلى مقام تزاحم الملاكين في عالم التأثير في الرجحان والمرجوحية.

واما بالنسبة إلى مقام التزاحم في عالم الوجود فحيث انه أمكن استيفاء كلا الغرضين ولو بايجاد المأمور به في ضمن فرد آخر فلا جرم كان التأثير بحكم العقل للمفسدة المهمة المغلوبة ويقيد بحكم العقل دائرة فعلية إرادة الطبيعة بما عدا هذا الفرد وان لم يكن كك في عالم التأثير في الرجحان والمحبوبية ، فيصير الفرد المزبور حراما فعليا ويجب الاتيان بالطبيعي في ضمن فرد آخر ، جمعا بين الحقين وحفظا للغرضين ، وان كان لو اتى بالطبيعي في ضمن هذا الفرد بداعي رجحانه الفعلي من حيث حده الجامعي كان ممتثلا ومطيعا من تلك الجهة وعاصيا من جهة أخرى.

وبالجملة فالمقصود هو عدم ملاحظة حيثية أهمية مصلحة الجامع في هذا المقام عند التمكن من استيفائها في ضمن فرد آخر وانه يقدم حينئذ تلك المفسدة المهمة المغلوبة القائمة بالخصوصية على المصلحة الأهم في الجامع ، ولو كانت في أدنى درجة الضعف حتى البالغة إلى درجة الكراهة وكانت المصلحة في أعلى درجة القوة. وعمدة النكتة في ذلك

ص: 427

انما هي عدم صدق المزاحمة والدوران حينئذ بين الغرضين في الوجود بلحاظ امكان الجمع بينهما باتيان الطبيعي والجامع في ضمن غير هذا الفرد والا فمع صدق المزاحمة في هذا المقام أيضا لا اشكال في أن التأثير للأقوى منهما كما في فرض انحصار الطبيعي بهذا الفرد وكذا في فرض قيام المصلحة أيضا كالمفسدة بالطبيعة السارية.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حل الاشكال في الكراهة في العبادات فيما كان لها البدل ، حيث إنه بمقتضي البيان المزبور أمكن الالتزام بفعلية الكراهة المصطلحة في الفرد ولو من حيث حدوده المشخصة مع الالتزام أيضا بصحة العبادة بلحاظ رجحانها ذاتا بمقدار يقتضي رجحان حفظ الفرد المزبور من ناحية حدود الطبيعي. نعم فيما لا بدل لها من العبادات لا يجري البيان المزبور من جهة وقوع المزاحمة حينئذ بين الأمر والنهي في الفرد بجميع حدوده ، فلابد فيها اما من الحمل على أقلية الثواب والرجحان ، أو صرف النهى عن ظاهره إلى ايقاع العبادة في الأوقات المخصوصة ، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في مكان قذر ، بجعل المبغوض كينونة العبادة في وقت كذا لا نفسها ، حتى لاينافي المبغوضية مع محبوبية العمل ورجحانه المقوم لعباديته.

وعلى ذلك فكم فرق بين الجواز بهذا المعنى وبين الجواز بالمعنى المتقدم بمسلك مكثرية الجهات ، حيث إنه على الأول يكفي في جواز الاجتماع مجرد تغاير العنوانين بتمام المنشأ على نحو يكون منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه مغايرا مع منشأ انتزاع الآخر من غير فرق بين ان يكون الامر متعلقا بالطبيعة السارية أو بصرف وجودها ولا بين اقوائية ملاك الامر في نفسه أو اقوائية ملاك النهى ، بخلافه على مسلك اختلاف أنحاء حدود الشيء فان الجواز بهذا المعنى يحتاج أولا إلى عدم كون الامر متعلقا بالطبيعة السارية بل بصرف الطبيعي والجامع المنتج للوجوب التخييري في الافراد بالتقريب المتقدم في المقدمة السابعة. وثانيا إلى أهمية مصلحة الجامع من المفسدة التعيينية في الفرد.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في المفاهيم الاشتقاقية المأخوذة في حيز الحكم بنفسها أو بعنوان ايجادها ، حيث إنه يختلف مصب الحكم حسب الاختلاف في مفهوم المشتق ، فعلى القول بأخذ الذات فيه وتركبه من المبدء والذات فلا جرم يكون العنوانان في المجمع من قبيل العنوانين المختلفين في بعض المنشأ والمشتركين في البعض الآخر ، من جهة اشتراك عنوان العالم والفاسق حينئذ في جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة وحيثية

ص: 428

فاردة ، وفي مثله لابد من المصير إلى الامتناع بمقتضي ما تقدم ، لا الجواز ، الا في فرض تعلق الامر بصرف الطبيعي والجامع مع فرض أهمية المصلحة الجامعية أيضا من المفسدة التعيينية في الفرد ، فيصار حينئذ إلى الجواز بمقتضي البيان المتقدم.

واما على القول ببساطة المشتق وعدم اخذ الذات فيه فان قلنا بالفرق بين المشتق ومبدئه باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية وجعلنا مصب الحكم بهذا الاعتبار نفس المبدئين فالعنوانان من قبيل العنوانين المختلفين بتمام المنشأ وفي مثله كان الحكم هو الجواز من جهة اختلاف المتعلقين بتمام الحقيقة ، واما ان قلنا بعدم كفاية مجرد اعتبار اللابشرطية في كون مصب الحكم هو المبدء بشهادة عدم صحة جعله مصب الحكم في مثل أطعم العالم وقبل يد العالم وأكرم العالم ، ولو مع اعتبار اللابشرطية الف مرة وان مصب الحكم ومحطه انما كان عبارة عن نفس الذات غايته بما هي متجلية بجلوة العلم والقيام والقعود ونحو ذلك على نحو كان المبدء ملحوظا في مقام الحكم تبعا للذات وان كان بحسب اللب من الجهات التعليلية لمصلحة الذات فلا جرم يكون العنوانان في مقام الحكاية عن محط الحكم من قبيل حكاية المفهومين عن جهة واحدة وحيثية فاردة وفي مثله لابد من المصير إلى الامتناع من جهة استحالة طرو الصفتين المتضادتين على جهة واحدة وحيثية فاردة ، كما هو واضح.

مسألة الصلاة في محل مغصوب

بقى الكلام في مسألة الغصب والصلاة التي هي معركة الآراء بين الأصحاب بعد الفراغ عن اختلافهما حقيقة ، في أنه هل هما حاكيان عن الجهتين الخارجيتين الممتازتين بتمامهما في المجمع على نحو كان منشأ انتزاع كل بتمامه جهة غير الجهة التي ينتزع عنها الاخر؟ أم هما مشتركان في جهة خارجية وممتازان في جهة أخرى كك نظير العالم والفاسق بناء على القول بتركب المشتق من المبدء والذات؟ ومبني الخلاف انما هو الخلاف في خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وعدم خروجها عن حقيقتهما.

فعلى المختار من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وان الصلاة عبارة عن الافعال الخاصة من القيام والركوع والسجود المقرونة ببعض الإضافات والنسبيات

ص: 429

الاخر من الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية ، وكذا الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع بين الركوع والسجود وبين غيرهما من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فالعنوانان مشتركان في جهة وممتازان في جهة أخرى من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس الأكوان وامتيازهما في الخصوصيات الزائدة من الإضافات المقومة للصلاتية والإضافات المقومة للغصبية ، ومقتضي ذلك كما تقدم هو المصير إلى عدم الجواز الاجتماع في المجمع في تمام العنوانين في الجهة المشتركة بينهما وهي نفس الأكوان ، مع الالتزام بجواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهتين الممتازتين القائمتين بالأكوان المقومة إحديهما للصلاتية والأخرى للغصبية.

واما على القول بخروج الأكوان عن حقيقة الصلاة أو الغصب اما بجعل الصلاة عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان الخاصة بجعلها عبارة عن مقولة الوضع ، مع جعل الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدونه اذنه ورضاه ، أو عن مقولة الأين بجعله عبارة عن اشغال المحل بالفعل مع جعل الصلاة من مقولة الفعل فالعنوانان ممتازان في المجمع بتمام حقيقتهما ، ومقتضاه كما تقدم هو المصير إلى جواز الاجتماع.

وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة فنقول : والتحقيق حينئذ هو ما عرفت من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وذلك فان القول بكون الصلاة من مقولة الوضع وانها عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان من الاستقامة والتقوس والانحناء مع خروج نفس الأكوان عن حقيقة الصلاة بعيد جدا ، فإنه مع الاغماض عن أن القراءة عبارة عن نفس الحركة لا عن الخصوصيات الواردة عليها نقول : بان ظاهر المنساق من العناوين المزبورة من نحو القيام والركوع والسجود هو كونها عبارة عن نفس الأكوان الخاصة دون الأوضاع الواردة ، عليها ، ومن ذلك أيضا لا يكتفي في القيام الواجب في الصلاة بصرف احداث هيئة القيام من دون وقوع ثقله على الأرض ونحوها في حال الاختيار فتأمل ، كبعد القول بان الغصب من مقولة الأين وانه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل الشاغل لمحل الغير فان الظاهر هو عدم فهم العرف من الغصب الأنفس التصرفات الشاغلة لا مجرد اشغال المحل بها كيف ومع الاغماض عن ذلك وتسليم كون الغصب عبارة عن نفس الحيطة على الشيء نقول : بأنه يكفينا حينئذ العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون اذنه ورضاه المعلوم انصرافه في الأذهان إلى نفس التصرفات الشاغلة حركة وسكونا من

ص: 430

جهة انطباق عنوان التصرف المنهي عنه في عموم عدم جواز التصرف حينئذ على نفس الأكوان الخاصة من القيام والقعود والركوع والسجود وحينئذ فإذا كانت الصلاة أيضا عبارة عن نفس الأكوان الخاصة غايته مقرونة ببعض الإضافات والنسبيات الاخر من الترتيب والموالاة ونشو كونها عن قصد الصلاتية ، فلا جرم تصير الصلاة والغصب من قبيل العنوانين المشتركين في بعض الجهة دون بعض ، من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس الأكوان التي هي جهة واحدة ومقولة فاردة ، وفي مثله لابد كما عرفت من المصير إلى عدم الاجتماع بالنسبة إلى نفس الأكوان مع الالتزام بالجواز في الجهات الزائدة عن الأكوان من الخصوصيات والإضافات القائمة بها المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية.

على أن مجرد الالتزام بان الغصب من مقولة الأين مع الالتزام بان الصلاة من مقولة الفعل لا يجدي أيضا فيما هو المهم من تصحيح الصلاة ، فان الأكوان على ذلك تصير سببا للغصب المنهي عنه في عموم لايجوز التصرف في مال الغير الا باذنه فكانت محرمة حينئذ بالحرمة الغيرية ومع حرمتها تقع فاسدة من هذه الجهة من جهة اندراجها في باب النهى عن العبادة وان كان بينهما فرق من حيث تحقق ملاك الأمر والنهي في المقام دونه في ذلك المقام ، كما هو واضح. ولكن التحقيق في المقام هو ما عرفت من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة ولا عن حقيقة الغصب وانه كما أن الصلاة عبارة عن الأكوان الخاصة بضميمة بعض الإضافات الخاصة كذلك الغصب أيضا حسب ما هو المنصرف منه لدى العرف من العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون رضاه عبارة عن نفس الافعال الشاغلة حركة وسكونا المنطبقة على الأكوان الخاصة فيكونان حينئذ مشتركين في نفس الأكوان التي هي جهة واحدة وحيثية فاردة وممتازين في الخصوصيات الزائدة من الإضافات الخاصة المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية. ومقتضى ذلك هو لزوم المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى نفس الأكوان التي هي جهة مشتركة بينهما في المجمع مع الجواز بالنسبة إلى الجهتين الزائدتين القائمتين بالأكوان المقومة إحديهما للصلاة والأخرى للغصب ، نعم لما كان المفروض حينئذ أهمية مفسدة الغصبية من مصلحة الصلاة باعتبار كونها من حقوق الناس فلا جرم يقع الأكوان الخاصة من القيام والركوع والسجود موردا لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية فتقع مبغوضا صرفا لا محبوبا ومعه تبطل الصلاة لا محالة لعدم المجال حينئذ للتقرب بها بايجادها.

ص: 431

اللّهم الا ان يقال حينئذ بأنه يكفي في تصحيحها التقرب بالجهات الزائدة عن الأكوان فيتقرب حينئذ بجعل الأكوان صلاة لان ما هو المبغوض حينئذ انما كان تلك الأكوان بعناوينها الأولية وبما هي قيام وركوع وسجود لا بما انها صلاة بهذا العنوان الطاري عليها الناشي من قصد الصلاتية بها. وحينئذ فبعد ان كانت هذه الخصوصيات القائمة بالأكوان موردا لتأثير المصلحة المهمة في المحبوبية الفعلية بمقتضى خلوها عن المزاحم فيها فلا جرم أمكن التقرب بحيثية كونها صلاة فيتقرب بحيثية صلاتية الأكوان لا بنفسها وإيجاد تمام حقيقة الصلاة ويكتفي أيضا في التقرب بمثلها في العبادة من دون احتياج في صحتها إلى التقرب بتمام حقيقتها كي يشكل من جهة مبغوضية نفس الأكوان ، ومع الشك في احتياج العبادة في القرب إلى أزيد من هذا المقدار فالأصل هو البراءة عن المقدار الزائد ، بناء على ما هو التحقيق من جريانها في الشك في أصل قربية العمل وتعبديته أو توصليته نعم بناء على مرجعية الاحتياط في أصل المسألة عند الشك في التعبدية والتوصلية بالتقريبات المذكورة في محله لابد من الاحتياط في المقام أيضا والمصير إلى عدم كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة ، هذا.

ولكن مع ذلك لا تخلوا لمسألة عن اشكال فان الظاهر هو تسالم الأصحاب على عدم كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها وحينئذ فإذا فرضنا مبغوضية الأكوان المزبورة من جهة أهمية مفسدة الغصب لكونه من حقوق الناس فلا جرم لايبقى مجال للتقرب بتمام حقيقة الصلاة فتفسد العبادة حينئذ لا محالة ، كما هو واضح ، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بكفاية التقرب بحيثية صلاتية الأكوان والجهات الزائدة عنها لما كان مجال للاشكال عليه بان تلك الجهات الزائدة من الإضافات الخاصة المقومة للصلوتية والغصبية انما هي من الاعتباريات المحضة الخارجة عن حيز المصلحة والمفسدة وان ما هو مركب المصلحة والمفسدة انما هو الصادر الخارجي الذي هو نفس الكون ومعه يكون ما في الخارج مبغوضا محضا بتمامه لا ببعضه ، إذ يمكن دفعه بما عرفت في المقدمة الخامسة من عدم كون هذا النحو من الإضافات المقولية من قبيل الإضافات الاعتبارية المحضة التي لايكون لها واقعية بل هي بلحاظ خارجيتها في نفسها حينئذ كانت قابلة لان تكون مركب المصالح والمفاسد ضمنا أو استقلالا من غير فرق في ذلك بين ان نقول بحظ من الوجود لها أيضا كما قيل أم لا ، لأنها حينئذ كانت من قبيل

ص: 432

حدود وجود الشيء الذي بحده الخاص تقوم به المصالح والمفاسد ومعه لايبقى مجال الغائها عن التأثير في الصلاح والفساد بالمرة والحاقها بالأمور الاعتبارية المحضة التي لايكون لها واقعية في الخروج عن حيز الصلاح والفساد ، وحينئذ فلو لا الاجماع المزبور على عدم كفاية هذا المقدار من القرب من صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها أمكن تصحيح العبادة بمقتضى القاعدة بالمقدار المزبور من القرب ، كما هو واضح.

وكيف كان فهذا كله في اجتماع الأمر والنهي وتميز موارد الجواز والامتناع على المسالك المزبورة.

وقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان المختار هو جواز الاجتماع في فرض اختلاف العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على نحو كان منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه غير ما ينتزع عنه العنوان الاخر ، من غير فرق بين كون العنوانين من مقولتين كعناوين الأوصاف الحاكية عن الكم والكيف والأين أو من مقولة واحدة ، كان التركيب بينهما في المجمع اتحاديا أو انضماميا ، ومن غير فرق بين كون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو بصرف وجودها ، ولا بين تعلق الامر بالعناوين والصور الذهنية أو بالمعنونات الخارجية ، ولا بين وقوف الطلب على نفس الطبيعي أو السراية إلى الافراد ، وعدم جواز الاجتماع فيما لم يكن تغاير العنوانين بهذا النحو سواء كان اختلافهما في صرف كيفية النظر دون المنظور ، أو كان اختلافهما في المنشأ وفى المنظور أيضا لكن لا بتمامه بل بجزء منه ، إذ حينئذ بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما يتوجه محذور اجتماع الضدين وهما الحب والبغض في امر وحداني ، ولقد عرفت أيضا ان مثل الصلاة والغصب الذي هو معركة الآراء من هذا القبيل حيث إنه بعد عدم خروج الأكوان عن حقيقتهما كان اختلافهما في جزء المنشأ خاصة ، لا في تمامه كما هو مقتضي القول بخروج الأكوان عن حقيقة الغصب أو القول بخروجها عن حقيقة الصلاة بجعلها عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان ، ولا كان اختلافهما أيضا بالاعتبار مع اتحادهما حقيقة في تمام المنشأ كما يظهر من الكفاية (1) من حيث عدة الصلاتية والغصبية من الاعتباريات الصرفة الخارجة عن حيز المصلحة والمفسدة هذا كله على مسلك مكثرية الجهات جوازا ومنعا.

ص: 433


1- ج 1 ص 249.

كما أنه على مسلك عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد كان المتجه هو المصير إلى الجواز في كل مورد كان الامر متعلقا بالطبيعي والجامع والنهى بفرد من افراده وان كان المبنى خلاف التحقيق ، كما مر بيانه وشرح السراية في المقدمة السابعة.

واما على المسلك اختلاف أنحاء حدود وجود الشيء الوحداني الجاري حتى في صورة وحدة عنوان المتعلق في الأمر والنهي كقوله : صل وقوله : لا تصل في الدار المغصوبة أو في الحمام فقد عرفت ان المختار على هذا المسلك أيضا هو الجواز في كل مورد كان المطلوب من الامر هو صرف الطبيعي والجامع دون الطبيعة السارية مع اقوائية المصلحة الجامعية من المفسدة التعيينية في الفرد والا فالمتجه هو عدم جواز الاجتماع ، ومن ذلك لايكاد يجدي هذا المسلك أيضا للجواز في مثال الغصب والصلاة الذي هو معركة الآراء وذلك انما هو من جهة ما يعلم من مذاق الشرع من أهمية مفسدة الغصب ولو من جهة كونه من حقوق الناس إذ حينئذ يخصص دائرة رجحان الطبيعي والجامع عقلا بما عدا هذا الفرد فيصير الفرد الغصبي بتمام حدوده مورد تأثير المفسدة الأهم التعيينية في المبغوضية الفعلية وهذا بخلافه في فرض أهمية مصلحة الجامع فإنه في هذا الفرض يكون التأثير للمصلحة الأهم فيمكن حينئذ الالتزام بجواز الاجتماع بالتفكيك بين أنحاء حدود الفرد المزبورة بالتقريب المتقدم.

بل وعلى هذا التقريب أيضا عرفت حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا ، حيث جمعنا بين صحة العبادة وبين ظهور النواهي المتعلقة بها في الكراهة المصطلحة بالالتزام بفعلية الكراهة في الفرد ولو ببعض حدوده مع الالتزام بصحة العبادة أيضا لمكان رجحانها ذاتا بمقدار يقتضي حفظ وجودها من قبل حدودها الطبيعي لا مطلقا حتى من قبل حدودها الشخصية ، ولكن مثل ذلك كما عرفت انما هو في العبادات المكروهة التي لها بدل كالصلاة في الحمام مثلا ، واما ما لا بدل لها منها كصوم يوم عاشورا والصلوات المبتدئة في الأوقات المخصوصة في أول طلوع الشمس وعند غروبها ونحو ذلك مما كان امره من قبيل الوجود الساري فلا يتم هذا التقريب ، إذ في مثل ذلك يقع التزاحم قهرا بين الأمر والنهي في الفرد بجميع حدوده ، ومن ذلك لابد فيها اما من صرف تلك النواهي عن ظاهرها إلى حيث ايقاع العبادة في الأوقات الخاصة ، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في مكان قذر ، فكان المبغوض حينئذ هو كينونة الصلاة في أوقات خاصة لأنفسها ، واما من حمل الكراهة

ص: 434

فيها على أقلية الثواب والرجحان ، وان كان المتعين هو الوجه الأول نظراً إلى عدم ملائمة أقلية الرجحان مع مداومة الأئمة علیهم السلام على الترك.

نعم هنا وجهان آخر ان تفصى بكل منهما في الكفاية (1) لدفع الاشكال : أحدهما دعوى قيام مصلحة أخرى أقوى على عنوان منطبق على الترك فكان رجحان تركها حينئذ لمكان ما في نفس الترك حينئذ من المصلحة الأهم بملاحظة ذاك العنوان المنطبق عليه وثانيهما دعوى قيام مصلحة أقوى على عنوان وجودي ملازم مع تركها ، فكان النهى عن ايجادها حينئذ في الحقيقة كناية عن الامر بذلك العنوان الملازم مع الترك ، حيث اكتفى في الامر به بالنهي عما هو نقيض ملزومه.

ولكن لايخفى ما في كلا الوجهين : اما الأول فلان مقتضى أرجحية الترك بعد فرض انطباق العنوان المزبور عليه واتحاده معه هو ان يكون نقيضه وهو الفعل بمقتضي اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن نقيضه مرجوحا فعليا ومع صيرورة الفعل الذي هو نقيض الترك مرجوحا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف المجال لصحة العبادة مع مرجوحيتها الفعلية؟ واما الثاني فلكونه مخالفا لما يقتضيه ظهور النهى من التعلق بنفس العمل لا بما يلازمه من امر آخر ، كما هو واضح.

بقى التنبيه على أمور

الامر الأول : لايخفى عليك انه لا اختصاص لنتيجة هذه المسألة بالعبادات بل كما انها تجرى في العبادات كك تجرى في المعاملات أيضا ، كما لو آجر نفسه على خياطة ثوب أو طحن حنطة بمعناهما المصدري فخاطه أو طحنها في مكان مغصوب حيث إنه تقع الخياطة وكذا الطحن بملاحظة كونهما أداء لحق الغير مأمورا بالايجاد ، وبملاحظة كونه غصبا وتصرفا في مال الغير بدون رضاه كان منهيا عن الايجاد. وحينئذ فبناء على جواز الاجتماع كان له ايجاد الخياطة والطحن في مكان مغصوب وباتيانه يقع العمل وفاء لعقد الإجارة نظراً إلى خروج محل الإجارة حينئذ عن المبغوضية وبقائه على ماليته فيصير حينئذ وفاء

ص: 435


1- ج 1 ص 256.

قهرا بعقد الإجارة ، نعم على ذلك لابد في صحة أصل الإجارة من وجود المندوحة من جهة انه بدون المندوحة لا قدرة له على الوفاء وهي شرط صحة الإجارة فمن ذلك يبطل الإجارة حينئذ لانتفاء شرط صحتها الذي هو القدرة على الوفاء ، ومن هذه الجهة يفرق العبادات عن المعاملات ، حيث إنه في العبادات لايحتاج إلى اعتبار قيد المندوحة الا من جهة رفع غائلة محذور التكليف بما لايطاق الذي هو غير مهم أيضا عند القائل بالجواز من جهة ما عرفت من أن المهم عنده انما هو محذور اجتماع الضدين الذي هو بنفسه من التكليف المحال ، بخلافه في المعاملات حيث إن الاحتياج إلى قيد المندوحة من جهة أصل صحة المعاملة. واما بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى فحيث انه تسرى المبغوضية إلى الخياطة فقهرا تصير مبغوضة ومحرمة ومعه تخرج شرعا عن المالية فلا يصلح مثلها للوقوع وفاء بعقد الإجارة وحينئذ فلو كان المحل باقيا بعد ذلك فلا اشكال ، حيث يجب الاتيان بالخياطة في غير المكان المغصوب والا فيبطل الإجارة لعدم بقاء المحل للوفاء.

هذا إذا كانت الإجارة على نفس الخياطة والطحن بما انهما عمل له واما لو كانت الإجارة عليهما بما انهما نتيجة عمله وفعله ففي هذا الفرض صحت الإجارة مع المندوحة ويقع الطحن والخياطة أيضا وفاء للمعاملة بلا اشكال ، نظراً إلى عدم سراية المبغوضية حينئذ إليهما وبقائهما على ماليتهما لخروجهما حينئذ حقيقة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد كما هو واضح.

الامر الثاني : قد عرفت سابقا ان المسألة كانت من صغريات باب التزاحم دون التعارض ولو على الامتناع ومن ذلك لابد من احراز الملاك والمقتضي لكل واحد من الحكمين على الاطلاق حتى في المجمع كي يحكم عليه على الجواز بكونه محكوما بحكمين من المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة ، وعلى الامتناع بأقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى والا فبحكم آخر غيرهما مثلا. ولقد عرفت أيضا بيان الفرق بين باب التزاحم والتعارض وان المدار في باب التزاحم انما هو على تزاحم الملاكين في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية أو في عالم الوجود ومرحلة فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين وجودا ، ومنه باب الاجتماع بناء على الجواز خصوصا مع عدم المندوحة ، لا على تزاحم الحكمين في مقام الامتثال كما توهم والا فكما عرفت لايكاد ينتهى النوبة إلى مقام تزاحم الحكمين حتى في المتضادين اللذين يلازم امتثال أحدهما عصيان الآخر الا على فرض

ص: 436

جعل القدرة من شرائط تنجز التكليف لا من شرائط أصل التكليف وفعليته ، والا فعلى فرض كونها من شرائط أصل التكليف وفعليته كما هو التحقيق لايكاد يكون مجال لوقوع المزاحمة بين الحكمين الفعليين حتى في المتضادين وجودا من جهة وضوح استحالة تشريع الحكمين حينئذ على الاطلاق في المتضادين ، نظير امتناع تشريع اطلاق الحكمين في مجمع العامين من وجه فلابد على هذا الملاك حينئذ من ادراج جميع هذه الموارد في باب التعارض مع أنه كما ترى. وحينئذ فلا محيص من الالتزام بما ذكرناه من المعيار بجعل المناط في باب التزاحم على تزاحم الملاكين من المفسدة والمصلحة في عالم التأثير في ايراث الحب والبغض كما في باب الاجتماع على الامتناع ، أو تزاحمهما في عالم الوجود ومقام فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين وجودا ، ومنه باب الاجتماع على الجواز ، وان كان الحكم الفعلي دائما على طبق أحد الملاكين في قبال باب التعارض الذي ملاكه تكاذب الدليلين في مرحلة أصل الاقتضاء.

وعليه فكل مورد أحرز ولو من الخارج وجود الملاك والمقتضي لكل واحد من الحكمين كان ذلك من باب التزاحم الذي من لوازمه هو الاخذ بما هو الأقوى والاهم منهما ملاكا وان كان أضعف سندا من الآخر نعم يخرج عن ذلك صورة إناطة المصلحة في قيامها بالشيء بعدم تأثير المفسدة في المرجوحية ، كما في كلية التكاليف المشروطة بالقدرة شرعا عند مزاحمتها مع ما لايكون القدرة فيه الا شرطا عقليا ، كما في الحج الواجب في فرض انحصار المركوب بالدابة المغصوبة مثلا حيث إنه في هذا القسم لا يلاحظ جهة اقوائية المفسدة في مقام تقديمها على المصلحة ، بل حينئذ يقدم المفسدة على المصلحة في مقام التأثير في المرجوحية الفعلية ولو كانت أضعف بمراتب من المصلحة ، وذلك من جهة استحالة مزاحمة المصلحة التعليقية مع المفسدة التنجيزية ، لان مانعيتها دورية فتبقى المفسدة المزبورة في رتبة تأثيرها بلا مزاحم فتؤثر في المبغوضية ولو كانت في أدنى درجة الضعف وكانت المصلحة في أعلى درجة القوة وحينئذ فينحصر باب التمانع الذي يكون جهة تأثير كل من الملاكين تابع الأهمية والأقوائية بما عدا تلك الصورة ، كما هو واضح.

كما أن كل مورد لم يحرز وجود المقتضي والملاك لكل من الحكمين كان من باب التعارض الذي من حكمه هو الرجوع بعد العجز عن الجمع بينهما إلى المرجحات السندية.

ثم انه بعد ما اتضح لك ما هو كبرى المسألة وتميز ثبوتا عن كبرى باب التعارض

ص: 437

يبقى الكلام في تشخيص صغريات باب التزاحم عن صغريات باب التعارض ، وان مقتضي ظهور الخطابين عند عدم قيام قرينة قطعية من اجماع أو غيره على وجود الملاكين في المجمع هل هو كونه من باب التزاحم مطلقا؟ أو من باب التعارض كك؟ أو يفصل بين صورة تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه وبين صورة وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه؟ كما في اكرام العالم والهاشمي فيما لو تعلق الامر مثلا باكرام العالم والنهى باكرام الهاشمي.

فنقول : اما فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه حقيقة كالغصب والصلاة قضية اطلاق الخطابين حينئذ الكاشف عن وجود الملاك والمصلحة في موضوعيهما على الاطلاق حتى في المجمع بل وفي حال العجز عن موضوعهما وجدانا أيضا ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات. ومن ذلك أيضا ترى بنائهم على كشف قيام المصلحة بمتعلق التكاليف على الاطلاق حتى في حال العجز عن امتثالها من مثل تلك الخطابات مع الجزم باختصاص فعلية التكليف بحال القدرة ، من غير تخصيص للمصلحة أيضا بحالها الا في فرض اخذ القدرة أيضا قيدا في حيز الخطاب كما في الحج ، وحينئذ فإذا كان قضية اطلاق الخطابين هو الكشف عن وجود الملاك في موضوعهما على الاطلاق حتى في المجمع ، فقهرا يندرج في باب التزاحم الذي من حكمه هو الاخذ بأقوى الملاكين منهما.

نعم هنا اشكال معروف وهو ان طريق كشف المصلحة في المتعلق انما كان حيث ظهور الخطاب في فعلية التكليف والا فلا دلالة له على وجود المصلحة في المتعلق أو قيام الرجحان به في قبال دلالته على فعلية التكليف ، وحينئذ فإذا فرض سقوط دلالته على فعلية التكليف بمقتضي حكم العقل بتخصيص فعلية التكليف بحال القدرة وعدم العجز فلا جرم مع سقوط دلالته هذه لايبقى مجال الكشف عن قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق حتى في حال العجز وعدم القدرة ، ومعه أين الطريق بعد لكشف المناط والمصلحة في المتعلق على الاطلاق؟ ولكن يدفع هذا الاشكال بأنه انما يتم ذلك فيما لو كان حكم العقل باشتراط القدرة في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الحافة بالكلام الكاسرة لظهور اللفظ نظير قرينة الحكمة فإنه حينئذ كما أفيد لايبقى مجال الكشف عن وجود الملاك والمصلحة من اطلاق الخطاب ، لان دلالة الخطاب والهيئة على قيام المصلحة في المتعلق لما كانت بالالتزام كانت فرع دلالته على فعلية التكليف وبعد سقوط دلالته

ص: 438

على فعلية التكليف بمقتضي القرينة العقلية فقهرا لايبقى له الدلالة على قيام المصلحة أيضا الا في حال القدر ، ولكن ذلك في محل المنع جدا ، بل نقول : بأنه من قبيل القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لظهور اللفظ وان ما نعيته انما هو عن حجيته لا عن أصل ظهوره ، وعليه نقول : بان القدر الممنوع بحكم العقل حينئذ انما هو حجية الخطاب بهيئته في فعلية التكليف في حال العجز وعدم القدرة ، فيبقى ظهوره في الدلالة على قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق على حاله ، فيؤخذ بظهوره ذلك ويحكم بوجود الملاك في متعلق الخطابين على الاطلاق حتى في المجمع ، من دون احتياج حينئذ إلى التشبث باطلاق المادة والمتعلق لكشف المصلحة حتى في حال العجز عن الامتثال كي يقال بان المادة بعد ما اخذت موضوعة للهيأة في الخطاب فمقتضى طبع الموضوعية هو كونها سعة وضيقا بمقدار سعة الهيأة وضيقها ، وحينئذ فمع تضيق دائرة الهيأة واختصاصها بحال القدرة وعدم العجز لايكون للمادة سعة اطلاق في قبال الهيأة العارضة لها حتى يتشبث باطلاقها ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة مقايسة هذا الحكم العقلي في المقام بمثل قرينة الحكمة التي هي من الارتكازيات في مقام المخاطبات في كونها موجبة لانصراف الهيأة إلى صورة القدرة وعدم العجز وذلك فان قرينة الحكمة بملاحظة كونها من شؤون اللفظ في مقام المخاطبات تعد من قبيل القرائن اللفظية الحافة بالكلام ، وهذا بخلافه في حكم العقل باشتراط القدرة في فعلية التكليف ، حيث إنه لايكون بمثابة قرينة الحكمة حتى يكون ذلك أيضا من شؤون الألفاظ كالحكمة ، بل ولا كان في الارتكاز أيضا بمثابة لايحتاج إلى تأمل من العقل حتى يعد بذلك من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة ، بل هو من جهة احتياجه إلى نحو تأمل من العقل يكون من القرائن المنفصلة الغير المانعة الا عن حجية الظهور لا عن أصل الظهور ، وعليه فبعد عدم انثلام ظهور الهيأة بمقتضي حكم العقل باشتراط القدرة في التكليف الفعلي فلا محالة يؤخذ بظهورها في الدلالة على قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق حتى في حال العجز.

هذا كله فيما لو تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، ومثله بل أوضح منه ما لو تباينا وجودا أيضا مع تلازمهما خارجا فإنه أيضا مندرج في باب التزاحم بالبيان المزبور.

واما لو اتحد عنوان المأمور به والمنهى عنه كاكرام العالم والهاشمي حيث كان متعلق الأمر والنهي عنوانا واحدا وهو الاكرام فمقتضى ما ذكرنا وان كان هو اعمال قواعد

ص: 439

التزاحم فيه أيضا الا ان ظاهر الأصحاب في مثله على اعمال قواعد التعارض ، ولعل النكتة في الفرق بين الفرضين هو ان في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه لايكون العقل مانعا بدوا عن فعلية التكليف بالعنوانين بل وانما الممنوع فيه هو فعلية التكليفين في ظرف التطبيق في المجمع ، حيث يرى بعد التطبيق كونهما من التكليف بما لايطاق ، فمن ذلك يخرج عن كونه من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة. وهذا بخلافه في صورة وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه كما في العامين من وجه كاكرام العالم والهاشمي فإنه في هذا الفرض يكون العقل بدوا مانعا عن فعلية التكليفين بعنوان وحداني وعن اجتماع المحبوبية والمبغوضية فيه ، إذ يرى كون أصل التكليف به بالفعل تارة وبالترك أخرى من التناقض ، ومن هذه الجهة يكون من قبيل القرائن المتصلة الحافة ، فيوجب كسر صولة ظهور الخطابين في الفعلية ، ومعلوم انه مع انثلام الظهور المزبور لايبقى مجال كشف المناطين فيه ، فمن ذلك لابد فيه من اعمال قواعد التعارض ، إذ يكفي في اجراء قواعد التعارض فيه مجرد عدم احراز كونه من باب التزاحم كما هو واضح ، هذا.

وقد يوجه نكتة الفرق بين الفرضين بوجه آخر وحاصله : دعوى ان اعمال قواعد التعارض في فرض وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه انما هو من جهة ما يقتضيه العقد السلبي في كل من الخطابين ، بتقريب ان كل واحد من الخطابين في الفرض المزبور كما يكشف عن وجود مناطه فيه أي في متعلقه كك يكشف عن عدم وجود مناط آخر فيه غير مناطه ، وحينئذ فحيث ان متعلق الخطابين عنوان واحد فقهرا يقع التكاذب بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي في الخطاب الآخر بنحو يوجب تقديم كل خطاب الغاء الآخر بالمرة حتى من جهة دلالته على وجود مناط فيه ، فمن ذلك لابد فيه من اعمال قواعد التعارض بينهما ، وهذا بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، فإنه في هذا الفرض لا ينتهى النوبة إلى مقام معارضة الخطابين حيث لايقتضي تقديم شيء من الخطابين حينئذ الغاء الآخر عن الدلالة على وجود المناط في متعلقه بوجه أصلا ، فمن هذه الجهة يؤخذ بظهور كل من الخطابين في الدلالة على وجود الملاك والمصلحة في متعلقه حتى في المجمع ويجري عليه بعد ذلك قواعد باب التزاحم ، هذا.

ولكن يمكن الخدشة في هذا التقريب بمنع التنافي بين الخطابين في فرض وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه أيضا وذلك من جهة امكان ان يكون الشيء الوحداني

ص: 440

بجهتين تعليليتين واجدا للمصلحة والمفسدة ، فيكون ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة أخرى ، وأمثلته كثيرة جدا ، ومعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك ثبوتا لايبقى مجال دعوى العقد السلبي للخطابين حتى ينتهى الامر إلى معارضته مع العقد الايجابي في الآخر. وحينئذ فالعمدة في الفرق بين الفرضين هو ما ذكرنا من كون منع العقل بدويا في فرض وحدة عنوان لمأمور به والمنهى عنه بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، فان منعه انما يكون بملاحظة مقام تطبيق العنوانين على المجمع الوحداني لا ان منعه يكون بدويا كما في الفرض الأول.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في العامين من وجه مع وحدة عنوان المأمور به ظهر لك الحال في صورة الامر بالمطلق والنهى عن المقيد كقوله : صل ، وقوله : لا تصل في الدار المغصوبة ، حيث إنه ثبوتا وان أمكن كونه من باب التزاحم الا انه اثباتا لابد فيه من اعمال قواعد التعارض نظراً إلى كشف دليل الخاص حينئذ في فرض اقوائية عن تضيق دائرة التكليف في طرف العام بغير المقيد بجميع مراتبه ، فتدبر.

واما لوازم البابين : فمنها كما عرفت هو الرجوع في باب التعارض بعد الياس عن الجمع إلى قواعد التعادل والترجيح بخلافه على التزاحم فإنه فيه لابد من ملاحظة ما هو الأهم مصلحة كانت أو مفسدة فيقدم الأقوى ملاكا على غيره وان أضعف سندا من غير أن يلاحظ فيه جهة اقوائية السند بل ولا الدلالة أيضا الا إذا فرض كون الأقوى دلالة أقوى ملاكا أيضا فيقدم حينئذ ما هو الأقوى دلالة على غيره لمكان كشف قوة دلالته حينئذ عن قوة ملاكه ، فتدبر.

ومن لوازم التعارض والتخصيص أيضا هو عدم قيام المصلحة واقعا الا بالمقيد ويتبعه أيضا فساد العمل الفاقد لقيد واقعا من دون إناطة بالعلم بالمصلحة أو الجهل بها ، بخلافه على التزاحم فان من لوازمه قيام المصلحة واقعا بنفس المطلق وان كان حكمه الفعلي مقيدا بعدم وجود المزاحم الأهم ، ومن لوازم هذا المعنى هو عدم تبعية الفساد واقعا مدار فقد قيد الحكم الفعلي بل يكون تبعيته حينئذ مدار العلم به وعدمه ، فمع الجهل يكون المأتى به صحيحا واقعا من جهة وجدانه لما هو الملاك والمصلحة ووفائه بغرض المولى ، ومن ذلك أيضا بنوا في مثل الغصب والصلاة ولو على الامتناع وتغليب النهى على صحة العبادة مع الجهل بالغصبية مطلقا أو الجهل بالحرمة إذا كان عن قصور ، ومعلوم انه لايكون ذلك

ص: 441

الا من جهة واجدية المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة إذا المانع عن صحته حينئذ انما كان هو فعلية نهيه وتنجزه عليه وتأثيره في مبعدية الفاعل وبعد فرض معذورية المكلف من جهة جهله يقع العمل صحيحا قهرا.

لايقال : هذا كك في غير العبادات واما فيها فبملاحظة احتياج صحتها إلى قصد القربة المنوط بوجود الامر الفعلي القائم بالعمل المأتي به بداعية ومحبوبيته فلا يتم ذلك حتى في ظرف الجهل المزبور ، وذلك لان الجهل المزبور حينئذ غير رافع لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة في رجحان العمل ومحبوبيته وفعلية الامر المتعلق به ، ومعه فأين امر فعلي قائم بالمأتى به يوجب التقرب به كي يصير العمل لأجله صحيحا؟ ففي الحقيقة تمام المنشأ للفساد حينئذ انما هو من جهة انتفاء مقتضي الصحة وهو التقرب لا من جهة وجود المانع وهو فعلية النهى وتنجزه حتى يقال : بأنه في ظرف الجهل المزبور لا تأثير للنهي في المنجزية ومبعدية الفاعل عن ساحة القرب إلى المبدء الاعلى عز شانه.

فإنه يقال : نعم ان ذات العمل حينئذ وان كان مبغوضا فعلا بمقتضي تأثير المفسدة الأهم ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة فيه في المحبوبية الفعلية ، الا انه نقول : بأنه لا باس حينئذ في تأثير المصلحة المهمة في حسنه من حيث صدوره عن الفاعل ، إذا المانع عن تأثيره في حسنه حتى من حيث صدوره عن الفاعل انما كان هو حيث تنجز نهيه وبعد سقوط تنجزه لمكان جهله فقهرا تؤثر المصلحة في حسنه من تلك الجهة ويتبعه أيضا الامر الفعلي فيتقرب حينئذ بداعي امره ولو من حيث إضافة صدوره إلى الفاعل. ولئن خودش فيه أيضا بامتناع موردية العمل ولو بلحاظ إضافة صدوره إلى الفاعل لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية الفعلية مع كونه مبغوضا بالبغض الفعلي بمقتضي تأثير المفسدة الأهم الغالبة ، نظراً إلى استلزامه لاجتماع الضدين فيه من المحبوبية والمبغوضية بملاحظة اتحاد الوجود والايجاد حقيقة ، وان ما هو الصالح لان يكون موردا لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية انما هو حيث إضافة العمل إلى الفاعل فقط مع خروج المضاف عن مورديته لتأثير المصلحة ، ومثل هذا المقدار غير واف بالتقرب المعتبر في صحة العبادة من جهة ان ظاهرهم هو احتياج العبادة في صحتها إلى التقرب بذات العمل لا بحيث اضافته إلى الفاعل ، نقول : بأنه نمنع توقف القرب على فعلية الامر بالمأتى به و

ص: 442

رجحانه الفعلي ، إذ نقول بان من أنحاء القرب أيضا اتيان العمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى. ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذا المعنى مما يتمشى من المكلف حتى مع الجزم بعدم الامر الفعلي بل ومع الجزم بكونه مبغوضا فعلا ما لم يكن العمل مبعدا له ، كما في المضطر بالغصب لا عن سوء الاختيار ، وحينئذ فإذا اتى بالعمل في ظرف الجهل المزبور بداعي التوصل به إلى غرض المولى وكان العمل أيضا من جهة وجدانه للمصلحة وافيا بغرض المولى فقهرا بنفس اتيانه بالقيد المزبور يتحقق القرب ويصح منه العبادة. مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا نقول : بأنه بعد احتمال فعلية الامر ومطلوبيته يكفي في التقرب بالعمل اتيانه برجاء كونه مأمورا به بالايجاد من دون احتياج إلى الجزم بالامر أصلا ، كما هو واضح. هذا في الجهل البسيط.

واما في مورد الجهل المركب فيكفي أيضا في الداعوية وفي تحقق القرب اعتقاد الامر الفعلي وان لم يكن في الواقع امر أصلا فان ماله الدخل بتمامه في الداعوية والمحركية انما كان هو العلم بالامر لا هو بوجوده الواقعي ، وحينئذ فإذا علم بالامر وجدانا أو تعبدا لقيام امارة عليه كان علمه ذلك تمام العلة لتحقق الدعوة ، ومع اتيانه بالعمل بداعية يتحقق القرب المتوقف عليه صحة العبادة قهرا ، من جهة تحقق ما هو علته وهي الدعوة ، فيترتب عليه حينئذ صحة العبادة وان لم يكن هناك امر فعلي متعلق بالعمل في الواقع.

لايقال : كيف ذلك مع أنه خلاف ما بنوا عليه من احتياج العبادة في صحتها إلى قيام الامر الفعلي بها في الواقع كما يشهد عليه حكمهم بفساد العبادة عند خلوها عن الامر واقعا.

فإنه يقال : كلا ، وان اعتبارهم لوجود الامر انما هو باعتبار كشفه عن وجود المصلحة في متعلقه وبلوغه إلى مرحلة الوفاء بالغرض الفعلي نظراً إلى عدم طريق آخر إلى كشف المناط والمصلحة فيه الا امره وبعثه لا من جهة دخله في التقرب المعتبر في صحة العبادة ، كما هو واضح.

الامر الثالث في الاضطرار إلى الغصب فنقول : الاضطرار إلى الغصب تارة يكون لا عن سوء اختيار وأخرى يكون عن سوء اختياره ، وعلى التقديرين تارة يقطع بزوال العذر قبل خروج الوقت وأخرى يقطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت وثالثة يشك في ذلك ، وعلى التقادير تارة يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض وأخرى يكون الغصب

ص: 443

هو خصوص الأرض دون الفضاء وثالثة بالعكس ، فهذه صور متصورة في الاضطرار إلى الغصب ، وبعد ذلك نقول :

اما الصورة الأولى وهي ما لو كان الاضطرار إلى الغصب لا عن سوء اختياره ، فبناء على جواز الاجتماع لا اشكال ، حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط مطلقا ، سواء فيه بين علمه ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت أو علمه بزواله قبل خروج الوقت ، وسواء فيه بين كون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ،

واما على الامتناع وتقديم جانب النهى ولو لكونه من حقوق الناس فان كان الغصب مجموع الأرض والفضاء وقد علم أيضا ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة في الغصب بما لها من الاجزاء والشرائط نظراً إلى معلومية عدم استلزام صلاته حينئذ لزيادة تصرف في الغصب غير ما اضطر إليه وهذا واضح بعد وضوح عدم التفاوت في شاغليته للمكان بين حالة سكونه وحركته وقيامه وقعوده ، نعم قد يناقش في المقام أيضا في أصل صحة الصلاة بنحو ما مر في صورة الجهل بالغصبية ولكنك عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه هذا إذا كان الغصب هو مجموع الفضاء والأرض.

واما لو كان الغصب هو خصوص الأرض دون الفضاء فمقتضى القاعدة في هذا الفرض هو تقليل الغصب مهما أمكن ولازمه هو وجوب الاتيان بالصلاة حينئذ قائما موميا لسجوده نظراً إلى ما يلزم من وضع جبهته على الأرض من الغصب الزائد ، بل ذلك أيضا هو الذي يقتضيه الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، بل ولولا استلزام العسر والحرج لكان اللازم هو الاقتصار في قيامه على رجل واحد من جهة كونه أقل تصرفا من القيام على رجلين.

ومن ذلك ظهر الحال في فرض كون الغصب هو خصوص الفضاء دون الأرض حيث إن اللازم بمقتضي القاعدة هو وجوب الاتيان بصلاته مستلقيا على ظهره جمعا بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين عموم حرمة التصرف في مال الغير ، هذا.

ولكن ظاهر الأصحاب رضوان اللّه عليهم هو وجوب الاتيان بصلاة المختار عند كون الاضطرار لا عن سوء اختياره حيث إن ظاهرهم هو عدم الفرق بين فرض كون الغصب

ص: 444

مجموع الفضاء والأرض وبين كونه خصوص الأرض أو الفضاء وان له في جميع الفروض المزبورة الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط من القيام والركوع والسجود والتشهد ، ولعل ذلك منهم لمكان قيام السيرة على كونه مختارا حينئذ في قيامه وقعوده واضطجاعه واستلقائه خصوصا مع ما يلزم من العسر والحرج من بقائه على كيفية واحدة من القيام أو القعود ، كما أنه يشهد لذلك أيضا خلو كلمات الأصحاب عن التعرض حينئذ لمقدار الجائز من الحركات والسكنات والا لكان اللازم عليهم الغرض لذلك وبيان مقدار الجائز من الحركات والسكنات ، خصوصا في فرض كون الغصب هو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ، هذا. ولكن مع ذلك في غير صورة الحرجية يشكل الحكم بجواز الاتيان بصلاة المختار حتى في فرض غصبية الأرض وإباحة المكان في قبال عموم حرمة التصرف في مال الغير ، خصوصا مع امكان حمل كلامهم على ما هو الغالب من فرض غصبية الأرض والفضاء معا ، كامكان منع قيام السيرة أيضا على الاطلاق على كونه مختارا في الحركات والسكنات حتى في غير صورة الحرجية ، فتأمل. ثم إن هذا كله في فرض العلم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت.

واما لو فرض علمه بزوال اضطراره قبل خروج الوقت وتمكنه من الاتيان بالصلاة في مكان مباح ففي جواز بداره بالصلاة حينئذ والاكتفاء بها وعدم جوازه اشكال ، أقواه العدم ، نظراً إلى تمكنه حينئذ من الاتيان بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط في غير الغصب. نعم في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض لا باس بجواز بداره واتيانه بصلاة المختار قاصدا التقرب به بقصد التوصل به إلى غرض المولى بناء على كفاية ذلك في القرب المعتبر في العبادة ، وهذا بخلافه في فرض غصبية خصوص الأرض أو الفضاء حيث إنه حينئذ لا مجال لاتيانه بصلاة المختار في مكان مغصوب ، لما عرفت من استلزامه لازدياد التصرف في مال الغير. واما الاجماع المدعى سابقا فغير جار في الفرض أيضا من جهة اختصاصه بفرض عدم تمكنه من الاتيان بالصلاة في غير الغصب ، ولا أقل من كونه هو القدر المتيقن منه فيبقى الفرض تحت القواعد التي مقتضاها وجوب الاتيان مهما أمكن بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط ، وحينئذ فإذا فرض عدم تمكنه من الاتيان بصلاة المختار في الغصب يجب عليه الصبر والآتيان بها في غير الغصب.

بل ومن ذلك البيان ظهر الاشكال في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض أيضا

ص: 445

بناء على عدم كفاية مجرد الاتيان بالعمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى في القرب المعتبر في العبادة واحتياجه إلى التقرب بالعمل بقصد الامر الفعلي أو رجحانه الفعلي ، إذ حينئذ من جهة خروج الأكوان عن دائرة المحبوبية بمقتضى أهمية مفسدة الغصب لايكاد تمكنه من التقرب بتمام العمل فمن ذلك لابد له من الصبر إلى أن يزول اضطراره فيتمكن من التقرب بالعمل بداعي امره ورجحانه الفعلي ، كما هو واضح.

واما صورة الشك في زوال اضطراره قبل الوقت فيلحق بالعلم ببقائه إلى آخر الوقت بمقتضي الاستصحاب فيما لو كان اضطراره الموجب لسقوط التكليف عنه شرعيا بمقتضي حديث الرفع لا عقليا محضا ، والا فلا مجال للاستصحاب لانتفاء الأثر الشرعي حينئذ ، كما هو واضح.

بقى الكلام فيما لو تمكن من الخروج وقد كان الوقت مضيقا أيضا بنحو لا يتمكن من ايجاد الصلاة في خارج الغصب في أنه هل يجب عليه الاتيان بصلاته حينئذ في حال الخروج بحيث لو ترك الخروج واتى بصلاته في حال استقراره تبطل صلاته ، أو لا ، بل كان له الاتيان بصلاته أيضا في غير حال الخروج وان اثم بتركه للخروج بملاحظة ما يترتب عليه من الغصب الزائد عن المقدار المضطر إليه؟ فيه وجهان : أقربه الثاني ، وذلك انما هو لوجود المقتضي لصحة صلاته وانتفاء المانع ، اما الأول فواضح من جهة فرض وجدان المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة ، واما الثاني فكك أيضا إذ المانع المتصور حينئذ لايكون الا فعلية نهيه وتنجزه وهو بالفرض ساقط حسب اضطراره في تلك الساعة سواء على تقدير اختيار الخروج في تلك الساعة أو البقاء في الغصب ، وبالجملة نقول بأنه بعد اضطراره في تلك الساعة إلى ارتكاب الغصب وعدم التفاوت في شاغليته للمكان في تلك الساعة بين حال سكونه وبقائه وبين حال حركته وخروجه كان له اختيار البقاء في تلك الساعة وجعل كونه كونا صلاتيا. نعم في فرض اختيار البقاء يلازم بقائه فيه الغصب الزائد في الساعة الثانية ، ولكن مجرد ذلك غير مقتض للنهي عن كونه البقائي في الساعة الأولى كي يقع بذلك مبعدا له ، الا على القول باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده :

واما توهم مقدمية البقاء حينئذ لارتكاب الغصب الزائد فمدفوع بمنع المقدمية فان البقاء انما هو ملازم للغصب الزائد بلحاظ المضادة بين الكونين أي الكون في الغصب

ص: 446

والكون في خارجه لا انه مقدمة له ، وعليه فلايكون استتباع البقاء للغصب الزائد الا بصرف الملازمة الخارجية ، وإذا فرضنا حينئذ عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وملازمه فقهرا لا يقع الكون البقائي منه حراما ولا مبعدا له.

واما توهم ان البقاء وان لم يكن مقدمة للغصب الزائد الا ان له نحو تقدم عليه ولو ذاتا نظير تقدم حدوث الشيء على بقائه وهذا المقدار كان يكفي في المقدمية وفي نيل العقل الحرمة بالنسبة إليه ، فمدفوع بأنه لو سلم ذلك نمنع كفايته في ترشح الحرمة إليه حيث لا عموم لكبري الملازمة يعم مطلق ما هو مقدم على الشيء ولولا يكون من علل وجوده.

وعليه فلا مانع عن صحة صلاته فيما لو ترك الخروج واتى بالصلاة في حال الاستقرار وان اثم على ما يلزمه من الغصب الزائد في الساعة الثانية.

اللّهم الا ان يمنع عما ذكرنا بالمنع عن أصل جواز تطبيق اضطراره على الكون البقائي ، بدعوى انه انما يكون له الخيار في تطبيق اضطراره على أي فرد شاء فيما لم يكن هناك ما يقتضي تعين تطبيقه على فرد خاص والا فلا مجال لتطبيقه الا على ما تعين تطبيقه عليه ، وفى المقام حيث ما كان يستتبع الكون البقائي لازدياد الغصب فقهرا مثل هذا المعنى موجب لترجيح الكون الخروجي عليه بحكم العقل ومعه يتعين تطبيق اضطراره عليه لا على الكون البقائي ، ولكنه أيضا مدفوع ، بان مجرد وجوب اختيار الكون الخروجي بحكم العقل أيضا غير موجب لحرمة ضده الذي هو الكون البقائي بل ولا لكونه أزيد مفسدة من غيره كي يقال بلزوم ترك ما فيه المفسدة الزائدة ، نعم غاية ما هناك ان يستتبع البقاء ارتكاب الغصب في الساعة الأخرى وهو أيضا على ما عرفت غير موجب لكونه بقائه وسكونه أزيد مفسدة من خروجه ، كما هو واضح.

وكيف كان فهذا كله فيما لو كان اضطراره إلى الغصب لا عن سوء اختياره.

واما لو كان اضطراره عن سوء اختياره كما لو دخل ارض الغير من غير رضاه فتعذر عليه الخروج ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة :

ففيما لو علم بزوال اضطراره قبل خروج الوقت بحيث يتمكن من اتيان الصلاة في غير الغصب فلا اشكال ، حيث إنه يتعين عليه الاتيان بالصلاة في خارج الغصب ولايجوز له البدار بالصلاة في الغصب ، بل ولئن صلى فيه كانت صلاته فاسدة ، بملاحظة مبغوضية الأكوان ومبعديتها له من جهة تنجز النهى السابق ، من غير فرق في ذلك بين ان

ص: 447

يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو كان الغصب خصوص الفضاء دون الأرض أو بالعكس.

كما أنه لو علم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا في وجوب الصلاة عليه في الغصب بمقتضي ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال.

وانما الكلام في أن صلاته حينئذ هل هي صلاة المختار التامة المشتملة على الركوع والسجود والقيام والقرائة أو ان تكليفه حينئذ هو صلاة الغرقي بإشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض؟ فنقول : قد يقال حينئذ بالثاني نظراً إلى دعوى كونه مقتضى الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، فان مقتضي عموم حرمة التصرف في مال الغير حينئذ هو خروج الأكوان عن الجزئية ومقتضاه هو انتهاء صلاته إلى إشارات قلبية كما في صلاة الغريق بناء على كون قرائته أيضا تصرفا في الغصب ، ولكن نقول بأنه حسن جدا لولا قيام الشهرة على خلافه ، حيث إن ظاهر الأصحاب هو كون تكليفه حينئذ هي الصلاة التامة للمختار المشتملة على القيام والركوع والسجود والقرائة خصوصا في فرض كون الغصب مجموع الفضاء والأرض. ولعل ذلك منهم من جهة دعوى خروج هذا الكون البقائي حينئذ من الأول عن تحت النهى ، بتقريب ان ما يجب عليه اختياره الموجب لتنجز نهيه من الأول انما هو ترك الغصب بترك الدخول فيه لأنه هو الذي كان مقدورا له ، واما تركه من غير جهة ترك الدخول كالطيران إلى السماء في ظرف الدخول فحيث انه كان مضطرا إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فلايكون منهيا عنه من جهة ان النهى انما يتعلق بما هو تحت قدرة المكلف واختياره لا بما هو خارج عن تحت قدرته واختياره ، ومن هذه الجهة أيضا قلنا سابقا بأنه إذا كان للشيء حدود بالإضافة إلى مقدماته وعدم اضداده لايكاد يصح توجيه التكليف إليه بالايجاد أو الترك على الاطلاق بنحو يقتضي حفظ الوجود من جميع الجهات ومن ناحية جميع المقدمات والأضداد الا في فرض تمكنه من الحفظ من جميع الجهات ، والا فمع خروج بعض المقدمات أو الأضداد عن تحت قدرته لايكاد يكون التكليف بالايجاد بالنسبة إليه الا تكليفا ناقصا يوجب الحفظ من ناحية ما هو تحت قدرته واختياره في ظرف انحفاظه من قبل الأمور الخارجة عن تحت الاختيار. وعلى ذلك يقال في المقام بأنه بعد أن كان للغصب نحو ان من الترك أحدهما الترك بترك الدخول فيه

ص: 448

وثانيهما تركه من غير جهة الدخول كالطيران في السماء في ظرف الدخول وكان الثاني مما اضطر إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فقهرا ما هو المنهى عنه لايكون الا ذاك النحو من الترك الاختياري والا فالترك الآخر من جهة اضطراره إليه أزلا لايكون منهيا عنه أصلا وحينئذ فإذا دخل الغصب بسوء اختياره فقد سقط نهيه المنجز عليه بالعصيان وبدخوله فيه صار مستحقا للعقاب ، واما بعد دخوله فيه لايكون له تكليف بترك الغصب من الأزل لاضطراره إليه فإذا لم يكن مكلفا بترك الغصب حينئذ من غير جهة ترك الدخول فلايكون صدوره عنه مبعدا أيضا ومع عدم كونه مبعدا فله الاتيان بالصلاة التامة المشتملة على القيام والركوع والسجود كما في الاضطرار لا عن سوء الاختيار حرفا بحرف ، هذا.

ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة عن اشكال ينشأ من كفاية مطلق المقدورية ولو بالواسطة في توجيه التكليف بشيء إلى المكلف فيقال حينئذ بأنه بعد أن كان له القدرة على ترك البقاء في الغصب ولو بتركه للدخول فيه كان هذا المقدار كافيا في توجه النهى عن الكون البقائي إليه وتنجزه عليه فيكون البقاء فيه حينئذ كالدخول منهيا عنه من الأزل قبل الدخول فيه ، وعليه فبالدخول وان سقط نهيه المنجز عليه الا انه حيثما كان بالعصيان يبقى تبعته فيوجب كون ما يصدر عنه من الأكوان مبغوضا ومبعدا له ولازمه هو خروج تلك الأكوان عن الجزئية للصلاة فينتهى امر صلاته حينئذ إلى إشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض دون الصلاة التامة للمختار ، وحينئذ فان تمت السيرة والاجماع المدعى في المقام على كون تكليفه صلاة المختار التامة فهو والا فلابد بمقتضي القواعد كما عرفت من المصير إلى كون وظيفته نظير صلاة الغرقى بإشارات قلبية في ركوعه وسجوده.

نعم لو تاب حينئذ أمكن دعوى وجوب صلاة المختار التامة نظراً إلى أن التوبة كانت مزيلة لاثر العصيان السابق وتجعله كان لم يكن فكان كمن اضطر إلى الغصب لا عن سوء الاختيار. ولكن الأستاذ دام ظله استشكل في ذلك أيضا مدعيا لان التوبة انما تجدي في رفع اثر العصيان إذا لم يكن المكلف في حال التوبة مشغولا بالعصيان ، وفى المقام لما كان مشغولا بارتكاب الغصب حال التوبة فلا تجديه في الخروج عما تقتضيه القواعد.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر الحال أيضا فيما لو ضاق الوقت وتمكن من الخروج حيث

ص: 449

انه يتعين عليه حينئذ الاتيان بصلاته في حال الخروج بإشارات قلبية ، لولا السيرة المزبورة ، والا فبما لا تزاحم مع خروجه فيقرء ويركع ماشيا موميا بسجوده ولا ينتهى النوبة في هذا الفرض إلى الصلاة في حال السكون والاستقرار.

واما نفس خروجه فهو كما عرفت لايكون الا منهيا عنه بالنهي السابق كالبقاء فيه لا انه يكون مأمورا به. إذ لا وجه لدعوى كونه مأمورا به الا توهم مقدميته للتخلص عن الغصب الزائد ، وهو كما عرفت في غير محله ، فان الحركة لا تكون الا عبارة عن تبدل كون بكون آخر فهي حينئذ عبارة عن ضد البقاء المستتبع للغصب الزائد وهو غير موجب لمحبوبية الحركة التي هي ضد السكون والبقاء. نعم لو كانت الحركة عبارة عما به تبدل أحد الكونين بالآخر لا نفس تبدل كون بكون لكان لما ذكر من المقدمية كمال مجال إذ كانت الحركة حينئذ علة لافراغ الكون في الغصب وتبدله بالكون في خارجه ولكنه محل منع جدا بل هي لا تكون الا عبارة عن نفس تبدل كون بكون آخر وعليه فلا تكون الحركة الا ضد السكون والبقاء الملازم للغصب الزائد ومثله أيضا غير موجب لسراية المحبوبية إليها وحينئذ فلا يبقى في البين الا لزوم الخروج عقلا ارشادا منه إلى اختيار ما هو أقل القبيحين ، كما هو واضح. هذا تمام الكلام في اجتماع الأمر والنهي.

المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد
اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن النهى عن الشيء يقتضي فساد ذلك الشيء أم لا وقبل الشروع في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الأول : قد مر سابقا وجه الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ومحصل الفرق بينهما هو رجوع البحث في المقام حسب ما هو ظاهر العنوان إلى اقتضاء النهى بوجوده الواقعي للفساد بملاحظة كشفه ولو بالملازمة العرفية عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقة ، ومن ذلك يدور الفساد وعدمه على الاقتضاء مدار وجود النهى واقعا وعدمه ، كان المكلف عالما بالنهي أم جاهلا به ، وهذا بخلافه في تلك المسألة حيث إن الفساد فيها على الامتناع انما

ص: 450

يدور مدار العلم بالنهي لا مدار النهى بوجوده الواقعي النفس الأمري ، ومن ذلك أيضا عرفت بنائهم على صحة عبادة الجاهل القاصر أو الناسي إذا اتى بها في مكان مغصوب ، وعليه فلا تكون لإحدى المسئلتين مساس بالأخرى بوجه من الوجوه ، ومعه لايبقى مجال لما أفيد كما في الكفاية (1) من جعل نتيجة المسألة السابقة على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات هذه المسألة ، كيف وقد عرفت ان الفساد في تلك المسألة انما هو من جهة خلو المتعلق عن الملاك والمصلحة ومن ذلك لو قام دليل على الصحة في قبال النهى لوقع بينهما التكاذيب ويرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض ، ومثل ذلك ينافي جدا بنائهم على صحة صلاة الجاهل بالغصبية ، كما هو واضح.

الامر الثاني قد يقال كما عن القوانين على ما حكى بتخصيص محل النزاع بما إذا كان هناك ما يقتضي الصحة من عموم أو اطلاق بحيث لولا النهى يحكم بصحته ، بتقريب انه لولا ذلك لما كان وجه للنزاع في اقتضاء النهى للفساد ، لان الفساد حينئذ غير مربوط باقتضاء النهى ، من جهة انه لولا النهى كان محكوما أيضا بالفساد ، ولكنه غير وجيه ، إذ نقول بان الجهة المبحوث عنها في المقام على ما يقتضيه ظاهر العنوان هو الحكم بالفساد من جهة دلالة النهى وكشفه عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقه ، وقضية ذلك هو عدم الحكم بالفساد واقعا عند عدم النهى لا الحكم بالصحة كي يحتاج إلى احراز المقتضي للصحة من عموم أو اطلاق أو غيرهما.

واما ما أفيد من عدم الثمرة حينئذ نظراً إلى لزوم الحكم بالفساد حينئذ ولو على تقدير عدم النهى بمقتضي أصالة عدم المشروعية.

فمدفوع بظهورها فيما إذا قام دليل بالخصوص على الصحة فإنه على الأول يتعين الاخذ بدليل الصحة من جهة حكومته على أصالته بخلافه على الثاني حيث إنه يقع بينهما المعارضة فيرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض.

الامر الثالث لايخفى عليك ان المراد بالشيء في عنوان المسألة يعم العبادات والمعاملات لا انه مخصوص بالعبادات ، والمراد من المعاملة هو ما في قبال العبادات مطلق مالا يلزم في صحته قصد القربة الشامل للمعاملات بالمعنى الأخص ولغيرها ، كالنهي عن

ص: 451


1- ج 1 ص 235.

اكل الثمن والمثمن ، نعم يختص ذلك بالأمور القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى فيخرج حينئذ ما لايكون كك كعناوين المسببات ونحوها مما كان أمرها يدور بين الوجود والعدم فتأمل فان الفساد حينئذ انما كان في قبال الصحة التي هي بمعنى التمامية وترتب الأثر المقصود عليه فهو عبارة عن نقصان الشيء بمعنى عدم ترتب الأثر المقصود منه عليه فلا يجري حينئذ بالنسبة إلى نفس الآثار ونحوها مما يدور امره بين الوجود والعدم وكذا يخرج أيضا من الأسباب ما لايكاد ينفك الأثر عنها كبعض أسباب الضمان.

واما المراد من العبادة فهي التي لو امر بها لكان أمرها أمرا عباديا بحيث لايكاد سقوطه الا باتيان متعلقه على نحو قربى ، لا ما هو عبادة ذاتا كالسجود والركوع ونحوهما مما جعل كونه آلة للخضوع والتذلل ، نظراً إلى عدم كون العبادات كلها من هذا القبيل ، ولا ما امر به فعلا لأجل التعبد به من جهة استحالة تعلق النهى الفعلي بما هو عبادة ومأمور به فعلا ، ولا ما لايعلم انحصار الغرض منه في شيء كي ينتقض طردا وعكسا بأنه رب واجب توصلي لايعلم انحصار الغرض منه في شيء ورب واجب تعبدي قد علم انحصار الغرض منه.

واما الاقتضاء في المقام فهو كما عرفت عبارة عن الاقتضاء بحسب مقام الاثبات باعتبار كشف النهي عن عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه لا الاقتضاء بحسب مقام الثبوت والا فمن الواضح عدم الملازمة عقلا بين حرمة الشيء وانتفاء ملاك الامر والمصلحة في متعلقه ، وعليه تكون المسألة من المسائل اللفظية لا من المسائل العقلية ، كما هو واضح.

واما النهى فظاهرهم اختصاصه بالنهي المولوي التحريمي ، دون ما يعمه والنهى التنزيهي ، باعتبار ان غاية ما يقتضيه النهى التنزيهي انما هو الدلالة على وجود حزازة في الشيء وهذا المقدار غير موجب لفساده ، ولكن ذلك انما هو بناء على ما اخترناه سابقا من جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك بين أنحاء حدود شيء واحد ، واما بناء على غير ما اخترناه من عدم امكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية ولو تنزيها في عنوان واحد فيشكل جدا تخصيص النزاع بالنواهي التحريمية واما النهى التحريمي الغيري فالظاهر منهم هو دخوله أيضا في محل النزاع كما يشهد

ص: 452

لذلك جعلهم فساد العبادة ثمرة النزاع في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على المقدمية.

نعم هذا الثمرة تختص بخصوص العبادات فلا تجرى في المعاملات ولكنه أيضا غير ضائر بعموم النزاع كما لايخفى ، هذا ،

ولكن الأستاذ دام ظله منع عن أصل دخول النواهي التحريمية في محل النزاع وبنى على خروجه عن مورد الكلام بين الاعلام ، وقد أفاد في وجه ذلك بوجهين :

الأول : عدم المجال لتوهم دلالته واقتضائه للفساد مطلقا سواء في المعاملات أو العبادات ، اما المعاملات فواضح ، من جهة وضوح عدم اقتضاء مجرد النهى المولوي عن معاملة وحرمتها تكليفا لفسادها وضعا ، ومن ذلك لم يتوهم أحد فساد المعاملة في مورد نهى الوالد أو الحلف على عدم البيع ونحوه واما العبادات فكك أيضا وذلك فان الفساد المتصور فيها لا يخلوا اما ان يكون من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وعدم ترتب الغرض عليها واما ان يكون من جهة الخلل في القربة الموجب لعدم سقوط الامر عنها ، اما الفساد من الجهة الأولى فواضح انه غير مترتب على النهى حيث لا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على عدم المصلحة في متعلقه ، بل غاية ما يقتضيه انما هي الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم المصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا ، وهو واضح بعد وضوح عدم الملازمة بين مجرد حرمة الشيء وبين عدم ملاك الامر والمصلحة فيه ، نعم لو كان بين المصلحة والمفسدة أيضا مضادة كما بين المحبوبية والمبغوضية بحيث لايمكن اجتماعهما في موضوع واحد ولو بجهتين تعليليتين لكان المجال لدعوى دلالة النهى ولو بالالتزام على عدم وجود المصلحة في متعلقه ولكنه لم يكن كك لما عرفت من امكان اجتماعهما في عنوان واحد بجهتين تعليليتين ، ونظيره في العرفيات كما في مثل وضع العمامة على الرأس لمن كان له وجع الرأس في مجلس فيه جماعة من المؤمنين الأخيار ، حيث إن كون العمامة على الرأس مع كونه فيه كمال المفسدة بلحاظ وجع الرأس كان فيه أيضا كمال المصلحة بلحاظ كونه نحو اعزاز واكرام للمؤمنين وكون تركه هتكا وإهانة لهم ، وعليه فلا يبقى مجال دعوى دلالة النهى واقتضائه للفساد من هذه الجهة ، واما الفساد من الجهة الثانية فهو وان كان لا محيص عنه مع النهى ولكنه أيضا مترتب على العلم بالنهي لا على نفس وجود النهى ولو لم يعلم به المكلف ، فتمام العبرة في الفساد في هذه المرحلة على مجرد العلم بالنهي ، فإذا

ص: 453

علم بالنهي كان علمه ذلك موجبا لعدم تمشى القربة منه الموجب لفساد عبادته وان لم يكن في الواقع نهى أصلا ، كما أنه مع عدم العلم به يتمشى منه القربة وتصح من العبادة وان كان في الواقع نهى كما عرفت في مثال الجهل بالغصب أو الجهل بالحرمة عن قصور ، مع أن قضية ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهى الواقعي.

الوجه الثاني : انه لو سلم كون الفساد المفروض في محل الكلام هو الفساد من تلك الجهة الأخيرة لما كان معنى لانكاره من أحد في العبادات بعد تسلمهم على لزوم قصد القربة فيها ، وعلى ذلك ، فلا مجال لإرادة النهى المولوي التحريمي من لفظ النهى في عنوان البحث ، كما أنه لا مجال أيضا لإرادة النهى الارشادي منه لأنه أيضا مما لا اشكال في دلالته على الفساد في العبادات والمعاملات بل لابد وأن يكون المراد منه في العنوان طبيعة النهى في نفسه فيكون مرجع النزاع حينئذ إلى النزاع في أن النهى المتعلق بالشيء عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم نهى ارشادي إلى خلل فيه حتى يوجب الفساد هذا.

ولكن قد يناقش على البيان المزبور بان ما أفيد من خروج النهى المولوي التحريمي عن محل النزاع وارجاع محل البحث إلى النزاع الصغروي خلاف ظاهر الكلمات ، فان الظاهر من كلماتهم بل المصرح به في كلام بعضهم تخصيص النزاع بخصوص النهى المولوي التحريمي كما يشهد لذلك تفصيل بعضهم في الاقتضاء للفساد وعدمه بين العبادات والمعاملات ، حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه للتفصيل المزبور ، بل ويشهد له أيضا استدلالهم كثيرا في الفقه على فساد العبادة بكونها حراما ومنهيا عنها ، وهكذا في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على مبني مقدمية ترك الضد لفعل ضده ، فان ذلك كله كاشف عن كون المراد من النهى في العنوان هو خصوص النهى المولوي التحريمي ، وعليه لابد وأن يكون النزاع في الاقتضاء وعدمه في اقتضاء النهى اثباتا ، ودلالته ولو بالالتزام عرفا على عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه بدعوى انه وان لم يكن ملازمة عقلا بين حرمة الشيء ووجود المفسدة فيه وبين فقدانه لملاك الامر والمصلحة نظراً إلى ما تقدم من امكان اجتماع المصلحة والمفسدة في عنوان واحد بجهتين تعليليتين الا انه مع ذلك يرى العرف بينهما الملازمة فيرى من النهى كونه ذا مفسدة محضة ، ومن ذلك لو ورد في القبال امر يقتضي الصحة يقع بينهما التكاذب ويرجع فيها إلى قواعد باب

ص: 454

التعارض ، والا فلولا ذلك لما كان وجه للمعارضة بينهما والرجوع إلى قواعد التعادل والترجيح ، بل لابد وأن يكون بينهما المزاحمة بملاحظة اقتضاء كل من الأمر والنهي بمدلولهما الالتزامي لقيام المصلحة والمفسدة فيه ، مع أنه ليس كك قطعا ، وحينئذ فنفس هذا التعارض والتكاذب بينهما كاشف عن اقتضاء كل من الأمر والنهي عرفا بالالتزام لعدم قيام ملاك آخر فيه غير ملاكه ، كما هو واضح.

ولكن يدفع ذلك اما الاشكال الأول فبان ما يرى من حكم الأصحاب بفساد العبادة مع النهى فإنما هو من جهة الخلل في القرب المعتبر في صحة العبادة كما يكشف عنه استدلالهم كثيرا على الفساد بانتفاء التقرب وعليه أيضا جرى تفصيلهم بين العبادات والمعاملات ، فحيث ان قصد القربة مما لابد منه في صحة العبادة ومع النهى لايكاد تمشي القربة من المكلف ، بخلافه في المعاملة ، اقتضى ذلك التفصيل المزبور ، ولكنه كما عرفت غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي في نفسه للفساد من جهة عدم الملاك.

واما الاشكال الثاني فبما مر في البحث المتقدم بان ما يرى من التعارض بينهما عند ورود امر في القبال فإنما كان ذلك من جهة ذاك الارتكاز العقلي بعدم جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد حيث إنه بمقتضي هذا الارتكاز يرى العرف بينهما التكاذب في تمام مدلوليهما حتى في دلالتهما على المصلحة والمفسدة فيعامل معهما معاملة التعارض لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لعدم قيام ملاك الامر والمصلحة في متعلقه رأسا ولو مع قطع النظر عن المعارض فتأمل.

نعم في الفرض المزبور كما سيجيء لابد أيضا من الحكم بالفساد ولكنه لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لذلك بل من جهة عدم احراز الملاك والمصلحة فيه لأنه في العبادات لابد في صحتها من احراز الملاك والمصلحة فيها فمع الشك فيها في الملاك يشك قهرا في مشروعيتها فتنفي بأصالة عدم المشروعية.

وعليه فلا محيص من اخراج النهى المولوي التحريمي كالارشادي عن حريم النزاع وارجاع البحث المزبور في دلالة النهى على الفساد وعدم دلالته عليه إلى البحث الصغروي بان النهى المتعلق بعنوان عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم ارشادي إلى خلل فيه حتى يقتضي الفساد فتدبر.

الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا أصل في المسألة يعول عليه عند الشك وحينئذ لو كان

ص: 455

هناك ظهور عرفي فهو والا يبقى المدعى بلا دليل. نعم الأصل في المسألة الفرعية كما عرفت كان هو الفساد ، سواء فيه العبادات أو المعاملات ، حيث كان الأصل في المعاملات عدم ترتب النقل والانتقال ، وفى العبادات عدم المشروعية عند الشك في الملاك فيها.

وإذ تمهد هذه الأمور فاعلم أن الكلام يقع في مقامين :

الأول في العبادات فنقول : النهى متعلق تارة بعنوان العبادة كالنهي عن الصلاة والصوم للحائض وأخرى بجزئها كالنهي عن قرائة السور العزائم في الصلاة ، وثالثة بشرطها كالنهي عن التستر بالحرير ونحوه مثلا ، ورابعة بوصفها الملازم كالجهر والاخفات في القراءة ، وخامسة بوصفها المفارق كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة عنها ، وعلى التقادير فالنهي اما ان يكون مولويا ، واما ارشاديا إلى خلل في العبادة ، اما لعدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع كالنهي عن التكتف في الصلاة أو من جهة كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة مثلا. واما ان يكون في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي أو المشروعية الفعلية أو الاقتضائية فهذه أنحاء صور النهى المتعلق بالعبادة ، وربما يختلف النتيجة حسب اختلاف الصور ، فلابد حينئذ من بيان ما للصور المزبورة من اللوازم والآثار.

فنقول : أما إذا كان النهى متعلقا بعنوان المادة وكان مولويا محضا فهو كان عرفت غير مقتض لفساد العبادة الا من جهة قضية الاخلال بالقربة الموقوفة على العلم به ، والا فمن جهة فقد انها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجه من الوجوه ، لان غاية ما يقتضيه النهى المزبور بما انه نهى مولوي تحريمي انما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم وجود ملاك والمصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا. نعم مع الشك في الملاك كان مقتضي الأصل هو الفساد ، ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي لذلك ، كما هو واضح.

وأوضح من ذلك ما لو كان النهى في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ، وذلك من جهة وضوح ان غاية ما يقتضيه مثل هذا النهى انما هي الدلالة على عدم وجوبه ، واما دلالته على عدم استحبابه ورجحانه فلا ، فضلا عن الدلالة على عدم الملاك والمصلحة فيه أو الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، وحينئذ لو كان في البين عموم أو اطلاق يثبت رجحانه

ص: 456

واستحبابه فهو ، والا فالأصل يقتضي الفساد ، لما عرفت من أنه لابد في صحة العبادة من احراز رجحانها ، فمع الشك في رجحانها ومشروعيتها كان مقتضي الأصل هو عدم مشروعيتها.

وكذلك الكلام فيما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية كما في النهى عن النافلة في وقت الفريضة ، فإنه أيضا لايقتضي فساد العبادة من جهة عدم الملاك إذ لايقتضي أزيد من عدم المشروعية الفعلية وعدم الرجحان والمحبوبية الفعلية في العمل ، ولا ملازمة بين عدم المشروعية الفعلية وبين عدم الملاك والمصلحة فيه ، وعليه فلو قام دليل على وجدان العمل للملاك في هذا الفرض يندرج في صغريات المسألة السابقة ، واما لو لم يقم دليل على ذلك كان الأصل فيه هو الفساد بالبيان المتقدم.

واما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية ، ففي هذا الفرض كان النهى يقتضي الفساد من جهة دلالته حينئذ على انتفاء الملاك والمصلحة فيه.

ومثل ذلك ما لو كان النهى ارشاديا إلى خلل في العبادة لانتفاء الملاك رأسا ، أو اقترانه بالمانع كالصلاة متكتفا ، حيث إنه كان النهى أيضا موجبا لفسادها من دون اقتضائه للحرمة والمبغوضية ، نعم لو كان قضية النهى المزبور هو الارشاد إلى كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة ففي هذا الفرض بالنسبة إلى العمل الذي وقع فيه العمل المنهى كان النهى دالا على فساده ، واما بالنسبة إلى نفس هذا العمل الذي نهى عن اتيانه فلا دلالة على فساده ، وحينئذ فلابد ان يلاحظ العمل الذي أخل به باتيان العبادة في أثنائه ، فان كان غير الفريضة فلا اشكال ، إذ لايكون ابطاله حينئذ حراما حتى يحرم ما أوجد في أثنائه ، واما ان كان من الفرائض التي يحرم ابطالها فيحرم قهرا ما أوجد في أثنائه بالحرمة الغيرية فيندرج حينئذ في صغريات المسألة السابقة ، فيفسد مع العلم بالنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى.

هذا كله حال النهى المتعلق بعنوان العبادة ، وقد تلخص بان مجرد تعلق النهى بعنوان العبادة غير موجب لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى خلل فيها اما من جهة عدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع.

واما النهى المتعلق بجزء العبادة ففيه أيضا الصور المزبورة من كونه تارة ممحضا في المولوية ، وأخرى ارشادا إلى خلل في الجزء ، وثالثة في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ،

ص: 457

أو المشروعية الفعلية ، أو الاقتضائية.

فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساد الجزء الا من جهة الخلل في القربة الذي عرفت انه مترتب على العلم بالنهي لاعلى النهى الواقعي.

واما النهى الارشادي أو الواقع في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية فهو موجب لفساده ولكنه بمعنى عدم وقوعه جزء للعبادة والا فلايقتضي بطلان أصل العبادة ، بل ولو قلنا حينئذ بفساد العبادة لابد وأن يكون من جهة النقيصة عند الاقتصار عليه ، أو يكون من جهة الزيادة العمدية بناء على استفادة مبطلية مطلق الزيادة العمدية. نعم لو كان النهى في مقام الارشاد إلى كونه مخلا بأصل العبادة أيضا كما في النهى عن قرائة العزائم في الفريضة على ما هو قضية التعليل في قوله علیه السلام : بأنها زيادة في المكتوبة كان مقتضيا لبطلان العبادة.

واما النهى المتعلق بالشرط ففيه أيضا الصور المزبورة ، فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساده الا إذا كان فيه جهة ارشاد إلى خلل فيه فيفسد وبفساده يفسد المشروط أيضا في فرض الاقتصار على الشرط المنهى بلحاظ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

واما النهى المتعلق بوصفها المقارن كالجهر في القراءة مثلا فهو أيضا غير مقتض لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى كونه مخلا بالعبادة.

وعلى ذلك لابد للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد والقرائن الخاصة لاحراز ان النهى مولوي محض أو ارشادي ، والا فمع خلو المورد عن القرينة كان النهى ظاهرا في المولوية ، ولكن ظاهر الأصحاب في غير النواهي النفسية عند عدم القرينة على بعض المحتملات هو الحمل على الارشاد إلى المخلية والمانعية من غير فرق بين الجزء أو الشرط أو الوصف ، ولعله من جهة ظهور ثانوي في النواهي الغيرية في الارشاد إلى المانعية والمخلية بلحاظ ورودها في مقام بيان كيفية العبادة وحدودها ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط فتدبر.

واما لو تعلق النهى بالوصف المفارق ، فان كان النهى متعلقا بعنوان والامر بعنوان آخر كالنهي عن الغصب وعن النظر إلى الأجنبية والامر بالصلاة فأوجدهما المكلف في وجود واحد فهو يندرج في المسألة السابقة ، واما لو كان النهى عن الوصف من قبيل قوله : لا تغصب في صلاتك ، ففيه أيضا يجري ما ذكر في الجزء والشرط من لزوم الحمل

ص: 458

على الارشاد إلى المخلية ، الا إذا قام هناك ما يقتضي الخلاف كما في المثال ، حيث إنه بملاحظة ارتكاز مبغوضية الغصب والتصرف في مال الغير ولو في غير حال الصلاة لابد من حمل النهى على المولوية ومبغوضية الغصب بالبغض النفسي ، بصرفه عما هو ظاهره من الظهور الثانوي إلى ما يقتضيه طبع النهى من الظهور في الحرمة المولوية ، وعليه يندرج أيضا في المسألة السابقة كما أوردناه هناك وقلنا بأنه لا وجه لاخراجه عن محل النزاع بتخصيص مورد النزاع بما لو كان بين المتعلقين العموم من وجه.

هذا كله في المقام الأول.

واما المقام الثاني فالكلام فيه في النهى المتعلق بالمعاملة

وملخص الكلام فيه هو عدم اقتضاء مجرد النهى عنها للفساد ما لم يكن في مقام الارشاد إلى خلل فيها ، وذلك من جهة وضوح عدم الملازمة بين حرمة المعاملة ومبغوضيتها وبين فسادها وعدم ترتب النقل والانتقال ، حيث إنه بعد عدم توقف صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال على رجحانها أو عدم مبغوضيتها فقهرا يمكن صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال ولو مع كونها مبغوضة ومحرمة ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون النهى متعلقا بالسبب وهو العقد ، أو بالمسبب وهو النقل والانتقال ، أو بالتسبب إلى المسبب بالسبب ، فعلى جميع التقادير لا دلالة للنهي بما انه نهى مولوي على الفساد خصوصا على الأخيرين حيث إنه يمكن دعوى اقتضائهما للصحة نظراً إلى معلومية انه لولا ترتب المسبب وتحققه لما كان مجال للنهي عنه ، وحينئذ ينحصر وجه الفساد بما إذا كان للارشاد إلى خلل فيها. نعم لو كان النهى التحريمي عن لوازم المعاملة كالنهي عن اكل الثمن والمثمن والتصرف فيهما ففي مثل ذلك كان النهى مستلزما للفساد من جهة استلزام حرمة التصرف في العوضين لعدم نفوذ المعاملة والا ففي غير تلك الصورة لا اقتضاء للنهي التحريمي للفساد بوجه أصلا.

واما توهم منافاة حرمة المعاملة ومبغوضيتها مع الجعل تأسيسا أو امضاء لما بيد العرف ، فمدفوع بمنع التنافي بينهما ، من جهة امكان ان تكون المعاملة ممضاة ومؤثرة في النقل والانتقال على تقدير تحققها ومع ذلك كانت محرمة. وحينئذ فلا يستلزم مجرد تخصيص الجواز التكليفي أو تقييده تخصيص دليل الجواز الوضعي المثبت لصحة المعاملة ، ولو كانا ثابتين بدليل واحد ، كما لو قلنا بان مثل عموم ( الناس مسلطون ) مثبت للجواز

ص: 459

الوضعي والتكليفي حيث إنه بدليل النهى يخصص عمومه من جهة الجواز التكليفي دونه من جهة الجواز الوضعي أيضا ، كما هو واضح. نعم لو كان قضية النهى هو مبغوضية المعاملة بشر أشر وجودها حتى بالقياس إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والامضاء لكان لدعوى التنافي المزبور كمال مجال ، ولكن من الواضح عدم قابلية مثل هذا المعنى لتعلق النهى المولوي به ، فان المعاملة بهذا المعنى خارج عن تحت قدرة المكلف فعلا وتركا ، فلايمكن حينئذ تعلق النهى المولوي بها ، بل وانما القابل لتعلق النهى به انما هو التوصل إلى وجود المعاملة من ناحية سببه في ظرف تحقق أصل الجعل من الشارع ، لأنه هو الذي يكون تحت قدرته واختياره فعلا وتركا ، ومعلوم حينئذ ان مبغوضية المعاملة من تلك الجهة غير منافية مع إرادة الجعل والامضاء ، من جهة امكان ان تكون المعاملة مبغوضة ومحرمة ايجادها من المكلف ، ومع ذلك كانت صحيحة ومؤثرة فيما هو الأثر المقصود منها ، وهو النقل والانتقال ، نعم قد يكون النهى دالا على الارشاد إلى عدم الامضاء وعدم النفوذ في بعض الموارد ، ولكن ذلك أيضا بمقتضي بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي مثلا وفي بيع المصحف بالكافر. وحينئذ فعلى ذلك لابد في قمام الحكم بفساد المعاملة من جهة النهى من احراز كونه في مقام الارشاد إلى عدم الجعل والامضاء والا فطبع النهى لايقتضي الا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه للفساد.

هذا إذا كان النهى متعلقا بعنوان المعاملة ، أو بالسبب ، أو بالتسبب بالسبب إلى وجود المعاملة.

واما لو كان النهى متعلقا باجزاء السبب وشرائطه فيكون كما في العبادات محمولا على الارشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخل بالمعاملة ، الا ان الفرق بينهما وبين العبادات حينئذ كان في الأصل الجاري فيها عند الشك في مولوية النهى وارشاديته ، فإنه في العبادات يفصل بين صورة تعلق النهى بعنوان العبادة وبين صورة تعلقه باجزائه وشرائطه ، فكان الأصل في الأول عند الشك في المشروعية عدمها ، وفى الثاني المحتمل المانعية فيه كان الأصل هو البراءة عنها والصحة ، بخلافه في المعاملات ، فإنه على كل تقدير كان الأصل هو عدم المشروعية وعدم النفوذ نظراً إلى عدم جريان البراءة فيها حينئذ لا عقلا ولا نقلا حتى يصبح الحكم بنفوذ المعاملة وصحتها ، وذلك من جهة ان البراءة العقلية مجريها العقوبة ، ولا الزام في المعاملة حتى تنفى العقوبة المحتملة من جهة الشيء المشكوك المانعية والمخلية ، واما البراءة النقلية فمجريها الامتنان ، ولا امتنان

ص: 460

في المقام في اثبات الصحة برفع المشكوك المانعية ، من جهة استلزامه لوجوب الوفاء الذي هو خلاف الامتنان في حقه. لايقال : ان ذلك كك في مثل دليل الرفع ونحوه مما كان مسوقا في مقا الامتنان لا في مثل دليل الحلية مما لايكون كك وحينئذ لولا دعوى اختصاصه بالحلية التكليفية لا بأس بدعوى جريانه واقتضائه لنفوذ المعاملة باجرائه في نفس المعاملة حيث إنه باقتران المعاملة بمشكوك المانعية والمخلية يشك في حليتها وضعا ونفوذها في النقل والانتقال فبدليل الحلية يثبت كونها حلالا وضعا ومؤثرا في النقل والانتقال ، فإنه يقال : نعم ولكنه من جهة اختصاصه بخصوص الحلية التكليفية غير جار في المعاملات حتى يقتضي صحة المعاملة ونفوذها ، ومن ذلك أيضا لم يتوهم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لاثبات الصحة فيها ، بل ومع الشك اطبقوا على جريان أصالة الفساد ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة اختصاصه بالحلية التكليفية ، كما هو واضح.

هذا كله حسب ما تقتضيه القواعد ، ولقد عرفت عدم اقتضاء النهى المولوي التحريمي للفساد مطلقا ، سواء بين تعلقه بالمسبب أو السبب أو بالتسبب به إلى المسبب ، وان المقتضى له انما هو النهى الارشادي.

واما حسب النصوص الخاصة فقد يقال : بدلالتها على ملازمة النهى للفساد كالخبر المروي في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر علیه السلام قال : سئلته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده فقال : علیه السلام ذاك إلى سيده ، ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما ، قلت : أصلحك اللّه ان الحكم بن عيينة ( عتيبة ) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : ان أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له ، فقال علیه السلام : انه لم يعص اللّه سبحانه وانما عصى سيده ، فإذا إجازة فهو له جائز (1) بتقريب دلالة الرواية على أن النكاح لم يكن مما حرمه اللّه حتى يقع فاسدا ولا يصلحه إجازة السيد ، فتدل حينئذ على ملازمة النهى والمولوي للفساد في المعاملات ،

ولكن فيه ان الظاهر من المعصية المنفية بقرينة المقابلة انما هو عدم كونه مما لم يمضه اللّه ولم يشرعه له كما كان ذلك هو المراد أيضا من معصية السيد حيث أريد منها عدم إجازة

ص: 461


1- وسائل الشيعة ، ج 14 ص 523 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 1. والكافي ج 5 ص 478 الحديث 3.

السيد له وعدم اعطائه السلطنة في النكاح في قبال اذنه بذلك ، فان مقتضي المولوية والعبدية هو عدم نفوذ تصرفات العبد في شيء الا بإجازة واذن من سيده ومولاه ، فكان المراد حينئذ من قوله علیه السلام : انه لم يعص اللّه سبحانه الخ ، هو ان النكاح ليس مما لم يشرعه اللّه في حقه بحسب أصل الشرع حتى يقع باطلا وانما كان عدم التشريع والامضاء من قبل سيده فإذا جاز ونحن نقول أيضا باستتباع مثل هذا النحو من المعصية للفساد بلا مجال لانكاره من أحد.

ومما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا من عدم كون المراد من المعصية هو مخالفة النهى التحريمي قضية عدم انفكاك معصية السيد عن معصية اللّه من حيث وجوب اطاعته على العبد شرعا وجوبا تكليفيا كما في إطاعة الوالد ، فإنه لولا ما ذكرنا كان اللازم في المقام هو فساد النكاح المزبور مع أنه خلاف ما تضمنه الرواية من الحكم بالصحة. ومن هذه الجهة أيضا استدل بعضهم بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد بتقريب ما عرفت من الملازمة بين معصية السيد وبين معصية اللّه ، وان كان لا يخلو ذلك أيضا عن اشكال ، لامكان دعوى ان صحة النكاح ونفوذه بعد إجازة السيد انما هو من جهة ارتفاع معصية اللّه حسب تبعيتها لمعصية سيده عنه إجازة السيد له ، والا فقبل إجازة السيد له بمقتضى كونه عصيانا للنهي التكليفي لايكون النكاح صحيحا فعليا ومؤثرا في تحقق علقة الزوجية بل وانما غايته حينئذ كونه صحيحا شأنيا ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد هذا.

ولئن قيل بان المقصود من اقتضاء النهى التكليفي للفساد وعدم صحة المعاملة انما هو فسادها وعدم صحتها ولو شأنا وحينئذ فبمقتضى الملازمة بين معصية السيد وبين معصية اللّه تكليفا تكون الرواية لا محالة حسب تضمنها للصحة دالة على عدم اقتضاء النهى التكليفي للفساد ، ومن ذلك لابد وأن يكون المراد من عصيان اللّه الموجب لفساد النكاح بعد عدم انفكاك معصية السيد عن معصية اللّه تبارك وتعالى هو العصيان الوضعي دون العصيان التكليفي ، نقول : بأنه كك إذا كان العصيان المتحقق في الفرض راجعا إليه سبحانه من جهة كونه مخالفة لتكليف من تكاليفه بحيث يستحق العقوبة من قبله ، وليس الامر كك بل العصيان في المقام انما هو راجع إلى مخالفته لمقتضي حق المولوية المجعول من قبله سبحانه لسيده ، من جهة ان مقتضي المولوية هو عدم جواز تصرف العبد في شيء الا

ص: 462

باذنه ورضاه ، فلايكون مثل هذا العصيان حينئذ راجعا سبحانه كعصيانه لتكاليفه كالصلاة والصوم ونحوهما ، حتى يوجب استحقاق العقوبة ويوجب فساد المعاملة. وحينئذ فلو ادعى أحد اقتضاء النهى المولوي التحريمي لفساد المعاملة لا مجال للاستدلال بالرواية المزبورة في القبال على عدم دلالة النهى التكليفي للفساد كما لايخفى ، فتأمل. نعم كما لا دلالة لها على عدم اقتضاء النهى للفساد لا دلالة لها أيضا على اقتضائه للفساد من جهة ما عرفت من ظهورها في إرادة العصيان الوضعي بمعنى عدم المشروعية ، فتدبر.

ومن الاخبار التي استدل بها للفساد رواية ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب اللّه عز وجل رد إلى كتاب اللّه عز وجل (1) ، وبمضمونه أيضا روايات كثيرة (2) ولكن الجواب عنها يظهر مما سبق حيث إن مخالفة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد لكتاب اللّه والسنة انما هي من جهة كونه مما ردع اللّه عنه ولم يشرعه في كتابه ، ونحن نقول بالفساد فيما كان من هذا القبيل.

ثم إن المحكي عن أبي حنيفة والشيباني انما هو دلالة النهى التكليفي على الصحة ، وقد حكى عن الفخر موافقتهما في ذلك.

وهو كك في المعاملات فيما لو كان النهى عنها بلحاظ الآثار ، من جهة وضوح اعتبار القدرة على المتعلق في النهى كما في الامر ، فإذا كانت المعاملة فاسدة من جهة النهى يلزم عدم كونها مقدورا للمكلف ، ومعه لايكاد يصح توجيه النهى إليه عن ايجادها وحينئذ فوجود النهى عن المعاملة بالفرض يقتضي كونها مقدورة له ، ومقدوريتها له تقضي صحتها وهو المطلوب ، هذا إذا كان النهى عن المعاملة بلحاظ المسبب أو بلحاظ التسبب بها إليه ، واما لو كان النهى عنها بلحاظ السبب فهو غير مقتض لصحتها وترتب الآثار عليها إذ لا يلزم من مجرد مقدورية السبب ترتب الأثر عليه ، كما هو واضح.

واما في العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالركوع والسجود ونحوهما من الأمور الموضوعة لان تكون آلات للخضوع فكذلك أيضا فإنها كانت مقدورة وكانت مع النهى باقية على وصفها العبادي ، فيتمكن من الاتيان بها صحيحة مع النهى ، حيث كان صحتها عبارة أخرى عن تحقق ذواتها ، نعم غاية ما هناك هو عدم وقوعها مقربة له من جهة

ص: 463


1- 1 و1. الوسائل ، ج 15 ص 313 ، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و ...
2- 1 و1. الوسائل ، ج 15 ص 313 ، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و ...

احتياج مثل هذا النحو من العبادة في مقربيتها إلى عدم كونها مبغوضة للمعبود له. واما ما كان منها عبادة من جهة قصد القربة المتوقفة عباديتها على الامر بها أو رجحانها فلا يلزم من النهى عنها صحتها ، بل في مثله يستحيل تعلق النهى بها يوصف كونها عبادة فعلا ، فالنهي حينئذ انما يكون متعلقا بذات الشيء بما له من الاجزاء والشرائط غير الوصف الناشي من قبل الامر به نعم لو أريد من الصحة حينئذ الصحة التي يدعيها القائل بالوضع للصحيح : من كون الشيء واجدا لجميع الاجزاء والشرائط وكونه وافيا بالغرض على تقدير الامر به ، لكان لدعواه كمال مجال ، ولكنه لا ينتج ما هو المطلوب من الصحة الفعلية ، كما هو واضح.

بقى الكلام في النهى التشريعي ، في أنه هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة أم لا؟ ولتوضيح المرام ينبغي بيان حقيقة التشريع في الاحكام فنقول : ان حقيقة التشريع بعد أن كانت من سنخ البناء القلبي الذي هو من أفعال الجوانح دون الفعل الخارجي الذي هو من أفعال الجوارح فتارة في مقام التشريع يبنى الانسان على وجوب الشيء أو حرمته لكن لا بما انه من الدين ، نظير القوانين المجعولة من طرف السلطان بين الرعية وأخرى يبنى على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه مشرع ، وذلك بان يدعى نفسه شارعا كالنبي صلی اللّه علیه و آله ثم في مقام شارعيته يجعل الشيء الفلاني واجبا أو حراما أو غير ذلك ، وثالثة يبني على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه هو الحكم المنزل من اللّه سبحانه بتوسيط رسوله من دون ادعائه الشارعية لنفسه ، وعلى التقادير تارة يخبر أو يعمل على طبق تشريعه ، وأخرى لا يخبر ولا يفتى بذلك ولا كان له عمل على طبق ما شرعه ، كما لو كان تشريعه في حكم عمل غيره الذي هو أجنبي عنه ، ثم على التقدير الأخير تارة يكون تشريعه في أصل الحكم الشرعي وأخرى في تطبيقه على المصداق الخارجي ، فهذه صور متصورة في التشريع.

وبعد ذلك نقول : اما القسم الأول فلا مجال لدعوى كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا فان مجرد البناء والالتزام على وجوب شيء لا بما انه من الدين والشرع لايقتضي كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا بوجه أصلا وان كان قد عمل على طبق ما شرعه فضلا عما لو لم يكن له عمل على طبقه.

واما القسم الثاني فكذلك أيضا من حيث تشريعه وبنائه على وجوب شيء أو حرمته

ص: 464

نعم انما يكون المحرم في هذا القسم هو حيث ادعائه الشارعية لنفسه ، حيث إنه من أكبر المعاصي وكان العقل أيضا مستقلا بقبحه.

كما أنه لاينبغي الاشكال أيضا في قبح القسم الثالث وحرمته إذ كان فضوليا في امر المولى وكان اخباره بذلك أيضا افتراء عليه. نعم يبقى الكلام حينئذ في أن حكم العقل بالقبح في المقام هل هو بنحو يستتبع حكمه أيضا باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح المعصية لكونها ظلما على المولى. حتى لايكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي ، أو انه بنحو لا يستتبع للحكم باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح الظلم حتى يكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي وكان المجال أيضا لاستكشاف الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة بناء على تماميتها؟ وفي مثله لايبعد دعوى كونه من قبيل الثاني إذ نقول : بان التشريع وان كان نحو ظلم على المولى لكونه تصرفا في سلطانه بحيث يستقل العقل بقبحه ، الا انه لايكون بمثابة يستتبع الحكم باستحقاق العقوبة كما في العصيان ، بل هو من هذه الجهة نظير الظلم على النفس الذي يحكم العقل فيه بالقبح من دون حكمه باستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فكان كمال المجال لدعوى كونه محكوما بالحرمة المولوية الشرعية بمقتضي الملازمة ، ولكن حيث إن روح التشريع وحقيقته من سنخ البناء آت القلبية من غير دخل فيه للاخبار أو الفتوى على طبقه بل ولا للفعل الخارجي الجوارحي ، بشهادة تعلق التشريع بحكم فعل الغير كالتشريع في ايجاب الصلاة والصوم على الحائض والنفساء ، فلا جرم ما هو المحرم بالحرمة التشريعية أيضا لايكون الا نفس البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح دون العمل الخارجي أو الافتاء بشيء ، كما هو واضح.

وحينئذ فما أفيد من حرمة الافتاء والعمل الخارجي بالحرمة التشريعية أيضا بتخيل ان التشريع عبارة عن الفعل الصادر عن البناء المزبور كان الفعل هو الافتاء بشيء أو العمل الخارجي دون نفس البناء القلبي مجردا عن العمل والافتاء ودون الفعل الخارجي مجردا عن كون نشوه عن البناء المزبور ، وان الفعل الناشي عن البناء القلبي هو مصداق التشريع المحرم ، منظور فيه ، لما عرفت من أن روح التشريع وحقيقته ليس الا عبارة عن نفس البناء القلبي ، وان العمل والافتاء كالاخبار به خارج عن حقيقة التشريع ، حيث كان مرجع الافتاء إلى كونه اظهارا وابرازا لذلك البناء القلبي كالاخبار ، ومرجع العمل إلى كونه امتثالا لما شرعه بحسب بنائه على الوجوب أو الحرمة ،

ص: 465

وعليه فلايكاد يوجب حرمة التشريع حرمة الافتاء والعمل الخارجي الجوانحي ، حتى يوجب فساده إذا كان عبارة ، ولو مع فرض انكشاف مشروعية المأتي به واقعا وتبين كون ما بنى على وجوبه أو جزئيته باعتقاد حرمته وما نعيته واجبا شرعا وجزء للمأمور به واقعا وفرض كون تشريعه في تطبيق المأمور به على المصداق لا في مقام الامر الشرعي.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان ما أفيد بان ذات العمل وان لم يكن قبيحا ومبغوضا حينئذ الا انه من حيث صدوره من المكلف كان قبيحا ومبغوضا ، ومعه لايكون قابلا للتقرب به ، وجه البطلان يظهر ما سبق من كون المحرم هو البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح وخروج العمل بقول مطلق عن موضوع التشريع المحرم ، كيف ومع الغض عن ذلك نقول : بان ما هو القبيح حينئذ انما كان حيث إضافة العمل إلى الفاعل دون نفسه ، وفي مثله لا بأس بالتقرب بذات العمل بعد فرض كونه راجحا واقعا وكون تشريعه أيضا في تطبيق ما هو المأمور به على المصداق الخارجي لا في ناحية الامر الشرعي فتأمل ، وعلى فرض سراية القبح والمبغوضية إلى ذات العمل ولو بدعوى اتحاد الوجود والايجاد وكون الاختلاف بينهما بالاعتبار ، نقول انه وان كان يلزمه حينئذ فساد العبادة ، لكن يلزمه أيضا المصير إلى الفساد في المعاملة أيضا بناء على ما سلكه القائل المزبور من اقتضاء النهى عن المعاملة لفسادها ، من جهة اقتضاء النهى لخروج المعاملة عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه ، إذ حينئذ بمقتضي هذا النهى التشريعي يخرج العمل عن حيطة قدرته وسلطانه بنحو كان له الفعل والترك ، ومع خروجه عن حيطة قدرته وكونه أجنبيا عنه لا جرم يبطل المعاملة ، فلايصح حينئذ التفكيك بين العبادات والمعاملات في اقتضاء النهى التشريعي للفساد ، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه.

ولكن أقول : بان التأمل في كلمات القائل المزبور يقتضي عدم ورود هذا الاشكال عليه حيث إنه قدس سره انما يدعى خروج النقل أو العمل عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه بالنهي أو الامر فيما لو كان النهى أو الامر متعلقا بالشيء بمعناه الاسم المصدري لا مطلقا ولو كان المنهى عنه هو الشيء بمعناه المصدري ، وعليه فإذا كان المنهى عنه في المقام على ما صرح به في التقرير حيث إضافة اصدار العمل من المكلف بهذا العنوان لا نفس الصادر فلايكون فيه جهة مبغوضية أصلا ، فلا جرم يلزمه الالتزام بعد الفساد في المعاملة ، واما التزامه بالفساد في العبادات فإنما هو من جهة اعتباره في

ص: 466

صحة العبادة رجحان العمل في نفسه وعدم اتصافه بالقبح الفاعلي ، فحيث ان الفعل المشرع به في المقام يصدر عنه مبغوضا وقبيحا بالقبح الفاعلي ولم يكن قابلا للتقرب من هذه الجهة التزم فيها بالفساد ، هذا.

ولكن الذي يهون الامر هو فساد أصل هذا المبني لما تقدم من أن ما هو القبيح والمبغوض انما كان هو البناء القلبي لأنه حقيقة التشريع ، وروحه وان الافتاء وكذا العمل على طبق هذا البناء فخارج عن حقيقة التشريع ، وفي مثله لايكاد سراية الحرمة والمبغوضية منه إلى نفس العمل بوجه أصلا ، ولو بحيث إضافة اصداره من الفاعل. وعلى ذلك نقول : بأنه لو شرع وبنى على وجوب شيء أو جزئيته أو شرطيته في العبادة جهلا أو معتقدا بالخلاف ، وعمل أيضا على طبق ما شرع جزء أو شرطا أو مانعا ، فتبين بعد ، كون المشرع به مطابقا للواقع بحيث لم يقع منه اخلال في عمله بما هو الواجب والمأمور به في حقه ، فلا جرم تصح عبادته ما لم يكن هناك اخلال بالقربة من جهة الامر ، بان كان تمام داعيه على الاتيان هو الامر الشرعي الحقيقي وكان تشريعه ممحضا في تطبيق المأمور به على المأتي ، والا فتبطل من جهة اخلال بالتقرب ، هذا ذا تبين كون العمل المشرع به مطابقا للواقع.

واما تبين الخلاف ففيه صور : فعلى فرض مانعية الجزء أو الشرط المشرع به في الواقع فلا محالة تبطل العبادة لمكان ايجاد المانع فيها ، كما أنه كك أيضا فيما لو بنى على مانعية شيء للصلاة ولم يأت به فتبين كونه جزء أو شرطا في الواقع فإنه تبطل العبادة في هذا الفرض أيضا لمكان النقيصة ، واما على فرض عدم جزئية ما بنى على جزئيته أو شرطيته واقعا فيبنى البطلان وعدمه على مبطلية الزيادة.

وعلى أي حال فمجرد التشريع في العبادة لايقتضي البطلان ، بل الفساد والبطلان لابد وأن يكون من جهة أخرى كمحذور الزيادة أو النقيصة أو غير ذلك ، هذا في العبادات ، وهكذا في المعاملات فيدور الفساد فيها مدار الاخلال خارجا بما هو المعتبر فيها شرطا أو شطرا أو مانعا ، وهو واضح.

ص: 467

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

اعلم أنه قد عرف المفهوم بتعاريف : منها انه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق باعتبار كونه مدلولا التزاميا للفظ ، ولتنقيح المقال لابد من بيان ما لللازم من الأقسام كي به يتضح ما هو المراد منها من المفهوم المصطلح في المقام فنقول : ان اللزوم على مراتب وأقسام : منها ان تكون الملازمة بين الامرين بمرتبة من الخفاء ، بحيث يحتاج الانتقال إلى اللازم إلى الالتفات التفصيلي بأصل الملازمة بينهما كي ينتقل الذهن بعده إلى اللازم ، وبعبارة أخرى كانت الملازمة في الخفاء بنحو تحتاج في الانتقال إليها إلى تدقيق النظر ، ومن ذلك جميع ما يصدر من أرباب العلوم من الاشكالات العلمية في اخذ بعضهم بعضا بما يقتضيه لازم كلامه من التوالي الفاسدة ، حيث إنه لولا خفاء الملازمة على صاحب الكلام لما يصدر منه ما يلزم من التوالي الفاسدة من كذا وكذا. ومنها ان تكون الملازمة واضحة في الجملة بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم والملازمة ، من دون احتياج إلى دقيق النظر في أصل الانتقال إلى الملازمة ، ومن ذلك دلالة الآيتين على كون أقل الحمل ستة أشهر. ومنها ان تكون الملازمة في الوضوح بمثابة كانت ارتكازية ومألوفة في الأذهان ، بحيث يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم بلا احتياج إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ، ومن ذلك أكثر الكنايات كالحاتم والجود ، وانو شيروان والعدالة ، ونحو ذلك ، فهذه اقسام ومراتب للزوم ، ولئن شئت فعبر عن الأول باللزوم الغير البين ، وعن الثاني بالبين بالمعنى الأعم ، وعن الثالث بالبين بالمعنى الأخص.

ص: 468

وبعد ذلك نقول : ان التعريف المزبور وان كان يشمل جميع الأقسام المزبورة ، حيث ينطبق على الجميع التعريف المزبور بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، الا انه نقول بان المراد من المفهوم المصطلح في المقام ما هو من قبيل القسم الأخير الذي كانت الملازمة في غاية الوضوح بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم من دون احتياج في الانتقال إليه إلى الانتقال إلى الملازمة بينهما والالتفات إليها تفصيلا أو اجمالا ، لا مطلق ما يلازم الشيء ويستتبعه ، وعليه فيخرج من المفهوم المصطلح ما يكون من قبيل الأولين كالآيتين ونحوهما مما لم يكن اللزوم فيه من البين الأخص ، بحيث يحتاج في الانتقال إليه إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ولايكفيه مجرد تصور الملزوم.

نعم على ذلك يدخل في التعريف المزبور باب الكنايات كالحاتم والجود ونحوه مما كان اللزوم فيه من البين الأخص ومع ذلك لايكون من المفهوم المصطلح ، فمن ذلك عرفوه بوجه آخر ، تارة بأنه حكم لغير مذكور ، وأخرى بأنه حكم غير مذكور لازم لحكم مذكور ، حيث إن الغرض من العدول إلى هذا التعريف انما هو اخراج المفردات كالحاتم والجود ، وتخصيص المفهوم المصطلح بالقضايا وان كان الأولى حينئذ تعريفه بأنه قضية غير مذكورة اما بحكمها أو بموضوعها لازمة لقضية مذكورة ، ووجه أولوية ذلك سلامته عما أورد على التعريفين المزبورين ، حيث أورد على الأول بلزوم خروج مفهوم الشرط الذي هو من اجل المفاهيم عن التعريف ، نظراً إلى كون الموضوع فيه مذكورا ، في القضية اللفظية حيث كان الموضوع في طرف المفهوم في قوله ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو زيد المذكور في القضية ، وعلى الثاني بلزوم خروج مفهوم الموافقة في نحو قوله ( لا تهن عبد زيد ) الدال على حرمة إهانة زيد بالأولوية ، وهذا بخلافه على ما ذكرنا من التعريف حيث إن فيه جمعا بين الجهات.

وعلى أي حال فيعتبر في المفهوم المصطلح ان يكون الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة دون شخص الحكم ، والا فيخرج عن المفهوم المصطلح المتنازع فيه ، ومن ذلك أيضا بنوا على خروج القضايا المتكفلة لاثبات شخص الحكم عن حريم النزاع ، معللين بان انتفاء شخص الحكم المذكور في القضية عند انتفاء بعض القيود المعتبرة فيه يكون عقليا ، فلا مجال للنزاع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه ، كما لايخفى.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مركز التشاجر والنزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه

ص: 469

لابد وأن يكون ممحضا في ناحية عقد الحمل في القضية ، في أن الحكم المنشأ في القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة منه كي يلزمه انتفائه رأسا عن غير مورد وجود القيد أو انه شخص الحكم أو الطبيعة المهملة كي لاينافي ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد وجود القيد؟ فكان القائل بثبوت المفهوم للقضية يدعى ان الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة والقائل بعدم المفهوم يدعى خلافه وانه لا يدل عقد الحمل في القضية الا على الطبيعة المهملة ، مع تسالم الفريقين في ظهور عقد الوضع في القضايا - اسمية كانت أم فعلية أو غيرهما في كون القيود المأخوذة فيها بخصوصياتها دخيلة في ترتب الحكم كما هو ديدنهم في كلية العناوين المأخوذة في الخطابات ، حيث كان بنائهم على دخلها بخصوصياتها في ترتب الحكم لا بما أنها مرآة إلى امر آخر ، ولا بما انها مصداق للجامع بينها وبين غيرها.

لا انه كان مورد النزاع في ناحية عقد الوضع كما يظهر من الكفاية (1) وغيرها ، من جعل مركز التشاجر في ناحية عقد الوضع في القضية حيث قال : بان من يقول بالمفهوم في مثل الجملة الشرطية لابد له من اثبات دلالة الجملة الشرطية على ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة واما القائل بعدم المفهوم فهو في فسحة من ذلك ، لان له منع دلالتها على اللزوم تارة بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، ومنع دلالتها على الترتب أو على نحو الترتب على العلة ثانيا ، أو على العلة المنحصرة ثالثا ، بعد تسليم اللزوم والعلية.

وذلك لما عرفت من أن ظهور القضايا في مدخلية العنوان المأخوذ فيها لترتب الحكم بخصوصيته مما لايكاد ينكر عند أحد منهم أصلا ، فلايمكن ان يكون النزاع بينهم حينئذ في المقام في ناحية عقد الوضع في الدلالة على العلية أو بنحو الانحصار ، بل لابد وأن يكون النزاع ممحضا في المقام في ناحية عقد الحمل خاصة كيف وانه لولا مفروغية الظهور المزبور عندهم لما كان وجه لفهمهم التنافي عند احراز وحدة المطلوب بين قوله : أعتق رقبة ، وبين قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، وحملهم المطلق على المقيد ، وذلك من جهة امكان ان يكون موضوع الحكم بوجوب العتق حينئذ هو مطلق الرقبة الجامع بين المؤمنة وغيرها وان ذكر الايمان

ص: 470


1- ج 1 ص 302.

من جهة كونه أحد المصاديق أو أفضلها ، وحينئذ فنفس فهمهم التنافي بينهما في المثال شاهد ما بيناه من التسالم في ظهور عقد الوضع في القضايا كلية على أن العنوان المأخوذ فيها مما له الدخل بخصوصيته الشخصية في ترتب الحكم ، إذ حينئذ بعد ظهور دليل المقيد في دخل الايمان بخصوصيته في وجوب العتق واحراز وحدة المطلوب ولو من الخارج ، يقع بينهما التعارض فيحتاج إلى حمل المطلق منهما على المقيد ، وهكذا في قوله : أكرم زيدا ، وقوله : أكرم عمرا ، حيث إنه مع العلم بوحدة المطلوب يقع بينهما التعارض ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ظهور كل من الدليلين في مدخلية خصوصية العنوان ، وان كل عنوان بخصوصيته تمام الموضوع للحكم ، لا بما انه مصداق للجامع وان الواجب انما هو اكرام الانسان ، وعلى ذلك نقول : بأنه بعد تسلم هذا الظهور في عقد الوضع في كلية القضايا فلا جرم لايبقى مجال النزاع في المقام في المفهوم وعدمه الا في طرف عقد الحمل في القضية ، في أنه هل هو السنخ والطبيعة المطلقة أو الشخص والطبيعة المهملة؟ فمع احراز كون المحمول هو الحكم السنخي فلا جرم بمقتضى الظهور المزبور في عقد الوضع في دخل الخصوصية يستفاد انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية.

ومما يشهد لما ذكرنا أيضا تصريحاتهم كما سيجيء بخروج القضايا المتكفلة لشخص الحكم عن حريم النزاع وعن المفهوم المصطلح ، وتعليلهم لذلك بان انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي غير قابل للنزاع فيه في البقاء وعدمه. إذ نقول : بأنه لولا الظهور المزبور في دخل الخصوصية لكان من المحتمل ان يكون هناك فرد علة أخرى توجب بقاء ذلك الحكم الشخصي ، بان كان العلة في الحقيقة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما وان المذكور في القضية أحد فردي الجامع ، ومن المعلوم انه مع تطرق هذا الاحتمال لا مجال لجعل الانتفاء فيه عقليا عند الانتفاء الا بتسلم الظهور المزبور في عقد الوضع.

وعليه نقول : بأنه إذا كان ذلك يوجب انتفاء الحكم الشخصي عند الانتفاء فليكن الامر كك في الحكم السنخي أيضا ، فمع احراز الحكم السنخي فقهرا بمقتضي الظهور المزبور في دخل الخصوصية يلزمه عقلا انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة ، واما توهم عدم كفاية هذا المقدار في الحكم بانتفاء الحكم السنخي لولا اثبات انحصار العلة ، بدعوى انه بدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى توجب شخصا آخر من الحكم مثله ، ومعه فلايمكن الحكم بانتفاء السنخ بهذا المقدار الا

ص: 471

باثبات انحصار العلة ، فمدفوع بان ذلك كك فيما لو كان الحكم المحمول في القضية بنحو الطبيعة المهملة والا ففي فرض كونه بنحو الطبيعة المطلقة فلا جرم لا يفرق بينهما بل توجب قضية الظهور المزبور حينئذ في دخل الخصوصية لزوم انتفاء الحكم السنخي عند انتفاء الخصوصية.

وعلى ذلك فلا محيص حينئذ من صرف النزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه عن عقد الوضع في القضية وارجاعه إلى طرف عقد الحمل ، بان المحمول هو الطبيعة المهملة حتى لايلزمه الانتفاء عند الانتفاء أو هو السنخ والطبيعة المطلقة حتى يلزم الانتفاء عند الانتفاء؟ من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة.

ومن ذلك نقول : بأنه لابد للقائل بالمفهوم في كل قضية شرطية أو وصفية أو غائية أو غيرها من اثبات كون المحمول في تلك القضية هو السنخ ، اما من جهة دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق أو من جهة القرائن الخارجية ، كي يستفاد المفهوم بضم ظهور عقد الوضع في القضية في دخل الخصوصية ، والا فبدون اثبات هذه الجهة لايكاد يصح له الاخذ بالمفهوم والحكم بالانتفاء عند الانتفاء ولو مع اثباته انحصار العلة ، هذا.

ولكن أقول : بأنه لايخفى عليك ان مجرد ظهور عقد الوضع في دخل العنوان بخصوصيته في ترتب الحكم السنخي غير مجد أيضا في استفادة الانتفاء عند الانتفاء الا بضم قضية اطلاق ترتب الحكم والجزء عليه في الترتب عليه بالخصوص بنحو الاستقلال ، والا فبدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى تقوم مقامه عند انتفائه ، ومع هذا الاحتمال لايمكن الاخذ بالمفهوم في القضية ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا احتجنا إلى قضية اطلاق ترتب الجزاء في الحكم بالانتفاء عند الانتفاء - كما اعترف به الأستاذ أيضا نقول بأنه ملازم قهرا مع انحصار العلة فلا يستغني حينئذ في الحكم بانتفاء السنخ عن اثبات انحصار العلة ، كما لايخفى.

ثم اعلم بان السنخ والطبيعة المطلقة تارة يراد به المعنى القابل للانطباق على الافراد المتكثرة ، كالانسان مثلا بالقياس إلى افراده ومصاديقه المتكثرة ، حيث إن اطلاقه انما هو بمعنى قابلية انطباقه وصدقه في الخارج على افراده من زيد وعمرو وبكر وخالد وغير ذلك من الافراد ، وأخرى يراد به ما يقتضي حصر الكلي والطبيعي بفرده ومصداقه الخاص نظير قولك : انما العالم زيد ، مريدا به حصر تلك الطبيعة لزيد وعدم ثبوت مصداق آخر

ص: 472

لغيره. وإذ عرفت ذلك نقول : ان المراد من السنخ والطبيعة المطلقة في المقام انما هو السنخ بالمعنى الثاني لا هو بالمعنى الأول ، فالمراد هو ان المتكلم في قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، مثلا بصدد حصر هذا السنخ من الحكم بفرده الخاص والا فهو باعتبار المعنى الأول غير معقول لأنه من المستحيل اطلاق الحكم في المثال المزبور بنحو يشمل وجوب الاكرام الثابت لعمرو وخالد ، ضرورة ان شخص الحكم الثابت لموضوع غير قابل للثبوت لموضوع آخر ، وهو واضح.

ارشاد في طريق استخراج المفهوم

اعلم أن الحكم إذا كان له إضافات متعددة بالقياس إلى موضوعه وقيده وشرطه وغايته ونحو ذلك ، فطريق استخراج المفهوم من كل جهة شرطا أو وصفا أو غاية انما هو باعتبار لحاظ الحكم سنخا بالإضافة إلى تلك الجهة لا باعتبار لحاظه سنخا على الطلاق ، حيث إنه من الممكن ان يكون المتكلم في مقام تعليق السنخ ومقام الاطلاق بالإضافة إلى قيد ، مع كونه في مقام الاهمال بالقياس إلى قيد آخر ، وعلى ذلك فلو ورد حكم معلق على شرط ، ومرتب على لقب ، ومنوط على وصف ، ومغيى بغاية خاصة ، كقوله : ان جاء زيد راكبا إلى يوم الجمعة يجب اكرامه ، ففي مثله كان لهذا الحكم إضافات متعددة : إضافة إلى شرطه وهو المجيء ، وإضافة باللقب وهو زيد ، وإضافة إلى قيده ووصفه ، وإضافة إلى الغاية الخاصة.

وحينئذ فإذا فرضنا ان المتكلم كان في مقام اطلاق الحكم وإناطته من حيث السنخ بالإضافة إلى كل واحد من الشرط واللقب والوصف والغاية فلا جرم يلزمه استخراج مفاهيم متعددة حسب تعدد الإضافات ، فمن اضافته إلى المجيء يستفاد مفهوم الشرط فيحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند عدم المجيء وان كان راكبا ، ومن اضافته إلى موضوعه يستفاد مفهوم اللقب ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن غير زيد ولو كان غيره جائيا راكبا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى قيده يستفاد مفهوم الوصف ويحكم بانتفاء سنخ الوجوب عن زيد عند انتفاء الوصف ولو كان جائيا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى الغاية يستفاد مفهوم الغاية ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عنه عند

ص: 473

عدم مجيئه إلى يوم الجمعة ، ولو كان جائيا راكبا بعد يوم الجمعة.

وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاطلاق وإناطة الحكم من حيث السنخ الا بالإضافة إلى بعض تلك القيود ، مع كونه في مقام الاهمال بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ففي مثله يلاحظ المفهوم بالقياس إلى ما اعتبر كونه سنخا بالإضافة إليه شرطا أو وصفا أو غاية ، فإذا كان المتكلم في مقام تعليق السنخ بالإضافة إلى المجيء وهو الشرط مثلا كان المستفاد منه هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجيء ، ولكنه حيث لم يعتبر الحكم من حيث السنخ بالإضافة إلى موضوعه ووصفه وغايته فلاتدل القضية على انتفاء حكم وجوب الاكرام عن غير زيد ولا عنه عند انتفاء وصفه أو غايته ، كي لو ورد دليل على وجوب اكرامه عند انتفاء وصفه أو غايته يقع بينهما التعارض. نعم ذلك الحكم الشخصي ينتفي بانتفاء كل واحد من القيود ، ولكنه غير المفهوم المصطلح ، فان المصطلح من المفهوم انما هو انتفاء سنخ هذا الحكم وعدم ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد الوصف والغاية. وعلى كل حال فلابد في طرف المفهوم من حفظ القضية المنطوقية وتجريدها من خصوص ما أنيط به الحكم السنخي دون غيره.

نعم قد يقع الاشكال في أصل تصور الحكم السنخي واستفادته من القضايا وتنقيح المرام في ذلك هو ان الحكم المنشأ في القضايا الشرطية أو غيرها اما ان يكون بمادة الوجوب ، كقوله : ان جاء زيد يجب اكرامه ، واما ان يكون بصيغة الوجوب. فعلى الأول لاينبغي الاشكال في امكان تصور الحكم السنخي بل واستفادته من تلك القضايا. واما الاشكال عليه بان الحكم المنشأ بهذا الانشاء الخاص حينئذ انما كان حكما شخصيا حقيقتا ومن خصوصياته حصوله وتحققه بهذا الانشاء الخاص وتعلقه بالشرط الخاص ، وعليه فلايتصور جهة سنخية للحكم حتى يكون من حيث السنخ معلقا على الشرط أو الوصف ، فيلزمه انتفاء الحكم السنخي عند الانتفاء فمندفع بان مثل هذه الخصوصيات بعد ما كان نشوها من قبل الاستعمال المتأخر عن المعنى والمنشأ ، فلا جرم غير موجب لخصوصية المعنى المنشأ وعليه فكان المعنى المنشأ حينئذ معنى كليا ، وقد علق على الشرط أو الوصف ، وكانت الخصوصيات الناشئة من قبل الاستعمال من لوازم وجوده ، لا انها تكون مأخوذة فيه يصير المعنى لأجلها جزئيا ، كما هو واضح.

واما على الثاني فقد يشكل في أصل استفادة الحكم السنخي من الهيأة ، ومنشأه

ص: 474

هو الاشكال المعروف في الحروف والهيئات من حيث خصوص الموضوع له فيها ، بتقريب ان الحروف وكذا الهيئات لما كانت غير مستقلة بالمفهومية لكون معانيها من سنخ النسب والارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين ، فلا محالة كانت جزئية وغير قابلة للاطلاق الفردي والصدق على الكثيرين ، ومعه فلايتصور الحكم السنخي في مفاد الهيأة في الصيغة حتى يعلق على الشرط أو الوصف فيترتب عليه الحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء.

بل ومن ذلك قد يشكل أيضا في صحة أصل الإناطة والتعليق وارجاع القيد في القضايا الطلبية إلى الهيأة في نحو قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، بدعوى ان صحة الإناطة والتقييد فرع امكان اطلاق الهيأة ، ومع فرض خصوصية المعنى في الحروف والهيئات يستحيل التقييد أيضا ، فمن ذلك لابد من ارجاع تلك القيود في نحو هذه القضايا إلى المادة ، هذا.

ولكن الاشكال الثاني كما ترى واضح الدفع ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، وذلك من جهة وضوح ان المقصود من خصوص الموضوع له وجزئية المعنى في الحروف والهيئات انما هو جزئيته باعتبار الخصوصيات الذاتية التي بها امتياز افراد نوع واحد بعضها من بعض ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى الحالات والخصوصيات الطارية عليه من اضافته إلى مثل المجيء والقيام والقعود ، فكان المراد من عدم كلية المعنى في الحروف هو عدم كليته من جهة الافراد ، وانها موضوعة لاشخاص الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين ، وكونها من قبيل المتكثر المعنى ، ومن المعلوم بداهة ان عدم كلية المعنى في الحروف والهيئات وجزئية الموضوع له فيها من هذه الجهة غير مناف مع اطلاقه بحسب الحالات ، وعليه فكما ان للمتكلم ايقاع النسبة الارسالية في استعمال الهيأة مطلقة وغير منوطة بشيء من مثل المجيء وغيره بقوله أكرم زيدا كك كان له ايقاعها من الأول منوطة بالمجيء ونحوه بقوله ان جاء زيد فأكرمه. ومن ذلك أيضا أوردنا على الشيخ قدس سره في مبحث الواجب المشروط وقلنا بان مجرد خصوصية الموضوع له في الحروف والهيئات لايقتضي تعين ارجاع القيود الواقعة في القضايا الشرطية إلى المادة وصرفها عما تقتضيه القواعد العربية من الرجوع إلى الهيأة.

نعم انما كان لهذه الاشكال مجال بناء على مسلك آلية معاني الحروف وجعل الفارق بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية ، كما افاده في الكفاية ،

ص: 475

حيث إن لازم آلية المعنى فيها حينئذ هو كونه غير ملتفت إليه عند الاستعمال ، من جهة كونه ملحوظا باللحاظ العبوري المرآتي ، ولازم ذلك لا محالة هو امتناع التقييد رأسا ، بلحاظ ان صحة التقييد فرع الالتفات إلى المعنى ، فمع فرض عدم الالتفات إليه عند الاستعمال فلا جرم يمتنع تقييده أيضا ، ولكن عمدة الاشكال على ذلك في أصل هذا المبنى لما ذكرنا فساده في محله وقلنا بان معاني الحروف وكذا الهيئات انما هي من سنخ الارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين وان الفرق بينها وبين الأسماء انما هو من جهة ذات المعنى والملحوظ لا من جهة كيفية اللحاظ فقط ، وعليه فلا مجال لهذا الاشكال من هذه الجهة أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ يبقى الكلام في الاشكال الأول في أصل استفادة الحكم السنخي بل وتصوره ثبوتا بملاحظة جزئية الموضوع له في الحروف والهيئات ، وفي ذلك نقول : بانا وان أجبنا عن ذلك سابقا بكلية المعنى فيها ، من جهة ما تصورناه في مبحث الحروف من القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير عام الوضع والموضوع له المشهوري ، ولكن التأمل التام فيه يقتضي عدم اجداء هذا النحو من الكلية لدفع هذا الاشكال ، والوجه فيه هو ان ذلك المعنى العام والقدر المشترك الذي تصورناه لما لايمكن تصوره واحضاره في الذهن الا في ضمن إحدى الخصوصيات فلا جرم لايكاد يمكن ان يوجد في ذهن المتكلم عند استعمالها ، بمثل قوله : الماء في الكوز أو زيد على السطح وسرت من البصرة إلى الكوفة ، الا اشخاص النسب الخاصة والارتباطات المخصوصة كما هو ذلك على القول بخصوص الموضوع له فيها أيضا ، وفي مثله يتوجه الاشكال المزبور بان الموجود في ذهن المتكلم عند استعمال الهيأة بقوله : أكرم زيدا ان جائك ، بعد أن لم يكن الا شخص نسبة وربط خاص قائم بالطرفين فلا جرم لايتصور له الاطلاق الفردي حتى يتصور فيه السنخ فيكون هو المعلق على الشرط أو الوصف المذكور في القضية فينتج الانتفاء عند الانتفاء ، وحينئذ فهذا النحو من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير مجد لدفع الاشكال في المقام لأنه بحسب النتيجة كالقول بخصوص الموضوع له فيها.

فعلى ذلك فلابد من التصدي لدفعه بوجه آخر غير ذلك فنقول : ان قصارى ما يمكن ان يقال في دفع الاشكال وجهان :

أحدهما : ما افاده الأستاذ دام ظله في الدورة السابقة ، وحاصله هو ان دلالة الهيأة

ص: 476

على الطلب في قوله ( افعل ) بعد ما كانت بالملازمة ، من جهة كونه أي الطلب ملزوما للنسبة الارسالية التي هي مدلول الهيأة ، لا مدلولا لها بالمطابقة ، كما هو مختار الكفاية ، وكان المهم أيضا اثبات السنخ والاطلاق في طرف الحكم والطلب ، فلا بأس حينئذ بلحاظ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى ذلك الطلب الملازم مع الارسال ، ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، من جهة انه لا ملازمة بين خصوصية المدلول في الهيأة مع خصوصية ما يلازمه ، فأمكن ان يكون المدلول في الهيأة جزئيا وخاصا ، ومع ذلك يكون ملزومه وهو الطلب كليا ، وحينئذ فإذا كان المهم في المقام هو اثبات السنخ في طرف الحكم والطلب فأمكن اثبات السنخ من غير طريق الهيأة ولو بمثل الاطلاق المقامي ونحوه.

الوجه الثاني : ما افاده دام ظله أخيرا ، وتقريبه انما هو بدعوى ان مفاد الحروف وكذا الهيئات وان كان جزئيا ، لكونها عبارة عن اشخاص الارتباطات الذهنية المخصوصة المتقومة بالطرفين ، الا انها تبعا لكلية طرفيها أو أحد طرفيها قابلة للاتصاف بالكلية ، كما في قولك : الانسان على السطح والماء في الكوز والسير من البصرة إلى الكوفة ، في قبال قولك : زيد على السطح وهذا الماء في هذا الكوز وسرت من النقطة الكذائية من البصرة إلى النقطة الكذائية من الكوفة ، فان السير وكذا البصرة في قولك : السير من البصرة لما كان كليا وقابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين كالسير من أول البصرة ووسطها وآخرها فقهرا تبعا لكلية هذين المفهومين تتصف تلك الإضافة والربط الواقع بينهما أيضا بالكلية ، وهكذا في قولك : الانسان على السطح أو الماء في الكوز ، حيث إنه تبعا لكلية الطرفين تتصف تلك النسبة والربط والاستعلائية أو الظرفية بالكلية ، فينحل إلى الروابط المتعددة ، فيصدق في الخارج على زيد الكائن على السطح ، وعلى عمرو الكائن على السطح وهكذا ، ولا نعني من كلية المعنى الا كونه قابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين ، ويقابله قولك : زيد على السطح ، حيث إن ذلك الربط الخاص حينئذ تبعا لجزئية المتعلق غير قابل للانطباق في الخارج على الكثيرين. وحينئذ فعلى هذا البيان صح ان يقال : بان تلك النسب والروابط التي هي مفاد الحروف والهيئات بنفسها لاتتصف بالكلية والجزئية ، بل وانما اتصافها بالكلية والجزئية تابع كلية طرفيها أو أحدهما ، فمتى كان أحد طرفيها كليا قابلا للصدق في الخارج على الكثيرين فلا جرم تبعا لكليته تلك الإضافة والربط القائم به

ص: 477

أيضا تتصف بالكلية ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التكاليف الكلية الانحلالية ، كقوله : يجب اكرام العالم ويحرم شرب الخمر ، حيث إن كلية التكليف حينئذ انما هي باعتبار كلية متعلقه ، فإذا كان متعلقه كليا فلا جرم تبعا لكلية متعلقه يتصف الحكم أيضا بالكلية ، وينحل حسب تعدد افراد متعلقه في الخارج إلى تكاليف متعددة ، والا فالحكم المنشأ في مثل قوله : أكرم العالم ويحرم شرب الخمر ، لايكون الا شخص حكم وشخص إرادة متعلقة بموضوعه ، وهو الاكرام المضاف إلى العالم والشرب المضاف إلى الخمر. وعلى ذلك ففي المقام أمكن استكشاف الحكم السنخي من الهيأة في الصيغة باجراء الاطلاق في ناحية المادة المنتسبة بما هي معروضة للهيئة ، إذ حينئذ من اطلاقها يستكشف الحكم السنخي ، فإذا أنيط الحكم النسخي حينئذ بمثل الشرط أو الوصف في القضية بقوله ان جاء زيد فأكرمه أو أكرم زيدا العادل ، فقهرا بانتفاء القيد بعد فرض ظهوره في الدخل بخصوصيته واقتضاء اطلاق ترتب الجزاء عليه في ترتبه عليه بالاستقلال يلزمه انتفاء الحكم السنخي ، كما هو واضح.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك طريق استكشاف المفهوم في القضايا بحسب الكبرى يبقى الكلام في صغريات المفاهيم.

مفهوم الشرط

فنقول ان من المفاهيم مفهوم الشرط في نحو قوله ان جاء زيد يجب اكرامه حيث إنهم اختلفوا في دلالة إن وأخواتها من أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء وعدم دلالتها عليه ونقول في تنقيح المرام انه لاينبغي الارتياب في أن القضية الحملية في مثل قوله : أكرم زيدا ، مع قطع النظر عن ورود أداة الشرط عليها بطبعها لاتقتضي أزيد من كون المتكلم في مقام اثبات حكم وجوب الاكرام لزيد بنحو الطبيعة المهملة ، واما اقتضائها لكونه بصدد اثبات سنخ الحكم والطبيعة المطلقة وفي مقام حصر الطبيعي في هذا الفرد في تلك القضية فلا ، لان ذلك مما يحتاج إلى عناية زائدة عما يقتضيه طبع القضية ، ومن ذلك يحتاج إلى قيام قرينة عليه بالخصوص ، والا فمع عدم القرينة عليه فلايقتضي طبع القضية الحملية الا مجرد ثبوت المحمول مهملا للموضوع.

ولذلك أيضا ترى بنائهم على عدم المفهوم في القضايا اللقبية وعدم اقتضائها انتفاء

ص: 478

سنخ الحكم المحمول على الاطلاق عن غير الموضوع المذكور في القضية ، كي لو ورد دليل آخر على ثبوت شخص حكم آخر لعمرو لوقع بينهما المعارضة ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة ما ذكرناه من عدم اقتضاء القضية الحملية بطبعها في نحو قوله : أكرم زيدا مع قطع النظر عن القرائن الخارجية الا مجرد ثبوت الحكم والمحمول لزيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي مع ثبوت شخص حكم آخر من هذا السنخ للعمر والبكر.

نعم لما كان مقتضاه حينئذ هو ثبوت هذا الحكم والمحمول على الاطلاق لزيد ، فلا جرم يلزمه اطلاق الحكم المزبور من جهة حالات الموضوع من القيام والعقود ونحو ذلك ، فكان مقتضي اطلاقه هو ثبوته له على الاطلاق وفي جميع الحالات الطارية عليه من القيام والقعود والمجيء ونحوه ، ولئن شئت قلت إنه لما كان لموضوعه اطلاق بحسب الحالات من المجيء وغيره يلزمه قهرا اطلاق في طرف الحكم المترتب عليه أيضا بحسب تلك الحالات بحيث يلزمه عدم جواز ثبوت وجوب آخر أيضا لذلك الموضوع في حال القيام أو القعود من جهة ما يلزمه حينئذ بعد هذا الاطلاق من لزوم محذور اجتماع المثلين ، من غير أن ينافي اطلاق الحكم والمحمول من تلك الجهة مع اهماله المفروض من الجهة المزبورة ، إذ مثل هذا النحو من الاطلاق في الحكم يجتمع مع اهماله من جهة الافراد بل ومع شخصيته أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا كان ذلك مقتضي طبع القضية الحملية فكان قضية اطلاقها في ثبوت الحكم المحدود الشخصي لموضوعه على الاطلاق وفي جميع الحالات هو حصر الطبيعي بهذا الفرد المحمول في القضية ، بلحاظ ما عرفت من استلزام اطلاق هذا الحكم الشخصي لجميع الحالات عدم ثبوت فرد آخر منه لموضوعه في بعض الحالات نقول : بان طبع أداة الشرط الوارد عليها أيضا في نحو قوله : ان جاء زيد يجب اكرامه لايقتضي الا مجرد إناطة النسبة الحكمية بما لها من المعنى الاطلاقي بالشرط وهو المجيء لان ما هو شأن الأداة انما هو مجرد إناطة الجملة الجزائية بما لها من المعنى الذي يقتضيه طبع القضية الحملية بالشرط وحينئذ فإذا كان مقتضي طبع القضية الحملية أو الانشائية في مثل قوله أكرم زيدا ، هو ثبوت حكم شخصي محدود لزيد على الاطلاق الملازم لانحصاره وعدم فرد آخر منه في بعض الحالات وكان قضية الأداة على ما هو شأنها إناطة تلك الجملة بما لها من المعنى بالشرط وهو المجيء في وقوله : ان جاء زيد فأكرمه ، فلا جرم بعد ظهور الشرط في دخل الخصوصية بمقتضي ما بيناه يلزمه قهرا انتفاء وجوب الاكرام عن

ص: 479

زيد عند انتفاء المجيء وعدم ثبوت وجوب شخص آخر له في غير حال المجيء من جهة ان احتمال ذلك مما ينافي ما تقتضيه طبع الجملة من ثبوت ذلك الوجوب الشخصي لزيد على الاطلاق وفي جميع الحالات التي منها عدم المجيء من جهة ما يلزمه من محذور اجتماع المثلين. واما احتمال التأكد حينئذ فيدفعه أيضا ظهور القضية في محدودية الحكم بحد شخصي مستقل ، فإذا فرضنا حينئذ انحصار الوجوب بهذا الفرد من الحكم الشخصي الثابت في القضية المنطوقية فقهرا بمقتضي الإناطة يلزمه عقلا انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجيء ، ولا نعنى من المفهوم الا ذلك. نعم لو كان قضية الأداة مضافا إلى إناطة الجزاء بالشرط هو اخراجه عما تقتضيه طبع الجملة الحملية من الاطلاق بحسب الحالات لكان للاشكال في الانتفاء عند الانتفاء كمال مجال ، ولكنه كما ترى بعيد جدا ، فان شأن الأداة على ما عرفت لايكون الا مجرد ربط إحدى الجملتين وإناطتها بما لها من المعنى والمدلول بجملة أخرى ، بلا اقتضائها لا همال القضية واخراجها عما يقتضيه طبعها من الظهور الاطلاقي الموجب لانحصار الطبيعي في الشخص ، كما لايخفى.

ولايخفى عليك انه على هذا البيان لايحتاج في اثبات المفهوم في القضايا الشرطية إلى اتعاب النفس لاثبات العلية المنحصرة ، كي يمنع تارة بمنع اقتضاء الشرط العلية بل مجرد الثبوت عند الثبوت ، وأخرى بمنع العلية المنحصرة على فرض تسليم اقتضاء أصل العلية ، فان ذلك كله منهم ناش عن عدم التفطن بوجه استفادة المفهوم في القضايا الشرطية وعدم ملاحظة ما يقتضيه طبع القضايا الانشائية والحملية من الظهور الاطلاقي الموجب لحصر الطبيعي في قوله : أكرم زيدا في حكم شخصي محدود بحد خاص ، والا فنفس ذلك كاف في استفادة المفهوم ، من جهة ان لازم إناطة مثل هذا الحكم الشخصي حينئذ هو لزوم انتفاء ذلك عند الانتفاء ، وحيث إن فرض انحصار الطبيعي أيضا بهذا الشخص بمقتضي الظهور الاطلاقي ، فقهرا يلزمه انتفاء الحكم السنخي بانتفائه ، من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة ، وهو واضح.

ثم انه لو أغمضنا عن ذلك البيان وبنينا على مقالة المشهور في استفادة المفهوم في القضايا الشرطية فهل للقضية الشرطية دلالة على التلازم بين المقدم والتالي أم لا؟ وعلى تقدير الدلالة فهل تدل على الترتب بينهما بنحو العلية أو العلية المنحصرة أم لا؟.

فنقول : انه وان لم يتعرض الأستاذ لذكر هذا البحث بل اكتفى في اثبات المفهوم

ص: 480

بما حررناه من البيان المتقدم ولكنه لا باس بالتعرض لبيان هذه الجهة جريا على طبق ممشى القوم.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على التلازم بين المقدم والتالي ، بل وعلى كون اللزوم بينهما بنحو العلية والمعلولية ، فالظاهر هو كونها في غاية الوضوح ، كما يشهد به الوجدان ويوضحه المراجعة إلى العرف وأهل المحاورة واللسان في نحو هذه القضايا ، حيث ترى انهم يفهمون منها الترتب بين المقدم والتالي بنحو العلية فضلا عن اللزوم بينهما ، وعليه فدعوى المنع عن الدلالة على اللزوم أو الترتب بنحو العلية في غاية السقوط.

نعم لدعوى المنع عن اقتضائها للترتب بنحو العلية المنحصرة كمال مجال ، من جهة احتمال فرد علة أخرى تقوم مقامها عند انتفائها ، وحينئذ فللقائل بالمفهوم اثبات هذه الجهة وسد باب الاحتمال المزبور كي يصح له الحكم بالانتفاء عند الانتفاء.

فنقول : انه قد استدل للدلالة على ذلك بأمور : منها انصراف اطلاق العلاقة اللزومية إلى أكمل افرادها وهو اللزوم بين المقدم والتالي بنحو العلية المنحصرة ، وأورد عليه في الكفاية (1) تارة بمنع كون الأكملية منشأ للانصراف ، وأخرى بمنع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم يكن بانحصار ، من جهة ان الملازمة لا تكون الا عبارة عن إضافة خاصة بين الشيئين ، ومن المعلوم انه لايكاد يختلف تلك الإضافة بالشدة والضعف في صورة الانحصار وعدمه ، بل هي على ما هي عليها ، كان بينه وبين شيء آخر أيضا ملازمة أم لا. ولكن يمكن ان يقال بان أشدية الملازمة حينئذ مع الانحصار انما هي من جهة ما يلزمه أيضا من الانتفاء عند الانتفاء ، بخلافه مع عدم الانحصار ، فان الملازمة حينئذ كانت بينهما من طرف الوجود الخاصة ، ومعلوم حينئذ ان العرف يرون الملازمة بينهما على النحو الأول أشد من الملازمة على النحو الثاني ، وحينئذ لو فرضنا الاغماض عن عدم منشئية هذه الأكملية للانصراف فلا جرم يصح الاستدلال بهذا الوجه لاثبات الانحصار.

بل ومن ذلك أيضا ظهر صحة التمسك باطلاق الملازمة بمقدمات الحكمة ، نظير التمسك باطلاق الطلب لاثبات الوجوب لكونه أكمل افراد الطلب ، بدعوى ان مقتضي الحكمة حينئذ هو الحمل على أكمل افراد اللزوم وهو اللزوم بين المعلول والعلة المنحصرة ، فتأمل.

ص: 481


1- ج 1 ص 304.

ومنها اطلاق الشرط بتقريب اقتضائه لانحصاره في مقام التأثير ، وانه تمام المؤثر في الجزاء ، سبقه أو قارنه امر آخر أم لا ، من جهة انه مع عدم الانحصار لايكون التأثير مستندا إليه خاصة فيما لو سبقه أو قارنه امر آخر ، بل التأثير على الأول كان مستندا إلى الامر السابق ، وعلى الثاني إلى المجموع لا إليه فقط أو الجامع بينهما ، فكان اللازم حينئذ تقييده بان لا يسبقه أو يقارنه آخر ، فاطلاقه حينئذ وعدم تقييده بذلك كاشف عن انحصاره في مقام التأثير وهو المطلوب. وقد أورد عليه أيضا في الكفاية (1) بمنع الاطلاق كك نظراً إلى دعوى ندرة تحققه بل عدم تحققه ، ولكن فيه تأمل واضح.

ومنها : اطلاق الشرط أيضا بتقريب اقتضائه كونه بنحو التعين وانه لايكون له بديل يقوم مقامه عند انتفائه ، والا كان اللازم تقييده بمثل ( أو كذا ) فعدم تقييده كاشف عن اطلاقه من هذه الجهة ، ومقتضاه هو كونه بنحو التعين ، نظير اقتضاء اطلاق الوجوب كونه تعيينا لا تخييريا وبذلك يثبت المطلوب وهو الانحصار في العلية. وأورد عليه أيضا في الكفاية بان التعين في الشرط ليس يغاير نحو فيما لو كان متعددا ، كما كان في الوجوب حيث إنه يغاير نحوا فيما لو كان له عدل فيحتاج في الوجوب التخييري إلى العدل ، ومقتضي اطلاقه هو كونه بنحو لايكون له عدل ، وهذا بخلافه في الشرط واحدا كان أم متعددا حيث إن دخله في المشروط على نحو واحد لا يتفاوت الحال فيه ثبوتا كي يتفاوت عند الاطلاق اثباتا ، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لايكون له عدل ، واما ما يرى من الاحتياج إلى ذكر العدل مع التعدد فإنما هو من جهة بيان التعدد لا من جهة نحو الشرطية وكونه مع الانحصار بنحو يغاير كونه مع التعدد وبينهما فرق واضح. ولكن فيه انه لا وجه لهذا الاشكال بعد تسليم أصل الاطلاق فان معنى تعين الشرط انما هو كونه مؤثرا بالاستقلال بخصوصيته الشخصية في المشروط ، ولازم ذلك هو ترتب الانتفاء عند انتفائه على الاطلاق ، كان هناك امر آخر لا ، فإذا أثبت ذلك حينئذ قضية الاطلاق وكان الحكم أيضا سنخيا ، فقهرا يلزمه الانتفاء عند الانتفاء ، نعم لو كان الحكم شخصيا أو ملحوظا بنحو الطبيعة المهملة لم يلزمه انتفاء الحكم بقول مطلق عند انتفائه ، من جهة امكان ان يكون هناك علة أخرى توجب شخص حكم آخر مثله عند انتفائه فتدبر.

ص: 482


1- ج 1 ص 305.
بقى التنبيه على أمور

الأول : انهم ذكروا ان المفهوم المصطلح انما هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشيء شرطا كان أو وصفا أو غاية عند انتفاء ذلك الشيء لا انتفاء شخص الحكم ، لان انتفاء شخص الحكم عند انتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي ، فلا يتمشى الكلام في مثل ذلك بان للقضية الشرطية دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، ولا ربط له بالمفهوم المصطلح ، وغرضهم من ذلك انما هو دفع ما ربما يورد عليهم من الاشكال في باب الوصايا والأقارير والأوقاف والنذر ونحو ذلك ، بأنه كيف المجال لدعوى انكار المفهوم مع أنه لا اشكال في دلالة هذه القضايا على الانتفاء عند الانتفاء ، فدفعوا الاشكال بان الحكم المعلق في مثل هذه القضايا انما يكون حكما شخصيا لا سنخيا فمن ذلك لايرتبط بالمفهوم المصطلح الذي هو معركة الآراء. ولكن نقول : بان هذا التفصي انما يتم فيما لو كان الوجه في انكار المفهوم عند منكريه من جهة عقد الحمل في القضية : من دعوى عدم كون الحكم المعلق هو السنخ والطبيعة المطلقة بل هو الطبيعة المهملة ، والا فإذا كان انكارهم ذلك راجعا إلى طرف عقد وضع القضية ، كما صنعه في الكفاية وغيرها ، من حيث جعل مركز النزاع في طرف عقد الوضع ومنع اقتضاء القضية لانحصار العلة ، فكان الاشكال كمال مجال كما بيناه سابقا ، إذ يقال حينئذ بأنه كما أنه في موارد الحكم السنخي يحتمل وجود علة أخرى غير المذكور في القضية ، ومن اجل هذا الاحتمال لا يحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء ، كك في موارد شخص الحكم أيضا يحتمل فرد علة أخرى في البين بحيث كانت العلة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما ، ومعلوم انه حينئذ لا مجال للحكم بلزوم الانتفاء عند الانتفاء وجعل الانتفاء فيه عقليا كما هو واضح ، فتأمل.

الامر الثاني : انه يعتبر في المفهوم في القضايا الشرطية بل الغائية والوصفية أيضا حفظ الموضوع في طرف المفهوم وتجريده عن خصوص الشرط في القضايا الشرطية وعن الوصف في الوصفية ، ففي مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرامه ، لابد من حفظ زيد في طرف المفهوم وتجريده عن خصوص الشرط وهو المجيء ، كي يكون الحاصل على المفهوم هو عدم وجوب اكرام زيد عند انتفاء المجيء ، والا فمع عدم بقاء الموضوع عند انتفاء المنوط به لايكون

ص: 483

انتفاء الحكم من المفهوم المصطلح ، فمن ذلك تخرج القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع عن المفهوم المصطلح كقوله : ان وجد زيد فأطعمه ، وان ركب الأمير فخذ ركابه ، وان رزقت ولدا فاختنه ، ونحو ذلك من القضايا التي كان انتفاء الحكم فيها عند الانتفاء من السالبة بانتفاء الموضوع.

الامر الثالث فيما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء وتنقيح الكلام فيه يقع فيه مقامين :

الأول : ما لو كان الجزاء واحدا غير قابل للتعدد بتعدد الشرط لا وجودا ولا مرتبة ، كما في وجوب القصر المترتب على خفاء الاذان والجدران في قوله : إذا خفى الاذان فقصر ، وإذا خفى الجدران فقصر ، حيث إن الجزاء في مثل هذا الفرض ليس قابلا للتكرر وجودا بل ولا للتأكد أيضا عند خفائهما. ونحوه قوله : إذا نمت فتوضأ ، وإذا بلت فتوضأ بناء على عدم قابليته للتأكد وجوبا.

الثاني : ما لو كان الجزاء واحدا بحسب الحقيقة ولكنه كان قابلا للتعدد والتكرر وجودا كما في الكفاية المترتبة على الافطار وعلى الظهار في قوله : ان ظاهرت فكفر وان أفطرت فكفر.

اما المقام الأول : فملخص الكلام فيه هو ان الجزاء في مثل قوله إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجداران فقصر ، لما كان واحدا شخصيا غير قابل للتكرر وجودا ولا مرتبة لقيام الاجماع والضرورة على عدم تعدد القصر عند تعدد الأسباب وخفائهما بل وعدم تأكد وجوبه فلا جرم يقع المعارضة بين الشرطين ، حيث لايمكن ابقاء ظهور كل منهما على حاله في الاقتضاء لترتب الجزاء عليه بالاستقلال ، فيعلم اجمالا بمخالفة ظهورهما للواقع فمن ذلك لابد من التصرف في ناحية عقد الوضع في الشرطين ، اما برفع اليد عن قضية اطلاقهما في الاستقلال في التأثير بتقييد كل منهما بحال وجود الاخر وجعل الشرط هو مجموع خفاء الاذان والجدران ، واما برفع اليد عن ظهورهما في الانحصار وفى الدخل بعنوانهما الخاص ، اما بجعل الشرط هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو تقييد كل منهما في اقتضائه لترتب الجزاء عليه بعدم كونه مسبوقا بوجود الآخر لو فرض عدم جامع بينهما ، كي يكون لازمه وجوب القصر بخفاء أول الامرين وانتفائه بانتفائهما معا.

واما احتمال تقييد المفهوم في كل منهما بمنطوق الآخر كما في الكفاية فهو (1) مع أنه

ص: 484


1- ج 1 ص 313.

راجع بحسب النتيجة إلى ما ذكرنا كما ترى ، لضرورة ان المفهوم في نفسه غير قابل للتقييد ، لأنه من اللوازم العقلية للقضية اللفظية حسب مالها من الخصوصيات الموجبة لذلك ، فكان مرجع تقييده حينئذ مع ابقاء القضية اللفظية المنطوقية على حالها بما لها من الخصوصية إلى نحو تفكيك بين الملزوم ولازمه ، وهو كما ترى من المستحيل جدا. وحينئذ ففي مقام التوفيق يدور الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين ، اما عن ظهور الشرطين في الاستقلال بجعل الشرط مجموع خفاء الاذان والجدران ، كي يكون لازمه وجوب القصر عند خفاء الامرين معا وانتفاء وجوبه عند خفاء أحدهما ، واما عن ظهورهما في الدخل بعنوانهما الخاص بجعل الشرط الجامع بينهما ، أو عن قضية ظهور اطلاقهما في الانحصار المقتضي لترتب الوجوب عليه وان سبقه آخر ، كي يلزمه وجوب القصر بمجرد خفاء أحدهما ، وفي مثله نقول : بأنه وان كان الظهور ان كلاهما بمقتضي الاطلاق ، ولكن أمكن دعوى تعين الثاني وترجيح ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهورهما في الدخل بعنوانهما الخاص وفى الانحصار ، إذ على هذا الفرض كان ظهور كل واحد من الشرطين في الاستقلال في التأثير على حاله ، بخلاف العكس ، فإنه علاوة عما يلزمه من رفع اليد عن ظهور الشرطين في الاستقلال يلزمه أيضا رفع اليد عن ظهورهما في الانحصار ، وواضح حينئذ انه عند الدوران كان المتعين هو الأول ، لان الضرورة تتقدر بقدرها ، وعليه فكان المدار في وجوب القصر على خفاء أول الامرين منهما. نعم لو خودش في ذلك ولم يرجح أحد الظهورين على الآخر فلا جرم يسقطان عن الحجية ، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وبعد تساقطهما كان المرجع هو الأصل ، وهو أصالة التمام إلى حد يعلم بخفائهما معا ، كما أنه في طرف الإياب كان الأصل مقتضاه وجوب القصر إلى حد لايخفى عليه واحد منهما وهو واضح. هذا كله في المقام الأول.

واما المقام الثاني : وهو ما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء سنخا بحيث كان قابلا للتكرر وجودا كقوله : ان بلت فتوضأ وان نمت فتوضأ ، بناء على كونه من المثال ، وكقوله : ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر ، ففي عدم التداخل ووجوب الاتيان بالوضوء والكفارة متكررا حسب تعدد الشرط مطلقا ، أو التداخل وعدم وجوب الاتيان الا دفعة واحدة كك ، أو التفصيل بين صورة تحقق الشرط الثاني بعد امتثال الأول أو قبله فعدم التداخل على الأول والتداخل على الثاني ، أو التفصيل بين فرض اتحاد الشروط في الجنس

ص: 485

وبين فرض اختلافها فالتداخل على الأول وعدمه على الثاني وجوه ، بل أقوال.

وتحقيقه ان يقال : ان ظاهر الجملة الشرطية فيهما لما كان هو حدوث الجزاء عند كل شرط ، ومقتضاه كان هو لزوم تعدد الوضوء والكفارة وجودا عند تعدد الشروط ، وكان الاخذ بما يقتضيه ظاهر الشرطين مع ظهور المتعلق في الجزاء في صرف الوجود الغير القابل للتعدد والتكرر غير ممكن جدا ، لاستلزامه لاجتماع الوجودين في وجود واحد ، فلا جرم يقع بينهما التنافي ، حيث يعلم اجمالا بمخالفة أحد الظهورين للواقع اما ظهور المتعلق في صرف الوجود أو ظهور الشرطين ، وفي مثله لابد من التصرف في أحد الظهورين ، ورفع اليد اما عن ظهور المتعلق في الصرف وحمله على وجود ووجود ، أو عن ظاهر الشرطين في اقتضائهما الاستقلال في التأثير في الجزاء ، نعم لما كان طرف المعارضة لظهور الجزاء بدوا بمقتضى العلم الاجمالي هو مجموع الشرطين فلا جرم لايكاد يبقى مجال انتهاء الامر في هذا المقام إلى ملاحظة التعارض بين الشرطين والتصرف فيهما بإحدى الوجوه المتقدمة ، كما يظهر من الكفاية ، لضرورة انه انما ينتهى الامر إلى ذلك في فرض تحكيم ظهور الجزاء في الوحدة وصرف الوجود على ظهور الشرطين ، حيث إنه بعد هذا التحكيم يقع تعارض بالعرض بين نفس الشرطين ، فيحتاج إلى رفع التعارض من البين بالتصرف فيهما إحدى الوجوه المتقدمة ، والا ففي عدم تحكيم ظهور الجزاء وحمله على الطبيعة المهملة القابلة لتعدد فلايكاد يتصور تعارض بينهما حتى يحتاج إلى التصرف فيهما ، كما في المقام الأول ، من جهة وضوح امكان ابقاء كلا الشرطين حينئذ على ظاهرهما في الاستقلال واقتضائهما التعدد في الجزاء كما هو واضح ، وعليه نقول : ان التعارض بعد ما كان بدوا بين ظهور الجزاء في الصرف وبين مجموع الشرطين بمقتضي العلم الاجمالي فلا جرم في مقام التوفيق لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين اما عن ظهور الجزاء في صرف الوجود أو عن ظهور الشرطين في الاستقلال ، وفي مثله نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو لزوم تحكيم ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهور الجزاء في صرف الوجود ولزوم التصرف فيه بحمله على التعدد ووجود بعد وجود ، وذلك لما يلزمه من كونه أقل محذورا من العكس ، حيث إنه على تقدير تحكيم ظهوره على ظهور الشرطين يلزمه رفع اليد عن ظهور كل واحد من الشرطين في الاستقلال ، فيحتاج إلى ارتكاب خلاف ظاهرين ، وهذا بخلافه في طرف العكس ، حيث إنه لايلزمه الا ارتكاب خلاف الظاهر واحد ، ومن المعلوم أيضا انه

ص: 486

عند الدوران يتعين ما هو أقل محذورا من الآخر ، فان ارتكاب خلاف الظاهر بنفسه محذور ، وهو يتقدر بقدره ، هذا كله ، خصوصا بعد ملاحظة تبعية الجزاء ثبوتا للشرط بلحاظ كونه من علل وجوده ، فان هذه التعبية توجب تبعيته له عرفا أيضا في مقام الاثبات والدلالة ، فتوجب أولوية التصرف في الجزاء عند الدوران على التصرف في ناحية سببه وعلته ، من جهة اقتضائه اقوائية ظهوره من ظهوره ، كما هو واضح.

وعليه فيبطل القول بالتداخل على الاطلاق وجواز الاكتفاء بوجود واحد ، فان مبناه انما هو من جهة تحكيم ظهور الجزاء في صرف الوجود على ما يقتضيه ظهور الشرطين ، وبعد تعين التصرف في ظهوره بمقتضي تحكيم ظهور الشرطين عليه لايبقى مجال توهم التداخل وجواز الاكتفاء بوجود واحد على الاطلاق.

نعم بعد ما ظهر من لزوم تحكيم قضية الشرطين ولزوم التصرف في الجزاء بحمله على التعدد يبقى الكلام في أن قضية ذلك هل هو لزوم التصرف في خصوص الحكم وهو الوجوب مع ابقاء موضوعه ومتعلقه وهو الوضوء أو الكفارة - كما في المثال - على حاله من الظهور في صرف الوجود؟ كي يلزمه المصير إلى التفصيل المزبور بين ما قبل الامتثال وما بعده بالتداخل في الأول وعدمه في الثاني ، نظراً إلى أنه بعد الاخذ بظهور المتعلق في صرف الوجود لايكاد يكون قضية تعدد الشرط قبل الامتثال الا تأكد الطلب بالنسبة إلى المتعلق ، بخلافه فيما بعد الامتثال ، فإنه يوجب قهرا تعدد الوجوب ، أو ان قضية ذلك هو لزوم التصرف في المتعلق أيضا وحمله على وجود فوجود حسب تعدد الشروط؟ كي يلزمه المصير إلى عدم التداخل على الاطلاق ولزوم الاتيان بالكفارة متعددا حسب تعدد الشروط ، من جهة اقتضاء كل شرط وجودا للكفارة ، أو ان مقتضاه هو لزوم التعدد في ناحية متعلق المتعلق أيضا؟ فكان الواجب في مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرام العالم وان جاء عمر ويجب اكرام العالم ، هو اكرام العالمين ، ولا يكتفي باكرامين لعالم واحد ، بخلاف سابقه ، فإنه عليه يكتفى باكرامين لعالم واحد في نحو المثال فيه وجوه : ولكن الأقوى أوسطها ، وذلك لا لما أفيد كما عن بعض الأعاظم (1) في تقريب ذلك باقتضاء كل شرط وجودا للمتعلق وان تعدد الوجوب انما هو من جهة كونه مقتضي

ص: 487


1- هذا البعض حضرة السيد محمد الأصفهاني قدس سره « المؤلف ، قدس سره ».

تعدد الوجود ، لكي يورد عليه بان اقتضاء الشرط للوجود بعد ما لم يكن بنحو التكوين بل بنحو التشريع فمرجعه لا محالة إلى كونه منشأ لقيام المصلحة بالوجود واتصافه بكونه ذا مصلحة ، وحينئذ فبعد امكان قيام مصالح متعددة بوجود واحد شخصي بجهات مختلفه فلا مجال لاستفادة تعدد الوجود خارجا بمحض تعدد الشروط ، من جهة امكان ان يكون كل شرط حينئذ مؤثرا في قيام شخص من المصلحة بوجود المتعلق ، بل ذلك من جهة ظهور كل شرط في ترتب حكم محدود مستقل عليه ، حيث إن قضية تعدد الشرط حينئذ انما هو تعدد الحكم بحسب تعدده ، ولازمه بعد امتناع اجتماع المثلين في موضوع واحد هو لزوم المصير إلى تعدد الوجود في الموضوع والمتعلق أيضا ، فتعدد الوجود حينئذ في الحقيقة انما هو لكونه من لوازم تعدد الوجوب واستقلاله الناشي ذلك من جهة تعدد الشرط ، نظراً إلى اقتضاء كل شرط لوجوب خاص محدود بحد مستقل ، لا من جهة اقتضاء كل شرط بدوا وجودا وان تعدد الوجوب من جهة كونه من تبعات تعدد الوجود كما على المسلك الأول.

وعلى ذلك فيبطل القول بالتفصيل في التداخل وعدمه بين ما قبل الامتثال وما بعده ، من جهة ان القول بالتداخل وتأكد الوجوب فيما قبل الامتثال مما ينافي لا محالة ما يقتضيه ظهور كل شرط في ترتب حكم خاص محدود مستقل على الاطلاق ، فقضية الاخذ بظهورهما في استقلال الحكم حينئذ كما عرفت هو وجوب المصير إلى عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشرط وتكرره ، واما جواز الاكتفاء باكرامين لعالم واحد في مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرام العالم وان جاء عمرو يجب اكرام العالم ، وعدم لزوم التعدد في متعلق المتعلق واكرام العالمين ، فإنما هو من جهة عدم الدليل على ذلك ، من جهة ان غاية ما يقتضيه قضية تعدد الحكم انما هو التعدد في ناحية موضوعه ومتعلقه ، نظراً إلى ما يقتضيه امتناع اجتماع الحكمين المتماثلين في موضوع واحد ، واما اقتضائه التعدد في متعلق متعلقه أيضا فلا ، خصوصا بعد كونه كثيرا ما غير محتاج إلى المتعلق ، كما في قوله : ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر ، نعم قد يتفق الاحتياج إلى لزوم التعدد في متعلق المتعلق أيضا فيما لو كان الواجب من قبيل الاطعام ونحوه ، فإنه في مثل هذا الفرض ربما يحتاج إلى التعدد في طرف المتعلق أيضا ، نظراً إلى توقف صدق التعدد في الاطعام عرضيا لا طوليا على تعدد الشخص ، كما هو واضح.

فتلخص مما ذكرنا ان التحقيق في المسألة بحسب القواعد هو ما عليه المشهور من عدم

ص: 488

التداخل مطلقا ولزوم الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشروط وتكرره ، دون القول بالتداخل الذي مبناه هو التصرف في ناحية الشرط وعقد الوضع في القضية ، ودون القول بالتفصيل بين ما قبل الامتثال وما بعده الذي مبناه على التصرف في ناحية الحكم والطلب ورفع اليد عن ظهور كل شرط في اقتضائه ترتب حكم محدود مستقل عليه ، وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من هدم المبني فيهما ، من جهة قوة ظهور كل شرط في الاستقلال في العلية لترتب الاجزاء واقتضاء كل لجزاء مستقل ، حيث إن مقتضاه حينئذ هو عدم التداخل ووجوب الاتيان بالجزاء متكررا حسب تكرر الشرط ، من غير فرق بين حدوث الشرط الثاني قبل امتثال الأول أو بعده ، بل ولا بين فرض اتحاد الشروط في الجنس أو اختلافها أيضا.

حيث إنه لا وجه لمثل هذا التفصيل الا توهم ظهور القضية الشرطية في كون المؤثر في الجزاء هو الشرط بصرف وجوده المنطبق على أول وجود دونه بوجوده الساري ، بدعوى ان الشروط المتعددة حينئذ ان كانت من نوع واحد كما لو بال مكررا أو أفطر كك فالتأثير لا محالة كان مستندا إلى الجامع والقدر المشترك المنطبق على أول وجود ، ويلزمه كون الوجود الثاني منعزلا عن فعلية التأثير فيترتب عليه القول بالتداخل وعدم وجوب الاتيان بالجزاء متكررا وأما إذا لم تكن من نوع واحد فيلزمه عدم التداخل وجوب الاتيان بالجزاء متعددا ، من جهة اقتضاء كل شرط حينئذ حسب ما يقتضيه ظاهر القضية لجزاء مستقل ، ولكنه مدفوع بمنع الظهور المزبور في باب العلل والأسباب ، كما في المقام ، لولا دعوى ظهورها في التأثير بنحو الوجود الساري ، كيف وان حال العلل والأسباب الشرعية من هذه الجهة انما هو كالعلل والأسباب التكوينية العقلية ، فكما ان قضية السببية والمؤثرية الفعلية في العلل التكوينية لا تختص بصرف الوجود المنطبق على أول وجود ، بل جار في الوجود الساري في ضمن الافراد المتعاقبة ، ومع فرض قابلية المحل يكون كل وجود منه مؤثرا فعليا ، كما في النار ، حيث إن كل وجود منها كانت مؤثرة في الاحراق ، كك الامر في العلل الشرعية ، فكانت تلك أيضا مؤثرة بوجودها الساري في ضمن الافراد المتعاقبة ، ومن المعلوم أيضا ان قضية ذلك عند قابلية المحل للتعدد هو تعدد المسبب بتعدد أسبابه ، كما في فرض اختلاف الأسباب في الجنس ، وعليه فلا محيص من المصير بمقتضي القواعد إلى ما عليه المشهور من عدم التداخل

ص: 489

على الاطلاق ، كما هو واضح.

هذا كله فيما لو كان الجزاء واحدا سنخا وكان قابلا للتعدد والتكرر بتعدد شرطه وسببه ، وقد عرفت ان رجوع التداخل وعدمه فيه إلى التداخل في الأسباب وعدمه من حيث اقتضاء كل سبب لجزاء مستقل وعدمه ، وعرفت أيضا ان التحقيق فيه هو عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا.

واما لو كان الشرط واحدا والجزاء أيضا واحدا سنخا لا شخصا ، كقوله : ان أفطرت فكفر ، فهل قضية ذلك أيضا هو كون الشرطية بنحو الوجود الساري في ضمن الافراد كي يلزمه تعدد الجزاء وجودا حسب تعدد افراد الشرط خارجا؟ أو بنحو صرف الوجود حتى لايلزمه الا وجود واحد وان تعدد افراد الشرط؟ فيه وجهان : أظهرهما الأول كما تقدم وجهه آنفا.

واما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا اما عنوانا كالاكرام والاطعام ، أو من ناحية ما تعلق به موضوع الخطاب كاكرام العالم والهاشمي ، حيث كان الاكرام في ذاته حقيقة واحدة ، وانما الاختلاف فيه باعتبار اضافته إلى عنوان العالم والهاشمي ، ففي مثله يقع الكلام في أنه في مورد تصادق العنوانين هل يتداخل الامر ان؟ فيجوز الاكتفاء باكرام واحد في المجمع بداعي الامرين ، أم لا يتداخلان؟ فيجب تعدد الاكرام ، وهكذا في مثال الاكرام والاطعام ، فلايجوز الاكتفاء بالاطعام الواحد وان صدق عليه الاكرام أيضا. ومرجع التداخل في هذه المسألة إلى التداخل في المسبب ، بعد الفراغ عن عدم التداخل في الأسباب ، واقتضاء كل سبب لجزاء ، بخلاف التداخل في المسألة السابقة ، فان التداخل فيها انما كان في الأسباب وعدم اقتضاء الأسباب المتعددة الا جزاء واحداً.

ثم إن منشأ الاشكال في المقام انما هو من جهة محذور اجتماع المثلين ، حيث إنه بعد تحكيم ظهور الشرطين في اقتضاء كل منهما لترتب جزاء مستقل ووجوب محدود بحد خاص ، يتوجه الاشكال بأنه على التداخل في المجمع ، يلزمه اجتماع الوجوبين فيه وصيرورة ذاك الاكرام الشخصي محكوما بوجوبين مستقلين.

نعم قد يتوهم اشكال آخر عليه وهو لزوم التنافي بين مفهوم أحد الشرطين ومنطوق الاخر فيما لو تحقق أحد الشرطين وانتفى الآخر ، من حيث اقتضاء كل منهما بمفهومه انتفاء

ص: 490

سنخ الحكم بقول مطلق حتى في المجمع عند الانتفاء ولو مع تحقق الآخر. ولكنه كما ترى ، إذ مضافا إلى عدم ابتناء المسألة في المقام بالمفهوم وجريانه في شخص الحكم أيضا نمنع التنافي بينهما ، إذ نقول : بان غاية ما يقتضيه قوله : ان جاء زيد فأكرم عالما ، انما هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام في المجمع عند الانتفاء من حيث العالمية لا مطلقا ولو بلحاظ كونه هاشميا ، ولا منافاة بين ان يكون زيد مثلا واجب الاكرام من حيث كونه هاشميا وبين كونه غير واجب الاكرام من حيث كونه عالما.

وحينئذ فكان العمدة هو الاشكال الأول ، وفي مثله نقول : بان العنوانين المتصادقين على مجمع واحد تارة من قبيل الجنس والفصل كالحيوان والناطق ، وأخرى من قبيل العامين من وجه المتصادقين في مجمع واحد عنه الاجتماع ، فان كانا من قبيل الجنس والفصل فلا اشكال في التداخل وفي انه لا يلزم منه محذور أصلا ، إذ حينئذ بعد اختلاف العنوانين بحسب الحقيقة والمنشأ فقهرا يكون مركب كل حكم جهة غير الجهة الأخرى التي هي مركب الحكم الآخر ، ومعه فلا يلزم من القول بالتداخل محذور أصلا ، كما هو واضح. واما ان كانا من قبيل العامين من وجه كما في مثال اكرام العالم والهاشمي فيبتنى على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فعلى القول بالجواز في مثله ولو بدعوى كفاية هذا المقدار من المغايرة في رفع المحذور فلا اشكال في التداخل في المقام ، واما على القول بعدم الجواز كما هو التحقيق في نحو المثال ، بلحاظ وحدة الحقيقة في الجهة المشتركة وهو الاكرام ، ففيه اشكال جدا ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتماثلين في ذات الاكرام الذي هو مجمع الإضافتين ، مع كونه حقيقة واحدة وحيثية فاردة ، واما الحمل على التأكد حينئذ ورفع اليد عن استقلال الحكمين فهو ان يرتفع به المحذور المزبور ولكنه مخالف لما يقتضيه ظاهر الشرطين في اقتضاء كل لوجوب مستقل ، والا لما كان وجه للمصير إلى عدم التداخل في المسألة السابقة ، وحينئذ فبعد تحكيم ظهور الشرطين لابد فرارا عن المحذور والمزبور من المصير إلى عدم التداخل حتى في مورد التصاديق أيضا هذا.

ولكن مع ذلك بناء الأصحاب في مثله على التداخل وجواز الاكتفاء باكرام واحد في المجمع في سقوط الخطابين. اللّهم الا ان يقال حينئذ بكفاية التعدد في الحكم في المجمع في الجملة في حفظ ظهور الشرطين في الاستقلال ، بدعوى ان الواجب في قوله : أكرم عالما وأكرم هاشميا وان كان هو الاكرام المضاف إلى عنوان العالم والهاشمي بحيث كان

ص: 491

لحيثية الإضافة أيضا دخل في موضوع الحكم ، الا ان قضية الحكم في تعلقه بالاكرام المضاف هو مشمولية الإضافة المزبورة أيضا للحكم ولو ضمنا ، فلا باس في مثله بالمصير إلى التأكد برفع اليد عن استقلال الحكمين وتعددهما في المجمع بالإضافة إلى ذات الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين مع حفظ استقلالهما بالقياس إلى الإضافتين المزبورتين ، فان الذي ينافيه قضية الظهور المزبور انما هو رفع اليد عن تعدد الحكمين واستقلالهما في المجمع على الاطلاق ، حتى بالقياس إلى الإضافتين ، واما رفع اليد عن ذلك في الجملة في خصوص ذات الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين فلا ، وعلى ذلك فيتم قول المشهور من جواز الاكتفاء بايجاد واحد في المجمع ومورد التصادق في سقوط الامرين وعدم وجوب تعدد الاكرام في سقوطهما وامتثالهما ، نعم لابد حينئذ في سقوط الامرين من أن يكون الايجاد الواحد بداعي كلا الامرين ، والايكون الساقط خصوص ما قصد منهما ، ما لم يكن الآخر توصليا والا فيسقطان معاً.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال فيما لو كان الجزاء واحدا بحسب الصورة ومتعددا بحسب الحقيقة ، كما في الغسل على ما يظهر من بعض النصوص من قوله علیه السلام : إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد (1) الظاهر في أنها أي الأغسال مع اتحادها صورة مختلفات بحسب الحقيقة وقابلية التصادق على الواحد ، الواحد ، حيث إن قضية الاجتزاء بغسل واحد عن المتعدد حينئذ انما هو جهة تصادفها على الواحد ، نعم ربما كان قضية اطلاقه حينئذ هو جواز الاكتفاء بالواحد عن المتعدد ، ولو مع عدم قصد البقية. ومن هذه الجهة ينافي ما ذكرنا من لزوم قصد الجميع في جواز الاكتفاء بالواحد وعدم سقوط الامر عن البقية مع عدم قصد امتثال الجميع. ولكنه يمكن دفع ذلك أيضا بدعوى تقييد تلك المطلقات بخصوص غسل الجنابة ، كما في خبر حريز ونحوه (2) فيقال حينئذ بان

ص: 492


1- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث 1.
2- ليس في ما رأينا من اخبار الباب ما كان الراوي فيه عن المعصوم علیه السلام حريزا ، نعم هو واقع في جملة من اسناد اخبار الباب. كما في موثق حريز عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد. ونحوه مرسل جميل بن دراج. فراجع الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة [ المصحح ].

جواز الاكتفاء بغسل الجنابة عن ما عداه من غسل الحيض والنفاس ومس الميت ونحوها انما هو من جهة ان الجنابة من أكبر الاحداث التي تندك في ضمنها سائر الاحداث نظير اندكاك السواد الضعيف في ضمن السواد الشديد ، فإنه حينئذ مع زوالها بغسلها لايبقى حدث حتى ينتهى بعد الغسل منها إلى الامر بالغسل لسائر الاحداث ، ففي الحقيقة سقوط الامر بالغسل عن الحيض والنفاس ونحوهما مع غسل الجنابة انما هو من جهة عدم بقاء المحل والموضوع وهو الحدث مع غسل الجنابة ، لا من جهة وقوع غسل الجنابة امتثالا للامر بسائر الأغسال تعبدا مع عدم قصد عنوانها حتى يتوجه الاشكال المزبور ، فتأمل. وهذا بخلاف غسل غير الجنابة ، فإنه من جهة عدم وفائه بزوال الحدث بجميع مراتبه لا يكتفى به في سقوط غسل الجنابة الا بقصدها أيضا ، كما يشهد له أيضا ما في الصحيح عن أبي عبد اللّه وأبى الحسن علیهماالسلام في رجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة قال (عليه السلام) غسل الجنابة عليها واجب (1) الظاهر في عدم كفاية ما تأتى به من غسل الحيض عن غسل الجنابة ولزوم الاتيان بغسلها أيضا ليرتفع به تمام مراتب الحدث ، فتأمل ، وتمام الكلام في هذا المقام موكول إلى محله في الفقه.

ثم إن هذا كله فيما لو أحرز تعدد الجزاء عنوانا واختلافه بحسب الحقيقة ولو بمعونة قرينة خارجية كما في الأغسال. واما لو لم يحرز ذلك واحتمل تعدده بحسب الحقيقة ، كما في الكفارة المترتبة على الافطار والظهار ، فهل مقتضي القواعد في هذه الصورة هو الحمل على تعدد العنوان والحقيقة كي يندرج في موضوع البحث المتقدم عند التصادق ، ويقال فيه بالتداخل ، أو الحمل على وحدة الحقيقة؟ فيه وجهان : أظهرهما الثاني ، إذ نقول : بان اختلاف الحقيقة في الجزاء لابد وأن يكون بأحد الامرين ، اما من جهة الاختلاف ذاتا كالظهرية والعصرية أو من جهة الإضافة إلى الشروط. اما الجهة الأولى : فهي منتفية في المقام من جهة عدم الطريق إلى اختلاف الحقيقة ذاتا فيه وكون الكفارة المترتبة على الافطار بذاتها غير الكفارة المترتبة على الظهار ، واما الجهة الثانية : فكذلك أيضا من جهة ظهور مثل هذه القضايا الشرطية في كون المشروط من الجهات التعليلية للحكم لا من الجهات التقييدية للموضوع ، كي يكون لإضافتها دخل في الموضوع. ومن ذلك نفرق

ص: 493


1- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث 8.

بين القضايا التوصيفية في نحو قوله : أكرم زيد الجائي ، وبين القضايا الشرطية في نحو قوله : أكرم زيدا ان جائك ، حيث نقول بدخول التقييد بالمجيء على الأول في الموضوع حيث كان الموضوع لوجوب الاكرام هو زيد المتقيد بالمجيء ، بخلافه على الثاني حيث كان تمام الموضوع لوجوب الاكرام هو ذات زيد بلا اخذ جهة زائدة فيه في موضوعيته للحكم ، وانما المجيء كان علة للحكم بوجوب اكرامه ، وعلى ذلك فحيث انه كان الظاهر من القضايا الشرطية في مثل قوله : ان ظاهرت فكفر وان أفطرت فكفر ، هو كون الظهار والافطار من الجهات التعليلية لوجوب الكفارة لا من الجهات التقييدية للموضوع فلا جرم لايبقى مجال اخذ الإضافات المزبورة في طرف الموضوع ، وهو الكفارة ، ومعه فلا يبقى مجال الحمل على تعدد الحقيقة واختلافها بمحض قابلية الجزاء لذلك ، كما هو واضح ، وعليه ففي نحو هذه القضايا لابد من القول بعدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا على حسب تعدد الشرط.

فتلخص مما ذكرنا ان لنا صورا ثلاثا : الأولى : ما تكرر الشرط واتحد الجزاء شخصا بحيث لم يكن قابلا للتكرر كما في القصر في قوله : إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران فقصر ، وقد عرفت انه لابد فيه من التداخل في السبب ولزوم التصرف في عقد الشرط بأحد الوجهين المتقدمين ، الثانية : ما لو تكرر الشرط ولكنه اتحد الجزاء سنخا لا شخصا بحيث كان قابلا للتعدد وجودا ، وقد عرفت رجوع القول بالتداخل المطلق في هذا القسم أيضا إلى التداخل في الأسباب وان التحقيق فيه هو عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشرط ، الثالثة : ما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا عنوانا وحقيقة وان اتحد صورة مع قابليتها للتصادق على وجود واحد ، وقد عرفت رجوع التداخل في هذا القسم إلى التداخل في المسبب فارغا عن عدم التداخل في السبب واقتضاء كل سبب الجزاء مستقل وان التحقيق فيه هو التداخل عند التصادق وفى المجمع وجواز الاكتفاء بايجاد واحد في المجمع وسقوط الامرين فيما لو كان الايجاد بداعيهما ، والا فالساقط هو خصوص ما قصد الاتيان بداعية لولا اقتضائه لافناء موضوع آخر كما في غسل الجنابة أو كون الآخر توصليا يسقط بمجرد الانطباق القهري ولولا عن قصد الامتثال فتدبر.

بقى الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في التداخل وعدمه فنقول : قد عرفت ان الشك في التداخل وعدمه تارة يكون من جهة احتمال التداخل في الأسباب واحتمال

ص: 494

كون المؤثر هو الجامع بينهما المنطبق على أول وجود ، وأخرى من جهة احتمال تأكد الوجوب ، كما هو قضية القول بالتفصيل المتقدم ، وثالثة من جهة احتمال تصادق العناوين المتعددة على مجمع واحد. فان كان الأول فلا اشكال في أن مقتضي الأصل هو جواز الاكتفاء بوجود واحد وعدم وجوب الزائد عن وجود أحد لأصالة البراءة عن التكليف الزائد ، واما على الثاني فقد يقال بان مقتضي الأصل فيه أيضا هو البراءة عن الزائد لعدم العلم بالتكليف بالنسبة إلى الوجود الثاني بعد احتمال تأكد الوجوب بالنسبة إلى وجود الأول ، ولكن التحقيق خلافه ، إذ نقول بأنه انما يرجع إلى البراءة فيما لو كان الشك في أصل التكليف الزائد ، وفى المقام لايكون كك ، حيث إنه يعلم تفصيلا بتأثير كل شرط في مرتبة من التكليف ، وانما الشك في تعلقهما بوجود واحد أو بوجودين ، وبعبارة أخرى يعلم تفصيلا بأنه من قبل كل شرط توجه الزام إلى المكلف ، وانما الشك في تعلقهما بوجود واحد فيلزمه تأكد الوجوب فيه أو بوجودين مستقلين ، وفي مثله لا محيص الا من الاحتياط من جهة انه في الاكتفاء بايجاد واحد يشك في الخروج عن عهدة ذاك التكليف الناشي من قبل الشرط الثاني ، لاحتمال تعلقه بوجود آخر ، فلابد حينئذ من الاحتياط ، تحصيلا للقطع بالفراغ عما ثبت الاشتغال به ، وهذا بخلافه في الصورة الأولى حيث إنه بعد احتمال كون التأثير مستندا إلى الجامع المنطبق على أول وجود يشك في أصل توجه الالزام والتكليف من قبل الشرط الثاني ، فيندرج في الأقل والأكثر ، ويرجع فيه إلى البراءة ، ومن ذلك البيان ظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا فان المرجع فيه أيضا عند الشك في التداخل من جهة احتمال تصادق العنوانين على الواحد هو الاشتغال لا غير ، كما هو واضح.

الامر الرابع : لا اشكال في أنه تعتبر في مقام اخذ المفهوم مراعاة جميع ما اعتبر في المنطوق من القيود المأخوذة في الشرط والجزاء في المفهوم أيضا ، ومن ذلك يكون المفهوم في مثل قوله : ان جاء زيد راكبا فأكرمه يوم الجمعة ، هو انتفاء هذا الحكم الخاص ، وهو وجوب الاكرام يوم الجمعة عن زيد عند انتفاء الشرط المزبور بما له من القيود ، إذ كان المفهوم ان لم يجيء زيد راكبا فلاتكرمه يوم الجمعة ، كما أن المفهوم في قوله : ان جاء زيد زيد فأكرم مجموع الجماعة ، هو انتفاء وجوب اكرام الجماعة من حيث المجموع عند انتفاء المجيء الغير المنافي لوجوب اكرام بعضهم ، وهذا مما لا كلام فيه. وانما الكلام فيما لو كان الجزاء حكما عاماً

ص: 495

أصوليا ثابتا لافراد الطبيعة بنحو الاستغراق ، كقوله : ان جاء زيد فأكرم كل عالم ، وقوله إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء ، في أن قضية المفهوم هل هو السلب الكلي في الأول والايجاب الكلي في الثاني ، أو هو السلب الجزئي والايجاب الجزئي؟ ومبني الخلاف في المسألة ان قضية إناطة هذا الحكم العالم وتعليقه بالشرط في قوله : الماء إذا بلغ قدر كر الخ ، هل هو تعليق وإناطة شخصي غير قابل للانحلال إلى تعليقات متعددة بتعدد افراد النجاسات ، أو هو تعليق سنخي منحل إلى تعليقات متعدده؟ حيث إنه على الأول يلزمه كون المفهوم منه هو الايجاب الجزئي الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات عند عدم بلوغه كرا ، بخلافه على الثاني فإنه يلزمه كون مفهومه بنحو الايجاب الكلي ، من جهة ان لازم انحلال التعليق هو انحلال التعليق هو انحلال القضية الشرطية إلى قضايا متعددة حسب تعدد النجاسات ، ولازمه عقلا هو استخراج مفاهيم متعددة عند عدم بلوغه كرّاً.

وربما يبتنى الخلاف في المسألة على أن المعلق على الشرط في نحو المثال هو الحكم العام أو عموم الحكم ، بدعوى لزوم كون المفهوم على الأول هو الايجاب الكلي ، بخلافه على الثاني ، فإنه لايكون الا بنحو الايجاب الجزئي ، ولكنه كما ترى ، إذ نقول : انه على الثاني من تعليق العمومية وان لم يكن المجال الا للايجاب الجزئي ، بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ في طرف المفهوم الا انتفاء هذه العمومية الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات ، الا انه نقول : بأنه على الأول لا يتعين كونه بنحو الايجاب الكلي ، بل هو بمقتضي ما بيناه قابل لإفادة الايجاب الجزئي أيضا ، ومع قابليته لذلك في فرض كون المعلق هو الحكم العام فلايصح ابتناء الخلاف المزبور على تعليق الحكم العام أو عموم الحكم ، بل ولعل التأمل التام يقتضي أيضا بكون النزاع المزبور في فرض تعليق الحكم العام ولو بملاحظة كونه مقتضي طبع مثل هذه القضايا من حيث ظهورها في كون المناط هو النسبة الحكمية في القضية في قوله : أكرم كل عالم ، دون حيث العمومية والاستيعاب الذي هو من شؤون موضوع العام ومن كيفياته القائمة به ، حيث إن تعليق هذه الجهة يحتاج إلى نحو عناية زائدة وتعقل ثانوي بلحاظ نحو العمومية.

وعليه فلابد من لحاظ هذه الجهة في أن إضافة الحكم العام بشرطه في قوله : الماء إذا بلغ قدر كر الخ ، هل هو من قبيل اضافته إلى موضوعه ، فكانت بتعليق سنخي حتى يلزمه انحلاله إلى تعليقات متعددة وقضايا شرطية عديدة حسب تعدد افراد الموضوع ، من مثل

ص: 496

إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه بول ، وإذا كان قدر كر لا ينجسه غائط ، ولا دم ، وهكذا ... فيلزمه استخراج مفاهيم متعددة من كل قضية مفهوما؟ أو بإناطة وتعليق شخصي غير منحل إلى تعليقات متعددة كي يلزمه كون مفهومه هو انتفاء هذا الحكم ، وهو عدم منجسية كل شيء له ، عند عدم بلوغه كرا الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات؟ وفي مثله لايبعد ان يقال بالأول ، نظراً إلى دعوى ظهور القضية حينئذ في كون نسبة الحكم المزبور إلى شرطه بعينه على نحو كيفية تعلقه بموضوعه الملازم لكونه بتعليق سنخي منحل إلى تعليقات متعددة ، وعليه وعليه فقهرا تكون النتيجة في طرف المفهوم بنحو الايجاب الكلي لا الايجاب الجزئي ، فتدبر ، هذا تمام الكلام فيما فيما يتعلق بمفهوم الشرط.

مفهوم الغاية

ومن المفاهيم الغاية وقد اختلف كلماتهم في أنه هل التقييد بالغاية يقتضي انتفاء سنخ الحكم عما بعد الغاية ، بل وعن الغاية أيضا بناء على خروجها عن المغني ، كي لو ورد دليل على ثبوت الحكم فيما بعد الغاية يلاحظ بينهما التعارض؟ أو انه لايقتضي ذلك؟ ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الأول ، وذلك لعين ما ذكرنا في مفهوم الشرط ، إذ بعد ما يستفاد انحصار الحكم بمقتضي الاطلاق الجاري فيه في نحو قوله : أكرم زيدا ، بذلك الطلب الشخصي المنشأ في القضية وعدم ثبوت شخص طلب آخر عند مجيء الليل أو قدوم الحاج ، فقهرا في فرض إناطة تلك النسبة الحكمية في القضية بالغاية ، بقوله : أكرم زيدا إلى الليل أو حتى يقدم الحاج كما هو ظاهر طبع القضية من رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكمية لا إلى خصوص الموضوع أو المحمول يلزمه ارتفاع سنخ الحكم عند تحقق الغاية ، ولا نعنى من المفهوم الا هذا.

نعم لو كانت الغاية في القضية قيدا للموضوع أو للحكم لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم عما بعد الغاية كمال مجال ، وذلك اما على الأول فلما يأتي إن شاء اللّه تعالى في الوصف. واما على الثاني فلان مرجعه إلى ثبوت حكم خاص محدود بحد مخصوص من الأول لزيد ، ومن المعلوم بداهة عدم منع ذلك عن ثبوت شخص حكم آخر له بعد انتهاء

ص: 497

أمد الحكم الأول ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو ظهور القضايا الغائية كلية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكمية وان وجوب اكرام زيد في قوله : أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج ، هو المغيى بالغاية التي هي قدوم الحاج ، وعليه فلا جرم تكون القضية دالة على انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند الغاية ، من جهة ان احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية مما يدفعه قضية الاطلاق المثبت لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي ، وهو واضح.

بقى الكلام في أن الغاية هل هي داخلة في المغيى أم خارجة عنه؟ حيث إنه قد اختلف فيه كلماتهم ، وربما ينسب الثاني إلى المشهور. وقد يظهر من بعضهم التفصيل بين الغاية المدلول عليها بحتى ونحوه وبين الغاية المدلول عليها بالي ، فالدخول في الأول دون الثاني ، بل ربما يظهر منهم أيضا تخصيص الخلاف بالغاية المدلول عليها بالى ونحوه مع جعل الغاية في نحو حتى مفروغ الدخول ، كما في قولك : اكلت السمكة حتى رأسها.

ولكن التحقيق هو خروجها عن المغيى مطلقا ، والوجه فيه ظاهر إذا الغاية للشيء عبارة عما ينتهى إليه وجود الشيء ولا يتعدى عنه فيستحيل حينئذ دخولها في الشئ.

وبالجملة نقول : بان مفاد الحروف لما كان عبارة عن النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين ، فلا جرم في قولك : سرت من البصرة إلى محل كذا ، ما هو طرف تلك الإضافة الغائية المدلول عليها بالى انما كان هو الجزء الأخير من السير الذي هو منتهى وجوده والجزء الأول من ذلك المحل الذي هو في الحقيقة حد وجوده ، وفي مثله من المستحيل دخول الغاية في المغيى ، كما هو واضح.

بقى الكلام في أنه هل يعتبر في المفهوم ان يكون الحكم المعلق بالشرط أو الغاية بنحو أمكن ثبوته للموضوع عند انتفاء القيد كي يكون قضية اعتباره بنحو السنخ لدفع توهم ثبوت فرد آخر منه في غير مورد وجود القيد ، أو انه لا يعتبر ذلك بل يكفي في المفهوم اعتباره بنحو السنخ وان لم يمكن ثبوته في غير مورد القيد لمكان انحصاره بفرد خاص ، فيكون مثل قوله (عليه السلام) كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، من المفهوم المصطلح؟ فيه وجهان ، أظهرهما الثاني ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب فائدة على هذا النزاع من جهة انتفاء الحكم على أي تقدير في نحو هذه الموارد عند

ص: 498

تحقق الغاية ، كان ذلك من باب المفهوم المصطلح أو غيره ، وهو واضح.

مفهوم الوصف

ومن المفاهيم مفهوم الوصف حيث اختلف فيه كلماتهم في ثبوت المفهوم وعدمه ، والظاهر هو اختصاص النزاع بالوصف الأخص من موصوفه بحيث كان قابلا للافتراق من طرف الموصوف ، كالعلم والعدالة والفسق ونحو ذلك ، دون الوصف المساوي والأعم ، كما هو واضح ، وعلى كل حال فالظاهر هو عدم ثبوت المفهوم لنحو هذه القضايا الوصفية بحسب طبعها ما لم يكن في البين قرينة عليه من حال أو مقال ، إذ لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلق على الوصف هو السنخ كي يقتضي انتفائه عند انتفاء القيد ، بل وانما غايتها الدلالة على مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت فرد آخر مثله في غير مورد القيد ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القضايا اللقبية حيث لا فرق بينهما من هذه الجهة الا من جهة كون الموضوع في القضايا الوصفية عبارة عن امر خاص مقيد بقيد خاص.

واما ما ذكرنا من قضية الاطلاق في الحكم المثبت لانحصاره في شخص الفرد المنشأ في الشرط والغاية فغير جار في المقام ، من جهة القطع بعدم اطلاقه كك في المقام وفى القضايا اللقبية ، إذ من الممتنع حينئذ اطلاق الحكم في قوله : يجب اكرام زيد أو زيد القائم ، بنحو يشمل جميع افراد وجوب الاكرام حتى الثابت لعمرو ، ومع امتناع اطلاقه كك ثبوتا لا مجال لكشفه اثباتا ، وهذا بخلافه في الشرط والغاية ، فان اطلاق الحكم فيهما انما هو بحسب الحالات دون الافراد ، فإذا اقتضى قضية الاطلاق في الحكم ثبوت ذلك الحكم الشخصي للموضوع في جميع الحالات من القيام والقعود والمجيء ونحوه وأنيط ذلك الحكم أيضا بالشرط أو الغاية ، فقهرا يلزمه عقلا انتفائه بانتفاء المنوط به شرطا أو غاية ، وهذا بخلافه في القضايا الوصفية واللقبية ، حيث إنه بعد اخذ الوصف قيدا في الموضوع لا مجال للاطلاق الحالي للحكم ، فلابد حينئذ وأن يكون السنخ والاطلاق فيه بلحاظ الافراد ، فإذا فرض حينئذ امتناع اطلاقه من هذه الجهة ، فلا جرم لايبقى مجال لدعوى دلالة القضية الوصفية على المفهوم والانتفاء عند الانتفاء ، بل لابد حينئذ في اثباته من قيام قرينة خارجية عليه.

ص: 499

من حال أو مقال تقتضي كونه في مقام التحديد ومقام حصر الحكم ، والا فلو كنا نحن ونفس القضية الوصفية لايكاد اقتضائها بحسب طبعها الا مجرد ثبوت المحمول للمقيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت شخص حكم آخر لذات المقيد عند ارتفاع القيد.

واما توهم ان ذلك مقتضي قضية التقيد بالوصف من جهة ظهوره في دخله في اختصاص الحكم بمورده والا يلزم لغوية ذكره في القضية ، فمدفوع بمنع اللغوية ، إذ فائدته حينئذ تضيق دائرة الموضوع في القضية وبيان انه هو الذات المتقيدة بقيد كذائي ، وحينئذ فإذا فرض عدم كون الحكم المحمول في القضية الا بنحو الطبيعة المهملة فلايمكن الحكم بانتفاء الحكم على الاطلاق عند انتفاء القيد وعدم ثبوت شخص حكم آخر مثله للذات. نعم انما كان لهذا الكلام مجال فيما لو كان القيد والوصف بحسب اللب من الجهات التعليلية لثبوت الحكم اللذات ، ولكنه أيضا خلاف ما تقتضيه القضايا الوصفية من الظهور في كون الوصف من الجهات التقييدية الراجعة إلى اخذ التقيد بها في ناحية موضوع الحكم.

لايقال : انه وان كان الامر كك الا ان إناطة الحكم وتعليقه بالوصف الذي هو امر عرضي في نحو قوله : أكرم زيد العادل ، دون ذات الموصوف ودخل العنوان العرضي في موضوع الحكم تكشف عن أن ما له الدخل في ترتب الحكم على الذات انما هو ذلك العنوان العرضي ، ولازم ذلك لا محالة هو انتفاء سنخ الحكم المحمول في القضية عند انتفاء الوصف ، والا فلو فرض ثبوت شخص حكم آخر مثله للذات في مورد فقد الوصف يلزمه ان يكون ما له الدخل في ترتب الحكم هو ذات الموصوف ، وفي مثله يلزم لغوية ذكر القيد ،

فإنه يقال : بأنه لو تم هذا التقريب فإنما هو في نحو المثال المزبور حيث إنه بعد عدم مناسبة حكم وجوب الاكرام لعنوان الفسق يتوجه الكلام بأنه لولا دخل الوصف في اختصاص الحكم بمورده يلزم ان يكون المقتضي لثبوته هو ذات الموصوف ، من جهة فرض عدم مناسبة الحكم بوجوب الاكرام لعنوان فسقه ، فيتجه حينئذ دعوى عدم صحة الاستناد إلى العنوان العرضي ، كما هو الشأن أيضا في آية النبأ حيث أمكن بالتقريب المزبور استفادة المفهوم من جهة الوصف نظراً إلى ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع من اختصاص وجوب التبين بالنبأ المضاف إلى الفاسق وعدم ملائمته مع عدالة الراوي ، لا مطلقا حتى فيما لايكون كك مما كان الوصف من قبيل القيام والقعود ونحوهما كما في قوله : أكرم زيداً

ص: 500

القائم أو القاعد ، فإنه في أمثال ذلك لايكاد مجال للتقريب المزبور لاستفادة المفهوم ، كما هو واضح.

مفهوم الاستثناء

ومن المفاهيم مفهوم الاستثناء فيما لو استثنى بالا ونحوها ، كقوله : أكرم القول الا زيدا وجائني القوم الا زيدا ، ولاينبغي الاشكال في دلالته على انحصار سنخ الحكم الثابت في القضية بالمستثنى منه وخروج المستثنى من ذلك ، ومن ذلك اشتهر بينهم بان الاستثناء من النفي اثبات ومن الاثبات نفى ، حتى أنه من شدة وضوحه اشتبه على بعض فتوهم ان الدلالة المزبورة كانت من جهة المنطوق ، ولكنه فاسد قطعا ، من جهة ان القدر الذي يتكفله القضية المنطوقية انما هو مجرد اثبات الحكم سلبا أو ايجابا للمستثنى منه ، واما اثبات نقيض ذلك الحكم الثابت للمستثنى فهو انما يكون بالمفهوم ، من جهة كونه من لوازم انحصار سنخ الحكم بالمستثنى منه. وعلى كل حال فلا اشكال في دلالة القضية على خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه. ومن ذلك لو ورد دليل في القبال على اثبات الحكم للمستثنى يقع بينهما التعارض ، كما في قوله : أكرم القوم الا زيدا مع قوله : أكرم زيدا. وحينئذ فلا يصغى لما حكى عن أبي حنيفة من منع الدلالة محتجا بمثل قوله : لا صلاة الا بطهور ، من دعوى لزوم صدق الصلاة على الواجد للطهور ولو كان فاقدا لبقية شرائطها من الستر والقبلة ونحوهما ، مع أنه يمكن ان يقال : بان الملحوظ في هذا التركيب انما هو الصلاة الواجدة لجميع ما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط عدا الطهور ، وقضية ذلك في طرف المفهوم هو تحقق حقيقة الصلاة الواجدة لجميع ما اعتبر فيها في مورد تحقق الطهور ، فلا اشكال حينئذ في البين.

بقى شيء تعرض له في الكفاية (1) وغيرها ، وهو الاشكال المعروف في كلمة التوحيد ، وحاصله ان خبر ( لا ) في قول ( لا إله إلا اللّه ) اما ان يقدر ممكن واما ان يقدر موجود ، وعلى أي تقدير لا دلالة لها على التوحيد ، فإنها على الأول لاتدل على وجوده سبحانه من

ص: 501


1- ج 1 ص 327.

جهة أعمية الامكان ، وعلى الثاني لا تنفى امكان غيره سبحانه ، ولكنه مندفع بان المراد من ( اله ) في قول ( لا إله إلا اللّه ) بعد أن كان الواجب الذي يجب وجوده بذاته فلا جرم يتم دلالتها على المطلوب وهو التوحيد على كل تقدير ، اما في فرض تقدير ممكن فظاهر نظراً إلى الملازمة العقلية بين امكانه ووجوده سبحانه ، واما في فرض تقدير موجود فكك أيضا من جهة دلالتها أيضا بالملازمة العقلية على نفى غيره ولو امكانا ، لان امكان غير مساوق لوجوب وجوده ، فعدم وجود غيره سبحانه دليل عدم امكانه ، كما هو واضح.

مفهوم الحصر

ومن المفاهيم مفهوم الحصر فيما جئ بأنما ونحوه من أداة الحصر ، كقوله : انما زيد قائم وانما يجب اكرام زيد ، ولا اشكال في دلالتها على المفهوم من جهة اقتضائها حصر سنخ الحكم المحمول في القضية بالموضوع.

ومثل ذلك في الدلالة على المفهوم كلمة بل الاضرابية فيما جئ للاعراض عن حكم ما سبق لا غلطا أو سهوا ، إذ يستفاد منها اختصاص سنخ الحكم بما يتلوها.

واما تعريف المسند كقوله : زيد الصديق ، وتقديم ما حقه التأخير كقوله : الصديق زيد والعالم زيد ، فقد يقال بدلالته أيضا على المفهوم كما عن جماعة نظراً إلى دعوى ظهوره في الحصر ، ولكن الظاهر هو اختلافه بحسب الموارد من حيث الدلالة على الحصر في مورد وعدم دلالته في الآخر ، خصوصا الأول من جهة امكان ان يكون التعريف للعهد ، فلابد حينئذ في استفادة الحصر من ملاحظة الموارد والمقامات الخاصة ، فان كان هناك قرينة على ذلك من حال أو مقال أو غيرهما فهو ، والا فلا.

مفهوم اللقب

ومن المفاهيم مفهوم اللقب ، والحق فيه عدم المفهوم ، لما تقدم وجهه سابقا بان غاية ما يقتضيه تلك القضايا انما هو مجرد اثبات المحمول بنحو الطبيعة المهملة للموضوع ، فيحتاج حينئذ في استفادة المفهوم إلى قيام قرينة على كون المتكلم في مقام التحديد والحصر في قوله : أكرم زيداً.

ص: 502

مفهوم العدد

ومن المفاهيم مفهوم العدد ، والحق فيه أيضا عدم الدلالة على المفهوم ، الا إذا أحرز من الخارج ان المتكلم كان في مقام التحديد ، وحيث انه لم يكن في البين قرينة نوعية عامة على ذلك فلا جرم يحتاج في استفادة المفهوم إلى القرائن الخاصة ، فلابد حينئذ من لحاظ الموارد الخاصة والمقامات المخصوصة المقتضية لذلك ، هذا تمام الكلام في المفهوم والمنطوق.

ص: 503

المقصد الرابع في العموم والخصوص

اشارة

وفيه جهات من البحث :

الجهة الأولى

لايخفى عليك ان العموم والخصوص كالاطلاق والتقييد انما كان من صفات المعنى ومن العوارض الطارية عليه وان اتصاف اللفظ بهما انما كان بتبع المعنى ، من جهة ما كان بينهما من العلاقة والارتباط الخاص. ثم إن حقيقة العموم عبارة عن الإحاطة والاستيعاب للافراد بنحو العرضية أو البدلية ، لكن لا مفهوم الإحاطة بل ما هو واقع الإحاطة ومصداقها الذي هو منشأ انتزاع هذا المفهوم الذي هو في الحقيقة معنى حرفي. واما الاشكال عليه حينئذ بلزوم عدم جواز اجراء احكام الاسم على الألفاظ الموضوعة للعموم كلفظ كل وجميع ومجموع ونحوها ، من الاخبار عنها وبها ونحوهما من الاحكام المختصة بالأسماء ، مع أنه لايكون الامر كك قطعا ، حيث نرى صحة اجراء الاحكام المزبورة عليها بالاخبار عنها وبها وجعلها فاعلا ومفعولا ونحو ذلك فمدفوع ، فإنه انما يتجه الاشكال المزبور فيما لو كان المدلول المطابقي للفظ كل وتمام وجميع هو نفس الإحاطة والاستيعاب ، ولكنه ليس كك ، بل نقول بان مدلولها المطابقي عبارة عن معنى اسمى يلزمها الإحاطة والاستيعاب والشمول ، وهو مقدار كم المدخول وتحدده بأعلى المراتب الذي لازمه الاستيعاب. فالمدلول في لفظ كل وتمام وجميع من قبيل مداليل الأسامي الموضوعة للكميات والمقادير ، نظير باقي الكسور كالنصف والربع والثلث ، فكان لفظ الكل مثلا يبين مقدار كم المدخول بكونه أعلى المراتب في قبال البعض المحدد لدائرته بالبعض ، ولازم ذلك ، كما عرفت ، عقلا هو الإحاطة والاستيعاب لجميع الافراد المندرجة

ص: 504

تحته. وحينئذ فصحة اجراء احكام الأسماء عليها انما هو من جهة ما ذكرنا ، لا من جهة ان المدلول فيها هو مفهوم الإحاطة والشمول أو مصداقها ، كي يتوجه عليه على الأول بلزوم الترادف بين لفظ الكل ولفظ الإحاطة ، وعلى الثاني بلزوم عدم جواز اجراء احكام الأسماء عليها ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فلاينبغي الارتياب في أن حقيقة العموم - وهو الإحاطة والاستيعاب للافراد بنفسها من المعاني الواقعية التي لا تحتاج في تصورها إلى تحقق شيء آخر من الجهات الخارجة عن هذا المعنى من حكم أو مصلحة أو غير ذلك ، بل لو لم تكن تلك الجهات الخارجية أيضا كان المجال لتصور هذا المعنى وهو الإحاطة والشمول للافراد ، ومن هذه الجهة نقول أيضا بعدم اقتضاء مجرد الاستيعاب للافراد والإحاطة والشمول لشيء من الاستغراقية والمجموعية ، وان مثل هذين الامرين انما هو من الاعتباريات الطارية على العموم بنحو العرضية المقابل للبدلية بملاحظة امر خارجي في البين من مثل الحكم والمصلحة ، وان الاستغراقية انما هي بملاحظة كون الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لاحكام متعددة ومصالح كك حسب تعدد الافراد ، في قبال المجموعية التي هي أيضا بملاحظة كون الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لحكم واحد شخصي غير قابل للانحلال ومصلحة كك ، ففي الحقيقة اعتبار المجموعية والاستغراقية انما هو بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم ، والا فمع قطع النظر عن ذلك لايكاد يكون الفرق بينهما في عالم المفهوم ومقام تصوره أصلا ولقد أجاد في الكفاية (1) حيث فرق بين نحوي العموم من جهة كيفية تعلق الحكم بالعموم ، وجعل التقسيم بالاستغراقي والمجموعي بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم من كونه تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا لحكم واحد مع كون العموم فيهما بمعنى واحد وهو إحاطة المفهوم بجميع ما يصلح لان ينطبق عليه.

نعم ما افاده قدس سره من الحاق العام البدلي أيضا بهما في كونه أيضا من جهة كيفية تعلق الحكم بالعموم ، غير وجيه ، فان الظاهر هو ان الفرق بين البدلي وبين الاستغراقي والمجموعي من جهة كيفية العموم ولحاظه تارة بنحو الاستيعاب للافراد

ص: 505


1- ج 1 ص 232.

بنحو العرضية وأخرى بنحو البدلية ، لا من جهة كيفية الحكم كما في الاستغراقي والمجموعي ، كما أفيد ، حيث إنه فيهما انما يلاحظ سير الطبيعي وشموله للافراد بنحو العرضية في مقام التطبيق ، بحيث لو عبر عنها تفصيلا لكان يعطف بعضها على بعض بقوله هذا وذاك وذاك الآخر. بخلافه في العام البدلي ، فإنه فيه أيضا وان كان يرى في مقام اللحاظ سريان الطبيعي وشموله للافراد ، الا انه لا بنحو العرضية بل على نحو البدلية ، كقولك : رجل أي رجل ، في قبال قولك : كل الرجال وجميع الرجال ، ومن ذلك لو عبر عنه تفصيلا لكان ذلك بمثل قوله : هذا أو ذاك ، وعلى ذلك فنفس العام البدلي أيضا قبال الاستيعاب بنحو العرضية من المعاني الواقعية الغير المحتاجة إلى تحقق امر خارجي من حكم أو مصلحة ، بل لو لم يكن حكم أيضا كان له الواقعية. وعليه فتقابل العموم البدلي مع ذين العمومين وهما الاستغراقي والمجموعي انما هو بلحاظ تقابل مقسمها معه ، لا بلحاظ تقابل كل واحد منهما ، حتى يكون ما به الامتياز فيه أيضا من سنخ ما به الامتياز فيهما ، كما لايخفى.

ومما ذكرنا انقدح أيضا فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام فيما حكى عنه من أن اطلاق العموم على العام البدلي انما هو باب المسامحة ، والا فلايكون ذلك بعام حقيقة ، حيث لايكون متعلق الحكم فيه الا واحدا وان العمومية فيه انما هي في البدلية ، وتوضيح الفساد هو ان البدلية في مثل هذا العام انما كان في مقام التطبيق ، والا ففي عالم العموم والشمول كانت الافراد بأجمعها تحت اللحاظ في عرض واحد ، كما هو مفاد قولك : جئني برجل أي رجل ، حيث إن لفظة أي تدل على استيعاب جميع الافراد عرضا ، غايته على نحو يكون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا ، كما في العام الاستغراقي والمجموعي ، ومن المعلوم ان مجرد كون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا لايقتضي خروجه عن العمومية والاستيعاب لجميع الافراد. كما لايخفى.

وعلى كل حال فلا ريب في عدم ارتباط أسامي العدد من مثل العشرة ونحوها بالعموم والشمول ، بل مثل هذه المعاني انما هي من الاعتباريات الطارية على مداليل الاعداد وان أسامي العدد من هذه الجهة نظير الطبايع الصرفة في كونها مركز طرو هذه الاعتبارات ومورد هذه الأطوار ، غير أن الفرق بينها وبين الطبايع هو ان نسبة الطبايع إلى الآحاد المعروضة للعموم في دائرتها في نحو قوله : أكرم كل عالم من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد ، بخلافه في أسامي الاعداد فإنها لكونها عبارة عن مراتب الكم المنفصل للشيء يكون

ص: 506

نسبتها إلى الآحاد المندرجة فيها المعروضة لهذه الطواري في مثل قولك : كل العشرة ، من قبيل نسبة الكل إلى الجزء دون الكلي والفرد نعم انما يكون فيما لو كان نظر العموم فيها إلى مصاديق العشرة الراجع إلى إفادة كل عشرة عشرة ، حيث إن نسبتها حينئذ إلى المصاديق كانت من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد ، من جهة انها بهذا الاعتبار كأحد الطبايع الصادقة على القليل والكثير ، فكان طروا لعموم عليها حينئذ بعين طروه على الطبايع.

ومن ذلك البيان ظهر الكلام في التثنية والجمع أيضا ، حيث إن مدلوليهما عبارة عن مرتبة خاصة من الكم القائم بالطبيعي اما بتحديد حديها كما في التثنية وجمع القلة ، أو بتحديد حدها الأقل كما في جمع الكثرة ، فكانت كأسامي الاعداد في نسبتها إلى الآحاد المندرجة فيها المعروضة للعموم والخصوص ، وفي مركزيتها لطرو هذه الطواري ، حيث كانت قابلة لطرو الخصوص والعموم عليها بنحو المجموعية والاستغراقية والبدلية ، من غير فرق في ذلك بين التثنية والجمع.

نعم الفرق بينهما انما هو من جهة أخرى وهي ان التثنية لما كان لا ابهام فيها في مرتبة كمها ففي طرو العموم عليها في مثل أكرم كلا من الرجلين أو جميع الرجلين لايحتاج إلى تعين آخر في مدلولهما. بخلافه في طروه على الجمع فإنه بملاحظة ما فيه من الابهام بين مراتب الجمع المختلفة آحادها لابد من اعتبار تعين بين هذه المراتب حتى يقتضي العموم الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحتها ، ومن ذلك نحتاج في فرض كون نظر العموم إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع لا إلى نفس مصاديق الجمع إلى الحمل ولو بقرينة الحكمة على الفرد الاعلى من افراد الجمع والمرتبة القصوى من مراتبه ، من جهة ان هذه المرتبة مما لها نحو تعين بالذات بخلاف بقية المراتب الاخر ، ولازم ذلك اقتضاء العموم الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحت أقصى الافراد وأعلى المراتب لا الآحاد المندرجة تحت بقية المراتب ، من جهة ان قرينة الحكمة انما تقتضي الحمل على ما لاحد فيها من مراتب الكم ، ولايكون ذلك الا على المصاديق وأقصى المراتب ، من دون ان يكون ذلك أيضا من باب انسلاخ الجمع عن مدلوله ومعناه ، بل من باب إرادة العموم بالنسبة إلى الآحاد المندرجة تحت الفرد الاعلى من افراد الجمع وأقصى مراتبه ، هذا كله إذا كان العموم ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع ، واما لو كان العموم ناظرا إلى نفس مصاديق الجمع لا إلى الآحاد المندرجة تحتها ، كما في قوله : أكرم كل جماعة ، الناظر

ص: 507

إلى كل جماعة جماعة ، فان أريد من المصاديق ما هو القابل للتكرر بنحو لا يلزم التداخل في الحكم يؤخذ بأقل الافراد القابل للتكرر في جميع الدوائر ، فيحمل قوله : أكرم كل جماعة ، على كل ثلاثة ثلاثة منها من جهة ان هذا المعنى مما له نحو تعين بالذات ، بخلاف بقية المصاديق كالأربعة والخمسة والستة وما فوقها ، فإنها أيضا وان كانت قابلة للتكرر الا انه لا تعين في واحد منها حتى يحمل عليها ، بخلاف أقل الافراد من الجمع وهو الثلاثة فان له نحو تعين بالذات ، واما ان أريد من المصاديق ما هو القابل للتداخل في الحكم أيضا ففي مثله يؤخذ بجميع المراتب من الثلاثة والأربعة والخمسة وما فوقها ، ويحكم بالتداخل في الحكم.

ومن هذه الجهة ظهر جهة فرق آخر بين التثنية والجمع ، حيث إنه في التثنية لايتصور العموم باعتبار الوجه الأخير ، بل العموم المتصور فيها كما في أسامي الاعداد يتصور بأحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة المتصورة في الجمع ، بخلاف الجمع ، فان العموم فيه باعتبار كون مفهومه معنى تشكيكيا محفوظا بين جميع المراتب من الأقل والأكثر يتصور على وجوه ثلاثة : من حيث كون العموم تارة ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع ، وأخرى إلى نفس مصاديق الجمع ، مع كونه على الثاني تارة بإرادته من المصداق ما هو القابل للتكرر كي لا يلزم التداخل ، وأخرى بإرادته من المصداق ما هو القابل للتداخل والتأكد في الحكم ، وان كان مثل هذا الفرض بعيدا في نفسه بل غير واقع من جهة بعده عن أذهان العرف وأهل اللسان.

ثم إن هذا كله فيما لو أحرز كون نظر العموم إلى الآحاد المندرجة تحت المصاديق ، أو إلى نفس مصاديق الجمع ، واما ان لم يحرز كون العموم بلحاظ المصاديق ، فيحمل على إرادة العموم بلحاظ الآحاد المندرجة تحتها ، ويدفع احتمال كونه بلحاظ نفس المصاديق ، بشمول اطلاق الجمع لصورة انحصار افراده بأقلها وهو الثلاثة ، من جهة ان شمول اطلاقه لصورة انحصار الافراد والآحاد بالثلاثة ينافي لا محالة مع احتمال كون العموم بلحاظ نفس المصاديق ، حيث إنه لايبقى مجال للعموم الا بلحاظ المندرجة تحت المصاديق ، غاية الامر بما ذكرنا يحمل على أقصى الافراد وأعلى المراتب أقل كانت أم أكثر من جهة تعينه بالذات ، كما هو واضح.

* * *

ص: 508

الجهة الثانية

لا شبهة في أن للعام صيغة تخصه ، كلفظ كل وتمام وجميع وأي وما يرادفها في أي لغة ك ( همه ) و ( هر ) بالفارسية. وذلك للتبادر حيث إن من الواضح تبادر العموم والاستيعاب منها. وكون التخصيص شايعا حتى قيل بأنه ما من عام الا وقد خص لا يستلزم الوضع للخصوص أو القدر المشترك بينهما كما لايخفى. بل ولئن تأملت ترى بان نفس الاحتياج إلى التخصيص في قولك : كل عالم ، قرينة وضعها للعموم وانها بحيث يستفاد منها الاستيعاب والشمول لولا التخصيص ، وعليه فلا يصغى إلى ما قيل من الوضع للخصوص في الألفاظ المدعى كونها موضوعة للعموم ، حيث إن في وضوح المسألة غنى وكفاية عن إقامة البرهان على العموم وابطال ما أقيم على كونها للخصوص ، وحينئذ فلا اشكال من هذه الجهة ولا كلام.

وانما الكلام في أن قضية هذه الأداة المدعي دلالتها على العموم وضعا كلفظ كل وتمام وجميع هل هو الاستيعاب والشمول لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد ، أم لا ، بل كان قضية عمومها تابعا لما يراد من المدخول فيها من حيث الاطلاق والتقييد ونحوهما؟ قال في الكفاية ما محصله : ان دلالة لفظ كل ونحوه على العموم وان كانت بالوضع لكن دائرة شمول العام بالنسبة إلى قلة الافراد وكثرته تابعة لما يراد من المدخول من حيث الاطلاق والتقييد ، فإذا كان المدخول مأخوذا بنحو الاطلاق والسريان فالشمول والعموم كان بلحاظ افراد المطلق ، كما أنه لو كان المدخول مقيدا ببعض القيود كما لو أراد من العالم في قوله : أكرم كل عالم ، العالم العادل أو العالم النجفي فلا جرم يكون العموم بالنسبة إلى الافراد في دائرة المقيد لا المطلق ، فعلى كل حال ما هو المدلول للفظ كل ونحوه من الألفاظ العموم انما هو الاستيعاب والشمول في دائرة ما يراد من المدخول ، وعلى ذلك ففي مثل قوله : أكرم كل عالم ، فلابد في الحكم بالاستيعاب بالنسبة إلى جميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد بناء على مسلك السلطان من الوضع للطبيعة المهملة القابلة للاطلاق والتقييد من احراز كون المراد من المدخول هو الطبيعة بنحو الاطلاق والارسال ، ولو كان ذلك من جهة قرينة الحكمة ، والا فمع عدم احراز هذه الجهة واحتمال كون المراد من المدخول وهو العالم الطبيعة المقيدة لايبقى مجال

ص: 509

الحكم بالاستيعاب بالنسبة إلى جميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد ، بل ربما كان اللازم حينئذ الاخذ بالقدر المتيقن وهو الاستيعاب بالنسبة إلى آحاد المقيد لا المطلق ، هذا.

ولكن لايخفى عليك ان المدخول في مثل قوله : كل عالم ، وان لم يدل على مسلك السلطان الا على الطبيعة المهملة ، فيحتاج استفادة الارسال والاطلاق منه إلى قرينة الحكمة ، الا انه بعد دلالة الكل بالوضع حسب الفرض على الإحاطة والاستيعاب في الافراد ربما يستغنى به عن مقدمات الحكمة من جهة قيامه حينئذ مقامها ، حيث إنه بوروده على مفهوم العالم في قوله : أكرم كل عالم ، يثبت به ما يفي به مقدمات الحكمة من الاستيعاب لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد ، من دون احتياج معه إلى جهة زائدة من قرينة الحكمة أو غيرها.

نعم ما أفيد من الاحتياج إلى الحكمة انما يتم بالنسبة إلى النكرة الواقعة في حيز النهى أو النفي ، نظراً إلى عدم كون مفاد النفي في مثل قوله : لا رجل في الدار ، الا سلب النسبة ، وعدم كون مفاد المدخول أيضا على مسلك السلطان الا الطبيعة المهملة ، ولا مفاد الهيأة التركيبية الا ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول ، فيحتاج استفادة العموم حينئذ منه إلى قرينة الحكمة في المدخول لاثبات ان المدخول بنحو الارسال والاطلاق كان موردا للنفي.

وهكذا الكلام في الجمع المحلى باللام كقوله : أكرم العلماء ، حيث إن استفادة العموم بالنسبة إلى جميع الافراد في مثله منوطة بقرينة الحكمة ، من جهة ان القدر المستفاد من الهيأة العارضة على المادة ، وهي هيأة الجمع ، انما هو تقييد الطبيعي بما فوق الاثنين ، واما انه أي مرتبة من مراتب الجمع وانه الأربعة أو الخمسة أو العشرة أو العشرون أو غير ذلك من مراتب الجمع فيحتاج تعينها إلى قرينة ، ولو كانت هي مقدمات الحكمة ، فيرفع بها ما فيه من الابهام بالنسبة إلى تلك المراتب المختلفة آحادها ، وتعينه بأعلى المراتب وأقصاها التي لا تكون فوقها مرتبة ، وهذا بخلافه عند ورود لفظ الكل على الجمع كقوله : أكرم كل العلماء أو جميع العلماء ، حيث إنه بلفظ الكل أو الجميع يستغنى عن مقدمات الحكمة من جهة وفائه بما تفي به مقدمات الحكمة.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في المفرد المحلي باللام حيث إن استفادة العموم منه لابد وأن تكون بقرينة تقتضي كون المدخول فيه بنحو السريان في ضمن الافراد ، والا فمع قطع النظر عن القرينة الخارجية لايكاد يصح استفادة العموم

ص: 510

والسريان منه ، من جهة ان اللام فيه لاتقتضي حسب وضعها الا الإشارة إلى المدخول ، واما كونه بنحو السريان في ضمن الافراد فلا ، كما هو واضح.

ثم إن الظاهر هو اختلاف الألفاظ الحاكية وعدم كونها على وزان واحد من حيث حكاية بعضها عن نفس العموم والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم كما في لفظ العام بل ولفظ الكل بشهادة صحة استعمالها في مورد العموم الاستغراقي والمجموعي بلا عناية أصلا ، وحكاية بعضها عن الاستيعاب للافراد بملاحظة تعلق الحكم بها كما ( في الجميع ) الحاكي عن خصوصية الاستغراقية قبال ( المجموع ) الحاكي عن خصوصية المجموعية ، حيث إن مثل هذه الألفاظ كانت حاكية عن خصوصية الموضوعية المتأخرة رتبة عن الحكم وعن كيفية تعلق الحكم بالافراد ، نعم لايبعد دعوى ظهور لفظ الكل أيضا في الحكاية عن خصوصية الاستغراقية مضافا إلى حكايتها عن نفس العموم والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم ، حيث يستفاد من قوله : أكرم كل عالم ، استقلال كل واحد من الافراد في الموضوعية لحكم مستقل. واما أي فهو كما عرفت في قبال هذه الألفاظ يحكى عن العموم البدلي المحفوظ في مرتبة الذات السابقة عن الحكم.

ثم إن الكل يدخل على الفرد والجمع المنكرين والمعرفين كما في قولك : كل رجل وكل الرجل وكل رجال وكل الرجال ، فيفيد الاستغراق بحسب الافراد عند دخوله على المفرد والجمع المنكرين ، والاستغراق بحسب المرتبة في دخوله على المفرد والجمع المعرفين كقوله : كل العالم وكل العلماء ، ففي الأول يتحدد دائرة المدخول وهو الطبيعي من بين المراتب ، ويخرجه عما كان له من الابهام في المراتب ، ويعينه بأعلى المراتب التي لازمها الشمول لجميع الآحاد المندرجة تحتها ، كما كان ذلك أيضا على الثاني ، حيث إنه على ما عرفت يخرجه عما له من الابهام في المراتب ويعينه بأعلى مراتب الجمع وأقصى المصاديق التي لها التعين بالذات وتفيدها قرينة الحكمة ، ولازمه هو الشمول لجميع الآحاد المندرجة تحت المرتبة العليا.

واما الجميع والمجموع والتمام فهي انما تدخل على المفرد والجمع المحلى باللام ولا تدخل على غير المحلي باللام مفردا أو جمعا ، حيث لايقال : جميع رجل وجميع رجال ولا مجموع رجل ومجموع رجال ولا تمام رجل وتمام رجال ، بل وانما يقال ذلك في هذه الألفاظ

ص: 511

مع اللام وهو واضح.

الجهة الثالثة
اشارة

قد اختلف كلماتهم في حجية العام المخصص في الزائد عن المقدار المعلوم من التخصيص وعدم حجيته ، وتوضيح المقال يستدعى بيان اقسام صور التخصيص لكي يعلم ما هو محل الكلام وانه في أي قسم من اقسام فنقول :

اعلم أن صور التخصيص على أنحاء ، من جهة ان المخصص اما ان يكون متصلا أو منفصلا ، وعلى التقديرين تارة يكون مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما ، وأخرى مجملا بحسب المفهوم ، وثالثة يكون مبينا بحسب المفهوم دون المصداق ، ورابعة بعكس ذلك. ثم انه على تقدير الاجمال تارة يكون اجماله وتردده بين الأقل والأكثر ، وأخرى بين المتبائنين ، ثم المخصص أيضا تارة يكون لفظيا وأخرى لبيا ، فهذه اقسام صور التخصيص وأنحائه. وبعد ذلك نقول :

أما إذا كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق أيضا كقوله : أكرم جميعا العلماء أو كل عالم الا زيدا ، فلاينبغي الاشكال في حجية العام وجواز التمسك به في البقية ، وذلك اما على القول بوضع هذه الأسامي لاستيعاب افراد ما يراد من المدخول فظاهر ، فإنه عليه لا يلزم المجازية أيضا في العموم بمقتضي التخصيص ، حتى يقال بتردد الامر في المجازين بقية المراتب ولا تعين لمرتبة خاصة منها واما على القول الآخر من وضعها لاستيعاب المدخول لجميع ما يصلح للانطباق عليه من الافراد فكك أيضا ، من جهة ان قضية التخصيص بالمتصل حينئذ وان كان هو الكاسرية لظهوره في الاستيعاب في جميع المراتب ، فلايكون له ظهور معه مع الاستيعاب لجميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد ، ولكن نقول ببقاء ظهوره حينئذ على حاله بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر ، من جهة ان الخاص انما يمنع عن ظهور العام حينئذ بمقدار اقتضائه ، وهو لايكون الا المرتبة العالية ، واما غيرها من بقية المراتب فتبقى على حالها من الظهور الذي يقتضيه العام. ولا نعنى بذلك ان هناك ظهورات متعددة بحسب المراتب ، حتى يشكل بأنه كيف ذلك مع أنه لايكون للفظ واحد الا ظهور واحد وإرائة واحدة ،

ص: 512

ومع ارتفاعه بمقتضي احتفافه بالقرينة لايبقى له ظهور آخر في بقية المراتب ، بل وانما المقصود هو ان هذه الدلالة والظهور في استيعاب الافراد له مراتب عديدة وحدود كثيرة حسب التحليل العقلي ومن دون مدخلية لجهة الانضمام فيها ، وان القدر الذي يقتضيه القرينة المتصلة من الكاسرية لظهوره انما هو كسر صولة ظهوره بالنسبة إلى تلك المرتبة العالية لا مطلقا حتى بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر المندكة في ضمنها. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم مدخلية حيثية الانضمام في إرائته عن المراتب الاخر يتعين بقية المراتب الاخر بمقتضي ظهوره الوضعي أو الاطلاقي ، فهو نظير الخط الطويل الذي قطع منه قطعة من حيث بقاء البقية بعد على حالها ، على ما كانت عليها قبل قطع تلك القطعة ، وان كان قد تبدل حده بحد آخر أقصر من الحد الأول ، ونظيره المرآة التي وضعت لإرائة جماعة فوجد حائل في البين يمنع عن ارائتها لبعض منها ، من حيث بقاء ارائتها على حالها بالنسبة إلى البقية ، ففي المقام أيضا كك ، حيث إن لفظ الكل مثلا بمقتضي وضعه كان له الظهور في الاستيعاب بالنسبة إلى كل مرتبة مرتبة ولو في ضمن المرتبة العالية ، وبعد انعدام ظهوره في المرتبة العالية بمقتضي القرينة المتصلة يتحدد ظهوره بمرتبة أخرى دون تلك المرتبة ، لا انه ينعدم ظهوره من رأس حتى بالنسبة إلى بقية المراتب أيضا ، وعليه فبعد بقاء ظهوره في بقية المراتب فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في البقية فيما شك فيه في الخروج زائدا عن المقدار المتيقن ، من دون احتياج حينئذ إلى اثبات تعين الباقي من باب أقرب المجازات ، حتى يشكل بان المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي ليس هو الأقربية بحسب الكم والمقدار وانما هو بحسب زيادة الانس ، والا إلى اثباته أيضا من جهة اقتضاء عقد الاستثناء لذلك كما ادعى من دعوى ان الاستثناء ، كما تكون قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي ، كك تكون قرينة معينة لتعين ما دون المرتبة العالية من بين المراتب ، فان ذلك أيضا مبني على الالتزام بانعدام أصل الظهور بمجرد قيام القرينة المتصلة على العدم بالنسبة إلى المرتبة العالية ، وهو كما ترى مما لا وجه له.

ثم انه بعد ما عرفت من ظهور العام ، بعد التخصيص بالمتصل ، في البقية فلا يهمنا البحث في أن استعمال العام حينئذ هل كان من معناه الحقيقي وهو الشمول لتمام افراد المدخول أم لا؟ وان أمكن أيضا دعوى كونه على نحو الحقيقة ، بالفرق بين الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية ، بتقريب كونه مستعملا أيضا حينئذ في معناه الحقيقي ، وهو الشمول

ص: 513

لتمام افراد المدخول ، ولكنه في مقام الجد أريد منه ما عدا الفرد الخارج ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم الطريق لاثبات هذه الجهة ، كعدم الطريق أيضا لاثبات المجازية. واما أصالة الحقيقة فهي أيضا غير جارية ، لعدم ترتب اثر عملي عليها بعد العلم بعدم كون المراد الجدي هو المعنى ، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما.

واما لو كان مجملا بحسب المفهوم أو المصداق كقوله : أكرم العلماء الا الفساق منهم ، وتردد الفاسق من جهة الشبهة في المفهوم بين المرتكب للكبائر أو عمومه لمرتكب الصغائر أيضا ، أو من جهة الشبهة في المصداق بان تردد مصاديق الفاسق المبين المفهوم مثلا بين الخمسة والعشرة ، فلاينبغي الاشكال فيه أيضا في سقوط العام عن الحجية وعدم جواز التمسك به في المشتبه مفهوما أو مصداقا ، من دون فرق في ذلك بين ان يكون التردد والاجمال بين الأقل والأكثر كما في المثال المزبور ، أو بين المتبائنين كما في قوله : أكرم كل عالم الا زيدا ، مع تردد الخارج من جهة الشبهة في المفهوم بين زيد بن عمرو بين زيد بن بكر ، أو من جهة الشبهة في المصداق بين كونه هذا الشخص أو ذاك الشخص الآخر ولو مع تبين المفهوم فيه ، كما لو علم بان الخارج هو زيد بن عمرو ولكنه تردد بين كونه هذا الشخص أو ذاك الآخر ، حيث إنه في جميع هذه الصور لا مجال للتمسك بالعام في المشتبه. وعمدة الوجه في ذلك انما هو من جهة سراية اجمال المخصص حينئذ إلى عموم العام ، حيث إنه باتصاله به يوجب كسر صولة ظهوره في العموم وتحديد دائرته بمقدار اقتضائه ، وحينئذ فإذا فرض اجماله وتردده بين الأقل والأكثر أو المتبائنين فقهرا يسري اجماله إلى العام أيضا من جهة كونه من قبيل اتصاله بما يصلح للقرينية عليه ، ومعه فلا يبقى له ظهور حتى يتمسك به فيما يشك كونه من افراد المخصص. نعم لا بأس بالتمسك به بالنسبة إلى ما يعلم خروجه عن دائرة الخاص من الافراد الاخر ، فإذا شك في خروجها من جهة مخصص آخر يؤخذ بعموم العام بالنسبة إليها ، هذا كله فيما لو كان الخاص متصلا بالعام.

واما لو كان منفصلا عن العام ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة : فإذا كان الخاص مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما فالحكم فيه كما في الخاص المتصل المبين بحسب المفهوم والمصداق ، من حجية العام وجواز التمسك به في الباقي ، بل الحكم فيه أوضح من فرض

ص: 514

اتصال المخصص ، وذلك من جهة استقرار الظهور حينئذ للعام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف كما في الخاص المتصل ، حيث إن غاية ما يقتضيه التخصيص بالمنفصل انما هو المانعية عن حجية ظهوره المستقر في العموم لا عن أصل ظهوره ، وذلك بملاك أقوى الحجتين ، ومن ذلك ربما يقدم ظهور العام على ظهوره فيما لو كان العام أقوى ظهورا منه. وعلى ذلك فكان اللازم هو اتباع ظهوره في العموم في غير مورد قيام الحجة على الخلاف ، وهو واضح.

واما لو كان الخاص حينئذ مجملا بحسب المفهوم ، فان كان الاجمال والتردد بين الأقل والأكثر ، كما لو ورد انه يجب اكرام كل عالم ، وورد بدليل منفصل انه لايجب اكرام الفساق من العلماء ويحرم اكرامهم ، وتردد الفاسق من جهة اجمال المفهوم بين المرتكب للكبائر أو الصغاير أيضا ، ففي مثله يقتصر في الخروج عن العموم على المتيقن وهو المرتكب للكبائر ، واما بالنسبة إلى المرتكب للصغاير فيؤخذ بالعموم ، والسر فيه ، واضح ، حيث إنه بعد استقرار ظهور العام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف لابد من الاخذ بظهور العام في المقدار الزائد عن المتيقن من التخصيص ، من جهة رجوع الشك فيه حينئذ إلى الشك في أصل التخصيص ، فان رفع اليد عن أصالة العموم حينئذ مع فرض اجمال المخصص طرح للحجة المعتبرة بلا وجه ، هذا إذا كان الشك في خروج المشكوك وهو المرتكب للصغاير عن حكم العام ممحضا من جهة الشك في اندراجه تحت عنوان المخصص وهو الفاسق واقعا بحيث على تقدير عدم اندراجه تحته وفرض وضعه لخصوص المرتكب للكبائر يقطع بمشموليته لحكم العام.

واما لو لم يكن الشك فيه ممحضا بذلك بل كان مما يشك فيه في مشموليته لحكم العام ولو على تقدير خروجه عن تحت عنوان المخصص واقعا ، بحيث كان الشك في وجوب اكرامه من جهتين : تارة من جهة الشبهة الحكمية وانه على تقدير عدم كون المرتكب للصغاير مندرجا تحت عنوان الفاسق هل يشمله حكم العام أم لا بل كان خارجا أيضا عن حكمه ، وأخرى من جهة الشبهة المصداقية (1) وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم

ص: 515


1- مراده قدس سره بحسب الظاهر من الشبهة المصداقية هي الشبهة المفهومية في المخصص - كما يشهد به تفسيره لها بقوله وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم آه وحيث كان مرجع هذه الشبهة أن يشك في مصداقية المرتكب للصغيرة لعنوان الفاسق عبر عنه بالشبهة المصداقية وكيف كان فهو على خلاف الاصطلاح الشايع [ المصحح عفى عنه ].

لابل الفاسق بحسب وضعه موضوع لخصوص مرتكب الكبيرة؟ ففي مثله بالنسبة إلى الشبهة الحكمية وهي الشبهة من الجهة الأولى لا اشكال في الاخذ بالعموم ، نعم انما الكلام في جواز الاخذ به بالنسبة إلى الشبهة المصداقية ، وهي الشبهة من الجهة الثانية ، حيث إنه قد يشكل في جواز التمسك بالعام من هذه الجهة ، بتقريب ان الشبهة من تلك الجهة لما كانت في طول الشبهة من الجهة الأولى ، فمع تطبيق أصالة العموم من الجهة الأولى ورفع الشك به من جهة الكبرى لا مجال لتطبيقها ثانيا من الجهة الثانية لرفع الشك به من جهة الصغرى ، نظراً إلى أن الظهور الواحد لا يتحمل لتطبيقين طوليين ، وحينئذ فمع فرض تطبيقه على أصل الكبرى يستحيل تطبيقه ثانيا على الصغرى. وهذا بخلافه في فرض تمحض الشك بالجهة الثانية وفرض العلم باندراجه في العام على تقدير كون الفاسق هو خصوص المرتكب للكبيرة فإنه حينئذ كان لتطبيقه على تلك الجهة كمال مجال لأنه حينئذ لايحتاج إلى تطبيقه في كبرى المسألة حتى يتوجه الاشكال المزبور ، هذا ، ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور بما دفعناه به الاشكال المعروف في حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث إن الاشكال في المقامين واحد ، والجواب عنه أيضا واحد ، فراجع تلك المسألة وعليه فلا مجال للاشكال فيه من هذه الجهة فكان المتبع حينئذ هو أصالة العموم في غير مورد قيام الحجة الأقوى على الخلاف. هذا كله إذا كان اجمال المفهوم من جهة تردده بين الأقل والأكثر.

واما لو كان اجماله من جهة تردده بين المتبائنين ، ففي مثله يسقط العام عن الحجية بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين فلايكون بحجة في واحدة منهما ، وذلك فان العام حينئذ وان كان على ظهوره من دون سراية الاجمال إليه من الخاص المنفصل ، الا انه لما كان يساوى ظهوره بالنسبة إلى كل واحد من زيدين اللذين يعلم بخروج أحدهما عن تحته بمقتضي دليل المخصص ، لايكون بحجة فعلية في واحد منهما ، فيصير بحكم المجمل من حيث السقوط عن الحجية نعم لا بأس بالأخذ بالعموم بالنسبة إلى ما عدا الفرد الخارج ، وهو الفرد الآخر المعين في الواقع ، لكن بشرط ان يكون مما يحتمل دخوله في العام وخروجه عنه من جهة احتمال مخصص آخر لا نعلمه ، والا فمع العلم بدخوله تحت العام وعدم

ص: 516

مخصص آخر لا مجال لأصالة العموم بالنسبة إليه ، من جهة انتفاء الشك الذي به قوام جريان دليل التعبد بالظهور ، واما ثمرة ذلك فإنما هي دخول تلك الفرد الآخر باجراء أصالة العموم فيه في العلم الاجمالي ، فيحكم عليه بقواعده المقررة في محله.

نعم قد يتوهم جواز التمسك بأصالة العموم حينئذ بالنسبة إلى كل واحد من الفردين المعلوم خروج أحدهما بمقتضي الخاص المجمل ، في مورد كان مفاد دليل الخاص هو نفى الالزام ، كما لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام لكل واحد من العلماء وكان مفاد الخاص هو عدم وجوب الاكرام بالنسبة إلى زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، نظير جريان الأصلين المثبتين في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بنفي الالزام في أحدهما ، بتقريب ان مانعية العلم الاجمالي عن جريان الأصول في الطرفين انما هو من جهة استلزامها المخالفة العلمية للتكليف الفعلي المعلوم ، والا فالعلم الاجمالي بنفسه لايكاد يمنع عن جريان الأصول في الأطراف ، من جهة ما تقرر في محله من اختلاف المتعلق فيهما ، وكون المتعلق للعلم الاجمالي هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الفردين واحدي الخصوصيتين ، ومتعلق الشك هو كل واحد من العناوين التفصيلية ، وحينئذ فبعد ان فرض عدم استلزامه لمحذور العلمية في المقام فلا جرم يجري أصالة العموم بالنسبة إلى كل واحد من زيدين وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام كل واحد منهما ، كما كان هو الشأن أيضا في الأصلين المثبتين في مورد العلم الاجمالي بنفي التكليف.

ولكنه توهم فاسد نظراً إلى الفرق الواضح بين المقامين حيث إن الامارات باعتبار حجيتها في مداليلها الالتزامية يمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، بملاحظة انتهاء الامر فيها بهذه الجهة إلى التعارض كما في الخبرين القائمين أحدهما على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة والاخر على وجوب صلاة الظهر فيه ، مع العلم بعدم وجوب الصلاتين على المكلف. وهذا بخلافه في الأصول فإنها من جهة عدم حجية مثبتاتها لايكاد انتهاء الامر فيها من نفس جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلى التعارض كما في الامارات ، فمن ذلك لا بأس بجريانها والتعبد بها في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي عند عدم استلزامه للمخالفة العملية للتكليف المعلوم. هذا مما افاده الأستاذ في ابداء الفرق بين المقامين.

ولكن أقول : بأنه لايحتاج في المنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين إلى التشبث

ص: 517

بمسألة المدلول الالتزامي في الامارات ، إذ مع الغض عن ذلك كان المجال أيضا للمنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين ، وذلك انما هو بدعوى ان عدم جريان أصالة العموم في الطرفين انما هو من جهة منافاة العلم الاجمالي عقلا مع قضية طريقية الامارات وكاشفيتها عن الواقع ، من جهة انه مع العلم الاجمالي المزبور يقطع بمخالفة أحد الطريقين للواقع ، ومع هذا القطع يستحيل التعبد بهما في الطرفين للاستطراق إلى الواقع.

وهذا بخلافه في الأصول فان حجيتها لما لم تكن من باب الطريقية والكاشفية عن الواقع ، بل من باب التعبد المحض في ظرف الجهل واستتار الواقع ، فأمكن حينئذ التعبد بها في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بالخلاف ما لم يلزم من جريانها المخالفة العملية للتكليف المعلوم في البين ، فتدبر. هذا كله فيما لو كان الخاص مجملا بحسب المفهوم

واما لو كان اجماله بحسب المصداق مع تردده بين الأقل والأكثر ففي جواز التمسك بالعام فيما يحتمل كونه من افراد الخاص وعدم جوازه خلاف بين الاعلام ، والأول وهو الجواز هو المنسوب إلى المشهور من قدماء الأصحاب ، وربما فصل بين المخصص اللفظي واللبي بالجواز في الثاني دون الأول ولعله هو المشهور بين المتأخرين. ولكن التحقيق كما ستعرف هو عدم الجواز مطلقا.

ثم إن غاية ما قيل في تقريب القول بالجواز هو دعوى وجود المقتضي وعدم المانع عنه.

اما الأول فمن جهة شمول العام وانطباقه على المشكوك نظراً إلى استقراره ظهوره وعدم انثلامه بالتخصيص بالمنفصل.

واما الثاني فمن جهة ان ما نعيه الخاص ومزاحمته للعام انما كانت بمقدار حجيته ، وحينئذ فإذا فرض عدم حجيته الا بالنسبة إلى ما علم كونه من افراده ومصاديقه دونه بالنسبة إلى ما شك كونه من افراده ، فقهرا فيما اشتبه كونه من افراده يرجع إلى العموم فيحكم عليه بحكمه لعدم قيام حجة فيه على خلافه.

وقد أورد عليه بان العام وان لم يرتفع ظهوره في العموم بواسطة الخاص المنفصل ، ولا كان الخاص أيضا حجة فيما اشتبه كونه من افراده ، فلايكون خطاب لاتكرم الفساق دليلا على حرمة اكرام من شك في فسقه من العلماء من جهة الشك في أصل تطبيقه على المشكوك الا ان عدم جواز الاخذ بالعام حينئذ انما كان من جهة اقتضاء قضية التخصيص حتى في المنفصل لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية تحت

ص: 518

العام الموجب لانقلاب العنوان المأخوذ في العام وهو العالم مثلا في قوله : أكرم كل عالم ، عن كونه تمام الموضوع لوجوب الاكرام إلى كونه جزء الموضوع ، من جهة صيرورة الموضوع حينئذ بعد ورود الدليل على حرمة اكرام الفساق من العلماء عبارة عن العالم المقيد بكونه عادلا أو غير فاسق ، ومن الواضح على ذلك عدم جواز التمسك بالعموم في المشتبه كونه من افراد الخاص ، لأن الشك في كونه من افراد الفساق يلازم الشك في ذلك العنوان الايجابي أو السلبي المأخوذ في موضوع حكم العام ، ومع هذا الشك فلايكاد يصح التمسك فيه بالعام ، من جهة كونه من التمسك بالعام مع الشك في أصل تطبيق عنوان العام على المورد هذا.

ولكن فيه منع اقتضاء التخصيص كالتقييد لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام ، وقياسه بباب التقييد والاشتراط الموجب لتعنون الموضوع بوصف وجودي أم عدمي مع الفارق جدا ، فان شأن التخصيص سواء في المتصل أو المنفصل في قوله : أكرم العلماء الا زيدا أو عمرا ، مثلا انما هو مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام وتخصيصه بالافراد الباقية ، من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بل هذه الافراد الباقية بعد التخصيص كانت على ما كانت عليها قبل التخصيص في الموضوعية للحكم العام بخصوصياتها الذاتية ، فهو أي التخصيص في الحقيقة بمنزلة انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه ، فكما ان خروج من مات منها لايوجب تعنون الافراد الباقية بعنوان وجودي أو سلبي بل كانت الافراد الباقية على ما هي عليها قبل خروج من خرج بالموت من كونها تمام الموضوع للحكم ، كك أيضا في التخصيص فلايوجب ذلك أيضا احداث عنوان سلبي أو ايجابي في الافراد الباقية ولا تغيرا فيها في موضوعيتها للحكم بالانقلاب عن كونها تمام الموضوع إلى جزئه ، ومجرد اختصاص حكم العام حينئذ في قوله : أكرم العلماء ، بعد التخصيص ، بغير دائرة الخاص من بقية الافراد أو الأصناف لايكون من جهة تعنوان الافراد الباقية بعنوان خاص في مقام موضوعيتها للحكم ، بل وانما ذلك من جهة ما في نفس الحكم من القصور الناشي من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة عن الشمول ثبوتا لغير الافراد الباقية ، وهذا بخلافه في باب التقييد والاشتراط ، حيث إن قضية التقييد بشيء تعنون موضوع الحكم بوصف وجودي أم عدمي غير حاصل قبل توصيفه به ، كما في قوله : أكرم العالم وقوله أعتق الرقبة ، حيث إنه بورود دليل

ص: 519

التقييد بكونها مؤمنة ينقلب الذات عن كونها تمام الموضوع إلى جزء الموضوع ، فيصير الموضوع عبارة عن الرقبة المقيدة بالايمان ، بنحو خروج القيد ودخول التقيد.

وبالجملة فرق واضح بين باب التخصيص والتقييد حيث إنه في الأول لايكاد يكون قضية التخصيص الا مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن دائرة موضوع العام الموجب لحصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لتغيير في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بخلاف الثاني حيث إن شأن دليل التقييد والاشتراط انما هو توصيف الموضوع بوصف خاص وجودي أم عدمي ، وبذلك يوجب اخراجه عما عليه قبل التقييد من التمامية في الموضوع إلى جزئه ، وعليه فنقول بأنه لا مجال بعد هذا الفرق لمقايسة أحد البابين بالآخر بوجه أصلا.

ثم انه مما يشهد لما ذكرنا من الفرق بين البابين اطباقهم على عدم التمسك بدليل المطلق في موارد الشك في مصداق القيد ، كالشك في طهارة الماء واطلاقه ، حيث لم يتوهم أحد جواز التمسك حينئذ باطلاق ما دل على جواز التوضي بالماء لاثبات جواز الوضوء بما شك في طهارته أو اطلاقه ، بخلاف موارد الشك في مصداق المخصص في العام ، حيث إن فيها خلافا بين الاعلام بل المشهور من القدماء كما قيل على جواز التمسك بالعام. ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا ما أشرنا إليه من الفرق بين البابين ، والا فلو كان مرجع التخصيص أيضا كالتقييد إلى احداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام لما كان وجه لاختلافهم في جواز الرجوع إلى العام في المقام مع اطباقهم على عدم جواز الرجوع إلى دليل المطلق عند الشك في مصداق القيد ، كما لايخفى.

ثم إن هذا كله في بيان الفرق بين كبرى البابين بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات واستظهار انه أي مورد من باب التخصيص وأي مورد من باب التقييد والاشتراط فلابد في استفادة أحد الامرين من المراجعة إلى كيفية السنة الأدلة. وفي مثله نقول : بان ما كان منها بلسان الاستثناء كقوله : أكرم العلماء الا زيدا ، فلا اشكال في أنه من باب التخصيص حيث إنه لا يستفاد من نحو هذا اللسان أزيد من تكفله لاخراج زيد عن العموم المزبور وحصر حكم العام بما عدا زيد من الافراد الاخر ، كما أن ما كان منها بلسان الاشتراط كقوله : يشترط ان يكون كذا وان لايكون كذا ، أو بلسان نفى الحقيقة عند فقدان امر كذائي كقوله : لا صلاة الا بطهور ولا رهن الا مبغوضا ، فلا اشكال أيضا

ص: 520

في كونها من باب التقييد ، واما ما كان منها بلسان لاتكرم الفساق من العلماء أو لايجب اكرام الفساق منهم كما هو الغالب في التخصيصات بالمنفصل فهو قابل لكلا الامرين حيث يصلح لان يكون من باب التقييد ، فيقيد به العنوان المأخوذ في العام في قوله : أكرم العلماء ، بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، كصلاحيته أيضا لان يكون من باب التخصيص الغير الواجب الا لحصر الحكم في قوله : أكرم العلماء بما عدا الفساق من الافراد الاخر ، من دون اقتضائه لتعنون الافراد الباقية بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، وان كانوا في الواقع ملازمين مع العدالة قهرا ، وحينئذ فقد يقال في مثله بدوران الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين اما ظهور عنوان الموضوع في الاطلاق واما ظهور العام في العموم ، وان المتعين في مثله هو رفع اليد عن ظهوره في الاطلاق مع الاخذ بظهوره في العموم بالنسبة إلى كل فرد من افراد العالم ، ولا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون النتيجة حينئذ كالتقييد في عدم جواز التمسك بالعام عند الشك في مصداق المخصص. ولكنه مدفوع بمنع الدوران بينهما ، فإنه بعد القطع بخروج افراد الفساق عن دائرة حكم العام ، وهو وجوب الاكرام ، اما رأسا على التخصيص واما من جهة انتفاء القيد على التقييد ، فلا جرم لايترتب اثر عملي على أصالة العموم بالنسبة إليهم ، حتى يجري العموم بلحاظه ، ومعه فلا مجرى لأصالة العموم بالنسبة إلى كل فرد من العلماء حتى الفساق منهم ، وحينئذ فمع عدم جريان أصالة العموم وسقوطها عن الحجية فقهرا تبقى أصالة الاطلاق فيه بلا معارض ، ونتيجة ذلك قهرا هو التخصيص لا غير ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فبعد ما اتضح وجه الفرق بين باب التخصيص وبين باب التقييد والاشتراط بحسب الكبرى ، وكون التخصيص من قبيل انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه في عدم اقتضائه لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية لكي ينقلب عن كونها تمام الموضوع للحكم إلى جزئه ، ظهر لك عدم صحة ما أفيد من التقريب المزبور في وجه عدم جواز التمسك بالعام في المشتبه كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، من دعوى عدم الجزم بانطباق عنوان الموضوع بعد تقييده على المورد ، نظراً إلى الشك الوجداني حينئذ في جزئه الآخر وعدم صلاحية أصالة العموم لاحراز ذلك الجزء المشكوك ، إذ نقول بان هذا التقريب يتم في فرض ان يكون التخصيص أيضا كالتقييد موجبا لتعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي ، والا فعلى ما عرفت من الفرق

ص: 521

بين البابين لايكاد مجال لهذا الاشكال أصلا ، حيث إنه بعد عدم انقلاب عنوان العام عن كونه تمام الموضوع للحكم إلى جزء الموضوع فلا جرم أصل تطبيق العنوان على المورد عند الشك جزميا ، وفي مثله يتجه الاستدلال المزبور للقول بالجواز ، بتقريب انه بعد الجزم بانطباق عنوان العام على المورد واحتمال مطابقة ظهوره للواقع في الزائد عن الافراد المعلومة الفسق ، ولو من جهة احتمال كونهم عدولا ، يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، فان المدار في التعبد بالظهور انما هو على مجرد احتمال مطابقة الظهور للواقع ، وحينئذ فكما انه عند احتمال مطابقة الظهور للواقع في زيد العالم المشكوك فسقه وعدالته من جهة الشبهة الحكمية واحتمال خروج الفساق الداخل فيهم زيد على تقدير فسقه عن تحت حكم العام لأجل مخصص خارجي لايعلمه المكلف تجري أصالة الظهور ، وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام زيد المشكوك فسقه وعدالته ، كك الامر فيما لو كان احتمال مطابقة الظهور للواقع من جهة الشبهة المصداقية واحتمال كون المشتبه عادلا في الواقع ، فإنه في مثله أيضا يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف. نعم في المقام بالنسبة إلى الشبهة الحكمية لما قام حجة أقوى على الخلاف يرفع اليد عن حجية ظهوره ، واما بالنسبة إلى الشبهة المصداقية فحيث انه لم يعلم بمخالفة ظهوره للواقع من جهة احتمال كون المشتبه عدلا ولم تقم حجة أيضا على الخلاف من جهة فرض الشك في انطباق دليل الخاص على المورد فيؤخذ بظهوره ويحكم عليه بحكمه.

واما توهم اختصاص حجية الظهور بما لو كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية ، بدعوى ان الرجوع إلى أصالة الظهور انما هو في الشبهات التي كان رفعها وازالتها من شأن المتكلم دون غيرها مما ليس من شأن المتكلم ازالتها ، وبذلك ينحصر حجية الظهور في موارد الشبهات الحكمية ، لأنها هي التي كان إزالة الشبهة فيها من وظائف المتكلم ، ولا تعم الشبهات المصداقية ، نظراً إلى عدم كون مثل هذه الشكوك مما ازالتها من شأن المتكلم حتى يصح الرجوع إلى الظهور في رفع الشبهة فيها ، فمدفوع بأنه وان كان الامر كك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية على التفصيل ، ولكنه لا مانع من جعل امارة كلية لتميز الموارد وتشخيص حكم الصغريات ، فان ذلك أيضا من شأن الشارع ووظائفه ، كما في موارد اليد والبينة والسوق وغيرها.

وبالجملة نقول بان ما أفيد من عدم كون إزالة الشبهة في الصغريات

ص: 522

من شأن الشارع ووظائفه ، ان أريد ذلك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية بنحو التفصيل فهو مسلم ، ولكنه لا ينتج المطلوب من سقوط أصالة الظهور عن الحجية في الشبهات المصداقية ، من جهة عدم كون أصالة الظهور من هذا القبيل ، وانما هي من قبيل جعل امارة كلية لتشخيص الصغريات وان أريد به خروج الشبهات الموضوعية كلية على الاطلاق عن موارد التمسك بالظهور ، بدعوى عدم كون إزالة الاشتباه فيها من شأن الشارع ووظائفه على الاطلاق ، ولو بنصب امارة كلية عليها للمكلف لكي يرجع إليها عند جهله وتحيره فهو ممنوع جدا بشهادة جعل البينة واليد والسوق ونحوها حجة عند اشتباه الموارد في الموضوعات ، وعليه نقول : بان من الامارات الكلية أيضا لتميز الوارد وتشخيص حكم الصغريات عند الجهل والاشتباه أصالة العموم ، فمتى تحتمل مطابقتها للواقع ولو من جهة الشبهة في المصداق ، ولم تقم حجة أقوى على خلافها يجب التعبد بظهوره والغاء احتمال الخلاف ، هذا.

ولكن مع ذلك فالتحقيق في المقام هو عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، إذ نقول : بان ما ذكر من التقريب المزبور للجواز مبنى على أن يكون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصورية المحضة التي هي عبارة عن مجرد تبادر المعنى وانسباقه إلى الذهن من اللفظ عند سماعه الناشي من جهة العلم بالوضع المجامعة مع القطع بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة والجد بالمراد أيضا ، كما في الألفاظ الصادرة عن الساهي والنائم ، حيث إنه مع القطع بعدم كون الألفاظ في مقام الإفادة والجد بالمراد يتبادر المعنى وينسبق إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ ، فعلى هذا المسلك يتجه التقريب المزبور للجواز من جهة تحقق موضوع الحجية وهو الظهور التصوري مع احتمال المطابقة للواقع ، والا فعلى ما هو التحقيق من كون مدارا الحجية في أصالة الظهور على الدلالة التصديقية والكشف النوعي عن المراد فلايكون مجال لدعوى حجية أصالة العموم والظهور الا في موارد الشبهات الحكمية الناشئة من جهة احتمال مخالفة الظهور للواقع من جهة الشك في أصل التخصيص واصل القرينية ، والوجه فيه واضح بعد معلومية تبعية حصول التصديق بالمراد من اللفظ قطعا أو ظنا لاحراز كون المتكلم بكلامه في مقام الإفادة ومقام الجد بالمرام المتوقف ذلك على التفاته بجهات مرامه وخصوصياته ، إذ حينئذ يختص حصول التصديق النوعي بالمراد من اللفظ بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم

ص: 523

بجهات مرامه وخصوصياته ، فيختص ذلك حينئذ بخصوص ما كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة في الحكم الراجعة إلى الشك في التوسعة وتضييق دائرة مراد المتكلم. واما فيما عدا ذلك من موارد كون الشك في المخالفة من جهة الشك في مصداق المخصص فحيثما لايكون هناك غلبة نوعية فيها على التفات المتكلم ، بل ربما كان الامر بالعكس من حيث كون الغالب هو غفلة المتكلم وجهله بالحال ، بشهادة ما نرى من وقوع التردد والاشتباه كثيرا للمتكلم في تطبيق مرامه على الصغريات ، فلايكاد حصول التصديق النوعي بالمراد حتى يكون مشمولا لدليل التعبد ، فتكون نتيجته جواز الرجوع إلى العام في الشبهات المصداقية للمخصص ، بل ولو قلنا بان مدار الحجية في الظهورات على الظهور الفعلي والدلالة التصديقية الفعلية كان الامر في عدم جواز التمسك بأصالة العموم عند الشك في مصداق المخصص أظهر ، من جهة وضوح انتفاء الدلالة والتصديق الفعلي بالمراد مع تلك الغلبة النوعية على غفلة المتكلم وعدم التفاته في مقام التطبيق على الصغريات ، وان كان أصل المبني مما يبعد الالتزام به ، من جهة ما يلزمه من عدم حجية الظهورات في موارد قيام الظن الفعلي الغير المعتبر على الخلاف ، وهو مما لايمكن الالتزام به.

وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة بان حجية أصالة العموم ونحوها هل هي من باب الظهور التصوري المساوق لتبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن المجامع ولو مع الجزم بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة ومقام الجد بالمراد الواقعي ، أو انه من باب الظهور التصديقي المفيد للظن بالمراد ولو نوعا وان لم يفده فعلا لمانع خارجي؟ وذلك بعد القطع بعدم كونه من جهة التعبد المحض ، بشهادة بنائهم على عدم حجية الظهورات مع الاتصال بما يصلح للقرينية ، بل ولا من باب الظن الفعلي بالمراد كما عليه بعضهم ، بشهادة ما عرفت من بنائهم على عدم اضرار قيام الظن الغير المعتبر على الخلاف.

فعلى الأول من كون مدار الحجية على الظهور التصوري المساوق لانسباق المعنى إلى الذهن ، فلا محيص كما عرفت من القول بجواز التمسك بالعام فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، نظراً إلى وجود المقتضي حينئذ للحجية وعدم المانع عنها ، حيث إنه بعد انطباق عنوان العام على المورد وعدم قيام حجة على الخلاف ، نظراً إلى فرض عدم حجية الخاص بالنسبة إليه بلحاظ الشك في انطباق عنوانه عليه ، فلا جرم

ص: 524

يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أو لبيا.

واما على الثاني : فلازمه كما عرفت هو المصير إلى عدم الجواز من جهة ما عرفت من اختصاص هذا المعنى أي إفادة الظهور للتصديق النوعي بالمراد بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم وعدم غفلته عن جهات مرامه الملازم ذلك للاختصاص بما إذا كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية الراجع إلى الشك في التوسعة والتضييق في دائرة المراد الواقعي في كبرى الحكم ، دون ما لو كان الشك في المخالفة والمطابقة من جهة الشبهة الموضوعية الراجعة إلى الشك في تطبيق الكبرى وما هو المراد الواقعي على المصاديق والصغريات ، وذلك من جهة انتفاء تلك الغلبة النوعية في هذا المقام ، لوضوح انه لا غلبة نوعية على التفات المتكلم بتطبيق مرامه على المصاديق والصغريات لولا دعوى كون الغلبة بالعكس ، على ما نرى ونشاهد بالوجدان من غفلة المتكلم وجهله وتردده كثيرا في تطبيق ما هو المرام على المصاديق والصغريات ، إذ حينئذ لايكون مجال لدعوى جواز الاخذ بأصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، حيث إنه لايكون اللفظ ظهور تصديقي ودلالة تصديقية ولو نوعية بالنسبة إلى الصغريات ومقام التطبيق على المصاديق ، حتى يشمله دليل التعبد من هذه الجهة ، ففي الحقيقة عدم حجية أصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص كان من جهة عدم المقتضي للتعبد ، وهو الظهور التصديقي ، لا من جهة وجود المانع ، حتى يدفع بان دليل المخصص لما كان تطبيقه على المورد مشكوكا لايكون له صلاحية للمانعية عن التمسك بالعموم ، ولئن شئت قلت بان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية انما هو من جهة الشك في انطباق عنوان العام بما هو حجة على المورد ، حيث إنه بعد اقتضاء الدليل المخرج لقصر حكم العام في قوله : أكرم العلماء على ما عدا الفساق مثلا ، فقهرا عند الشك في كون المورد من مصاديق الفساق الخارج عن دائرة موضوع حكم العام يشك في انطباق ما هو المراد الواقعي على المورد ، وفي مثله لايبقى مجال لتوهم جواز الرجوع إلى العام في المشتبه كما هو واضح.

وحيث إن التحقيق في المسألة كما حقق في محله هو الثاني من كون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية المساوقة لانسباق المعنى إلى

ص: 525

الذهن ، فلا جرم كان الأقوى هو عدم جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، بل وكك الامر فيما لو شك في ذلك ولم يحرز من طريقة العقلاء ان مدار الحجية على الظهور التصوري أو الظهور التصديقي ، حيث إنه بعد ما لم يكن في البين اطلاق لفظي ، نظراً إلى كون الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء ، فلابد من الاخذ بما هو الأخص وهو الدلالة التصديقية المعبر عنها بالظهور النوعي ، من جهة كونه هو القدر المتيقن من بناء العقلاء على الاخذ بالظهورات.

ومقتضاه كما عرفت هو لزوم المصير إلى عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أم لبيا ، لان مناط عدم الجواز انما هو انتفاء الدلالة التصديقية ، وعليه لا يفرق بين كون الخاص لفظيا أم لبيا ، كما أنه على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور أيضا لا يفرق بين لفظية المخصص ولبيته ، من جهة ما عرفت من جواز التمسك بالعام على هذا المسلك ولو مع كون المخصص لفظيا. وحينئذ فالتفصيل بين فرض كون المخصص لفظيا وبين كونه لبيا كما عن بعض ساقط على كل حال. بل اللازم على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور هو المصير إلى الجواز مطلقا حتى في المخصص اللفظي ، كما أن اللازم على المسلك الثاني هو المصير إلى عدم الجواز كك حتى في المخصص اللبي.

ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة التشبث بقاعدة المقتضي والمانع لاثبات حكم العام في المشكوك ، بتقريب ان العام المنفصل عنه المخصص من جهة ظهوره واستقرار دلالته النوعية على المراد كان فيه اقتضاء الحجية وان الخاص المنفصل انما كان يزاحم حجيته في مقدار دلالته لا أصل ظهوره وحينئذ فعند الشك في فرد في كونه من مصاديق الخاص وعدمه يؤل إلى الشك في جود المزاحم وعدمه مع القطع بوجود المقتضي للحجية ، وهو الظهور ، وفي مثله لابد بحكم العقل من الجري على طبق المقتضي إلى أن يظهر الخلاف ، كما كان هو الشأن أيضا في كل واجب احتمل مزاحمته مع أهم منه كالصلاة والإزالة مثلا ، فكما انه هناك لا يعتنى باحتمال وجود المزاحم بل يجري على طبق المهم ويحكم بوجوب الاتيان به كك في المقام أيضا ، ففي المقام أيضا كان المقتضي للحجية وهو الظهور والدلالة النوعية متحققا وانما الشك في وجود المزاحم بالنسبة إلى المشكوك ، فلابد من الجري على طبق المقتضي والحكم على المشكوك بحكم

ص: 526

العام إلى أن ينكشف الخلاف ، حيث لا فرق بين المقامين ، غير أن المزاحمة هناك كانت في الحكم الفرعي وفى المقام في الحكم الأصولي وفي مرحلة الحجية.

وجه الفساد يظهر مما عرفت من المسلكين في وجه حجية أصالة الظهور ، إذ نقول : بأنه على المسلك الأول من كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية فان المقتضي للحجية وهو الظهور وان كان متحققا ، ولكنه بعد عدم حجية الخاص في المشكوك من جهة الشك في انطباق عنوانه عليه يقطع بعدم المزاحم له ، ومع القطع بعدم المزاحم لايكاد ينتهى النوبة إلى القاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما على المسلك الثاني من عدم كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية واحتياجها إلى الظهور التصديقي ولو نوعا فلاتحقق للمقتضي حينئذ حتى ينتهى الامر إلى القاعدة ، من جهة ما عرفت من أنه لايكون حينئذ للعام ظهور ودلالة تصديقية بالنسبة إلى مقام التطبيق على المصاديق والصغريات حتى يشملها دليل التعبد والحجية ، فعلى كل من المسلكين لا مجال للقاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى.

تنبيه

لايخفى عليك ان المرجع بعد سقوط العام عن الحجية فيما شك كونه من مصاديق الخاص لفظيا أو لبيا انما هو الأصول العملية وحينئذ لو كان هناك أصل حكمي من استصحاب وجوب أو حرمة ونحوه فلا اشكال ، واما الأصل الموضوعي فيبتنى جريانه على ما تقدم من المسلكين في التخصيصات من أن قضية التخصيص هل هي كالتقييد في اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في الافراد الباقية بعد التخصيص الموجب لتقيد موضوع الحكم في نحو قوله : أكرم كل عالم ، بالعالم العادل أو العالم الغير الفاسق ، أم لا؟ بل وان قضيته مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام الموجب لقصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في موضوع حكم العام في الافراد أو الأصناف الباقية ، وان فرض ملازمة تلك الافراد الباقية بعد خروج الفساق مثلا من باب الاتفاق مع العدالة أو عدم الفسق.

فعلى المسلك الأول لا بأس بجريان الأصل الموضوعي في المشتبه حيث يجرز به كونه من افراد العام ، فيحكم عليه بحكمه بعد احراز جزئه الآخر وهو العالمية بالوجدان ، نظير

ص: 527

سائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالأصل وبعضها بالوجدان ، ففي المقام أيضا إذا جرى استصحاب العدالة أو عدم الفسق في الفرد المشكوك فبانضمام الاحراز الوجداني للجزء الآخر وهو العالمية يحرز ما هو موضوع حكم العام وهو العالم العادل أو العالم الذي لم يكن فاسقا فيحكم عليه بحكمه.

واما على المسلك الثاني الذي هو المختار فلا مجال لجريان الأصل الموضوعي المزبور من جهة عدم ترتب اثر شرعي عليه حينئذ فإنه على هذا المسلك لايكون لمثل هذه العناوين دخل في موضوع الحكم والأثر ولو على نحو القيدية حتى يجري فيها استصحابها ، بل وانما موضوع الأثر حينئذ عبارة عن ذوات تلك الافراد الباقية بخصوصياتها الذاتية من دون طرو لون عليها من قبل دليل المخصص ، غاية الامر هو اقتضاء خروج افراد الفساق مثلا لملازمة الافراد الباقية بعد التخصيص عقلا مع العدالة أو عدم الفسق ، ومن المعلوم في مثله حينئذ عدم اجداء قضية استصحاب العدالة أو عدم الفسق للمشكوك لاثبات كونه من الافراد الباقية الملازمة مع عدم الفسق ، الا على القول بالمثبت ، وحينئذ فعلى هذا المسلك لابد من الرجوع في المشكوك إلى الأصول الحكمية الجارية فيه من استصحاب وجوب أو حرمة أو غيرهما ، والا فلا مجال للتشبث بالأصول الموضوعية لاندراج المشكوك فيه من موضوع العام والحكم عليه بحكمه نعم لو كان مفاد الدليل الخاص نقيضا لحكم العام كما لو كان مفاد العام وجوب اكرام العلماء وكان مفاد الخاص عدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ففي مثله أمكن اثبات وجوب الاكرام الذي هو حكم العام بمقتضي استصحاب عدم الفسق ، من جهة انه باستصحابه يترتب عليه نقيض اللا وجوب الذي هو عبارة عن وجوب الاكرام. وهذا بخلافه في فرض كون مفاد الخاص عبارة عن حرمة الاكرام التي هي ضد لحكم العام ، حيث إنه في مثله لايكاد يمكن اثبات وجوب الاكرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق لان غاية ما يقتضيه الأصل المزبور حينئذ انما هو عدم حرمة اكرام الفرد المشكوك لا وجوب اكرامه الا على النحو المثبت كما هو واضح.

بقى الكلام في جواز التمسك بعموم العام لاخراج ما شك في كونه من مصاديق العام عن تحت العام مع القطع بخروجه عن حكمه وعدم جوازه واختصاصه بما لو كان الشك في خروج فرد عن حكم العام بعد القطع بفرديته له ، حيث إن فيه خلافا بين الاعلام ،

ص: 528

ولكن التحقيق هو عدم الجواز ، نظراً إلى أنه لايكون لنا دليل لفظي على الحجية حتى يصح الاخذ باطلاقه في مثل المقام ، حيث إن العمدة في الباب انما هي السيرة وبناء العقلاء ، وبعد عدم العلم باستقرار بنائهم على حجية أصالة العموم في مثل المقام لابد من الاقتصار على ما هو المتيقن منها ، وهو لايكون الا في موارد الشك في خروج ما هو من افراد العام ومصاديقه قطعا عن حكم العام ، ومن العجب ان صاحب الكفاية قدس سره مع اشكاله في المقام (1) ومنعه عن جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد العام بمنع قيام السيرة على التمسك بأصالة العموم مطلقا تمسك به في مسألة الصحيح والأعم (2) حيث استدل لاثبات الوضع لخصوص الصحيح بعموم الدلالة المثبتة للآثار من نحو قوله علیه السلام : الصلاة معراج المؤمن ، وانها قربان كل تقي ، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، بتقريب دلالتها بعكس النقيض على أن كل ما لايكون معراج المؤمن وناهيا عن الفحشاء والمنكر فليس بصلاة ، فراجع. وعلى كل حال فالتحقيق في المسألة كما عرفت هو ما افاده قدس سره في المقام من عدم الحجية الا في موارد الشك في الخروج عن العام حكما مع اليقين بدخوله فيه موضوعا.

الجهة الرابعة

لا اشكال في عدم الاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بعد الفحص التام عن المخصص والمقيد واليأس عن الظفر بهما والوجه في ذلك أمران : أحدهما : وهو العمدة حيث المعرضية للتخصيص ، كما هو كذلك في العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، فإنه لابد حينئذ في كل عام من الفحص التام عن مخصصاته بحيث يخرج المورد عن المعرضية للتخصيص وتطمئن النفس بأنه غير مخصص ، بل ذلك غير مختص بباب العمومات والمطلقات فيجري في كل ظاهر كان في معرض إرادة خلافه بإقامة القرينة على الخلاف ، كما في الظواهر الصادرة عن المعصومين علیهم السلام ، ففيها أيضا لابد من الفحص التام

ص: 529


1- ج 1 ص 350.
2- ج 1 ص 45.

عن القرينة بمقدار يخرج المورد عن المعرضية لإرادة الخلاف ، والا فقبل الفحص لايجوز الاخذ بها ، لعدم قيام السيرة على الحجية حينئذ قبل الخروج عن المعرضية ، ولدليل ( هلا تعلمت )؟ (1) المقتضي لعدم معذورية المكلف التارك للفحص.

وثانيهما : من جهة العلم الاجمالي بتقريب انه يعلم اجمالا بورود مخصصات كثيرة فيما بأيدينا من الاخبار لهذه العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، فيجب الفحص حينئذ عن مخصصات تلك العمومات بمقتضى العلم الاجمالي المزبور. ولكن يرد عليه ان لازم ذلك هو جواز الرجوع إلى العمومات الباقية بعد الظفر بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه نظراً إلى صيرورة الشك في البقية حينئذ بدويا ، كما أن لازمه أيضا في فرض عدم الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال هو عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص التام عن مخصصاتها من جهة بقاء المانع وهو العلم الاجمالي حينئذ على حاله ، مع أنهما كما ترى لايكاد يلتزمون بشيء منهما ، فان ظاهرهم هو وجوب الفحص عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد من العمومات ، مع تخصيص المنع عن الاخذ بالعمومات بما قبل الفحص عن المخصص ، وحينئذ فالأولى في التشبث بهذا التقريب لاثبات المدعى وهو وجوب الفحص والمنع عن الاخذ بالعمومات الا بعد الفحص التام عن مخصصاتها هو تقييد العلم الاجمالي المزبور بقيد خاص وهو كون المخصص المعلوم بالاجمالي على نحو لو تفحصنا عنه لظفرنا به ، بدعوى ان العلم الاجمالي وان كان بمخصصات كثيرة لتلك العمومات فيما بأيدينا من الاخبار ، ولكنه لا على نحو الاطلاق بل على نحو لو تفحصنا عنها بالمقدار المتعارف فيما بأيدينا من كتب الاخبار لظفرنا بها ، فإنه على هذا التقريب يتم المدعى ويسلم عن الاشكال المزبور ، من جهة ان عدم الظفر بالمخصص على هذا التقريب بالفحص يكشف عن خروج العام المتفحص عنه من الأول عن الطرفية للعلم الاجمالي ، وحينئذ فلابد على هذا التقريب أولا من الفحص التام عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد من العمومات حتى يظفر بالمخصص أو يخرج بواسطة الفحص وعدم الظفر عن الطرفية للعلم الاجمالي ، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه.

ولكن أقول : بأنه غير خفى عدم اجداء مثل هذا التقريب أيضا لدفع الاشكال الأول

ص: 530


1- البحار ج 1 ص 177 ح 58.

وهو لزوم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص مع الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال من المخصصات ، وذلك من جهة وضوح ان المعلوم بالاجمال بعد ما كان محدودا كمه ومقداره بالضرورة بحد خاص لا يتجاوز عنه كما في كلية الأقل والأكثر ، فلا جرم الظفر بذلك المقدار يوجب قهرا ارتفاع العلم الاجمالي من البين وصيرورة الشك في الزايد بدويا ، ومعه يلزم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص ، نعم انما يجدي هذا التقريب لدفع الاشكال الثاني وهو لزوم عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص عند عدم الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال ، والا فهو غير دافع للاشكال الأول ، وحينئذ فالعمدة في اثبات وجوب الفحص على الاطلاق والمنع عن الرجوع إلى أصالة العموم الا بعد الفحص التام هو الوجه الأول وهو المعرضية للتخصيص.

ثم إن هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما المقدار اللازم منه فهو على الوجه الأول كما عرفت بمقدار يخرج المورد عن المعرضية بحيث تطمئن النفس بأنه غير مخصص ، والظاهر هو تحقق الوثوق بالخروج عن المعرضية بالفحص عن المخصص بالمقدار المتعارف فيما بأيدينا من الكتب ، حيث إنه بهذا المقدار من الفحص يحصل الوثوق بل العلم العادي بأنه غير مخصص ، كما أن مقداره على مسلك مانعية العلم الاجمالي أيضا هو الفحص بالمقدار المتعارف عما هو من دائرة العلم المزبور من كتب الاخبار ، فإنه بهذا المقدار من الفحص يحصل الوثوق والعلم العادي بخروجه عن الطرفية للعلم الاجمالي ، فيجوز الاخذ معه حينئذ بأصالة العموم ، من دون احتياج إلى تحصيل القطع بالخروج عن الطرفية للعلم الاجمالي فتدبر.

الجهة الخامسة
اشارة

في أنه هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين المشافهين أو انها تعم الغائبين بل المعدومين أيضا؟ فيه خلاف بين الاعلام ، وتنقيح المرام في المقام هو ان الخطابات الواردة في الكتاب والسنة على أنحاء :

منها : ما كان من قبيل : قوله : يجب على الحاضر كذا وعلى المسافر كذا وعلى المستطيع كذا ونحو ذلك مما كان المخاطبة بنفس المواجهة من دون توسيط أداة خطاب في البين.

ص: 531

ومنها : ما كان من قبيل قوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ونحو ذلك ، مما كان الخطاب بأداة النداء وكان موضوع الخطاب عنوانا عاما قابلا للانطباق على الموجود والمعدوم.

ومنها : ما كان من قبيل قوله : يجب عليكم كذا وقوله : كتب عليكم الصيام ونحو ذلك ، مما كان التخاطب بأداة الخطاب وكان المكلف بالتكليف نفس المخاطب.

اما القسم الأول منها فلاينبغي الاشكال في شمولها للغائبين بل المعدومين ، بل الظاهر هو خروج مثل هذا القسم عن حريم النزاع وعن مورد النفي والاثبات بينهم ، كيف وانه لا وجه لتوهم اختصاص مثل هذا القسم من الخطابات بخصوص المشافهين وعدم شموله للغائبين والمعدومين بعد عموم العنوان وعدم ما يوجب الاختصاص بالحاضرين ، ومن ذلك ترى انه قد يكون المكلف والمقصود بالخطاب غير المخاطب في مجلس الخطاب ، كما في قولك لمن حضرك من الرجال : يجب على النساء كذا.

واما الاشكال في أصل شمول التكاليف المستفادة التكاليف المستفادة من الخطابات للمعدومين في زمن الخطاب ، نظراً إلى لا بدية وجود المكلف عقلا في صحة توجيه التكليف إليه ، فمدفوع بأنه كك في التكاليف الفعلية المستتبعة للبعث والزجر ، فإنها هي التي يحكم العقل باستحالة توجيهها نحو المعدوم فعلا ، واما الغير البالغة إلى تلك المرتبة فلا محذور فيها ، ضرورة انه لا مانع من توجيه التكليف على وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قانونا نحو الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا منجزا عند اجتماع الشرائط وفقد الموانع ، كقوله : يجب على المستطيع كذا وعلى المسافر كذا ، كما هو واضح.

واما القسم الثالث فالظاهر أنه لا اشكال أيضا في خروجه عن محل النزاع ، وعدم شموله الا لخصوص الموجودين الحاضرين حال الخطاب ، وذلك من جهة وضوح ان الخطاب الحقيقي يستدعى وجود المخاطب فعلا ، لعدم صحة المخاطبة مع غير الموجود حال الخطاب بل ومع الغائب عن مجلس الخطاب أيضا ، وحينئذ فإذا فرضنا ان المكلف هو المخاطب بالخطاب ، فقهرا يلازم ذلك اختصاص التكليف الذي هو مضمون الخطاب أيضا بخصوص الحاضرين وعدم شموله للغائبين ، فضلا عن المعدومين حال الخطاب ، واما توهم انه في الخطاب الحقيقي يكفي وجود المخاطب ولو ادعاء ولا يعتبر فيه وجود المخاطب حقيقة ، فمدفوع بأنه في الموجود الا دعائي لايكون الخطاب أيضا الا ادعائيا ، من جهة ما

ص: 532

عرفت من عدم صحة الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم الا إلى الموجود الحقيقي ، كما هو واضح.

وحينئذ فينحصر محل النزاع ومورد النفي والاثبات بالقسم الثاني الذي يكون موضوع الخطاب فيه من العناوين العامة القابلة للانطباق على الموجود والمعدوم حين الخطاب ، كقوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ، حيث إن مقتضي عموم المتلو هو الشمول للغائبين والمعدومين أيضا كما أن مقتضي ظهور الأداة في الخطاب الحقيقي هو الاختصاص بخصوص الحاضرين المشافهين ، فيدور الامر حينئذ بين الاخذ بظهور الأداة في الخطاب الحقيقي وتخصيص عموم ما في التلو بخصوص الحاضرين ، وبين الاخذ بعموم ما وقع في التلو وحمل الأداة على الخطاب الايقاعي ، وفي مثله قد يقال في تعميم الحكم المتكفل له الخطاب للغائبين والمعدومين بوجوه :

منها : ما افاده في الكفاية (1) من دعوى ان ظهور تلك الأدوات في الخطاب الحقيقي انما كان من جهة الانصراف ، والا فهي موضوعة للخطاب الايقاعي الانشائي ، وان الاختلاف انما كان ممن جهة الدواعي ، فالمتكلم ربما يوقع النداء لكن لا بداعي الخطاب الحقيقي ، بل بدواع أخرى كالتحسر والتأسف كقوله أيا كوكبا ما كان أقصر عمره ، وربما يوقعه بداعي الخطاب الحقيقي كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التمني والترجي ونحوهما ، فإنها أيضا موضوعة للايقاعي منها لا لخصوص الحقيقي منها ، وحينئذ فإذا كان ظهورها في الخطاب الحقيقي من جهة الانصراف دون الوضع نقول : بان الانصراف إلى الخطاب الحقيقي انما يكون إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه كما في المقام ، حيث يكفي في المانعية عمومية ما وقع في التلو ، خصوصا بعد ملاحظة عدم اختصاص الاحكام الملقى من الشارع غالبا في نحو هذه الخطابات من نحو قوله : يا أيها الناس اتقوا ، ويا أيها الذين آمنوا ، بخصوص من حضر مجلس الخطاب ، وعليه فيؤخذ في مثل هذه الخطابات بعموم العنوان المتلو للموجود والمعدوم حال الخطاب ، ويحمل الخطاب على الخطاب الايقاعي الانشائي من دون استلزام قضية العمومية أيضا لاستعمال كلمة ( يا ) في غير معناها الحقيقي. ولكن فيه ان ظهور الياء في الخطاب الحقيقي بمقتضي الانصراف أو الغلبة أو غير ذلك انما كان

ص: 533


1- ج 1 ص 357.

ظهورا مستقرا ، فيزاحم حينئذ مع ظهور المتلو في العموم ، فيوجب تخصيصه بالحاضرين ، خصوصا مع احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف المتكفل له الخطاب ، حيث يكفي في القرينية عليه نفس الخطاب.

ومنها : ان الياء وان كان ظاهرا في الخطاب الحقيقي وضعا أو انصرافا ويحتاج إلى وجود المخاطب حين الخطاب ، الا انه يكفي في صحة الخطاب مطلق الموجودية ولو ادعاء ، بادعاء المعدوم بمنزلة الموجود ، فان ذلك امر متداول عند أهل اللسان في محاوراتهم واستعمالاتهم ، ومن ذلك ترى كثيرا انهم يدعون ما لا شعور له بمنزلة ذي الشعور ويخاطبون معه ، كقوله : ( أيا جبلي نعمان باللّه خليا ) بل يثبتون للوجود الا دعائي آثار الوجود الحقيقي كما في ( انشبت المنية أظفارها ) ونحو ذلك من الاستعمالات المتداولة ففي المقام أيضا إذا ادعى المعدوم منزلة الموجود يصلح معه المخاطبة ، فلا محذور حينئذ في شمول الخطابات للمعدومين. ولكن فيه انه وان لم ينكر وقوع مثل هذه الادعاءات في نحو تلك الاستعمالات ولكنه بعد عدم صلاحية المعدوم للخطاب الحقيقي فلا محالة يكون الخطاب أيضا ادعائيا من جهة ان الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم يستحيل توجيهه نحو المعدوم حال الخطاب. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا بصحة الخطاب الحقيقي نحو الموجود الادعائي لايكاد يفيد أيضا في المطلوب من شمول الخطابات للمعدومين في زمان الخطاب ، من جهة ان ذلك كما ذكر يحتاج إلى ادعاء المعدوم بمنزلة الموجود الحقيقي ، ومثل ذلك مما لا طريق إلى احرازه ، إذ لم يعلم بان الشارع في خطابه ادعى المعدومين بمنزلة الموجود ، ومعه يشك لا محالة في شمول الحكم المتكفل له الخطاب للمعدومين ، خصوصا بعد احتمال مدخلية قيد الحضور أيضا في التكليف ، كما في وجوب صلاة الجمعة والعيدين ونحوهما ، واما قضية اطلاق الخطاب فهو أيضا غير منتج لاثبات ذلك ، من جهة عدم تكفله لاحراز موضوعه ، وعليه فكيف يمكن دعوى التعميم للغائبين والمعدومين؟

ومنها : دعوى تساوى الموجود والمعدوم في خطاباته سبحانه ، لإحاطته سبحانه بالموجود حال الخطاب والموجود في الاستقبال إلى يوم القيمة ، وفيه أيضا ما افاده في الكفاية (1) بان احاطته سبحانه وتعالى بالموجود في الحال والاستقبال لايقتضي

ص: 534


1- ج 1 ص 358.

صلاحية المعدوم للمخاطبة ، وعدم صحة المخاطبة الحقيقية معهم أيضا لايقتضي نقصا في ناحيته سبحانه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا أيضا من احتمال مدخلية قيد الحضور ظهر عدم اجداء قاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم للمعدومين ، وذلك من جهة ان الذي تقتضيه القاعدة المزبورة انما هو من مدخلية الخصوصيات الذاتية ، كخصوصية الزيدية والعمروية والبكرية. واما الخصوصيات العرضية الصنفية كخصوصية الحضور وكونهم موجودين في زمان الخطاب فلايكون من شأن القاعدة الغائها ونفيها ، ومن ذلك ترى اختصاص بعض الأحكام كوجوب صلاة الجمعة بل وصلاة العيدين وإقامة الحدود على قول بحال الحضور ، وحينئذ فمع احتمال مدخلية خصوصية الحضور في تكليف الحاضرين الموجودين في زمان صدور الخطاب ، فلا مجال للتشبث بقاعدة الاشتراك لاثبات الحكم المتكفل له الخطاب في حق المعدومين أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى في اثبات تعميم الحكم المتكفل له الخطابات للمعدومين هو التشبث بعموم الناس أو المؤمنون الواقع في حيز الخطاب ، بدعوى ان الخطاب من جهة ظهوره في الخطاب الحقيقي وان كان غير شامل عقلا لغير الحاضرين في مجلس الخطاب الا ان مقتضي عموم العنوان الواقع في التلو هو شمول الحكم المتكفل له الخطاب لغير الحاضرين أيضا من الغائبين والمعدومين ، حيث لا منافاة بين اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب وبين عموم الحكم المكفل له الخطاب لغير الحاضرين ، بل قد عرفت امكان الحكم والتكليف بغير الحاضرين المخاطبين بالخطاب ، كما في قوله مخاطبا لجماعة من الرجال : يجب على الحائض من النساء كذا وكذا.

واما ما ذكرنا من احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف فيدفعه قضية الاطلاق حيث إن مقتضاه هو عدم مدخلية قيد الحضور في التكليف المستفاد من الخطاب.

واما توهم ان الاخذ بالاطلاق في نفى مدخلية القيد انما يصح فيما لو كان القيد المحتمل دخله من القيود المفارقة كالقيام ونحو ذلك ، لا في مثل القيود الملازمة الغير المفارقة كما في المقام.

وذلك لأنه في نحو هذه القيود لا يلزم من عدم بيانها اخلال للمتكلم بغرضه ، كي

ص: 535

بعدم بيان دخلها في الغرض يتم الاطلاق ، بخلاف القسم الأول فإنها من جهة قابليتها للانفكاك ففي فرض دخلها في الغرض يجب إقامة البيان على دخلها في الغرض ، والا يلزم الاخلال بالغرض الذي هو مستحيل من الحكيم ، فيستكشف من عدم بيانه عدم دخلها في المطلوب ، وعليه فإذا كان قيد الحضور المحتمل دخله من القيود اللازمة الغير المفارقة عن الموجودين الحاضرين في زمن الخطاب ، بحيث لا يلزم من عدم ذكره وبيانه على تقدير دخله اخلال بالغرض ، فلا جرم لا يتم امر الاطلاق كما لايخفى.

فمدفوع بأنه كك إذا لم يكن القيد المحتمل دخله من القيود الخفية المغفول عنها غالبا ، والا فمع فرض كونه غير ملتفت إليه بحسب الغالب فلايكاد يفيد مجرد وجدان القيد في الاكتفاء به عن ذكره وبيانه ، بل لابد من إقامة البيان على دخله في غرضه ومطلوبه لئلا يأخذ المكلف باطلاق كلامه حتى في غير مورد وجود القيد ، والا لأخل بغرضه ومرامه. وبهذه الجهة أيضا قلنا بصحة التمسك بالاطلاق لنفى دخل مثل قصد القربة والوجه والتميز في العبادة ، بملاحظة كونها من القيود الخفية المغفول عنها غالبا. ففي المقام أيضا نقول : بان قيد الحضور وان كان من القيود الملازمة الغير المنفكة عن الموجودين في زمان الخطاب ، ولكن لما كان مغفولا عنه وغير ملتفت إليه غالبا فعلى تقدير دخله في التكليف لابد للمولى من بيانه والتصريح بدخله في مرامه ومطلوبه ، كي لا يأخذ المكلفون باطلاق الحكم والتكليف الذي هو مفاد الخطاب ، ولايصح له الاكتفاء عن ذكره وبيانه بوجدان المخاطبين في مجلس الخطاب للخصوصية ، والا لأخل بغرضه ومرامه. وحينئذ فعلى ذلك فنفس الخطاب وان كان غير قابل للشمول لغير الحاضرين في مجلس الخطاب الا ان الحكم المتكفل له الخطاب بمقتضي عموم العنوان الواقع في التلو يعم الغائبين والمعدومين أيضا.

بل ومن ذلك البيان ظهر صحة التمسك بقاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم وذلك انما هو باجراء أصالة الاطلاق أولا في حق الموجودين المخاطبين في نفى احتمال مدخلية خصوصية قيد الحضور ثم تسرية الحكم بقاعدة الاشتراك القاضية بعدم مدخلية الخصوصيات الذاتية في حق غيرهم من الغائبين ، حيث إنه بمقتضي هاتين القاعدتين يثبت التكليف المستفاد من الخطابات في حق غير المشافهين ولو كان الخطاب بمثل قوله : يجب عليكم كذا وكذا.

ص: 536

ويمكن استفادة التعميم من وجه آخر ، وهو استفادته من جهة نفس الخطاب وظهوره في الكشف عن المصلحة المطلقة وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد وبلغ من افراد المكلفين ، بتقريب ان عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى المعدوم لما لم يكن من جهة وضع الأداة ، بل ولا من جهة قرينة متصلة لفظية أو عقلية ارتكازية بل كان ذلك من جهة قرينة عقلية غير مرتكزة ، بلحاظ ان حكمه بعدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي نحو المعدوم انما هو بعد التفاته إلى أن المواجهة بالخطاب الحقيقي لابد لها من طرف موجود ذي شعور ، فلا جرم يكون من قبيل القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لظهور الخطاب ، نظير حكمه باشتراط القدرة في صحة توجيه التكليف ، وفي مثله فيؤخذ بظهور الخطاب في الكشف عن المصلحة المطلقة في الفعل وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد وبلغ من افراد المكلفين ، كما يؤخذ بظهور الهيأة في الكشف عن المصلحة في المتعلق حتى في حال العجز وعدم القدرة ، وبهذا التقريب أيضا أمكن استفادة التعميم لغير المشافهين في الحكم الذي هو مفاد الخطاب وان كان نفس الخطاب بمقتضي تلك القرينة العقلية لا يعم غير المشافهين ، ولكن الأستاذ لم يتعرض لبيان هذا التقريب بل اقتصر على بيان التقريب الأول.

ثم إن الفرق بين التقريبين هو انه على التقريب الأول يختص استفادة التعميم بما لو كان الخطاب مصدرا بأداة النداء ، مثل قوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ، بخلاف التقريب الأخير الذي ذكرناه ، فإنه عليه أمكن استفادة التعميم ولو كان التخاطب بأداة الخطاب ، كقوله : كتب عليكم الصيام ونحوه ، كما هو واضح.

ثم إن لو أبيت عن ذلك كله نقول بأنه يكفي في تعميم الحكم المتكفل له الخطاب القرينة النوعية العرفية على الغاء مثل هذه الخصوصيات في التكاليف الشرعية ، حيث إنه من جهتها يقطع بأنه لا مدخلية لخصوصية الحضور في التكليف وان توجيه التكليف إلى الحاضرين انما هو من جهة كونهم من افراد المكلفين لا من جهة خصوصية حضورهم.

ومن ذلك أيضا ترى بناء الأصحاب رضوان اللّه عليهم على الغاء مثل تلك الخصوصيات في التكاليف الشرعية المستفادة من الخطابات الواردة في الكتاب والسنة ، حيث لم يتوهم أحد اختصاص حرمة النقض في مثل علیه السلام لزرارة : ( لاينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ) بخصوص زرارة ، وكذا في قوله علیه السلام لزينب بنت

ص: 537

جحش ( تغتسل ) في الاختصاص بها دون غيرها ، وهكذا غير ذلك من الخطابات المتكفلة للأحكام الشرعية ، بل ولعل مثل تلك القرينة النوعية السارية في جميع الخطابات هي المدرك أيضا لقاعدة الاشتراك المعروفة ، والا فلا دليل عليها بالخصوص فتأمل. واما الاجماع فمدركه أيضا تلك القرينة النوعية وعليه فلاينبغي الاشكال في عدم اختصاص الاحكام المتكفلة لها الخطابات بخصوص المشافهين وشمولها للغائبين والمعدوم أيضا ، وان كان نفس الخطاب الحقيقي يقصر عن الشمول لغير الحاضرين من جهة تلك القرينة العقلية المتقدم ذكرها ، كما لايخفى.

بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين وهي ثمرتان :

الأولى : حجية ظهور الخطابات لغير المشافهين من الغائبين كالمشافهين بناء على الشمول وعدم حجيته بناء على الاختصاص بالمشافهين ، نظراً إلى دعوى احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه على قرينة حالية أو مقالية معهودة بينه وبين المخاطب.

الثانية : صحة التمسك بالاطلاقات وظهورا الخطابات القرآنية لكل من وجد وبلغ من المعدومين على التعميم وعدم صحته على الاختصاص بالمشافهين حيث إنه على اختصاص الحكم بالمشافهين يحتاج اثبات تعميمه للمعدومين بمقتضي الاطلاق إلى احراز الاتحاد مع المشافهين في الصنف حتى يحكم بقاعدة الاشتراك بالاشتراك معهم في الحكم ، والا فمع عدم اثبات الاتحاد لايكاد يفيد التشبث بالاطلاقات وظهور الخطابات في التعميم للمعدومين ، وحيث انه لا دليل على ذلك ولاتقتضيه أيضا قاعدة الاشتراك من جهة ما تقدم من عدم اقتضائها الأنفى مدخلية الخصوصيات الذاتية دون الخصوصيات العرضية كخصوصية الحضور ونحوه ، فلا جرم بعد احتمال عدم الاتحاد مع المشافهين لا مجال لاثبات الحكم وتعميمه للمعدومين.

والفرق بين الثمرتين واضح ، فان الكلام في الأولى في صحة التمسك بظواهر الخطابات وجوازه بالنسبة إلى غير المشافهين والمخاطبين بالخطاب وعدم صحته ، نظراً إلى احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه من خطابه على قرينة معهودة بينه وبين المخاطبين ، من غير نطر إلى اشتراك غير المشافهين مع المشافهين في الحكم والتكليف أو اختصاصه بخصوص المخاطبين ، ومن ذلك يجرى هذا الكلام حتى في موارد عدم الاتحاد

ص: 538

في الصنف كما في تمسك المجتهد بالظاهر لاثبات حكم صنف غير شامل له كتمسكه بظهور ما دل على الحكم المتعلق بالنساء لاثبات الاحكام المختصة بهن. ففي الحقيقة يكون البحث من الجهة الأولى ، وحجية ظهور الخطابات كلية لغير المخاطبين المقصودين بالافهام ، من جملة المقدمات في البحث للثمرة الثانية حيث إنه يحتاج في الثمرة الثانية إلى اثبات حجية الظهورات للمعدومين كي يتمسكوا بالظاهر لاثبات حكمه للموجودين ثم اثباته لنفسهم بمقتضي قاعدة الاشتراك بعد احراز الاتحاد في الصنف ، وهذا بخلافه في الثمرة الثانية ، فان الكلام فيها في صحة التمسك لكل من وجد وبلغ من المعدومين بالظواهر على التعميم ، وعدم صحته على الاختصاص ، واحتياج التعميم إلى قاعدة الاشتراك واحراز الاتحاد في الصنف.

وعلى كل حال فالثمرة الأولى منهما مبنية على القول بحجية الظهورات لخصوص من قصد افهامه ، والا فبناء على عدم الاختصاص بمن قصد افهامه كما هو التحقيق أيضا فلا مجال لهذه الثمرة ، حيث إنه كان لغير المشافهين أيضا الاخذ بظهور الخطابات في استفادة مرام المتكلم من خطابه ، خصوصا مع ما عرفت من منع كون المشافهين مخصوصين بكونهم مقصودين بالافهام من الخطابات المتكفلة للأحكام الشرعية ، بل وان جميع الناس إلى يوم القيمة كانوا كذلك وان لم يعمهم الخطابات.

واما الثمرة الثانية : فهي أيضا غير ظاهرة من جهة ما بينا سابقا من اقتضاء الاطلاقات نفى مدخلية قيد الحضور في التكليف الحاضرين باعتبار كونه من القيود المغفول عنها غالبا ، واما ما قيل : من عدم الاحتياج إلى ذكره والتنبيه عليه بعد كونه من القيود اللازمة للمشافهين ، فلا يلزم من عدم ذكره في دخله في التكليف اخلال منه بغرضه فمدفوع بان مجرد ذلك غير مجد في دفع محذور نقض الغرض بعد كونه من القيود المغفول عنها غالبا ، خصوصا بعد فرض كون المتكلم في مقام بيان مرامه على الاطلاق ، حتى بالنسبة إلى غير المشافهين ، بل لابد حينئذ من بيانه والتصريح بمدخلية قيد الحضور في تكليف الحاضرين لئلا يأخذ غير الحاضرين باطلاق تكليف الحاضرين ويستكشفوا من الخطاب المتوجه إليهم تكليف أنفسهم ، هذا كله مع امكان منع كون خصوصية الحضور من القيود اللازمة غير المنفكة عن الحاضرين من جهة وضوح عدم كون قيد الحضور في زمان الخطاب أو النبي مثلا من القيود اللازمة

ص: 539

الغير المفارقة عن اشخاص الحاضرين مجلس الخطاب ، بل وانما ذلك من قبيل الأوصاف المفارقة ، من جهة جواز كون المخاطبين فاقدين للحضور في أثناء عمرهم. وحينئذ فإذا جرى أصالة الاطلاق في نفى اعتبار قيد الحضور في تكليف الحاضرين فصح تمسك المعدومين لا محالة بظهور الخطابات لاثبات تعميم الحكم ، حيث إنه باجراء أصالة الاطلاق في حق المشافهين ينفى احتمال مدخلية خصوصية الحضور ثم ينفى احتمال دخل الخصوصيات الذاتية بقاعدة الاشتراك ، فيستفاد من اجل هاتين القاعدتين تعميم التكليف المستفاد من الخطاب لكل من وجود وبلغ من المعدومين ، ومعه فينتفي الثمرة المزبورة أيضا ، من جهة انه على كل تقدير يصح تمسك المعدومين باطلاقات الخطابات القرآنية وغيرها.

ومن ذلك كان الحري هو اسقاط هذا البحث من رأسه حيث إنه لا يزيد الا اغتشاشا في الأذهان الصافية ، والا فلا اشكال في جواز التمسك بالاطلاق الواردة في الكتاب والسنة للمعدومين كالمشافهين ، كما عليه أيضا ديدن الأصحاب من الصدر الأول إلى زماننا هذا ، حيث لا يزال يتمسكون عند الشك في مدخلية شيء في التكليف بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة ، فكان مثل هذه التشكيكات تشكيكات في البديهيات ، كما هو واضح.

الجهة السادسة

اختلفوا في أن الاستثناء الواقع عقيب الجمل المتعددة هل هو راجع إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة؟ وذلك بعد الفراغ منهم على مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن في المرجعية ، وظاهر عنوان البحث يقتضي تخصيص النزاع بما لو كان المخصص متصلا ، بان كان الخاص والجمل المتعددة في كلام واحد ، والا ففي فرض انفصاله وكونهما في كلامين مستقلين لا مجال لعنوان البحث بالاستثناء ولا لدعوى القطع بمرجعية الأخيرة بكونها القدر المتيقن من التخصيص ، إذ حينئذ يكون نسبة المخصص إلى الأخيرة والى غيرها على حد سواء ، فيحتاج تعين الأخيرة كغيرها إلى قرينة معينة ، والا فيسقط الجميع عن الحجية من جهة العلم الاجمالي بتخصيص الجميع أو احديها المرددة بين الأخيرة وغيرها ، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال.

ص: 540

ولكن محل الكلام كما عرفت حسب عنوانهم البحث بالاستثناء انما هو في فرض اتصال المخصص ، وعليه فلا كلام في مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن من التخصيص وانما الكلام في رجوعه إلى غيرها من الجمل الاخر ، والكلام فيه أيضا يقع تارة في أصل امكان رجوعه إلى الجميع ثبوتا ، وأخرى عن في وقوعه وترجيح احتمال الرجوع إلى الجميع على احتمال عدمه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوعه إلى الجميع ، فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فقد يقال بعدم امكان رجوعه إلى الجميع باعتبار استلزامه لمحذور استعمال الا في اخراجات متعددة باستعمال واحد ، ولزوم هذا المحذور انما هو من جهة خصوصية الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف والهيئات. ولكن فيه انه مضافا إلى منع أصل المبني كما قررناه في محله من عموم الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف كالوضع لايكاد يتم فيما لو كان الاستثناء بغير الحروف من الأسماء الموضوعة للاخراج كغير وسوى وعدا وخلا ونحو ذلك ، حيث إنها باعتبار عمومية الموضوع له فيها يمكن رجوعهما إلى الجميع باستعمالها في طبيعة الاخراج غايته احتياجه في إرادة الخصوصيات إلى تعدد الدال والمدلول.

وعلى فرض كون الاستثناء بمثل الا وتسليم خصوص الموضوع له فيها نقول : بان ما ذكر من المحذور انما يتوجه إذا أريد كل واحدة من الإضافات الخروجية من اللفظ بالاستقلال والا ففي فرض لحاظ المجموع بلحاظ واحد فلا محذور يرد عليه ، وبيان ذلك هو ان المعاني الحرفية بعد ما كانت من سنخ النسب والإضافات المتقومة بالطرفين ففي مثل الفرض تارة يلاحظ في مقام الاستعمال الإضافة الخروجية بين شيء وبين أمور متعددة بنحو يكون كل واحد من تلك الأمور طرفا للإضافة في لحاظه بالاستقلال ويلزمه استقلال كل واحد من تلك الإضافات الاخراجية في مقام اللحاظ وأخرى يلاحظ الإضافة الاخراجية بينه وبين مجموع أمور متعددة بجعل المجموع طرفا للإضافة في لحاظه ، نظير ملاحظة نسبة التقابل بين الشيء وصف من العسكر من حيث لحاظ نسبة التقابل تارة بينه وبين كل واحد من افراد داك الصف بالاستقلال ، وأخرى لحاظها بينه وبين مجموع الصف.

وبعد ذلك نقول : بان الاشكال المزبور انما يتوجه على الفرض الأول من لحاظ اخراجات متعددة على الاستقلال ، والا فعلى الفرض الثاني من لحاظ الجمل المتعددة

ص: 541

بمجموعها طرفا للإضافة الاخراجية فلايتوجه الاشكال ، حيث إنه عليه لايكون في البين الا إضافة واحدة شخصية قائمة بالمخرج ومجموع الجمل ، ولايكون الأداة أيضا الا مستعملة في اخراج واحد شخصي ومجرد تعدد المخرج منه والمخرج مثلا خارجا حينئذ لايوجب تعددا في الإضافة الاخراجية القائمة بالمجموع ، كما هو واضح. وعليه فلا مجال للاشكال في امكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بمثل البيان المزبور.

وحينئذ فالأولى في الاشكال في المقام هو الاشكال عليه من جهة المستثنى في مثل قوله : أكرم العلماء والشعراء والتجار الا زيدا ، مريدا به خروج زيد عن كل واحد من العمومات ، حيث إنه يلزمه حينئذ إرادة معان متعددة من لفظ واحد وهو زيد ، ومن هذه الجهة يتعين رجوعه إلى الأخيرة لا غيرها ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ذلك أيضا بإرادة المسمى بزيد من اللفظ المزبور ولو كان بعيدا في نفسه ، حيث إنه عليه يكون زيد مستعملا في معنى كلي له مصاديق متعددة ، غايته انه يحتاج إلى توسيط دوال أخر على إرادة الخصوصيات ، ولكن مع ذلك كله يبعد جدا الحمل على المسمى ، فلا محيص في مثله بعد بعد الحمل المزبور من تعين رجوعه إلى خصوص الأخيرة.

ثم إن ذلك أيضا إذا لم يكن في البين من هو مجمع العناوين الثلاث ، والا فمع وجوده فلا بأس باخراجه من الجميع ، كما لو فرض كون المسمى بزيد منحصرا في زيد بن عمرو وكان ذلك مجمعا للعناوين الثلاث ، حيث إن في هذا الفرض يصح اخراجه من الجمل المتعددة ، من دون استلزامه لمحذور أصلا ولا احتياج إلى التأويل بالمسمى ، كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر الحال أيضا فيما لو كان الاستثناء من قبيل الصنف كالفساق مثلا حيث يجوز رجوعه حينئذ إلى الجميع أيضا من غير استلزامه لمحذور استعمال اللفظ في أكثر من واحد.

ثم انه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوع الاستثناء المتعقب لجمل متعددة إلى الجميع يبقى الكلام في المقام الثاني في مقام اثبات ذلك واستظهاره ، وفي ذلك نقول : انه قد عرفت ان الأخيرة هي القدر المتيقن في المرجعية لأنه على كل تقدير يعلم بتخصيصها ، واما غير الأخيرة فلا ظهور للكلام يقتضى رجوعه إليه ، وفي مثله لو بنينا على حجية أصالة

ص: 542

العموم من باب التعبد فلا اشكال في أن لازمه جريان أصالة العموم بالنسبة إلى ما عدا الأخيرة ، من جهة الشك في أصل التخصيص بالنسبة إليها. واما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور فيشكل جريان أصالة العموم فيها ، من جهة ان اتصالها بما يصلح للقرينية يوجب اجمالا فيها فلا يبقى لها ظهور حتى يتمسك بها عند الشك في تخصيصها ، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال والرجوع فيها إلى ما تقتضيه الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، فيما لم تكن الدلالة في طرف العام بالوضع وفى المستثنى بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، والا فيؤخذ فيها بأصالة العموم ولا يعتنى إلى احتمال تخصيصها برجوع الاستثناء إلى الجميع.

وتوضيح ذلك هو ان الدلالة في كل من العمومات والاستثناء المتصل بها اما ان تكون بالوضع ، واما بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وثالثة تكون الدلالة في العام بالوضع وفى الاستثناء بالاطلاق ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين تسقط العمومات عن الحجية ، لتصادم الظهورات ، ولابد من الرجوع إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، من جهة اختلاف الحال حينئذ حسب اختلاف الحالة السابقة ، من حيث العلم بكونه محكوما بحكم العام تارة وبحكم الخاص أخرى والجهل بالحالة السابقة ثالثة.

وعلى الثالث لابد من الاخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه ، ولا مجال حينئذ أيضا لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل رجوعه إليه ، من جهة ان ذلك انما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه ، وبعد فرض كون الدلالة فيه من جهة الاطلاق لايكاد صلاحيته للقرينية على العام ، بل الامر حينئذ بالعكس ، فان العام من جهة كون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه ، فينفي موضوع الاطلاق في طرف الخاص ، لكونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

ولئن شئت قلت بان ظهور العام في العموم بعد كونه بالوضع ظهور تنجيزي غير معلق على شيء بخلاف الخاص ، فان ظهوره لما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة يكون تعليقيا منوطا بعدم ورود بيان على خلافه ، وفي مثله يكون الأثر قهرا للظهور التنجيزي ، فيقدم على الظهور التعليقي من جهة صلاحيته للبيانية عليه ، بخلاف العكس فان صلاحية هذا الظهور التعليقي للقرينية على الظهور التنجيزي دوري ، ففي مثله لايكاد تصل النوبة مع

ص: 543

هذا العام إلى الظهور الاطلاقي في طرف الخاص ، حتى يجيء فيه احتمال الصلاحية للقرينية على العام ، وهو ظاهر.

وعلى الرابع يجيء فيه احتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند عدم ظهوره في الرجوع إلى الجميع ، فلابد من الحكم في غير الأخيرة من سائر الجمل بالاجمال والرجوع فيها إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، هذا كله في الخاص المتصل بالجمل المتعددة.

واما الخاص المنفصل عنها فقد عرفت عدم تعين مرجعية الأخيرة في مثله ، من جهة تساوي الأخيرة وغيرها في المرجعية ، وعليه فعند الدوران في رجوعه إلى بعضها أو إلى الجميع يسقط الجميع عن الحجية ، من جهة العلم الاجمالي ، ولابد من الحكم عليها أي على الجميع بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، من غير فرق في ذلك بين كون الدلالة في كل واحد من العمومات والخاص المنفصل بالوضع ، أو بالاطلاق ، أو كون الدلالة في طرف العمومات بالوضع وفي طرف الخاص بالاطلاق ، أو بالعكس ، وذلك لما سيجيء انشاء اللّه تعالى من أن عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو عدم البيان في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو في كلام آخر منفصل عن الكلام الذي وقع به التخاطب ، فإذا فرض حينئذ وقوع العام والخاص في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق منهما ، من غير صلاحية ما كان الوضع منهما للقرينية والبيانية عليه ، ومع استقرار الظهور فيه فقهرا بمقتضي العلم الاجمالي يتصادم الظهوران ويتساقطان عن الحجية ، ومعه لابد من الرجوع إلى ما يقتضيها الأصول العملية فتدبر.

الجهة السابعة

إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده فهل يوجب ذلك تخصيصه به أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام. وليكن الكلام فيما لو كان العام مستقلا فيما حكم عليه في الكلام كقوله سبحانه : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله : وبعولتهن أحق بردهن ) والا فإذا لم يكن كك بان كان العام قد ذكر توطئة لحكم الضمير كقوله : والمطلقات أزواجهن أحق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به ، كما أنه لابد وأن يكون محل

ص: 544

الكلام فيما لو كان العام والكلام الذي يتصل به الضمير في كلام واحد ، على نحو كان الكلام المشتمل على الضمير من توابع ما اشتمل على العام ، من جهة عدم تصور فرض استقلال كل من العام والضمير الراجع إليه في الكلام ، على معنى كونهما في كلامين مستقلين ، نعم لا بأس بذلك في مثل أسماء الإشارة حيث أمكن فرض كونهما في كلامين مستقلين كامكان فرضهما في كلام واحد وقع به التخاطب.

وعلى أي حال فحيثما لايمكن ابقاء العام على ظهوره في العموم مع حفظ ظهور الضمير في المطابقة مع المرجع من جهة العلم بمخالفة أحد الظهورين للواقع يدور الامر بين التصرف في العام وتخصيصه بما أريد من الضمير الراجع إليه ، بحمله على خصوص الرجعيات لا الأعم منها ومن الباينات ، وبين التصرف في الضمير : اما بنحو الاستخدام بارجاعه إلى بعض ما هو المراد من المرجع ، واما بنحو المجاز في الاسناد بارجاعه إلى تمام المرجع توسعا.

وفي مثله قد يقال كما في الكفاية وغيرها بتقديم أصالة الظهور في العام على أصالة الظهور في الضمير في التطابق مع لمرجع ، لكونه أي العام مما شك فيه في المراد مع العلم بأصل الوضع ، حيث يحتمل فيه كون المراد منه هو خصوص الرجعيات أو الأعم منها ومن الباينات ، فيجرى فيه أصالة الظهور ، بخلافه في الضمير ، فإنه لاشك فيه في المراد من جهة العلم بإرادة خصوص الرجعيات ، وانما الشك في كيفية الاستعمال ، وفي مثله لا مجرى فيه لأصالة الظهور والحقيقة ، فان القدر المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية انما هو في صورة الشك في المراد لا في صورة الشك في كيفية الاستعمال مع القطع بالمراد ، ومن ذلك أيضا قلنا بعدم جريان أصالة الظهور والعموم لاخراج ما يقطع بخروجه عن حكم العام عن موضوعه ، اقتصارا على المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية ، وحينئذ فإذا لا يجري أصالة الظهور في طرف الضمير ، بملاحظة معلومية المراد منه بالإرادة الجدية من كونه خصوص الرجعيات ، فلا دوران في البين بين أصالة الظهورين ، فتجري أصالة الظهور حينئذ في طرف العام ، ويتصرف في الضمير اما بنحو الاستخدام أو بنحو المجاز في الاسناد. ولئن شئت قلت : ان عدم جريان أصالة الظهور في طرف الضمير انما هو من جهة انتفاء الأثر عليه بخلافه في طرف العام فإنه مما يترتب عليه الأثر فتجري أصالة الظهور فيه دون الضمير.

ولكن يدفع ذلك بأنه وان كان لا مجرى لأصالة الظهور في طرف الضمير، فلا دوران

ص: 545

بين أصالة الظهور في الضمير في التطابق وبين أصالة الظهور في العام ، الا ان مجرد ذلك لايقتضي جريانها في طرف العام ، فإنه لا أقل من صلاحية الضمير باعتبار اتصاله بالكلام للقرينية على العام ، من جهة احتمال كون استعماله على طبق وضعه ، وفي مثله من المعلوم انه لايبقى مجال ظهور للعام في العموم ، حتى يجري فيه دليل التعبد بالظهور ، نعم لو كان العام والضمير في كلامين مستقلين كما قلنا بتصويره في مثل أسماء الإشارة ، أو قلنا بحجية أصالة العموم من باب التعبد المحض لكان للقول بجريان أصالة الظهور في العام كمال مجال ، ولكنك عرفت عدم تصور فرض استقلال العام والضمير في الكلام ، وعدم كون مدار الحجية في أصالة الحقيقة على التعبد ، بل على الظهور التصديقي النوعي ، وعليه فالضمير حسب اقترانه بالعام يكون مما يصلح للقرينية على العام ، ومعه فلايكون له ظهور في العموم حتى يشمله دليل التعبد الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، كما لايخفى.

الجهة الثامنة

اختلفوا في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف وعدم جوازه ، كقوله علیه السلام : ( خلق اللّه الماء طهورا لا ينجسه شيء ) (1) وقوله علیه السلام : ( إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) (2) وذلك بعد الوفاق منهم ظاهرا على تخصيصه بالمفهوم الموافق.

ولكن التحقيق القول فيه هو ان العام وما له المفهوم مطلقا تارة يكونان في كلام واحد وقع به التخاطب وأخرى في كلامين مستقلين ، وعلى التقديرين فالدلالة فيهما تارة تكون بالوضع وأخرى بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وثالثة بالوضع في العام وبالاطلاق في المفهوم ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين لابد من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم على الآخر ، من غير فرق في ذلك بين كون العام وماله المفهوم في كلام واحد وفي كلامين مستقلين ، إذ على الأول فظاهر ، لعدم استقرار الظهور في واحد منهما حينئذ بعد صلاحية كل منهما للقرينية على الآخر وتساويهما في الوضع

ص: 546


1- الوسائل ج 1 ، الباب 1 من الماء المطلق ، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1 و 2.
2- الوسائل ج 1 ، الباب 1 من الماء المطلق ، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1 و 2.

والاطلاق ، وعلى الثاني أيضا كك من جهة تصادم الظهورين وصيرورتهما بحكم المجمل في عدم حجية واحد منهما ، حيث إنه لابد حينئذ من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان في البين ما يوجب قوة في أحدهما فيوجب استقرار ظهوره لو كانا في كلام واحد أو اقوائيته لو كانا في كلامين مستقلين. ولكن في مثل ذلك حيث لا ضابط كلي كذلك ، من جهة اختلافه باختلاف خصوصيات المقامات والمناسبات بين الاحكام وموضوعاتها ، لايمكن تأسيس قاعدة كلية سارية في جميع الموارد في تقديم أحدهما على الآخر ، بل لابد من لحاظ القرائن الخاصة وخصوصيات الموارد الخاصة من مناسبات الحكم والموضوع ونحوها ، فربما توجب قوة في العام ، وأخرى في المفهوم سواء في ذلك أيضا بين الموافق والمخالف.

وعلى الثالث من فرض كون الدلالة في العام بالوضع وفى المفهوم بالاطلاق : فان كانا في كلام واحد فلا اشكال في الاخذ بالعام ورفع اليد عن المفهوم ، بل لا دوران حينئذ حيث إنه مع الظهور الوضعي للعام لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في المفهوم ، حتى يجيء فيه احتمال التخصيص ، فان الظهور الاطلاقي من جملة مقدماته عدم البيان على خلافه ، والعام بعد كون الدلالة فيه بالوضع صالح للبيانية ، فيرتفع به موضوع الاطلاق.

واما لو كانا في كلامين مستقلين فقد يقال : بأنه أيضا كذلك وانه يقدم العام الوضعي عليه نظراً إلى تنجيزية الظهور الوضعي في العام وتعليقيته في الخاص والمفهوم ، وإناطته بعدم البيان على خلافه.

ولكنه فاسد لما تقدم ، وسيجيء بان عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان بقول مطلق ولو إلى الأبد بكلام منفصل آخر عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مقام تخاطبه ، ومن ذلك ترى اخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الكلام الملقى إليهم عند عدم نصب المتكلم قرينة على الخلاف في تخاطبه ، من غير حالة منتظرة منهم في الاخذ بالظهور الاطلاقي بأنه لعله يأتي البيان من قبله في الأزمنة الآتية بعد شهر أو شهرين أو سنة أو غير ذلك ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة استقرار الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب المتكلم قرينة على المراد في كلامه الذي أوقع به التخاطب. وعليه فإذا فرض كون العام وماله المفهوم في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق في قبال الظهور الوضعي للعام ، من غير

ص: 547

صلاحية الظهور الوضعي في العام للقرينية والبيانية عليه بنحو يرتفع موضوع الاطلاق ، وفي مثله لا مجال لتقديم ظهور العام عليه بمقتضي البيان المزبور ، بل بعد استقرار الظهور في الطرفين يقع بينهما المزاحمة فلابد من الحكم عليهما بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ان لم يكن اقوائية في إحداهما ، والا فيؤخذ بما هو الأقوى والا ظهر منهما ، ويرفع اليد عن ظهور الآخر كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر حكم الفرض الرابع أعني فرض كون الدلالة في المفهوم بالوضع وفى العام بالاطلاق فإنه في فرض كونهما في كلام واحد يقدم المفهوم على العام ، من جهة تنجيزية ظهوره وتعليقية ظهور العام ، وفي فرض كونهما في كلامين مستقلين ، يحكم عليهما بحكم الاجمال بمقتضي البيان المتقدم ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيؤخذ به ويرفع اليد عن ظهور الآخر ، فتدبر.

الجهة التاسعة

اختلفوا في جواز تخصيص العموم الكتابي بالخبر الواحد وعدم جوازه بعد الاتفاق منهم على تخصيصه بالخبر المتواتر. ولكن التحقيق هو الجواز ، للسيرة المستمرة من الأصحاب من قديم الأزمان إلى زمانا هذا على تخصيص العمومات الكتابية بالخبر الواحد الغير المحفوف بالقرائن القطعية كتخصيص غيرها به ، وعدم صلاحية ما تمسك به المانعون للمانعية ، تارة بقطعية العام الكتابي سندا وظنية سند الخبر فلا دوران بينهما من جهة عدم مقاومة الظني مع القطعي ، وأخرى بما ورد من الأخبار الكثيرة القطعية على طرح ما لا يوافق الكتاب أو يخالفه من نحو قوله علیه السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، (1) أو فاضربه على الجدار ، (2) أو زخرف (3) ) على اختلاف ألسنتها ، بدعوى ان المخالفة تعم المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق ، فيجب حينئذ طرح ما يخالف العموم الكتابي من الاخبار الآحاد ، إذ فيه

ص: 548


1- أصول الكافي ج 1 ح 5. وسائل الشيعة ، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 15.
2- لم نعثر عليه في كتب الحديث.
3- أصول الكافي ج 1 ص 69 ح 3 و 4 وسائل الشيعة ، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 و 14.

ما لايخفى :

اما الأول فبأنه لا دوران بين سند العام الكتابي وسند الخاص الظني حتى يقال بعدم مقاومة الظني للمعارضة مع القطعي ، بل ولا دوران أيضا بين دلالتهما ، من جهة معلومية اقوائية الدلالة في الخاص من العام في العموم ، كيف وان لازمه عدم جواز تخصيص العام المتواتر السند بالخبر الواحد ، مع أنه ليس كك قطعا ، بل وانما الدوران انما كان بين دلالة العام الكتابي وسند الخاص الظني ، وفي مثله يكون الدوران والمعارضة بين الظنيين من جهة ظنية دلالة العام أيضا ، لا بين القطعي والظني ، فكان الخاص حينئذ بسنده يعارض دلالة العام الكتابي لا سنده حتى يتوجه الاشكال المزبور ، ولا بدلالته من جهة ما عرفت من اقوائية ظهوره من ظهور العام ، ومن ذلك يقدم عليه بلا كلام مع القطع بصدوره ، كما يكشف عنه اطباقهم على جواز تخصيصه بالمتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية.

واما الوجه الثاني ففيه أيضا منع اطلاق تلك النصوص وشمولها للمخالفة بنحو العموم المطلق بل ومن وجه أيضا ، بل نقول باختصاصهما بمقتضي الانصراف بخصوص المخالفة بنحو التباين الكلي ، كيف وانه من المقطوع صدور اخبار كثيرة مخالفة للكتاب بنحو العموم المطلق ومن وجه ، فلابد حينئذ من الالتزام بالتخصيص بما صدر عنهم علیهم السلام من الاخبار المخالفة بنحو العموم المطلق ومن وجه ، وهو كما ترى! من اباء هذه الأخبار بملاحظة ما اشتمل عليها من التعبيرات عن التخصيص ، فان قوله علیه السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو فاضربه على الجدار ) ونحوها مما لايكاد يتحمل التخصيص ، فلا محيص حينئذ بقرينة صدور مثل هذه الأخبار المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق عنهم علیهم السلام من حملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي لو فرض اطلاق فيها.

كما أن ما دل منها على طرح ما لا يوافق أيضا لابد من الحمل على ذلك ، لو لم نقل باختصاصها بمورد تعارض الخبرين ومقام ترجيح أحدهما على الآخر.

ثم إن كل ذلك أيضا في فرض صدق المخالفة عرفا على المخالفة بنحو العموم المطلق ، والا فمع عدم صدق المخالفة على مثل ذلك عرفا يخرج موضوعا عن تلك الأخبار.

وحينئذ فعلى كل حال لا مجال للتشكيك في جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد بمثل البيانات المزبورة بل لابد بمقتضي القواعد المقررة في محله من تخصيصه به كتخصيصه

ص: 549

بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية.

نعم بعد ما ظهر ان الدوران في المقام كان بين سند الخاص الظني وبين دلالة العام الكتابي لابين سنديهما ولا بين دلالتيهما يبقى الكلام في ترجيح أصالة التعبد بالسند في الخاص على أصالة التعبد بالدلالة في طرف العام القطعي ، ووجه تقديمه عليه بأنه من جهة الحكومة كما قيل بدعوى مسببية الشك في حجية الظهور في العام عن الشك في صدور الخاص الا ظهر في قباله ، باعتبار ان موضوع الحجية في أصالة الظهور هو الظهور الذي لم يرد أظهر في قباله أو من جهة الورود بمناط المزاحمة وتقديم أقوى الحجتين أو بمناط آخر. وقد أشبعنا الكلام في ذلك مفصلا في مبحث التعادل والترجيح فراجع هناك تعرف.

الجهة العاشرة

إذا ورد عام وخاص متخالفان ، ففي كون الخاص ناسخا أو منسوخا أو مخصصا للعام وجوه.

وقد يقرب قاعدة كلية في تنقيح ذلك وتعيين كونه ناسخا للعام أو منسوخا به أو مخصصا له ، وهي اعتبار كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام واعتبار كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لاقبله حيث يقال حينئذ بان الخاص ان كان مقارنا مع العام أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه مخصصا للعام وبيانا له ، لا ناسخا له ، من جهة انه يعتبر في النسخ ان يكون رافعا لحكم ثابت فعلى من جميع الجهات ، وقبل حضور وقت العمل بالعام لايكون حكم فعلى في البين حتى يكون قضيته رفع الحكم الثابت ، فمن ذلك يتعين فيه كونه مخصصا للعام وبيانا له لا ناسخا. واما ان كان وروده بعد حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه ناسخا له ، لا مخصصا وبيانا له ، فان مقتضى كونه بيانا هو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح بل محال ، لأنه نقض للغرض الذي هو محال من الحكيم واما لو كان ورود الخاص قبل ورود العام ففيه يحتمل الأمران ، حيث يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل كونه منسوخا به. هذا ملخص ما أفيد في وجه التفصيل بين صورة ورود الخاص قبل

ص: 550

حضور وقت العمل بالعام أو بعده.

وقد عرفت ابتنائه على تسليم مقدمتين : الأولى قبح تأخير البيان عن وقت حضور عمل المكلف بالعام ، والثانية اعتبار كون السنخ رفعا للحكم الفعلي على الاطلاق ، حيث إنه على تقدير تمامية هاتين المقدمتين لابد من التفضيل المزبور وملاحظة كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، بالالتزام بالتخصيص في الأول وبالسنخ في الثاني.

ولكن كلتا المقدمتين ممنوعة وذلك : اما المقدمة أولى وهي قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فان أريد من وقت الحاجة وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه فقبحه مسلم لا اشكال فيه بل هو محال ، من جهة استلزامه نقض الغرض الذي هو من المستحيل في حق الحكيم ، ولكن صغراه في المقام ممنوعه ، حيث نمنع تعلق غرض الشارع في مثل تلك العمومات ببيان المرام الواقعي ، ومجرد احتياج المكلف إلى العمل لايقتضي كون وقت حاجته هو وقت حاجة المولى ، من جهة جواز التفكيك بينهما. وان أريد بذلك وقت حاجة المأمور والمكلف ولو لم يكن وقتا لحاجة المولى إلى البيان فقبحه غير معلوم بل معلوم العدم ، حيث إنه من الممكن كون المصلحة في القاء ظهور العام إلى المكلف عن خلاف المرام الواقعي ليأخذ به ويتكل عليه حجة وبيانا إلى أن يقتضى المصلحة بيان المرام الواقعي ، كيف وانه كفاك في ذلك ما في موارد التعبد بالأصول والامارات المؤدية على خلاف الواقعيات مع تمكن المكلف من تحصيلها بالاحتياط أو بالسؤال عن الأئمة علیهم السلام بل وكثير من الاحكام التي بقيت تحت الحجاب إلى قيام الحجة عجل اللّه فرجه مع احتياج العباد إليها ، ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك واحتمال وجود المانع عن ابراز المرام النفس الأمري اما مطلقا أو إلى وقت خاص أو قيام المصلحة الأهم في عدم الابراز لا مجال لاثبات كون الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا لا مخصصا ، بل حينئذ كما يحتمل فيه كونه ناسخا يحتمل أيضا كونه مخصصا. نعم لو قيل بان وقت حاجة المأمور ووقت العمل بالعام هو بعينه وقت حاجة المولى إلى بيان المرام النفس الأمري وهو الخصوص لاتجه الحمل على النسخ في الخاص المتأخر ، ولكن ودن اثباته خرط القتاد ، لما عرفت من عدم السبيل إلى هذه الدعوى بعد احتمال وجود مانع أو مزاحم أقوى في البين اقتضى اخفاء الواقعيات بالقاء الظهور إلى المكلف على خلافها اما إلى

ص: 551

الأبد أو إلى وقت خاص بعد العمل بالعام.

واما المقدمة الثانية ففيها أيضا ان كون النسخ رفعا للحكم الثابت وان كان لا سبيل إلى انكاره ، ولكن نقول بأنه لايلزمه كون ذلك الحكم الثابت فعليا على الاطلاق ، بل يكفي في صحته كونه رفعا لحكم ثابت في الجملة ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة بينه وبين شرطه وسببه ، كما في الواجبات المشروطة ، كيف وان النسخ في الشرعيات كالبداء في التكوينيات المتصور في الموقتات والمشروطات بالنسبة إلى المخلوقين ، وحينئذ فكما انه يصح في الاحكام العرفية نسخ الحكم في الموقتات والمشروطات قبل حصول شرطها ، ويكفي في صحته مجرد كونه رفعا لما هو المنشأ بالانشاء السابق ، ولو كان ذلك مجرد احداث الملازمة بين الامرين ، كك في الأحكام الشرعية ، فيكفي في صحته أيضا مجرد كونه رفعا لما تحقق بالانشاء السابق ولو لم يكن حكما فعليا على الاطلاق ، بل كان عبارة عن صرف قضية تعليقية ومحض الملازمة بين وجود شيء ووجوب امر كذا ، إذ لا فرق بينهما الا من جهة انه في العرفيات عبارة عن ظهور الواقع بعد خفائه من جهة ما يبدو لهم لما يرون فيه من المفاسد أو المزاحمة لما هو الأهم بخلافه في الشرعيات فإنه من جهة علمه سبحانه بعواقب الأمور واحاطته بالواقعيات عبارة عن اظهار الواقع بعد اختفائه لمصلحة تقتضيه. ومن ذلك نقول : بان باب النسخ أشبه شيء بباب التورية والتقية ، في كونه من باب التصرف في الجهة ، من حيث اظهاره سبحانه حكما بنحو الدوام والاستمرار لمصلحة تقتضيه ، مع علمه سبحانه بنسخه فيما بعد حسب ما يرى في علمه من المصالح المقتضية لذلك ، وعليه فصح ان يقول : ان جاء وقت كذا يجب كذا ، ثم يقول بعد حين قبل مجيء الوقت : نسخت ذلك الحكم ، فكان المرفوع هو تلك الملازمة الثابتة بين وجوب شيء ومجيء وقت كذائي ، ونتيجة ذلك هو عدم وجوب ذلك الشيء عليه عند تحقق الوقت الكذائي. ثم إن ذلك أيضا بناء على المشهور في المشروطات من عدم فعلية التكليف فيها الا بعد حصول المنوط به والشرط خارجا ، والا فبناء على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف فيها بجعل المنوط به هو الشيء في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج فلايحتاج إلى جعل المرفوع هو الملازمة ، حيث كان المرفوع حينئذ هو الحكم الفعلي المنوط ، بل لو قلنا برجوع المشروطات إلى المعلقات بارجاع القيود الواقعة في الاحكام إلى الواجب والمأمور به كان الامر أظهر ، من جهة فعلية الإرادة المطلقة الغير المنوطة بشيء حتى في فرضه ولحاظه

ص: 552

فتأمل.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتفصيل المزبور بين فرض ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، فإنه على كل تقدير يتأتى فيه احتمال النسخ والتخصيص كما في الفرض الثالث ، فلابد حينئذ بعد جريان احتمال النسخ والتخصيص في كل من الفروض الثلاثة من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وقبل الشروع في بيان ترجيح أحد الامرين نذكر ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة عند الشك فنقول : أما إذا كان الخاص مقدما على العام بحيث يحتمل كونه منسوخا بالعام الوارد بعده أو مخصصا وبيانا له ، فمع الدوران يجري استصحاب حكم الخاص ، من جهة الشك في ارتفاعه لاحتمال كونه مخصصا للعام لا منسوخا به ، فيستصحب ، وأما إذا كان الخاص واردا بعد العام ، بحيث يحتمل فيه الناسخية والمخصصية ، فتارة يكون حكم الخاص المتأخر نقيضا لحكم العام ، كما لو كان حكم العام هو وجوب اكرام العلماء ، وكان حكم الخاص عدم وجوب اكرام الفساق منهم ، وأخرى يكون حكمه ضدا لحكم العام ، كان كان حكم الخاص في الفرض المزبور حرمة اكرام الفساق منهم أو كراهته. فعلى الأولى يجرى فيه أيضا حكم التخصيص بمقتضي الأصل العدمي قبل ورود العام ، من جهة انه قبل ورود العام يعلم بعدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ، وبورود العام وهو قوله : اكرام العلماء يشك في وجوب اكرامهم ، من جهة احتمال كون الخاص المتأخر مخصصا للعام وبيانا له في عدم دخول الفساق منهم من الأول تحت حكم وجوب الاكرام ، فيستصحب الحالة السابقة وهي عدم وجوب اكرامهم فينتج حكم التخصيص دون النسخ. واما على الثاني فلا أصل يجرى في البين من جهة القطع التفصيلي بانتقاض الحالة السابقة على كل تقدير اما بوجوب الاكرام بمقتضي العام على فرض الناسخية واما بحرمة الاكرام الثابت للخاص على فرض المخصصية ، فعلى كل تقدير فلا شك فيه في البقاء حتى يجرى استصحاب العدم السابق على العام ، كما أنه بالنسبة إلى حكمه الفعلي أيضا مقطوع بحرمته على تقدير المخصصية والناسخية. نعم لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام أو حرمته وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الاكرام أو كراهته أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضي استصحاب عدم المنع السابق ، حيث إنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية أمكن اثبات الكراهة أو الاستحباب ، فتأمّل.

ص: 553

هذا هو مقتضي الأصول العملية عند الشك وعدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، ولقد عرفت ان مقتضاها جريان حكم التخصيص في جميع صور المسألة عدا فرض تضاد الحكم الثابت للخاص مع الحكم الثابت للعام.

واما مقام الترجيح فقد يقال : بترجيح احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، بتقريب ان التخصيص أكثر وأشيع من النسخ حتى قيل من جهة كثرته وشيوعه : بأنه ما من عام الا وقد خص ، وبان النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان قبال التخصيص في الافراد ، ومع الدوران يقدم الثاني على الأول لكونه كثيرا من تخصيص الأزمان. ولكن فيه ما لايخفى ، فإنه أولا نمنع كون النسخ من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى باب التصرف في الدلالة ، بل هو كما عرفت أشبه شيء بباب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة قبال التخصيص الراجع إلى مقام التصرف في الدلالة ، كما يكشف عنه أيضا صحة النسخ بزمان يسير عقيب قوله : أكرم زيدا في كل زمان ، مصرحا بعمومه الأزماني ، حيث يرى بالوجدان انه يصح له نسخ ذلك الحكم بعد يوم أو ساعة ، بقوله : نسخت ذلك الحكم ، من دون استهجان أصلا ، مع عدم صحة ذلك بنحو التخصيص من جهة كونه من تخصيص الأكثر المستهجن ، حيث إن نفس ذلك أقوى شاهد وأعظم بيان على عدم ارتباط النسخ بباب التخصيص في الأزمان وكونه من سنخ الأكاذيب والتقية الراجعة إلى مقام التصرف في الجهة دون الدلالة ، وثانيا منع اقتضاء مجرد الشيوع والأكثرية لترجيح التخصيص والتصرف الدلالي على النسخ والتصرف الجهتي ، والا لاقتضى ذلك تقديم التقية على غيرها عند الدوران بينها وبين غيرها ، نظراً إلى شيوع التقية في زمان صدور هذه الأخبار ، مع أنه لايكون كك ، حيث إن بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال صدور الخطاب تقية الا في بعض الموارد الخاصة التي كان الأصل الجهتي فيها موهونا في نفسه ، كما في مسألة طهارة الكتابي ، ومسألة حلية اكل ذبائحهم وطهارتهم ، ومسألة عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بل ومنع أصل أكثرية التخصيص من غيره أيضا ، فان لنا فرض الكلام في الخصوصيات الواردة في صدر الشريعة وبدوها ، ولئن قيل بان الأكثرية والأشيعية انما هي بلحاظ الاحكام العرفية لا بلحاظ خصوص الخطابات الشرعية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، يقال انه من الممنوع أيضا أكثرية التخصيص في الاحكام العرفية من السنخ لولا دعوى أكثرية السنخ فيها بلحاظ جهلهم بالموانع

ص: 554

والمزاحمات الواقعية النفس الامرية ، ولا أقل من عدم كون التخصيص فيها في الكثرة بمثابة يوجب انس الذهن به كي يوجب الحمل عليه في الخطابات الشرعية عند الدوران والترديد. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو المنع عن كون وجه تقديم التخصيص على النسخ من باب الأكثرية والأشيعية ، والا فربما نحن نساعد أيضا على أصل المدعى من تقديم التخصيص على النسخ عند العرف والعقلاء بحسب ارتكازاتهم في الخطابات الشرعية والاحكام العرفية الجارية بنياتهم.

وقد يقرب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرب في وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة ، من دعوى ان الأصل الجاري في السند كما كان في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور لكونها منقحة موضوعها ، كك الأصل الجاري في الجهة أيضا ، بلحاظ ان موضوع الجهة في الظهور هو الكلام الصادر عن المعصوم علیه السلام عن داعي الجد لبيان حكم اللّه الواقعي ، لا للتقية ونحوها ، وانه لولا احراز أصل صدور الكلام عن الإمام علیه السلام واحراز جهة صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا ينتهى النوبة إلى مقام التعبد بظهوره ، ودلالته ، فبذلك يكون أصالة التعبد بالصدور والجهة في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور والدلالة ، لكونهما منقحتي موضوعها ، باعتبار كون الأول مثبتا لأصل الموضوع وهو كون الكلام صادرا عن الإمام علیه السلام ، والثاني لكيفية صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها ، وعليه فعند الدوران بين التصرف الدلالي والتصرف الجهتي يقدم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي ، من جهة تقدمه عليه رتبة في المشمولية لدليل الاعتبار. وبذلك يقال في المقام أيضا بان النسخ بعد أن كان سنخه من باب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة ، لا من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى التصرف الدلالي ، فمع الدوران في العام بين كونه منسوخا بالخاص المتأخر أو مخصصا به يقدم الأصل الجاري في جهته على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ، من جهة جريان أصالة الجهة فيه حينئذ في الرتبة السابقة بلا مزاحم ، ومعه لابد من رفع اليد عن ظهوره ودلالته في العموم بمقتضي ما في القبال من الخاص الأظهر ، من غير فرق في ذلك بين ظهور الخاص في ثبوت حكمه على فرض المخصصية من بدو الشريعة أو عدم ظهوره فيه بل ظهوره في ثبوت حكمه في زمان صدوره ، وان كان على الأخير لا ثمرة عملية في البين ، من جهة القطع بحجية العام على كل تقدير إلى زمان

ص: 555

صدور الخاص ولزوم الاخذ بالخاص من حينه ورفع اليد عن العام على كل تقدير أيضا سواء على الناسخية أو المخصصية ، هذا.

ولكن قد يورد على هذا التقريب بعدم اجداء هذا المقدار من الترتب والطولية لتقديم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي عند الدوران ، بدعوى انه كما لا مجال للتعبد بظهور الكلام بدون احراز أصل صدوره وجهته كك لا مجال أيضا للتعبد بسنده وجهته مع عدم ظهوره ، واجماله ، حيث لايترتب عليهما اثر عملي في البين حتى يجري فيهما أصالة التعبد ، بل وانما ترتبه على ظهور الكلام الصادر عن الإمام علیه السلام لأجل بيان الحكم الواقعي ، وعلى ذلك فكان كل من السند والجهة والدلالة مما له الدخل في ترتب الأثر على الخبر في عرض واحد ، حيث كان ترتب الأثر عليه ووجوب المعاملة معه معاملة الواقع منوطا بسد أمور ثلاثة : أحدها احتمال عدم صدوره ، وثانيها احتمال صدوره لا لأجل بيان حكم اللّه الواقعي بل لأجل التقية ونحوها ، وثالثها احتمال كون المراد غير ما هو ظاهره ، وفي ذلك يكون مجموع الأمور الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الأثر وهو وجوب العمل ، بحيث بانتفاء أحدها ينتفى الأثر المقصود من التعبد بالبقية ، وحينئذ فإذا كان كل من أصالة السند والجهة والدلالة في عرض واحد بالنسبة إلى ترتب الأثر والنتيجة فقهرا لايبقى مجال تقديم أحدها على الآخر في المشمولية لدليل الاعتبار بمحض تقدمها الطبعي.

ولكن يمكن دفع ذلك بان الامر وان كان كما ذكر من احتياج كل من التعبد بالسند والجهة والدلالة في الجريان التعبد بالآخر ، ولكن نقول : بان ذلك غير قادح في تقدم الأصل الجهتي على أصالة الظهور بعد اختلاف نحوي التوقف والاحتياج فيهما ، وكون التوقف والاحتياج في بعضها من جهة عدم احراز الموضوع ، وفى البعض الآخر من جهة عدم الأثر ولغوية التعبد بدونه ، حيث إن من المعلوم حينئذ ان الأصل الجهتي لكونه منقح موضوع الأصل الدلالي وفي رتبة سابقة عليه مقدم لا محالة على الأصل الدلالي في مقام الدوران في المشمولية لدليل الاعتبار ، فلابد حينئذ من رفع اليد عن أصالة الظهور والدلالة ، وذلك أيضا ينطبق على ما عليه ديدن الأصحاب من تقديم التصرف الدلالي على التصرف الجهتي ولو بنحو التقية مع كثرتها وشيوعها في زمن الأئمة علیهم السلام . وعليه فحيث ان باب النسخ كان من سنخ التورية والتقية في كونه من قبيل التصرف في الجهة لا من قبيل التصرف في الدلالة فعند الدوران بين كون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا

ص: 556

له يقدم التخصيص على النسخ ويحكم بكونه مخصصا له لا ناسخا ، هذا.

ولكن مع ذلك كله فالتحقيق هو عدم اثمار هذا الترتب والطولية بين الأصل الجهتي والدلالي لشيء بوجه أصلا ، وذلك :

اما في مقام الدوران بين التصرف الدلالي والتقية : فمع استلزام الأصل الجهتي لطرح الدلالة رأسا فظاهر ، من جهة لغوية التعبد بالجهة حينئذ مع انتفاء أصل الدلالة ، واما مع عدم استلزامه لذلك وامكان الاخذ بالعام ولو ببعض مدلوله فبأنه وان كان يجري الأصل الجهتي ويؤخذ بالعام مثلا في بعض مدلوله بلا كلام لكنه لا يتوقف هذا المقدار على ما ذكر من الترتب والطولية بينهما ، من جهة وضوح كون الامر كك ولو على القول بالعرضية ، من جهة العلم التفصيلي حينئذ بخروج مقدار من المدلول عن تحت الحجية سواء على تقدير التخصيص أو التقية ، واما فيما عدا هذا المقدار من المدلول فحيثما لا تنافي بين الأصلين يؤخذ بهما ، فيترتب عليهما وجوب العمل على طبقه سواء فيه بين طولية الأصلين أو عرضيتهما هذا إذا كان الدوران بين التقية والتخصيص.

وأما إذا كان الدوران بين النسخ والتخصيص كما في المقام ، فان كان الخاص مقدما على العام وقد احتمل فيه كونه مخصصا للعام أو منسوخا به ، ففي ذلك يقع التعارض بين الأصل الجهتي في الخاص وبين الأصل في العام المتأخر ، وحيث انه لايكون لأحدهما تقدم رتبي على الآخر كما في فرض اعتبارهما في دليل واحد فلا جرم ينتهي الامر فيهما بعد المعارضة إلى التساقط ، وفي مثله يكون المرجع هو استصحاب حكم الخاص. واما ان كان الخاص متأخرا عن العام فان كان ذلك قبل حضور وقت العمل بالعام فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخا أو مخصصا ، من جهة انه على كل تقدير يكون العمل على طبق الخاص المتأخر من حين صدوره ، وأما إذا كان صدوره بعد حضور وقت العمل بالعام بمدة فتارة لايكون له ظهور في ثبوت مدلوله من الأول من حين ورود العام وأخرى كان له هذا الظهور ، فعلى الأول فلا دوران في البين بين الأصلين إذا كما أنه يجري فيه الأصل الجهتي كك يجري فيه الأصل الدلالي أيضا إلى حين ورود الخاص ، ومعه يكون المتبع هو أصالة العموم إلى حين ورود الخاص ، ومن حين ورود الخاص يكون العمل على طبق الخاص المتأخر سواء كان ناسخا أو مخصصا ، واما على الثاني من فرض اقتضاء الخاص المتأخر على تقدير كونه مخصصا ولو من جهة اطلاقه لثبوت حكمه من حين ورود

ص: 557

العام ، كما كان ذلك شأن أغلب الخصوصات ، ففي مثله وان دار الامر بين التصرف في ظهور العام وبين التصرف في جهته وكان يثمر أيضا فيما قبل ورود الخاص منه الأزمنة المتقدمة من جهة القضاء والكفارة لو كان الواجب مما يترتب على تركه ذلك ، الا ان طرف المعارضة بدوا لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مفاده من أول الامر ، من جهة منافاته بالضرورة مع قضية ظهور العام في العموم ، فلا جرم ينتهى الامر فيهما إلى التساقط ، ومع سقوط أصل الظهور في العام عن الحجية في العموم يجرى عليه قهرا حكم التخصيص. ولئن شئت قلت بان أصل الجهة في العام في مثل الفرض من جهة اناطته بجريان أصالة الظهور في العام وشمول عمومه لزيد أيضا في نحو قوله : أكرم كل عالم إناطة الشيء بموضوعه كان غير جار على كل تقدير من جهة وضوح عدم المجال للتعبد بالجهة بالنسبة إلى زيد مع عدم التعبد بعموم العام وشموله له ، فيكون حينئذ طرف المعارضة قضية اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت حكمه على تقدير التخصيص من حين ورود العام ، ومع التعارض وسقوط أصالة الظهور في العام عن الحجية فقهرا يجرى عليه حكم التخصيص ، ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول التي توافق بحسب النتيجة مع التخصيص تارة كما في فرض كون مفاد العام هو وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص عدم وجوب اكرام زيد العالم ، وأخرى مع النسخ ، كما في فرض كون مفاد العام عدم وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص وجوب اكرام زيد حيث إن قضية البراءة عن القضاء مثلا حينئذ توافق النسخ ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب عدم ترتب اثر عملي على مثل هذا الفرض بالنسبة إلينا بعد تأخر زماننا عن زمان العام والخاص ، من جهة وضوح انه على كل تقدير كان الواجب علينا الاخذ بالخاص والعمل على طبقه ناسخا كان أو مخصصا. نعم في الخاص المتقدم كان له ثمرة مهمة من حيث كونه مخصصا للعام المتأخر أو منسوخا به ، ولكنك عرفت فيه أيضا ان اللازم فيه هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص من جهة معارضة الأصل الجهتي في الخاص حينئذ مع الأصل الدلالي في العام المتأخر وتساقطهما فتدبر. هذا تمام الكلام في العام والخاص.

ص: 558

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

اشارة

وقد عرفت المطلق بأنه ما دل على شايع في جنسه ، والظاهر أن المراد من الجنس في المقام هو السنخ ، لا الجنس المصطلح عند المنطقيين : أي الكلي المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو ، قبال النوع ، ولا ما هو المصطلح منه عند النحويين : أي الماهيات الكلية المقصورة بأسامي الأجناس ، كيف وان من المعلوم صحة اطلاقه على الافراد المعينة الشخصية بلحاظ الحالات الطارية عليها ، كما في زيد ، حيث إنه مع شخصيته يكون مطلقا بلحاظ حال القيام والقعود والمجيء وغيرها من الحالات ، فكان ذلك حينئذ شاهدا على أن المراد من الجنس المأخوذ في تعريفه هو مطلق السنخ الصادق على الذوات الشخصية الخارجية ولو بلحاظ تحليل الذوات الشخصية إلى حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة ، وعلى الحصص السارية في ضمن افراد الطبيعي كالحيوان والانسان مثلا ، غير أن الفرق بينهما هو استقلال كل حصة من حصص الطبيعي في عالم الوجود ، بخلافه في الحصص السارية من الذوات الشخصية بلحاظ الحالات المتبادلة حيث إنها موجودات بوجود واحد ومجتمعات تحت حد واحد في الخارج ، ولايكون التعدد فيها الا بحسب التحليل ، ولكن مجرد هذا المقدار من الفرق لا يضر بما هو المطلوب من شمول تعريف المطلق لمثله ، كما لايخفى ، فكان المراد من المطلق حينئذ في المقام ما هو المعبر عنه بالفارسية ب ( رهاى در مقام انطباق ) الغير الممنوع عن الصدق على ما هو من سنخه ، في قبال المقيد المعبر عنه بالفارسية ب ( بسته در مقام انطباق ) الممنوع على الصدق على هو من سنخه ، فان تقيد الشيء ببعض القيود كتقيد زيد بالقيام يمنع عن شيوع الحصة المحفوظة

ص: 559

في ضمنه بالنسبة إلى ما كان من سنخه من بقية الحصص ، ومن ذلك لا يصدق زيد القائم بلحاظ توصيفه بالقيام على زيد القاعد ، وان كان هو أيضا مطلقا باعتبار ما في ضمنه من الحصص بلحاظ الحالات المتبادلة الطارية كالضحك والتكلم والكتابة وغيرها ، وهو واضح.

واما الشياع فالمراد به تارة هو سريان الطبيعة في ضمن جميع الافراد ، وهو المعبر عنه في اصطلاح بعضهم بالعموم السرياني ، وأخرى قابلية الطبيعي للانطباق على القليل والكثير انطباقا عرضيا. والمطلق بالمعنى الأول يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي النواهي النفسية ، كقوله : لا تشرب الخمر ، وفي طي الأحكام الوضعية ، كقوله : أحل اللّه البيع ونحوه ، حيث إنه وان كان نحو ضيق في الطبيعة حينئذ باعتبار عدم الانطباق الا على الكثير ، والا انه من جهة لحاظ سريانها في ضمن الافراد كان له اطلاق ، في قبال المقيد بقيد خاص غير قابل للانطباق الا على المقيد. وبالمعنى الثاني يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي كثير من الأوامر ، والمطلق بهذا المعنى أوسع دائرة من المطلق بمعنى السريان ، من جهة عدم اعتبار تقيده بشيء من الخصوصيات حتى خصوصية السريان ، فكان من جهة ارساله وعدم تقيده بشيء من الخصوصيات الوجودية والعدمية مجامعا مع كل خصوصية ونقيضها وقابلا للانطباق على القليل والكثير ، ومثل هذا المعنى هو المعروف عندهم باللابشرط المقسمي.

ثم انه بعد ما اتضح لك هذه الجهة ، يبقى الكلام فيما هو مركز التشاجر والنزاع في مداليل أسماء الأجناس بين المشهور من القدماء وبين السلطان في أنها هل هي الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط وعلى وجه الارسال؟ أو هي الطبيعة المهملة المجامعة مع التقيد والاطلاق كما عليه السلطان؟ وفى ان المراد من الطبيعة المهملة ما هو؟ وقبل الخوض في المقصود ينبغي بيان أمرين لكي ينكشف بهما الحجاب عن وجه المرام :

الأول انه لا شبهة في أن للماهية تصورات بحسب التعقل الأولى : منها : تعلقها مقيدة ومع الضميمة والشرط ، كالانسان الملحوظ معه خصوصية الزيدية وكالرقبة الملحوظ معها خصوصية الايمان مثلا ونحو ذلك من الخصوصيات والضمائم ، وقد شاع التعبير عن ذلك بالمهية بشرط شيء ، وربما عبر عنه أيضا بالمخلوطة قبال المجردة. ومنها : تعلقها مجردة وبلا شرط وضميمة ، وهذا على قسمين : تارة اعتبارها بقيد التجرد عن جميع القيود والخصوصيات ، وأخرى اعتبارها بنفسها مجردة من غير اعتبار قيد التجرد عن الخصوصيات

ص: 560

فيها ، فكان تجردها حينئذ من جهة عدم تعدى اللحاظ عن ذات المهية إلى شيء آخر معها ، وبعبارة أخرى : الملحوظ في هذا القسم عبارة عما هو مصداق المجرد لا الطبيعة متقيدة بقيد التجرد عن الخصوصيات ، بخلاف سابقه فإنه قد اعتبر فيه قيد التجرد عن الخصوصيات ، وقد عبروا عن الأول باللابشرط القسمي وعن الثاني باللابشرط المقسمي ، وقالوا بامتناع صدق الأول وانطباقه على الخارجيات لكونه كليا عقليا لا موطن له الا في الذهن ، بخلاف الثاني فإنه من جهة عدم اعتباره مقيدا بقيد التجرد كان قابلا للانطباق على الخارج وللصدق على القليل والكثير. ومنها اعتبارها بنحو السريان في ضمن جميع الافراد الملازم لعدم انطباقها الا على الكثير دون القليل.

ولكن من الواضح أيضا لزوم ان يكون في البين امر واحد في هذه الاعتبارات يكون هو الجامع ، والمقسم لهذه الأقسام في قولك : الماهية اما ان تكون كذا واما ان تكون كذا ، وان لم يكن تصوره مستقلا ، وذلك من جهة وضوح مبائنة كل واحدة من هذه الاعتبارات في الذهن مع الاعتبار الآخر حتى المهية المجردة على النحو الثاني ، فإنها أيضا في ظرف اعتبارها كك تباين المهية المقيدة والمأخوذة بنحو السريان بحيث لايكاد انطباقها في ظرف اعتبارها كك على المقيدة ، وان كانت تنطبق على مصداقها وما بإزائها خارجا ، ومن ذلك أيضا ترى بناء المشهور على كون استعمال لفظ المطلق في المقيد مجازا ، وليس ذلك الا من جهة ما ذكرنا من تبائن كل من المطلق والمقيد بحسب الاعتبار مع الآخر ، وعليه فلايمكن ان تكون المهية المجردة المعبر عنها في مصطلحهم باللابشرط المقسمي هي المقسم حقيقة في هذه الاعتبارات ، بل لابد وأن يكون ما هو المقسم لها عبارة عن القدر المشترك بين تلك الاعتبارات. والمرجع للضمير في التقسيم في قولك المهية اما ان تكون كذا واما ان تكون كذا ، وان لايمكن تعلقه مستقلا ولا كان له وجود في الذهن بحسب التعقل الأولى الا في ضمن تلك الاعتبارات المختلفة ، نظير المادة المأخوذة في المشتقات المحفوظة في ضمن الصيغ الخاصة والهيئات المخصوصة ، وذلك لان كلما يتصور ويوجد في الذهن من الصور حسب التعقل الأولى لا يخلو من كونها اما صورة واجدة للقيد والخصوصية أو فاقدة لها ، فلا صورة ثالثة في البين مستقلا في ذلك الوعاء تكون هي الجامع والقدر المشترك بين الواجد والفاقد الا بالتحليل العقلي حسب التعقل الثانوي ، بتحليل كل صورة إلى ذات وخصوصية ، ولو كانت الخصوصية هي خصوصية التجرد والفقدان.

ص: 561

ولئن شئت فاستوضح ذلك بالطبيعي في الخارج ، فإنه كما لايكون للطبيعي وجود مستقل في الخارج ، بل كان وجوده في ضمن افراده ، كك الجامع في المقام ، فلايكون له في الذهن أيضا وجودا الا في ضمن الصور الخاصة ، ولايكون له وجود مستقل الا بالتحليل العقلي حسب التعقل الثانوي ، بتحليل كل صورة إلى ذات وخصوصية ، كتحليل الموجود الخارجي إلى ذات وهو الطبيعي وخصوصية ، غايته ان الفرق بينهما هو ان التحليل في الموجود الخارجي كان بحسب التعقل الأولى وفى الصور الذهنية بحسب التعقل الثانوي ، كما هو واضح.

وعلى ذلك فما أفادوه في الطبيعة المجردة المطلقة من التعبير عنها باللابشرط المقسمي ، بجعلها مقسما لهذه الاعتبارات ، وجعل القسمي هي الطبيعة المتقيدة بقيد التجرد عن جميع الخصوصيات منظور فيه ، من جهة ما عرفت من عدم كون المجردة مقسما حقيقة لتلك الاعتبارات ، وان المقسم لها حقيقة انما هو القدر المشترك المحفوظ في ضمن المجردة وغيرها الذي لايكون له في الذهن وجود منحاز مستقل الا بحسب التعقل الثانوي.

الامر الثاني لا اشكال ظاهرا في أن المراد من المهية المطلقة لدى المشهور في نحو مداليل أسامي الأجناس انما هو القدر المشترك بين المهية المجردة المعبر عنها عندهم باللابشرط المقسمي وبين الطبيعة المأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد كالمواد المأخوذة في طي النواهي ، لا ان المراد هو خصوص الطبيعة المجردة التي من شأنها قابلية الانطباق على القليل والكثير ، كيف ولازم ذلك هو المصير إلى المجاز في موارد إرادة الساري منها ، مع أنه كما ترى لايظن منهم الالتزام به ، فان المشهور كما بنوا على كونها حقيقة في الطبيعة المطلقة المعبر عنها باللابشرط المقسمي كك بنوا على كونها حقيقة في المأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد ، وانما خصصوا المجازية في خصوص المقيدة ببعض الخصوصيات ، في قبال السلطان القائل بوضعها للطبيعة المهملة وكونها حقيقة مطلقا حتى في المقيدة. وعلى ذلك فبعد اختلاف الاعتبارين : اعتبار المجردة والسارية وبطلان الاشتراك اللفظي لابد لهم من الالتزام بوضعها للقدر المشترك بينهما ، كما لايخفى.

وإذا عرفت ذلك نقول : ان المراد من المهية المهملة لدى السلطان ومن تبعه انما هو القدر المشترك بين ما يقبل الانطباق على القليل والكثير كالطبيعة المطلقة وبين ما لا يقبل الانطباق الاعلى الكثير أو القليل كالطبيعة السارية والمقيدة ، فكان دعوى السلطان

ص: 562

على أن أسامي الأجناس كالرقبة مثلا كانت موضوعة للقدر المشترك المحفوظ في جميع تلك الاعتبارات المختلفة الذي هو المقسم الحقيقي لها من دون دخل شيء من تلك الخصوصيات حتى خصوصية التجرد والاطلاق في الموضوع له فيها أصلا وان استفادة الخصوصيات انما كانت بدوال أخر ، في قبال المشهور القائلين بوضعها للطبيعة المجردة القابلة للانطباق على القليل والكثير أو للقدر الجامع بينها وبين الطبيعة السارية. ومن ذلك يحتاج مثل السلطان ومن تبعه في هذا المسلك إلى التشبث بقرينة الحكمة في استفادة معنى الشياع والاطلاق عند الاطلاق ، باعتبار ملائمة قضية الوضع مع إرادة كل من المطلق والمقيد ، بخلاف المشهور فإنهم يغنيهم قضية وضع اللفظ للمعنى الاطلاقي عن التشبث بقرينة الحكمة.

وحينئذ فحيث اتضح ذلك نقول بأنه لاينبغي التأمل في أن التحقيق هو ما عليه السلطان من الوضع لنفس المهية المهملة والقدر الجامع المحفوظ بين جميع تلك الصور المختلفة من المجردة والمقيدة والمأخوذة على نحو السريان ، كما يشهد له قضية الارتكاز والوجدان في كونها على نحو الحقيقة في جميع الموارد ، عند إرادة الخصوصيات بدوال أخر لا من نفس اللفظ باستعماله في الخصوصية ، حيث يرى أن استعمال الرقبة مثلا في الرقبة المؤمنة مع إرادة الخصوصية بدال آخر ، بعينه كاستعمالها في المجردة عن قيد الايمان ، من دون احتياج إلى رعاية عناية في البين أصلا ، وان المقصود من الرقبة في قولك : أعتق رقبة ، هو المراد والمقصود منها في استعمالها في المقيدة في قولك الرقبة المؤمنة ، بلا ارتكاب تجوز وعناية في البين ، حيث إن ذلك كاشف ان الموضوع له هو المعنى الجامع والقدر المشترك بين المطلقة والمقيدة ، كيف وقد عرفت ان المشهور لابد لهم أيضا من الالتزام بالوضع للقدر المشترك بين الطبيعة الشايعة بنحو السريان وبين الطبيعة الصرفة القابلة للانطباق على القليل والكثير ، من جهة ما عرفت من مباينة المهية بكل واحد من الاعتبارين في عالم اعتبارها مع الآخر. وعليه فبعد لا بدية الالتزام بالقدر الجامع بين نحوي الاعتبارين المزبورين : أي اعتبار الشياع ، بمعنى السريان ، والشياع بمعنى القابلية للانطباق على القليل والكثير ، يتوجه الاشكال بأنه لم لم يحدد دائرة الجامع بما يعم المقيد بل يقتصر في تحديده بما هو في ضمن الشياعين فتدبر. فلابد حينئذ بعد عدم وجه وجيه للتخصيص بذلك من الالتزام بما عليه السلطان قدس سره من الوضع للمهية المبهمة والقدر المحفوظ بين المقيدة وبين الشياعين. هذا كله في

ص: 563

أسامي الأجناس كالانسان والأسد.

واما علم الجنس كأسامة فهو أيضا من هذه الجهة كاسم الجنس ، فعند المشهور كان موضوعا للطبيعة المطلقة ، وعند السلطان ومن تبعه للطبيعة المهملة ، وانما الكلام في أنه هل فيه مزية زائدة على اسم الجنس من حيث التعين بالإشارة الذهنية كما عليه المشهور أيضا ، بشهادة المعاملة معها معاملة التعريف ولو بدون أداته؟ أم لا ، بل كان كاسم الجنس وكان التعريف فيه لفظيا لا معنويا؟ فيه وجهان ثانيهما مختار الكفاية ، حيث قال (1) ما محصله : ان التحقيق انه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ كونه متعينا بالتعين الذهني ، وان التعريف فيه كان لفظيا ، محضا لا معنويا ، كالتأنيث اللفظي في غيره ، والا لما صح حمله على الافراد وانطباقه على الخارجيات ، من جهة رجوع التقيد المزبور حينئذ إلى التقيد بالوجود الذهني المانع عن الصدق على الخارجيات ، فيحتاج حينئذ إلى التجريد في مقام الحمل على الافراد عن تلك الخصوصية والمصير إلى المجاز ، مع أنه كما ترى ، حيث يرى بالوجدان صحة حمله على الافراد وصدقه على الخارجيات من دون تجريد ورعاية عناية مجاز أصلا ، خصوصا مع بعد الوضع لمعنى يحتاج إلى التجريد عن الخصوصية دائما عند الاستعمال ، فان مثل هذه الجهة مما لاينبغي صدوره عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم ، هذا.

ولكن فيه انه بعد كون الإشارة الذهنية إلى الشيء غير وجوده في الذهن لكون الإشارة الذهنية إلى الشيء عبارة عن توجه النفس إليه في ظرف الفراغ عن وجوده في الذهن ، بشهادة صحة تصور أمور متعددة في الذهن والإشارة إلى بعضها بأنه أحسن من ذلك نقول بأنه من الممكن حينئذ الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس بحسب المعنى ، بدعوى ان الأول موضوع لنفس الطبيعة المطلقة أو المهملة على اختلاف المسكين ، والثاني موضوع للطبيعة بما انها معروضة للإشارة الذهنية ولو؟ متقيدة بها ، وبعبارة أخرى الموضوع له في علم الجنس هو حصة من الطبيعي تعلقت بها الإشارة الذهنية بلا اخذ جهة التقيد بها في مدلوله ومعناه ، وعليه فالفرق بين اسم الجنس وعلمه كان بحسب المعنى حيث إنه كان لاسم الجنس سعة اطلاق يشمل ما يشار إليه من الحصص وما

ص: 564


1- ج 1 ص 378.

لا يشار إليه منها ، بخلافه في علم الجنس ، فإنه لما اعتبر فيه كونه حصة من الطبيعي وقعت معروضة للإشارة فقهرا لم يكن له تلك السعة من الاطلاق بنحو يشمل مالا يشار إليه من الحصص ، بل يختص بالحصص المعروضة للإشارة ، كما أنه من جهة عدم اخذ التقيد بالإشارة فيه كان قابلا للحمل على الافراد وللانطباق على الخارجيات. وبالجملة فعلى هذا البيان أمكن دعوى الفرق بين علم الجنس واسمه بالمصير إلى ما عليه المشهور من أهل العربية من كون التعريف في علم الجنس معنويا. ثم إن ذلك كله بحسب مقام أصل الثبوت.

واما في مقام الاثبات والتصديق بأحد المسلكين فهو راجع إلى اللغة ويتبع التبادر ونحوه ، مع أنه لايكون البحث فيه بمهم أيضا في كون التعريف فيه لفظيا أو معنويا ، من جهة عدم ترتب ثمرة مهمة عليه ، كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في الجنس المحلى باللام أيضا ، حيث إنه يمكن دعوى كون اللام فيه موضوعا للتعريف ومفيدا للتعين من دون اقتضائه للمنع عن صحة انطباقه على الخارج كي يلزمه التجريد في مقام الحمل على الافراد ، كما لايخفى. نعم في مثل ( هذا الرجل ) لا باس بدعوى كون اللام فيه للزينة ، كما في الحسن والحسين ، وذلك أيضا انما هو من جهة ما يلزمه من لزوم تحقق الإشارتين في آن واحد إلى الطبيعة ، الذي هو من المستحيل ، بملاك استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فتأمل. فلابد حينئذ من جعل اللام لمحض الزينة ، ولكن لايلزمها كونها للزينة على الاطلاق حتى في غير مورد تعين المدخول بمثل هذا ونحوه ، حيث إنه من الممكن حينئذ الالتزام بكونها مفيدة للتعريف وتعين المدخول عند عدم تعينه من جهة أخرى. وحينئذ فاللازم هو اثبات هذه الجهة من وضع اللام لغة للتعريف وتعين المدخول ، ولايبعد دعوى كونه كك بحسب اللغة من جهة ما هو المتبادر والمنساق منه في مثل قولك : الرجل ، والأسد ، والحيوان. والامر سهل.

ومن مصاديق المطلق النكرة ، وهي عبارة عن الطبيعة المتقيدة بإحدى الخصوصيات ، على أن يكون الأحد بيانا ومقدرا لكم القيد ، وانه إحدى الحصص قبال التمام والبعض والعشرة والعشرين ونحوها ، من دون ان يكون عنوان الأحد بنفسه قيدا للطبيعة بوجه أصلا ، وإلى ذلك أيضا نظر من عبر عنها بالفرد المنتشر حيث كان المقصود

ص: 565

منه هو الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها ومقدرها الواحد ، لا ان القيد هو هذا العنوان كما يظهر من الكفاية (1) ، من حيث ارجاعه النكرة إلى الطبيعة المتقيدة بعنوان الواحد بما هو هذا المفهوم ، كيف وان لازمه هو عدم خروجها عن قابلية الانطباق بانطباق عرضي على القليل والكثير ، لان مثل هذا العنوان أيضا عنوان كلي كأسامي الأجناس ، وتقيده بمفهوم الواحد لايوجب خروجه عن القابلية للانطباق عرضا على القليل والكثير ، وان كان قضية التقيد المزبور تضيق دائرته من جهة أخرى ، مع أنه كما ترى ، فان شان النكرة انما هو عدم الانطباق على المتكثرات الا بانطباق تبادلي. وهذا بخلاف ما لو كان الأحد بيانا ومقدرا لما هو كم القيد ، وانه إحدى الحصص ، وكان القيد نفس الحصص والخصوصيات ، فان لازم ذلك هو عدم صلاحيتها للانطباق على المتكثر الا بنحو البدلية دون العرضية. وبالجملة فرق واضح بين ان يكون عنوان الواحد بنفسه قيدا للطبيعة وبين ان يكون مقدرا لكم القيد وكان القيد هي الخصوصيات ، حيث إنه على الأول يصدق الطبيعة المتقيدة بالواحد على الكثيرين بانطباق عرضي ، بخلافه على الثاني من فرض كونه مقدرا لكم القيد ، فإنه عليه لا يصدق على الكثيرين الا بانطباق تبادلي ، والنكرة المعبر عنها بالفرد المنتشر في قوله ( رجل ) بنحو التنكير انما كانت من قبيل الثاني دون الأول كما هو واضح.

ثم انه مما يترتب على المسلكين هو تحقق الامتثال على مسلك اخذ عنوان الوحدة قيدا للطبيعة بأزيد من واحد فيما لو أتى في مقام الامتثال بعشر واحدات دفعة واحدة ، فإنه على هذا المسلك يتحقق الامتثال بالجميع ، بخلافه على مسلك اخذ عنوان الواحد مقدرا لكم ما هو القيد ، فإنه عليه لايتحقق الامتثال الا بواحد منها.

ومن لوازم ذلك أيضا هو دخول الخصوصيات طرا تحت الطلب دونه على المسلك الأول حيث كانت الخصوصيات عليه من لوازم المطلوب وخارجة عنه. وربما يثمر هذه الجهة فيما لو قصد الخصوصية في مقام الامتثال ، فإنه على المسلك الأول يكون تشريعا في قصده من جهة خروجها عن جيز المطلوبية ، بخلافه على المسك الثاني ، فإنه لايكون فيه تشريع ، بل ويتحقق القرب به أيضا.

وعلى كل حال فالنكرة التي قلنا برجوعها إلى الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها

ص: 566


1- ج 1 ص 382.

ومقدرها الواحد لا يفرق فيها ولا يختلف مدلولها بين وقوعها في حيز الطلب كقوله : جئني برجل وبين وقوعها في حيز الاخبار كقوله : جاء رجل من أقصى المدينة ، بل هي في الموردين كانت مستعملة في معناها الحقيقي ، غايته انه في الثاني قد علم المراد منها بدال آخر خارجي ، وانه حبيب النجار مثلا.

ثم اعلم أن الحمل على الاطلاق لايختص بالألفاظ المطلقة الغير المقيدة بشيء من الخصوصيات ، بل يجرى في كل ما يمكن ان يفرض لها الاطلاق والارسال ولو بجهة من الجهات ، وعليه فيجرى مقدمات الاطلاق في النكرة أيضا ، فإنها وان كانت مقيدة بإحدى الخصوصيات ، ولكنها من غير تلك الجهة لما كانت يمكن ان يفرض لها الاطلاق والارسال ، فعند الشك في مدخلية بعض الخصوصيات الاخر فيها تجرى فيها مقدمات الاطلاق ، بل وقد عرفت جريان اطلاقات حتى في نحو الاعلام الشخصية أيضا بلحاظ ما يفرض لها من الاطلاق والارسال بلحاظ الحالات ، كما لايخفى.

وكيف كان فبعد ان اتضح وجه الفرق بين المسكين نقول بأنه على مسلك المشهور من وضع الألفاظ للطبيعة المطلقة لابد بمقتضى الوضع من الحمل على الاطلاق والارسال عند عدم القرينة على التقييد ، من دون احتياج إلى التمسك بقضية مقدمات الحكمة ، واما على مسلك السلطان ومن تبعه من الوضع للطبيعة المهملة والجامع المحفوظ بين تلك الصور المجردة الفاقدة للخصوصية والواجدة لها ، فحيث ان وضع اللفظ بنفسه غير مقتض للحمل على الاطلاق والارسال من جهة ملائمته مع التقيد أيضا بنحو تعدد الدال والمدلول ، فيحتاج في استفادة الاطلاق والشياع إلى ضم قرينة الحكمة التي هي مؤلفة على التحقيق كما سنذكرها إن شاء اللّه من أمور :

منها : كون المتكلم بمدلول لفظه في مقام البيان على مرامه لا في مقام الاهمال والاجمال.

ومنها : عدم نصبه قرينة على التقييد وإرادة الخصوصية.

ومنها : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب أو مطلقا ولو من الخارج على وجه يأتي إن شاء اللّه تعالى.

حيث إنه باجتماع هذه الأمور يتم امر الاطلاق ويستكشف منها عدم تقيد موضوع طلبه بشيء من الخصوصيات وانه مأخوذ في اعتباره على نحو الاطلاق

ص: 567

والارسال ، وبانتفاء بعضها ينتفى امر الاطلاق.

نعم ربما يختلف تلك المقدمات بحسب اللوازم أيضا فان المقدمة الأولى مما ينتفى بانتفائها موضوع الاطلاق بحيث لايكاد وقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق آخر ولو مع احراز وحدة المطلوب ، بل يقدم ذلك المطلق الاخر عليه بلا كلام ، بخلاف المقدمة الثانية ، فان انتفائها موجب لوقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق آخر ، فينتهى الامر فيهما إلى مقام الجمع أو الترجيح.

وكيف كان فقبل الشروع في شرح مقدمات الاطلاق ينبغي بيان ان نتيجة تلك المقدمات هل هي الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة التي من شانها عدم قابلية انطباقها الا على أول وجود الطبيعي ، كما قيل؟ أو الحمل على الطبيعة المهملة وما هو المقسم للطبيعة الصرفة والمقيدة والمأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد التي من شانها سعة قابلية الانطباق على القليل والكثير من الافراد العرضية والطولية؟ حيث إن فيه وجهين أظهرهما الثاني ، فان غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الوجه الأول هو دعوى ان كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم نصبه للقرينة على الخصوصية والتقييد يقتضى ان ما اعتبره في لحاظه هو تلك الصورة المجردة الفاقدة لجميع القيود والخصوصيات حتى خصوصية السريان في ضمن الافراد أعني الطبيعة الصرفة التي من شانها قابلية الانطباق على القليل والكثير عرضيا ، ومن لوازمها سقوط الطلب والامر عنها بأول وجودها كما في أغلب المواد المأخوذة في حيز الأوامر ، من غير مدخلية في ذلك في مقام طلبه أيضا لشيء من الخصوصيات ، والا كان اللازم عليه البيان على مدخلية الخصوصية بمقتضى برهان استحالة نقض الغرض.

ولكن يدفعه ان كينونة المتكلم في مقام بيان مراده بعد أن كانت بتوسيط لفظه واظهار ان مدلوله تمام مراده ، فلا جرم قضية ذلك بعد عدم نصب القرينة على دخل الخصوصية هو الاخذ بما هو مدلول لفظه الذي هو عبارة على هذا المسلك عن الطبيعة المهملة والمعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام من الصور والاعتبارات المتقدمة التي من شأنها سعة الانطباق على الافراد العرضية والطولية ، لا الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة التي من شانها عدم قابلية الانطباق الا على أول وجود كما هو واضح ، كيف وان لازم ذلك هو المصير إلى اختلاف نتيجة الحكمة بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى ، والالتزام بكونها منتجة في الأوامر لصرف الطبيعي المنطبق على أول وجوده وفي النواهي للطبيعة

ص: 568

السارية من جهة ما هو المعلوم من انحلالية التكليف غالبا فيها خصوصا في النواهي النفسية الشرعية فإنه لم يوجد فيها مورد يكون النهى فيه من قبيل صرف الوجود مع أنه كما ترى يبعد الالتزام به جدا. وهذا بخلافه على ما ذكرنا فإنه لايلزمه اختلاف نتيجة الحكمة بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى ، بل النتيجة على هذا المسلك في جميع الموارد عبارة عن معنى وحداني ، وهو ذلك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام والصور المتقدمة الذي من شانه الانطباق على الافراد العرضية والطولية ولو بتوسيط انطباقه على الطبيعة الصرفة والمأخوذة بنحو السريان.

غاية ما هناك ان الفرق حينئذ بين الأوامر والنواهي من حيث سقوط التكليف بأول وجود في الأول ، وعدم سقوطه وانحلالية التكليف إلى تكاليف متعددة في الثاني واقتضائه لامتثالات متعددة انما كان من جهة المصلحة والمفسدة القائمة بالطبيعي من حيث الشخصية والسنخية ، فحيث ان الغالب في الأوامر هو كون المصلحة فيها على نحو الشخص ، وكان من لوازم شخصيتها عقلا حصولها وتحققها بتمامها بأول وجود الافراد ، بخلافه في طرف النواهي ، فان الغالب في المفاسد فيها هو كونها على نحو السنخ الموجب لمبغوضية الطبيعي مهما وجد وفي ضمن أي فرد تحقق من الافراد العرضية والطولية بالبغض المستقل ، أوجب ذلك الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي.

وبالجملة فتمام الفرق على هذا المسلك انما هو من جهة المصلحة والمفسدة القائمة بالطبيعي من حيث الشخصية والسنخية ، والا ففي طرف معروض المصلحة والمفسدة لايكاد اختلاف نتيجة الحكمة بحسب الموارد ، فإنه على كل تقدير وفي جميع الموارد عبارة عن ذاك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في جميع الأقسام من الاعتبارات المتقدمة الذي عرفت انطباقه على القليل والكثير وعلى الافراد العرضية والطولية ، غاية الامر في فرض كون المصلحة والمفسدة على نحو الشخص يسقط التكليف عن الطبيعي بامتثال واحد فعلا أو تركا ، من جهة تحقق تمام المصلحة حينئذ بايجاد واحد. واما في فرض قيام سنخ المصلحة والمفسدة بالطبيعي فلايسقط التكليف عن الطبيعي رأسا بامتثال واحد ، بل لابد من امتثالات متعددة ، من جهة اقتضاء المصلحة السنخية لمطلوبية الطبيعي مهما وجدت ولو في ضمن الافراد الطولية. ففي الحقيقة الاكتفاء بأول وجود في موارد قيام شخص المصلحة أو المفسدة انما هو من جهة القصور في التكليف والمصلحة عن الشمول للوجود بعد الوجود ،

ص: 569

لا من جهة القصور في ناحية المتعلق في قابلية الانطباق على ثاني الوجود وثالثه ورابعه ، وبينهما فرق واضح. وهذا بخلافه على المسلك الأول فإنه عليه لا مجال للتفرقة بين الأوامر والنواهي من جهة المصلحة والمفسدة من حيث الشخصية والسنخية ، وذلك لان مقتضى الطبيعة الصرفة بعد أن كان هو الانطباق على خصوص أول وجود فلازمه انما هو سقوط التكليف رأسا باتيان أول وجود ، من غير فرق فيه بين كون المصلحة والمفسدة على نحو الشخص أو السنخ ، من جهة حصول تمام السنخ حينئذ تبعا للمتعلق بأول وجود ، فلابد حينئذ من المصير في الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي إلى اختلاف نتيجة الحكمة وانها في الأوامر هي الطبيعة الصرفة وفي النواهي بملاحظة القرينة النوعية هي الطبيعة السارية كما هو واضح ، فتدبر.

وحيثما اتضح هذه الجهة فلنشرع في شرح مقدمات الاطلاق فنقول :

اما المقدمة الأولى التي هي عمدتها وهي كون المتكلم في مقام البيان فتارة يراد به كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بوصف التمامية بأعم من كلام به التخاطب وبكلام آخر له ولو منفصلا عن ذلك ، في مقابل السلب الكلي ، وهو ما إذا لم يكن في مقام البيان رأسا بل في مقام الاهمال والاجمال ، وبعبارة أخرى كون المتكلم في مقام بيان مرامه الواقعي بلفظه أو به وبكلام آخر منفصل عن هذا الكلام ، وأخرى يراد به كون المتكلم في مقام بيان مراده باعطاء الحجة إلى المخاطب على المراد بلفظ به التخاطب أو به وبما يتصل به من كلام آخر على نحو يعد المجموع عرفا كلاما واحدا ، لا مجرد كونه في مقام الجد لبيان المرام الواقعي النفس الأمري ، في قبال اهماله من رأس ولو لم يكن في مقام اعطاء الحجة والظهور على المراد إلى المكلف.

وربما يختلف هذان المعنيان بحسب اللوازم أيضا ، فإنه على الأول لو ورد في قباله عام وضعي منفصل يلزمه تقديم ذلك العام الوضعي عليه بلا كلام ورفع اليد به عن أصل ظهوره الاطلاقي وذلك بلحاظ ان أصل ظهوره في الاطلاق وفي كونه تمام المراد حينئذ منوط ومعلق بعدم بيان المتكلم جزء مرامه بكلام آخر فيما بعد ، والا فمع وجود البيان على بعض مرامه فيما بعد لايكاد يكون له هذا الظهور الاطلاقي ، فكان أصل ظهوره في الاطلاق وكونه تمام المراد حينئذ من لوازم عدم مجيء القيد ولو بالأصل ، وفي مثله من المعلوم انه بالظفر بكل بيان وحجة على القيد يرتفع هذا الأصل بالمرة ، كارتفاع اللابيان الذي هو

ص: 570

موضوع حكم العقل بالقبح بوجود البيان على التكليف ، وعليه فلا يبقى مجال توهم المعارضة بينهما بوجه أصلا ، وهذا بخلافه على الثاني فان قضية كون المتكلم في مقام اعطاء الحجة حينئذ انما كان ملازما مع ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن كونه تمام المراد ، بظهور فعلى تنجيزي ، من جهة ان اعطاء الحجة على المراد حينئذ لايكون الا باعطاء الظهور الكاشف عنه ، والا فلايكون في البين حجة غيره ، وحينئذ فمتى لم ينصب في كلام به التخاطب قرينة على القيد والخصوصية ، فلا جرم يلزمه استقرار الاطلاقي للفظه ، ومع استقرار الظهور الاطلاقي فيه يقع لا محالة التعارض بينه وبين ما في القبال من المقيدات المنفصلة ، وفي مثله لا يلاحظ قضية وضعية الظهور اللفظي في المقيدات المنفصلة في تقديمها على ظهوره الاطلاقي ، بل بعد استقرار الظهور الاطلاقي فيها أيضا لابد من ملاحظة أقوى الظهورين منهما وتقديمه على الاخر ، وهذا بخلافه على الأول فإنه عليه لا مجال لتوهم المعارضة بينهما بل لابد من تقديم الظهورات الوضعية في المقيدات المنفصلة على ظهوره الاطلاقي من جهة صلاحيتها للبيانية عليه ورافعيتها لأصل ظهوره الاطلاقي ، والوجه فيه ما عرفت بان عدم البيان على القيد فيما بعد على ذلك كان مقوم أصل انعقاد الظهور الاطلاقي فيه ، فمع مجيء البيان بالوجدان والظفر بالحجة على القيد يرتفع هذا الأصل بالمرة ، وبارتفاعه لايكاد يكون ظهور الاطلاقي لكلامه بوجه أصلا حتى يلاحظ التعارض بينهما ، كما لايخفى.

لايقال بان ذلك كك لولا ظهور حال المتكلم في المشي على طبق ما اقتضته الجبلة الأولية والفطرة الارتكازية من ابرازه تمام مقاصده بلفظ به التخاطب لا به وبكلام آخر منفصل عن هذا الكلام ، فإنه لا اشكال في أن الجبلة والفطرة في كل متكلم بكلام به التخاطب تقتضي كونه بصدد ابراز تمام مرامه الواقعي بمدلول لفظه الملقى إلى المخاطب على نحو كان مدلول لفظه تمام مراده بوصف التمامية ، لا في مقام الاهمال رأسا ، ولا في مقام بيان مجرد ان المدلول هو المراد ولو لم يكن تمام المراد بوصف التمامية بل كان ذلك جزء مراده ، وجزئه الآخر شيء يذكره فيما بعد بكلام آخر غير هذا الكلام ، فان ذلك كله وان أمكن في نفسه ، حيث لا محذور في ذكر المتكلم جزء مرامه بهذا الكلام وجزئه الآخر بكلام منفصل آخر فيما بعد ، وبعبارة أخرى لا محذور في كينونة المتكلم في بيان تمام مرامه لكن بأعم من هذا الكلام وكلام آخر فيما بعد ، الا انه خلاف ما تقتضيه الجبلة الأولية والارتكاز

ص: 571

الفطري ، ومن ذلك ترى بأنه لا يرتاب أحد في الخطابات الشفاهية في الحمل على الاطلاق في قوله : ادخل السوق واشتر اللحم ونحو ذلك ، والكشف عن كون مدلول اللفظ تمام المراد ، من دون اعتناء باحتمال كون المدلول جزء المراد في حكمه وان جزئه الآخر شيء يذكره فيما بعد بكلام آخر ، وعلى ذلك فإذا كان الظاهر من حال المتكلم كونه على طبق تلك الجبلة من كونه بصدد بيان تمام مراده بكلام به التخاطب في قوله : أعتق رقبة مثلا ، ولم متصلا بكلامه ذلك ما يدل على اعتبار قيد فيها من الايمان أو الكتابة أو غيرها ، فلا جرم في مثله الجبلة المسطورة تقتضي ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن كونه تمام المراد ، من دون احتياج في ذلك إلى التشبث بأصالة عدم مجيء القيد فيما بعد ، بل نفس ظهور الحال يكفي في اطلاق المرام ، وحينئذ فمع استقرار الظهور الاطلاقي لكلامه بمقتضى المقدمات المزبورة عن الجبلة المسطورة قهرا يلزمه التعارض بينه وبين ما في القبال من المقيدات المنفصلة ، من جهة كشف ذلك حينئذ عن كون المدلول تمام المرام وكشف المقيدات المنفصلة عن كون المدلول من الأول جزء المرام لاتمامه الملازم لعدم كون المتكلم من أول الامر على طبق الجبلة من بيان مرامه بلفظ به التخاطب ، وعليه فلا فرق بين التقريبين من جهة انه على كل تقدير يستقر الظهور الاطلاقي للفظه ، ولا ينثلم ظهوره بقيام دليل منفصل فيما بعد على القيد ، سواء فيه على تفسير البيان باعطاء الحجة والظهور على المراد أو تفسيره ببيان المرام الواقعي النفس الأمري بلفظ به التخاطب.

فإنه يقال بعد الفرق الواضح في المقام بين مسلك المشهور من وضع اللفظ للاطلاق كسائر الحقائق ، وبين مسلك السلطان قدس سره من حيث استتباع المقدمة المزبورة بالجبلة المسطورة على الأول لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع مرامه لا لأصل انعقاد الظهور ، من جهة اقتضاء الوضع فيه لأصل انعقاد الظهور ، بخلافه على مسلك السلطان حيث كانت الجبلة المزبورة مقومة لأصل انعقاد الظهور الاطلاقي للفظ. نقول بان من المعلوم حينئذ ان احراز هذا الظهور وجدانا فرع أحرا الجبلة المسطورة كذلك ، والا فمع عدم احراز الجبلة واحتمال عدم كون المتكلم فعلا في مقام بيان تمام مرامه بهذا الكلام واحتمال مجيء القيد فيما بعد لا مجال لانعقاد الظهور الاطلاقي على هذا المسلك ، وعليه فمرجع احراز تلك الجبلة بظهور حال المتكلم ، مع احتمال كونه على خلاف الجبلة والارتكاز وجدانا ، بعد أن كان إلى أصالة عدم المانع عن الجبلة ، الراجعة

ص: 572

إلى أصالة عدم كونه في مقام بيان تمام مرامه بكلام آخر غير هذا الكلام فلا جرم بمجرد مجيء البيان على القيد يلزمه لا محالة ارتفاع هذا الأصل بالمرة ، لان مرجع أصالة عدم البيان على القيد التي يناط بها ظهور اللفظ انما هو إلى عدم الحجة عليه ولو بلفظ آخر منفصل عن هذا اللفظ ، فمع الظفر بكل بيان وحجة على القيد فيما بعد يرتفع لا محالة هذا الأصل الحاكم بكون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بهذا اللفظ ، ومع ارتفاعه لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في طرف المطلق حتى يعارض الظهور التنجيزي في طرف المقيدات المنفصلة ، وذلك أيضا من غير فرق بين فرض احراز القيد بالكشف القطعي أو احرازه بالكشف الظني ، فإنه على كل تقدير يكون الظفر بكل بيان وحجة على القيد رافعا حقيقة للأصل المزبور الذي به قوام الظهور المزبور. نعم لو كان الارتكاز والجبلة المزبورة في المقام كسائر الحقايق وعلى مسلك المشهور مستتبعا لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع مرامه ورافعا لاحتمال إرادة خلاف الظاهر لا مقوما لأصل الظهور ، أو كان ظهور اللفظ في مقام اناطته منوطا بعدم وجود القيد واقعا لا بعدم الحجة والبيان عليه الذي هو موضوع قبح العقاب بلا بيان لكان لدعوى المعارضة بين ظهور حال المتكلم الكاشف عن عدمه واقعا مع دليل القيد الكاشف عن وجوده كك كمال مجال ، والا فمع فرض تسليم إناطة أصل ظهوره بعدم الحجة وبيان القيد ولو فيما بعد فلا يبقى مجال دعوى المعارضة بين ظهور الحال مع دليل القيد ، بل مهما ظفر بالحجة على القيد فيما بعد يقطع بمخالفة الظهور للواقع.

وبالجملة نقول : ان موضوع حكم العقل بعدم نقض الغرض الذي هو مفاد مقدمات الحكمة انما هو كون المتكلم في مقام البيان وعدم إقامة حجة على مدخلية قيد في مرامه ، إذ لو أقام حجة عليه لا يلزم عليه نقض غرض بوجه أصلا ، وحينئذ فمهما ظفرنا بحجة على القيد فيما بعد يلزمه ارتفاع موضوع حكم العقل ، من جهة انقلاب اللابيان بوجود البيان ، كما هو واضح. وعليه فلابد من تنقيح هذه الجهة بان البيان الذي هو عمدة تلك المقدمات عبارة عن اعطاء الحجة والظهور على المراد ، كي يلزمه المعارضة مع المقيدات المنفصلة بالتقريب المتقدم ، أو هو عبارة عن كون المتكلم في مقام الجد لبيان تمام مرامه الواقعي بلفظ به التخاطب حتى يلزمه تقديم المقيدات المنفصلة عليه.

ثم إن من لوازم هذين المعنيين أيضا هو عدم اضرار القدر المتيقن الخارجي بالاطلاق

ص: 573

على الأول واضراره به على الثاني ، من جهة عدم محذور نقض غرض عليه في فرض إرادة التقييد واتكاله عليه بيانا وحجة على القيد ، بخلافه على الأول فإنه لما كان لايوجب مثله انثلاما لظهور اللفظ كما في كلية القرائن المنفصلة لايكاد يصح له الاكتفاء بذلك القدر المتيقن الخارجي في فرض عدم إرادة الاطلاق من لفظه ، كما هو واضح.

وحيث إن بنائهم طرا على عدم الاعتناء بوجود القدر المتيقن الخارجي في المضربة بالاطلاق. فالأقوى منهما هو المعنى الأول ، مضافا إلى كونه هو الغالب في هذه الخطابات خصوصا الخطابات الشرعية المتكفلة للأحكام الشرعية ، فإنها طرا بصدد اعطاء الحجة على المراد إلى المكلف ليكون له بيانا وحجة في الموارد المشكوكة في نفى ما شك في اعتباره وجودا أم عدما في المأمور به إلى أن يظهر الخلاف ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القاء العمومات اللفظية وسائر الحقايق ، فان المقصود منها طرا انما هو مجرد اعطاء الحجة على المراد إلى المكلف ، لان يتكل بها بيانا على التكليف وجودا وعدما في مقام العمل عند الشك في القرينة أو التخصيص فتدبر.

واما المقدمة الثالثة : وهي انتفاء القدر المتيقن مطلقا ولو من الخارج أو في خصوص مقام التخاطب فالاحتياج إليها في صحة الاخذ بالاطلاق وعدمه أيضا مبني على أن المراد من البيان في المقدمة الأولى هو كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده على وجه يعلم المخاطب أيضا بان المدلول تمام المراد ، أو مجرد كونه في مقام بيان تمام مراده بنحو لا يشذ عنه شيء ، بلا نظر إلى فهم المخاطب بأنه تمام المراد ، فعلى الأولى لايحتاج إلى تلك المقدمة ولايكاد يضر وجود القدر المتيقن ولو في مقام التخاطب بقضية الاطلاق ، ما لم يصل إلى حد الانصراف الكاشف عن دخل الخصوصية في المطلوب ، فان مجرد القطع بكونه مرادا لا يقتضى عدم كون غيره مرادا أيضا ، بل على فرض إرادة المتكلم للقيد لابد بمقتضى برهان نقض الغرض من نصب البيان على مدخلية الخصوصية ، والا فليس له الاكتفاء بمحض كونه القدر المتيقن في مقام التخاطب ، واما على الثاني من كونه في مقام بيان تمام مرامه من دون تعلق غرضه بفهم المخاطب أيضا بان مدلول اللفظ تمام المراد بوصف التمامية فلازمه الاحتياج إلى عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وعدم جواز التعدي عنه مع وجوده إلى غيره ، فإنه على تقدير إرادة المقيد حينئذ لا يلزم من عدم بيانه نقض غرض في البين كما يلزم في الصورة الأولى ، ومعه لا طريق إلى احراز الاطلاق حتى

ص: 574

يتعدى عن القدر المتيقن إلى غيره ، كما هو واضح.

ولكن التحقيق حينئذ هو الثاني ، ذلك من جهة ان غاية ما تقتضيه تلك المقدمات بمقتضى برهان نقض الغرض انما هو عدم اخلال المتكلم بما هو واقع مرامه في خطابه ، واما من حيث فهم المخاطب أيضا بأنه تمام المراد فلا ، لان ذلك امر زائد قلما يتفق تعلق الغرض به ، وعليه فمع احتمال إرادة المتكلم للمقيد وهو المتيقن واتكاله في ذلك على حكم العقل بلزوم الاخذ به لا مجال للاخذ بالاطلاق ، حيث لا يلزم من ارادته بالخصوص محذور نقض غرض في البين ، وهذا بخلافه في الفرض الأول فإنه بعد فرض تعلق غرضه بمعرفة المخاطب أيضا بكون المدلول تمام المراد لابد له في فرض ارادته للمقيد من نصب بيان عليه ، والا فمجرد القطع بدخول القدر المتيقن في المطلوب وكونه مرادا للمتكلم لا يقتضى القطع بكونه تمام المراد بوصف التمامية الا مع بلوغه إلى حد الانصراف الكاشف عن دخل الخصوصية ، فعلى ذلك فلا اشكال في الاحتياج إلى المقدمة الثالثة ، وهي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

واما اضرار القدر المتيقن الخارجي وعدم اضراره فقد عرفت ابتنائه أيضا على كون البيان في المقام بمعنى اعطاء الحجة على المراد أو بمعنى كون المتكلم في مقام الجد بابراز مرامه الواقعي. وقد عرفت أيضا ان التحقيق هو الأول وانه لا يضر مجرد وجود القدر المتيقن ولو من الخارج بالأخذ بالاطلاق.

ثم لايخفى عليك انه مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وان كان لا مجال للاخذ بالاطلاق ، بل كان اللازم هو الاقتصار عليه وعدم التعدي عنه إلى غيره ، الا انه لايوجب التقيد بالخصوص حتى يلزمه معارضته مع مطلق آخر في قباله ، بل وانما غايته هو مانعيته عن الاخذ باطلاق ذلك ، وهو واضح.

ثم إن من القرائن المانعة عن الاخذ بالاطلاق كما عرفت هو الانصراف ، ولكنه لا مطلقا بل البالغ منه إلى حد مبين العدم أو المضر الاجمالي دون ما يوجب التشكيك البدوي ، وتوضيح ذلك هو ان للانصراف مراتب متفاوتة شدة وضعفا ، حسب زيادة ما يوجبه من انس الذهن الناشئ من كثرة الاطلاق وغلبة الاستعمال وغير ذلك.

فمن تلك المراتب ما يوجب التشكيك البدوي الزائل بالتأمل والتدقيق كما في انصراف الماء في الكوفة مثلا إلى الفرات ، فإنه لايوجب الا مجرد التشكيك البدوي الذي

ص: 575

يزول بأدنى تأمل وتدبر.

ومنها : ما يكون انس الذهن بمرتبه يوجب الشك المستقر بنحو لا يزول بالتأمل والتدبر أيضا ، كما في القدر المتيقن.

ومنها : ما يكون انس الذهن بمثابة يكون كالتقيد اللفظي ، فهذه مراتب ثلاثة :

فالمرتبة الأولى : منها هي المعبر عنها بالتشكيك البدوي وهي لا توجب شيئا ولا تمنع عن الاخذ بالاطلاق.

والثانية : هي المضرة الاجمالية فتمنع عن الاخذ بالاطلاق خاصة كما في القدر المتيقن في مقام التخاطب.

والثالثة : هي المعبر عنها بمبين العدم ، باعتبار اقتضائها لتحديد دائرة المطلوب وتقيده بالخصوصية الموجبة لصلاحيته للمعارضة مع ما في القبال من مطلق آخر ، فيفترق حينئذ هذه المرتبة مع المرتبة السابقة وهي المضرة الاجمالية ، من حيث عدم اقتضاء المضر الاجمالي الا مجرد الاضرار بالاطلاق والمنع عن التمسك به ، بخلاف هذه المرتبة ، فإنها مضافا إلى منعها عن الاطلاق توجب تحديد دائرة المراد والمطلوب وتقيده بالخصوصية كالتقييدات اللفظة.

ثم إن الانصراف إلى الخصوصية أيضا تارة يكون على الاطلاق من دون اختصاصه بحال دون حال ، وأخرى يكون مخصوصا بحال دون حال آخر كحال الاختيار والاضطرار وغير ذلك ، كما لو كان من عادة المولى مثلا اكل البطيخ في الحضر واكل ماء اللحم في السفر ، فان المنصرف من امره حينئذ باحضار الطعام في حضره شيء وفي سفره شيء آخر ، لا انه كان المنصرف إليه شيئا واحدا في جميع تلك الأحوال.

ومن ذلك أيضا انصراف وضع اليد مثلا على الأرض ، حيث إن المنصرف منه في حال الاختيار والتمكن ربما كان هو الوضع بباطن الكف لا بظاهرها ، وفي حال الاضطرار وعدم التمكن من وضع باطن الكف كان المنصرف منه الوضع بظاهر الكف ، ومع عدم التمكن من ذلك هو الوضع بالساعد ، وهكذا ، كل ذلك بملاحظة ما هو قضية الجبلة والفطرة من وضع الانسان باطن كفيه على الأرض في حال القدرة في مقام الوصول إلى مقاصده ، وبظاهرهما عند العجز وعدم التمكن من ذلك ، وبالساعدين عند العجز من ذلك أيضا.

وعليه فلا بأس بالتمسك باطلاقات أوامر المسح باليد في وجوب المسح بظاهر الكفين مع

ص: 576

عدم التمكن عن المسح بباطنها ، بل وجوبه ببقية اليدين عند تعذر المسح بظاهر الكفين أيضا كما هو المشهور.

فلا يرد عليه حينئذ ان المنصرف من الامر بالمسح باليد لو كان هو المسح بباطن الكفين بحيث كان بمنزلة التقييد اللفظي لما كان وجه لدعوى وجوبه بظاهرهما مع العجز عن المسح بباطنهما ، من جهة ان مقتضى الانصراف المزبور بعد كونه بمنزلة التقييد اللفظي حينئذ انما كان سقوط وجوب المسح رأسا ، فيحتاج اثبات وجوبه بظاهر الكفين إلى دليل خاص ، والا فلا يجديه اطلاقات أوامر المسح باليد.

إذ نقول بان ذلك انما يتم فيما لو كان الانصراف المزبور أولا بنحو الاطلاق ، والا فمع فرض اختصاصه بحال القدرة وعدم العجز لا مجال لهذا الاشكال ، بل حينئذ كما يتمسك باطلاق أوامر المسح عند التمكن لوجوب المسح بباطن الكفين ، كذلك يتمسك به أيضا لوجوبه بظاهرهما في حال عدم التمكن من المسح بباطنهما ، من دون احتياج في اثبات وجوبه بظاهر الكفين إلى قيام دليل خاص عليه ، كما لايخفى.

ثم اعلم أنه إذا كان للمطلق جهات فلابد في الاخذ بالاطلاق من كل جهة من احراز كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة والا فلايكفي مجرد كون المتكلم في مقام البيان من جهة من الجهات في الاخذ بالاطلاق مطلقا ولو من غير تلك الجهة ، بل بعد امكان كونه في مقام الاهمال لابد من الاقتصار في الاخذ بالاطلاق على الجهة المعلومة التي كان المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان وعدم التعدي عنها إلى غيرها ، الا إذا كانت الجهة المهملة من اللوازم الغالبية للجهة المعلومة التي كان المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان ، بحيث يوجب الحكم بالاهمال فيها من هذه الجهة صرف الاطلاق إلى الموارد النادرة ، فإنه في مثل ذلك ربما يلازم الاطلاق من هذه الجهة الاطلاق من غير تلك الجهة أيضا فيؤخذ حينئذ باطلاقه من الجهتين ، وعلى ذلك فيمكن الاخذ باطلاق ما دل على طهارة سؤر الهرة حتى من جهة الحالات من حيث طهارة فم الهرة وعدم طهارة فمها وتلطخها بالنجاسة ، بدعوى ان سوق الكلام وان كان من جهة افراد السؤر دون الحالات ولكنه لما كان الاهمال من جهة نجاسة فم الهرة وطهارته موجبا لحمل اطلاق طهارة سؤرها على المورد النادر ، بملاحظة انه قلما يتفق خلو في الهرة عن النجاسة ولو في زمان ، فيوجب حينئذ حمل اطلاق طهارة سؤرها على الموارد النادرة

ص: 577

التي لم يتلطخ فمها بالنجاسة أو تلطخ بها ولكنه صار طاهرا بالماء الكر أو الجاري ونحوهما ، فقهرا في مثله يلازم الاطلاق من تلك الجهة الاطلاق في الجهة المهملة فيؤخذ حينئذ باطلاق الطهارة من الجهتين.

وحينئذ فلابد أولا من ملاحظة جهات القضية وان الكلام مسوق لبيان أي واحدة من الجهات ، ثم بعد ذلك ملاحظة تلك الجهات المهملة التي لم يحرز كون المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان بأنها من اللوازم الغير المنفكة العقلية أو الغالبية للجهات المطلقة أم لا ، هذا كله في أصل كبرى المسألة.

واما تشخيص صغريات ذلك فموكول إلى نظر الفقيه حيث لا ضابط كلي لذلك يؤخذ به في جميع الموارد ، وانما ذلك يختلف باختلاف خصوصيات الموارد حسب ما تقتضيه القرائن الخاصة ومناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك ، فمن ذلك لابد للفقيه من بذل الجهد في تشخيص صغريات ذلك بملاحظة خصوصيات الموارد أو القرائن الخاصة فيها من مناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك ، فتدبر.

تتمة

إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يكونا متوافقين في الايجاب والسلب أو متخالفين. أما إذا كانا متوافقين وكانا مثبتين كقوله : أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة فاما ان يحرز ولو من الخارج كونهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده ، واما ان لا يحرز شيء منهما.

فعلى الأول فان أحرز كونهما على نحو وحدة المطلوب فلا اشكال في المعارضة بينهما ، فلابد حينئذ اما من حمل المطلق على المقيد واما من حمل المقيد على بيان أفضل الافراد برفع اليد عن ظهوره في دخل الخصوصية ، وان أحرز كونهما على نحو تعدد المطلوب على معنى كون مطلق الرقبة الجامع بين الواجدة للايمان والفاقدة له مطلوبا ، والرقبة المتقيدة بقيد الايمان مطلوبا آخر فلا تعارض بينهما ، حيث يؤخذ بكل واحد منهما ، ونتيجة ذلك هو سقوط كلا التكليفين بايجاد المقيد في مقام الامتثال ، وبقاء التكليف بالمقيد في صورة الاقتصار على المطلق.

واما على الثاني من عدم احراز أحد الامرين من وحدة المطلوب وتعدده والشك في

ص: 578

ذلك فلا اشكال أيضا في أن مقتضى الأصل هو الحمل على تعدد المطلوب ، لأنه مع احتمال كونهما بنحو تعدد المطلوب لم يحرز التنافي بينهما حتى يحتاج في مقام العلاج إلى حمل المطلق على المقيد ، فكان نفس الشك في كونهما على نحو وحدة المطلوب واحتمال كونهما بنحو تعدد المطلوب كافيا في عدم ترتيب آثار وحدة المطلوب بينهما ، وهذا مما لا اشكال فيه ظاهراً.

وانما الكلام في أن طبع ظهور القضية في مثله يقتضى أي الامرين منهما؟ وفي مثله نقول : بان كل واحد من الامرين في قوله : أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة ، لما كان له ظهور في إرادة مستقلة محدودة بحد خاص متعلقة بصرف وجود الشيء الذي هو غير قابل للتعدد والتكرر ، وكان الجمع بين ظهور الامرين في الاستقلال وبين ظهور المتعلق في صرف الوجود غير ممكن عقلا ، من جهة استحالة توارد الحكمين المتماثلين كالضدين على موضوع واحد ، فلابد في مقام العلاج من رفع اليد عن أحد الأمور الثلاثة :

اما عن ظهور المتعلق في الصرف بحمله على وجود ووجود ليختلف متعلق الحكمين.

واما عن ظهور الامرين في الاستقلال والتعدد بجعل المنكشف منهما إرادة واحدة لا إرادتين ، ليكون النتيجة وحدة المطلوب ، فيجمع بينهما اما بحمل المطلق على المقيد أو حمل المقيد على أفضل الافراد ، فيكون المنكشف في الامر بالمطلق على الأول عين الإرادة الضمنية في طرف الامر بالمقيد ، وعلى الثاني يكون المنكشف في الامر بالمقيد عين الإرادة المكشوفة في طرف المطلق مع زيادة الندبية مثلا.

واما من رفع اليد عن استقلال الامرين في الحد خاصة مع حفظ أصل ظهورهما في تعدد الإرادة والطلب ، فيحمل بعد الغاء الحدود الخاصة فيهما على التأكد في المجمع.

ولكن في مقام الترجيح لاينبغي اشكال في أن أردأ الوجوه هو الوجه الأول ، حيث إن رفع اليد عن ظهور المتعلق فيهما في صرف الوجود والمصير إلى لزوم تعدد الوجود في مقام الامتثال بعيد جدا ، وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين : من رفع اليد اما عن أصل ظهور الامرين في الاستقلال ذاتا والمصير إلى كون المنكشف من الانشائين إرادة واحدة فينتج وحدة المطلوب ، واما من رفع اليد عن خصوص الحدود مع ابقاء أصل ظهور الامرين في الاستقلال على حاله كي ينتج تعدد المطلوب والتأكد في المجمع ، وفي مثله لايبعد دعوى تعين الأخير من جهة أهونية التصرف في الحد من التصرف

ص: 579

في ظهور الامرين في تعدد الإرادة ، خصوصا مع امكان منع أصل ظهور الامرين في استقلالهما في الحد من جهة ان غاية ما يقتضيه الظهور المزبور انما هو الكشف عن تعدد أصل الإرادة والطلب واما محدوديتهما بحدين مستقلين فلا.

وبالجملة نقول بان التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة وان كان ممكنا في نفسه ، من حيث إنه يكون الانشاء في باب التكاليف كالانشاء في باب العقود في اقتضائه السببية لتحصل مضمونه في الخارج حتى يلزمه تعدد المسبب عند تعدد السبب ، بل وانما ذلك كان من قبيل الاخبار كاشفا عن الإرادة وحاكيا عنها ، فأمكن ان يقال حينئذ بعدم كشف الانشائين في المقام عن أزيد من إرادة واحدة. ولكنه مع ذلك كله عند الدوران بين التصرفين كان التصرف الأخير وهو التصرف في الحد أهون من التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة.

ثم إن ما ذكرنا من الدوران بين الوجوه المزبورة انما هو على المبنى المختار من استقرار الظهور للمطلق وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف ، والا فبناء على المبنى الآخر الذي تقدم شرحه فلا محالة يكون دليل المقيد حاكما عليه ، فلابد من التقييد ، ومعه فلا ينتهي النوبة إلى مقام الدوران بين الوجوه المتقدمة ، اللّهم الا ان يقال بأنه كك فيما لو كانت الدلالة في المقيد المنفصل وضعيا الا فبناء على كون الدلالة فيه أيضا من جهة الاطلاق وقرينة الحكمة فلا ، من جهة ان التعليق حينئذ كان من الطرفين ومعه لا وجه لتقديم دليل المقيد وتحكيمه على المطلق ، والمقام انما كان من قبيل الثاني ، حيث إنه كما كان ظهور المطلق في استقلال الطلب من جهة مقدمات الحكمة كذلك ظهور دليل المقيد أيضا : في قوله أعتق رقبة مؤمنة ، في أول مرتبة الإرادة كان من جهة الاطلاق ، بحيث لو تم ظهور الأول لابد من حمل الثاني على المرتبة الأكيدة من الإرادة ، ومعه لا وجه لتقديم دليل المقيد وتحكيمه على ظهور المطلق وحمل الامر المتعلق به على الامر الضمني.

اللّهم الا ان يدفع ذلك ويقال بان ظهور كل امر في أول مرتبة الطلب ظهور وضعي لا اطلاقي ، فتدبر.

ثم إن هذا كله بناء على عدم ثبوت المفهوم للمقيد واما بناء على ثبوت المفهوم له فقد يقال بأنه لا اشكال حينئذ في التقييد. ولكن فيه اشكال : إذ نقول بأنه انما يلزم التقييد فيما لو كان القيد بحسب ظهور القضية راجعا إلى أصل الوجوب ، والا فبناء على ظهور رجوعه إلى المرتبة الأكيدة من الوجوب أو احتمال رجوعه إليها فلا يلزم التقيد ، من غير فرق في

ص: 580

ذلك بين القول بثبوت المفهوم والقول بعدمه.

وبالجملة نقول : بأنه على فرض ظهوره في رجوع القيد إلى أصل الحكم لابد من التقييد ، قلنا بالمفهوم أم لم نقل ، وعلى فرض عدم ظهوره في ذلك ورجوعه إلى المرتبة الأكيدة من الحكم أو تردده بين الامرين فلا يحكم بالتقييد وان قلنا بالمفهوم ، فعلى كل تقدير لا ينفع قضية القول بالمفهوم في اثبات التقييد ، كما هو واضح. وعلى كل حال فهذا كله فيما لو كان لسان دليل المقيد بنحو قوله : أعتق رقبة مؤمنة.

واما لو كان لسانه بنحو قوله : يجب ان تكون الرقبة مؤمنة أو ما يفيد ذلك ، فلايبعد في مثله دعوى ظهوره في مطلوبية الايمان فيها مستقلا من باب المطلوب في المطلوب.

كما أنه لو كان بلسان الاشتراط كقوله : فليكن الرقبة مؤمنة ، لابد من التقييد من جهة ظهوره حينئذ في مدخلية قيد الايمان في المطلوب.

وعلى ذلك لابد حينئذ من ملاحظة كيفية لسان دليل المقيد في أنه بنحو قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، أو بنحو قوله : يجب ان تكون الرقبة مؤمنة ، الظاهرة في كونه من باب المطلوب في المطلوب ، أو بنحو الارشاد إلى الاشتراط ، فعلى الأول يتأتى فيه الوجوه المتقدمة ، وعلى الثاني يؤخذ بظهور كل واحد من المطلق والمقيد ولا تعارض ولا تنافى بينهما ، وعلى الثالث لابد من التقييد وحمل المطلق على المقيد فتدبر. هذا كله في المثبتين.

واما المنفيان كقوله : لا تعتق الرقبة ولا تعتق الرقبة المؤمنة ، فلا اشكال في عدم التنافي بينهما بل في مثله ربما كان ذلك مؤكدا في الحقيقة للاطلاق لا منافيا له ، الا على فرض القول فيه بالمفهوم ، فيلحق حينئذ بالمتخالفين من جهة اقتضائه حينئذ بمفهومه لعدم حرمة المطلق ، ومثله ما لو كانا بنحو قوله : لايجب عتق الرقبة ولايجب عتق الرقبة المؤمنة ، فان ذلك أيضا على فرض المفهوم كان ملحقا بالمتخالفين ، وعلى فرض عدم المفهوم كان مؤكدا للاطلاق لا منافيا له ، هذا ، ولكن في عد المثال الأول مثالا للمنفيين نحو خفاء ينشأ من كونه أشبه بالمثبتين ، كما هو ظاهر. وعلى كل حال فهذا كله في المتوافقين في الايجاب والسلب.

واما المتخالفان فهو يتصور على وجهين : الأول ما كان التخالف بينهما على وجه التناقض بنحو الايجاب والسلب كقوله : أعتق رقبة ولايجب عتق الرقبة المؤمنة ، وذلك

ص: 581

أيضا بأحد النحوين : اما بنحو كان الحكم في طرف المطلق اثباتا وفي طرف المقيد نفيا كما في المثال المزبور ، واما بعكس ذلك كقوله : لايجب عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة. فان كان الأول ففيه احتمالات : احتمال التقييد كما هو الظاهر وعليه العرف ، واحتمال نفى الوجوب الأكيد لا نفي أصل الوجوب ، واحتمال رجوع النفي إلى خصوص القيد ، ومع الدوران وعدم الترجيح قد عرفت ان الحكم هو عدم التقييد ، وان كان الثاني فالمتعين كان هو التقييد.

الثاني ان يكون التخالف على وجه التضاد كقوله : أعتق رقبة ويحرم عتق الرقبة الكافرة ، أو بالعكس كقوله : يحرم عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة ، وحكم هذا القسم في الصورتين أيضا هو التقييد وتخصيص الوجوب في الصورة الأولى بما عدا الافراد الكافرة والحرمة في الصورة الثانية بما عدا الافراد المؤمنة.

نعم يحتمل أيضا رجوع الحكم في هذا القسم في الصورتين إلى ذات القيد على معنى اختصاص الحكم في طرف المقيد بذات القيد ، نظير الامر بالجامع مع النهى عن بعض الخصوصيات أو بالعكس ، وعليه فيبتنى على مسألة الاجتماع ، فعلى القول بالجواز خصوصا في الفرض فلا تنافى بينهما أصلا ، من جهة اختلاف المتعلق حقيقة حينئذ في الأمر والنهي وكونه في أحدهما هو الطبيعي والجامع وفى الآخر هو القيد والخصوصية ، واما على القول بعدم الجواز حتى في مثل الفرض يقع بينهما التنافي. ولكن قد عرفت ان الجمع العرفي في نحوه هو التقييد لا غير. هذا تمام الكلام في المطلق والمقيد. والحمد لله رب العالمين.

ص: 582

المقصد السادس في المجمل والمبين

وقد عرف المجمل بتعاريف : منها : ان المجمل عبارة عما لايكون بحجة ولا يستطرق به إلى الواقع فيقابله المبين وهو الذي يستطرق به إلى الواقع.

ومنها : ولعله هو الظاهر أنه عبارة عما لايكون له الدلالة والظهور في معنى خاص والمبين في قباله وهو الكلام الذي كان له الدلالة والظهور على المعنى. والمراد من الدلالة والظهور انما هو الدلالة التصورية التي هي بمعنى انسباق المعنى من اللفظ في الذهن عند اطلاقه ، لا الدلالة التصديقية التي هي موضوع الحجية ، ولعله إليه أيضا يرجع ما في الفصول من تعريفه بأنه عبارة عما دل على معنى لم يتضح دلالته. وعليه فيخرج المهملات طرا لأنها ليس لها معنى أصلا ، والظهور والدلالة فرع أصل وجود المعنى للفظ ، كما أنه يخرج أيضا عن هذا التعريف الألفاظ الظاهرة التي قام على خلافها القرينة الخارجية المنفصلة ، كالعمومات المخصصة بالمنفصل ، وموارد تعارض الظهورين المنفصلين ، ويدخل ذلك كله في المبين ، من جهة ان مجرد قيام القرينة الخارجية على عدم إرادة الظاهر منه على هذا التعريف لا يخرجه عن المبين. وهذا بخلافه على التعريف الأول فإنه عليه يدخل الموارد المزبورة في المجملات نعم يدخل فيه المشتركات اللفظية بل المعنوية والكلام المحفوف بالقرينة المجملة ونحوها مما لايكون له ظهور في معنى وان علم من الخارج ما أريد منه ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا النزاع ، لان موضوع الحجية بعد ما كان عبارة عن الظهور التصديقي الملازم لاحراز كون المتكلم في مقام الإفادة

ص: 583

والاستفادة ، فلا جرم كان تمام العبرة في مقام الحجية والاستطراق وجودا وعدما على هذا الظهور ، قلنا بكون المجمل عبارة عما لا يستطرق به إلى الواقع وكون موارد تعارض الظهورين المنفصلين من المجملات حقيقة ، أو بكونه عبارة عما لايكون له ظهور ودلالة على المعنى المراد بالظهور التصوري وان الموارد المزبورة مبينات حقيقة ولكنها محكومة بحكم الاجمال ، من جهة انه ليس لنا حكم في آية أو رواية كان مترتبا على العنوانين المزبورين حتى يصح لأجله النزاع والنقض والابرام في تعريفهما ، كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر عدم المجال أيضا لما أفادوه من النقض والابرام في بعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة في أنها من المجملات أو المبينات كآية السرقة ، وآية تحريم الأمهات ، وقوله : لا صلاة الا بطهور ، ونحو ذلك ، من حيث حكم بعضهم باجمال اليد في الآية وترددها بين الكف والزند والمرفق ، وحكم بعض آخر بعدم الاجمال فيها ، وهكذا في آية تحريم الأمهات ، وقوله : لا صلاة الا بطهور ، وذلك لما عرفت من عدم ترتب ثمرة مهمة على ذلك بعد كون مدار الحجية في باب الظهورات وجودا وعدما على الظهور التصديقي ، هذا ، مع امكان دعوى كون الأمثلة المزبورة أيضا من المبينات بالمعنى الذي شرحناه ، نظراً إلى ظهور اليد في المجموع حسب الظهور التصوري الذي بمعنى الانسباق ، وظهور استناد تحريم الأمهات والأخوات إلى خصوص وطيها ، وحلية البهيمة إلى اكلها ، وظهور النفي في لا صلاة الا بطهور في نفى الحقيقة ، وعليه فكانت الأمثلة المزبورة من قبيل المبينات من غير أن يضر بذلك قيام القرينة في بعضها على الخلاف كما في آية السرقة ، حيث علم من الخارج بعدم إرادة مجموع اليد في الآية المباركة ، وعدم إرادة نفى الحقيقة مثلا في تركيب لا صلاة الا بطهور ونحوه ، وذلك من جهة ما عرفت مرارا من عدم اقتضاء القرائن المنفصلة كلية لكسر صولة الظهورات رأسا وجعلها حقيقة من المجملات بل وانما غايتها اقتضائها لعدم حجيتها.

تنبيه : لايخفى عليك ان الاجمال والتبيين في الكلام أمران إضافيان بالنسبة إلى الاشخاص فربما يكون الكلام مجملا بالإضافة إلى شخص لمكان جهله وعدم معرفته بالوضع أو من جهة تصادم ظهوره عنده بما يصلح للقرينية عليه من الأمور المحفوفة بالكلام ، ومبينا عند شخص آخر لعلمه ومعرفته بالوضع وعدم تصادم ظهوره بما حف به بنظره ، وهو واضح.

ص: 584

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ على ما تيسر لنا من تحرير ما استفدناه بفهمنا القاصر. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

وقد وقع الفراغ عن تسويده في التاسع عشر من ربيع المولود على يد الأقل محمد تقي البروجردي ابن عبد الكريم عفى اللّه عنهما انشاء اللّه تعالى بجاه محمد وآل محمد سنة 1356.

بسمه تعالى

لقد فوّض الى امر تصحيح النسخة الاصل من حيث رعاية اصول اللغة العربية فاجلت النظر فيها وصححت ما وجدت منها غير موافق لتلك الاصول، الا مازاغ عنه البصر، مراعياً لكمال الامانة وربما غيّرت بعضاً طفيفا من الالفاظ بما لا يخرج عن حد الاصلاح اوالتزيين. ومن اليقين رضى المؤلف قدس سره وابتهاجه به رزقنا اللّه تعالى الاخلاص في القول والعمل بمحمد وآله الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين.

قم المشرفة - محمد مؤمن

1362/9/20

ص: 585

ص: 586

فهرس امّهات المطالب

العنوان

الصفحة

المقدمة ... 1

الامر الأول : في بيان تعريف العلم وموضوعه ... 3

حقيقة كلّ علم قواعدة الخاصة ... 5

تمايز العلوم بالأغراض ... 7

هل لكلّ علم موضوع واحد ... 9

تمايز العلوم بالاغراض لا بالموضوعات ... 11

العرض الذاتي ما هو ... 13

تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ... 18

تعريف علم الاصول وموضوعه ... 19

حول تعريف علم الاصول ... 21

الامر الثاني : في الوضع ... 23

شرح حقيقة الوضع - تعريف الوضع ... 25

نقد القول بان الوضع هو التعهّد ... 27

اقسام الوضع ... 32

تصوير اقسام عموم الوضع والموضوع له ... 33

تصوير اقسام عموم الوضع وخصوص الموضوع له ... 35

بيان الممكن من اقسام الوضع ... 37

ص: 587

شرح المعاني الحرفية ... 38

فساد القول بان الحروف علامات ... 39

حول مختار الكفاية في معاني الحروف ... 41

شرح القول بان المعاني الحرفية روابط ... 43

نقد مختار الكفاية ... 45

نقد القول بان معاني الحروف ايجادية ... 47

معاني الحروف انبائية لا ايجادية ... 94

الحروف مطلقا انبائية ... 51

وضع الحروف من ايّ الاقسام ... 53

شرح معاني الهيئات ... 54

معاني هيئات المركبات التامة والناقصة ... 55

معني الجمل الخبرية والانشائية ... 57

في المبهمات ... 58

معنى المبهمات ... 59

الامر الثالث : في اطلاق اللفظ وارادة شخصه ونوعه ... 61

الامر الرابع : هل الالفاظ موضوعه للمعاني المرادة ... 63

الامر الخامس : لا وضع آخر للمركبات ... 65

الامر السادس : لا وضع للمعاني المجازية ... 65

الامر السابع في الحقيقة والمجاز ... 66

علائم الحقيقة والمجاز ... 67

الامر الثامن في ثبوت الحقيقة الشرعية ... 69

هل الحقيقة الشرعية ثابتة ... 71

الامر التاسع في الصحيح والاعم ... 73

المختار هو القول بالأعم وادلّته ... 87

ما استدل به للقول بالصحيح ... 89

ما استدل به للقول بالأعم ... 91

ثمرة القول بالصحيح والأعم ... 95

ص: 588

الكلام في ألفاظ المعاملات ... 96

الصحيح والأعم في المعاملات... 97

اقسام مطلوبية الشيء في العبادة ... 101

الامر العاشر في امكان الاشتراك ووقوعه ايضاً ... 103

الامر الحادي عشر في استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ... 104

استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ... 111

الامر الثاني عشر في المشتقات ... 118

بيان المراد من الحال ... 119

بيان المراد بفعلية التلبس ... 121

خروج المصادر والافعال عن محلّ النزاع ... 123

الاصل في المشتقات ما هو؟ ... 125

الزمان خارج من مدلول الافعال ... 127

هل اسم الزمان داخل في محل النزاع؟ ... 129

عموم النزاع لكل ما كان معناه وصفا جاريا على الذوات ... 131

اختلاف المبادي لا يخرج المشتقات عن محل النزاع ... 133

الحق وضع المشتقات لخصوص الملتبس ... 135

تقرير ادلّة القول المختار ... 137

ادلّة القول بالأعم ونقدها ... 139

ينبغي التنبيه على أمور : الأمر الاوّل : في ان المشتق بسيط أم مركب؟ ... 140

حول بساطة مفهوم المشتق وتركبه ... 145

الكلام فيما استدل به السيد الشريف على البساطة ... 146

حول استدلال الشريف على البساطة ... 149

الامر الثاني جريان النزاع المذكور في اوصاف الممكن والواجب تعالى ... 151

الامر الثالث قيام المبدأ بالذات لازم في صدق جميع المشتقات ... 153

الادعاء كاف في صدق المشتق حقيقة ... 155

* * *

ص: 589

المقصد الأول في الأوامر

وفيه مباحث : « المبحث الأول فيما يتعلق بمادة الامر »

معنى مادة الامر ... 157

حول اعتبار العلوّ في معنى المادة ... 159

هل المادة حقيقة أو ظاهرة في الوجوب؟ ... 161

اطلاق المادة يقتضي الوجوب ... 163

حول اتحاد الطلب والارادة ... 165

المبحث الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر ... 177

دلالة الصيغة على الوجوب ... 179

الجمل الخبرية المستعملة في مقام الانشاء ... 181

التعبدي والتوصلّي ... 183

التعبديات على قسمين ... 185

مقدار القرب المعتبر في العبادات ... 187

امتناع اخذ قصد القربة في متعلق الامر ... 189

الامر يدعو الى ما اتي به بقصد القربة ... 193

اخذ القربة في المتعلق بتعدد الامر ... 195

وجه دقيق لاخذ قصد الامر في متعلق نفسه ... 197

اطلاق الاوامر يقتضي التوصلية ... 199

الاصل العملي في المقام هو البرائة ... 201

هل اطلاق الامر يقتضي اعتبار المباشرة ... 203

اطلاق الخطاب يقتضي اعتبار المباشرة ... 205

مقتضى الاطلاق بالنسبة الى الاختيار ... 207

اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعينيّا عينياً وهل الامر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الوجوب؟... 209

في المرة والتكرار ... 211

ما استدل به للقول بالتكرار ونقده ... 214

ص: 590

ثمرة الاقوال في المرة والتكرار ... 217

في الفور والتراخي ... 219

المبحث الثالث في الاجزاء ... 222

شرح الالفاظ الواقعة في العنوان ... 223

اجزاء الاتيان بكل مأمور به عن امر نفسه ... 225

اجزاء الماتي به الاضطراري عن الاختياري ... 272

حول الإجزاء في الأمارات ... 245

حول إجزاء المأتي به بالأمر الاستصحابي ... 247

حول الإجزاء في العمل بالبرائة الشرعية ... 249

هل العمل بأصاله الحل يقتضي الإجزاء ... 251

حول الإجزاء في العمل بأصالة الطهارة ... 253

تنبيهات البحث ، عدم الإجزاء في العمل بالقطع اذا انكشف الخلاف ... 255

القول بالإجزاء غير التصويب ... 725

المبحث الرابع : في مقدمة الواجب ... 258

مسألة مقدمة الواجب من المسائل الاصولية ... 259

مسألة مقدمة الواجب مسألة اصولية عقلية ... 261

هل المقدمات الداخلية داخلة في محل النزاع ... 263

نفي مناط المقدمية عن إجزاء المركب الاعتباري ... 265

نفي المقدمية عن إجزاء المركب الاعتباري ... 267

المقدمات الداخلية خارجة عن محل النزاع مطلقا ... 269

تقسيم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية ... 270

تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ، والعلم ... 271

تقسيم المقدمة إلى المقتضى والشرط وعدم المانع ... 273

هل عدم المانع مقدمة ... 275

بيان كيفية دخل الشرائط والموانع ... 277

دفع اشكال الشرط المتأخر ... 792

دفع اشكال الشرط المتأخر للتكليف أو المكلف به ... 283

ص: 591

تصوير الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية ... 286

مقتضي الاطلاق ان الشرط مقارن ... 289

تقرير الاشكال في وجوب المقدمات المتعددة ودفعه ... 291

تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجوب والواجب وتقسيم الثاني إلى المعلق والمنجز... 292

بيان الفرق الماهوي بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب ... 293

في تصوير الواجب المشروط على المختار ... 295

حق المقال في تصوير الواجب المشروط ... 297

وجوب المقدمات المفوتة قبل وجوب ذيها ... 299

تصوير فعلية الوجوب قبل وجود شرطه في الخارج ... 301

في تصوير الواجب المعلق ... 303

ما قيل في ابطال الواجب المعلق ، ونقده ... 305

نقد التقريب الاولى لنفي الواجب المعلق ... 307

نقد سائر ما قيل في ابطال المعلّق ... 309

توهم رجوع المعلق الى المشروط ... 311

حول امتناع رجوع الشرط الى الهيأة وامكانه ... 313

بيان امكان رجوع القيد الى الهيأة ... 315

نقد جواب آخر في هذا المقام ... 317

حول وجوب المقدمات المفوتة ... 319

دوران الامر بين رجوع القيد الى الوجوب والواجب ... 323

تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري ... 324

تقربية الاوامر الغيرية ... 327

ملاك عبادية الطهارات الثلاث ... 329

تقسيم الواجب إلى النفسي والتهيئي ... 331

تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي ... 332

هل الواجب خصوص المقدمة الموصلة؟ ... 333

الحق ان الواجب مطلق المقدمة ... 335

تشييد القول بوجوب مطلق المقدمة ... 337

ص: 592

حول محاذير القول بخصوص الموصلة ... 339

بيان دقيق للقول بالمقدمة الموصلة ... 341

تأييد اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة ... 343

حول ثمرة القول بوجوب الموصلة ... 344

حول ثمرة القول بالمقدمة الموصلة على المختار ... 347

ثمرة أصل المسألة ... 348

حول ثمرة القول بوجوب المقدمة ... 349

تأسيس الأصل في المسألة ... 350

أدلة الأقوال في وجوب المقدمة ... 351

ادلّة القول بوجوب المقدمة ... 353

حول التفصيل بين السبب وغيره ... 355

مقدمة المستحب والمكروه والحرام ... 356

المبحث الخامس في الضد ... 359

حول تقريب الاقتضاء من ناحية المقدمية ... 361

حول تقريب المقدمية ونقده ... 363

اقسام ضد المأمور به ... 365

امكان الامر بالضدين المتساويين معاً بوجوب ناقص ... 367

اسراء التصوير المذكور الى الواجبات التخييرية ... 369

جواز الامر بالاهم والمهم معاً بالتصوير المذكور ... 371

اغناء البيان المذكور عن القول بالترتب ... 373

الكلام في الترتب ... 374

صحة الأمر بالضدين بنحو الترتب ... 375

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد العام ... 377

المبحث السادس في جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ... 378

المبحث السابع في انه هل الأمر والطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي ... 380

الأمر متعلّق بالطبيعة لا بوجودها ... 381

في امكان المصالحة بين الفريقين ... 383

ص: 593

المبحث الثامن اذا تعلق الامر بعنوان فهل يسرى الى افراده أم لا؟ ... 384

ذكر مقدمة نافعة لوضوح الحق في المقام ... 385

توضيح المختار من تعلق الامر بالطبيعة ... 387

المبحث التاسع في انه اذا نسخ الوجوب هل يبقي الجواز أم لا؟ ... 389

المبحث العاشر في الواجب التخييري ... 391

التخيير بين الأقل والأكثر ... 393

المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي ... 394

تصوير الواجب الكفائي ... 395

المبحث الثاني عشر في الواجب الموقت ... 396

هل القضاء بالامر الاول ... 397

المبحث الثالث عشر هل الامر بالامر بشيء امر بذلك الشيء أم لا ... 399

المبحث الرابع عشر هل الامر الثاني تأسيس أم تأكيد ... 401

المقصد الثاني : في النواهي

وفيه مباحث : المبحث الاوّل في مفاد الهيئة في النهي

في ان النهي عن الطبيعة يقتضي ترك جميع الافراد ... 403

توجيه اقتضاء النهي عن الشيء لترك جميع افراده ... 405

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي ... 407

في ان النزاع في المسألة صغروي ... 409

الفرق بين هذه المسألة والنهي عن العبادة ... 411

هل الجمع على الامتناع داخل في باب التزاحم والتعارض ... 413

في ان اختلاف العناوين لا يقتضي كونها مقولات ... 415

انحاء العناوين المختلفة ... 417

مجرد اختلاف العناوين لا يقتضي كونها مقولتين ... 419

في ان الحكم المتعلق بالجامع يسرى الى حصته المحفوظة في الفرد ... 421

انواع تزاحم ملاكات الاحكام وبيان مقتضاها ... 423

في بيان المختار في المسألة وهو التفصيل ... 425

ص: 594

توضيح نتيجة المختار في الموارد المختلفة ... 427

مسألة الصلاة في محل مغصوب ... 429

تلخيص ما تقدم على المختار ... 433

تنبيهات المسألة ، جريان النزاع في المعاملات ... 435

ابتناء جريان النزاع على احراز ملاك الحكمين في الجمع ... 437

احراز الملاك من اطلاق المادة ... 439

لوازم باب التعارض والتزاحم ... 441

حكم صور الاضطرار الى الغصب ... 445

المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد ... 450

تحرير محل النزاع ... 451

النواهي التحريمية خارجة عن محل النزاع ... 453

التأكيد على خروج النهي التحريمي عن محل النزاع ... 455

المقام الأوّل في النهي المتعلق بالعبادة ... 456

مجرد النهي عن العبادة لا يقتضي الفساد ... 745

المقام الثاني في النهى المتعلق بالمعاملة ... 459

نقد الاستدلال بالنصوص لاقتضاء الفساد ... 461

حول القول باقتضاء النهي للصحة ... 463

اقسام التشريع وحكمها ... 465

تأكيد ان التشريع لا يوجب الفساد ... 467

المقصد الثالث في المفاهيم

حول تعريف المفهوم ... 469

ابتناء ثبوت المفهوم على تعليق سنخ الحكم ... 471

الارشاد الى طريق استخراج المفهوم ... 473

حول الاشكال على استفادة تعليق السنخ ... 475

دفع الاشكال بوجهين ... 477

مفهوم الشرط ... 478

ص: 595

تنبيهات مفهوم الشرط ... 483

التداخل فيما تعدد الشرط واتحد الجزاء ... 485

التداخل فيما تعدد الشرط وتعدد الجزاء ... 491

التداخل فيما كان الجزاء واحد صورة لا حقيقة ... 493

مقتضي الاصل عند الشك في التداخل ... 495

مفهوم الغاية ... 497

مفهوم الوصف ... 499

مفهوم الاستثناء ... 501

مفهوم الحصر واللقب ... 502

مفهوم العدد ... 503

المقصد الرابع في العموم والخصوص

العموم واقسامه ... 505

دخول اداة العموم على التثنية والجمع ... 507

هل استفادة العموم متوقفة على مقدمات الإطلاق ... 509

اختلاف انواع ادواة العموم ... 151

حجية العام بعد التخصيص وعدمها ... 512

حجية العام المخصص بالمبين في الباقي ... 513

حكم الرجوع الى العام في الشيهة المفهومية للمخصص ... 515

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص ... 517

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ... 519

تقريب جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ... 521

نقد التقريب المذكور للمجاز ... 523

بيان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ... 525

مرجعية الاصل العملي في الشبهة المصداقية ... 527

اشتراط حجية العام بالفحص عن المخصص ... 529

الخطابات الشفاهية ... 531

ص: 596

الاستثناء الواقع عقيب الجمل ... 541

تعقب العام بضمير بعض افراده يوجب تخصيصه به أم لا؟... 544

جواز تخصيص العام بالمفهوم لمخالف وعدمه ... 546

جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد وعدمه ... 548

دوران الامر بين النسخ والتخصيص ... 550

الاصل العملي في دوران الامر بين التخصيص والنسخ ... 553

دوران الامر بين النسخ والتخصيص ... 555

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

اعتبارات الماهية بالنسبة الى القيد ... 561

تأييد مسلك السلطان في اسامي الاجناس ... 563

علم الجنس ، المحلى باللام ، النكرة ... 565

الاحتياج الى الاطلاق في مقدمات الحكمة ... 567

نتيجة المطلقات ارادة الطبيعة المطلقة ... 569

من المقدمات كون المتكلم في مقام البيان ... 571

حول مقدمية عدم القدر المتيقن ... 575

الجمع بين المطلق والمقيد ... 579

المقصد السادس في المجمل والمبين 583

الفهارس ... 586

ص: 597

المجلد 1 و 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 4

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1422 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-272-7

نهاية الأفكار

«في مباحث الألفاظ»

تقرير أبحاث العلامة المحقق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي طاب ثراه

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الاسلامي (الثابعة)

لجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 1

اشارة

سرشناسه: عراقي، ضياء الدين، 1240 - 1321.

عنوان و نام پدیدآور: نهاية الأفكار «في مباحث الألفاظ» / تقرير أبحاث ضياء الدين العراقي ؛ تأليف محمد تقي البروجردي النجفي.

مشخصات نشر: قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم ، مؤسسة النشر الإسلامي، 1422ق.=1380.

مشخصات ظاهري: 4 ج. (در 3 مجلد).

فروست: (مؤسسة النشر الاسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم؛ 196، 198، 199.

شابك: (دورة): 3-272-470-964-978؛ ج. 2-1: 0-950-470-964-978

ج. 3: 7-951-470-964-978؛ ج. 4: 4-952-470-964-978.

یادداشت: عربي.

یادداشت: چاپ قبلی: مؤسسة النشر الإسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1405 ق.= 1365.

یادداشت: ج. 1-4 (چاپ ششم: 1435 ق. = 1393).

یادداشت: كتابنامه.

یادداشت: ج. 3. في مبحث القطع والظن وبعض الأصول العلمية. - ج. 4. في مبحث الاستصحاب.

موضوع: مباحث ألفاظ.

شناسۀ افزوده: جامعۀ مدرسين حوزۀ علميۀ قم. دفتر انتشارات اسلامي.

رده بندی كنگره: 1380 9 ن 4 ع / 164 BP

رده بندی دیویی: 297/31

شمارۀ كتابشناسي ملّي: 17890-81م.

نهاية الأفكار (ج 1و2)

تأليف: الفقيه المحقّق والأصولي المدقّق الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (طاب ثراه)

تقرير أبحاث: العلّامة المحقّق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 608

الطبعة: السابعة

المطبوع: 300

التاريخ: 1438 ه.ق

شابك ج 1-2: 0-950-470-964-978

ISBN 978-964-470-950-0

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

اشارة

الصورة

ص: 3

بسمه تعالی

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد بن عبد اللّه المصطفى وآله الغر الميامين.

و بعد فإن الانسان انسان بفكره وثقافته. والأمم حية بحياة افكارها و علومها. والعلماء هم أصحاب الدور الأسمى في قيادة الأمة والحفاظ على حياتها الفكرية و احياء تراثها العلمي وإثراءه.

والأمة الاسلامية - بفضل ثقافة القرآن الالهية وتربية الرسول الاعظم والمعصومين من آله - امتازت بعلماء فطاحل و مفكرین عظام، إرتووا من معين الحق الذي لا ينضب، وخلدتهم دروسهم بألسنتهم وأقلامهم بما جَسَّدته كُتُبهم من ثقافتهم وأفكارهم.

و تراثنا العلمى الاسلامي الثر فى مختلف الفنون خير شاهد على ما نقول، بالرغم من ضياع كثير مما حبرته اقلام علمائنا الكرام.

و منذ سنوات قامت مؤسسة النشر الاسلامي بمهمة احياء تراثنا العلمي العظيم في المجالات العلمية الاسلامية وكرّست جهودها لابرازه بما يتناسب و روح العصر في عالمى الطباعة والتحقيق و نشره على صعيد يحفظه من الضياع والتلف. واليوم تقدم هذه المؤسسة للأمة الاسلامية والحوزات العلمية خدمة جديدة وعطاءً ثميناً لعظيم من علمائنا المحققين في علم اصول الفقه هو آية اللّه الشيخ المحقق الآغا ضياء الدين العراقي (قدس سره) صاحب الفكر الثاقب الذي ربى جيلاً من العلماء العظام و منهم تلميذه المدقق الحجة الشيخ محمدتق البروجردى النجف (قدس سره) فانه بتقريراته هذه قد أحيا دقائق افكار استاذه و اعان علی حل معضلات بیانه.

و نشكر العلامة الجليل الحجة الشيخ محمد المؤمن والعلامة الجليل الحجة الشيخ محمد مهدى الأصفى على ما بذلاه من جهد وافر فى هذا المجال بتهيئة النسخة المخطوطة وتصحيحها وبالتقديم لها فلله تعالى درهما و على اللّه أجرهما، و لهما منا ومن الامة الاسلامية والحوزات العلمية جزيل الشكر. ونسأله تعالى ان يوفقهما و ايانا لمواصلة الدرب انه خير معين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة

الجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

اشارة

هذا الكتاب واحد من كتب معدودة تمثل قمة الفكر الأصولى عند الشيعة الامامية، في مجال اصول الاستنباط .

فقد اعطى إنفتاح باب الاجتهاد فى الفقه فرصة طيبة لنمو حركة الاجتهاد ونمو العلوم المرتبطة بهذه الحركة، وفى مقدمتها علم أصول الفقه فى الحوزات العلمية الامامية. وهيا اللّه تعالى لهذا العلم في العصور الاخير أبطالاً من فحول العلماء عمقوا ابحاث هذا العلم، ومتنوا قواعده وأحكموا أسسه، ووضعوا أصوله على أسس متينة قوية، واكتشفوا آفاقاً جديدة من هذا العلم، لم يفتحه اللّه تعالى على من سبقهم من العلماء من قبل، وذلك من أمثال الوحيد البهبهاني، وشريف العلماء، والشيخ الانصارى و الخراسانی (ملا محمد كاظم)، والشيخ محمد حسين الاصبهاني والميرزا النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي.

و في عصر العلمين الاخيرين بلغ علم الاصول ذروته. وكانا بحق مدرستين في الفكر الاصولى المعاصر، تخرج عليها بصورة مباشره أو غير مباشرة الكثير من علمائنا المعاصرين، ولا تزال آراؤهما فى الاصول مداراً للبحث والتحقيق ومحوراً للمناقشات والرد والايجاب في الدراسات الاصولية العليا (ابحاث الخارج).

و الكتاب الذي بين ايدينا من ثمرات هذه المدرسة الاصولية، التي مطالبه الاستاذ المحقق العراقي، وقرره وكتبه تلميذه المحقق الشيخ محمد تقى البروجردي، رحمهما اللّه، وفى هذه الاسطر القليلة في مقدمة الكتاب أود ان اشير الى بعض الجوانب البارزة من حياة العلمين الفقيدين: الاستاذ والمقرر رحمهما اللّه راجياً أن يوفقني اللّه تعالى لتقديم هذا

ص: 5

العلمين رحمهما اللّه الى الوسط العلمى فى دراسة موسعة ان شاء اللّه .

المحقق العراقي

آية اللّه الفقيه الاصولى المحقق الشيخ ضياء الدين العراق - ولد في مدينة عراق (أراك) وانتقل فى بداية شبابه الى اصفهان للدراسة، وتخرج على يد علمائها، وانتقل بعد ذلك الى النجف الاشرف لاستكمال دراساته واعمال العلمية.

يقول تلاميذه: ان المحقق العراقى جاء الى النجف الاشرف مجتهداً حضر دروس المحقق السيد محمد الفشاركی، و دروس المحقق الخراسانى (صاحب الكفاية) حضور تحقيق، وكان فيهما من ابرز الفضلاء يومذاك .

و استقل بعد ذلك فى التدريس على مستوى الدراسات العليا (الخارج)، واستمر في التدريس على هذا المستوى فى الفقه والاصول قرابة ستين سنة في النجف الاشرف، وتخرج على يده خلال هذه الفترة حدود ثلاثة آلاف من الفقهاء والمجتهدين والعلماء. ولا نعرف في فقهائنا في الادوار الاخيرة من امضى ستين عاماً في التدريس على مستوى الخارج (الدراسات العليا).

و درس الأصول دورات عديدة خلال هذه الفترة كما درس اهم ابواب الفقه : (الصلاة دورة كاملة، والاجارة، والقضاء، والشهادات، والغصب، والمكاسب، وغير ذلك من الكتب الفقهية).

و لما كان المحقق العراقي رحمه اللّه بعيداً عن اجواء الزعامة الدينية فقد أتاح اللّه تعالى له فرصة مباركة للتفرغ للعلم تحقيقاً وتدريساً و تأليفاً.

و قد نشأ على يده في هذه الفترة نخبة من فقهائنا المعاصرين الكبار نذكر منهم : المرحوم آية اللّه اليثربي وآية اللّه السيد محمود الشاهرودي، وآية اللّه السيد ابوالقاسم الخوئى، وآية اللّه السيد محسن الحكيم، وآية اللّه الشيخ موسى الخونسارى، وآية اللّه الشيخ حسين الحلى، وآية اللّه الشيخ محمد تقى البروجردى، وآية اللّه السيد يحيى اليزدي، وآية اللّه الميرزا حسن اليزدى، وآية اللّه السيد حسن البجنوردی، وآية اللّه الميرزا هاشم الأملى، وآية اللّه السيد عبداللّه الشيرازي، وآية اللّه الشهيدى التبريزي، وآية اللّه الشيخ

ص: 6

آقا بزرگ الشاهرودي، وآية اللّه السيد عباس الاصفهاني (نجل استاده السيد محمد فشاركي)، وغيرهم من الفقهاء المعاصرين وفحول المحققين، واساطين الفقه والاصول.

و خلَّف المحقق العراقي من بعده مجموعة من المؤلفات العلمية في حقلى الفقه والاصول تتميز جميعاً بالدقة، والعمق والاصالة والمتانة العلمية، نذكر فيما يلى بعضها :

1 - دورة فقهية استدلالية كاملة بعنوان شرح التبصرة.

طبع منها كتاب الطهارة، والصلاة، والزكاة، والخمس، والصوم، والاعتكاف، والقضاء، والشهادات، والمكاسب. ويصدر قريباً ان شاء اللّه سائر مجلدات هذه الدورة الفقهية.

2 - حاشية استدلالية على العروة الوثقى مخطوطة.

- حاشية موسعة على كفاية الاصول لاستاذه المحقق الخراساني يتعرض فيها لاراء صاحب الكفاية.

4 - حاشية على كتاب فوائد الاصول تقريرات بحث المحقق النائيني بقلم المحقق الكاظمي.

و في هذه التعليقات يتناول المحقق العراقى نقاط الاختلاف في الرأى بينه وبين المحقق النائيني. وهذا الكتاب يعتبر مصدرا اساسياً لدراسة وجوه الاختلاف بين المدرستين الاصوليين المعاصرين ( مدرسة المحقق العراقى ومدرسة المحقق النائيني).

5 - مقالات الاصول : خلاصة وافية لاراء المحقق العراق في الاصول في مجلدين.

6 - تعليقه على رسائل الشيخ الانصارى يتعرض فيها لاراء الشيخ الانصاري الكبير (قدس اللّه سره).

و مما يلفت النظر ان المحقق العراقى يطرح فى هذه الكتب الاربعة اراءه الاصولية في أربعة قوالب علمية مختلفة تماماً و ان كان الرأى والتصورات واحدة في الاغلب، وليس في هذه الكتب الاربعة تكراراً للعرض.

7 - كما صدر من تقارير ابحاثه رحمه اللّه فى الاصول (نهاية الافكار) الكتاب الحاضر لآية اللّه الشيخ محمد تقى البروجردي رحمه اللّه و (بدائع الافكار) لآية اللّه الشيخ الميرزا هاشم الآملي حفظه اللّه من فقهاء الحوزتين العلميتين النجف الاشرف و قم المقدسة

ص: 7

واساتذتهما البارزين.

* * *

وقد كان رحمه اللّه كثير الاشتغال، عميق النظر والرأى، يُعَدُّ في القمة من فقهائنا المعاصرين من امثال شريف العلماء، بحاثاً، قوى الحجة، دؤوباً في الاعمال العلمية دائم التفكير، يستغرق في التفكير العلمي، مرتباً من الناحية العلمية. لا يفارقه العمل العلمي تفكيراً، أو تدريساً، او تاليفاً، الا فى اوقات العبادة والراحة. وكان في حياته الشخصية زاهد أقانعاً باليسير من اسباب الحياة المادية، معرضاً عن الدنيا وزينتها، مقبلاً على أعماله العلمية، ورعاً تقياً في حدود اللّه، حلو المعاشرة، خفيف الروح، عذب البيان.

و قد وافاه الاجل في النجف الاشرف 1361 ه. ق و دفن في الضلع الغربي من الصحن الحيدري الشريف.

المحقق البروجردي

اشارة

اما المقرر فهو آية اللّه المحقق الفقيه الشيخ محمد تقى البروجردي رحمه اللّه، ولد في بروجرد، وتلقى مبادئ العلم فى بروجرود، ثم انتقل الى النجف الاشرف في بدايات شبابه، وتلمذ على اساتذتها في السطح.

ثم حضر في ابحاث الخارج دروس المحقق العراقى والمحقق النائيني، وآية اللّه السيد ابوالحسن الاصفهاني رحمهم اللّه وكان حضوره فى هذه الدروس حضور تحقيق، وكان أكثر استفادته من المحقق العراقى فى الأصول وآية اللّه الاصفهاني في الفقه.

كان رحمه اللّه بحاثاً، معروفاً بقوة الرأى ودقة النظر، وسلامة الفكر في مسائل الفقه والاصول. وكان كثير النقاش لاستاذيه العراقي والاصفهاني في مجالس الدرس.

حضر الاصول على المحقق العراقي رحمه اللّه أكثر من أربع دورات كاملة وكتب ابحاث المحقق العراقى فى الاصول ثلاث دورات، كما كتب تقارير ابحاث استاذيه الآخرين المحقق النائيني وآية اللّه الاصفهانى فى الفقه والاصول بصورة متفرقة.

له من المؤلفات:

ص: 8

1 - نهاية الافكار

و هو دورة كاملة لدروس استاذه العراقى فى الاصول، طبع منه في حياته رحمه اللّه المباحث العقلية (ضمن الجزئين الثالث والرابع من الكتاب)، وتحت الطبع الان الجزء الاول والثانى من الكتاب فى مباحث الالفاظ، ويمتاز هذا الكتاب بالاستيفاء الكامل والدقيق لمطالب المحقق العراقى مع سلاسة التعبير و وضوح البيان وهو من هذه الناحية من أفضل الكتب الأصولية التي تجمع بين سلاسة وسهولة التعبير وعمق ودقة المحتوى.

و هذا الكتاب منذ أن صدر منه الجزء الثالث والرابع في النجف الاشرف الى اليوم موضع اهتمام وعناية أساتذة البحث الخارج والفضلاء والطلاب في الحوزات العلمية في الدراسات الاصولية.

2 - حاشية استدلالية واسعة على العروة الوثقى

صدر منه الجزء الاول في النجف الأشرف والجزء الثانى في بيروت ونسأل اللّه تعالى التوفيق لطبع بقية مجلداته. وهذا الكتاب يمثل خلاصة ارائه رحمه اللّه في الفقه.

و فى هذا الكتاب تتجلى مكانة المؤلف الفقهية وقدرته العلمية، كما يتضح للقارى من هذا الكتاب ذوق المؤلف السليم والصافى فى الاستنباط والاجتهاد، وقد انهى رحمه اللّه هذه التعليقات الى كتاب الحج. وتوفى فجأة اثر عارض قلبي عند اشتغاله بكتابة هذه التعليقات فسقط القلم من يده، وأسلم روحه اللّه تعالى. ولما زرت مكتبته الشخصية رحمه اللّه أحببت ان أقرأ آخر كلمة صدرت من قلمه قبل ان يسقط القلم من يده، فتصفحت التعليقة فوجدت ان الكلمة الاخيرة التي كتبها قبل ان يسقط القلم من يده هي: (وقضى آمده وانتهى) وتأتى هذه الجملة بمناسبة طبيعية ضمن الكلام، وبهذه الجملة ينتهي امده رحمه اللّه في هذه الدنيا ويمضى الى ربه الغفور الرحيم.

3 - حاشية فتوائية فارسية على توضيح المسائل مخطوطة
4 - رسالة في الرد على الفرقة البابية، مخطوطة.
5 - رسالة فى منجزات المريض، مخطوطة.
6 - رسالة فى الاجتهاد والتقليد، مطبوعة.

و قد قرأ المرحوم آية اللّه البروجردى هذه الرسالة قبل الطبع فاعجب بها كثيراً، وكان يثني عليها في مجالسه.

ص: 9

7 - رسالة فى إرث الزوجة من الاراضي والعقار، مطبوعة.

و غيرها من المؤلفات الناقصة والكاملة.

و قد عاش رَدْحاً طويلاً من عمره الشريف في النجف الاشرف طالباً، ثم محققاً، وعالماً، ثم مدرساً على مستوى الدراسات العليا - الخارج- ثم هاجر الى قم، و زوال التدريس في الحوزة العلمية في قم.

و كان يحضر ابحاثه نخبة من الفضلاء ثم هاجر الى طهران وتوفى فيها في 24 ذق 1391 ه.ق و دفن في مدينة قم بمقبرة ابوحسين.

و قد كان رحمه اللّه دؤوباً على الدراسة والتحقيق، قوى الحجة في المناقشة، سليم الرأى، بحاثاً ثاقب النظر، عذب البيان.

كما كان معروفاً بالتقوى والاعراض عن الدنيا والزهد فيها، شأنه في ذلك شأن استاذه رحمه اللّه، خفيف الروح، لا يعطى من وقته ونفسه للتكلفات التي يتكلفها الناس عادة فى مثل وضعه وظروفه. وكان كثير الذكر اللّه كثير التلاوة لكتاب اللّه. لا يفوته التهجد فى آناء الليل، طويل الجلوس فى مجالس العبادة والدعاء والذكر، غيوراً على حدود اللّه ومعالم واصول طريقة أهل البيت عليهم السّلام، أبي النفس، مترفعاً عن مغريات الحياة الدنيا، متواضعاً جمّ التواضع.

رحمه اللّه وتغمده برحمة، واسكنه فسيح جنانه، ونفعنا به.

محمد مهدى الآصفي

قم المقدسة في 1 محرم 1405

ص: 10

نهاية الأفكار

«في مباحث الألفاظ»

تقرير أبحاث العلامة المحقق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي طاب ثراه

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الاسلامي (الثابعة)

لجماعة المدرسين بقم المشرفة (ايران)

ص: 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين واللعنة الأبدية على أعدائهم وغاصبي حقوقهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين آمين رب العالمين.

اما بعد فهذا تأليف منيف مشتمل لمهمات الأصول من إفادات شيخنا العلامة الأستاذ الشيخ ضياء الدين العراقي أدام اللّه ظله على رؤوس الأنام مما استفدتها في درسه الشريف ، حسب فهمي القاصر ، واللّه هو الموفق للصواب ، وقد سميتها بنهاية الأفكار (1) ورتبتها على مقدمة ومقاصد وخاتمة اما المقدمة فيذكر فيها أمور :

الامر الأول في بيان تعريف العلم وموضوعه

اشارة

« كما هو المتداول بين أرباب التصانيف »

فنقول وعليه التكلان :

اعلم : بان كل من قنن قانونا أو أسس فنا من الفنون لابد وان يلاحظ في نظره أولا في مقام تأسيس الفن غرضا ومقصدا خاصا ، ثم يجمع شتاتا من القواعد والمسائل

ص: 3


1- الموجود فى النسخة التى بخطه الشريف قدس سره : وقدسميتها بالتحفة الغروية ، الاّ انّه لمّا كان الموجود فى اوّل مباحث القطع - وهو الذى طبع من الكتاب فى زمن حياته قدس سره : بعنوان الجزء الثالث - ان الكتاب موسوم بنهاية الافكار فلذلك غيّرنا ما فى الاصل ايضاً ليتوافق الكلّ. واللّه الموفق للصواب. المصحّح.

الخاصة التي هي عبارة عن مجموع القضية من الموضوع والمحمول أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات مما كانت وافية بذلك الغرض والمقصد المخصوص ، كما عليه أيضا قد جرى ديدن أرباب الفنون من الصدر الأول ، حيث إنه قد جرى ديدنهم على تدوين شتات من القواعد الخاصة مما كانت وافية بغرض مخصوص ومقصد خاص لهم وجعلهم إياها فنا خاصا وموسومة باسم مخصوص كالصرف والنحو والهيئة والهندسة والفقه والأصول وغير ذلك.

ومن المعلوم أيضا - كما عرفت انه لايكاد يجمع من القضايا والقواعد في كل فن الا ما كانت منها محصلة لذلك الغرض والمقصد الخاص ومرتبطة به ، دون غيرها من القضايا التي لايكون لها دخل في ذلك الغرض ولا مرتبطة به ، فمن كان غرضه مثلا هو صيانة الفكر عن الخطأ كما في علم المنطق أو صيانة الكلام عن الغلط لابد له من تدوين القضايا والقواعد التي لها دخل في الغرض المزبور دون غيرها من القضايا الغير المرتبطة به ، وعلى ذلك ربما أمكن اشتراك العلمين أو أزيد في بعض المسائل بان كان مسألة واحدة من مسائل العلمين باعتبارين كما سنبينه ( إن شاء اللّه تعالى ).

وعلى كل حال فحقيقة كل فن وعلم عبارة عن نفس تلك القواعد والواقعية والكبريات النفس الامرية المحفوظة في مرتبة ذاتها والمعروضة للعلم تارة وللجهل أخرى ، لا صورها التصورية أو التصديقية ، فكان لعلم النحو والصرف واقع محفوظ في نفس الامر وهي القواعد الخاصة وان لم يكن لها محصل في العالم أصلا ، وبهذا الاعتبار أيضا يقال بان المسألة الكذائية من اجزاء فن دون فن آخر ، فكانت أسامي هذه الفنون كالنحو والصرف والفقه والكلام وغيرها حاكيات عن نفس تلك القواعد الواقعية بأجمعها مع قطع النظر عن ادراكها ومحصلها ، ومن ذلك صح إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى كما في قولك فلان عالم بالنحو والصرف وفلان جاهل بهما ، فلو انه كان العلم والفن عبارة عن العلم بتلك القواعد لما كان مجال لإضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى ، كما لايخفى.

وعلى ذلك فما في بعض التعابير من التعبير عن تلك الفنون بالعلم بها - كقولهم في مقام التعريف : بأن النحو علم بكذا ، وان الصرف علم بكذا - لا يخلو عن مسامحة واضحة ، الا إذا كان ذلك منهم باعتبار وجوده الادراكي الذي هو في الحقيقة إحدى مراتب

ص: 4

وجود الشيء ، كما أنه يمكن ان يكون التعبير بالصناعة أيضا باعتبار استنباط مسائل ذلك الفن ، ولكن حق التعبير في مقام شرح عناوين العلوم هو التعبير عنها بما عرفت بكونها عبارة عن القواعد الخاصة التي لها دخل في الغرض الذي دعى إلى تدوينه ، كالاقتدار على التكلم الصحيح مثلا في علم النحو.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال إضافة الموضوع إلى العلم فإنه على ما ذكرنا لابد وان يراد من العلم في اطلاقه على العناوين الخاصة وإضافة الموضوع الخاص إليه نفس القواعد الواقعية والا فلا معنى لإضافة الموضوع إلى التصديق بها لان معروض التصديق هو النفس ومتعلقه نفس القواعد فلا مجال بعد لإضافة الموضوع الخاص إليه.

كما أنه في إضافة الغاية إليه أيضا لابد وان يراد من العلم هذا المعنى فيما لو أريد من الغرض والغاية ما يترتب على نفس القواعد الواقعية لا الاغراض المترتبة على تحصيل العلم بها لان ذلك لايكون تحت ضبط بل يختلف باختلاف الاغراض الداعية إلى تحصيلها ، فقد لايكون غرض المحصل لعلم النحو مثلا حفظ كلامه عن الخطأ والغلط بل كان غرضه شيئا آخر.

تذكار فيه ارشاد :

اعلم بان المراد من الغرض والغاية في كل شيء هو المقصد الأصلي الذي دعى إلى تحصيل مقدماته للتوصل بها إليه ، ومن ذلك لابد من ترتبه عليها ، وعليه فكما انه لابد في كل فن من غرض وغاية في نظر الجاعل له كذلك لابد وأن يكون ذلك الغرض والغاية مترتبا على قواعد ذلك العلم والفن ، وهذا بحسب أصل الكبرى مما لا اشكال فيه ، نعم انما الكلام في صغرى الغرض الداعي إلى جعل العلم وتمهيد قواعده وانه أي شيء؟

وفى مثله نقول بأنه لو جعلنا الغرض في كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا ، وبعبارة أخرى ، حيث اتصاف ذوات الأعمال القابلة للصدور من فاعلها بالصحة قولا أو فعلا أو استنباطا كاتصاف الكلام هيئة بالصحة في النحو ، ومادة في الصرف ، وافعال المكلفين في الفقه ، ونحو ذلك ، فلازمه هو كون التصحيح المزبور مترتبا على نفس القواعد الواقعية بلا دخل لشيء آخر

ص: 5

فيه أصلا ، إذ القواعد المزبورة حينئذ من مبادئ اتصاف هذه الأمور بالصحة في قبال مبادئ ايجاد هذه الأمور الصحيحة خارجا فارغا عن أصل اتصافها بها فتكون من قبيل المقدمة المنحصرة لتصحيح الأمور المزبورة من دون مدخلية لشيء آخر فيه ، من جهة انه بمجرد جعل القواعد يترتب عليها الاتصاف بالصحة الذي هو الغرض من العلم والفن وان لم يتحقق بعد في الخارج أصلا ، فان مبادئ الوجود غير مرتبط بمبادئ اتصاف الشيء بالصحة ، هذا إذا جعلنا الاغراض من العلوم المتداولة عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا أو غيرها ، ولقد عرفت في مثله ترتب العنوان المزبور بقول مطلق على نفس القواعد الواقعية بلا مدخلية الشيء آخر فيه.

واما لو جعلنا الاغراض عبارة عن وجود الأعمال الصحيحة في الخارج كحفظ الكلام هيئة في النحو ومادة في الصرف وحفظ فعل المكلف في الفقه وحفظ استنباط الاحكام في القواعد الأصولية بل وحفظ استنباط حقايق الأشياء ومعرفتها في مثل قواعد العلوم الفلسفية والرياضية وهكذا ، فلا جرم ما يترتب على القواعد حينئذ لما لايكون الا الحفظ من جهة ، لا الحفظ على الاطلاق ، من جهة وضوح استحالة ترتبة حينئذ على نفس القواعد الواقعية ، بل ولا على العلم بها أيضا لمكان مدخلية إرادة العالم والمحصل لها في ذلك أيضا ، فلابد وأن يكون الغرض والمقصد الأصلي الذي هو مورد ارادته النفسية عبارة عما يترتب على هذه القواعد وليس هو الا الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب عدمه من قبلها ، لا الحفظ بقول مطلق ، من جهة ان ذلك مما يستحيل تمشى الإرادة التوصلية بالنسبة إليه لأنها لاتكاد تتعلق الا بما يترتب على ذيها ، بل ومثل هذا المعنى جار في كل امر كان لإرادة الغير مدخل في تحققه كما في الملكية في البيع مثلا ونحوها ، فإنها من جهة إناطتها في التحقق على ايجاب البايع وقبول المشترى لايكاد تمشى الإرادة والقصد الجدي من البايع في ايجابه إلى حصول الملكية في الخارج بقول مطلق ، بل ما هو المتمشى من قبله لايكون الا التوصل إلى وجود الملكية من ناحية ايجابه الراجع إلى سد باب عدمها من قبله ، لا السد بقول مطلق ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات الشرعية والأحكام التكليفية المتعلقة بأفعال المكلفين حيث إنه لايكون الغرض والمقصود من الايجاب والخطاب أيضا فيها الا حفظ وجود المرام من ناحية ايجابه وخطابه لا الحفظ على الاطلاق ، فان ذلك مما لايكاد ترتبه على مجرد ايجابه وخطابه ،

ص: 6

نظرا إلى مدخلية اختيار المكلف والمأمور وارادته أيضا ، كما هو ظاهر. وحينئذ ففي المقام أيضا بعد أن كان تحقق الكلام الصحيح والاستنباط الصحيح منوطا بإرادة المتكلم والمستنبط المحصل للقواعد فيستحيل كونه هو الغرض والمقصد الأصلي من العلم ، فلابد حينئذ من جعل الغرض والمقصد الأصلي عبارة عما يترتب على الأمور المزبورة وهو لايكون الا الحفظ من جهة لا الحفظ على الاطلاق.

وعلى ذلك فلا مجال لما قد يتوهم من الاشكال في أصل الغرض والغاية للعلم وانكاره ونفى كون تمايز العلوم بتمايز الاغراض من جهة ما يرى من تخلفه كثيرا لأنه كثيرا يتعلم الشخص قواعد النحو والصرف ومع ذلك لايتحقق عنوان الحفظ المزبور من جهة تكلمه غلطا على غير القواعد ولو عن تعمد منه في ذلك ، مع أن الغرض مما لابد منه ومن ترتبه البتة ، إذ فيه ان غاية ذلك انما هو نفى كون عنوان الحفظ عن الخطأ في المقال مثلا غرضا لعلم النحو مثلا ، لا نفى أصل الغرض والغاية للعلم كلية ، كيف وقد عرفت بأنه مما لابد منه في كل فن ليكون هو الداعي والباعث على تمهيد قواعده ، على أنه نقول بعدم اضرار ذلك أيضا في كون الحفظ المزبور هو الغرض الداعي على جعل قواعد العلم ، وذلك لما عرفت بان الغرض في أمثال هذه النتائج التي فيها مدخلية لإرادة الغير ليس الا الحفظ من جهة الراجع إلى سد باب عدمه من ناحية تلك القواعد لا الحفظ على الاطلاق حتى من ناحية غيرها ، ومثل ذلك أيضا كما عرفت مما لايكاد تخلفه على كل حال ، حيث إنه بمجرد تمهيد القواعد يترتب عليها الحفظ من جهة ، ولو لم يكن لها محصل في العالم أصلا أو كان لها محصل ولكنه لم يتحقق في الخارج من جهة تعمد المحصل لها على التكلم غلطا على خلاف قواعد النحو والصرف ، كما هو ظاهر ، خصوصا مع امكان جعل الغرض والمقصد الأصلي من كل علم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها قولا أو فعلا أو استنباطا الذي هو مترتب لا محالة بقول مطلق على نفس القواعد بلا دخل لشيء آخر فيه.

وعلى كل حال فسواء جعلنا الغرض في العلوم عبارة عن تصحيح الأعمال القابلة للصدور من فاعلها أو عنوان الحفظ على ما شرحناه ، فلاينبغي الاشكال في عدم كون دخل القواعد فيه من باب دخل المؤثر في المتأثر بنحو كان بينهما المؤثرية والمتأثرية ، بل وانما هو من باب دخل طرف الإضافة وما تقوم بها لنفس الإضافة والمضاف بوصف كونه

ص: 7

مضافاً ، فان عنوان الحفظ المزبور والصحة المسطورة انما هو منتزع من تطبيق من يطبق القواعد المعهودة من كل علم على ما ينسب إليه الحفظ المزبور والصحة المسطورة ، فالقواعد الواقعية في الحقيقة منطبقة على مواردها ومن هذا الانطباق ينتزع العنوانان ، والا فالمؤثر في وجود الأعمال الصحيحة خارجا انما هو إرادة الفاعل لايجاد الأعمال الصحيحة ، وعلى ذلك فكانت القواعد الواقعية طرا طرفا لهذه الإضافة ، وكان للحفظ المزبور أيضا جهات عديدة تترتب كل جهة على قاعدة من تلك القواعد بلحاظ مطابقتها معها ، كما في صحة الصلاة مثلا وحفظها ، حيث إن صحتها انما هي بلحاظ مطابقتها باجزائها وشرائطها لتلك القواعد المجعولة في باب الصلاة الراجعة بعضها إلى اجزائها وبعضها إلى شرائطها وموانعها ، فمن مطابقتها بجهاتها الراجعة إلى اجزائها وشرائطها لمجموع تلك القواعد ينتزع عنها عنوان الصحة ، كما أن من عدم مطابقتها لمجموعها ينتزع عنها عنوان الفساد ، وهكذا الكلام في عنوان حفظ لكلام عن الغلط الذي جعل غرض العلم النحو ، حيث إنه كان لعنوان الحفظ المزبور جهات عديدة وإضافات متعددة إلى كل قاعدة من قواعد الفن إضافة خاصة ، وكان انتزاع عنوان الحفظ المسطور من مطابقة الكلام لمجموع تلك القواعد الواقعية ، وحينئذ فإذا كانت القواعد الواقعية على شتاتها طرفا للإضافة بالنسبة إلى الغرض فلا جرم لايكاد يكون دخلها في الغرض الا بنحو دخل طرف الإضافة في المضاف بوصف كونه مضافا ، لا دخلا تأثيريا ، كما هو واضح.

نعم لو حصلت تلك القواعد وبلغت إلى مرحلة الوجود الادراكي ربما تصير في مثله سببا لحصول الغرض تارة وشرطا له أخرى ، فإنه لو كانت القواعد من القواعد الفكرية كقواعد المنطق فما يترتب عليها حينئذ من صحة الفكر وصونه عن الخطأ كان قهريا ، بخلاف ما لو كانت من غيرها كقواعد النحو والصرف فان ما يترتب عليها حينئذ انما كان مجرد الاقتدار على التكلم الصحيح والاستنباط الصحيح والا فنفس التكلم الصحيح وتحققه في الخارج منوط بإرادة المحصل لها.

ثم إن ذلك أيضا في مرحلة تحصل تلك القواعد ذهنا ، والا فمع قطع النظر عن ذلك فكما عرفت لا سببية ولا مسببية بينهما بل لايكون بينهما إلا مجرد الإضافة.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا لم يكن دخل القواعد الواقعية في الغرض الا من قبيل دخل طرف الإضافة كما شرحناه ، لا من قبيل المؤثرية والمتأثرية فلا يبقى مجال كشف جامع

ص: 8

وحداني بين الشتات المتفرقة بالبرهان المعروف بمحض وحدانية الغرض القائم بها ، بخيال ان الغرض إذا كان واحدا فلابد بمقتضى برهان - امتناع تأثر الواحد بما هو واحد عن المتعدد بما هو كذلك - من كشف جامع وحداني بين تلك الشتات ليكون تأثيرها في ذاك الغرض الوحداني باعتبار ذاك الجامع الساري المحفوظ في ضمنها ، إذ نقول بان ما أفيد لو تم فإنما هو في فرض كون النسبة بين الغرض والقواعد من قبيل المؤثرية ، والا فعلى فرض كونها من قبيل طرف الإضافة فلا مجال لجريان البرهان المزبور ، كي يلتجأ بذلك إلى تخريج جامع وحداني بين قواعد العلم فيجعل ذلك الجامع المستخرج من بين الشتات المتفرقة عند عدم جامع صوري بينها هو الموضوع للعلم والفن.

وثانيا على فرض كون دخلها في الغرض بنحو المؤثرية نمنع أيضا اقتضاء البرهان المزبور في المقام لتخريج الجامع الوحداني بينها بمحض وحدة الغرض القائم بها ، وذلك لوضوح ان مجرد وحدة الغرض وجودا ولو مع اختلاف الجهات فيه غير موجب للزوم وحدة سنخية بين الشتات المختلفة من جهة انه من الممكن حينئذ ان تكون تلك القواعد على شتاتها كل واحدة منها مؤثرة بخصوصيتها في جهة خاصة من ذلك الغرض دون جهة أخرى ولا برهان يقتضى استحالة مثل ذلك ، نعم لو كان الغرض بسيطا محضا غير ذي جهات أمكن بمقتضى البرهان المزبور المصير إلى تخريج جامع وحداني بين شتات القواعد ، ولكن على ذلك لايختص الجامع المزبور بين موضوعات المسائل ، بل لابد حينئذ من انتزاع الجامع بين المحمولات بل وبين المحمولات والموضوعات أيضا.

ولكنه أنى ينتهى الامر في أمثال المقام إلى ذلك كي يصار لأجله إلى كشف جهة جامعة بين الموضوعات المختلفة عند عدم جامع صوري بينها من باب الاتفاق ، وجعلها موضوعا للعلم ، ويصار بذلك أيضا إلى كون تميز العلوم بعضها عن الآخر بتمايز موضوعاتها ، كيف وان غالب العلوم لايكون فيها جامع صوري بل ولا معنوي بين موضوعات مسائلها كما في كثير من مسائل الفقه لمكان كون النسبة بين بعضها والبعض الآخر من قبيل الوجود والعدم كما في الصلاة بالقياس إلى الصوم ، فان من المعلوم انه لا جامع متصور بينهما ولو معنويا بعد كون الصوم عبارة عن نفس الترك ومجرد ان لا يفعل بشهادة صحة الصوم فيما لو تبيت في الليل ونام إلى الغروب بخلاف الصلاة التي هي من الأمور الوجودية فأي جامع متصور حينئذ بين الوجود والعدم. بل وكذلك الامر بالنسبة

ص: 9

إلى نفس الصلاة التي هي مركبة من مقولات متعددة متبائنة كالفعل والإضافة ونحوها ، وهكذا غيرها من مسائل الفقه المغايرة بعضها مع البعض الآخر موضوعا ومحمولا مع معلومية عدم تصور جامع قريب بينها. وهكذا الكلام في الكلمة والكلام في علم النحو نظراً إلى وضوح تقوم الثاني بنسبة معنوية خارجة عن سنخ القول واللفظ فلايمكن حينئذ دعوى كون الجامع بينهما هو ما يتلفظ به من اللفظ والقول ، مع فرض تقوم الكلام بأمر معنوي خارج عن سنخ اللفظ. وهكذا التصور والتصديق والفصاحة والبلاغة.

وكذا الكلام في علم الأصول فان من البداهة انه لا جامع متصور فيها من جهة ان عمدة مسائلها انما هي حجية الامارات الملحوظ فيها جهة الإرائة والكاشفية عن الواقع والأصول الملحوظ فيها جهة عدم الإرائة عن الواقع والسترة عنه ، ولا جامع بين الإرائة واللارائة عن الواقع في طرفي النقيض.

وحينئذ فأين الموضوع الوحداني في هذه العلوم يمتاز به بعضها عن البعض الآخر كي يبقى مجال القول بكون ميز العلوم بقول مطلق بتمايز موضوعاتها ، خصوصا بعد ما يرى من تعريفهم إياه بأنه ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، فإنه فيما ذكرنا من العلوم لايتصور موضوع وحداني فيها حتى يكون البحث عن عوارضه الذاتية ، لأنه إذا نظرنا إلى موضوعات مسائلها المعروضة للعوارض المبحوث عنها في العلم نرى بأنها لا تكون الا عبارة عن المتكثرات بلا جامع ذاتي بينها ، واما الجامع العرضي فهو وان كان متصورا فيها ولكنه لايكون مثل هذا الجامع العرضي الانتزاعي معروضا لعارض حتى يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، كما هو ظاهر.

نعم قد يكون لبعض العلوم موضوع وحداني سار في موضوعات مسائله بنحو تكون الخصوصيات المأخوذة في مسائله على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات الموضوع المزبور مستقلا ، نظير الفاعلية والمفعولية بالإضافة إلى عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة ، كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية كعلم الحساب المبحوث فيه عن الاعراض الطارية عن ذات العدد ككون العدد منطقا أو اصم وكالجمع والتفريق والضرب وأعمال الكسور ، وكعلم الهندسة المتعرض للوازم المقدار العارضة عليه غالبا بنفسه كمبحث الاشكال والنظريات من الهندسة ونحو ذلك ، فإنه في أمثال هذه العلوم أمكن دعوى وجود موضوع وحداني للعلم مبحوث فيه عن عوارضه

ص: 10

الذاتية فأمكن من هذه الجهة دعوى كون امتيازها عن غيرها بميز موضوعاتها المتخالفة بنحو التباين أو العموم والخصوص خصوصا بعد كون غاياتها غالبا من سنخ واحد بملاحظة كونها عبارة عن استنباط حقايق الأشياء بلوازمها.

ولكن مثل هذه الجهة لا توجب جرى جميع العلوم على منوال واحد حتى مثل العلوم الأدبية والنقلية التي هي في تمام المعاكسة مع العلوم العقلية ، لأنها كما عرفت علاوة عن عدم تصور الموضوع الوحداني لها كانت غاياتها أيضا في كمال الامتياز عن الآخر من حيث الاختلاف بحسب السنخ كما في حفظ الكلام عن الغلط في علم النحو ، حيث إنه سنخ غير مرتبط بحفظ الفكر عن الخطأ الذي هو الغرض في علم المنطق ، وهكذا حفظ فعل المكلف وحفظ الاستنباط وغير ذلك.

بل ولئن تدبرت ترى بان الامر كذلك في العلوم العقلية أيضا حيث إن غاياتها أيضا مختلفة بحسب السنخ وان كان في بدو النظر يرى كونها من سنخ واحد.

وعلى ذلك فكان الحري الحقيق ان يقال في وجه تمايز العلوم بان ميزها انما هو من جهة الاغراض الداعية على تدوينها ، لا انه من جهة تمايز موضوعاتها ، وان وحدة العلم وتعدده انما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدده ، وعليه فمتى كان الغرض والمهم واحدا كانت القواعد الدخلية في ترتب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علم واحد وكانت تفرد بالتدوين وان كانت متعددة موضوعا ومحمولا ، كما أنه لو كان الغرض والمهم متعددا يكون تكثر العلوم حسب تكثر الاغراض وعليه فلو أراد من هو بصدد تدوين العلم والفن في علم العربية وكان غرضه الاطلاع على جميع خصوصيات ألفاظ العرب مما يرجع إلى مادة اللفظ وهيئته ، فعند ذلك لابد بمقتضى ما ذكرنا من جعل العلوم العربية كلها علما واحدا وان يفردها بالتدوين أيضا ، وان كان لغرضه ذلك جهات متعددة راجعة بعضها إلى مادة الكلمة وبعضها إلى هيئتها وبعضها إلى هيئة الكلام ، إذ حينئذ يكون البحث في كل جهة من تلك الجهات في الحقيقة بابا من ذلك العلم لا علما مستقلا ، كما أنه لو تعلق غرضه بالتكلم الصحيح من حيث خصوص الاعراب والبناء لابد وان يجعل النحو علما برأسه في قبال الصرف ونحوه من العلوم العربية ، وليس له جعل العلوم العربية كلها علما واحدا ، وهكذا الكلام في غيره من العلوم. فحينئذ لابد من ملاحظة سعة دائرة الغرض وضيقها في وحدة العلم وتعدده ، وعليه أيضا ربما تكون المسألة الواحدة

ص: 11

مع وحدتها باعتبار دخلها في مهمين أو أزيد من مسائل علمين أو أكثر ، فمن جهة وفائها بهذا الغرض تكون من مسائل هذا العلم ، كما أنه من جهة أخرى تكون من مسائل علم آخر ، كما أنه ربما تكون المسائل المتعددة مع اختلافها وشتاتها بلحاظ دخلها في غرض واحد ومهم فارد من مسائل علم واحد.

وحينئذ فصح لنا بعد البيان المزبور دعوى ان تمايز العلوم بقول مطلق بتمايز الاغراض الداعية على تدوينها لا بتمايز موضوعاتها. ولئن أبيت من ذلك فلك ان تجعل العلوم صنفين صنف منها لايكون امتيازها الا باغراضها كما في العلوم الأدبية والنقلية ، وصنف منها يكون امتيازها بتمايز موضوعاتها كما في كثير من العلوم العقلية من الفلسفية والرياضية ، بناء على ما تقدم من امكان دعوى وجود موضوع وحداني فيها سار في موضوعات مسائلها بنحو كانت الخصوصيات المأخوذة فيها على فرضها من قبيل الجهات التعليلية لطرو العرض على ذات ذلك الموضوع الوحداني ، لأجرى الجميع حتى الأدبية والنقلية على منوال واحد والقول بان ميز العلوم كلية بميز موضوعاتها.

وعليه أيضا لابد من التفرقة والتفصيل في العلوم أيضا في وجه نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله بجعل النسبة بينها في مثل العلوم الرياضية بنحو الاتحاد ومن قبيل نسبة الكلى إلى افراده والطبيعي ومصاديقه ، وفى مثل العلوم الأدبية والنقلية بنحو العينية ومن قبيل نسبة الكل إلى اجزائه ، لأجرى جميع العلوم في ذلك على منوال واحد والقول بان النسبة بين موضوع العلم وموضوعات المسائل بقول مطلق على نحو الاتحاد كما في الكلى وافراده والطبيعي ومصاديقه ، كما افاده في الكفاية. كيف وقد عرفت بأنه في كثير من العلوم كالعلوم الأدبية والنقلية وغيرها لايكون الموضوع فيها الا عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها ، بملاحظة عدم تصور موضوع وحداني فيها ولو معنويا بحيث يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية. واما تلك الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية عليها من قبل وحدة الغرض القائم بالمجموع فهي كما عرفت غير مجدية فيما هو المقصود والمهم ، لان موضوع العلم كما عرفوه عبارة : عما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، ومثل هذه الجهة من الوحدة الاعتبارية الطارية لاتكاد تكون معروضة لعرض ولا مبحوثا عنها في العلم عن عوارضها الذاتية ، كما هو ظاهر.

ص: 12

في شرح العرض الذاتي

وحيث اتضح لك ما شرحناه في شرح موضوع العلم فلنعطف الكلام إلى بيان العوارض الذاتية الواقعة في كلماتهم في تعريفهم موضوع العلوم بأنه : ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، حيث إنه قد اختلف كلماتهم في مقام شرح المراد من العرض الذاتي ، فنقول وعليه التكلان :

ان توضيح المرام في المقام يحتاج إلى تمهيد مقدمة ، وهي ان الأوصاف المنسوبة إلى الشيء تارة يكون انتزاعها عن نفس ذات الشيء بلا جهة خارجية في البين زائدة عن ذات الموصوف كما في الأبيضية والأسودية المنتزعين عن البياض والسواد وكالموجودية المنتزعة عن الوجود ، وأخرى يكون انتزاعها عن جهة خارجة عن ذات الموصوف. وعلى الأخير فتارة يكون اتصاف الموصوف بالوصف من جهة اقتضاء ذاته كما في توصيف العقل بالمدركية والانسان بقوة الضحك والتعجب ، وأخرى يكون ذلك باقتضاء امر خارجي على نحو السببية والعلية المعبر عنه باصطلاح الأصول بالمقتضى أو على نحو الشرطية بلا اقتضاء لذلك في نفسه كما في حركة اليد لحركة المفتاح وكالمجاورة في عروض الحرارة من النار للماء. وعلى الأخير فتارة لايكون ذلك الامر الخارجي بنفسه معروضا لذلك العرض أصلا بل وانما كان شأنه مجرد السببية لعروض الوصف والعرض على الشيء كما في نحو المجاورة للنار الموجبة لعروض الحرارة على الماء مستقلا ، ومثله كلية الجهات التعليلية الموجودة لعروض الوصف على شيء واتصافه به كالفاعلية والمفعولية ونحوهما في عروض الرفع والنصب على ذات الكلمة ، وأخرى بعكس ذلك بان كان الامر الخارجي - وهو الواسطة بنفسه معروضا للعرض. وعلى الأخير فتارة يكون ذو الواسطة أيضا معروضا للعرض المزبور ولو ضمنا كما في خواص النوع فإنه في مثل ذلك يكون العرض المزبور عارضا للجنس أيضا غايته بنحو الضمنية لا الاستقلالية ، ومن ذلك أيضا كلية الاعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقيدية نظير الوجوب العارض للصلاة بخصوصية عنوانها ، وهكذا غيرها ، فان مثل ذلك ملازم لعروض العرض وهو الوجوب لفعل المكلف الذي هو بمنزلة الجنس ولو ضمنا لا استقلالا ، وأخرى يكون تمام

ص: 13

المعروض للعرض والوصف حقيقة هو الواسطة بلا عروضه لذي الواسطة أصلا ولو بنحو الضمنية ، كما في الخواص المترتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى جنسها ، كالمدركية للكليات وللأمور الغريبة ، حيث إن تمام المعروض لها حينئذ انما هي جهة الفصلية خاصة دون جهة الجنسية ولو بنحو الضمنية. وذلك أيضا تارة على نحو يكون الوصف قابلا للحمل على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه كما في المثال المتقدم في الخواص العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس ، حيث إن مثل المدركية وان لم تكن بالدقة حقيقة عارضة على الجنس بل كان تمام المعروض لها هي جهة الفصلية التي هي أجنبية عن جهة الجنسية مع ما كان بينهما من الاتحاد في الوجود وعدم تحصله الا بالفصل ، ولكنه بملاحظة قابلية الفصل الذي هو الواسطة للحمل على الجنس صح بهذا الاعتبار حمل خواصه عليه أيضا في مثل قولك : بعض الحيوان مدرك الكليات ، ومن ذلك أيضا حمل الضحك والتعجب على الحيوان بناء على كونها من خواص فصله ، حيث إن صحة حملها على الحيوان في قولك بعض الحيوان ضاحك أو متعجب ، انما هو بتبع حمل فصله عليه ، والا فلايكون جهة الجنسية والحيوانية معروضة لهما ولو على وجه الضمنية بوجه أصلا ، وأخرى على نحو لايكون قابلا للحمل على ذي الواسطة نظراً إلى عدم قابلية الواسطة المعروضة للوصف للحمل على ذيها ، وذلك كما في السرعة والبطؤ العارضين على الحركة العارضة للجسم ، وكالاستقامة والانحناء العارضين للخط القائم بالجنس ، فان الوصف في الأمثلة المزبورة علاوة عن عدم عروضها على ذي الواسطة لايكون قابلا للحمل عليه أيضا نظراً إلى عدم صحة حمل الواسطة عليه ، حيث لايقال الجسم حركة أو خط ، فكما لايصح القول حينئذ بان الجسم حركة أو خط لايصح القول أيضا بأنه سرعة أو بطؤ.

وحيثما عرفت هذه فنقول : انه لا اشكال حسب ما يستفاد من كلماتهم في شرح الاعراض الذاتية في دخول ما عدا الثلاثة الأخيرة في الاعراض الذاتية فان تخصيص العرض الذاتي بما كان المقتضى للعروض فيه هو نفس ذات الشيء بلا واسطة لا في الثبوت ولا في المعروض أو تعميمه بما يعم ذلك وما يحتاج إلى الواسطة في الثبوت بالمعنى الذي ذكرناه دون الواسطة في العروض ، مع أنه بعيد غايته ، ينافي ما هو المصرح به في كلماتهم من عموم المراد من العرض الذاتي لما يحتاج إلى الواسطة في العروض أيضا بنحو الجهة التعليلية الموجبة لعروض الوصف على نفس الذات مستقلا واتصافها به

ص: 14

حقيقة كالمجاورة للنار بالنسبة إلى عروض الحرارة للماء وكالفاعلية والمفعولية الموجبة لعروض الرفع على ذات الكلمة. وحينئذ فلا اشكال في دخول ذلك أيضا في المراد من العرض الذاتي المبحوث عنه في العلم.

كما لا اشكال أيضا في خروج القسم الأخير من الأقسام الثلاثة الأخيرة عن العرض الذاتي ودخوله في الاعراض الغريبة وهو ما كان تمام المعروض له مستقلا هو الواسطة دون ذيها مع عدم قابلية للحمل على ذي الواسطة أيضا ، كما مثلنا به في مثال السرعة والبطؤ العارضين للحركة العارضة على الجسم ، والانحناء والاستقامة العارضين على الخط القائم بالجنس ، فان مثل هذه العوارض كما عرفت مع عدم عروضها على ذي الواسطة لا تكون قابلة للحمل عليه أيضا.

نعم انما الكلام والاشكال في القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة الأخيرة في كونهما من الاعراض الذاتية أو الغريبة ، وهما صورة كون العروض على الواسطة مستقلا وعلى ذيها ضمنا ، كالأعراض الثابتة للعناوين بخصوصيات تقييدية وكالعوارض الثابتة للنوع بالقياس إلى الجنس ، وصورة كون العروض حقيقة وبالدقة على الواسطة دون ذيها ولو على نحو الضمنية مع قابلية حمل الوصف على ذي الواسطة ولو بتبع حمل الواسطة عليه ، كما مثلنا له بالخواص المرتبة العارضة على الفصول بالنسبة إلى الجنس كالمدركية للكليات. ومبنى الاشكال فيهما انما هو من جهة عدم تنقيح المراد من العرض الذاتي وان المدار في كون شيء عرضا ذاتيا هل على مجرد اتحاد معروض العارض مع ذي الواسطة وصحة حمل العرض عليه بالحمل الشايع الصناعي ولولا يكون ذو الواسطة الذي يحمل عليه العرض معروضا له حقيقة بل كان تمام المعروض له هو الواسطة ، أو انه لابد من كون العرض ثابتا له حقيقة وبالدقة وعلى نحو الاستقلال؟ فعلى الأول يدخل القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة الأخيرة أيضا في العرض الذاتي ، بخلافه على الثاني فإنه يدخلان حينئذ في الاعراض الغريبة.

ولكن الذي يظهر من جماعة كصاحب الاسفار وغيره دخولهما في الاعراض الغريبة حيث قال فيما حكى عنه في مقام تميز الاعراض الغربية عن الذاتية ما مضمونه : ان كل عرض ثابت لنوع متخصص الاستعداد من غير ناحية هذا العرض فهو من الاعراض الغريبة المبحوث عنها في علم آخر يكون هذا النوع موضوعه وكل عرض ثابت لشيء

ص: 15

بنحو يكون هذا العرض موجبا لتخصصه كالبحث عن استقامة الخط وانحنائه فهو من الاعراض الذاتية. ونحوه كلام غيره : بان الاعراض الثابتة لعناوين خاصة بخصوصيات منوعة لابد وان يبحث عنها في علم يكون هذا العنوان الخاص موضوعه ولا يبحث في علم آخر يكون موضوعه عنوانا أعم من ذلك بنحو العموم والخصوص أو الاطلاق والتقييد ونحو ذلك. فان مقتضى كلامهم هو عدم الاكتفاء في العرض الذاتي على مجرد عروض العارض على الشيء ولو ضمنا كما في الاعراض الثابتة للنوع العارضة على الجنس أيضا بنحو الضمنية ، ولازمه الاشكال في الاكتفاء بصرف صحة حمل العارض على الشيء بالحمل الحقيقي وصرف اتحاد معروض العرض وهي الواسطة وجودا مع ذيها مع كون تمام المعروض للعرض مستقلا هي الواسطة بطريق أولى ، فإنه إذا كان الاعراض الثابتة للنوع والمقيد والخاص بالنسبة إلى جنسه ومطلقه وعامه من الاعراض الغريبة مع صدق العروض فيها على الجنس والمطلق والعام بنحو الضمنية فكونها من الاعراض الغريبة في صورة عدم صدق العروض على ذي الواسطة ولو ضمنا انما كان بطريق أولى.

وعليه يمكن ان يقال بدخول مثل هذه العوارض الثابتة للعناوين بجهات تقييدية كالأعراض الثابتة للنوع والمقيد بالنسبة إلى جنسه ومطلقه والاعراض الثابتة للفصل بالقياس إلى جنسه في الاعراض الغريبة ، وان تمام المدار في العرض الذاتي للشيء هو كونه ثابتا له دقة وعلى نحو استقلال ولو بجعل الخصوصيات المأخوذة فيه من الجهات التعليلية كما عرفت في مثل الفاعلية لعروض الرفع على ذات الكلمة - لا من الجهات التقييدية الموجبة لتخصص الموضوع بخصوصية منوعة ، من غير فرق بين ان يكون ثبوت العرض والوصف له بلا واسطة امر خارجي أو معها ، ولابين كون الامر الخارجي الذي هو الواسطة مساويا أو أعم أو أخص. كما أن المدار في العرض الغريب انما هو على صحة سلب العارض حقيقة في مقام العروض وعلى نحو الاستقلال عن ذي الواسطة ، كان تمام المعروض للعرض هو خصوص الواسطة أم لا بل كان ذوها أيضا معروضا له على نحو الضمنية ، كما في موارد كون الواسطة من الجهات التقييدية ، من غير فرق فيه أيضا بين كون الواسطة التي هي من الجهات التقييدية مساوية أو أعم أو أخص. فعلى جميع التقادير مهما كان العرض قائما حقيقة بالواسطة كان نسبته إلى ذي الواسطة من

ص: 16

الاعراض الغريبة.

وحينئذ فعلى كان تقدير لا مجال للقول بالتفصيل بين كون الواسطة مساوية وبين كونها أعم أو أخص بل لابد من ملاحظة كون الواسطة من الجهات التعليلية الموجبة لعروض الشيء على شيء أو من الجهات التقييدية الموجبة لصحة سلب العروض على نحو الاستقلال عن الجامع بينها ، فعلى الأول يكون العرض المنسوب إلى الشيء من الاعراض الذاتية وعلى الثاني يكون من الاعراض الغريبة لذلك الشئ.

وبذلك ربما ظهر أيضا دفع ما ربما يتوهم من الاشكال : بان موضوع المسائل بالقياس إلى موضوع العلم انما كان من قبيل النوع والجنس والمقيد والمطلق فعلى القول بكون العرض الثابت للنوع بالنسبة إلى جنسه عرضا غريبا يلزم كونها من الاعراض الغريبة لا الذاتية مع أنه ليس كذلك قطعا. إذ نقول : بأنه كذلك فيما لو كانت الخصوصيات المأخوذة في موضوعات المسائل من قبيل الجهات التقييدية الدخيلة في المعروض كي تكون المسألة بذلك بالنسبة إلى موضوع العلم من قبيل النوع بالنسبة إلى جنسه ، ولكنه ليس الامر كذلك بل وانما كانت الخصوصيات المأخوذة فيها من قبيل الجهات التعليلية نظير الفاعلية والمفعولية الموجبة لطرو الرفع والنصب على ذات الكلمة ، ومعه فيخرج موضوع المسائل عن النوعية. ثم إن ذلك أيضا في صورة تخريج موضوع وحداني للعلم والا فمع عدم تخريج الموضوع الوحداني - كما في العلوم العربية والنقلية وغيرها كما عرفت - فلا يضر أيضا جهة كون الخصوصية المأخوذة في موضوع المسألة من الجهات التقييدية في كون العرض عرضا ذاتيا ، إذ حينئذ ليس هناك موضوع وحداني للعلم كي يجيء الاشكال المزبور ، وانما كان الموضوع فيه عبارة عن نفس موضوعات المسائل على شتاتها واختلافها ، وفي مثله لابد من ملاحظة شخص المحمول في كل قضية قضية بالنسبة إلى شخص الموضوع في تلك القضية في ثبوته حقيقة وبالدقة على الاستقلال لشخص ذاك الموضوع أم لا ، وعليه فلا يشكل علينا في مثل الوجوب العارض للصلاة التي هي فعل المكلف بخصوصية عنوانها ، بل وانما الاشكال على القول بتخريج الموضوع الوحداني بين موضوعات المسائل وجعل موضوع الفقه عبارة عن نفس فعل المكلف ، فإنه عليه يكون نسبة الفعل إلى عنوان الصلاة من قبيل نسبة الجنس إلى نوعه فيتوجه الاشكال حينئذ من جهة عدم كون الموضوع الذي هو فعل المكلف مستقلا في مقام المعروضية للوجوب ، من جهة ما هو المفروض من كون

ص: 17

معروض تلك الأحكام انما هو فعل المكلف بما هو متخصص بخصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها ، وان جهة الصلوتية والحجية أيضا كانت تحت الحكم. ومن ذلك ظهر انه لا يجديه أيضا ضم حيثية الاقتضاء والتخيير ، إذ نقول : بأنه ان أريد بذلك اقتضاء الفعل مستقلا ففساده واضح من جهة بداهة مدخلية خصوصية عنوان الصلوتية والحجية والغصبية ونحوها لعروض الوجوب أو الحرمة ، وان أريد به اقتضائه ولو بنحو الضمنية فغير مثمر ، إذ يعود حينئذ الاشكال المزبور من لزوم كون العرض بالنسبة إلى الجامع في ضمن العناوين الخاصة وهو ذات فعل المكلف من العوارض الغريبة. واما الالتزام بكفاية مجرد كون الشيء معروضا للعرض ولولا بنحو الاستقلال بل بنحو الضمنية في كونه عرضا ذاتيا له ، فمع انه مناف لما هو المصرح به في كلماتهم من كون مثله من العرض الغريب ، يلزمه ادخال مسائل العلوم السافلة في العلوم العالية التي يكون موضوعها من قبيل الجنس والمطلق بالنسبة إلى موضوع علم السافل ، كما في علم الهندسة الذي يكون الموضوع فيه وهو المقدار من قبيل الجنس للجسم التعليمي الذي هو موضوع علم المجسمات. فمن ذلك لابد من جعل العنوان المزبور من العناوين المشيرة إلى العناوين الخاصة التي هي موضوعات المسائل ، ومعه فيخرج عن الوحدة وينطبق على ما ذكرناه.

في تعريف علم الأصول وبيان موضوعه

ثم انه بعد ما اتضح ما ذكرناه نقول : بأن فن الأصول بعد أن كان عبارة عن جملة من القواعد خاصة الوافية بغرض مخصوص كان من جملة العلوم ، وان موضوعه أيضا عبارة عن نفس موضوعات مسائله على اختلافها وشتاتها ، من دون احتياج إلى اتعاب النفس في تخريج الموضوع الوحداني له ، خصوصا بعد ما يرى من عدم الطريق إلى كشف الجامع الوحداني المعنوي بينها بعد فرض كون الغرض ذا جهات عديدة ، بل وعدم امكانه أيضا مع رجوع مسائل الأصول إلى صنفين : صنف لو حظ فيها الحكاية والكشف عن الواقع وهو الامارات ، وصنف لو حظ فيه عدم الإرائة وحيث السترة للواقع وهو الأصول ، من جهة ما عرفت من عدم تصور جامع ذاتي بين هذين الصنفين باعتبار رجوعه إلى الجامع بين النقيضين.

ص: 18

كعدم الاحتياج أيضا إلى اتعاب النفس بجعل الموضوع فيه عبارة عن عناوين متعددة : تارة الأدلة الأربعة فارغا عن دليليتها كما عن القوانين ، وأخرى ذوات الأدلة الأربعة كما عن الفصول قدس سره كي يورد على الأول بلزوم خروج كثير من مهمات المسائل الأصولية كمبحث حجية الكتاب وحجية الخبر الواحد ، وعلى الثاني بلزوم خروج مباحث الألفاظ طرا كالبحث عن أن الامر للوجوب والبحث عن العموم والخصوص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق أيضا ، بل وخروج مبحث حجية خبر الواحد أيضا ، نظراً إلى عدم كون البحث المزبور عن كون الامر حقيقة في الوجوب والنهى في الحرمة وعن العموم والخصوص عن الأوامر والعمومات الواردة في الكتاب والسنة ، وعدم كون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن حال السنة الواقعية التي هو قول المعصوم وفعله وتقريره. وارجاعه إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد كثبوتها بالمتواتر غير مفيد ، من جهة ان البحث عن ثبوتها حقيقة ليس من عوارضها واما تعبدا فمن عوارض مشكوكها لا من عوارض السنة الواقعية.

كما أنه لا وجه أيضا لاتعاب النفس في تخريج الجامع الوحداني بين مسائله ببعض التكلفات. ولئن أبيت الا من لزوم جامع في البين بين المسائل ولو بنحو المشيرية لكان الأولى هو ان يقال : بأنه القواعد الخاصة الواقعة في طريق استكشاف الوظائف الكلية العلمية شرعية كانت أم عقلية ، لان ذلك هو المناسب أيضا لما هو الغرض الباعث على تدوينها ، وهو استنباط الاحكام والوظائف الفعلية.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في تعريفه أيضا وانه لا وجه لما هو المعروف من تعريفه : بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، وذلك لما فيه من الخلل من جهات : تارة من جهة اخذ العلم في تعريفه مع أن العلم والفن كما عرفت عبارة عن نفس القواعد الواقعية الوافية بغرض مخصوص دون العلم والتصديق بها ، بشهادة صحة إضافة العلم إليها تارة والجهل أخرى في قولك فلان عالم بالأصول وفلان جاهل به. وأخرى من جهة لفظ الاستنباط الظاهر في إرادة وقوع القواعد واسطة لا ثبات الواقع وسببا للعلم به ، فإنه حينئذ يلزمه خروج الأصول العلمية كالاستصحاب وأصالة البراءة ونحوها عن مسائل الأصول مع أنها من أهم مسائله ، من جهة ان مضمون هذه الأمور لايكون الا أحكاما ظاهرية منطبقة على مواردها ، وقضية الاستنباط فيها انما كان عبارة عن مقام تطبيقها

ص: 19

على مواردها بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي واليأس عنه ، وأين ذلك ومقام وقوعها طريقا وواسطة لا ثبات الحكم الشرعي. نعم ونفس تلك القواعد تكون مضامينها أحكاما كلية ظاهرية مستنبطة من الامارات الحاكية عن الواقع كالأحكام الفرعية ، ولكن ذلك غير مرتبط بمقام تطبيقها على الموارد في مقام العمل ، بل ويلزمه أيضا خروج الامارات كخبر الواحد ونحوه بناء على القول بكون مفاد دليل الحجية فيها هو تنزيل المؤذي وجعل المماثل في الظاهر ، فإنه على هذا القول أيضا يلزم خروج الامارات عن مسائل الأصول بلحاظ عدم وقوعها في مقام تشكيل القياس وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، نعم بناء على القول بتتميم الكشف كما هو المختار يدخل مبحث الأمارات في التعريف المزبور لوقوعها حينئذ وسطا لا ثبات الحكم الشرعي ، حيث تقع وسطا في القياس ، فيقال : ان هذا مما قام على وجوبه خبر الواحد وكل ما هو كذلك فهو منكشف - بحكم الشارع بكونه كاشفا فهذا منكشف ، فتكون حينئذ من القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية.

وثالثة من حيث التقييد بالشرعية ، إذ يخرج حينئذ كثير من المسائل الأصولية أيضا كالبرائة والاشتغال العقليين ومسألة الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في غيره من التعاريف الاخر التي أفادوها في المقام في ميزان كون المسألة أصولية ، ككونها مما يتعلق بالعمل مع الواسطة في قبال المسائل الفقهية التي تعلقها بالعمل كان بلا واسطة. وذلك لخروج المسائل العملية الأصولية أيضا على هذا الميزان بلحاظ تعلقها بالعمل بلا واسطة بانطباقها على مواردها.

وبالجملة نقول : بان القواعد المبحوث عنها في الأصول حيثما كانت على صنفين : صنف منها لو حظ فيها جهة الكشف والحكاية عن الواقع كشفا تاما أو ناقصا وكان شأنها الوقوع في طريق استنباط الاحكام كالأمارات ، وصنف آخر منها لو حظ فيها حيث السترة وعدم الكشف والحكاية عن الواقع وكان مما ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل عند تحيره وجهله بالواقع كالقواعد العملية من نحو الاستصحاب وغيره ، وكان الصنفان كل واحد منهما دخيلا في الغرض الخاص الداعي على تدوين العلم وجمع قواعده ، فلا جرم كان الحري الحقيق هو تعريفه بما ذكرنا : بأنه القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الاحكام الكلية الإلهية أو الوظائف العملية الفعلية عقلية كانت أم شرعية ،

ص: 20

ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم الشرعي الواقعي ( كما في قولك : هذا ما أخبر العادل بوجوبه واقعا وكلما كان كذلك فهو واجب كذلك ) أو الحكم الشرعي الظاهري ( كقولك بعد اثبات حجية الاستصحاب : هذا مما علم بوجوبه أو حرمته سابقا وشك لاحقا في وجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك فهو واجب في الظاهر ولا ينقض اليقين به بالشك فيه ) أو حكما عقليا ( كقولك : هذا مما لم يرد عليه نص ولا بيان وكلما كان كذلك فهو مما لا حرج في فعله وتركه أو يجب فيه الاحتياط أو يتخير بين الامرين ) نعم على هذا التعريف ينبغي التقييد بعدم اختصاصها بباب دون باب من أبواب الفقه ليخرج مثل قاعدة الطهارة عن التعريف المزبور وتدخل في مسائل الفقه بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه.

ولعله إليه أيضا يرجع سائر التعاريف كتعريف الشيخ قدس سره المسألة الأصولية بما يكون امر تطبيقه مخصوصا بالمجتهد ولا يشترك فيه المقلد ، قبال المسألة الفقهية التي يكون تطبيقها على الموارد مشتركا بين المجتهد والمقلد. فلا يرد عليه حينئذ بمثل قاعدة الطهارة التي هي من المسائل الفقهية في الشبهات الحكمية ومسألة الشرط المخالف للكتاب والسنة التي هي أيضا من المسائل الفقهية ، بتقريب انهما مع كونهما من المسائل الفقهية لا شبهة في أن تطبيقها على مواردها لايكون الا من وظائف المجتهد خاصة ، بملاحظة اشتراط الأول بالفحص والثاني بمعرفة الكتاب والسنة لكي يتميز بها كون الشرط مخالفا للكتاب والسنة أو غير مخالف لهما ، ولا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يعرف ظواهر الكتاب والسنة. وهكذا غيره من التعاريف الاخر كتعريفه : بأنه صناعة يقتدر بها على استنباط الاحكام الفرعية ونحوه ، فان هذه التعاريف جميعها راجعة إلى امر واحد ولكل منها جهة مناسبة مع تلك القواعد فكل إلى ذاك الجمال يشير وحينئذ فلاينبغي النقص والابرام من جهة الطرد والعكس في مثل هذه التعاريف.

نعم بقى في المقام اشكال يرد على ما ذكرنا من التعريف بل وعلى غيره من التعاريف الاخر أيضا فينبغي التعرض له ولدفعه ، ومحصل الاشكال : هوان ميزان كون المسألة أصولية - على ما عرف من وقوع نتيجتها كبرى القياس - ان كان على وقوعها في طريق الاستنباط المزبور بلا واسطة فيلزمه خروج مباحث الألفاظ طرا - كمبحث الامر والنهى والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفهوم والمنطوق ونحوها مما شأنها اثبات

ص: 21

الوضع والظهور - من مسائل الأصول ، من جهة وضوح ان نتيجة هذه المباحث لا تكون الا تعيين الظهور واثبات كون الشيء ظاهرا في كذا ، كظهور هيأة الامر في الوجوب وظهور النهى في الحرمة مثلا والعام والخاص والمطلق والمقيد في كذا وكذا ، ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذه لايكاد يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بتشكيل قياس واحد بل يحتاج في مقام انتاج الحكم الشرعي إلى تشكيل قياسين يكون نتيجة أحدهما صغرى لكبري القياس الآخر ، بان نقول في القياس الأول : هذا امر وكل امر ظاهر في الوجوب فهذا ظاهر في الوجوب ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى لكبري في قياس آخر ، ونقول في القياس الثاني : هذا ظاهر وكل ظاهر يجب التعبد به والعمل على طبقه بمقتضى ما دل على وجوب الاخذ بكل ظاهر. وهذا بخلافه في مسألة حجية خبر الواحد ونحوها فإنه فيها لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد بقولك : هذا مما أخبر العادل بوجوبه أو حرمته وكلما كان كذلك يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه فهذا يجب الاخذ به والتعبد بمضمونه. وان كان ميزان كون المسألة أصولية على وقوعها في طريق الاستنباط ولو مع الواسطة ، فعليه وان اندفع الاشكال المتقدم الا انه عليه بلزوم دخول مسائل كثيرة من العلوم الأدبية - كالصرف والنحو واللغة ومسائل علم الرجال - في المسائل الأصولية ، بملاحظة وقوع نتيجتها بالآخرة في طريق الاستنباط ، وهذا كما ترى ، مع أن ديدنهم على اخراج مسائل المشتق ونحوها عن المسائل من حيث جعلهم أول المباحث مباحث الأمر والنهي ، فيبقى حينئذ سؤال الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأمر والنهي والعام والخاص الخ.

وحاصل الدفع هو انا نختار الشق الثاني ومع ذلك نلتزم بخروج الأمور المزبورة عن مسائل الأصول ، وذلك اما أولا فلوضوح ان المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو اثبات الظهور للكلمة والكلام بل وانما المهم فيها انما هو اثبات كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا في ظرف الفراغ عن فاعلية الفاعل ومفعولية المفعول ، وأين ذلك ومثل مباحث الأمر والنهي والعام والخاص المتكلفة لاحراز الظهور في الكلمة والكلام؟ وثانيا على فرض ان المقصود في العلوم الأدبية أيضا احراز الظهور في شيء كظهور المرفوع في الفاعلية والمنصوب في المفعولية ، نقول بان غاية ما يقتضيه ذلك حينئذ انما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الاحكام لأنفسها ، والمسائل الأصولية انما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعية العملية

ص: 22

فيخرج حينئذ أيضا مسائل العلوم الأدبية كالنحو والصرف بل اللغة أيضا. وتوهم استلزامه لخروج مثل مباحث العام والخاص أيضا مدفوع بأنها وان لم تكن واقعة في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي الا انها باعتبار تكفلها لا ثبات كيفية تعلق الحكم بموضوعه كانت داخلة في مسائل الأصول ، كما هو الشأن أيضا في مبحث المفهوم والمنطوق حيث إن دخوله باعتبار تكفله لبيان إناطة سنخ الحكم بشيء الذي هو في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته ، وهذا بخلاف المسائل الأدبية فإنها ممحضة لا ثبات موضوع الحكم بلا نظر فيها إلى كيفية تعلق الحكم أصلا. ومن ذلك البيان ظهر وجه خروج المشتقات أيضا عن مسائل الأصول ، حيث إن خروجها أيضا انما هو بلحاظ عدم تكلفها الا لاحراز موضوع الحكم وانه خصوص المتلبس الفعلي أو الأعم ، لأنفسه لا بذاته ولا بكيفية تعلقه بموضوعه.

نعم يبقى الاشكال حينئذ في خروج مسائل علم الرجال عن مسائل الأصول مع أنها كمبحث دلالة الألفاظ واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ولو بالواسطة من كون السند موثوقا به في شمول دليل التعبد له ، ويمكن الاعتذار عنه بان عدم تدوينهم إياها في الأصول حينئذ انما هو من جهة كثرة مسائلها الموجبة لافرادها بالتدوين وجعلها علما مخصوصا موسوما باسم مخصوص مستقلا عن الأصول ، فتدبر.

الامر الثاني في الوضع

اشارة

فنقول : انه بعد ما لم تكن العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها ذاتية محضة بنحو يعرفها كل أحد ، يبقى الكلام في أن لها أي للألفاظ نحو مناسبة لمعانيها توجب وضعها لمعانيها بحسب الارتكاز وان لم يلتفت الواضع تفصيلا إلى تلك المناسبة ، أم لا؟ بل تمام العلقة والارتباط بينهما كانت حاصلة بالجعل وبوضع الواضع بعد أن لم تكن بينهما علاقة وارتباط أصلا حيث إن فيه وجهين : قد يقال بالأول وان الواضع حيثما يجعل لفظا لمعنى فإنما هو من جهة الهام الباري ( عز اسمه ) إياه بل ومن ذلك أيضا أنكر استناد الجعل إلى المخلوقين فقال : بان الجاعل والواضع في الألفاظ انما هو الباري عز اسمه وانه سبحانه وتعالى يلهم كل طائفة ان يتلفظوا عند ابراز مقاصدهم بألفاظ خاصة مناسبة

ص: 23

لمعانيها حسب جعله سبحانه ، واستدل أيضا على مرامه من عدم كون تلك العلاقة والارتباط التي بين الألفاظ ومعانيها مستندة إلى جعل المخلوق ووضعه بأمرين : أحدهما خلق التواريخ عن ذكره ، فإنه لو كان الامر كذلك لكان اللازم بحسب العادة ذكره في التواريخ بان الواضع للغة العرب كان هو شخص كذا كيعرب بن قحطان كما قيل ، وان الواضع للغة الفرس كان شخص كذا وهكذا بقية اللغات ، لان ذلك من الأمور المهمة التي لايمكن الغفلة عنها عادة ، مع أنه لم يرد في تاريخ ان واضع لغة العرب هو شخص كذا وواضع لغة الفرس كان شخص كذا ، وحينئذ فخلو التواريخ عن ذكر هذه القضية دليل عدم استناد وضع الألفاظ إلى أحد من المخلوقين.

وثانيهما من جهة عدم تناهى المعاني والألفاظ حيث إن عدم تناهيها يقتضى بعد استناد وضعها إلى المخلوقين بل امتناعه ، كما هو ظاهر عند من أمعن النظر وانصف.

أقول : وفيه ما لايخفى ، إذ نقول بأنه لو فرض من أول خلقة آدم ( على نبينا وآله وعليه السلام ) إلى زماننا هذا كل طائفة قد وضعوا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني المتداولة بينهم على قدر ابتلائهم بها في اظهار ما في ضمائرهم إلى أن انتهى الامر إلى زماننا الذي قد كثر فيه اللغات وكثرت الألفاظ والمعاني ، فأي محذور عادى أو عقلي يترتب عليه؟ فهل تقول في مثل ذلك بلزوم ضبطه في التواريخ أو تقول بأنه من الممتنع العادي وضع الألفاظ الكثيرة الغير المتناهية لمعان كذلك بمرور الدهور والأزمنة الكثيرة من طوائف كثيرة؟ نعم انما يتم ما ذكر فيما لو كان المدعي وضع شخص واحد أو شخصين في كل لغة وضع الألفاظ المستعملة فيها في معانيها ، ولكنه لم يدعه أحد كذلك حتى يرد عليه المحذور المزبور ، بل وانما المقصود من ذلك انما هو استناد وضع الألفاظ في اللغات إلى الواضعين ولو على نحو التدرج بحسب مرور الدهور والأزمنة بوضع كل طائفة من لدن زمان آدم إلى زماننا جملة من الألفاظ لجملة من المعاني التي دار عليها ابتلائهم ، كما نشاهد ذلك بالعيان والوجدان من وجود كثير من المعاني والألفاظ المستحدثة في زماننا التي لايكون لها في سالف الزمان عين ولا اثر ، كما في كثير من الجوهريات والآلات ، ومن المعلوم انه لو ادعاه القائل باستناد الوضع إلى المخلوقين لايتوجه عليه شيء من المحذورين.

ثم انه نقول : على قولك ( بان الباري عز اسمه هو الواضع وانه يلهم المستعملين في مقام اظهار ما في ضمائرهم ) بأنه هل تجد من نفسك عند تسميتك ولدك انه أوحى اللّه تعالى

ص: 24

إليك أو نزل إليك جبرئيل ان سمه بكذا أم لا بل أنت تضع له اسما من الأسامي وأنت الجاعل للعلقة والارتباط بجعلك اللفظة اسما له بعد أن لم يكن بينهما علاقة وارتباط؟ لايقال : بأنه كيف ذلك مع أنه لولا قضية المناسبة الذاتية بينهما الحاصلة من تخصيص إلهي يكون تخصيص لفظ خاص من بين الألفاظ للمعنى الملحوظ ترجيحا بلا مرجح ، فإنه يقال : يكفي في الترجيح انسباق اللفظ إلى الذهن من بين الألفاظ عند إرادة الوضع ولو من جهة اقتضاء استعداده للوجود في عالم الذهن ، حيث إنه موجب لتخصيصه بالمعنى الملحوظ من بين الألفاظ ، ففي الحقيقة ما هو الموجب لتخصيص لفظ من بين الألفاظ لمعنى من بين المعاني انما هو قضية تقارنهما للوجود في عالم الذهن ، ومن المعلوم انه في ذلك لايحتاج في تخصيص أحدهما بالآخر إلى جهة مناسبة ذاتية بينهما ، كما لايخفى.

في تعريف الوضع :

ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان : انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار ، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان ، ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لايكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لايرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لايكون

ص: 25

فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح ، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لايكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى ، كما هو واضح.

كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، ولا من سنخ الاعتباريات التي لايكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين ، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها ، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لايكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي ، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة ، فكما ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لايكون الا الذهن وبوجود النار وتحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية ، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى ، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين ، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى ، فقبل وجود طرفيها خارجا لايكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى ، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها.

وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لايكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها ، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة لاحداث هيئة في الخارج ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي ، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان

ص: 26

المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.

وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك : المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس ، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص ، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شيء إلى شيء من دون منشأ خارجي لذلك ، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه ، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لايكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى الخارج ، كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتعهد وانكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه ، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية ، فإنه من هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال : بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال : بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا ، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى ، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به ، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه ، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد ، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام

ص: 27

التكليفية ، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه ، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله : من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولايجوز لغيره ذلك ، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية ، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية ، وهكذا غيرهما من الوضعيات ، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة بوجه أصلا ، هذا.

وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، بل وانها من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية ، على أن ارجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم ، فإنه بعد أن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو : اما ان تكون إرادة نفسية ، واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظراً إلى قالبية اللفظ له ، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة ، واما ان لايكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا - مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا

ص: 28

توسيط لفظ في البين أصلا ، كما لايخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع ، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك ، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظراً إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى ، فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة أخرى ، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني ، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجيء فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية ، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب.

لايقال : انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلى.

فإنه يقال : كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي ، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا ، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي ، والا فقبل إرادة التفهيم لايكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح.

ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا

ص: 29

ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل ، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام والخاص.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية ، إذ نقول : بان في مثل قوله : الناس مسلطون على أموالهم ، وقوله : لايجوز التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه ، لايكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف ، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه ، وحينئذ نقول : بان مثل هذه الإضافة بعد ما لايمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل ، والأول بديهي الفساد فإنه - مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها - يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله : لايجوز التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه ، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في رتبة لا حقة عنها ، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف الانسان في شيء - بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني من كون نشؤها من قبل الجعل.

وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول : بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع ( جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا ) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما ، كقولك عند تسميتك ولدك : جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال ، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد ، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال : من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين

ص: 30

في اللفظ : اللحاظ العبوري الآلي تارة ، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى - نظراً إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظراً استقلاليا - فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لايكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى ، وحينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى ، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة ، كما هو واضح. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه.

بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني قدس سره لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لايكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال : بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي والفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين ، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين ، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من الوضع ، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج ، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج ، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.

ص: 31

في اقسام الوضع

وعلى كل حال يبقى الكلام في اقسام الوضع

فنقول :

انهم قد قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام. ولابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات : الأول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي ، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الأقسام ، الثالث في بيان ما هو الواقع منها ، فنقول :

اما المقام الأول : فلا شبهة في أن للوضع حسب الحصر العقلي أقساما أربعة : عام الوضع والموضوع له ، وخاصهما ، وعام الوضع وخاص الموضوع له ، وعكسه ، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا ، وعلى الأول فاما ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلى الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته ، كما أنه على الثاني أيضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي وأخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه ، فباعتبار الأول يكون من عام الوضع والموضوع له ، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له ، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له ، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له ، فهذه اقسام أربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.

فنقول : اما القسم الأول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين : الأول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلي عام ووضع اللفظ بإزائه كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بإزاء ما تصوره من المعنى الكلام العام. ولايخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الأحكام التكليفية ، من كونه باعتبار كلية متعلقه ، فكما ان كلية الإرادة والحكم كانت باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى إرادات واحكام جزئية ، كقوله : لا تشرب الخمر - والا فنفس هذا الحكم وتلك الإرادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين - كذلك أيضا عمومية الوضع وكليته

ص: 32

انما كانت باعتبار كلية متعلقه ، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها ، كيف وانه في الفرض لايحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة ، فان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين ، ومعه لايحتاج في مقام وضع اللفظ بإزائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شيء نسميه آلة الملاحظة ، كي لأجل عموميتها وكليتها يتصف الوضع بالكلية والعمومية ، كما هو واضح.

الثاني : من قسمي عموم الوضع والموضوع له : هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي بها تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لايكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل ، وذلك بان يلاحظ معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية ، وبعبارة أخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة عما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك ، فهذا أيضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له. ولايخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة ، لان المعنى الموضوع له بعد أن لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية ، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية ، ولكن مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كلها خارجة عن مصب الوضع. وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف وأسماء الإشارة.

وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور ، فإنه على الأول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان

ص: 33

بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي لايكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية ، ومن ذلك دائما يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين : أحدهما على نفس الجامع والآخر على الخصوصية ، كما أنه على ذلك يحتاج أيضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن ، كما هو واضح.

بل ولئن تأملت ودققت النظر ترى أيضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الأول من عام الوضع والموضوع له ، وذلك فإنه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان : من وضع أسامي الأجناس للمهية المهملة ، لما كان لايمكن لحاظ المهية المهملة مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد ، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان لها موجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة ، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لايكون له وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده ، كما هو واضح. نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع أسامي الأجناس : من كونها للطبيعة المطلقة الصادقة على القليل والكثير ، لايحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع ، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما أمكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين. ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين ، بل الموضوع له في أسامي الأجناس - كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى - عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء ، ومن ذلك نقول بأنه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة ، وعليه لا محيص بعد عدم امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع. ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل

ص: 34

عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته ، فتدبر. هذا كله في القسم الأول من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع.

واما القسم الثاني منها : وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، ففيه أيضا يتصور صور ثلاث :

الأولى : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلى عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية ، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلى مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية بخصوصيتها الخاصة من زيد وعمرو وبكر ، كما نظيره في باب التكاليف من قوله : أكرم من في الصحن ، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.

الثانية : ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلى والشخصي ، كما في لحاظ عنوان الشيء أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثلا أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية التي منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر ، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة ، كما قد يتوهم ان وضع أسماء الإشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال : هذا الانسان وهذا زيد. والفرق بينه وبين سابقه واضح ، فإنه على الأول يكون الموضوع له دائما معنى جزئيا بخلافه في هذا القسم ، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي ، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الأول في الكلى وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.

الثالثة : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلى عبارة عن معنى اجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي ، لا من قبيل نسبة الكلى والفرد ، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلى معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الإشارة أو المعهودية. ولعله من هذا القبيل باب الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات كما سيجيء ، إذ يمكن

ص: 35

ان يقال : بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر ، أو الإشارة والمعهودية كما في أسماء الإشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير عنها بالفارسية ب ( أو ) و ( أين ) ونحو ذلك ، ومن ذلك جرى التعبير عنها بالمبهمات ، فان ذلك لايكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى ابهامي ، ولذلك أيضا نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك : هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته ، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن : تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ الانسان ، وهو كما ترى! كما أن مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الإشارة التي هي معنى حرفي وان هذا تقوم مقام الإشارة باليد إلى الانسان وغيره ، إذ لازم ذلك أيضا هو عدم اجراء احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا ، مع أنه أيضا كما ترى! وذلك بخلافه على المعنى الأول ، فإنه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد ، كما هو واضح. وسيجيء زيادة بيان لذلك إن شاء اللّه تعالى في محله ، فانتظر.

واما القسم الثالث منها : أعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح ، كما في الاعلام الشخصية.

واما القسم الرابع منها : أعني خاص الوضع وعام الموضوع له ، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلي منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلى الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الأخرى. هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول فيما يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الأقسام الأربعة المزبورة ، فنقول :

اما القسم الأول : فلا اشكال في امكانه بل وقوعه أيضا ، كما في أسامي الأجناس. ومثله في الامكان بل الوقوع أيضا القسم الثالث ، كما في الاعلام الشخصية.

ص: 36

واما القسم الثاني : فالظاهر هو امكانه أيضا ضرورة امكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلي عام ينطبق عليها ، إذ معرفة العنوان الكلى العام معرفة للافراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال ، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا مجال للاشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات والشيء ونحوهما - لايمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية ، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر ، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا ، بل هو من المستحيل ، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي ، والمبائن لايمكن ان يكون وجها للمبائن. ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي لا مجال لهذا الاشكال ، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان اجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشئ. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في امكان هذا القسم أيضا.

واما القسم الرابع : أعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له ، فقد يقال بامكانه أيضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلي وجها للافراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلي المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم امكانه واستحالته ، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح ، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لايمكن جعله وجها وعنوانا له. واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالانسان المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك أيضا ، فإنه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها ، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له ، فتدبر.

ص: 37

واما المقام الثالث فنقول : انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الأقسام الثلاثة أعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول : اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه ، كما في الاعلام الشخصية وأسامي الأجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا ، حيث إنه قيل بوقوع هذا القسم أيضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات والافعال والأسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل ، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية. وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية.

في شرح المعاني الحرفية

فهنا جهات من الكلام :

الأولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان : الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي أم جزئي فنقول :

اما المقام الأول فاعلم أن المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الأربعة بل الخمسة كما سنذكرها :

أحدها ما ينسب إلى الرضى في شرح الكافية وجماعة أخرى بان الحروف مما لا معنى لها أصلا ، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذي هو علامة للفاعلية ، وانه كما أن الرفع في زيد في مثل جائني زيد لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف ، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لايكون له معنى أصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى أيني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الأعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في في قولك زيد في الدار ، مما لا معنى لها أصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى أينيا وقد جئ بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها ، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف ، وحينئذ فلايكون للحروف معنى

ص: 38

أصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت ألفاظ غيرها.

ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى أن للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية ، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه ، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى ، غير أن معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح. كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من أسامي الأجناس وهي حسب وضعها لاتدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقي العاري عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي. وحينئذ نقول بأنه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير ومرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد والخصوصية ، وهو كما ترى! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلى أعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلى على الفرد وإرادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من أقصى المدينة وعليه ونقول : بأنه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وأن يكون تحت دال اخر وهو في المقام لايكون إلا لفظ في في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا. على أن ما أفيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بأنها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائني زيد فاعلا في التركيب غير وجيه أيضا ، إذ نقول فيها أيضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية ، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى فلا جرم كان للأعراب أيضا معنى ، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من أنحاء النسب وخصوصياتها ، من غير أن تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ

ص: 39

الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجيء ، لما عرفت من أن لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام ، فيحتاج حينئذ في إفادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى أن يكون بدال آخر وهذا الدال لايكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك : ضربت زيدا. وحينئذ فما أفيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبها للحروف بها أيضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح.

وحينئذ فبعد أن ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد أن كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين؟ حيث إن فيه وجوها وأقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها : بأنها مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها : تارة بأنها ما دل على معنى في غيره ، وأخرى بأنها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية ، قبالا للاسم الذي عرفوه : بأنه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية. ففي الحقيقة منشأ هذا النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير ، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتي ، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها ، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الأول ، والا ففي أصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.

وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :

أحدها : ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني قدس سره وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية ، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الأسمى ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسميا فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر ، وانما

ص: 40

الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة أيضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظراً إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.

ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله : زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة ، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى ، فان ملاحظة هذين الامرين أوجبت مصيرهم إلى أن للحروف أيضا معاني كلية هي بعينها معاني الأسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء ، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك.

نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه بديهي البطلان ، إذ لايصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء ( من خير من إلى ) وبدل سرت من البصرة إلى الكوفة ( سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث إنه وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فإنه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة خصوصية حال المتعلق ، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم اطلاقه لما إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي : منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله : سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد والغاء الخصوصية. ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال : أحدهما ما هو المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه ، وثانيهما ما به قوام الاستعمال ، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الأسماء أيضا باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع أن ذلك كما ترى ، ولا من جهة وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من

ص: 41

الاسم والحرف في معناه ولولا على الكيفية المزبورة ، كما هو واضح.

الثاني من المشارب : ما يظهر من بعض آخر من أن معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض ، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنها بأنها حالة لمعنى آخر.

والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح ، فإنه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الأسمى ، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها ، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لايكون معناه كذلك ، بخلافه على مشرب الكفاية فإنه عليه لايكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذاتا وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة ، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى استقلالا وبما هو شيء في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي وبالعكس. وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية أيضا حيث كان الاستقلالية والتبعية على المسلك الأول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال وأخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك وأخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة أحسن من تلك ، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير وأخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوي القيام بالغير ، فإنه في الحقيقة على الأول لايكون للمعنى الحرفي قيام بالغير أصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي ، بخلافه على الثاني ، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لا زعمي ، كما هو واضح.

الثالث من المشارب في الحروف : ما سلكه جماعة من الأساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والإضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الإضافات المتقومة بالطرفين ، فكان لفظ في في قولك : الماء في الكوز مثلا

ص: 42

موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز ، وهكذا لفظ من في قولك : سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات أيضا كما سيأتي إن شاء اللّه ، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشايع ، فإنك إذا لاحظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك أمورا ثلاثة : مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما ، وهكذا في مثال الماء في الكوز ، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لأنه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لايكاد يغنى عنه الألفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والإضافات الخاصة كما هو واضح.

ثم إن الفرق بين هذا المشرب وسابقه أيضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الأخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ الروابط والإضافات المتقومة بالطرفين. وبعبارة أخرى : المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشيء المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الأخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح.

وكيف كان فهذه مشارب أربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الأخير. وذلك : اما المشرب الأول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه ، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) فلانه لا سبيل إلى دعواه أيضا ، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لما عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه أيضا ، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو أمكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا ، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط

ص: 43

الجزئية الخاصة المفصلة؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا والمصير إلى أن الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية ، أو المصير إلى أن الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة ، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لما اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له ، وعلى الأول وان كان يلزم عليه هذا المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة ، وهو كما ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.

نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة ، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشي ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته ، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شيء في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الأسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه ، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهرا تضيقا في دائرة وضعه أيضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية في الحروف والاستقلالية في الأسماء ، كما نظيره أيضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها ، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والإرادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه ، وهو العمل الماتى عن داع قربى ، فلايكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر ، كذلك في المقام أيضا ، فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الأسماء تفهيم معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع وضعه أيضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه

ص: 44

ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الأسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد ، لان ذلك كما عرفت من المستحيل ، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه ، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في الحروف والأسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح.

والى مثل هذا البيان أيضا نظر الكفاية قدس سره في جوابه عن الاشكال المزبور بأنه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفى الأسماء بما هو هو وان كان في عبارته قصور في إفادة ذلك ، لا ان المقصود من ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الأسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم ، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك ، ولا ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية ، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لولا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلاينبغي ان ينسب ذلك إلى من له أدنى دراية فضلا عن القائل المزبور. وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما أوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان أيضا على امتناعه ، نظراً إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات والمصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه أيضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظراً إلى فرض كونها حينئذ على هذا المشرب غير ملتفت إليها كما لايخفى ، مع أن ذلك كما ترى خلاف الوجدان.

وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب أيضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لاينبغي التأمل في أن الأخير هو المتعين ، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لايرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة ، لا انه يرى من لفظ في الشيء المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لايصح الاكتفاء أيضا بذكر متعلق واحد بقولك

ص: 45

سرت من أو من البصرة بل لابد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول الحروف من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين.

ثم انه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين المفهومين ، يبقى الكلام في أنها ايجادية توجد باستعمال الأداة ، أو انها غير ايجادية بل كانت منبئة تنبئ عنها الأداة والهيئات كما في الأسماء ، حيث إن فيها وجهين :

وقد ذهب بعض الأساطين إلى الأول والتزم بكونها ايجادية حيث أفاد في وجه ايجادية معاني الحروف بان الأسماء انما كانت موضوعة للطبايع المجردة عن خصوصية الارتباط بالغير فكان المفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط أحدهما بالآخر عند لحاظهما ، ولكنك بقولك : ( الماء في الكوز ) توجد بلفظ ( في ) ربطا بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ ( في ) والا فبدونه كان المفهومان أجنبيين لا ربط لأحدهما بالآخر ، وهكذا في نحو السير والبصرة ، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات لايجاد معانيها ، بل وهكذا الهيئات أيضا إذ كان مفهوم كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته ، استعمل فيه كلمة الماء أم لا ، كان الاستعمال في ضمن الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب كلامي ، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه ، الا ان الهيئة الكلامية توجد ربطا بينه وبين البارد بعد أن لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني الاسمية فإنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم ويكون استعمالها لاخطارها في الذهن. وحينئذ فكم فرق بين الأسماء وبين الحروف والهيئات ، فان الأسماء كلها تكون حاكية ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان هذه طرا تكون آلة لاحداث معانيها. ثم انه استشهد لذلك أيضا بالخبر المروي في المعالم عن أبي السلام عن أبي الأسود الدؤلي عن أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : ( الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ، بتقريب ان في العدول في الحروف عن الانباء كما في الأسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على أنه لا معنى للحروف تكشف عنها الأداة كما في الأسماء والافعال وان معانيها معان ايجادية تحدث باستعمال ألفاظها. نعم في نسخة أخرى هكذا بدل ( والحرف ما أوجد معنى في غيره ) ( والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ) ولكنه رجح الأول من جهة علو

ص: 46

مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية ، بخلاف ما في النسخة الأخرى فان فيها شواهد الجعل ، باعتبار انه لايكون مثل هذا التفسير مختصا بالحرف فيجرى في الاسم والفعل أيضا فان الاسم أيضا لايكون بفعل ولا حرف ، فكان من نفس هذا التعبير في الحروف بأنها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمينان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار دقته وغموضه خفى على الرواة فصحفوا الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بأنها ما لا تكون اسما ولا فعلا. هذا محصل ما أفيد في وجه كون معاني الحروف معاني إيجادية لا أنبائية.

وقد يظهر من بعض آخر ( (1) ) التفصيل في الحروف بين مثل أداة النداء ولام الامر والحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف فالتزم بالايجادية في نحو أداة النداء والاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالأنباء في غيرها هذا.

ولكن التحقيق خلافه وانه لايكون مداليل الحروف إلا كمداليل الأسماء في كونها أنبائية محضة لا ايجادية. وما أفيد في وجه كون مداليل الحروف والهيئات ايجادية من التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في أسامي الأجناس من كون مداليلها عبارة عن نفس الطبايع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ حينئذ بعد عراء المعنى الأسمى دائما في الذهن عن خصوصية الارتباط بالغير أمكن المجال لدعوى ايجادية خصوصية جهة ارتباط أحد المفهومين بالآخر ، والا فعلى ما هو التحقيق من مسلك السلطان - من وضع أسامي الأجناس للمهية المبهمة والجامع بين الفاقد للخصوصية وواجدها الذي لايكاد تحققه في الذهن الا مقرونا مع إحدى الخصوصيتين : اما التجرد والاطلاق ، واما الواجد للقيد والخصوصية فلايكاد يتم هذه المقالة ، حيث إنه بعد عدم امكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد ، نقول : بأنه إذا لو حظ المعنى الأسمى مقرونا مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة ، والماء في الكوز ، والزيد على السطح ونحو ذلك ، وأريد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة ،

ص: 47


1- هذا البعض صاحب الحاشية ، الشيخ محمد تقي قدس سره ( المؤلف « قده » ).

ومن المعلوم حينئذ انه كما أن ذات المعنى الأسمى وهو الطبيعة المهملة تحتاج إلى كاشف في مقام الكشف عنها ، كذلك أيضا جهة خصوصية ارتباطه بالغير ، فيحتاج تلك أيضا إلى كاشف يكشف عنها ، ولايكون الكاشف عنها الا الإرادة والهيئات كما هو الشأن أيضا عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية ، حيث إن الاحتياج إلى مقدمات الحكمة حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد للقيد والخصوصية وأخرى في ضمن الواجد لها. وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة ، كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير ، فهي أيضا مما تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الأداة والهيئات. وحينئذ فلايكون مداليل الحروف والهيئات إلا كمداليل الأسماء في كونها منبئة تنبئ عنها الأداة لا انها كانت موجدة بالأداة ، كما لايخفى.

وبالجملة نقول : بان من راجع وجدانه يرى أنه كما أن في مرحلة الخارج هيئات ونسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر آخر وخشب فوق خشب وكون شيء في وعاء كالماء في الكوز ، كذلك أيضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور هيئات ونسبا على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن أحجارا موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة والخاصة ونلاحظ ماء في كوز كما أن لنا ان نلاحظ أحجارا بنحو لايكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر غير مرتبط بالحجر الأول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط أحدهما بالآخر. وبعد ذلك نسئل عن هذا القائل ونقول : بأنه إذا تصور شخص ولا حظ الحجر الموضوع على حجر آخر بهذا الارتباط الخاص فأراد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن لتفهيمه بان ما في ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر على حجر بجعل ( الحجر ) حاكيا حسب وضعه عن الذات المعروضة للهيئة و ( على ) عن حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين ، أو انه لابد أيضا وان يوجد النسبة والارتباط بين مفهومي الحجرين بالأداة؟ لا شبهة في أنه لا سبيل إلى الثاني لأن المفروض حينئذ هو تحقق تلك الإضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل هذا الاستعمال فيكون

ص: 48

ايجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل. وحينئذ فتعين الأول باعتبار ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما في ذهنه من الصورة الخاصة ، ومعه لا محيص الا من المصير إلى كون الأداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الأسماء ، وان في قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود والسطح ونحو كاشفا عن مداليلها ، كذلك لفظ في ومن وعلى أيضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء والكوز ، والارتباط بين مفهومي السير والبصرة ، ومفهومي الصعود والسطح.

كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لايجادية مداليل الحروف والهيئات ، فإنه ان أريد بايجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون النفس من الخلاقية للصور في وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب ، ولكنه نقول : بان هذا المعنى لايكون مختصا بمداليل الحروف والهيئات فيجرى في الأسماء أيضا ، ففي مثل الماء في الكوز كان كل واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات النفس حسب ما لها من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف ، ولكن لايكون الموضوع له حينئذ هو هذه المفاهيم بقيد وجودها في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به اللحاظ والتصور ، وذلك أيضا لا بما هو ، بل بما هو يرى خارجيا وفي هذه المرحلة كما لايكون مداليل الأسماء ايجادية كذلك الحروف أيضا. وان أريد بايجاد معاني الحروف كون الحروف موجدة لها في مقام الاستعمال فهو أيضا امر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال أداتها إذ هو حينئذ من تحصيل الحاصل وغير محتاج إليه ، على أنه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الأسماء عن مداليلها انما هو تحقق مضامينها في رتبة سابقة عن كشف الألفاظ عنها كما هو شأن كل محكى بالنسبة إلى حاكيه ، وحينئذ فلو كان شأن الأداة والهيئات هو الموجدية لمداليلها التي هي الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الأسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الألفاظ والأداة المتأخر عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين ، نظراً إلى علية الأداة لوجود الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع في الصقع المتأخر بما يكون صقعه متقدما عليه بمرتبتين وهو كما ترى ، بل لازمه أيضا هو اخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيز الطلب والإرادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في نحو سر من البصرة إلى

ص: 49

الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار ، من جهة ان لازم موجدية الأداة والهيئات حينئذ للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين ، أعني ذات السير والبصرة ، الملازم ذلك لكونه في عرض الطلب المنشأ بالهيئة ، من جهة انه كما أن لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد والارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة كذلك الهيئة أيضا علة لايجاد الطلب. ومن المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما وهما الطلب والتقيد أيضا ، ولازمه هو خروج جهة التقييد عن حيز الطلب وتجريد متعلقه عنه ، من جهة استحالة اخذ ما هو في عرض الطلب في متعلقه وفي رتبة سابقة عليه ، مع أن ذلك كما ترى ، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على اخذ جهة التقيد أيضا في الذات في مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد بأمر كذا وكذا ، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد مقدمة لحيث التقيد ، لا على تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد ، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من البصرة انما هو السير الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة ، فهذا أيضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني الحروف والهيئات ايجادية احداثية. ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها ، فإنه لايكاد يترتب عليه هذا المحذور من جهة امكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب ، نظراً إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين العرضية بين المنكشفين أيضا كما هو واضح.

فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع أسامي الأجناس : من كونها موضوعة للمهية المهملة والجامع بين الطبيعة المجردة والمقيدة لا محيض من الالتزام بكون الحروف أيضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند ملاحظة مفهومي الاسمين مرتبطا أحدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لابد في مقام الحكاية القاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل الاسم حاكيا عن مدلوله والأداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الأداة للربط الخاص بين المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الأداة كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا أيضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من

ص: 50

قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب الثابتة لايكون الحروف والهيئات الا كاشفة عنها ككشف الأسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها أيضا لايكون شأن الحروف والهيئات الا الكشف والانباء عنها.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ضعف ما أفيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل أداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة والاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن ايقاع النسبة ، وبين مثل الأداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء والطائفة الأولى موجدة لها ، بخيال ان قولك : يا زيد وأنت وهذا ونحوها انما هو موجد لمصاديق النداء والإشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء والإشارة والخطاب ، فكما انك بتحريك اليد والعين توجد مصداق النداء حقيقة ومصداق الإشارة والخطاب والبعث نحو الشيء كذلك أيضا بتلك الأداة فإنك بقولك يا زيد توجد مصداق النداء ، وبقولك أنت توجد فردا للخطاب ، وبقولك هذا توجد مصداق الإشارة ، وبقولك ليضرب مصداق البعث إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الأداة الجارة من نحو قولك : الماء في الكوز ، وسرت من البصرة إلى الكوفة فإنه فيها قبل الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى.

إذ نقول : بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذا الأداة للنداء الخارجي والإشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من التطهير بتحرك اليد والرأس والعين للإشارة والنداء والخطاب ، فإنه على هذا الاس لا محيص من القول بكونها آلات لايجاد معانيها وان معانيها معان احداثية. ولكنه توهم فاسد ، كيف وان المعنى الحرفي ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين الخارجين فلو انه كان مثل هذه الأداة موضوعا لايقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني الخارجي يلزم كون معانيها من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات ، وهو كما ترى ، حيث لا يلائم مع حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت وعليه أيضا اطباقهم انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم ، كما يشهد لذلك أيضا

ص: 51

استعمال تلك الأداة أحيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو سخرية كما هو كذلك أيضا في أداة التمني والترجي ونحوها كقولك : يا ليتني كنت جمادا أو حمارا ، مع كون الاستعمال المزبور أيضا على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك أيضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لايقاع الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي وأخرى لا ، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنيته ، بل بما انه يرى خارجيا تصورا وان كان تصديقا يقطع بخلافه. وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرنا من الكاشفية فيها أيضا كما في الأسماء حيث كانت الأداة المزبورة حينئذ كاشفة عن صورة ايقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت بين المفهومين التي هي مفاد الأداة الجارة. نعم لما لايكون مثل هذا الربط الايقاعي ملحوظا الا خارجيا ربما أوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ايقاع الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروى عن علي علیه السلام ففيه ما لايخفى إذ مضافا إلى اجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما عرفت والى كونه مرويا من طرق غيرنا كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث إنه ليس مسئلتنا تلك من المسائل التي يستدل لها بالاخبار الآحاد كما لايخفى. مع أنه يمكن توجيه الرواية أيضا بما لاينافي ما ذكرناه من الكشف والانباء في الحروف ، بان يقال : بان النكتة في العدول فيها في الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق الهيئة في الذهن كما هو كذلك أيضا في النسب الخارجية ، كالنسب بين ذوات الأخشاب بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج ، وذلك أيضا بضميمة ما كان بين الألفاظ ومعانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها ، فإنه باعتبار ان الأداة مرآة لمعانيها التي هي النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن أضيف صفة الموجدية في الرواية إلى الأداة فعبر عنها بهذه العناية بأنها أو جدت معنى في غيره فتأمل.

وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، ولقد

ص: 52

عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين مع كونها أيضا كالأسماء انبائية لا احداثية من دون فرق في ذلك بين كون النسب ايقاعية أو وقوعية كما هو واضح.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه كما عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها وخصوصه ، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام الوضع وخاص الموضوع له حتى أنه يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الأصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فإنه على ما حكى عنه الأستاذ قال : بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها ، ولعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد ، حيث كان شخص الربط الحاصل من إضافة السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى الكوفة في قولك : سرت من الكوفة ، وهو أيضا غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى مكان آخر ، وهكذا ، حيث إنه حينئذ يقال : بأنه بعد عدم جامع في البين بين تلك الروابط الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمى لا حرفي لا مناص الا من القول بخصوص الموضوع له فيها هذا.

ولكن نقول : بأنه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم انسباق معنى عام في الذهن في موارد استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منها هي اشخاص الروابط الخاصة المبائنة بعضها مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها ، والا فبناء على القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن تصورناه فلا قصور في دعوى عموم الوضع والموضوع له ، إذا مكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف منها من الروابط الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن جامع بين اشخاص تلك الروابط الذي به تمتاز الروابط الخاصة من كل صنف عن اشخاص الروابط الخاصة من صنف آخر ، كما نشاهد ذلك بالوجدان أيضا في الروابط الخاصة من كل صنف وطائفة كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الأخرى من الروابط الانتهائية والظرفية والاستعلائية ونحوها ، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن

ص: 53

بنحو أمكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية ولكنه في مقام الوضع أمكن وضع اللفظ بإزائه ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة الموضوع له ، إذ يكفي في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه اجمالي بالإشارة الا جمالية إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة ، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف كالوضع عاما لا خاصا ويكون استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال والمدلول.

هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين القول بالايجاد فيها أو القول بالكشف والانباء ، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها أوضح كما لايخفى. هذا كله في الجهة الأولى.

في شرح معاني الهيئات

واما الجهة الثانية فيقع البحث فيها في شرح مفاد الهيئات الطارئة على المواد في الجمل التامة والناقصة وبيان الفارق بينهما :

فنقول اما مفاد الهيئات في المركبات والجمل التامة والناقصة كلية فهو على ما تقدم في شرح المعاني الحرفية عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم كما في قولك زيد قائم ، حيث إن مفاد الهيئة في تلك الجملة عبارة عن النسبة الكلامية والربط القائم بالمفهومين أعني مفهومي زيد والقيام. وفي كون تلك النسبة المدلول عليها بالهيئة في الجمل ايجادية أو انبائية الخلاف المتقدم ، وقد تقدم تحقيق القول فيه وانه لايكون الا من قبيل الكشف والانباء لا الايجاد والاحداث. وهذا من غير فرق بين المركبات التامة أو الناقصة من المركبات التقييدية التوصيفية ، حيث كان مداليل الهيئات فيها طرا عبارة عن النسب والروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم ، مع كونها أيضا حاكية وكاشفة عنها لا موجدة لها.

نعم بينهما فرق من جهة أخرى من حيث كون النسبة ايقائية أو وقوعية حيث كان المحكى للهيئة في الجمل التامة مطلقا عبارة عن ايقاع النسبة ، بخلافه في الجمل الناقصة و

ص: 54

المركبات التقييدية حيث كان المحكى للهيئة فيها عبارة عن وقوع النسبة لا ايقاعها ، إذ كما أنه في الإضافات الخارجية الحاصلة من مثل وضع الحجر على حجر آخر يتصور حيثيتان ، حيثية ايقاع النسبة أعني خرجها من العدم إلى الوجود المعبر عنها بالمعنى المصدري ، وحيثية وقوع النسبة وثبوتها المعبر عنها بالمعنى الاسم المصدري ، كذلك يتصور هاتان الحيثيتان في النسب والروابط الذهنية بين المفاهيم فيتصور النسبة تارة من حيث ايقاعها وصدورها ، وأخرى من حيث وقوعها وثبوتها ، فارغا عن ايقاعها ، باعتبار تفرع وقوع الشيء وثبوته دائما على ايقاعه. فكان المحكى للجمل التامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية أم شرطية هي النسب الايقاعية ، وللجمل الناقصة في المركبات التقييدية التوصيفة كزيد القائم هي النسب الثابتة. ومن ذلك أيضا يختلف كيفية استعمالها حيث كان استعمال الهيئة في الجمل التامة من باب الهيئة بعنوان الموقعية للنسب الذهنية بخلاف المركبات التقييدية حيث كان ذلك من باب ذكر اللفظ ولحاظ معنى مفروغ التحقق في الذهن. وبهذه الجهة نقول أيضا بان مفاد الهيئة دائما في الجمل الناقصة والمركبات التقييدية في طول مفاد الهيئة في الجمل التامة وفي رتبة متأخرة عنها باعتبار كونها نتيجة لمفاد القضايا الحملية والجمل التامة. ولعله إلى ذلك أيضا يشير ما هو المشهور بينهم من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ، فكون القضية التوصيفية اخبارا قبل العلم بها انما كان بلحاظ ان الملحوظ فيها حينئذ هو النسبة لكن لا من حيث ثبوتها بل من حيث ايقاعها ، كما أن كون القضية الحملية توصيفية بعد العلم بها انما هو بلحاظ ان الملحوظ فيها هو ثبوت النسبة فارغا عن ايقاعها.

ثم انه ربما يفرق بينهما من جهة أخرى وهي عدم اقتضاء المحكى للمركبات التقييدية للوجود خارجا وكونه عبارة عن ذات المهية بما هي قابلة للوجود والعدم ، ومن ذلك يحمل عليها الوجود تارة والعدم أخرى كما في قولك زيد الضارب موجود أو معدوم ، إذ التقيد المزبور لا يقتضى الا تضيق دائرة الذات واخراجها عما لها من سعة الاطلاق ، وهذا بخلافه في المركبات التامة فان للمحكى فيها اقتضاء الوجود الخارجي ، ولذلك لايصح ان يقال زيد قائم موجود أو معدوم ، بل وانما الصحيح فيها هو المطابقة واللامطابقة للواقع ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه فيه الا ما ذكرناه من حكايتها تصورا عن النسبة الخارجية بين زيد والقيام في قولك زيد قائم واقتضاء المحكى فيها للوجود في الخارج. و

ص: 55

من ذلك أيضا لايكون وزان القيود الواقعة في حيز الجمل الناقصة والمركبات التقييدية على وزان القيود الواقعة في حيز الجمل التامة حيث كان صقع التقييد في الأول هو صقع نفس ذات المهية القابلة للوجود والعدم ، بخلافه في الثاني فان صقع التقييد فيه عبارة عن صقع موجودية ذات خارجا. وربما يثمر ذلك في جريان الأصول في الاعدام الأزلية بنحو السلب المحصل فإذا كان القيد واقعا في حيز الجمل الناقصة كالقرشية للمرأة والكرية للماء والشرط المخالف للكتاب ونحو ذلك فعند الشك في تلك القيود أمكن استصحاب اعدامها ولو بنحو السلب المحصل ، فإنه بعد أن كان معروض التقيد حينئذ هو الذات العارية عن حيث الوجود أو العدم لا هي بوصف موجوديتها وكان الوجود من العوارض الطارية على الذات المتقيدة بالوصف والقيد فلا جرم لا مانع من جر عدم الوصف والقيد الناشئ من عدم الموصوف إلى زمان وجوده من دون اقتضاء حيث عدم موجودية الذات في الخارج لسلب هذا التقيد كي يلزمه عدم صحة جريان استصحاب عدم الوصف إلى زمان وجود الموصوف كما لايخفى. وهذا بخلافه في القيود الواقعة في حيز الجمل التامة فإنه لما لايكون صقع التقيد فيها عبارة عن صقع ذات المهية بل كان صقعه صقع موجودية الذات خارجا يلزمه لا محالة عدم صحة استصحاب عدم الوصف المتحقق في ظرف عدم الموصوف. وتنقيح الكلام فيه موكول إلى محله فالمقصود في المقام هو مجرد الإشارة إلى ما يترتب عليهما من الثمرة.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك بيان الفارق بين الجمل التامة وبين الجمل الناقصة في القضايا التقييدية وان كون الجملة تامة مطلقا اسمية كانت أم فعلية انشائية كانت أم أخبارية انما هو باعتبار اشتمالها على النسبة الايقاعية قبالا للجمل الناقصة في القضايا التقييدية المشتملة على النسب الثابتة ، يبقى الكلام في بيان الفارق بين الجمل الأخبارية والانشائية وما به امتياز إحديهما عن الأخرى بعد اشتراكهما في الاشتمال على النسب الايقاعية.

فنقول : اما ما كان منها متمحضا في الأخبارية والانشائية كقولك زيد قائم المتمحض في الأخبارية ، وقولك : اضرب المتمحض في الانشائية فالفرق بينهما واضح ، باعتبار حكاية النسبة الايقاعية في الأول عن نسبة ثابتة خارجية تطابقها تارة ولا تطابقها أخرى بخلافه في الثاني فإنه لايكون فيه محكى تحكي عنه النسبة الايقاعية

ص: 56

الذهنية كي تطابقه تارة ولا تطابقه أخرى بل لا تكون الجملة فيه الا مشتملة على نسبة ايقاعية ارسالية بين المبدأ والفاعل من دون مدخلية فيه لقصد الجدية والهزلية كما هو كذلك في الاخبار أيضا لان هذه الأمور انما كانت من دواعي الاخبار والانشاء فإنه كما يخبر أو ينشأ هزلا يخبر وينشأ جدا أيضا ، فلايكون حينئذ من مقوماتها كما هو واضح. ومن ذلك ظهر أيضا عدم دلالة الهيئة في مثل اضرب في فرض الجد بالارسال على الطلب الحقيقي الذي هو عين الإرادة أو ما ينتزع عن مقام اظهارها كالايجاب والالزام والتحريك الا على نحو الالتزام دون المطابقة ، من جهة ان مفاد الهيئة كما عرفت عبارة عن النسبة الايقاعية الارسالية بين المبدأ والفاعل وحينئذ فدلالتها على الطلب انما هو باعتبار كون هذه النسبة من شؤون الطلب ولازمه كما هو واضح. وسيجيء لذلك مزيد بيان في محله إن شاء اللّه. وكيف كان فهذا كله في الجمل المتمحضة في الأخبارية والانشائية.

واما ما كان منها صالحا للامرين كقولك اطلب وبعت وزوجت مما تصلح لان تكون اخبارا تارة وانشاء أخرى ، فقد يقال : بان الفرق بينهما حينئذ انما هو من جهة قصد الحكاية وقصد الموجدية ، وانه ان قصد المستعمل في مقام الاستعمال الحكاية بها عن نسبة ثابتة خارجية تكون اخبارا ، وان قصد بها موجديتها للمبدأ تكون انشاء فكان تمام الميز والفرق حينئذ بين كون الجملة أخبارية وبين كونها انشائية من جهة قصد الحكاية والموجدية. ولكن فيه ما لايخفى ، من أنه لا مدخل لقصد الموجدية في انشائية الانشاء بوجه أصلا بل هو من الطوارئ للانشاء الخارجة عما به قوام انشائية الانشاء ومن ذلك ترى صدق الانشاء حقيقة في الانشاءات الهزلية من مثله قوله ملكتك السماء ونحوه مع انتفاء قصد الموجدية فيها ، فان صدق ذلك كاشف ان ما به تحقق الانشاء الكلامي غير القصد المزبور وان قصد الموجدية كقصد الهزلية من الدواعي للانشاء الخارجة عما به قوام انشائية الانشاء ، كيف ولازم دخل القصد المزبور في الانشاء في فرض الجد بايجاد المبدأ في الخارج وفى الوعاء المناسب ان يكون المتحقق هناك قصدين طوليين أحدهما ما به قوام تحقق الانشاء وثانيهما قصد الجد بالايجاد بالانشاء الكلامي ، مع أن ذلك كما ترى مخالف لما هو قضية الوجدان في الانشاءات الجدية الحقيقية كما هو واضح.

وربما يفرق بينهما أيضا من جهة قصد الحكاية وعدم قصدها بأنه ، ان كان استعمل الجملة حاكيا بها عن نسبة ثابتة تكون اخبارا ، وان كان المستعمل استعملها لا بقصد

ص: 57

الحكاية عن واقع ثابت تكون انشاء وحينئذ فيكون الاخبار والانشاء مشتركين في الاشتمال على النسبة الايقاعية الكلامية الا ان للاخبار خصوصية زائدة لم تكن تلك الخصوصية في الانشاء ، هذا. ولكن فيه ان هذا الفرق وان كان وجيها في نفسه الا انه بعيد أيضا باعتبار اقتضائه لاشتمال كل اخبار على الانشاء أيضا مع أن ذلك خلاف ما بنوا عليه من المقابلة بين الانشاء والاخبار كما هو واضح.

وحينئذ فالتحقيق في الفرق والميز بينهما هو ان يفرق بينهما من جهة المحكى من حيث كونه في الاخبار عبارة عن وقوع النسبة وثبوتها وفى الانشاء ايقاعها الذي هو خروجها من العدم إلى الوجود ، وذلك انما هو من جهة ما هو قضية الارتكاز والوجدان من قولك بعتك اخبارا حيث كان المتبادر منه هو الحكاية عن نسبة ثابتة محفوظة قبال كونه انشاء المتبادر منه الحكاية عن نسبة ايقاعية ، وحينئذ فإذا استعمل المستعمل الجملة في ايقاع نسبة كلامية حاكيا بها عن واقع ثابت تكون الجملة اخبارية وإذا استعملها فيها حاكيا بها عن نسبة ايقاعية توقعها المستعمل في وعائها المناسب لها تكون جملة انشائية فيكون كل من الاخبار والانشاء حينئذ مشتركا في جهة الحكاية في نحو قوله بعت اخبارا أو انشاء الا ان الفرق بينهما كان من جهة المحكى فتأمل. ثم إن ذلك كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الاثبات فحيث ان طبع مثل هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحتاج في احراز كونها انشاء من قيام قرينة في البين توجب صرفها عن الاخبارية والحكاية عن الواقع الثابت والا فطبعها كان على الاخبار. هذا كله في شرح ما هو مفاد الهيئات في الجمل والافعال في المركبات التامة والناقصة وبيان الفارق بين الجمل الانشائية والاخبارية.

واما كون الموضوع له فيها عاما أو خاصا فقد ظهر مما قدمناه في المعاني الحرفية ، ولقد عرفت ما هو التحقيق فيها من كون الموضوع له بل المستعمل فيه كالوضع فيها عاما لا خاصا.

في المبهمات

الجهة الثالثة في المبهمات كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها من

ص: 58

الأسماء المتضمنة للمعنى الحرفي حيث إنه وقع فيها الخلاف من حيث عمومية الموضوع له فيها وخصوصيته. ولتنقيح المرام في المقام أيضا لا باس بالإشارة الاجمالية إلى شرح ما هو مفاد هذه الأسماء وما هو المعنى والموضوع له فيها.

فنقول : واجمال القول فيها هو ان المعنى والموضوع له في هذه الأسامي على ما هو المتبادر المنساق منها ويشهد عليه اطباقهم من التعبير عنها بالمبهمات عبارة عن معان ابهامية تكون نسبتها إلى الذوات التفصيلية من قبيل الاجمال والتفصيل لا من قبل الكلى والفرد مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة كخصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية ونحوها ، ففي أسماء الإشارة كهذا يكون المعنى والموضوع له عبارة عن معنى ابهامي اجمالي يكون نسبته إلى الخصوصيات والذوات المفصلة من زيد وعمرو نسبة المجمل إلى المفصل المعبر عنه بالفارسية ب ( أين ) ، نظير الشبح الذي تراه في البعيد في كونه مع ابهامه واجماله عين الذوات التفصيلية من زيد أو عمرو أو حيوان أو حجر بعد انكشاف الغطاء ولذلك تحتاج دائما إلى عطف بيان كما في قولك هذا الانسان وهذا الحمار وهذا زيد. لا ان الموضوع له فيها عبارة عن اشخاص الذوات المخصوصة والعناوين التفصيلية كما توهم ، والايلزمه انسباق مفهوم زيد والانسان في مثل قولك هذا زيد وهذا الانسان في الذهن مرتين تارة من لفظ هذا وأخرى من لفظ زيد ولفظ الانسان ، مع أنه كما ترى. ولا ان الموضوع له فيها عبارة عن نفس الإشارة إلى الذوات التفصيلية التي هي معنى حرفي كما يوهمه ظاهر تعبير بعض من علماء الأدب كابن مالك في منظومته بذا المفرد مذكر أشر ، كيف وانه بعد أن لم تكن المقصود من الإشارة مفهومها الذي هو معنى اسمى بل كان المقصود مصداق الإشارة يلزم خروجها عن الاسمية رأسا إلى الحرفية ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها أخرى ووقوعها فاعلا ومفعولا كقولك ضربني هذا وضربت هذا ، مع أن ذلك أيضا كما ترى.

وحينئذ فلا محيص من القول فيها بما ذكرناه من وضعها لجهة عرضية ابهامية منطبقة على الصور التفصيلية والذوات الخاصة بتمام الانطباق مع اشتمالها أيضا على خصوصية زائدة وهي خصوصية الإشارة الذهنية لا الإشارة الخارجية كما توهم بخيال ان لفظ هذا انما هو بمنزلة الإشارة باليد والعين ، وانه كما أنه بتحريك اليد والعين مشيرا إلى زيد يوجد

ص: 59

ويتحقق مصداق الإشارة الخارجية كذلك بلفظ هذا يتحقق مصداق الإشارة إلى الذوات المفصلة ، فالتزم لذلك بكونها آلات لايجاد مصداق الإشارة والخطاب وان معانيها معان ايجادية لا اخطارية. ولكنه توهم فاسد كما بيناه سابقا ونقول في المقام أيضا : بان لازم ذلك هو ان يكون استعمال هذا في قولك هذا الانسان الكلى أحسن من الحمار مجرد لقلقة لسان حيث لم يكن هناك إشارة خارجية أصلا ، مع أنه كما ترى. وحينئذ فبعدان لايرى بالوجدان فرق بين هذا الانسان الكلى وهذا زيد من حيث كونهما على حد سواء فلا محيص من دعوى ان الموضوع له فيها هي الجهة العرضية الاجمالية المشتملة لخصوصية الإشارة الذهنية ، ومعه يبطل القول بالايجادية أيضا حيث كان معناها حينئذ معاني اخطارية قد استعمل فيها أسامي الإشارة كما في ساير الأسماء.

ومن ذلك البيان ظهر حال الضمائر أيضا ، فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية اجمالية متحدة مع ما يماثل مفهوم مراجعها ، مع اشتمالها أيضا على خصوصية الغيبة والحضور.

وكذا الموصولات فإنها أيضا موضوعة لجهة عرضية قبال خصوصيات الصور المعبر عنها بالفارسية ب ( آن كس ) قبال الموصوفات المعبر عنها بالفارسية ب ( كس ) مع اشتمالها لها أيضا على خصوصية زائدة وهي المعهودية.

وبعد ما عرفت ذلك نقول بأنه حيثما كان المعنى في تلك الأسامي متخصصا بخصوصيات زائدة من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية لا بمفهومها بل بمصداقها ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، فلا جرم باعتبار خصوصية التقيدات لابد من المصير فيها إلى كونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له ، لولا ما تصورناه من القسم الآخر لعام الوضع والموضوع له ، والا فبناء على ما تصورناه أمكن المصير فيها أيضا إلى عام الوضع والموضوع له بدعوى الوضع فيه للقدر الجامع بين الخصوصيات الذي لايكاد تحققه في الذهن الا توأما مع الخصوصية. بل ولئن ألغيت جهة التقيد بتلك الخصوصيات من الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية عن المعنى والموضوع له فيها وجعلت المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ذات ذاك المعنى الابهامي بما انها ملازمة مع خصوصية الإشارة في أسماء الإشارة وخصوصية الغيبة والخطاب في الضمائر وخصوصية المعهودية في الموصولات لا مقيدة بالخصوصيات المزبورة ولا مطلقة أيضا ، كان امر عمومية الموضوع له فيها أوضح ، حيث أمكن تصوير عمومية الموضوع له فيها بالوضع العام المشهوري بلا

ص: 60

احتياج إلى ما تصورناه من القسم الآخر لعام الوضع والموضوع له. فيقال حينئذ بان الموضوع له في كل من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات عبارة عن الذات المبهمة التي هي معنى كلي ، لكنها بما هي ملازمة مع خصوصية الإشارة والغيبة والخطاب والمعهودية ، وعليه أيضا لايكون دلالة تلك الأسامي على الإشارة والغيبة والخطاب الا بالملازمة ، كما هو كذلك أيضا في لام الامر في قولك ليضرب فان دلالته على الطلب انما كان بالملازمة لا بالمطابقة لأنه لا يدل الا على وقوع المبدأ وصدوره من الفاعل متعلقا للطلب فبهذه الجهة دل على الطلب أيضا. وسيأتي لذلك مزيد بيان أيضا إن شاء اللّه تعالى في مبحث الأوامر.

الامر الثالث

لايخفى عليك ان حقيقة الاستعمال سواء في المعنى الحقيقي أو فيما يناسبه من المعنى المجازى حسب ما يدركه الطبع والذوق من المناسبات انما يتحقق بجعل اللفظ في مقام الاستعمال فانيا في المعنى فناء المرآة في المرئي بحيث بالقائه كان المعنى هو الملقى إلى المخاطب ويكون اللفظ مما به ينظر إلى الغير لا مما فيه ينظر ، وعليه يستحيل اطلاق اللفظ وإرادة شخصه منه بنحو كان اللفظ حاكيا عن شخص نفسه كحكايته عن معناه عند استعماله فيه ، ضرورة استلزامه حينئذ لاجتماع النظرين فيه : أحدهما النظر العبوري الآلي والآخر النظر الاستقلالي ، حيث إنه باعتبار كونه حاكيا يكون منظورا فيه بالنظر الآلي وباعتبار كون شخصه أيضا محكيا يكون منظورا بالنظر الاستقلالي وهو كما ترى كونه من المستحيل. وعليه فلايحتاج في ابطاله إلى ما عن الفصول قدس سره من لزوم تركب القضية من جزئين بل من جزء واحد بملاحظة امتناع تحقق النسبة بدون المنتسبين. وما يرى من قوله زيد لفظ فهو غير مربوط بباب الاستعمال بل هو من قبيل القاء الموضوع والحكم عليه كما في اعطائك زيدا درهما وقولك انه درهم فيكون لفظ زيد حينئذ هو الموضوع الملقى إلى المخاطب فحكمت عليه بأنه لفظ وحينئذ فلايرتبط ذلك بالاستعمال الذي حقيقة عبارة عن جعل اللفظ فانيا في المعنى كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر حال ما إذا أطلق لفظ وأريد صنفه أو نوعه كقوله : ضرب

ص: 61

فعل ماض ، مريدا به نوعه ، أو زيد في ضرب زيد فاعل ، مريدا به صنفه ، فإنه لو كان ذلك من باب جعل شخص اللفظ الملقى خارجا امارة لنوعه أو صنفه لا من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل شخص اللفظ مرآة وفانيا فيما يستعمل فيه فلا مانع عن صحته ، ضرورة امكان جعل الشخص والجزئي الخارجي امارة لنوعه لكي ينتقل المخاطب من الشخص إلى نوعه وصنفه ثم الحكم على النوع من ذلك المرئي والموجود الخارجي الجزئي من دون ان يترتب عليه محذور أصلا. بل ولئن تأملت ترى صحة الاطلاق على النحو المزبور بنحو يعم الحكم شخص اللفظ المذكور أيضا ، فإنه بعد ما لم يكن ذلك من باب الاستعمال بل من باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه فأمكن الحكم عليه أيضا بما انه فرد ومصداق للكلي ، كما هو واضح.

واما لو كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال الذي مرجعه إلى جعل اللفظ فانيا في المعنى ففيه اشكال ينشأ من امتناع كون الفرد والجزئي مرآة للطبيعي والكلي من جهة ان الفرد والكلي وان كانا متحدين وجودا خارجا ولكنهما متغايران مفهوما وذهنا ، ومع تغايرهما وتباينها لايمكن حكاية الفرد بما انه فرد وجزئي عن الطبيعي والكلي ، كيف ولازمه هو امكان القسم الرابع من الأقسام الأربعة المتصورة في الوضع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام لا امتناعه كما التزموا به ، فان عمدة ما أوجب مصيرهم إلى امتناعه انما هو هذه الجهة من عدم امكان حكاية الفرد والجزئي بما هو فرد عن الكلي والطبيعي كي يصح جعله آلة لملاحظة المعنى العام الكلي. وحينئذ فإذا امتنع ذلك هناك يلزمه القول في المقام بامتناع اطلاق اللفظ وإرادة جنسه أو نوعه أو صنفه أيضا إذا كان من باب استعمال. هذا إذا لم يرد من الطبيعي والنوع ما يشمل شخص اللفظ المذكور ، وأما إذا أريد به ما يعم هذا الفرد أيضا فامر الاستحالة أوضح ، لأنه مضافا إلى ما ذكر يترتب عليه محذور اجتماع اللحاظين في شخص اللفظ المذكور : اللحاظ الآلي ، واللحاظ الاستقلالي ، وهو كما عرفت من المستحيل.

لايقال : كيف ذلك مع أنه في الحقيقة من افراد الطبيعة المطلقة.

فإنه يقال : نعم ولكن النظر إلى شخص اللفظ في مقام الاستعمال بعد كونه آليا يلزمه لا محالة تضيق في دائرة المحكى والملحوظ بنحو يخرج عنه شخص هذا اللفظ ، إذ المحكى والملحوظ حينئذ لايكون في لحاظه الا الطبيعة الغير القابلة للانطباق

ص: 62

على شخص هذا الفرد الحاكي.

فتلخص انه لا فرق بين اطلاق اللفظ وإرادة شخصه وبين اطلاقه وإرادة نوعه أو صنفه فإذا كان الاطلاق المزبور من باب الاستعمال فكما لايجوز ذلك في الصورة الأولى لايجوز في الصورة الثانية أيضا. وأما إذا لم يكن الاطلاق من باب الاستعمال بل من باب القاء الفرد وجعله امارة لنوعه وصنفه فكما يجوز ذلك في الصورة الثانية كذلك يجوز في الصورة الأولى أيضا حيث أمكن القاء شخص لفظ والحكم عليه بأنه لفظ كما هو واضح.

الامر الرابع

هل الألفاظ موضوعه للمعاني المرادة للافظها أو انها موضوعة لذات معانيها من حيث هي مع قطع النظر عن كونها مرادة أو غير مرادة؟ فيه وجهان بل قولان :

أولهما منسوب إلى العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي الخواجة نصير الدين ( قدهما ) بان الدلالة تتبع الإرادة ، ولعل وجه استفادة ذلك من كلامهما انما هو من جهة الملازمة بين تبعية الدلالة تتبع الدلالة للإرادة وبين كون الموضوع له المعنى المقيد بكونه مرادا ، بتقريب ان طرف العلقة الخاصة بعد أن كان هو المعنى المراد فقهرا يلزمه ان يكون الدلالة الحاصلة من العلقة المزبورة أيضا تابعة للإرادة. وهذا بخلاف ما لو كان المعنى والموضوع له ذات المعنى مجردا عن حيثية الإرادة فإنه عليه لايبقى مجال للتبعية المزبورة الا إذا أريد التبعية في مقام الاثبات والكشف عن الواقع وكان المراد من الدلالة هي الدلالة التصديقية.

ولكن التحقيق هو الثاني من وضع الألفاظ لذات المعاني من حيث هل بل وامتناع وضعهما للمعاني المرادة ، وذلك لوضوح ان الإرادة سواء أريد بها اللحاظ المقوم للاستعمال ، أو إرادة تفهيم المعنى ، أو إرادة الحكم في مقام الجد انما هي من الأمور المتأخرة رتبة عن المعنى فيستحيل حينئذ اخذها قيدا في ناحية المعنى والموضوع له ، فلا محيص حينئذ من تجريد المعنى والموضوع له عن الإرادة مطلقا سواء بمعناها المقوم للاستعمال أعني اللحاظ أو بمعنى إرادة التفهيم أو الحكم والمصير إلى أن الموضوع له في الألفاظ عبارة عن ذات المعنى بما هي عارية عن خصوصية كونها ملحوظة باللحاظ الاستعمال أو مرادة بإرادة

ص: 63

التفهيم أو الحكم ، ومعه يبطل القول بوضعها للمعنى المراد كما هو واضح.

نعم لهذا الكلام مجال فيما لو أريد وضعها للمعاني المقرونة بكونها مرادة على نحو القضية الحينية لا التقيدية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، وذلك أيضا بالتقريب الذي ذكرناه سابقا في شرح مرام الكفاية في وجه عدم صحة استعمال الحروف مكان الأسماء ، بان يقال في المقام أيضا بان الداعي والغرض من الوضع بعد أن كان هو تفهيم المعنى والمقصود باللفظ وكان التفهيم أيضا ملازما مع إرادة المعنى حين القاء اللفظ فلا جرم يقتضى هذا الضيق تضيقا في دائرة وضعه وبتبعه أيضا يتضيق موضوع وضعه بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم الإرادة فيختص المعنى والموضوع له حينئذ بحال إرادة المعنى أي لحاظه أو إرادة التفهيم أو الحكم وان لم يكن مقيدا بها ، إذ على هذا التقريب يسلم القول المزبور عن الاشكال المذكور حيث لا محذور يرد عليه ثبوتا.

ولكنه فرع اثبات ان الغرض من الوضع انما هو تفهيم المعنى ، والا فبناء على المنع عن ذلك كما هو الأقوى من دعوى ان الغرض من الوضع انما هو مجرد جعل العلقة بين اللفظ ومعناه بنحو ينتقل الذهن عند سماعه بانتقال تصوري إلى معناه ولو كان صدوره من خرق الهوى أو من شيء آخر فلا يتم ذلك كما هو واضح. كيف وانه لولا ذلك لما كان وجه لاحتياجهم في الدلالة التصديقية في استفادة إرادة المتكلم للمعنى إلى ضم مقدمات الحكم من مثل كون المتكلم في مقام الإفادة ، إذ لو كان ذلك بمقتضى الوضع يكفيه نفس وضع الواضع كما في الحمل على المعنى الحقيقي ولايحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، مع أنه خلاف ما تسالموا عليه من اشتراط كون المتكلم في مقام الإفادة في استفادة إرادة المعنى.

ثم انه مما يشهد لما ذكرنا أيضا انسباق ذات المعنى وتبادرها عند سماعنا اللفظ من النائم والساهي أو من خرق الهوى فإنه لولا كونها أي الألفاظ موضوعة لذات المعاني لما كان وجه لانسباقها في الذهن عند صدوره من النائم والغافل والساهي. وتوهم ان ذلك انما كان من جهة انس الذهن لا انه من حاق اللفظ ، يدفعه الألفاظ الغير المأنوسة الاستعمال فإنه يرى فيها أيضا انسباق ذات المعنى منها في الذهن بمجرد العلم بالوضع ، ولو كان صدوره من النائم الذي هو غير مريد قطعا أو من خرق الهواء ، فيكون ذلك حينئذ أقوى شاهد لما ذكرناه من وضعها لنفس المعاني من حيث هي لا للمعاني المرادة.

واما كلام العلمين ( قدس سرهما ) من التبعية المزبورة فغير ظاهر في إرادة الدلالة

ص: 64

التصورية التي هي محل البحث لولا دعوى ظهوره في إرادة الدلالة التصديقية وفيها نحن نقول أيضا بتبعية الدلالة للإرادة ، ولذا لا نحكم بان الكلام ظهورا في المعنى بالظهور التصديقي الا في مورد أحرز ولو من الخارج ان المتكلم كان في مقام بيان مرامه من لفظه وفي مقام الإفادة كما هو واضح.

الامر الخامس

لايخفى انه لا وضع للمركبات من المواد والهيئات علاوة عن وضع المفردات ووضع الهيئات الخاصة وضعا نوعيا للدلالة على النسب الايقاعية ، ضرورة كفاية وضع المفردات ووضع الهيئات عن وضع آخر لها بجملتها من المادة والهيئة فارتكاب وضع آخر حينئذ للمجموع يكون لغوا ومستدركا. ومن ذلك البيان ظهر أيضا فساد ما عسى يتوهم من أن للمركبات وضعين : وضع للمواد خاصة ووضع آخر لمجموع المادة والهيئة. وجه الفساد هو انتفاء الحاجة حينئذ إلى الوضع للمجموع لان المحتاج إليه حينئذ بعد وضع المواد انما هو الوضع لخصوص الهيئات لا لها وللمواد أيضا كما هو واضح.

الامر السادس

هل الألفاظ كما كان لها وضع للمعنى الحقيقي كذلك لها وضع آخر نوعي لما يناسبه من المعنى المجازي حسب أنحاء العلائق والمناسبات ، أو لايكون لها الا وضع واحد للمعنى الحقيقي وان صحة استعماله في المعنى المجازي لمناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في الموارد الخاصة غير مندرجة تحت ضابط كلي؟ فيه وجهان. أقويهما الثاني ، فان كل ما يتصور من المناسبات والعلاقات النوعية من نحو علاقة المجاورة وعلاقة الحال والمحل والسببية والمسببية ونحوها يرى بالوجدان بأنه لا يدور مدارها صحة الاستعمال في المعنى المجاري ، ولذا لايجوز استعمال الحمار في زيد بعلاقة الحال والمحل فيما لو كان زيد دائما راكبا على الحمار ، مع أنه لو كان في البين وضع نوعي باعتبار تلك المناسبات والعلاقات النوعية يلزمه جواز الاستعمال المزبور. وحينئذ فنفس عدم صحة الاستعمال المزبور مع وجود العلائق النوعية وصحته بدون وجود تلك العلائق كاشف قطعي عن أن

ص: 65

مناط صحة الاستعمال المجازي انما هو على مناسبات خاصة يدركها الطبع والذوق في مواردها لا على وجود العلائق النوعية كما هو واضح.

الامر السابع في الحقيقة والمجاز

وتعرف الحقيقة بأمور :

منها : تنصيص الواضع بقوله : اني قد وضعت اللفظ الكذائي لمعنى كذائي ولا اشكال في ثبوت الوضع ولكن الكلام في فرض ثبوت صغراه حيث لايكاد حصول العلم بذلك خصوصا بالنسبة إلينا.

ومنها : تنصيص أهل اللغة حيث كانوا هم المرجع في تعيين الأوضاع ويقبل قولهم فيما قالوا اما من جهة كونهم من أهل الخبرة ، أو من جهة الشهادة ، أو الانسداد. ولكن الاشكال فيه أيضا من جهة عدم ثبوته نظراً إلى عدم كونهم بصدد تعيين الأوضاع حتى يثبت الوضع بقولهم بل وانما هم بصدد تعيين ما يستعمل فيه اللفظ ومن الواضح انه بمثل ذلك لايكاد يثبت الوضع نظراً إلى أعمية الاستعمال من الحقيقة ، كما هو واضح.

ومنها : التبادر وهو انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ وحاقه عند سماعه بلا كونه لقرينة حالية أو مقالية ، ولا اشكال أيضا في ثبوت الوضع بذلك حيث إنه كان امارة على كون المعنى المنساق في الذهن من اللفظ معناه الحقيقي الموضوع له. نعم قد يورد عليه باستلزامه محذور الدور الباطل من جهة توقف التبادر والانسباق على العلم بالوضع - من جهة انه لولاه لايكاد تبادر المعنى من نفس اللفظ وحاقه وتوقف العلم بالوضع وكون المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي على التبادر فيدور. وبعين هذا التقريب أورد هذا الاشكال على الشكل الأول بان العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى وتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة. وقد أجيب عنه في المقامين بالاجمال والتفصيل بان العلم الذي يتوقف التبادر عليه انما هو العلم الاجمالي الارتكازي ، والعلم الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي ، فان الانسان بحسب ماله من الارتكاز يتبادر المعنى في ذهنه من اللفظ وبالتبادر يلتفت تفصيلا بان المعنى المنساق هو المعنى الحقيقي وحينئذ فيرتفع الدور المزبور باختلاف العلمين وكون الموقوف على التبادر غير الموقوف

ص: 66

عليه التبادر. هذا إذا أريد تبادر المعنى عند شخص المستعلم الذي هو جاهل بالأوضاع ، واما لو أريد بالتبادر تبادر المعنى عند أهل المحاورة فالامر أوضح ، حيث لايكاد مجال لتوهم الاشكال المزبور حتى يحتاج إلى الجواب عنه بالاجمال والتفصيل إذ عليه يكون ما يتوقف على التبادر هو علم المستعلم الجاهل بالأوضاع وما يتوقف التبادر عليه هو علم أهل المحاورة فيكون الموقوف عليه غير الموقوف عليه.

نعم قد يورد على التبادر اشكال آخر ، وحاصله ان مجرد تبادر المعنى ولو من حاق اللفظ غير موجب لكونه كذلك في زمن صدور الاخبار عن الأئمة علیهم السلام حتى يحمل عليه ما ورد عنهم في مقام الاستنباط فان من المحتمل حينئذ كون المعنى المتبادر من اللفظ حين صدوره في ذلك الزمان شيئا آخر غير ما هو المتبادر عندنا الآن ، ومع هذا الاحتمال لايكاد يجدي هذا التبادر في مقام الاستنباط أصلا الا إذا انضم إليه امر آخر وهو أصالة عدم النقل المعبر عنها بأصالة تشابه الأزمان كي يثبت بها كون المعنى المتبادر في سابق الزمان أيضا هو المعنى المتبادر عندنا. ولكن فيه انه وان كان الامر كذلك ولكنه نقول بأنه لا مانع من اجراء الأصل المزبور بعد كونه من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم كما في أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص والتقييد ، إذ لولا تلك الأصول العقلائية لانهدم أساس الاستنباط في المسائل الشرعية ، وحينئذ فبعد تبادر المعنى من اللفظ يحمل عليه اللفظ الصادر ويحكم بمعونة الأصل المزبور بكونه كذلك في زمن صدوره أيضا.

ومنها عدم صحة السلب المعبر عنه بصحة الحمل أيضا فإنه قيل بكونه مما يثبت به الوضع أيضا لكونه علامة ان المعنى هو المعنى الحقيقي. وفي قباله صحة سلب المعنى بقول مطلق فإنه أيضا من علائم المجاز ، فهما علامتان حينئذ للحقيقة والمجاز. وقد أورد عليه بما أورد على التبادر باستلزامه الدور المحال ، ولكن الجواب هناك حرفا بحرف وكلمة بكلمة.

نعم هنا اشكال آخر وحاصله هو منع كون مجرد صحة العمل من علائم الحقيقة كما في استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء والملزوم في اللازم فإنه نرى صحة الحمل في تلك الموارد كقولك الانسان ناطق والانسان ضاحك وكاتب وهكذا مع أنه لا شبهة في كونه مجازا حيث لايصح استعمال اللفظ الموضوع لاحد المفهومين في المفهوم الآخر على

ص: 67

الحقيقة. بل ومن ذلك ظهر الحال في موارد الحمل الذاتي كقولك الانسان حيوان ناطق حيث إنهما مع كونهما متحدين ذاتا ووجودا خارجا ، لايصح استعمال أحدهما في الآخر نظراً إلى ما بين المفهومين من التغاير وكونه في أحدهما بسيطا وفى الآخر مركبا. وبالجملة نقول بان المدار في الحقيقة وصحة الاستعمال انما هو على وحدة المفهوم منهما كما في الانسان والبشر ، وصحة الحمل ولو بالحمل الذاتي فضلا عن الشايع الصناعي الذي مداره الاتحاد في الوجود لاتقتضي وحدة المفهوم الموجبة لصحة استعمال أحد اللفظين في الآخر بنحو الحقيقة لأنه يكفي في صحة الحمل مجرد الاتحاد وجودا أو ذاتا وان اختلفا في حدود المفهوم ، وعليه فلايكون مجرد عدم صحة السلب وصحة الحمل من علائم الحقيقة بقول مطلق وكاشفا عن وحدة المفهوم كما هو واضح. نعم صحة السلب بقول مطلق من علائم المجاز من جهة كشفه حينئذ عن اختلاف المفهومين وعدم اتحادهما كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى خلو كلمات السابقين عن ذلك حيث إنهم جعلوا صحة السلب بقول مطلق من امارات المجاز وما تعرضوا لصحة الحمل وعدم صحة السلب في جعله في عداد امارات الحقيقة.

ومنها الاطراد في استعمال بلا معونة قرينة في البين حالية أو مقالية ، ولا اشكال ظاهرا أيضا في كونه من علائم الحقيقة كما كان عدم الاطراد كذلك من علائم المجاز فإنه بعد أن يرى اطراد استعمال لفظ في مقامات متعددة في معنى وانه في جميع تلك الموارد ينسبق منه معنى واحد يقطع عادة بان الانسباق المعهود في تلك الموارد كان من نفس اللفظ وحاقه لا انه كان من جهة قرينة مخفية في البين أو مناسبة طبيعية ، ففي الحقيقة يكون الاطراد من قبيل السراج على السراج حيث إنه كان طريقا إلى التبادر الحاقي الذي هو طريق إلى الحقيقة ، وعلى كل حال فلا اشكال في كونه علامة الحقيقة ومما يثبت به الوضع ولو باعتبار كونه طريقا على الطريق ، غير أن الكلام فيه في تشخيص موارد الاستعمالات بأنها كانت من جهة القرائن الخاصة والمناسبات الطبيعية أم لا. ثم إن اشكال الدور الوارد في التبادر غير جار في الاطراد كي يحتاج إلى الجواب عنه بما عرفت من الاجمال والتفصيل بداهة عدم توقف الاطراد على العلم بالوضع ولو اجمالا أصلا.

***

ص: 68

الامر الثامن

قد اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها على أقوال : ثالثها التفصيل بين الألفاظ المتداولة الكثيرة الدوران وبين غيرها ، بالثبوت في الأول دون الثاني.

وليعلم بان مورد النزاع في هذا البحث بين الفريقين نفيا واثباتا انما هو في المهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، والا ففي المفردات كالركوع والسجود والقيام والقعود ونحوها وكذا المخترعات العرفية لا مجال لجريان هذا البحث والنزاع ، إذ فيها لايكون استعمال الشارع ألفاظها الا في معانيها العرفية أو اللغوية كما في استعماله غيرها من الألفاظ المتداولة كالماء والتراب والحجر ونحوها ، ومجرد اعتبار الشارع فيها بعض القيود عند الامر بها والبعث نحوها بالايجاد بدال آخر عليه غير موجب لجريان النزاع فيها أيضا ، إذ عليه لايكون استعمال الشارع تلك الألفاظ الا في نفس معانيها العرفية أو اللغوية غايته انه في مقام المطلوبية أفاد بعض القيود والخصوصيات فيها بدال اخر. ومن ذلك البيان ظهر خروج المعاملات طرا كالبيع والصلح والإجارة ونحوها عن حريم هذا النزاع حيث كان حقايقها عرفية أمضاها الشارع ، غايته انه اعتبر فيها بعض القيود الوجودية أو العدمية بدال آخر ككونه مقترنا بأمر كذا وفي حال عدم كذا. وعليه فلاينبغي عد ذلك تفصيلا في المسألة كما يظهر عن بعض حيث فصل بين العبادات والمعاملات إذ التفصيل المزبور فرع عموم النزاع وجريانه حتى في المخترعات العرفية كما هو واضح.

بل ومن هذا البيان ابتناء هذا النزاع وجريانه في العبادات أيضا على أن يكون حقائقها مستحدثة في شرعنا ، والا فبناء على ثبوتها في الشرايع السابقة وكون الاختلاف فيها بين الشريعتين في خصوصيات الافراد نظير اختلافها بحسب حالات المكلفين كما ينبئ عنه غير واحد من الآيات من مثله قوله عز من قائل : أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (1) وقوله سبحانه لإبراهيم علیه السلام واذن في الناس بالحج (2) وقوله

ص: 69


1- سورة مريم ، الآية 31.
2- سورة الحج ، الآية 27.

سبحانه : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (1) تخرج أيضا عن حريم النزاع إذ عليه يكون ألفاظها حقايق لغوية قد استعملها الشارع في معانيها المعهودة الثابتة في اللغة ، غاية ما هناك انه صلی اللّه علیه و آله بعض الشرائط والموانع فيها بدوال أخر.

واما ما قيل من أن مجرد ثبوت هذه المعاني قبل شرعنا ومعهوديتها عند العرف لا يقتضى معهوديتها عندهم بتلك الألفاظ الخاصة المستعملة فيها في شرعنا فيمكن حينئذ كونها حقيقة شرعية بوضع الشارع تلك الألفاظ الخاصة لتلك المعاني والمهيات المخصوصة وضعا تعيينيا أو تعينيا فان العبرة والمدار في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدم ثبوتها انما هو على صيرورة تلك الألفاظ حقيقة في تلك المعاني والمهيات بوضعه صلی اللّه علیه و آله ، كانت تلك المعاني ثابتة قبل شرعنا ومعهودة عند العرف أو كانت حادثة في شرعنا ، وعليه فلايوجب مجرد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة كون ألفاظها حقائق لغوية كي تخرج عن حريم النزاع ما لم يثبت ان تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في عرف اللغة في سابق الزمان واما دعوى ان تلك الألفاظ بعينها هي الألفاظ المستعملة فيها في سابق الزمان فخال عن البرهان ، حيث لا برهان يساعده ولا شاهد له غير ما يرى في الكتاب العزيز من اطلاق تلك الألفاظ فيه على تلك المعاني ، وهو كما ترى مما لا شهادة فيه على ذلك ، لان غاية ما يوجبه انما هي الدلالة على وجود سنخ تلك المهيات والمعاني في الشرايع السابقة واما انها مما يعبر عنها أيضا بتلك الألفاظ في ذلك الزمان فلا كما لايخفى. فمدفوع بأنه يكفي في الشهادة على ذلك ما في قوله سبحانه ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) فإنه لولا معهودية حقيقة الصوم بمثل هذا اللفظ عند العرف لكان اللازم حينئذ إقامة البيان على ما هو المراد من الصوم إذ حينئذ كان المجال لسؤالهم من النبي صلی اللّه علیه و آله بأنه أي شيء كان واجبا على الأمم السابقة فصار واجبا علينا ، وحينئذ فنفس هذا الاطلاق بضم عدم التعرض لتفسيره بالامساك المخصوص أقوى شاهد على معهودية الصوم الذي كان واجبا على الأمم السابقة بهذا اللفظ عند عرف اللغة. وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه

ص: 70


1- سورة البقرة ، الآية 183.

بعد ثبوت تلك المعاني في الشرايع السابقة يكون ألفاظها أيضا حقايق لغوية فيخرج عن حريم النزاع.

نعم لو اغمض عن هذه الجهة وقلنا بكون هذه المهيات مستحدثة في شرعنا أو كونها ثابتة في الشرايع السابقة ولكنها بغير تلك الألفاظ المستعملة فيها في لسان الشارع ، لما كان مجال حينئذ لانكار الحقيقة الشرعية ، تارة بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ فيها كان من باب المجاز ومعونة القرائن ، وأخرى كما عن الباقلاني - بدعوى ان استعمال الشارع تلك الألفاظ دائما كان في معناها اللغوي لا غير ولكنه أفاد بعض الخصوصيات من الشرائط والموانع بدوال خارجية ، فكان لفظ الصلاة مثلا في جميع الموارد في كلامه صلی اللّه علیه و آله مستعملة في الدعاء وأفاد الخصوصيات من الترتيب والموالاة ونحوها من الشرائط والاجزاء والموانع بدوال أخر خارجية ، وثالثة بغير ذلك. إذ ذلك كله ينافيه ما عليه ديدن العقلاء في اخترائهم الماهيات ، فان كل مخترع لماهية من الصدر الأول إلى الآن بنائه وديدنه على وضع لفظ مخصوص أيضا بإزاء ما اخترعه من الماهية لا انه يستعمل فيه اللفظ مجازا بلا وضع اسم خاص لما اخترعه ، ومن المعلوم أيضا ان الشارع في مقام شارعيته واختراعه لتلك الماهيات أو امضائه لها بين رعيته ما جاوز هذه الطريقة المألوفة ، حيث إنه من المستبعد جدا ان يكون له في ذلك طريقة خاصة غير ما جرى عليه ديدن العقلاء ، وإلا يلزم عليه البيان بكونه غير سالك لما هو طريقة العقلاء لكي لا يحملوا اللفظ الصادر منه عند خلوه عن القرينة على المعنى الشرعي مع أنه صلی اللّه علیه و آله لم يقم بيانا على ذلك فكان نفس عدم بيانه لذلك كاشف كون جريه على طبق ديدن العقلاء فيثبت بذلك الوضع والحقيقة الشرعية.

واما الاشكال عليه بان صيرورة اللفظ حقيقة في معنى لسانه صلی اللّه علیه و آله لابد وأن يكون بأحد الامرين ، اما وضعه صلی اللّه علیه و آله ابتداء أو كثرة استعماله ، وهما ممنوعان ، اما الأول فلبعده غايته لأنه لو كان لو صل إلينا مع أنه لم ينقل أحد من المؤرخين انه صلی اللّه علیه و آله قام يوم كذا في مجلس كذا وقال اني وضعت لفظ الصلاة للأركان المخصوصة ، خصوصا مع وفور الدواعي على نقل ما يصدر منه صلی اللّه علیه و آله واما الثاني فمن جهة احتياجه إلى مضى زمان طويل بنحو يصير اللفظ إلى حد الحقيقة ، فمندفع بأنه كذلك مع انحصار الوضع بما ذكر وليس كذلك ، بل له طريق ثالث ،

ص: 71

وهو ان يتحقق بنفس الاستعمال الذي هو من قبيل الانشاء الفعلي نظير المعاطاة في المعاملات كما في قولك في مقام تسميتك ولدك جئني بولدي محمد ، قاصدا تحقق العلقة الوضعية بنفس هذا الاستعمال ، بل ومن ذلك أيضا ما للمصنفين في كتبهم من الاصطلاحات الخاصة ، كالحاكم والمحكوم والوارد والمورود ونحو ذلك. نعم لابد في ذلك من إقامة قرينة على وضعه كي لايحتاج بعد ذلك إلى إقامة قرينة على المراد كما في المجاز. وعدم كون مثل هذا الاستعمال حقيقة ولا مجازا غير ضمائر بالمقصود بعد عدم كونه أيضا من المستنكرات. وحينئذ لو ادعى القائل بالثبوت مثل هذا المعنى كان دعواه في محله حيث لا يرد عليه محذور ، كما هو واضح.

ثم إن الثمرة بين القولين انما هي في الألفاظ المستعملة في لسانه صلی اللّه علیه و آله من دون تعويل على القرينة ، فإنه بناء على الثبوت يحمل على المعنى الشرعي وبناء على عدم الثبوت يحمل على المعنى اللغوي ، فتدبر.

الامر التاسع

اشارة

قد وقع التشاجر والخلاف بين الاعلام في أن الألفاظ أسام للمعاني الصحيحة أو لأعم منها والفاسدة ، ولتنقيح المرام نقدم أمورا فنقول :

الامر الأول : ان مورد الخلاف كما عرفت في عنوان البحث انما هو الوضع لخصوص الصحيح أو لأعم منه والفاسد واما احتمال وضعها لخصوص الفاسدة قبالا للقولين الأولين فلم يعهد من كلماتهم بل لم يتوهمه أحد منهم. كما أن الظاهر هو اختصاص هذا النزاع بخصوص الألفاظ المستعملة في المعاني المخترعة الشرعية كألفاظ العبادات ونحوها لا مطلقا حتى الألفاظ الموضوعة للمعاني المفردة كالركوع والسجود ونحوهما مما اخذ موضوعا للتكليف في لسان الشرع ولو مقيدا بأمور وجودية أم عدمية ، لان مثل هذه مما لايتصور فيها اتصافها بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، حيث كان أمرها دائما دائرا بين الوجود والعدم. نعم قد يتصور جريانه بالنسبة إلى المركبات الخارجية أيضا مما كان لها القابلية للاتصاف بأحد الامرين تارة وبالآخر أخرى ، ولكن مورد كلامهم انما كان في المخترعات الشرعية من نحو الصلاة والحج ونحوهما.

ص: 72

الثاني من الأمور : ان مثل هذا النزاع غير مبتن على القول بثبوت الحقيقة الشرعية كما توهمه بعض ، بل يجري النزاع ولو على القول بعدم الثبوت حيث كان مرجع النزاع على هذا القول إلى أن العلاقة النوعية التي اعتبرها الشارع ابتداء في استعمال تلك الألفاظ مجازا هل هي بين المعنى اللغوي وخصوص الصحيح منها بحيث يحتاج استعمالها في الأعم إلى رعاية علاقة أخرى بينه وبين الأعم ، أو بين الأعم والصحيح من باب سبك المجاز عن مجاز ، أو ان تلك العلاقة النوعية ابتداء كانت بين المعنى اللغوي وبين الأعم من الصحيح من تلك الماهيات؟ كما أنه يجرى النزاع أيضا على قول الباقلاني من استعمال الشارع تلك الألفاظ في خصوص معانيها اللغوية مع ضم قرينة عامة على اعتبار بعض القيود ، إذ مرجع النزاع على هذا القول أيضا إلى أن تلك القرينة العامة هل بنحو تدل على اعتبار جميع الاجزاء والشرائط والموانع أو بنحو تدل على اعتبارها في الجملة؟ نعم لو كان اعتبار الاجزاء والشرائط على هذا القول بمعونة القرائن الشخصية الدالة كل واحدة منها على اعتبار جزء أو شرط أو مانع لاشكل جريان النزاع على هذا القول ، ولكن الفرض بعيد جدا فإنه مضافا إلى ضعف هذا المسلك في نفسه ولذا لم يذهب إليه الا الباقلاني لايظن التزامه بالقرائن الشخصية لكل واحد من الاجزاء والشرائط والموانع ، وعليه فكان المجال لجريان هذا النزاع على كلا القولين في المسألة السابقة.

الثالث من الأمور : لايخفى ان الصحة في المقام وكذا في غير المقام انما هي بمعناها اللغوي والعرفي أي التمامية بالإضافة إلى الأثر المهم ، وفي قبالها الفساد بمعنى النقصان الذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث لم يترتب عليه الأثر المرغوب منه. وحينئذ فكانت الصحة في جميع الموارد بمعنى واحد وهو التمامية بلا اختلاف في معناها وحقيقتها أصلا. واما ما يرى من الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في تفسيرها تارة باسقاط الإعادة والقضاء كما عن الفقيه ، وأخرى بموافقة الامر والشريعة كما عن المتكلم ، وثالثة بغير ذلك فإنما هو بلحاظ ما هو المهم عند كل طائفة من الآثار والاغراض ، لا ان الاختلاف بينهم كان في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها ، فغرض الفقيه لما تعلق باثر خاص منها وهو المسقطية للإعادة والقضاء فسرها بما يوافق غرضه ، كما أن غرض المتكلم تعلق باثر خاص آخر منها وهو تحقق الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة عليه ففسرها بما وافق غرضه من موافقة الامر والشريعة ، مع وفاقهم على وحدة معناها ، فكان كل منهم

ص: 73

مشيرا إلى تلك الحقيقة بتوسيط ما هو المهم في نظره في إضافة تمامية الشيء بالقياس إليه بلا اختلاف بينهم في أصل مفهوم الصحة وحقيقتها. ولئن شئت قلت بان اختلاف الفقيه والمتكلم انما هو فيما هو مصداق الصحة الذي يختلف باختلاف الأنظار لا في مفهومها ، والا فالصحة حقيقتها من الأمور الاعتبارية الطارية على الشيء بلحاظ ما يترتب على الشيء من الآثار من دون اختلاف في حقيقتها أصلا.

ومن ذلك نقول أيضا بان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان بحسب الأنظار والآثار ، فربما يكون الشيء صحيحا بنظر بلحاظ ترتب الأثر المقصود عليه في هذا النظر ، وفاسدا بنظر آخر لعدم ترتب الأثر المرغوب منه عليه في هذا النظر ، كما في الاتيان بالمأمور به الظاهري على القول بالاجزاء عند كشف الخلاف فإنه يكون صحيحا بنظر الفقيه وفاسدا بنظر المتكلم كما هو واضح. ومن ذلك البيان انقدح أيضا جهة أخرى وهي عدم امكان اخذ عنوان الصحة مفهوما أو مصداقا قيدا في ناحية المعنى والموضوع له ، لان هذه الحيثية حينئذ انما هي كعنوان الموضوعية والكلية والجزئية من العناوين المنتزعة عن رتبة متأخرة عن الشيء فإنها بعد كونها بمعنى تمامية الشيء التي هي عبارة أخرى عن مؤثريته ووفائه بالغرض فلا جرم كان انتزاع عنوانها عن رتبة متأخرة عن ترتب الأثر عليه ، نظير العلية والموضوعية ، لان الشيء باعتبار انه واف بالغرض ويترتب عليه الأثر ينتزع عنه الصحة ويتصف بكونه صحيحا ، ومعه يستحيل اخذ مثل ذلك مفهوما أو مصداقا في ناحية ذات المعنى والموضوع له الذي هو الموضوع للآثار ، من دون فرق في ذلك بين الصحة الفعلية أو الشأنية ففي الثاني أيضا تكون الصحة مفهوما ومصداقا من العناوين الطارية على الشيء المنتزعة عن رتبة متأخرة عن قابلية الشيء بنحو يترتب عليه الأثر المهم ، وهذا واضح بعد وضوح كون القابلية المزبورة من العوارض الطارية على الذات الزائدة عليها.

نعم الذي يمكن اخذه فيه انما هو المعنى الملازم للصحة لا المقيد بها. وعليه فتحريرهم النزاع بالوضع لخصوص المعنى الصحيح أو الأعم لابد وأن يكون بضرب من العناية والمسامحة والا فقد عرفت كونه من المستحيل. وحينئذ فكان الأولى في مقام تحرير النزاع هو تحريره بان اللفظ هل هو موضوع للمعنى الملازم للصحة خارجا أو المعنى الغير الملازم لها فتدبر.

ص: 74

وعلى كل حال فالظاهر أن المراد من الصحة في المقام عند القائل بالصحيح هو الصحة الاقتضائية على معنى كون الشيء تاما في مرحلة اقتضائه في المؤثرية ويقابلها الفساد بمعنى عدم تماميته في مرحلة الاقتضاء في التأثير ، لا ان المراد هو الصحة الفعلية الملازمة للمؤثرية الفعلية ، كيف وان مثل هذا المعنى في العبادات منوط بقصد القربة المعلوم بالبداهة خروجه عن المسمى جزما نظراً إلى استحالة اخذه فيه كما هو واضح ، ومعه لا محيص وأن يكون مورد البحث والكلام من الصحة والتمامية هو الصحة الاقتضائية لا الفعلية.

نعم يبقى الكلام حينئذ بالنسبة إلى غير قصد القربة من الشرائط الاخر كالطهور والقبلة والتستر ونحوها في عموم النزاع وجريانه بالنسبة إليها أيضا أو اختصاصه بخصوص الاجزاء؟ فنقول : الذي يظهر من المشهور من القائلين بالصحيح من مثل استدلالهم بمثل قوله : لا صلاة الا بطهور ولا صلاة الا إلى القبلة ، هو الأول من تعميم النزاع بالنسبة إلى الشرائط أيضا فان استدلالهم بما ذكر لنفى الحقيقة بدون الطهور والقبلة ظاهر بل صريح في إرادة الصحة والتمامية حتى بحسب الشرائط أيضا. وعليه فلا يبقى مجال لتخصيص هذا النزاع بخصوص الاجزاء وجعل المراد من الصحة والتمامية هو التمامية بحسب الاجزاء دون الشرائط كما لايخفى.

نعم قد يشكل عليه بان ذلك كذلك فيما لو كانت الشرائط راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المؤثر والمقتضى ولو بنحو دخول التقيد وخروج القيد الراجع إلى كون حقيقة الصلاة مثلا عبارة عن الاجزاء الخاصة من الركوع والسجود ونحوهما مع تقيدات خاصة بالطهارة والقبلة والستر ، والا فبناء على رجوعها إلى مقام الدخل في قابلية المحل للتأثر والانوجاد نظير الشرائط في العلل التكوينية الخارجية كما في مثل يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة في الاحراق ، فلا جرم يلزمه خروج الشرائط طرا عن مركز هذا النزاع ، من جهة ان ما فيه اقتضاء الصحة حينئذ ليس الا نفس الاجزاء وانما كان دخل الشرائط في مقام اتصافها بالصحة والمؤثرية الفعلية ، كما هو الشأن في العلل التكوينية الخارجية أيضا كالنار مثلا فان ما ينشأ منه الاحراق الا النار بلا مدخل لحيث يبوسة المحل والمحاذاة الخاصة الا في مرحلة اتصافها بالمؤثرية الفعلية. وعليه فبعد ان لم يكن المراد من الصحة هو الصحة الفعلية بشهادة خروج مثل قصد القربة ، بل كان المراد منها هو الصحة

ص: 75

الاقتضائية على معنى كون الشيء تاما في عالم اقتضائه في التأثير ، فلا جرم يلزمه تخصيص النزاع بخصوص الاجزاء في التمامية والنقصان مع الالتزام بخروج الشرائط عن مقام الدخل في المسمى والتسمية لا تعميمه حتى بالنسبة إلى الشرائط ، الا على فرض إرادة القائل بالصحيح الوضع للصحيح الفعلي ، وعليه أيضا يتوجه اشكال قصد القربة كما هو واضح.

وعليه فلابد من تنقيح ان الشرائط هل هي راجعة إلى مقام الدخل في ناحية المقتضى ولو بنحو دخول التقيد ، أو هي راجعة إلى مرحلة الدخل في قابلية المحل والمقتضى بالفتح للتأثر والانوجاد من قبل المقتضي بالكسر وما ينشأ منه الوجود ، كي يلزمه انحصار ما فيه اقتضاء الصحة في المقام بخصوص الاجزاء؟ وفي مثله ربما كان المتعين هو الثاني ، نظراً إلى ما تقتضيه النصوص من استناد المقربية والنهى عن الفحشاء إلى عنوان الصلاة بضميمة معلومية كون الصلاة من العناوين القصدية التي قوام تحققها بالقصد إلى عنوانها عند الاتيان بها ، بشهادة عدم صدق الزيادة الحقيقية عند الاتيان بشيء من اجزائها قرائة أو ركوعا أو غير هما لا بقصد الصلوتية ، حيث إنه بعد عدم قصدية التقيدات الخاصة بالطهارة والستر والقبلة وتوصليتها ، بشهادة اجماعهم على صحة صلاة من صلى مع الغفلة عن الشروط مع اتفاق وجدان صلوته لجميع ما اعتبر فيها من الطهارة والستر والقبلة ونحوها واقعا ، يستفاد من المقدمتين المزبورتين ان الصلاة التي هي المؤثرة في النهى عن الفحشاء والمقربية عبارة عن خصوص الاجزاء وان الشرائط خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل في المقتضي ، لأنه لولا خروجها عنه يلزمه تركيب الصلاة من الأمور القصدية وغيرها. وهو كما ترى مما لايمكن الالتزام به ، لمنافاته لما بنوا عليه وما هو المرتكز من قصدية عنوان الصلاة كما هو واضح فتأمل. وعليه فلا يبقى مجال للقائل بالصحيح لا دخال الشرائط في المسمى بدعواه الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط بعد فرض عدم التزامه بالصحيح الفعلي ، هذا.

اللّهم الا ان يقال حينئذ بان الشرائط بمقتضى البيان المزبور وان كانت خارجة عن المسمى وعن مقام الدخل في الاقتضاء بل كان المسمى وما فيه الاقتضاء للتأثير هو خصوص الاجزاء ، دونها مع التقيدات الخاصة ، ولكنه مع ذلك أمكن دعوى دخلها في مقام التسمية ، حيث يمكن ان يقال بكونها بمقتضى قوله : لا صلاة الا بطهور ، والا إلى

ص: 76

القبلة ، مما لها الدخل في أصل اتصاف الاجزاء بالصلوتية بحيث لو لاها لما كاد اتصافها بكونها صلاة أصلا ، وعليه فللقائل بالصحيح كمال المجال لدعوى الوضع للصحيح حتى من جهة الشرائط مع التزامه أيضا بالصحيح الاقتضائي دون الفعلي والتزامه أيضا بان ما هو المقتضي للصحة وللنهي عن الفحشاء هو خصوص الاجزاء وانها هي المسماة بالصلاة دون غيرها كما لايخفى.

بقى شيء وان لم يكن له مساس بما نحن بصدده وهو ان الصحة والفساد في المقام بل وكذا في غير المقام ، هل هي مجعولة أو انتزاعية صرفة من التكليف ، أو انها من الأمور الواقعية؟ حيث إن فيها وجوها ، ولكن التحقيق فيها هو التفصيل بين كونها بمعنى سقوط الإعادة والقضاء كما عند الفقيه فجعلية كما في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات حيث كان سقوط الإعادة والقضاء بجعل من الشارع وحكم منه بالسقوط ، وبين كونها بمعنى موافقة الامر كما عند المتكلم فانتزاعية صرفة من التكليف والامر ، وبين كونها بمعنى المؤثرية في الملاك والمصلحة فامر واقعي لا جعلي ولا انتزاعي من التكليف والامر فتدبر.

الرابع من الأمور : لايخفى ان هذا النزاع انما يختص جريانه بالمعاني القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، واما ما لايكون كذلك مما يدور امره دائما بين الوجود والعدم وكان وجوده مساوقا لصحته فلا يجري فيه هذا النزاع. وعلى هذا فيختص هذا النزاع بعناوين العبادات كالصلاة والصوم والحج ونحوها ولا يجرى في عناوين المعاملات كالبيع والصلح والنكاح ونحوها لان تلك العناوين مما يدور أمرها دائما بين الوجود والعدم ، حيث كان صحتها وترتب الأثر عليها مساوق وجودها وتحققها كما أن عدم ترتب الأثر عليها مساوق عدم وجودها فلايتصور لها وجود حينئذ يترتب عليها الأثر تارة ولايترتب عليها أخرى. وهذا بخلافه في العبادات فإنها باعتبار تركبها كانت قابلة للاتصاف بالصفين المزبورين بحيث يترتب عليها الأثر تارة ولايترتب عليها أخرى ولذلك كان لجريان النزاع فيها كمال مجال. نعم لو قلنا في المعاملات بان تلك العناوين من البيع والصلح والإجارة ونحوها أسام للأسباب وهي العقود دون المسببات يدخل المعاملات أيضا في عموم النزاع ، حيث إنها باعتبار تركبها حينئذ من اجزاء كالايجاب والقبول واشتمالها على شرائط خاصة من نحو صدورها عن البالغ العاقل وممن له الأهلية

ص: 77

كانت قابلة للصحة تارة والفساد أخرى ، فبذلك يجرى فيها النزاع أيضا.

اشكال ودفع : قد يتوهم منافاة ما ذكرنا من خروج عناوين المسببات في المعاملات عن حريم هذا النزاع من جهة دوران أمرها بين الوجود والعدم وعدم قابليتها للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى ، مع ما بنوا عليه من جريان أصالة الصحة فيها عند الشك في صحتها وفسادها من جهة الشك في بعض ما اعتبر فيها ، حيث كان قضية بنائهم على جريان أصالة الصحة فيها هي قابليتها للوصفين المزبورين فيلزمه حينئذ دخولها في حريم هذا النزاع. ولكنه مدفوع بمنع التنافي لان ما يرى من بنائهم على جريان أصالة الصحة في البيع الصادر مثلا عند الشك في صحته وفساده فإنما هو باعتبار اجرائهم القائدة المزبورة في سببه الذي هو العقد الصادر ، باعتبار كون ترتب المسبب شرعا من لوازم صحة العقد وتماميته في عالم مؤثريته لا ان ذلك من جهة اجرائهم القاعدة في نفس المسبب حتى يرد الاشكال التنافي وهذا واضح.

وهم ودفع آخر : اما الوهم فهو انه قد يشكل في العبادات أيضا بلزوم خروجها عن محل النزاع ، نظراً إلى دعوى بساطتها وان الصلاة مثلا عبارة عن العطف الخاص الذي هو امر بسيط غاية البساطة وكان الافعال والأذكار الخاصة من قبيل المحققات لذلك العطف الخاص ، نظيره الطهارة بالقياس إلى الغسلات والمسحات فيلزمها خروجها أيضا على هذا المبنى عن حريم النزاع لعين ما ذكر من المناط في عناوين المسببات في المعاملات من العقود والايقاعات ، بل ولازمها حينئذ هو تعين المصير فيها إلى الاشتغال عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته أو ما نعيته دون البراءة ، نظراً إلى كون مرجع الشك حينئذ إلى الشك في مرحلة الفراغ والخروج عن عهدة ما ثبت الاشتغال به يقينا وهو الامر البسيط لا إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف ، كما هو واضح.

وتوضيح الدفع هو انه انما يتوجه هذا الاشكال بناء على كون الامر البسيط أمرا آنيا غير متدرج الحصول من قبل الاجزاء والشرائط المعهودة وهو في محل المنع جدا ، من جهة منافاته لما نطق به الأخبار الواردة في شرح الصلاة من نحو قوله علیه السلام تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وما دل على قاطعية بعض الأمور لها كالحدث والاستدبار ونحوهما ، بل الذي يمكن القول به على فرض البساطة هو كونها أمرا ممتدا ذا مراتب من أول التكبيرة إلى آخر التسليم بنحو يكون كل جزء مؤثرا في تحقق مرتبة منها ، وعليه فلايقتضي مجرد

ص: 78

بساطتها خروجها عن محل النزاع بل لجريان النزاع المزبور فيها حينئذ كمال مجال ، إذ كان مرجع النزاع المزبور إلى أن الصلاة هل هي اسم لتلك المرتبة الخاصة الناشئة من قبل مجموع الاجزاء والشرايط والممتدة من أول التكبيرة إلى اخر التسليم التي هي منشأ للآثار أو انها اسم للأعم منها ومن غيرها من المراتب الاخر الناشئة من قبل بعض الاجزاء والشرائط؟

ومن ذلك البيان ظهر الجواب عن شبهة مرجعية الاشتغال أيضا عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته للواجب ، إذ نقول بأنه بعد فرض كون الامر البسيط أمرا ممتدا ذا مراتب فلا جرم مرجع الشك في دخل المشكوك إلى الشك في تعلق التكليف بأزيد من تلك المرتبة المعلومة ، وفي مثله كان لجريان البراءة فيها كمال مجال بناء على جريانها في كلية الأقل والأكثر الارتباطيين.

ثم إن هذا كله في فرض تسليم البساطة بالمعنى المزبور والا فبناء على المنع عن ذلك أيضا والقول بالبساطة فيها بمعنى آخر بجعل الصلاة عبارة عن امر معنوي منطبق خارجا على الافعال والأذكار المعهودة فلا موقع لهذا الاشكال ، فضلا عما لو قلنا بأنها عبارة عن نفس الافعال والأذكار المعهودة المتقيدة بقصد الصلوتية على نحو خروج القيد ودخول التقيد كما هو الظاهر المنساق من النصوص الواردة في شرح حقيقة الصلاة ، إذ عليها كان امر جريان النزاع المزبور فيها بل والنزاع الآخر أيضا من جهة مرجعية البراءة أو الاشتغال أوضح كما هو واضح.

الخامس من الأمور : وهو العمدة في الباب ، انه على كلا القولين في المسألة لابد من تصور جامع في البين يكون هو المسمى بالصلاة مثلا ، حيث لا اختصاص لذلك على القول بالأعم ، بل على القول بالصحيح أيضا لابد من وجود الجامع أيضا عنده بين الافراد الصحيحة ، نظراً إلى ما يرى من الاختلاف الفاحش بين افراد الصحيح حسب اختلاف الموارد والاشخاص بحسب حالاتهم ، كما في صلاة العالم القادر المختار وصلاة العاجز غير القادر على اختلاف مراتب العجز المتصور فيه البالغ إلى صلاة الغريق المشرف على الهلاك ، بل وكذلك بالنسبة إلى افراد صلاة العالم القادر المختار حيث إن فيها أيضا اختلافا عظيما من حيث الكمية والكيفية كصلاة القصر والاتمام وصلاة الصبح والظهر والمغرب وصلاة الكسوف والعيد والجنازة ونحوها ، إذ حينئذ لا محيص على القول بالصحيح أيضا

ص: 79

من كشف جامع بين تلك الافراد المختلفة كمية وكيفية يكون هو المسمى بالصلاة عنده ، فرارا عن محذور الاشتراك اللفظي فيها وجعل الصلاة من قبيل متكثر المعنى.

وحيث إن تصور الجامع بين افراد الصحيح في غاية الصعوبة والاشكال لعدم جامع صوري بينها يدور عليه مدار التسمية ولا جامع معنوي أيضا بينها ، التزم بعض كالشيخ قدس سره على ما في التقرير بالصحيح الشخصي فقال بان الصلاة اسم لخصوص صلاة العالم القادر المختار التي هي تامة الاجزاء والشرائط ، وان ما عداها من الصلوات الاخر ابدال لها لا انها صلاة حقيقة وان اطلاقها على مثل صلاة الناسي لبعض الاجزاء والشرائط وصلاة المريض ونحو هما من باب التوسعة بمعنى ان المتشرعة توسعوا في تسميتها بالصلاة من جهة حصول ما هو الأثر المقصود من الصلاة التامة الاجزاء والشرائط وهو المسقطية للإعادة والقضاء منها أيضا. ولكن فيه ما لايخفى إذ ذلك بعد عدم تماميته في نفسه لايكاد يندفع به الاشكال المزبور أيضا ، إذ نقول بأنه بعد وضوح كثرة الاختلاف بين الصلوات الثابتة في حق العالم القادر المختار كمية وكيفية كما بين صلاة الكسوف والعيدين وصلاة الجنازة والقصر والاتمام والصبح والظهر والمغرب ونحوها فيسئل عنه بأنه أي واحدة منها تجعل أصلا والبقية بدلا؟.

فلا محيص حينئذ بعد بطلان القول بالأصلية والبدلية في مثل تلك الصلوات من القول بأحد الامرين ، اما الالتزام بالاشتراك اللفظي فيها ، واما الالتزام بكشف الجامع وقدر المشترك بينها. وبعد بطلان الاشتراك اللفظي فيها بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون ، في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة غير ما يصلى الاخر ، بلا محذور لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، يتعين الوجه الثاني من الالتزام بالجامع بين افراد صلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط. وعليه نقول بأنه إذا أمكن تصور الجامع بين هذه فلا داعي إلى اتعاب النفس وجعل مثل صلاة الناسي والعاجز ابدالا للصلاة ، بل من الأول توسع دائرة ذلك الجامع بنحو يشمل الصلوات الاضطرارية وصلاة الناسي للجزء أو الشرط كي لا نحتاج إلى اتعاب النفس بجعل ما عدا الصلوات التامة الاجزاء والشرائط الثابتة في حق العالم القادر ابدالا للصلاة.

نعم لو كان قضية الالتزام بالصحيح الشخصي من جهة الاستفادة من الأخبار الواردة في شرح حقيقة الصلاة لا من جهة عدم تصور الجامع والقدر المشترك بينها فله وجه ،

ص: 80

حيث يسلم عما أوردنا عليه من الاشكال ، ولكن الكلام حينئذ في أصل استفادة هذا المطلب من النصوص إذ لايكاد استفادة ذلك من شيء من النصوص لولا دعوى استفادة خلافه منها إذ المستفاد من مثل النصوص الواردة في الناسي للقرائة والسجدة والتشهد وفي الجاهل التارك للاجهار أو الاخفات بالقراءة وكذلك القصر والاتمام بمثل قوله علیه السلام ( قد تمت صلوته ولا يعيد ) وكذلك النصوص الواردة في الصلوات الاضطرارية بالنسبة إلى العاجز ، هو كون الصلوات المزبورة صلاة حقيقية لا انها ابدال للصلاة وان ما هو المسمى بالصلاة هو خصوص الصلاة الثابتة في حق العالم القادر المختار كما هو واضح.

وحينئذ فعلى كل حال لا مجال لما افاده في التقرير من الالتزام بالصحيح الشخصي بوجه أصلا كما لايخفى. وحينئذ فبعد بطلان احتمال الاشتراك اللفظي وتعدد الوضع بشهادة صحة قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد صلاة تغاير صلاة الآخر كالصلاة اليومية وصلاة الخسوف والعيدين وصلاة الجنازة من دون رعاية عناية في البين من نحو التأويل بالمسمى ، وبطلان تخصيص الوضع ببعض الأنواع دون بعض بجعل البقية ابدالا كما عن التقرير فلا محيص من الكشف عن قدر مشترك بين تلك المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المسمى بالصلاة ويدور عليه مدار التسمية والصحة ، مع كونه أيضا من التشكيكيات التي تنطبق على الزائد والناقص بتمام الانطباق ، فينطبق على الفرد المشتمل على ثلاثة اجزاء والفرد المشتمل على أربعة اجزاء وهكذا الفرد المشتمل على تمام الاجزاء والشرائط الذي هو صلاة الكامل العالم المختار ، نظير مفهوم الجمع الصادق على الثلاثة والأربعة والخمسة ، ونظير مفهوم الكلمة الصادق على كل حرفين من حروف التهجي وعلى الثلاثة وعلى الأربعة فصاعدا ، ومفهوم الكلام الصادق على كل كلمتين فصاعدا.

وطريق كشف الجامع حينئذ انما هو أحد الامرين على سبيل منع الخلو :

الأول استكشافه من جهة ما ذكرنا من صدق مفهوم الصلاة على الصلوات المختلفة بحسب الكمية والكيفية وانسباق وحدة المفهوم منها الحاكية عن اتحاد الحقيقة ، نظير تمسكهم بانسباق مفهوم واحد من الوجود على كونه مشتركا معنويا ومتحدا في الحقيقة ، حيث إن الانسباق المزبور وصدق الصلاة على الصلوات المختلفة في قولك هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة تخالف صلاة الآخر ، من دون رعاية عناية و

ص: 81

تأويل بالمسمى يقتضي قهرا وجود جامع بين تلك المختلفات مع كونه من قبيل التشكيكيات الصادقة على القليل والكثير. وحينئذ نقول بأنه بعد عدم جامع صوري محفوظ في البين بين تلك الافراد وعدم جامع مقولي ذاتي أيضا - لالتيام الصلاة خارجا من مقولات متعددة كالكيف والوضع والفعل والإضافة ونحوها - فلابد في تصويره من أن يجعل الجامع المزبور عبارة عن الجامع الوجودي.

وذلك انما هو بان يؤخذ من كل مقولة من تلك المقولات المتعددة جهة وجودها ، بالغاء الحدودات الخاصة المقومة لخصوصيات المقولات ، مع تحديد الوجود المزبور أيضا بان لا يخرج عن دائرة أفعال الصلاة واجزائها على اختلافها حسب اختلاف حالات المكلفين ، ثم جعله أيضا من التشكيكيات الصادقة على الزائد والناقص وعلى القليل والكثير ، فيقال في مقام شرح حقيقة الصلاة بأنها عبارة عن رتبة خاصة من الوجود المحدود بكونها من الدائرة المزبورة مع اشتمالها أيضا على الأركان ولولا بوصف مقوليتها بل بجهة وجودها الساري فيها - نظير تحديد مفهوم الكلمة مثلا الملتئمة من حرفين فصاعدا بكونها مشتملة على الحرف أو حرفين من حروف التهجي - وجعلها من طرف غير الأركان من الافعال والأذكار مبهما محضا وعلى نحو اللابشرط كي تصدق على ذي اجزاء خمسة وذي اجزاء سبعة فصاعدا بحيث يشار إليها في مقام الإشارة الاجمالية بما هو معراج المؤمن وما هو قربان كلي تقي وما هوناه عن الفحشاء والمنكر ، فإنه على هذا البيان يكون مفهوم الصلاة بعينه من قبيل مفهوم الكلمة المنطبق على كل حرفين من حروف التهجي فصاعدا ، ومن قبيل مفهوم الجمع الصادق على كل ثلاثة وأربعة فصاعدا على اختلاف مراتب الجمع قلة وكثر فينطبق الصلاة أيضا على كل واحدة من افراد الصلاة من صلاة الكامل العالم المختار وصلاة المضطر والغريق ونحوها من المصاديق المختلفة كيفية وكمية ، نحو انطباق الكلي المتواطي على افراده ومصاديقه ، ومع ذلك أيضا باعتبار جعلها لا بشرط من طرف غير الأركان يكون من قبيل الحقايق التشكيكية المتصورة في الكم الملتئم من اجزاء مختلفة بحسب المصداق من حيث الزيادة والنقصان.

واما ما قيل من استلزام هذا المعنى لجواز اتيان المكلف بأي نحو من الافراد والمصاديق في مقام الامتثال نظراً إلى تحقق الجامع المزبور الذي هو مورد تعلق التكليف والامر باتيان أي فرد من الافراد مع قضاء الضرورة من الدين ببطلانه ، من جهة ضرورية

ص: 82

ان لكل شخص حسب اختلاف الحالات والعوارض الطارية عليه من السفر والحضر والاختيار والاضطرار والصحة والسقم وظيفة خاصة معينة بحيث لو أتى في مقام الامتثال بغير ما هو الوظيفة المقررة في حقه لما كان آتيا بالصلاة وما هو المأمور به في حقه ، فمدفوع بان هذا المحذور انما يتوجه لولا مدخلية الحالات الخاصة في حصر مصداق الجامع في حقه بصدور فعل خاص من فاعله ولو من جهة إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بصدور فعل خاص منه ، والا فمع مدخلية تلك الحالات الخاصة في ذلك فلا مجال لهذا الاشكال فان عدم جواز اتيان المكلف العالم المختار مثلا بصلاة المضطر والغريق في مقام الامتثال انما هو من جهة مدخلية تلك الحالة الخاصة في جزئية الشيء الفلاني وشرطيته بنحو يستحيل تحقق الجامع المزبور بدونه ، كمدخلية كل حالة مخصوصة في انحصار المرتبة الخاصة من مراتب الجامع المزبور بها ، بملاحظة دوران التسمية مدار تأثيرها المختص كل مرتبة منها بطائفة خاصة ، وعليه يلزمه انحصار مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة بفرد خاص بنحو لايكاد تحقق الجامع منه بدونه.

ولئن شئت فاستوضح ذلك بما لو تعلق الغرض مثلا بشرب الماء المشبع والرافع للعطش الجامع بين ماء الكوز وماء الجرة وماء الحب وماء الشط مع فرض اختلاف الاشخاص حسب استعداد مزاجهم واختلاف حالاتهم الطارية عليهم في مقدار الرافع للعطش وفرض وجود الماء المزبور أيضا في ضمن هيئات مخصوصة واشكال متعدده ، حيث إنه باعتبار اختلاف الاشخاص قد يختلف مصداق المشبع من الماء أيضا في حقهم فيكون مصداق المشبع بالنسبة إلى شخص ماء الكوز على شكل خاص وهيئة مخصوصة ومصداق المشبع بالنسبة إلى آخر ماء الجرة على هيئة خاصة وبالنسبة إلى ثالث يكون مصداق المشبع في حقه ماء الحب ، وهكذا ، فصار مصداق المشبع من الماء الرافع للعطش في حق كل شخص غير ما هو المصداق في حق الاخر. وفى المقام أيضا كذلك حيث نقول بان الغرض الذي هو تكميل العباد المعبر عنه بقربان كل تقى تعلق بالجامع المزبور وان لهذا الجامع مصاديق متعددة مختلفة بحسب الكيفية والكمية حسب اختلاف حالات المكلفين فكان مصداق الجامع المزبور في حق كل طائفة مخصوصا بفرد خاص ولو بلحاظ إناطة القرب في كل حالة مخصوصة بفعل خاص من فاعله بنحو لايكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج ولاتحقق الغرض الذي هو التكميل الا به.

ص: 83

وعلى هذا فتلخص ان حقيقة الصلاة التي رتب عليها غرض التكميل لا تكون الا عبارة عن معنى بسيط وحداني لايكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود من المقولات الخاصة بعد الغاء خصوصيات الحدود والمقولات المحدودة بكونها من أول التكبيرة إلى آخر التسليم مثلا ، ولها جهة كلية بالنسبة إلى الافراد العرضية ينطبق عليها بنحو التواطئ ، وكلية بالقياس إلى الاجزاء والافراد الطولية ينطبق عليها بنحو السريان والتشكيك ، نظير مفهوم الجامع الصادق على الثلاثة والأربعة وغيرها من مراتب الجمع على اختلافها قلة وكثرة ، نعم في عالم تنزل تلك الحقيقة ومرحلة تحققها في الخارج ، تحتاج إلى خصوصيات الحدود والمقولات ، نظراً إلى استحالة تحقق تلك الحقيقة في الخارج الا محدودة بحدود خاصة وفي ضمن المقولات المخصوصة من الكيف والفعل والإضافة والوضع ونحوها ، وذلك أيضا على اختلاف حالات المكلفين في الدخل في لزوم صدور فعل خاص من فاعله الذي لايكاد بدونه تحقق الجامع منه في الخارج ، ومرجع ذلك كله إلى كون دخل الحدود والمقولات الخاصة من باب كونها من المشخصات الفردية لحقيقة الصلاة بلا ان يكون لها دخل في أصل حقيقة الصلاة بوجه أصلا كي يلزمها كونها أمرا مركبا من المقولات المتعددة كما هو واضح. وبذلك أيضا يجمع بين ما ذكرنا من بساطة حقيقة الصلاة وبين ما ورد في شرح الصلاة بأنها ركوع وسجود وقراءة ونحوها ، حيث يحمل تلك النصوص على بيان المصداق الخارجي للصلاة.

الثاني : من طرق كشف الجامع على صحيح استكشافه من جهة وحدة الأثر المترتب عليها على ما يقتضيه النصوص الواردة في مقام اثبات بعض الخواص والآثار للصلاة من نحو قوله علیه السلام الصلاة قربان كلي تقى وانها معراج المؤمن وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، حيث إنه جهة القرب والتكميل بعد أن كان اثرا بسيطا غاية البساطة فلا بد بمقتضي وحدته وبساطته من كشف جامع وحداني بسيط بين تلك المختلفات الكمية والكيفية يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط نظراً إلى استحالة تأثير المتبائنات بما هي كذلك في واحد بسيط. واما احتمال ان يكون الأثر الوحداني في المقام اثرا ذا جهات متعددة مختلفة يؤثر كل امر من تلك الأمور المتعددة في جهة من ذلك الأثر ، فمدفوع بان جهة المقربية والمعراج ليست الا عبارة عن تكميل العبد وبلوغ نفسه بمرتبة خاصة من الكمال بها يصير العبد موردا للألطاف الإلهية والعنايات الخاصة

ص: 84

الرحمانية ، ومن المعلوم بداهة ان مثل ذلك لايكون الا أمرا بسيطا وحدانيا غير ذي جهات ، وعليه فبعد امتناع المتبائنات في امر وحداني بسيط فلا بد بمقتضي بساطة الأثر ووحدته من وجود جامع وحداني في البين بين تلك الافراد المتعددة المختلفة بحيث نشير إليه بنحو الاجمال بما هو قربان كل تقى وما هو معراج المؤمن وان لك يمكننا تحديده تفصيلا ، مع امكان تحديده بوجه اجمالي أبسط أيضا بالإشارة إلى تلك الحقيقة بالوجود المحفوظ بين تلك المراتب من مرتبة صلاة الغريق إلى مرتبة صلاة الكامل العالم المختار ، بالغاء خصوصيات الحدود والمراتب الخاصة ، فيقال بان حقيقة الصلاة عبارة عن معنى وحداني بسيط غير ذي جهات لا تكون بجوهر ولا عرض بل مرتبة خاصة من الوجود المحفوظ بين المراتب من الصلاة المختلفة المحدودة حدها من التكبيرة إلى آخر التسليم ، بالغاء خصوصيات التكبيرة والقيام والركوع والسجود ونحوها ، بجعل تلك الحدود والمقولات الخاصة من المشخصات الفردية للصلاة لا من مقولات حقيقتها.

ثم لايخفى عليك انه كما يستكشف الجامع الافرادي بمقتضى البيان المزبور بين افراد الصلوات المختلفة كذلك لابد من الكشف عن جامع اجزائي أيضا بين الاجزاء من افراد الصلوات يكون هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني البسيط مع كونه أيضا من قبيل الحقايق التشكيكية الصادقة على الزائد والناقص ، والفرق بينه وبين الجامع الافرادي هو الفرق بين الطبيعة الصرفة المتحققة بأول وجود فردها والطبيعة السارية في ضمن جميع الافراد ، فيكون الجامع الافرادي من قبيل الأول والجامع الاجزائي من قبيل الثاني ، من حيث عدم تحققه بمرتبة المؤثر الفعلي منه الا في صورة تحقق مجموع الاجزاء ، وان تحقق مرتبة أخرى غير مؤثرة فعلا بتحقق بعض الاجزاء ، مثلا لو فرضنا تركب فرد من اجزاء ثمانية أو عشرة يكون المؤثر الفعلي من الجامع المزبور الساري في مجموع الاجزاء الثمانية أو العشرة وما دون تلك المرتبة يكون مؤثرا شأنيا لا فعليا فإذا تحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو العشرة يتحقق الجامع الافرادي أيضا لان تحققه انما هو بأول وجوده فرده. وأما إذا لم يتحقق في الخارج الاجزاء الثمانية أو العشرة بل كان المتحقق في الخارج من ذي اجزاء ثمانية سبعة اجزاء ومن ذي اجزاء عشرة ثمانية ففي مثله لم يتحقق المرتبة المؤثرة الفعلية من الجامع المزبور بل المتحقق في مثله هو المرتبة المؤثرة الشأنية منه.

فإذا تمهد لك هذه الجهة نقول بأنه بعد أن كان للجامع المتصور المزبور بين الافراد

ص: 85

عرض عريض ومراتب متفاوتة وكان المؤثر الفعلي منه من كل فرد ومرتبة هو الساري في مجموع الاجزاء من ذي اجزاء خمسة وذي اجزاء ستة وذي اجزاء ثمانية وهكذا والمؤثر الشأني منه من كل فرد ومرتبة هو الساري لا في ضمن مجموع الاجزاء ، فلك ان تعتبر الجامع أيضا بين الصحيح والأعم بعين ما اعتبرته بين افراد الصحيح من البرهان فتأخذ من كل فرد ومرتبة جزء أو جزئين وتجعل الجامع عبارة عن الأعم من واجد هذا الجزء الذي يكون مؤثرا فعليا ومن فاقده الذي يكون مؤثرا شأنيا ، حيث لا نعنى من الفاسد الا ما كان مؤثرا شأنيا وغير تام في نفسه في عالم المؤثرية الفعلية وتشير إليه في مقام الإشارة بالوجود المحفوظ بين المرتبة المؤثرة الشأنية الفاقدة لبعض الاجزاء وبين المرتبة المؤثرة الفعلية الواجدة لتمام الاجزاء. وعليه ما مر من تصوير الجامع على الأعم ثبوتا كتصويره على الصحيح واضح لاينبغي الارتياب فيه ، نعم لو كان كلام حينئذ فإنما هو في مرحلة الاثبات ومقام وضع اللفظ في أن الصلاة هل هي موضوعة للجامع بين افراد الصحيح أو انها موضوعة للأعم من الفاسد والصحيح؟ والا فاصل امكانه ثبوتا بعد الالتزام بالصحيح النوعي بمقتضي ما ذكرنا مما لا يعتريه ريب كما هو واضح.

ثم إن في المقام وجوها اخر أفادوه في تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد لا باس بالإشارة إلى بعضها ، فنقول :

ان منها ما عن المحقق القمي قدس سره بان الصلاة اسم لجملة من الاجزاء كالأركان مثلا وان بقية الاجزاء خارجة عن المسمى وان كانت داخلة في المأمور به ومنها ان الصلاة عبارة عن معظم الاجزاء من غير مدخلية لخصوصية جزء أو جزء. ومنها تنظيره بباب الاعلام الشخصية كزيد من حيث إنه زيد في جميع الحالات من دون ان يضر في التسمية تبادل الحالات من الصغر والكبر والصحة والسقم وكذلك نقصان بعض اجزائه كاليد والرجل وغيرها.

ولكن يرد على الأول بان ذلك مجرد فرض لا واقعية له إذ نرى بأنه لا جامع صوري متصور بين تلك المختلفات يدور عليه المسمى وجودا وعدما. ويرد على الثاني أيضا بعد عدم إرادة مفهوم معظم الاجزاء قطعا بل ما يصدق عليه هذا المفهوم ، بأنه يلزمه كون شيء واحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى. وعلى الثالث بمنع المقايسة المزبورة للفرق الواضح بين المقامين فإنه في الاعلام الشخصية يكون في البين شيء محفوظ في جميع

ص: 86

تلك الحالات المتبادلة المختلفة لا تغير ولا تبدل وهو الموجود الشخصي والتشخص الخاص الذي به قوام شخصيته ، وهذا بخلاف المقام حيث إنه لايكون في البين ما يجمع شتات تلك المختلفات مع تركبها من المقولات المختلفة ، الا على النحو الذي تصورناه من الجامع الوجودي. وعليه يرجع هذا التقريب إلى ما قربناه سابقا فلايكون تقريبا آخر للجامع.

وعلى كل حال فبعدان ظهر لك امكان تصوير الجامع ثبوتا على كل واحد من القولين في المسألة بما ذكرناه من البيان ، يبقى الكلام في مقام اثبات ان الوضع هل هو لخصوص الصحيح أو للأعم منه والفاسد؟

فنقول انه يمكن ان يستدل للوضع للأعم بأمور :

منها : صلوح التقسيم إلى الصحيح والفاسد في قولك : الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ، فان في ذلك شهادة على الوضع للأعم ، لأنه لولا ذلك يلزم ان يكون الاستعمال المزبور استعمالا مجازيا محتاجا إلى رعاية عناية في البين ، وهو كما ترى مما يشهد الوجدان بخلافه.

ومنها : صدق الصلاة وصحة اطلاقها على صلوات مختلفة في قولك : هذه الجماعة يصلون في جماعة يصلي كل واحد منها صلاة بعضها فاسدة وبعضها صحيحة ، فإنه لولا كونها مشتركا معنويا بينهما يلزم محذور استعمال اللفظ في أزيد من معنى واحد أو عدم صحة الاطلاق المزبور ، وحيث إن الاطلاق المزبور كان صحيحا بالوجدان فلا جرم بعد بطلان استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد واستحالته يثبت المطلوب من الوضع للأعم.

ومنها : ملاحظة ما استقر عليه ديدن العرف والعقلاء في مخترعاتهم من المركبات الخارجية وغيرها من الوضع للأعم من الصحيح منها والفاسد لكي لايحتاجوا في استعمالهم إياها في الفاسد إلى رعاية عناية وعلاقة ، فإنه بعد القطع بأنه لم يكن للشارع في هذا الباب ديدن خاص وطريقة مخصوصة على خلاف ديدن العرف والعقلاء وانه من هذه الجهة كأحد من أهل العرف يكشف به الوضع للأعم لا لخصوص الصحيح.

ومنها : قوله علیه السلام : لا تعاد الصلاة من سجدة وتعاد من ركعة وقول علیه السلام : ( لا تعاد الصلاة الا من خمس ) فإنه بناء على الوضع للأعم يكون الصلاة في الفقرتين مستعملة في الجامع وأريد خصوصية الفرد الصحيح والفاسد بدالين ومدلولين

ص: 87

بلا لزوم محذور في البين من نحو استخدام أو غيره. وهذا بخلافه على القول بالوضع للصحيح فإنه عليه يلزم اما استعمال لفظ الصلاة في أكثر من معنى واحد أي المعنى الحقيقي والمجازي بناء على رجوع الضمير في قوله ( وتعاد ) إلى تلك الصلاة المذكورة في الصدر ، أو المصير إلى نحو استخدام ورعاية عناية في البين ، وهما كما ترى.

ومنها : ما دل على مبطلية الزيادة في الصلاة من نحو قوله علیه السلام : ( من زاد في صلوته فعليه الإعادة ) خصوصا على القول بتصوير الزيادة الحقيقية في الصلاة كما حققناه في محله فان تصوير الزيادة الحقيقية لايكاد يمكن الا بجعل دائرة اختراع ماهية الصلاة أوسع من دائرة المأمور به ومن المعلوم ان ذلك لايكاد ينفك عن الوضع للأعم ، كما هو واضح. وحينئذ فبمقتضى تلك البيانات لا باس بالالتزام بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد.

بقى الكلام فيما استدل به الفريقان لا ثبات الوضع للصحيح أو الأعم ، فنقول :

اما ما استدل به للوضع للصحيح فأمور :

منها : التبادر بمعنى انسباق الصحيح عند اطلاق الصلاة. ومنها : صحة سلبها عن الفاسدة حقيقة وان صح اطلاقها عليها بالعناية والمشاكلة.

وفيه : اما التبادر فلو أريد تبادر خصوص الصحيح ولو بمعونة القرائن الخارجية كما هو الغالب ولو بمثل عدم اقدام المسلم على العمل الفاسد في قولك : فلان يصلي ، فهو مسلم ولكنه غير مفيد حيث لا يثبت ذلك كونها موضوعة للصحيح. وان أريد تبادر خصوص الصحيح من حاق اللفظ مهما أطلق ففي المنع عنه كمال مجال بل لنا دعوى ان المتبادر منها عند اطلاقها هو الأعم.

واما صحة السلب ففيه انه ان أريد صحته عما هو المأمور به فهو صحيح ولكنه لا يثبت الوضع لخصوص الصحيح. وان أريد صحته ولولا بما هي مأمور بها بل بما هي معنى اللفظ فهو ممنوع جدا لكونه أول الدعوى.

ومنها : الآيات والاخبار المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة من نحو الصلاة معراج المؤمن ، وانها قربان كل تقي ، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، بتقريب ان فيها الدلالة بعكس النقيض على أن كل ما لايكون معراج المؤمن وما لايكون قربان كل تقى لا تكون بصلاة ، فيستفاد منها عدم كون الفاسدة صلاة حقيقة وان صح اطلاقها عليها

ص: 88

عناية.

ولكن فيه ما لايخفى ، فان الاستدلال المزبور انما هو من قبيل التمسك بعموم العام لا خراج ما يعلم بخروجه عن حكم العام عن موضوعه ، فرارا عن لزوم التخصيص على تقدير دخوله في موضوع العام ، فهو نظير ما لو ورد بأنه يجب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد ولكنه شك في أنه هل هو من افراد العالم المحكوم بوجوبه كي يكون عدم وجوب اكرامه من باب التخصيص ، أو انه خارج عن العام موضوعا كي يكون خروجه من باب التخصص والخروج الموضوعي ، ففي المقام أيضا قد علم من الخارج عدم كون الفاسدة مما يترتب عليها تلك الخواص والآثار وانما الشك في أنها صلاة حقيقة ليكون تخصيصا في الاطلاق أو عموم ما دل على أن كل صلاة يترتب عليها تلك الخواص والآثار ، أو انها لا تكون بصلاة حقيقة ليكون عدم ترتب تلك الخواص والآثار على الفاسدة من باب التخصص والخروج الموضوعي فاستدل بتلك الأدلة على خروجها عن الموضوع. وعلى كل حال نقول تمامية الاستدلال المزبور مبني على حجية أصالة العموم والاطلاق مطلقا حتى فيما كان الشك من جهة الشك في خروج ما هو خارج قطعا عن حكم العام عن موضوعه ، والا فبناء على اختصاص حجيته بما لو كان الشك ممحضا في خروج ما كان داخلا في موضوع العام عن حكمه فلا مجال للتمسك بتلك الأخبار المزبورة لا ثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة ، وسيجيء في محله انشاء اللّه تعالى عدم حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك باعتبار ان عمدة الدليل على حجية أصالة العموم والاطلاق انما هو السيرة التي هي من الأدلة اللبية ، والقدر المتيقن منها انما هو مورد الشك في خروج فرد عن حكم العام فارغا عن أصل فرديته للعام موضوعا.

ومن العجب ان الكفاية مع بنائه على عدم حجية أصالة العموم والاطلاق الا في مورد الشك في خروج ما هو داخل في العام موضوعا عن حكمه ، بنى في المقام على التمسك بالاخبار المزبورة المثبتة لبعض الخواص والآثار للصلاة لا ثبات عدم كون الصلاة الفاسدة صلاة حقيقة. نعم هو قدس سره رجع عن ذلك في حاشيته على الكفاية واستشكل على كلامه بما استشكلنا عليه من عدم حجية أصالة العموم والاطلاق في نحو ذلك فراجع.

ومنها : قوله علیه السلام لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة الا بطهور. وتقريب

ص: 89

الدلالة انما هو من جهة ظهور النفي في نفى الحقيقة فيستفاد منها حينئذ ان الصلاة التي لا تكون فيها الفاتحة أو الطهور لا تكون بصلاة حقيقة.

ولكن فيه انه وان سلم ظهور النفي في غير المقام في نفى الحقيقة ولكن ظهوره في المقام في ذلك ممنوع ، إذ نقول بظهوره في المقام في نفى الصحة ولو من جهة الانصراف أو نفى الحقيقة عما هو المأمور به بما هو كذلك ، وعليه لايكاد يفيد في اثبات عدم كون الفاسدة بصلاة حقيقة كما هو واضح.

ومنها : دعوى القطع بان طريقة كل واضع ومخترع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة الأجزاء والشرائط والمؤثرة الفعلية ، والشارع أيضا غير متخطي عن تلك الطريقة المتداولة بين العرف والعقلاء فيثبت بذلك وضعها لخصوص الصحيح المؤثر في الغرض دون الأعم منه والفاسد.

وفيه أيضا ما لايخفى ، إذ نمنع أولا كون طريقة الواضعين المخترعين للمهيات على الوضع لخصوص الصحيح المؤثر الفعلي بل نقول باستقرار طريقتهم في مثل ذلك على الوضع للأعم ، من جهة انه كثيرا ما تقضي الحاجة وتمس إلى الاستعمال في الفاسدة ومن المعلوم ان قضية ذلك انما هو لزوم وضعها للأعم لكي لايحتاجوا عند استعمالهم اللفظ في الفاسدة إلى القرينة وهو واضح. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا باستقرار طريقة العقلاء في وضع اللفظ لمخترعاتهم من المركبات لخصوص الصحيح منها ، نقول : بأنه من الممكن ان يكون للشارع في المقام طريقة خاصة على خلاف ما عليها ديدن العقلاء تقتضي الوضع للأعم ولو من جهة تعلق الغرض على تسهيل الامر على المكلفين امتنانا عليهم في جواز تمسكهم بالاطلاقات في نفى ما شك في اعتباره شطرا أو شرطا وعدم رجوعهم إلى الأصول العملية من البراءة أو الاشتغال ، حيث إنه من الواضح انه لايكاد الوصول إلى مثل هذا الغرض الا بوضع اللفظ للأعم دون الصحيح فإنه على تقدير الوضع لخصوص الصحيح لايبقى مجال لرجوع المكلفين عند الشك إلى الاطلاقات من جهة عدم احرازهم المسمى حينئذ وكونه من باب التمسك بالعام مع الشك في أصل مصداقية المشكوك للعام كما هو واضح. هذا كله فيما استدل به للقول بالصحيح.

واما ما استدل به للقول بالأعم فأمور أيضا :

منها : التبادر بمعنى انسباق الأعم من اطلاق لفظ الصلاة والصوم والحج.

ص: 90

ومنها : عدم صحة سلبها عن الفاسدة حيث يرى بالوجدان عدم صحة سلب الصلاة عن الصلاة التي نقص منها بعض اجزائها خصوصا إذا كان الناقص من الاجزاء الغير الركنية كما هو ذلك في المركبات العرفية ، بل ولئن صح سلبها عنها فإنها هو باعتبار الصحة حيث يقال : بأنها ليست بصلاة صحيحة لا انها لا تكون بصلاة حقيقة.

ومنها : قوله علیه السلام : ( بنى الاسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، يعنى الولاية ، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير الولاية لم يقبل منه صوم ولا صلاة ) بتقريب ان الاخذ بأربع أي الصلاة والصوم والحج والزكاة مع بطلان عبادة تاركي الولاية انما يتم بناء على كونها أسامي للأعم والا لما كانوا آخذين بأربع فلايصح القول بأنهم آخذين بأربع.

وفيه ما لايخفى ، فإنه لو تم البيان المزبور فغايته اثبات استعمال الأربع في قوله علیه السلام فاخذ الناس بأربع في الفاسدة وهو غير مثبت للوضع للأعم الذي هو المدعي باعتبار أعمية الاستعمال من الحقيقة. مع أنه نقول : بأنه بعد أن كان المراد من الأربع التفصيلي في صدر الرواية بقرينة بناء الاسلام عليها هو الصحيح بلا اشكال فلابد وان يحمل الأربع الاجمالي أيضا على الصحيح ، ولو باعتقادهم ، من جهة ما هو المعلوم من كون المراد من الأربع الاجمالي هو ذاك الأربع التفصيلي في صدر الرواية ، وعليه فلايكون الأربع الاجمالي أيضا الا مستعملا في الصحيح ، غايته هو الصحيح باعتقادهم دون الصحيح الواقعي النفس الأمري وهو أيضا لايكون من المجاز كما لايخفى. مع أنه لو سلم استعمال الأربع الاجمالي في الفاسدة من جهة فقدانها للولاية نقول بان مجرد ذلك غير مضر بدعوى القائل بالصحيح من جهة ان مقصودهم من الصحيح على ما تقدم انما هو الصحيح من غير ناحية قصد التقرب كما يكشف عنه اتفاقهم على خروج مثل قصد التقرب عن الصحة ، وحينئذ فإذا كانت الولاية من شؤون القربة المصححة للعبادة فللقائل بالصحيح دعوى خروجها أيضا كنفس قصد القربة ، وعليه فلايكون استعمال الأربع الاجمالي الا فيما هو الصحيح عند القائل به كما هو واضح.

ومنها : قوله علیه السلام ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) بتقريب انه بعد عدم امكان حمل الرواية على إرادة الصحيح منها من جهة معلومية عدم قدرة الحائض في حال المحيض على

ص: 91

ايجاد الصحيح ومعلومية اعتبارها في صحة توجه النهى إليها ، فلابد من حملها على الأعم بإرادة الجامع مع إفادة خصوصية الفرد الفاسد منها بدال اخر.

وفيه : أيضا انه اما ان يحمل النهى الوارد في الرواية على النهى المولوي الذاتي الناشي عن مفسدة ذاتية في متعلقه في حال الحيض ، واما ان يحمل على مجرد التشريع باعتبار مزاحمة مصلحة الصلاة في حال الحيض مع مفسدة أقوى في البين ، واما ان يحمل على الارشاد إلى مانعية الحيض عن صحة الصلاة ، فعلى الأول لا دلالة لها على المطلوب من الوضع للأعم بوجه أصلا من جهة ان كون الشيء عبادة ومنهيا عنه بالنهي المولوي الذاتي حينئذ لايتصور الا بكون الشيء من الآلات الموضوعة للخضوع ومن ابزار العبودية نظير تقبيل اليد والرجل ورفع القلنسوة في العرفيات الموضوعة عندهم من ابزار العبودية ومن آلات الخضوع ، فان مثل هذا المعنى هو الذي يكون قابلا لتعلق النهى المولوي به ، كما أنه يكفي في مقربيته ووقوعه عبادة فعلا مجرد رضاء المولى به وعدم نهيه عن الاتيان به ، وبهذه الجهة أيضا صححنا النيابة في العبادات حيث قلنا بأنه يكفي في صحة العبادة ووقوعها عن الغير مجرد رضاء ذلك الغير باتيان العبادة عن قبله كما نظيره في الخضوعات العرفية من نحو تقبيل اليد والرجل عن قبل الغير حيث إنه مع امر ذلك الغير بتقبيل يد الأمير مثلا عن قبله أو رضائه به يقع ذلك التقبيل الصادر عن النائب خضوعا عن ذلك الغير ويكون ذلك مقربا له دون النائب المباشر للتقبيل ، نعم عند عدم رضائه بذلك أو نهيه عنه لا يقع ذلك خضوعا له ولا مقربا له. وعلى ذلك نقول : بأنه من الواضح حينئذ عدم دلالة الرواية على القول بالأعم لولا دعوى دلالتها على القول بالصحيح كما هو الظاهر ، حيث إنه للقائل بالصحيح حينئذ دعوى كونها مستعملة في الراوية في خصوص الصحيح باعتبار ان الفساد حينئذ مستند إلى قضية نهى الشارع وعدم رضائه باتيان الحائض الصلاة في حال الحيض ، لا إلى قصور في نفس العبادة في عالم اقتضائها للمقربية ، ولقد عرفت بان مثل قصد القربة خارج عن المسمى عند الصحيحي أيضا وان ما هو المسمى عنده انما هو الصحيح من غير ناحية قصد القربة ، والمفروض في المقام أيضا انه لولا نهى الشارع لا قصور في صلاة الحائض في عالم مقربيتها. هذا كله بناء على حمل النهى في الرواية على النهى المولوي الذاتي.

واما بناء على الاحتمال الثاني من حمله على مجرد التشريع فكذلك أيضا ، حيث نقول

ص: 92

بكونها مستعملة في الرواية في خصوص الصحيح وان البطلان والفساد انما نشأ من جهة فقد الامر وخلوها عن قصد القربة الذي هو خارج عن المسمى قطعا عند الصحيحي أيضا.

واما بناء على الاحتمال الثالث من حمل النهى فيها على الارشاد إلى مانعية الحدث وهو الحيض عن صحتها فعليه وان كانت للرواية دلالة على المطلوب ، ولكنه أيضا مبنى على أن يكون الاطلاق المزبور في قوله صلی اللّه علیه و آله ( دعي الصلاة ) بلحاظ حال الحيض بنحو يتحد ظرف الجري مع ظرف النسبة الحكمية ، والا فبناء على تغاير الظرفين وكون الاطلاق المزبور بلحاظ حال قبل الحيض وهو حال الطهارة فلاتدل أيضا على مطلوب الأعمى من الاستعمال في الأعم ، إذ المعنى حينئذ ان الصلاة التي يؤتى بها في حال الطهارة لا تأتى بها في حال الحيض ، ومن المعلوم حينئذ كونها مستعملة في خصوص الصحيح.

ومنها أي من أدلة القول بالأعم صحة تعلق النذر بترك الصلاة في مكان مكروه كالحمام مثلا مع حصول الحنث بفعلها فيه أيضا ، بتقريب ان صحة النذر وحصول الحنث لايكون الا بوضعها للأعم ، والا فبناء على الصحيح يلزم عدم حصول الحنث بفعلها فيه بل عدم صحة النذر رأسا ، لان النذر الصحيح هو ما يجب الوفاء به يأمر الشارع بالوفاء به ، واعتبار القدرة على المتعلق تركا وايجادا مما لابد منه في صحة توجيه التكليف بالوفاء بالايجاد أو الترك ، وحينئذ فمع فرض وضعها للصحيح يلزمه كونها منهيا عنها بمقتضي توجه التكليف بالترك إليه ، ولازم كونها منهيا هو فسادها على ما برهن في محله من اقتضاء النهى عن العبادة لفسادها ، ومع فسادها لايكون له القدرة على الحنث بايجاد الصلاة الصحيحة ، لان كل ما أوجده يقع فاسدا بمقتضى النهى المزبور ، ومع عدم قدرته على الحنث لايكاد توجه التكليف بالوفاء به إليه ، ولازمه هو عدم انعقاد نذره من أصله ، مع أن ذلك خلاف البداهة من صحة النذر وحصول الحنث ، فيكون ذلك برهانا اجماليا تاما على أن المسمى والموضوع له هو الأعم دون الصحيح ، لأنه على الأعم لا يلزم محذور في البين أصلا.

وفيه ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه بعد معلومية اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر ، اما ان يحمل الكراهة في المواضع المزبورة على أقلية الثواب كما التزم به جماعة من

ص: 93

الأصحاب نظراً إلى اعتبارهم الرجحان الفعلي في العبادة ، واما ان تحمل على معناها المصطلح لكن بجعل المكروه عبارة عن خصوصية كينونة الصلاة مثلا في الحمام مع ابقاء ذات العبادة على ما هي عليها من الرجحان والمحبوبية الفعلية.

فعلى الثاني نقول : بان النذر وان كان صحيحا في فرض تعلقه بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام لا بذات الصلاة ولكن لازمه أيضا هو صحة الصلاة المزبورة عند حصول الحنث واتيانه بالصلاة في الحمام ، فلا يلزم حينئذ من مجرد حصول الحنث بفعلها فيه فسادها كي ينفع القائل بالأعم. وتوهم عدم انفكاك الخصوصية عن الذات لمكان اتحادها معها فتسري الحرمة حينئذ إلى أصل الصلاة فتقع فاسدة ، مدفوع بمنع اقتضاء هذا المقدار من الاتحاد للسراية إلى ذات الصلاة والا لاقتضى السراية إليها ولو في غير مورد تعلق النذر بها ، فيلزمه حينئذ بطلان الصلاة في الحمام ونحوه باعتبار سراية المرجوحية من الخصوصية على الفرض إلى ذات العبادة ولو في غير مورد تعلق النذر مع أن ذلك كما ترى لايظن بأحد الالتزام به. هذا بناء على فرض تعلق النذر بخصوصية كينونة الصلاة في الحمام واما لو فرض تعلق النذر في الفرض المزبور بنفس العبادة ، ففي مثل الفرض نلتزم بعدم انعقاد النذر من رأسه وذلك لا من جهة عدم القدرة على الحنث بل من جهة انتفاء الرجحان في المتعلق الذي هو ترك الصلاة كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر انه كذلك الامر أيضا في الفرض الأول وهو فرض حمل الكراهة على أقلية الثواب حيث إن لازمه بعد اعتبارهم الرجحان الفعلي في متعلق النذر هو عدم صحة النذر المزبور من رأسه لان مجرد كونها أقل ثوابا لايوجب مرجوحيتها حتى يكون تركها راجحا فصح النذر على تركها.

وحينئذ فالأولى في المقام هو التمثيل بباب العهد واليمين بناء على عدم اعتبار الرجحان في متعلقهما فإنه حينئذ يسلم عن الاشكال المزبور. وعليه نقول أيضا بأنه وان كان صح العهد واليمين ويحصل أيضا الحنث بفعل الصلاة في المكان المكروه ولكن نقول : بان مجرد صحة العهد واليمين وحصول الحنث لاينافي تعلقهما بالصحيح إذ نقول بان ما تعلق به العهد واليمين حينئذ انما هو الصحيح لولا هذا العهد لا الصحيح على الاطلاق حتى من جهة هذا العهد ، وعليه كان العهد صحيحا ويقع الحنث أيضا بفعلها لان ما أوجده انما كان هو الصحيح لولا العهد ، وما الفساد من قبل العهد فهو غير

ص: 94

مناف لصحة متعلقه وصحة عهده لأنه نتيجة وجوده نعم لو كان متعلق النذر هو الصحيح الفعلي حتى بالنظر إلى هذا العهد لما كان يتحقق الحنث بفعلها فيتوجه المحذور المزبور ، ولكن ذلك من المستحيل لاستحالة تقيد المتعلق وهو المسمى بالصحيح حتى من قبل هذا الحكم العهدي المتأخر ، كما هو واضح. على أن غاية ذلك هو عدم صحة تعلق النذر والعهد بفعل الصحيح وأين هذا والقول بان المسمى هو الأعم دون الصحيح؟ كما لايخفى. وحينئذ فالأولى في اثبات الوضع للأعم دون الصحيح هو التشبث بما ذكرناه سابقا من التبادر وصحة التقسيم ونحوهما.

بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين ، فنقول : انه قيل بظهور الثمرة بين القولين في أمور :

منها : ظهورها من حيث مرجعية البراءة والاشتغال عند الشك في مدخلية شيء شطرا أو شرطا في المأمور به ، بتقريب انه على الصحيح كان المرجع هو الاشتغال باعتبار الشك في تحقق ما هو المسمى بالصلاة بدون المشكوك بخلافه على الأعم فإنه عليه يكون المرجع عند الشك هو البراءة بناء على جريانها في الارتباطيات.

وفيه ما مر سابقا من عدم ابتناء الرجوع إلى البراءة بكونه من خواص القول بالأعم ، بل هو كذلك أيضا حتى على القول بالصحيح ، ولو على القول ببساطة المأمور به ، حيث إن التكليف المتعلق بالمأمور به بعد انحلاله إلى تكاليف ضمنية فبالنسبة إلى المشكوك يشك في أصل توجه التكليف بالنسبة إليه ، وحينئذ فعلى القول بجريان البراءة في الارتباطيات يجوز للصحيحي أيضا الرجوع إليها عند الشك في شرطية شيء أو شطريته ، كما هو واضح. ولذلك أيضا ترى بناء الأكثر على الرجوع إلى البراءة عند الشك في دخل شيء في المأمور به جزء أو شرطا مع مصيرهم في المقام إلى الصحيح.

وقد يفصل في مرجعية البراءة والاشتغال بين الصحيح الشخصي والنوعي ، بتقريب انه على الصحيح الشخصي يكون مرجع الشك في الشرطية أو الجزئية في البدل إلى الشك في كون الفاقد بدلا أم لا ، فأصالة العدم تقضي بالاحتياط والاشتغال ، بخلافه على الصحيح النوعي فان للرجوع إلى البراءة عليه كمال مجال. ولكن يدفعه ان الشك في البدلية حيثما كان مسببا عن الشك في جزئية المشكوك أو شرطيته فلا جرم تجرى البراءة فيه ومعه لايبقى مجال التفرقة بينهما ، كما لايخفى.

ص: 95

ومنها : ظهورها في مسألة النذر فيما لو نذر اعطاء درهم لمن يصلي ، بتقريب انه على الأعم يتحقق البراءة باعطائه لمن يصلى الفاسدة من جهة صدق الصلاة عليها حقيقة بخلافه على الصحيح فإنه لايحصل الوفاء بالنذر الا في صورة احراز كونها صحيحة ولو من جهة أصالة الصحة في فعل المسلم.

وفيه أيضا ما لايخفى ، فإنه بعد تقيده بما لو كان المنذور هو المسمى بالصلاة نمنع كونها ثمرة للمسألة ، حيث نقول بأنها حينئذ ثمرة لمسألة فرعية ، لان المسألة الأصولية على ما ذكرنا ها غير مرة هي التي يقع نتيجتها في طريق الاستنباط وتكون منتجة لحكم كلي فرعى ، كما في مسألة حجية خبر الواحد ، والثمرة المفروضة في المقام لا تكون كذلك إذ لا تكون تلك الا من باب تطبيق كبرى فرعية وهي مسألة وجوب الوفاء بالنذر على المورد ، وعليه فلايكون جواز الاعطاء الا ثمرة لمسألة فرعية دون الأصولية ، كما هو واضح.

ومنها : صحة التمسك بالاطلاقات والأصول اللفظية عند الشك في دخل بعض الأمور في المأمور به جزء أو شرطا على القول بالأعم وعدم صحته على الصحيح ، للشك في تحقق المسمى بدونه وعدم العلم بدخوله في موضوع الاطلاق ، فلابد على القول بالصحيح من الرجوع إلى الأصول العملية براءة أو اشتغالا.

وفيه أيضا ان ذلك وان كان ثمرة للمسألة ، الا انه نقول بكونه مجرد فرض لا واقع له من جهة ابتنائها على أن يكون تلك المطلقات من مثل أقيموا الصلاة واردة مورد البيان من جهة الاجزاء والشرائط لا في مقام الاهمال وهو أول شيء ينكر ، حيث نقول : بان ورود ها انما كان لمحض التشريع من غير أن تكون بصدد البيان من هذه الجهات ، وعليه تكون الثمرة المزبورة بحكم العدم. هذا كله بالنسبة إلى الاطلاقات اللفظية ، واما الاطلاقات المقامية ففي فرض تماميتها يصح على كلا القولين الرجوع إليها عند الشك في دخل شيء في المأمور به. كما هو واضح. هذا كله في العبادات.

الكلام في ألفاظ المعاملات

واما المعاملات كالبيع والصلح والإجارة ونحوها فيبقى الكلام فيها في أنها كالعبادات داخلة في محل النزاع أو خارجة عن موضوع النزاع ، فنقول :

ص: 96

انه ان قلنا بان تلك العناوين أسام للأسباب كما هو المترائي من ظاهر من عبر عنها في مقام شرحها بعقودها بقولهم البيع مثلا عقد كذا فلا اشكال في دخولها في محل النزاع فكان للنزاع فيها في كونها أسامي للصحيح أو الأعم كمال مجال باعتبار كونها حينئذ من الأمور القابلة للاتصاف بالصحة بمعنى ترتب الأثر عليها تارة وبالفساد بمعنى عدم ترتب الأثر عليها أخرى. نعم لما كان هذا النزاع مخصوصا بالمخترعات الشرعية ولا يجرى في الأمور العرفية أمكن دعوى خروج الأسباب عن مورد النزاع من هذه الجهة ، نظراً إلى أن العقد والايقاع والايجاب والقبول أمور عرفية لا تكون من المخترعات الشرعية ، فبهذه الجهة لا مجال للنزاع فيها في كونها موضوعة للصحيح أو الأعم ، كما هو واضح. هذا كله بناء على القول بكون عناوين المعاملات أسامي للأسباب.

واما على القول بكونها أسامي للمسببات كما هو التحقيق وعليه المعظم بأنها أمور بسيطة ناشئة من قبل أسبابها الخاصة وانها مما يتوصل إلى وجودها بعقودها وان عقودها بمنزلة الأسباب الموجدة لها لا انها نفسها ، فقد يقال : بأنه لا اشكال في خروجها عن محل النزاع ، تارة من جهة انها بنفسها آثار ، ومحل الكلام انما هو في المؤثرات التي يترتب عليها الآثار تارة ولايترتب عليها الآثار أخرى ، لما مر ان معنى كون الشيء صحيحا عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر المقصود كما أن معنى كونه فاسدا عبارة عن كونه بحيث لايترتب عليه الأثر المقصود ، فعلى هذا يختص النزاع المزبور بالمؤثرات ولا يشمل الآثار نفسها ، وأخرى من جهة انها أمور بسيطة دائرة أمرها بين الوجود والعدم غير متصور فيها التمامية والنقصان ، لما تقدم من اختصاص هذا النزاع بما يكون قابلا للامرين بحيث يتصف بالصحة والتمامية تارة وبالفساد والنقصان أخرى.

ولكنه يدفع ذلك ، اما الأول فبأنها وان كانت بنفسها آثارا ولكنها بالنسبة إلى الاحكام المترتبة عليها من مثل جواز التصرف وحرمة تصرف الغير بل بالنسبة إلى مثل السلطنة التي هي من الأحكام الوضعية مؤثرات ، وحينئذ فمن هذه الجهة لا مجال للاشكال فيها في دخولها في محل النزاع. واما الاشكال الثاني من كونها أمورا بسيطة دائرة بين الوجود والعدم فله وجه ، بناء على رجوع تخالف الشرع والعرف إلى تخطئة الشارع للعرف في الموارد الخاصة كما في بيع المنابذة والبيع الربوي ما يرونه مصداقا للبيع مع اتحاد البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ، والا فبناء على رجوع ذلك إلى تعدد

ص: 97

حقيقة البيع عند العرف والشرع لا مجال لهذا الاشكال ، فإنه عليه أمكن قابلية البيع مع كونه بسيطا غاية البساطة للاتصاف بالصحة والفساد.

ولتوضيح المرام نذكر المحتملات المتصورة في موارد تخالف الشرع والعرف ، فنقول : ان المحتملات المتصورة لعدم امضاء الشارع لكثير من المعاملات العرفية كبيع المنابذة والملامسة والبيع الربوي وغيرها ثلاثة :

الأول : ان يكون من باب تخطئة الشارع نظر العرف في عدهم غير البيع مصداقا حقيقيا للبيع ، ومرجع ذلك إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ، ولكن العرف لما أخطئوا في نظرهم وتخيلوا بزعمهم غير البيع بيعا حقيقيا خطاهم الشارع بأنه لايكون مصداقا للبيع وانه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

الثاني : ان يكون ذلك من باب التخصيص والاخراج الحكمي والتنبيه على أن جميع البيوع العرفية وان كان بيعا حقيقة حتى في نظر الشارع الا ان الأثر الشرعي مرتب على بعض مصاديق البيع لا على جميع مصاديقه ، ومرجع ذلك أيضا إلى اتحاد حقيقة البيع مفهوما ومصداقا عند العرف والشرع ولكن الشارع لم يرتب الآثار الا على بعض مصاديقه.

الثالث : ان يكون ذلك من باب ان الأثر الشرعي مرتب على ما هو مصداق للبيع عند الشارع لا على الجامع المنطبق على المصداق الشرعي والعرفي ، ومرجع هذا الوجه إلى أن للبيع حقيقة مصداقين : أحدهما منسوب إلى الشارع ومضاف إليه وهو الموضوع للآثار الشرعية ، والآخر منسوب إلى العرف وهو الموضوع للآثار الخاصة عندهم. والفرق بين الوجهين الآخرين هو انه في الأول يكون جميع المصاديق من البيوع العرفية بيعا حقيقة في نظر الشارع أيضا ولكنه مع ذلك يخص حكمه ببعض افراده ومصاديقه ، بخلافه على الأخير فإنه عليه يكون للبيع مصداقان : مصداق شرعي ومصداق عرفي ، نظير مفهوم الايجاب الذي كان له مصداقان : مصداق شرعي ومصداق عرفي ، فكان الأثر الشرعي مرتبا على ما هو مصداق للبيع عند الشارع. فهذه وجوه ثلاثة متصورة للاختلاف.

وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم ، فان لازم الوجه الأول هو عدم قابلية البيع للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى نظراً إلى دوران امره دائما بين الوجود والعدم ، بخلافه على الآخرين فإنه عليهما قابل لان يوجد البيع ويكون مؤثرا شرعا

ص: 98

تارة وغير مؤثر أخرى. هذا كله في مقام التصور.

واما مقام التصديق : فأبعد الوجوه هو الوجه الأوسط لمخالفته لما عليه ارتكاز الأصحاب فان السلطنة على الملك من لوازم ملكية الشيء ، فالتصديق بتحقق مصداق البيع والملكية مع نفى السلطنة على الملك ربما يعد من التناقض ، فمن هذه الجهة لا مجال للمصير إلى الوجه الثاني بل لا مجال لتوهمه. وحينئذ فيدور الامر بين الوجه الأول والأخير وفى مثله نقول : بأنه ان بنينا على أن البيع امر واقعي انتزاعي عن منشأة غير منوط بالجعل يتعين المصير إلى الوجه الأول من ارجاع موارد عدم امضاء الشارع للبيوع العرفية في الموارد الخاصة إلى تخطئة الشارع الأنظار العرفية فيما يرونه مصداقا للبيع وللنقل والانتقال ، ولازمه هو خروج المسببات من عناوين المعاملات عن مورد البحث والنزاع. واما ان بنينا على كون تلك المسببات من الأمور الاعتبارية الجعلية يتعين المصير إلى الوجه الا خير حيث لايتصور حينئذ وجه لتخطئة الشارع للعرف ، لان البيع المضاف إليهم والمصداق المختص بهم متحقق لا محالة في جميع الموارد حسب اعتبارهم إياه. نعم البيع الشرعي والمصداق المضاف إليه يكون تحققه تابع اعتبار الشارع وجعله إياه فمع عدم اعتبار الشارع إياه في مورد لاتحقق للبيع الشرعي وانما المتحقق هو البيع العرفي والمصداق المختص بهم. فعلى ذلك فاطلاق القول بخروج عناوين المعاملات عن حريم النزاع بتقريب انها أمور بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم مما لا وجه له ، بل اللازم هو التفصيل بين المسلكين والقول بالخروج عن مورد النزاع على أحد المسلكين دون الاخر.

ثم إن المتعين من هذين الوجهين أيضا هو الوجه الأخير فان دعوى كون تلك المسببات من الأمور الواقعية بعيد جدا ، بل هي من الأمور الاعتبارية الجعلية التي قوام تحققها بالجعل ، نعم بعد الجعل والاعتبار يصير من قبيل الأمور الواقعية نظير الارتباط المتحقق بين اللفظ والمعنى الحاصل بالجعل والوضع أو من كثرة الاستعمال ، فكما ان أصل تلك العلاقة والارتباط تكون تابعة للجعل في أصل تحققها وبعد الجعل تصير من الأمور الواقعية كذلك تلك المسببات ، وعليه فتدخل في حريم النزاع.

ثم إن الثمرة تظهر من مقام التمسك بالاطلاق من مثل ( أحل اللّه البيع ) عند الشك في مدخلية شيء في البيع ، فإنه على الأعم لا باس بالتمسك بالاطلاق في نفى ما شك في اعتباره. ولا كذلك الامر على الصحيح ، فإنه عليه مع الشك في مدخلية شيء في صحته عرفا يشك في

ص: 99

تحقق المسمى بدونه ومعه لايبقى مجال للتمسك بالاطلاق. نعم بعد احراز البيع العرفي بما له من الشرائط لو شك في دخل شيء في صحته شرعا يجوز التمسك باطلاق مثل ( أحل اللّه البيع ) في نفى ما شك في اعتباره شرعا حتى على الصحيح. هذا بناء على المسلك الأخير من جعلية البيع ونحوه ، واما بناء على المسلك الأول ففي التمسك بالاطلاقات اللفظية في نفى ما شك في اعتباره شرعا في صحته البيع اشكال ينشأ من احتمال خطأ العرف فيما يرونه مصداقا للبيع ، حيث إنه مع هذا الاحتمال يشك لا محالة في أصل تحقق البيع بدون المشكوك ، من جهة معلومية عدم اتباع فهم العرف الا في مقام كشف المفاهيم لا في مقام تطبيق المفهوم على المصداق الخارجي فارغا عن معلومية المفهوم. وحينئذ فمع احتمال خطأ العرف في تطبيق مفهوم البيع على المورد لم يجز التمسك بالاطلاق ، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو وجود الاطلاق المقامي في المقام ، حيث إنه بعد ما يرون العرف الفرد الغير الواجد للمشكوك بحسب ارتكازهم مصداقا حقيقيا للبيع ويرتبون عليه الآثار من النقل والانتقال ومع ذلك لم يردعهم الشارع يكشف ذلك عن أن ما يكون بيعا عندهم بيع شرعي أيضا ، والا لكان عليه التنبيه بذلك ببيان : ان غير الواجد لايكون حقيقة مصداقا للبيع وانه مصداق زعمي تخيلي. وحينئذ فبهذا الاطلاق الموصوف بالمقامي يستكشف ان جميع ما يراه العرف بيعا بيع حقيقة لذي الشارع الا ما خرج قطعا بالردع كبيع المنابذة والبيع الربوي ونحوهما ، فيكون الاطلاق المقامي حينئذ مثمرا لثمرة الاطلاق اللفظي. ومن ذلك أيضا نتمسك به لنفى اعتبار مثل قصد القربة مع عدم جريان في الرسائل من منعه عن التمسك بالاطلاق في مورد قائلا بأنه ليس ذلك تقييدا في دليل العبادة حتى يدفع بالاطلاق ، وتجويزه التمسك به في مورد آخر في ضمن تقريب دليل الانسداد ، حيث نقول بان نظره في المنع عن التمسك بالاطلاق إلى الاطلاق اللفظي وفى التجويز إلى الاطلاق المقامي.

تنبيه

قد يكون الشيء مطلوبا في العبادة ومندوبا إليه فيها من جهة جزئيته ودخله

ص: 100

الشطري في المهية المخترعة كالقراءة والركوع والسجود في الصلاة ، وقد يكون من جهة دخله الشرطي على نحو يكون تقيده داخلا في المهية المطلوبة دون نفسه وهذا كالطهور والستر والقبلة ، وقد يكون من جهة كونه من قبيل الواجب في الواجب فيكون مطلوبيته في تلك العبادة من جهة انحصار ظرفه فيها وتوقف وجوبه على وجوبها ووجودها لا من باب دخالته في المطلوب بنحو الشطرية أو الشرطية وهذا القسم لم أجد له مثالا في الصلاة ولكنه متصور في الحج وقد يكون من جهة كونه مستحبا في الواجب بنحو يوجب وجوده صيرورة الفرد من أفضل الافراد نظير القنوت وسائر الأذكار المندوبة في الصلاة ، حيث إنها لا تكون مما لها الدخل في أصل الواجب بنحو الشرطية أو الشرطية ولايكون الاخلال بها ولو مع العمد أيضا منافيا للامتثال ، ولكنها عند وجودها توجب مزية للفرد الواجد لها على الفاقد وتكون جزء للفرد لا للطبيعة ، لأنها من قبيل اللا بشرط بالنسبة إليها فتحقق معها وبدونها ، غاية الأمران الفرد المشتمل عليها يصير من أكمل الافراد وأفضلها. وهذا واضح. خصوصا على ما بيناه من أن الصلاة معنى تشكيكي مختلف المراتب ولها حدود تبادلية كالنور والخط.

ثم لايخفى ان تصوير الواجب في واجب ربما يستلزم ورود نقض على منكري معقولية الترتب المدعين لاستحالته ، بتقريب ان تعدد الامر يقتضي تعدد القدرة على الامتثال ومع عدم القدرة على الجمع بين الضدين يستحيل توجه التكليف بهما دفعة بالايجاد في زمان واحد ، توضيح الورود انه لو تم هذا المحذور لجرى نظيره في المقام أيضا فيلزمه الالتزام بعدم معقولية الواجب في واجب ، من جهة ان مقتضى القدرة على الشيء هو القدرة على تركه ونقيضه والا فمع فرض عدم القدرة على الترك والنقيض لايكاد تحقق القدرة على الفعل أيضا ، وعليه نقول : بأنه لو اعتبرت القدرة الفعلية على الامتثال في صحة توجه التكليف بالضدين يلزمه اعتبارها في المقام أيضا ، وحيث انه لايكون للمكلف في المقام القدرة على عصيان كلا الامرين في زمان واحد يترتب عليه عدم تصور الواجب في الواجب ، لان ظرف أحد الواجبين حيثما كان هو ظرف إطاعة الواجب الاخر فلا جرم لم يتصور القدرة الفعلية على عصيان كلا الامرين فيتوجه حينئذ النقض المزبور ، ومن ذلك كنا نورد هذا الاشكال على من ادعى استحالة الامر بالضدين ولو بنحو الترتب.

ص: 101

واما حل الاشكال : فهو ان القدرة الفعلية على الامتثال والعصيان انما تعتبر فيما لو كان الامر ان عرضيين ، واما لو كان الامر ان طوليين فلا يعتبر فيهما الا القدرة الطولية ، وحينئذ نقول : بان القدرة الطولية على عصيان الامرين كما كانت متحققة في المقام ومصححة للامر بايجاد شيء في واجب آخر كذلك متحققة في الامر بالضدين بنحو الترتب فتدبر.

الامر العاشر

لاينبغي الاشكال في امكان الاشتراك بالنسبة إلى معنيين وأزيد بل وقوعه أيضا في لغة العرب بل وفي غيرها من اللغات كما في لفظ شير بالفارسية الذي هو اسم للأسد الذي هو الحيوان المفترس واسم أيضا لللبن كقول الشاعر :

«آن يكى شير است اندر باديه *** وان يكى شيراست اندر باديه»

وحينئذ فدعوى امتناعه كما عن بعض مدعيا لاستلزامه الاخلال بالتفهيم والتفهم المقصود من الوضع بلا نصب القرينة على المراد واستلزامه التطويل بلا طائل معها في غير محلها ، لما عرفت من الوقوع الذي هو أدل دليل على امكانه.

وحينئذ فما ذكر من المحذور على تقدير تماميته يكون من الشبهة في قبال البداهة ، خصوصا مع عدم تماميته أيضا ، حيث نقول : بأنه كثيرا ما يتعلق الغرض بالاجمال المعلوم عدم حصوله غالبا الا بذلك ، فلايكون حينئذ اخلال بالغرض. واما حديث لزوم التطويل بلا طائل مع نصب القرينة فهو أيضا ممنوع إذا كان الاتكال على القرينة الحالية ، مع لزوم الاحتياج على المجاز إلى قرينتين : إحديهما صارفة والأخرى معينة للمراد ، بخلافه على الاشتراك فإنه لايحتاج الا إلى قرينة واحدة معينة للمراد.

نعم هنا وجه آخر للقول بالامتناع ، وهو ان قضية الوضع حيثما كان عبارة عن نحو اختصاص خاص بين اللفظ والمعنى وكونه على نحو المرآتية والفناء لا مطلق الاختصاص ولو على نحو الا مارية ، فلا جرم يلزمه امتناع اختصاص لفظ واحد بذلك الاختصاص الخاص بالمعنيين المتبائنين أو أزيد بنحو كان اللفظ مرآة وفانيا فيهما.

ولكن يدفع هذا الوجه أيضا بأنه انما يتوجه هذا المحذور فيما لو كان قضية الوضع

ص: 102

جعل المرآتية الفعلية للفظ على الاطلاق بنحو يلزمه ظهور اللفظ في المعنى ظهورا فعليا بقول مطلق ولو مع وجود المانع أو المزاحم ، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور من امتناع ان يكون للفظ واحد ظهور فعلى في المعنيين المتبائنين ، ولكن هذا المعنى ممنوع جدا بل المقدار الذي يقتضيه قضية الوضع من العلقة والاختصاص بينه وبين المعنى انما هو صيرورة اللفظ ظاهرا في المعنى ظهورا فعليا لولا ما يمنعه ويزاحمه ، وبعبارة أخرى ان ما يقتضيه الوضع من العلاقة والاختصاص لايكون الا عبارة عن كون اللفظ بنحو فيه اقتضاء المرآتية والظهور في المعنى الموضوع له بحيث لو أطلق ينسبق منه المعنى الفلاني لولا ما يزاحمه ويمنعه ، لا ان مقتضاه هو الظهور الفعلي والمرآئية الفعلية حتى مع وجود المانع أو المزاحم. وحينئذ نقول : بأنه على ذلك لايكاد يتوجه المحذور المزبور فإنه من الممكن حينئذ ان يكون للفظ واحد اقتضاء المرآتية والظهور بالنسبة إلى أزيد من معنى واحد ، غايته انه من جهة تصادم المقتضيين في مرحلة الفعلية لايكون له ظهور فعلى في واحد من المعنيين الا إذا كان هناك ما يمنع عن فعلية أحدهما فيؤثر الاخر حينئذ في الفعلية ويصير عند اطلاقه ظاهرا فعليا في المعنى الآخر ، كما هو واضح.

ثم إن في قبال هذا القول قولا آخر بوجوب الاشتراك بملاحظة تناهى الألفاظ وعدم تناهى المعاني ، ولكنه أيضا في غير لتناهي المعاني الكلية ولو كان جزئياتها غير متناهية ، على أن للمنع عن تناهى الألفاظ أيضا كمال مجال ، لما يرى بالوجدان من بلوغها إلى غير النهاية بتركيب الحروف بعضها مع بعض ، ومع تسليم ذلك نمنع الاحتياج إلى المعاني بأزيد من الألفاظ المستعملة في ألسنة الناس بتركيب بعض الحروف مع بعضها ، وعلى تقدير الاحتياج أحيانا بأزيد من ذلك مما لم يوضع له لفظ يمكن تفهيمه بمعونة القرائن ، فيبطل حينئذ ما ادعي من وجوب الاشتراك ، كما لايخفى.

الامر الحادي عشر

اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في وجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على نحو الاستقلال بنحو كان كل واحد من المعنيين أو المعاني كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه على أقوال : ثالثها عدم الجواز بنحو الحقيقة والجواز على نحو المجاز ، ورابعها التفصيل بين المفرد وبين

ص: 103

التثنية والجمع بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني. وقبل الخوض في المرام لا بأس من تمهيد مقدمة لبيان الأنحاء المتصورة من الاستقلال في المقام لكي يعلم ما هو المراد من الاستقلال المأخوذ في عنوان البحث لا يختلط عليك الامر فيما هو الحق الحقيق من هذه الأقوال.

فنقول وعليه التكلان : ان المحتملات المتصورة من الاستقلال المبحوث عنه في المقام أمور :

الأول : إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ في الذهن في قبال عدم الاستقلال الذي هو بمعنى انضمامه مع الغير فيه سواء كان مستقلا بحسب اللحاظ أيضا كما لو تعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ مستقل أو لم يكن مستقلا بحسب اللحاظ بان تعلق لحاظ واحد بالمجموع ، وذلك من جهة انه لا تلازم بين تعدد المعنى الملحوظ وبين تعدد اللحاظ ، فيمكن ان يكون المعنى الملحوظ مع كونه متعددا متعلقا للحاظ واحد ، كما في لحاظك نقاطا متعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع ، كامكان كون كل واحد منهما متعلقا للحاظ واحد مستقل ، كما أنه يمكن في طرف العكس ان يكون الملحوظ مع كونه غير مستقل بذاته مورد تعلق لحاظات متعددة مستقلة كما في تصورك النقاط المتعددة خطا طويلا بالغاء حدوداتها الخاصة وجعلك كل جزء منه مورد لحاظ مستقل ، بحيث تحكم عليه بان هذا الطرف من الخط أحسن من الطرف الآخر. وتوهم ان لحاظ الشيء ليس الا عبارة عن تصوره وايجاده في الذهن فمع فرض وحدة المتصور وجودا في الذهن لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظات متعددة مستقلة ، كما أنه في فرض تعدد المتصور لا معنى لصيرورته متعلقا للحاظ واحد ، مدفوع بان تصور الشيء كما ذكرت انما هو عبارة عن ايجاد الشيء في الذهن ، واما اللحاظ فهو عبارة عن توجه النفس إلى شيء ملحوظ بعد تصوره وايجاده في الذهن ، ولذلك ترى في تصورك الخط الواحد بأنك إذا لاحظت أوله وآخره تحكم عليه بأن أوله أحسن من اخره.

الثاني : إرادة استقلال المعنى في عالم اللحاظ بمعنى ان يكون المعنيان كل واحد منهما مورد لحاظ مستقل في قبال ما لو كان المجموع مورد تعلق لحاظ واحد.

الثالث : إرادة استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم في قبال عدم استقلاله بحسبها ، كان المعنى بحسب ذاته أو بوصف كونه ملحوظا متعددا أم لا ، حيث لا تلازم أيضا بين استقلال المعنى بحسب إرادة التفهيم وبين الاستقلال بالمعنيين المتقدمين فيمكن ان يكون

ص: 104

المعنى مع كونه مستقلا في ذاته أو بوصف كونه ملحوظا غير متعلق لإرادة التفهيم رأسا فضلا عن تبعيتها في الاستقلال والضمنية لاستقلاله بحسب اللحاظ أو بحسب ذاته.

ورابعها : إرادة الاستقلال حسب مرحلة إرادة الوجود والحكم أو الاعراض الخارجية كما في العام الافرادي في قبال عدم استقلاله بحسبه كما في العام المجموعي. فهذه محتملات أربعة متصورة فيما هو المراد من الاستقلال المبحوث عنه.

واما مقام التصديق : فينبغي القطع بعدم إرادة الاستقلال بالمعنيين الأخيرين بل وخروجهما عن حريم النزاع ، بداهة ان إرادة التفهيم باللفظ وكذا إرادة الحكم ، انما هي من دواعي الاستعمال ، ومن هنا قد يتحقق الاستعمال ومع ذلك لايكون في البين إرادة ولا إرادة وجود أصلا ، بل وخصوصا الأخير ، حيث إنه قد يكون إرادة الوجود متحققة بلا ذكر لفظ أصلا ، وعليه فلاينبغي توهم إرادة القائل بالامتناع مثل هذه الصورة خصوصا بعد اجتماع هذين المعنيين مع وحدة اللحاظ المتعلق بهما تفصيلا أم اجمالا عند تعلق إرادة الوجود بكل واحد منهما. واما ما يترائى من بعض التعابير من كون المعنيين كل واحد منهما بحيث يقع موردا للنفي والاثبات أو الحكم بهما ، فالمراد منه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الحكمية الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ باعتبار تفرعها على لحاظ المنتسبين ، نظراً إلى أن استقلال المعنى بالإضافة إلى مثل هذه النسبة الكلامية فرع على لحاظ كل من المنتسبين مستقلا في مقام إرجاع المحمول إليه خصوصا مع اختلاف المنتسبين من جهة الايجاب والسلب ، فان ايقاع الايجاب والسلب حينئذ لكل واحد منهما لا محالة يحتاج إلى لحاظ كل منهما بلحاظ مستقل بنحو يكون كل واحد منهما تمام الملحوظ في لحاظه ، لا ان المراد هو استقلال المعنيين بحسب إرادة الوجود كما هو واضح. كيف وان لازمه هو خروج فرض استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل إذا اعتبر تعلق حكم واحد بالمجموع كما في العام المجموعي عن حريم النزاع ، مع أنه كما ترى ، إذ لاينبغي الاشكال في دخول مثل هذا الفرض في مورد النزاع بينهم.

وحينئذ يدور الامر في المراد من الاستقلال بين الاحتمالين الأولين ، وهو استقلال ذات المعنى الملحوظ أو استقلاله بوصف الملحوظية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ.

وحينئذ نقول : بأنه لو كان المراد من الاستقلال عبارة عن استقلال المعنى الملحوظ

ص: 105

بذاته لا بوصف كونه ملحوظا كان الحق مع القائل بالجواز عقلا لضرورة عدم محذور عقلي فيه بعد امكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة مبائن كل واحد مع الاخر واستعمال اللفظ فيها ، كما في لحاظك النقاط المتعددة بلحاظ واحد متعلق بالمجموع ، وحينئذ فلو كان فيه كلام فلابد وأن يكون في جوازه لغة كما سيجيء لا في جوازه عقلا. واما لو كان المراد من الاستقلال هو استقلال المعنى بحسب اللحاظ وبوصف الملحوظية بنحو يقتضي تعدد النسبة في النسبة الكلامية لكان الحق مع يدعى الامتناع عقلا ، بداهة استحالة إرادة المعنيين المتبائنين من اللفظ الواحد بنحو يكون كل واحد منهما متعلقا للحاظ مستقل في آن واحد فلابد حينئذ من تنقيح هذه الجهة وان المراد من الاستقلال المبحوث عنه أي واحد من المعنيين.

وحينئذ نقول : بان الظاهر على ما يظهر من كلماتهم إرادة الاستقلال بالمعنى الثاني وهو الاستقلال بوصف الملحوظية بنحو كان المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ ، لا ملحوظا تمامه باللحاظ ولو ضمنا ، حيث إن ذلك ظاهر جماعة منهم كصاحب الكفاية قدس سره وصاحب البدايع وصاحب الفصول وغيرهم ، قال في الكفاية في بيان المراد من الاستقلال المبحوث عنه : ( هو ان يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه ) حيث إنه ظاهر بل صريح فيما ذكرناه من الاستقلال ، نظراً إلى أن حقيقة الاستعمال بعد أن كان عبارة عن ذكر اللفظ ولحاظ المعنى ، فيكون قوله قدس سره : ( كما إذا لم يستعمل اللفظ الا فيه ) معناه كون كل واحد منهما تمام الملحوظ في مقام اللحاظ كما لو لم يكن الا ذاك ، لا كون كل واحد منهما ملحوظا تمامه ولو بلحاظ ضمني. ومثله عبارة البدايع حيث قال : ( اعلم أن لإرادة المعنيين صورا أحدها ان يطلق المشترك ويراد به المعنيان بنحو الاستقلال ) ثم فسره بقوله : ( على أن يكون كل منهما مناطا للحكم ومتعلقا للنفي والاثبات كما تقول : أقرأت الهندان ، تريد حاضت هذه وطهرت تلك ، على سبيل التوزيع حتى كأنك ذكرت اللفظ مرتين ) ومن المعلوم صراحة هذا الكلام أيضا منه فيما ذكرناه في المراد من الاستقلال المبحوث عنه باعتبار اقتضاء قوله : على أن يكون كل منها ( الخ ) لتعدد النسبة واختلافها الملازم ذلك مع تعدد اللحاظ أيضا. ونحوه ما عن الفصول قال فيما حكى عنه في تحرير محل النزاع : ( الرابع ان يستعمل اللفظ في كل واحد من المعنيين على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده كما إذا كرر اللفظ و

ص: 106

أريد ذلك ) قال : وهذا محل النزاع. وظاهره ارادته من قوله : ( على أن يكون كل واحد منهما مرادا من اللفظ بانفراده ) الإرادة الاستعمالية التي هي مقومة لحقيقة الاستعمال ، لا إرادة التفهيم أو الوجود كما يشهد لذلك قوله بعد ذلك : ( ولا فرق بين ان يكون كل واحد منهما متعلقا للحكم ومناطا للنفي والاثبات أو يكون المجموع كذلك ) ، وعليه فينادي كلامه بان ما هو محل النزاع انما هو صورة استقلال المعنيين في مرحلة اللحاظ لا استقلالهما بحسب ذاتهما ولولا بوصف الملحوظية.

وربما يشهد لما ذكرنا أيضا الموارد الخاصة التي استشكلوا فيها من جهة محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد :

منها : في مثل قوله علیه السلام : كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر وكل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام ، حيث إنهم استشكلوا على من يقول بامكان استفادة قاعدتي الاستصحاب والطهارة في الأول واستفادة قاعدتي الاستصحاب والحلية في الثاني ، حيث قالوا بعدم امكان استفادة القاعدتين معا من الرواية واستحالتها ، نظراً إلى احتياج القاعدة إلى أن يكون النظر فيها إلى أصل ثبوت المحمول وهو الحلية والطهارة ، واحتياج الاستصحاب إلى أن يكون النظر فيها إلى حيث استمرار المحمول فارغا عن أصل ثبوته فيلزم حينئذ من إرادة القاعدتين اجتماع النظرين فيه في آن واحد وهو محال.

ومنها : في مبحث البراءة في قوله سبحانه : « لايكلف اللّه نفسا الا ما آتيها » حيث استشكلوا فيها أيضا بعدم امكان إرادة الفعل والتكليف معا من الموصول ، بتقريب انه بناء على تقدير إرادة الحكم منه يكون نسبته إلى التكليف من قبيل نسبة الفعل إلى المفعول المطلق ، وعلى تقدير إرادة الفعل من الموصول يكون نسبته إليه من قبيل نسبة الفعل المفعول به ، فعلى فرض إرادة الحكم والفعل منه يلزم اجتماع النظرين فيه باعتبار اقتضاء تعدد النسبة التعدد في ناحية النظر واللحاظ أيضا.

ومنها : في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك » من حيث امكان استفادة الاستصحاب وقاعدة اليقين منه فراجع.

ومنها : غير ذلك من الموارد الاخر ، حيث إنه يعلم من ذلك كله بان ما هو مورد البحث في الجواز والامتناع انما هو صورة استعمال اللفظ في المعنيين بنحو يكون كل واحد منهما مستقلا في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع استقلالهما في الملحوظية أيضا ، لا صورة

ص: 107

مطلق استعمال اللفظ في المتعدد ولو بنحو كان المجموع متعلقا للحاظ واحد.

وعليه نقول : بأنه لو بنينا في وضع الألفاظ على المرآتية كما هو التحقيق أيضا فلاينبغي الاشكال في أن الحق مع من يدعى الامتناع العقلي من جهة ما فيه من استلزامه لاجتماع اللحاظين في آن واحد في لفظ واحد للحاظ واحد وهو من المستحيل. واما لو بنينا فيها على الا مارية التي لازمها سببية اللفظ لانتقال الذهن بدوا إلى المعنى الموضوع له كما شرحناه سابقا نظير الدخان الذي هو سبب لانتقال الذهن إلى وجود النار بدوا وبلا توسيط شيء فقد يقال فيه بالجواز واختاره الأستاذ دام ظله في درسه الشريف أيضا ، بتقريب ان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين والنظرين في منظور واحد ، وهو غير متحقق بناء على الا مارية ، لأنه عليها لايكون اللفظ واسطة للانتقال وموردا لتعلق اللحاظ بدوا كما على المرآتية بحيث يكون الانتقال إلى المعنى بتوسيط اللفظ ومن باب السراية منه إليه حتى يلزمه اجتماع اللحاظين والنظرين في شيء واحد ، بل وانما اللفظ على هذا المبنى يكون سببا لانتقال الذهن بدوا وبلا واسطة إلى المعنى ، نظير سببية الدخان للانتقال إلى وجود النار وسببية شيء كذائي للانتقال إلى ملزومه ولوازمه. وحينئذ فإذا كان المعنى متعددا ذاتا وكان اللفظ سببا للانتقال إلى المعنى لا انه كان واسطة للانتقال وللسراية منه إلى المعنى ، فلا باس بان يتعلق بكل واحد من المعنيين لحاظ مستقل لأنه ليس من باب اجتماع اللحاظين في شيء واحد حتى يقال بامتناعه واستحالته ، ومجرد كون اللحاظين مجتمعين في آن واحد حينئذ غير ضائر بعد فرض تعدد المتعلق فإنه ليس بأعظم من اجتماع الضدين كالحب والبغض وغيرهما من صفات النفس مع أن اجتماعهما في الآن الواحد عند فرض تعدد المتعلق مما لايكاد ينكر كما في محبة الانسان لولده وبغضه لعدوه. وحينئذ فإذا أمكن اجتماع الضدين في الآن الواحد عند فرض تعدد المتعلق فليكن كذلك في المثلين في مفروض المقام. وعليه فلاينبغي مجال الاشكال في امكان استعمال اللفظ الواحد في المعنيين على الا مارية بإرادة كلا المعنيين منه المعنى الحقيقي والمجازي كما هو واضح.

أقول : ولكن الذي يقوى في النظر هو عدم الفرق في الاستحالة بين المسلكين وانه لا يجدي في رفع الاستحالة مجرد تعدد المتعلق كما يجدي في مثل الحب والبغض والإرادة والكراهة ، إذ نقول بان النفس بعد ما توجهت إلى شيء ولاحظته بتمام التوجه واللحاظ

ص: 108

يستحيل توجهها في ذاك الآن إلى شيء آخر يغايره ويباينه على نحو توجهها بما توجهت إليه أولا. وهذا المعنى من الوجدانيات التي لا تحتاج إلى إقامة البرهان عليه ، ولذا ترى من نفسك عند توجهك إلى أمر من الأمور العلمية أو غيرها الغفلة في ذلك الآن عن بقية الأمور ومن المعلوم انه ليس ذلك الا من جهة ما أشرنا إليه من الاستحالة. ومقايسته المقام بسائر صفات النفس من الحب والبغض ونحوهما ممنوعة ، بان مثل الحب والبغض ونحوهما أمور قهرية عارضة على النفس بلحاظ مناشئها الخاصة ، فمن ذلك أمكن اجتماعها عند فرض تعدد المتعلق وأين ذلك واللحاظ الذي هو من الأمور الاختيارية للنفس! فعلى ذلك لا فرق في الاستحالة بين القول بمرآتية اللفظ للمعنى أو اماريته فان مناط الاستحالة انما هو حيث اجتماع اللحاظين في آن واحد للحاظ واحد ، كان في العالم لفظ أم لا قلنا بمرآتية اللفظ أو أماريته كما هو واضح.

اللّهم الا ان يدعى بان ذلك انما يتم فيما لو كان المعنيان كل واحد منهما متعلقا لتمام اللحاظ على معنى ان تمام اللحاظ كما تعلق بهذا المعني كذلك تعلق أيضا بذلك المعنى الآخر ، إذ حينئذ يتوجه المحذور المزبور ولو على امارية اللفظ باعتبار ان لازم تعلق تمام اللحاظ بشيء هو الغفلة عما عداه. ولكنه ليس كذلك ، بل المدار في الاستقلال بحسب اللحاظ انما هو استقلال كل من المعنيين في عالم تعلق اللحاظ على نحو كان كل منهما تمام الملحوظ لا تمام الملحوظ بتمام اللحاظ ، والفرق بينهما واضح.

فعلى ذلك فلا بد من التفصيل بين القول بالمرآتية وبين القول بالأمارية في الجواز والامتناع ، بالمصير إلى الجواز عقلا في الثاني والامتناع عقلا في الأول ، ولكن حيث إن التحقيق في المسلكين هو مسلك المرآتية دون الا مارية كما تقدم بيانه في محله فلا جرم يتعين القول بالامتناع عقلا من دون فرق في الاستحالة بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد وبين التثنية والجمع فان مناط الاستحالة متحقق على جميع الصور والتقادير. واما الانتقاض ببابي العام الاستغراقي والوضع من حيث كون كل فرد من افراد العام محكوما بحكم شخصي مستقل وهكذا في الوضع في عام الوضع وخاص الموضوع له ، فمدفوع بما مر سابقا من خروج نحو ذلك عما هو مورد الكلام ، فان مورد الكلام كما عرفت انما هو صورة استعمال اللفظ في المتعدد بما هو متعدد بحسب اللحاظ بنحو يكون المعنيان كل واحد منهما تمام الملحوظ باللحاظ لا بحسب إرادة الوجود خارجا ، على أن الحكم في

ص: 109

مثل قوله أكرم العالم لايكون الا حكما واحدا متعلقا بأمر واحد وهو العنوان العام ، غايته هو انحلاله بحسب التحليل إلى احكام متعددة حسب تعدد افراد العام وأين ذاك وتعدده في مرحلة الانشاء الكلامي كما هو واضح كيف ولازمه انتهاء الامر إلى انشاءات احكام غير متناهية عند عدم تناهي افراد العام وهو كما ترى.

وكيف كان فهذا كله بناء على كون المراد من الاستقلال المبحوث عنه هو الاستقلال في مرحلة النسبة الكلامية الملازم مع الاستقلال بحسب اللحاظ ، وعليه قد عرفت بان التحقيق فيه هو الامتناع عقلا مطلقا بناء على ما هو التحقيق في وضع الألفاظ من المرآتية لا الأمارية من دون فرق بين الحقيقة والمجاز ولا بين المفرد والتثنية والجمع. واما بناء على إرادة استقلال ذات المعنى الملحوظ من الاستقلال المبحوث عنه فعليه قد عرفت جوازه عقلا مطلقا ولو على المرآتية في الألفاظ نظراً إلى وضوح امكان تعلق لحاظ واحد بأمور متعددة بما هي متعددة. وحينئذ فالاستعمال بهذا النحو مما لا مجال لدعوى امتناعه عقلا بل ولا يظن من القائل بالامتناع إرادة هذه الصورة فان تمام همهم في المنع عقلا انما هو صورة استقلال المعنيين بوصف الملحوظية.

نعم بعد ما أمكن هذا القسم من الاستعمال في نفسه ولم يقم برهان عقلي على امتناعه يبقى الكلام في جوازه لغة وانه هل يجوز ذلك مطلقا أو لايجوز كذلك أو يفصل بين المفرد وغيره؟ فنقول انهم ذكروا في المنع عن صحة الاستعمال على الوجه المزبور وجوها :

منها : ما افاده بعض المحققين في بدايعه حيث قال ما حاصله : ان الاستعمال على الوجه المزبور امر ممكن لم يقم على المنع عنه دليل عقلي ، ولكنه يمنع عن صحة استعماله عدم معهودية الاستعمال بهذا النحو في كلام العرب نظما ونثرا كما يظهر عند التتبع واستقراء كلماتهم ممن يعتد بشأنه من الخطباء وغيرهم ، فإذا فرض عدم مساعدة أهل اللسان على مثل هذا النحو من الاستعمال وخروجه عما هو المأنوس والمتعارف عندهم فلا جرم يكون الاستعمال غلطا غير صحيح من جهة عدم كونه من اللغة المتحاور فيها علاوة عما نرى بالوجدان من ابائه عن التعبير عن المعاني المختلفة بلفظ واحد ولو في الموارد المطلوب فيها الايجاز والاختصار.

أقول : ولايخفى عليك انه لو تم هذا الدليل لكان مقتضاه عدم الفرق في المنع بين المفرد وغيره ولا بين ان يكون الاستعمال بنحو الحقيقة أو المجاز.

ص: 110

ومنها : ما افاده صاحب المعالم قدس سره حيث منع عن الاستعمال المزبور في المفرد بنحو الحقيقة لاعتباره قيد الوحدة في الموضع له ، والتزم بالجواز في غيره حيث قال بعد اختيار الجواز : لنا على الجواز انتفاء المانع بما سنبينه من بطلان ما تمسك به المانعون ، وعلى كونه مجازا في المفرد تبادر المعنى منه مفردا عند اطلاق اللفظ فيفتقر إرادة الجميع إلى الغاء قيد الوحدة فيصير اللفظ مستعملا في خلاف موضوعه لكن وجود العلاقة المصححة للتجوز أعني علاقة الكل والجزء يجوزه فيكون مجازا. واستدل أيضا على كونه بنحو الحقيقة في التثنية والجمع بأنهما في قوة تكرار المفرد بالعطف ( انتهى كلامه قدس سره ) أقول : الظاهر أن مراده قدس سره من الوحدة التي اعتبرها في المعنى والموضوع له هي وحدة المعنى وانفراده عن الشريك في مرحلة الوضع لا الوحدة الذاتية التي يعتبرها العقل من المعنى كي يرد عليه : بأنه لا شبهة في بقاء المعنى على حاله حتى في حال استعمال اللفظ في المتعدد من دون انقلابه عما هو عليه من الوحدة الذاتية بانضمام الغير معه فكان المعنى على وحدته ولو انضم إليه الف معنى في مقام الاستعمال حيث كان المستعمل فيه حينئذ عبارة عن الف واحد ولا وحدة المعنى وجودا على معنى كون المعنى منفردا دائما بحسب الوجود ، كي يرد عليه : بأنه لا معنى لدعوى وضع اللفظ للمعنى بشرط انفراده في عالم الوجود وعدم وجود معنى آخر ، كيف وان مثل ذلك مما لاينبغي ان يحتمل صدوره عن عاقل فضلا عن مثله قدس سره الشريف وحينئذ فيتعين ان يحمل الوحدة المذكورة في كلامه على ما ذكرناه من وحدة المعنى وانفراده عن الشريك حال الوضع.

نعم على ذلك أيضا يتوجه عليه اشكال المحقق القمي قدس سره بعدم امكان اخذ مثل هذه الوحدة الناشئة من قبل قصر الوضع قيدا في ناحية المعنى والموضوع له لأنها باعتبار نشوها من قبل قصر الوضع تكون في رتبة متأخرة عن ذات المعنى والموضوع له ، ومع فرض تأخرها عنه رتبة يستحيل اخذها قيدا له وحينئذ فلابد من تجريد المعنى عن مثل هذه الوحدة أيضا ومع التجريد لايبقى الا ذات المعنى عارية عن حيث التقيد بالوحدة ، وعليه فلايكون استعمال اللفظ المفرد في المتعدد من الاستعمال المجازي ، بل امره دائر بين كونه غلطا من رأسه وبين كونه استعمالا حقيقيا. بل قد يقال بالمنع عن صحة الاستعمال المزبور مجازا أيضا ولو مع تسليم تقيد المعنى بقيد الوحدة والانفراد ، بتقريب ان المستعمل فيه اللفظ لما كان هو المعنى الملحوظ معه آخر فلا جرم يكون

ص: 111

الاستعمال المزبور من الاستعمال في المعنى المباين نظراً إلى مباينة المعنى المقيد بالانفراد عن الشريك مع المعنى معه الشريك وحينئذ فبعد ما لم يكن علاقة في البين تجوز الاستعمال المزبور فلا جرم يصير الاستعمال غلطا محضا.

ومنها : ما افاده المحقق القمي قدس سره في وجه المنع عن صحة الاستعمال المزبور حيث قال ما حاصله : بان الوضع انما كان في حال وحدة المعنى وانفراده ولو لم يكن بشرط الوحدة وحينئذ يكون التعدي عن تلك الحالة إلى حالة أخرى يعنى حالة انضمام الغير مع المعنى تعديا عما هو وظائف الوضع وخارجا عن قانونه ، وكل استعمال لا يلاحظ فيه وظائف الوضع كان خارجا عن قانون اللغة وكان من الأغلاط لعدم كونه من الحقيقة ولا المجاز. ولقد أورد عليه بان حال الوحدة بعد ما لم تكن قيدا للوضع ولا للموضوع له لا مانع عن جواز الاستعمال المزبور ، ومن ذلك ترى انه لا مانع عنه في الاعلام مع أن الوضع فيها كان في حال بعض الأوصاف حيث يصح استعمالها في مسمياتها عند زوال تلك الأوصاف بل وعند طرو ما يضادها أيضا. أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال عليه قدس سره إذ نقول : بان الغرض من الوضع بمقتضي صرافة الطبع بعد أن كان هو مرآتية اللفظ للمعنى في حال انفراده عن الشريك لا مطلقا حتى في حال عدم انفراده وانضمام معنى آخر إليه ، فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة الغرض وعدم سعته يطرء نحو ضيق أيضا على موضوع وضعه فيكون وضعه بهذا الاعتبار مقصورا في حال وحدة المعنى وانفراده عن الشريك ويكون الموضوع له أيضا عبارة عن نفس ذات المعنى لكن لا الذات المطلقة ولو كان معها الشريك ولا المقيدة بقيد الانفراد ، لما تقدم في جواب صاحب المعالم من امتناع اخذ مثل القيد الناشي من جهة قصر الوضع في ناحية المعنى والموضوع له. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم امكانه اخذ الوحدة والانفراد في ناحية الموضوع له وعدم اطلاقه أيضا حسب قصور دائرة الوضع فلا جرم لايبقى في البين الا ذات المعنى في حال الوحدة بنحو القضية الحينية لا الوصفية المعبر عنه في كلامه قدس سره بان الموضوع له هو المعنى في حال الوحدة لا بشرط الوحدة كي تكون قيدا للمعنى ولا لا بشرط الوحدة. وحينئذ فعلى ذلك لايبقى مورد للاشكال المزبور ، إذ نقول : بان عدم صحة الاستعمال المزبور حينئذ انما هو من جهة عدم اطلاق المعنى الموضوع له وتضيفه الناشي من قبل قصور الوضع إذ حينئذ يصير الاستعمال المزبور خارجا عن

ص: 112

قانون الوضع واللغة ويكون من الأغلاط.

نعم لو أن أحدا منع عن ذلك لابد له من المنع عن المقدمة الأولى بدعوى : ان الغرض من الوضع انما هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنا لا جعل المرآتية المطلقة له كي يلزمه قصور وضعه عن الشمول الا لحال انفراد المعنى عن الشريك فيترتب عليه عدم صحته استعماله في حال انضمام الغير معه ، وحينئذ فإذا لم يقتض الوضع الا مطلق مرآتية اللفظ للمعنى ولو في ضمن الغير يترتب عليه صحة الاستعمال في المعنيين فإذا كان اللفظ بحسب وضعه مشتركا بين المعنيين يكون استعماله فيهما استعمالا حقيقيا وإذا لم يكن. اللفظ مشتركا يكون الاستعمال المزبور بالنسبة إلى المعنى الحقيقي استعمالا حقيقيا لتحقق المرآتية بالنسبة إلى المعنى الآخر يكون الاستعمال استعمالا مجازيا ، هذا.

ولكن الانصاف هو بعد دعوى كون قضية الوضع هو جعل مطلق المرآتية للفظ بالنسبة إلى معناه ولو ضمنية كيف ولازمه في مثل قوله أكرم العالم مثلا هو الحكم بالاجمال من جهة عدم امكان استفادة ان العالم هو تمام الموضوع لهذا الحكم وذلك لاحتمال ان يكون الاستعمال المزبور في قوله ( العالم ) استعمالا في المعنى الحقيقي والمجازي الملازم في المثال لكون عنوان العالم جزء الموضوع لحكم وجوب الاكرام وجزئه الاخر معنى آخر مجازي ، ومن المعلوم انه مع هذا الاحتمال لا مجال للحكم بان تمام الموضوع للحكم المزبور هو عنوان العالم ما لم يكن هناك ما يدفع الاحتمال المزبور ، وحيث انه لايكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم نفس احتماله موجب للتوقف وعدم الحكم بأنه تمام الموضوع للحكم المزبور ، مع أن ذلك كما ترى خلاف ما استقر عليه بناء أهل المحاورة ، حيث لا شبهة في حكمهم في نحو المثال المزبور بان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وهذا بخلافه على المرآتية المطلقة فإنه عليه يكون للفظ بمقتضي وضعه ظهور في معناه وبمقتضى أصالة الظهور يحكم في المثال بان ما هو تمام الموضوع للحكم انما هو عنوان العالم الذي كان اللفظ حاكيا عنه ويدفع به احتمال كونه جزء الموضوع. بخلافه على مطلق المرآتية فإنه عليه لايكون للفظ ظهور في أن عنوان العالم هو تمام الموضوع للحكم بوجوب الاكرام كي يقتضي أصالة الظهور فيه دفع احتمال انضمام الغير معه في عالم الموضوعية للحكم ، بل أقصى ما يقتضيه الوضع حينئذ انما هو ظهور اللفظ في دخل

ص: 113

عنوان العالم في الموضوع ، واما كونه تمام الموضع فلا ، وحينئذ فبعد احتمال إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ العالم فلا جرم لابد من سد باب هذا الاحتمال ، وحيث انه لايكون في البين ما يدفع به الاحتمال المزبور فلا جرم لابد من التوقف والحكم بالاجمال. واما أصالة عدم القرينة فهي أيضا غير مثمرة ، لان أقصى ما تقتضيه انما هو نفى وجود الامارة على إرادة المجاز لا نفى احتمال إرادة المجاز واقعا ، نعم هي مثمرة بناء على المرآتية المطلقة لأنه عليه يكون وجود الامارة على المجاز مانعا عن التمسك بأصالة الحقيقة والظهور ، فبعد جريان أصالة العدم تجرى أصالة الظهور ويثبت بها ان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم. وحينئذ فنفس بناء أهل المحاورة وارتكازهم على عدم الاعتناء باحتمال إرادة المعنى المجازي في نحو المثال المزبور واستفادتهم ان ما هو تمام الموضوع هو نفس عنوان العالم ربما يساعد على المرآتية المطلقة وعليه يتوجه الاشكال المتقدم حيث إنه في فرض الاستعمال في المتعدد يدور امر ذلك الاستعمال بين كونه غلطا رأسا باعتبار خروجه عما عليه قانون الوضع واللغة كما افاده المحقق القمي قدس سره حتى بالنسبة إلى معناه الحقيقي وبين كونه مجازا بناء على فرض وجود العلائق المجوزة للاستعمال فعلى كل حال يخرج الاستعمال المزبور عن كونه استعمالا حقيقيا كما هو واضح. وكيف كان فهذا كله في المفرد.

واما التثنية والجمع : فالمصرح به في كلام جماعة منهم صاحب المعالم جوازه بنحو الحقيقة ، نظراً إلى دعوى كونهما في قوة تكرير المفرد بالعطف. ولكن التحقيق خلافه ، إذ نقول : بان ما يرى من التعدد في التثنية والجمع فإنما ذلك من جهة إفادة العلامة ذلك ، حيث كانت موضوعة بمقتضي وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد ، لا انه كان من جهة الاستعمال في المتعدد حتى يقال بجوازه في التثنية والجمع ، فالمدخول في مثل الرجلين والعينين لايكون إلا مستعملا في معنى واحد وهو صرف الطبيعة الا ان الهيأة فيهما دلت بمقتضي وضعها على تقيد ما يراد من المدخول بالتعدد وكونه في ضمن الوجودين ، وعليه فلايرتبط ذلك بمسألة استعمال اللفظ في المعنيين ، كما هو واضح. هذا إذا أريد من المدخول صرف الطبيعة التي هي معنى كلي قابل للتعدد ، ومن العلامة إفادة التعدد من المدخول ، أو تقيده بالتعدد كما هو التحقيق في كلية أوضاع الهيئات ولقد عرفت انه خروج عن كونه من الاستعمال في المتعدد. ومثله ما لو أريد التعدد من مجموع المدخول و

ص: 114

العلامة ، ولو بدعوى وضع المجموع مادة وهيئة للمتعدد نظير أوضاع الجوامد كما توهم ، إذ على ذلك المسلك أيضا يخرج الاستعمال المزبور عن كونه من الاستعمال في المتعدد ، كما هو واضح. واما لو أريد من المدخول التعدد : فاما ان يراد من العلامة أيضا تعدد ما يراد من المدخول على ما هو قضية وضعها ، واما ان يجعل العلامة قرينة على إرادة التعدد من نفس المدخول ، فان كان الأول ففساده واضح ، من جهة استلزامه حينئذ لان يكون مفاد التثنية في قولك ( رجلان وعينان ) أربعة ، وهو كما ترى ، فإنه مع مخالفته للوجدان لا يلتزم به أحد ، وان كان الثاني فلازمه صحة استعمال اللفظ في المتعدد ولو في المفرد ، فيبطل القول بالتفصيل بين المفرد وبين التثنية والجمع ، كما هو واضح. ولكن التحقيق في التثنية والجمع هو ما عرفت من أن استفادة التعدد انما هو من مدلول الهيئة والعلامة باعتبار وضعها لتقيد مدخولها بالتعدد وفي ضمن الوجودين ، وعليه قد عرفت بخروجها رأسا عن باب استعمال اللفظ في المتعدد ، فإنه بعد انحلال الوضع فيهما إلى وضعين بحسب المدخول والعلامة ، فلا جرم يكون المدخول دالا على صرف الطبيعة القابلة للتعدد والعلامة على تقيده بالتعدد.

ثم إن هذا كله في مثل أسامي الأجناس مما كان قابلا للتعدد واما ما لايكون قابلا للتعدد كالاعلام الشخصية وأسماء الإشارة فيشكل فيها امر التثنية الجمع إذ لا يجري فيها ما ذكرناه في تثنية أسامي الأجناس ، فلا بد فيها اما من الالتزام بان الوضع انما كان من قبيل وضع الجوامد وان مثل زيدان وهذان مثلا وضع مادة وهيئة مجموعا لفردين على خلاف أوضاع التثنية والجمع في أسامي الأجناس ، واما من الالتزام بكفاية مجرد الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في اللفظ فيها بلا حاجة إلى الاتفاق في المعنى أيضا ، أو الالتزام بالتأويل بالمسمى ليصير كليا قابلا للتعدد فيرد عليه العلامة. ولكن الجميع كما ترى ، اما الأول فلبعده جدا لكونه على خلاف الارتكاز فان وضع تثنية الاعلام بحسب الارتكاز انما هو كتثنية أسامي الأجناس وحينئذ فالتفرقة بينهما بجعل وضع التثنية والجمع في غير الاعلام الشخصية وضعا انحلاليا وفيها من قبيل وضع الجوامد في غاية السخافة كما هو واضح. واما الثاني فبمنع كفاية مجرد الاتفاق في اللفظ في التثنية والجمع بل يعتبر فيها علاوة عن الاتفاق في اللفظ الاتفاق بحسب المعنى أيضا. واما الثالث فبان التأويل بالمسمى من المجاز المحتاج إلى رعاية عناية فيه وهو مما يأبى عنه الطبع والذوق في مثل

ص: 115

زيدان وحسنان حيث لايكاد انسباق الذهن منه إلى المسمى بزيد بوجه أصلا ، نعم قد يفضى الحاجة إلى التأويل المزبور في بعض الموارد كما في قولك جئني بمن هو مسمى بزيد ، أو اعط الدرهم من هو مسمى بمحمد لكن ذلك أيضا مع إقامة القرينة الخاصة عليه وأين ذلك والمقام الذي لايرى فيه قرينة على ذلك ، على أنه لو سلم ذلك في مثل الاعلام الشخصية لايكاد يجرى الكلام المزبور في مثل أسماء الإشارة كهذين ونحوه مما له توغل محض في التعريف. ودعوى عدم كون مثل هذين من التثنية حقيقة بل هو من باب كونه موضوعا للإشارة إلى فردين بعيد جدا ، فان الظاهر أن مثل هذين تثنية لهذا ، لا انه موضوع بمجموعة مادة وهيئة للإشارة إلى الفردين من المذكر كما هو واضح ، وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتوجه الاشكال بأنه كيف المجال لتثنية الاعلام وأسماء الإشارة مع عدم قابلية المدخول فيها للتعدد.

وحينئذ فالأولى في حل الاشكال هو ان يقال : بان التثنية والجمع في باب الاعلام في نحو زيدان وزيدون انما هو باعتبار لفظ زيد الذي هو كلي قابل للتعدد لا باعتبار مدلوله ومعناه ، نظير باب استعمال اللفظ في نوعه ، فأريد من المدخول حينئذ نفس طبيعة اللفظ ومن العلامة تقيده بالتعدد ولكنه لا بنحو يكون اللفظ بنفسه منظورا استقلاليا في قبال معناه بل بما انه مرآة إلى معناه بحيث كان النظر إليه نظراً عبوريا وكان المنظور بالاستقلال هو المعنى ، كما في قولك : رأيت زيد بن أي زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، في قبال ما لو كان المنظور بالاستقلال هو اللفظ خاصة ، كقولك : اكتب زيدين أو اقرأ زيدين ، حيث كان النظر الاستقلالي فيهما بتمامه إلى خصوص اللفظ بلا نظر إلى مدلوله ومعناه ، وعليه فيدفع الاشكال المزبور حيث نقول : بأنه يراد من العلامة في مثل زيدين فردان من طبيعة لفظ زيد على نحو يكون كل فرد حاكيا عن معنى خارجي. هذا بالنسبة إلى الاعلام الشخصية.

واما أسماء الإشارة فالامر فيها أسهل بناء على ما تقدم منا في المبهمات من دعوى كونها موضوعة للذوات المبهمة بما هي متخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية ونحوهما بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، حيث إنه على هذا المسلك يكون المدخول في مثل هذين والذين وهما ، مفاده كليا قابلا للتعدد ، كما في أسامي الأجناس ، فمن هذه الجهة يكون حالها حال أسامي الأجناس بلا ورود اشكال فيها ، نعم على المسلك الآخر فيها من وضعها

ص: 116

لمصداق الإشارة إلى المفرد المذكر كما ادعى لا شكل امر التثنية والجمع فيها ، فمن ذلك لابد من القول في مثل هذين بان الوضع فيه انما هو كوضع الجوامد بدعوى ان هذين وضع مادة وهيئة وضعا واحدا للإشارة إلى الفردين من المذكر فلايكون تثنية حقيقة ، ولكنه قد تقدم سخافة هذا المسلك ، فان لازم جعلها موضوعة لنفس الإشارة انما هو صيرورة معناها معنى حرفيا ولازمه هو عدم جواز اجراء احكام الاسم عليها من الاخبار عنها تارة وبها أخرى مع أنه كما ترى ، وحينئذ فكان صحة اجراء احكام الأسماء عليها كاشفا عن فساد المسلك المزبور. وهذا بخلافه على ما اخترناه من المسلك في أوضاع المبهمات من جعل الموضوع له فيها عبارة عن الذوات المبهمة المتخصصة بخصوصية الإشارة أو المعهودية أو غيرهما ، حيث إنه باعتبار اسمية مداليلها كان المجال لاجراء احكام الاسم عليها كما أنه باعتبار كلية مداليلها يصح أيضا تثنيتها وجمعها كما في أسامي الأجناس من دون منافاة ذلك أيضا مع كونها معرفة لما تقدم في محله بأن جهة تعرفها انما كانت بلحاظ تقيد مداليلها بالإشارة أو المعهودية الذهنية كما لايخفى فتدبر.

تنبيه

قد يقال : بأنه كيف منعتم عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع أنه واقع في الكتاب العزيز على ما نطق به غير واحد من الاخبار بان للقرآن بطونا سبعة أو سبعين ، ولكنه يندفع ذلك بامكان ان يكون المراد من البطون في الاخبار ما هو من اللوازم للمعنى المطابقي التي كان بعضها اخفى من بعض ولا يصل إليها عقولنا ولايعلمها الا من خوطب به ، إذ عليه لايكون ذلك مربوطا بمسألة استعمال اللفظ في المتعدد كي ينتج للقائل بالجواز ، ومع الغض عن ذلك نقول أيضا : بأنه يمكن ان يكون المراد من البطون هي المصاديق العديدة لمعنى واحد كلي التي تتفاوت في الظهور والخفاء ، وعليه أيضا لايرتبط ذلك بباب استعمال اللفظ في المتعدد إذ المستعمل فيه حينئذ لايكون إلا معنى واحدا كليا ، غايته انه لذلك المعنى الكلي مصاديق عديدة بعضها اخفى من بعض بحيث لا يصل إليها عقولنا ولايعلمها الا النبي صلی اللّه علیه و آله والوصي والأئمة من ولده علیهم السلام لكونهم هم المخاطبين به فباعتبار خفاء تلك المصاديق وعدم علمنا به

ص: 117

عبّر عنها في الاخبار المروية عنهم علیهم السلام بالبطون ، فتدبر.

الامر الثاني عشر في المشتقات

اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال ، أو انه حقيقة في الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ ، وذلك بعد وفاقهم على كونه مجازا في الاستقبال ، ولتنقيح المرام في المقام لابد من ذكر أمور :

الأول في بيان الحال المتنازع فيه في المقام وانه عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ وتلبسه بها؟ أو انها عبارة عن حال الجري والتطبيق على المصداق الخارجي كما هو ظاهر بعضهم حسب اقتضاء تحريرهم عنوان البحث ، أو انه عبارة عن حال النسبة الكلامية ، وتوضيح المقال في ذلك يحتاج إلى بيان ما هو مورد النزاع وانه هل هو في مدلول الكلمة والمفرد أو في مدلول الهيئة؟ فنقول : لاينبغي الاشكال في أن ما هو مورد البحث والكلام بين الاعلام وما يرجع إليه لب النزاع انما هو مدلول الكلمة وان ما هو المدلول لكلمة الضارب والعالم ونحوهما مع قطع النظر عن مرحلة جريه وتطبيقه على المصداق الخارجي أو ورود حكم عليه ووقوعه في حيز الهيئة الكلامية هل هو عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق أو المبدأ القائم بالذات مطلقا ( على اختلاف المسلكين في المشتق من مأخوذية الذات فيه أو عدم مأخوذية الذات فيه وكونه عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط ) أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها متحققة في سابق الزمان؟ حيث كان القائل بالتلبس في الحال يدعى وضع المشتق للذات المتلبسة بالمبدأ على الاطلاق الملازم لعدم انطباقه خارجا الاعلى المتلبس بالمبدأ في الحال ، والقائل بالأعم يدعى الوضع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة من الذات مما مضى الملازم لصحة جريه وتطبيقه خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ سابقا المنقضي عنه في الحال.

ولئن شئت فاستوضح ذلك بقولك زيد الضارب حيث ترى في ذلك نسبا طويلة مترتبة بعضها على بعض :

الأولى : نسبة تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به مع قطع النظر عن مقام جريه وتطبيقه

ص: 118

على المصداق الخارجي كما لو كنا نحن ونفس مفهوم الضارب بما هو هذا المفهوم حيث يرى من ذلك ذات لها نسبة إلى المبدأ أو مبدأ له نسبة إلى الذات بنسبة قيامية مثلا ، كان في العالم لهذا المفهوم مصداق أو لم يكن.

الثانية : نسبة انطباق تلك المتلبس والمتصف بالمبدأ على المصداق الخارجي وهو زيد مثلا في مثل قولك : زيد الضارب والشجرة المثمرة فان مثل هذه النسبة كان ظرفها متأخرا عن ظرف نسبة تلبس الذات بالمبدأ.

الثالثة : النسبة الحكمية في مثل قولك : أكرم زيدا الضارب حيث نسبت الاكرام إلى زيد المنطبق عليه الذات المتلبسة بالمبدأ فبهذه الجهة كان ظرف هذه النسبة متأخرا عن الأوليين.

وبعد ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن ما هو مورد البحث والنزاع انما هو النسبة بالمعنى الأول وهي نسبة تلبس الذات بالمبدأ أو نسبة قيام المبدأ بالذات ، على اختلاف المسلكين ، دون نسبة انطباق الذات المتلبسة على المصداق ، كيف وانك في وقولك : زيد الضارب والشجرة المثمرة ترى ان المشتق بما له من المدلول ينطبق على زيد ويجري عليه ، وحينئذ فلا محيص مما ذكرنا من جعل مورد البحث والنزاع في مدلول الكلمة ، أعني كلمة الضارب والعالم ، مع قطع النظر عن مقام جريه وانطباقه على المصداق أو ورود حكمه عليه ، فينازع بان مدلول هذه الكلمة عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ على نحو الاطلاق بنحو يلازم عدم صحة جريه وتطبيقه الا على المتلبس بالمبدأ في الحال ، أو انه عبارة عن الذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى الملازم لصحة انطباقها خارجا ولو على المتلبس بالمبدأ خارجا المنقضي عنه في الحال ، وعليه يكون النزاع في صحة اطلاق المشتق وجريه على الذات المنقضي عنها المبدأ في الحال وعدم صحته من لوازم النزاع في مدلول الكلمة وتبعاته ، لا انه بنفسه مورد البحث والنزاع كما هو واضح. ومن ذلك البيان ظهران الحال المتنازع فيه في المقام لابد وأن يكون عبارة عن حال تلبس الذات بالمبدأ ، دون حال الجري والتطبيق كما يقتضيه ظاهر بعضهم ، ودون حال النسبة الكلامية ، كيف وانه على الآخرين لا يرجع النزاع في الحقيقة والمجاز إلى المجاز في الكلمة والحقيقة فيها ، بل مرجعه حينئذ إلى المجاز في الاسناد والحقيقة فيه الذي هو خارج عن مدلول الكلمة ، وهو المشتق ، كما هو واضح.

ص: 119

ومن ذلك نقول : بان حق تحرير عنوان المسألة في المقام هو تحريره بان المشتق ، أي كلمة ضارب مثلا ، هل موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق ، أو انه موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ في الجملة ولو بقطعة منها مما مضى بالغاء عنوان الحال رأسا ، كي لا يختلط بحال الجري والتطبيق أو حال النسبة الكلامية أو تحريره بان المشتق موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ حال تلبسها به ، أو انه موضوع له يعمه وغيره من حالات خلو الذات عن المبدأ لكي ينطبق على ما ذكرناه.

الامر الثاني قد عرفت بأنه على القول بالأعم كما يصح اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدأ فعلا كذلك يصح اطلاقه وجريه على المنقضي عنه المبدأ فعلا بمحض تلبس الذات به في سابق الزمان ، ولو كان حال الجري متلبسا بما يضاد الوصف السابق. واما على القول بالتلبس الفعلي فلابد في صحة اطلاق المشتق وجريه من فعلية تلبس الذات بالمبدأ في الظرف الذي لو حظ فيه الجري ، فإذا كان زيد غير متلبس بالقيام في الحال وقد كان تلبسه به في سابق الزمان لايصح اطلاق القائم عليه في الحال بقولك زيد قائم الآن ، نعم لو كان جرى المشتق لا بلحاظ الحال بل بلحاظ ظرف تلبسه به ماضيا أو مضارعا صح الجري المزبور أيضا وكان بنحو الحقيقة ، ففي مثل زيد كان قائما بالأمس أو زيد يكون قائما في الغد يكون بنحو الحقيقة إذا كان التلبس بالقيام أيضا في الأمس في الأول وفي الغد في الثاني ، وإذا كان التلبس في أمس الأمس يكون مجازا على هذا القول ، كما أنه في الثاني إذا كان التلبس في غد الغد يكون مجازا على القولين ، وحينئذ فلابد على القول باعتبار التلبس الفعلي من ملاحظة فعلية التلبس في الزمان الذي لو حظ فيه الجري ماضيا أو مضارعا أو حالا.

بل ولئن دققت النظر ترى ان العبرة كلها على زمان المجرى عليه لا على زمان الجري والتطبيق فإذا كان المجرى عليه بالجري الفعلي هو القطعة المتلبسة بالمبدأ من الذات سابقا ، أو كان هو القطعة المتلبسة به لا حقا صح الجري وكان بنحو الحقيقة ولو كان الجري فعليا وحينئذ فلايحتاج على القول بالتلبس الفعلي في صحة الجري حقيقة إلى اتحاد ظرف الجري مع ظرف المجرى عليه كما في الأمثلة المتقدمة كي يحتاج إلى جعل الجري أيضا بلحاظ حال التلبس ماضيا أو مضارعا فنقول : زيد كان قائما بالأمس أو يكون قائما في الغد أو الآن ، وعمدة النكتة في ذلك انما هو تساوى تلك القطعات الثلاث

ص: 120

في المصداقية لهذا المفهوم الكلي الذي هو مدلول كلمة القائم وهو الذات المتلبسة بالمبدأ بقول مطلق فإنه كما أن القطعة المتلبسة بالقيام فعلا مصداق حقيقي للقائم فيصدق عليه هذا المفهوم كذلك أيضا القطعة المتلبسة به سابقا فإنه بمجرد تلبسها بالقيام يصير تلك القطعة فردا ومصداقا حقيقيا للقائم ويصدق عليه هذا المفهوم كصدقه على المتلبس الحالي بالمبدأ من دون ان يخرج تلك القطعة عن الفردية بوجه أصلا ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى القطعة المتلبسة بالقيام لا حقا فإنه بعد ما يرى العقل تلبسها بالقيام في الغد يرى كونها مما ينطبق عليها مفهوم القائم فيحكم فعلا بكونها فردا ومصداقا له وان لم يكن لها وجود في الخارج فعلا ، لان مصداقية شيء وفرديته لعنوان كلي غير منوط بوجوده فعلا في الخارج لان الخارج دائما ظرف وجود الفرد فارغا عن مصداقيته وفرديته ، ومن ذلك لو وقع مثل هذا العنوان موضوعا لحكم الشرعي في لسان الدليل كقوله أكرم العالم مع كون المطلوب هو صرف وجود الاكرام المضاف إلى طبيعة العالم المنطبق على أول وجود منه ترى حكم العقل في مثله بالتخيير بين اكرام الفرد الفعلي الموجود حال الخطاب وبين اكرام غيره من الافراد التدريجية التي توجد بعد ذلك ، نظير حكمه بالتخيير بين الافراد التدريجية من الصلاة من أول الظهر إلى الغروب في الفرائض اليومية فلو لا مصداقية الموجود المتأخر للعام فعلا لما كان وجه لحكمه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الفعلي وبين الاتيان بالفرد الاستقبالي في موطنه كما هو واضح فتدبر. وحينئذ نقول : بأنه إذا كانت تلك القطعات الثلاث من الذات أي القطعة المتلبسة بالمبدأ سابقا والقطعة المتلبسة به حالا والمتلبسة به لاحقا كل واحدة منها مصداقا لمفهوم القائم وينطبق عليها هذا المفهوم الكلي بنحو الحقيقة فلا جرم يلزمه صحة جرى مفهوم القائم فعلا على القطعة السابقة واللاحقة كصحة جريه على القطعة المتلبسة بالقيام فعلا فيصح حينئذ ان يجرى المشتق فعلا ويطبقه على تلك القطعة من الذات التي تلبست سابقا بالقيام أو التي تتلبس به في المستقبل كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر نكتة أخرى وهي عدم كفاية مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه حقيقة في المتلبس الفعلي أو الأعم منه والمنقضي عنه المبدأ في استنتاج النتيجة المعروفة من وجوب الاكرام وعدم وجوبه في مثل قوله : يحب اكرام العالم ، وكراهة البول تحت الشجرة المثمرة في قوله : يكره البول تحت الشجرة المثمرة ما لم ينضم إليه

ص: 121

دعوى ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف الاكرام خارجا مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس ، ولو للانصراف ، إذ لولا دعوى مثل هذا الظهور للهيئة الكلامية في اتحاد الظرفين أمكن في أمثال تلك الموارد دعوى ان الجري الفعلي فيها كان على المجرى عليه السابق لا على المصداق الفعلي ، ولقد عرفت كون الجري المزبور حينئذ على نحو الحقيقة ولو على القول بالتلبس الفعلي ولازمه حينئذ هو وجوب الاكرام وكراهة البول على كلا القولين ولو مع عدم تلبس الذات بالمبدأ فعلا بان كان تلبسها به في سابق الزمان ، وعليه فتنتفي الثمرة المزبورة التي جعلوها ثمرة البحث بين القولين في المسألة. نعم لو ورد في لسان الدليل : بأنه أكرم من كان عالما بالأمس أو أكرم العالم الفعلي بنحو يستفاد منه كون ظرف الجري فيه بعينه هو ظرف المجرى عليه لكان المجال لاستنتاج النتيجة المزبورة فإنه على القول بالأعم يجب الاكرام في المثالين المزبورين ولو لم يكن التلبس بالمبدأ متحققا بالأمس في المثال الأول وبالفعل في الثاني ، بخلافه على القول بالتلبس الفعلي فإنه عليه لايجب الاكرام في المثالين إلا إذا كان التلبس بالمبدأ متحققا في ظرف الجري الذي هو الأمس أو الآن كما هو واضح ، ولكن مثل هذا اللسان لعدم وجوده في الأدلة أو لندرته يحلق بالعدم ومعه يتوجه الاشكال المزبور في استنتاجهم الثمرة المزبورة بين القولين في المسألة بقول مطلق. وحينئذ فلا محيص في استنتاج النتيجة المزبورة على الاطلاق من نزاع آخر في مدلول الهيئة الكلامية من نحو قوله : أكرم العالم واهن الفاسق ويكره البول تحت الشجرة المثمرة علاوة عن النزاع في مدلول كلمة المشتق وهي العالم والفاسق ونحوهما ، من دعوى ظهور الهيئة في الكلام في اتحاد ظرف الاكرام المضاف إلى العالم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس كما هو الظاهر أيضا ، كي بعد اثبات هذا الظهور للهيئة في نحو تلك القضايا في اتحاد الظرفين ولو من جهة الانصراف يترتب النتيجة المزبورة فتدبر.

الامر الثالث لايخفى عليك خروج المصادر والافعال عن حريم هذا النزاع لان المشتق المبحوث عنه في المقام انما هو المفاهيم الجارية على الذوات المنتزعة عنها بلحاظ اتصافها بالمبدأ واتحادها معه وجودا ، وعليه فيخرج قهرا المصادر المجردة والمزيدة ، وكذا الافعال ماضيها ومضارعها وأمرها ونهيها ، نظراً إلى انها غير جارية على الذوات ، من جهة ان المصادر وكذا الافعال لا دلالة فيها بمقتضي وضعها الا على مجرد المبدأ ونسبة له إلى ذات

ص: 122

ما بنسبة تصورية كما في المصدر ، أو نسبة تصديقية كما في الافعال ، وحينئذ فلايكون فيها ما يكون وجهة وعنوانا للذات وجاريا عليها ، ومجرد الاسناد بين الفعل والفاعل في قولك : زيد ضرب غير الحمل والاتحاد كما لايخفى. ومن ذلك البيان ظهر أيضا نكتة الفرق بين المشتق ومبدئه من حيث اباء الثاني عن الجري على الذات والحمل عليها دون الأول ، حيث كان السر في امتناع الأول عن الجري على الذات من جهة اخذه بنحو يرى كونه في قبال الذات فمن هذه الجهة يأبى ويعصى عن الجري عليها ، بخلاف المشتق فإنه باعتبار اخذه وجهة وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا يأبى عن الجري على الذات والحمل عليها ، وسيجيء مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء اللّه تعالى ، فالمهم والمقصود في هذا المقام انما هو اخراج المصادر والافعال عن حريم النزاع وتخصيص مورد النزاع بما يكون جاريا على الذات.

على أن هذا النزاع انما يختص بمورد يتصور فيه الانقضاء والبقاء وهذا المعنى غير متصور في المصادر والافعال فان المصادر وكذا الفعل الماضي لايتصور فيهما الذات القابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى وكذا فعل المضارع فإنه لايتصور فيه أيضا الانقضاء كما لايخفى.

ثم انه لما انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف البيان إلى ذكر شطر من المباحث الراجعة إلى المشتقات وكيفية أوضاعها من المصادر والافعال والأسماء وبيان الفارق بين الافعال والأسماء وان كان الأنسب هو ذكر هذه الجهة في التنبيهات عند التعرض لبيان مفهوم المشتق من حيث التركيب والبساطة فنقول : ان هنا جهتين من الكلام

الجهة الأولى : اعلم أن كل باب من أبواب المشتقات من مصادرها وأفعالها مثل الضرب ( بالسكون ) وضرب ( بالفتح ) وضارب ومضروب ونحوها كان كل واحد منها مشتملا على هيئة مخصوصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره من الصيغ سارية في جميعها بحيث لايكاد يمكن التلفظ بها باعتبار اندكاكها الا في ضمن هيئة مخصوصة ولو كانت تلك الهيئة هيئة ضاد وراء وباء ، ولهذه المادة السارية المحفوظة في جميع تلك الصيغ أيضا معنى هو مثلها في التجرد بنحو لايمكن تصوره واخطاره في الذهن الا بتعين خاص كان ذلك التعين هو المعنى الاسم المصدري أو غيرهما ، وحينئذ فكانت تلك المادة المحفوظة في جميع تلك الصيغ من المصادر والافعال والأسماء بما لها من المعنى

ص: 123

الساري فيها هو الأصل المحفوظ في المشتقات ، دون غيرها كالمصدر أو الفعل ، كما اشتهر ان الأصل في المشتقات هو المصدر كما عن جماعة من علماء الصرف أو هو الفعل كما عن جماعة أخرى منهم ، إذ من الواضح انه لا أصل لهذا الأصل بعد وضوح المباينة التامة بين المعنى المصدري بما له من الحدود مع غيره من المشتقات كوضوح البينونة بين بعضها وبعضها الاخر ، ومعه كيف يمكن ان يكون المصدر أو الفعل هو الأصل المحفوظ في المشتقات ومادة سارية فيها ، كيف وان المصدر أيضا كغيره من الصيغ من الماضي والمضارع وأسماء الفاعلين والمفعولين ، فكان له أيضا هيئة خاصة ومادة مشتركة بينه وبين غيره ، تدل المادة فيه على معنى حدثي والهيئة على إضافة هذا المبدأ إلى ذات ما ونسبته إليها بنسبة تصورية ، وحينئذ فما هو الأصل المحفوظ والساري في جميع المشتقات لايكون الا ذلك المعنى الحدثي المجرد عن جميع التعينات وان لم يمكن تصوره واخطاره في الذهن الا في ضمن تعين خاص ، نعم لما كان الأقرب إلى ذلك المعنى المجرد هو المصدر من بين سائر المشتقات باعتبار دلالته على مجرد المبدأ وهو الحدث المضاف إلى ذات ما وعرائه عن خصوصية الزمان ، وبعده كان الأقرب إليه الفعل الماضي والمضارع بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين نظراً إلى تقدمهما الرتبي عليها من جهة اشتمالهما على النسب التامة كما هو الشأن في كلية المركبات التامة بالقياس إلى القضايا التقييدية والمركبات الناقصة فبهذا الاعتبار أمكن دعوى ان ما هو أقرب إلى ذلك المعنى المجرد ، من جهة قلة وجدانه للخصوصيات بحسب اللفظ والمعنى ، يكون أصلا بالنسبة إلى ما كثر فيه الخصوصية بحسب المعنى أو اللفظ ، فنجعل مدار الأصلية والفرعية على مثل هذه الأقربية الاعتبارية ، وندعي ان المصدر أصل بالنسبة إلى الفعل الماضي والمضارع وغيرهما من المشتقات ، وان فعل الماضي أصل بالنسبة إلى المضارع لمكان اشتمال فعل المضارع على خصوصية زائدة ولو بحسب اللفظ ، وان فعل مضارع أصل بالنسبة إلى أسماء الفاعلين والمفعولين باعتبار تقدمه الرتبي عليها.

وعلى ذلك أيضا أمكن توجيه كلامهم في أصلية المصدر بالنسبة إلى سائر المشتقات بجعل مدار الأصلية على الأقربية إلى ذلك المعنى المجرد الساري في جميع المشتقات بتقريب ان المصدر حيثما كان أقرب إلى ذلك المعنى المجرد من سائر المشتقات أوجب ذلك كونه أصلا لسائر المشتقات ومادة سارية فيها بالنظر العرفي المسامحي فأطلقوا عليه بأنه هو

ص: 124

الأصل في المشتقات. لايقال : على ذلك لم لا يجعل الأصل فيها المعنى الاسم المصدري مع أنه من جهة تجرده عن خصوصية النسبة أيضا يكون أقرب من المعنى المصدري ، فإنه يقال : نعم ، ولكنه باعتبار تجرده عن النسبة بل وعدم كون الوضع فيه وضعا انحلاليا وكونه من قبيل وضع الجوامد عد كونه مبائنا مع سائر المشتقات وخارجا عنها فلذلك لم يعتنوا بجهة أقر بيته فجعل الأصل فيها ما كان من سنخ المشتقات مما يكون واجدا للنسبة ويكون وضعه انحلاليا ، ومن المعلوم ان الأقرب منها حينئذ لايكون الا المصدر كما هو واضح.

واما ما يظهر من بعضهم : من أن الأصل فيها هو الفعل الماضي أو المضارع فلعل الوجه فيه هو جهة تقدم الفعل رتبة باعتبار اشتماله على النسب التامة على المصدر واسم الفاعل والمفعول لأنهما أي المصدر والوصف لاشتمالهما على النسب الناقصة يكونان من القضايا التقيدية المتأخرة رتبة عن القضايا التامة كما عرفت بيانه في مبحث الحروف ، هذا ، ولكن لايخفى عليك ان ذلك كله انما هو لمحض المماشاة مع القائلين بان المصدر أو الفعل هو الأصل في المشتقات وإلا فقد عرفت ان حديث الأصلية والفرعية مما لا أصل له وان كلا من المصدر والفعل أصل برأسه في قبال البقية كما هو واضح.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر لك حال الوضع في المشتقات من كونه وضعا انحلاليا باعتبار المادة والهيئة لا وضعا جامديا كي يكون مجموع المادة والهيئة في كل واحد من الصيغ موضوعا لمعنى خاص ، فكانت المادة السارية في كل واحد من المصدر وغيره من كل باب موضوعة بوضع نوعي للدلالة على نفس الحدث وهو المعنى المجرد المحفوظ فيها ، وكانت الهيئة أيضا في كل واحد من الصيغ موضوعة بوضع شخصي للدلالة على نسبة الحدث إلى الذات فوضع من الهيئة مثلا ما كان على زنة فعل ( بالسكون ) للدلالة على نسبة الحدث إلى الذات وهكذا ما كانت على زنة فعل ( بالتحريك ) ويفعل وفاعل ومفعول وفعيل ومفعل ومفعال ونحو ذلك كل ذلك للدلالة على النسبة على اختلاف أنحائها من الصدور والايجاد والوقوع والحلول والظرفية وغيرها كما هو واضح.

الجهة الثانية : قد اشتهر في كلماتهم دلالة الفعل على زمان حتى أنهم أخذوا الاقتران بالزمان في تعريفه وجعلوه فارقا بينه وبين الأسماء ، فعرفوا الاسم بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، والفعل بأنه كلمة تدل على معنى في نفسه

ص: 125

مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، قال شارح الجامي : ( الفعل ما كان دالا على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة باعتبار معناه التضمني أعني الحدث ) ونحوه كلام ابن مالك في منظومته قال :

( المصدر اسم ما سوى الزمان من *** مدلولي الفعل كامن من امن )

وظاهر كلامهما هو كون الزمان مدلولا تضمنيا للفعل. وأصرح من ذلك عبارة نجم الأئمة حيث قال فيما حكى عنه ، في شرح قول ابن الحاجب : الاسم ما دل على معنى غير مقترن بأحد الأزمنة ، ما لفظه المحكى عنه : ( قوله غير مقترن صفة بعد الصفة لقوله معنى ، ويبين معنى قوله غير مقترن ببيان قوله في حد الفعل : بأنه ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، أي على معنى واقع في أحد الأزمنة الثلاثة معينا بحيث يكون ذلك الزمان المعين أيضا مدلول ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى بوضعه له أولا ، فيكون الظرف والمظروف مدلولي لفظ واحد بالوضع الأصلي ) إنتهى ، ومثله أو ما يقرب منه عبائر غيره من النحويين فراجع حيث ترى اطباقهم ظاهرا على دلالة الفعل على الزمان بمقتضى وضعه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو خلافه كما يظهر وجهه بالتأمل فيما ذكرنا من انحلال الوضع في المشتقات إلى وضع نوعي للمادة فيها ووضع شخصي للهيئة في كل واحد من الصيغ ، إذ نقول : بان الدلالة المزبورة لو كانت فاما ان تكون من طرف المادة أو من طرف الهيئة مع أنه لايكون في شيء منهما الدلالة وضعه على ذلك ، وذلك اما المادة فلما تقدم بان وضعهما انما هو للدلالة على نفس المعنى الحدثي خاصة ولذلك لا ينسبق في الذهن جهة خصوصية الزمان في مثل المصدر والوصف، واما الهيئة فكذلك أيضا لأنها انما وضعت للدلالة على مجرد النسبة بين المبدأ والفاعل وحينئذ فأين الزمان الذي ادعى كونه جزء من مدلولي الفعل؟ وأين الدال عليه بعد عدم دلالة شيء من المادة والهيئة عليه؟ نعم لو قيل : بان الوضع في المشتقات أو في خصوص الافعال كان من قبيل الوضع في الجوامد كان لما ذكروه كمال مجال حيث أمكن حينئذ دعوى وضع مجموع المادة والهيئة للمعنى المقيد بالزمان ، ولكنه خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون من انحلال الوضع في المشتقات طرا إلى وضعين : وضع للمادة نوعيا ووضع للهيئة شخصيا ، بل وخلاف ما هو المنساق المتبادر في الذهن أيضا من مثل قوله : ضرب زيد من جهة وضوح انه لا يجيء ولا ينسبق في الذهن منه الا الحدث المرتبط بالذات لا المعنى التركيبي من

ص: 126

الحدث والزمان. هذا كله مضافا إلى ما أورد عليه أيضا بلزوم الالتزام بالمجاز أو تعدد الوضع في الافعال المنسوبة إلى المجردات مثل ( كان اللّه ولم يكن معه شيء ) و « كان اللّه على كل شيء قدير » وفى الافعال المنتسبة إلى نفس الزمان كقولك : مضى الزمان وانقضى الدهر ، فإنه بعد وضوح عدم مأخوذية الزمان في نحو هذه الأفعال في الأمثلة المزبورة ، فلا بد على تقدير اخذ الزمان جزء لمدلول الفعل اما من التجريد عن خصوصية الزمان والالتزام بالمجاز واما الالتزام بتعدد الوضع وكلاهما فاسدان كما هو واضح.

نعم : حيثما ان في الافعال في مثل الفعل الماضي والمضارع خصوصية زائدة عن المعنى الحدثي الذي هو مبدء الاشتقاق بنحو ينسبق منها في الذهن جهة السبق في الماضي واللحوق في المضارع أمكن دعوى الدلالة عليه بنحو الالتزام ، بتقريب انه كما أن للمبدأ نحو خصوصية وربط خاص بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل كذلك له نحو خصوصية وربط بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه بنحو ينتزع عنه مفهوم السبق في الماضي واللحوق في المضارع وذلك أيضا لا بمعنى خصوص السبق واللحوق الزمانيين بل الأعم منه ومن غيره ، فيكون السبق زمانيا فيما لو انتسب إلى الزمانيات ، وذاتيا فيما لو انتسب إلى نفس الزمان ، ورتبيا فيما لو انتسب إلى المجردات كقولك وجد العلة فوجد المعلول مع وضوح عدم تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان. وحينئذ فيقال : بان المادة في الافعال موضوعة للدلالة على نفس الحدث والهيئة فيها لتلك الخصوصية والربط الخاص القائم به بنحو ينحل ذلك الربط بالتحليل إلى نحوين من الربط : ربط له بالنسبة إلى ما يقوم به وهو الفاعل والذات وربط له بالنسبة إلى الظرف الذي يقع فيه من حيث السبق واللحوق ، وحينئذ فبهذا الاعتبار تكون الهيئة في الافعال دالة على الزمان ولكنه لا بالمطابقة ولا بالتضمن بل بنحو الالتزام نظير دلالتها على الفاعل والذات حيث كانت تلك أيضا بنحو الالتزام كما لايخفى. ولعله إلى ذلك أيضا نظر صاحب الكفاية قدس سره من قوله : نعم لايبعد ان يكون لكل من الماضي والمضارع خصوصية موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي وفى الحال أو الاستقبال في المضارع. ثم انه بمثل هذا البيان أيضا أمكن ان يوجه كلامهم بدلالة الفعل على الزمان وذلك بحمل الدلالة في كلامهم على الدلالة بنحو الالتزام بالبيان الذي ذكرنا ودخول الزمان فيه على الدخول بنحو خروج القيد ودخول التقيد وان كان لا يساعد لهذا الحمل كلام بعضهم فتدبر.

ص: 127

الامر الرابع لايخفى عليك اختصاص هذا النزاع بخصوص الأوصاف التي تنتزع من امر خارج عن الذات بنحو أمكن تخلف الذات عنها ويتصور فيها الانقضاء فيخرج حينئذ الأوصاف المنتزعة عن حاق ذات الشيء التي لايكاد يتصور تخلف الذات عنها كالمحمولات بالضميمة كالحيوانية والانسانية والناطقية والصاهلية ، فإنها بملاحظة عدم تخلف الذات عنها لايكاد يتصور فيها الانقضاء حتى تكون مطرحا للنزاع كما لايخفى.

نعم قد يشكل الامر حينئذ بالنسبة إلى بعض المفاهيم كأسماء الزمان ونحوها من الأمور التدريجية الغير القارة فإنه لما لم يكن فيها ذات ممتدة قارة قابلة للتلبس بالمبدأ تارة والخلو عنه أخرى أشكل عليهم بلزوم خروجها عن موارد النزاع فمن ذلك وقعوا في حيص وبيص وصاروا بصدد دفع الاشكال بوجوه :

منها : ما افاده صاحب الكفاية قدس سره حيث أجاب عن الاشكال بان انحصار مصداق مفهوم عام كلي بفرد كما في المقام لايكون موجبا لوضع اللفظ بإزاء الفرد دون المفهوم العام فلا غرو في مثل أسماء الزمان بالمصير فيها إلى الوضع للأعم غايته انحصار مصداق هذا المفهوم في الخارج في فرد خاص كانحصار فرد واجب الوجود بالذات فيه تعالى مع كونه كليا قابلا للانطباق على الكثير بمعنى انه لو فرض محالا مصداق آخر له لكان ينطبق عليه هذا المفهوم بلا كلام.

أقول : ولايخفى عليك انه لما كان الاشكال في المقام بعينه هو الاشكال المعروف في استصحابات الأمور التدريجية الغير القارة من حيث عدم بقاء الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة كان الحري عليه قدس سره ان يجيب عنه في المقام بما أجاب عنه في ذلك المقام فإنه قدس سره فصل في ذلك المقام بين الحركة القطعية والحركة التوسطية فقال : بان الانصرام والتدرج انما هو في الحركة القطعية وهي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان لا التوسطية وهي كونه بين المبدء والمنتهى لأنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا ، إذ لا يحقى عليك انه لو تم ذلك هناك أمكنه أيضا في هذا المقام تصوير الامر القار بين حالتي التلبس والانقضاء فلا وجه حينئذ لالتزامه في المقام بأصل الاشكال ثم الجواب بمثل البيان المزبور بان انحصار مفهوم عام بفرد ( الخ ).

ولكن أصل هذا الجواب أيضا غير مجد لدفع الاشكال المزبور هناك أيضا ، إذ قلنا في ذلك البحث بان مثل هذه الوحدة المنتزعة عما بين المبدأ والمنتهى انما هي وحدة اعتبارية

ص: 128

عرضية منتزعة عن تعاقب الافراد وتلاحقها والا ففي الخارج لايكون الا اشخاص تلك الحصص المتبادلة المتعاقبة لا انه كان في الخارج جهة وحدة شخصية ذاتية حقيقية. وحينئذ فإذا لايكون في الخارج الا الافراد المتعددة المتعاقبة فلا جرم يبقى الاشكال على حاله ولايكاد يجدي في دفعه مجرد اعتبار مثل تلك الوحدة العرفية وانتزاعها عن تعاقب تلك الحصص والافراد بعد أن لا قرار لنفس تلك الحصص في الخارج.

وحينئذ فالعمدة في الجواب عن الاشكال هو ما ذكرناه هناك بان الأزمنة والآنات وان كانت وجودات متعددة متعاقبة متحدة بالسنخ ولكنه حيثما لايتخلل بينهما سكون يكون المجموع يعد عند العرف موجودا واحدا مستمرا نظير الخط الطويل من نقطة إلى نقطة كذائية فبهذا الاعتبار يكون أمرا واحدا شخصيا مستمرا من أوله إلى اخره ، فيصدق عليه كلما شك فيه ( انه شك في بقاء ما علم بحدوثه ) فيشمله دليل حرمة النقض. وحينئذ فبعين هذا الجواب نجيب عن اشكال المقام أيضا حيث أمكن لنا تصور امر قار وحداني يتصور فيه الانقضاء بمثل البيان المزبور وان بلغ تلك الافراد المتعاقبة ما بلغ إلى انقضاء الدهر فان مناط الوحدانية حينئذ انما هو بعدم تخلل سكون في البين فيما بين تلك الافراد فما لم يتخلل عدم بينهما يكون المجموع موجودا واحدا شخصيا مستمرا. نعم ذلك انما هو فيما لم يكن تلك القطعات المتعاقبة من الزمان مأخوذة موضوعا للأثر في لسان الدليل معنونة بعنوان خاص كالسنة والشهر واليوم والساعة ونحوها والا فلا بد من لحاظ جهة الوحدانية في خصوص ما عنون بعنوان خاص من القطعات فيلاحظ جهة المقتلية مثلا في السنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة بجعل مجموع الآنات التي فيما بين طلوع الشمس مثلا وغروبها أمرا واحدا مستمرا فيضاف المقتلية إلى اليوم والشهر والسنة فتدبر.

الامر الخامس الظاهر أنه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص اسمى الفاعل والمفعول وما بمعنا هما من الصفات المشبهة بالفعل وما يلحق بها بل يعم كل ما كان جاريا على الذات وان كان من الجوامد كالرقية والزوجية ونحوهما ، كما يشهد له ما عن فخر المحققين في الايضاح في باب الرضاع فيمن كان له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجة صغيرة له ، حيث قال فيما حكى عنه : انه تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرة الأولى واما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف فاختار الوالد المصنف رحمه اللّه وابن إدريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق

ص: 129

بقاء المشتق منه ( انتهى ) ومن الواضح صراحة كلامه قدس سره في دخول مثل هذا النحو من الجوامد أيضا في محل النزاع ومن ذلك بنى الحرمة في المرضعة الثانية على عدم اشتراط التلبس الفعلي في المشتق، وربما يشهد لذلك أيضا بل يدل عليه ما رواه في الوسائل عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر علیه السلام ففيه قيل له علیه السلام : ان رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ثم أرضعتها امرأة له أخرى فقال ابن شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه فقال أبو جعفر علیه السلام : أخطأ ابن شبرمة تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا فاما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته ( الخبر ) (1) فان تعليله علیه السلام لعدم حرمة الكبيرة الثانية بقوله : لأنها أرضعت ابنته ظاهر في أنه لايكون الحكم المزبور تعبديا وانه على طبق القواعد، وفيه أيضا تخطئة لابن شبرمة لما تخيله من كون المشتق حقيقة في الأعم ودلالة على أن المشتق حقيقة في المتلبس الفعلي هذا.

نعم قد يشكل تحريم المرضعة الأولى أيضا بمقتضي القواعد بتقريب ان السبب الموجب لنشر الحرمة وهو عشر رضعات أو خمس عشرة رضعة كما كان موجبا لاتصاف المرضعة بالأمومة فتحرم كذلك موجب أيضا لخروج الصغيرة عن الزوجة واتصافها بالبنتية فيكون العنوانان أي الأمومة والبنتية كلا هما معلولين عرضيين للرضاع يترتب فاء واحد بينه وبينهما من دون تقدم لأحدهما على الاخر ولو بحسب المرتبة ، وحينئذ فيشكل بأنه كيف الحكم بتحريم الأمومة مع أنه لايكون في البين زمان بصدق فيه عليها انها أم الزوجة لأنه قبل كمال الرضعة الأخيرة وان كان يصدق الزوجة على الصغيرة الا ان الكبيرة في ذلك الآن لم تكن بأم لها وبعد اكمال الرضعة الأخيرة وان تحققت الأمومة لها ولكنه في رتبة تحقق هذا العنوان خرجت الصغيرة عن الزوجية وتعنونت بالبنتية ، فلابد حينئذ وأن يكون حرمة الكبيرة الأولى أيضا مبنية على عدم اعتبار بقاء المشتق منه في صدق المشتق ، مع أن ظاهر الايضاح بل ظاهر الرواية هو كون الحكم بالتحريم بالنسبة إلى المرضعة بمقتضي القواعد.

واما توهم ان التحريم حينئذ في الرواية انما هو بلحاظ جرى الزوجية للصغيرة بحال تلبسها الذي هو آن قبل تحقق عشر رضعات لا بلحاظ الحال الفعلي الذي هو ظرف تلبس

ص: 130


1- الوسائل، الباب 14 مما يحرم بالرضاع، الحديث 1.

المرضعة بالأمومة ، فمدفوع بأنه مناف للحكم بعدم تحريم المرضعة الثانية معللا بأنها أرضعت ابنته والا فبهذا الاعتبار يصدق على الثانية أيضا انها أم زوجته فلا وجه حينئذ للتفكيك بينهما كما لايخفى.

كما أن توهم عدم تكفل الرواية الا لبيان عدم تحريم الثانية التي أفتى بحرمتها ابن شبرمة وسكوتها عن حكم المرضعة الأولى ولو من جهة كونه مطابقا للواقع وان لم يكن بمقتضى القواعد بل من جهة التعبد المحض ، يدفعه ظهور الرواية في كون الحكم في الفقرتين على طبق مقتضى القواعد هذا.

وحينئذ فالتفصي عن الاشكال المزبور لايكون الا بالتشبث بفهم العرف بدعوى ان المعيار في اتحاد الظرفين انما هو على الأنظار العرفية لا على النظر الدقى العقلي وان العرف في مثل الفرض يرى ظرف الأمومة متحدا مع ظرف الزوجية بملاحظة شدة اتصال أحد الظرفين بالآخر فيرون المرضعة الأولى من هذه الجهة اما لزوجته الفعلية وان لم يكن كذلك بحسب الدقة العقلية ، بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك بحسب الدقة أيضا نظراً إلى أن الأمومة وان كانت في رتبة متأخرة عن علتها التي هي الرضعة الأخيرة لكنها متقارنة معها زمانا كما هو شأن كل معلول مع علته. وحينئذ فإذا كانت الأمومة متحدة ظرفها زمانا مع ظرف علتها وكانت الزوجية أيضا متحققة للصغيرة في ذلك الظرف فلا جرم يلزمه اتحاد ظرفي الأمومة والزوجية أيضا بحسب الزمان على نحو الدقة العقلية ، وحينئذ فإذا لم يكن المعيار في اتحاد الظرفين على الاتحاد بحسب المرتبة بل على الاتحاد بحسب الزمان وكان الظرفان أيضا متحدين بحسب الزمان فقهرا يندفع الاشكال المزبور من رأسه بلا حاجة أيضا إلى التشبث بفهم العرف والمصير إلى تسامحهم في مدلول الكلام كما هو واضح فتدبر.

الامر السادس قال في الكفاية : ( ان اختلاف المشتقات حسب اختلاف مباديها من كون المبدأ حرفة في بعضها أو صنعة وبعضها القوة أو الملكة أو الاعداد لايوجب تفاوتا واختلافا في الهيئة التي هي الجهة المبحوث عنها في المقام إذ لا يتفاوت حالها باختلاف ما يراد من مباديها من الأمور المذكورة ) ومقصوده قدس سره من ايراد هذا التنبيه انما هو منع القائل بالأعم عن التشبث بمثل التاجر والقاضي والكاسب والمجتهد ونحوها مما يصح اطلاقها على غير المتلبس الفعلي بالمبدأ وانه ليس للقائل بالأعم

ص: 131

الاستدلال بالأمثلة المزبورة لاثبات الوضع للأعم باعتبار انه في الأمثلة المزبورة أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة أو الاعداد ، فلا يضر حينئذ تلك الأمثلة بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بوجه أصلا هذا محصل مرامه قدس سره .

أقول : ولايخفى ان ما افاده قدس سره بحسب الكبرى وان كان تاما الا ان تمام الاشكال في تحقق صغرياتها ، إذ نمنع كون الأمثلة المزبورة مما أريد من المبدأ فيها الحرفة أو الصناعة أو الملكة وإلا يلزم كونه كذلك في غير الأسماء من المصادر والافعال أيضا لأنه بعد انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة لايكاد يفرق بين الأسماء والمصادر والافعال ، مع أنه كما ترى! حيث لايكاد ينسبق الذهن من اطلاق لفظ اتجر يتجر واتجار والتجارة وكذا لفظ قضى يقضى قضاء واقض ( بصيغة الامر ) واجتهد يجتهد اجتهادا ونحو ذلك الا المبدأ الفعلي المنسوب إلى الذات دون الحرفة أو الصناعة أو الملكة ، وحينئذ فعلى ما سلكه قدس سره لابد اما من الالتزام بتعدد الوضع في المواد بدعوى وضع المادة في غير الأوصاف للمبدأ الفعلي أعني الحدث الخاص وفي الأوصاف للحرفة أو الصناعة أو الملكة ، أو الالتزام بالمجاز في خصوص الأوصاف ، وهما كما ترى ، ضرورة بعد أن يكون للمواد وضعان في الأمثلة المزبورة وضع في خصوص الأوصاف ووضع في غير الأوصاف من المصادر والافعال كبعد المجازية أيضا في خصوص الأوصاف ، لعدم مساعدة العرف والوجدان عليه كما لايخفى.

وحينئذ فالذي يقتضه التحقيق هو ان يقال : بان ما يرى من صحة اطلاق التاجر والقاضي والمجتهد والبقال والنجار ونحوها حتى في حال عدم الاشتغال الفعلي بالتجارة والقضاوة والاستنباط بل وفي حال الاشتغال بما يضادها كالأكل والشرب والنوم انما هو من جهة ان في الذات اقتضاء وجود المبدأ وفعليته الناشي ذلك الاقتضاء من جهة تكرر المبدأ منه في الخارج وجعله حرفة أو صنعة له كما في الكاسب والتاجر والبقال ونحوها ، أو من جهة جعل جاعل كالحاكم والقاضي ونحوهما ، أو من جهة تحقق الملكة له كما في المجتهد والمستنبط والمهندس ونحوها أو من جهة أخرى غير ذلك ، ففي الحقيقة لما كان قضية الحرفة والصناعة والملكة ونحوها تحقق المبدأ في الخارج أوجب ذلك اعتبار العرف بل العقلاء وجود المقتضى ( بالفتح ) أيضا عند تحقق مقتضيه ( بالكسر ) فمن هذه الجهة يحكمون بوجوده فيطلقون عليه الكاسب والتاجر والقاضي والمجتهد ولو في حال

ص: 132

الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة كما هو الشأن أيضا في غير المقام حيث كان بنائهم على الحكم بوجود المقتضى ( بالفتح ) وترتيب آثار الوجود عليه عند تحقق مقتضيه ( بالكسر ) ومن ذلك مسألة اشتراط سقوط الخيار في حين العقد مع أنه لا وجود له بعد واسقاطه من قبل اسقاط ما لم يجب ، ومسألة إجارة الدار والدكاكين وتمليك منافعها فعلا بعد السنة والسنتين مع أنه لا وجود للمنفعة فعلا حال الانشاء والتمليك. وحينئذ فعلى ذلك يكفي هذا المقدار في صحة اطلاق التاجر والقاضي والمجتهد على الذات حتى في حال الاشتغال بما يضاد التجارة والقضاوة بلا اضراره بالقائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي ، بلا احتياج أيضا إلى رفع اليد عما يقتضيه قضية وضع المادة من الفعلية في الأوصاف على خلاف المصادر والافعال بالحمل على إرادة الملكة أو الحرفة والصنعة فيها في الأوصاف بل تبقى المادة حينئذ على حالها كما في المصادر والافعال ويصار إلى صحة الاطلاق بما ذكرناه من البيان كما لايخفى.

الامر السابع قد عرفت في بعض الأمور المتقدمة ان مجرد هذا النزاع في مدلول كلمة المشتق بأنه للأعم أو المتلبس الفعلي لا يثمر في استنتاج النتيجة المعروفة الا بانضمام دعوى ظهور الهيئة الكلامية في القضايا في اتحاد ظرف النسبة مع ظرف التلبس الذي هو ظرف وجود المصداق. ولقد عرفت ظهور الهيئة الكلامية في القضايا طرا في ذلك ولو من جهة الانصراف ، ولكن نقول : بان هذا الظهور انما يكون ويتبع فيما لو يكن في البين قرينة حالية أو مقالية أو عقلية على الخلاف والا فلا مجال لهذا الظهور ولا لاتباعه على فرض الظهور أيضا مثل ما لو فرض كون المبدأ أو اتصاف الذات به آنيا غير قابل للدوام والاستمرار كالضرب والقتل ونحوهما ، فإنه في تلك الموارد من جهة عدم قابلية المبدأ للدوام والاستمرار لايكون للقضايا ذلك الظهور بل ربما يكون فيها الظهور على الخلاف من مغايرة الظرفين ، وكذا الامر في الموارد التي كان للمبدأ قرار واستمرار ولكنه قامت في البين قرينة حالية أو مقالية على اختلاف الظرفين كما لو كان الحكم المترتب في البين استقباليا بالنسبة إلى عنوان المبدأ فإنه في تلك الموارد يستفاد ان تلبس الذات بالمبدأ واتصافها به في آن علة لترتب الحكم عليه إلى الأبد بلا حاجة في ابقاء الحكم عليه إلى بقاء تلبسه بالمبدأ كما في مثل ( السارق والسارقة فاقطعوا الخ ) وعلى ذلك نقول : بأنه ليس للقائل بالأعم التمسك ببعض الأمثلة لاثبات مطلوبه من نحو قوله : اقتل القاتل أو

ص: 133

الضارب ، وقوله سبحانه : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » « والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما » الخ إذ نقول : بان هذه كلها من الموارد التي قامت القرينة العقلية أو غيرها على مغايرة ظرف الحكم مع ظرف وجود المصداق وان الجري والتطبيق فيها كان على المجري عليه السابق أي القطعة المتلبسة بالمبدأ في السابق لا على القطعة الفعلية كي يلزمه اتحاد الظرفين فيكون تلبس الذات في تلك الموارد علة لترتب حكم الجلد أو القطع عليه إلى الأبد ولو بعد انقضاء المبدأ عنه ، كما يشهد لذلك قضية التفريع أيضا في قوله سبحانه : السارق والسارقة فاقطعوا ، والزانية والزاني فاجلدوا ، وحينئذ فلاينافي قضية وجوب الجلد وقطع اليد عدم صحة اطلاق السارق والزاني الفعلي عليه كي يشكل بأنه كيف ذلك مع فرض عدم صدق السارق الفعلي عليه فتدبر.

الثامن من الأمور : لايخفى عليك انه لا أصل في المسألة يحرز به أحد الاحتمالين من الوضع للأعم أو المتلبس الفعلي ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية معارضة بأصالة عدم ملاحظة العمومية ، ومع تسليم عدم احتياج الثانية إلى ملاحظة العمومية وانها يكفيها عدم ملاحظة الخصوصية ، نقول بأنه لايكاد يثبت بها الوضع للأعم ، من جهة عدم الدليل على اعتبار مثل هذا الأصل في مقام تعيين الأوضاع ، ولا سيرة من العقلاء أيضا على ذلك كي بمعونة عدم الردع يستكشف الامضاء ، وانما القدر الذي عليه سيرة العقلاء انما هو في الشكوك المرادية وأين ذلك ومقام تعيين الأوضاع! كما لايخفى. وحينئذ فلو ورد دليل على وجوب اكرام العالم أو إهانة الفاسق فينتهى الامر إلى الأصول العلمية من استصحاب وجوب أو حرمة إذا كان في البين حالة سابقة ، كما لو رود دليل على وجوب اكرام زيد العادل حال تلبسه بالعدالة فانقضى عنه العدالة بعد ذلك واتصف بما هو ضدها فإنه حينئذ يشك في وجوب اكرامه فيستصحب حكمه السابق وهو وجوب الاكرام ، وأما إذا لم يكن في البين حالة سابقة فيرجع إلى البراءة للشك في أصل التكليف بالاكرام بالنسبة إليه ، ويفرض ذلك فيما لو كان ورود الدليل على وجوب اكرام العادل بعد انقضاء العدالة عن زيد. وبالجملة فبعد انتهاء الامر إلى الأصول العلمية يختلف مجاريها بحسب اختلاف الموارد استصحابا أو براءة واشتغالا فلابد من لحاظ خصوصيات الموارد باعطاء كل حكمه.

وإذا عرفت هذه الأمور فلنشرع فيما هو المهم والمقصود من الوضع للأعم أو

ص: 134

لخصوص المتلبس الفعلي ، فنقول : ان الأقوال في المسألة وان كثرت من القول بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي ، والقول بالوضع للأعم ، والتفصيل بين المحكوم والمحكوم عليه ، وغيره من التفاصيل المذكورة في المطولات الا انا نكتفي بذكر القولين الأولين لكونهما هما العمدة في الباب.

فنقول : ان المختار من القولين المزبورين هو الأول من الوضع لخصوص المتلبس الفعلي.

لنا على ذلك أولا : التبادر حيث كان المتبادر من اطلاق قولك زيد قائم أو عادل هو خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ دون الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ ، بل وصحة سلب القائم والعادل عن المنقضي عنه القيام والعدالة حقيقة ، فإنه يصح ان يقال : انه ليس بقائم أو عادل فعلا حقيقة بل هو قاعد وفاسق فعلا ، فان من الواضح انه لو كان المشتق حقيقة في الأعم لما صح السلب المزبور عمن كان سابقا متلبسا بالقيام والعدالة ، مع أن صحة سلب القائم والعادل عنه في الوضوح كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار ، كيف وقد عرفت بأنه يصدق عليه فعلا ما يضاده بحسب الارتكاز لضرورة صدق القاعد الفعلي عليه بعد انقضاء القيام عنه وصدق الجاهل والفقير عليه فعلا بعد انقضاء العلم والغنى عنه ، وهكذا في مثل الاكل والفارغ عن الاكل والمشتغل به فإنه بعد فراغه عن الاكل لايكاد يصدق عليه عنوان المشتغل بالاكل بل يصدق عليه بالضرورة عنوان الفارغ ، والمشتغل والفارغ أيضا من المشتقات.

بل ولئن تدبرت ترى كون هذا الوجه برهانا تاما مستقلا على عدم كون المشتق حقيقة الا في خصوص المتلبس الفعلي كما قرب أيضا بتقريب انه لا ريب في مضادة الأوصاف المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادة بحسب الارتكاز كالأبيض والأسود والعالم والجاهل ونحوها بنحو يأبى الارتكاز عن صدقها على موضع واحد في زمان واحد ، ومن المعلوم ان مثل هذه المضادة الارتكازية انما يتم على مسلك من اعتبر التلبس الفعلي لان لازمه حينئذ كون شخص واحد في زمان واحد مصداقا فعليا للأبيض والأسود والعالم والجاهل والقائم والقاعد والمشتغل والفارغ ونحوها وهو مما يكذبه الوجدان السليم بحسب ما له من الارتكاز بالمضادة بين تلك الأوصاف. واما بناء على القول بالأعم فلا يتم ذلك لان لازمه ان لايكون مضادة بين الأوصاف المزبورة بل كان بينها المخالفة التي لازمها عدم الاباء عن الاجتماع في موضوع واحد ، كما هو الشأن في كلية المتخالفين

ص: 135

كالسواد والحلاوة ، مع أنه ليس كذلك قطعا لقضاء الوجدان حسب ما له من الارتكاز بالمضادة التامة بين القائم والقاعد وبين العالم والجاهل والصحيح والمريض والأبيض والأسود ، كالمضادة بين مبدئيها. وحينئذ فكان نفس تلك المضادة الارتكازية بين الأوصاف المزبورة أقوى شاهد وأعظم برهان على بطلان القول بالأعم.

ولايخفى عليك بأنه هذا التقريب لايبقى موقع للاشكال عليه بما أفيد من منع المضادة بين نفس الأوصاف لكون التلبس بالوجود المطلق أعم من التلبس الفعلي ، فيمكن ان يكون جسم واحد مثلا يصدق عليه مفهوم الأبيض بمعنى اتصافه بالبياض الذي وجد فيه فانقضى عنه حال النسبة ويصدق عليه مفهوم الأسود أيضا على معنى اتصافه بالسواد المتلبس به في الحال فهذان العنوانان مما لا تضاد بينهما أصلا وانما التضاد بين مبدئيهما ولا يلزم من ذلك اجتماعهما في موضوع واحد بوجه أصلا. إذ فيه ما لايخفى فإنه بعدان كان مراد القائل بالأعم هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضى عنه المبدأ في الحال كصدقة على المتلبس الفعلي نظراً إلى دعوى كونه من المصاديق الحقيقية لمفهوم الأبيض والأسود بحيث يصح اطلاقه عليه فعلا بقولك هذا الجسم ابيض فعلا بمحض تلبسه بالبياض سابقا ، فلا جرم لا موقع لهذا الاشكال لأنه بعد تحقق المضادة الارتكازية بينهما كما فيما بين مبدئيهما واباء الوجدان عن صدق القائم والمشتغل عليه فعلا في حال تلبسه بالقعود وفراغه عن المبدأ يتم المطلوب ويبطل به دعوى القائل بالأعم ، واما المنع عن أصل تلك المضادة حتى بحسب الارتكاز فليس الا المكابرة مع الوجدان.

ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا اندفاع ما أورد من الاشكال على صحة السلب المزبور كما عن الفصول قدس سره فيما حكى عنه : من تقريب انه ان أريد من صحة السلب صحته مطلقا فغير سديد إذ لا يصدق على من انقضى عنه القيام انه ليس بقائم مطلقا لا في الحال ولا في الماضي بل يصدق عليه انه قائم في الجملة ولو في الماضي ، وان أريد به صحته مقيدا فغير مفيد لان علامة المجاز انما هو صحة السلب مطلقا وفيما انقضى عنه المبدأ انما يصح السلب مقيدا بالحال لا مطلقا ومثل ذلك لايكون من علائم المجاز كما لايخفى. وجه الاندفاع هو ما عرفت من أن هم القائل بالأعم إنما هو صدق المشتق حقيقة فعلا على المنقضي عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي ، نظراً إلى كونه من الافراد الحقيقية لهذا العنوان بمحض التلبس السابق ، ومن المعلوم انه يكفي في ابطاله صحة سلب

ص: 136

القائم الفعلي عنه إذ عدم صدق القائم الفعلي عن المنقضي عنه القيام يكفي في عدم كونه من المصاديق الحقيقية للعنوان كما هو واضح. نعم لو اعتبر التقيد المزبور في طرف المادة لا في طرف الاتصاف بالعنوان كما في قولك في زيد الذي انقضى عنه القيام فعلا : انه ليس بقائم بالقيام الفعلي بل هو قاعد بالقعود الفعلي لاتجه الاشكال المزبور بان سلب القائم بالقيام الفعلي عن زيد لايقتضي سلبه عنه بمطلق القيام ولو في الماضي. ولكن نقول أيضا : بان سلب القائم بالقيام الحالي عن زيد لما كان يلازم صحة سلب الاتصاف بالقائم الفعلي فبهذا لاعتبار يتم السلب المزبور في ابطال قول مدعى الوضع للأعم ، وذلك لما تقدم من أن هم القائل بالأعم انما هو صدق المشتق بما له من المعنى فعلا وفى الحال على المنقضى عنه المبدأ كصدقه على المتلبس الفعلي بالمبدأ. وحينئذ فيكون صحة السلب المزبور كاشفا عن عدم كون المنقضى عنه القيام حالا من المصاديق الحقيقة لعنوان القائم والا لما كاد يصح السلب المزبور كما في المتلبس الفعلي من جهة منافاة هذا المعنى بالضرورة مع صحة سلب العنوان الحالي عنه كما هو واضح.

ثم إن هذا كله بناء على جعل التقيد بالحال معتبرا في ناحية المسلوب الذي هو المحمول أي الوصف أو المبدأ ولقد عرفت بأنه على التقديرين يتم السلب المزبور لا ثبات المطلوب بلا ورود اشكال عليه. واما بناء على اعتباره في ناحية السلب أو الموضوع فالامر أوضح ، فإنه على الأول قد سلب معنى القائم بقول مطلق عن الموضوع المطلق غايته بالسلب المقيد كونه بلحاظ الحال الفعلي وهو حال الانقضاء ، وعلى الثاني قد سلب معنى القائم أيضا بقول مطلق بالسلب المطلق عن الذات المقيدة بكونها في حال انقضاء المبدأ عنها وعلى التقديرين يكون صحة السلب المزبور وافيا لاثبات المطلوب فلا يفرق حينئذ بين السلب المقيد ( بالإضافة ) والسلب المقيد ( بالتوصيف ) والسلب عن المقيد فتدبر. ولكن الأستاذ ( دام ظله ) لم يتعرض لفرض صورة ارجاع القيد إلى السلب أو إلى الموضوع وانما تعرضه كان لصورة ارجاعه إلى المسلوب الذي هو المحمول.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا اندفاع ما أورد أيضا على التبادر المدعى : من دعوى ان مثل هذا التبادر لايكون مستندا إلى حاق اللفظ وانما هو من جهة قضية الاطلاق الناشي من جهة غلبة الاطلاق على المتلبس الفعلي ، ولا أقل من احتمال ذلك فلايكون دليلا على المدعى لان التبادر الذي يثبت به الوضع انما هو التبادر المستند إلى

ص: 137

حاقّ اللفظ لا مطلقا ولو المستند إلى قضية الاطلاق. توضيح الدفع : انه لو كان الامر كما ذكر من استناد التبادر إلى قضية الاطلاق الناشي من جهة الغلبة يلزمه لا محالة صحة اطلاقه أيضا على المنقضى عنه المبدأ بلا رعاية عناية في البين كما في اطلاقه على المتلبس الفعلي ، من جهة بداهة انه لايمنع مجرد الغلبة وكثرة الاطلاق عن صحة الاطلاق على الفرد النادر ، ومن ذلك ترى صحة اطلاق الانسان على من له رأسان وأياد أربع مع أنه من الندرة ما لايخفى ، مع أنه بشهادة الارتكاز نرى عدم صحة اطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ فعلا بل وصحة سلبه عنه كما عرفت وحينئذ فيتم دعوى القائل بالوضع لخصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.

ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرناه من التقريب لا ثبات الحقيقة في خصوص المتلبس الفعلي لايكاد يفرق في أنحاء المشتقات بين كونه محكوما أو محكوما عليه وبين اسم الفاعل والمفعول وبين المأخوذ من المبادئ اللازمة أو المتعدية إلى غير ذلك من التفاصيل ، فلا بد من المصير إلى كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي بقول مطلق كما هو واضح.

بقى الكلام في ذكر أدلة القول بالأعم ، فنقول : انه استدل للأعم أيضا بوجوه :

منها : التبادر الذي قد عرفت خلافه وان التبادر لايكون الا خصوص المتلبس الفعلي بالمبدأ.

ومنها : صحة الاطلاق وعدم صحة السلب كما في نحو مظلوم ومقتول وشهيد ونحو ذلك وفيه ان ما يرى من صحة الاطلاق فإنما هو بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال النسبة وحال الجري والتعليق ، ولقد عرفت كونه بنحو الحقيقة حتى عند القائل بالتلبس الفعلي نظراً إلى أن المجري عليه بهذا الجري انما كان عبارة عن قطعة خاصة من الذات التي تلبست سابقا بالمبدأ ولكنه لا يجدي ذلك للخصم. نعم انما يجدي ذلك له فيما لو كان المجري عليه أيضا عبارة عن القطعة الفعلية من الذات ولكن نحن نمنع حينئذ عن صحة الاطلاق المزبور بل نقول بصحة سلبه عنه وانه لايصح ان يقال لزيد المضروب سابقا انه مضروب فعلا كما يصح ذلك في المضروب الفعلي ، واما اطلاق مقتل الحسين علیه السلام على اليوم العاشر من المحرم فهو من باب التشبيه لا من باب انه حقيقة في الأعم.

ص: 138

ومنها : صحة الاطلاق في مثل التاجر والقاضي والمجتهد حتى في حال النوم ونحوه. والجواب عنه قد تقدم في الامر السادس فراجع.

ومنها : استدلال الإمام علیه السلام بقوله سبحانه ( لا ينال عهدي الضالمين ) لا ثبات عدم لياقة عابد الصنم والوثن لمنصب الخلافة والإمامة بتقريب : انه لولا الوضع للأعم لما تم الاستدلال بالآية المباركة لعدم اللياقة لمنصب الإمامة. وفيه ما تقدم بان الجري فيه انما هو بلحاظ حال التلبس السابق لا بلحاظ الحال الفعلي فيكون مبني استدلاله علیه السلام على أن التلبس بعبادة الصنم ( التي هي أعظم أنحاء الظلم ولو في زمان ) علة لعدم النيل بمنصب الخلافة والإمامة إلى الأبد وعليه لايكاد يفيد ذلك للقول بالأعم كما هو واضح. نعم غاية ما هناك انما هو لزوم رفع اليد عما يقتضيه ظاهر الهيئة الكلامية من اتحاد ظرف النسبة والحكم مع ظرف وجود المصداق الذي هو ظرف التلبس فإنه على ذلك يختلف الظرفان حيث كان ظرف الحكم بعدم النيل بالخلافة فعليا وظرف وجود المصداق فيما مضى من الزمان المتقدم ، ولكنه نقول : بأنه لا ضير في ذلك بعد قيام القرينة الخارجية أو الداخلية على المغايرة بين الظرفين وكون الشرك باللّه عز وجل علة لحدوث الحكم بعدم النيل بمنصب الخلافة وبقائه إلى الأبد خصوصا بعد عدم كون الظهور المزبور ظهورا وضعيا بل ظهور اطلاقيا ، مع أنه لو فرض كونه ظهورا وضعيا لا اطلاقيا وقلنا بجريان أصالة الظهور فيه حتى مع وجود القرينة على الخلاف نقول بأنه لايقتضي ذلك أيضا اثبات الوضع في مدلول الكلمة وهي المشتق ، كما هو واضح.

ومنها : آيتا حد السارق والزاني من قوله سبحانه : « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » (1) و « الزانية والزاني فاجلدوا » الخ (2) والجواب عن ذلك أيضا هو ما تقدم في الامر السادس ومحصله في جميع ذلك كله : هو ان تلك الموارد التي يكون الاتصاف بالعنوان ولو في آن علة لحدوث الحكم وبقائه إلى الأبد من دون احتياج في بقاء الحكم إلى بقاء الاتصاف بالعنوان أصلا ، كما هو واضح.

هذا كله فيما استدل به للقول بالأعم ، ولقد عرفت عدم تمامية شيء من الوجوه

ص: 139


1- سورة المائدة ، الآية 38.
2- سورة النور ، الآية 2.

المزبورة لا ثبات كون المشتق حقيقة في الأعم وان التحقيق هو كونه حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي ، لما ذكرنا من التبادر وصحة السلب عن المنقضي عند المبدأ وارتكاز المضادة ، من غير فرق بين وقوعه محكوما أو محكوما عليه وبين كونه مأخوذا من المبادئ المتعدية أو اللازمة وبين اسم الفاعل والمفعول كما مرت الإشارة إليه.

نعم في المقام قول آخر بالتفصيل بين القول بتركيب المشتق من المبدأ والذات وبساطته وجعله عبارة عن نفس المبدأ لا بشرط : من دعوى كونه حقيقة في الأعم على الأول وفي خصوص المتلبس الفعل على الثاني ، نظراً إلى عدم تصور الانقضاء عليه ، وسيجيء الكلام فيه وفي عدم صحته أيضا في تنبيهات المسألة عند التعرض لبيان بساطة المشتق وتركبه إن شاء اللّه تعالى.

وينبغي التنبيه على أمور

الامر الأول :
اشارة

انه قد وقع الكلام بين الاعلام في أن المشتق بسيط أم مركب من المبدأ والذات. ولتنقيح المرام لابد من بيان المتحملات المتصورة في التركب والبساطة في المقام.

اما تركبه فله صورتان : الأولى تركب المشتق بحسب المفهوم على معنى ان يكون مفهوم المشتق عبارة عن معنى تركيبي ، وهو الذات التي تثبت لها المبدأ وفي قباله بساطة مفهومه وعدم تركبه. الثانية تركبه بحقيقته وبمنشأ انتزاعه مع بساطة أصل مفهومه كما نظيره في مثل الانسان ، حيث إنه مع بساطة مفهومه وعدم تركبه يكون حقيقته مركبة من الامرين عند التحليل : الحيوان والناطق فيقال فيه : انه حيوان ناطق ، من دون ان يكون مثل هذا التركيب التحليلي العقلي في منشأه موجبا لتركب مفهومه وفي قبال ذلك بساطته حتى بحقيقته ومنشأ انتزاعه علاوة عن بساطة مفهومه هذا. ولكن الظاهر هو عدم إرادة القائل بالتركيب التركب بالمعنى الأول ، كيف وانه من البعيد كله دعويهم كون المفهوم من المشتق هو المعنى التركي أي الذات الثابت لها المبدأ بل الظاهر هو ارادتهم من التركب تركبه بحقيقته وما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم مع بساطة أصل مفهومه وتسليم انه لايكاد ينسبق في الذهن من مثل القائم والقاعد الا الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج. وعليه فيكون مركز النزاع في المشتق من جهة التركب والبساطة في أصل

ص: 140

حقيقته لا في مفهومه ، فحيث ان المنسبق من مثل القائم والقاعد ونحوهما في الذهن كان هو الشكل الخاص على النحو الذي كان في الخارج من الهيئة الخاصة وكان ذلك الشكل والصورة الخاصة منحلا بحسب التحليل إلى ذات ومبدأ قائم بها ، وقع الخلاف بينهم في أن كلمة المشتق ، وهو القائم مثلا ، موضوع لمجموع هذه الأمور الثلاثة بحيث كان جهة الذات أيضا جزء للمدلول؟ أم لا بل تكون جهة الذات خارجة عن المدلول رأسا؟ ثم على فرض خروج الذات عن المدلول فهل المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات؟ أم لا بل يكون المشتق عبارة عن نفس المبدء محضا بحيث كان جهة قيامه بالذات كنفس الذات خارجة عن المدلول؟

وعلى هذا ربما تكون المحتملات المتصورة على البساطة أيضا ثلاثة : الأول كونه أي المشتق عبارة عن المبدأ وجهة قيامه بالذات التي هي معنى حرفي مع خروج الذات عن مدلوله ، فبساطته على هذا المعنى انما هي بالإضافة إلى الذات والا ففي الحقيقة يكون أيضا مركبا من الامرين ، الثاني كونه عبارة عن امر وحداني وهو المبدأ محضا مع خروج جهة قيامه بالذات أيضا كنفس الذات عن المدلول. وهذا أيضا يتصور على وجهين : الأول كونه عبارة عن المبدأ محضا لكن لا مطلقا بل في حال قيامه بالذات واتحاده معها بنحو القضية الحينية لا التقييدية ، الثاني كونه عبارة عن نفس المبدأ محضا قبالا للذات لكن بما هو مأخوذ بعنوان اللابشرطي فيكون الفرق بينه وبين المصدر - كما أفادوه كالفرق بين الجنس والفصل والهيولي والصورة من جهة اللابشرطية والبشرط لائية.

فهذه الصور المتصورة من التركب والبساطة في المقام. وربما يختلف بعضها مع بعض آخر منها بحسب اللوازم ، فان من لوازم المعنى الأول وكذلك المعنى الثاني من البساطة عدم جواز حمل المشتق على الذات من جهة انتفاء شرط الحمل الذي هو الاثنينية بحسب المفهوم في الذهن ، فان المبدأ على المعنيين بعد ما لايرى في الذهن منفكا عن الذات بل يرى متحدا معها فلا جرم لايكون مثل هذا الصقع من صقع الحمل على الذات كي يصح فيه الحمل ، نعم في مقام الحمل على المصداق كما في قولك : زيد عالم أو ضارب صح الحمل لتحقق أركانه التي هي اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما بنحو من الاتحاد في الخارج ، ولكنه أجنبي عن مقام حمل المبدأ على الذات في مدلول الكلمة. وهذا بخلافه على البساطة بالمعنى الأخير ، فإنه عليه باعتبار اخذ المشتق عبارة عن مجرد

ص: 141

المبدأ المقابل للذات كان لصحة الحمل على الذات كمال مجال وذلك من جهة تحقق ركنية وهما اثنينية الموضوع والمحمول في الذهن واتحادهما في الخارج.

ومن جملة اللوازم أيضا انه على المعنيين الأولين من البساطة ربما صح جعل العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل ونحوهما موضوعا للأحكام من نحو الاطعام والاكرام كما في قولك : أطعم العالم وأكرم العادل وقبل يد العالم ورجله ، فإنه بعد ما كان المشتق اخذ وجهة وعنوانا للذات بنحو كان النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان تبعيا كما في النظر إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه كما سيجيء ، فلا جرم من هذه الجهة صح جعلها موضوعا للأحكام المزبورة ، ولايتوجه الاشكال عليه بأنه كيف يصح إضافة الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل إلى عنوان العالم مع أنه لا يد للمبدأ ولا بطن له حتى يصح تعلق التكليف باطعامه وتقبيل يده ، فإنه على ما ذكرنا يكون ما أضيف إليه الاكرام والاطعام هو نفس الذات خاصة غايته لا مطلقا بل بما هي متجلية بجلوة العلم والعدالة. وذلك بخلافه على المعنى الأخير من البساطة من جعله عبارة عن نفس المبدأ قبالا للذات ، إذ عليه لا مجال لإضافة الاحكام المزبورة إلى العناوين المزبورة ولو اعتبر كونها لا بشرط الف مرة ، فان لازمها كونها منظورة بالنظر الاستقلالي من دون نظر إلى الذات في عالم من العوالم الا تبعا للعنوان ، ولازمه هو توقف الحكم في مقام إضافة الاكرام والاطعام على نفس العنوان وهو المبدأ فيتوجه حينئذ الاشكال المزبور.

ومن ذلك البيان ظهر الحال بناء على القول بالتركيب أيضا ، حيث إن الاشكال يتوجه بالنسبة إلى جزئه الذي هو المبدأ.

كما أنه من البيان المزبور ظهر أيضا نكتة الفرق بين البساطة بالمعنى الثاني وبين البساطة بالمعنى الأخير ، فإنهما وان اشتركا في بساطة العنوان وكونه عبارة عن نفس المبدأ خاصة الا انهما يفترقان من تلك الجهة ، فان المبدأ على البساطة بالمعنى الثاني لما اخذ كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فلا جرم بهذا الاعتبار يكون ملحوظا وجهة وعنوانا للذات وبهذا الاعتبار يكون النظر إلى الذات استقلاليا والى العنوان المتحد معها تبعيا ، فيصح حينئذ إضافة الاكرام والاطعام إليه في قولك : أكرم العالم واطعم العادل ولكن مثل هذا الاعتبار لا يتأتى على البساطة بالمعنى الأخير كما شرحناه فتدبر.

ص: 142

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الجهة فلنذكر ما يقتضيه التحقيق في المقام من المحتملات المزبورة للتركب والبساطة.

فنقول : اما احتمال تركب المشتق من المبدأ والذات فلا شبهة في كونه بمعزل عن التحقيق ويظهر وجهه مما قدمناه سابقا في كيفية أوضاع المشتقات وانحلال الوضع في كل واحد منها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ نقول : بأنه لو كان الذات مأخوذة في الأوصاف فلا جرم الدال عليها اما ان يكون هي المادة أو الهيئة ، مع أنه ليس في شيء منها الدلالة عليها أصلا ، إذ لمادة لاتدل حسب وضعها النوعي الساري في جميع الصيغ الا على نفس الحدث ، واما الهيئة الخاصة فيها ففي أيضا لاتدل الا على قيام هذا المبدأ بالذات الذي هو معنى حرفي وحينئذ فأين الدال على الذات؟ نعم لو قيل بان الوضع في خصوص الأوصاف من بين المشتقات من قبيل الوضع في الجوامد من دعوى وضع المادة والهيئة فيها مجموعا للذات المتلبسة بالمبدأ لكان لدعوى تركب المشتق من المبدأ والنسبة والذات كمال مجال ، ولكنه كما عرفت خلاف التحقيق وخلاف ما عليه المحققون في كلية المشتقات التي منها الأوصاف من انحلال الوضع فيها كما هو واضح.

وحينئذ فبعد بطلان القول بالتركيب من المبدأ والذات يدور الامر بين المحتملات الثلاثة المتصورة على البساطة من الوضع لامرين : المبدأ وإضافة قيامه بالذات كي يكون دلالته على الذات من جهة الملازمة ، أو الوضع لأمر واحد وهو المبدأ خاصة لكنه في حال كونه متحدا مع الذات بنحو القضية الحينية لا التقييدية فتكون الإضافة أيضا كنفس الذات خارجة عن المدلول ، أو الوضع للمبدأ قبالا للذات لكنه بما هو ملحوظ بعنوان اللا بشرطي كما تقدم بيانه ، وفي مثله لاينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو المعنى الأول من البساطة : من جعله عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته بما انه ملحوظ وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها ، فان هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة انحلال أوضاع المشتقات بحسب المادة والهيئة ، حيث نقول : بان المادة في الأوصاف وضعت للدلالة على نفس الحدث ، والهيئة فيها وضعت للدلالة على إضافة قيام المبدأ بالذات ، وهذا بخلافه على المعنى الثاني والثالث فإنه عليها لابد من اخراج الأوصاف عما يقتضيه قاعدة انحلال الوضع في المشتقات المصير إلى دعوى كون الوضع في خصوص الأوصاف من قبيل الوضع في الجوامد من وضع مجموع المادة والهيئة فيما بوضع وحداني لمعنى حدثي خال عن

ص: 143

الإضافة والنسبة على خلاف بقية الصيغ من المصادر والافعال وهو كما ترى ، وخصوصا مع ما في المعنى الثالث من استلزامه لبعض التوالي الفاسدة التي منها ما ذكر ، ومنها عدم صحة جعل تلك الأوصاف موضوعات للأحكام الخاصة من مثل الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل كما مرت الإشارة إليه ، فان لحاظ المبدأ بالعنوان اللابشرطي لو كان يجدي فإنما هو بالنسبة إلى مقام الحمل لا في مقام إضافة الاحكام المزبورة إليه من نحو قولك : أكرم العالم واطعم العالم والنظر إلى وجه العالم عبادة والى باب داره عبادة ، وذلك من جهة وضوح ان ما هو الموضوع للأحكام المزبورة في مقام النسبة الحكمية ليس الأنفس الذات دون المبدأ وان لو حظ كونه بالعنوان اللابشرطي الف مرة كما هو واضح ، ومنها عدم تصور جريان النزاع المعروف في المشتق في أنه للأعم أو المتلبس الفعلي على هذا القول من جهة عدم تصور الانقضاء فيه كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، ومنها غير ذلك من التوالي الفاسدة.

ومن ذلك نقول : بان أردأ المباني والمسالك في المقام هو المسلك الأخير بملاحظة ما فيه من التوالي الفاسدة التي لايمكن الالتزام بواحد منها ، بخلافه على المسلك الأول من البساطة الذي اخترناه وسلكناه فإنه عليه لايتوجه شيء من التوالي الفاسدة بل عليه يجمع بين ما يقتضيه ظواهر القضايا من مثل قوله ( أكرم العالم ) من إناطة الاكرام إلى نفس العنوان وبين كون المتعلق وما أضيف إليه الاكرام هو نفس الذات دون المبدأ ودونها والمبدأ معا ، مع الالتزام أيضا ببساطة المشتق وعدم تركبه من المبدأ والذات كما هو قضية القول بالتركيب وعدم الخروج أيضا عن قاعدة انحلالية الأوضاع في المشتقات في خصوص الأوصاف ، فان الجمع بين الأمور المزبورة لايكاد يمكن الا بالمصير إلى ما ذكرنا من جعل مفاد الأوصاف عبارة عن المبدأ القائم بالذات غايته لا بما ان المبدأ يكون ملحوظا استقلالا في قبال الذات بل بما انه وجه وعنوان للذات بنحو لايرى من مثل العالم والقائم والقاعد الا الذات المتجلية بجلوة العلم والقيام والقعود. وربما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا ما وقع منهم من الصدر الأول إلى الآن من التعبير عن المشتق في مقام تحرير أصل عنوان المسألة وغيره بالذات المتلبسة بالمبدأ فان في تعبيرهم بالتلبس بالمبدأ شهادة على أن المبدأ في الأوصاف لايكون الا مأخوذا كونه لباسا للذات ووجها لها بنحو كان النظر إلى الذات في مقام الحكم على العنوان استقلاليا والى نفس المبدأ تبعيا

ص: 144

نظير النظر الذي إلى زيد الذي يتبعه النظر إلى لباسه أيضا كما هو ذلك أيضا في مقام الخارج.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر لك أيضا وجه صحة جعل الأوصاف محمولات في القضايا في مثل قولك : زيد قائم أو عالم ، إذ نقول : بان لحاظ المبدء بالعنوان اللابشرطي أعني لحاظه لا في قبال الغير وان كان مصححا للحمل كما أفادوه في مقام الفرق بين الأوصاف والمصادر من حيث اباء الثاني وعصيانه عن الحمل دون الأول وكذا في اجزاء المركب في المركبات الخارجية والتحليلية في نحو الجنس الفصل والهيولي الصورة لكن ما هو المصحح للحمل في الحقيقة بعينه هو المصحح في صورة وقوع الأوصاف موضوعا للأحكام ، وذلك لما يرى بالوجودان من عدم الفرق بين صورة جعل تلك الأوصاف موضوعا للأحكام في القضايا وبين صورة جعلها محمولا فيها ، وان ما هو المحمول في مثل زيد ضارب بعينه هو الموضوع للحكم في مثل قوله : أطعم الضارب ، من دون رعاية عناية في البين أصلا ، فيكون يكشف ذلك عما ذكرناه من المناط وانه انما هو باعتبار اخذ المبدء ولحاظه وجها وعنوانا للذات وطورا من أطوارها لا من جهة اعتباره بعنوان اللابشرطية والايلزمه الاحتياج إلى رعاية عناية في البين في صورة جعل الأوصاف موضوعا في القضايا. وحينئذ ففي ذلك أيضا شهادة على بطلان المسلك الثالث في البساطة ، لأنه على ذلك المسلك لايكون المشتق الا عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات فليس هناك ذات حينئذ كي يصح ان يجعل المبدء وجها وعنوانا لها كما لايخفى.

لايقال : بأنه على المعنيين الأولين من البساطة كما يمكن ان يكون المبدء ملحوظا تبعا للذات ووجها لها كذلك يمكن ان يكون ملحوظا استقلالا لا تبعا للذات وعليه فلايختص الاشكال بالمسلك الأخير.

فإنه يقال : نعم انه وان أمكن ذلك أيضا الا ان المعين لتبعيته للذات في مقام اللحاظ انما هو وقوعها موضوعا لبعض الاحكام الخاصة من نحو وجوب الاكرام والاطعام وتقبيل اليد والرجل ونحوهما مما لايصح الا بنفس الذات فكان مثل هذا المعنى قابلا للسريان في جميع الموارد بخلافه على المعنى الآخر كما هو واضح.

اخطار : قد تقدم في أصل المسألة قول لبعض الاعلام بالتفصيل في كون المشتق حقيقة في الأعم أو المتلبس الفعلي بين كون المشتق مركبا أو بسيطا وانه على الأول يتعين القول بكونه حقيقة في الأعم وعلى الثاني يكون حقيقة في خصوص المتلبس الفعلي

ص: 145

نظرا إلى أن الحمل لايكون الا بملاك الاتحاد في الوجود والاتحاد لايكون الا في ظرف الوجود. ولكن التحقيق يقتضي خلافه ، إذ نقول : بأنه اما على القول بالتركب سواء كان ثلاثيا أو ثنائيا فلا شبهة في أنه قابل في نفسه للاختصاص بالمتلبس الفعلي أيضا ولا يتعين القول به للقول بالحقيقة في الأعم ، كما عرفت شرحه مفصلا ، بل قد عرفت فيما سبق بمقتضي الأدلة المتقدمة تعين القول بالمتلبس الفعلي ، واما على القول بالبساطة فعلى البساطة بالمعنى الثاني أيضا يكون قابلا للامرين إذ مرجع النزاع حينئذ إلى أن المشتق حقيقة في المبدأ بمقدار اتحاده مع الذات وتطابقه معها كي يختص بالمتلبس الفعلي ، أو انه حقيقة فيه لا بهذا النحو بل مع تجويز كون الذات أوسع منه كي يعم حال التلبس وغيره. نعم على المعنى الثالث في البساطة لما كان لم يؤخذ فيه ذات ولم تلحظ الأنفس المبدأ في قبال الذات يتعين عليه القول بخصوص المتلبس الفعلي لكن ذلك أيضا لا من جهة انه هو المختار في المسألة بل من جهة عدم تصور جريان هذا النزاع فيه لعدم تصور الانقضاء فيه. وهذا بخلافه على المعاني الاخر فإنه فيها تكون الذات ملحوظة اجمالا اما ضمنا أو استقلالا بلحاظ المبدأ تبعا لها فتكون قابلة بهذه الجهة لجريان النزاع فيها في كونه للأعم أو المتلبس الفعلي. وعليه فالتفصيل المزبور بين القول بالتركب وبين القول بالبساطة خال عن التحصيل كما لايخفى.

بقى الكلام فيما استدل به الشريف
اشارة

على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية.

فنقول : انه استدل على البساطة فيما حكى عنه بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من الذات والمبدأ فلا يخلو : اما ان يكون المأخوذ هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو مصداقها والشيئية الخاصة ، وعلى التقديرين لايمكن دعوى اخذ الذات في مفهومه ومعناه لعدم خلوه عن المحذور ، وذلك اما على الأول ( من فرض اخذ مفهوم الذات فيه ) فمن جهة لزوم دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان المشتق من الذاتيات كالناطق وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا له ، لأنه على هذا التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير

ص: 146

الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل ، فهو أيضا يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان ، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل وهو الناطق ، وهو واضح. واما على الثاني ( وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق الذات والشيئية الخاصة ) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة في مثل الانسان ضاحك ضرورية ، لان مصداق الذات حينئذ لايكون الا الانسان وثبوته لنفسه ضروري ، بل ولزومه أيضا دخول النوع في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه.

ولكن لايخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه هذه المحاذير : من لزوم دخول العرض في الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى ، ولكنك قد عرفت مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه لايكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا معنى بسيطا ، وان ما هو محل البحث والنزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل المعقول بأنه علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم ومنشأ انتزاع هذا المفهوم؟ أم لا؟ بل هو بحسب الحقيقة مركب بحيث في مقام الانحلال ينحل إلى جهة مبدأ وذات ، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب الحقيقة عند التحليل ، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركب من المبدأ والذات والنسبة لايترتب عليه شيء من المحاذير من جهة ان القول بذلك لايقتضي دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الاغماض عن ذلك والبناء على جريان هذا الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول : بان ما أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في فرض كون المأخوذ هو مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم من دون كونها عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي والا فبناء على إرادة دخولها بما هي مرآة جمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة انسانا وسادسة غير ذلك

ص: 147

على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات ، فلايتوجه هذا المحذور إذ يمكن ان يقال حينئذ : بان ما هو المحمول والمعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لايخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول : بان ما افاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء على التركب من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات وأخرى مصداقها ليس على ما ينبغي ، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق الثلاثة : من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم ، وأخرى هذا المفهوم بما هي مرآة اجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما يناسبها ، وثالثة مصداق الذات ، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو الشق الأوسط من الشقوق الثلاثة.

وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها كما هو واضح من دون احتياج إلى التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول بان كون الناطق فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلاينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك كي يتوجه عليه اشكال الكفاية قدس سره بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من المعنى دون تصرف فيه ، ولا إلى سلب الفصلية عن الناطق حقيقة والمصير إلى كونه من أظهر الخواص وانه فصل مشهوري كما في الكفاية ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث من دعوى ان المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما افاده بعض الاعلام ، كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه بناء على التركب فهل المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله فصلا مشهوريا ومن أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لايكون الا أمرا اعتباريا منتزعا عن منشئه من دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لايكون بأقل من محذور دخول العرض في الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول : بان الناطق فصل حقيقي للانسان ومع ذلك لايتوجه الاشكال لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو منشأ انتزاع مفهوم الذات والشيء الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما و

ص: 148

رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما افاده من الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي في مثل الناطق.

واما ما افاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق الذات والشيئية الخاصة ، فيمكن دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول : من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة بالوصف دون الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا فكذلك المقيد أيضا فلايكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا ، وعليه فقضية زيد كاتب أوضاحك قضية ممكنة لا ضرورية.

ولا يرد عليه ما في الكفاية : من عدم اضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو خروج القيد ودخول التقيد بما هو معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ثبوت الانسان المقيد بالضحك للانسان ، واما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين : قضية الانسان انسان وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة ، وذلك من جهة ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين : ايقاعية ووقوعية والمراد من الأول هو حصول النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن أصل ثبوتها وتحققها ، فكانت النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع ، وكانت القضايا المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا المشتملة على النسب الثانية مسماة بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم ، فعلى ذلك لو قيل ( الانسان ضاحك أو كاتب ) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان انسان له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدي حينئذ تقيد المحمول بوصف امكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.

ص: 149

أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد أن كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من الموضوع ومعه لايكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان ، هذا بناء على فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع ومعه يكون ثبوته له بالامكان لا بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لايكاد يجدي تلك في المقام بعد عدم اقتضائه لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى التوأم للانسان أيضا يكون بالامكان لا بالضرورة. وحينئذ فما افاده في الفصول في اثبات عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وان كان قد شطر هو قدس سره فيه ويا ليته لم يشطر في كلام نفسه.

تذييل ( وفيه إشارة إلى ما سبق )

وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ نقول : بأنه كما على القائل بالتركب من المبدء والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة والنسبة هل هو مفهوم الذات والشيء أو مصداقها؟ بل ولابد أيضا ذلك على المعنى الثالث. نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق ولم تلحظ أصلا إذا المشتق عليه عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات ولذا التجأ في مقام الفرق بين المشتق والمصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية.

وحينئذ نقول مقدمة : بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها مرآة لشيء آخر وأخرى تكون مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك : أكرم من في الصحن مشيرا به إلى الأشخاص الخاصة

ص: 150

من زيد وعمرو وبكر وعلى الثاني فتارة يجعل ذلك مرآة إلى الأشخاص والمصاديق الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة إلى الأنواع والأصناف. والفرق بينهما واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال بالخصوصية من حيث التشريع وعدمه كما في صورة اكرام زيد العالم بقصد الخصوصية الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب أكرم العالم فإنه على بعض التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك.

وبعد ما عرفت ذلك نقول : بان تلك المحتملات الثلاثة وان كانت جارية في الذات ولكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها مرآة إلى الأنواع والأصناف ، فان الاحتمال الأول مما لايمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم دخول العرض في الفصل في مثل الناطق ، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه كما في قوله : أكرم العالم ، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه غاية البعد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم والضاحك ، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع والأصناف بما يناسب في كل مشتق حسب اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها ، وبذلك نجمع بين اتحاد المشتقات من وجه واختلافها من وجه فنقول : بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق كالعالم والقائم والضارب ونحوها عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو موجه بوجه المبدء المأخوذ فيه ، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا ، ولذلك أيضا دفعنا ما أورده المحقق الشريف من الاشكال في مثل الناطق فقلنا : بان ما هو الفصل الحقيقي في مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه المبدأ دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.

الامر الثاني :

لايخفى عليك انه لا فرق فيما ذكرنا في المشتقات بين الأوصاف الجارية على الممكنات

ص: 151

وبين الأوصاف الجارية على الواجب سبحانه ، فكما انه في الأوصاف الجارية على غيره سبحانه تجرى المحتملات المتصورة الأربعة في التركب الانحلالي والبساطة ، كذلك تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه كالعالم والقادر والحي ، إذ لا وجه لتخصيص النزاع المزبور بالأوصاف الجارية على الممكن الا ملاحظة عدم تصور المغايرة في الواجب بين الذات والوصف نظراً إلى رجوع جميع الصفات الثبوتية الكمالية إلى ذاته تعالى وكون علمه سبحانه عين ذاته وذاته المقدسة عين قدرته وارادته وهكذا بلا ان يكون فيه سبحانه حيث وحيث ، فإنه من اجل ملاحظة هذه الجهة ربما يتوهم تعين القول الرابع بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه ، بل ولعل مثل هذه الجهة أيضا ألجأ أهل المعقول في مصيرهم إلى بساطة المشتق مطلقا وجعلهم إياه عبارة عن صرف المبدأ المقابل للذات. ولكنه توهم فاسد إذ نقول بأنه في الواجب سبحانه وان لم يكن حيثية دون حيثية ولا مغايرة بين علمه وقدرته وارادته وذاته فكان هو سبحانه بحتا بسيطا من جميع الجهات وكان علمه بين ذاته وذاته عين قدرته وارادته لرجوع جميع الكمالات إلى ذاته ووجوده ، ولكن نقول بان عقول الممكنات طرا لما كانت قاصرة على الإحاطة بذلك الواحد الأحد ولم تدرك منه سبحانه الا بقدر قابليتها واستعدادها فلا جرم إذا كان هم عقول الممكن جهة دون جهة وقصر النظر على علمه أو قدرته أو حياته أو ارادته سبحانه يصير مدركه لا محالة محدودا في نظره بحيث ينتزع من حد ما أدركه حيثية الذات تارة ، والعلم أخرى ، وحيثية الإرادة والقدرة ثالثة ، وهكذا ، من دون ان يكون تلك الحيثيات الانتزاعية الناشئة من جهة قصور النظر راجعة إليه سبحانه. وحينئذ فإذا كانت تلك المغايرة والحيثيات ناشئة من جهة قصور درك عقول الممكن لذلك الواحد الأحد ، فلا جرم المحتملات الأربعة المزبورة تجري في الأوصاف الجارية عليه سبحانه من كونه موضوعا للمبدء مع الذات والتلبس بأجمعها كما هو قضية القول بالتركب الانحلالي أو موضوعا للمبدء والنسبة ، أو لنفس المبدأ فقط. كما أن المصحح للحمل فيها أيضا هو المغايرة المزبورة ذهنا الناشئة من جهة قصور درك العقل إذ لايحتاج في صحة الحمل إلى أزيد من المغايرة بين المفهومين من وجه واتحادهما خارجا. نعم غاية ما هناك هو كون الاتحاد بالنسبة إلى الأوصاف الجارية عليه سبحانه عينيا وبالنسبة إلى الأوصاف الجارية على غيره سبحانه اينيا فتدبر.

ص: 152

الامر الثالث

قد علم مما سبق ان الهيئة في المشتق تدل على قيام المبدء بالذات على اختلاف أنحاء القيام حسب اختلاف المبادي صدورا أو حلولا أو وقوعا ، ففي المبادئ اللازمة تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الحلول كالميت والقائم والذاهب ونحوها وفي المبادي المتعدية كالضارب ونحوه تدل الهيئة على قيام المبدأ بالذات بنحو الصدور وفي مثل المقتول والمضروب والمقتل تدل الهيئة على قيام المبدء بالذات بنحو الوقوع عليه أو فيه ، وفي مثل العالم الجاري على الممكن تدل على القيام بنحو الحلول ، وفى الجاري عليه سبحانه تدل على القيام بنحو الاتحاد العيني لكونه منتزعا عن بعض الجهات المدركة من الذات ، والجامع في الكل هو القيام بذات المجري عليه بنحو من أنحائه.

نعم في مثل المولم والمقيم ربما يقع الاشكال بلحاظ ان المبدأ وهو الأعم والقيام فيهما لايكون له قيام بذات المجري عليه بل قيامهما انما كان بالغير وجهة ايجادهما واصدارهما كان قائما بذات المجري عليه ، نعم هذا الاشكال لايتوجه في مثل الضارب فان الايجاد فيه مستفاد من نفس المبدء وقيام الايجاد والاصدار كاف فيه ، بخلافه في مثل المؤلم والمقيم إذا المبدأ فيهما كان لازما ولايكون باصداري وحينئذ فجعل مثل الضارب في عداد المؤلم والمقيم في الاشكال كما في الكفاية مما لا وجه له. وعلى كل حال فلابد حينئذ في التفصي عن الاشكال من الالتزام بأحد الامرين اما رفع اليد عما ذكرناه من لزوم قيام المبدء في المشتقات بنفس ذات المجري عليه والاكتفاء بمطلق القيام ولو بالغير ، أو الالتزام باختلاف الهيئات وان الهيئة في بعضها تدل على صرف قيام المبدء بالذات وبعضها على قيام ايجاد المبدء كما في المؤلم والمقيم.

واما توهم ان المبدأ في المؤلم والمقيم انما كان هو الايلام والإقامة وهما دالان على الايجاد فالهيئة فيهما تدل على قيام هذا الايجاد بالذات من دون احتياج إلى دلالة الهيئة عليه كي يلتزم باختلاف الهيئات ، فمدفوع بما تقدم بان المبدأ في المشتقات لايكون هو المصدر بل وانما المبدأ في الجميع هو المعنى الساري في جميع الصيغ من الافعال والمصادر والأسماء والمزيد وغيره ، وارجاع علماء الأدب صيغ كل باب من المزيد وغيره إلى

ص: 153

مصدره وجعلهم المصدر من كل باب أصلا ومبدأ لسائر الصيغ استحساني محض ، والا ففي الحقيقة ما هو المبدأ والأصل في جميع الهيئات من كل باب لايكون الا المعنى المحفوظ الساري في ضمن الجميع ، وعليه فألف اكرام مثلا لايكون جزء للمادة بل وانما هي مقوم للهيئة نظير الف ضارب وميم مقتول ومضروب.

كما أن توهم ان الهيئة الطارية على المادة في نحو المؤلم والمقيم هيئتان طوليتان دالة إحديهما على الايجاد والأخرى على القيام بالذات ، مدفوع بأنه من المستحيل ، لكونه أشبه شيء بطرو الصورتين على مادة واحدة في زمان واحد ، وبطلان هذا المعنى واضح لايحتاج إلى البيان.

وحينئذ فلا محيص الا من الالتزام بأحد الامرين المزبورين اما الالتزام باختلاف الهيئات أو رفع اليد عما ذكرناه من دلالة الهيئة على قيام المبدأ بالذات والاكتفاء في هيئات المشتقات بمطلق القيام بالذات ولولا بذات المجري عليه ، وفي مثله ربما كان المتعين هو الأول فنلتزم باختلاف الهيئات في المشتقات باختلاف الأبواب الثلاثي والمزيد ولكنه لا بنحو التباين بل بنحو القلة والكثرة فكان هيئة اسم الفاعل في أبواب الثلاثي المجرد مثلاتدل على قيام المبدء وتزداد في مثل باب الافعال فتدل هيئة اسم الفاعل فيها على قيام ايجاد المبدأ بالذات المجري عليها ، وكذا في باب الانفعال والافتعال فتدل الهيئة على قيام القبول والتطوع بالذات ، وقد تزيد أيضا فتدل على قيام المضاعفة كما في باب التفعيل ، وهكذا فتدبر.

دفع وهم : قد يقال بعدم دلالة المشتق على النسبة التي هي معنى حرفي نظراً إلى اقتضائه حينئذ تضمن المعنى الحرفي فيلزمه لا محالة كونه مبنيا لا معربا ، بل ومن هذه الجهة أنكر دلالة سائر الصيغ على النسبة الناقصة حتى المصدر أيضا. ولكنه مدفوع حيث نقول بان ما دل على النسبة الناقصة انما هي الهيئة القائمة بالمادة العارية عن النسبة وانه لايكاد يقتضي مجرد ذلك بناء الاسم إذ الأسماء المبنية هي التي وضعت بوضع واحد لما اشتمل على النسبة وأين ذلك والمقام الذي كان الدال على النسبة نفس الهيئة! كيف وان لازم هذا المعنى هو الغاء الهيئة عن الوضع المستقل رأسا والمصير إلى كون وضع المشتقات من قبيل وضع الجوامد وهو كما ترى.

الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات تلبس

ص: 154

الذات بالمبدأ حقيقة ، بل يكفي فيه مطلق تلبسها به ولو عناية أو ادعاء كما في الميزاب جار بأي نحو فرض من العنايات ، اما بتصرف في مدلول الكلمة واستعمالها في غير معناها الحقيقي ، واما بتصرف في الاسناد مع ابقاء الكلمة على معناها الحقيقي بان كان الاسناد أي اسناد الجريان إلى غير ما هو له ، واما بتصرف في الامر العقلي بمعنى التصرف في موضوع الجريان بادعاء كون الميزاب من مصاديق ما هو موضوع الجريان ثم اسناد الجريان إليه مع ابقاء الكلمة والاسناد على حالهما نظير قولك رأيت أسدا مريدا به الرجل الشجاع بعد ادعائك كونه هو الأسد ، فإنه على كل تقدير يصح جرى المشتق على الذات ، وان كان المتعين من بين المحتملات المزبورة هو الأخير لكونه أقل عناية من غيره وأقرب إلى الاعتبار وما يقتضيه الوجدان ، فعلى ذلك لا وجه لما في الكفاية من المصير إلى المجاز في الاسناد في مقام الرد على الفصول ، وان كان لا مجال أيضا لما افاده الفصول من الالتزام باعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة كما لايخفى. هذا تمام الكلام في المشتقات.

ص: 155

الكلام في المقاصد فنقول :

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

وفيه مباحث :

المبحث الأول
اشارة

فيما يتعلق بمادة الامر ، ويقع الكلام فيه في جهات :

الجهة الأولى :

في معنى الامر فنقول وبه نستعين ان الامر يطلق على معان : منها الطلب كما يقال امره بكذا أي طلب منه كذا. ومنها الشأن ومنه شغلني امر كذا أي شأن كذا. ومنها الفعل ومنه وما امر فرعون برشيد أي فعله. ومنها الشيء كقولك رأيت اليوم أمرا عجبا. ومنها الحادثة والغرض كقولك وقع اليوم امر كذا وجئتك لأمر كذا. ومنها غير ذلك. ولكن التحقيق كونه حقيقة في خصوص الشيء الذي هو من الأمور العامة العرضية لجميع الأشياء الشامل للفعل والشأن والحادثة والشغل ونحو ذلك فكان اطلاقه في تلك الموارد المختلفة بمعناه غايته من باب الدالين والمدلولين حيث أريد تلك الخصوصيات بدوال أخر من غير أن يكون الامر مستعملا في تلك الموارد في مفهوم الغرض والتعجب والفعل ولا في مصداقها بوجه أصلا. نعم ذلك كله بالنسبة إلى غير المعنى الأول وهو الطلب واما بالنسبة إليه فهو وان كان أيضا أمرا من الأمور وشيئا من الأشياء فكان من مصاديق ذلك العنوان العام العرضي ، ولكن الظاهر كونه موضوعا بإزائه بالخصوص أيضا قبالا لوضعه لذلك المعنى العام العرضي ، كما أن الظاهر هو كونه من باب الاشتراك اللفظي دون الاشتراك المعنوي بملاحظة عدم جامع قريب بينهما ، كما يشهد لذلك قضية اختلافهما من حيث الاشتقاق وعدمه فإنه بمعنى الطلب يكون معناه اشتقاقيا فيشتق منه صيغ كثيرة من المصدر والفعل الماضي والمضارع واسمى الفاعل و

ص: 156

المفعول كما يقال : امر يأمر آمر مأمور بخلافه على كونه بمعنى الشيء فإنه عليه يكون من الجوامد. وربما يشهد لذلك أيضا قضية الجمع فيهما ، من مجيئه على الأول على الأوامر وان كان على غير القياس ، وعلى الثاني على الأمور ، والجمع يرد الأشياء إلى أصولها وحينئذ فلاينبغي الاشكال في كونه موضوعا بالخصوص للطلب أيضا.

ثم إن محل الكلام في المقام انما هو الامر بمعنى الطلب دونه بمعنى الشيء فلابد حينئذ من بيان انه هل هو موضوع للطلب الحقيقي والإرادة القائمة بالنفس بحيث كان القول أو الإشارة مبرزا لها وكاشفا عنها؟ أو انه موضوع للطلب المبرز بالقول أي مفهومه المبرز بالقول أو بالأعم منه ومن الإشارة ونحوها؟ أو انه موضوع لنفس ابراز الطلب بالقول أو الإشارة؟ حيث إن فيه وجوها ، أبعدها الأول ، لما يرى من عدم صدق الامر على مجرد الإرادة النفسانية الغير البالغة إلى مرحلة الابراز حيث لا يصدق على من كان طالبا لشيء من عبده ومريدا له منه بلا ابراز ارادته بالقول أو نحوه أنه آمر به ، بل الصادق عليه انه طالب ومريد غير آمر ، على أن لازم ذلك هو ان يكون استعماله دائما في غير معناه الموضوع له لان ما يجيء في الذهن عند الاستعمال لايكون الا صورة الإرادة ومفهومها لا حقيقتها وعليه فلايكون استعماله في معناه الحقيقي الذي هو الإرادة القائمة بالنفس.

وحينئذ فبعد بطلان هذا المعنى يدور الامر بين كونه حقيقة في الطلب المبرز بما هو مبرز بالقول أو الإشارة بنحو خروج القيد ودخول التقيد أو كونه حقيقة في ابراز الطلب وهو القول الحاكي عنه ، ولكل منهما وجه وجيه ، وان كان قد يقال بتعين الأخير نظراً إلى ظهور العنوان وهو الامر في الاختيارية وكونه على الأخير اختياريا بتمامه من الابراز والتقيد بالطلب ، بخلافه على الأول ، فإنه من جهة جزئه الركني وهو الطلب غير اختياري. ولكنه توهم فاسد ، فان ما ذكر مجرد استحسان لا يثبت به الوضع خصوصا مع استلزام الأخير لعدم صحة الاشتقاقات منه باعتبار عدم كون معناه حينئذ معنى حدثيا قابلا للاشتقاق ، لان ما هو المبرز حينئذ انما كان هو الهيئة ومعناه لايكون الا معنى جامديا غير حدثي بخلافه على الأول فان المعنى عليه بنفسه يكون معنا حدثيا قابلا للاشتقاق منه. وما قيل من أنه على الأول أيضا يلزمه خروج الصيغ كلها عن المصداقية للامر من جهة عدم كونها عبارة عن نفس الطلب وانما هي مبرزات عنه ، مدفوع بأنه لو سلم ذلك فإنما يرد هذا المحذور لولا كونها وجوها للطلب ولو من جهة شدة حكايتها عنه و

ص: 157

الا فبهذا الاعتبار تكون عين الطلب ويحمل عليها الطلب بالحمل الشايع.

وبالجملة نقول : بأنه بعد لم يقم دليل معتد به على تعين أحد الاحتمالين بالخصوص حتى يؤخذ به ، وما ذكر من الوجوه تقريبات استحسانية محضة خصوصا مع عدم ترتب ثمرة في البين على كونه حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، من جهة ان القائل بكونه حقيقة في ابراز الطلب انما يدعى كونه حقيقة فيه بما انه حاك عن الطلب وبما هو وجه له لا بما انه نفس الابراز ولو مع عدم الحكاية عن الطلب ، وحينئذ فالأولى هو صرف الكلام عن تلك الجهة.

نعم ينبغي ان يعلم بأنه على كلا التقديرين لا خصوصية لخصوص الابراز بالقول في صدق الامر بل الابراز بما انه يعم القول والإشارة ونحوها ، واما ما يرى في بعض الكلمات من التعبير عنه بالطلب بالقول فإنما هو لمكان الغلبة لا من جهة خصوصية في الابراز القولي ، كما هو واضح.

نعم يبقى الكلام في جهة أخرى وهي ان الامر هل هو عبارة عن نفس الطلب أي المفهوم المتنزع عن حقيقته غايته بما انه يرى عين الخارج لا بما انه مفهوم ذهني ولا بما هو كما في كلية مداليل الألفاظ كي يكون لازمه عدم انطباقه على مجرد الطلب الانشائي؟ أو أنه عبارة عن هذا المفهوم لكنه بما هو موقع باستعمال اللفظ فيه بقصد الايقاع المعبر عنه بالطلب الانشائي؟ حيث إن فيه وجهين اختار ثانيهما في الكفاية حيث قال : بان لفظ الامر حقيقة في الطلب الانشائي الذي لايكون طلبا بالحمل الشايع بل طلب انشائي سواء أنشأ بمادة الامر أو بمادة الطلب ، مثل آمرك واطلب منك كذا ، أو بصيغة افعل. ولكن التحقيق يقتضي خلافه وانه لايكون الامر حقيقة الا في نفس المفهوم بما هو حاك عن الطلب الحقيقي الخارجي ، فما هو المستعمل فيه في مثل اطلب منك بداعي الانشاء لايكون الأنفس المعنى وصرف المفهوم ، غايته ان استعماله فيه مكيف باستعمال انشائي بمعنى كونه بداعي موقعية المفهوم وموجديته ، فكان حيث الانشائية من شؤون نحو الاستعمال وكيفياته القائمة به لا انه مأخوذ في ناحية المستعمل فيه ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد ، لأنه من المستحيل اخذ مثل هذه الجهة ولو تقيدا في ناحية المستعمل فيه ، وهذا واضح بعد وضوح تأخر الاستعمال عن المستعمل فيه تأخر الحكم عن موضوعه. وحينئذ فلا محيص من دعوى ان المعنى انما كان عبارة عن صرف المفهوم بما انه حاك عن الطلب

ص: 158

الحقيقي الخارجي الذي بوجه عينه دون الطلب الانشائي ، على أن لازم هذا القول هو صدق الامر والطلب ولو لم يكن في البين في الواقع طلب ولا إرادة كما في الأوامر الامتحانية والأوامر المنشأة بداعي السخرية ، مع أنه كما ترى ، إذ المتبادر من قوله : امر بكذا ، انما هو البعث نحو الشيء عن إرادة جدية دون البعث بغيرها من الدواعي. واما احتمال ان المراد من الطلب المذكور في عبارته هو الطلب الموقع بالاستعمال بما هو موصوف بوصف الموجدية ولو باعتبار كاشفية المستعمل فيه اللفظ عن الإرادة الجدية دون الطلب الانشائي بما هو طلب انشائي ، فمدفوع بأنه وان أمكن هذا الحمل فيرتفع به المحاذير ويصدق عليه أيضا الطلب الانشائي باعتبار كونه موقعا باستعمال اللفظ في مفهومه بعنوان مرآتية المفهوم عن الطلب الحقيقي ويصدق عليه أيضا بهذا الاعتبار الطلب الحقيقي بنحو الحمل الشايع ، ولكنه يبعده ما صرح به هو قدس سره بان مدلول الامر ليس هو الطلب الذي يصدق عليه الطلب بالحمل الشايع ، وعليه فيتجه الاشكال المزبور من لزوم صدق الامر عند الخلو عن الإرادة. فتلخص ان الامر على مسلك الكفاية قدس سره عبارة عن الطلب بما هو منشأ وموقع ، فكان الانشاء الذي هو من شؤون نحو الاستعمال ومن كيفياته مقوما لتحقق الامر ، ومن هذه الجهة يكون الامر على مسلكه منتزعا عن الرتبة التي بعد الانشاء المتأخر عن الاستعمال ، فيكون تأخره عن نفس مفهوم الطلب المستعمل فيه اللفظ بمرتبتين من دون دخل للإرادة الجدية أيضا في صدق الامر وتحققه. واما على ما سلكناه فيكون الامر عبارة عن نفس الطلب أي مفهومه بما هو حاك عن الطلب الحقيقي القائم بالنفس ، فبهذا الاعتبار يصدق عليه الطلب الحقيقي ويحمل عليه بالحمل الشايع.

الجهة الثانية :

بعد ما عرفت من أن الامر حقيقة في الطلب المبرز أو في ابراز الطلب ، فهل يعتبر فيه أيضا العلو؟ أو انه لا يعتبر فيه ذلك فيصدق الامر على مطلق الطلب الصادر ولو كان صدوره من المساوي أو السافل؟ فيه وجهان : أقويهما الأول لصحة سلبه عن الطلب الصادر عن السافل والمساوي حيث يصح ان يقال : انه ليس بأمر حقيقة بل هو سؤال والتماس ،

ص: 159

كيف وان الامر انما هو مساوق ل ( فرمان ) بالفارسية ، وهو يختص بما لو كان الطالب هو العالي دون السافل أو المساوي إذ لا يصدق ( فرمان ) على الطلب الصادر عن غير العالي. واما ما يرى من تقبيح السافل المستعلى فيما لو امر سيده بأنك لم أمرت سيدك ومولاك فإنما هو على استعلائه وتنزيل نفسه عاليا الموجب لصدور الامر منه ، لا ان التقبيح على امره ، لصدق الامر عليه حقيقة بعد استعلائه. ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان توهم كفاية أحد الامرين في تحقق حقيقة الامر : اما العلو والاستعلاء ، وذلك فان غير العالي لايكاد يصدق على طلبه الامر الذي هو مساوق ( فرمان ) ولو استعلى غاية الاستعلاء ، كما أن العالي بمحض صدور الامر منه يصدق على طلبه وأمره ، الامر و ( فرمان ) وان لم يكن مستعليا في امره بل كان مستخفضا لجناحه. وعليه فما هو المعتبر في حقيقة الامر انما كان هو العلو خاصة ، واما الاستعلاء زائدا عن جهة العلو فلا يعتبر فيه بوجه من الوجوه ، كما هو واضح.

الجهة الثالثة :

في أن الامر هل هو حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي؟ أو انه حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الوجوبي والاستحبابي؟ فيه وجهان : أظهر هما الثاني ، لصدق الامر حقيقة على الطلب الصادر من العالي إذا كان طلبه استحبابيا حيث يقال له : انه امر وبالفارسية ( فرمان ) من دون احتياج في صحة اطلاق الامر عليه إلى رعاية عناية في البين ، حيث إن ذلك كاشف عن كونه حقيقة في مطلق الطلب والا لكان يحتاج في صدق الامر وصحة اطلاقه على الطلب الاستحبابي إلى رعاية عناية في البين ، كما هو واضح. ومما يشهد لذلك بل يدل عليه أيضا صحة التقسيم إلى الوجوب والاستحباب في قولك : الامر اما وجوبي واما استحبابي ، وهو أيضا علامة كونه حقيقة في الجامع بينهما.

نعم لا اشكال في ظهوره عند اطلاقه في خصوص الطلب الوجوبي بحيث لو أطلق وأريد منه الاستحباب لاحتاج إلى نصب قرينة على الرخصة في الترك ، ومن ذلك أيضا ترى ديدن الأصحاب ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في الفقه في الأوامر الواردة عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة علیهم السلام ، حيث كانوا يحملون الأوامر الواردة عنهم على

ص: 160

الوجوب عند خلو المورد عن القرينة على الاستحباب والرخصة في الترك حتى أنه لو ورد في رواية واحدة أوامر متعددة بعدة أشياء كقوله : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، ونحوه ، فقامت القرينة المنفصلة على إرادة الاستحباب في الجميع إلا واحدا منها تريهم يأخذون بالوجوب فيما لو تقم عليه قرينة على الاستحباب ، بل وتريهم كذلك أيضا في أمر واحد كقوله : إمسح ناصيتك ، حيث إنهم أخذوا بالوجوب بالنسبة إلى أصل المسح وحملوه على الاستحباب بالنسبة إلى الناصية مع أنه امر واحد ، وهكذا غير ذلك من الموارد التي يطلع عليها الفقيه ، ومن المعلوم أنه لايكون الوجه في ذلك الا حيث ظهور الامر في نفسه في الوجوب عند اطلاقه ، وحينئذ فلا اشكال في أصل هذا الظهور.

نعم انما الكلام والاشكال في منشأ هذا الظهور وانه هل هو الوضع أو هو غلبة الاطلاق أو هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة؟

فنقول : اما توهم كون المنشأ فيه هو الوضع فقد عرفت فساده وأنه يكون حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الإلزامي وغيره بشهادة صحة التقسيم وصحة الاطلاق على الطلب الغير الإلزامي. واما ما استدل به من الآيات والأخبار الكثيرة لاثبات الوضع للوجوب ، من نحو قوله : سبحانه « فليحذر الذين يخالفون عن امره » وقوله عز من قائل مخاطبا لإبليس : ( ما منعك ان تسجد إذ أمرتك ) وقوله صلی اللّه علیه و آله : ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) وقوله صلی اللّه علیه و آله أيضا لبريرة حين قال له أتأمرني يا رسول اللّه : ( لا بل أنا شافع ) من تقريب انه جعل المخالفة للامر في الأول ملزوما لوجوب لحذر ، وفى الثاني للتوبيخ ، وفى الثالث للمشقة ، وحيث لايجب الحذر من مخالفة الامر الاستحبابي ولايصح التوبيخ عليه ولا كان مشقة يترتب على الامر الاستحبابي بعد جواز الترك شرعا ، فلا جرم يستفاد من ذلك كونه حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي ، فان التقيد بالوجوب في تلك الأوامر خلاف ظاهر تلك الأدلة من جهة قوة ظهورها في ترتب هذه اللوازم على طبيعة الامر لا على خصوص فرد منه ، وحينئذ فتدل تلك الأدلة بعكس النقيض على عدم كون الامر الاستحبابي أمرا حقيقة بلحاظ عدم ترتب تلك اللوازم عليه. فنقول : بأنه يرد على الجميع بابتناء صحة الاستدلال المزبور على جواز التمسك بعموم العام للحكم بخروج ما هو خارج عن حكم العام عن موضوعه ، إذ بعد أن كان من المقطوع عدم ترتب تلك اللوازم من وجوب الحذر

ص: 161

والتوبيخ والمشقة على الامر الاستحبابي أريد التمسك به لا ثبات عدم كون الامر الاستحبابي من المصاديق الحقيقية للامر ليكون عدم ترتب اللوازم المزبورة عليه من باب التخصص والخروج الموضوعي لا من باب التخصيص ، نظير ما لو ورد خطاب على وجوب اكرام كل عالم وقد علم من الخارج بعدم وجوب اكرام زيد لكنه يشك في أنه مصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم من باب التخصيص أو انه لايكون مصداقا للعالم كي يكون خروجه من باب التخصص ، ولكنه نقول بقصور أصالة العموم والاطلاق عن إفادة اثبات ذلك فان عمدة الدليل على حجيته انما كان هو السيرة وبناء العرف والعقلاء ، والقدر المسلم منه إنما هو في خصوص المشكوك المرادية وهو لايكون الا في موارد كان الشك في خروج ما هو المعلوم الفردية للعام عن حكمه ، وحينئذ فلايمكننا التمسك بالأدلة المزبورة لاثبات الوضع لخصوص الطلب الإلزامي خصوصا بعد ما يرى من صدقه أيضا على الطلب الاستحبابي ، كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى الوضع.

واما الغلبة فدعواها أيضا ساقطة بعد وضوح كثرة استعماله في الاستحباب. ومن ذلك ترى صاحب المعالم قدس سره فإنه بعدان اختار كون الامر حقيقة في خصوص الوجوب قال : بأنه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة علیهم السلام ان استعمال الامر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فمن ذلك استشكل أيضا وقال : بأنه يشكل التعلق في اثبات وجوب امر بمجرد ورود الامر به منهم علیهم السلام . وحينئذ فلا يبقى مجال لدعوى استناد الظهور المزبور إلى غلبة الاستعمال في خصوص الوجوب ، كما هو واضح.

وحينئذ فلابد وأن يكون الوجه في ذلك هو قضية الاطلاق ومقدمات الحكمة وتقريبه من وجهين :

أحدهما : ان الطلب الوجوبي لما كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لايقتضي المنع عن الترك ، فلا جرم عند الدوران مقتضي الاطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي ، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد ، بخلاف الطلب الوجوبي فإنه لا تحديد فيه حتى يحتاج إلى التقييد ، وحينئذ فكان مقتضى الاطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلبا وجوبيا لا

ص: 162

استحبابيا.

وثانيهما : ولعله أدق من الأول تقريب الاطلاق من جهة الأتمية في مرحلة التحريك للامتثال ، بتقريب أن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء وجود متعلقه في مرحلة الخارج ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال ، فتارة يكون اقتضائه بنحو يوجب خروج العمل عن اللا اقتضائية للوجود بنظر العقل بحيث كان حكم العقل بالايجاد من جهة الرغبة لما يترتب عليه من الأجر والثواب ، وأخرى يكون اقتضائه لتحريك العبد بالايجاد بنحو أتم بحيث يوجب سد باب عدمه حتى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عما يترتب على ايجاده من المثوبة الموعودة ، وفي مثل ذلك نقول : بأن قضية اطلاق الامر يقتضي كونه على النحو الثاني من كونه بالنحو الأتم في عالم الاقتضاء للوجود بحيث يقتضي سد باب عدم العمل حتى من ناحية ترتب العقوبة على المخالفة ، لان غير ذلك فيه جهة نقص فيحتاج ارادته إلى مؤنة بيان من وقوف اقتضائه على الدرجة الأولى الموجب لعدم ترتب العقوبة على المخالفة. وبالجملة نقول : بأن الامر بعد أن كان فيه اقتضاء التحريك للايجاد وكان لاقتضائه مراتب ، فعند الشك في وقوف اقتضائه على المرتبة النازلة أو عبوره إلى مرتبة السببية لحكم العقل بالايجاد كان مقتضي الاطلاق كونه على النحو الأتم والأكمل الموجب لحكم العقل بلزوم الايجاد فرارا عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقاب علاوة عما يترتب على موافقته من الأجر والثواب ، فتدبر.

الجهة الرابعة :

في أنه هل الطلب عين الإرادة أو غيرها؟ حيث إنه وقع فيه الخلاف بين المعتزلة والعدلية وبين الأشاعرة ، فذهبت الأشاعرة إلى المغايرة بينهما ، والباقون إلى اتحادهما مستدلين لذلك : بانا لا نجد في أنفسنا عند الامر بشيء وطلبه غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، فمن ذلك صاروا بصدد توجيه القول بالمغايرة وحملوه على وجوه يرتفع بها النزاع في البين.

منها : ما أفاده في الكفاية ، حيث إنه لما بنى على اتحاد الطلب والإرادة مصداقا ومفهوما وجه كلام القائلين بالمغايرة ، حيث قال ما ملخصه : الحق كما عليه أهله اتحاد الطلب و

ص: 163

الإرادة مفهوما وانشاء وخارجا بمعنى ان ما يسمى بالطلب بالحمل الشايع هو عين الإرادة بهذا الحمل وما ينتزع عنه هذا المفهوم أي مفهوم الطلب عين ما ينتزع عنه مفهوم الإرادة ، وانشاء الطلب الذي هو عبارة عن استعمال اللفظ في المفهوم بقصد الايقاع هو عين انشاء الإرادة ، فكان الطلب والإرادة متحدين في جميع تلك المراحل الثلاث ، ولكنه لما كان المنصرف إليه الطلب عند اطلاقه هو الطلب الانشائي وكان في الإرادة بعكس ذلك حيث كان المنصرف إليه عند اطلاقها هو الإرادة الحقيقية الخارجية دون الانشائي منها كان مثل هذا الانصراف أوجب القول بالمغايرة بينهما فتوهم أن الطلب غير الإرادة ، ولكنه ليس كذلك من جهة ان ذلك انما كان من جهة ما يستفاد من قضية اطلاقهما حسب الانصراف ومثل ذلك مما لا ينكره القائل بالاتحاد ، بل عليه يرتفع النزاع من البين رأسا لرجوع النزاع حينئذ إلى ما هو المستفاد من قضية اطلاق لفظ الطلب بان المستفاد منه هل هو عين ما يستفاد من لفظ الإرادة عند اطلاقها أو ان المستفاد منه هو غيره؟.

ومنها : أي من التوجيهات جعل المراد من الطلب عبارة عن الاشتياق التام الحاصل عقيب تصور الشيء والتصديق بفائدته ، والإرادة عبارة عن حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب والمراد الذي يستتبع الفعل والعمل ، أو العكس بجعل الطلب عبارة عن حملة النفس والإرادة عن الاشتياق التام.

ومنها : جعل الطلب عبارة عما ينتزع عن مقام ابراز الإرادة من البعث والايجاب والوجوب واللزوم ، فيغاير حينئذ الإرادة حيث كانت الإرادة من الأمور الحقيقية القائمة بالنفس بخلاف الطلب حيث إنه كان من الأمور الاعتبارية الانتزاعية عن مقام ابراز الإرادة بالامر نحو الشيء بالايجاد.

ومنها : غير ذلك من التوجيهات المذكورة في كلماتهم.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذه المحامل والتوجيهات ، إذ نقول وان كان يتضح بها المغايرة بينهما بل ويرتفع معها النزاع من البين ، ولكن لا يساعد شيء منها كلام القائلين بالمغايرة حيث نقول : بأن الطلب وما يحكى عنه الامر عندهم عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال وللتخلف عن المراد وللموضوعية لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ، كما يشهد عليه قضية استدلالهم بالأوامر الامتحانية الخالية عن الإرادة في مواردها ، كما في امر إبراهيم علیه السلام بذبح ولده إسماعيل علیه السلام ، واستدلالهم أيضا بتكليف اللّه

ص: 164

سبحانه الكفار بالايمان وأهل الفسوق والعصيان بالعمل بالأركان فان اللّه سبحانه امر الكفار بالايمان ولم يرد منهم الايمان لامتناع صدور الايمان منهم بعد علمه سبحانه بذلك ، إذ حينئذ يستحيل تعلق ارادته سبحانه بالايمان المستحيل منهم. وأيضا لازم تعلق ارادته سبحانه بذلك هو قهرية صدور الايمان منهم لأنه سبحانه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون فيستحيل تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، وحينئذ فمن جهة عدم صدور الايمان منهما لابد وان يستكشف عن عدم تعلق ارادته الأزلية بصدور الايمان منهم ومعه يثبت المطلوب من المغايرة بين الطلب والإرادة. وأيضا استدلالهم على كون العباد مجبورين في أفعالهم على ما هو مقتضى مذهبهم وانكارهم التحسين والتقبيح العقليين بأنه من الممكن امر اللّه سبحانه العباد بأمور ليس فيها مصلحة أصلا ، حيث إنه يستفاد من أدلتهم ان ما يحكى عنه الامر وهو الطلب عندهم عبارة عن معنى كان ممكن التعلق بالمحال وقابلا للتخلف عن المراد ولأن يكون تابعا لمصلحة في نفسه لا في متعلقه مع كونه موضوعا أيضا لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال ويقابله الإرادة عندهم فإنها معنى لايجوز تخلفها عن المراد ولا كانت قابلة للتعلق بالمحال ولا للتبعية لمصلحة في نفسها لكونها تابعة لمقدماتها التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له.

وكان عمدة ما دعاهم إلى المصير إلى المغايرة تلك الاشكالات الفاسدة الواردة بنظرهم بناء على القول باتحاد الطلب مع الإرادة : منها لزوم عدم تحقق العصيان من العباد لعدم جواز تخلف ارادته سبحانه عن المراد ، ومنها لزوم تعلق الإرادة بالمحال بناء على الاتحاد كما في موارد الامر بما انتفي شرط تحققه ، ومنها ما بنوا عليه من المبنى الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم الامر بالشيء مع خلوه عن المصلحة كما في الأوامر الامتحانية ، ومنها غير ذلك من المباني الفاسدة ، حيث إنه من جهة الفرار عن تلك الاشكالات التزموا بالمغايرة بين الطلب والإرادة فقالوا بان الطلب وما يحكى عنه الامر عبارة عن معنى قابل لتلك اللوازم.

ومما يشهد لذلك أيضا انكار القائلين بالاتحاد عليهم بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء والامر به غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض صفة أخرى قائمة بالنفس نسميها بالطلب ، وهذا هو العلامة قدس سره حيث أنكر عليهم بانا لم نجد عند الامر بشيء أمرا مغايرا لإرادة الفعل حيث لايكون المفهوم من الامر إلا إرادة الفعل من المأمور

ص: 165

به ولو كان هناك شيء آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيا غاية الخفاء بحيث لا يتعقله إلا الأوحدي من الناس ، ومع ذلك كيف يجوز وضع لفظ الامر المتعارف في الاستعمال بإزائه ، إذ من الواضح حينئذ انه لولا إرادتهم من الطلب والامر ما ذكرنا لما كان وجه لانكار القائل بالاتحاد عليهم ، كما هو واضح.

وعليه نقول أيضا بأنه لايكاد يلائم شيء من التوجيهات المزبورة كلامهم بوجه أصلا ، حيث إن الطلب بمعنى الانشائي منه كما هو توجيه الكفاية وان يساعد عليه اللازم الأول من قابلية تعلقه بالمحال لعدم استلزامه لإرادة الايجاد من المكلف ، ولكنه لا يساعد عليه جهة موضوعيته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال. واما كونه بمعنى حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب فهو أيضا غير قابل للتعلق بالمحال ولايصحح أيضا كونه لصلاح في نفسه فبقى بعد الاشكالات بحالها. وأما كونه بمعنى الاشتياق فهو وان يصحح جواز تعلقه بالمحال كما في اشتياق المريض إلى شفاء مرضه والمحبوس إلى الفرار من السجن والتخلص منه واشتياق الانسان إلى عود شبابه ويمكن أيضا وقوعه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال فيما لو أحرز العبد اشتياق مولاه إلى شيء ولكنه أيضا لايصحح كونه لصلاح في نفسه. وحينئذ فبقرينة استدلالهم بمثل الأوامر الامتحانية يعلم بعدم إرادتهم من الطلب الاشتياق نحو الشيء ولا من الإرادة حملة النفس وهيجانها نحو المطلوب. واما كونه بمعنى البعث والتحريك والوجوب واللزوم ونحوها فهو أيضا غير محكى بالامر لما عرفت من كونها أمورا انتزاعية متأخرة عن الامر يعتبرها العقل عن مقام ابراز الإرادة فلايمكن ان يكون محكيا للامر ، كما هو واضح.

نعم هنا معنى آخر غير المذكورات وغير العلم والإرادة والحب والبغض يمكن بعيدا ان يوجه به كلام القائل بالمغايرة ، وهو البناء والقصد ، المعبر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات ، حيث إنه كان من جملة أفعال النفس ، ولذا قد يكون يؤمر به كما في البناء على وجود الشيء كالبناء في باب الاستصحاب وفى الشكوك المعتبرة في الصلاة ، وقد يكون ينهى عنه كما في التشريع المحرم ويسمى بأسام مختلفة حسب اختلاف متعلقه ، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وان خالفها في أنها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس ، فكما ان الحب قد يتعلق بأمر موجود مفروغ التحقق فيقال له العشق والشعف ، وقد يتعلق بايجاد الشيء أو ايجاد الغير إياه فيقال له الإرادة ، كذلك هذا البناء

ص: 166

فإنه قد يتعلق بالأول وقد يتعلق بالثاني ، فيسمى بالاعتبار الأول تنزيلا كالبناء على كون الشك يقينا أو العدم وجودا وكالبناء على كون الأكثر موجودا أو الموجود هو الأكثر ، وبالاعتبار الثاني قصدا ، وعند تعلقه بما ليس في الشرع تشريعا ونحو ذلك ويشهد لما ذكرنا ملاحظة كلماتهم في باب التصديق المعتبر في الايمان بأنه ليس مجرد العلم والمعرفة بل هو فعل جناني معبر عنه بالفارسية ب ( گردن دادن ) و ( گرويدن ) و ( باور كردن ) فراجع كلماتهم.

وحينئذ نقول بان مثل هذا البناء والقصد لما كان قابلا للتعلق كما في بناء الغاصب على ملكية مال المغصوب في مقام البيع وكالبناء على ربوبية بعض المخلوقين وكالبناء على جزئية شيء للواجب في باب التشريع ، ومن جهة اختياريته كان قابلا لان يكون لصلاح في نفسه ، وأمكن أيضا ان يكون محكيا للامر موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فلا محالة أمكن توجيه كلماتهم الفاسدة بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد ، والإرادة على تلك الكيفية النفسانية بل عليه لا مجال للانكار عليهم أيضا بانا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء غير العلم بالمصلحة والإرادة والحب والبغض لما عرفت من وجود امر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد. وحينئذ فلو ادعى القائل بالمغايرة بان ما هو المسمى بالطلب عبارة عن مثل هذا القصد الذي هو بالضرورة غير الإرادة لايمكننا المسارعة في الرد عليهم بعدم وجدان امر وراء الإرادة والعلم والحب والبغض بل ولئن سلم مبانيهم الفاسدة لا مفر عن الالتزام بمقالتهم من المغايرة بين الطلب والإرادة. وحينئذ فاللازم هو إبطال أصل تلك المباني الفاسدة التي هي عبارة عن انكار التحسين والتقبيح العقليين ، وعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد ، وعن شبهة الأوامر الامتحانية التي أوجب مصيرهم إلى كون الامر لصلاح في نفسه لا في متعلقه ، وشبهة كون العباد مجبورين في أفعالهم الموجب لعدم امكان تعلق الإرادة بفعلهم.

فنقول : اما الأول فابطاله لايحتاج إلى البرهان بعد ثبوته بالوجدان وان كان ايكال من لا وجدان له إلى الوجدان غير خال عن المصادرة لكن تفصيله موكول إلى محله ، ونتيجة ابطال هذه المقدمة انما هو نفى كون الامر حاكيا عن البناء والقصد كما وجهنا به كلامهم ، وذلك انما هو لوضوح انه لايرى العقل حسن العقوبة على المخالفة بمحض كون المحكى بالامر هو البناء والقصد الخالي عن الإرادة ، بل في مثله عند فرض الخلو عن

ص: 167

الإرادة ترى حكم العقل بقبح العقوبة. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو حصر موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وحسن العقوبة على المخالفة بنفس الإرادة الواقعية بما انها مبرزة بالامر ، فعند خلو المورد حينئذ عن الإرادة لا حكم للعقل بوجوب الإطاعة ولا يرى حسن العقوبة على المخالفة. واما دعواهم بانعزال العقل عن التحسين والتقبيح فغير مسموعة منهم ، كما هو واضح.

واما الثاني : فبطلانه أيضا واضح حيث إنه قد خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية ، فان ما يستحيل تخلفه انما هو الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، وما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه « انما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون » انما هو الأول دون الثاني ، على أن لنا أيضا المنع عن لزوم تخلف ارادته سبحانه عن المراد حتى في الإرادة التشريعية ، وبيانه يحتاج إلى مقدمة بها أيضا يتضح الجهة الفارقة بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، وهي ان كل آمر ومريد لفعل من الغير تارة يتعلق ارادته بحفظ وجود العمل على الاطلاق بنحو تقتضي سد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة العبد والمأمور ولو بايجاد الإرادة له تكوينا ، وأخرى تتعلق بحفظ وجوده لا على نحو الاطلاق بل في الجملة ومن ناحية ما هو مبادي حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال وهو طلبه وأمره. وحينئذ فإذا كانت الإرادة المتعلقة بفعل العبد من قبيل الأول فلا جرم لابد لا من سد جميع أبواب عدمه المتصورة حتى من جهة شهوة العبد ، وأما إذا كانت من قبيل الثاني فالمقدار اللازم انما هو حفظ وجوده بمقدار تقتضيه الإرادة ، فإذا فرض ان المقدار الذي تعلق الإرادة والغرض بالحفظ انما هو حفظ المرام من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال وما يرجع إلى نفس المولى من ابراز ارادته والبعث ، فالمقدار اللازم في الحفظ حينئذ انما هو ايجاد ما هو من مبادي حكم العقل بالامتثال لا ايجاد مطلق ما كان له الدخل في الحفظ حتى مثل شهوة العبد والمأمور ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت هذه الجهة نقول بان ما كانت منها من قبيل الأول فهي المسماة بالإرادة التكوينية وهي كما ذكر يستحيل تخلفها عن المراد إذ هي بعد تعلقها بحفظ الوجود بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات فلا جرم يكون ترتب وجود المراد عليها قهريا فيستحيل تخلفها عنه والا لزم الخلف ، واما ما كانت من قبيل الثاني فهي المسماة بالإرادة التشريعية ، ولكن نقول بان تلك أيضا غير متخلفة عن المراد فان

ص: 168

المفروض ان المقدار الذي تعلق الإرادة بحفظه انما هو حفظ المرام في الجملة بسد باب عدمه من ناحية مبادي حكم عقل المأمور بالإطاعة والامتثال لا حفظه بقول مطلق وهو يتحقق بابراز ارادته واظهارها بأمره وطلبه وبعثه بقوله افعل كذا ، ومن المعلوم بداهة انه على هذا أيضا لا تخلف لها عن المراد من جهة انه بابراز ارادته تحقق ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وانسد المقدار الذي كان المولى بصدد حفظه من جهته ، وحينئذ فلايكاد يضر مخالفة الكفار وأهل العصيان في الواجبات والمحرمات ، إذ لا يستلزم مخالفتهم تخلف ارادته سبحانه عن مراده ، كما هو واضح.

وحينئذ فتمام الخلط والاشتباه نشأ عن الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ومقايسة إحداهما بالأخرى ، فحيث ان الإرادة التكوينية يكون ترتب المراد عليها قهريا نظراً إلى تعلقها بحفظ وجوده بقول مطلق حتى من ناحية الأضداد والمزاحمات ، تخيل ان الإرادة التشريعية أيضا مثلها في عدم الانفكاك عن المراد ، وحينئذ فمن جهة مخالفة الكفار وأهل العصيان استشكل عليه الامر فالتزم فرارا عن الاشكال بالمغايرة بين الطلب والإرادة وان اللّه سبحانه وان أمر الكفار بالايمان وطلبه منهم ولكنه لم يرد منهم الايمان. ولكنك قد عرفت وضوح الفرق بينهما وانه لا مجال لمقايسة إحديهما بالأخرى ، فتأمل تعرف حقيقة الحال في إرادتك صدور حمل من عبدك من حيث كونك تارة بصدد حفظ مرامك وسد جميع أبواب عدمه حتى من ناحية شهوة عبدك ولو بضربك إياه وجبره على الايجاد ولو بأخذ يده ونحو ذلك ، وأخرى في مقام حفظه من ناحية امرك إياه وابراز إرادتك باعتبار قيام المصلحة بالوجود في ظرف صدوره عن العبد عن إرادته واختياره لا مطلقا مع صحة مؤاخذتك إياه لو أمرته فخالف ولم يطع ، وهذا واضح لا سترة عليه.

وامّا صحة طلبه سبحانه الايمان والعمل بالأركان منهم حينئذ مع علمه الفعلي بعدم صدور الايمان منهم لعدم اختيارهم الايمان وإرادتهم العمل بالأركان ، فلأجل إعلامهم بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولئلايكون للناس على اللّه حجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة وانه سبحانه لم يكن ليظلمهم بل هم باختيارهم عدم الإطاعة يظلمون ، وفى الحديث ( ان أظلم الناس من يظلم على نفسه ).

ص: 169

واما الجواب عن شبهة الجبر فلم يتعرض الأستاذ له تفصيلا خوفا على بعض الطلاب من دخول بعض الشبهات في أذهانهم القاصرة بل وانما أحال الجواب إلى وقت آخر يقتضيه المقام ، نعم أفاد في دفع الشبهة وفسادها بنحو الاجمال محيلا ذلك إلى قضاء الوجدان بالفرق الواضح بين حركة يد المرتعش وحركة يد المختار ، وهو كما أفاد ( دام ظله ) حيث نرى ونشاهد بالوجدان والعيان كوننا مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وفى مقام الإطاعة العصيان وان مجرد علمه سبحانه بالنظام الأكمل غير موجب لسلب قدرتنا واختيارنا فيما يصدر عنا من الافعال والأعمال كما يقول به الجبرية ( خذلهم اللّه سبحانه ) بل كنا بعد مختارين فيما يصدر عنا من الافعال وان عدم صدور العمل منا في مقام الإطاعة انما هو باختيارنا وعدم إرادتنا الايجاد لترجيحنا ما نتخيل من بعض الفوائد العاجلة على ما في الإطاعة من المنافع المحققة الآجلة الأخروية من غير أن نكون مجبورين في ايجاد الفعل المأمور به أو تركه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

والى ذلك أيضا يشير بعض ما ورد من النصوص عن الأئمة المهديين صلوات اللّه عليهم أجمعين بان كل مولود يولد على الفطرة الا ان أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه (1) وان كل انسان في قلبه حين ولادته نقطة بيضاء ونقطة سوداء (2) وكان لقلبه أذنان ينفث في أحدهما الملك وفى الآخر الشيطان (3) وان لكل نفس مكانا في الجنة هو له إذا سلك سبل الخير ومكانا في النار إذا سلك سبل الشر. حيث إن افراد الانسان بأجمعها خلقت من نطفة أمشاج ومن رقائق العوالم العلوية والسفلية وخمرت طينته منهما ، فبعضهم باختيارهم لما لا حظ المنافع الأخروية ورجحها على ما يترائى في نظره من اللذائذ الدنيوية الفانية فسلك من هذه الجهة سبيل التوحيد كان سلوكه لسبيل التوحيد منشأ

ص: 170


1- الحديث منقول بالمعنى ولفظه على ما في صحيح فضل بن عثمان الأعورعن أبي عبد اللّه علیه السلام هكذا : « ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه » « الحديث ». رواه في الوسائل ، الباب 48 من أبواب الجهاد ، الحديث 3.
2- في خبر زرارة ، قال أبو جعفر علیه السلام : ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء « الحديث » أصول الكافي ، ج 2 ، ص 273 - الوسائل الباب 40 من جهاد النفس ، الحديث 14.
3- أصول الكافي : طبعة الآخوندي ، ج 2 ، ص 266.

لغلبة تلك النقطة البيضاء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه وانعدمت النقطة السوداء ، وبعضهم بالعكس فسلك سبيل الشر ترجيحا لما يترائى في نظره من اللذائذ والمشتهيات النفسانية على المنافع الجليلة الأخروية باختيار منه فصار سلوكه مسلك الشر منشأ لغلبة تلك النقطة السوداء التي كانت في قلبه إلى أن بلغت حدا أحاطت بتمامه ، فصار الأول من أهل التوحيد والايمان والثاني من أهل الفسوق والعصيان من غير أن يكون واحد منهم مجبورا في الإطاعة والمعصية بوجه أصلا ، كما لايخفى. والى ما ذكرنا أيضا لابد وان يحمل الخبر المعروف بان السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه (1) حيث إنه على فرض صدوره عن الإمام علیه السلام وعدم كونه من الموضوعات ، محمول على تقدم علم سبحانه قبل ولادة افراد الانسان بما يصيرون إليه في عاقبة أمرهم بسبب سعيهم الاختياري في ترجيحات بعضهم المنافع الأخروية على الفوائد الدنيوية واللذائذ الشهوانية وترجيحات بعضهم الآخر اللذائذ الدنيوية على الفوائد الجليلة الأخروية ، والا فلابد من طرحه لمخالفته لما يحكم به بداهة العقل والوجدان ولما نطق به الكتاب السنة المتواترة.

وحينئذ فإذا ظهر لك عدم مجبورية العباد فيما يصدر منهم عن الافعال في مقام الإطاعة والعصيان ، ظهر أيضا صحة تعلق الإرادة التشريعية بالايمان من الكفار وبالعمل بالأركان من أهل الفسوق والعصيان من دون ان يكون ذلك من الامر بالمحال وبما لايقدر عليه العباد ، من جهة ما عرفت من كون العبد بعد على ارادته واختياره في ايجاد الفعل المأمور به وان عدم صدوره منه انما هو لأجل عدم تحقق علته التي هي ارادته للايجاد بسوء اختياره وترجيحه جانب المشتهيات النفسانية على المنافع الأخروية. واما صحة طلبه سبحانه منه حينئذ مع علمه بعدم صدور الفعل منه من جهة عدم ارادته ، فهو كما تقدم لأجل الاعلام بما في الفعل من الصلاح الراجع إلى أنفسهم ولكي يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولئلايكون لهم على اللّه سبحانه الحجة بل كان له سبحانه عليهم حجة بالغة من جهة اعلامهم بما فيه الصلاح والفساد ، فتدبر.

ص: 171


1- توحيد الصدوق ، الباب 58 ( باب السعادة والشقاء ) الحديث 3 وفيه عنه صلی اللّه علیه و آله : « الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ».

واما شبهة الأوامر الامتحانية فنقول في الجواب عنها : بان الأوامر الامتحانية على قسمين : الأول ما لايكون في متعلقه مصلحة بوجه من الوجوه لا بعنوانه الأولى ولا بعنوانه الثانوي وهذا نظير ما لو كان الامر بالايجاد لمحض امتحان العبد وفهم انه هل كان بصدد الإطاعة والامتثال أم لا ، الثاني ما يكون مصلحة في متعلقه بالعنوان الثانوي وان لم يكن فيه مصلحة بالعنوان الأولى وهذا نظير ما لو كان الغرض هو امتحان العبد فيما يصدر منه من العمل كما في امر العبد بصنع الغليان والشاي مثلا لاختباره في أنه ماهر في ذلك لكي ينتفع به عند ورود الضيف عليه أو انه لايكون له المهارة فيه فإنه في هذا الفرض وان لم يكن في متعلق امره وهو الغليان مصلحة بعنوانه الأولى بل ولعله كان فيه مفسدة لما كان للمولى من وجع الصدر بنحو يضربه شرب الغليان والشاي ولكنه بالعنوان الثانوي كان فيه المصلحة وبذلك صار متعلقا لغرضه.

وبعد ذلك نقول : بان الأوامر الامتحانية ما كان منها من قبيل الثاني فنلتزم فيها بعدم انفكاكها عن إرادة العمل حيث نقول في مثلها بتعلق الإرادة الحقيقية من المولى بايجاد العمل من المأمور وانه أي المأمور يستحق العقوبة على المخالفة فيما لو خالف. واما ما كان منها من قبيل الأول الذي فرضنا خلو المتعلق عنه المصلحة بقول مطلق حتى بالعنوان الثانوي فمثلها وان كان خاليا عن الإرادة الحقيقية ولكنه نحن نمنع كونها طلبا وامرا حقيقيا أيضا حيث نقول بكونها حينئذ طلبا وامرا صوريا لا حقيقيا ، ومن ذلك أيضا نمنع موضوعية مثل هذه الأوامر لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانه لايكاد يحكم العقل فيها بوجوب الإطاعة ، ولذلك أيضا ترى ان المولى كان في كمال الجهد بان لا يطلع العبد بواقع قصده وكون امره لمحض امتحانه ، واما نفس الامتحان الذي هو الغرض من هذا البعث فهو أيضا غير متوقف على الامر الحقيقي بل هو يترتب بمحض تخيل العبد كونه أمرا حقيقيا ناشئا عن إرادة جدية متعلقة بالعمل وان لم يكن كذلك بحسب الواقع ونفس الامر بل كان أمرا صوريا ، كما هو واضح. وعلى هذا فما تخلف الطلب عن الإرادة في شيء من الأوامر الامتحانية كما توهمه الأشعري ، فإنه في مورد كان الطلب طلبا حقيقيا قد عرفت عدم انفكاكه أيضا عن الإرادة الحقيقية المتعلقة بايجاد العمل ، وفي مورد لايكون فيه إرادة حقيقية متعلقة بالعمل فلايكون الطلب أيضا طلبا حقيقيا بل طلبا صوريا ، فيبطل حينئذ دعوى الأشعري من مغايرة الطلب مع الإرادة وكان التحقيق

ص: 172

هو الذي عليه الجمهور من اتحاد الطلب والإرادة.

بقى شيء : وهو ان الطلب والإرادة بناء على اتحادهما كما هو التحقيق هل يمكن في مقام تعلقه بشيء ان يكون لمصلحة في نفسه أم لا بل لابد وأن يكون تعلقه بالشيء لمصلحة في ذلك الشيء؟ حيث إن فيه وجهين ، وربما يترتب عليه ثمرات مهمة ، منها في مسألة الملازمة المعروفة بين حكم العقل والشرع ، حيث إنه بناء على امكان ان يكون الإرادة لمصلحة في نفسها يسقط النزاع المزبور إذ حينئذ بمجرد درك العقل حسن شيء أو قبحه لايمكننا كشف حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة ، كما أنه كذلك أيضا في طرف العكس فإذا حكم الشارع بوجوب شيء أو حرمته لايمكن الكشف به عن حسن ذلك الشيء الذي امر به الشارع أو قبحه ، من جهة احتمال ان يكون حكم الشارع فيه بالوجوب أو الحرمة لمصلحة في نفس حكمه وطلبه. وهذا بخلافه على الثاني من كونه لمصلحة في متعلقه ، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لدعوى الملازمة خصوصا من طرف حكم الشرع ، فيتم ما بنوا عليه من أن الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ، إذ حينئذ بمجرد حكم الشارع في شيء بالوجوب أو الحرمة يستكشف منه لا محالة كشفا قطعيا عن حسن ذلك الشيء أو قبحه. نعم في تمامية تلك الملازمة من طرف حكم العقل فيما لو أدرك حسن شيء أو قبحه اشكال كما سيأتي ينشأ من عدم كون مجرد الصلاح في شيء علة لحكم الشارع فيه بالوجوب بل وانما غايته كونه مقتضيا لذلك فيمكن حينئذ ان يمنع عن تأثيره مانع أو مزاحم.

وعلى كل حال : فالذي يقتضيه التحقيق في أصل المسألة هو الوجه الثاني وهو لزوم كون الإرادة في مقام تعلقه بشيء لمصلحة في ذلك الشيء لا لمصلحة في نفسها ، والعمدة في ذلك انما هي الوجدان حيث يرى الانسان بالوجدان وماله من الجبلة والارتكاز في تعلق حبه أو بغضه بشيء انه انما يكون لما يجد في ذلك الشيء من الخصوصية الموجبة لملائمة النفس وانبساطها أو الخصوصية الموجبة لمنافرة النفس واشمئزازها ، وانه بدون تلك الخصوصية المستتبعة للانبساط أو الاشمئزاز لايكاد يوجد للنفس ميل ولا محبة إلى ذلك الشيء بوجه أصلا ، كيف وانه لولا ذلك لاتجه عليه اشكال الترجيح بلا مرجح في الامرين المتساويين في جميع الخصوصيات بل في أمر واحد بأنه لم صار ذلك الشيء محبوبا لا مبغوضا؟ إذ حينئذ لا محيص الا من دعوى ان تعلق الحب والبغض بشيء انما هو

ص: 173

لخصوصية في ذلك الشيء أوجبت تلك الخصوصية انبساط النفس فتعلق به الميل والمحبة أو اشمئزازها فتعلق به المبغوضية. وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الحب والبغض فلا جرم يتبعهما الإرادة والكراهة أيضا فإنهما تابعتان لمقدماتهما التي منها التصديق بفائدة الشيء والميل والمحبة له فلا تكون الإرادة أيضا في تعلقها بشيء الا لصلاح في نفس ذلك الشيء لا لصلاح في نفسها. وحينئذ ففي مثل هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في اثبات لزوم كون الإرادة لمصلحة في خصوص متعلقها وبطلان توهم كونها لصلاح في نفسها بلا احتياج إلى اتعاب النفس في إقامة البرهان عليه أيضا كما هو واضح.

ثم إن الظاهر أن عمدة المنشأ لتوهم امكان كون الإرادة لمصلحة في نفسها انما هو ملاحظة موارد الإقامة فيما لو كان قصد الإقامة لأجل ترتب حكم وجوب الصوم والتمام ، حيث إنه بعد أن يرى عدم ترتب حكم وجوب التمام على إقامة عشرة أيام خارجا ولا عليها مع القصد المزبور بشهادة ترتب حكم وجوب التمام بمحض تحقق قصد إقامة عشرة أيام منه في مكان مع اتيان صلاة أربع ركعات وان لم يتحقق منه في الخارج إقامة عشرة أيام بل زال قصده ونوى الخروج من محل الإقامة فخرج منه إلى مكان آخر تخيل من هذه الجهة ان ترتب حكم وجوب التمام ووجوب الصوم انما كان على مجرد قصد إقامة عشرة أيام وارادته ذلك لا على نفس الإقامة الخارجية ولا عليها والقصد المزبور ، فمن تلك الجهة استظهر حينئذ انه إذا أمكن في مورد تعلق الإرادة والقصد لا لصلاح في ذلك الشيء بل لصلاح مترتب على نفس القصد والإرادة كما في ناوي الإقامة عشرة أيام لأجل وجوب التمام فليكن كذلك في غير ذلك المورد أيضا ، لان الأمثال سواء فيما يجوز وفيما لايجوز ، فإذا جاز وأمكن في مورد يجوز ويمكن في جميع الموارد ، هذا.

ولكن نقول في دفع تلك الشبهة : بان ترتب وجوب التمام انما كان على نفس الإقامة الخارجية غايته لا على وجودها المنحفظ بقول مطلق حتى من غير ناحية القصد والإرادة بل على وجودها المنحفظ من ناحية القصد المزبور فهو الذي كان موضوعا لحكم الشرع بوجوب الصوم والتمام ، فإذا انحفظ وجودها من الجهة المزبورة يترتب عليها الحكم بالتمام لتحقق ما هو الموضوع للحكم المزبور ، وعلى ذلك فلايرتبط ذلك بمقام ترتب وجوب التمام على صرف القصد المزبور بوجه أصلا بل هو كما عرفت مترتب على نفس الإقامة

ص: 174

الخارجية ، وحينئذ فتعلق القصد بها من ناوي الإقامة انما هو جهة ما يرى بنظره من ترتب وجوب التمام على الإقامة ، فإنه بعد أن يرى ذلك يتعلق بها قصده وتتمشى منه الإرادة إلى وجودها وبمجرد تعلق قصده بها يتحقق ما هو موضوع حكم الشارع بوجوب التمام. نعم غاية ما هناك انه لابد حينئذ من جزم المكلف بانحفاظ وجود الإقامة عشرة أيام خارجا من سائر الجهات لكي يتحقق منه القصد إليها ويتمشى منه الإرادة إلى وجودها ، والا فبدون الجزم المزبور فضلا عن الجزم بالخلاف وخروجه في الأثناء عن محل الإقامة يستحيل تمشى القصد والإرادة منه إليها بوجه أصلا كما لايخفى ، وحينئذ فصح لنا ان نقول بقول مطلق : بان الإرادة لاتكاد تكون الا لمصلحة في متعلقها.

بقى شيء لايخفى عليك ان ما ذكرنا من لزوم تبعية الإرادة لمصلحة في متعلقها وامتناع كونها لصلاح في نفسها ليس المقصود منه هو عليه مجرد الصلاح في الشيء لتعلق الإرادة به كي يلزمه انه مهما وجد صلاح في فعل أو شيء لابد ان يكون هناك إرادة أيضا متعلقة بذلك الشيء كما لعله مبنى القائل بالملازمة ، بل المقصود من ذلك هو كون الصلاح في الشيء مقتضيا لتعلق الإرادة بذلك الشيء على معنى مؤثرية ذلك الصلاح الكائن في الفعل في توجه الإرادة الفعلية بذلك الفعل لولا وجود المانع أو المزاحم في البين.

فحينئذ فإذا كان الصلاح المزبور يتوقف تأثيره الفعلي في الإرادة بعدم وجود المانع أو المزاحم نقول : بان مانعية الشيء قد تكون في أصل تأثير المصلحة في الإرادة الفعلية بل وفي مباديها من الرجحان والمحبوبية أيضا وقد تكون في تأثيرها في مقام ابراز الإرادة بالامر والبعث نحو المراد لا في أصل الإرادة الفعلية ، ويفرض الثاني فيما لو كان القصور من طرف المولى في عدم تمكنه من ابراز مقصده إلى المكلف والمأمور خوفا على نفسه أو على غيره ، كما يفرض ذلك فيما لو كان عنده عدو بحيث لو أبرز إرادته لعرض عليه الحسد وقتله في الحال ، ونحو ذلك من الأمور المانعة عن ابراز المقاصد ، كما أنه من هذا القبيل مسألة الدلالة على ولى اللّه على ما ورد من الأخبار الكثيرة بان النبي صلی اللّه علیه و آله كان مأمورا من قبل على نصب ولى اللّه بالخلافة من بعده لكنه صلی اللّه علیه و آله خوفا عن خروج الناس عن دينهم لم يظهر ذلك إلى أن نزلت قوله سبحانه يا أيها الرسول بلغ ما انزل الخ. وعلى كل حال نقول : بأنه في مثل هذا الفرض لما كانت الإرادة الفعلية متحققة يجب على المكلف والمأمور عند علمه بإرادة المولى وفعليتها المبادرة باتيان ما هو مطلوب

ص: 175

المولى من جهة استقلال العقل حينئذ بلزوم الاتيان والإطاعة وعدم جواز المخالفة بمحض عدم ابراز المولى ارادته وعدم امره وبعثه نحو المراد ، كما هو واضح. فتمام المقصود من هذا الاطناب انما هو لزوم عدم الاعتناء بمثل هذا المانع وان وجوده كعدمه بنظر العقل فيما هو همه من لزوم الإطاعة وحرمة المخالفة.

نعم ما كان منها أي من الموانع من قبيل الأول الذي كان مانع عن تأثير المصلحة في أصل الإرادة خاصة أو فيها وفي ما هو من مباديها من الرجحان والمحبوبية ، كما في مسألة الضد المبتلى بالأهم ومسألة الاجتماع بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى ، حيث إنه في الأول يؤثر المانع في عدم تعلق الإرادة بالهم وفى الثاني في عدم الرجحان والمحبوبية الفعلية ، ففيها لا مجال لوجوب الاتيان وحرمة المخالفة ، من دون فرق بين ان يكون المانع راجعا إلى المكلف والمأمور كما في المثال حيث كان المانع عن توجه الإرادة الفعلية نحو الضدين هو عدم قدرة المأمور على الامتثال ، أو كان المانع راجعا إلى المولى. كما لولا حظ المولى في عدم إرادة الفعل الذي فيه صلاح مصلحة أهم كانت في نظره من مثل مصلحة التسهيل على العباد على ما ينبئ عنه مثل قوله صلی اللّه علیه و آله ( لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ) حيث إنه يستفاد منه ان المصلحة الكائنة في السواك مصلحة ملزمة ولكنها لمزاحمتها لمصلحة التسهيل رخص الشارع في تركه وما أوجبه على المكلفين.

وعلى ذلك ربما يترتب أيضا مبنى انكار قاعدة الملازمة المدعاة بين حكم العقل والشرع ، إذ على هذا البيان يتوجه على القاعدة المزبورة ان مجرد درك العقل حسن الشيء أو قبحه لايوجب كشف حكم شرعي على طبقه بالوجوب أو الحرمة من جهة احتمال مزاحمة تلك المصلحة بمصلحة أخرى في نظر الشارع أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أوجبت تلك المصلحة الترخيص على خلاف ما يقتضيه مصلحة الفعل. وحينئذ فمع هذا الاحتمال كيف يمكن كشف الحكم الشرعي من الوجوب أو الحرمة على طبق ما أدركه العقل والحكم بوجوبه وحرمته ، كما هو واضح. نعم في مقام العمل أمكن لنا دعوى وجوبه عملا من جهة قاعدة المقتضى والمزاحم على ما تقرر في محله : بأن العقلاء بعد احرازهم وجود المقتضى للشيء في مقام يجرون عملا على طبق ذلك المقتضى من دون اعتنائهم باحتمال وجود المانع أو المزاحم في البين ولو في مورد لم يكن هناك أصل يقتضى التعبد بعدمه كما هو واضح ، فتدبر.

ص: 176

المبحث الثاني
اشارة

فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه أيضا جهات من البحث.

الجهة الأولى : في بيان مدلول صيغة الامر

فنقول : انهم ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة : منها الطلب. ومنها الترجي والتمني كما في قول الشاعر :

الا يا أيها الليل الطويل الا انجلى

بصبح وما الاصباح منك بأمثل

ومنها التهديد كقوله سبحانه : « اعملوا ما شئتم » (1). ومنها الانذار ومنه قوله تعالى : « قل تمتع بكفرك قليلا » (2) ، « وتمتعوا في داركم ثلاثة أيام » (3). ومنها التسخير والإهانة والتسوية كقوله سبحانه : « كونوا قردة خاسئين » (4) ، وقوله تعالى : « اخسئوا فيها ولا تكلمون » (5) ، وقوله عز من قائل : « فاصبروا أو لا تصبروا » (6). ومنها غير ذلك من المعاني الاخر كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجب ونحوها مما هو مذكور في المطولات.

ولكن التحقيق خلافه وأنه لايكون دلالة للصيغة بنفسها على شيء من المعاني المزبورة ما عدا المعنى الأول وهو الطلب ، بل ولا كانت الصيغة مستعملة في شيء منها بوجه أصلا ، بل ما هو مدلول الصيغة لايكون الا معنى وحدانيا وهو الطلب الانشائي أو

ص: 177


1- سورة فصلت ، الآية 40.
2- سورة الزمر ، الآية 8.
3- سورة هود ، الآية 65.
4- سورة الأعراف ، الآية 166.
5- سورة المؤمنون ، الآية 108.
6- سورة الطور ، الآية 16.

النسبة الارسالية كما سنحققه وان استفادة تلك المعاني في الموارد المزبورة انما هي من جهة القرائن الخارجية المقتضية لها لا من جهة ان الصيغة قد استعملت فيها ، كما هو واضح. ولقد أجاد في الكفاية وجاء بما فوق المراد في تحقيق وحدة المعنى وتفرده بلا مدخلية لتلك المعاني فيما يستعمل فيه اللفظ ، فان تلك على ما أفاده هو قدس سره من الدواعي من حيث كون الداعي على الاستعمال تارة هو التهديد وأخرى الانذار وثالثة التمني ورابعة التعجيز وخامسة غير ذلك ، ومن البداهة ان ذلك غير الاستعمال فيها ولو مجازا ، كما هو واضح.

نعم انما الكلام حينئذ في كيفية دلالتها على الطلب وانها هل هي موضوعة للطلب أي الانشائي الايقاعي منه كما عليه الكفاية؟ أو انها موضوعة للنسبة الارسالية الايقاعية وان دلالتها على الطلب انما هي من جهة الملازمة؟ كما سنبينها إن شاء اللّه.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، ووجهه يظهر مما تقدم في مبحث المشتق من انحلال الوضع في المشتقات بأسرها من المصادر والافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين ونحوها إلى وضعين : وضع المادة ووضع الهيئة ، إذ عليه نقول : بان صيغة اضرب مثلا لما كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لاتدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين المبدء والفاعل ، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي ، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي ، وحينئذ فلايكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية قدس سره وعليه فلابد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشي هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري ، ففي الحقيقة منشأ هذا التلازم انما هو التلازم الخارجي بين منشئيهما وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الخارجية وعدم انفكاك أحد الامرين عن الآخر ، وحينئذ فحيث ان اللفظ كان وجها للمفهوم وكان المفهوم وجها لمنشأه وكان بين المنشأين وهما البعث والارسال الخارجي والإرادة الحقيقية ملازمة في مرحلة الخارج فينتقل الذهن عند تصور أحد المفهومين من جهة كونه وجها لمنشئه إلى مفهوم الآخر كذلك ( يعني من حيث كونه أيضا وجها لمنشئه ) بانتقال

ص: 178

تصوري ولو لم يكن للمنشأ وجود في الخارج أصلا بل كان المنشأ مما يقطع بعدم وجوده خارجا ، نعم في مقام التصديق لابد من احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل ليحرز به وجود الإرادة وتحققها فيصدق عليه الطلب والامر حقيقة. فعلى ذلك فدلالة الصيغة على الطلب انما هي باعتبار كونه من لوازم ما هو المدلول لا انها من جهة كونه بنفسه هو المدلول للصيغة ، وبين الامرين بون بعيد.

نعم جعل الطلب مدلولا بنفسه للصيغة يتم على مسلك الكفاية قدس سره في المعاني الحرفية من وحدة المعنى والموضوع له في الحروف والأسماء وجعل الفارق بينهما بلحاظ الآلية والاستقلالية ، والا فبناء على تغاير المعنى والموضوع له فيهما كما سلكناه بجعل معاني الحروف والهيئات النسب والإضافات الخاصة المتقومة بالطرفين لا محيص من دعوى ان المدلول في الصيغة هو النسبة الارسالية الايقاعية ، وعليه فكان دلالتها على الطلب باعتبار كونه من لوازم المدلول كما شرحناه لا من جهة كونه هو المدلول لها كما لايخفى. نعم في مقام التصديق كما ذكرناه يحتاج في صدق الامر الحقيقي إلى احراز كون المتكلم في مقام الجد بالارسال ولو بالأصل : وهو أصالة كون المتكلم في مقام الجد بالارسال وكون الداعي عليه هو الإرادة الحقيقة للفعل دون غيرها من الدواعي ، كما هو واضح.

الجهة الثانية

انه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الطلب إما بدوا أو بالملازمة ، فهل هي حقيقة في خصوص الطلب الإلزامي؟ أو انها حقيقة في مطلق الجامع بين الإلزامي والاستحبابي؟ أو انها حقيقة في خصوص الطلب الاستحبابي ومجاز في غيره؟ فيه وجوه : أضعفها الأخير. فيدور الامر حينئذ بين كونها حقيقة في مطلق الطلب أو في خصوص الطلب الإلزامي. وقد استدل على كونها حقيقة في الطلب الوجوبي بما تقدم سابقا في مادة الامر من نحو آيتي الحذر والنبوي المعروف من قوله صلی اللّه علیه و آله لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ونحو هما. ولكن الجواب عنها هو الجواب هناك فلا نعيده. نعم ظهورها في خصوص الوجوب عند اطلاقها لا ينكر ظاهرا حيث لا تأمل لاحد من

ص: 179

الأصحاب في حملها على الوجوب عند اطلاقها وحينئذ فبعد ثبوت هذا الظهور للصيغة وتسلمه عندهم لا يهمنا البحث عن منشئه وانه هو الوضع أو قضية الاطلاق بأحد التقريبين المتقدمين أو غيرهما من الغلبة وغيرها ، إذ لايترتب عليه فائدة مهمة بوجه أصلا ، وان لم يبعد دعوى استناد الظهور المزبور إلى قضية الاطلاق بما تقدم تقريبه سابقا وذلك من جهة ان دعوى الاستناد إلى قضية الوضع بعيدة جدا خصوصا بعد ما يرى من صحة استعمالها في موارد الاستحباب بلا رعاية عناية تقتضيه.

واما التشبث بأصالة عدم القرينة لا ثبات الوضع في خصوص الوجوب فقد عرفت الجواب عنها بأنها انما تكون حجة ومتبعة عند العقلاء في كشف المرادات لا في تعيين الأوضاع ، حيث إنه لا دليل لفظي على حجيتها حتى يؤخذ باطلاقها حتى في تعيين الأوضاع.

لكن مع ذلك كله ربما يميل النفس إلى كونها حقيقة في خصوص الوجوب نظراً إلى ما هو المتبادر منها مؤيدا ذلك بأصالة تشابه الأزمان المقتضي لكون وضعها لخصوص الطلب الإلزامي ، فتدبر.

الجهة الثالثة

إذا وردت جملة خبرية في مقام بيان الحكم الشرعي من نحو قوله : تغتسل ، وتعيد الصلاة ، ويتوضأ ، وقوله علیه السلام : إذا حال الحول اخرج زكاته ، ونحو ذلك فلا اشكال في أنه ليس المراد منها هو الاخبار عن وقوع الفعل من المكلف كما في غيره من موارد الاخبار ، بل وان المراد منها انما هو الطلب والبعث نحو الفعل والعمل ، وانما الكلام والاشكال في أنها هل كانت مستعملة في الطلب أو الارسال بما هو مفاد الصيغة مجازا؟ أو انها مستعملة في معناها الذي تستعمل فيه في مقام الاخبار وهو النسبة الايقاعية لكنه بداعي إفادة ملزومه وهو الطلب والبعث؟ نظير باب الكنايات كما في قولك : زيد كثير الرماد ، مريدا به إفادة ملزومة الذي هو جوده وسخائه ، حيث إن استعمالك ذلك كان في معناه الحقيقي لكن الداعي على هذا الاستعمال هو الاعلام بملزومه الذي هو جوده وسخائه ففي المقام أيضا كانت الجملة الخبرية مستعملة في معناها الذي تستعمل

ص: 180

في مقام الاخبار ولكن الداعي على الاستعمال المزبور هو إفادة ملزومه الذي هو العبث والطلب ، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل كان استعمالها في معناها الحقيقي الاخباري وكان الغرض والداعي من الاستعمال أيضا هو الاعلام والاخبار دون الطلب والبعث والارسال كما هو قضية الوجه الثاني ، ولكن اعلامه بتحقق الفعل من المكلف انما كان بلحاظ تحقق مقتضيه وعلته وهو الإرادة والطلب كما هو الشأن في غير المقام من موارد الاخبار بوجود المقتضي ( بالفتح ) عند تحقق مقتضيه ، ومنها باب اخبار علماء النجوم بمجيء المطرو برودة الهواء أو حرارته فيما بعد حسب ما عندهم من الامارات الخاصة من نحو تقابل الكوكبين وتقارنهما الذي يرونه سببا لتلك الانقلابات. ففي المقام أيضا نقول : بان المولى لما كان مريدا للفعل من المكلف والمأمور وكان طلبه وارادته للفعل علة لصدوره من المكلف ولو بمعونة حكم عقله بوجوب الإطاعة والامتثال ، فلا جرم فيما يرى طلبه متحققا يرى كأنه وجود المقتضي ( بالفتح ) وهو العمل في الخارج ، فمن هذه الجهة يخبر بوقوعه من المكلف بمثل قوله : تعيد الصلاة وتغتسل. فهذه وجوه ثلاثة :

لكن أضعفها أولها من جهة بعد انسلاخها عن معناها الاخباري واستعمالها في الطلب والنسبة الارسالية بل وعدم مساعدته أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في استعمالاتنا الجمل الاخبارية في مقام الطلب والبعث والارسال ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بعد بطلان الوجه الأول بين الوجهين الأخيرين.

وعند ذلك نقول : انه وان كان لكل منهما وجه وجيه ولكن الأوجه هو الوجه الأخير بملاحظة أقر بيته إلى الاعتبار والوجدان وشيوعه أيضا عند العرف والعقلاء من ترتيبهم الآثار على الأشياء التي منها الاخبار بوقوعها بمحض العلم بوجود عللها ومقتضياتها ، كما كان من ذلك أيضا اخبار أهل النجوم بتحقق أمورات فيما بعد لعلمهم بتحقق عللها ، كما هو واضح. وعلى هذا البيان أيضا ربما كان دلالتها على الوجوب آكد من الصيغة نظراً إلى اقتضاء الاخبار بوجود الشيء وتحققه وجوبه أيضا ، بلحاظ ان الشيء ما لم يجب لم يوجد. فمن هذه الجهة كان الوجوب هو المناسب مع الاخبار دون الاستحباب فإنه لم يكن بتلك المثابة من المناسبة مع الاخبار ، وهذا بخلافه في الصيغة فإنها ليست بتلك المثابة من الآكدية في الوجوب من جهة ملائمتها مع الاستحباب أيضا.

نعم ربما يورد على هذا الوجه بعدم مصححية مجرد وجود الإرادة وتحققها للاخبار

ص: 181

بوجود الفعل من المأمور والمكلف ، وذلك بتقريب ان الإرادة الواقعية لا تكون مما لها الدخل ولو بنحو الاقتضاء لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال كي بهذه العناية كانت مصححة للاخبار بوجود العمل والمقتضي وتحققه من المكلف ، بل وانما تمام العلة لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال انما هو علم المأمور بالإرادة حيث إنه بمحض علمه بإرادة المولى يتبعه حكم العقل بالإطاعة ولو لم يكن في الواقع إرادة للمولى أصلا بان فرض تخلف علمه عن الواقع وكونه جهلا مركبا ، وبدون علمه بإرادة المولى لايكاد حكم عقله بالإطاعة بوجه أصلا ولو فرض ان إرادة المولى كانت متحققة في الواقع ونفس الامر. وعلى هذا فإذا كان تمام العلة لحكم العقل بالإطاعة هو الإرادة بوجودها العلمي لا الواقعي يتوجه عليه : بأنه حين الاخبار حيثما لايكون للمكلف علم بالإرادة كما هو المفروض فأين المصحح لاخباره بعد فرض عدم مدخلية للإرادة الواقعية ولو بنحو الاقتضاء في حكم العقل بالإطاعة؟ هكذا أورد عليه الأستاذ.

ولكن نقول : بان إرادة الفعل من المكلف واقعا لما كانت سببا لاعلام المكلف والمأمور به ، وكان الاعلام سببا لحكم عقله بالإطاعة ، وحكم عقله بالإطاعة سببا لتحقق العمل منه في الخارج ، فقهرا بهذه السلسلة الطولية تكون الإرادة سببا ومقتضيا لوجود العمل وتحققه ، ومعه نقول بأنه يكفي هذا المقدار من الدخل في مصححية الاخبار ، كما هو واضح.

وعلى كل حال ففي المقام وجه رابع لاستفادة الطلب من الجمل الخبرية ولعله أوجه من الوجوه المتقدمة ، وهو ان يقال : بان استفادة الطلب من مثل هذه الجمل الواردة في مقام بيان الحكم الشرعي انما هو من جهة كونه من لوازم قضية الجد بايقاع النسبة التي هي مدلول الجمل ، وذلك أيضا بمقتضى التلازم الثابت بين الايقاع الخارجي والإرادة ، بتقريب : انه كما أن اخراج المبدء من كمون الفاعل خارجا وايقاع النسبة بينه وبين الفاعل في الخارج ملازم مع إرادة الوجود ولايمكن انفكاكه عنها كذلك هذه النسبة الايقاعية الذهنية ، فإذا كان المتكلم في مقام الجد بهذا الايقاع فقضية جده بذلك تقتضي ملازمته مع إرادة الوجود من المكلف ، فعليه فكان ما هو المستعمل فيه في تلك الجمل هو النسبة الايقاعية التي تستعمل فيها في مقام الاخبار الا انه لم يقصد بايقاع تلك النسبة الايقاعية في مقام استعمال الجملة الحكاية عن الواقع الثابت كما في سائر الجمل

ص: 182

الاخبارية ، نعم لازمه هو عدم انفكاك قضية الجد بايقاع النسبة أيضا عن قصد الانشاء بعد عدم قصد الحكاية بها عن واقع ثابت ، كما لايخفى. ولقد مر منا توضيح هذه الجهة في مبحث الحروف عند الفرق بين الجمل الاخبارية والانشائية فراجع.

الجهة الرابعة

هل اطلاق الصيغة يقتضي التوصلية بمعنى كفاية مجرد وجود الواجب كيفما اتفق في سقوط الغرض الداعي على الامر به؟ أم يقتضى التعبدية بمعنى عدم كفاية مجرد وجوده في سقوط الغرض الداعي على الامر به الا إذا اتى عن داع قربى؟ وعلى فرض عدم اقتضائه لشيء من الامرين فهل الأصل العملي يقتضي التعبدية بمعنى عدم سقوط الامر به الا باتيانه عن داع قربى أم لا؟ فهنا مقامان :

المقام الأول : فيما يقتضيه الاطلاقات والأصول اللفظية ، وتوضيح المرام في هذا المقام يقتضي رسم أمور :

الأول : فنقول : انه قد ظهر من عنوان البحث معنى الواجب التعبدي والتوصلي وان الواجب التعبدي هو الذي لايكاد حصول الغرض الداعي على الامر به الا باتيانه على وجه قربى ، والواجب التوصلي بخلافه وهو الذي يحصل الغرض الداعي على الامر به بمجرد وجوده وتحققه كيفما اتفق ولولا يكون الاتيان به عن داع قربى بل ولو كان حصوله من غير إرادة المكلف واختياره ، كما في مثل غسل الثوب من الخبث حيث إنه بمحض تحققه يحصل الغرض الداعي على الامر به ويسقط الامر به أيضا ولو كان ذلك بمثل اطارة الريح إياه في الماء. نعم في مقام ترتب المثوبة ولو في التوصليات لابد من إتيان العمل عن داعي أمره سبحانه ، بلحاظ ان المثوبة انما كان ترتبها على عنوان الإطاعة وهذا العنوان مما لايكاد تحققه الا إذا كان الاتيان بالواجب بداعي أمر المولى ، لكن مجرد ذلك لايقتضي تعبديته ، حيث إن المدار في التعبدية والتوصلية على امر آخر قد ذكرناه.

ثم إن ما ذكرناه من التعريف للتعبدي والتوصلي هو أجود التعاريف وأحسنها ، لا ما قيل في تعريفهما : بان الواجب التعبدي هو ما لايعلم انحصار المصلحة فيه في شيء والتوصلي بخلافه ، وذلك لما يرد على هذا التعريف بما يرى كثيرا من التوصليات التي

ص: 183

لايعلم انحصار الغرض والمصلحة فيها في شيء ، على أن التعبدي بهذا المعنى غير مجد فيما هو المهم في مثل المقام ، حيث إن المهم والمقصود من التعبدي في المقام هو الذي لايحصل الغرض الداعي على الامر به ولايسقط امره الا باتيانه على وجه قربى ، ويقابله التوصلي الذي يحصل الغرض ويسقط الامر بمجرد وجوده كيفما اتفق ، كما هو واضح.

الامر الثاني : لايخفى عليك ان المهم في المقام على ما ستعرف من امكان اخذ القربة قيدا للمأمور به أو عدم امكانه انما هو مجرد اثبات امكان التمسك بالاطلاقات ، لا فعلية التمسك به كي يستلزم ذلك تسليم ورود الاطلاقات في مقام البيان فينافي ذلك مع ما ذكرناه سابقا في مسألة الصحيح والأعم من نفى الثمرة بين القولين من جهة عدم صحة التمسك بالاطلاقات نظراً إلى المنع عن ورود تلك المطلقات في مقام البيان بل في مقام أصل تشريع المركب ، ففي الحقيقة الجهة المبحوث عنها في المقام من صحة التمسك بالمطلقات انما كانت مبنية بفرض ثبوت ورود المطلقات في مقام البيان ، فتدبر.

الامر الثالث : وهو العمدة في الباب ان عبادية الشيء وما به قوام كون الشيء عبادة عبارة عن كون الشيء من وظائف العبودية ومما يتقرب به إلى المولى ، ومرجعه إلى كون الشيء بنحو يظهر العبد والمأمور به خضوعه وعبوديته لمولاه. وحينئذ نقول : بان مثل هذا المعنى تارة يكون جعليا وأخرى ذاتيا ، ومن قبيل الأول الأمور الموضوعة ابزارا للعبودية ومنها بعض الحركات المجعولة عند العقلاء لان تكون آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية كالركوع والسجود وتقبيل اليد والرجل وكرفع القلنسوة من الرأس عند بعض الطوائف ورفع اليد إلى الاذن عند طائفة أخرى والقيام بنحو الاستقامة وتحريك اليد عند طائفة ثالثة ، وهكذا غير ذلك من الأمور المجعولة عند العرف والعقلاء آلات للتعظيم وللخضوع والعبودية ، ومن المعلوم انه يكفي في عبادية مثل هذه الأمور وكونها آلات للعبودية مجرد اتيانها بقصد كونها خضوعا وتعظيما ، أو قصد عنوان آخر بجعل ذلك العنوان تعظيما وخضوعا ، نظير الصلاة مثلا ، حيث إنه بمجرد اتيانها بقصد الخضوع والتعظيم يعد كونها تعظيما ، كما في القيام للغير بقصد التعظيم ، أو السجود له بقصد التذلل والخضوع ، كما أنه يكفي أيضا في مقربية مثل هذه الأمور مجرد اتيانها للمولى وتخصيصها له بلام الصلة بجعل خضوعه له دون غيره ، من دون احتياج في مقربيتها إلى توجه الامر بها ولا إلى اتيانها بداعي أمرها وجعل اللّه سبحانه غاية عمله ، من جهة ان فيها حينئذ اقتضاء المقربية

ص: 184

بنفس اتيانها لمولاه من دون اعتبار قصد كونها بداعي امره ، كما هو واضح. نعم يحتاج في مقربية هذه الأمور فعلا ان لايكون مخلا بغرض المولى من جهة أخرى ومبغوضا فعليا للمولى والا فلايكاد يصلح مثلها للمقربية بوجه أصلا وان لم تخرج بعد أيضا من جهة عباديتها ، إذ كان مثل هذه الأمور يجتمع حيث عباديتها مع مبغوضيتها عند المولى ، ومن ذلك أيضا نقول بامكان حرمة العبادة ذاتا من غير أن تكون جهة حرمتها ومبغوضيتها منافية مع عباديتها وان كانت مانعة عن مقربيتها باعتبار انه لابد في مقربيتها ان لا تكون مبغوضة للمولى. نعم كما عرفت لايحتاج جهة مقربيتها إلى توجه الامر بها من المولى ، من جهة ان مقربية مثل هذه الأعمال كانت مستندة إلى اقتضاء ذاتها بحيث لولا منع المولى ونهيه عن ايجادها لكانت من جهة كونها خضوعا للمولى مقربة للعبد وان لم يأمر المولى باتيانها ، كما هو واضح.

ثم إن في قبال هذه الوظائف الجعلية للعبودية وظائف أخرى ذاتية غير جعلية وهي مطلق ما امر به بداعي امره فان كون مثل هذه الأعمال من وظائف العبودية انما هو ذاتي لا جعلي كما في القسم الأول وكان مقربيتها أيضا ذاتية غير قابلة للمبعدية ولا المبغوضية بوجه أصلا ، لأنه من المستحيل حينئذ توجه النهى إلى مثل هذا العنوان الذي اخذ في حقيقته تعلق الامر بذاته وحينئذ فلايمكن انفكاك عباديتها عن جهة مقربيتها. بخلاف الوظائف الجعلية ، فان انفكاك جهة المقربية عن جهة العبادية فيها بمكان من الامكان ، ولذلك قلنا بامكان الالتزام بحرمة العبادة ذاتا كما في صلاة الحائض بلا احتياج إلى ارجاع النهى الوارد فيها إلى حيث التشريع.

ثم انه من الجهات الفارقة بين هاتين الوظيفتين هو انه في الوظائف الجعلية يكفي في مقربيتها مجرد اتيانها لله بلام الصلة ، واما في الوظائف الغير الجعلية فلايكفي هذا المقدار في مقربيتها بل لابد في مقربيتها من اتيانها بداعي أمرها وجعل اللّه سبحانه غاية عمله الراجع إلى كون عمله راجحا ومحبوبا عند المولى ، وحينئذ فكم فرق بين هذين النحوين من القرب! من حيث كفاية مجرد الاتيان بالعمل بلام الصلة للمولى في أحدهما وعدم كفايته في الآخر ولزوم الاتيان به بداعي امره.

ومن الجهات الفارقة أيضا بينهما انه على الأول يختص بخصوص بعض الأعمال المجعولة آلات للخضوع وللعبودية ولا يجري في جميع الأعمال ، بخلافه على الثاني ، فإنه عليه

ص: 185

لا اختصاص له بعمل دون عمل بل يجري في جميع الأعمال التي أمر المولى بها ، فكل عمل أو فعل أمر المولى به إذا اتى به بداعي أمره كان مقربا ولو كان من الافعال العادية من نحو الأكل والشرب وغيرها ويحكم العقل أيضا باستحقاق المثوبة عليه كما هو واضح.

ومن الجهات الفارقة بين الخضوعين أيضا تصحيح باب النيابة في العبادات بمثل الخضوعات الجعلية نظراً إلى كونها قابلة للنيابة والتسبيب فإنه حينئذ بنفس نسبتها إلى الغير يقع الخضوع لذلك الغير لا له ويكون الغير هو المتقرب بهذا العمل كما هو المشاهد بالوجدان في الخضوعات الجعلية العرفية من تقبيل اليد ونحوه فيما إذا أمر الغير بتقبيل يد زيد عن قبله أو بخضوعه عنه بنحو آخر ، فإنه لا شبهة حينئذ في أنه إذا خضع المأمور لزيد أو قبل يده عن قبل الآمر يقع خضوعه ذلك لذلك الغير الذي امره به لا لنفسه وكان ذلك الغير أيضا هو المتقرب بعمله ، بل ربما لايحتاج إلى الامر أيضا فيتقرب بعمل غيره عنه بمحض رضائه بذلك وان لم يكن بتسبيب منه كما لو خضع أحد لزيد وقبل يده عن قبل الغير فإنه بمحض رضاء ذلك الغير بهذا الخضوع عن قبله يقع ذلك خضوعا له لا للفاعل فكان الفاعل بمنزلة الآلة لايجاد ما هو خضوع الغير من دون استناد لهذا الخضوع إلى شخص الفاعل بوجه أصلا.

وحينئذ نقول : بأنه إذا كان ذلك حال الخضوعات العرفية ، فليكن كذلك في العبادات أيضا ، فكان النائب إذا اتى بما هو آلة الخضوع ولو بجعل الشارع كالصلاة والصوم والحج والزيارة والطواف بالبيت لوجهه سبحانه عن بقل الغير يقع هذه الخضوعات حقيقة لذلك الغير وكان هو المتقرب بعمل النائب لكن مع تسبيبه إياه في ايجاد تلك الخضوعات عن قبله ولا أقل من رضائه بذلك ، ففي الحقيقة مقربية هذه الخضوعات للغير منوطة بأمرين : أحدهما خضوع الغير لله سبحانه عن قبله ، وثانيهما رضاء ذلك الغير وطيب خاطرة به بحيث لو كان مكرها فيه لما كان العمل عبادة له ولما كان متقربا به ، فإذا تحقق الأمران المزبوران يقع القرب لا محالة لذلك الغير ، وعليه فلا يرد اشكال في باب النيابة في العبادات. وهذا بخلافه في العبادة بداعي الامر إذ عليه كان امر تصحيح النيابة في العبادات في غاية الاشكال نظراً إلى استحالة صدور مثل هذا المعنى عن النائب ، إذ الامر المتعلق بالعبادة على الفرض انما هو متوجه إلى المنوب عنه دون النائب ، ومعه كيف يمكن صدورها عن النائب بداعي

ص: 186

أمرها؟ وهل يصلح الامر للداعوية بالنسبة إلى غير من يتوجه إليه؟.

لايقال : هذا كذلك لولا دليل التنزيل والا فبملاحظة دليل التنزيل لا اشكال في البين لأنه بتنزيل نفسه منزلة المنوب عنه يتوجه امره إليه من جهة صيرورته هو إياه بهذا لاعتبار ، وحينئذ فيأتي بالعبادة بدعوة هذا الامر المتوجه إليه ويكون عمله مقربا للمنوب عنه.

فإنه يقال : كلا ، وان مجرد التنزيل لايوجب توجه امره إليه حقيقة وان نزل نفسه منزلته الف مرة بل وانما غايته هو توجه مماثل الامر المتوجه إلى المنوب عنه إليه ، وفي مثل ذلك نقول : بان اتيانه بداعي هذا الامر لا محالة لو اثر لكان مؤثرا في مقربية نفس النائب دون المنوب عنه ، لأنه في الحقيقة يكون هو المكلف بالعبادة ، وفي مثله يستحيل مقربية عمله للمنوب عنه حقيقة ، كما هو واضح. وتنقيح المرام بأزيد من ذلك موكول إلى محله ، والمقصود في المقام انما هو بيان الجهات الفارقة بين نحوي العبادة من الخضوعات الجعلية والخضوعات الغير الجعلية والإشارة إلى امكان تصحيح النيابة في العبادة في الأمور المجعولة لان تكون آلات للخضوع دونه في الخضوعات الغير الجعلية وهي العبادة بداعي الامر.

ثم هنا شيء ، وهو ان العبادات الشرعية يحتاج في كفاية مجرد الاتيان بها لله بلام الصلة لا الغاية إلى احراز كونها من قبيل القسم الأول ، والا فمع الشك فيها في أنها من قبيل القسم الأول الذي فيه اقتضاء المقربية بنفس اتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمره أو من قبيل القسم الثاني الذي قوام عباديته بتعلق الامر بذاته ، يشكل جواز الاكتفاء بها باتيانها لمولاه من دون قصد كونها بداعي أمر مولاه ، نعم غاية ما هناك حينئذ في احراز كونها من قبيل الأول انما هو التشبث بمثل أدلة النيابة في موارد ثبوت مشروعيتها في أبواب العبادات وذلك بالكشف منها بنحو الان عن كونها من الوظائف المجعولة ولو بجعل الشارع آلات الخضوع والعبودية ، فتأمل.

ثم إن هنا جهات أخر من القرب أيضا ، وهو الاتيان بالعمل بداعي حسنه ورجحانه الذاتي الذي هو ملاك الامر به ، فان الظاهر كما سيأتي في مبحث الضد هو كفاية مجرد الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها الذاتي ومحبوبيتها في تحقق القرب المعتبر في صحتها بلا احتياج إلى الامر الفعلي بها.

ص: 187

وبعد ما عرفت ذلك نقول : انه لا اشكال في جواز اخذ القرب بغير معنى دعوة الامر في المأمور به وهو القرب بمعنى الاتيان بما هو آلة الخضوع لله سبحانه بلام الصلة أو القرب بمعنى الاتيان بالعمل بداعي ملاكه ورجحانه الذاتي ، إذ لا بأس بأمر الشارع بالصلاة القربية الناشئ قربها من جهة دعوة الملاك أو الحسن أو من جهة اتيانها لوجهه الاعلى. وانما الكلام والاشكال في امكان اخذ القرب الناشئ عن دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية. ومن التعرض في جواز اخذ مثل القرب الناشي عن داعي الامر في المأمور به وعدم جوازه يظهر أيضا حال اخذ الجامع بين هذا القرب والقرب الناشي عن اتيان العمل لوجهه الاعلى أو القرب الناشي من دعوة الملاك والمصلحة ، من حيث جواز اخذه بنحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وفي متعلق الامر ، لأنه إذا لايجوز اخذ القرب الناشئ من دعوة الامر في المأمور به لايجوز اخذ جامع القرب الناشي من دعوة الامر ومن دعوة الرجحان والمصلحة ، كما هو واضح.

وبعد ذلك نقول : بان التحقيق كما عليه أهله هو عدم جواز اخذ القرب الناشي من دعوة الامر في المأمور به بنحو الشرطية أو الشطرية وامتناعه. ووجه الامتناع ظاهر ، لان القرب الناشئ من دعوة هذا الامر انما هو معلول شخص هذا الامر ومترتب عليه ، ولازمه هو كونه في رتبة متأخرة عن الامر ، بحيث يصح ان يقال في شخص هذا اللحاظ ويحكم عليه : بأنه عقيب الامر ومترتب عليه ترتب المعلول على علته ، وحينئذ فمع كونه مرئيا في هذا اللحاظ عقيب الامر وفي رتبة متأخرة عنه فكيف يمكن ان يؤخذ مثله في موضوع هذا الامر في هذا اللحاظ وفي رتبة متقدمة عليه؟ وهل هو الا من المستحيل؟.

ولا مجال أيضا لتنظير المقام بمثل معلوم الخمرية أو البولية المأخوذة جهة المعلومية أيضا جزء للموضوع مع معلومية تأخر العلم عن الذات نحو تأخر الحكم عن موضوعه فيقال بأنه حيث يجوز ذلك بلا اشكال يجوز أيضا في المقام بلا كلام. وذلك لما هو المعلوم من وضوح الفرق بين البابين ، من جهة ان اخذ العلم جزء للموضوع انما هو بلحاظ امر آخر وهو حكم وجوب الاجتناب أو حرمة الارتكاب ، وأين ذلك والمقام المفروض فيه اخذ الدعوة الناشئة عن قبل الامر في موضوع شخص هذا الامر! فان ذلك هو الذي قلنا بامتناعه واستحالته.

واما ما يتوهم من امكان تصحيح ذلك بنحو اخذ الطبيعي في متعلقة القابل

ص: 188

للانطباق عليه خارجا من تقريب انه يمكن للمولى ان يتصور مثلا الصلاة المقيدة بطبيعة الدعوة كما أنه يمكن له أيضا ان يأمر بما تصوره من الصلاة المقيدة بطبيعة الامر ، وحينئذ فإذا أمر بما هو متصورة يتحقق مصداق الامر خارجا فينطبق عليه الطبيعي المزبور لأنه من افراده ومصاديقه ، وحينئذ فلا يرد محذور في البين لا من طرف المأمور ولا من طرف الآمر ، اما عدم محذور فيه من طرف المأمور فواضح من جهة تمكنه حينئذ بعد الامر من الاتيان بالمأمور بداعي شخص الامر المتعلق به ، واما من طرف الآمر فكذلك لما ذكرنا من امكان لحاظه الصلاة المتقيدة بطبيعة القرب والدعوة وامكان الامر أيضا بما تصوره من الموضوع المقيد ، واما شبهة محذور كون الشيء في رتبتين فيدفعه أيضا اختلاف الظرفين والوجودين ، فان ما هو معلول الامر ومترتب عليه انما هي الدعوة بحسب الوجود الخارجي وما هو مأخوذ في متعلق الامر وفي رتبة سابقة بنحو الجزئية أو القيدية انما هي الدعوة بوجودها ذهنا ولحاظا ، وحينئذ فمع اختلاف الوجودين يرتفع المحذور المزبور أيضا.

فمدفوع بما عرفت فان الدعوة الناشئة عن شخص هذا الامر بعد أن كانت مرئية بحقيقتها في هذا اللحاظ في رتبة متأخرة عن شخص هذا الامر المتعلق بالمقيد ، فلا جرم يرى كونها في هذا اللحاظ خارجة عن دائرة الطبيعي المزبور المأخوذ في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، ومع خروجها عن دائرة الطبيعي في هذا اللحاظ يستحيل شمول الطبيعي لهذا المصداق وانطباقه عليه خارجا ، إذ ذلك حينئذ بمنزلة ما لو قيد الامر وحدد دائرة الطبيعي بحد خاص غير شامل لمثل هذا الفرد الناشي عن الامر به ، كما في قوله : يجب الصلاة المتقيدة بدعوة طبيعة الامر غير الدعوة الناشئة عن شخص هذا الوجوب ، فكما انه بالتحديد المزبور تضيق دائرة الطبيعي بحد لا يعقل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا كذلك أيضا بتحديد العقل إياه ولو من جهة اقتضاء اختلاف الرتبة المزبورة ، فان قضية ذلك أيضا توجب ضيقا قهريا في دائرة الطبيعي المزبور على وجه يستحيل شموله لمثل هذا الفرد وانطباقه عليه خارجا. ولعل عمدة المنشأ لتوهم الجواز في المقام انما هو بلحاظ مقايسة المقام بباب الاغراض والغايات الداعية على الأعمال من حيث كونها متقدمة على الإرادة لحاظا وتصورا ومترتبة عليها خارجا ، ولكن الغفلة عن وضوح الفرق بين المقامين ، فإنه في باب الاغراض والغايات انما يكون ترتبها على موضوع الإرادة لا على نفسها ، كما هو الحال بالنسبة إلى المقدمة وذيها من حيث ترتبه على المقدمة خارجا وترشح الإرادة من

ص: 189

تعلقها به إلى المقدمة. وهذا بخلاف المقام المفروض فيه ترتب الدعوة ولو بحسب هذا اللحاظ على شخص الامر ، وهذا هو الذي قلنا باستحالة اخذ مثله قيدا في موضوع شخص الامر المزبور بلحاظ اقتضاء الامر بالمقيد لان يكون الامر بحقيقته قائما بالمقيد بنحو يكون المقيد بقيده في رتبة سابقة عن الامر المزبور ، فإنه في مثله يستحيل شمول القيد المزبور ولو بلحاظه بنحو الطبيعي لمثل هذا الفرد الناشي عن قبل الامر المزبور ، كما هو واضح. وعلى ذلك نقول : بأنه إذا لم يشمل الطبيعي المزبور لمثل هذا الفرد يتوجه عليه محذور عدم قدرة المأمور على الامتثال نظراً إلى أنه لا امر آخر في البين كي يتمكن المأمور من الاتيان بالمأمور به بدعوة الامر ، واما شخص دعوة هذا الامر المتعلق به فهو على الفرض غير قابل لانطباق الطبيعي المزبور عليه. وعليه فلا محيص بناء على اخذ الدعوة في المأمور به في تصحيحه من الالتزام بأمرين طوليين : يكون أحدهما متعلقا بذات المأمور به والآخر في طول الامر الأول باتيانه بداعي أمره ، والا ففي فرض وحدة الامر يستحيل اخذ دعوة الامر في المأمور به بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو واضح.

نعم لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال لا يرد عليه محذور لزوم داعوية الامر إلى شخص نفسه ، كما قيل ، بتقريب : ان المأمور به بعد أن كان عبارة عن الذات المتقيدة بدعوة الامر فلا محالة الامر المتعلق بهذا المقيد كما يدعوا إلى ذات المقيد وهي الصلاة مثلا كذلك يدعوا إلى قيد ها الذي هي دعوة شخص نفسه ومعه يلزم داعوية الامر إلى دعوة شخصه وهو كما ترى من المستحيل. إذ نقول : بأنه يمكن دفع هذا المحذور من جهة انحلال الامر إلى أمرين وتقطيعه في الذهن بقطعة فقطعة : متعلقة إحديهما بذات المقيد والأخرى بقيد الدعوة ، حيث نقول حينئذ : بان الامر الضمني المتعلق بالدعوة انما يكون داعيا إلى دعوة تلك القطعة الأخرى من الامر الضمني المتعلق بذات المقيد لا إلى دعوة شخص نفسه حتى يتوجه المحذور المزبور. نعم انما يرد هذا الاشكال بناء على عدم انحلال الامر بالمقيد إلى أمرين ضمنيين والا فبناء على انحلاله ذهنا يكون حاله حال الامرين المستقلين ، فكما انه لا يرد هذا المحذور في صورة الالتزام بتعدد الامر فأمكن تعلق أحد الامرين بذات المقيد والآخر بقيد الدعوة الراجع إلى داعويته لاتيان المقيد عن دعوة الامر المتعلق به بلا كلام ، كذلك بناء على الانحلال ، لان لام انحلال الامر بالمقيد انما هو تعلق أمر ضمني بذات المقيد وتعلق امر ضمني آخر إلى قيد الدعوة كما في صورة استقلال الامرين ، فكان

ص: 190

الامر المتعلق بالدعوة داعيا إلى ايجاد ذات المقيد عن داعي الامر الضمني المتعلق به ، ومعه لا يلزم محذور داعوية الامر إلى دعوة شخصه ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا لم تكن الدعوة المأخوذة قيدا أو جزء كذات المقيد تعبدية محتاجة إلى قصد الامتثال بل كانت توصلية صرفة فباتيان ذات الصلاة عن دعوة الامر الضمني المتعلق بها يتحقق المقيد والمأمور به أيضا ، فيرتفع به محذور عدم تمكن المكلف من الامتثال أيضا كما ادعى من عدم قدرة المكلف على الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بداعي الامر لان المقدور منه انما هو الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها إذ نقول : بان مثل هذا المحذور انما يرد إذا كان القيد وهو الدعوة كذات المقيد تعبديا محتاجا في سقوط الامر عنه إلى قصد الامتثال ، والا فبناء على كونه توصليا فلا جرم يكفي نحققه كيفما اتفق ، وفي مثله نقول : بان الاتيان بالذات المقيدة بالدعوة بمكان من المقدورية للمكلف بلحاظ ان الآتي بذات المقيد بداعي أمرها كان آتيا بالدعوة أيضا نظراً إلى توصليتها وتحققها بنفس الاتيان بذات المقيد بداعي أمرها. نعم غاية ما يلزم حينئذ انما هو كون الامر المتعلق بالمقيد ببعض منه تعبديا وببعضه الآخر توصليا ولكن نقول : بأنه لا ضير في الالتزام بمثله ، فتأمل. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من عدم امكان أخذ دعوة الامر قيدا في موضوع هذا الامر.

ثم إن ما ذكرناه من الاشكال جار في الإرادة أيضا حرفا بحرف ، ففي لب الإرادة أيضا لايمكن اخذ دعوة الإرادة في موضوعها بنحو القيدية أو الجزئية ، كما هو الحال بالنسبة إلى مرحلة الرجحان والمصلحة أيضا حرفا بحرف.

ثم لايخفى عليك انه على ما ذكرنا من عدم امكان اخذ الدعوة قيدا في المأمور به لا يلزم منه تعلق الامر والإرادة بنفس ذات العمل مطلقا ولو منفردة عن الدعوة كما توهم بخيال انه إذا لم يكن المأمور به هو المقيد فلا جرم يكون هو الذات المطلقة ولازمه هو سقوط الامر بالاتيان بنفس ذات العمل الا انه في صورة انفرادها عن الدعوة لما كان الغرض بعد على حاله يحدث امر آخر متعلقا بالعمل وهكذا إلى أن يؤتى بداعي امره فيحصل الغرض ويسقط الامر ، إذ نقول : بأنه بعد فرض عدم قيام الغرض والمصلحة في العبادات بنفس الذات ولو مجردة عن الدعوة ، بل قيامه بالذات مع الدعوة ، فلا جرم في مثله يستحيل أوسعية دائرة الإرادة والامر عن دائرة قيام الغرض والمصلحة ، بل في مثله

ص: 191

بمقتضي تبعية الإرادة لقيام المصلحة يتضيق دائرة الإرادة والامر أيضا حسب تضيق دائرة الغرض والمصلحة بنحو لايكاد تعلقها الا بالذات التوئمة مع الدعوة ، وعلى ذلك فموضوع الإرادة والامر وان لم يكن مقيدا بالدعوة ولكنه لايكون مطلقا أيضا بل هو انما يكون عبارة عن حصة من ذات العمل تكون توأما وملازمة مع الدعوة ، ومنشأ هذا الضيق كما عرفت انما هو من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة وعدم سعته للشمول لحال خلو المتعلق عن الدعوة ، حيث إنه لأجل تضيق دائرة الغرض يقع ضيق أيضا في ناحية الإرادة والامر بنحو يقصر عن الشمول لحال خلو الذات عن الدعوة من دون ان يكون ذلك الضيق منشأ لتقيد الموضوع ، كما هو واضح. وحينئذ فاذن لايكون موضوع الامر والإرادة مطلقا ، فلا جرم باتيان ذات العمل مجردة عن الدعوة لايسقط أيضا أمره ، إذ سقوطه حينئذ انما هو باتيان العمل مقرونا بالدعوة فما دام عدم الاتيان به كذلك كان الامر والإرادة على حاله ، لا انه يسقط هذا الامر ومن جهة بقاء الغرض يحدث امر جديد ، كما هو واضح.

نعم هنا تقريب آخر لعدم اطلاق دائرة المأمور به ، ولكنه يختص بخصوص الامر ولا يتأتى بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الرجحان والمحبوبية ، وبيان ذلك انما هو بدعوى ان الغرض من الامر المولوي والبعث الذي هو ابراز للإرادة حيثما كان هو داعوية امره ومحركيته للمكلف نحو المطلوب بنحو يكون المحرك له على الاتيان هو دعوة امره دون غيرها من الدواعي فلا جرم بمقتضي تضيق دائرة هذا الغرض يتضيق دائرة معلوله الذي هو الامر أيضا فلايكون له سعة اطلاق أزيد من دائرة الغرض ، ولازمه قصوره عن الشمول للعمل المأتى عن غير دعوة الامر ، وحينئذ فمع قصور الامر قهرا يصير موضوعه أيضا عبارة عن الحصة المقرونة بالدعوة ، فلايكون مطلقا ولا مقيدا بالدعوة أيضا.

بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك في التوصليات أيضا ، حيث إنه بالتقريب المزبور نثبت عدم انفكاك الامر فيها أيضا عن الدعوة كما في العبادات ونقول بعدم انطباق عنوان الواجب والمأمور به على العمل المأتي به عن غير دعوة الامر ، ولذا لايستحق المثوبة على الاتيان به عن مثل دعوة الشهوة ونحوها ولايكاد يصدق عليه عنوان الإطاعة ، ومجرد حصول الغرض الأصلي وسقوط الامر بمجرد تحقق العمل في الخارج كيفما اتفق ولو في فرض وجوده باختيار الناشي عن دعوة شهوته لايقتضي تعلق امره بوجود المطلق و

ص: 192

لذا يسقط الامر ويحصل الغرض ولو في فرض وجوده لا باختيار المكلف ، كما هو واضح.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى لب الإرادة وكذا مباديها من الشوق والمحبة ، ووجهه ظاهر من جهة ان الإرادة وكذا مباديها امر قهري ناش عن قيام الغرض والمصلحة في المتعلق ، فإذا كان الغرض والصلاح قائما بمطلق وجود العمل ولو فرض وجوده لا باختيار المكلف وباختياره الناشي عن دعوة شهوته يتبعه الإرادة أيضا قهرا كما في الواجبات التوصلية ، فان الغرض والصلاح فيها لما كان قائما بمطلق وجود المتعلق كانت الإرادة أيضا بتبعه قائمة بمطلق وجوده. وهذا بخلاف الامر فإنه لما كان فعلا اختياريا لايكون تابعا للغرض القائم بالمتعلق كالإرادة ومباديها ، بل تبعيته انما كانت للغرض المترتب على نفسه وهو الداعوية والمحركية ، ومن هذه الجهة قلنا باستلزامه في مطلق الواجبات حتى التوصليات ، لتضيق دائرة المأمور به بالحصة المقرونة مع الداعي ولولا مقيدا بها ، كما عرفت.

وحينئذ فتمام الفرق بين العباديات والتوصليات بعد اشتراكهما في كون المأمور به بالامر الفعلي هو الحصة الملازمة لداعوية الامر انما هو بالنسبة إلى مرحلة لب الإرادة ومباديها ، فان ما هو الوافي بالمصلحة في العبادات لما كان هو الحصة المقرونة مع الداعي لا مطلقا كانت الإرادة وكذا مباديها أيضا غير متعدية عن تلك الحصة الوافية لا مطلقها ، بخلاف التوصليات فان الوافي بالمصلحة فيها كان مطلق وجود العمل فمن هذه الجهة كانت الإرادة وكذا مباديها حسب تبعيتها للمصلحة أيضا متعلقة بمطلق وجوده ، لكن بالنسبة إلى مقام فعلية الإرادة ومرحلة الامر كانت العبادات والتوصليات مشتركين في عدم تعلق الامر الا بالحصة الملازمة لداعوية الامر حسب ما بيناه من أن غرض الآمر من الامر انما هو التوصل بأمره إلى وجود مرامه واقتضاء هذا الغرض قهرا التضيق في دائرة متعلق الامر وتخصيصه بالحصة الناشئة عن قبل داعوية امره لا مطلقا ولو الناشي عن شهوته ، من جهة عدم كون ذلك مقصودا للامر في مقام امره ، فتدبر.

فكيف كان فهذا كله بناء على وحدة الامر وشخصيته ، ولقد عرفت في مثله لزوم تجريد متعلق الأوامر كلية عن عنوان نشوه عن داعي الامر شخصيا أم طبيعيا ، من جهة امتناع اخذ ما هو ناش عن قبل الامر في متعلقه بنحو القيدية أو الجزئية.

واما بناء على تعدد الامر والإرادة فلا مانع من أخذ عنوان الدعوة شطرا أو شرطا في

ص: 193

المأمور به بأن يكون أحد الامرين متعلقا بذات العمل والامر الآخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي أمرها ، حيث إنه لا يرد عليه حينئذ ما ذكرناه من الاشكال في صورة وحدة الامر ، فإذا يرى المولى بان الحصة من الذات الملازمة مع داعي الامر فيها الغرض والمصلحة ، يترشح نحوها الإرادة قهرا من قبله ، ثم بعد ما يرى أن لداعويته أيضا دخلا في الغرض يترشح إرادة أخرى في طول الإرادة الأولى نحو هذا الداعي ، بل مثل هذا المعنى مما لا محيص عن الالتزام به في فرض البناء على كون الدعوة قيدا حيث إنه لايمكن تصحيحه الا بالتزام بتعدد الإرادة في مقام اللب.

نعم هنا اشكال آخر بالنسبة إلى مقام الامر من جهة لغوية الامر الثاني ، ببيان ان الامر الأول اما ان يسقط بمجرد الاتيان بذات العبادة ولو مع عدم قصد امتثاله كما هو قضية الامر الثاني من فرض توصليته واما ان لايسقط بمجرد الموافقة والآتيان بذات العبادة بدون قصد امتثاله ، وعلى التقديرين لا مجال لا عمال المولوية في الامر الثاني ، وذلك اما على الأول فواضح من جهة انه بعد سقوط الامر الأول لايبقى مجال لموافقة الامر الثاني نظراً إلى عدم امكان الاتيان بالدعوة حينئذ مستقلا لكونها من الكيفيات القائمة بنفس العمل وحينئذ فيلزم من تعلق الامر بها لغوية الامر المزبور ، واما على الثاني فكذلك أيضا وذلك لان عدم سقوط امره حينئذ ليس الا من جهة عدم حصول غرضه الداعي على الامر به ، والا ففي ظرف سقوط غرضه يستحيل بقاء امره وعدم سقوطه. وحينئذ نقول : بأنه إذا كان الوجه في عدم سقوط الامر الأول هو عدم سقوط غرضه فلا جرم في مثله يستقل العقل في مقام حكمه بلزوم تحصيل الفراغ بلزوم الاتيان به عن قصد الامتثال بنحو يحصل معه غرضه ، ومع فرض استقلال العقل بذلك في مقام حكمه بالفراغ لا حاجة للمولى إلى وسيلة تعدد الامر في الوصلة إلى تحصيل غرضه باعمال جهات المولوية في امره ، لان الامر المولوي انما يتعلق بشيء لايكون في البين داع عقلي على تحصيله والا فمع وجود داع عقلي في البين لايبقى مجال لأعمال المولوية ، كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ما في هذا الاشكال ، إذ نقول ، بأنه لو تم هذا الاشكال فإنما هو على مبنى مرجعية قاعدة الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها ، والا فبناء على مبنى البراءة كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى فلا موقع لهذا الاشكال ، وذلك لأنه في فرض استقلال العقل بمرجعية البراءة عند الشك لا محيص للمولى

ص: 194

من بيان مدخلية قصد الامتثال في غرضه على فرض دخله فيه واقعا ، وبيانه انما هو بأمره به مستقلا لكي لا يذهب المكلف ويستريح في بيته وينام متكلا على حكم عقله بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان ، والا فمع عدم أمره بذلك لكان قد أخل بما هو مرامه وغرضه ، ومن المعلوم بداهة ان كمال المجال حينئذ لأعمال المولوية بأمره ، إذ لا نعني من الامر المولوي الا ما كان رافعا لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لقلب عدم البيان بالبيان ، كما هو الشأن أيضا في الامر الأول المتعلق بذات العبادة ، فكما ان الامر الأول امر مولوي ورافع لموضوع حكم العقل بالبرائة بلا كلام ، كذلك الامر الثاني المتعلق بقصد الامتثال فهو أيضا امر مولوي قد أعمل فيه جهة المولوية لرفع موضوع حكم العقل بالبرائة.

نعم بناء على مبنى مرجعية الاشتغال عند الشك في اعتبار هذه القيود ربما يتوجه الاشكال المزبور ، إذ يمكن أن يقال حينئذ بأنه بعد حكم العقل واستقلاله بالاشتغال لا يلزم على المولى بيان دخل قصد الامتثال في تحقق غرضه ، من جهة إمكان اتكاله حينئذ على قضية حكم العقل بالاشتغال ، ومعه لا يلزم من عدم بيانه اخلال منه بغرضه كي يجب عليه البيان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور على هذا المسلك أيضا ، إذ نقول حينئذ : بأنه على هذا البيان وان لم يجب على المولى الامر المولوي بداعي الامر ، من جهة جواز اتكاله على حكم العقل بالاشتغال ، الا انه لو أمر بها حينئذ لا يلزم منه اللغوية ، كيف وان للمولى حينئذ بيان كل ما له الدخل في تحقق غرضه بالامر به ، ويكفي في فائدته ارتفاع موضوع حكم العقل بالاشتغال ، من جهة ان حكم العقل بالاشتغال كحكمه بالبرائة انما هو في ظرف الشك بالواقع وبعد بيان المولى ما له المدخلية في تحقق غرضه واقعا يرتفع موضوع حكم عقله بالاشتغال كارتفاع موضوع حكمه بالبرائة. نعم لو انحصر فائدة الامر المولوي باحداث الداعي للمكلف نحو المطلوب لأمكن دعوى لغوية امره مولويا مع حكم العقل الجزمي بالاحتياط ولكنه ليس كذلك ، بل نقول : بان من الفوائد أيضا اعلام المكلف بما له المدخلية في حصول غرضه واقعا لكي يرتفع به موضوع حكم عقله بالاحتياط كما هو واضح. وحينئذ فعلى كل حال يكون الامر المتعلق بداعي الامر أمرا مولويا لا ارشاديا. نعم انما يتوجه هذا المحذور في مورد علم من الخارج بعبادية المأمور به ، فإنه في هذا الفرض يصير أمره الثاني لغوا محضا ، ولكن الشأن كله في حصول هذا العلم من الخارج خصوصا

ص: 195

في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشيء ، فإنه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع دون غيره ، كما هو واضح ، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي الامر المتعلق بها ، كما هو واضح.

ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر ، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية أخيرا : بأنه من المقطوع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد ، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله : صل أو يجب الصلاة ، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول بعنوان داعي الامر ، كما نظيره في مثل قوله علیه السلام ( إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله ( وجب ) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.

ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث نقول فيها أيضا : بان الأثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر ، كيف وانه على هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال : بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام علیه السلام انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي ، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب اثر المؤدى ، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم ، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لايصير مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال : بأنه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل

ص: 196

شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية ، إذ نقول : بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه ، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن افراد متعددة ، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الأثر لموضوع آخر ، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع آخر لاثر آخر وهكذا ، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.

وعلى ذلك نقول : بأنه بعد أن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام ، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في المقام ونقول : بأنه بعد امكان تعدد الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والآخر في طول الأول باتيانها بداعي أمرها. واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله علیه السلام : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، وقوله علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين ، كما في قوله : وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني قدس سره في كفايته من دعوى القطع بأنه لايكون في العبادات الا امر واحد ، إذ ذلك انما يرد بناء ، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج ، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور ، إذ ما في الخارج حينئذ لايكون الا انشاء

ص: 197

واحدا وامرا واحدا ، فتدبر.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه ، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية أم لاتقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شيء منهما.

فنقول : بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشي عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا ، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك باطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ باطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الإرادة وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى إقامة البيان على التقيد.

نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظراً إلى ما تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي الامر ، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا : بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الإرادة ، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لايكاد يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية اطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع من دائرة المأمور به ، وحينئذ فلا باس بالتمسك باطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية

ص: 198

الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، وان كان ذلك أيضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس ، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز ، إذ مجرد ارتكازية داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لايقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح.

ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعي الامر والإرادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة ، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد شخصي ، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لأنه فرع امكان التقيد ، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لايمنع عن اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام ، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام ، والا لتحقق الاخلال منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك باطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع قربى من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه. واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ ، فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة والشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه ، مع أنه لو اغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه ، نعم العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامه الناس ، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه ، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.

ص: 199

واما المقام الثاني : فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول :

اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، نظراً إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل ، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره ، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشيء للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط وتحصيل الجزم بالفراغ ، ولايكون ذلك الا باتيان العمل عن قصد امتثال امره ، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته وتنجزه على المكلف ، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره ، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.

أقول : ولايخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إنه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبرائة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب : ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض ارتباطية الواجب لايكون الا بالاتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لايعلم بالخروج عن عهدته نظراً إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ فلابد من الاحتياط باتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل ، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين ، كما أنه لو بنينا

ص: 200

على أن المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة العقلية في المقامين.

وبعد ذلك نقول : بأنه وان كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الأقل والأكثر الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن المحذور ، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال وايضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار ، فنقول : انه بعد الجزم بعدم كون مجرد التكليف بشيء واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية ، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذي هو عبارة عن حكم العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف ، نقول بأنه لا شبهة في أن هم العقل في حكمه بالفراغ في فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة ، وحينئذ فإذا كان المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الأقل نظراً إلى فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل فلا جرم هذا المقدار من الاشتغال لايقتضي الا الاتيان بذات الأقل ولولا في ضمن الأكثر لأنه باتيانه يحصل الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة ، واما عدم اتصاف المأتى به وهو الأقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم سقوط أمره في فرض وجوب الأكثر واقعا نظراً إلى ارتباطية التكليف فهو لايقتضي أيضا اتيانه في ضمن الأكثر إذ ذلك انما يكون كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة القصور في المأتي به وهو الأقل ، وهو ممنوع جدا ، بل نقول بان عدم سقوط امره وعدم اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق بالأقل عن الشمول لحال وجوده لا في ضمن الأكثر لا من جهة قصور في طرف الأقل المأتى به ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الأكثر في نفسه تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان نقول : بأنه لايقتضي قضية الاشتغال بالأقل أيضا بحكم العقل الا الاتيان بما هو متعلقه فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفته وبالاتيان بالأقل يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة الامر المعلوم وان لم يقطع بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الأكثر

ص: 201

واقعا ، وذلك لما تقدم من أن هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة الاتصاف أيضا ، فتدبر.

وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام أيضا ونقول بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة الامر ، وحينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر الارتباطيين.

بل ولئن تأملت ترى امر جريان البراءة في المقام أوضح من جريانها في الأقل والأكثر ، إذ دوران الامر في المقام بعد أن كان بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقل المتلازمين ثبوتا وسقوطا فمن الأول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات المأمور به وانما الشك في تعلق تكليف وإرادة أخرى بعنوان دعوة الامر ، فمن هذه الجهة تجرى البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم اجمالي في البين. وهذا بخلافه في الأقل والأكثر الارتباطيين ، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين ولو متلازمين في مقام الثبوت والسقوط ، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية أيضا ، وفي مثله ربما كان المجال للخدشة في جريان البراءة عن الأكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي ، وان كان مثل هذه الدعوى ضعيفة أيضا في نفسها ، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد عليه.

وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا اشكال فيها.

واما البراءة النقلية كحديث الرفع ونحوه فان بنينا على جريان البراءة عقلا فلا اشكال في جريان البراءة النقلية أيضا ، واما لو بنينا على الاشتغال والاحتياط عقلا نظراً إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ففي جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء ، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية في هذا الفرض أيضا نظراً إلى عدم كون حكم العقل بالاحتياط حينئذ حكما تنجزيا كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي ، بل نقول بان حكمه ذلك

ص: 202

كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه ، وحينئذ فبجريان مثل حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط ، فتأمل. هذا بناء على أن يكون مفاده رفع مطلق الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك ، إذ نقول بان رفعها حينئذ انما هو برفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما يقتضيه حكم العقل بالاحتياط ، إذ لا مانع عنه بعد فرض تعليقية حكم العقل بذلك ، كما هو واضح.

نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه اشكال ينشأ من عدم كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية والمانعية حتى يرفع به ، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة ، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به ولو بالالتزام بتعدد لب الإرادة ربما لا يفرق في جريانها بين المقام وبين الأقل والأكثر ، فتدبر. لكن لايخفى عليك ان الأستاذ لم يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة السابقة. (1)

ص: 203


1- (*) قالوا ان التعبدى قد يطلق على ما يعتبر فيه مباشرة المكلف او صدوره عن ارادته او اتيانه في مصداق غير محرّم ومقابله التوصلى الذى لا يعتبر فيه شيء من ذلك. وحيث ان المؤلف المقرر لم يتعرض لما افاده استاذه المحقق «قدس سرهما» هيهنا وتعرض له العلامة آية اللّه الأمل دامت بركاته في تقريره لبحث الاستاذ فلذا نأتى بما افاده تتميما للفائدة . «المصحح» قال هنا ما لفظه : تتميم هل اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضي الاعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضي شيئاً من ذلك وايضاً هل يقتضي اطلاقه صدور الفعل عن اختيار او لا يقتضي ذلك وايضاً هل يقتضي اطلاقه كون الفعل المأمور به غير محرم حين صدوره من الفاعل او لا يقتضي ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة مواضع: الموضع الأول فالتحقيق يقضي ان اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه لا يكفي صدور الفعل بالتسبيب او الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بلا تسبيب او استنابة و بيان ذلك يتوقف على تمهيد (مقدمة) وهي ان التخيير مطلقاً . بين فعلين او افعال لابد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الأفعال الذي يحصل به غرض المكلف فلا محالة تكون خصوصيات الافعال الخير بينها خارجة عن حيز الارادة ومباديها من المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينها مخاطباً ومأمورا به حين عدم الآخر لا مقيداً أو مشروطاً بعدمه ليلزم الدور ولا مطلقاً ليلزم كون الوجوب في كل منهما تعيينياً وان شئت فعبر عن الوجوب المزبور بالارادة الناقصة اعني بها ارادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له ، هذا كله فيا لوكان كل من الفعلين او الافعال مقدوراً للمكلف ، واما اذا خرج احدهما عن قدرته وبقى أحدهما مقدوراً له أو كان كذلك حين جعل الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منها واجباً تعيينياً لانحصار الخطاب فيه ( ولكن التحقيق) يقضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله فيا لو كان كل منهما مقدوراً حين الخطاب او كما لو كان كل منهما مقدوراً حين الخطاب - فيما لو كان احدهما ممتنعاً حين جعل الحكم - وذلك لان الوجوب عبارة عن الارادة التشريعية التي اظهرها الشارع بما يدل عليها للمكلف ولا ريب في أن الارادة تتبع في مقام تعلقها بالمراد المصلحة القائمة فيه ولا شبهة ايضاً فى ان المصلحة الداعية الى ايجابه تخييراً حين القدرة على كلا الفعلين لا تتغير عما هي عليه حين امتناع احدهما واذا كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية المقتضية للوجوب التخييرى لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع احد الفعلين هو الوجوب التعييني اذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن مصلحة اخرى تسانحه. و مما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فانه عليه يسقط وجوب القضاء عن الولي كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل الخصوصية فاعله فيه غاية الأمر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب الى مكلف خاص كما يظهر ذلك من المثالين المزبورين وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي الى وجوب ذلك الفعل على المكلف به فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول الغرض بكل من فعلي المكلف أو أفعاله المقتضى ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينها كذلك يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصلياً كان ام تعبديا كما اشرنا اليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن قدرة المكلف واختياره لا يصح ان يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم ان هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان فعله سقط المكلف التكليف وإلا بقى مخاطباً به لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه عن الى المكلف في حين عدم فعل غيره اياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت ان الخطاب بكل من الفعلين او الافعال متوجه الى المكلف حين عدم الآخر، ومن هذا البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطاً بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه اليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري كما اشرنا اليه كما ظهران الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به فى الواجب التخييرى و ذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، كما ظهر ايضاً ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه و بين التسبيب الى فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلف وبين التسبيب الى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين نفس فعل الغير كما لا يخفى وانما العقل يرشد المكلف الى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب اليه بما يراه سبباً لصدور الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الاعاظم (قده) في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته. (إذا عرفت هذه المقدمة) تعرف ان اطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقاً في جميع الأحوال وازمان الامكان لا أنه قضية حينية اي انه ثابت في حين دون حين وحال دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم . حصول الغرض بفعل غیره « ان قلت ان مقتضى اطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها و ان صدرت من الغير (ولا يتوهم) تقييده بتقيد اطلاق الهيئة بخصوص الصادر من المأمور الخروج فعل الغير عن قدرته ( لان ذلك) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب اطلاقها إلا من جهة الحجية لا في أصل الظهور حتى يسرى الى المادة «قلت» الأمر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه الخطاب والطلب المقتضى الحصره في فعل المأمور فيمنع عن تمامية اطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في ما صدر عن الغير لكي يزاحم مع اطلاق الهيأة في مطلوبية فعل المأموروان صدر من الغير. هذا مقتضى الاطلاق ومع عدمه فقتضى الأصل العملي هي البراثة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الاجمالى باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلا مطلقاً اي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهي صلاة الظهر وهذا العلم الاجمالي غير موجود في محل الكلام لانه يعلم تفصيلا بانه مخاطب بهذا الفعل الخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلا يكون عدلا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفاً تخييراً باحد الامرين وبما ان المكلف يعلم انه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له و يشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع الى البرائة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان اصالة الاشتغال بتوهم . ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والاصل يقتضي عدم كونه مسقطاً وذلك لانه يكون هو بنفسه مجرى لاصالة البرائة فيكون هذا الاصل حاكماً على اصل عدم كون فعل الغير مسقطاً. ومن هنا يظهر لك الجواب عن توهم بعض الاعاظم (قده)» في المقام لصحة جريان اصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره المتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح جريان اصالة الاشتغال او استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل «وذلك» لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هوتام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب اذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكاً من الاول فلا تتم فيه اركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه الى البرائة ولا مجال للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص الحكومة البراثة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الاقل والاكثر. الموضع الثاني في ان اطلاق الخطاب هلى يقتضي صدور الفعل عن اختيار اولا يقتضي ذلك وغاية ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة اليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة التمسك به إلا انه يمكن النظر في ذلك بما اشرنا اليه فيما سبق من انه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فاذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان كان مقيداً عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف اطلاق المصلحة القائمة فيها. اطلاقها عن و لكن قد يستشكل) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار الحصول الغرض الداعى اليه و لكن ذلك ينا في مقتضى اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة فى حال الاختيار ومقتضى اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي الكلام الواحد (و) يمكن الجواب) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالاضافة الى حالتي الاختيار والاضطرار و بعد تقيده عقلا بحال الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لا ينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالى بالاضافة الى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لا يوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فانه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الاحوالى بالاضافة الى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقييد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق بالاضافة الى الاتيان بالفرد الاضطراري. ومن هنا يظهر الجواب عن اشكال آخر وهوان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيارلان الداعي اليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة، وملخص الجواب أن اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلا ينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الارادة والمصلحة مطلقاً وان قيدت حجية الهيئة في فعلية الارادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري. و بهذا يتضح لك عدم تماعية ما ذهب اليه بعض الاعاظم في المقام حيث أفاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري مسقطاً له لكان التكليف مشروطاً بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك يكونه مسقطاً يشك يكون التكليف مطلقاً او مشروطاً ومقتضى اصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه في محل الكلام ولا يخفى مافيه لما عرفت آنفا من ان الخطاب مطلق بالاضافة الى الفعل الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لا يوجب الاسقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولا ينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الاحوالي بالاضافة الى الاتيان بالفرد الاضطراري وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الانيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد الاضطراري، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق، واما اذا لم يكن في المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي البرائة الرجوع الشك حينئذ الى الشك في الاقل والاكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك المزبور هي البرائة ومعه لا مجال للرجوع الى استصحاب التكليف الحكومة اصالة البراثة عليه. الموضع الثالث في ان اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم اولا يقتضي والتحقيق يقضي ذلك بالاول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع ام بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان ملاك النهي لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهي عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي الى اصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال ، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البرائة كما تقدم في الموضع الثاني، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الاعاظم من النظر وقد اشرنا اليه فيما سبق فراجع.

ص: 204

ص: 205

ص: 206

ص: 207

ص: 208

الجهة الخامسة

لايخفى عليك ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، من جهة احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى مؤنة زائدة غير مناسبة مع قضية الاطلاق ، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر ، والتخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ ( أو ) مثلا بقوله : يجب هذا أو ذاك ، والكفائي إلى التقيد بصورة عدم اقدام الغير. وهذا بخلافه في النفسي التعييني العيني ، فإنه واجب على كل تقدير ، فكان هذه القيود كلها يدفعها قضية اطلاق الصيغة.

الجهة السادسة

إذا ورد أمر عقيب الحظر أو توهمه ، فهل هو ظاهر في الوجوب؟ كما لو لم يكن في البين حظر ولا توهمه ، أو لا؟ وعلى الثاني فهل هو ظاهر في الاستحباب؟ أو في الإباحة؟ كما ينسب إلى المشهور ، أو انه تابع لما قبل النهى لو علق الامر على زوال علة النهى؟ أو مطلقا؟ وجوه بل أقوال. والظاهر أن مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد كان متعلق الامر بعينه هو المتعلق للنهي من حيث العموم والخصوص كما في قوله : لاتكرم النحويين ، أو لاتكرم زيدا ، وقوله بعد ذلك : أكرم النحويين ، أو أكرم زيدا ، والا فمع اختلاف متعلق الأمر والنهي من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن موضوع هذا النزاع نظير قوله : لاتكرم النحويين ، وقوله : أكرم الكوفيين منهم ، فإنه في مثله لابد من التخصيص أو التقييد الكاشف عن عدم تعلق النهى بالخاص من أول الامر ، كما يشهد لذلك بناء العرف في نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص والمقيد.

وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم ، نقول : بأنه ان بنينا على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في أن لازمه هو الحمل على الوجوب ما لم يكن

ص: 209

في البين قرينة قطعية على الخلاف ، حيث إن مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لايمنع عن الحمل على الحقيقة ، وأما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب ، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي ظهوره فيما كان ظاهرا فيه ، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب أيضا بحيث لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم بالمعارضة بينهما ، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب لا مقتضي في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الإباحة بالمعنى الأخص بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شيء مما ذكر الا مع قيام القرينة في البين على إرادة الندب أو الإباحة أو على حكم ما قبل النهى ، والا فمع خلو المقام عن القرينة لايكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الإباحة بالمعنى الأخص ، نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل واباحته بالمعنى الأعم الذي هو جامع بين الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخص ، ومن ذلك يحتاج في تعيين إحدى الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين. نعم يمكن ان يقال باستفادة الاستحباب في خصوص العبادات نظراً إلى إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية المتعلق ورجحانه ، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظراً إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه ، ففي الحقيقة استفادة الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب ، كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا ظهر لك حال النهى الواقع عقيب الوجوب أو توهمه ، حيث نقول فيه أيضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.

الجهة السابعة :

هل الصيغة تقتضي المرة أو التكرار أو لاتقتضي الا صرف وجود الطبيعي الذي يتحقق بأول وجوده؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير كما ستعرف.

وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار ، حيث إن فيها وجوها ثلاثة :

ص: 210

الأول : ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.

الثاني : ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات ، والفرق بينهما هو انه على الأول يكون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على الثاني فإنه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية الفردية خارجة عن دائرة الطلب ، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي ، حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية بخلافه على الثاني ، فإنه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع المحرم أيضا في قصده الخصوصية نظراً إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة الطلب والامر ، كما هو واضح.

الثالث : ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات والفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح ، إذ على هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال بالمتعدد فيما لو أوجد دفعة افرادا متعددة فإنه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع ، بخلافه على المرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فإنه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.

ولكن الاحتمال الأول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد ، فإنه لو كان المراد من المرة في المقام هو الفرد لكان اللازم هو ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي : في أنه بعد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل الامر يدل على فرد واحد أو على افراد متعددة؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال البحث الآتي ، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في قبال البحث الآتي قرينة قطعية على عدم ارادتهم من المرة في المقام الفرد والافراد ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين ، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الأخير نظراً إلى كونه هو المنساق منها في الذهن عند العرف ، ومن ذلك لو أتى بالماء مثلا في ظروف متعددة دفعة واحدة لايقال : بأنه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا ، بل يقال : انه أتى بالماء مرة واحدة. هكذا أفاده الأستاذ. ولكن أقول : بان عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما هو باعتبار اضافته إلى الاتيان لا بلحاظ اضافته إلى المأتي به وهو الماء ، فحيث ان الاتيان لم يكن الا اتيانا واحدا أضيف إليه المرة فقيل : بأنه أتى بالماء مرة واحدة ، والا

ص: 211

فباعتبار اضافتها إلى نفس المأتى به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور ، كما هو واضح.

وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود الخارجي؟ أو المرة بنحو لا بشرط على معنى وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة الزائد لغوا فيه وجهان : أظهر هما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم ، فان ظاهر هم انما هو على صيرورة الزائد على المرة ( بأي معنى فرضناها ) لغوا محضا ، في قبال القائل بالتكرار الذي يقول بتحقق الامتثال بالزائد أيضا لا انه كان مخلا أيضا بالامتثال بالنسبة إلى أول وجود ، كما هو واضح ، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة. واما القول بالتكرار فيحتمل فيه أيضا وجهان ، فإنه على المعنيين من الوجودات أو الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو الارتباط كما في العام المجموعي ، وأخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو كان كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي ، والفرق بينهما واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة ، فإنه على الثاني يكون كل فرد وكل وجود موردا لتكليف مستقل حسب انحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها امتثال مستقل غير مرتبط بامتثال الآخر ، بخلافه على الأول فإنه عليه وان لو حظ الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان المجموع موضوعا وحدانيا في مقام تعلق الطلب والامر ، فمن هذه الجهة لايكاد تحقق الامتثال الا باتيان الطبيعي خارجا متكررا ولايكاد يكون لاتيان المجموع الا امتثال واحد ولا على مخالفتها الأعقاب واحد ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة ، فنقول : قد عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة هو الوجه الأخير من عدم دلالة الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه أصلا ، كيف وان المادة فيها حسب وضعها النوعي على ما تقدم من انحلال أوضاع المشتقات مادة وهيئة لاتدل الا على صرف الطبيعي ، كما هو ذلك أيضا في ساير الصيغ من المصدر وغيره ، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف

ص: 212

انتفائها أيضا في الصيغة. ولعله إلى ذلك أيضا نظر الفصول في انكاره دلالة الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر المجرد عن اللام والتنوين باجماع من علماء الأدب ، فكان تمام نظره في النقض بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع وغيرهما ، لا ان نظره إلى أن المصدر هو الأصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه اشكال الكفاية : بان المصدر ليس أصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها وفي قبالها ، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة أيضا عليهما. نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين : وضع المادة المشتركة في الجميع وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من الصيغ وضعا شخصيا وان الوضع في كل واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا لمعنى خاص ، لأمكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار لايقتضي عدم دلالة الصيغة عليهما ، ولكن الكلام حينئذ في أصل هذا المبني فإنه خلاف ما عليه المحققون في أوضاع المشتقات ، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها إلى وضعين : وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات الخاصة ، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدء في الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على أحد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى الكلام فيها في الهيئة وهي أيضا كما عرفت غير مرة لاتدل الا على طلب ايجاد الطبيعة أو النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلايكون فيها أيضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال بذلك لا من جهة ان الامر يقتضي المرة كما هو واضح. كما أن تحقق الامتثال باتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع كانطباقه في الأول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الامر للتكرار كما توهم.

ومن ذلك البيان ربما أمكن ارجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو المشهور نظراً إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق الامتثال بايجاد المأمور به دفعة ولو في

ص: 213

ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال باتيان ثاني الوجود وثالثه ، كما هو واضح فتدبر.

بقى الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهي أمور :

منها قوله صلی اللّه علیه و آله ( إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) وفيه ما لايخفى ، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر في مثل الصلاة اليومية وصوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها ، نقول بأنه ينافي ذلك ما في ذيل تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم واللّه لو قلت نعم لوجب ) الخ (1) فان ما هو المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.

ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما لايخفى حيث إن تكرر الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب إناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان وإناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت وأين ذلك واقتضاء الامر للتكرار كما لايخفى.

ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الأوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام والاستمرار ، بتقريب : انه كما أن قضية اطلاق الهيئة في النواهي هي الدوام والاستمرار بملاحظة اقتضاء اطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية ومبغوضية الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد. وتحكيمه على قضية اطلاق المادة فيها في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من

ص: 214


1- لم أجد الحديث في مجامع أخبارنا وألفاظه على ما أخرجه في التاج هكذا : « عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول اللّه فسكت ، حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » رواه مسلم والنسائي والترمذي « انتهى » التاج / ج 2 ص 108 ، الباب 2 من كتاب الحج « المصحح ».

جهة عليه الهيئة لتحقق المادة خارجا ، كذلك في الأوامر أيضا ، حيث إنه بعين هذا التقريب أي تقريب اطلاق الهيئة وتحكيمه على اطلاق المادة يستكشف في الأوامر أيضا عن أن المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف وجودها المتحقق بأول وجودها كما هو واضح ، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء الامر للتكرار هذا.

ولكن فيه أيضا ما لايخفى ، إذ نقول : بان ما أفيد وان تم لا ثبات الدوام والاستمرار في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب المزبور في باب الأوامر من جهة وضوح الفرق بين المقامين ، وحاصل الفرق بين المقامين في جريان اطلاق الهيئة وصحة تحكيمه على اطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الأوامر هو ان صحة تحكيم اطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام الاستمرار منه انما هو من جهة عدم ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار ، بخلافه في الأوامر فإنه فيها يلزم من تحكيم قضية اطلاق الهيئة على اطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد ، فمن هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب الأوامر عن جريان اطلاق الهيئة فيها والاخذ بها ، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى اطلاق المادة فيها على حاله سليما عن المزاحم ، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق بأول وجوده دون الطبيعة السارية ، وعليه فلا مجال للتشبث بمثل هذا البيان أيضا لا ثبات التكرار في الأوامر وان صح ذلك في باب النواهي ، كما هو واضح. (1)

ثم انه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الأقوال المزبورة فنقول : أما الثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فظاهرة فيما لو أتى دفعة

ص: 215


1- أقول ولايخفى عليك انه لا يتم هذا التقريب في باب النواهي أيضا ويظهر وجه من جهة تبعية الهيئة ثبوتا اطلاقا وتقييدا للمادة حسب تقدمها عليها وكيفية قيام المصلحة بها بصرف وجودها أو بوجودها الساري ، إذ حينئذ تكون الهيئة تابعة للمادة ومن شؤونها ، وحينئذ فمع جريان الاطلاق في المادة لايبقى مجال لجريان الاطلاق في طرف الهيئة حتى يقع بينهما التزاحم باعتبار كون قضية اطلاقها حاكما على اطلاقها ، ومعه كيف المجال لدعوى تقديم اطلاق الهيئة على اطلاقها وتحكيمها عليها وان كان الأستاذ دام ظله مصرا بذلك في مقام ابداء الفرق بين الأوامر والنواهي فتأمل. «المؤلف، قدس سره»

واحدة بأفراد متعددة ، فإنه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع امتثالا واحدا ، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع باعتبار كونها وجودا لها ، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد منها لا بعينه ، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة ، والا فلا يقع الامتثال بواحد منها أصلا ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم إرادة القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللابشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال ، هذا إذا اتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة. وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها فإنه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك تشريعا محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فإنه حينئذ لابد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به أيضا. نعم على تفسير المرة بالوجود الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما بالفرض الأول وهو صورة الاتيان بأفراد متعددة دفعة واحدة. هذا كله بناء على تفسير المرة بالفرد أو الوجود الواحد ، واما بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا ثمرة بينها وبين القول بالطبيعة ، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالطبيعة.

وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالافراد والوجودات فتظهر أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد واحد فإنه على القول بالطبيعة يتحقق الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتى به بخلافه على القول بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا ، بل وتظهر الثمرة أيضا عند الاتيان بأفراد متعددة دفعة ، إذ على القول بالطبيعة من جهة انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثالا واحدا دونه على القول بالتكرار فإنه عليه يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة ايجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا. هذا على التكرار بمعنى الوجودات ، وأما على التكرار بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا حيث إنه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود أيضا بخلافه على الطبيعة فإنه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال ، كما يأتي الكلام فيه في مبحث الاجزاء انشاء اللّه تعالى.

ص: 216

واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.

بقى شيء وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الأمور القابلة للدوام والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر كي يتحقق التعدد؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو الأمور الآنية غير القابلة للدوام والاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الأمور القابلة للاستمرار يكفي في تكرارها استمرارها بنحو لايتخلل فصل في البين بان يقصد بها في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا احتياج إلى تخلل فصل في البين؟ فيه وجهان : مقتضي ظاهر العنوان هو الأول من لزوم تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه القرار والاستمرار ، لكن مقتضي استدلالهم بباب النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار تكرر الوجود ، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار. وعليه ربما تظهر الثمرة أيضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة وتعدده على القول بالتكرار فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثال للامر به كما هو الشأن أيضا في باب النواهي فيما لو ترك شرب الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله : لا تشرب الخمر فيكون هذا القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للامر بالقيام ، وهكذا الأمور التدريجية كالحركة والتكلم والقرائة فان حالها حال الأمور القابلة للدوام والاستمرار ، فبناء على القول بالطبيعة يكون مجموع الحركة والتكلم والقرائة من أولها إلى آخرها وجودا واحد للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود إلى طرو فصل في البين بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك ، وهكذا في التكلم والقرائة فما دام كان مشغولا بالتكلم والقرائة كان ذلك يعد وجودا واحدا للقرائة ولايتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر. واما على التكرار على النحو المزبور يتحقق التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للامر بها. نعم لو كان الامر متعلقا لا بعنوان القراءة بقول مطلق بل بعنوان قرائة الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرائته بل اتصل قرائته بقرائة حمد آخر وحينئذ فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة ويكون من باب الامتثال عقيب الامتثال كما هو واضح.

ص: 217

الجهة الثامنة :

هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لاتقتضي شيئا منهما الا طلب ايجاد الطبيعة الجامعة بين الفور والتراخي؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير ، نظراً إلى عدم اقتضاء وضع المادة وكذا الهيئة لشيء من ذلك ، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف الطبيعي ، واما الهيئة فلعدم دلالتها أيضا الا على طلب الطبيعة المجامع مع الفور والتراخي ، بل ومع الشك أيضا ربما كان قضية اطلاق المادة هو سقوط الغرض وتحقق الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان امر التمسك بقضية اطلاق المادة في المقام أهون من المقام السابق نظراً إلى سلامته عن المزاحمة مع اطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء لاطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح ، وحينئذ فمقتضى اطلاق المادة هو تحقق الامتثال باتيان الطبيعة وايجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.

نعم لو اغمض عما ذكرنا لايتوجه على القول بالفور بعدم مأخوذية الزمان في المشتقات ، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية الفور انما هو إلى مجرد الاستعجال والمسارعة في ايجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الأزمنة بعد الامر بلا مدخلية للزمان فيه بنحو القيدية أصلا ، كما أن نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما يقابل ذلك ، ومعه لايتوجه عليه الاشكال المزبور كما هو واضح.

وكيف كان فاستدل للفور بأمور :

منها : ما قيل في وجه ابطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الإرادة عن المراد وذلك بتقريب : ان الإرادة التشريعية انما هي كالإرادة التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة الاقتضاء والعلية حيث كانت الإرادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت الإرادة التشريعية مقتضية له ، وحينئذ فكما ان الإرادة التكوينية لايمكن تخلفها عن المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الإرادة التشريعية حيث إن مقتضاها أيضا لزوم اتصال حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الإرادات التشريعية بمنزلة حركة المريد في الإرادة التكوينية ولا نعني من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو

ص: 218

المأمور به متصلا بطلب الآمر. وفيه ان قضية الامر بشيء ليست الا البعث نحوه بالايجاد فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم لايقتضي الامر به أيضا الا ايجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي ، وما ذكر من امتناع تخلف الإرادة ولو التشريعية عن المراد متصلا بها كلام شعري وسيأتي بطلانه أيضا في مبحث المعلق والمشروط بما لا مزيد عليه إن شاء اللّه تعالى.

ومنها : قوله سبحانه : « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » بتقريب الدلالة فيه على وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالايجاد على ما هو قضية ظهور الامر في الوجوب. وفيه أيضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر لخروج المندوبات طرا وخروج كثير من الواجبات أيضا كالصلاة اليومية ونحوها ، نقول : بأنه انما يتم ذلك لولا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة والاستباق إلى ايجاد المأمور به والا فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة ارشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليلا على وجوب الفور والمسارعة ، كما لايخفى.

بقى الكلام في أنه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال ، هل الواجب هو الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت المكلف بالمأمور به في الآن الأول بعد الامر يجب عليه الاتيان به في الآن الثاني ولايجوز التراخي؟ أم لا بل يجوز له التراخي في الآن الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الآن الأول؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن المأمور به في الآن الثاني رأسا عند الاخلال بالفور في الآن الأول ولو من جهة كونه من قبيل وحدة المطلوب؟ فيه وجوه : أظهرها أولها ، كما هو قضية استدلالهم بآية المسارعة والاستباق حيث إن من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا ففورا ، بل ذلك أيضا مما تقتضيه قضية استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه أيضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا ، كما هو واضح.

وأما الاحتمال الأخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثاني الحال عن المأمور به لو لم يأت المكلف به في الآن الأول فهو أبعد الوجوه ولا يساعد عليه استدلالهم بل ولا كلماتهم أيضا ، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه سقوط التكليف في ثاني الحال ، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم ارادته القائل بالفور ، ومعه يدور الامر بين الوجهين الأولين وعند ذلك قد عرفت تعين الوجه

ص: 219

الأول منهما دون الثاني ، كما هو واضح.

وأما القول بالتراخي فاستدل عليه أيضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بأنه لايقتضي مجرد ذلك كون الصيغة والامر للتراخي ، وذلك لامكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي ، ولذلك أيضا ترى تحقق الامتثال باتيانه في الآن الأول بعد الامر والطلب ، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بايجاد المأمور به في الآن الثاني والثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال ، ولكنه لايكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه أيضا القائل بالتراخي ، لان أقصى ما يدعيه انما هو جواز التراخي وعدم وجوب الفور فيقابل القائل بالفور ، واما وجوبه فلا.

وأما ما يظهر من السيد قدس سره في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في الفور وأخرى في التراخي والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فإنما هو على حسب ما هو ديدنه من ارجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من كون الاستعمال علامة الحقيقة وان كان قد شاع الجواب عنه أيضا بأعمية الاستعمال من الحقيقة ، مع أن كلامه قدس سره انما هو في بيان رد القائل بالفور بأنه كما استعمل الصيغة في الفور استعملت أيضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص الفور. وعليه فلا ثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي ، إذ بعد عدم التزامهم بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو بعينه ، ومن ذلك أيضا يمكن المنع عن تثليث الأقوال في هذه المسألة وانه لايكون فيها الا قولان : قول بالفور وقول بالطبيعة فتدبر ، هذا.

ولكن أقول : بان ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة والا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه ، ومن ذلك ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثه ان لم يأت به في الآن الأول بعد الامر فإنه حينئذ يجب بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الآن الأول بحيث لو لم يأت به ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه العقوبة ، بل ولعل الامر كذلك مع الظن بالفوت إذا كان اطمينانيا ، كما في الأزمنة التي كثر فيها الأمراض من نحو الطاعون والوباء ونحوهما أعاذنا اللّه منها إن شاء اللّه تعالى ، فإنه في نحو ذلك أيضا ربما

ص: 220

كان يحكم العقل أيضا بوجوب المبادرة والاستعجال باتيان الواجب في أول وقته وأول أزمنة تمكنه منه. واما مع الظن غير الاطميناني أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير للاستصحاب فتدبر. هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي ، ولكن الأستاذ دام ظله لم يتعرض لهذا الفرع الأخير فافهم.

ص: 221

المبحث الثالث : في الاجزاء
اشارة

قد وقع الخلاف والكلام بين الأصحاب في اقتضاء الاتيان بالمأمور به على وجهه للاجزاء وعدمه. وقبل الخوض في المرام ، ينبغي تمهيد مقدمة لبيان عناوين الألفاظ الواقعة في حيز البحث.

فنقول : ان من العناوين الواقعة في حيز موضوع البحث كلمة ( على وجهه ) والظاهر أن المراد منها كما قربة في الكفاية هو النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد الامتثال مثلا ، لا الاتيان بالمأمور به على وجه وجوبه أو استحبابه وكونه متميزا عن غيره كما يدعيه القائل بوجوب قصد الوجه والتميز كما يشهد لذلك تعرضهم طرا لهذا البحث بهذه العناوين المزبورة مع ذهاب كثير منهم بل أكثرهم على عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به لا شرعا ولا عقلا ولا الكيفية الخاصة المعتبرة في المأمور به شرعا مثل عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من العناوين الخاصة التي بها صار المأمور به متعلقا للامر والطلب ، كيف وانه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه يلزمه لغوية القيد المزبور إذ عليه كان في ذكر المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) نظراً إلى عدم خلو المأمور به عن مثل هذه الكيفيات فيكون القيد المزبور حينئذ توضيحيا محضا. وحينئذ فيتعين ما ذكرناه من كون المراد منها النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد التقرب والامتثال ، وعليه يكون القيد المزبور احترازيا لا توضيحيا ، لكن ذلك أيضا بناء على تجريد متعلق الامر في العبادات عن قصد التقرب وجعله من الكيفيات المعتبرة في المأمور به عقلا لا شرعا كما هو مسلك

ص: 222

الكفاية ، والا فبناء على القول باعتباره في المأمور به شرعا يكون توضيحيا محضا ، كما أنه كذلك أيضا بناء على جعل المأمور به عبارة عن الحصة الملازمة مع قصد التقرب الناشي عن دعوة الامر بنحو القضية الحينية لا التقييدية بالتقرب الذي ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم انفكاك المأمور به بما هو مأمور به عن قصد دعوة الامر حتى في التوصليات ، إذ عليه أيضا يكون كلمة ( على وجهه ) لمحض التوضيح ، لأنه بعد عدم اتصاف الذات غير المقرونة بقصد التقرب بكونها مأمورا بها يكون في ذكر كلمة المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) كما هو واضح.

ومن العناوين كلمة ( الاجزاء ) والظاهر أن المراد منه انما هو معناه اللغوي أعني الكفاية كما في الكفاية وان اختلف ما يكفي عنه من حيث سقوط التعبد به ثانيا تارة ، وسقوط القضاء أخرى فالمراد منه انما هو كفاية الاتيان بالمأمور به على وجهه في عدم التعبد باتيانه ثانيا في الوقت أو في خارجه ، كان قضية عدم التعبد به بنحو العزيمة أو بنحو الرخصة.

ومن العناوين كلمة ( الاقتضاء ) والظاهر أن المراد منها أيضا هو الاقتضاء بحو العلية والتأثير بحسب مقام الثبوت لا الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة بحسب مقام الاثبات ، ومن ذلك أيضا نسب الاجزاء في عنوان البحث إلى الاتيان دون مدلول الصيغة. نعم في الاجزاء بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري يمكن ان يقال : بان الاقتضاء فيهما هو الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة ، نظراً إلى رجوع جهة البحث حينئذ إلى مدلول الصيغة من جهة الدلالة على وفاء المأتى به الاضطراري بمصلحة المأمور به الاختياري.

وعلى كل حال فلايرتبط هذا البحث بالبحث المتقدم من دلالة الصيغة على المرة أو التكرار كما توهم بخيال ان القول بعدم الاجزاء هو عين القول بالتكرار في المسألة السابقة كعينية القول بالاجزاء مع القول بالمرة ، إذ نقول : بان البحث في المسألة المتقدمة انما هو في تعين ما هو المأمور به بأنه هل هو مجرد الطبيعة؟ أو المرة بمعنى الفرد أو الدفعة؟ أو التكرار بمعنى الموجودات أو الدفعات؟ بخلافه في المقام فان البحث فيه انما هو في ذاك المأمور به المتعين هناك بان الاتيان به على وجهه يجزي عن التعبد به ثانيا أم لا ومعه لايرتبط إحدى المسئلتين بالأخرى كما هو واضح ، خصوصا إذا جعلنا الاقتضاء في المقام بمعنى العلية والتأثير لسقوط الامر ثبوتا إذ عليه يكون الفرق بين المقامين أوضح ، نظراً إلى رجوع

ص: 223

البحث في تلك المسألة إلى دلالة الصيغة على المرة أو التكرار ، ورجوعه في المقام إلى اقتضاء الاتيان بالمأمور به ثبوتا لسقوط الامر.

ومما ذكرنا ظهر أيضا جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء وعدم ارتباط إحديهما بالأخرى ، كما توهم أيضا بخيال أن التعبية بعينها عبارة عن القول بعدم الاجزاء كعينية القول بالاجزاء مع القول بكونه بأمر جديد ، وتوضيح الفرق هو ان البحث هو تلك المسألة انما هو في مورد عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه اما لعدم الاتيان به رأسا أو الاتيان به على غير وجهه المعتبر فيه شرعا ، بخلاف المقام فان البحث فيه انما هو في مورد الاتيان بالمأمور به على وجهه ، فهما متقابلان حينئذ كما هو واضح.

وإذ تمهدت هذه الجهة فلنرجع إلى هو المهم والمقصود فنقول : ان الكلام في الاجزاء وعدمه يقع تارة في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن الاتيان به ثانيا وكذا الاتيان بالمأمور به الاضطراري والمأمور به بالامر الظاهري عن مثله ، وأخرى في اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري في عدم التعبد به بعد رفع الاضطرار ، وثالثة في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن المأمور به بالامر الواقعي في سقوط التعبد به بعد انكشاف الخلاف ، فهنا مقامات ثلاثة وينبغي اشباع الكلام في كل واحد من المقامات المزبورة ، فنقول :

اما المقام الأول

فيقع الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن التعبد به ثانيا ، فنقول لاينبغي الاشكال في أن الاتيان بالمأمور به الواقعي بجميع ما اعتبر فيه شرعا وعقلا كان موجبا لسقوط الامر عن الطبيعة المأمور بها ومجزيا عن التعبد به ثانيا من جهة انه بمجرد الاتيان بالطبيعي في الخارج في فرض مطلوبية صرف الوجود لا الوجود الساري يتحقق الامتثال وينطبق عليه عنوان الإطاعة ومعه يسقط الامر والتكليف عنه لا محالة ولايبقي مقتض للاتيان به ثانيا بوجه أصلا ، كما لايخفى. هذا إذا كان قضية الاتيان بالمأمور به في الخارج علة تامة لحصول الغرض الداعي على الامر به ولقد عرفت ان الاجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذ بسقوط الغرض وسقوط الامر بسقوطه بمجرد الموافقة وإيجاد المأمور به ، واما لو لم يكن مجرد الاتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض وتحققه بل كان لاختيار المولى أيضا دخل في حصول غرضه كما نظيره في العرفيات في مثل أمر المولى عبده باتيان الماء واحضاره عنده لأجل الغرض

ص: 224

الذي هو رفع عطشه بشر به إياه حيث إنه في مثل هذا الفرض لايكون مجرد الاتيان بالماء واحضاره عند المولى علة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه بل كان لاختيار المولى وارادته إياه للشرب أيضا دخل في تحققه لكونه هو الجزء الأخير من العلة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه ، ففي مثل حيثما كان الإرادة المتعلقة بايجاد الماء بحسب اللب إرادة غيرية وتكون الإرادة النفسية لبا هي المتعلقة بحيث رفع العطش ، فلا جرم يبتنى جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا وعدم جوازه على القولين في باب مقدمة الواجب : بان الواجب هل هو مطلق المقدمة ولو لم توصل أو ان الواجب هو خصوص الموصلة منها؟ فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة يكون حال هذا الغرض حال الفرض السابق من علية الاتيان بالمأمور به لسقوط الامر وحصول الغرض ، فكما انه في ذلك الفرض باتيان المأمور به يسقط الامر والتكليف ولايجب على المكلف بل لايجوز عليه الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة ، كذلك في هذا الفرض فباتيان المأمور به في هذا الفرض أيضا يسقط الامر به فلايجوز له الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر الأول فضلا عن وجوبه. واما على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلقها فلازمه هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إياه ، إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتي به الأول حيثما كان الغرض الداعي على الامر بعد بحاله كان الامر بالايجاد والآتيان أيضا على حاله من الفعلية ، غايته ان ليس له الفاعلية والمحركية بعد الاتيان بالمأمور به أولا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا انه يسقط رأسا بمجرد الاتيان بالمأمور به ، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعلية الامر وفاعليته هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا ما دام بقاء الماتى به الأول على صلاحيته للوفاء بغرض المولى ووجوب الاتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتى به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إياه إذ حينئذ ربما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الاتيان بفرد آخر من الطبيعي المأمور به كما لايخفى ، ونتيجة ذلك في فرض تعدد الاتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معا وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغوا محضا لا انه يتحقق به الامتثال أيضا كي يكون قضية الاتيان بالمأمور به متعددا من باب الامتثال عقيب الامتثال ، فعلى ذلك فما وقع في كلماتهم من التعبير عن المأتى به ثانيا بكونه من الامتثال بعد الامتثال لا يخلو عن تسامح واضح كما هو واضح ، لأنه على كل

ص: 225

تقدير لايكاد يكون قضية الاتيان بثاني الوجود حقيقة من باب الامتثال بعد الامتثال.

ثم إن ما ذكرناه من التشقيق بين كون الاتيان بالمأمور به تارة علة لحصول الغرض وأخرى مقتضيا لذلك على معنى مدخلية اختيار المولى إياه في تحقق غرضه انما هو بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات فربما أمكن دعوى ظهور الأدلة في علية الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض وسقوط الامر نظراً إلى تحقق الامتثال بمحض ايجاد المأمور به في الخارج ، وعليه فلا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان إطاعة الامر الأول الا إذا قام دليل بالخصوص على جوازه ومشروعيته ، كما في باب إعادة من صلى فرادى جماعة حيث ورد الامر فيه بالخصوص على إعادة الصلاة جماعة معللا فيه بان اللّه يختار أحبهما فيستكشف منه حينئذ عدم كون مجرد الاتيان بالمأمور به علة لحصول الغرض بل وان لاختيار المولى أيضا دخلا في حصول غرضه ، كما نظيره في مثال الامر بالماء لأجل غرض رفع العطش ، اللّهم الا ان يقال : بان الامر بإعادة من صلى منفردا جماعة انما هو لأجل تحصيل المصلحة القائمة بخصوصية الجماعة حيث إنه لما كان لايمكن استيفاء تلك المصلحة الا بإعادة الصلاة امر جديدا استحبابا بإعادة أصل الصلاة على الكيفية الخاصة ، وعليه فلا مجال لاستكشاف عدم علية مجرد الاتيان بالمأمور به لحصول الغرض الداعي على الامر به ومدخلية اختيار المولى أيضا في ذلك ، ولكن مثل هذا المعنى ينافيه قضية التعليل الوارد في الخبر ( بان اللّه سبحانه يختار أحبهما إليه ) فان مقتضي التعليل المزبور هو مدخلية اختيار المولى أيضا في حصول غرضه ومرامه ولازمه وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى وأحبه منهما وصيرورة الآخر لغوا محضا فتدبر.

وعلى ذلك أيضا يمكن ان يحمل عليه كلام الجبائي من مصيره إلى عدم الاجزاء ، وذلك بارجاع كلامه إلى عدم الاجزاء بالمعنى الذي ذكرناه امكانا ، نظراً إلى احتمال عدم كون المأتى به علة تامة لحصول الغرض وسقوط الامر بشهادة التعليل الوارد في الامر بإعادة من صلى فرادى جماعة ، وعلى كل فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول.

وأما المقام الثاني

فيقع البحث فيه في اجزاء المأتى به الاضطراري عن المأمور به الواقعي الاختياري ، على معنى عدم وجوب الإعادة بعد طرو الاختيار في الوقت وعدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، في قبال عدم اجزائه ولزوم الاتيان بالمأمور به الاختياري بعد طرو الاختيار إعادة في الوقت وقضاء في خارجه ، فنقول :

ص: 226

ان الكلام في هذا المقام تارة يكون بالنسبة إلى الإعادة في الوقت فيما لو طرء الاختيار قبل انقضاء الوقت وأخرى بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت.

اما الأول فتنقيح الكلام فيه يحتاج إلى بيان ما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا أولا ثم في تعيين ما وقع عليه اثباتا ، فنقول : اما الأول فالامر فيه كما افاده في الكفاية : من أن الفعل الاضطراري تارة يكون وافيا بتمام مراتب المصلحة التي تكون في الفعل الاختياري وأخرى لايكون كذلك بل يبقى مقدار من المصلحة والغرض ، وعلى الثاني فتارة يكون المقدار الباقي مما يمكن استيفائه وأخرى لايمكن استيفائه مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري ، وعلى الأول من فرض قابلية المقدار الباقي للاستيفاء فتارة يكون مما يجب استيفائه باعتبار كونه لازم التحصيل في نفسه وأخرى لايجب استيفائه بل يستحب. فهذه الشقوق المتصورة فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري.

وربما يختلف هذه الشقوق بحسب اللوازم من حيث الاجزاء وعدمه ، فان من لوازم الشق الأول الاجزاء وعدم وجوب الإعادة نظراً إلى سقوط الامر حينئذ بسقوط الغرض الداعي عليه ولو مع كون الاضطرار ناشئا عن سوء اختيار المكلف فان لازم وفائه بتمام الغرض والمصلحة هو قيام الغرض والجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري كما في الواجب المخير غايته ان ظرف أحد الفردين هو ظرف عدم التمكن من الفرد الآخر ، ولازم ذلك هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عقلا بملاحظة سقوط الامر بسقوط أصل الغرض والمصلحة : واما جواز البدار في هذا الفرض ولو مع القطع بطرو الاختيار بعد ساعة فيبنى على أن الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت فعلى الأول يجوز له البدار وباتيانه للفعل الاضطراري يسقط الامر والتكليف ولايجب عليه الاتيان بالفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار وعلى الثاني لايجوز له البدار لعدم الموضوع حينئذ للفعل الاضطراري.

كما أن من لوازم الشق الثالث أيضا الاجزاء وعدم وجوب الإعادة بلحاظ عدم التمكن حينئذ من استيفاء المقدار الباقي من المصلحة مع استيفاء مرتبة منها بالفعل الاضطراري ، نعم في هذا الفرض ربما يلزم عدم جواز البدار مع العلم بطرو الاختيار فيما بعد ، من جهة ما يلزمه حينئذ من تفويت مقدار من المصلحة الملزمة بلا وجه يقتضيه ، نعم

ص: 227

مع العلم ببقاء الاضطرار أو الاطمينان بذلك يجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بل وكذلك أيضا مع الشك في ذلك للاستصحاب أي استصحاب اضطراره إلى آخر الوقت فإذا انكشف الخلاف وارتفع اضطراره قبل خروج الوقت يجزيه ما اتى به من الفعل الاضطراري ، لكن ذلك أيضا مبنى على أن يكون موضوع الحكم هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت والا فلا مجال للاجزاء ، كما هو واضح.

واما الشق الثاني فمن لوازمه هو عدم الاجزاء وجواز البدار بلا كلام والوجه فيه واضح بعد ملاحظة بقاء مقدار من المصلحة الملزمة الممكنة الاستيفاء.

واما على الشق الرابع فمن لوازمه أيضا هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة كما في الشق الأول والثالث ، نعم يستحب حينئذ الإعادة تحصيلا لذلك المقدار الباقي من المصلحة غير الملزمة الممكنة الاستيفاء ، واما جواز البدار في هذا القسم وعدم جوازه فيبتنى على التفصيل : من أن الموضوع هو مطلق الاضطرار أو هو الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.

واما تنقيح هذه الجهة فيحتاج إلى المراجعة إلى كيفية السنة أدلة الاضطرار من عمومات نفى الحرج وأدلة الاضطرار وقاعدة الميسور ونحوها ، وفي مثله أمكن دعوى ان المستفاد من نحو تلك العمومات التي مصبها الاضطرار إلى الطبيعة هو خصوص الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت نظراً إلى قضية ظهورها في الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق ، إذ حينئذ لايكاد تحقق الاضطرار إلى الطبيعة كك الا بعدم التمكن من شيء من الافراد التدريجية للمأمور به الاختياري ، وهذا لايكون الا في صورة بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت والا ففي فرض طرأ عليه الاختيار قبل خروج الوقت بمقدار يمكنه الاتيان بالمأمور به الاختياري لايكاد يصدق الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما هو واضح. وعلى ذلك ربما يسقط النزاع المزبور في الاجزاء وعدمه بالنسبة إلى الإعادة كما لايخفى.

نعم بالنسبة إلى مثل أدلة التيمم كقوله سبحانه : « إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » إلى قوله سبحانه : « فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا » (1) أمكن استفادة ان الموضوع هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار إلى الطبيعة إلى آخر الوقت نظراً إلى دعوى

ص: 228


1- سورة المائدة ، الآية 6.

ظهورها بقرينة صدر الآية وهو قوله : « إذا أقمتم إلى الصلاة فاغسلوا » الخ في كفاية مجرد عدم القدرة على الطهارة المائية في أول الوقت وعند القيام إلى الصلاة في مشروعية الطهارة الترابية وجواز الدخول معها في الصلاة ، كما ربما يؤيد ذلك أيضا ملاحظة الصدر الأول في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله من تفكيكهم بين الصلوات واتيان كل صلاة في وقت فضيلتها وعدم تأخيرها إلى ما بعد وقت فضلها ، حيث إنه يستفاد من ذلك حينئذ ان الاضطرار المسوغ للطهارة الترابية هو مطلق الاضطرار لا الاضطرار الباقي إلى آخر الوقت.

ومثل ذلك أيضا الأدلة الآمرة بالتقية بايجاد العبادات على وفق مذهبهم بالحضور في جماعاتهم والصلاة معهم والوضوء على كيفية وضوئهم ، حيث إنه يستفاد من تلك الأدلة أيضا كفاية مجرد الابتلاء بهم ولو في جزء من الوقت في جواز الاتيان بالمأمور به تقية وعلى وفق مذهبهم من دون احتياج إلى بقاء الابتلاء بهم إلى آخر الوقت خصوصا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم ابتلاء الانسان بهؤلاء الفسقة الفجرة ( خذلهم اللّه تعالى ) في تمام أوقات الصلوات من أول وقتها إلى آخره ، إذ حينئذ من الامر بايجاد العبادة تقية يستفاد ان الاضطرار الموضوع لهذا الحكم هو مطلق الاضطرار. وعليه ففي مثله ربما كان كمال المجال البحث في اجزاء المأتى به الاضطراري عن الإعادة بالنسبة إلى المأمور به الاختياري.

وحينئذ فلابد في الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة من لحاظ الموارد ودليل الاضطرار الجاري فيها بأنه من قبيل أدلة التيمم وأدلة التقية؟ أو من قبيل عمومات نفى الحرج وعمومات الاضطرار من نحو حديث الرفع وغيره؟ ففي الأول يكون المجال للبحث عن اجزاء المأتي به الاضطراري عن الإعادة في الوقت ، بخلافه في الثاني فإنه عليه لا مجال للبحث عن اجزاء الفعل الاضطراري الا بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت كما هو واضح.

وعلى كل حال فهذا كله فيما يمكن ان يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا : من الوفاء بتمام مصلحة الفعل الاختياري ، أو الوفاء ببعضها مع كون البعض الباقي ممكن التحصيل في نفسه ولو بفعل آخر في الوقت أو في خارجه وذلك أيضا بنحو اللزوم أو الاستحباب ، أو غير ممكن التحصيل.

واما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري من الوجوه المزبورة فيحتاج إلى المراجعة

ص: 229

إلى أدلة الاضطرار وملاحظة كيفية ألسنتها.

وقبل الخوض في هذه الجهة ينبغي بيان ما يقتضيه الأصل في المسألة عند الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه بتمامه وعند الشك في مفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الفعل الاختياري وعدم مفوتيته في فرض احراز عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري فنقول :

اما لو كان الشك من الجهة الثانية فلاينبغي الاشكال في أن المرجع فيه هو حكم العقل بعدم الاجزاء ووجوب الاحتياط كما هو الشأن في جميع الموارد الراجعة إلى الشك في القدرة على الامتثال وتحصيل الغرض ، حيث إنه بالفرض قد علم ببقاء مقدار من المصلحة الملزمة من جهة عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مراتب مصلحة الفعل الاختياري ، وانما الشك في القدرة على استيفاء تلك المرتبة من المصلحة باعتبار الشك في مفوتية المأتى به الاضطراري لتلك المرتبة الباقية ولو من جهة مضادته معها وفي مثله يكون المرجع هو الاحتياط عقلا لا غير ، كما هو واضح.

واما لو كان الشك من الجهة الأولى بان كان الشك في وفاء المأتى به الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري أو عدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحته ، فالمرجع فيه أيضا هو الاحتياط ، لاندارجه حينئذ في باب التعيين والتخيير باعتبار رجوع الشك حينئذ إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة المحتملة للبقاء بخصوص الفعل الاختياري أو بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري ، كي يكون لازمه عدم وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري على الأول ووفائه به على الثاني ، فيندرج حينئذ في تلك المسألة ويكون من صغريات ذلك الباب وفي مثله لابد من الاحتياط بناء على ما هو التحقيق في تلك المسألة من مرجعية الاحتياط فيها دون البراءة.

نعم لو اغمض عن ذلك لابد من البراءة في مثل هذا الفرض ولا ينتهى المجال إلى اثبات عدم الاجزاء ووجوب الإعادة ببعض الاستصحابات كاستصحاب بقاء المصلحة واستصحاب بقاء التكليف بالفعل الاختياري واستصحاب عدم مسقطية المأتي به الاضطراري للتكليف بالفعل الاختياري ونحوها ، إذ نقول :

اما الأول وهو أصالة بقاء المصلحة فلما فيه من عدم اقتضائه لا ثبات التكليف بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار الا على المثبت باعتبار عدم كون ترتب الوجوب

ص: 230

والتكليف على بقاء المصلحة الا عقليا محضا لا شرعيا من جهة انه من لوازم بقاء المصلحة والغرض على حاله وحينئذ فالاستصحاب المزبور لايكاد يجدي شيئا حيث لايكون المستصحب بنفسه اثرا شرعيا بل ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي ، واما نفس هذا الوجوب فهو وان كان اثرا شرعيا الا ان لايكون ترتبه على بقاء المصلحة شرعيا كما هو واضح.

واما أصالة بقاء الاشتغال بالتكليف الاختياري فهو أيضا غير جارية من جهة القطع بانتقاض الحالة السابقة حال طرو الاضطرار والقطع بارتفاع التكليف الاختياري عند الاضطرار ، وحينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار كان الشك في أصل التكليف بالفعل الاختياري.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال أصالة عدم مسقطية الفعل الاضطراري إذ ذلك أيضا مما لا مجال لتوهمه بعد فرض القطع بارتفاع التكليف الاختياري حال الاضطرار ، ومن ذلك البيان ظهر فساد مقايسة المقام بباب الماليات فيما يثبت اشتغال الذمة بعين مخصوص ولم يتمكن من أدائها فدفع ما هو بدل عنها ثم تمكن من أداء تلك العين حيث تجري فيها أصالة عدم المسقطية ويحكم بوجوب أداء تلك العين ، إذ نقول : بان جريان أصالة عدم المسقطية في المثال انما هو باعتبار ثبوت الاشتغال بالمبدل حين أداء البدل وهذا المعنى لايتحقق في مثل المقام المفروض ارتفاع التكليف الاختياري حال طرو الاضطرار فتدبر.

واما الاستصحاب التعليقي وهو أصالة وجوب الفعل الاختياري على فرض طرو الاختيار بتقريب : انه قبل الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية مثلا يقطع بأنه لو طرأ الاختيار لوجب عليه الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية وبعد الاتيان بها مع الطهارة الترابية يشك في ذلك والأصل يقتضي بقائه ، وحينئذ فبعد زوال الاضطرار يحكم بمقتضى الاستصحاب المزبور بوجوب الإعادة ففيه أيضا ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه من المعلوم اجمالا حينئذ عدم جريان هذا الاستصحاب اما من جهة عدم الموضوع له واما لعدم كون البقاء مستندا إلى حيث الاختيار ، فإنه على تقدير وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري يقطع بسقوط الوجوب والتكليف فلا موضوع حينئذ للاستصحاب المزبور ، وعلى تقدير عدم وفائه بتمام مصلحته لايكون الوجوب المزبور

ص: 231

بقائه مستندا إلى حيث الاختيار بل وانما هو مستند إلى ذاته باعتبار اقتضاء تلك المرتبة من المصلحة الملزمة الباقية ، وفي مثله حيثما شك في بقائه من جهة الشك في وفاء الفعل الاضطراري بتمام المصلحة أو ببعضها لا مجال لا ثبات الوجوب بمقتضي الاستصحاب المزبور.

وحينئذ فلو اغمض عما ذكرناه من اندراج المسألة عند الشك في صغريات مسألة التعيين والتخيير الجاري فيها الاحتياط لا محيص في المسألة الا من البراءة باعتبار رجوع الشك حينئذ بعد الاتيان بالفعل الاضطراري في أصل فوت مصلحة الفعل الاختياري وفي أصل التكليف به ، وحينئذ فكان العمدة في تقريب عدم الاجزاء بمقتضي الأصول عند الشك هو ما ذكرنا من الاندراج في مسألة التعيين والتخيير بالتقريب الذي قربناه فتدبر.

هذا كله بالنسبة إلى الإعادة في الوقت ولقد عرفت بان مقتضي الأصل في ذلك عند الشك في كلا الفرضين هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة.

واما بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت في فرض بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت فان كان الشك في أصل وفاء الفعل الاضطراري بتمام مصلحة الفعل الاختياري وعدم وفائه الا ببعض مراتب مصلحته فمقتضى الأصل فيه أيضا كما تقدم بالنسبة إلى الإعادة من جهة رجوع الشك حينئذ أيضا إلى قيام تلك المرتبة من المصلحة الملزمة المشكوك وفاء الفعل الاضطراري بها بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري في الوقت أو بخصوص الفرد الاختياري ولو في خارج الوقت فيندرج في مسألة التعيين والتخيير والمختار فيها هو الاحتياط ، كما عرفت.

واما ان كان الشك في قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء في خارج الوقت مع القطع بعدم وفاء الفعل الاضطراري الا ببعض مراتب مصلحة الفعل الاختياري ، فان احتمل ان يكون تلك المرتبة من المصلحة الباقية لخصوصية وقوع الفرد الاختياري في الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت تقتضيه ، فلا اشكال في أن مقتضي الأصل حينئذ هو البراءة عن القضاء باعتبار رجوع الشك حينئذ في أصل وجود المصلحة في خارج الوقت كي يترتب عليه وجوب التدارك بالقضاء ، من غير فرق في ذلك بين القول : بان القضاء بالامر الأول وانه من باب تعدد المطلوب ، أو القول : بكونه بأمر جديد اما بمناط الجبران أو

ص: 232

بمناط آخر غير ذلك أو بمناط اقتضاء فوت المصلحة في الوقت لحدوث مصلحة ملزمة في خارج الوقت أو غير ذلك ، واما ان لم يحتمل ذلك بل أحرز ولو من جهة قضية الاطلاق ان تلك المرتبة من المصلحة غير المستوفاة مترتبة على الجامع بين الفعل الاختياري في الوقت وخارجه بحيث كان الشك ممحضا في القدرة على استيفائها من جهة الشك في مفوتية الفعل الاضطراري لها ، ففي هذا الفرض لابد من الاحتياط بمناط قاعدة الشك في القدرة من دون فرق أيضا بين القول بتبعية القضاء للأداء أو القول بكونه بأمر جديد.

ثم إن ذلك أيضا مع قطع النظر عن أدلة القضاء بان يمنع شمولها لصورة فوت بعض المصلحة في الوقت اما لانصرافها إلى صورة فوت التمام من رأس كما لعله هو التحقيق أيضا أو لا أقل من كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب والا فمع فرض اطلاق تلك الأدلة حتى لصورة فوت بعض المصلحة أيضا فلا ينتهي الامر إلى تلك الأصول من جهة وجود دليل اجتهادي حينئذ على عدم الاجزاء ووجوب القضاء بمحض فوت المصلحة في الوقت ولو ببعض مراتبها. واما توهم عدم تكفل أدلة القضاء لا ثبات قابلية المحل للوجود فمع الشك في القابلية المزبورة حينئذ لا مجال للتمسك بأدلة القضاء لا ثبات الوجوب الفعلي ، فمدفوع بان شأن أدلة القضاء دائما انما هو رفع الشك عن هذه الجهة واثبات قابلية المحل للوجود ففي كل مورد امر فيه بالقضاء لا محالة من نفس الامر به يستكشف قابلية المحل للتحقق كما هو واضح. وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليها انما هو الاشكال عليها من الجهة الأولى : من منع اطلاقها لصورة فوت بعض المصلحة وانصرافها إلى صورة فوت التمام أو مانعية ذلك عن الاخذ باطلاقها باعتبار كون فرض فوت التمام هو القدر المتيقن منها في مقام التخاطب ، وعليه فينتهى الامر عند الشك إلى الأصول العلمية العقلية ولقد عرفت بان مقتضاها عند القطع بفوت بعض المصلحة والشك في القدرة على استيفائه هو البراءة في فرض والاحتياط في فرض آخر فتدبر. وكيف كان فهذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الفعل الاضطراري ثبوتا من الوفاء بتمام الغرض أو بعضه وكون البعض الباقي ممكن الاستيفاء أو غير ممكن الاستيفاء.

وأما تعيين ما وقع عليه الفعل الاضطراري إثباتا فيحتاج استفادته إلى ملاحظة كيفية الأدلة المتكلفة للفعل الاضطراري ، من نحو قوله : التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين ، وقوله علیه السلام : رب الصعيد رب الماء. ونحو أوامر التقية المتكلفة لا ثبات

ص: 233

الاتيان بالمأمور به على وفق مذهبهم تقية ، ونحو قاعدة الميسور ، وعمومات أدلة الحرج والاضطرار من نحو قوله سبحانه : ما جعل اللّه عليكم في الدين من حرج ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ، وحديث الرفع من قوله صلی اللّه علیه و آله ( وما اضطروا إليه ) ونحو ذلك من الأدلة والعمومات فنقول :

أما الأدلة الواردة في التيمم عند عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء والغسل ، من نحو قوله صلی اللّه علیه و آله : التراب أحد الطهورين فلا شبهة في ظهوره في نفسه في قيام المصلحة بالجامع بين الطهارة المائية والترابية نظراً إلى ظهوره في فردية التيمم حقيقة أو جعلا وتنزيلا لما هو الطهور المأمور به في مثل قوله : لا صلاة الا بطهور فان لازم فرديته للطهور حينئذ هو وفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة ، ولازمه هو الاجزاء عقلا وعدم وجوب الإعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت ، كما أن لازمه أيضا هو جواز البدار وجواز تفويت الفرد الاختياري بإراقة الماء عمدا ولو بعد دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء كما نظيره في مثل الحاضر والمسافر.

نعم ربما يعارض هذا الظهور ظهور قوله سبحانه : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ فان ظاهره هو كون الطهارة المائية بخصوصيتها دخيلا في المطلوب لا بما انها مصداق لجامع الطهور وان ما هو الشرط هو الجامع بين الطهارة المائية والطهارة الترابية كي يكون الامر بالخصوصية في حال وجدان الماء ارشادا إلى حصر مصداق الجامع في هذا الحال بهذا المصداق ، ضرورة ان ذلك كله خلاف ما يقتضيه ظاهر الامر بالخصوصية ، وحينئذ فإذا كان كذلك يلزمه لا محالة أيضا قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع بين الفردين ، وإلا فيستحيل تعلق الإرادة والطلب بالخصوصية مع فرض قيام المصلحة بالجامع. وعلى هذا فيتحقق التنافي بين هذا الظهور وبين ظهور مثل قوله صلی اللّه علیه و آله : التراب أحد الطهورين ، بناء على ما قربناه من ظهوره ولو بالاطلاق في فردية التيمم لما هو الطهور المأمور به في الصلاة ووفائه بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة ، وفي مثله لابد من تقديم ظهور قوله سبحانه من الامر بالغسل على ظهور دليل التيمم لمكان اقوائية ظهوره من ظهوره لكونه ظهورا وضعيا وهذا ظهور اطلاقي ناش من مقدمات الحكمة ، وحينئذ فيرفع اليد عن حجية ظهور دليل التيمم في حيث وفائه بتمام المصلحة بدليل الامر بالغسل ، لا عن أصل ظهوره كما قد يتوهم بان

ص: 234

الظهور الاطلاقي منوط ومتعلق بعدم ورود البيان على خلافه والظهور الوضعي صالح للبيانية وللقرينية عليه وبمجرد تحقق الظهور الوضعي يرتفع أصل ظهوره الاطلاقي ، إذ قد مر منا مكررا بطلان هذا التوهم بتقريب : ان عدم البيان الذي هو من جملة مقدمات الاطلاق انما هو عدم البيان متصلا بالكلام الذي يقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو إلى آخر الدهر ، وحينئذ فإذا لم يقم المتكلم في كلامه الذي أوقع به التخاطب قرينة متصلة به كما في المقام فلا جرم يستقر الظهور الاطلاقي لكلامه ومع استقرار هذا الظهور يتحقق التنافي والتعارض لا محالة بينه وبين ما ينافيه في كلام آخر منفصل عنه ومعه لابد في تقديم أحدهما على الآخر من لحاظ اقوائية أحد الظهورين على الآخر ونتيجة ذلك هو الاخذ بما هو الأقوى منهما في مقام الحجية ورفع اليد عن حجية ظهور الآخر لا عن أصل ظهوره كما في المقام - حسب ما قررناه من لزوم رفع اليد عن حجية ظهور قوله : ( التراب أحد الطهورين ) في قيام المصلحة بالجامع ووفاء التيمم بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.

ثم إن هذا كله بالنسبة إلى حيث ظهور دليل التيمم بمدلوله المطابقي في قيام المصلحة بالجامع ، واما بالنسبة إلى حيث ظهوره بمدلوله الالتزامي في الاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد ارتفاع الاضطرار والتمكن من استعمال الماء فيؤخذ بظهوره ذلك نظراً إلى عدم ظهور لدليل وجوب الوضوء على خلاف ظهوره يقتضي عدم الاجزاء ووجوب الإعادة ، وذلك من جهة سكوته من جهة قابلية المقدار الباقي من المصلحة للاستيفاء وعدمه ، وحينئذ فيكون ظهور دليل التيمم في الاجزاء ونفى الإعادة بمدلوله الالتزامي على حاله سليما من المعارض فيجب الاخذ حينئذ بظهوره ذلك ونتيجة ذلك حينئذ بعد هذا الجمع هو الحكم بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ولكن بمناط المفوتية للمصلحة القائمة بالخصوصية ، لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الطهارة المائية من المصلحة.

ومن ذلك أيضا يترتب عليه حرمة التفويت بمقتضي قضية الامر بالخصوصية ، فلايجوز عليه حينئذ إراقة الماء عند دخول الوقت وجعل نفسه غير واجد للماء بإراقته وان كان لو فعل ذلك يجزي ما أتى به من التيمم عن الطهارة المائية ولايجب عليه إعادة الصلاة بعد ارتفاع الاضطرار ووجدان الماء ، كما يشهد عليه أيضا اجماعهم على عدم جواز اتلاف الماء واراقته بعد دخول الوقت. خصوصا في فرض استمرار الاضطرار إلى آخر

ص: 235

الوقت ، إذ لولا ما ذكرنا : من قيام المصلحة بالخصوصية لا بالجامع ومفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الخصوصية لما كان وجه لاجماعهم على عدم جواز التفويت كما هو واضح.

وأما توهم عدم امكان الجمع بين قيام المصلحة بالخصوصية وحرمة التفويت وبين الاجزاء بمناط الوفاء ببعض الغرض فلابد اما من القول بعدم الاجزاء رأسا بناء على فرض قيام المصلحة بالخصوصية أو القول بالاجزاء بمناط الوفاء بتمام الغرض ولازمه هو عدم حرمة التفويت أيضا فالجمع بين الامرين مما لا وجه له ، فمدفوع بأنه كذلك إذا كانت المصلحة المزبورة مرتبة واحدة تدور أمرها بين قيامها بالجامع أو الخصوصية وليس كذلك بل نقول : بأن لها مراتب مرتبة منها كانت قائمة بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري ومرتبة أخرى ملزمة منها كانت قائمة بالخصوصية ، وحينئذ فبإتيان الفعل الاضطراري تتحقق تلك المرتبة من المصلحة القائمة بالجامع وتبقى تلك المرتبة الأخرى القائمة بالخصوصية فحيث انها بعد استيفاء المرتبة القائمة بالجامع غير قابلة للتحصيل يحكم بالاجزاء مع حرمة التفويت فتدبر.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حال الأدلة المتكلفة للتقية مما كان مصبها الوضع مثل الأدلة الدالة على اتيان العبادة على وفق مذهبهم كالصلاة مع التكتف والافطار حين غروب الشمس لا ما كان منها مصبها التكليف خاصة كالافطار في سلخ شهر رمضان المبارك ، إذ نقول فيها أيضا : بأن المستفاد من أدلتها بقرينة ما في بعض تلك الأخبار من امر الإمام علیه السلام باتيان الصلاة أولا في الدار ثم الحضور في جماعتهم انما هو اجزاء الفعل الاضطراري تقية عن الفعل الاختياري بنحو لايجب مع اتيانه الإعادة في الوقت فضلا عن القضاء في خارجه ، لكن الاجزاء المزبور لا بمناط الوفاء بجميع ما يفي به الفعل الاختياري من المصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتب المصلحة ومفوتيته للمراتب الاخر.

وعمدة النكتة في استفادة هذين الامرين منها انما هي من جهة قضية الامر باتيان الصلاة في الدار أولا والحضور بعد ذلك في جماعتهم ، وذلك لما فيه من الدلالة ولو بالالتزام على نقصان الفرد الاضطراري بحسب الغرض والمصلحة عن الفرد الاختياري ، كدلالته أيضا على عدم امكان تحصيل المقدار الباقي من المصلحة بعد الاتيان بالفرد الاضطراري ، والا فمع فرض وفائه بجميع مراتب المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري الذي لازمه

ص: 236

قيامها بالجامع بينهما لا مجال للامر بالاتيان بالصلاة أولا في الدار. كما أنه في فرض عدم اجزائه وعدم مفوتيته للمقدار من المصلحة الملزمة لا مجال أيضا للامر بالاتيان بها أولا في الدار نظراً إلى تمكن المكلف حينئذ من اعادتها بعد ارتفاع التقية خصوصا بعد ملاحظة ما هو الغالب من عدم كون الابتلاء بالتقية في تمام الوقت فيكون نفس الامر بالاتيان بها في الدار كاشفا قطعيا عن أن الفرد المأتى به تقية غير واف بتمام ما في الفرد الاختياري من الغرض والمصلحة وانه يبقى بعد مرتبة منها ملزمة في نفسها غير قابلة للاستيفاء بعد استيفائها ببعض مراتبها بالفرد الاضطراري ، من غير فرق في هذه الجهة بين القول ببدلية الفعل الاضطراري أو فرديته للطبيعة ، إذ على الفردية أيضا يمكن القول بالاجزاء بمناط المفوتية من جهة كون الطبيعي من التشكيكيات وكون الفرد الاضطراري مرتبة ضعيفة منها والفرد الاختياري مرتبة شديدة منها ، كما في مثل النور والبياض والحمرة ونحوها ، فمن هذه الجهة كان التكليف أولا متعلقا بمرتبة شديدة من الطبيعة وهو الفرد الاختياري ثم بعد تعذر ذلك كان التكليف متعلقا بالمرتبة الضعيفة منها التي هي الفرد الاضطراري لما فيه أيضا من الوفاء ببعض مراتب الغرض والمصلحة. ومن ذلك أيضا نقول : بأنه لا مجال لاستفادة الاجزاء بمجرد احراز فردية الفعل الاضطراري للطبيعة المأمور بها الا باحراز أحد الامرين : اما احراز قيام تمام المصلحة الملزمة بما لها من المراتب بالجامع بينهما كي يلزمه وفائه بتمام المصلحة الملزمة ، أو احراز مفوتية الفعل الاضطراري للمقدار الباقي من المصلحة الملزمة القائمة بالخصوصية ، كما استفدناها من قضية الجمع بين الامر بالخصوصية والامر بالفعل الاضطراري في باب التيمم وباب التقية.

هذا كله بالنسبة إلى أدلة التقية ولقد عرفت ان المستفاد منها جمعا بينها وبين الأدلة المثبتة للتكليف بالخصوصية هو الاجزاء مطلقا حتى بالنسبة إلى الإعادة فضلا عن القضاء لكن لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة بل بمناط الوفاء ببعض مراتبها مع مفوتيته لبعض المراتب الباقية.

واما مثل قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله : كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ، فمحل الكلام في البحث عن الاجزاء وعدمه فيها كما عرفت يختص بالاجزاء بالنسبة إلى خصوص القضاء دون الإعادة ، من جهة ما تقدم من

ص: 237

ان المستفاد منها هو كون مصبها مورد الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق ، إذ عليه لايكاد يتحقق موضوع لهذا البحث بالنسبة إلى الإعادة باعتبار اقتضاء الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق للاضطرار إليها في تمام الوقت ، وعلى ذلك نقول :

اما مثل قاعدة الميسور فلا شبهة في أن فيها اقتضاء عدم وفاء المأتي به الاضطراري بتمام الغرض والمصلحة ، لوضوح ان الميسور من الشيء الذي هو نصفه أو ربعه لايكون تمام الشيء حتى في مرحلة الوفاء بالمصلحة ، وحينئذ فباب احتمال الاجزاء عن القضاء فيها بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة مسدود قطعا ، وحينئذ فلو كان هناك إجزاء لابد وأن يكون بمناط المفوتية لمصلحة الخصوصية وفي مثله أمكن دعوى عدم استفادة الاجزاء من مثلها نظراً إلى عدم اقتضاء مجرد الامر بالميسور من الطبيعة في الوقت لعدم وجوب القضاء في خارج الوقت ولو من جهة عدم قابلية المقدار الفائت من المصلحة للاستيفاء. وحينئذ فإذا شك في قابليته للاستيفاء وعدم قابليته لذلك يرجع إلى الأصول على التفصيل المتقدم ، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم شمول دليل القضاء لصورة فوت بعض المصلحة واختصاصه صرفا أو انصرافا بفرض فوت تمام المصلحة كما هو التحقيق أيضا ، والا فلا تنتهي النوبة إلى مقام الأصول بل يحكم بعدم الاجزاء ووجوب القضاء بنفس أدلة القضاء ، كما هو واضح. هذا إذا كان مصب القاعدة هو الطبيعة كما في الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل.

واما لو كان مصبها هو الفرد كما في الاضطرار الطاري في حال الاشتغال بالعمل فيمكن استفادة الاجزاء من القاعدة المزبورة حتى بالنسبة إلى الإعادة بناء على جريانها حينئذ حتى مع القطع بطرو الاختيار فيما بعد بتقريب : ان قضية قاعدة الميسور حينئذ انما هو لزوم الاتيان بالميسور من هذا الفرد الذي اقتضى وجوب اتمامه دليل الامر بالطبيعة وقضية لزوم اتيانه بالميسور منه انما هو اتيانه بعنوان الفردية للطبيعة كما لو كم يطرء في البين اضطرار ، وقضية ذلك هو الاجزاء لا محالة وعدم وجوب الإعادة والقضاء. ولكن الأستاذ دام ظله لم يفرق بين الاضطرار الطاري قبل الاشتغال بالعمل وبين الاضطرار الطاري بعد الاشتغال بالعمل ، ولكن عمدة نظره إلى انكار متعلق الامر بالاتمام بالنسبة إلى مثل هذا الفرد الذي طرأ الاضطرار بترك بعض اجزائه وشرائطه ولو مع العلم بالتمكن من الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد آخر.

ص: 238

واما عمومات الاضطرار كحديث الرفع وقوله ( كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ) بناء على كونها جملة مستقلة كما ادعاه بعض الاعلام بان الموجود في بعض النسخ الصحيحة هكذا ( التقية في كل شيء وكل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ) لا مربوطا بقضية الصدر كما في أكثر النسخ بأن ( التقية في كل شيء اضطر إليه ابن آدم ) الخ (1) إذ عليه لايرتبط بمطلق الاضطرار بل تختص بالاضطرار في التقية الذي عرفت الحال فيه مفصلا ، فتطبيقها تارة يكون على نفس الجزء أو الشرط أو المانع المضطر إليه ، وأخرى على نفس المركب والمقيد باعتبار ان الاضطرار إلى الجزء أو الشرط يوجب الاضطرار إلى نفس المركب والمقيد ، فعلى الثاني لا اشكال في أنه لا مقتضى للاجزاء ، لان مفاد دليل الاضطرار بعد تطبيقه على المركب والمشروط انما هو جواز ترك المركب والمشروط تكليفا عند تعذر جزئه وشرطه وحينئذ فبعد طرو الاختيار يجب القضاء بلا كلام ، واما على الأول من فرض تطبيقه على نفس الجزء أو الشرط المتعذر فمقتضاه هو الاجزاء لا محالة من جهة اقتضاء تطبيقه حينئذ على الجزء أو الشرط المتعذر لرفع جزئية ما كان جزء وشرطية ما كان شرطا في حال الاختيار وقضية ذلك لا محالة كانت هو الاجزاء.

وهكذا الحال في عمومات الحرج من نحو قوله سبحانه ( ما جعل اللّه عليكم في الدين من حرج ) حيث إنه بتطبيقها على الجزء أو الشرط الحرجي يستفاد الاجزاء بلحاظ اقتضائها لتحديد دائرة الشرطية والجزئية والمانعية بغير صورة الحرج كما يشهد له أيضا ما في خبر عبد الاعلى مولى آل سام من تطبيقه علیه السلام تلك القاعدة على شرطية المباشرة في المسح بقوله علیه السلام : ( يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل ، قال اللّه تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة ) ، حيث إنه علیه السلام اخذ بأصل المسح والقى قيد مباشرة البشرة بنفس تلك القاعدة فأمر بايجاد المسح على المرارة هذا.

ولكن الأستاذ دام ظله منع عن تطبيق تلك العمومات على الجزء والشرط والمانع ببيان ان مفاد تلك العمومات انما كان أحكاما امتنانية ولابد في تطبيقها على مورد ان لا

ص: 239


1- الوسائل ، ج 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.

يلزم منها خلاف امتنان على المكلف من جهة أخرى فمن هذه الجهة لا مجال لتطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر باعتبار ما يلزمها حينئذ من اثبات التكليف بما عدا الجزء أو الشرط المتعذر وهو بنفسه خلاف الارفاق على المكلف لأنه لو لاها لكان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر نظراً إلى قضية انتفاء المركب والمقيد بانتفاء اجزائه وقيده فينحصر حينئذ تطبيقها على نفس المركب والمقيد كي لازمه سقوط التكليف بالمرة عن المكلف بالنسبة إلى الفاقد للجزء أو الشرط المتعذر. ثم انه لما كان يرد عليه اشكال تطبيق الإمام علیه السلام قاعدة نفى الحرج على الشرط المتعذر كما في رواية عبد الاعلى المتقدمة أجاب عنه بان قضية التطبيق على الشرط المتعذر في تلك الرواية انما هي باعتبار وقوع المكلف على كل تقدير في مشقة التكليف : اما التكليف بالتيمم في فرض سقوط التكليف بالوضوء من جهة تعذر المسح على البشرة واما التكليف بالوضوء بالغاء شرطية المباشرة على ما هو قضية التطبيق على شرطية مباشرة الماسح للبشرة فمن هذه الجهة لم يلزم من التطبيق على الشرط المتعذر خلاف امتنان على المكلف ، بخلافه في غير ذلك المقام مما كان المكلف في الراحة عن مشقة التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر فإنه في أمثال تلك المقامات لو طبق تلك العمومات على الجزء أو الشرط المتعذر يلزم منها اثبات التكليف بالفاقد فيلزم من تطبيقها خلاف الامتنان على المكلف هذا.

ولكن أقول : بأنه يتوجه عليه انه في غير ذلك المورد أيضا لا يخلوا المكلف عن مشقة التكليف : اما التكليف بالقضاء بناء على فرض تطبيقها على نفس المركب والمقيد واما التكليف بالفاقد للجزء أو الشرط المتعذر على فرض تطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر وحينئذ فإذا كان المكلف في كلفة التكليف على كل تقدير لا بأس بتطبيقها على الجزء أو الشرط المتعذر في سائر المقامات أيضا. ولئن قيل : بان ثبوت التكليف بالقضاء في خارج الوقت انما هو من لوازم عدم الاتيان بالمأمور به خارجا في الوقت لا من لوازم تطبيق دليل الحرج أو الاضطرار على المركب والمقيد ، نقول : بأنه يكفي لنا حينئذ في اثبات التكليف بالبقية كما في باب الصلاة ما دل على انها لا تترك بحال ، من دون احتياج إلى اثبات وجوب البقية بأدلة الحرج والاضطرار حتى يرد عليه اشكال خلاف الارفاق في فرض تطبيقها على الجزء والشرط المتعذر فتدبر.

ص: 240

وكيف كان فقد تلخص من جميع ما ذكرنا في الفعل الاضطراري ان مقتضي القاعدة الأولية المستفادة من الأدلة المثبتة للاجزاء والشرائط هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة في الوقت بعد ارتفاع الاضطرار أو القضاء في خارج الوقت ، ولكن مقتضي القاعدة الثانوية المستفادة من أدلة الاضطرار في باب التقية وباب التيمم حسب الجمع بين أدلتها وبين الامر بخصوصية الفرد الاختياري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء في خارج الوقت مع حرمة التفويت أيضا بالاختيار بلحاظ مفوتية المأتى به الاضطراري لمصلحة الخصوصية ، ولذلك قلنا بان الاجزاء فيها كان بمناط التفويت للمقدار الباقي من المصلحة لا بمناط الوفاء بتمام الغرض والمصلحة واما في مطلق الاضطرار في غير باب التقية والتيمم مما كان دليله قاعدة الميسور وعمومات الاضطرار والحرج فعدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة قطعا لعدم الموضوع له في فرض طرو الاختيار في الوقت ، وعلى اشكال أيضا في الاجزاء بالنسبة إلى القضاء ينشأ مما عرفت من عدم استفادة المفوتية لمصلحة الخصوصية من العمومات المزبورة فلابد حينئذ من الرجوع إلى اما يقتضيه الأصل العملي ، ولقد تقدم ان مقتضي الأصل مع احتمال قيام المصلحة الباقية الفائتة بالفرد الاختياري الواقع في الوقت ولو لخصوصية في نفس الوقت موجبة لكون الفرد الاختياري الواقع فيه ذا مزية زائدة على الفرد الاضطراري الواقع فيه والفرد الاختياري الواقع في خارج الوقت هو البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت ، لعدم احراز بقاء مصلحة ملزمة حينئذ في خارج الوقت كي يكون الشك في القدرة على استيفائها. واما مع احراز قيام المصلحة الفائتة بالجامع بين الفرد الاختياري في الوقت والفرد الاختياري في خارجه وتمحض الشك في القدرة على استيفائها فمقتضى الأصل هو الاحتياط لا غير فتدبر.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا ظهر لك الحال في الحكم بجواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه ، فإنه فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار إلى الطبيعة كما في باب التقية بل وباب التيمم أيضا على ما استفدناه من الآية الشريفة كان الحكم فيه هو جواز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار وطرو الاختيار عليه في الوقت فضلا عن فرض الشك في زوال اضطراره فيه ، وذلك انما هو من جهة اقتضاء قضية الامر باتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه الذي هو مطلق الاضطرار ، فإنه من ذلك ربما يستفاد الترخيص فيما يستتبعه

ص: 241

الفعل الاضطراري من تفويت مصلحة الخصوصية ، ولاينافي ذلك ما ذكرناه آنفا من حرمة التفويت ، لان ذلك انما هو بلحاظ قبل حال طرو الاضطرار لا بلحاظ حال طرو الاضطرار الذي هو مورد البحث في هذا المقام. فلا تنافي حينئذ بين حرمة اتلاف الماء مثلا في الوقت وادخال نفسه في موضوع ( من لم يجد ) وبين جوازه بداره باتيان الصلاة مع التيمم في فرض تحقق الاضطرار وان استلزم ذلك تفويت مقدار من المصلحة الملزمة من جهة امكان ابتلائها في هذا الحال بمصلحة أخرى أهم وهي مصلحة التسهيل مثلا. نعم لو لم يكن في البين حينئذ امر من الشارع باتيان الفعل الاضطراري عند تحقق موضوعه أمكن لنا دعوى عدم الجواز بلحاظ مقدمية المأتى به الاضطراري لتفويت مصلحة الخصوصية بناءا على القول بها لكن لازمه أيضا هو عدم الاجزاء بلحاظ وقوعه حينئذ حراما ومنهيا عنه وإلا فبناء على القول بمنع المقدمية وكونه مجرد التلازم الخارجي كما هو التحقيق على ما يأتي بيانه في مبحث الضد إن شاء اللّه تعالى لا مقتضي لعدم الجواز أيضا فيجوز له البدار وان عصى بتفويته لمصلحة الخصوصية. هذا كله فيما إذا كان موضوع التكليف هو مطلق الاضطرار بالطبيعة.

وأما ما كان موضوعه هو الاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق كما استفدناه من نحو قاعدة الميسور وعمومات الحرج والاضطرار ففيها لا مقتضي لعدم جواز البدار إلا من جهة التشريع ، من جهة وضوح عدم استلزام البدار باتيان الفعل الاضطراري حينئذ لتفويت مصلحة الفعل الاختياري وحينئذ فلابد من ملاحظة شقوق المسألة ، فمع العلم بطرو الاختيار في الوقت لايجوز له البدار باتيان الفعل الاضطراري بعنوان الامر به من جهة كونه حينئذ تشريعا محرما. واما مع عدم العلم بطرو الاختيار في الوقت واحتمال بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت ، فان بنينا على كفاية احتمال الامر في صحة العبادة مع الامكان ، فلا اشكال في أن لازمه هو جواز بداره فيجوز له حينئذ البدار باتيان الفعل الاضطراري بداعي احتمال الامر ، فإذا بقى اضطراره من باب الاتفاق إلى آخر الوقت يجزيه عن القضاء في خارج الوقت على التفصيل المتقدم وإذا لم يبق اضطراره إلى آخر الوقت يجب عليه الإعادة في الوقت ، من جهة كشف اختياره في الوقت عن عدم الامر بالفعل الاضطراري وعدم رجحانه حين الاتيان به. وأما ان بنينا على إعتبار الجزم بالامر في صحة العبادة ومشروعية الدخول فيها ، فلازمه هو عدم جواز البدار ووجوب تأخيره إلى

ص: 242

وقت يقطع قطعا عاديا بعدم زوال اضطراره. نعم لو انتهى الامر إلى هذه المرحلة أمكن دعوى جواز البدار بمقتضي أصالة بقاء الاضطرار ، حيث إنه علي يقين منه فعلا وقد شك في زواله في الآنات المتأخرة قبل خروج الوقت فيستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره كما في صورة القطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت. واما توهم عدم اليقين الفعلي بالاضطرار إلى الطبيعة على الاطلاق حتى بالنسبة إلى افرادها التدريجية ، فمدفوع بأنه حين تحقق الاضطرار كما يصدق الاضطرار إلى الطبيعة بالنسبة إلى فردها الفعلي كذلك يصدق الاضطرار أيضا في ذلك الآن بالنسبة إلى بقية افرادها التدريجية في الآنات المتأخرة من جهة وضوح عدم تمكنه فعلا من الاتيان بافرادها التدريجية ، فيصدق حينئذ انه كان مضطرا إلى ترك الطبيعة بقول مطلق فعلا ، وحيث انه يشك في بقائه إلى آخر الوقت يستصحب بقائه ويترتب على استصحابه جواز بداره فعلا حتى مع الظن بزوال اضطراره فيما بعد بل ومع الاطمينان به أيضا.

وحينئذ فعلى كل تقدير التفصيل في جواز بدار أولى الاعذار وعدم جوازه بين صورة رجاء زوال العذر في الوقت والظن ببقاء العذر إلى آخر الوقت أو الشك به مما لايقتضيه القواعد ، بل فيما كان موضوعه مطلق الاضطرار كباب التقية بل التيمم على اشكال في الأخير يجوز البدار ولو مع القطع بزوال الاضطرار في الوقت فضلا عن الظن أو الشك في بقاء اضطراره إلى آخر الوقت. وفيما كان موضوعه الاضطرار إلى الطبيعة بقول مطلق لايجوز البدار مع القطع بزوال العذر لمكان التشريع ، ومع عدم القطع بذلك يجوز البدار للاستصحاب المزبور ، فتدبر.

هذا كله في المقام الثاني.

واما المقام الثالث

فمحل الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري من الواقع عند كشف الخلاف إعادة وقضاء فنقول :

ان الكلام في هذا المقام يقع تارة في الامارات وأخرى في الأصول.

اما الأولى ( وهي الامارات ) ، فان بنينا فيها على الطريقية كما هو التحقيق فلاينبغي الاشكال في عدم اقتضائها للاجزاء وانه يجب الإعادة في الوقت عند انكشاف الخلاف أو القضاء في خارج الوقت ، ووجه عدم الاجزاء فيها على هذا القول واضح ، لأنه لم يحدث

ص: 243

حينئذ بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كي أمكن القول فيها بالاجزاء اما بمناط الوفاء بتمام المصلحة الواقعية أو بمناط المفوتية لها ، بل ولو كان هناك مصلحة فإنما هي في أصل الجعل والترخيص على خلاف الواقع وهي غير مرتبطة بالمتعلق كي يجيء فيه احتمال المفوتية أو الوفاء بالتمام. ولا مجال أيضا لتوهم كفاية المصلحة في الجعل عن المصلحة القائمة بالمتعلق ، والايلزمه الاجزاء ولو مع عدم الاتيان المكلف بما هو مؤدى الامارة نظراً إلى تحقق الغرض الذي هو التسهيل على العباد وعدم وقوعهم في كلفة تحصيل الواقعيات بنفس جعل الامارة حجة ولو لم يأت المكلف بما هو مؤدى الامارة ، مع أن ذلك كما ترى لا يتوهمه ذو مسكة.

وحينئذ فإذا لم يحدث بسبب قيام الامارة مصلحة في المتعلق كما على الموضوعية ولايكون قضية الامر بسلوك الامارة في ظرف المخالفة الا أمرا صوريا منتجا للمعذورية عن تبعة مخالفة الواقع فلا جرم يلزمه عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف من غير فرق في ذلك بين ان يكون دليل حجية الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع أو بلسان ايجاب العمل على طبق مؤدى الامارة أو بلسان تتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف ، فان تلك الألسنة كما تجري على الموضوعية تجرى أيضا على الطريقية من جهة ان المناط في الموضوعية والطريقية انما هو كون الامر بالعمل على طبق المؤدى أمرا حقيقيا ناشئا عن مصلحة مستقلة في المتعلق في صورة المخالفة أو كونه أمرا صوريا في فرض المخالفة ، من دون اثمار لتلك الألسنة في الطريقية والموضوعية بوجه أصلا. نعم كون دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى انما يثمر في جهة أخرى أجنبية عن تلك الجهة وهي مقام تحكيم الامارة على الأصول وعدم تحكيمها ، لا بالنسبة إلى مقام الطريقية والموضوعية. فالمقصود من هذا البيان انما هو بيان عدم اثمار اختلاف تلك الألسنة في الطريقية والموضوعية كما توهم كي يقال : بأنه إذا كان بلسان تتميم الكشف لابد من القول بالطريقية وإذا كان بلسان تنزيل المؤدى لابد من الموضوعية ، فتدبر. وكيف كان فهذا كله على القول بالطريقية كما هو المختار ، ولقد عرفت بأنه على هذا المبنى لا محيص من عدم الاجزاء بمقتضي القواعد كان دليل الامارة بلسان تتميم الكشف أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان آخر غير هذين.

واما على الموضوعية والسببية على معنى صيرورة المؤدى ذا مصلحة مستقلة بسبب

ص: 244

قيام الامارة اقتضت تلك المصلحة ايجاب العمل على طبقه وان خالفت الواقع لا على معناها المستحيل الذي يوجب انقلاب الواقع عما عليه إلى التكليف بمؤدى الامارة كما يقوله القائل بالتصويب ففيها تفصيل من جهة اختلاف الحال حينئذ في الحكم بالاجزاء حسب اختلاف كيفية السنة دليل الامارة من كونه بلسان تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تعبدا أو بلسان تنزيل المؤدى أو بلسان ثالث غير هذين ، فنقول :

أما إذا كان دليل الحجية بلسان تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تعبدا فلازمه قهرا هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف ، ضرورة ان المصلحة الواقعية حينئذ على ما هي عليها وهي تقتضي لزوم تحصيلها باتيان المأمور به إعادة في الوقت وقضاء في خارجه وحينئذ لا وجه لتوهم الاجزاء في مثل هذا الفرض الا من جهة دعوى المضادة بين المصلحتين وعدم التمكن من استيفاء المصلحة الواقعية مع استيفاء هذه المصلحة فلا بد في الحكم بالاجزاء حينئذ من اثبات هذه المضادة ، والا فمع عدم اثبات هذه الجهة لا محيص من وجوب الإعادة ولو من جهة الشك في القدرة ، كامر تفصيله سابقا.

ومن ذلك يظهر الكلام أيضا فيما لو كان مفاد دليل الحجية مجرد ايجاب العمل على طبق المؤدى كما لو كان في لسان الدليل : انه إذا أخبر العادل بوجوب شيء أو حرمته يجب ذلك الشيء أو يحرم ، إذ نقول في هذا الفرض أيضا بعدم اقتضاء مثل هذا اللسان للاجزاء وعدم وجوب الإعادة الا بمناط المضادة والمفوتية فمع عدم احراز هذه الجهة لابد من الإعادة أو القضاء ولو بمناط الشك في القدرة.

وأما إذا كان بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فمقتضى القاعدة فيه أيضا هو عدم الاجزاء فيما لو كان بلسان التعبد بترتب آثار الواقع على المؤدى ، إذ حينئذ من حين كشف الخلاف يرتفع التعبد المزبور أيضا فيجب من حين كشف الخلاف ترتيب آثار الواقع التي منها وجوب الإعادة والقضاء : نعم في هذا الفرض لو كان بلسان اثبات التوسعة الحقيقية في الأثر الواقعي بما يعم الواقع والظاهر كما لو كان بلسان : أن ما هو الشرط في لباس المصلي مثلا أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فمقتضى القاعدة فيه قهرا هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة بل على هذا الفرض لا مجال لكشف الخلاف نظراً إلى وقوع المأمور به حينئذ في ظرف ايقاعه واجدا لما هو شرطه حقيقة.

ص: 245

وحينئذ فصار متحصل الكلام في الامارات هو عدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء على الطريقية مطلقا وعلى الموضوعية أيضا كذلك الا في صورة واحدة وهي صورة كون مفاد دليل الامارة بلسان تنزيل المؤدى مع اقتضائه أيضا لتوسعة الأثر الذي هو موضوع التكليف الواقعي حقيقة لا عناية وتعبدا. هذا كله على الطريقية والموضوعية بمعناها الممكن منه ، وأما على الموضوعية بمعناها المستحيل كما يدعيه القائل بالتصويب فالاجزاء فيها واضح نظراً إلى عدم تصور كشف الخلاف حينئذ.

واما الأصول العملية فهي على أنحاء حسب اختلاف ألسنتها من كونها تارة بلسان التنزيل كالاستصحاب وأخرى بلسان رفع المشكوك فيه كما في حديث الرفع ودليل الحجب ونحوهما وثالثة بلسان اثبات الصغرى لما هي الكبرى الكلية المستفادة من الأدلة الواقعية كما في قاعدتي الحلية والطهارة فلابد من افراز كل واحد منها بالبحث مستقلا في استفادة الاجزاء وعدمه فنقول :

اما الاستصحاب فإن بنينا على رجوع التنزيل فيه في لا تنقض اليقين إلى نفس اليقين ، على معنى اخذ اليقين فيه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو التحقيق أيضا على ما حقق في محله فلاينبغي الاشكال في عدم اقتضائه للاجزاء بل لا مجال لتوهمه من جهة ان قضية النهى عن نقض اليقين حينئذ ليست الا المعاملة مع اليقين الزائل معاملة الباقي في لزوم الحركة على طبقه من دون اقتضائه لمصلحة حينئذ في نفس العمل كي أمكن تصور الاجزاء فيه بأحد المناطين المزبورين سابقا وحينئذ فعند انكشاف الخلاف لما كانت المصلحة الواقعية على حالها بلا استيفاء تماما أو بعضا فلا جرم تقتضي وجوب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارج الوقت وهو واضح.

واما ان بنينا على رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن وان اليقين في دليله لو حظ مرآة إلى المتيقن لا استقلالا كما هو مختار الكفاية قدس سره فان قلنا : بان مفاد لا تنقض عبارة عن جعل مما ثل الأثر للمشكوك في ظرف الشك كما اختاره في الكفاية في مبحث الاستصحاب فلا اجزاء أيضا فإنه إذا كان الشرط في الصلاة مثلا بحسب ظواهر الأدلة هو الطهارة الواقعية الثابتة للشيء بعنوانه الأولى فلا جرم لايكاد يفيد مثل هذه الطهارة الظاهرية الاستصحابية في الحكم بالاجزاء بل لايكاد يجدي أيضا في أصل جواز الاتيان بالصلاة مع مثل هذه الطهارة الا إذا فرض ان ما هو الشرط في دليل الكبرى هو الأعم

ص: 246

من الطهارة الواقعية والظاهرية الاستصحابية فيجوز له الدخول معها حينئذ في الصلاة ويجزى المأتى به معها أيضا عن الإعادة والقضاء باعتبار اتيانه حينئذ بما هو المأمور به واجدا لما هو شرطه وهو الطهارة.

واما ان قلنا : بأنه ليس مفاد لا تنقض عبارة عن جعل المماثل وانه ليس مفاده الا مجرد التعبد بالطهارة في ظرف الشك بمحض اليقين بالطهارة سابقا فحينئذ القول بالاجزاء وعدمه مبني على إفادة مثل هذا التنزيل لا ثبات التوسعة الحقيقية لدائرة الشرطية في كبرى الدليل بما يعم الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة التعبدية التنزيلية فبناء على استفادة هذه الجهة كما اختاره في الكفاية في مبحث الاجزاء لا جرم يلزمه الاجزاء قهرا وعدم وجوب الإعادة ، بل على هذا المسلك لا معنى لانكشاف الخلاف أيضا لأنه بعد استفادة التوسعة لدائرة الشرطية من دليل حرمة النقض يكون المأتى به مع الطهارة التعبدية الاستصحابية واجدا لما هو شرطه بحسب الواقع ومعه لا معنى لانكشاف الخلاف كما لايخفى ، والا فبناء على عدم إفادة مثل هذا التنزيل الا مجرد التعبد بوجود ما هو الشرط الواقعي في المورد بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في الأثر فلا مجال أيضا للاجزاء بوجه أصلا كما لايخفى ، إذ حينئذ بعد انكشاف الخلاف تقتضي الشرطية والجزئية الواقعية لوجوب الإعادة أو القضاء.

وحينئذ فاستفادة الاجزاء في المأتى به بالامر الاستصحابي الجاري في تنقيح ما هو موضوع التكليف بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره منوط بأحد الامرين : اما استفادة إفادة مثل هذا التنزيل للتوسعة الحقيقية في دائرة ما هو شرط المأمور به في كبرى الدليل بما يعم الطهارة الواقعية الحقيقية التعبدية التنزيلية ، واما استفادة إفادته لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك مع الالتزام أيضا بان ما هو الشرط في كبرى الدليل أعم من الواقع والظاهر ليكون دليل حرمة النقض من باب الورود دون الحكومة كما على الأول ، ولكن مسلك الكفاية في باب الاستصحاب حيث كان على استفادة جعل مماثل الأثر كان الحري عليه في المقام تقريب الاجزاء بمناط الأخير وهو الورود دون الحكومة.

ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون مثل هذا المسلك بل وسابقه خلاف التحقيق ، فان التحقيق على ما حققناه في محله هو رجوع التنزيل في حرمة النقض إلى نفس اليقين ملحوظا كونه استقلالا لامرآة إلى المتيقن كما هو مسلك الكفاية ، ومن ذلك

ص: 247

أيضا نلتزم بقيام الاستصحاب مقام الامارات والقطع الطريقي كما في باب الشهادة ، ونلتزم أيضا بتقديم مثل الاستصحاب على قاعدة الحلية والطهارة بمناط الحكومة دون الورود ودون التخصيص ، وعليه كما عرفت لابد من القول بعدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف. بل وعلى فرض تسليم اخذ اليقين في دليل حرمة النقض مرآة إلى المتيقن وعبور التنزيل من اليقين إليه نقول : بان غاية ما يقتضيه التنزيل المزبور حينئذ انما هو مجرد التعبد بوجود الأثر وتحققه عند الشك لا التوسعة الحقيقية لدائرة الأثر والشرطية الواقعية ولا اقتضاء جعل مماثل الأثر للمشكوك حقيقة كي يحتاج إلى التصرف في ظاهر دليل كبرى الأثر بجعله عبارة عن الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية حتى يترتب عليه الاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء بعد انكشاف الخلاف ، وعليه لا محيص من القول بعدم الاجزاء ، من جهة انه بانكشاف الخلاف وحصول العلم بالنجاسة يرتفع التعبد المزبور ومع ارتفاعه لابد بمقتضي شرطية الطهارة الواقعية والحلية الواقعية من الإعادة والقضاء الا إذا كان هناك دليل بالخصوص على عدم وجوب الإعادة والقضاء كما في الطهارة الخبثية.

كيف وان نفس الالتزام بجعل مماثل الأثر حقيقة أو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر لا يخلو عن محذور شديد بلحاظ ما يترتب عليهما من التوالي الفاسدة : فإنه مما يترتب على الأول لزوم عدم جريان استصحاب الطهارة في ماء تالف فعلا قد غسل به ثوب نجس أو توضأ به سابقا باعتقاد الطهارة ، من جهة انه في ظرف الشك الذي هو ظرف جريان الاستصحاب لا وجود للماء المغسول به الثوب النجس حتى أمكن جعل الطهارة الحقيقية ولو ظاهرية له ، فلابد حينئذ اما من القول بجواز جعل الطهارة الحقيقية حينئذ للماء التالف أو الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في مثل الفرض عند الشك في طهارة الماء التالف الذي غسل به الثوب النجس سابقا ، مع أنهما كما ترى ، فان الأول منهما مستحيل في نفسه والثاني منهما خلاف الاجماع فإنه جماع منهم يجرى استصحاب الطهارة بالنسبة إلى الماء التالف ويحكم بطهارة الثوب المغسول به وبصحة الوضوء السابق وصحة الصلاة المأتى بها مع ذلك الوضوء بلا كلام. ومما يترتب عليه بل وعلى الأخير أيضا من التوالي الفاسدة في نحو قوله : كل ثوب نجس غسل بماء طاهر يطهر ، فإنه بناء على أعمية الطهارة في الماء في كبرى الأثر من الطهارة الحقيقية الواقعية والطهارة الظاهرية

ص: 248

الاستصحابية يلزمه الحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة حتى بعد انكشاف الخلاف ، فيلزمه الحكم أيضا بطهارة ملاقيه وجواز الدخول معه في الصلاة بمحض انغساله سابقا بماء محكوم بالطهارة شرعا بمقتضي الاستصحاب ، لكونه مما صدق عليه انه ثوب نجس وقد غسل في زمان غسله بماء طاهر مع أنه كما ترى لايكاد التزام أحد به.

فلا محيص حينئذ من اجل هذه المحاذير والتوالي الفاسدة من المصير إلى أن الطهارة المعتبرة في ناحية الماء في دليل كبرى الأثر عبارة عن خصوص الطهارة الواقعية ، وان ما هو مفاد دليل حرمة النقض في فرض رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن عبارة عن مجرد التعبد بوجود الأثر وتحقق الطهارة في المورد الراجع إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية ما دام الشك بلا نظر له إلى اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا اقتضاء لجعل مماثل الأثر حقيقة للمشكوك ، وعليه فلا محيص من القول بعدم الاجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف ، كما هو واضح.

واما ما كان منها بلسان رفع المشكوك فيه كحديث الرفع والحجب فتوهم الاجزاء فيها انها هو من جهة خيال اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية والشرطية الواقعية واقتضائها بالملازمة لتحديد دائرة المأمور به بما عدا الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية ، ولكنه من الغفلة عن استحالة اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية نظراً إلى أن العلة للرفع حينئذ انما كان هو الجهل والشك بالجزئية وهو من جهة تأخره الرتبي عن الجزئية الواقعية لايكاد يقتضي رفع ما هو في الرتبة السابقة بوجه أصلا بل ما هو المرفوع حينئذ لايكون الا ما هو نقيض هذا الرفع المتأخر عن الشك وهو لايكون الا الوجود في تلك المرتبة المتأخرة عن الشك لا الوجود في الرتبة السابقة عن الشك وهو الجزئية الواقعية لأنه لايكون نقيضا لهذا الرفع المتأخر ، فيستحيل حينئذ تعلق الرفع في المرتبة المتأخرة حقيقة بالوجود في المرتبة السابقة على الشك أعني الجزئية الواقعية. وحينئذ فبعد عدم اقتضاء اللسان المزبور لرفع الجزئية الواقعية حقيقة فلا بد وأن يكون الرفع رفعا تعبديا تنزيليا بلحاظ عدم وجوب الاحتياط في مقام العمل وعليه نقول : بأنه بعد انكشاف الخلاف لابد من الإعادة ، لاقتضاء الجزئية الواقعية حينئذ وجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف الخلاف ، هذا.

ص: 249

على أن مثل هذا اللسان باعتبار سوقه قي مقام الامتنان لايكاد يرفع الا ما يكون في وجوده ضيق على المكلف وهو لايكون الا ايجاب الاحتياط لأنه هو الذي يكون المكلف في ضيق من جهته وهو الذي في رفعه امتنان على المكلف دون التكليف الواقعي أو الجزئية الواقعية ، لعدم كونهما بوجود هما الواقعي ضيقا على المكلف حال الجهل حتى يقتضى الامتنان رفعه ، كما هو واضح. ومعلوم حينئذ في مثله انه لا مجال لتوهم الاجزاء بعد انكشاف الخلاف كما لايخفى ، هذا. ولكن الأستاذ دام ظله اقتصر في بحثه على الاشكال الأول ولم يتعرض لهذا الاشكال ولعله من جهة عدم جريان هذا الاشكال في مثل حديث الحجب لعدم كونه كحديث الرفع مسوقا في مقام الامتنان.

وكيف كان قد يورد عليه اشكال آخر في أصل اقتضاء اللسان المزبور لا ثبات التكليف بالبقية ، بتقريب : ان ثبوت التكليف بما عدا الجزء المشكوك الجزئية انما هو من لوازم عدم كونه جزء واقعيا ، وبعد عدم اقتضاء مثل هذا اللسان لرفع الجزئية الواقعية حقيقة لا مجال أيضا لا ثبات التكليف بالبقية بمحض جريان دليل الرفع واقتضائه لنفى الجزئية ظاهرا الا على القول بالمثبت ، وذلك أيضا بعد الفراغ عن عدم اقتضاء أدلة نفس الاجزاء والشرائط المعلومة أيضا لاثبات وجوب الاتيان بها مطلقا حتى في فرض عدم انضمام بقية الاجزاء لعدم اطلاق لها يقتضى التكليف بها حتى في حال عدم انضمام بقية الاجزاء الاخر ، كما يكشف عنه عدم تمسكهم باطلاق أدلة الاجزاء المعلومة لا ثبات التكليف بها في مبحث الأقل والأكثر ، هذا. ولكنه يمكن التفصي عن هذا الاشكال بان ثبوت التكليف بما عدا المشكوك الجزئية حينئذ وان كان مبنيا على المثبت ولكنه من جهة جلاء الواسطة فيه لا يضر به جهة المثبتية ، إذ هو حينئذ نظير الأبوة والبنوة من حيث فهم العرف من جهة شدة الملازمة بينهما عدم انفكاك تنزيل أحدهما عن تنزيل الآخر ، فتأمل.

واما قاعدة الحلية المستفادة من قوله علیه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ) فيتصور فيها وجوه : فإنه تارة يكون المراد من تلك الحلية خصوص الحلية الاقتضائية الناشئة من مثل مصلحة التسهيل أو غيرها ، وأخرى يكون المراد ما يعمها والحلية اللا اقتضائية الناشئة من جهة عدم اقتضاء الحرمة فيه. فان كان الأول فلازمه عدم صحة تطبيقها على شرط المأمور به في كبرى الأثر من

ص: 250

نحو قوله : يجوز الصلاة فيما يحل اكله ، لان موضوع الأثر في هذا الدليل عبارة عن خصوص الحلية اللااقتضائية فمع الشك في كون الوبر من حلال الاكل بالحلية اللااقتضائية لا يفيد تلك القاعدة في تطبيق كبرى الأثر على المورد حتى يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة كما هو واضح.

وان كان الثاني فتارة نقول بان القاعدة من الأصول التنزيلية المحرزة للواقع كما هو الشأن في قاعدة الطهارة أيضا وان مفادها عبارة عن اثبات الحلية الواقعية في المورد تعبدا وتنزيلا لا اثبات الحلية الحقيقية الظاهرية للشيء بعنوان كونه مجهول الحكم ، وأخرى نقول بأنها من القواعد المتكلفة لا ثبات الحلية الظاهرية للشيء حقيقة بعنوان كونه مجهول الحكم في طول الحلية الواقعية ، وعلى الأول فمفاد القاعدة تارة يكون هو التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية نظير الاستصحاب بناء على القول باقتضاء دليل حرمة النقض لجعل المماثل للأثر حقيقة ، وأخرى يكون مفادها مجرد التعبد بوجود الشرط والبناء على كون المشكوك حلالا واقعيا بلا اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر وهي الشرطية فضلا عن اقتضائها للتوسعة الحقيقية في دائرة نفس الشرط وهي الحلية. فهذه وجوه متصورة في تلك القاعدة.

وربما يختلف هذه الوجوه بعضها مع بعض بحسب اللوازم ، فإنه بناء على اقتضائها لجعل الحلية الظاهرية الحقيقية في المورد لا اشكال في أنه لايكاد يثمر في تطبيق كبرى الأثر على المورد ، لان الأثر في كبرى الدليل في نحو قوله : يجوز الصلاة في ما يحل اكله ، انما هو مترتب على محلل الاكل الواقعي لا على ما يعمه والحلية الظاهرية ، وحينئذ فمع الشك في كون الوبر من محلل الاكل الواقعي لا يثمر في التطبيق مجرد كون المورد محللا ظاهريا ومعه لايكاد يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة حتى ينتهى الامر بعد ذلك إلى البحث عن الاجزاء وعدمه ، كما هو واضح. نعم إنما يثمر ذلك في مقام التطبيق فيما إذا استفيد من دليل كبرى الأثر تعميم الحلية بما يعم الواقع والظاهر ، إذ حينئذ بجريان القاعدة المزبورة يصير المورد من المصاديق الحقيقية لما هو شرط المأمور به ولازمه قهرا حينئذ هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة باعتبار وقوع العمل حينئذ واجدا حقيقة لما هو شرطه وعدم تصور انكشاف الخلاف معه.

ومن ذلك البيان يظهر انه كذلك الامر أيضا في فرض اقتضائها للتوسعة الحقيقية في

ص: 251

دائرة كبرى الأثر وهو الشرطية ، إذ لازم هذا المعنى أيضا قهرا يكون هو الاجزاء. واما توهم امتناع الحكومة بهذا المعنى من التوسعة الحقيقية باعتبار عدم كون الدليل الحاكم حينئذ في رتبة المحكوم وامتناع ان يكون للحلية الواقعية سعة اطلاق يشمل المرتبة المتأخرة عن نفسها ، فمدفوع بان ذلك كذلك بالنسبة إلى نفس الشرط وهو الحلية الواقعية ، فإنه بعد امتناع سعة الدائرة فيها بنحو تشمل المرتبة المتأخرة عن الشك بها يستحيل اقتضاء القاعدة المزبورة للتوسعة الحقيقية فيها حتى بالنسبة إلى مرتبة الشك المتأخر عنها ، واما بالنسبة إلى اثرها الذي هو الإناطة والشرطية فلا وجه لدعوى استحالته بل هو امر ممكن في نفسه فإنه من الممكن جدا التوسعة الحقيقية في دائرة الشرطية على معنى قيامها بما يعم الحلية الواقعية الحقيقية والحلية التعبدية التنزيلية ، لأنها مما أمرها بيد الشارع والجاعل فكما ان للشارع جعل الإناطة لخصوص الحلية الواقعية كذلك له جعلها لما يعمها والحلية التعبدية التنزيلية. وحينئذ فإذا عبدنا الشارع في مورد بأنه حلال الاكل واقعا وكان لسان دليل التعبد بلسان التوسعة الحقيقية لدائرة كبرى الأثر ، فلا جرم يلزمه جواز الدخول معه في الصلاة ، كما أن لازمه القهري هو الاجزاء وعدم وجوب الإعادة عند انكشاف الخلاف وتبين كونه من محرم الاكل. هذا بناء على اقتضاء القاعدة للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر.

واما بناء على عدم اقتضائها الا مجرد التعبد بالبناء على الحلية الواقعية فعليه وان كان يثمر أيضا في تطبيق كبرى الأثر على المورد فيجوز الدخول معه في الصلاة ولكن لايلزمه حينئذ نفى وجوب الإعادة والاجزاء عند انكشاف الخلاف بل مقتضي دليل شرطية الحلية الواقعية انما هو عدم الاجزاء وجوب الإعادة والقضاء عند تبين الخلاف وانكشاف كونه غير حلال الاكل ، من جهة انه من حين انكشاف الخلاف يرتفع التعبد المزبور فيقتضي قضية الشرطية الواقعية من ذاك الحين وجوب الإعادة ، كما هو واضح. هذا كله حسب مقام التصور.

وأما بحسب مقامين التصديق فلاينبغي الارتياب في أن المتعين من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير ، فان دعوى كون القاعدة مسوقة لا ثبات الحقيقية الظاهرية للشيء المشكوك الحكم بعيدة غايته لاستلزامه عدم جواز تطبيق كبرى الأثر على الموارد المشكوكة الا بالالتزام بترتب كبرى الأثر في الخطاب الواقعي في نحو قوله : يجوز الصلاة فيما

ص: 252

يحل اكله ، على الأعم من الحلال الواقعي والظاهري ، وهو كما ترى خلاف ظاهر الخطاب ، من جهة وضوح ظهورها في خصوص الحلال الواقعي دون الأعم ، كما هو واضح. كما أن مثلها في البعد أيضا دعوى كونها مسوقة للتوسعة الحقيقية في دليل كبرى الأثر ، إذ نقول حينئذ : بأنه على ذلك وإن لم يلزم رفع اليد عن ظهور الأدلة المتكلفة لكبري الأثر ، ولكنه أيضا خلاف الظاهر جدا ، فان القدر الذي يقتضيه هذا اللسان في القاعدة من التنزيل المزبور انما هو مجرد التعبد بالبناء على وجود الشرط وتحققه وكون المشكوك حلالا واقعيا ، واما اقتضائه للتوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر فلا ، وعليه كما عرفت كان مقتضي القاعدة هو وجوب الإعادة وعدم الاجزاء ، من جهة اقتضاء دليل الشرطية الواقعية حينئذ بعد تبين الخلاف وارتفاع التعبد المزبور وجوب الإعادة. هذا كله في تطبيق دليل الحلية على شرط المأمور به.

واما تطبيقها على نفس ترك الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية أو الشرطية فتقريبه انما هو باعتبار تأدية ترك المشكوك على تقدير اعتباره إلى ترك المركب ، حيث إنه حينئذ يشك في حرمة ترك المركب من جهة ترك المشكوك الجزئية والشرطية ، فيقال بمقتضي القاعدة بحليته ويستفاد منها بنحو الان أيضا كون المأمور به عبارة عن ما عدا الجزء المشكوك الجزئية فيترتب عليها جواز الاقتصار على ما عدا الجزء أو الشرط المشكوك الجزئية والشرطية ، هذا. ولكن فيه أيضا ان مجرد تكفل القاعدة لحلية ترك الكل والمركب من جهة ترك مشكوك الجزئية والشرطية ظاهرا لايقتضي نفى الجزئية الواقعية حتى يترتب عليه تحديد المأمور به بالبقية ، وعلى فرض اقتضائها لذلك لايكاد يترتب عليه تحديد دائرة الوجوب بما عدا المشكوك الجزئية ، إذ تعلق الوجوب حينئذ بالبقية ليس من الآثار الشرعية لعدم جزئية المشكوك فيه بل هو من اللوازم العقلية لعدم مدخلية الجزء المشكوك في المركب ، فان من لازمه العقلي حينئذ محدودية دائرة الوجوب بحد أقل ، فحينئذ اثبات الوجوب للبقية بمقتضي القاعدة المزبورة لا يخلو عن مثبت واضح. هذا كله في قاعدة الحلية.

واما قاعدة الطهارة فيأتي فيها أيضا المحتملات المتصورة في قاعدة الحلية وتقريب الاجزاء فيها أيضا بأحد الامرين : اما بدعوى ترتب الأثر في كبرى الخطاب الواقعي على مطلق الطهارة أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية مع الالتزام بأن مفاد

ص: 253

قاعدة الطهارة اثبات الطهارة الظاهرية الحقيقية ، أو بدعوى كون مفاد القاعدة مع كونها بلسان التنزيل لا بلسان جعل الطهارة الظاهرية هو اثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر بما يعم الطهارة التعبدية التنزيلية أيضا مع الالتزام بظهور الأدلة في خصوص الطهارة الواقعية ، فإنه على هذين التقريبين لا محالة يلزمها الاجزاء وعدم وجوب الإعادة من جهة واجدية المأمور به حينئذ لما هو مصداق الشرط حقيقة ، والا فبناء على فرض اختصاص دليل كبرى الأثر بخصوص الطهارة الواقعية وعدم تكفل القاعدة أيضا أزيد من التعبد بثبوت الطهارة الواقعية في المورد والمعاملة مع المشكوك معاملة الطهارة الواقعية فلا مجال لتوهم الاجزاء فيها بوجه من الوجوه ، من جهة انه بانكشاف الخلاف يرتفع التعبد المزبور من حينه فبقى دليل اشتراط الطهارة الواقعية حينئذ على حاله فيقتضي وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه.

ولقد عرفت ان التحقيق حينئذ من الوجوه المزبورة هو الوجه الأخير من كون القاعدة ممحضة لمحض اثبات الطهارة تعبدا وتنزيلا بلحاظ المعاملة مع المشكوك معاملة الواقع بلا اقتضائها لا ثبات التوسعة الحقيقية في دائرة كبرى الأثر ولا لا ثبات جعل الطهارة الظاهرية للمشكوك كي يحتاج في صحة التطبيق على شرط المأمور به إلى التصرف في دليل كبرى الأثر بارتكاب خلاف الظاهر فيه ، وذلك لما عرفت آنفا من بعد هذين غاية البعد خصوصا مع استلزامهما لبعض التوالي الفاسدة التي لايمكن الالتزام به من نحو لزوم القول بطهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة حتى بعد انكشاف الخلاف وتبين نجاسة الماء ، وذلك انما هو من جهة انغسال الثوب حينئذ بماء طاهر حقيقي بمقتضى القاعدة وعدم ورود نجاسة عليه بعد ذلك فكان انكشاف الخلاف على هذين المسلكين من قبيل ما لو ورد نجاسة على الماء بعد غسل الثوب به ، فكما ان ورود النجاسة على الماء لايوجب نجاسة الثوب المغسول به في الزمان السابق كذلك انكشاف الخلاف ، فإذا كان الماء بمقتضى القاعدة محكوما بالطهارة الحقيقية وغسل به الثوب المزبور في حال محكوميته بالطهارة يلزمه لا محالة طهارة الثوب بمقتضي ما دل على : ان الثوب النجس إذا غسل بماء طاهر يطهر ، ولازمه عدم مؤثرية انكشاف الخلاف البعدى في زوال الحكم بالطهارة في طرف الثوب ، فيلزمه حينئذ جواز لبسه في الصلاة بعد ذلك على هذين المسلكين وكذا الكلام فيما لو توضأ من الماء المزبور في زمان محكوميته بالطهارة ، فإنه

ص: 254

على المسلكين المزبورين يلزم القول بجواز الدخول في الصلاة مع ذلك الوضوء حتى بعد انكشاف نجاسة الماء ، وكذا نظائر ذلك ، مع أن ذلك كما ترى لايمكن الالتزام به لاستلزامه تأسيس فقه جديد. وحينئذ كان مثل هذه التوالي الفاسدة مما يكشف بها كشفا قطعيا عن بطلان الوجهين الأولين ومعه يتعين الوجه الأخير ، فإنه على هذا المسلك لايكاد يتوجه شيء من تلك المحاذير ، لان الماء المزبور على هذا المسلك انما كان محكوما بالطهارة تعبدا وتنزيلا ، وحينئذ فبانكشاف الخلاف يرتفع التعبد بالطهارة من حينه وبعد ارتفاعه يبقى دليل شرطية الطهارة الواقعية على حاله ، فيقتضي هذا الدليل بطلان الوضوء المزبور وعدم طهارة الثوب المزبور ، كما يقتضي أيضا وجوب إعادة الصلاة المأتية بذلك الوضوء وفي ذلك الثوب.

هذا كله مضافا إلى ما يرد على الوجه الأول أيضا إذ نقول فيه مضافا إلى ما فيه من مخالفته لظاهر الأدلة من الاختصاص بالطهارة الواقعية انه من المستحيل أيضا إرادة الطهارة الواقعية والظاهرية من لفظ واحد في نحو قوله : كل ثوب غسل بماء طاهر فقد طهر ووجهه يظهر بعد ملاحظة طولية المحكيين وهما الحكمان في كون أحدهما في رتبة متأخرة عن الشك بالآخر الموجب لعدم امكان اجتماعهما في لحاظ واحد وامتناع حكاية قوله ( طاهر ) عنهما ، إذ حينئذ في حكايته عن الطهارة الواقعية لم يلحظ الا نفس الحكم الواقعي بخلافه في حكايته عن الطهارة الظاهرية فإنها باعتبار كونها في رتبة متأخرة عن الشك بالواقع يحتاج إلى لحاظ الواقع ولحاظ الشك به أيضا وهو كما ترى ولعل ذلك هو السر أيضا في عدم ذهابهم إلى استفادة التعميم من الأدلة المتكلفة لكبري الأثر كما لايخفى. بقى أمور لم يتعرض لها الأستاذ دام ظله

الأول : لا اشكال في عدم جريان هذا النزاع في موارد القطع بالامر مع انكشاف الخلاف بعده ، ووجهه واضح ، من جهة أنه حينئذ لا امر شرعي في البين حتى يجرى فيه النزاع المزبور ، بل وانما هو امر زعمي تخيلي من المكلف ومعه كان الامر الواقعي باقيا على حاله بلا موافقة فيجب الإعادة حينئذ إطاعة للامر الواقعي. نعم لو كان القطع مأخوذا شرعا بنحو الموضوعية كما في ذوي الأعذار بناء على جواز البدار لهم بمجرد القطع ببقاء العذر إلى آخر الوقت يدخل في محل البحث فيجري فيه النزاع المزبور من حيث الاجزاء وعدمه بعد انكشاف الخلاف.

ص: 255

الثاني : ان انكشاف الخلاف قد يكون بالقطع وأخرى بأمارة ظنية معتبرة وعلى التقديرين : تارة يقطع أو ظن بالخطأ في اجتهاده الأول وأخرى يقطع أو يظن بخطأ الامارة عن الواقع لا في اجتهاده ، والأول كما لو قام عنده امارة على عدم وجوب السورة مثلا فبان بعد ذلك عدم جامعية الامارة المزبورة لشرائط الحجية ، والثاني كما لو قطع بخطأ الامارة عن الواقع أو ظن بذلك مع القطع في الحال بكونها واجدة لشرائط الحجية وبعد ذلك نقول :

اما في فرض كشف الخطأ في اجتهاده فسواء كان ذلك بالقطع أو بالظن المعتبر فلاينبغي الاشكال في أن لازمه هو عدم الاجزاء بل لا مجال لتوهمه خصوصا في فرض كشف الخلاف بالقطع ، من جهة كشفه حينئذ عن عدم امر ظاهري في البين ، لان الامارة الغير الجامعة لشرائط الحجية وجودها كعدمها ، فلابد حينئذ من الإعادة ، هو واضح.

واما في الصورة الثانية من فرض الكشف عن خطأ الامارة عن الواقع ، فان كان كشف الخلاف قطعيا فالاجزاء أو عدمه مبني على ما تقدم من حجية الامارة على الكشف والطريقية أو على نحو السببية والموضوعية ، واما ان كان كشف الخلاف أيضا ظنيا من جهة قيام أمارة ظنية أخرى على خلاف الامارة الأولى ففي هذا الفرض تارة يكون في البين ما يوجب ترجيح الامارة الثانية بحسب السند أو الدلالة من نحو موافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوهما من المرجحات ، وأخرى لايكون في البين ما يوجب ترجيحها عليها لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة بل كانتا متساويتين من تمام الجهات ، فعلى الأول حكمه حكم صورة انكشاف الخلاف بالقطع فيبتني على ما تقدم من الموضوعية أو الطريقية في الامارات ، وعلى الثاني ينتهي الامر إلى التخيير في الاخذ بين الخبرين ، فان اخذ بالامارة الأولى فلا اشكال ، وان اخذ بالامارة الثانية فلابد من إعادة الأعمال الواقعية على طبق الامارة الأولى على الطريقية كما هو المختار ، من جهة انه بالأخذ بالامارة الثانية يصير مدلولها حجة عليه وحيث إن مفادها عبارة عن وجوب السورة مثلايجب عليه إعادة ما صلى من الصلوات بدونها ، وهذا واضح. نعم على الموضوعية لايجب عليه الإعادة على التفصيل المتقدم سابقا.

الثالث : قد تبين مما قدمناه في الاجزاء في الامارات أنه لا تلازم بين القول بالاجزاء وبين القول بالتصويب الباطل وانه يمكن القول بالاجزاء فيها ولو على الموضوعية و

ص: 256

السببية من دون استلزامه للقول بالتصويب كما في الاجزاء بمناط المفوتية أو الوفاء بتمام الغرض ، ضرورة ان الاجزاء بأحد المناطين المزبورين غير ملازم للقول بالتصويب المحال ، فان التصويب الباطل انما هو الذي يدور التكليف معه مدار قيام الامارة أو الذي يوجب قيام الامارة انقلاب الواقع عما هو عليه حتى بمرتبة اقتضائه إلى التكليف بالمؤدى ، ومثل هذا المعنى كما عرفت غير ملازم مع القول بالاجزاء ، كما لايخفى.

هذا تمام الكلام في الأصول والامارات.

ص: 257

المبحث الرابع : في مقدمة الواجب
اشارة

قد وقع الكلام بين الاعلام في أن ايجاب الشيء يقتضي ايجاب مقدماته أم لا وذلك بعد الفراغ عن وجوبها عقلا بمناط اللابدية ، فمحل الكلام انما هو وجوبها شرعا بالوجوب الغيري نظراً إلى دعوى الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته ، واما وجوبها بالوجوب الشرعي النفسي فهو أيضا مما لو يتوهمه أحد كالوجوب الشرعي الطريقي وكيف كان فتحقيق المرام في المقام يحتاج إلى بيان أمور :

الامر الأول :

قد عرفت أن مورد الكلام في المقام بين الاعلام انما هو وجوب المقدمة بالوجوب الشرعي الغيري ، لا مطلق وجوبها ولو عقليا بمناط اللابدية ، ولا وجوبها الشرعي النفسي أو الطريقي ، من جهة ان الأول منها كما عرفت مورد اطباق الفريقين والأخيرين أيضا مورد اطباقهم بالعدم خصوصا الأخير منها وهو الطريقي باعتبار عدم تصور الوجوب الطريقي بالنسبة إلى المقدمة ، فمرجع هذا البحث في الحقيقة عندهم إلى البحث عن الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته. ومن ذلك أيضا لايختص هذا النزاع بخصوص مقدمة الواجب بل يجري في مقدمة الحرام والمكروه والمستحب كما هو واضح. كما أن الظاهر هو عدم اختصاص النزاع بخصوص المقدمات التبعية غير الواقعة تحت الخطاب المستقل كما لعله يظهر من بعضهم حسب جعلهم مورد النزاع الوجوب التبعي الغيري الشرعي بل يعم البحث هذه وما وقع منها مورد الامر في حيز خطاب مستقل كالوضوء والغسل ونحوهما

ص: 258

لان مجرد وقوعها تحت خطاب اصلى مستقل لايقتضي وجوبها شرعا بالوجوب الغيري لامكان كون الامر بها في تلك الخطابات ارشاديا إلى وجوبها العقلي بمناط اللابدية ، فتأمل.

الامر الثاني :

هل المسألة من المسائل الفرعية ، أو هي من المسائل الأصولية العقلية ، أو من المبادي الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشيء ، أو من المسائل الكلامية باعتبار رجوعها إلى البحث عن استحقاق المثوبة على الموافقة والعقوبة على المخالفة؟ فيه وجوه أبعدها الأخير من جهة وضوح أن المقدمة على القول بوجوبها ليست مما يترتب عليها المثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة فان المثوبة والعقوبة كانتا من تبعات موافقة الواجب النفسي ومخالفته لا من تبعات مطلق الواجب ولو غيريا ، وما يرى من استحقاق العقوبة عند ترك المقدمة فإنما هو من جهة تأدية تركها إلى ترك ذيها الذي هو الواجب النفسي لا من جهة انما مما يقتضي مخالفتها في نفسها مع قطع النظر عن ترتب ترك ذيها استحقاق العقوبة عليها ، كما لايخفى. ومعه لا مجال لعد المسألة من المسائل الكلامية ، وحينئذ يدور الامر بين كونها من المسائل الفرعية أو من المسائل الأصولية أو المبادي الاحكامية.

نعم قد يقال حينئذ بتعين كونها من المسائل الفرعية نظراً إلى ظاهر عنوان البحث وكون المقدمة أيضا فعلا من أفعال المكلف ، فيكون البحث عن وجوبها حينئذ كالبحث عن حكم سائر أفعال المكلف في كونه فرعيا محضا لا أصوليا ، وعليه فكان ذكرها في المقام حينئذ لمحض الاستطراد.

ولكن فيه أن عنوان البحث وان كان هو البحث عن وجوب المقدمة وعدم وجوبها ولكن المهم المبحوث عنه كما عرفت لما كان ثبوت الملازمة بين حكم شيء بواحد من الأحكام الأربعة وبين حكم مقدماته بلا نظر إلى خصوص الوجوب ، فلا جرم لا تكون من المسائل الفرعية غير المناسبة لتعرض الأصولي إياها في الأصول ، بل عليه تكون المسألة أصولية محضة ، إذ البحث عن الملازمة حينئذ كالبحث عن سائر الأحكام العقلية غير المستقلة فلا ترتبط حينئذ بالمسألة الفرعية.

ومع الغض عن ذلك والاخذ بظاهر عنوان البحث نقول بعدم ارتباطها أيضا بالمسألة الفرعية لان الملاك في المسألة الفرعية ، على ما يقتضيه الاستقراء في مواردها انما هو

ص: 259

وحدة الملاك والحكم والموضوع ، فكان المحمول فيها دائما حكما شخصيا متعلقا بموضوع وحداني بملاك خاص كما في مثل الصلاة واجبة في قبال الصوم واجب والحج واجب ، ومثل هذا الملاك غير موجود في المقام فلايكون تعلق الوجوب بعنوان المقدمة من باب تعلق شخص حكم بموضوع وحداني بمناط وحداني خاص ، بل بعد أن كان عنوان المقدمية من الجهات التعليلية لا التقييدية لا جرم الحكم المحمول على العنوان المزبور يكون حاكيا عن وجوبات متعددة مختلفة شدة وضعفا بموضوعات عديدة بملاكات متعددة ، فكان حال المقدمة حينئذ بعد كون وجوبها بمناط دخلها في ذيها حال كل واجب يترشح إليه الوجوب من جهة دخله في ترتب المصلحة الخاصة عليه ، فيختلف الوجوب فيها حينئذ حقيقة وملاكا باختلاف ما يترتب على المقدمات نظير اختلاف الوجوبات باختلاف المصالح المترتبة عليها ، وعليه فلايكون هذا العنوان في المقام حاكيا عن محمول واحد متعلق بموضوع واحد بملاك واحد كما في الصلاة واجبة ، والصوم واجب بل هو يكون حاكيا ومرآة موضوعا ومحمولا عن موضوعات متعددة محكومة بأحكام متعددة بمناطات مختلفة ، ومن المعلوم حينئذ أنه لايكون في البين حينئذ جهة وحدة في البحث المزبور الا حيثية الملازمة التي عرفت كونها محط النظر والبحث ، وعليه لايكاد ارتباطها بالمسألة الفرعية بوجه أصلا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا من عدم اختصاص مورد البحث بخصوص مقدمة الواجب بل عمومه في مقدمات الحرام والمكروه والمستحب أيضا مع مالها من الاختلاف بحسب المراتب والمناط ، فكان المقام من هذه الجهة من قبيل البحث عن أن فعل المكلف هل يكون محكوما بالأحكام الخمسة أم لا ومعلوم حينئذ عدم ارتباطها بالمسألة الفرعية ، كما هو واضح.

على أنه ينطبق عليه أيضا ميزان المسألة الأصولية ، فان ميزان كون المسألة أصولية كما أفادوه هو ما يكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الحكم الفرعي على معنى وقوع نتيجتها كبرى في القياس لصغرى يقيد الحكم الفرعي ، ومثل هذا الميزان ينطبق على المسألة كما في قولك : ( هذه مقدمة الواجب وكل مقدمة الواجب واجبة فهذه واجبة ) كما ينطبق في فرض جعل النزاع في ثبوت الملازمة ، غايته انه على ذلك يحتاج إلى تشكيل قياسين في انتاج الحكم الفرعي ، بخلافه على ظاهر عنوان البحث ، فإنه لايحتاج الا إلى تشكيل قياس واحد. واما توهم انتقاضه بمثل الشرط المخالف للكتاب والسنة لوقوع نتيجتها أيضا كبرى

ص: 260

في القياس في قولك : ( هذا شرط مخالف للكتاب وكل ما هو كذلك فاسد فهذا فاسد ) مع وضوح كونها من أجلي المسائل الفرعية ، فيدفعه شخصية الحكم المحمول فيها ، بخلاف الحكم المحمول في المقام على عنوان المقدمية ، ومعه لا وجه لجعل المسألة من المسائل الفرعية غير المناسبة لتعرض الأصولي إياه في الأصول لمحض الاستطراد.

ثم إن ذلك كله بناء على الاخذ بظاهر عنوان البحث وهو وجوب المقدمة ، والا فبناء على الاخذ بما هو المهم في المقام من ثبوت الملازمة وعدمها فعدم ارتباطها بالمسألة الفرعية أوضح.

وعلى ذلك فهل هي من المسائل العقلية كالبحث عن غيرها من الملازمات أم هي من المبادئ الاحكامية باعتبار كونها بحثا عن لوازم وجوب الشيء وانه هل من لوازم وجوب الشيء وجوب مقدماته أم لا كالبحث عن أن من لوازم الشيء حرمة ضده ، فيه وجهان : حيث تناسب المسألة كلا منهما ، فإنه بعد فراغ من دلالة الصيغة على الوجوب كما يناسب البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته كذلك يناسب البحث عن لوازم وجوب الشيء وان كان الأنسب هو الأول ، وعليه تكون المسألة من المسائل العقلية الأصولية حيث كانت من الاحكام العقلية غير الاستقلالية وكان ذكرها في المقام للمناسبة المزبورة لا انها كانت لفظية كما ربما يظهر من بعض كصاحب المعالم قدس سره حسب استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات ، اللّهم الا ان يقال في وجه ذلك : بأنه من جهة كشف الدلالة عن ثبوت الملازمة وعدم الدلالة عن عدم ثبوتها ، بتقريب أنه على فرض الثبوت لا محالة يكون اللفظ دالا عليها بنحو الالتزام فكان البحث حينئذ في دلالة الصيغة على الوجوب وهو بهذا الاعتبار عين البحث عن ثبوت الملازمة بين الإرادتين. ولايخفى أنه على ذلك لايتوجه عليه اشكال الكفاية : بأنه إذا كان نفس الملازمة ثبوتا محل الاشكال لا مجال لتحرير النزاع في مرحلة الكشف والاثبات ومقام الدلالة بإحدى الدلالات ، لان مقام الدلالة فرع ثبوت أصل المعنى. إذ نقول : بان ما أفيد من عدم المجال لا يراد البحث في مقام الدلالة مع الاشكال في أصل ثبوت المعنى انما يتم بالنسبة إلى المدلول المطابقي الذي يمكن فيه تخلف الدلالة واما بالنسبة إلى المدلول الالتزامي فحيث انه لا ينفك ثبوت الملازمة عن دلالة اللفظ عليها بنحو الالتزام فلا يتم هذا الاشكال ، إذ عليه يكون البحث عن دلالة الصيغة عين البحث عين ثبوت الملازمة و

ص: 261

يستكشف بنحو الان من دلالة الصيغة عن ثبوت الملازمة ومن عدم دلالتها عن عدم ثبوت الملازمة بين المعنيين. نعم يرد عليه حينئذ أن مجرد ثبوت الملازمة بين معنيين ما لم يكن اللزوم بنحو البين بالمعنى الأخص لايرتبط بمقام الدلالة اللفظية حتى تكون المسألة لفظية وداخلة في مباحث الألفاظ ، وعليه ينحصر الامر في المسألة في كونها عقلية محضة وكان ذكرها في مباحث الألفاظ للمناسبة المزبورة ، فتأمل.

الأمر الثالث :
اشارة

انهم قسموا المقدمة إلى تقسيمات :

منها تقسيمها بالداخلية والخارجية

وذكروا ان الداخلية هي الأمور المأخوذة في ماهية المأمور به وحقيقته المعبر عنها بالاجزاء ، واما الخارجية فهي الأمور الدخيلة في تحقق المأمور به الخارجة عن حقيقته وماهيته ، كما في السبب والشرط والمانع والمعد ، على ما يأتي تفصيلها إن شاء اللّه تعالى. فنقول : اما المقدمات الخارجية فسيأتي الكلام فيها في كونها مورد البحث اثباتا ونفيا. اما المقدمات الداخلية فلا اشكال في وجوبها بالوجوب النفسي الضمني ، وانما الكلام في وجوبها بالوجوب الغيري ، ومنشأه انما هو الاشكال في أصل مقدمية الاجزاء وتحقق ملاك المقدمية فيها ، وغاية ما قيل أو يمكن ان يقال في وجه مقدمية اجزاء المركب دعوى ان المقدمة هي نفس ذوات الافعال بلا شرط وذا المقدمة هو الكل الذي عبارة عن ذوات الافعال بشرط الاجتماع بنحو كان للهيئة الاجتماعية أيضا دخل فيه ، نظير الهيئة السريرية الحاصلة من اتصال الأخشاب بعضها ببعض ، فان من المعلوم حينئذ ان تلك الذوات بملاحظة معروضيتها للهيئة متقدمة على الكل طبعا ، فتحقق فيها ملاك المقدمية ، هذا.

ولكن التحقيق خلافه وانه لا مجال لاعتبار المقدمية في اجزاء المركب من جهة وضوح ان الملاك في مقدمية شيء لشيء انما هو كون الشيء مما يتوقف عليه وجود الشيء وفى رتبة سابقة عليه ، إذ لايكاد انتزاع هذا العنوان الا عما تقدم على الشيء رتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء كما في قولك : ( وجد فوجد ) وقضية ذلك لا محالة هي المغايرة والاثنينية في

ص: 262

الوجود بين المقدمة وذيها ، والكاشف عن ذلك كان هو الفاء المزبور في قولك : وجد فوجد ومن المعلوم حينئذ انتفاء مثل هذا الملاك بالنسبة إلى اجزاء المركب نظراً إلى أن المركب لايكون في الحقيقة الا نفس الاجزاء بالأسر وفي ذلك لايكون بينها وبين الاجزاء المغايرة والا ثنينية بحسب الهوية أو الوجود بوجه أصلا ، ومن هذه الجهة أيضا نقول بعدم المجال لاعتبار المقدمية بين الطبيعي وافراده كما توهم ، لان الطبيعي بعد اتحاده مع فرده خارجا لا مغايرة ولا اثنينية بينهما حتى يجيء فيه ملاك المقدمية وصح تخلل الفاء الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما ، كما هو واضح.

نعم لا يعتبر في صحة تخلل الفاء المزبور لزوم المؤثرية والمتأثرية بين الوجودين كما بين العلة والمعلول ، بل يجري ذلك في مثل العارض والمعروض أيضا كما في الصورة السريرية العارضة على الأخشاب المتعددة المتصل بعضها ببعض بالكيفية الخاصة ، ولكن ذلك أيضا غير مرتبط بعنوان الاجتماع والانضمام في المركبات الاعتبارية من جهة ان عنوان الاجتماع وكذا الترتب والانضمام انما كان انتزاعها في المركبات الشرعية عن جهة وحدة الامر المتعلق بالمتكثرات الخارجية كما أن عنوان الانفراد والاستقلال أيضا كان انتزاعهما عن تعدد الامر المتعلق بالمتكثرات ، حيث إنه من تعلق تكليف واحد بعدة أمور يطرء عليها وحدة اعتبارية ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والتركب والانضمام فيقال بأنها مجتمعات تحت وجوب واحد ، ومن تعلق تكاليف متعددة بها ينتزع عنها عنوان الانفراد والاستقلال في مقام عروض الوجوب فيقال بأنها واجبات متعددة مستقلة وان فرض كونها في الخارج متلازمات الوجود لملازمتها مع هيئة خارجية كما في اجزاء السرير وبهذه الجهة أيضا يمتاز العمومات المجموعية والاستغراقية حيث إن تمام الميز بينهما انما هو في وحدة الإرادة القائمة بالمجموع وتعددها ، كما هو واضح.

وعلى ذلك فبعد ما لايمكن اخذ مثل هذه الوحدة الاعتبارية الطارية على المتكثرات الخارجية من قبل وحدة التكليف والوجوب في متعلق هذا التكليف وموضوعه ، فلا جرم في رتبة تعلق الوجوب لايبقى الا الذوات المتكثرة الخارجة ولايكون متعلق الوجوب ومعروضة الا نفس الذوات المتكثرة ، ومعه لايبقى مجال لاعتبار الكلية والجزئية للواجب إذ لايكون في هذه المرحلة امر وحداني تعلق به الوجوب حتى ينتهى الامر إلى مقدمية الاجزاء بوجه أصلا ، ولئن شئت فاستوضح ذلك بذوات أمور متعددة في الخارج حيث

ص: 263

ترى انها مما لا اقتضاء في ذاتها للتركب والانضمام لولا طر وجهة وحدة عليها من وحدة اللحاظ والمصلحة أو التكليف ، نظراً إلى قابليتها لكونها مستقلات في عالم اللحاظ والمصلحة والتكليف بصيرورة كل واحد منها معروضا للحاظ مستقل ومصلحة مستقلة وتكليف مستقل ، وقابليتها أيضا لكونها منضمات ومجتمعات في عالم اللحاظ والمصلحة والوجوب بتعلق لحاظ واحد ومصلحة واحدة وتكليف واحد بالجميع ، إذ حينئذ بتعلق اللحاظ الواحد أو المصلحة الواحدة والتكليف الواحد يطرء عليها جهة وحدة اعتبارية في تلك المرتبة المتأخرة ينتزع بها عنها عنوان الاجتماع والارتباط والانضمام ونحوها من العناوين ، كالكلية للمجموع والجزئية لكل واحد من الذوات ، فاعتبار الكلية انما هو بلحاظ ملاحظة اجتماع الذوات بأسرها تحت تكليف واحد ، واعتبار الجزئية بلحاظ ملاحظة كل واحد منها بشرط لا لكن في عالم العروض لا بحسب الخارج ، وعلى ذلك فدائما كان العنوانان المزبوران وهما الكلية والجزئية اعتبارين عرضيين منتزعين عن مرحلة تعلق الإرادة الواحدة بالأمور المتعددة المتكثرة بلا طولية بينهما أصلا.

ومن ذلك البيان يظهر الكلام في الذوات المعروضة للهيئة الخارجية كما في اجزاء السرير ، إذ نقول فيها أيضا بعدم كون مناط التركب في الواجبات واستقلاله على مثل هذه الهيئة الخارجية العارضة على ذوات الأخشاب المتعددة ، نظراً إلى إمكان كون كل واحدة من ذوات الأخشاب المزبورة حينئذ تحت مصلحة مستقلة وتكليف مستقل بنحو كان كل واحدة منها واجبة بوجوب نفسي مستقل في قبال الأخرى ، غايته كونها حينئذ متلازمات الوجود في الخارج ، كامكان كون الجميع حينئذ تحت مصلحة واحدة وتكليف واحد ، وربما ينتج ذلك في كيفية التقرب بالامر من جهة الضمنية والاستقلالية وفي وحدة العقوبة والمثوبة وتعددهما في صورة الموافقة والمخالفة ، فان ذلك حينئذ برهان تام على عدم كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على مثل هذه الوحدات الخارجية وان تمام المناط في التركب والاستقلال في الواجب على وحدة الوجوب المتعلق بالمتكثرات وتعدده وانه من تعلق وجوب واحد على المتكثرات ينتزع عنوان الكلية للمجموع والجزئية للآحاد وان فرض عدم اجتماعها في الخارج تحت هيئة خارجية ، كما أنه بتعلق وجوبات متعددة بها ينتزع عنها استقلال كل واحد منها في عالم الوجوب وان فرض كونها في الخارج مجتمعات تحت هيئة خارجية.

ص: 264

وحينئذ فبعد ان كان مناط التركب في الواجب واستقلاله على وحدة الامر وتعدده ولايمكن أيضا اخذ مثل تلك الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة الامر في موضوعه ومتعلقه فكان متعلق الامر عبارة عن ذوات المتفرقات الخارجية ، فلا جرم يبطل القول بمقدمية الاجزاء ، من جهة انه حينئذ لم يكن في البين امر وحداني تعلق به الوجوب والتكليف حتى يجيء توهم المقدمية للاجزاء ، إذ لايكون الواجب وما تعلق به الوجوب حينئذ الا الذوات المتعددة المتكثرة ولا كان في هذه المرحلة الكلية ولا الجزئية بوجه أصلا.

ثم إن هذا كله بناء على فرض خروج وصف الاجتماع عن الدخل في الملاك والمصلحة. واما بناء على مدخلية حيث وصف الاجتماع أيضا في المصلحة فقد يتوهم حينئذ تحقق مناط المقدمية في الاجزاء ، بتقريب : ان هذه الهيئة الاجتماعية حينئذ نظير الصورة السريرية الحاصلة من الأخشاب العديدة ، فتكون الذوات بملاحظة معروضيتها للهيئة الاجتماعية مقدمة عليها طبعا فتحقق فيها ملاك المقدمية. ولكنه مدفوع مضافا إلى ما ذكر من عدم كون مناط التركب على مثل هذه الهيئة الخارجية باعتبار امكان كون كل واحد من الذوات والهيئة واجبا بوجوب مستقل بان غاية ذلك انما هي مقدمية ذوات الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة هي جزء المركب لا بالنسبة إلى نفس المركب الذي فرضناه عبارة عن ذوات الاجزاء والهيئة الاجتماعية ، ففي هذا الفرض أيضا لايكون معروض الوجوب الا الأمور المتكثرة التي منها الهيئة الاجتماعية. وبالجملة نقول : بأنه اما ان يجعل الواجب في الفرض عبارة عن خصوص الهيئة الاجتماعية واما ان يجعل الواجب عبارة عن الذوات والهيئة الاجتماعية ، فعلى الأول وان كان يلزمه مقدمية الذوات للواجب من جهة كونها مما يتوقف عليها الهيئة الاجتماعية كما في ذوات الأخشاب بالنسبة إلى الصورة السريرية ، ولكنه حينئذ خارج عن مفروض البحث ، من جهة صيرورة الذوات حينئذ من المقدمات الخارجية لا الداخلية ، وعلى الثاني يكون الواجب عبارة عن الأمور المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة إذ حينئذ وان يطرأ من قبل الهيئة المزبورة وحدة اعتبارية على الذوات المزبورة ، ولكنه بعد أن كان معروض الوجوب عبارة عن منشأ هذا الاعتبار وهو الذوات المزبورة والهيئة الخارجية العارضة عليها لكونها هي التي تقوم بها المصلحة دون هذا الامر الاعتباري ، فلا جرم يكون معروض الوجوب

ص: 265

عبارة عن المتكثرات الخارجية لا انه عبارة عن امر وحداني مركب حتى ينتهى الامر إلى مقدمية الاجزاء للواجب المركب ، فينتهى الامر إلى البحث عن كونها واجبة بالوجوب الغيري للكل والمركب. نعم على هذا الفرض يتصور لذوات الاجزاء مناط المقدمية ولكنه لا بالنسبة إلى المركب كما هو مفروض البحث بل بالنسبة إلى الهيئة التي هي جزء الواجب ، وبالنسبة إليها أيضا تكون الاجزاء من المقدمات الخارجية لا الداخلية كما هو مفروض البحث.

وحينئذ فبمقتضى ما ذكرنا صح لنا بقول مطلق نفى المقدمة في اجزاء المركب الارتباطي سواء على فرض مدخلية الهيئة الخارجية في الغرض والمصلحة أو عدم مدخليتها نظراً إلى ما ذكرنا من كون مناط التركب والاستقلال في الواجب على وحدة الوجوب المتعلق بالمتكثرات وتعدده وخلو معروض الوجوب عن مثل تلك الوحدات الاعتبارية المصلحة لاعتبار الكلية والجزئية والتركب والانضمام وكونه عبارة عن ذوات المتكثرات الخارجية ، إذ حينئذ لايكون في رتبة سابقة عن تعلق الوجوب والتكليف جهة وحدة تقتضي تعلق الوجوب بأمر وحداني مركب بما هو مركب بوجه أصلا ، لما عرفت من أن هذه الجهة من الوحدة المصححة لاعتبار التركب والانضمام والكلية والجزئية للواجب انما هي ناشئة من قبل وحدة التكليف المتعلق بالأمور المتكثرة وهي مضافا إلى اعتباريتها من جهة معلوليتها للتكليف وتأخرها الرتبي عنه من الممتنع اخذها في موضوع التكليف ومتعلقه.

لايقال : بان ذلك كذلك بالنسبة إلى الوحدة الطارية من قبل الوجوب والتكليف ، واما بالنسبة إلى الوحدة الناشئة من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة فلا بأس بأخذها في موضوع التكليف ومتعلقه ، وحينئذ فأمكن اعتبار التركب في الواجب بهذا الاعتبار.

فإنه يقال : نعم وان أمكن ذلك ولا يلزم منه المحذور المتقدم من اخذ الشيء المتأخر عن الشيء في رتبة سابقة عليه ، ولكن من الواضح حينئذ ان ما تعلق به الوجوب لايكون الا عبارة عن ما تقوم به المصلحة واللحاظ وهو لايكون الا الذوات المتكثرة الخارجية لكونها هي المؤثرة في الغرض والمصلحة دون العنوان الطاري عليها من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة ، فلابد حينئذ من الغاء هذه الوحدات طرا وتجريد المتعلق منها حتى الوحدة الاعتبارية الناشئة من قبل وحدة المصلحة واللحاظ بجعله عبارة عن الذوات المتكثرة

ص: 266

الخارجية التي تعلق بها اللحاظ والمصلحة ، ولازمه لا محالة حينئذ هو بطلان القول بمقدمية الاجزاء ، لعدم امر وحداني حينئذ في البين تعلق به الوجوب وعدم كون هذا الموطن موطن اعتبار الكلية والجزئية للواجب لما تقدم من كونهما اعتبارين عرضيين منتزعين عن مرحلة تعلق إرادة واحدة بالأمور المتكثرة الخارجية باعتبار اللحاظ بشرط لا تارة وبشرط شيء أخرى ، أي لحاظ كل جزء تارة في حيال نفسه وفي قبال الغير بنحو لو انضم إليه شيء كان خارجا عنه في عالم عروض الوجوب من جهة قصر اللحاظ عليه فقط ، ولحاظه بشرط شيء أخرى أي لحاظه منضما مع غيره ، والا ففي رتبة قبل الامر والوجوب لا كلية ولا جزئية ولا تركب ولا انضمام في البين بوجه أصلا.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مجرد اعتبار الكلية والجزئية في موطن بعد الامر لايكون أيضا مصححا لمقدمية الاجزاء للمركب بعد فرض عينية المركب والاجزاء ، من جهة ان المقدمية كما عرفت تقتضي الاثنينية والمغايرة مع ذيها في الوجود والطولية بينهما بحسب المرتبة بنحو يصح تخلل الفاء بينهما وتلك المغايرة الاعتبارية بينهما باعتبار اللحاظ لا بشرط وبشرط لا لاتقتضي المغايرة والطولية بينهما ، كما لايخفى.

وعليه فاصل هذا التقسيم أي تقسيم المقدمية بالداخلية والخارجية مما لا مجال له بوجه من الوجوه. نعم انما يتصور المقدمية بالنسبة إلى الاجزاء في المركبات الحقيقية العقلية التي لها وجود مستقل وصورة مستقلة غير صور الاجزاء كالأجسام الملتئمة من العناصر الخاصة ، فإنها باعتبار انقلاب الاجزاء فيها عما لها من الصور العنصري الخاص إلى الصور الجسمية أو النباتية وصيرورتها مواد لها أمكن دعوى مقدمية الاجزاء المادية للمركب باعتبار تقدمها عليه وكونها من علل قوامه ، واما بالنسبة إلى المركبات الارتباطية الجعلية فلا مجال لهذا الكلام حتى فيما كان منها تحت هيئة خارجية كالأخشاب العديدة المعروضة للهيئة السريرية حتى مع كون الهيئة أيضا مما لا لها الدخل في الغرض والمصلحة ، كما في الصلاة حسب ما يستفاد من أدلة القواطع ، حيث يستفاد منها ان للصلاة هيئة إتصالية وانها أيضا مما لها الدخل في غرض النهى عن الفحشاء ، فإنه في هذا النحو من المركبات التي لايكون لها وجود وحداني حقيقي في الخارج لايكاد يكون معروض الوجوب فيها الا الذوات المتكثرة الخارجية التي منها الهيئة العارضة عليها ، ومعه كيف يمكن اتصاف ذوات الاجزاء فيها بالمقدمية للمركب ، ولعمري

ص: 267

ان تمام المنشأ في مصير من صار إلى مقدمية الاجزاء انما هو من جهة الخلط بين المركبات الحقيقية العقلية التي انقلب فيها الاجزاء حال تركبها عما لها من الصور الخاصة إلى صورة أخرى ثالثة وبين هذا النحو من المركبات الاعتبارية الجعلية ومقايسة إحديهما بالأخرى ، ولكنك بعد ما أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف وضوح الفرق بينهما وعدم صحة مقايسة أحدهما بالآخر.

ثم انه لو بنينا على تحقق مناط المقدمية في اجزاء المركب اما مطلقا أو في خصوص ما كان منها تحت هيئة خارجية مع كون الهيئة أيضا مما لها الدخل في الغرض والمصلحة حيث قلنا في تلك الصورة بتحقق مناط المقدمية في الاجزاء بالنسبة إلى الهيئة العارضة عليها ، نقول بامتناع اتصافها بالوجوب الغيري بعد فرض ثبوت الوجوب النفسي الضمني لها نظراً إلى محذور اجتماع المثلين في موضوع واحد الذي هو من المستحيل. واما توهم تأكد الوجوب فيها حينئذ واشتداده فمدفوع بامتناع ذلك مع طولية الحكمين ، كما أن توهم اجداء مثل هذه الطولية حينئذ في رفع المحذور المزبور مدفوع بان الطولية الموجبة لرفع محذور اجتماع المثلين أو الضدين انما هي الطولية في ناحية الموضوع كما في موارد الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، حيث كان متعلق أحد الحكمين عبارة عن ذات الشيء ومتعلق الاخر هي الذات في الرتبة المتأخرة عن الشك بحكمه ، واما في فرض وحدة الموضوع وعدم تعدد الرتبة فيه فلايكاد يفيد مجرد الطولية بين الحكمين في رفع محذور اجتماع الحكمين المتضادين أو المثلين ، لان العقل كما يأبى عن ورود حكمين عرضيين على موضوع وحداني كذلك يأبى عن ورود الحكمين الطوليين أيضا كما هو واضح فتأمل.

لايقال : بأنه انما يتوجه المحذور المزبور بناء على تعلق الاحكام بالخارج اما بدوا أو بتوسيط العناوين والصور ، واما بناء على تعلقها بالعناوين والصور الذهنية ولو بالنظر الذي ترى خارجية بلا سرايتها منها إلى الخارج ، فلا جرم يرتفع المحذور المزبور ، من جهة تغاير المتعلقين حينئذ ، لان لحاظ الجزء منفردا لا في ضمن الغير ولحاظه في ظرف الانضمام بالجزء الآخر صورتان متغايرتان في الذهن غير صادقة إحداهما على الأخرى ، ومعه فلا بأس بتعلق الوجوب النفسي بإحدى الصورتين والوجوب الغيري بالأخرى.

فإنه يقال : نعم وان كان المتعلق في الاحكام والإرادات هي العناوين والصور الذهنية فأمكن تعلق الحكمين بالعنوانين المتغايرين ولو مع اتحادهما بحسب المعنون

ص: 268

الخارجي ، ولكن نقول : بأنه انما يجدي ذلك في رفع محذور اجتماع المثلين في ظرف اختلاف العنوانين بحسب المحكى والمنشأ أيضا بنحو كان كل عنوان حاكيا عن منشأ غير ما يحكى عنه الاخر لا في مثل المقام الذي كان المحكى فيها واحدا بحسب المنشأ أيضا. نعم لو كان المراد من اعتبار الاجزاء بشرط لا اعتبارها بشرط لا عن الانضمام في الخارج لكان لما أفيد كمال مجال من جهة اختلاف العنوانين حينئذ بحسب المحكى والمنشأ ، ولكن الالتزام بذلك مشكل جدا ، من جهة رجوعه حينئذ إلى وجوب المقدمة بشرط عدم الايصال إلى ذيها ، لان اعتبارها بشرط لا عن الانضمام في الخارج عبارة عن اعتبارها بشرط عدم الايصال وهو كما ترى لايمكن الالتزام به ، والا فبناء على إرادة اعتبارها بشرط لا في عالم عروض الوجوب ، فلا جرم يلزمه اتحاد العنوانين بحسب المحكى والمنشأ علاوة عن اتحادهما بحسب المعنون الخارجي ، وعليه يلزمه في صورة الانضمام في الخارج اجتماع الوجوبين في نفس تلك الأجزاء باعتبارين وهو كما ترى من المستحيل وانه لا يجدي في دفع المحذور مجرد تلك المغايرة الاعتبارية ، كما هو واضح.

وحينئذ فعلى كل تقدير الاجزاء المعبر عنها بالمقدمات الداخلية تكون خارجة عن محل النزاع اما لعدم ملاك المقدمية فيها كما هو التحقيق أو لامتناع اتصافها بالوجوب الغيري بعد وجوبها بالوجوب النفسي.

ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في باب الأقل والأكثر الارتباطيين من جهة مرجعية البراءة أو الاشتغال ، فإنه على القول بالوجوب الغيري للاجزاء ربما يتعين الامر في تلك المسألة في المصير إلى الاشتغال نظراً إلى وجود العلم الاجمالي بالتكليف وعدم صلاحية العلم التفصيلي بمطلق وجوب الأقل أعم من الغيري والنفسي ، للانحلال ، لمكان تولده من العلم الاجمالي السابق عليه وتحقق التنجز في الرتبة السابقة. واما على القول بعدم وجوب الاجزاء بالوجوب الغيري اما من جهة انتفاء ملاك المقدمية فيها أو من جهة محذور اجتماع المثلين فأمكن القول بمرجعية البراءة في تلك المسألة نظراً إلى رجوع الامر حينئذ إلى علم تفصيلي بتعلق إرادة الشارع بذات الأقل ولولا بحده وهو الخمسة مثلا والشك البدوي في تعلقها بالزائد ، واما العلم الاجمالي فإنما هو متعلق بحد التكليف وانه الأقل أو الأكثر كالخط الذي تردد حده بين الذراع أو الذراعين ، ومثل هذا العلم لا اثر له في التنجز لان المؤثر منه انما هو العلم الاجمالي بذات التكيف لا بحده ، وتنقيح الكلام بأزيد من

ص: 269

ذلك موكول إلى محله ، فالمقصود في المقام مجرد الإشارة إلى ثمرة البحث.

ومن التقسيمات تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية

فالعقلية هي التي يتوقف عليها الشيء عقلا بنحو يستحيل تحققه بدونها. واما الشرعية فهي التي يتوقف عليها وجود الشيء شرعا لا عقلا كالطهارة للصلاة. والعادية هي التي يتوقف عليها وجود الشيء عادة وان لم يتوقف عليها عقلا ولا شرعا ، كتحصيل العلم في الأزمنة المتمادية للبلوغ إلى مرتبة الاجتهاد ونصب السلم للصعود على السطح. نعم في الكفاية أورد على التقسيم المزبور وادعى برجوع الجميع إلى العقلية ، بتقريب : انه بعد اعتبار الشارع شرطية شيء لشيء كالطهارة للصلاة أو بعد اقتضاء العادة توقف شيء على شيء ، لا محالة يصير التوقف عقليا ، من جهة استقلال العقل بعد توسيط الشارع أو قضاء العادة باستحالة تحقق المشروط بدون شرطه واستحالة الصعود على السطح لغير الطائر بدون نصب السلم مثلا هذا. ولكن نقول : بأنه بعد توسيط جعل الشارع واعتباره أو قضاء العادة وان كان الامر كما ذكر من صيرورة التوقف عقليا ، الا ان هذا المقدار لايقتضي رجوع الشرعية والعادية إلى العقلية ، من جهة ان حكم العقل بالتوقف حكم وارد على المقدمة فارغا عن الإناطة التي هي مناط مقدمية الشئ.

وحينئذ نقول : بان محط النظر في هذا التقسيم انما هو في أصل تلك الإناطة من كونها تارة ذاتية محضة بلا توسيط شيء من جعل شرعي أو قضاء عادى وأخرى شرعية محتاجة إلى اعتبار الشارع إياها كالصلاة في ظرف الطهارة فان الإناطة بين الصلاة والطهارة حينئذ لم تكن ذاتية وانما هي من جهة توسيط جعل الشارع إياها من جهة انه لولا جعل الشارع لم يكن إناطة بين الطهور والصلاة بل كان العقل يجوز تحقق الصلاة بدون الطهارة ، ومجرد دخلها في المصلحة أيضا لايقتضي إناطة الصلاة بها قهرا لامكان ان لا يعتبرها الشارع فيها في مقام الامر بها ولو من جهة مصلحة أخرى كمصلحة التسهيل على المكلفين. وهكذا الامر في العاديات فإنه لولا قضاء العادة لما كان إناطة بنظر العقل بينهما بوجه أصلا لتجويزه تحقق ذيها بدونها كما في علوم المعصومين علیهم السلام حيث

ص: 270

انها كانت حاصلة لهم من غير اشتغالهم بتحصيل العلم في مرور الزمان. نعم بعد تحقق الإناطة بتوسيط جعل الشارع أو بتوسيط قضاء العادة يكون التوقف عقليا ، لكن عرفت عدم كون محط النظر من التقسيم المزبور على ذلك وانما محطه في أصل الإناطة بين الوجود ، وعليه فالتقسيم المزبور يكون في محله ، كما هو واضح.

ومن التقسيمات تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة العلم

فالأولى هي ما يتوقف عليه وجود الشئ. والثانية ما يتوقف عليه صحة الشيء بنحو يستحيل اتصاف الذات بها بدونها. والثالثة ما يتوقف عليه العلم بالشيء كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة. ولكن الظاهر عدم كون مقدمة الصحة قسما برأسه لكونها اما راجعة إلى مقدمة الوجوب أو إلى مقدمة الواجب ، من جهة ان دخل الشيء اما ان يكون في اتصاف الذات بالوصف العنواني واما ان يكون دخله في وجود المتصف فارغا عن أصل الاتصاف فعلى الأول يرجع إلى مقدمة الوجوب وسيأتي إن شاء اللّه تعالى خروجها عن حريم النزاع وعلى الثاني يرجع إلى مقدمة الواجب. واما مقدمة العلم فقد يقال بخروجها أيضا عن حريم النزاع ، لأنه ليس لنا مورد يكون تحصيل العلم واجبا شرعا حتى ينازع في وجوب مقدماته ، وهو كذلك في غير المعارف الاعتقادية المطلوب فيها المعرفة نفسيا كالعلم بوجود الصانع وصفاته الثبوتية والسلبية ومعرفة النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة علیهم السلام وعقد القلب والانقياد لهم ، واما في الأحكام الشرعية فالامر كما ذكر من خروج مقدمات العلم عن حريم النزاع بناء على التحقيق من عدم وجوب قصد الوجه والتميز شرعا في الواجبات ، إذ حينئذ لايكون لنا مورد في الأحكام الشرعية كان العلم واجبا شرعا حتى ينازع في وجوب مقدماته.

وذلك اما في مقام فراغ الذمة عند العلم الاجمالي بالتكليف فواضح ، لان وجوبه حينئذ لايكون الا عقليا محضا ارشادا منه إلى عدم الوقوع في محذور مخالفة التكليف الثابت المنجز بمقتضى العلم الاجمالي.

ص: 271

واما وجوب الفحص في الشبهات البدوية الحكمية فكذلك أيضا ، فان وجوبه أيضا لايكون الا عقليا محضا ، اما من جهة عدم تحقق موضوع حكمه بالقبح لاختصاصه بالشك المستقر غير الزائل بالفحص عن وجود التكليف ، أو من جهة منجزية احتمال التكليف للواقع على تقدير وجوده وعدم معذورية المكلف لولا الفحص في رجوعه إلى الأصول النافية ، بل حينئذ لو ورد من الشارع حكم فيه بالوجوب لايكون حكمه الا ارشادا محضا كما هو واضح.

ومن ذلك أيضا يظهر الحال فيما ورد من الامر بوجوب التعلم كقوله : ( هلا تعلمت ) فإنه أيضا لايكون الا ارشاديا محضا إلى ما يحكم به العقل من وجوب التعرض للأحكام الصادرة من الشارع والفحص عنها بالمقدار اللازم وعدم جواز الرجوع إلى البراءة والايتوجه الجواب عنه أيضا بأنه : ( ما علمت بوجوب التحصيل العلم بالأحكام الشرعية ) كما أجيب عن عدم العمل بالأحكام الشرعية ، فان انقطاع الجواب حينئذ كاشف عن أن وجوب تحصيل العلم من الارتكازات العقلية ، وعليه فلايكون الامر به الا ارشاديا محضا لا شرعيا مولويا.

وهكذا الكلام في بعض الشبهات الموضوعية الواجب فيها الفحص كما في باب الزكاة ومسألة الاختبار عند اشتباه الدم وتردده بين العذرة والحيض ، فان الفحص في الثاني انما هو من جهة العلم الاجمالي حينئذ بإحدى الوظيفتين : اما وجوب الصلاة والصوم عليها أو حرمتها وحرمة الدخول في المسجد ، إذ حينئذ يكون وجوب الفحص أيضا واجبا ارشاديا لا مولويا. واما الفحص في الأول فهو وان كان على خلاف القواعد الجارية في كلية الشبهات الموضوعية ، ولكن نقول بان الامر بالتسبيك حينئذ انما هو من جهة رفع احتمال التكليف نظراً إلى منجزية الاحتمال المزبور حينئذ للواقع وعدم معذورية المكلف حينئذ لولاه في الرجوع إلى الأصول النافية ، كما ذكرنا تحقيق الكلام في ذلك في شبهات البراءة عند التعرض لوجوب الفحص عن الاحكام في صحة الرجوع إلى البراءة ، وعليه أيضا لايكون وجوب الفحص الا ارشاديا محضا. وهكذا الكلام في الأوامر الواردة في الفحص عن الماء غلوة أو غلوتين في جواز التيمم ، فان ذلك أيضا لايكون الا ارشاديا محضا إلى حكم العقل باعتبار حكمه بمقتضي قاعدة الاشتغال بلزوم الفحص لرفع احتمال وجود الماء في الانتقال إلى التيمم.

ص: 272

وحينئذ فبعد ما لايكون في الشرعيات مورد يكون العلم واجبا شرعيا بالوجوب المولوي ، فلا جرم لايبقى مجال للنزاع في مقدمة العلم والبحث عن وجوبها شرعا. نعم لو بنينا على وجوب نية الوجه والتميز في الواجبات فباعتبار توقف الوجه والتميز على العلم بوجه المأمور به ربما يدخل مقدماته حينئذ في حريم النزاع ، ولكن بعد أن كان التحقيق هو عدم وجوبها شرعا فلا محالة يخرج مقدمات العلم بقول مطلق عن حريم النزاع ، كما لايخفى.

ومن التقسيمات : تقسيمها إلى المقتضى والشرط والمانع

وقد عرفوا المقتضى وهو السبب والعلة في لسان الحكم بما يلزم من وجوده الوجود دائما ذاتا ، والشرط بما يلزم من عدمه العدم ، والمانع بما يلزم من وجوده العدم. وهذا التعبير يقتضى اختلاف المقتضى مع الشرط والمانع في كيفية الدخل في وجود المعلول وتحققه وعدم كون الجميع على وزان واحد في ذلك وان مناط دخل كل غير ما هو المناط في الاخر ، والا لما كان وجه للعدول في الشرط والمانع عن التعريف المزبور للمقتضي وهو كك ، فان ملاك المقدمية في المقتضي عبارة عن حيثية المؤثرية ، إذ هو في الحقيقة عبارة عن معطى الوجود لأنه هو الذي يخرج المعلول من كمونه ويستند إليه وجوده ، كما في مثل النار والاحراق ، حيث يرى أن ما ينشأ ويتولد منه الاحراق انما هو النار خاصة. وهذا بخلافه في مثل الشرط والمانع ، فان دخلهما فيه لايكون على نحو دخل المقتضي في كونه بنحو المؤثرية والمتأثرية بل وانما كان بمناط آخر غير المؤثرية كما ستعرف ، كيف ولا اشكال بينهم في أن عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة حسب تفسيرهم إياها بالأمور الثلاثة : المقتضي والشرط وعدم المانع ، ويكشف عنه أيضا التزامهم بترشح الحرمة الغيرية نحو المانع في مثل الصلاة في غير المأكول وبنائهم على جريان ( كل شيء لك حلال ) في مشكوك المانعية عند الشك في كون اللباس من المأكول أو غيره ، بتقريب اقتضاء القاعدة حلية المشكوك ولو غيريا والترخيص في ايجاد الصلاة فيه.

مع أنه من المستحيل ان يكون دخل عدم المانع في تحقق المعلول بنحو المؤثرية كما في

ص: 273

المقتضى ، لضرورة انه لا سنخية بين الوجود والعدم ، فكيف يمكن دخل العدم المزبور في وجود المعلول بنحو المؤثرية فلا محيص حينئذ اما من اخراج عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة واما من الالتزام بوجه آخر في مناط مقدمية عدم المانع غير مناط المؤثرية ، بدعوى مدخلية في قابلية المعلول والأثر بلحاظ اضافته إليه لتحقق والانوجاد من قبل موجده ومؤثره ، والأول كما ترى خلاف ما أطبقوا عليه من كون عدم المانع من اجزاء العلة ومن مقدمات وجود المعلول ، فتعين الثاني بعد بطلان المؤثرية فيه.

واما توهم ان ذلك انما هو بالنسبة إلى العدم المطلق لا مطلقا حتى بالنسبة إلى العدم المضاف فان الثاني مما له شائبة من الوجود ومن ذلك يتميز أحدهما عن الآخر كعدم زيد في قبال عدم عمرو والا فلا ميز بين الاعدام فمدفوع بان مجرد إضافة العدم إلى المهية لايصير العدم المزبور وجودا كيف وان المضاف وهو العدم بنفسه نقيض الوجود واما المضاف إليه وهو المهية فايضا غير مقتض للوجود لان حيثيتها حيثية عدم الاقتضاء للوجود والعدم ، ولذا قيل : بان المهية من حيث هي ليس الا هي لا موجودة ولا معدومة ، وحينئذ لايبقى في البين الا نفس الإضافة التي هي من الأمور الاعتبارية وهي أيضا غير مقتضية للوجود. وبالجملة ان إضافة العدم إلى المهية ليس الا كإضافة ماهية إلى ماهية أخرى فكما ان إضافة ماهية إلى ماهية لاتقتضي وجودا كذلك في إضافة العدم إليها ، بل في إضافة المهية إلى المهية ربما يكون الامر أهون ، لكون الماهية بنفسها غير آبية عن الوجود بخلافه في العدم فإنه بنفسه نقيض الوجود وطارد له ، نعم الإضافة المزبورة كما ذكر موجبة لتميز الاعدام بعضها عن بعض كقولك : عدم زيد غير عدم عمرو ، ولكن مجرد ذلك لا يقتضى موجوديته ومؤثريته في الوجود ، كما هو واضح.

ومن ذلك وقعوا في حيص وبيص في وجه دخل عدم المانع ، فأفاد بعضهم ان مناط الدخل فيه انما هو من جهة منافاة وجوده مع تأثير المقتضي وحيلولته بينه وبين اثره ، كما في رطوبة الخشب المانعة عن تأثير النار في الاحراق الفعلي. ولكن فيه ما لايخفى ، إذ نقول بان مرجع ذلك إلى جعل المانع من اضداد تأثير المقتضى الذي هو الأثر المترتب عليه ، من جهة ان تأثير الشيء عبارة عن عين اثره كالايجاد والوجود وانما الفرق بينهما بالاعتبار بلحاظ اضافته إلى الفاعل تارة والى القابل أخرى ، ومثل هذا المعنى كما ترى مناف مع مقدمية العدم المزبور ، لان لازم مضادة وجوده مع تأثير المقتضى واثره هو صيرورة وجوده في

ص: 274

رتبة تأثير المقتضي الذي هو اثره ، ولازمه بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين هو صيرورة عدمه أيضا في تلك الرتبة وهو كما ترى مناف مع مقدمية العدم المزبور للأثر وكونه من اجزاء العلة التامة ، فلا بد حينئذ في حفظ المضادة المزبورة من اخراج عدم المانع عن المقدمات والا فمع حفظ المقدمية فيه يستحيل ان يكون وجه دخله بمناط المضادة والمنافاة المزبورة ، كما هو واضح.

واضعف من ذلك جعل مناط دخل عدم المانع جهة منافاة وجوده مع مناط المطلوب ومصلحته ، إذ نقول : بان مرجع ذلك أيضا إلى جعل وجود المانع من اضداد المصلحة المترتبة على المطلوب ، ولازمه بمقتضى انحفاظ الرتبة بين النقيضين ان يكون عدمه في رتبة لا حقة عن المطلوب ، وهو كما ترى من المستحيل اجتماعه مع فرض مقدمية عدم المانع للمطلوب لان مقتضى مقدمية العدم المزبور هو كونه في رتبة سابقة على المطلوب بنحو يتخلل بينهما الفاء المزبور ، فكيف يمكن حينئذ جعله من اضداد مصلحة المطلوب نعم لهذا الكلام مجال بناء على عدم مقدمية عدم المانع ، ولكن الالتزام بذلك أيضا كما عرفت مناف لما تسالموا عليه من مقدميته وكونه من اجزاء العلة التامة بل ولاستدلالهم بدليل الحلية في مشكوك المانعية في مسألة غير المأكول لا ثبات الحلية الغيرية والترخيص في ايجاد الصلاة فيه حتى من القائل المزبور.

وحينئذ نقول : بأنه بعد ما لايمكن ان يكون دخل عدم المانع في المطلوب بمناط المؤثرية والمتأثرية لاختصاص مثل هذا الدخل بخصوص السبب والمقتضى وعدم تصوره في الاعدام ، ولا بمناط المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مصلحته ، فلا محيص وأن يكون مناط الدخل فيه وكذا الشرائط بوجه آخر ، وليس ذلك الا دعوى دخله في قابلية المعلول والأثر للتحقق والانوجاد من قبل موجده ومؤثره على معنى دخله في تحدد الطبيعة بحد خاص يكون بذلك الحد قابلا للتحقق ، بحيث لولا ذلك الحد الخاص الناشي من إضافة الطبيعة إلى العدم المزبور ككون الشيء في ظرف عدم كذا لما كان قابلا للتحقق من قبل موجده ومقتضيه ، ومرجع هذا الدخل في الحقيقة إلى دخل طرف الإضافة في الإضافة ودخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، ومن المعلوم أيضا كفاية هذا المقدار من الدخل في مقدمية عدم المانع بنظر العقل للمطلوب وتقدمه الرتبي عليه وصحة تخلل الفاء بينهما في قولك : وجد المانع فعدم المطلوب ، وذلك لما تقدم سابقا بأنه لا

ص: 275

يحتاج في صحة تخلل الفاء المزبور بين الشيئين اعتبار المؤثرية والمتأثرية بينهما ، ولذلك يصح هذا التخلل فيما بين العارض والمعروض أيضا مع أنه لايكون بينهما اعتبار المؤثرية والمتأثرية ، بل وفيما بين عدم العلة وعدم المعلول في قولك : عدم العلة فعدم المعلول بل يكفي فيه مجرد التقدم الرتبي لاحد الامرين على الآخر ولو كان ذلك بمناط انحفاظ الرتبة بين النقيضين كما في العلة والمعلول ، فان وجود العلة لما كان في رتبة سابقة على وجود المعلول يكون عدمها أيضا بمقتضي انحفاظ الرتبة بين النقيضين في رتبة سابقة على عدمه فصح تخلل الفاء بينهما مع أنه لا تأثير بين الاعدام.

وحينئذ نقول في المقام أيضا : بان العدم المزبور من حيث وقوعه طرفا للإضافة ومنشئيته لتحدد الشيء بحد خاص ينال العقل جهة المقدمية منه ويرى كونه في رتبة سابقة على الحد المزبور بنحو يفصل الفاء المزبور بينهما الكاشف عن اختلاف الرتبة بينهما ، كما كان ذلك أيضا بالقياس إلى بعض الأمور الوجودية ككون الشيء مثلا في ظرف وجود كذا وفي مكان كذا فإنه قد يكون الشيء لايكون فيه القابلية للوجود والتحقق ولو مع وجود مقتضيه وتماميته في مرحلة اقتضائه الا إذا كان محدودا بحدود خاصة ناشئة تلك الحدود من اضافته إلى بعض الأمور الوجودية والعدمية ، واما دخل مثل هذا الحدود في القابلية المسطورة فهو لايكون إلا ذاتيا فلا يعلل بأنه لم وبم ، لان مرجع ذلك إلى أن ما هو القابل للتحقق من الأول هو الشيء المحدود.

ومن ذلك أيضا يندفع بعض الاشكالات المتوهمة بالنسبة إلى تأخر وجود الممكنات مع سعة فيض الباري عز اسمه وقدرته على كل شيء ، إذ نقول : بان عمدة الوجه فيه انما هو من جهة عدم قابليته للوجود والتحقق باعتبار مدخلية بعض الأمور في قابليته للوجود كمرور الزمان ونحوه.

ومن ذلك البيان أيضا ظهر وجه دخل الشرائط وانه لايكون دخلها الا كدخل عدم المانع في كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري الراجع إلى دخلها في قابلية الأثر للتحقق باعتبار كونها مما تقوم به الحدود الخاصة التي بها يكون الأثر قابلا للتحقق لا بدونها ، لا ان دخلها كان من قبيل دخل المقتضى بنحو المؤثرية والمتأثرية ، ولذلك أيضا لم يعرفوا الشرائط بما عرفوا به المقتضي بل عرفوه بما يلزم من عدمه العدم ، قبال المقتضى الذي يلزم من وجوده الوجود ولو لذاته

ص: 276

ثم انه لا يفرق فيما ذكرنا بين ان يكون الشرائط راجعة إلى مقام التأثير الفعلي وبين رجوعها إلى مقام أصل الاقتضاء ، فإنه على كل تقدير لا دخل لها الا في حدود الشيء غايته انه على الأول يرجع دخلها إلى قابلية الأثر والمقتضى ( بالفتح ) للتحقق ، وعلى الثاني يرجع دخلها إلى قابلية المقتضى في اقتضائه للتأثير باعتبار ان ما هو المؤثر من الأول هو الوجود المحدود بالحدود الخاصة ، واما دخل هذه الحدود في القابلية المزبورة في المقتضى فهو كما عرفت لايكون الا ذاتيا غير معلل بلم وبم.

وعلى ذلك فدخل الشرائط وكذا الموانع لايكون الا كونها طرفا للإضافة ومحدده للشيء بحدود خاصة ، وهذا المقدار من الدخل أيضا كما عرفت يكفي في نيل العقل جهة المقدمية منها وكونها في رتبة سابقة على المحدود كما هو واضح ، ولئن شئت فاستوضح ذلك بمثل الصلاة التي ورد انها قربان كل تقى وتنهى عن الفحشاء وما اعتبر الشارع فيها من القيود الوجودية والعدمية ككونها عن طهور وكونها إلى القبلة وفي حال الستر وكونها في ظرف عدم امر كذائي ، إذ لا اشكال حينئذ في أن ما يترتب عليه النهى عن الفحشاء والكمال والقرب ليس الا ذات الصلاة التي هي موضوع الامر في خطاب أقيموا الصلاة وان دخل تلك القيود المعتبرة فيها من الطهور والقبلة والستر وعدم التكتف ونحوها لايكون الا في حدود تلك الطبيعة الناشئة تلك الحدود من إضافة الصلاة إلى الأمور المزبورة ولو من جهة ان ما هو المؤثر في كمال العبد من الأول هي الطبيعة المحدودة بالحدودات الخاصة والذات الواجدة للتقيد بالأمور الخاصة لا مطلق الطبيعة ولو فاقدة عن التقيدات والإضافات المزبورة ، إذ حينئذ يكون مرجع تلك القيود المعتبرة فيها إلى تضيق في دائرة الطبيعة المزبورة واخراجها عما لها من الاطلاق ثبوتا في عالم مؤثريتها في القرب والكمال باعتبار تلك التقيدات الحاصلة للطبيعة من اضافتها إليها ، ومن ذلك تكون التقيدات والإضافات طرا داخلة في المطلوب ، والقيود نفسها خارجة عنه ومقدمة للمطلوب باعتبار كونها مما تقوم به تلك التقيدات والإضافات كما اشتهر بان التقيد جزء والقيد خارج ، من دون فرق فيما ذكرنا بين الشرائط والموانع ، من جهة انه لا نعنى بالمانع الا ما اعتبر عدمه قيدا للمطلوب حسب ما عرفت آنفا.

فعلى ذلك فجميع القيود من الشرائط والموانع سواء كانت راجعة إلى أصل اقتضاء الشيء أو إلى تأثيره الفعلي واثره يكون مناط دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في

ص: 277

الامر الاعتباري ودخل ما به الإضافة والتقيد في التقيد ، لا من باب المؤثرية والمتأثرية كما في المقتضى ، ولا من باب المنافاة والمزاحمة مع المطلوب أو مناطه.

نعم في العلل الخارجية قد يشتبه الامر بين الملازمات والشرائط وبين الأضداد والموانع كما لعله هو العمدة في ذهاب من ذهب إلى كون دخل عدم المانع من باب منافاة وجوده مع المطلوب ولكنه بعد التأمل فيما ذكرنا في العلل والمعلولات الشرعية كالصلاة وما اعتبر فيها من القيود الوجودية والعدمية بالنسبة إلى حيث القرب والنهى عن الفحشاء لا مجال لهذه التجشمات إذ حينئذ يقطع بان دخل الشرائط والموانع لايكون الا في الحدود والتقيدات وان ما هو المؤثر لايكون الا المقتضى خاصة ، غايته بما انه محدود بحدود خاصة ، ولكن لا يلزم من ذلك أي من اخذ التقيدات جزء تأثيرها في المعلول وفى الصلاح والفساد ، كي يشكل بأنها من جهة كونها أمورا اعتبارية غير صالحة للمؤثرية في الوجود فلابد وأن يكون المؤثر هو منشأ اعتبارها ، إذ حينئذ نقول : بان ما هو المؤثر والمعطى للوجود انما هو عبارة عن وجود المحدود ، فمن قبل وجوده ينشأ وجود الأثر ومن قبل حده ينشأ حد الأثر ، فتدبر.

وقد يقرب وجه دخل الشرائط بأنه اما متمم للفاعل في فاعليته أو متمم للقابل. ولكن نقول : بأنه على الأول من متمميته للفاعل ان أريد دخله في حدود الفاعل وفي أصل الاقتضاء والفاعلية ولو باعتبار انه لولا تلك الحدود الخاصة للشيء لايكون تاما في اقتضائه في التأثير فهو وان كان صحيحا ، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه في وجه دخل الشرائط ، فلايكون ذلك البيان تقريبا آخر في وجه دخل الشرائط. وان أريد من المتممية للفاعل دخلها في ترتب الأثر وبعبارة أخرى أريد من ذلك كونها من اجزاء المقتضى بحيث عند وجودها يترتب الأثر عليها وعلى المقتضى معا ، فعليه وان كان دخلها حينئذ بنحو المؤثرية الا انه يلزمه وقوعها في عرض المقتضي لا من مقدماته وفي رتبة سابقة عليه فيلزمه حينئذ نفى المقدمية عن مثل الطهور والستر والقبلة ونحوها بالنسبة إلى الصلاة التي هي مقتضيه للنهي عن الفحشاء ونفى الوجوب الغيري لها من جهة ان مقدمية الأمور المزبورة للصلاة تقتضي كونها في رتبة سابقة عن الصلاة ، وهو كما ترى مناف لما عليه عامة الأصحاب من مقدمية الأمور المزبورة للصلاة بل مناف أيضا لما يقتضيه لسان أدلة اعتبارها من نحو قوله علیه السلام : لا صلاة الا بطهور ، ولا صلاة الا إلى القبلة ونحو

ص: 278

ذلك ، فان مثل هذه الأدلة ينادى بان ما هو الواجب والمأمور به هو الصلاة المتقيدة بكونها عن طهور والى القبلة وفي حال الستر ونحو ذلك وان اعتبار الأمور المزبورة انما هو من جهة كونها مما تقوم به تلك التقيدات ، كما هو واضح.

واما على الثاني من متممية الشرائط للقابل ، فنقول أيضا : بأنه ان أريد من القابل نفس ماهية الأثر فلا ريب في أنه يرجع حينئذ إلى ما ذكرنا ، من جهة ان قضية دخلها فيه حينئذ ليس الا في استعداده وقابليته للتحقق عند وجود علته ، فلايكون دخلها حينئذ دخلا تأثيرها بل انما هو من قبيل دخل طرف الإضافة في الإضافة كما حققناه ، وان أريد من القابل المحل الذي يوجد فيه الأثر كالخشب الذي هو محل الاحراق والنفس التي هي معروضة الكمال بدعوى ان اليبوسة مثلا موجبة لاستعداد الخشب وقابليته لورود الاحراق عليه وكذا الطهور مثلا موجب لاستعداد النفس وقابليتها لورود الكمال عليها من قبل الصلاة ، فعليه وان أمكن دعوى كون الشرائط مؤثرات في الاستعداد والقابلية المزبورة نظراً إلى كون القابلية حينئذ أمرا وجوديا لكونها مرتبة من كمال الشيء ، ولكنه حينئذ ينقل الكلام في دخل القابلية المزبورة في تحقق الأثر وانه هل هو بنحو المؤثرية أو بنحو الدخل في حدوده ، إذ حينئذ ما له دخل في الأثر لايكون الا القابلية المزبورة ، واما الشرائط الخارجية فإنما هي مقدمة للقابلية التي هي الشرط في الحقيقة في تحقق الأثر ، فلا محيص حينئذ بعد اللتيا والتي من المصير إلى كون دخل الشرائط في المعلول من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ودخل ما تقوم به الحدود في المحدود لا من باب المؤثرية والمتأثرية ، كما لايخفى.

ثم انه مما ذكرنا من المناط في مقدمية الشرائط والموانع يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف في الشرائط المتأخرة وعدم لزوم انحزام قاعدة عقلية : من لزوم تحقق المعلول قبل وجود علته ، إذ نقول : بان ذلك يرد إذا كان دخل الشرائط أيضا كالمقتضي بنحو المؤثرية إذ حينئذ يتوجه الاشكال المزبور في شرطية الوجودات المتأخرة ، والا فبناء على ما قررناه من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري لايكاد مجال للاشكال المزبور ، حيث أمكن حينئذ تصوير الشرطية للوجودات المتأخرة بعين تصويرها للوجودات المقارنة والمتقدمة ، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشيء بوجوده المقارن محددا للماهية بحد خاص تكون بذلك الحد قابلة للتحقق عند وجود مقتضيها كذلك يمكن ذلك في الوجود

ص: 279

السابق المعدوم حال وجود الأثر وفى الوجود المتأخر ، فيمكن ان يكون الشيء بوجوده السابق المعدوم حين الأثر دخيلا في قابلية الأثر للتحقق أو في تمامية المقتضى في اقتضائه في التأثير ، كامكان ان يكون الشيء بوجوده المتأخر دخيلا في القابلية المزبورة نظراً إلى مدخلية الحدود الخاصة للشيء الحاصلة من اضافته إلى الامر المتقدم أو المتأخر في قابليته لتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه. واما دخل تلك الحدود في القابلية المزبورة فهو كما عرفت لايكون الا ذاتيا ، لان مرجع ذلك إلى أن ما له القابلية للتحقق من الأزل هي الطبيعة المحدودة بالحدود الخاصة الناشئة من اضافتها إلى امر كذائي مقارن أو سابق أو لا حق.

وحينئذ فلو ورد في لسان الدليل إناطة الشيء بأمر متأخر زمانا عن الشيء كإناطة صحة الصوم للمستحاضة بغسل الليلة المتأخرة وإناطة صحة العقد والملكية في عقد الفضولي بإجازة المالك في الأزمنة المتأخرة وإناطة الصحة في الصلاة بعدم العجب فيما بعد مثلا لما كان مجال للاشكال عليه ورفع اليد عما يقتضيه ظاهر القضية من مدخلية الأمور المتأخرة في صحة الامر السابق حين وجوده وترتب الغرض والمصلحة عليه ، مدعيا لاستحالة ذلك نظراً إلى تلك القاعدة العقلية الفطرية : من توقف المعلول على وجود علته التامة التي منها الشرائط وعدم الموانع واستحالة تحقق المعلول قبل وجود علته التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع.

فتمام المنشأ في الاشكال المزبور حينئذ انما هو من جهة تخيل كون الشرائط أيضا مؤثرات في عالم دخلها في الأثر وجعل مناط المقدمية فيها بعينه هو المناط المتحقق في طرف المقتضى ، ولقد عرفت انه على هذا التوهم يستحيل تصور الشرطية للوجودات المتأخرة بل المتقدمة المعدومة أيضا ، والا فبناء على ما عرفت من المناط في مقدمية الشرائط في مرحلة دخلها في المطلوب من كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري كما في عدم المانع فلا باس بتصوير الشرطية للوجودات المتأخرة ، إذ حينئذ كما يمكن ان يكون الشيء بإضافته إلى امر مقارن محدودا بحد خاص قابلا للتحقق بذاك الحد كذلك في اضافته إلى امر سابق معدوم حين وجوده أو اضافته إلى امر لاحق موجود في موطنه والجامع هو مدخلية وجود الشيء في موطنه مقارنا كان أو سابقا أو لا حقا في حدود الأثر حسب اضافته إليه في قابليته للتحقق وترتب الغرض والمصلحة عليه ، ومن المعلوم انه على ذلك

ص: 280

لايكاد يلزم انخرام قاعدة عقلية أصلا من لزوم تحقق المعلول والأثر قبل وجود علته ومؤثره ، إذ لا مؤثرية ولا متأثرية حينئذ في البين حتى يتوجه المحذور المزبور وانما غايته هو تأخر ما به الحدود زمانا عن الحدود وهو مما لا ضير فيه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

ومن ذلك البيان يظهر لك ضعف ما أفيد أيضا على بطلان الشرط المتأخر كما عن بعض الاعلام ، من تقريب : ان تعلق التكاليف بمتعلقاتها في القضايا الطلبية انما هو على نحو القضايا الحقيقية التي يلزم في فعليتها فعلية متعلقاتها بما لها من الاجزاء والقيود التي لها دخل في تحققها ، وحينئذ فلابد أولا من تحقق تلك القيود التي لها دخل في الموضوع حتى يتحقق الموضوع بما له من الحدود والخصوصيات فيترتب عليه الوجوب والحرمة ومثل هذا المعنى مناف عقلا مع تأخر القيود المفروض دخلها فيه لضرورة اقتضائه لزوم مجيء الحكم قبل وجود موضوعه ومتعلقه ، لما ذكرنا من عدم تحقق الموضوع خارجا الا بعد تحقق القيود التي لها دخل فيه ، وهو كما ترى من المستحيل.

إذ نقول : بان ما أفيد من لزوم تحقق الموضوع بما له من الاجزاء والتقييدات والحدود قبل مجيء الحكم وان كان صحيحا ، ولكن المدعي هو تحقق بجميع ما يعتبر فيه من الحدود والتقييدات فعلا بمحض تحقق القيود في مواطنها مقارنا أو سابقا أو لا حقا نظراً إلى كشف تحقق القيد في موطنه المتأخر في الواقع عن كون الامر السابق محدودا بالحدود التي بها يترتب عليه الأثر. واما دعوى لزوم تحقق تلك القيود وما به الحدود المزبورة أيضا في فعلية الحكم فلا دليل يساعد عليه من جهة ان الذي يقتضيه البرهان المزبور انما هو توقف الحكم في فعليته على فعلية وجود موضوعه بما له من الحدود والإضافات المأخوذة فيه. واما توقفه على فعلية الموضوع بماله من الحدودات وما به الإضافات والقيود فلا ، لان ما هو الداخل في الموضوع لايكون الا الحدود والتقيدات واما ما به الحدود والتقيد فهي خارجة عن الموضوع ومع خروجها عنه لايكاد يقتضي البرهان المزبور لزوم تحققها أيضا في فعلية الحكم ، كما هو واضح.

وحينئذ نقول : بأنه بعد ما أمكن ثبوتا شرطية الامر المتأخر للسابق على ما ذكرنا من وقوعه طرفا للإضافة للامر المتقدم فلو ورد دليل يقتضي بظاهره إناطة شيء بأمر متأخر لا مجال للاستيحاش وصرف الدليل عن ظاهره إلى شرطية التعقب بالامر المتأخر بجعل التعقب نفسه الذي هو من الأمور المقارنة شرطا كما عن بعض الاعلام تبعا للفصول إذ

ص: 281

مثل هذا التكلف ليس منشأه الا تخيل انحصار ملاك المقدمية بما في المقتضي من المؤثرية والغفلة عن أن في البين ملاكا آخر متصورا في المقدمية وهو كون الشيء طرفا للإضافة والحدود ، كما كان ذلك قطعا في مثل عدم المانع الذي يستحيل دخله بملاك المؤثرية ، على أن في الالتزام بكون الشرط هو التعقب بالامر المتأخر لا نفس الامر المتأخر في موطنه ما لايخفى فإنه مضافا إلى منافاة ذلك لما عليه القائل المزبور من كون التقيدات باعتبار كونها أمورا اعتبارية غير قابلة للمؤثرية في الغرض ولتعلق الامر بها وان الامر والتكليف لابد من تعلقه بما هو منشأ اعتبارها وهو الامر المتأخر ، نسئل عنه بان دخل ذلك الامر المتأخر في موطنه في التقيد المزبور المعبر عنه بالتعقب هل هو بنحو المؤثرية أو على نحو دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري فعلى الأول يعود محذور انخرام القاعدة العقلية من لزوم تحقق الأثر قبل وجود المؤثر وعلى الثاني نقول بأنه لا داعي حينئذ إلى ارتكاب خلاف الظاهر في تلك القضايا ، بل بعد ما أمكن ان يكون الشيء بوجوده المتأخر في موطنه منشأ لتحقق الإضافة والتقيد المزبور فمن الأول لم لا تجعل الشرط نفس الامر المتأخر في موطنه وتجعل ظواهر الأدلة على حالها في اقتضائها لكون المنوط به للامر الفعلي هو الشيء بوجوده المتأخر وهل الالتزام بالتعقب المزبور حينئذ الا من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب؟.

وحينئذ فلا محيص في حل الأعضال المزبور عن الشرائط المتأخرة في الواجبات الشرعية من المصير إلى ما ذكرنا بجعل الشروط طرا طرفا للإضافات وجعل دخلها في المشروط من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، كما افاده في الكفاية بأحسن بيان في شرح شرائط الواجب وان خالف في شرائط الوضع والتكليف فجعل الشرط فيهما عبارة عن الشيء بوجوده علمي اللحاظي الذي هو امر مقارن دائما مع المشروط.

ثم انه مما ذكرنا ظهر حال شرائط الوجوب والتكليف وقيوده أيضا ، فان قيود الوجوب بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشيء واتصاف الذات بوصفه العنواني بكونه صلاحا ومحتاجا إليه كما يأتي بيانه في المبحث الآتي في شرح الواجب المشروط في مثال قيود الواجب الراجعة إلى كون دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجودها هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني فلا جرم يكون قضية دخلها أيضا من باب دخل طرف الإضافة في الإضافة ودخل ما به التقيد في التقيد ومعه أمكن فيها أيضا تصوير الشرطية للامر المتأخر بالنسبة

ص: 282

إلى التكليف ، بداهة ان قضية كون الشيء شرطا له حينئذ ليس الا كونه بحيث يحصل للشيء بالإضافة إليه خصوصية يكون بتلك الخصوصية متصفا بكونه صلاحا ومصلحة وهذا كما أنه قد يكون بالنسبة إلى المقارن كذلك قد يكون بالنسبة إلى المتقدم والمتأخر فيمكن ان يكون الشيء بوجوده المتأخر منشأ لإضافة وخصوصية خاصة في الامر السابق توجب اتصافه بتلك الخصوصية بكونه مصلحة وصلاحا بحيث لولا حدوث المتأخر في موطنه لما كان للسابق تلك الإضافة الموجبة لتعنونه بالوصف العنواني المزبور ومع امكان ذلك فلا بأس في تصوير الشرطية في الامر المتأخر بالنسبة إلى الوجوب والتكليف غايته انه يحتاج حينئذ في فعلية الإرادة والتكليف من القطع بتحقق المنوط به في موطنه حيث إنه مع القطع المزبور يرى كون المتعلق متصفا فعلا بالصلاح ومحتاجا إليه فيتوجه إليه الإرادة فعلا من دون ان تخرج عن الإناطة أيضا إلى الاطلاق ، كما نظيره في العرفيات في مثال شراء اللحم اليوم للضيافة لمن يرد عليه الضيف في الغد حيث إنه ترى من نفسك مع العلم بورود الضيف عليك في الغد احتياجك فعلا إلى شراء اللحم واتصافه بكونه محتاجا إليه ، ومن ذلك تصير بصرافة طبعك بصدد شرائه وهكذا في اكرامك اليوم من يكرمك في الغد فيما لو كان اكرامه إياك في الغد منشأ لاتصاف اكرامك اليوم إياه بالمصلحة والصلاح حيث إنه مع العلم بصدور الاكرام منه في الغد ترى احتياجك اليوم إلى اكرامه لما ترى فيه حينئذ مع الصلاح والمصلحة فمن ذلك يتوجه منك الإرادة والاشتياق فعلا إلى اكرامه منوطا باكرامه الآتي الذي تعلم بتحققه في موطنه.

وعلى ذلك فيمكن المصير في شرائط التكليف أيضا من المقارن والمتقدم والمتأخر إلى كون المنوط به هو نفس الشرط بوجوده في موطنه مقارنا أو متقدما أو متقدما أو متأخرا من دون احتياج إلى جعل الشرط عبارة عن الشيء بوجوده العلمي اللحاظي كما افاده في الكفاية في التفصي عن الاشكال المعروف حيث جعل الشرط في المتقدم والمتأخر مجرد لحاظه إذ نقول : بان ذلك انما يتم بالنسبة إلى مرحلة تعلق الإرادة وفعليتها حيث كان ما له الدخل فيها هو الشيء بوجوده العلمي لا بوجوده الخارجي ، كما هو الشأن أيضا في كلية الغايات. واما بالنسبة إلى مقتضيات الاحكام من المصالح والاغراض فلا شبهة في أن ماله الدخل فيها في اتصاف الشيء بالصلاح والمصلحة بنحو الشرطية أو غيرها انما كان هو الشيء بوجوده الخارجي لا بوجوده العلمي واللحاظي ، بل العلم واللحاظ في ذلك لايكون الا

ص: 283

طريقا محضا ولذلك قد يتخطى عن الواقع فيكشف عدم تحققه عن فقد العمل المشروط للمصالح ، ولذلك ترى المولى الذي يتصور في حقه الخطأ كالموالي العرفية قد يحصل له الندم على فعله وطلبه بأنه لم امر به مع كونه في الواقع غير ذي المصلحة ، فلو انه كان الدخيل فيها أيضا هو الشيء بوجوده العلمي كما في الإرادة والاشتياق لما كان وجه لانكشاف الخلاف وكشف فقد الشرط في موطنه المتأخر عن فقد العمل للمصلحة وحينئذ فكان ذلك برهانا تاما على أن ماله الدخل في مقام المصالح والاغراض هو الشيء بوجوده الخارجي وكون العلم واللحاظ فيه طريقا محضا ، ومعه لا محيص في حل الأعضال المزبور من المصير إلى ما ذكرناه بجعل الشرائط طرا طرفا للإضافات وجعل دخلها من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري.

ولعله إلى ذلك أيضا يرجع ما أفاده في شرح شرائط الواجب والمأمور به في مقام التفصي عن الاشكال المزبور ، حيث إن كلامه ظاهر بل صريح في أن دخل الشروط انما هو باعتبار وقوعها طرفا للإضافات. ولكن الأستاذ دام ظله نسب إليه القول بشرطية اللحاظ في جميع القيود حتى الراجعة إلى الواجب والمأمور به ولعله من جهة ما سمعه مه مشافهة في درسه الشريف ، والا فكلامه في الكفاية ينادي بظاهره بالتفصيل بين شرائط الوجوب والوضع وبين شرائط الواجب فلاحظ كلامه تعرف ما ذكرناه.

ثم إن هذا كله بناء على عدم ارجاع مثل هذه القيود أيضا إلى المتعلق كما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى في مبحث الواجب المشروط واما بناء على رجوعها أيضا إلى المتعلق كما هو مبنى القول برجوع المشروطات إلى المطلقات فالامر أوضح ، من جهة رجوعه حينئذ إلى ما تقدم من دخل الامر المتأخر في حدود الموضوع وخصوصياته التي بها يكون منشأ للآثار ومتعلقا للغرض بنحو يكشف عدم وجوده في موطنه المتأخر عن عدم كون السابق محدودا بالحدود التي بها يكون منشأ للآثار. واما توهم استلزام ذلك لوجود الحكم وفعليته قبل وجود موضوعه بما له من الحدود فقد عرفت الجواب عنه بمنع الاستلزام المزبور نظراً إلى تحقق الموضوع حينئذ بماله من الحدود والإضافات والتقيدات فعلا بمحض تحقق ما به الحدود في موطنه المتأخر. وما افاده من كون التكاليف الشرعية بنحو القضايا الحقيقية أيضا لايقتضي أزيد من لزوم فعلية الموضوع بما له من الحدود والإضافات في فعلية الحكم وتحققه.

ص: 284

واما لزوم تحقق ما به الحدود والإضافات أيضا في فعلية الحكم ، فلايقتضيه البرهان المزبور بعد فرض خروج القيود بنفسها عن الموضوع وكون الداخل فيه هو التقيد بها ، ولذلك لا شبهة في صحة التكليف الفعلي باكرام من يقوم في الغد أو يموت في العام البعد بنحو خروج القيد ودخول التقيد ولو بنحو القضية الحقيقية وانه يجب على المأمور والمكلف فعلا اكرامه إذا علم ولو باخبار المعصوم علیه السلام إياه بان زيدا يقوم في الغد أو يموت في العام البعد وليس ذلك الا من جهة فعلية الموضوع حينئذ بما له من الإضافة والتقيد الخاص بمحض تحقق القيد في الموطن المتأخر.

وحينئذ فالذي يقتضيه التحقيق في حل الاعضال الوارد على الشرائط المتأخرة سواء في شرائط التكليف أو شرائط الواجب والمأمور به هو ما ذكرنا من اخراج الشرائط طرا عن كونها معطيات الوجود ومؤثرات وجعلها طرفا للإضافات والتقيدات والمصير إلى كون دخلها من قبيل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، فإنه على ما ذكرنا يندفع الاشكال المزبور من رأسه فيما ورد من الأدلة المقتضية لشرطية الامر المتأخر للتكليف أو الواجب والمأمور به ، فأمكن الاخذ حينئذ بظاهرها من الإناطة بالامر المتأخر من دون احتياج إلى صرف تلك الأدلة عن ظاهرها والتكلف فيها بارجاعها إلى الشرط المقارن تارة بالالتزام بان الشرط في الحقيقة عبارة عن تعقب الشيء الحالي بالامر المتأخر لا نفس الامر المتأخر بوجوده في موطنه المتأخر ، وأخرى بان الشرط عبارة عن امر واقعي مقارن مع المشروط حقيقة وكان الكاشف عنه الامر المتأخر ، وثالثة بان الشرط هو الامر المتأخر لكن لا بوجوده الخارجي المتأخر بل بوجوده العلمي اللحاظي ، ورابعة بان الشرط هو الامر المتأخر لكن بوجوده الدهري دون الزماني والالتزام بان تلك المتفرقات بحسب الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ، كما هو المنسوب إلى العلامة الشيرازي قدس سره وان كان نفى هذه النسبة عنه بعض الاعلام مدعيا باني كنت سألته عن هذه النسبة شفاها فأنكرها وبالغ في الانكار ثم قال بأني انما ذكرت ذلك في أثناء البحث احتمالا لا مختارا. وعلى كل حال فهذا كله في شرائط التكليف والواجب ولقد عرفت بان تصوير شرط المتأخر فيها بمكان من الامكان.

* * *

ص: 285

تصوير الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية

واما الأحكام الوضعية فهي باعتبار كونها من الاعتبارات الجعلية يكون امر تصوير الشرط المتأخر فيها أوضح مما في باب التكاليف. ولتوضيح المرام في المقام لابد من الإشارة الاجمالية إلى حقيقة الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية ونحوهما ، فنقول :

اعلم أن الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية وان كانت من سنخ الإضافات والاعتبارات ولكنها لا تكون من سنخ الإضافات الخارجية المقولية المحدثة لهيئة في الخارج التي قيل بان لها حظا من الوجود وان الخارج ظرف لوجودها ، كالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية كالإضافة الخاصة بين ذوات أخشاب السرير المحدثة للهيئة السريرية في الخارج وذلك لما نرى بالعيان والوجدان من عدم كون الملكية كذلك وانه لايوجب ملكية شيء لشخص احداث هيئة خارجية بينه وبين الشخص كما يوجبه الإضافات الخارجية ، إذ يرى أن المال المشتري بعد صيرورته ملكا للمشتري بواسطة البيع كان على ما له من الإضافة الخارجية بينه وبين البايع قبل ورود الشراء عليه من دون ان يكون صيرورته ملكا للمشتري منشأ لتغير وضع أو هيئة بينهما في الخارج أصلا. نعم لا تكون أيضا من سنخ الاعتباريات المحضة التي لا صقع لها الا الذهن ولا كان لها واقعية في الخارج ، كالنسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية كالانسان والحيوان الناطق وكالكلية والجزئية وكالوجودات الا دعائية التنزيلية التي لا واقعية لها في الخارج وكان واقعيتها بلحاظها واعتبارها.

بل وانما تلك الأحكام سنخها متوسطة بين هاتين فكانت من الإضافات التي لها واقعية في نفسها مع قطع النظر عن لحاظ لا حظ واعتبار معتبر في العالم وكان الخارج تبعا لطرفها ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، نظير كلية الملازمات ، فكما ان الملازمة بين النار والحرارة مما لها واقعية في نفسها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها لا مقوما لها كما في الاعتباريات المحضة ولذا لو لم يكن في العالم لا حظ كانت الملازمة المزبورة متحققة كذلك الملكية والزوجية ونحوهما أيضا فإنها أيضا بعد تحقق منشأ اعتبارها الذي هو الجعل مما لها واقعية في نفسها حيث كانت مما يعتبرها العقل عند تحقق منشأ اعتبارها

ص: 286

بنحو كان اللحاظ طريقا محضا إليها لا مقوما لها ، كما هو الشأن في العلقة الوضعية الحاصلة بين اللفظ والمعنى من جهة تخصيص الواضع أو كثرة الاستعمال فإنها أيضا مما لها واقعية في نفسها غير منوطة بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل كان اللحاظ والاعتبار بعد تحقق منشأ اعتبارها الذي هو الوضع طريقا إليها ، ومع ابائك عن تسميتك هذه بالإضافة وتقول بان المصطلح منها هي الإضافات الخارجية ، فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، حيث لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى.

وبعد ذلك نقول : بان مثل هذه الإضافات النحوية لكونها خفيف المؤنة جدا يكفي في اعتبارها وتحققها تحقق منشأ اعتبارها فيتحقق بمجرد جعل الجاعل واعتباره من دون احتياج إلى مؤنة زائدة بوجه أصلا ، كما في قولك : المال لزيد ، فإنه بهذا التخصيص يتحقق الملكية له ، كما كان هو الشأن أيضا في العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى حيث كان تحققها بتحقق منشأ اعتبارها الذي هو وضع الواضع أو كثرة الاستعمال. وحينئذ فإذا كانت هذه الإضافات من الاعتباريات الجعلية التي قوام تحققها بالجعل ، نقول : بأنها لا محالة تكون تابعة لكيفية جعل الجاعل واعتباره ، وحينئذ فمتى اعتبر الجاعل بجعله الملكية السابقة أو المتأخرة أو المقارنة يلزمه تحقق الملكية واعتبارها على نحو كيفية جعله ولايمكن اعتبارها بوجه آخر غير ما يقتضيه الجعل.

فعلى ذلك نقول : بأنه لو أنيط أصل جعل الملكية برضا المالك واجازته بمقتضي قضية ( تجارة عن تراض ) لايلزمه ان يكون المجعول والمحكوم به وهو الملكية أيضا من حين تحقق الرضا ، نظراً إلى وضوح كون المحكوم به حينئذ عاريا عن القيد المزبور كما هو الشأن في كلية شرائط الوجوب في الواجبات المشروطة - كما سنحققه من امتناع رجوعها إلى الموضوع بل لابد حينئذ من لحاظ ان المجعول والمحكوم به في هذا الجعل هو الملكية المقارنة أو الملكية المتأخرة أو المتقدمة ، فإذا كان المحكوم به هو الملكية من حين العقد ولو من جهة اقتضاء الاطلاق لا جرم يلزمه اعتبار الملكية من الحين بمعنى الحكم في ظرف الإجازة بتحقق الملكية حقيقة من حين العقد ، ولايكون فيه محذور ، من جهة ان غاية ما في الباب حينئذ انما هو اختلاف ظرف منشأ الاعتبار وهو الجعل مع ظرف المعتبر وهو الملكية زمانا ، ومثل ذلك مما لا ضير فيه بعد عدم جريان المؤثرية والمتأثرية في الأمور الاعتبارية بالنسبة إلى مناشئها.

ص: 287

وعلى ذلك فيمكن لنا الالتزام بالكشف الحقيقي المشهوري من دون لزوم انخرام قاعدة عقلية أصلا ، فان مبنى الانخرام انما هو جعل دخل الشرائط دخلا تأثيرها ، والا فعلى ما ذكرنا من رجوعها إلى مقام الدخل في القابلية ولو من جهة محدديتها لدائرة الماهيات المنوط بها القابلية المزبورة ، فلا مجال لدعوى انخرام القاعدة أصلا ، خصوصا في الاعتباريات الجعلية التي عرفت خروج شرائطها وأسبابها عن حيز المؤثرية وامكان اختلاف ظرف الجعل زمانا مع ظرف المجعول ، كما في المقام ، حيث كان الكاشف فيه كما عرفت من باب تقدم المجعول زمانا على الجعل الذي هو منشأ اعتباره.

ثم لايخفى عليك ان هذا المعنى من الكشف غير مرتبط بالكشف على مذاق الفصول الذاهب إلى شرطية التعقب بالإجازة المتأخرة ، إذ على ما ذكرنا يكون أصل الجعل حسب اقتضاء إناطة التجارة بالرضا في ظرف الإجازة ، ولكن المجعول والمحكوم به انما هو الملكية من حين العقد ، على معنى انه في ظرف الإجازة يتعلق الجعل بالملكية من حين العقد فيتحقق من حين الرضا حقيقة الملكية من حين العقد ، والا فقبل الإجازة حيثما لاتحقق للجعل كان المال باقيا على ملك البايع حقيقة ، فكان الإجازة من حين وجودها موجبة لقلب الملكية السابقة التي كان للبايع إلى ملكية أخرى للمشتري ، لكن ذلك بخلافه على مشرب الفصول ، إذ على مسلكه قدس سره كان أصل الجعل واعتبار التجارة والمجعول الذي هو الملكية متحققة للمشتري من حين العقد على تقدير تحقق الإجازة فيما بعد ، ومن ذلك على مسلكه لو علم بتحقق الإجازة من المالك فيما بعد يجوز للمشتري التصرف والمبيع باعتبار كونه ملكا له حقيقة دون البايع ، بخلافه على ما ذكرنا ، فإنه لايجوز له ذلك ولو مع القطع بتحقق الإجازة من المالك في الموطن المتأخر نظراً إلى كونه بعد ملكا للبايع.

ومن ذلك البيان ظهر الفرق بين ما ذكرنا وبين الكشف الحكمي الذي هو مسلك الشيخ قدس سره فإنه على الكشف الحكمي يكون كل من الجعل والمجعول وهو الملكية من حين الإجازة كما على النقل الا انه تعبدا يترتب عليه احكام الملكية من حين العقد ، بخلافه على ما ذكرنا ، فإنه عليه يكون ترتيب آثار الملكية من حين العقد ، من جهة تحقق الملكية حقيقة بهذا الجعل المتأخر من حينه لا من جهة التعبد الشرعي وتنزيل ما لايكون ملكا بمنزلة الملك.

نعم على ما ذكرنا ربما يتوجه اشكال ، وحاصله : هو لزوم ملكية العين المبيعة في الأزمنة

ص: 288

المتخللة بين العقد والإجازة على هذا المعنى من الكشف الحقيقي لمالكين وهما البايع والمشتري ، بخلافه على الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول حيث لا يلزم منه هذا المحذور. ولكنه يندفع هذا المحذور أيضا باختلاف الرتبة بين الملكيتين ، حيث كان ملكية البايع للمبيع في رتبة قبل الإجازة وملكية المشتري لها في الرتبة المتأخرة عنها ، ومع هذا الاختلاف بحسب الرتبة لا مانع من ذلك كما لايخفى.

ثم إن ذلك كله انما هو بحسب مقام الثبوت ونفس الامر ، ولقد عرفت ان كون الشيء شرطا متأخرا للشيء سواء في الأحكام التكليفية أو الوضعية بمكان من الامكان بعد اخراج الشرائط عن حيز المؤثرية.

واما بحسب مقام الاثبات والدلالة : ففيما لم يكن في البين قرينة واضحة على مدخلية الشيء منوط به بوجوده المتأخر أمكن استفادة الشرط المقارن بمقتضي ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف وجود المنوط به مع ظرف الإناطة ، كما هو كذلك في كلية العناوين الاشتقاقية وغيرها ، ولذلك قلنا في مبحث المشتق ، بأنه لابد في استنتاج النتيجة المعروفة في مثل كراهة البول تحت الشجرة المثمرة ووجوب اكرام العالم من اثبات ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف النسبة وهي إضافة البول إلى الشجرة والاكرام إلى العالم مع ظرف جرى العنوان وتطبيقه على الذات الملازم لاتصاف الشجرة فعلا بالمثمرية في حال إضافة البول إليه ، والا فمع قطع النظر عن ظهور الهيئة الكلامية في ذلك لا مجال لانتاج النتيجة المعروفة بين القولين في النزاع المعروف في مدلول كلمة المشتق ، من جهة احتمال كون الجري في الحكم بالكراهة فعلا على المصداق المتلبس بالمبدء سابقا أو المصداق المتلبس به فيما يأتي من الزمان أو المصداق الحالي. وحينئذ ففي المقام أيضا نقول بان طبع الإناطة بشيء وان كان يلائم ثبوتا مع التقدم والتقارن والتأخر من جهة ما ذكرنا من عدم اقتضائها الا تقدم المنوط به على المنوط رتبة لا زمانا ، الا انه في مرحلة الاثبات ظهور الهيئة الكلامية في اتحاد ظرف المنوط به مع ظرف الإناطة التي هي عبارة عن نسبة المنوط به إلى الشيء يقتضى كون المنوط به شرطا مقارنا ، فبمقتضى هذا الظهور لابد في جميع الموارد من المصير إلى استفادة كون المنوط به شرطا مقارنا الا إذا كان هناك قرينة على خلاف الظهور المزبور تقتضي كونه شرطا متقدما أو متأخرا.

نعم في مثل الرضا والإجازة في بيع الفضولي يمكن ان يقال بعدم اقتضاء البيان المزبور

ص: 289

في إناطة التجارة بالرضا في قوله تجارة عن تراض الا كون الإجازة شرطا مقارنا في أصل الجعل واعتبار المبادلة بثبوت التجارة التي هي مضمون عقده ، واما اقتضائه لكون المحكوم به وهو الملكية أيضا من حين الإجازة والرضا ، فلا ، وحينئذ فإذا اقتضى العقد ثبوتها من حينه ولو من جهة اعتبار العقد علة لوجودها المستتبع لتوجه القصد إلى الملكية من الحين فلازمه ليس الا الحكم في ظرف الرضا بثبوت الملكية وتحققها من حين العقد لا من حين الإجازة كما ذكرنا ، ولازمه هو المصير في مثله إلى الكشف الحقيقي دون النقل ودون الكشف الحكمي أو الكشف الحقيقي بمذاق الفصول. نعم لو كان القيد وهو الرضا في قوله : تجارة عن تراض راجعا إلى المحكوم به وهو الملكية لا إلى أصل اعتبار المبادلة والحكم بثبوت التجارة ، يتعين بمقتضي الظهور المزبور في الجملة الكلامية القول بالنقل إذا لم يكن في البين دليل على التنزيل في لزوم ترتب آثار الملكية من حين العقد ، والا فالقول بالكشف حكما بمقتضي دليل التعبد. ولكنك عرفت عدم رجوعه الا إلى أصل الجعل وان المجعول وهو الملكية كان عاريا عن القيد المزبور كما هو شأن جميع الواجبات المشروطة ، ومعه لا بد من القول بالكشف الحقيقي عند المشهور لا غير ، فتدبر.

تذييل

قد يظهر مما قدمناه سابقا من اختلاف المقدمات في كيفية دخلها في المطلوب من حيث كونها مؤثرات ومعطيات الوجود تارة كما في المقتضي ، ومعطيات القابلية أخرى باعتبار محدديتها للماهية المنوط به القابلية المزبورة كما في الشرائط والموانع طرا اختلافها لا محالة في مناط ترشح الوجوب الغيري إليها أيضا ، فإذا كان للمطلوب حينئذ مقدمات عديدة راجعة بعضها إلى مقام الدخل في التأثير وبعضها إلى مقام الدخل في حدود الماهية والمطلوب على اختلاف أنحاء الحدود والإضافات التي بها يكون المطلوب قابلا للتحقق فلا جرم يلزمها حينئذ اختلافها بحسب مناط الوجوب الغيري الملازم لاختلافها بحسب الوجوب الغيري المترشح إليها أيضا ، فيكون من تعلق الوجوب النفسي بالمطلوب يترشح وجوبات غيرية متعددة بالنسبة إلى كل مقدمة وجوب مستقل بلحاظ ما فيها من

ص: 290

المناط الخاص في قبال المقدمة الأخرى. نعم لو فرض تركب مقدمة من تلك المقدمات من اجزاء متعددة كالوضوء والغسل فحينئذ تكون اجزاء هذه المقدمة واجبة بوجوب ضمني غيري لا بوجوبات غيرية مستقلة ، نظراً إلى أن دخل الجميع حينئذ نحو دخل واحد في المطلوب ، فمن ذلك لايترشح إليها وجوب واحد غيري ، ولازمه صيرورة كل واحد من الاجزاء واجبا بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري استقلالي ، كما هو واضح.

ولايخفى انه على ذلك البيان يندفع الاشكال المعروف على وجوب المقدمات من تقريب : ان مناط ترشح الوجب الغيري على المقدمة ان كان هو ترتب الوجود عليه مستقلايلزمه في فرض تعدد المقدمة عدم وجوب شيء منها باعتبار عدم كون هذه المقدمات شيء منها مما يترتب عليه الوجود ، وان كان مناط الوجوب الغيري هو ترتب الوجود ولو على مجموع المقدمات في صورة تعددها فحينئذ يلزمه تعلق وجوب واحد بمجموع المقدمات ولازمه هو اتصاف كل واحد منها بوجوب ضمني غيري لا بوجوب غيري مستقل ، وهو أيضا مما لايمكن الالتزام به - لان كل من قال بوجوب المقدمة قال بوجوب كل مقدمة في صورة تعددها مستقلا لا ضمنا وان كان المناط الوجوب الغيري من جهة لزوم الانتفاء عند الانتفاء فعليه وان يصحح هذا اللازم ولكنه يترتب عليه محذور آخر وهو لزوم وجوب كل واحد من اجزاء المقدمة بوجوب غيري مستقل ، لان الاجزاء كل واحد منها مما فيه المناط المزبور وهو الانتفاء عند الانتفاء مع أن ذلك أيضا كما ترى ، فإنه مضافا إلى عدم التزامهم به لعله يكون من المستحيل باعتبار استلزامه حينئذ لاجتماع المثلين فيها : أحدهما الوجوب الضمني الغيري باعتبار تعلق الوجوب الغيري بالمجموع ، والآخر الوجوب الغيري المستقل باعتبار ما في كل واحد منها من الملاك المزبور.

وتوضيح الدفع يظهر مما ذكرنا ، فإنه على ما ذكرنا من اختلاف المقدمات في مناط الدخل في المطلوب لايكاد مجال لتوجه الاشكال المزبور ، إذ نقول حينئذ : بان وجوب كل واحد من هذه المقدمات بوجوب غيري مستقل انما هو باعتبار ما يخصه من الملاك الخاص المغاير مع الملاك الخاص في المقدمة الأخرى ، لأنه باختلاف تلك المناطات يختلف تلك الوجوبات الترشحية أيضا فيتعلق بكل مقدمة وجوب مغاير مع الوجوب المتعلق بالمقدمة الأخرى ، واما عدم وجوب اجزاء المقدمة الا بوجوب ضمني غيري فإنما هو باعتبار قيام مناط خاص وحداني بالمجموع وعدم تصور نحو دخل على حدة للاجزاء يوجب ترشح

ص: 291

الوجوب الغيري المستقل إليها ، فتمام المنشأ حينئذ لتوهم الاشكال المزبور انما هو من جهة عدم التفرقة بين المقدمات في مناط دخلها في المطلوب وتخيل اتحاد الجميع في كيفية الدخل في المطلوب الذي هو مناط ترشح الوجوب الغيري إليها ، والا فبناء على ما ذكرنا من اختلافها في مناط الدخل لايكاد مجال لأصل الاشكال كما لايخفى ، كيف وانه لو اغمض عما ذكرنا لايكاد يجدي أيضا ما أفيد في التفصي عنه كما في التقريرات من دعوى المغايرة باعتبار لحاظ الاجزاء منضما تارة ومستقلا أخرى ، ووجهه يظهر مما قدمناه سابقا في بيان امتناع اتصاف الاجزاء في الواجبات النفسية بالوجوب الغيري ولو مع تسليم ملاك المقدمية فيها ، فراجع هناك تعرف.

ومن التقسيمات : تقسيمها إلى مقدمة الوجوب ومقدمة الواجب وتقسيم الثاني إلى المعلق والمنجز

ولا اشكال بينهم في خروج مقدمات الوجوب عن حريم النزاع وعدم وجوبها ، وهو كذلك من جهة خروج مثل هذه القيود عن حيز الطلب بمباديه من الميل والمحبة أيضا ، كما ستطلع عليه.

ولتنقيح المرام في المقام لابد من بيان مقدمة في شرح اختلاف القيود في كيفية دخلها في المصلحة وعدم كونها على نمط واحد ، فنقول : اعلم بان القيود في دخلها في المصلحة على ضربين : منها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في أصل الاحتياج إلى الشيء واتصاف الذات بكونها صلاحا ومحتاجا إليها بحيث لو لاه لما كاد اتصاف الذات بكونه مصلحة وصلاحا ، ومنها ما يكون راجعا إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه وتحقق ما هو المتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني ، كما يوضح ذلك ملاحظة الاسهال بالقياس إلى وجود المرض وشرب الدواء والمسهل ، حيث ترى ان دخل المرض فيه انما هو في أصل اتصاف الاسهال بكونه صلاحا ومصلحة بملاحظة ان اتصافه بكونه صلاحا ومحتاجا إليه انما هو في ظرف تحقق المرض وفوران الأخلاط والا ففي ظرف صحة المزاج وتعادل الأخلاط لايكاد يكون فيه المصلحة بل ربما كان فيه كمال المفسدة من جهة أوله إلى تلف النفس ، وهذا بخلافه في شرب الدواء والمسهل

ص: 292

فان دخله في ظرف المرض لايكون الا في وجود ما هو المتصف بكونه مصلحة ومحتاجا إليه فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني ، وحينئذ فكل واحد من المرض وشرب الدواء والمسهل وان كان دخيلا في مصلحة الاسهال الا ان دخل كل على نحو يغاير دخل الآخر ، من حيث كون دخل أحدهما في أصل الاحتياج واتصاف الأثر بكونه صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن تحققه في الخارج ، وكون دخل الآخر في وجود ما هو المتصف بالمصلحة والصلاح وتحققه فارغا عن أصل اتصافه بالوصف العنواني المزبور.

ومن ذلك البيان ظهر اختلاف مثل هذين القيدين بحسب المرتبة أيضا باعتبار دخل الأول في اتصاف الذات بالوصف العنواني والثاني في تحقق ما هو المتصف خارجا فان في مثل ذلك لا محالة ما هو من قبيل الأول يكون في رتبة سابقة على ما كان من قبيل الثاني ، من جهة انه بدونه لايكاد يتحقق موضوع المتصف كي ينتهى إلى مقام دخل قيود وجود المتصف ، ولذلك أيضا بدون قيود الاتصاف لايكاد الانتفاء الا بنحو السلب بانتفاء الموضوع ، بخلافه في فرض تحقق قيود الاتصاف ، إذ حينئذ يكون انتفاء المصلحة بانتفاء قيود المحتاج إليه من قبيل السلب بانتفاء المحمول ، نظراً إلى تحقق الاتصاف بالوصف العنواني بمجرد تحقق قيود الاتصاف ، كما هو واضح.

وبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه بعد أن كان قيود الوجوب والتكليف من القيود الراجعة إلى أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وبكونها صلاحا ومصلحة قبال قيود الواجب الراجعة إلى وجود ما هو المتصف فارغا عن أصل الاتصاف بالوصف العنواني فلا محالة يلزمه عدم وجوب تحصيلها أيضا نظراً إلى خروجها حينئذ عن حيز الطلب والإرادة بل وعن مباديها من الاشتياق والمحبوبية أيضا وصيرورة الإرادة بمباديها منوطة بفرض تحققها من باب الاتفاق ، نظراً إلى ما يقتضيه حينئذ جبلة النفس وفطرته من عدم كون الانسان بصدد تحصيل الاحتياج إلى الشيء وجعل نفسه محتاجا إليه ، بل وعدم اشتياقه إليه أيضا الا لأجل رفع احتياج أعظم وصيرورته من مقدمات وجود محتاج إليه آخر ، كما يشهد لذلك المثال المزبور حيث ترى ان الانسان بمقتضي جبلته لايكون بصدد تحصيل المرض كي به يتصف الاسهال بالوصف العنواني ويصير في حقه ذا مصلحة وصلاح ، بل ولا كان له اشتياق ولا ميل إليه ، بل ولعله يكون مبغوضا عنده فضلا عن

ص: 293

الميل والاشتياق إليه ، كما نظيره أيضا في مثال العصيان بالنسبة إلى الكفارة وعدم الاتيان بالصلاة في الوقت بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت بناء على كونه بأمر جديد ، وهكذا نظائره في الشرعيات والعرفيات. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه فارغا عن أصل تحقق الاحتياج واتصاف الذات بكونها صلاحا ومصلحة فان الانسان بمقتضي جبلته ، كان بصدد تحصيلها ، الا إذا كان القيد من القيود غير الاختيارية أو من القيود التي اعتبر في مقدميتها وجودها من باب الاتفاق كما سنذكرها إن شاء اللّه تعالى فان مثل تلك القيود حينئذ وان كانت خارجة عن حيز الإرادة الا انها غير خارجة بالنسبة إلى مبادي الإرادة من الاشتياق والميل والمحبة كما هو واضح.

ومن هذا البيان ظهر أيضا فساد توهم رجوع جميع القيود إلى المتعلق وارجاع جميع المشروطات إلى المعلقات كما عن التقريرات بجعل منشأ الاختلاف في القيود في الخروج عن حيز الإرادة اختلاف أنحاء وجودها : من اخذ بعضها بنحو يترشح إليها الإرادة واخذ بعضها بنحو لايترشح إليها الإرادة اما لخروجها عن تحت الاختيار أو من جهة دخلها بوجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشئ عن سائر الدواعي غير دعوة الامر مع اتحاد الجميع في كيفية الدخل في الغرض والمطلوب ، توضيح الفساد يظهر مما قدمنا من اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة ، من حيث رجوع بعضها إلى الدخل في أصل الاحتياج واتصاف الذات بكونها مصلحة وصلاحا ، ورجوع بعضها وهو قيود الواجب إلى الدخل في تحقق المحتاج إليه والمتصف بالمصلحة والصلاح فارغا عن أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني ، إذ في مثله يكون قيود الواجب باعتبار دخلها في وجود المحتاج إليه وتحقق ما هو المتصف بالوصف العنواني في رتبة متأخرة عن قيود الأصل الاتصاف.

ومعه كيف يمكن اخذ ما هو راجع إلى أصل الاتصاف في ناحية الموضوع في عرض قيود المحتاج إليه ، مع انك عرفت بخروج قيود الاحتياج والاتصاف عن دائرة الإرادة بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق باعتبار ما يقتضيه جبلة الانسان من عدم كونه بصدد تحصيل الاحتياج لولا وجود احتياج أعظم في البين ، بل وعدم تعلق الميل والاشتياق إليه أيضا ، بل وصيرورته مبغوضا عنده ، كما في مثال المرض وفي النذر المترتب عليه وجوب الوفاء بالمنذور حيث كان أصل النذر الذي هو سبب للوجوب مكروها وكذا في

ص: 294

العصيان المترتب عليه وجوب الكفارة. وهذا بخلافه في قيود المحتاج إليه والمتصف بالمصلحة والصلاح فإنها وان أمكن خروجها عن تحت الإرادة اما لعدم كونها اختيارية أو من جهة ان الدخيل في المطلوب هو وجودها من باب الاتفاق أو وجودها الناشي عن سائر الدواعي غير دعوة الامر والإرادة ، الا انها غير خارجة عن مباديها من الميل والمحبة والاشتياق نظراً إلى ما هو قضية الوجدان من اشتياق الانسان بمقتضي جبلته وفطرته بعد احتياجه إلى الشيء وصيرورته في حقه ذا مصلحة وصلاح إلى مقدمات وجوده وان فرض كونها خارجة عن الاختيار ، ومن ذلك ترى انه يتمنى وجودها في الليل والنهار لكي ينال بها إلى ما احتاج إليه واتصف في حقه بالمصلحة والصلاح ، وحينئذ فبعد هذا الاختلاف التام بين هذين القسمين من القيود كيف يمكن دعوى رجوع الجميع حتى ما كان منها دخيلا في أصل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح إلى الموضوع؟ كما لايخفى.

في تصوير الواجب المشروط على المختار

ثم انه بعد ما اتضح وجه عدم وجوب تحصيل قيود الوجوب والتكليف لخروجها عن حيز الطلب والإرادة بنحو كان الطلب والإرادة بمباديها منوطة بها يبقى الكلام في أن إناطة الطلب والإرادة بها هل تكون بوجودها خارجا بحيث لا طلب ولا إرادة الا في ظرف وجود تلك القيود في الخارج ، كما عليه المشهور ، من حيث مصيرهم إلى انتفاء الإرادة حقيقة عند انتفاء تلك القيود خارجا؟ أو ان إناطة الطلب والإرادة فيها كانت بوجودها لحاظا على نحو الطريقية للخارج وان لم تكن متحققه في الخارج في الواقع؟ فيه وجهان. وفي مثله نقول : بان الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني من كونها تابعة فرض وجود تلك القيود في لحاظه وتصوره على نحو الطريقية إلى الخارج بنحو يلزمه فعلية الطلب وتحققه قبل تحقق المنوط به في الخارج غايته لا مطلقا بل منوطا بفرض وجوده ولحاظه ، لا تابعة وجود تلك القيود في الخارج حتى لايكون للطلب وجود الا في ظرف وجود القيود في الخارج. وتنقيح المرام يحتاج إلى بيان مقدمتين :

الأولى : ما شرحناه آنفا من اختلاف القيود في كيفية دخلها في الغرض والمصلحة ، من رجوع بعضها إلى مقام الدخل في أصل اتصاف الذات بالوصف العنواني وكونها صلاحا ومصلحة مع قطع النظر عن مقام تحقق الموضوع المتصف في الخارج ، ورجوع

ص: 295

بعضها إلى مقام الدخل في تحقق الموضوع المتصف في الخارج فارغا عن أصل الاتصاف بالمصلحة ، ولقد عرفت أيضا بان كل ما كان من قبيل الأول يكون خارجا عن حيز الإرادة بمباديها من الميل والمحبة والاشتياق ويكون الطلب بمباديه منوطا بوجوده وان كل ما كان من قبيل الثاني يكون تحت الطلب بمباديه الا إذا كان القيد من القيود غير الاختيارية أو كان الدخيل هو وجوده الاتفاقي فيخرج حينئذ عن حيز الطلب والإرادة لا عن مباديها من الميل والمحبة والاشتياق.

المقدمة الثانية : لايخفى عليك ان قيود الاتصاف وان كان دخلها بالنسبة إلى المصلحة بوجودها الخارجي حيث يستحيل اتصاف الذات بالمصلحة والصلاح الا في ظرف تحقق هذا القيود في الخارج ، إلا ان دخلها بالنسبة إلى الإرادة ومباديها من الميل والمحبة والاشتياق لايكون الا بوجودها العلمي اللحاظي لا بوجودها الخارجي ، حيث إن الميل والمحبة وكذا الاشتياق والإرادة انما تكون تابعة للعلم بكون المتعلق ذا مصلحة وصلاح ، فمع العلم بكونه ذا صلاح ولو من جهة العلم بوجود قيود الاتصاف في الخارج لا محالة يتوجه نحوه الميل والاشتياق والإرادة فيحدث في النفس تلك الحالة الانقداحية الموجبة لطلبه وبعثه وان لم يكن كذلك في الواقع ونفس الامر ولايكون ذلك الشيء الا ذا مفسدة محضة ، كما أنه في صورة العكس والعلم بكونه غير ذي المصلحة أو ذا مفسدة محضة لا محالة لايكاد يتعلق به الميل والمحبة والشوق والإرادة وان فرض كونه في الواقع ذا مصلحة محضة ، وعلى ذلك فكم فرق بين المصلحة وبين الإرادة والاشتياق ، فان المصلحة باعتبار كونها من الاعراض التي ظرف عروضها واتصافها هو الخارج تحتاج في عروضها إلى تحقق قيود الاتصاف في الخارج بخلاف الاشتياق والإرادة ونحوهما مما كان ظرف عروضها هو الذهن حيث لايكون دخل تلك القيود فيها الا بوجودها اللحاظي دون الخارجي.

كما كان ذلك هو الشأن أيضا بالنسبة إلى معروض الإرادة كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى حيث لايكون المعروض لها أيضا الا العناوين والصور الذهنية دون الخارج ، نظراً إلى أن الخارج انما كان ظرفا لسقوط الإرادة لا لثبوتها ، غايته انه لا بنحو يلتفت إلى ذهنية تلك الصورة ومغايرتها مع الخارج بل بنحو يرى كونها في لحاظها ذلك عين الخارج بلحاظ طريقية لحاظها إلى الخارج من دون سرايتها منه إلى الخارج ، وبهذه

ص: 296

الجهة من الاتحاد والعينية بين تلك الصورة الذهنية وبين الخارج أيضا ربما تكتسب تلك الصورة الذهنية لون المصلحة من الخارج فتتصف بكونها ذات مصلحة فيتعلق بها الإرادة والشوق ، وكذا بالعكس فيكتسب الخارج لون المطلوبية والمرادية من تلك الصورة فيتصف بكونه مرادا ومطلوبا ، والا فالمصلحة لايكاد تقوم الا بالخارج ، وكذا الإرادة لاتكاد تتعلق الا بالصور الذهنية ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان كان ذلك شأن الاشتياق والإرادة من كونها تابعة للعلم بالمصلحة في المتعلق وكونه ذا صلاح لا تابعة لكونه كذلك في نفس الامر فكان العلم واللحاظ مع كونه طريقا إلى الخارج له موضوعية بالنسبة إلى مرحلة تعلق الاشتياق والإرادة نقول : بأنه لابد من لحاظ كيفية العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق.

وفي ذلك نقول : بأنه لا شبهة حينئذ في فرض إناطة المصلحة بشيء في اختلاف كيفية العلم بالمصلحة من حيث الإناطة والاطلاق وانه كما أنه مع العلم بوجود المنوط به وتحققه في الخارج وفي موطنه يتحقق العلم الفعلي المطلق بالمصلحة في المتعلق ويتبعه أيضا الميل والمحبة والاشتياق والإرادة ، كذلك يتحقق العلم الفعلي أيضا في فرض لحاظ المنوط به طريقا إلى الخارج حيث إنه بعد احراز أصل الملازمة والإناطة يلزمه في فرض لحاظ المنوط به العلم بالمصلحة في المتعلق بنحو لو كان في مقام تشكيل القضية يشكلها بنحو القضية الشرطية فيحكم بالحكم التصديقي في فرض لحاظ المنوط به بتحقق المصلحة في المتعلق ولو مع القطع بعدم تحقق المنوط به إلى الأبد الملازم للقطع بعدم تحقق التالي إلى الأبد ، من دون ان يكون هذا القطع المنوط بفرض وجود القيد منافيا مع القطع المطلق فعلا بالعدم كما في مثال فساد العالم على تقدير تعدد الآلهة وتحقق النهار على تقدير طلوع الشمس ، حيث إنه بمقتضي الملازمة بين الوجودين يتحقق قطع منوط بوجود التالي في فرض وجود المقدم وتحققه ، بنحو يوجب تشكيل القضية بنحو الشرطية ، كما في قولك : لو كان فيهما آلهة لفسدتا ولو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، فتحكم فعلا بالحكم الجزمي بفساد العالم وبوجود النهار لكن لا مطلقا بل منوطا بفرض تحقق المنوط به ووجوده في الخارج ولو مع القطع الفعلي بعدم تحقق المنوط به للتالي من جهة ان هذا العلم المنوط لا يلازم العلم بتحقق المنوط به في الخارج بل يجتمع ولو مع القطع بعدمه للتالي الملازم للقطع بعدم تحقق المنوط إلى الأبد ومن ذلك قلنا بعدم المضادة والمنافاة بين هذا

ص: 297

العلم المنوط بفرض وجود المنوط به وبين العلم الفعلي المطلق بعدم تحقق المنوط في الخارج كما لايخفى.

نعم قد يتصور في هذا الفرض أيضا العلم الفعلي الغير المنوط بوجود المصلحة في الامر الاستقبالي بنحو يتشكل القضية على نحو القضية الحملية ، لكن مثل هذا العلم لابد وأن يكون في فرض القطع بتحقق المنوط به في الخارج وفي موطنه ، إذ حينئذ يقطع بالقطع المطلق فعلا بتحقق المصلحة في الامر الاستقبالي ، كما في القطع بوجود الحرارة في الغد الناشي من جهة القطع بتحقق النار فيه ، ومن ذلك كان له ان يخبر بوجود الحرارة في الغد من دون الإناطة بشيء بنحو القضية الحملية كما كان له ان يخبر بوجوده منوطا بنحو القضية الشرطية نظراً إلى عدم اقتضاء القطع بتحقق المنوط به في الخارج لخروج القضية عن الإناطة كي لايتصور فيه العلم المنوط. وهذا بخلافه في صورة عدم القطع بالانطباق في الخارج أو القطع بالعدم فإنه في هذا الفرض لايكاد يتصور الا العلم المنوط ولازمه انحصار القضية بالقضية الشرطية ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما اتضح لك هذه الجهة من تبعية الاشتياق والإرادة للعلم بالمصلحة في المتعلق وفعلية العلم بالمصلحة أيضا منوطا بفرض القيد ولحاظه في الذهن على نحو الطريقية إلى الخارج نقول : بأنه لا مانع حينئذ من الالتزام بفعلية الاشتياق والإرادة في الواجبات المشروطة قبل حصول شرطها في الخارج فإنه بعد ما علم منوطا بفرض القيد ولحاظه في الذهن بوجود المصلحة في المتعلق فقهرا بمقتضى التبعية المزبورة منوطا بفرض القيد ولحاظه يتوجه نحوه الاشتياق والإرادة أيضا من دون حالة منتظرة في البين أصلا كما لايخفى. نعم فاعلية مثل هذه الإرادة المنوطة ومحركيتها نحو المراد لا تكون الا في ظرف تحقق القيد خارجا الذي هو ظرف اتصاف المتعلق بالمصلحة ، فيفكك بين فعلية الإرادة وفاعليتها بجعل فعليتها في ظرف الانشاء وفاعليتها في ظرف تحقق القيد في الخارج الذي هو ظرف الاتصاف بالمصلحة ، ونتيجة فعلية الإرادة حال الانشاء انما هي لزوم تحصيل بعض المقدمات المفوتة التي لايمكن تحصيلها في ظرف تحقق قيد المصلحة في الخارج. نعم لابد في هذه المرحلة أي مرحلة فعلية الإرادة وفاعليتها بالنسبة إلى مقدماته المفوتة من القطع بتحقق القيد في موطن الخارج والا فمع قطعه بعدم تحققه للتالي لايكاد مجال لتحقق الإرادة ولو منوطا ، من جهة انه في فرض القطع بالعدم يقطع بعدم اتصاف

ص: 298

الذات في الخارج بالمصلحة ومع قطعه ذلك يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الموجبة لطلبه وبعثه.

نعم لو كانت الإرادة عبارة عن مجرد الاشتياق إلى الشيء ولو لم يكن بالغا إلى حد الانقداح أو كان لفرض القيد ولحاظه في الذهن موضوعية محضة ولم يكن طريقا إلى الخارج كما في قول الشاعر بالفارسية :

اگر عقلت منم بگذر از اين كار *** كه كار عاشقي كاريست دشوار

وبعبارة أخرى : ان كنت مولاك فافعل ذلك حيث جعل المنوط به في المثال نفس الفرض لأمكن دعوى فعلية الإرادة المنوطة حتى مع القطع بعدم حصول القيد في موطن الخارج ، ولكنهما كما ترى مخالف للوجدان ، وذلك اما الأول فواضح ، واما الثاني فكذلك أيضا لان ما له الدخل في المصلحة بعد أن كان هو الوجود الخارجي لا محالة يكون الفرض واللحاظ أيضا طريقا إلى الخارج ومعه لايكاد تعلق الإرادة الفعلية بالشيء ولو منوطا مع القطع بعدم تحقق المنوط به والقيد في موطن الخارج. نعم مع الشك في ذلك أمكن تعلق الإرادة به رجاء تحقق المنوط به في الخارج ولكن مثل هذا الفرض غير متصور في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى الشارع الذي لايكاد يتصور في حقه الجهل.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك عدم تمامية ما عليه المشهور من المشروط في القضايا الشرعية الطلبية من عدم فعلية الإرادة والطلب الا في ظرف تحقق المنوط به في الخارج.

واما قياس الاحكام الطلبية بالاعراض الخارجية في مثل النار حارة في إناطة فعلية الحرارة بوجود النار وتحققها في الخارج فمدفوع بالفرق الواضح بين المقامين من حيث كون الخارج في القضايا الخارجية ظرف العروض والاتصاف بخلافه في القضايا الطلبية فإنه باعتبار كون المحمول فيها من الأوصاف الذهنية لايكاد يكون ظرف العروض بل الاتصاف فيها الا الذهن وانما كان الخارج ظرفا لتطبيق ما هو المعروض والمتصف على الموجود الخارجي ، وعلى ذلك فلايرتبط القضايا الطلبية بالقضايا الخارجية كي يتم المقايسة المزبورة ويصير المنوط به للطلب هو الشيء بوجود الخارجي.

وعليه فلا محيص بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى كون المنوط به للطلب والإرادة عبارة عن فرض القيد ولحاظه والالتزام بفعلية الإرادة والطلب في ظرف فرض القيد و

ص: 299

لحاظه قبل تحقه في الخارج من دون حالة منتظرة في البين إلى ظرف تحقق القيد في الخارج ، وبه أيضا يجمع بين ظهور القضايا الشرطية الطلبية في رجوع القيد إلى الهيئة وبين ظهور الهيئة فيها في الدلالة على فعلية الطلب. نعم محركية هذه الإرادة وفاعليتها نحو المراد لا تكون الا في ظرف حصول القيد والمنوط به في الخارج الذي هو ظرف اتصاف الذات بالمصلحة ، ولكن مثل هذه الجهة أجنبية عما هو مفاد الانشاء في الخطابات لأنها عبارة عن مرتبة تأثير الخطاب بوجوده عند العقل في وجوب الامتثال لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا أيضا ظهر عدم صحة ما أفيد كما عن بعض الاعلام في تقريب عدم فعلية الإرادة والطلب في الواجبات المشروطة الا بعد حصول شرطها خارجا بأن الأحكام الشرعية في القضايا الطلبية سواء كان على نحو القضية الشرطية أو الحملية انما هي من سنخ القضايا الحقيقية المترتب فيها الحكم على العناوين المقدرة وجوداتها فيحتاج حينئذ في فعلية الحكم فيها إلى فعلية موضوعها بما له من القيود والا فقبل وجود موضوعها لايكاد يكون الا فرض الحكم لا حقيقته كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأحكام الوضعية كالملكية مثلا. كما في العقود التمليكية كالوصية حيث إن حقيقة الملكية انما يكون تحققها وفعليتها بعد تحقق الموت والا فقبل موت الموصى لايكون الا فرض الملكية ففي المقام أيضا كذلك فلايكون مفاد الخطابات في القضايا المشروطة وغيرها من نحو الحج وغيره الا مجعولا فرضيا بفرض وجود موضوعه الذي هو المستطيع ، ولازمه هو إناطة الحكم في فعليته بفعلية وجود موضوعه خارجا بما له من القيود كإناطة فرضه بفرضه.

إذ نقول : بان القضايا الحقيقية بالمعنى المصطلح الذي يلزم من فرض وجود الموضوع فرض الحكم ومن فعلية الموضوع خارجا فعلية الحكم أجنبية عن القضايا الطلبية ، حيث نقول : بان القضية بالمعنى المصطلح انما تتصور بالنسبة إلى الاعراض الخارجية التي كان الخارج ظرفا لعروضها واتصافها كما في النار حارة وكما في الأحكام الوضعية كالملكية ونحوها ، فإنها باعتبار كونها من الأمور التي كان الخارج ظرفا لعروضها يوجب لا محالة فرض وجود الموضوع فيها فرض محموله وفعلية الموضوع فعلية محموله ، واما بالنسبة إلى الإرادة ونحوها من الصفات الذهنية التي كان ظرف عروضها الذهن والخارج ظرف اتصافها ، فلايتصور فيها القضية الحقيقية بوجه أصلا حتى يناط فعلية الإرادة فيها بفعلية

ص: 300

موضوعها ، من جهة ان المنوط به والموضوع كما ذكرنا لايكون الا لحاظ الموضوع وفرضه لا وجوده الخارجي ، غايته انه لابد وأن يكون الملحوظ الذهني بنحو يرى خارجيا على وجه لايلتفت إلى ذهنيته ، كما هو الشأن أيضا في مثل القطع والظن في تعلقهما بالموضوع وما أنيط به. وحينئذ فبعد ان كان الموضوع للإرادة والاشتياق هو فرض وجود الموضوع ولحاظه طريقا إلى الخارج فلا جرم في ظرف فرض وجود الموضوع وفرض وجود المنوط به يتحقق حقيقة الاشتياق والإرادة ، لا انه يتحقق من فرضه فرض الاشتياق وفرض الإرادة ، كما هو الشأن أيضا في العلم بالمصلحة على ما بيناه.

ومن ذلك البيان ظهر انه لا يفرق في ذلك بين اخذ القيود في الواجبات المشروطة في ناحية الموضوع أيضا وبين عدم اخذها فيه كما هو المختار ، فإنه على الأول أيضا نقول بأنه في ظرف فرض وجود الموضوع ولحاظه حيثما يعلم بوجود المصلحة فيه يتحقق حقيقة الاشتياق والإرادة لا فرضه ، غاية ما هناك انه لايكون الاشتياق وإرادة على نحو الاطلاق كما في الواجبات المطلقة بل كان الاشتياق منوطا بالفرض المزبور ، كما في مثال الحج فإنه إذا لا حظ الشارع الحج في ظرف لحاظ الاستطاعة طريقا إلى الخارج يقطع منوطا بالفرض المزبور بكونه ذا مصلحة محضة ومع قطعه ذلك بمقتضي تبعية الإرادة للعلم بالمصلحة يتوجه نحوه الميل والمحبة والاشتياق فعلا فيطلبه ويريده منوطا بالفرض المزبور ، كيف وان الغرض من الانشاء بعد أن كان هو التوصل إلى وجود المراد لا جهة مطلوبيته نفسا يكون نفس الانشاء الفعلي في الواجبات المشروطة كاشفا قطعيا عن فعلية اشتياقه وارادته للمطلوب بلحاظ تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية وعدم امكان التفكيك بينهما ، وحينئذ فكان ذلك أقوى شاهد وأعظم برهان على ما ذكرنا من عدم إناطة الطلب في فعليته في القضايا المشروطة بوجود المناط به وهو الشرط خارجا وأجنبية القضايا الطلبية شرطية كانت أم حملية عن القضايا الحقيقية التي يلزم من فرض الموضوع فرض الحكم فيها ومن فعليته فعلية وجود الحكم ، والا فعلى القول بعدم فعلية الطلب الا بعد حصول المنوط به في الخارج يلزم اما الالتزام بمطلوبية الانشاء المزبور نفسيا واما الالتزام بالتفكيك بين الإرادة الغيرية في المقدمات وبين إرادة ذيها في الفعلية ، وهو كما ترى! فان الأول منهما مخالف للوجدان وكذا الثاني لان تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في

ص: 301

رابعة النهار وانه لايمكن فعلية الإرادة الغيرية بدون فعلية الإرادة النفسية لذيها باعتبار رجوعه إلى تحقق المعلول بدون تحقق علته.

فلا محيص حينئذ بمقتضى ما ذكرنا من الالتزام في جميع الواجبات المشروطة بفعلية الطلب فيها قبل حصول شرطها ، غايته انه يفكك فيها كما ذكرنا بين الفعلية وبين الفاعلية فيجعل فاعلية الطلب في ظرف حصول المنوط به في الخارج الذي هو ظرف اتصاف الذات بالمصلحة.

فتمام المنشأ حينئذ لتوهم عدم فعلية الطلب في المشروطات قبل حصول الشرط في موطن الخارج وجعل القضايا الطلبية من سنخ القضايا الحقيقية بالمعنى المصطلح انما هو من جهة خلط هذه الصفات الذهنية من الإرادة والاشتياق والمحبة وغيرها بالاعراض الخارجية التي ظرف عروضها الخارج كالحرارة والبرودة والاحكام المجعولة كالملكية ونحوها مما ظرف عروضها واتصافها هو الخارج ومقايسة أحدهما بالآخر ، ولكنك بعد التأمل فيما ذكرنا في هذه الصفات من عدم احتياجها في فعليتها إلى وجود المتعلق خارجا لكونها مما ظرف عروضها الذهن وان الخارج ظرف اتصافها ترى أجنبية القضايا الطلبية بقول مطلق عن القضايا الحقيقية وانها ليست مما يوجب فرض وجود الموضوع فيها فرض الحكم كما في الأحكام الوضعية من نحو الملكية.

نعم لو قيل بان الأحكام التكليفية مجعولة بحقايقها كالأحكام الوضعية في المعاملات لأمكن دعوى كونها من سنخ القضايا الحقيقية التي كان فرض وجود الموضوع موجبا لفرض محموله وفعلية وجود الموضوع لفعلية محموله ، ولكن ذلك أيضا فاسد جدا من جهة وضوح ان لب الأحكام التكليفية وروحها ليس الا عبارة عن الإرادة الفعلية وابرازها بانشاء أو اخبار ، وشيء منهما لايكون مجعولا ، من جهة كون أحدهما من مقولة الكيف والآخر من مقولة الفعل ، فلم يكن حينئذ شيء يكون من الاعتبارات الجعلية حتى يتعلق به الجعل حتى يحتاج في فعليته إلى فعلية وجود موضوعه في الخارج كما في الأحكام الوضعية في المعاملات من نحو الملكية ونحوها كما هو واضح. نعم الذي تحتاج إلى فعلية وجود الموضوع خارجا انما هو مرتبة فاعلية هذه الإرادة المبرزة ومحركيتها بحيث يحتاج إلى تطبيق الموضوع في الخارج ، ولكن هذه المرتبة كما ذكرنا مرتبة تأثير الخطاب في حكم العقل بلزوم الامتثال لا مرتبة نفس الخطاب بمضمونه فلايقتضي حينئذ احتياج الإرادة في مقام

ص: 302

محركيتها إلى تطبيق الموضوع خارجا إناطة أصل وجودها وفعليتها بوجوده في الخارج.

ثم إن الثمرة بين القولين تظهر في المقدمات الوجودية للواجب فإنه على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف في المشروطات يترتب عليه وجوب الاتيان بالمقدمات الوجودية المفوتة حالا عند العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج فيما بعد ، لان الوجوب النفسي بعد أن كان فعليا بالنسبة إلى ذيها لا جرم يقتضي على الملازمة ترشح الوجوب الغيري إلى مقدماته فيصير مقدماته الوجودية حينئذ واجبة من الحين بالوجوب الغيري فيجب الاتيان بها مع العلم بحصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بخلافه على مسلك المشهور في المشروط فأنه على هذا المسلك لما كان لايكون التكليف بالنسبة إلى ذيها فعليا الا بعد حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا مجال لدعوى وجوب مقدماته الوجودية من الحين بالوجوب الغيري ، فلابد حينئذ اما من الالتزام بعدم وجوبها رأسا أو الالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي التهيئي العقلي ، وهذا وان التزم به المشهور المنكرون لفعلية التكليف في المشروطات قبل حصول شرطها نظراً إلى دعوى استقلال العقل في نحو هذه المقدمات بوجوب تحصيلها فرارا عن تفويت الواجب في ظرفه ، ولكنه مع كونه التزاما بما لا يلزم لا يخلو عن اشكال واضح ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى في تنبيهات المسألة.

في تصوير المعلق
اشارة

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا في الواجب المشروط على المختار يظهر لك امكان تصوير الواجب المعلق أيضا وهو الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء ولكن الواجب فيه مقيد بأمر استقبالي غير اختياري حتى في ظرفه ولو لكونه قهري الحصول والتحقق في موطنه كالوقت مثلا ، كما في الحج في الموسم ، أو مقيدا بأمر اختياري لكن لا بمطلق وجوده بل بوجوده الاتفاقي الناشي من جهة غير اختيار المكلف ، أو بوجوده الناشي من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والتكليف ، إذ نقول حينئذ بان مثل هذه القيود بعد أن كانت راجعة إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف بالصلاح والمفسدة لا في أصل الاحتياج واتصاف الذات بالمصلحة والصلاح كما في قيود التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فلا جرم تبعا للعلم الفعلي بقيام المصلحة التامة المطلقة

ص: 303

بالمقيد المزبور يتعلق به الاشتياق الفعلي المطلق البالغ إلى حد الانقداح المعبر عنه بالإرادة أيضا بلا حالة منتظرة في البين ولا إناطة لها في فعليتها بحصول القيود المزبورة في الخارج ، بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا بوجه أصلا.

نعم غاية ما هناك هو خروج القيود المزبورة من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها عن حيز التكليف بالايجاد محضا لا عن مباديها أيضا فكان جميع مبادئ الإرادة من الميل والمحبة والاشتياق متحققة بالنسبة إليها ، ولكنها من جهة عدم قابليتها لتعلق الإرادة بها كانت خارجة عن حيز التكليف بالايجاد ، ولكن مجرد خروجها عن حيز التكليف أيضا غير مقتض لإناطة أصل التكليف في فعليته بحصولها في الخارج كما في قيود الوجوب في المشروطات على مسلك المشهور بل ولا بفرضها ولحاظها أيضا ، كيف وان قضية كونها قيودا للواجب ليست الا دخل تقيداتها في المطلوب بنحو الجزئية ، وحينئذ فكما ان الامر بالمركب من الاجزاء الخارجي لايكون في فعليته بكل جزء منوطا بوجود الجزء الآخر بل ولا بفرضه ولحاظه أيضا بل كانت الاجزاء في عرض واحد في كونها متعلقا للامر والتكليف ، غاية الامر انه لايكون للتكليف المتعلق بها اطلاق يقتضي مطلوبية المركب حتى في ظرف فقد بعض الاجزاء ، وذلك أيضا لمكان توئمية الاجزاء في مشموليتها للطلب ثبوتا وسقوطا أيضا ، كذلك المركب من الاجزاء التحليلية وهي التقيدات ففيها أيضا لايكون الامر بالمقيد ببعض القيود منوطا في فعليته بحصول قيوده في الخارج ولا بفرضها ولحاظها أيضا من غير فرق في ذلك بين أن يكون القيد من القيود الاختيارية أو من القيود الغير الاختيارية ، غاية الامر في فرض عدم اختيارية القيد أو فرض كون الدخيل في الغرض هو وجوده الاتفاقي ولو مع اختياريته يخرج القيد حينئذ عن حيز نفس التكليف بالايجاد ، فلايكون التكليف بالمقيد حينئذ مطلقا بنحو يقتضي حفظ وجود المقيد على الاطلاق حتى من ناحية ما هو خارج عن اختيار المكلف أو من ناحية ما كان دخله بوجوده من باب الاتفاق ، لا أنه يوجب نفى التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل حصول قيده كما هو واضح ، فيكون مرجع التكليف الفعلي بالمقيد بقول مطلق قبل خارجا عن الاختيار إلى التكليف بسد باب عدمه فعلا من ناحية ما هو تحت قدرة المكلف واختياره من المقدمات الوجودية والأضداد في ظرف العلم بانسداد عدمه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار ونتيجة ذلك انما هي لزوم حفظ المقيد فعلا من قبل

ص: 304

مقدماته الوجودية الاختيارية عند العلم بانحفاظه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار كما هو واضح.

وعلى ذلك فحيثما أمكن تصور الواجب المعلق أيضا في قبال المشروط منه فلا جرم يكون الأقسام في الواجب ثلاثة لا انه ينحصر بالقسمين المطلق والمشروط كما قيل من امتناع المعلق واستحالته ، وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من امكان تصور قسم ثالث للواجب أيضا ، وراء المطلق المنجز والمشروط ، وهو الذي يكون الواجب أمرا استقباليا مقيدا بزمان الاستقبال وكان الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء حتى في الفرض واللحاظ ، في قبال المشروط المشهور الذي يكون الوجوب فيه منوطا بوجوب الشرط والمنوط به في موطن الخارج الملازم لعدم فعليته أيضا قبل حصول شرطه في الخارج ، وفي قبال المشروط لدى المختار الذي يكون الوجوب فيه فعليا لكن منوطا بفرض الشيء ولحاظه لا مطلقا كما هو واضح.

ثم انه قد يقرب وجه ابطال المعلق واستحالته وامتناع تعلق التكليف الفعلي بالامر الاستقبالي قبل حصول ظرفه بان حقيقة الإرادة بعد أن لم تكن عبارة عن مجرد الميل والمحبة والاشتياق نحو الشيء بل كانت عبارة من تلك الحالة الانقداحية الحاصلة في النفس المستتبعة لتحريك العضلات نحو المراد فلا جرم تحتاج في فعليتها وتحققها إلى أن تكون في ظرف الاشراف على المراد الذي هو ظرف القدرة عليه من جهة انه بدونه يستحيل تحقق تلك الحالة الانقداحية الخاصة الموجبة لتحريك العضلات ، من غير فرق في ذلك بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، فكما انه في الإرادة التكوينية لايتحقق حقيقة تلك الحالة الانقداحية المحركة للعضلات الا في ظرف اشراف المريد على العمل وفي ظرف القدرة عليه كذلك أيضا في الإرادة وفعليتها من كونها في ظرف اشراف المأمور والمكلف على المراد وفي ظرف القدرة عليه.

ومحصل هذا التقريب انما هو دعوى احتياج الإرادة في فعليتها وتحققها إلى كون المراد مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة وانه بدونه لايكاد تحقق تلك الحالة الانقداحية المعبر عنها بالإرادة بوجه أصلا ، فيقال حينئذ بان الامر الاستقبالي لما كان غير مقدور للمكلف قبل حصول قيده أو ظرفه فلا جرم يمتنع توجيه التكليف الفعلي أيضا نحوه بالايجاد ، فمن ذلك لابد من جعل التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده الخارج عن

ص: 305

الاختيار في الخارج ، ومعه يرجع تلك المعلقات إلى المشروط إذ لا نعنى من المشروط الا ما كان الوجوب فيه منوطا بوجود قيده في الخارج فيبطل حينئذ القول بالمعلق بواسطة امتناع تعلق الوجوب الفعلي بالامر الاستقبالي والمقيد ببعض القيود الغير الاختيارية ، ومن أجل هذا البيان أيضا قيل بلزوم المصير إلى تدريجية فعلية التكليف بالاجزاء في المركبات التدريجية كالصلاة ونحوها وان فعلية التكليف بكل جزء من المركب انما هو في ظرف الاشراف عليه الذي هو ظرف الفراغ عن الاتيان بالجزء السابق عليه ، لا ان التكيف بالجميع كان فعليا من الأول ، هذا

ولكنك خبير بما في هذا التقريب ، إذ نقول بأنه وان كان لابد في صحة توجيه التكليف الفعلي نحو الشيء من كونه مقدورا للمكلف وبدون القدرة عليه لايصح الطلب والبعث إليه فعلا ، ولكنه نمنع اعتبار كونه مقدورا له بلا واسطة في ظرف الإرادة ، بل نقول بأنه يكفي في فعلية الإرادة والتكليف بالعمل مطلق القدرة على ايجاده في ظرفه ولو بتوسيط مقدماته ، لان قدرته الفعلية على المقدمات هي عين القدرة على ايجاد العمل في ظرفه ، حيث إنه كان له فعلا حفظ المطلوب الاستقبالي بايجاد مقدماته الوجودية الاختيارية كما كان له عدم حفظه وتفويته بعدم ايجاد مقدماته الوجودية فعلا ، ومن المعلوم حينئذ انه يكفي هذا المقدار من القدرة الفعلية على المطلوب الاستقبالي في صحة توجيه البعث والتكليف الفعلي نحوه

كيف وان لازم البيان المزبور من اعتبار القدرة بلا واسطة على العمل في صحة البعث الفعلي هو الالتزام بعدم فعلية التكليف في الواجبات المطلقة أيضا فيما كان منها يحتاج إلى مقدمات عديدة لأنها أيضا غير مقدورة قبل حصول مقدماتها في الخارج ، فلابد وأن يكون فعلية التكليف فيها أيضا في ظرف حصول مقدماتها الذي هو ظرف الاشراف على المطلوب وظرف القدرة عليه ، ولازمه هو انكار الإرادة الغيرية رأسا في كلية الواجبات بالنسبة إلى المقدمات الوجودية لأنه في ظرف عدم حصول المقدمات إذا لم تكن الإرادة النفسية متحققة بالنسبة إلى ذيها بملاحظة عدم امكان الانبعاث نحوه فلا جرم يمتنع تصور الإرادة الغيرية أيضا بالنسبة إلى مقدماته الوجودية ، وحينئذ فلابد من نفى الوجوب الغيري عن تلك المقدمات رأسا والالتزام بكونها واجبة بالوجوب النفسي التهيئي ، وهذا وان التزم به بعض من سلك مثل هذا المسلك كصاحب تشريح الأصول

ص: 306

فيما حكاه الأستاذ دام ظله ولكن مثل هذا الالتزام كما ترى لايمكن المصير إليه وذلك لما فيه من مخالفته لما عليه اطباق العقلاء بل وبداهة الوجدان القاضي بغيرية تلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات الوجودية كما في إراداتنا التكوينية المتعلقة بمثل المشي إلى السوق لشراء اللحم والى الحمام للغسل من الجنابة والى مسجد الكوفة للصلاة فيه ونحو ذلك ، وعليه فيتوجه عليهم الاشكال بأنه إذا كانت تلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات الوجودية إرادة غيرية توصلية بالوجدان لا نفسية ولو تهيئية فيستحيل انفكاكها عن فعلية الإرادة بذيها لان تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار.

وحينئذ فبمقتضى هذا البرهان بعد قضاء الوجدان بكون الإرادة المتعلقة بالمقدمات إرادة غيرية توصيلة لا محيص من الالتزام بفعلية الإرادة النفسية بالنسبة إلى ذيها أيضا قبل حصول مقدماته ، كي منها يترشح إرادة غيرية نحو مقدماته والمصير إلى كفاية مطلق مقدورية العمل ولو بالواسطة في صحة توجيه التكليف الفعلي نحوه وعدم احتياجها أي الإرادة في فعليتها إلى اعتبار كون المتعلق مقدورا بلا واسطة في ظرف الإرادة والتكليف كي تحتاج إلى لزوم كونها في ظرف الاشراف على العمل ، كما هو واضح.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا كان ذلك شأن الإرادة في الواجبات المطلقة المنجزة وفي الإرادات التكوينية فأمكن فعلية الإرادة فيها قبل حصول المقدمات الوجودية فليكن كذلك في الواجبات المعلقة أيضا ، فأمكن فيها تعلق الإرادة الفعلية حالا بالمقيد بالقيد الاستقبالي كالزمان قبل حصوله ، فلا تحتاج إلى كونها في ظرف الاشراف على الواجب الذي هو ظرف حصول قيده ، كما كان يشهد لذلك أيضا نفس الانشاء الصادر من المولى حيث إنه بعد أن كان ذلك لأجل التوصل به إلى وجود المراد البعدي لا من جهة مطلوبية الانشاء نفسا فلا محالة تكون الإرادة المتعلقة به إرادة غيرية توصلية ، ومعه بمقتضي عدم انفكاكها عن إرادة ذيها لابد من الالتزام بكون الإرادة المتعلقة بالفعل البعدي فعلية حال الانشاء كي منها يترشح إرادة غيرية إلى الانشاء المزبور ، نعم غاية ما في الباب ان محركية هذه الإرادة لنفس المطلوب كانت في ظرف الاشراف عليه الذي هو ظرف حصول قيده ، واما قبل ذلك فلا تكون محركيتها الا لمقدماتها الوجودية كما هو الشأن أيضا في الواجبات المطلقة المنجزة التي تحتاج إلى مقدمات عديدة ، حيث كانت الإرادة بحدوثها محركة و

ص: 307

باعثة نحو مقدمات المطلوب وببقائها إلى حين حصول المقدمات محركة نحو نفس المطلوب ، لا انه عند حصول المقدمات يحدث في النفس حالة أخرى توجب البعث نحو المطلوب ، كما هو واضح.

وقد يقرب ابطال المعلق واستحالته بوجه آخر ولو مع تسليم كفاية مطلق المقدورية ولو بالواسطة في صحة التكليف الفعلي بالعمل وذلك بتقريب ان المقيد بالقيد الغير الاختياري كالزمان مثلا تبعا لعدم اختيارية قيده قبل حصول قيده غير مقدور للمكلف بقول مطلق لا بالواسطة ولا بدونها ، من جهة وضوح عدم قدرة المكلف والمأمور على الاتيان بالعمل البعدي قبل حصول قيده وظرفه لا بالواسطة ولا بدونها ، فان ما هو مقدور له حينئذ انما كان ذات المقيد لا بوصف كونه مقيدا ، وذات المقيد لم تكن مما يترتب عليه الغرض والمصلحة ، بل المترتب عليه الغرض والمصلحة هو المقيد بوصف كونه مقيدا فإذا كان ذلك غير مقدور له قبل حصول قيده في الخارج فلا جرم يستحيل تعلق التكليف الفعلي بايجاده ومعه فلا محيص وأن يكون التكليف الفعلي به منوطا بحصول قيده في الخارج. ومن هذه الجهة أيضا يندفع شبهة الانتقاض المزبور بالواجبات المطلقة التي لها مقدمات وجودية حيث نقول بان صحة التكليف الفعلي في الواجبات المطلقة قبل حصول مقدماتها الوجودية مع كونه في الحقيقة من البعث إلى امر متأخر انما هو من جهة كونه مقدورا للمكلف ولو بواسطة القدرة على مقدماته ، حيث إنه من اجل ذلك يصير البعث الفعل والانبعاث إليه متصفا بصفة الامكان بخلافه في الفعل المتقيد بأمر غير مقدور كالمتقيد بالزمان المتأخر ، حيث إنه باعتبار امتناع تحققه قبل حضور وقته وحصول قيده غير مقدور للمكلف على الاطلاق حتى بالواسطة ، فمن ذلك لايكاد يصح البعث الفعلي نحوه الا بعد حضور وقته وحصول قيده ، بجعل فعلية التكليف منوطة بوجود القيد في موطن الخارج ولا نعنى من المشروط الا هذا.

وقد يقرب ذلك بعبارة أخرى وهي ان المعتبر في صحة البعث الفعلي نحو الشيء انما هو امكان انبعاث المكلف إليه وقوعيا علاوة عن الامكان الذاتي فيقال حينئذ بأنه لا ريب في تحقق هذا المعنى حينئذ في فعل له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل ، وذلك انما هو من جهة كونه في نفسه أمرا ممكنا قابلا للوقوع في كل آن ولو في زمان عدم وجود علته ، كما في الاحراق ، حيث إنه امر ممكن قابل للتحقق في كل زمان حتى في زمان عدم حصول علته غير أن عدم

ص: 308

تحققه وامتناعه كان من جهة عدم حصول علته لا من جهة امتناعه في نفسه بالامتناع الوقوعي ، وحينئذ فإذا كان الامكان الذاتي والوقوعي محفوظا فيه مع عدم حصول علته وامتناعه بالغير فلا جرم أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا ، من جهة المعيار في صحة البعث الفعلي انما كان هو امكان الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي ، فإذا أمكن الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي أمكن البعث الفعلي نحوه أيضا ، وهذا بخلافه في الفعل المتقيد بالزمان المتأخر فإنه لما كان يمتنع تحققه في نفسه قبل حضور وقته وحصول قيده فلايكاد اتصاف الانبعاث إليه بوصف الامكان الوقوعي ومعه لايكاد يصح البعث الفعلي نحوه أيضا من جهة ما عرفت من الملاك في صحة البعث الفعلي نحو الشيء وانه امكان الانبعاث إليه بالامكان الوقوعي ، فعلى ذلك الفرق بين فعل له مقدمات وجودية اختيارية غير حاصلة وبين الفعل المتقيد بأمر غير مقدور كالمتقيد بالزمان المتأخر من حيث صحة البعث الفعلي في الأول وعدم صحته في الثاني الا بعد حصول الواجب انما هو من جهة محفوظية الامكان الوقوعي في الأول وعدم محفوظيته في الثاني ، باعتبار امتناع تحققه في نفسه قبل حضور وقته وحصول قيده ، فمن ذلك لا محيص من جعل الطلب في نحو هذه الأمور منوطا بحصول قيده في الخارج كما في المشروطات. هذا غاية ما أفيد في وجه بطلان المعلق وفى الفرق بينه وبين المطلق الذي له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل.

ولكنه كما ترى لايكاد يجدي شيئا ، إذ نقول أولا : بان ما أفيد من الفرق المزبور بالملاك المسطور انما يفيد في مثل الاحراق ونحوه من الأمور التي لم يكن لها ما يمنع عن قابلية وقوعها في زمان علتها ، لا في فعل كل ما له مقدمات اختيارية غير حاصلة بالفعل كالصلاة ونحوها مما اعتبر فيها الهيئة الخاصة المعهودة التي ينافيها ويضادها بعض الأمور فان مثل الصلاة باعتبار ما لها من الهيئة الاتصالية المعهودة لا اشكال في كونها مضادة مع فعل مثل الوضوء والغسل ونحوهما كمضادتها مع سائر المنافيات من الافعال التي يوجب وقوعها في أثنائها خروج تلك الهيئة عن كونها هيئة صلاتية ، وعلى ذلك نقول بأنه من الواضح انه مع تلك المضادة لايكاد اتصاف الصلاة بالامكان الوقوعي في كل زمان حتى في زمان عدم وجود مقدمتها التي عبارة عن الوضوء والغسل ، وحينئذ يتوجه شبهة الانتقاض بالواجبات المطلقة إذ يقال حينئذ بأنه يكفي في امتناعها الوقوعي تلك المضادة الجائية من قبل ما اعتبر فيها من الهيئة الخاصة وان كان في الفعل المتقيد بالزمان المتأخر

ص: 309

جهة أخرى زائدة وهي امتناع تحققه بذاته قبل حضور وقته.

وثانيا نقول : بان امكان الانبعاث نحو المطلوب وان كان مما لابد منه عقلا في صحة البعث الفعلي ولكن نقول : بان لا دليل على اعتباره في ظرف التكليف بل يكفي فيه امكانه في ظرف العمل لان الذي يحكم العقل باستحالته من التكليف بما لايقدر عليه المكلف انما هو في مورد خروج الفعل عن المقدورية بقول مطلق حتى في ظرفه لا مطلقا كما هو واضح.

ومع الغض عن ذلك نقول : بأنه انما يجدي ذلك في ابطال المعلق إذا كان المقصود من اثبات المعلق اقتضاء البعث الفعلي نحو الفعل المتقيد بالزمان المتأخر لحافظية وجود المقيد بقول مطلق حتى من ناحية قيوده الخارجة عن الاختيار ولكنه ليس كذلك ، والا لاقتضى هذا البيان عدم صحة البعث الفعلي نحوه حتى في ظرف حصول قيده من باب الاتفاق من جهة ان مجرد حصول القيد غير الاختياري لايوجب صيرورة المقيد بما هو مقيد اختياريا بقول مطلق ، بل المقصود اقتضاء التكليف المزبور للامر بسد باب عدمه من قبل ما هو تحت اختيار المكلف من المقدمات في ظرف انسداد عدمه من ناحية القيود الخارجة عن الاختيار ، وعليه نقول : بان ذلك كما أنه يوجب صحة التكليف بالمقيد بعد حصول قيده في الخارج وكان مرجع التكليف به حينئذ إلى التكليف بسد باب عدمه من ناحية بقية القيود الاخر الاختيارية كذلك يوجب صحة التكليف الفعلي نحوه أيضا قبل حصول قيده في الخارج نظراً إلى تمكنه فعلا من هذا المقدار من الحفظ كتمكنه من عدم حفظه أيضا بتفويت تلك المقدمات وعدم ابقاء قدرته إلى ظرف حصول القيد الذي هو ظرف الواجب ، وحينئذ فإذا فرض تمكنه فعلا من حفظ المقيد بالوقت الاستقبالي من قبل المقدمات الاختيارية وكانت المصلحة أيضا تامة في قيامها بالمقيد فعلا فلا جرم قضية الاشتياق الفعلي إلى المقيد المزبور البعث الفعلي نحوه يوجب ذلك وجوب الاتيان بما له من المقدمات الاختيارية التي لولا تحصيلها في الحال لما كان له القدرة على تحصيلها في ظرف الواجب من جهة ترشح الوجوب الغيري حينئذ إلى تلك المقدمات ولا نعنى من فعلية الوجوب في المعلق قبل حصول قيده الا هذه المقدار

فعلى ذلك لايبقى مجال لانكار المعلق والمصير إلى رجوعه إلى المشروط ونفى التكليف الفعلي فيه قبل حصول قيده بمثل البيانات المزبورة ، كيف وان نفس صدور الانشاء من

ص: 310

المولى في هذه الموارد بعد معلومية كونه لأجل التوصل إلى وجود المراد البعدي لا من جهة مطلوبية نفسا بمقتضي تبعية الإرادة الغيرية للإرادة النفسية في الفعلية والشأنية واستحالة الانفكاك بينهما أقوى شاهد وأعظم برهان على فعلية إرادة المطلوب وتحققها أيضا ، كيف وان كثيرا ما لايكون للمولى إرادة فعلية في ظرف حصول قيد الواجب وذلك لما يعرض عليه من الحالات المنافية معها كالنوم والغشوة والغفلة ونحو ذلك كما لو قال افعل غدا كذا مع كونه في الغد نائما أو مغشيا عليه ، فعلى هذا المسلك يلزم القول بخلو هذا الانشاء عن الطلب والمصير إلى عدم وجوب شيء على المأمور في ظرف الغد ، مع أنه كما ترى ، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه الاتيان بما امره المولى به في الغد وانه لو تركه يصح للمولى ان يعاقبه ، ولايصح له الاعتذار بأنه لم يصدر من المولى طلب ولا بعث فعلى ، لان الانشاء منه غير متكفل للبعث الفعلي وفي ظرف الغد كان المولى نائما غير مريد للفعل بإرادة فعلية ، وهكذا فيما لو علق المولى طلبه بما هو ضده كالنوم والغشوة بقوله : ( ان نمت فافعل كذا في حال نومي وان غشي على فاصنع كذا واعط زيدا كذا وان مت فافعل كذا ) فإنه على ما ذكرنا من عدم فعلية الإرادة في ظرف الانشاء يلزم عدم وجوب شيء على العبد في الأمثلة المزبورة من جهة عدم ملزم عليه في البين يقتضي وجوب الاتيان بالمأمور به بعد فرض خلو الانشاء المزبور عن الطلب وانتفائه أيضا بالوجدان في حال النوم والغشوة ، مع أنه كما ترى ، فان بداهة الوجدان قاض بوجوب الاتيان عليه بما هو المأمور به في ظرف واستحقاقه للعقوبة على الترك فيما لو خالف ، ومعلوم ان لايكون له وجه الا انشائه المتكفل لفعلية طلبه ومن ذلك يصح للمولى ان يحتج عليه بذلك بقوله : « اني بعثتك نحو العمل وطلبته منك بقولي افعل كذا في الغد ان نمت أو غشي على » كما هو واضح وحينئذ فكان ذلك كله من الموهنات للقول بانكار المعلق وارجاعه إلى المشروط فتدبر.

نعم لو كان لابد من انكاره وارجاعه إلى المشروط ، فكان الحري حينئذ ارجاعه إلى المختار من المشروط الذي لاينافي مع فعلية الإرادة كما صنعه بعض الاعلام في درره فيلتزم حينئذ بفعلية الإرادة المنوطة بالفرض واللحاظ كما حققناه المستتبعة لعدم محركيتها نحو المطلوب الا في ظرف تحقق الشرط والمنوط به في الخارج مع تأثيرها أيضا في نفس المكلف فعلا بالنسبة إلى المقدمات المفوتة ، وان كان ذلك أيضا خلاف التحقيق ، كما مر

ص: 311

سابقا عند بيان اختلاف أنحاء القيود في كيفية دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد ، بان قيود المحتاج إليه غير راجعة إلى الطلب كي يكون الطلب بمباديه منوطا بوجودها ولو في الفرض واللحاظ ، وانما كان ذلك شأن قيود الاحتياج حيث إنها كانت راجعة إلى الطلب دون المتعلق ، من غير فرق في ذلك بين أنحاء القيود من حيث الاختيارية وغير الاختيارية غايته انه في فرض عدم اختيارية القيد أو دخله بوجوده الاتفاقي تكون خارجة عن الطلب نفسه لا عن مباديه أيضا ، ومجرد هذا المقدار من الخروج أيضا عن حيز الطلب غير مقتض لإناطة الطلب بوجوده ولو في الفرض واللحاظ فضلا عن الخارج ، كما هو واضح.

وحينئذ فعلى التحقيق تكون الأقسام في الواجب ثلاثة : أحدها الواجب المنجز ، وثانيها المعلق الذي يكون الوجوب فيه فعليا مطلقا غير منوط بشيء ولو في الفرض واللحاظ والواجب مقيدا استقباليا ، وثالثها المشروط الذي يكون الوجوب فيه لدى المختار فعليا منوطا بفرض القيد ولحاظه وغير فعلى لدى المشهور الا بعد حصول الشرط في الخارج في قبال المعلق الذي عرفت فعلية الوجوب فيه واطلاقه ، فكان الفرق حينئذ بين المعلق وبين المختار من المشروط من جهة اطلاق الإرادة وإناطته والا فهما مشتركان لدى المختار في فعلية الوجوب والتكليف.

ثم انه بعد أن ظهر امكان كل من المعلق والمشروط ثبوتا يبقى الكلام في مقام الاثبات في امكان كون القيد في حيز الخطاب من قيود الطلب والهيئة أو قيود المتعلق وعدم امكانه.

فنقول : الذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قدس سره على ما في التقريرات هو المنع عن جواز كون الشرط من قيود الهيئة والطلب ، حيث منع عن جواز كونه من قيود الطلب والتزم بتعين رجوعه إلى المادة والمتعلق ولو مع اقتضاء القواعد العربية خلافه ، ولكن الظاهر بقرينة الاستدلالي الآتي اختصاص المنع المزبور بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل بالهيئة محضا كقوله ان جاءك زيد فأكرمه والا ففي فرض انشائه بمادة الوجوب كقوله ان جاءك زيد يجب عليك اكرامه أو اطلب منك كذا لايتوجه المنع المزبور ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فعمدة ما أفيد في تقريب امتناع كون الشرط من قيود الهيئة و

ص: 312

الطلب ولزوم كونه من قيود المادة وجهان : تارة بما اختاره الكفاية من المسلك في الحروف والهيئات : من جعل معانيها معاني آلية لمتعلقاتها وجعل الفارق بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي بتقريب ان لازم آلية المعنى فيها ومرآتيته هو عدم جوازه تقييده نظراً إلى اقتضاء التقييد لكونه ملحوظا استقلالا واستلزام ذلك لانقلاب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الأسمى بل واستلزامه لاجتماع النظرين أيضا النظر الآلي والاستقلالي ، وأخرى بان معاني الهيئات كالحروف معان جزئية لكونها من قبيل الوضع العام وخاص الموضوع له ، فلا اطلاق للفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة حتى يصح تقييده ، مع أن تفرع تقيد الشيء على اطلاقه كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار هذا.

ولكن يرد على الوجهين المزبورين المنع عن أصل المبني فإنه قد تقدم في محله ان الحروف وكذا الهيئات معانيها عبارة عن الإضافات الخاصة والارتباطات القائمة بالطرفين ، فكان الفرق حينئذ بينها وبين الأسماء من جهة نفس المعنى والملحوظ لا من جهة اللحاظ الآلي والاستقلالي كما عليه مسلك الكفاية ، كما أنه قد تقدم أيضا عموم الموضوع له فيها كالوضع نظراً إلى تحقق القدر المشترك بين الإضافات الخاصة من كل سنخ منها ، وعليه فلا مانع عن ورود القيد على الهيئة بوجه أصلا ، على أنه لو سلم كون المعنى فيها جزئيا وخاصا فإنما هو باعتبار الخصوصيات الذاتية ، وهذا المقدار لايقتضي خروج المعنى فيها عن الاطلاق وعن قابلية التقييد بالنظر إلى الطواري والعوارض اللاحقة ، ولذلك ترى ان زيدا مع كونه جزئيا وخاصا كان مطلقا بالنظر إلى الحالات والطوارئ العارضة عليه من نحو القيام والقعود ونحوهما.

نعم لو أريد من خصوصية المعنى فيه وجزئيته كونه خاصا وجزئيا بقول مطلق على معنى اشتماله على جميع ما بفرض من الخصوصيات حتى الناشئة من الطوارئ الخارجية بحيث كان انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد لكان لما ذكر من عدم قابلية المعنى في الهيئة للتقييد كمال مجال ، وعليه أيضا لايكاد يتوجه الاشكال الكفاية قدس سره بأنه انما يمنع عن التقييد فيما لو أنشأ أولا غير مقيد لا ما إذا أنشأ من الأول مقيدا بنحو الدالين والمدلولين فإنه غير انشائه أولا ثم تقييده ثانيا ، إذ نقول بأنه على هذا الفرض لا محالة يكون القيد المزبور من خصوصيات الطلب المدلول بالهيئة حيث كان

ص: 313

انشاء مدلول الهيئة مساوق انشاء الطلب المقيد ومعه لايبقى مجال لتقيده بالقيد المزبور ، كيف وانه على فرض عدم كون ذلك من خصوصياته لابد وأن يكون المدلول في الهيئة هو الطلب المجامع مع الخصوصية تارة وغير الجامع معها أخرى فيلزم كونه مطلقا من هذه الجهة وهو خلف بالفرض ، لأن المفروض هو كونه جزئيا غير قابل للتقييد. ومن ذلك ظهر عدم المجال لما افاده أيضا من حديث تعدد الدال والمدلول لان ذلك انما يكون في فرض تجريد الهيئة عن تلك الخصوصية بجعلها عبارة عن الطلب المجامع معها تارة والمفارق عنها أخرى كي يكون الدال على ذات الطلب الهيئة وعلى الخصوصية القيد الخارجي والا فمع عدم تجريد ها عنها كما هو الفرض من اخذ الخصوصية فيها لا جرم يكون الدال على الذات والخصوصية هو الهيئة فقط ، كما هو واضح.

ولكن الذي يسهل الخطب هو بطلان أصل الفرض فان جزئية المعنى في الحروف والهيئات لو قيل بها فإنما هي باعتبار الخصوصيات الذاتية لا مطلقا حتى بالنظر إلى الخصوصيات الناشئة من الطوارئ والعوارض الخارجية خصوصا الناشئة منها من الجهات التعليلية كالعلة والشرط فإنها مما لايكاد يمكن اخذها في ذات المعنى ، ومن ذلك ترى الفرق الواضح بين مثل قوله : أكرم زيدا لعلمه أو ان كان عالما وبين قوله أكرم زيدا العالم من حيث كون تمام الموضوع للحكم في الأول هو زيدا وفى الثاني زيدا المتقيد بالخصوصية بنحو خروج القيد ودخول التقيد بحيث كان زيد جزء الموضوع والجزء الآخر هو التقيد بالعلم والخصوصية ، وعليه فلا يمنع مجرد جزئية المعنى في الهيئة عن تقيدها وارجاع الشرط إليها فأمكن اثباتا أيضا كل من المعلق والمشروط.

واما ما افاده قدس سره من البرهان الآخر في امتناع كون الشرط من قيود الطلب ولزوم كونه من قيود المتعلق فقد عرفت الجواب عنه سابقا بأنه من الخلط بين أنحاء القيود بجعل دخلها في المطلوب على نمط واحد وليس كذلك فراجع هناك تعرف. نعم لو اغمض عن ذلك لايتوجه عليه اشكال الكفاية بان الشيء المقيد مع العلم بقيام الغرض به كما يمكن ان يبعث إليه فعلا ويطلبه حالا كذلك يمكن ان يبعث إليه ويطلبه استقبالا وعلى تقدير تحقق شرط متوقع الحصول ولو لأجل مانع في البين عن الطلب والبعث إليه فعلا قبل حصوله وحينئذ فلايكون طلبه وبعثه الفعلي الا في ظرف حصول ذلك القيد الملازم لارتفاع المانع ، إذ مضافا إلى منافاته مع ما يقتضيه ظهور القضايا

ص: 314

الشرطية في كون المنوط به للطلب هو نفس القيد والشرط لا أمرا آخر ملازما لوجوده كما يقتضي البيان المزبور من جعل الطلب من تبعات عدم المانع الذي هو ملازم لوجود القيد ، نقول بأنه مع تمامية المصلحة في المتعلق وهو المقيد وعدم مزاحمتها مع مفسدة أهم وجودا لا محالة يكون مجرد الالتفات إلى تلك المصلحة غير المزاحمة مع المفسدة علة تامة للاشتياق التام البالغ إلى حد الإرادة ، وفي مثله لايكاد يمنع عنه ما ذكر من المانع والمفسدة المزبورة بعد عدم مزاحمتها وجودا مع مصلحة المطلوب ، وذلك من جهة ان تلك المفسدة حسب ترتبها على الإرادة والطلب تكون معلولة للطلب وفى رتبة متأخرة عنه فيستحيل حينئذ مانعيتها عن نفس الطلب فضلا عن ممانعتها عن مصلحة المطلوب والمتعلق. وتوهم ان المانع حينئذ عن الطلب حقيقة هو العلم بترتب المفسدة على الطلب لا نفس المفسدة فلا محذور مدفوع بان مانعية العلم انما تكون باعتبار كشفه عن معلومه فكان ما هو المانع بنظر العقل هو نفس المعلوم والمنكشف دون العلم وحينئذ يتوجه المحذور المزبور بأنه كيف يمكن مانعية ما هو معلول الشيء وفي رتبة متأخرة عنه عن ذلك الشيء؟ ومن ذلك أيضا نقول بامتناع تبعية الاحكام لمصالح في نفسها وانها لابد من كونها تابعة لمصالح في متعلقاتها فتصح الكلية المدعاة بان الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية وان كل ما حكم الشرع بوجوبه يحكم العقل بحسنه.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة ما افاده من المقايسة المزبورة بما في موارد الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع وفى الاحكام التي لم يكشف عنها النبي صلی اللّه علیه و آله ولا الأئمة علیهم السلام فبقيت إلى زمان القائم عجل اللّه فرجه الشريف إذ نقول بان عدم فعلية تلك الأحكام في الموارد المزبورة يمكن ان يكون من جهة مزاحمة مصالحها لمصالح أخرى أهم ولو كانت هي مصلحة التسهيل أو لمفسدة كذلك بحسب الوجود ، فلايرتبط حينئذ بالمقام المفروض خلو المتعلق فيه عن المفسدة ، وحينئذ نقول : بان المولى بعد أن لاحظ المقيد وعلم بان فيه مصلحة غير مزاحمة مع المفسدة لا جرم يحدث في نفسه الاشتياق التام فيريده فعلا من دون حالة منتظرة أصلا.

نعم ابراز تلك الإرادة واظهارها ربما يحتاج إلى عدم المانع إذ لايكفي فيه مجرد العلم بالمصلحة ولا الاشتياق التام نحوه ، ومن ذلك نرى بالوجدان ان الانسان ربما يشتاق إلى الشيء بل يريده أيضا من عبده بإرادة فعلية ولكن مع ذلك لا يتمكن من ابراز الإرادة و

ص: 315

اظهارها خوفا عما يترتب عليه من المفاسد في نظره ، كما لو فرض انه كان هناك عدو له يقتله بمحض اظهاره للإرادة أو يحسد عليه فيضره ونحو ذلك من المفاسد ، كما لعله من هذا القبيل ولاية ولى اللّه علیه السلام حيث كان عدم اظهار النبي صلی اللّه علیه و آله للولاية للناس من أول الامر لمكان خوفه صلی اللّه علیه و آله من أن يرتد الناس عن دينهم لما يرى صلی اللّه علیه و آله من ثقل الولاية عليهم ، فمن ذلك أخر اظهارها مدة متمادية مع ما فيها من المصالح أعلاها إلى أن شدد عليه ونزل الآية المباركة : « يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك »

نعم إذا كان عدم اظهار الإرادة علة تامة لعدم تحقق الوجود في الخارج مع فرض قيام المصلحة به فحينئذ يستكشف من عدم اظهار الإرادة عدم بلوغها إلى مرتبة الفعلية من جهة كشفه إنا عن ابتلاء المصلحة المزبورة فيه بمفسدة أخرى أهم وجودا كما في الاحكام التي لم يكشف عنها النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة المعصومون علیهم السلام وكما في موارد الامارات والأصول المؤدية إلى خلاف الواقع. ولكن مثل ذلك كما عرفت غير مرتبط بالمقام المفروض خلو مصلحة المتعلق عن الابتلاء بالمفسدة وجودا خصوصا مع تحقق الانشاء الفعلي أيضا من المولى. وحينئذ فلايكاد يجدي ذلك لدفع ما أورده الشيخ قدس سره في لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاع المشروطات إلى المعلقات ثبوتا واثبات كون الطلب في القضايا الشرطية منوطا بحصول الشرط وتحققه في الخارج بحيث لا طلب ولا إرادة قبل حصول الشرط خارجا ، بل العمدة في الجواب عنه هو الذي ذكرناه من الفرق بين أنحاء القيود في مقام دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد فراجع تعرف.

وحينئذ فعلى التحقيق بعد ما أمكن كل من المعلق والمشروط ثبوتا واثباتا أيضا برجوع القيد الواقع في القضية إلى الهيئة تارة والمادة أخرى فلا جرم يكون المتبع في استفادة انه من أي القبيل هو لسان الدليل ، وفي مثله يفرق بين مثل قوله : ان جاءك زيد فأكرمه أو يجب اكرامه أو قوله : أكرم زيدا ان جاءك الظاهر في إناطة الوجوب بمادته بالمجيء وبين قوله : أكرم زيدا الجائي بنحو القضية الوصفية الظاهر في اطلاق الوجوب وفي كون الموضوع هو الذات المتقيدة والمتصفة بالوصف العنواني في قبال القضايا الشرطية الظاهرة في أن تمام الموضوع للحكم في القضية هو نفس الذات محضا.

ص: 316

ثم انه يظهر من بعض الاعلام عدم صحة ما في التقريرات من لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاعها إلى المادة لدى الشيخ قدس سره حيث قال نقلا عن أستاذه السيد العلامة الشيرازي قدس سره بأنه ليس المراد من تقييد المادة لدى الشيخ قدس سره ما يقتضيه ظاهر التقريرات بل المراد هو تقييد المادة من حيث ورود النسبة عليها وبعبارة أخرى المادة المنتسبة ، لان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج ، كما في الحج مثلا فإنه مطلقا غير متصف بالوجوب بل المتصف بالوجوب هو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية فما لم يجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ( انتهى )

أقول : وأنت خبير بعدم اجداء مثل هذا الحمل أيضا لدفع ما أورده من الاشكال على المشروط ، فإنه ان أريد بالمادة المنتسبة المادة المتقيدة بمفهوم الانتساب الذي هو معنى اسمى لا حرفي فهو كما عرفت خارج عن محل الكلام ومن ذلك خصصنا الاشكال من الأول بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل منشأ بالهيئة وان أريد بها المادة المتقيدة بالنسبة بما هي معنى حرفي ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد فلا شبهة حينئذ في أنه غير واف حينئذ بدفع ما ذكر من الاشكال من حيث جزئية المعنى أو مرآتيته فان النسبة بما هي معنى حرفي حيثما يكون جزئيا ومغفولا عنه بالفرض تمنع عن جواز ارجاع القيد إلى المادة المنتسبة والا فمن الأول أيضا يجوز ارجاعه إلى نفس الهيئة فلايحتاج إلى التجشم المزبور كما هو واضح وان أريد بها المادة في حال كونها منسوبة إلى الهيئة لا بما هي متقيدة بالانتساب إليها بنحو دخول التقيد وخروج القيد فهذا غير ما ذكره التقريرات من جهة وضوح انه ليس المراد من تقيد المادة في كلامه تقيدها بما هي مطلقة وعارية عن ورود النسبة عليها بل المراد هو تقيدها في حال كونها تحت الهيئة لا مطلقة ولا مقيدة بالانتساب ، كما لايخفى.

تنبيهان :

الأول : لاينبغي الاشكال في عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب وقيوده في المشروط وخروجها عن حريم النزاع ، وهكذا الحال في القيود الوجودية للواجب في المعلق

ص: 317

مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ، فإنها أيضا غير واجبة التحصيل ولو كانت مقدورة للمكلف ، والسر في ذلك واضح. وذلك اما بالنسبة إلى قيود الوجوب في المشروط ، فلما تقدم من خروجها عن حيز الإرادة والطلب بمباديه من الاشتياق والمحبوبية أيضا ، واما بالنسبة إلى القيود الوجودية للواجب في العلق مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ولو مع مقدوريتها فكذلك أيضا ، وذلك اما على القول برجوعه أيضا إلى المشروط فظاهر ، واما على المختار فلأنها حسب دخلها في وجود المتصف والمحتاج إليه وان كانت غير خارجة عن حيز مبادئ الإرادة من المحبوبية والاشتياق حتى مع عدم مقدوريتها ولكن قضية اخذها بوجودها من باب الاتفاق توجب خروجها حينئذ عن حيز الطلب بنحو يستحيل ترشح التكليف. إليها.

واما سائر القيود الوجودية للواجب من المقدمات المفوتة التي لايقدر على تحصيلها فيما بعد في زمان الواجب في المعلق وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في المشروط ، فلا اشكال فيها أيضا في ثبوت الوجوب لها في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها في الحال قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بناء على ما اخترنا سابقا من فعلية الإرادة والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج في غاية الوضوح ، لان مقتضي فعلية الوجوب والتكليف فيهما حينئذ هو ترشح الوجوب الغيري إلى تلك المقدمات فتصير حينئذ واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واما بناء على القول بعدم فعلية الإرادة والتكليف بهما قبل حصول القيد في الخارج ففيه اشكال ، من جهة انه من المستحيل حينئذ ثبوت الوجوب الغيري لتلك المقدمات في الحال مع عدم فعلية الوجوب بالنسبة إلى ذيها ، فعلى ذلك لو قيل بوجوبها في الحال فلابد وأن يكون بوجوب نفسي ولو تهيئي لا غيري مقدمة ، وهو أيضا مما يحتاج إلى قيام دليل عليه بالخصوص من اجماع أو غيره يقتضي وجوب تحصيلها بوجوب نفسي تهيئي ، وحينئذ فان قام في البين نص أو اجماع على وجوب تحصيل تلك المقدمات تعبدا فهو والا فمقتضى القاعدة بعد عدم فعلية الوجوب والتكليف بالنسبة إلى ذيها هو عدم وجوبها وان كان أدى تركها في الحال إلى ترك الواجب في ظرفه عند حصول قيده وشرطه من جهة امتناع تحققه في ظرفه حينئذ بعد ترك تلك المقدمات في الحال.

واما ما أفيد كما عن بعض الاعلام من ثبوت الوجوب العقلي لها حينئذ بمناط تلك

ص: 318

القاعدة العقلية المسلمة ، وهي قاعدة ان الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار عقابا كما في السقوط إلى الأرض لمن ألقى نفسه بالاختيار من شاهق ، بتقريب انه وان كان بترك تحصيل مقدمات الواجب قبل حصول شرط الوجوب يمتنع حصول الواجب في ظرفه وعند تحقق شرائط الوجوب ، ولكن هذا الامتناع حيثما كان مستندا إلى سوء اختياره لتركه تحصيل مقدماته الوجودية في أول أزمنة الامكان لا محالة يعاقب على ترك الواجب في ظرفه ، فمن ذلك يحكم بداهة العقل بوجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الامكان لتحصيل القدرة حتى لايترتب على تركها فوت الواجب والملاك في ظرفه ، فمدفوع بان قضية الامتناع بالاختيار انما لاينافي العقاب إذا كان الامتناع ناشيا عن سوء الاختيار لا مطلقا ولو كان ناشيا عن حسن الاختيار بواسطة ترخيص شرعي أو عقلي في البين على الترك ، إذ حينئذ لاينبغي الاشكال في أنه ينافيه العقاب ، كما يكشف ذلك موارد القطع بعدم حصول المنوط به والشرط في الخارج مع مخالفة قطعة للواقع وحصول الشرط والمنوط به في الخارج ، فإنه حينئذ لا اشكال في أنه ترك الاتيان بالمقدمات الوجودية المفوتة للواجب فامتنع بذلك الاتيان بالواجب في ظرفه لايكاد يترتب عليه العقوبة بوجه أصلا ، وهكذا في موارد الجهل بأصل وجوب الامر البعدي حيث لايترتب العقوبة على تركه في موطنه بمجرد عدم اتيانه في الحال بالمقدمات الوجودية المفوتة ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا كان موضوع العقاب في القاعدة المزبورة عبارة عن الامتناع الناشئ عن سوء الاختيار لا مطلق الامتناع ولولا عن سوء الاختيار نقول بأنه لابد حينئذ مع قطع النظر عن تلك القاعدة من اثبات وجوب تلك المقدمات عقلا أو شرعا في الحال كي يترتب على ترك تحصيلها كون الامتناع امتناعا عن سوء الاختيار فيترتب عليه الحكم باستحقاق العقوبة عليه بمقتضي القاعدة المزبورة ، والا فلايمكن اثبات وجوبها وكونه امتناعا عن سوء الاختيار بمقتضي تلك القاعدة من جهة ما فيه من الدور الواضح. وحينئذ نقول بأنه إذا لم يقم دليل خاص من اجماع أو غيره على كونها واجبة بالوجوب النفسي ولو التهيئي وامتنع أيضا كونها واجبة بالوجوب الغيري الترشحي من جهة ما هو الفرض من انتفاء التكليف الفعلي بذيها قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا جرم تبقى المقدمات تحت الترخيص العقلي ، وحينئذ فإذا ترك المقدمات المزبورة فامتنع الواجب في ظرفه لأجل تركه تحصيل المقدمات من الأول فلا جرم لايكاد يكون الامتناع

ص: 319

المزبور امتناعا عن سوء الاختيار حتى يترتب عليه بمقتضي القاعدة المزبورة الحكم باستحقاق العقوبة عن التفويت ، كما هو واضح. وحينئذ فمن أين يمكن اثبات وجوب المقدمات المزبورة بمقتضي القاعدة المزبورة حتى أمكن استكشاف وجوبها الشرعي أيضا ولو بنحو متمم الجعل؟

واما توهم كفاية العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد وابتلائه بغرض المولى بعد حصول الشرط في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات من الحين واستحقاقه للعقوبة على تفويته بترك تحصيل مقدماته الوجودية من الحين ، من جهة انتهاء امتناعه في ظرفه إلى اختياره ، كما يشهد عليه ضرورة الوجدان فيمن يعلم ابتلائه بعد ساعة بعطش شديد في بر لايكون فيه ماء مع كونه قادرا في الحال على تحصيل الماء وحفظه لوقت احتياجه إلى الشرب لرفع عطشه ، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه تحصيل الماء في وقته وحفظه إلى وقت احتياجه بحيث لو لم يحصل الماء ولم يحفظه فأصابه من العطش ما أصاب يكون مذموما عند العقلاء على ما اصابه من العطش بواسطة عدم تحفظه وعدم تحصيله الماء عند تمكنه منه ، ومن المعلوم انه لايكون له وجه الا وجوبه عليه من الأول

فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب فيما بعد من قبل مقدماته الوجودية الاختيارية فهو صحيح ، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه من فعلية الوجوب والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج ، من جهة انه لا نعنى من فعلية الوجوب والتكليف فيهما قبل حصول الشرط الا هذا المقدار وعليه أيضا يكون وجوب المقدمات الوجودية وجوبا غيريا ترشحيا لا نفسيا تهيئيا ، وان أريد انه لايكون في الحال تكليف فعلى بالنسبة إلى ذيها ولو بهذا المقدار وان فعلية التكليف بقول مطلق انما يكون فيما بعد وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في الخارج الا ان مجرد العلم بحصول الشرط في الخارج وثبوت التكليف فيما بعد موجب لوجوب تحصيل مقدماته الوجودية من الحين واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب في ظرفه بترك تحصيل مقدماته الوجودية بلحاظ انتهاء فوت الواجب في ظرفه إلى اختياره ، فهو ممنوع جدا ، حيث نقول بان ما هو المصحح للعقوبة على تفويت الواجب انما هو البيان في ظرف التكليف لا مطلقه ولو في القبل ، كما هو الشأن أيضا في طرف العكس حيث كان اللابيان الموضوع لقبح العقوبة هو خصوص اللابيان في ظرف التكليف لا مطلق عدم البيان ولو

ص: 320

مع انقلابه بالنقيض في ظرف التكليف ، ومن ذلك لو علم في الحال بأنه يتوجه إليه تكليف من المولى في الغد لابتلائه بغرض كذا وكذا ولكنه غفل في الغد عن التكليف فلم يأت بالمأمور به أو انقلب علمه شكا فأجرى البراءة عن التكليف لايكاد يستحق العقوبة عليه ، كما أنه في فرض العكس لو قطع بعدم التكليف في الغد ثم انقلب قطعه في الغد إلى القطع بالوجود يستحق العقوبة عليه لو خالفه. وحينئذ نقول بأنه إذا كان المدار في البيان وكذا اللابيان على البيان في ظرف التكليف فلا جرم بعد فرض عدم التكليف الفعلي بذيها قبل حصول الشرط والمنوط به خارجا لايكاد يجدي مجرد العلم بحصول المنوط به والشرط وفعلية التكليف والغرض بذيها بعد ذلك في وجوب تحصيل مقدماته الوجودية واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب بوجه أصلا الا باثبات كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب البعدي من قبل مقدماته الاختيارية ومعه يرجع لا محالة إلى ما ذكرناه ، كما هو واضح.

ثم إن هذا كله في غير المعرفة من المقدمات ، واما هي فقد يقال كما عن بعض الاعلام بأنها تكون واجبة بالوجوب الطريقي لتنجيز الواقع عند الإصابة كما في سائر الطرق بحيث كان العقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، ولكن التحقيق خلافه إذ نقول بان التعلم لا يخلوا امره اما ان يكون تركه يؤدى إلى الغفلة عن أصل التكليف في ظرفه ، واما ان لايكون كذلك بل كان بعد يحتمل وجود التكليف ، وعلى الثاني اما ان يتمكن من الاحتياط في ظرفه بالجمع بين المحتملات واما ان لا يتمكن من الاحتياط كما لو دار الامر بين الوجوب والحرمة في فعل شخصي. فعلى الأول يكون حال التعلم حال المقدمات المعدة التي يلزم من عدم تحصيلها عدم القدرة على الواجب في ظرفه لأنه بعد تأدية تركه إلى الغفلة عن التكليف يكون غير قادر على الاتيان بالواجب ومعه يكون حكمه حكم سائر المقدمات المفوتة ، طابق النعل بالنعل. واما على الثاني فلا وجه لوجوبه رأسا مع فرض تمكنه من الاحتياط البناء على صحة عمل المحتاط التارك لطريقي الاجتهاد والتقليد الا إذا فرض كونه غير معذور في هذا الجهل تكليفا ، وعليه يكون وجوبه ارشاديا محضا لا طريقيا. واما على الثالث فكذلك أيضا حيث إنه لايكون وجوبه الا ارشاديا محضا لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف الواقعي كما في موارد العلم الاجمالي بالتكليف في الجمع بين المحتملات. فعلى كل تقدير حينئذ لا معنى لدعوى

ص: 321

وجوب التعلم بالوجوب الطريقي كما في الطرق بل هو مما يدور امره بين كونه واجبا بملاك المقدمات المعدة التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه وبين كونه بملاك الارشاد العقلي لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف كما في الجمع بين المحتملات في موارد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كما هو واضح.

وكيف كان فعلى ما اخترناه في المشروط والمعلق من فعلية الوجوب فيهما قبل المنوط به والقيد في الخارج ووجوب المقدمات الوجودية قد يتوجه الاشكال بالنسبة إلى بعض المقدمات الوجودية للواجب كالوضوء والغسل قبل دخول وقت الصلاة حيث يقال بان لازم القول بفعلية الوجوب والتكليف في المشروطات والمعلقات قبل حصول قيودها في الخارج هو لزوم اتصاف مثل هذه المقدمات بالوجوب الغيري إما على التخيير فيما لو علم بتمكنه من تحصيل الوضوء والغسل بعد دخول الوقت وإما على التعيين إذا يعلم بعدم تمكنه من تحصيلهما في ظرف الواجب لولا تحصيلهما في الحال ، ولازمه هو الالتزام بوجوب تحصيل الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة بل ولزوم ابقائهما إلى ما بعد دخول الوقت إذا فرض كونه متطهرا قبل دخول الوقت ، مع أنه لايكون كذلك من جهة قيام الاجماع منهم على عدم وجوب تحصيل الطهارة الحدثية قبل الوقت حتى مع العلم بعدم تمكنه من تحصيلها في الوقت وعدم وجوب ابقائها أيضا إلى ما بعد دخول الوقت. ولكن الجواب عن ذلك انما هو بدعوى ان أصل وجوب الطهور كالصلاة كان منوطا بدخول الوقت بمقتضى قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) فكان عدم وجوب التحصيل الوضوء والغسل قبل دخول الوقت من جهة التعليق المزبور الظاهر في أن ما فيه ملاك المقدمية للصلاة هو الطهور بعد الوقت فلا اشكال حينئذ يرد على ما ذكرنا.

واما ما قد يقال : من اقتضاء ذلك حينئذ لعدم جواز الاكتفاء بالطهارة الحاصلة قبل الوقت لأجل غاية أخرى من الغايات إذا فرض بقائها من باب الاتفاق إلى ما بعد دخول الوقت مع أنه ليس كذلك قطعا ، فمدفوع بان ما هو المقدمة انما هو الطهارة بعد الوقت ولو بوجودها البقائي فلا يعتبر فيها كونها حادثة أيضا بعد الوقت وحينئذ فإذا فرض انه كان متطهرا قبل الوقت فبقيت من باب الاتفاق إلى أن دخل الوقت يجوز الاكتفاء بها في الدخول في الصلاة ، وبعبارة أخرى ما هو المقدمة هو الطهارة بعد الوقت بما هي جامعة بين وجودها الحدوثي أو وجودها البقائي فيه من باب الاتفاق ، ومن ذلك لو فرض بقائها

ص: 322

إلى حين دخول الوقت يجب عليه تخييرا أو تعيينا في فرض الانحصار ابقائها وحفظها إلى أن يأتي بالصلاة معها وحينئذ فلا اشكال يرد في البين من هذه الجهة أيضا.

هذا بالنسبة إلى نفس الوضوء والغسل ولقد عرفت ان عدم وجوبها قبل الوقت انما هو على قواعد التعليق المستفاد من ظاهر قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) ومن قوله سبحانه : ( فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الظاهر في إناطة الوجوب في الطهور كأصل الصلاة بدخول الوقت. واما سائر مقدماته كتحصيل الماء وحفظه ونحوهما فلابد من تحصيلها تخييرا أو تعيينا إذا فرض العلم بعدم التمكن منه في الوقت لولا تحصيلها في الحال ، وذلك أيضا على القواعد التي ذكرناها في كلية المقدمات الوجودية ، وعليه أيضا يكون ما ورد على وجوب حفظ الماء قبل الوقت من النصوص على طبق القواعد ، لا انه كان ذلك حكما تعبديا من الشارع ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : لو شك بالشك البدوي في قيديه شيء للوجوب أو الواجب بنحو التعليق أو التنجيز ، فان كان القيد حاصلا بالفعل فلا اشكال حيث لا ثمرة في البين يترتب عليه ، وأما إذا كان غير حاصل بالفعل فمقتضى الاطلاق في جميع الصور هو ثبوت الوجوب ، وفى الثالثة عدم وجوب تحصيل المشكوك القيدية. ومع عدم الاطلاق فالبرائة نتيجتها التقييد في الأول ونتيجتها الاطلاق في الأخيرين. هذا إذا كان الشك في أصل تقيد الوجوب أو الواجب.

وأما إذا علم بأصل التقييد ولكنه دار الامر بين كونه قيدا للوجوب أو الواجب ، فأصالة الاطلاق تجرى في كل من الهيئة والمادة وبعد التساقط يكون المرجع هو الأصل العملي. ولا ينظر حينئذ في ترجيح أحد الاطلاقين على الاخر إلى حيث الأقوائية كما توهم ، لان ذلك انما يكون فيما لو كان التعارض بين الاطلاقين في نفسهما لا في مثال المقام الذي كان التعارض بينهما لأجل العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما ، إذ حينئذ لايكون مجرد اقوائية أحدهما موجبا لارجاع القيد إلى الآخر فتأمل. هذا إذا كان التقييد في دليل منفصل ، واما لو كان ذلك في دليل متصل فالامر أظهر ، إذ حينئذ باتصال الكلام بذلك وصلاحيته للعروض على كل واحد منهما لاينعقد الظهور الاطلاقي لواحد منهما ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه هو البراءة عن وجوب تحصيل القيد فيما إذا كان الدوران بين المشروط وبين المطلق المعلق أو المنجز. وأما إذا كان الدوران

ص: 323

بين المشروط وبين المعلق فلا ثمرة بالنسبة إلى القيد لأنه غير واجب التحصيل على كل تقدير. وكذلك الامر بالنسبة إلى نفس الواجب وذلك اما في فرض حصول القيد في الخارج فواضح من جهة وجوب الاتيان بالمأمور به والواجب حينئذ على كل تقدير ، واما في فرض عدم حصوله فللعلم بعد الفائدة. في الاتيان حينئذ إما لعدم وجوبه رأسا لو فرض رجوعه إلى الهيئة والوجوب واقعا وإما من جهة انتفاء قيده على فرض رجوعه إلى المادة والواجب ، فعلى كل تقدير يقطع بعدم الفائدة في ايجاده حينئذ ، كما هو واضح. ولعله إلى ذلك أيضا نظراً القائل بالعلم بتقييد المادة على كل تقدير من جهة استلزام تقييد الهيئة أيضا لبطلان محل الاطلاق في المادة ، لعدم انفكاكها حينئذ عن وجود قيد الهيئة فتدبر.

ومن التقسيمات تقسيم الواجب إلى النفسي

فالغيري فالغيري هو الذي يكون الغرض من ايجابه التوصل به إلى وجود واجب آخر ، والنفسي ما لايكون كذلك كالمعرفة باللّه سبحانه والصلاة والصوم والحج ونحوها من العباديات والتوصليات.

ثم إن وجود هذين القسمين في الواجبات وان كان وجدانيا غير قابل للانكار ولكن الظاهر هو كون الغرض من ذلك دفع ما يتوهم وروده من الاشكال من لزوم ترتب مثوبات وعقوبات كذلك على فعل واجب واحد له مقدمات عديدة نظراً إلى تخيل ان المثوبة والعقوبة تابعتان لفعل مطلق الواجب وتركه ، إذ يستشكل حينئذ بأنه على الملازمة من وجوب المقدمة أيضا يلزم ترتب مثوبات متعددة على فعل واجب واحد له مقدمات متعددة وعقوبات كذلك على تركه بما له من المقدمات ، لأنه ترك واجبات متعددة ، فمن اجل ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم فقسموا الواجب إلى الغيري والنفسي للتنبيه على أنه ليس مطلق الواجب مما يترتب عليه فعلا وتركا استحقاق المثوبة والعقوبة حتى يتوجه الاشكال المزبور وان الذي يترتب عليه ذلك انما هو خصوص الواجب النفسي واما الواجب الغيري فحيث انه كان وجوبه لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر فلايكاد يترتب عليه فعلا أو تركا استحقاق المثوبة والعقوبة بوجه

ص: 324

أصلا وحينئذ فلاينافي القول بوجوب المقدمة شرعا وحدة المثوبة والعقوبة على فعل الواجب وتركه كي يكون مجال للاشكال المزبور ، هذا.

أقول : ولكن لايخفى عليك ما في هذا الجواب والاشكال المزبور ، حيث إنه مبني على كون مدار استحقاق المثوبة والعقوبة على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، والا فبناء على كونهما من تبعات عنوان التسليم للمولى وعنوان الطغيان عليه بما انه ابراز للجرئة عليه والتمرد عن امره ونهيه الجامعين بين الانقياد والإطاعة والتجري والعصيان كما هو التحقيق على ما حققناه في مبحث التجري فلا مجال لهذا الجواب ولا موقع أيضا للاشكال المزبور ، نظراً إلى امكان الحكم حينئذ بترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا مع الالتزام بعدم تعدد المثوبة والعقوبة عند تعدد المقدمات بلحاظ كونهما تابعتين في الوحدة والتعدد لتعدد التسليم والطغيان ووحدتيهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، وذلك انما هو من جهة وضوح انه كما يتحقق عنوان التسليم والطغيان بموافقة الأوامر النفسية ومخالفتها كذلك يتحقق أيضا بموافقة الأوامر الغيرية ومخالفتها ، ومن ذلك بمجرد كونه في صراط الإطاعة وشروعه في مقدمات المأمور به ترى انه يمدحونه العقلاء ويحكمون باستحقاقه الأجر والثواب من دون انتظار منهم في المدح وحكمهم باستحقاق الأجر والثواب إلى وقت اتيانه بما هو المطلوب النفسي للمولى كما لايخفى ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ما ذكرنا من تحقق عنوان التسليم بموافقة الامر الغيري أيضا كتحققه بموافقة الامر النفسي ، والا لكان اللازم عدم الحكم باستحقاق الأجر والثواب فعلا الا بعد اتيانه بما هو المطلوب النفسي. وهكذا الامر في طرف الطغيان فإنه أيضا مما يتحقق بمجرد شروعه في مقدمات الحرام أو تركه لما هو مقدمة الواجب حيث إنه يصدق عليه بأنه ممن أبرز الجرئة على المولى وصار بصدد التمرد عن امره ونهيه ، ومن اجل ذلك يصير موردا للتوبيخ والذم من العقلاء بلا حالة منتظرة أيضا في ذلك إلى وقت فوت الواجب النفسي ، كما فيمن رمى سهما لقتل مؤمن مع كون السهم يبلغ إليه بعد ساعة فإنه من الحين يصير هذا الرمي موردا للذم عند العقلاء ، كما هو واضح.

وعلى ذلك نقول : بأنه إذا كان مدار المئوية والعقوبة على عنوان التسليم والطغيان لا على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته وكان التسليم أيضا

ص: 325

يتحقق بموافقة الامر الغيري ومخالفته كتحققهما بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، فلا قصور في الحكم بترتب المثوبة والعقوبة على الواجبات الغيرية التوصلية أيضا بل وترتب القرب عليها أيضا فيما لو كان الاتيان بها بداعي أمرها ، ومن ذلك قلنا سابقا في مبحث قصد القربة باشتراك الواجبات التوصلية مع التعبدية من جهة المقربية نظراً إلى عدم انفكاك الامر بها عن القربة وعدم اتصاف المأتى به فيها بعنوان المأمور به الا باتيانها عن دعوة أمرها ، وان تمام الفرق بين التوصلي والتعبدي انما كان من جهة مدخلية حيث القرب في سقوط الامر وسقوط الغرض في العبادات وعدم مدخلية في التوصليات ، من جهة سقوط أمرها وحصول الغرض فيها بمحض حصول العمل وتحققه كيفما اتفق ولولا عن داع قربى ، كما هو واضح.

واما اشكال لزوم تعدد المثوبة والعقوبة في فعل واجب واحد له مقدمات وتركه بترك ما له من المقدمات ، فغير وارد ، من جهة ما عرفت من أن وحدة المثوبة والعقوبة تابعة وحدة التسليم والطغيان وتعددهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، فإذا لايكون الغرض حينئذ الا واحدا لايكون له الا تسليم واحد وطغيان كذلك ، ومعه لايكاد يترتب عليه الا مثوبة واحدة وعقوبة كذلك وان كان له مقدمات عديدة لا تحصى ، وعلى ذلك فالتسليم وان كان يتحقق بمجرد شروع العبد في المقدمة ويستحق عليه المثوبة ، ولكنه لما كان الغرض واحدا فلا محالة يكون التسليم أيضا واحدا ويمتد هذا التسليم الواحد إلى زمان الاتيان بذيها الذي هو المطلوب النفسي ، كما أنه كذلك أيضا في طرف الطغيان حيث إنه يتحقق بمجرد الشروع في المقدمة ويمتد إلى زمان تحقق الحرام في الخارج ، لا انه يتعدد التسليم والطغيان بتعدد المقدمات حتى يلزمه تعدد المثوبة والعقوبة أيضا كما هو واضح ، كوضوح ان استحقاقه للمثوبة والعقوبة على التسليم والطغيان بشروعه في مقدمات الواجب أو الحرام أيضا انما يكون فيما إذا استمر على ذلك ولم يحصل له البداء بعد ذلك في العصيان أو الإطاعة ، والا فلو حصل له البداء بعد ذلك وحصل منه الطغيان بترك الواجب يكون طغيانه ذلك بعكس التوبة من الحين رافعا لما استحقه على تسليمه السابق بحيث كأنه لم يفعل شيئا ولم يتحقق منه التسليم أصلا مع صدور هذا الطغيان منه ، كما أنه في صورة العكس يكون الامر بالعكس. فإذا كان بصدد ترك الواجب أو فعل الحرام وأتى ببعض المقدمات ثم ندم واتى بالواجب أو ترك الحرام

ص: 326

يكون تسليمه ذلك باتيان الواجب وترك الحرام رافعا لما استحقه على طغيانه من الحين بحيث كأنه لم يتحقق منه الطغيان أبدا ، نعم لو كان عدم حصول الواجب والمأمور به لا من جهة حصول البداء له وطغيانه بل من جهة عدم تمكنه منه خارجا لموت أو مرض أو غير ذلك مع كونه بصدد الامتثال واتيان المأمور به يدخل ذلك حينئذ في الانقياد فيستحق المثوبة حينئذ على انقياده ، كما أنه في فرض العكس يكون الامر بالعكس فيندرج في التجري ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فعلى ما ذكرنا من تبعية المثوبة والعقوبة ودورانهما مدار عنوان التسليم والانقياد للمولى وتبعيتهما أيضا في الوحدة والتعدد مدار تعدد التسليم والطغيان ووحدتهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده يظهر لك عدم المجال أيضا لما أفيد في دفع الاشكال المزبور من تخصيص المثوبة والعقوبة بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، إذ نقول بأنه لا وجه حينئذ لهذا التخصيص بعد صدق عنوان التسليم والطغيان على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا وان مجرد وحدة المثوبة والعقوبة أيضا على فعل واجب واحد وتركه غير مقتض للالتزام بكونهما من تبعات خصوص موافقة الامر النفسي ومخالفته ، بل يلتزم حينئذ بترتبهما أيضا على موافقة الامر الغيري ومخالفته لمكان تحقق عنوان التسليم والانقياد بذلك ، ويدفع الاشكال المزبور من جهة وحدة التسليم والطغيان ووحدة الغرض بما ذكرناه من البيان ويقال بعدم استحقاقه على فعل واجب له مقدمات الا مثوبة واحدة ولا على تركه بترك ما له من المقدمات ما لا تحصى الا عقوبة واحدة ، كما لايخفى. وعلى ذلك فلو فرض انه يعطى على فعل كل مقدمة ثوابا مستقلا فلابد وأن يكون ذلك من باب التفضل لا من باب الاستحقاق ، كما أنه من ذلك أيضا ما ورد في فضل زيارة مولانا أبي عبد اللّه الحسين روحي وارواح العالمين فداه بأنه لكل قدم ثواب حج وعمرة ، وان الامر بقصر الاقدام أيضا انما هو من جهة ان تكثر المقدمات فيزداد بذلك مقام التفضل عليه باعطائه ذلك الأجر والثواب العظيم الذي وعد اللّه زائريه ، نسأل اللّه سبحانه ان يكتبنا من زوار قبره الشريف ويحشرنا معه ولا يسلب عنا مجاورة قبر أبيه علیه السلام .

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا من قابلية الأوامر الغيرية لترتب المثوبة والعقوبة وقابليتها أيضا للمقربية باتيان متعلقها بداعي أمرها ، يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف

ص: 327

على الطهارات الثلاث التي ثبت عباديتها من بين المقدمات ، من تقريب انه كيف المجال لمقربيتها ولترتب المثوبة عليها مع أن الامر الغيري بما هو امر غيري من جهة توصليته لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله ، إذ نقول بان ذلك كله مبني على تخصيص المثوبة والعقوبة والقرب والبعد بموافقة الامر النفسي ومخالفته والا فعلى ما ذكرنا من المدار في استحقاق المثوبة والعقوبة بكونه على عنوان التسليم للمولى وبالفارسي ( فرمانبردارى از مولى وتن زير بار مولى دادن ) فلا جرم يندفع تلك الاشكالات وذلك : اما اشكال ترتب المثوبة فمن جهة تحقق موضوعه وهو عنوان التسليم كما أوضحناه ، واما اشكال المقربية فكذلك أيضا من جهة تحقق القرب حينئذ باتيانها بداعي محبوبيتها ومراديتها للمولى ولو بإرادة غيرية.

وعلى ذلك لايحتاج في التفصي عن الاشكال إلى الجواب عنه تارة بما أفيد في الكفاية من كشف رجحان نفسي في هذه الطهارات بدعوى ان مقربيتها حينئذ انما هي لكونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية وان الاكتفاء بأمرها الغيري لمكان أنه لايدعو الا إلى ما هو عبادة في نفسه ، وأخرى بكشف عنوان بسيط يكون هو المأمور به كما عن الشيخ بدعوى انه ربما لا تكون تلك الحركات والسكنات محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذي صارت بهذا العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلابد حينئذ في اتيانها بذلك العنوان من حيلة وهي قصد ذلك الامر المقدمي وذلك أيضا لا من جهة اقتضاء الامر الغيري لذلك بل من جهة الإشارة إلى ذلك العنوان نظراً إلى عدم دعوة هذا الامر الا إلى ما هو الموقوف عليه فالاتيان بالطهارات حينئذ بقصد أمرها كان من جهة احراز العنوان الذي لأجله صارت تلك الحركات والسكنات مقدمة وموقوفا عليها ، كي يورد عليه بما في الكفاية من امكان الإشارة الاجمالية حينئذ إلى ذلك العنوان البسيط بوجه آخر ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا مع كون الداعي إليها شيئا آخر من شهوة أو غيرها ، وعدم وفائه أيضا بدفع اشكال ترتب المثوبة بلحاظ ان قصد الامر لأجل احراز عنوان المقدمة لا لكون المأمور به مطلوبا على جهة التعبد به غير موجب لاستحقاق المثوبة عليه من جهة ، وثالثة بغير ذلك مما هو مذكور في التقريرات وغيره.

وبالجملة فهذه الأجوبة كلها كما ترى مبنية على عدم قابلية الأوامر الغيرية من جهة

ص: 328

توصليتها للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقتها ، والا فعلى ما ذكرنا من قابليتها كالأوامر النفسية لكلا الامرين لايتوجه أصلا هذا الاشكال حتى يحتاج إلى تلك الأجوبة.

نعم قد يتوجه هنا اشكال آخر على الطهارات ولو مع البناء على قابلية الامر الغيري كالنفسي للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقته وذلك انما هو بتقريب ان الامر الغيري انما يتعلق بالمقدمة فارغا عن كونها مقدمة وموقوفا عليها ، والمقدمة في مثل الوضوء والغسل بعد أن كانت عبادة لابد من عباديتها في رتبة سابقة على الامر حتى يتعلق بها الامر الغيري ، وحينئذ فإذا كانت مقدميتها بما هي عبادة متوقفة خارجا على هذا الامر الغيري يلزم الدور وهو محال. ولكن يدفع هذا الاشكال أيضا بما دفعنا به في مبحث قصد القربة عن كلية العبادات بالالتزام بأمرين يتعلق هذا الامر الغيري بذات الوضوء وذات الغسل باعتبار كونها مما لها الدخل في تحقق ذيها ومما يتوقف عليها وجود الواجب ولو بنحو الضمنية لأنها أيضا مما يلزم من عدمها العدم مع الكشف أيضا عن تعلق امر غيري آخر بوصفها وهو اتيانها بداعي أمرها المتعلق بها ، فإذا اتى المكلف حينئذ بالوضوء في الخارج بداعي امره الغيري يتحقق الوضوء القربى الذي جعل مقدمة للصلاة. وعليه أيضا لايحتاج في الجواب عنه إلى كشف رجحان نفسي في نفس هذه الطهارات كما صنعه في الكفاية كما لايخفى. خصوصا مع ما يرد عليه على مسلكه من عدم اجداء تعدد الرتبة لمحذور اجتماع الحكمين المتماثلين أحدهما الرجحان النفسي القائم بذات المقدمة في رتبة سابقة على الامر الغيري وثانيهما رجحانه الثابت في رتبة متأخرة عن الامر الغيري فتأمل.

وكيف كان فقد يشكل على التقسيم المزبور بلزوم خروج أكثر الواجبات النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا نظراً إلى غيريتها بحيث لب الإرادة من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد هو غرض الاغراض الذي هو في الشرعيات تكميل العباد وقربهم إلى المبدء الاعلى وفى العرفيات استراحة النفس ، كما يتضح ذلك في امرك بشراء اللحم المعلوم كونه لأجل الطبخ الذي هو لغرض الاكل الذي هو لرفع الجوع الذي هو لغرض استراحة النفس ، وهكذا سائر الواجبات العرفية حيث إنها من جهة انتهائها بالآخرة إلى استراحة النفس التي هي غرض الاغراض تكون الإرادة المتعلقة بها إرادة غيرية.

ص: 329

وقد تصدى في الكفاية لدفع الاشكال ، وقال ما حاصله : ان الفرق بينهما من جهة الداعي والباعث فإذا كان الداعي والباعث على طلب شيء وارادته المصلحة الكائنة في نفس العمل فالواجب نفسي وان كان فيه أيضا ملاك المقدمية ، واما لو كان الداعي والباعث على طلبه المصلحة المقدمية فالواجب غيري وان كان فيه أيضا مصلحة مستقلة فإنه يخرج حينئذ عن كونه نفسيا ويكون واجبا غيريا. ولكنه كما ترى فإنه لو فرض تصوره في الشرعيات غير جار في الواجبات العرفية المتداولة بين أنفسنا ، وذلك من جهة وضوح ان الداعي والباعث في جميع الواجبات العرفية هو حيث مقدميتها ومن ذلك ترى انه لو أمرت عبدك باتيان الماء فسألك عن انك لأي غرض أمرت باتيان الماء تقول بأنه لغرض الشرب ولو سأل عن ذلك أيضا تقول بأنه أريد الشرب لغرض رفع العطش وهو لغرض استراحة النفس التي هي غرض الاغراض ، وحينئذ فإذا كان لب الإرادة في جميع الواجبات العرفية غيريا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف الحال لهذا التقسيم.

وقد أجيب أيضا عن الاشكال بان حقيقة الإرادة التشريعية بعد ما كانت عبارة عن إرادة الفعل من الغير يكون الواجب النفسي عبارة عما كان مرادا من المكلف لا لأجل مراد آخر منه ، والواجب الغيري ما كان مرادا لأجل مراد آخر منه أيضا ، فإذا أراد شراء اللحم من زيد لغرض الطبخ فان كان طبخه أيضا مرادا منه يكون ذلك واجبا غيريا وان لم يكن طبخه مرادا منه يكون واجبا نفسيا ، وعليه فمثل الصلاة والصوم والحج ونحوها مما لم يرد من المكلف مصالحها يكون من الواجب النفسي ، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور ، ولكن فيه ان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن إرادة وجود العمل بما انه فعل اختياري للمكلف وان إضافة نشو كونه منه انما هو من جهة اقتضاء توجيه التكليف بالايجاد إليه ، وذلك أيضا بلحاظ انه من جهة كونه فعلا الاختياري غير قابل للتحقق الا من قبله والا فلايكون المراد بالإرادة التشريعية الا نفس فعل الغير. وعليه نقول : بأنه إذا لايكون الامر بشراء اللحم من جهة مطلوبية الشراء نفسا مع قطع النظر عن الطبخ بل كان ذلك من جهة مقدميته لغرض الطبخ الذي هو لغرض الاكل فلا جرم لا تكون هذه الإرادة الا غيرية ، ومعه يتوجه الاشكال المزبور من لزوم خروج أكثر الواجبات النفسية كما لايخفى.

ص: 330

وحينئذ فالأولى في الجواب انما هو بجعل التقسيم المزبور بلحاظ مقام التحميل ومرحلة البعث والا لزام لا بلحاظ لب الإرادة وعليه يكون الواجب الغيري هو الذي امر به لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر ثبت وجوبه بتحميل مستقل ، والواجب النفسي ما لايكون كذلك ، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور في الواجبات النفسية في مثل الصوم والصلاة والحج ونحوها في الشرعيات ، ومثل شراء اللحم وسقى الماء في العرفيات ، لأنه فيما لما لم يثبت تحميل وايجاب على ما يترتب عليها من الاغراض كان ايجابها ايجابا نفسيا بحسب مقام التحميل ، وان كان غيريا بحسب لب الإرادة على ما عرفت. ولا منافاة أيضا بين غيرية الشيء ومقدميته بحسب لب الإرادة وبين نفسيته بحسب مرحلة التحميل والايجاب ، إذ يمكن ان يكون الشيء مع كونه غيريا بحسب لب الإرادة نفسيا بحسب مقام التحميل. ثم انه مما يشهد على ما ذكرنا أيضا من كون التقسيم بلحاظ مقام التحميل لا بلحاظ لب الإرادة تعريفهم الواجب الغيري بما ذكرنا ، بأنه ما امر به لأجل التوصل إلى وجود واجب آخر لا ما امر به لأجل التوصل به إلى امر آخر ولو لم يرد تحميل بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

ومن التقسيمات تقسيمه أيضا إلى النفسي والتهيئي

والمراد من الواجب التهيئي هو ما كان المقصود من ايجابه التوصل به إلى ايجاب شيء آخر. وعمدة الغرض من هذا التقسيم انما هو الفرار عن شبهة المقدمات المفوتة للواجبات الموقتة قبل وقتها ، فإنهم بعد أن بنوا على عدم فعلية التكليف بالموقت قبل حصول وقته أشكل عليهم وجوب مقدماته الوجودية قبل حصول الوقت ، فمن ذلك التزموا بوجوبها وجوبا تهيئيا فرارا عن محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، فصاروا في مقام هذا التقسيم ، والا فعلى ما ذكرنا من فعلية الوجوب في الموقتات والمشروطات قبل حصول وقتها وشرائطها لايحتاج إلى مثل هذا التقسيم ، ومن ذلك أيضا لم يكن لهذا القسم من الواجب عين ولا اثر في كلمات القدماء ، وانما حدث ذلك في زمان المتأخرين من جهة شبهة وجوب المقدمات المفوتة في الموقتات والمشروطات قبل حصول وقتها وشرائطها. وعلى كل حال نقول : بان هذا التقسيم أيضا كسابقه كان بلحاظ مقام التحميل والايجاب المنتزع عن مرحلة ابراز الإرادة واظهارها ، لا بلحاظ لب الإرادة والاشتياق ، والا فبحسب لب الإرادة لا تخلو إرادة الشيء عن النفسية والغيرية ، كما لايخفى.

ص: 331

ومن التقسيمات أيضا تقسيمه إلى الأصلي والتبعي

فالأصلي هو ما كان ايجابه مقصودا بخطاب مستقل كالصلاة والوضوء في مثل قوله علیه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) والتبعي ما كان ايجابه لا بخطاب مستقل بل بتبع خطاب متعلق بأمر آخر. والغرض من هذا التقسيم أيضا انما هو الفرار عما يورد على القول بوجوب المقدمة بأنه كيف ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة غير ملتفت إليها بل وكثيرا ما يكون الآمر قاطعا من باب الاتفاق بعدم مقدمية الشيء لمطلوبه ، كما نظيره كثيرا في العرفيات في مثل الامر بشراء اللحم مع الغفلة عن مقدمية المشي إلى السوق لذلك ، ومع هذه الغفلة كيف يمكن دعوى وجوب المقدمة بقول مطلق ، فمن ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم لبيان انه لا يلزم في وجوب الشيء غيريا أم نفسيا ان يكون بايجاب أصلي وخطاب مستقل بل يكفي فيه كونه تبعا لايجاب امر آخر عند ثبوت الملازمة بينهما ، كما في المتلازمين في الحكم ، حيث إنه بعد ثبوت الملازمة بين الشيئين في الحكم يكون ايجاب أحدهما كافيا عن ايجاب الاخر وصيرورته موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، بلا احتياجه إلى خطاب على حدة. ففي المقام أيضا نقول : بأنه بعد التلازم بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته يكون نفس ايجاب الشيء قهرا مستتبعا لايجاب جميع ما يتوقف عليه الشيء من المقدمات بنحو الاجمال ، فتكون كل واحدة من المقدمات حينئذ واجبة بعين ايجاب ذيها وان لم يكن الآمر ملتفتا إليها بنحو التفصيل ولا أوجبها بخطاب أصلي مستقل ، وعليه فيرتفع الاشكال على وجوب المقدمات التي لم تقع بالاستقلال تحت خطاب اصلى مستقل.

ومن ذلك ظهر أيضا ان هذا التقسيم كسابقه انما كان بلحاظ مقام التحميل ومرحلة الايجاب المنتزع عن مقام ابراز الإرادة لا بلحاظ لب الإرادة ولذلك يجرى القسمان في الواجب النفسي أيضا من كون ايجابه وطلبه تارة أصليا كالصلاة والصوم والحج ونحوها ، وأخرى تبعيا كما في المتلازمين في الحكم ، والا فبحسب لب الإرادة لا مجال للتبعية والأصلية بهذا المعنى ، كما هو واضح.

هل الواجب مطلق المقدمة أم لا

وكيف كان فبعد ان ظهر لك هذه الأمور يبقى الكلام في أن المقدمة بناء على وجوبها هل هي واجبة على الاطلاق بلا دخل لحيث قصد الايصال إلى ذيها ولا إلى حيث ايصالها إليه خارجا ، أو انها واجبة بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها اما بكون القصد

ص: 332

المزبور قيدا للوجوب أو قيد للواجب كما هو ظاهر التقريرات اما مطلقا أو في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم كما في انقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير وارضه فيعتبر فيه قصد التوصل إلى الواجب في وجوبها ووقوعها على صفة الوجوب دون غيره ، أو انها واجبة بشرط الايصال خارجا إلى ذيها كما عليه الفصول وذلك أيضا اما بكونه أي الايصال قيدا للوجوب أو للواجب ، فيه وجوه وأقوال : أقواها في النظر الوجه الأول وسيظهر وجهه من ابطال التفاصيل المزبورة إن شاء اللّه تعالى.

فنقول : اما عدم اعتبار حيث قصد التوصل ودخله في اتصافها بالوجوب فظاهر ، بلحاظ ان ملاك الحكم الغيري انما كان ثابتا لذات المقدمة وحيثية القصد المزبور كانت أجنبية عن ذلك بالمرة ، ومن ذلك لو أتى بالمقدمة لا بقصد التوصل كان اتيانه ذلك محصلا لما هو غرض الآمر بلا كلام ، وحينئذ فمع أجنبية القصد المزبور عن ذلك لايكاد يترشح الوجوب الغيري أيضا الا على نفس ذات المقدمة وهو واضح ، هذا إذا أريد من دخل قصد التوصل في الواجب دخل التقيد به في موضوع الوجوب ، واما ان أريد به إناطة موضوع الوجوب بكونه في ظرف القصد إلى ذي المقدمة ، نظير إناطة التجارة بكونها عن تراض الملازم ذلك لاعتبار الموضوع في عالم الجعل في رتبة متأخرة عن القيد والمنوط به ففساده أفحش بلحاظ استلزامه لكون المقدمة التي هي موضوع الوجوب الغيري في الرتبة المتأخرة عن القصد المزبور التي هي رتبة وجود ذيها ، وهو كما ترى من المستحيل ، فان المقدمة لابد من كونها في رتبة سابقة عن وجود ذيها فيستحيل حينئذ اخذها في رتبة وجود ذيها كما هو واضح ، هذا كله ، مضافا إلى ما عرفت من أجنبية القصد المزبور عن ذلك هذا كله فيما لو أريد كونه قيدا وشرطا للواجب ، واما لو أريد كونه قيدا للوجوب فبطلانه أظهر من جهة استلزامه حينئذ لتوجه الايجاب نحو الشيء في ظرف أرادته للتوصل الملازم لإرادة المقدمة ، ومرجعه إلى تعلق الايجاب بالشيء في ظرف وجوده تكوينا لأنه في ظرف إرادة المقدمة يكون الوجود قهري الحصول والتحقق ، وهو كما ترى من المستحيل ، من جهة وضوح أن مثل هذا الظرف ظرف لسقوط الوجوب عنه ، فيستحيل كونه ظرفا لثبوته وهو أيضا واضح.

وحينئذ فعلى كل تقدير لا مجال لاخذ قصد التوصل قيدا وشرطا لا للواجب ولا للوجوب ، خصوصا بعد ملاحظة سائر الواجبات الشرعية والعرفية التي تكون ارادتها

ص: 333

بحسب اللب غيرية للتوصل بها إلى وجود ما هو المراد والمطلوب النفسي الذي هو غرض الاغراض وغاية الغايات ، مع بداهة عدم اعتبار قصد التوصل فيها حتى في العباديات منها وكفاية الاتيان بها بداعي أمرها في وقوعها على صفة الوجوب وفي مقربيتها.

ومن ذلك اندفع ما قيل في تقريب اعتبار القصد المزبور في الواجب في وقوعه على صفة الوجوب ، بأن ذلك لايكون من جهة تقيد موضوع الوجوب بذلك بل وانما هو من جهة اقتضاء الغرض الداعي إلى ايجابه ، بتقريب ان الغرض من الامر بالمقدمة بعد أن كان هو التوصل بها إلى ذيها لا مطلوبيتها في ذاتها فالمطلوب الجدي الحقيقي قهرا بحكم العقل يكون عبارة عن نفس التوصل ، وحينئذ فلابد في وقوعها على صفة الوجوب وصيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب من الاتيان بها عن قصد التوصل بها إلى ذيها ، والا فمع عدم الاتيان بها كذلك لايكاد وقوعها على صفة الوجوب ومصداقا له وان كان يجتزى بها حينئذ وكانت محصلة لغرضه ، ففي الحقيقة كان قضية اعتبار القصد المزبور من جهة قصور الوجوب المتعلق بالمقدمة عن الشمول لها في حال عدم اقترانها بقصد التوصل لا من جهة تقيد موضوع الوجوب بالقصد المزبور.

وجه الاندفاع يظهر مما عرفت في أكثر الواجبات الشرعية والعرفية التي لا تكون إراداتها بحسب اللب الا غيرية مع وضوح عدم اعتبار قصد التوصل فيها ، لا في وقوعها على صفة الوجوب ولا في مقربيتها ، على أن كون الغرض من المقدمة هو التوصل لايقتضي اعتبار قصده فيها في وقوعها على صفة الوجوب ، وان حصول القرب باتيانها عن قصد التوصل بها إلى ذيها غير موجب لانحصار القرب بذلك ، بل هو كما يتحقق بذلك يتحقق أيضا باتيانها بداعي أمرها ومراديتها للمولى ، ومن ذلك نقول بان شأن الأوامر الغيرية كلية انما كان هو التوسعة في مقام التقرب باتيان متعلقه عن دعوته ، وعليه فلا مجال أيضا لاثبات اعتبار قصد التوصل في المقدمة في وقوعها على صفة الوجوب بمثل هذا البيان أيضا كما هو واضح.

ثم انه من هذا البيان ظهر أيضا حال ما إذا كانت المقدمة منحصرة بالفرد المحرم مع تقديم جانب الوجوب بمقتضي أهمية مصلحة الوجوب من مفسدة الحرمة كانقاذ الغريق المتوقف على المشي في الأرض المغصوبة حيث نقول فيه أيضا بان الواجب حينئذ لايكون الا ذات المقدمة قصد بها التوصل إلى ذيها أم لم يقصد لعدم دخل حيث قصد

ص: 334

التوصل في وقوعها على صفة الوجوب وصيرورتها مصداقا للواجب بما هو واجب ، وحينئذ ( فما أفيد ) كما عن بعض الاعلام من لزوم قصد التوصل في مثل هذا الفرض مع بناءه على عدم لزومه في غيره بتقريب أن اذن الشارع حينئذ في الغصب مع كونه مبغوضا ذاتا من جهة أهمية مصلحة الانقاذ من مفسدة فعل الغصب انما يوجب الاذن في الغصب على الاطلاق ولولا بدون قصد التوصل إذا لم تكن في البين مزية راجحة في الفرد المشتمل على الخصوصية بالنسبة إلى الفرد الفاقد لها ، والا فلابد من الاقتصار في مقام الضرورة على خصوص ما فيه المزية الراجحة من جهة ان الضرورة انما تتقدر بقدرها فإذا كانت الضرورة تدفع بما فيه تلك المزية الخاصة لا مجال لاختيار الفرد الآخر الذي لايكون فيه تلك المزية ، وحينئذ ففي المقام الغصب المقصود به التوصل إلى الانقاذ والغصب غير المقصود به التوصل إليه وان كانا متساويين من جهة ملاك المقدمية للانقاذ الواجب ، ولكن القسم الأول لاشتماله على الخصوصية لما كان فيه مزية زائدة على القسم الثاني فقهرا بحكم العقل يكون هو المتعين في مقام دفع الضرورة ويكون غيره على حرمته ( منظور فيه ) إذ نقول بان ذلك لو تم فإنما هو في مثل الكلي المتواطئ الذي يشتمل كل فرد منه على حصة من الطبيعي غير الحصة المأخوذة في الفرد الآخر كما قيل بان الطبيعي مع الافراد كالآباء مع الأولاد في أنه مع كل فرد أب من الطبيعي غير الأب الذي يكون مع الفرد الآخر إذ حينئذ بانضمام الخصوصيات يتعدد الحصص والافراد حقيقة ومع تعددها يتوجه الاشكال بان أهمية مصلحة الانقاذ لاتقتضي الا مطلوبية الجامع بين الفردين والحصتين وهو انما يقتضي تخيير المكلف بين الفردين إذا لم تكن هناك لاحد الفردين باعتبار الخصوصية المأخوذة فيه مزية راجحة على الفرد الاخر والا يتعين خصوص ما فيه المزية الراجحة ، لا في مثل المقام الذي هو من قبيل التشكيكيات إذ في مثله لايكاد اقتضاء الخصوصية لتغير في الذات بحيث تباين الذات في حال عدم وجدانها للخصوصية فتكون هناك حصتان وفردان أحدهما واجد للخصوصية والآخر فاقد لها كما في افراد المتواطئ بل الذات حينئذ حال وجدانها للخصوصية بعينها هي تلك الذات حال فقدانها لها وانما كان الاختلاف ممحضا في الوجدان والفقدان.

وعلى ذلك نقول بأنه إذا اقتضى أهمية الانقاذ في المثال مطلوبية شخص هذه الذات المحفوظة بين الحالتين وهو الغصب ومغلوبية مفسدته فلا جرم بعد هذه المغلوبية لا يفرق

ص: 335

بين حال وجدانها لخصوصية قصد التوصل وبين حال فقدانها لها ، ومعه فلا يتعين عليه قصد التوصل بها إلى الواجب ، بل كان له الخيار حينئذ بين الاتيان بها مقرونة بقصد التوصل وبين الاتيان بها غير مقرونة بذلك كما هو واضح ، على أنه مع الاغماض عن ذلك وتسليم كون المقام من قبيل الكلي والجامع المتواطي لا من قبيل الجامع التشكيكي نقول بأنه انما يتعين ويجب عليه قصد التوصل إذا كان تلك المزية القائمة بالخصوصية في نفسها بنحو من الاهتمام بحيث تمنع عن النقيض وتمنع عن تأثير المفسدة في المبغوضية إذ حينئذ يتعين عليه اختيار الفرد الواجد للخصوصية بحكم العقل جمعا بين الغرض القائم بالجامع وبين الغرض القائم بالخصوصية وإلا فإذا لم تكن المزية بالغة إلى مرتبة المنع عن النقيض وعن تأثير المفسدة في المبغوضية فلا جرم كان مقتضى أهمية مصلحة الانقاذ وتأثيرها في مطلوبية الجامع بين الفردين هو التخيير بينهما ، نعم غاية ما هناك حينئذ هو استحباب اختيار الفرد الواجد للخصوصية لا انه يتعين عليه ذلك.

ومن هذا البيان ظهر بطلان مقايسة المقام بصورة وجود فرد مباح وعدم انحصار المقدمة بالحرام في لزوم اختيار الفرد المباح ، إذ نقول بان لزوم اختيار الفرد المباح هناك انما كان من جهة اقتضاء تلك المفسدة غير المزاحمة القائمة بالخصوصية فإنها من جهة خلوها عن المزاحم لما كانت مؤثرة في المبغوضية الفعلية في الخصوصية كان العقل يحكم بمقتضي الجمع بين الغرضين بتعين خصوص الفرد المباح وتطبيق الجامع عليه ، وهذا بخلاف المقام الذي لا يوجد فيه فرد مباح ، إذ فيه بعد لا بدية الاتيان بأحد الفردين بمقتضي أهمية الانقاذ فقهرا يكون نتيجة الامر بالجامع فيهما بعد عدم بلوغ رجحان الخصوصية إلى مرتبة المنع عن النقيض هو التخيير بينهما ، كما هو واضح.

كما أنه من ذلك البيان ظهر أيضا عدم صحة المقايسة بمسألة المتوسط في الأرض المغصوبة التي لها طريقان للخروج عنها أحدهما أقرب من الآخر من حيث تعين اختيار الأقرب منهما بحكم العقل ، إذ نقول بان حكم العقل هناك بلزوم اختيار سلوك الأقرب منهما في مقام الخروج انما هو من جهة استلزام غيره لزيادة التصرف في مال الغير التي هي محرمة شرعا فلايرتبط حينئذ بالمقام الذي لايكون الامر فيه كذلك كما لايخفى.

فلا محيص حينئذ ولو على البناء بكون المقام من قبيل الجامع المتواطي من المصير إلى التخيير بين الفردين وعدم تعين الفرد الواجد للخصوصية فيسقط القول باعتبار قصد

ص: 336

التوصل ولزومه على كل تقدير ، هذا كله بالنسبة إلى قصد التوصل.

واما نفس الايصال الخارجي فعدم اعتباره أيضا واضح لو أريد دخله بنحو القيدية للوجوب أو الواجب كما هو ظاهر الفصول ، وذلك اما عدم اعتباره ودخله في الوجوب فظاهر من جهة ان حيثية الايصال والترتب نظير عنوان الموضوعية انما كانت منتزعة عن رتبة متأخرة عن وجود ذي المقدمة ، وحينئذ فإناطة الوجوب المتعلق بها بالوصف المزبور تكون ملازمة لإناطته بوجود موضوعه ، وهو من المستحيل ، من جهة كونه حينئذ من تحصيل الحاصل ، من دون فرق في ذلك بين ان نقول بمقالة المشهور في الواجب المشروط أو بما ذكرنا بجعل المنوط به هو الشيء بوجوده العلمي اللحاظي طريقا إلى الخارج ، فإنه بعد ما لابد في مقام الايجاب والإناطة من لحاظه في ظرف لحاظ قيده فقهرا في هذا الظرف أي في ظرف القيد يرى كون الوجود متحققا إذ يرى كونه ظرفا لوجود المقدمة الذي هو ظرف سقوط الامر عنها ، ومعه يستحيل كونه ظرفا لثبوت الامر بها كي أمكن البعث نحوها بالايجاد ، كما هو واضح ، هذا كله بناء على احتمال كونه قيدا للوجوب

واما بناء على احتمال كونه قيدا للواجب لا للوجوب كما لعله ظاهر الفصول فلا يخلو اما ان يراد من اعتبار الايصال ودخله كونه على نحو الظرفية للواجب ، بجعل موضوع الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة لكن في ظرف الايصال وترتب ذيها عليها الملازم لاعتبار الذات في عالم معروضيتها للوجوب في رتبة متأخرة عن القيد المزبور نظير قوله تجارة عن تراض الظاهر في أن موضوع الحكم في جواز التصرف ونحوه هو التجارة الناشئة عن تراضي الطرفين ، واما ان يراد من اعتبار الايصال دخله في موضوع الوجوب بنحو خروج القيد ودخول التقيد كما في سائر المقيدات ، بحيث كان معروض الوجوب وموضوعه عند التحليل مركبا من أمرين أحدهما ذات الموضوع والاخر حيثية التقيد بقيد الايصال إلى ذيها ، فكان الفرق حينئذ بين ذلك وسابقه انه على الأول يكون معروض الوجوب الغيري عبارة عن نفس الذات محضة وكان حيث الايصال والترتب المزبور من جهة اخذه ظرفا مقدمة لنفس الذات بلحاظ انه بدونه لايكاد يتحقق ما هو موضوع الحكم أعني الذات الخاصة بخلافه على الوجه الأخير فإنه عليه كان موضوع الوجوب الغيري عبارة عن الذات مع وصف التقيد فكان حيث الترتب والايصال مقدمة بالنسبة إلى اجزاء الموضوع وهو التقيد لا بالنسبة إلى تمام الموضوع حتى حيثية الذات أيضا.

ص: 337

وعلى أي حال نقول : بأنه كان المراد من اعتبار حيث الايصال ودخله في الواجب بنحو القيدية اعتباره فيه على الوجه الأول فبطلانه ظاهر من جهة استلزامه لاخذ موضوع الوجوب الغيري في رتبة متأخرة عن وجود ذيها ، وهو كما ترى من المستحيل ، حيث إنه ينافي جدا مقدمية الذات لوجود ذيها ، وترتب مثل هذا المحذور عليه انما هو من جهة اقتضاء الترتب المزبور بنحو الظرفية للذات تقدمه عليها الملازم لتأخر المقدمة رتبة عنه وعن وجود ذيها أيضا وهذا كما عرفت مناف لمقدمية الذات لوجود ذيها وكونها في رتبة سابقة عليه كما هو واضح ، وان كان المراد من اعتبار الايصال دخله في الواجب على الوجه الثاني فعليه وان يسلم عن هذا الاشكال بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ الا تقدمه على حيث وصف التقيد لا على نفس الذات ، فكانت الذات حينئذ محفوظة في رتبة سابقة على ذي المقدمة وعلى حيثية وصف الايصال والترتب ، الا انه يتوجه عليه كونه مخالفا لما يقتضيه الوجدان إذ بداهة الوجدان قاض بأنه لا مدخلية لعنوان الايصال والترتب فيما هو معروض الوجوب الغيري وان ما هو المعروض للوجوب الغيري لايكون الا ذات المقدمة لا هي مع التقيد بوصف الايصال إلى ذيها وان حيثية الايصال انما كانت من الاغراض الداعية إلى ايجابها فكانت من الجهات التعليلية لا من الجهات التقييدية كما لايخفى.

ثم انه أورد عليه أيضا بوجوه آخر لم يتعرض لها الأستاذ :

منها استلزامه لمحذور اتصاف ذي المقدمة مع كونه واجبا نفسيا بالوجوب الغيري ببيان ان اخذ التقيد بالايصال المنتزع عن مرحلة ترتب ذي المقدمة على المقدمة في موضوع الوجوب يقتضي كونه مشمولا للوجوب الغيري فيجب حينئذ تحصيله كوجوب تحصيل ذات المقدمة ، ولازمه هو صيرورة ذي المقدمة بلحاظ مقدمية التقيد المزبور متصفا بالوجوب الغيري ، فيلزمه اجتماع الوجوبين فيه : أحدهما الوجوب النفسي والاخر الوجوب الغيري بملاك مقدميته للمقدمة ، وهو كما ترى من المستحيل ، خصوصا في مثل المقام الذي يستلزم سراية الوجوب من ذي المقدمة بتوسيط مقدمته إلى نفسه.

ومنها لزوم اتصاف المقدمة بالوجوب بعد وجود ذيها وهو من المحال ، من جهة ان مثل هذا الصقع هو صقع سقوط الامر عن ذيها الملازم لسقوطه عنها أيضا فلايمكن ان يكون صقعا لثبوته

ص: 338

ومنها استلزامه لمحذور تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه رتبة نظراً إلى ما هو المفروض من مقدمية المقيد لوجود ذي المقدمة ومقدمية ذي المقدمة لتحقق التقيد المزبور. ولكن يمكن ان يدفع هذه المحاذير ، وذلك : اما المحذور الأول فبدعوى قصور الوجوب الغيري حينئذ في سرايته وعوده إلى ذي المقدمة بعد سرايته منه إلى المقدمة إذ حينئذ وان كان ملاك المقدمية متحققا في ذي المقدمة ولكنه بعد قصور الوجوب الغيري وعدم قابليته لايكاد اتصاف ذي المقدمة الا بوجوب واحد وهو الوجوب النفسي.

واما المحذور الثاني فدفعه انما هو بدعوى ان معروض الوجوب الغيري ، انما كان المقيد لكن بالنظر التصوري الذي لايقتضي المفروغية في الوجود الخارجي كما في القضايا التقييدية في المركبات الناقصة كزيد القائم الذي يحمل عليه الوجود تارة والعدم أخرى ، كقولك زيد القائم موجود أو معدوم ، لا بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية موضوعه في الخارج كما في القضايا التصديقية في المركبات التامة كزيد قائم وعمر وقاعد ، والاشكال المزبور انما يتوجه على الوجه الثاني دون الأول فإنه بعد عدم اقتضائه مفروغية الموضوع في الخارج في لحاظه بشهادة صحة حمل الوجود عليه تارة والعدم أخرى لايترتب عليه كون صقعه صقع وجود ذي المقدمة الذي هو صقع سقوط الامر عن المقدمة حتى يتجه الاشكال المزبور ، ومن ذلك أيضا يتضح الفرق بين هذا الفرض وبين فرض كونه قيدا للوجوب الذي قلنا باستحالته لمثل هذا المحذور فان عدم امكان اخذه قيدا لأصل الوجوب انما هو من جهة احتياج شرائط الوجوب وقيوده لدخلها في اتصاف الموضوع بالمصلحة والصلاح إلى لحاظها بالنظر التصديقي الذي يقتضي مفروغية وجودها في الخارج في مقام البعث والتكليف نظراً إلى أنه لولا لحاظها كذلك لايرى اتصاف الموضوع بكونه صلاحا ومصلحة كي يطلبه ويريده ، وهذا بخلافه في قيود الواجب التي لايكون دخلها الا في وجود المتصف فارغا عن أصل الاتصاف فإنها حينئذ لا تحتاج في مقام معروضيتها للوجوب الا إلى اللحاظ التصوري.

اما الاشكال الثالث فله وجه بل لا محيص عنه لو قيل بمقدمية التقيد أيضا كذات المقدمة لما هو الواجب والمطلوب النفسي ، ولكنه ليس كذلك بل ولا يظن أيضا التزام القائل بدخل حيث الايصال والترتب في الواجب به ، وذلك من جهة وضوح ان تمام همه من اخذ الايصال قيدا في الواجب انما هو اثبات ان موضوع الوجوب الغيري و

ص: 339

معروضه هي الذات الخاصة دون الذات المجردة عن القيد المزبور مع تسليمه لان ما هو المقدمة وما فيه ملاك الوجوب الغيري عبارة عن ذات المقدمة ، لا هي مع وصف التقيد بالايصال بحيث كان للوصف المزبور دخل في تحقق الواجب كما هو واضح.

وحينئذ فالعمدة في الاشكال عليه هو الذي ذكرنا من مخالفته لمقتضي الوجدان باعتبار ان ترشح الوجوب الغيري انما يكون على ما فيه ملاك المقدمية والتوقف ، وما فيه الملاك المزبور بعد ، لايكون الا ذات المقدمة لا هي مع وصف التقيد بالايصال فلا جرم لايترشح الوجوب أيضا الا على الذات المقدمة كما لايخفى.

ثم انه قد يقرب القول المزبور أيضا بوجه آخر ، وهو ان الغرض من مطلوبية المقدمة وايجابها حيثما كان هو التوصل بها إلى وجود ذيها في الخارج فلا جرم يقتضي ذلك تخصيص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة ولا نعنى من اعتبار الايصال إلى الواجب في المقدمة وفي موضوع الوجوب الغيري الا هذا المعنى من عدم تعدي الوجوب عن المقدمة الموصلة إلى غيرها ، ولكن فيه ما لايخفى ، إذ نقول بان الغرض من الامر بكل مقدمة ليس الا ما يترتب على وجودها من الملاك وحينئذ فإذا كان دخل كل مقدمة من حيث كونها سادة لباب من أبواب عدم ذيها في الخارج فلا جرم لايكاد يكون الغرض من ايجاب كل مقدمة الا ذلك ، وفي مثله يستحيل كونه هو التوصل إلى الوجود وترتب الواجب عليها ، كيف وانه بعد مدخلية الإرادة أيضا في تحقق الواجب يستحيل كون الترتب المزبور من آثار مجموع المقدمات فضلا عن كل واحدة منها ، وحينئذ فإذا لم يكن دخل كل مقدمة الا كونها سادة لباب من أبواب عدم ذيها ولا كان الغرض من ايجاب كل مقدمة أيضا الا ما يترتب عليها من الحفظ من جهتها لاترتب الوجود ، فلا محيص بمقتضي البيان المزبور من الالتزام بان الواجب هو نفس ذات المقدمة لا هي بما انما موصلة نظراً إلى وضوح ترتب مثل هذا الغرض حينئذ بمحض تحقق المقدمة في الخارج وان لم يتحقق بقية المقدمات ولم يترتب عليها ذوها في الخارج أصلا كما لايخفى.

نعم لنا مسلك آخر في تخصيص الوجوب الغيري بخصوص المقدمة الموصلة لكن لا بمناط تقييد الواجب بالايصال إلى ذيها ، كما يقتضيه ظاهر الفصول ، بل من جهة قصور الوجوب الغيري في نفسه عن الشمول للمقدمة الا في حال الايصال إلى ذيها ، نظير ما ذكرنا غير مرة في الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء في المركبات الارتباطية في

ص: 340

اختصاص شمولها لكل جزء من المركب بحال انضمام بقية الاجزاء أيضا وقصورها بنفسها لضمنيتها عن الشمول لجزء عند عدم انضمام بقية الاجزاء ، وذلك انما هو بتقريب ان دخل كل مقدمة وان لم يكن الأسد باب عدم ذيها من قبلها وفي ذلك أيضا لا يفرق بين حال انفكاكها عن بقية المقدمات الملازم لعدم الايصال إلى ذيها وبين حال عدم انفكاكها عنها ، من جهة انه بتحقق كل مقدمة يترتب عليها لا محالة الحفظ من جهة وسد باب العدم الذي هو ملاك وجوبها الغيري ، انضمت إليها بقية المقدمات أم لا ، ترتب عليها وجود ذيها في الخارج أم لم يترتب ، الا ان التكليف المتعلق بكل واحد من السدود المزبورة حيثما كان تكليفا انحلاليا ضمنيا حسب انحلال التكليف بالواجب إلى تكاليف متعددة متعلقة بالسدود المزبورة وكان من جهة ضمنيته في تعلقه بالسد من هذا الجهة وتلك الجهة قاصر الشمول لحال عدم تحقق بقية السدود وعدم انحفاظ المطلوب من الجهة الأخرى على ما هو شأن كلية التكاليف الضمنية في المركبات الارتباطية فلا جرم نقصها وقصورها ذلك يوجب كون الطلب الغيري المترشح منها إلى المقدمات الموجبة للسدود المزبورة أيضا طلبا ناقصا غير تام بنحو يقصر في تعلقه بكل مقدمة عن حال انفرادها عن بقية المقدمات الاخر إذ لايمكن حينئذ ان يكون هذا الطلب الغيري الناشي من الطلب الضمني طلبا مستقلا تاما في حد نفسه وقابلا للامتثال على الاطلاق حتى في ظرف عدم تحقق بقية المقدمات للتالي ، مع كون الطلب المترشح منه هذا الطلب الغيري طلبا ناقصا غير تام في نفسه ، وفي ذلك أيضا لا يفرق بين ان نقول بكون المقدمات بأجمعها تحت تكليف واحد أو تحت تكاليف متعددة بصيرورة كل مقدمة تحت تكليف غيري مستقل ، فإنه على كل تقدير لايكون المترشح الا تكليفا غير يا ناقصا وذلك : اما على الأول فظاهر لأنه بعد خروج الإرادة التي هي من المقدمات عن حيز التكليف فقهرا يكون التكليف المتعلق ببقية المقدمات تكليفا ناقصا غير تام واما على الثاني فكذلك لكونه مقتضي ضمنية الطلب المتعلق بالسدود المزبورة.

وعلى ذلك نقول : بأنه إذا كان التكليف المتعلق بكل مقدمة تبعا للتكليف النفسي الضمني المترشح منه ناقصا غير تام نفسه بنحو يقصر عن الشمول لحال عدم تحقق بقية المقدمات فلا جرم يوجب نقصه وقصوره ذلك تخصيص المطلوب أيضا بما لايكاد انفكاكه عن بقية المقدمات التي منها الإرادة الملازم ذلك مع الايصال إلى وجود ذيها في

ص: 341

الخارج ، ومعه يكون الواجب قهرا عبارة عن خصوص ما هو ملازم مع الايصال بنحو لايكاد انفكاكه في الخارج عن وجود الواجب لا مطلق وجود المقدمة ولو في حال الانفكاك عن الايصال وعن ترتب الواجب عليها ، وعليه فالواجب بما هو واجب وان لم يكن مقيدا بقيد الايصال ولكنه لقصور في حكمه عن الشمول لحال انفكاك عن بقية المقدمات لايكون مطلقا أيضا بنحو يشمل حال عدم الايصال إلى وجود ذيه فهو أي الواجب حينئذ عبارة عن ذات المقدمة بما انها توأمة وملازمة مع الايصال وترتب ذيها عليها ، لا بشرط الايصال كما هو مقتضي كلام الفصول ولا لا بشرط الايصال كما هو مقتضي القول بوجوب المقدمة مطلقا كما لايخفى.

ومن ذلك البيان ظهر ان مجرد تمامية المقدمة بذاتها فيما هو ملاك الوجوب الغيري وهو الحفظ من جهة غير مقتض لاتصافها بالوجوب على الاطلاق ولو في حال انفكاكها عن سائر المقدمات الاخر وعدم ايصالها إلى ذيها ، إذ نقول بأنه انما يقتضي ذلك لولا ما في حكمها من القصور الناشئ من قصور الامر الضمني عن الشمول للسد من جهة ولو مع عدم تحقق بقية السدود والا فمع مثل هذا القصور في الحكم لايكاد اتصافها بالوجوب أيضا الا في ظرف اجتماع بقية المقدمات الاخر.

كما أنه من ذلك ظهر حال الغرض الداعي إلى الامر بالمقدمة أيضا فان الغرض من الامر بكل مقدمة وان كان هو جهة وفائها بما يخصها من سد باب عدم ذيها من قبلها الا انه من جهة ضمنيته باعتبار تعلقه بمجموع السدود يكون قاصر الشمول في تعلقه بالسد من هذه الجهة عن حال عدم تحقق بقية السدود ، فمن ذلك لايكاد اقتضائه لايجاب المقدمة الا في حال تحقق سائر المقدمات الملازم لتحقق بقية السدود من الجهات الاخر أيضا ، والا لاقتضى وجوب الاتيان ولو بمقدمة واحدة عنه عدم التمكن من الاتيان بسائر المقدمات نظراً إلى تمامية تلك المقدمات حينئذ ووفائها بما هو ملاك وجوبها الغيري ، مع أنه ليس كذلك قطعا فتأمل.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال لا ثبات وجوبها مطلقا كما أفيد في الكفاية من دعوى انه من المعلوم بداهة سقوط التكليف عن المقدمة بمجرد الاتيان بها من دون انتظار ترتب ذيها عليها في ذلك بحيث لايبقى مع الاتيان بها الا طلبه وايجابه بالنسبة إلى ذيها كما لو لم تكن هذه بمقدمة أو كانت حاصلة من أول الامر ، وحينئذ فلو اعتبر في اتصافها بالوجوب ترتب

ص: 342

ذيها عليها خارجا لما كاد يسقط عنها التكليف بمجرد الاتيان بها ، مع أن سقوط التكليف عنها حينئذ في الوضوح كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، كوضوح ان سقوطه عنها أيضا انما كان من جهة الموافقة لا من جهة ارتفاع الموضوع أو العصيان والمخالفة فسقوط التكليف عنها حينئذ وعدم الامر بها ثانيا بعد الاتيان بها كاشف قطعي عن وقوعها على صفة الوجوب وعدم دخل حيث الايصال إلى ذيها في ذلك

إذ نقول : مضافا بالنقض باجزاء المركبات الارتباطية والمشروطات بالشرط المتأخر المعلوم فيها أيضا عدم وجوب الاتيان ثانيا بالجزء المأتي به من المركب ما دام على صلاحيته للانضمام ببقية الاجزاء مع معلومية عدم سقوط الامر عنه الا بعد لحوق الجزء الأخير من المركب بلحاظ توأمية الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء ثبوتا وسقوطا ان عدم وجوب الاتيان بالجزء المأتى به هناك وبالمقدمة في المقام انما هو من جهة سقوط الامر حينئذ عن المحركية والفاعلية لا من جهة سقوطه بالمرة ، فحيث انه لم يكن قصور في طرف المأتى به أوجب اتيانه سقوط امره عن الفاعلية والمحركية نحو الاتيان ثانيا وثالثا ولكن الامر والتكليف لقصور فيه قد بقى على فعليته إلى حين لحوق بقية الاجزاء في المركبات وتحقق بقية المقدمات في المقام ، ومن ذلك لو فرض خروج المأتى به عن القابلية بالمرة يجب الاتيان به ثانيا بنفس التكليف الأول ، وليس ذلك الا من جهة بقاء التكليف به بعد ذلك على فعليته وكون الساقط مع الاتيان هو مرتبة محركيتها لا مرتبة فعليته ، ولا تنافي أيضا بين فعلية الامر والتكليف وعدم فاعليته حيث أمكن التفكيك بينهما ومن ذلك أيضا فككنا نحن بين التكليف وفاعليته فيما تصورناه من الواجب المشروط ، وعليه فلا مجال للكشف عن وجوب المقدمة على الاطلاق بمحض سقوط الامر بها عن المحركية والفاعلية باتيان ذات المقدمة.

بل لا محيص ، بمقتضي ما ذكرنا من المصير إلى أن الواجب من المقدمات هو خصوص ما يلازم خارجا مع الايصال وترتب ذيها في الخارج عليها ، فيكون حيثية الايصال على ذلك حينئذ من قبيل العناوين المشيرة إلى ما هو الواجب بأنه عبارة عن الذات الخاصة التوأمة مع الايصال بنحو لايكاد انفكاكها في ظرف التطبيق على الخارج عن وجود ذيها وكان اخذه في الموضوع أيضا في قولنا : ( الواجب هو المقدمة الموصلة ) لمحض كونه معرفا لما هو الواجب لا من جهة كونه قيدا له كما يقتضيه ظاهر كلام الفصول قدس سره كما

ص: 343

هو واضح.

نعم قد يقال حينئذ بعدم انفكاك هذا القول عن القول باعتبار قصد التوصل نظراً إلى دعوى احتياج امتثال الامر الغيري حينئذ إلى تطبيق عنوان الواجب على المأتى به واحتياج التطبيق المزبور إلى قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها أو قصد ذيها ، من جهة انه بدون القصد المزبور لايكاد تطبيق عنوان الواجب على المأتى به حتى يصح اتيانها بداعي أمرها ، فمن ذلك لايكاد انفكاك القول بوجوب المقدمة الموصلة عن القول باعتبار قصد التوصل ، ولكنه مدفوع إذ نقول بان المحتاج إليه في مقام تطبيق عنوان الواجب على المقدمة انما هو العلم بترتب ذيها عليها خارجا فيكفي حينئذ مجرد العلم بتحقق الواجب فيما بعد في تطبيق الواجب على المأتى به وان لم يكن من قصده التوصل بالمقدمة إلى ذيها ولا كان أيضا قاصدا ومريدا لذيها حال الاتيان بها بوجه أصلا كما لايخفى.

بقى الكلام في بيان الثمرة بين القولين

فنقول : قد يقال كما في الفصول : بظهور الثمرة بين القولين في الضد العبادي الذي يتوقف على تركه فعل الواجب بناء على مقدمية ترك الضد لفعل الضد الواجب كما في الصلاة بالنسبة إلى الا زالة ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة تقع العبادة فاسدة لا محالة من جهة كون فعلها حينئذ نقيضا للترك الواجب وصيرورتها حراما ومبغوضا بمقتضى النهى عن النقيض ، واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا تبطل بل تصح من جهة خروج فعلها حينئذ عن كونه نقيضا للترك الواجب ، نظراً إلى أن الواجب بعد كونه عبارة عن الترك الخاص فنقيضه لايكون الا رفعه الذي هو ترك الترك الخاص دون الفعل المطلق ، بشهادة امكان ارتفاع كل من الفعل المطلق والترك الموصل بالترك المجرد غير الموصل كامكان ارتفاع كل من الترك الموصل والترك المجرد بالفعل المطلق ، مع وضوح امتناع ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، وحينئذ فإذا لم يكن الفعل المطلق نقيضا للترك الموصل بل كان مما يقارن ما هو النقيض ، من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، فلا جرم لا يحرم أيضا بمقتضي وجوب الترك الموصل ، ومعه تقع صحيحة لا محالة بلحاظ عدم سراية حرمة الشيء إلى ما يلازمه ويقارنه ، هذا.

ص: 344

وقد أورد عليه بأنه يكفي في فساد العبادة وبطلانها حينئذ مقدمية فعلها لترك الضد الواجب ، فان مقتضى مبغوضية الترك المزبور حينئذ انما هو مبغوضية ما هو عليه ، فإذا فرض ان العبادة كانت مقدمة وعلة لترك الواجب فلا جرم تقع مبغوضة ومعه تقع فاسدة من هذه الجهة ، فلايحتاج حينئذ إلى اثبات كون فعلها نقيضا للترك الواجب كي يشكل بما أفيد بان الفعل المطلق لايكون نقيضا للترك الخاص وانما كان مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، ولايقتضى حرمة شيء أيضا حرمة ما يلازمه ويقارنه إذ على كل تقدير تقع العبادة حينئذ فاسدة سواء على القول بوجوب مطلق المقدمة أو القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

ولكن فيه انه مبنى على مقدمية فعل الضد لترك الضد الاخر ، وهو في محل المنع ، فان القائل بمقدمية الضد انما يدعى فعلية التوقف من طرف الوجود خاصة لا مطلقا حتى من طرف العدم أيضا ، ومن ذلك يمنع استناد الترك المزبور إلى وجود ضده بل يسنده إلى الصارف وعدم تحقق مقتضيه وهو الإرادة ، وحينئذ فإذا كان الترك مستندا إلى الصارف وعدم الإرادة لا إلى وجود ضده فلا جرم تكون الثمرة المزبورة على حالها ، حيث لا موجب في البين حينئذ يقتضي حرمة العبادة على القول بالمقدمة الموصلة حتى تقع فاسدة ، كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى في الاشكال عليه هو المنع عن كون الفعل مما يقارن النقيض وانه بنفسه نقيض للترك الواجب بدعوى ان نقيض المقيد بعد انحلاله إلى جزئين أحدهما ذات الترك والاخر التقيد بالخصوص يتحقق بأحد الامرين : اما بقلب ذات الترك أو بقلب التقيد ، فنقيض الترك كان هو الفعل ونقيض القيد هو عدم التقيد ، وحينئذ فإذا تحقق أحد الامرين لا محالة ينطبق عليه النقيض ويصير مبغوضا ، كما هو ذلك أيضا في كلية المركبات ، ومن ذلك اشتهر ان المركب كما ينتفي بانتفاء مجموع الاجزاء كذلك ينتفي بانتفاء أحد اجزائه ، وعلى ذلك نقول بأنه إذا تحقق الفعل الذي هو نقيض ذات الترك فبتحققه ينطبق عليه أول نقيض وبذلك يصير مبغوضا ، فيصير فاسدا لا محالة إذا كان عبادة.

واما الاشكال عليه : بأنه بعد معلومية انه لايكون لوجود واحد الا نقيض واحد فلابد من اعتبار جامع في البين يكون هو النقيض حقيقة ، وهو غير متصور في المقام ، نظراً إلى

ص: 345

عدم تصور الجامع بين الوجود والعدم ، فلابد حينئذ من جعل النقيض عبارة عن رفع الترك الخاص الملازم للوجود والغاء الفعل بالمرة عن كونه نقيضا للترك الخاص ومعه تتم الثمرة المزبورة ، فمدفوع بأنه كذلك إذا كان وحدة الموضوع ذاتية والا فلو كانت اعتبارية كما في المقام وفي كلية المركبات فلا جرم حسب تكثر الوجودات يتكثر النقيض أيضا حقيقة ، غايته انه من جهة ان المجموع تحت امر واحد لا يتصف بالمبغوضية الا أحد النقائض المنطبق عليه أول نقيض ، من جهة خروج البقية بعد ذلك عن دائرة المحبوبية الضمنية بقلب وجود واحد منها بالنقيض.

ولئن شئت قلت : بان المركبات كما أن وحدتها ليست الا بالاعتبار والا فهي متكثرات حقيقة كذلك الامر في نقيضها فوحدتها أيضا لا تكون الا بالاعتبار ، وقضية ذلك كما عرفت هي مبغوضية أحد النقائض المنطبق عليه أول نقبض من جهة خروج البقية بعد ذلك عن دائرة المبغوضية من غير فرق في ذلك بين المركبات الخارجية كالصلاة والحج والوضوء والغسل وبين المركبات التحليلية كالمقيدات من جهة انه وان لم يكن للمقيد في الخارج الا وجود واحد ولا كان لحيثية التقيد ما بإزاء في الخارج الا ان تعدد الجهات والحيثيات فيه لما كانت توجب انحلال الامر به إلى الأوامر المتعددة تكون لا محالة كالمتكثرات الخارجية فيكون لكل حيثية نقيض مستقل غير أنه كان المتصف بالمبغوضية هو أول نقيض من جهة خروج بقية الحيثيات الاخر بعد ذلك عن دائرة المطلوبية ، وعليه نقول في المقام أيضا بان نقيض ذات الترك الذي هو إحدى الحيثيات المأخوذة في الموضوع بعد أن كان رفعه المساوق للوجود الذي هو الفعل فقهرا يصير الفعل بمقتضى النهى عن النقيض مبغوضا ومنهيا عنه ، ومعه يقع لا محالة باطلا إذا كان عبادة ، فيرتفع حينئذ الثمرة المزبورة ، من جهة بطلان الضد العبادي حينئذ على كل تقدير.

ثم إن هذا كله مسلك اخذ الايصال قيدا للواجب كما عليه ظاهر الفصول قدس سره واما على ما سلكناه في تخصيص الوجوب المقدمة الموصلة من جعل الموضوع عبارة عمالايكاد انفكاكه عن بقية المقدمات الاخر الملازم قهرا مع الايصال وترتب وجود ذيها في الخارج فلا بأس باستنتاج النتيجة المزبورة في تصحيح الضد العبادي ، إذ نقول حينئذ بان الوجوب المتعلق بالمقدمة بعد كونه ناقصا غير تام بنحو لايكاد يشمل الا الترك في حال إرادة الضد الواجب فلا محالة يكون البغض الناشئ من

ص: 346

هذا الوجوب الناقص بالنسبة إلى النقيض وهو الفعل أيضا بغضا ناقصا غير تام بحيث لنقصه وقصوره لا يشمل الا الفعل في حال إرادة الضد ، لا مطلق وجوده ولو في ظرف الصارف وعدم إرادة الواجب ، وحينئذ فإذا خرج الفعل في ظرف الصارف وعدم الإرادة عن دائرة المبغوضية لاختصاص البغض بالفعل في حال إرادة الواجب ولم يتمكن أيضا من الفعل الا في ظرف الصارف وعدم إرادة الضد الواجب من جهة امتناع اجتماع إرادة الواجب مع فعل ضده وهو الصلاة فلا جرم يقع الفعل منه غير مبغوض فيقع صحيحا ، ومعه يتجه النتيجة المزبورة.

نعم لو كان نتيجة تعلق الوجوب الناقص بالمقدمة هو البغض التام في طرف النقيض بحيث يقتضي مبغوضية النقيض على الاطلاق لاتجه الاشكال المزبور فتنتفى الثمرة المزبورة ، ولكنه في محل المنع جدا ، فإنه كما عرفت لايكاد اقتضاء تعلق الوجوب الناقص بشيء بالنسبة إلى النقيض الا البغض الناقص ، وحينئذ فلا يبقى في البين الا جهة مقدمية الوجود لترك الضد الواجب الذي هو مبغوض بالبغض التام ، وهذا أيضا مما قد عرفت الجواب عنه باستناد الترك حينئذ دائما إلى الصارف وعدم وجود المقتضي وهو الإرادة لا إلى وجود الفعل ، فان صحة استناد عدم شيء إلى عدم وجود الشرط أو إلى وجود المانع انما يكون في ظرف وجود مقتضيه وتحققه ، والا ففي ظرف عدم تحقق المقتضي لايكاد استناد العدم الا إلى عدم المقتضي ، ومن ذلك ترى انه مع أنه عدم وجود النار لايكاد صحة استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع وهو الرطوبة مثلا أو إلى عدم تحقق شرطه ، بل وانما الصحيح استناده إلى عدم وجود المقتضي وهو النار وليس ذلك الا من جهة سبق المقتضى رتبة على بقية اجزاء العلة من الشرط والمانع ، كما سيجيء زيادة تحقيق لذلك إن شاء اللّه تعالى في مبحث الضد ، وحينئذ فحيث ان الفعل مسبوق دائما بالصارف وعدم إرادة الضد الواجب فلا جرم يكون عدم الضد مستندا إلى الصارف دون الفعل ومع يقع الفعل العبادي قهرا غير مبغوض فيقع صحيحا ، هذا.

وقد تظهر الثمرة أيضا بين القولين في ضمان الأجرة على المقدمة فيما لو امر بالحج أو الزيارة عنه واخذ المأمور بالمشي فمات قبل الوصول إلى المقصد ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة يستحق المأمور الأجرة على ما اتى به من المقدمات من جهة أن الامر بالحج عنه امر بمقدماته التي منها المشي وطي الطريق وبذلك يستحق عليه الأجرة على المقدمة ،

ص: 347

واما على القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا استحقاق له للأجرة على المقدمة نظراً إلى عدم كون المأتي به من المقدمات مأمورا به حتى يقتضي ذلك تضمين الآمر للأجرة عليه ، وذلك من جهة فرض اختصاص امره بخصوص المقدمة الموصلة ومجرد تخيل المأمور واعتقاده بكون المقدمة المأتي بها واجبة ومأمورا بها أيضا غير مقتض لضمان الامر ، والا لاقتضى تضمينه في غيره من الموارد الاخر كما لو اعتقد بان زيدا امره بكنس داره فكنس داره بموجب هذا الامر الزعمي ، مع أنه كما ترى لايظن من أحد الالتزام به.

وتظهر الثمرة أيضا في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم كالمشي في الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق ، فإنه على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون المشي المزبور واجبا وان لم يترتب عليه الانقاذ ، واما على المقدمة الموصلة يقع المشي المزبور حراما مع عدم الايصال ، سواء قصد به الايصال أيضا أم لم يقصد ، غايته انه مع قصد الايصال يكون منقادا كما أنه مع عدم قصد الايصال يكون واجبا إذا كان ترتب عليه الانقاذ الواجب غايته انه يكون متجريا حينئذ في فعله كما هو واضح ...

ثمرة أصل المسألة

واما ثمرة الصل المسألة فقد يقال بظهورها في موارد : منها في مسألة النذر فيما لو نذر ان يأتي بواجب من الواجبات فإنه على القول بالملازمة ووجوب المقدمة يحصل البرء باتيان المقدمة بخلافه على القول بعدم وجوبها. ومنها حصول الفسق بترك واجب له مقدمات متعددة نظراً إلى صدق الاصرار على الحرام الموجب للفسق. ومنها عدم جواز اخذ الأجرة على المقدمة بناء على الملازمة بلحاظ خروجها حينئذ عن ملكه وعن حيطة سلطانه من حيث الفعل والترك فكان اخذ الأجرة عليها اكلا للمال بالباطل.

ولكن لايخفى عليك ما في الوجوه ، وذلك :

اما الأول فلمنع كونه ثمرة أصولية ، إذ هو انما يكون ثمرة لمسألة فرعية لأنه من تطبيق كبرى فرعية وهي كبرى وجوب الوفاء على المورد وأين ذلك والمسألة الأصولية التي من شأنها وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي؟ وبالجملة نقول بان المسألة الأصولية عبارة عما وقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي الكلي لا في طريق

ص: 348

تطبيق الحكم الشرعي الكلي على المورد ومسألة بر النذر انما كانت من قبيل الثاني لا من قبيل الأول فلا تكون حينئذ ثمرة لمسألة أصولية كما هو واضح.

واما الثاني فلانه بترك مقدمة واحدة يحصل العصيان للواجب ، إذ لا يتمكن معه بعد من الواجب ، ومعه يخرج بقية المقدمات عن حيز الوجوب كي يكون تركها حراما فيتحقق الاصرار الموجب لحصول الفسق ، مضافا إلى ما عرفت سابقا بأن تعدد العصيان انما يكون تابعا لتعدد الغرض ، فإذا لايتحقق من ترك الواجب بما له من المقدمات العديدة الا فوت غرض واحد لايكاد ترتب عليه إلا عصيان واحد.

واما الثالث فلوضوح عدم اقتضاء مجرد وجوب شيء على المكلف عينا أم كفاية لخروجه عن المالية بحيث لايجوز له أخذ الأجرة بإزائه ما لم يعتبر كونه على نحو المجانية ، ومن ذلك ترى جواز اخذ الأجرة على كثير من الواجبات كالصناعات الواجبة عينا أم كفاية وكموارد المخمصة التي امر فيها ببذل الأموال ، فان ذلك كله شاهد عدم اقتضاء مجرد الامر ببذلك الأعمال والأموال ووجوب اتلافها لخروجها عن المالية رأسا بحيث كان اخذ العوض بإزائه من اكل المال بالباطل ، وحينئذ فيحتاج حرمة أخذ الأجرة عليه إلى قيام دليل بالخصوص يقتضي ايجاب بذله على نحو المجان كما ورد في مثل الاذان والقضاء ونحوهما ، والا فلو كنا نحن ومجرد وجوب العمل عليه عينا أم كفاية فلايقتضي هذا المقدار خروجه عن المالية حتى يحرم عليه اخذ الأجرة بإزائه كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى جعلها أي الثمرة التوسعة في التقرب ، فإنه بناء على الملازمة كما يتحقق القرب باتيان المقدمة بقصد التوصل بها إلى ذيها كذلك يتحقق باتيانها بداعي أمرها ومطلوبيتها لدى المولى ولو غيريا بناء على ما عرفت من صلاحية الامر الغيري أيضا للمقربية ، واما على القول بعدم الملازمة فلايكاد يصح التقرب بالمقدمة الا باتيانها بقصد التوصل بها إلى ذيها.

وربما يجعل من الثمرة أيضا اجتماع الوجوب والحرمة عند كون المقدمة محرمة مع عدم الانحصار نظراً إلى اندراجه على الملازمة حينئذ في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فيبتني على الخلاف في تلك المسألة ، فعلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي له الاتيان بالمقدمة بداعي كونها مرادة للمولى بخلافه على القول بالعدم فإنه لايندرج في باب الاجتماع حتى يبتني على الخلاف في تلك المسألة. وأورد عليه في الكفاية بالمنع عن اندراجه في مسألة

ص: 349

الاجتماع على الملازمة بدعوى ان الواجب بعد كون عنوان المقدمية من الجهات التعليلية لا التقييدية عبارة عما هو بالحمل الشايع مقدمة لا عنوانها ، وحينئذ فعلى الملازمة يكون المقام من باب النهى عن العبادة أو المعاملة لا من باب الاجتماع كي يكون مبنيا عليه. ولكن فيه أن المقدمية وان كانت من الجهات التعليلية لا التقييدية ولكن الواجب بعد كونه في المقام عبارة عن الجامع بين الفردين والخصوصيتين ، فلا محالة يندرج في مسألة الاجتماع حيث يصير الفرد المحرم حينئذ مجمع العنوانين فكان بأحد العنوانين وهو الجامع المنطبق عليه متعلقا للحكم الوجوبي وبالعنوان الآخر متعلقا للحكم التحريمي ، لا في مسألة النهى عن العبادة أو المعاملة الذي ملاكه توارد الحكمين على موضوع واحد من جهة واحدة ، وهذا واضح بعد معلومية عدم سراية مصلحة الجامع إلى الخصوصية ولا مفسدة الخصوصية إلى الجامع المزبور ووقوف كل منهما على نفس متعلقه ، فإنه في مثله ينحصر التزاحم بين الملاكين في عالم الوجود محضا والا ففي مقام التأثير في الحب والبغض لايكون بينهما مزاحمة أصلا كما لايخفى.

تأسيس الأصل في المسألة

بقى الكلام في تأسيس الأصل في المسألة عند الشك في الملازمة ووجوب المقدمة

وليعلم بأن الشك في وجوب المقدمة وان كان يتصور على وجوه : تارة من جهة الشك في أصل مقدمية شيء للواجب ، وأخرى من جهة الشك في وجوب ذيها مع العلم بأصل المقدمية واصل الملازمة ، وثالثة من جهة الشك في أصل ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، الا ان الجهة المبحوث عنها في المقام انما هي خصوص الجهة الأخيرة التي يكون الشك ممحضا في أصل ثبوت الملازمة نظراً إلى خروج ما عداها عن مفروض الكلام في المقام فنقول حينئذ :

اما نفس الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها فلا اشكال في أنه لا أصل فيها ، فإنها من جهة كونها أزلية وجودا وعدما لا حالة سابقة لها حتى يجرى فيها الاستصحاب ، وحديث الرفع أيضا غير جار فيها لعدم كونها أمرا شرعيا ولا موضوعا أيضا لاثر شرعي ، لان ترتب فعلية الوجوب عليها حينئذ ترتب عقلي لا شرعي ، كما هو واضح.

واما نفس وجوب المقدمة فهو وان كان مسبوقا بالعدم حيث يكون حادثا بحدوث

ص: 350

وجوب ذي المقدمة الا انه من جهة عدم قابلية المورد لا يجري فيه الأصل أيضا ، لان جريان مثل هذه الأصول انما كان في مورد قابل للوضع الرفع ، ومع كون فعلية الوجوب على الملازمة من اللوازم القهرية لوجوب ذي المقدمة لايكون المحل قابلا للرفع كي يجرى فيه الأصل فيقتضي عدم فعلية وجوبها ، ولئن شئت قلت بالعلم التفصيلي حينئذ بعدم جريان الأصل فيه ، اما لعدم وجوبها واقعا على تقدير عدم ثبوت الملازمة واما لعدم قابلية المورد للرفع على تقدير ثبوت الملازمة كما هو واضح ، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بجريان الأصل في طرف الوجوب فلا مجال للاشكال عليه من جهة انتفاء الأثر العملي بدعوى انه بعد حكم العقل بلا بدية الاتيان بالمقدمة لايترتب على نفى وجوبها ثمرة أصلا من حيث الحركة والسكون ، وذلك لامكان الجواب عنه بعدم الانحصار الأثر حينئذ بحيث الحركة والسكون وانه يكفي فيه التوسعة في التقرب باتيان المقدمة بداعي مراديتها حيث إنه بنفي وجوبها حينئذ يترتب نفى هذا الأثر فيتضيق بذلك دائرة التقرب. وأما توهم عدم كون مثل هذا الأثر حينئذ شرعيا لأنه من كيفيات الإطاعة التي هي من الآثار العقلية فلايكاد يمكن اثباتها بمثل هذه الأصول التعبدية ، فمدفوع بأنه كنفس الإطاعة من لوازم مطلق وجوب الشيء ولو ظاهرا ، هذا.

ولكن مع ذلك كله يشكل الاكتفاء بمثل هذا الأثر في جريان الاستصحاب ينشأ من عدم كونه اثرا للمستصحب حتى يجري الاستصحاب بلحاظه وكونه من آثار نفس الحكم الاستصحابي ، إذ حينئذ جريان الاستصحاب بلحاظ مثل هذا الأثر لعله من المستحيل ، فلابد حينئذ من التماس اثر في البين للمستصحب حتى يكون جريان الاستصحاب بلحاظه ، وحيثما لايكون في البين اثر عملي يترتب على المستصحب فلا مجال لجريانه بوجه أصلا كما لايخفى.

أدلة الأقوال في وجوب المقدمة

وإذ عرفت ذلك فلنشرع في الاستدلال على وجوب المقدمة ، فنقول :

انه يكفي دليلا على وجوبها الوجدان بان من يريد شيئا ويطلبه يريد بالجبلة مقدماته أيضا بحيث لو التفت إلى المقدمية تفصيلا يجعلها في قالب الطلب ويطلبها أيضا بطلب مستقل مولوي بقوله ادخل السوق واشتر اللحم ، كما أنه يوضح ذلك أيضا لحاظه الإرادات

ص: 351

التكوينية حيث ترى انه متى تريد شيئا تريد بالجبلة مقدماته أيضا فمتى تعلق إرادتك بشرب الماء لغرض هو رفع العطش تقصد تحصيله فتصير بصدد تحصيله بشراء ونحوه وإذا كان تحصيله يتوقف على المشي إلى مكان تقصد المشي إلى ذلك المكان ، وهكذا غيره من المقدمات ، بخلاف ما لايكون مقدمة من الملازمات القهرية كالمشي تحت السماء ونحوه فإنها وان كانت مما لابد منه عقلا الا انها غير مقصودة ولا مرادة في مشيك بوجه أصلا ، وحينئذ فإذا كان ذلك شأن الإرادات التكوينية المتعلقة بالاغراض كذلك تكون مثلها الإرادات التشريعية ، حيث لا فرق بينهما الا في كون الأولى محركة لنفس المريد والثانية للمأمور نحو المراد ، ففي الإرادات التشريعية أيضا يلازم إرادة الشيء والبعث نحوه البعث نحو مقدماته بحيث مع الالتفات إلى مقدميتها يجعلها في قالب طلب مثله فيبطلها ويأمر بايجادها ، بل قد عرفت سابقا بان ذلك مقتضي أكثر الواجبات في العرفيات والشرعيات حيث كان وجوبها بحسب اللب وجوبا غيريا من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد يكون هو المراد والمطلوب النفسي ، وعليه ففي نفس هذا الوجدان والارتكاز غنى وكفاية في اثبات الوجوب الغيري للمقدمات عن الاستدلال على وجوبها بل ولعله هو العمدة في الباب.

والا فمع الغض عنه لايكاد يتم الاستدلال على وجوبها بالبرهان المعروف عن البصري بأنه لو لم تجب لجاز تركها وحينئذ فان بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لايطاق والاخراج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.

وذلك لما فيه بأنه ان أريد من التالي في الشرطية الأولى الإباحة الشرعية فعليه وان صدق الشرطية الثانية حيث لايمكن بقاء الواجب على وجوبه مع ترخيص الشارع في ترك مقدمته الا ان الملازمة حينئذ ممنوعة نظراً إلى عدم اقتضاء مجرد عدم وجوب المقدمة للترخيص في تركها ، وان أريد به مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك من جهة عدم اقتضاء فيه للالزام فهو وان كان صحيحا ولكنه نمنع حينئذ صدق إحدى الشرطيتين وهو لزوم التكليف بما لايطاق أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، فأنه بعد عدم اقتضاء مجرد عدم المنع الشرعي عن الترك لخروج الواجب عن القدرة نقول ببقاء الواجب حينئذ على وجوبه ولزوم الاتيان به بايجاد مقدماته بمقتضي اللابدية العقلية هذا بناء على إرادة الجواز وعدم المنع الشرعي عما أضيف إليه الظرف في قوله ( وحينئذ ) ، واما لو

ص: 352

أريد منه نفس الترك فعليه بعد تقييده بما إذا كان الترك في آخر الوقت بحيث لا يتمكن معه من الواجب نقول بان الواجب وان لم يبق على وجوبه حينئذ الا انه حيثما كان ذلك بالعصيان وسوء الاختيار فلا محالة يستحق عليه العقوبة من جهة تمكنه من الاتيان بالواجب وحكم عقله بلزوم اتيان المقدمة من باب اللابدية ارشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقوبة.

نعم لو أريد من الجواز اللاحرجية في الفعل والترك شرعا وعقلايترتب عليه أحد المحذورين وهو لزوم خروج الواجب عن وجوبه ولكنك عرفت بالمنع حينئذ عن الملازمة من جهة عدم اقتضاء مجرد عدم الوجوب شرعا جواز تركها شرعا حتى ينافي مع التكليف بالواجب بل وانما غايته هو عدم كونها محكومة بحكم شرعي وحينئذ فيكفي في لزوم الاتيان بها حكم العقل باللابدية كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر الجواب أيضا عما افاده بعض لاثبات وجوبها بأنها لو لم تجب بايجابه يلزم ان لايكون تارك الواجب المطلق عاصيا ومستحقا للعقوبة مع أن التالي باطل قطعا فالمقدم مثله ، إذ نقول بأنه كذلك لولا كون الترك عن سوء اختياره وحكم عقله بلابدية الاتيان ارشادا إلى ما في الترك من العصيان المتتبع للعقوبة كما لايخفى.

وحينئذ فالعمدة في اثبات وجوبها هو ما ذكرناه من قضية الوجدان والارتكاز في الواجبات العرفية وفى الإرادات التكوينية للانسان المتعلقة بما له مقدمات ، وعليه أيضا لا يفرق في المقدمات بين السبب وغيره من جهة ان ملاك ترشح الوجوب الغيري انما هو كونها مما لها الدخل في المطلوب وفى حصول الغرض ، فإذا كان الشيء مما له الدخل في حصوله وتحققه سواء كان بنحو المؤثرية كما في المقتضى أو بنحو الدخل في القابلية أو غير ذلك يترشح إليه الإرادة الغيرية فيصير واجبا بالوجوب الغيري.

وعليه فلا وجه لما ذكروه من التفصيل تارة : بين السبب وغيره بتقريبين تارة بان القدرة لما كانت غير حاصلة على المسببات وحدها الا في حال انضمام أسبابها إليها فلا جرم لابد وأن يكون الأسباب أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بالمسببات ، من جهة بعد اختصاص التكليف حينئذ بالمسببات وخروج الأسباب بالمرة عن حيز التكليف ، وأخرى بان التكليف لما كان لايمكن تعلقه الا بأمر مقدور للمكلف ولايكون المقدور الا الأسباب دون المسببات لأنها من الآثار المترتبة على الأسباب فلابد من صرفه عنها

ص: 353

إلى الأسباب. وأخرى : بين الشرائط الشرعية وغيرها بدعوى وجوب الشرايط الشرعية دون غيرها من تقريب انه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنه ليس مما لابد منه عقلا أو عادة.

إذ فيه ما لايخفى ، اما التفصيل الأول : فان أريد من عدم اختصاص التكليف بالمسبب في التقريب الأول تعلق التكليف بمجموع المسبب والسبب ففساده واضح حيث لايقتضي مجرد عدم القدرة على الشيء الا في حال انضمام أسبابه كون أسبابه أيضا ملحوظة للآمر حال التكليف بحيث يكون تكليفه بمجموع السبب والمسبب ، مع أنه على ذلك يكون السبب واجبا بالوجوب النفسي الضمني لا بالوجوب الغيري الذي هو محل البحث. وان أريد به اقتضاء التكليف بالمسبب حينئذ لتعلق تكليف غيري أيضا بسببه لكونه مما يتوقف عليه وجود المسبب وبدونه لايكاد تحققه في الخارج فهو مما لا يفرق فيه بين السبب وغيره ، فيجري في جميع المقدمات كانت من معطيات الوجود أو من معطيات القابلية واما التقريب الثاني للتفصيل المزبور فهو مع كونه انكارا التفصيل حقيقة من جهة رجوعه إلى تعلق الامر النفسي بدوا في هذه الموارد بالسبب ، نقول بان المسبب حيثما كان مقدورا للمكلف ولو بسببه يكفي هذا المقدار في صحة التكليف به ، فإنه لا يعتبر في صحة التكليف بالشيء أزيد من القدرة عليه ، كانت بلا واسطة أو معها ، ومعه لا وجه لصرف التكليف عن المسبب وارجاعه إلى سببه كما هو واضح.

واما ما قيل بان العلة والمعلول اما ان يكون لكل منهما وجود ممتاز عن الاخر في الخارج كما في شرب الماء ورفع العطش حيث كانا أمرين ممتازين وجودا في الخارج واما ان يكونا عنوانين لفعل واحد غايته طوليا لا عرضيا ، كالالقاء والاحراق المتصف بهما فعل المكلف في الخارج حيث كان صدق عنوان الالقاء متقدما على صدق عنوان الاحراق. فان كانا من قبيل الأول ففي مثله يتعلق الإرادة الفاعلية بالمعلول أولا لقيام المصلحة به ثم تتعلق بعلته وسببه لتوقفه عليها ، ونحوه الإرادة التشريعية الامرية فأنها أيضا تتعلق أولا بالمعلول والمسبب ثم بعلته وسببه فيصير سببه واجبا بالوجوب الغيري المقدمي. واما ان كانا من قبيل الثاني كما في الالقاء والاحراق وعنوان الغسل والتطهير ونحوهما فيلزمه كون الامر بالمسبب والمعلول عين الامر بسببه وعلته والامر بالسبب عين الامر بالمسبب ، لأنه في تعلق الامر بالمسبب يكون السبب مأخوذا فيه لا

ص: 354

محالة كما أنه في تعلقه بالسبب يكون معنونا بالمسبب ، فعلى كل تقدير يكون الامر بكل منهما أمرا بالآخر وفى مثله لايكاد اتصاف السبب بالوجوب الغيري بوجه أصلا كما لايخفى ، فمدفوع بان مثل عنوان الالقاء والاحراق عنوانان ممتازان وجودا كل منهما عن الآخر حيث كان الالقاء الذي هو فعل المكلف سببا لملاصقة الخشب مع النار التي هي سبب لتحقق الحرقة في الخارج ، فالحرقة حينئذ لها وجود مستقل في قبال الالقاء الذي هو من فعل المكلف ، نظير حركة اليد وحركة المفتاح اللتين هما وجود ان من الحركة إحديهما معلولة للأخرى ، نعم غاية ما هناك انه ينتزع من وجود المعلول عنوانان : أحدهما عنوان الاحراق بالإضافة إلى الفاعل والآخر عنوان الحرقة بالإضافة إلى نفسه ، نظير الايجاد والوجود ، ولكن مجرد ذلك لايقتضي صدق عنوان الاحراق وانطباقه حقيقة على الالقاء الذي هو فعل المكلف. وعليه فإذا كان العنوانان كل منهما وجودا عن الاخر في الخارج فلا محالة يكون حالهما حال شرب الماء ورفع العطش في اتصاف الالقاء بالوجوب الغيري عند تعلق الامر بالاحراق وعدم كون الامر بالاحراق أمرا حقيقة بالالقاء كما هو واضح.

ثم إن هذا كله إذا كان المسبب والمعلول من آثار فعل المكلف خاصة على معنى كون فعله علة تامة لتحققه بحيث لايكون لفعل الغير أيضا واختياره دخل في ترتب المسبب والمعلول وتحققه.

وأما إذا كان لفعل الغير واختياره أيضا دخل في تحققه كعنوان حقيقة البيع مثلا الذي هو مترتب على مجموع ايجاب البايع وقبول المشتري فقد يقال حينئذ بأن التكليف بالمسبب وهو البيع حقيقة تكليف بسببه وهو الايجاب من جهة خروج المسبب حينئذ بعد مدخلية قبول المشتري عن حيز قدرة البايع حتى بالواسطة ، فمن ذلك لو ورد امر بشخص ببيع داره لا جرم لابد بعد خروجه عن حيز قدرته من صرفه إلى سببه وهو ايجابه الناشي منه من جهة امتناع بقائه على ظاهره في التعلق بعنوان البيع ، ولكنه أيضا مدفوع بأنه كذلك إذا كان قضية الامر بالبيع أمرا بايجاده على الاطلاق وأما إذا كان أمرا بحفظ وجوده من قبل ما هو تحت قدرته واختياره فلا يلزم ارجاعه وصرفه عنه إلى سببه ، بل يجعل الامر في تعلقه بالمسبب على حاله حينئذ ويقال بأن والواجب هو حفظ وجوده من قبل ما هو تحت اختياره ، كما هو الشأن أيضا في كلية المقيدات ببعض القيود غير الاختيارية ،

ص: 355

إذ كان مرجع التكليف بها أيضا إلى التكليف بسد باب عدمه وحفظه من قبل ما هو تحت الاختيار في ظرف انحفاظه من قبل سائر القيود غير الاختيارية وحينئذ فإذا كان الواجب هو حفظ وجود المعلول والمسبب من قبل ما هو فعل اختياري للمكلف وهو ايجابه وكان هذا المقدار من الحفظ بتوسيط القدرة على الايجاب تحت قدرته واختياره فلا جرم يكون الايجاب الذي هو مسبب لهذا المقدار من الحفظ متصفا بالوجوب الغيري لا بالوجوب النفسي كما توهم فتدبر هذا كله في التفصيل الأول.

واما التفصيل الثاني بين الشرائط الشرعية وغيرها : بدعوى انه لولا وجوبها لما كان شرطا ، ففيه أيضا انه ان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في الثبوت بالنسبة إلى الشرطية والمقدمية بحيث لولا امر الشارع لما كان مقدمة وشرطا ففساده واضح من جهة بداهة ان الامر الغيري انما يتعلق بما هو مقدمة الواجب وشرطه فلو كان مقدميته متوقفة على الامر الغيري بها لدار. وان أريد كون التكليف والامر من قبيل الواسطة في الاثبات بالنسبة إلى المقدمية والشرطية بحيث يكشف امر الشارع به عن كونه مقدمة وشرطا في الواقع ، ففيه مع أنه كثيرا ما يكون دليل الشرطية بغير لسان التكليف كما في قوله : « لا صلاة الا بطهور ، ولا صلاة الا إلى القبلة » نقول بأنه لايكون ذلك تفصيلا في المسألة لان مقتضاه حينئذ هو وجوب كل ما يتوقف عليه الواجب بالوجوب الغيري ولو كان الطريق إلى المقدمية غير امر الشارع كما هو واضح. ثم إن هذا كله في مقدمة الواجب

مقدمة المستحب والمكروه والحرام

واما مقدمة المستحب : فحكمها حكم مقدمة الواجب ، طابق النعل بالنعل ، كما أن مقدمة المكروه حكمها حكم مقدمة الحرام كما سنحرره.

واما المقدمة الحرام : فلا اشكال بينهم في أنه على الملازمة لايكون وزانها وزان مقدمة الواجب في اتصاف كل مقدمة من المقدمات بالحرمة الفعلية. كما في مقدمة الواجب ، وان ما هو المحرم لايكون الا العلة التامة أو الجزء الأخير منها الذي لايبقى معه الاختيار على ترك الحرام ، ولعل هذا التفكيك بين مقدمة الواجب والحرام انما هو من جهة ان المطلوب في الواجب انما كان هو الوجود وهو مما يتوقف تحققه على حصول جميع المقدمات بحيث بانعدام واحدة منها ينتفي المطلوب فمن ذلك يسرى

ص: 356

المحبوبية إلى كل واحدة من المقدمات ، بخلافه في طرف الحرام ، فإنه بعد أن كان المبغوض فيه هو الوجود يكون المطلوب فيه هو الترك وحيث إن الترك يتحقق بترك إحدى المقدمات فلايكون الواجب الا أحد التروك تخييرا ، فيتعين ذلك حينئذ في المقدمة الأخيرة التي لايبقى معها اختيار ترك الحرام ، فإذا وجب ترك المقدمة الأخيرة حينئذ فقد حرم فعلها بمقتضى النهى عن النقيض ، ولكن ذلك أيضا في مثل الافعال التوليدية التي لايحتاج في اختياريتها الا إلى إرادة سابقة على المتولد منه ، والا ففي غيرها مما يحتاج بعد تمامية المقدمات إلى إرادة محركة للعضلات نحوه كالصلاة مثلا فلا محالة تكون المقدمة الأخيرة فيها هي تلك الإرادة التي هي خارجة عن حيز التكليف ، إذ تكون العلة التامة للحرام حينئذ مركبة من الإرادة وغيرها ، وفي مثلها لايكاد اتصاف شيء من المقدمات بالحرمة بمقتضى البيان المزبور إذ كان استناد الحرام حينئذ إلى الإرادة وعدم الصارف عنه التي هي أسبق رتبة من غيرها. ومن ذلك نقول أيضا بعدم حرمة ترك مقدمات الواجب بمقتضي النهى عن النقيض نظراً إلى استناد ترك الواجب دائما ولو في ظرف ترك بقية المقدمات إلى وجود الصارف وعدم الإرادة من جهة سبقها رتبة على غيره كما سنحققه إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن هذا كله بناء على مسلك المشهور من وجوب مطلق المقدمة. واما على ما ذكرنا من تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة اما بنحو التقييد كما عليه ظاهر الفصول واما على ما اخترناه من جعل الواجب ولو بلحاظ قصور في امره عبارة عن الذات التوامة مع وجود بقية المقدمات الملازمة للايصال قهرا فلا اشكال في البين في مثل المقام إذ حينئذ تكون مقدمات الحرام حالها كحال مقدمات الواجب فتكون كل مقدمة من مقدماته متصفة بالحرمة الغيرية في ظرف انضمامها ببقية المقدمات الملازم لترتب الحرام عليها. ومن ذلك أيضا نقول بأنه لو أتى بمقدمة الحرام ولولا بقصد التوصل بها إلى المحرم بل بقصد التوصل بها إلى امر واجب واتفق بعد ذلك ترتب الحرام عليها كان ما اتى به حراما فعليا في الواقع ، كما أنه لو اتفق عدم ترتب الحرام عليها لايكون ما اتى به حراما وان كان من قصده التوصل به إلى الحرام. فالمدار حينئذ في اتصاف المقدمة بالحرمة وعدم اتصافها بها على ترتب الحرام عليها وعدمه.

ثم إن الثمرة بين المسلكين تظهر في التوضي في المصب الغصبي بالماء المباح مع تمكنه

ص: 357

من المنع عن وصول ماء الوضوء إلى المصب ولو بجعل كفه مانعا عنه ، فإنه على المشهور من تخصيص الحرمة بالجزء الأخير يقع وضوئه صحيحا من جهة ان الجزء الأخير من العلة حينئذ انما هو عدم ايجاد الحائل عن وصول الماء إلى المصب الغصبي الذي هو امر أجنبي عن وضوئه فيكون هو المحرم والمنهي عنه دون وضوئه ، فمن ذلك يقع وضوئه صحيحا من غير فرق بين علمه بذلك من الأول وبين صورة عدم علمه به ، ولكن ذلك بخلافه على ما اخترناه ، إذ عليه في ظرف عدم منعه عن وصول الماء إلى المصب يقع أصل وضوئه حراما ومنهيا عنه فيقع باطلا إذا كان من نيته عدم ايجاد المانع عن وصول الماء إلى المصب. نعم لو لم يعلم بذلك من الأول كما لو كان بانيا من الأول على احداث المانع عن وصول ماء وضوئه إليه فاتفق بعد ذلك وصول الماء إليه ولو من جهة حصول البداء له عن احداث المانع يقع وضوئه صحيحا وان كان حراما في الواقع ، نظراً إلى وضوح عدم اقتضاء مجرد وقوع وضوئه على وجه الحرمة في الواقع لفساد وضوئه وبطلانه كما هو واضح فتدبر

ص: 358

المبحث الخامس : في الضد
اشارة

قد اختلفوا في أن الامر بالشيء هل يقتضي النهى عن ضده أم لا؟ وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان أمرين :

الأول : الظاهر أن المسألة انما هي من المسائل الأصولية من جهة رجوعها إلى البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده فتكون كالبحث عن سائر الملازمات فكان ذكرها حينئذ في مباحث الألفاظ مع كونها من المسائل العقلية لمحض المناسبة ، ويمكن أيضا ان تكون من المبادي الاحكامية الراجعة إلى البحث عن لوازم وجوب الشيء وانه هل من لوازمه هو حرمة ضده أم لا ، فإنه بعد الفراغ عن دلالة الصيغة على الوجوب اقتضت المناسبة البحث عن لوازمه بأنه هل من لوازم وجوب الشيء هو حرمة ضده أم لا أو وجوب مقدمته أم لا كما تقدم. واما احتمال كونها من المسائل الفرعية نظير ما قيل في مقدمة الواجب فبعيد جدا ، حيث إنه لايكاد يناسب ذلك عنوان البحث المزبور ، بخلاف مسألة وجوب المقدمة فإنه يتطرق فيها احتمال كونها مسألة فرعية بمقتضي عنوان البحث ، مضافا إلى ما عرفت في المسألة السابقة من عدم انطباق ميزان المسألة الفرعية عليها وحينئذ فيدور الامر بين كونها من المبادي الاحكامية أو من المسائل الأصولية العقلية ولكل منهما وجه ، وان كان الا وجه هو الثاني.

الامر الثاني : في تحرير مفردات عنوان البحث من الأمر والنهي والشيء والاقتضاء والضد ، فنقول : اما الأمر والنهي فالظاهر أن المراد بهما يعم النفسي والغيري والأصلي والتبعي ، كم ان المراد بالشيء أيضا هو ما يعم الفعل والترك كما في تروك الصوم لا انه

ص: 359

عبارة عن خصوص الفعل كما ربما يتوهم. واما الثالث فالمراد به هو الاقتضاء في مرحلة أصل الثبوت لا الاقتضاء في مقام الكشف والدلالة والاثبات ، ولذلك يجري هذا النزاع في الأوامر المستكشفة من الاجماع والعقل أيضا. واما الرابع وهو الضد فالظاهر أن المراد به هو مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا فإنه تارة يطلق ويراد به معناه الأخص وهو المعاندة بين الشيئين على نحو لايمكن اجتماعهما في محل واحد مع جواز ارتفاعهما كالسواد والبياض ، وأخرى يطلق ويراد به مطلق المعاند الشامل للنقيض أيضا بنحو لايجوز ارتفاعهما أيضا ، فكان اطلاقه في المقام بمعناه الأعم الشامل للنقيض لا بمعناه الأخص ، نعم ذلك بمعناه الأخص أيضا لايختص بالوجوديين كما توهم بل يعمه وما لو كان أحدهما أمرا عدميا كالترك الخاص بالنسبة إلى الفعل المطلق بل وأما إذا كانا معا عدميين كما في صوم يومين مع فرض عدم قدرة المكلف خارجا الا على أحد الصومين.

وإذ عرفت ذلك فاعلم بان الكلام يقع في مقامين : تارة في الضد الخاص ، وأخرى في الضد العام بمعنى الترك.

اما المقام الثاني فسيجيء انه لا اشكال فيه في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده بمعنى الترك والنقيض ، وانما الكلام فيه بأنه أي الاقتضاء بنحو العينية أو التضمن أو الالتزام ، وسيجيء تحقيق الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

واما المقام الأول ففي اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص اشكال بين الاعلام ، والبحث فيه في الاقتضاء وعدمه يقع من جهتين :

الأولى : من جهة مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر كما عليه مبنى كثير منهم حيث بنوا على حرمة الضد المأمور به بمناط مقدمية تركه لفعل الضد الواجب. الثانية : من جهة مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر بدعوى اقتضاء هذا التلازم للتلازم بين حكميهما وصيرورة ترك الضد واجبا أيضا واقتضاء وجوب الترك بمقتضى النهى عن النقيض لحرمة فعله.

ولايخفى عليك حينئذ ان النزاع من الجهة الأولى يكون صغرويا محضا ، فإنه بعد الفراغ عن الكبرى وهي التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته كان الكلام في اثبات الصغرى وهي مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الاخر ، بخلافه في النزاع من الجهة الثانية فإنه يكون في أصل كبرى لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم ، والا فاصل

ص: 360

الصغرى وهو التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الآخر مما لا كلام فيه ، فهاتان الجهتان حينئذ متعاكستان في الجهة المبحوث عنها ، وبعد ذلك نقول :

اما الجهة الأولى فتقريب الاقتضاء انما هو من جهة قضية المنافرة والمعاندة بين الوجودين وعدم اجتماعهما في التحقق ، بدعوى اقتضاء تلك المنافرة والمعاندة لمقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر نظراً إلى وضوح كون عدم المانع من المقدمات ومن اجزاء العلة التامة للشيء ، فإذا ثبت حينئذ مقدمية عدمه لوجود الضد الواجب فلا جرم يجب بوجوب مقدمي غيري بمقتضى كبرى التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ومع وجوبه يقع فعله لا محالة بمقتضى النهى عن النقيض حراما ومنهيا عنه ، هذا

وقد أورد عليه بمنع المقدمية نظراً إلى انتفاء السنخية بين الوجود والعدم واستحالة كون العدم من مقدمات وجود الشيء ومن اجزاء علته ، ولكن فيه ما تقدم سابقا من ابتناء هذا الاشكال على اتحاد المقدمات طرا في كيفية الدخل في وجود المعلول ورجوع دخل الجميع إلى المؤثرية والمتأثرية كما في المقتضى ، فإنه على هذا المبني لا محيص من اخراج عدم المانع بقول مطلق عن المقدمات وعن كونه من اجزاء العلة التامة نظراً إلى انتفاء السنخية بين الوجود والعدم وامتناع تأثير العدم في الوجود ، والا فبناء على اختلاف المقدمات في كيفية الدخل في المعلول ورجوع بعضها إلى كونها معطيات الوجود كما في المقتضي ورجوع بعضها الاخر إلى كونها معطيات الحدود للوجود والقابلية كما في الشرط وعدم المانع على ما شرحناه سابقا فلا مجال للمنع عن مقدمية عدم الضد بالبيان المزبور.

وحينئذ فالأولى هو المنع عن المقدمية بما في الكفاية : من دعوى عدم اقتضاء مجرد المعاندة والمنافرة بين الضدين وعدم الاجتماع في الوجود لمقدمية عدم أحدهما لوجود الاخر وللتوقف الموجب لتخلل الفاء بينهما الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة بل وان غاية ما يقتضيه ذلك انما هو التلازم بين وجود أحدهما مع عدم الآخر ، كما هو الشأن أيضا في النقيضين ، حيث لايكاد اقتضاء بينهما لمقدمية ارتفاع أحدهما لثبوت الآخر ، كيف وانه لو اقتضى مجرد هذه المنافرة والمعاندة التوقف الموجب لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر لاقتضى مقدمية عدم الضد الاخر أيضا لوجود هذا الضد ، من جهة ان المعاندة والمنافرة كانت من الطرفين ، فكما ان هذا الضد لايكاد يتحقق الا في

ص: 361

ظرف عدم ضده كذلك ذلك أيضا لايتحقق الا في ظرف عدم ذلك ، وهو واضح الاستحالة ، من جهة استلزامه لكون الشيء في رتبتين ، وبيان ذلك انا لو فرضنا في مثل الصلاة والإزالة مثلا توقف الإزالة على عدم الصلاة توقف الشيء على عدم مانعه ، فلازم التوقف والمقدمية هو تقدم العدم المزبور على وجود الإزالة ، ولازم ذلك بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين تقدم وجود الصلاة أيضا على الإزالة ، نظراً إلى كونها في رتبة عدمها الذي هو مقدم رتبة على وجود الإزالة ، فإذا فرضنا حينئذ بمقتضي المعاندة المزبورة توقف الصلاة أيضا على عدم الإزالة توقف الشيء على عدم مانعه يلزمه لا محالة بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين تقدم الإزالة أيضا وجودا وعدما على وجود الصلاة ، ولازمه حينئذ صيرورة كل من الصلاة والإزالة في رتبة متأخرة عن الاخر الملازمة لكون كل منهما في رتبتين ، وهو كما ترى مقطوع استحالته ، وحينئذ فكان ذلك برهانا قطعيا على استحالة ما ادعى من المقدمية بين الضدين كما هو واضح ، هذا.

وقد أورد على المقدمية أيضا من جهة محذور الدور ، بتقريب انه كما يتوقف وجود أحد الضدين على عدم الضد الاخر توقف الشيء على عدم مانعه كذلك يتوقف العدم المزبور أيضا على وجود هذا الضد توقف عدم الشيء على وجود مانعه ، لبداهة ثبوت المعاندة من الطرفين والمطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح ، من جهة توقف كل منهما حينئذ على الاخر.

وأجيب عن الدور المزبور بان فعلية التوقف انما كانت من طرف الوجود خاصة لا من طرف العدم ، بدعوى ان عدم الشيء انما يستند إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه ، والا ففي ظرف عدم وجود المقتضي لايكاد استناده الا إلى عدم ثبوت المقتضي له لا إلى وجود المانع ، ومن ذلك ترى عدم صحة استناد عدم الاحراق إلى وجود الرطوبة مع عدم وجود النار أو عدم تحقق شرطه الذي هو المماسة والمحاذاة الخاصة ، بخلافه في ظرف وجود أصل النار وتحقق المحاذاة الخاصة ومماسة الجسم مع النار إذ صح حينئذ استناد عدم الاحراق إلى وجود المانع والرطوبة ، وعلى ذلك فحيث أنه تحقق الصارف في المقام عن الوجود فلا جرم في مثله يكون عدم الضد مستندا إلى عدم الإرادة والصارف الذي هو أسبق رتبة من المانع لا إلى وجود الضد حتى يلزم الدور ، كما هو واضح ، هذا.

ص: 362

وقد أورد عليه الأستاذ في الدورة السابقة بأنه بعد أن كان المعلول استناده في طرف الوجود إلى مجموع اجزاء العلة من المقتضي والشرط وعدم المانع في عرض واحد بتخلل فاء واحد بينهما في قولك : ( وجدت العلة بأجزائه فوجد المعلول ) لا بتخلل فائين بقولك : ( وجد فوجد فوجد المعلول ) والايلزمه خروج مثل عدم المانع عن كونه من أجزاء العلة التامة في التأثير في تحقق المعلول ، فلا جرم بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين لابد وأن يكون عدمه أيضا عند انتفاء العلة باجزائها مستندا إلى انتفاء الجميع في عرض واحد بنحو تخلل فاء واحد على نحو استناد وجوده إلى مجموع اجزاء العلة لا إلى خصوص بعض اجزائها وهو عدم المقتضي ، فيبطل حينئذ ما ادعى من الترتب والطولية بين اجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط والمانع في مقام التأثير الفعلي في وجود المعلول ، وان ما يرى من عدم صحة استناد عدم الاحراق في المثال المزبور عند عدم وجود النار وتحقق المحاذاة الخاصة إلى الرطوبة ووجود المانع فإنما هو فيما إذا أريد استناده إلى خصوص المانع ، والا فصحة استناده حينئذ إلى عدم المجموع مما لا ريب فيه ، كما هو واضح. واما صحة استناده إلى خصوص عدم المقتضي مع انتفاء الشرط ووجود المانع أيضا فلعله من جهة اقوائية المقتضي حينئذ من بين اجزاء العلة عند العرف في استناد العدم إليه ، والا فبحسب الدقة لايكون العدم الا مستندا إلى عدم وجود علته التامة التي من اجزائها الشرط والمانع ، ومن ذلك ربما يكون الامر بالعكس في استناد العدم عرفا إلى شيء كما في الخشبة التي تحت البحر ، حيث صح استناد عدم احراقه إلى وجود الماء عند كونه تحت البحر عرفا ، ولايصح استناده إلى عدم وجود النار ، بل ولئن علل عدم احراقه إلى عدم وجود النار والحال هذه ترى بأنه يضحك عليه العرف.

وحينئذ فإذا لايكون اجزاء العلة التامة في عالم التأثير في المعلول الا في عرض واحد ومرتبة واحدة بنحو لايتخلل بينه وبين المجموع إلا فاء واحد نقول في المقام أيضا بان العلة التامة لوجود الصلاة إذا كانت هي الإرادة وترك ضدها الذي هو الإزالة حسب ما هو المفروض من مقدمية الترك للوجود ولم يكن بينهما في مقام التأثير في الأثر ترتب وطولية ، بل كان استناده إلى مجموع الامرين في عرض واحد بتخلل فاء واحد كقولك : ( وجدت الإرادة وترك الإزالة فوجدت الصلاة ) فلا جرم في طرف العدم أيضا بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين لايكونان الا في رتبة واحدة ، فإذا قلب حينئذ كل من الإرادة و

ص: 363

الترك إلى النقيض بقلب الإرادة إلى عدمها والترك إلى الفعل فقهرا يكون العدم مستندا إلى مجموع الامرين من وجود الصارف وفعل الضد الذي هو المانع ، لا انه مستند إلى خصوص الصارف وعدم الإرادة ، وعليه يتوجه محذور الدور المزبور نظراً إلى فعلية التوقف حينئذ من الطرفين ، كما هو واضح ، هذا.

ولكن الأستاذ ( دام ظله ) أجاب عن ذلك أخيرا ، وبنى على الترتب والطولية بين اجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط والمانع ، والتزم بتقدم المقتضي على الشرط والمانع رتبة بمقتضي ما بنى عليه من اختلاف اجزاء العلة في كيفية الدخل في وجود المعلول برجوع بعضها كالمقتضي إلى كونها مؤثرات ومعطيات الوجود ، ورجوع بعضها إلى كونها معطيات الحدود للوجود كالشرط وعدم المانع ، فإنه عليه يكون المقتضي باعتبار كونه مؤثرا ومعطيا لأصل الوجود مقدما رتبة على ما يكون دخله في حدود ولو بنحو دخل منشأ الاعتبار في الامر الاعتباري ، كتقدم ذات الوجود على حده العارض عليه رتبة ، وحينئذ فعند انتفاء المقتضي ووجود المانع لا جرم يكون العدم مستندا إلى عدم ثبوت المقتضي ، ولا مجال لاستناده إلى وجود المانع أو عدم شرطه الا في ظرف ثبوت أصل المقتضي للوجود ، وحينئذ ففي المقام أيضا حيثما كان عدم الإرادة والصارف أسبق رتبة من الشرط والمانع بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين فقهرا يكون العدم عند عدم الإرادة مستندا إلى الصارف لا إلى وجود المانع وهو الضد حتى يتوجه محذور الدور المزبور ، وهو واضح.

وحينئذ فالعمدة في الاشكال على المقدمية هو ما ذكرنا من لزوم كون الشيء في رتبتين نظراً إلى مقدمية ترك كل واحد من الضدين بعد كون المطاردة من الطرفين لوجود الضد الاخر ، بل ذلك أيضا لازم للاشكال الثاني أيضا نظراً إلى بقاء غائلة الدور وهو لزوم كون الشيء في رتبتين بعد على حاله وان اندفع فعلية التوقف بالبيان المزبور ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان ظهر بطلان مقدمية ترك الضد الاخر فلا جرم لايبقى في البين الا مجرد التلازم بين وجود أحد الضدين وترك الاخر ، وفي مثله نقول بان من الواضح أيضا عدم اقتضاء مجرد التلازم بين الشيئين التلازم بين حكميهما أيضا بحيث لابد وان يكون محكوما بحكم ملازمه كي بعد اثبات وجوب الترك بالمناط المزبور يحكم بحرمة نقيضه وهو الفعل بمقتضي النهى عن النقيض ، وذلك لان غاية ما يقتضيه الملازمة

ص: 364

المزبورة انما هو عدم كون أحدهما محكوما بما يضاد حكم الاخر لا وجوب كونه محكوما بحكمه ، كيف وان دعوى سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الاخر مما يحكم بخلافها بداهة الوجدان والارتكاز عند طلب شيء والامر به ، من حيث وضوح وقوف الطلب والامر والحب والبغض على نفس متعلقه وعدم سرايتها منه إلى ما يلازمه من الأمور الاخر بوجه أصلا.

وعليه فلا مجال لاثبات حرمة فعل الضد حتى يترتب عليه فساده إذا كان عبادة ، لا بمناط التلازم ولا بمناط المقدمية ، خصوصا على ما تقدم منافي المبحث المتقدم من تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، فإنه على المقدمية أيضا حينئذ لايكاد اتصاف فعل الضد المقرون بوجود الصارف بالحرمة الفعلية من جهة خروجه حينئذ عن دائرة ما هو نقيض الواجب ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون الضدان مما لهما ثالث بحيث أمكن تركهما معا أم لا كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ان ظهر عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص لا بمناط الملازمة وجدانا ولا بمناط المقدمية برهانا نقول :

فاعلم أن الضدين اما ان يكونا متساويين بحسب الملاك والمصلحة واما لا ، بل يكون أحدهما مزية على الاخر بحسب الملاك وعلى التقديرين لا يخلوان من كونهما مضيقين أو موسعين أو مختلفين فهذه صور عديدة وينبغي التعرض لكل واحدة من الصور بما يخصها من الحكم فنقول :

أما إذا كانا متساويين في الملاك والمصلحة وكانا أيضا مضيقين ، فان لم يكن لهما ثالث كما في الحركة والسكون والنوم واليقطة فلا اشكال في أن الحكم فيهما هو التخيير عملا بمعنى اللاحرجية نظير التخيير بين الفعل والترك في النقيضين ، لا التخيير الشرعي بمعنى الالزام بأحد الفعلين فإنه بعد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما ولا من تركهما معا فقهرا في مثله بعد تساوى الملاكين يحكم العقل فيهما بالتخيير وعدم الحرج في الفعل والترك ، ومعه لايكاد مجال لالزام شرعي في البين ولو تخييري بوجه أصلا لأنه في ظرف ترك أحد الضدين يكون الضد الاخر قهري الحصول ومعه لايبقى مجال اعمال الجهة المولوية بالامر بهما تخييرا ، كما هو واضح. ولئن شئت قلت بان الامر التخييري بشيئين بعد أن كان مرجعه إلى المنع عن ترك المجموع فلا جرم يختص بما إذا تمكن

ص: 365

المكلف من ترك كلا الامرين كما في ضدين لهما ثالث ، والا ففي مثل المقام المفروض عدم تمكن المكلف من ترك كلا الامرين لايكاد مجال للامر التخييري واعمال الجهة المولوية لا بالنسبة إلى ترك المجموع ولا بالنسبة إلى أحد الفعلين نظراً إلى امتناع الأول في نفسه وقهرية حصول أحد الفعلين ، كما هو واضح. هذا إذا كان الضد ان مما ليس لهما ثالث.

وأما إذا كان الضدان مما لهما ثالث بحيث يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين معا كما في الامر بانقاذ الغريقين وكما في مثل الصلاة والإزالة ففي مثله لا اشكال في أنه ليس له ترك كلا الامرين معا وانه يجب عليه الاتيان بأحد الامرين مخيرا بينهما لا مجرد التخيير بينهما عملا كما في الصورة الأولى بلا الزام شرعي أو عقلي في البين ، وذلك من جهة ان الممنوع حينئذ انما هو وجوب كل واحد منهما عليه بالزام تعييني على الاطلاق بنحو يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك في حال وجود الاخر ، واما وجوب كل واحد منهما عليه تخييرا فلا مانع يمنع عنه بعد فرض تمكن المكلف من اتيان أحد الامرين وتمكنه أيضا من ترك الجميع ، فإنه حينئذ يكون كمال المجال لأعمال الجهة المولوية بالامر بهما تخييرا ، وهذا بخلافه في الصورة الأولى فإنه فيها من جهة عدم تمكن المكلف من ترك كلا الامرين وقهرية حصول أحد الامرين عند ترك الاخر الا جرم لايبقى في مثله مجال الامر المولوي بأحد الامرين ولو بنحو التخيير بوجه أصلا فهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام ، وانما الكلام فيها ينتهي إليه مرجع هذا التخيير وانه هل هو راجع إلى تقييد الطلب في كل من الامرين بعدم الاخر وعصيانه؟ أو راجع إلى غير ذلك؟ بل مثل هذا الكلام لايختص بالمقام فيجري في كلية التخييرات الشرعية.

فنقول : ان المتصور في ذلك هو أمور :

أحدها : رجوعه إلى تقييد الطلب في كل من الواجبين بعدم الاخر اما بعدمه المحفوظ قبل الامر واما بعدمه المتأخر عن الامر المنتزع عنه عنوان العصيان الذي هو نقيض الإطاعة.

وثانيها : رجوعه إلى تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر مع اطلاق الطلب فيهما ، وذلك أيضا اما بأخذ القيد في كل منهما مطلق عدم الاخر بنحو يقتضي وجوب تحصيله واما بأخذه عبارة عن العدم الناشي من قبل سائر الدواعي غير دعوة الامر والطلب بحيث

ص: 366

لايقتضي الطلب وجوب تحصيله.

وثالثها : رجوعه إلى وجوب كل واحد منهما على التعيين ولكنه لا بايجاب تام بنحو يقتضي المنع عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك الملازم مع وجوده ضده بل بايجاب ناقص مقتضاه عدم المنع الا عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر الراجع إلى ايجاب حفظ الوجود في كل منهما من قبل سائر الجهات في ظرف انحفاظ وجوده من قبل بديله وعدم ضده من باب الاتفاق ، إذ الشيء بعد أن كان له أنحاء من العدم بالإضافة إلى فوت كل مقدمة من مقدماته ووجود كل ضد من أضداده تبعا لحدود وجوده الحاصلة بالقياس إلى وجود مقدماته وعدم اضداده ، فلا جرم بعد خروج أحد تلك الاعدام من حيز التكليف اما لعدم القدرة أو لغير ذلك كما في المقام من فرض عدم تمكن المكلف من الجمع بين الوجودين لايكون قضية التكليف بالايجاد حينئذ الا وجوب سد بقية الاعدام في ظرف انسداد عدمه من باب الاتفاق من قبل بديله وضده ، ومرجعه إلى كونه أمرا بمتمم الوجود لا بالوجود على الاطلاق بنحو يقتضي وجوب سد جميع الاعدام حتى العدم الملازم مع وجود ضده ، ومرجع ذلك بالآخرة إلى تخصيص الواجب في كل منهما بما يكون ملازما مع عدم الآخر من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الواجب ولا في الوجوب ، بل من جهة قصور الوجوب في نفسه حينئذ عن الشمول لغير ذلك ، هذا كله بحسب مقام التصور.

واما بحسب مقام التصديق فلاينبغي الاشكال في أن المتعين منها هو الوجه الأخير ، وذلك لما في غيره من عدم خلوه عن المحذور وذلك :

اما الوجه الأول من فرض تقييد الطلب في كل منهما بعصيان الاخر أو بعدمه من باب الاتفاق المحفوظ قبل الامر فواضح ، إذ الشق الثاني منه غير دافع لمحذور المطاردة بين الامرين ، من جهة بقاء المطاردة بينهما بعد على حاله ، بملاحظة تحقق ما هو الشرط فيهما قبل الاتيان بواحد منهما ، واما الشق الأول فهو وان اندفع به محذور المطاردة ، نظراً إلى وقوع تأثير كل منهما في رتبة الآخر الا انه يتوجه عليه حينئذ محذور طولية الامرين وتأخر كل منهما عن الاخر برتبتين حسب إناطة كل منهما بعصيان الاخر.

واما الوجه الثاني من فرض تقييد الواجب في كل منهما بعدم الاخر فهو أيضا بشقيه كذلك ، لان مقتضي الإناطة حينئذ هو تأخر كل من الواجبين رتبة عن عدم الاخر ، و

ص: 367

لازمه بمقتضي حفظ الرتبة بين النقيضين هو تأخر كل من الوجودين عن الاخر وهو ملازم لكون كل منهما في رتبتين ، وهو كما ترى من المستحيل ، خصوصا مع ما يرد على الشق الأول منه من لزوم وقوع المطاردة بين الامرين ، بلحاظ اقتضاء اطلاق الامر في كل منهما لزوم ترك الضد الاخر من باب المقدمة واقتضاء الامر به عدم تركه ولزوم ايجاده ، إذ حينئذ يصير كل واحد منهما وجودا وعدما موردا للتكليف الإلزامي وهو محال.

وعليه فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين الوجه الأخير الذي عرفت رجوعه إلى وجوب كل واحد منهما على التعيين ، لكنه لا بايجاب تام كي يقتضي النهى عن جميع أنحاء تروكه حتى الترك الملازم مع وجود الاخر بل بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال الترك الراجع في الحقيقة إلى ايجاب متمم الوجود لا ايجاب الوجود على الاطلاق ، وفي مثله يرتفع المطاردة بين الامرين ، حيث لا تنافي بين هذين الامرين بالضدين بعد كونهما من قبيل متمم الوجود وعدم اقتضائهما لوجوب الحفظ على الاطلاق كما في الامر التأمين كما هو واضح. وعليه أيضا لا داعي إلى رفع اليد عن الامرين على الاطلاق والمصير إلى الزام عقلي تخييري فيهما بل يؤخذ حينئذ بوجوب كل منهما على التعيين غايته انه من جهة محذور المطاردة والوقوع في ما لايطاق يرفع اليد عن اطلاق الامرين واقتضائهما للحفظ على الاطلاق ويصار إلى وجوب كل منها بايجاب ناقص راجع إلى ايجاب حفظ المرام من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من قبل ضده من باب الاتفاق ، من دون ان يكون ذلك من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق بوجه أصلا كما لايخفى.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في كلية التخييرات الشرعية أيضا إذ نقول برجوع الامر التخييري في جميع الموارد إلى ايجاب كل واحد من الفردين أو الافراد لكن بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك الاخر مع كون الترك في حال وجود الاخر تحت الترخيص كما صنعه صاحب الحاشية قدس سره في تعريف الواجب التخييري حيث عرفة بأنه طلب الشيء مع المنع عن بعض أنحاء تروكه في قبال الواجب التعييني الذي مرجعه إلى ايجابه وطلبه مع المنع عن جميع أنحاء تروكه الراجع في الحقيقة إلى كون الواجب في كل واحد من الفردين التخييريين هي الحصة الملازمة مع عدم الاخر لا مطلق وجودهما على الاطلاق ، لا إلى وجوب الجامع بين الفردين

ص: 368

كما افاده بعضهم ، ولا إلى وجوب أحد الفردين بلا عنوان أو أحدهما المعين عند اللّه وهو الذي يختاره المكلف لعلمه سبحانه أزلا بما يختاره في مقام الايجاد ، وذلك لان الأول مع أنه غير متصور في كثير من الموارد كما في فرض الدوران بين فعل شيء وترك الاخر وفي الضدين كالصلاة والإزالة مثلا مخالف لظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الفردين ، من جهة وضوح ظهورها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيتهما لا بما ان الوجودين كل منهما مصداق لما هو الواجب وهو الجامع كما هو واضح. واما الثاني فلما فيه أيضا بان عنوان أحد الفردين بلا عنوان امر عرضي انتزاعي لايكون له ما بإزاء في الخارج ولا كان قابلا لقيام المصلحة به فلايمكن ان يكون موردا للالزام واما مصداق أحد الفردين والخصوصيتين على نحو النكرة فهو وان كان قابلا لان يقوم به المصلحة ويصير موردا للالزام ولكنه أيضا مناف لما يقتضيه ظواهر الأدلة الآمرة بكل واحد من الوجودين. واما الثالث فهو أيضا كذلك إذ يكون منافيا لما اقتضه الأدلة الآمرة بكل واحد من الوجودين من جهة ظهورها في وجوبها كل واحد من الوجودين بخصوصيته ، نعم لا يرد عليه حينئذ محذور لزوم عدم اتصاف الوجودين بالوجوب في ظرف عصيان المكلف وعدم اختياره لواحد منهما ، وذلك من جهة وضوح ان اختيار المكلف حينئذ طريق إلى ما هو الواجب عند اللّه لا انه يكون له موضوعية وهو واضح.

وحينئذ فبعد بطلان الوجوه المزبورة يتعين قهرا ما ذكرنا ، إذ عليه تبقى الأدلة على ظاهرها في وجوب كل واحد من الفردين بخصوصيته غايته انه رفع لليد عما يقتضيه ظهور الوجوب في كل منهما في الوجوب التام وايجاب حفظ الوجود على الاطلاق بارجاع الوجوب فيهما إلى ايجابين ناقصين على نحو لايقتضي كل منهما بمقتضي النهى عن النقيض الا المنع عن تركه في حال ترك الآخر وذلك أيضا لا من جهة تقييد في الطلب أو المتعلق بل من جهة قصور في نفس الوجوبين حينئذ في اقتضاء حفظ الوجودين على الاطلاق حتى في حال وجود الاخر وهذا القصور أيضا ناش من جهة ما بين ملاكهما من التضاد الموجب لخروج أحد الوجودين عن كونه ذا مصلحة عند تحقق الاخر ، ونتيجة ذلك كما عرفت هو حرمة ترك كلا الوجودين ووجوب الاتيان بأحدهما كما هو واضح.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في الضدين المتساويين ظهر أيضا حال ما ذا كان أحدهما أهم والاخر مهما فإنه فيهما أيضا أمكن بالتقريب المزبور الجمع بين

ص: 369

الامرين في رتبة واحدة ، امر تام بالأهم وأمر ناقص بالمهم على نحو كان مقتضاه لزوم حفظ المهم من سائر الجهات في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل ضده الأهم ، إذ نقول بان عمدة المحذور في عدم جواز الامر بالضدين كما عرفت انما هو محذور لزوم ايقاع المكلف فيما لايطاق بلحاظ اقتضاء كل واحد من الامرين ولو بتوسيط حكم العقل بلا بدية الإطاعة والامتثال لصرف القدرة نحو متعلقه ، إذ حينئذ بعد أن لايكون للمكلف الا قدرة واحدة ولا يتمكن من الجمع بين الإطاعتين ربما يقع المكلف من ناحية اقتضاء الامرين في محذور ما لايطاق وحيث إن ذلك ينتهى بالآخرة إلى الشارع والمولى ربما يصدق ان المولى هو الذي أوقع المكلف في ما لايطاق ، ولكن نقول بأنه من المعلوم ان هذا المحذور انما يكون إذا كان الامر ان كل واحد منهما تاما بنحو يقتضي حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده ، والا فإذا لم يكونا كذلك بل كانا ناقصين كما تصورناه في المتساويين أو كان أحدهما تاما والاخر ناقصا غير تام بنحو لايقتضي الا حفظ متعلقه من قبل مقدماته وسائر أضداده غير هذا الضد فلا محذور أصلا ، حيث لايكون مطاردة بين الامرين في مرحلة اقتضائهما حتى يكون منشأ لتحير العقل ويصدق ان المولى من جهة امره أوقع المكلف في ما لايطاق ، وذلك لان الامر بالأهم حسب كونه تاما وان اقتضى حفظ متعلقه على الاطلاق حتى من ناحية ضده فيقتضي حينئذ افناء المهم أيضا ، ولكن اقتضائه لافناء المهم انما هو بالقياس إلى حده الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى بالقياس إلى بقية حدوده الاخر التي لا تضاد وجود الأهم وحينئذ فإذا لايكون الامر بالمهم حسب نقصه مقتضيا لحفظ متعلقه على الاطلاق حتى من الجهة المضافة إلى الأهم بل كان اقتضائه للحفظ مختصا بسائر الجهات والحدود الاخر غير المنافية مع الأهم في ظرف انحفاظه من باب الاتفاق من قبل الأهم. وبعبارة أخرى كان قضية الامر بالمهم من قبيل متمم الوجود الراجع إلى ايجاب حفظ المهم من قبل مقدماته وسائر أضداده في ظرف انحفاظه من قبل الضد الأهم من باب الاتفاق فلا جرم يرتفع المطاردة بينهما ، حيث إن الذي يقتضيه الامر بالأهم من افناء المهم بالقياس إلى الحد المضاف عدمه إليه لايقتضي الامر بالمهم خلافه ، وما اقتضاه الامر بالمهم من ايجاب حفظ متعلقه من سائر الجهات الاخر لايقتضي الامر بالأهم افنائه من تلك الجهات فأمكن حينئذ الجمع بين الامرين في مرتبة واحدة من دون احتياج إلى الترتب المعروف ، كما هو واضح.

ص: 370

ولئن شئت فاستوضح ذلك بما إذا ألم يكن في البين الا امر واحد بشيء لكن في ظرف تحقق بعض مقدماته أو انعدام بعض أضداده من باب الاتفاق ، كما لو امر بايجاد شيء كذائي في ظرف تحقق المقدمة الكذائية ، فإنه لا شبهة حينئذ في أن ما اقتضاه مثل هذا الامر انما هو لزوم حفظ الشيء من قبل سائر المقدمات والأضداد غير تلك المقدمة الكذائية ، لا لزوم حفظه على الاطلاق ، ومن ذلك لايكاد يكون مثل هذا الامر الا أمرا بمتمم الوجود ولازمه قهرا هو خروج الواجب ببعض حدود وجوده عن حيز الالزام وصيرورته بالقياس إلى الحد المضاف إلى المقدمة الكذائية تحت الترخيص الفعلي بحيث يجوز له تفويت المأمور به من قبل تلك المقدمة كما لو أنيط وجوبه بتحقق تلك المقدمة ، وعليه نقول : بأنه كما لا منافاة بين هذا الالزام وبين الترخيص في الترك بالقياس إلى الحد المضاف إلى المقدمة الكذائية مثلا وأمكن ان يكون الشيء ببعض حدود وجوده تحت الالزام وببعض حدود وجوده تحت الترخيص كذلك لا منافاة بين هذا الالزام وبين الالزام على الترك بالقياس إلى الحد المضاف إلى ضده بتبديل الجواز هنا بالالزام فأمكن حينئذ ان يكون المهم بالقياس إلى حده الملازم مع عدم الأهم تحت الالزام بالترك ، وبالقياس إلى سائر حدود وجوده الحاصلة بقياسه إلى سائر المقدمات وعدم بقية الأضداد تحت الالزام ، بالفعل في ظرف انحفاظ وجوده من قبل عدم الأهم من باب الاتفاق ، إذ في مثل ذلك لايكاد مجال المطاردة بين الامرين في مرحلة اقتضائهما في صرف القدرة نحو متعلقه ، بل ولا المطاردة أيضا بين الإطاعتين ، بلحاظ انه في ظرف إطاعة الأهم لا موضوع لإطاعة الامر بالمهم إذ كان اطاعته خارجا رافعة لعنوان الإطاعة عن المهم لا لوجودها فارغا عن الاتصاف ، وفي ظرف إطاعة المهم كان إطاعة الامر بالأهم منطردا لمانع سابق كالشهوة مثلا لا ان إطاعة المهم كانت طاردة لإطاعة الامر بالأهم ، ومعه لا وجه لدعوى سقوط الامر عن المهم بقول مطلق في ظرف ثبوته للأهم بمحض اقتضاء الامر بالأهم افناء المهم ، بصرف القدرة نحو متعلقه ، كي نحتاج في اثبات الامر بالمهم إلى الترتب المعروف والطولية بين الامرين ، بل لنا حينئذ بمقتضى البيان المزبور اثبات الامر بالمهم في عرض ثبوت الامر بالأهم وفي رتبته.

نعم لو كان قضية الامر بالأهم حينئذ هو لزوم افناء المهم بقول مطلق حتى من قبل حدوده المضافة إلى سائر المقدمات وعدم سائر الأضداد كان اللازم هو المصير إلى سقوط

ص: 371

الامر عن المهم على الاطلاق وعدم الامر به ولو ناقصا ، ولكنه ليس كذلك قطعا لما عرفت بان القدر الذي يقتضيه الامر بالأهم من طرد المهم وافنائه انما هو طرده بالقياس إلى الحد الذي يضاف عدمه إليه لا مطلقا حتى بالنظر إلى بقية الحدود المضافة إلى مقدماته وعدم سائر أضداده ، لأنه بالقياس إلى بقية حدوده الاخر لايكون مزاحما مع الأهم حتى يقتضي طرده وافنائه ، وحينئذ فإذا فرضنا خروج المهم بحده المضاف إلى عدم الأهم عن حيز التكليف بالحفظ ولايقتضي أمره الناقص الا حفظه وسد باب عدمه بالقياس إلى بقية حدوده الاخر غير المزاحمة للأهم فلا جرم لايبقى مجال المطاردة بين مقتضي الامرين كي بالجمع بينهما يصدق بأن المولى أوقع المكلف بأمره في ما لايطاق ، فصح حينئذ الالتزام بثبوت الامر بالمهم في رتبة الامر بالأهم.

لايقال بأنه كذلك إذا كان قضية الامر بالمهم هو مجرد سد باب عدمه المضاف إلى مقدماته وسائر أضداده ولو لم ينضم إلى تلك السدود السد من قبل الضد الأهم ، وليس كذلك قطعا من جهة وضوح عدم انتاج هذا المقدار لوجود المهم فان المهم لابد في تحققه ووجوده وان ينسد جميع أبواب عدمه حتى عدمه الملازم مع وجود ضده والا فبدونه لايكاد انتهاء مجرد السد من بقية الجهات إلى وجوده بوجه أصلا ، وعليه فلابد وأن يكون مقتضى الامر بالمهم على نحو يوجب وصل بقية السدود بالسد المضاف إلى الأهم كي بذلك يتحقق الوجود ، وحيث أن ذلك يلازم قهرا الحفظ من قبل الحد المضاف إلى الأهم ، فقهرا يعود محذور المطاردة بين الامرين إذ يكون قضية الامر بالمهم حسب اقتضائه لتحقق صفة الوصل المزبور هو حفظه من ناحية حده الملازم للأهم ، وقصية الامر بالأهم حينئذ هو عدم حفظه بالقياس إلى ذلك الحد بل وجوب افنائه فيقع بينهما المطاردة.

فإنه يقال نعم ان المطلوب بالمهم وان كان هو الحفظ من بقية الحدود الملازم مع الحفظ من جهة الأهم ، ولكنه بعد خروج الحفظ من تلك الجهة عن حيز أمر المهم لرجوع امره إلى الامر بمتمم الوجود الراجع إلى ايجاب الحفظ من تلك الحفظ من بقية الجهات في ظرف انحفاظه من الجهة المزبورة من باب الاتفاق فقهرا يرتفع بينهما المطاردة والمزاحمة إذ حينئذ يصير المطلوب بالمهم هو الذات الواجدة للملازمة مع عدم الأهم من باب الاتفاق ، وفي مثله أيضا ربما يكون وصف الوصل بالملزم به من قبل المهم قهري الحصول في ظرف فعلية الامر ، من جهة كونه حينئذ من اللوازم القهرية للحفظ من قبل بقية الحدود كما هو واضح

ص: 372

وعليه فلا بأس بالجمع بين الامرين في الضدين على نحو ما عرفت أمر ناقص بالمهم وأمر تام بالأهم ، حيث نقول بأن القدر الذي يقتضيه الأهم من عدم الامر بالمهم بمقتضى المطاردة انما هو عدم الامر به مطلقا على نحو يقتضي حفظ المهم على الاطلاق ومن جميع الحدود لا عدم الامر به بقول مطلق ولو ناقصا كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا عدم الحاجة إلى التشبث بالترتب والطولية في اثبات الامر التام بالمهم بإناطة امره بعصيان الأهم ، وذلك لأنه وان كان هذا التقريب أيضا بنفسه تقريبا تاما نفيسا ويرتفع به محذور المطاردة بين الامرين بلحاظ صيرورة الامر بالمهم حسب اناطته بعصيان الأهم في رتبة متأخرة عن سقوط امر الأهم الا أنه غير محتاج إليه بعد امكان الجمع بين الامرين في مرتبة واحدة واندفاع محذور المطاردة بينهما بجعل الامر بالمهم أمرا ناقصا غير تام ، بل ولئن تدبرت ترى كون مثل هذا التقريب في طول التقريب الذي ذكرناه وعدم وصول النوبة إلى الامر التام بمقتضى الترتب الا في فرض عدم امكان تأثير مصلحة المهم في الامر الناقص في رتبة الامر بالأهم ، وذلك من جهة أنه بعد تأثير المصلحة في الامر الناقص وصيرورة امره في رتبة الامر بالأهم قهرا يلزمه كون سقوطه أيضا في رتبة سقوط الأهم ، وحينئذ فإذا سقط الأهم بالعصيان يلزمه سقوطه عن المهم أيضا ومع سقوطه لايبقى مجال للامر التام بالمهم من جهة عدم المقتضى له في هذه الرتبة ، فمن ذلك لابد اما من تأثير المصلحة في رتبة سابقة في الامر الناقص فقط أو بقائه بلا تأثير في الرتبة السابقة وتأثيره في الامر التام في رتبة متأخرة عن العصيان ، وفي مثله من المعلوم أنه عند الدوران يكون المتعين هو الأول ، فان عدم تأثير المصلحة في الامر الناقص في رتبة الأهم وبقائها إلى المرتبة المتأخرة مما لا وجه يقتضيه بعد قابلية المحل وعدم المانع عن التأثير ، بخلافه في تأثيره في الامر التام فان عدم تأثيره فيه اما في مرتبة الأهم فمن جهة المحذور العقلي واما في مرتبة عصيانه فمن جهة عدم المقتضى له مع فرض تأثيره سابقا في الامر الناقص الساقط في مرتبة سقوط الأهم ، ففي الحقيقة يكون مرجع الدوران بينهما من قبيل الدوران بين التخصيص والتخصص ، إذ كان عدم تأثير المصلحة في الامر الناقص من باب التخصيص وفى الامر التام في الرتبة المتأخرة بعد تأثيره أولا في الامر الناقص من باب التخصص ، وفي مثله من المعلوم ان المتعين هو الثاني من جهة أولوية التخصص من التخصيص.

ص: 373

الكلام في الترتب

نعم لو اغمض عن ذلك كان هذا التقريب في نفسه تقريبا نفسيا تاما في اثبات الامر التام بالمهم وفي رفع محذور المطاردة بين الامرين ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر أمور :

الأول ان النسبة الواقعة في القضايا على ما مر منا غير مرة على ضربين ، فإنه تارة تلاحظ النسبة من حيث خروجها من كتم العدم إلى الوجود وأخرى تلاحظ من حيث ثبوتها ووقوعها فارغا عن أصل ايقاعها ، فهي بالاعتبار الأول تعبر عنها بالنسبة الايقاعية وبالاعتبار الثاني بالنسبة الوقوعية ، كما أن القضية باعتبار اشتمالها على النسبة الأولى تكون من القضايا التامة الملحوظ فيها ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول أو بين المبدء والفاعل ، كقولك زيد قائم وزيد ضرب ، وباعتبار اشتمالها على النسبة بالمعنى الثاني تكون من القضايا التقييدية والمركبات الناقصة ، وحيث إن النسبة بالمعنى الأول تكون مقدمة على النسبة بالمعنى الثاني بملاحظة تفرع الثبوت والوقوع دائما على الايقاع كانت القضايا التقييدية التوصيفية باعتبار اشتمالها على النسبة الثابتة الوقوعية في رتبة متأخرة عن القضايا التامة ونتيجة لها.

الامر الثاني لا اشكال في أن مقام عروض الإرادة وتأثيرها ، انما هو مرحلة النسبة الايقاعية ، حيث إنه كان طلب الشيء بعثا نحو الشيء وارسالا للفاعل نحو المبدء بايجاده واخراجه من كتم العدم إلى الوجود لا مرحلة النسبة الثابتة الوقوعية ، لوضوح ان مثل هذه المرحلة مرحلة وجود المراد الذي هو مرحلة سقوطه فلايمكن ان يكون ذلك ظرفا لعروض طلبه وثبوته ، كيف وانه مضافا إلى كونه حينئذ من طلب الحاصل يلزمه كون طلبه في مرتبة وجود مراده ، وهو كما ترى من المستحيل ، من جهة استحالة أن يكون للشيء سعة واطلاق يشمل مرتبة وجود معلوله وبالعكس ، بل بعد أن يكون نسبة الإرادة إلى المراد نسبة العلية والمعلولية فقهرا مقتضى تخلل الفاء بينهما هو محدودية كل منهما بحد خاص غير متجاوز عن ذلك الحد ، فيكون مرتبة الإرادة في رتبة قبل الفاء والمراد في رتبة بعد الفاء ، وفي مثله لايكاد يكون اقتضاء الإرادة وتأثيرها إلا في مرتبة ذاتها التي هي رتبة قبل الفاء دون مرتبة بعد الفاء التي هي رتبة وجود المراد بل كان مثل هذه الرتبة رتبة سقوطها عن التأثير كما هو واضح.

الامر الثالث لا اشكال في أن عنوان الإطاعة انما كان منتزعا عن مرتبة وجود المراد

ص: 374

والمقتضى بالفتح المتأخر عن رتبة الامر والإرادة ، ومثله أيضا عنوان العصيان حيث إن انتزاعه أيضا انما كان عن مرتبة وجود المقتضى بالفتح لأنه نقيض للإطاعة فيكون ذلك أيضا في رتبة متأخرة عن الامر والإرادة ، ولازم ذلك كما عرفت هو عدم شمول الامر والإرادة لمرتبة اطاعته التي هي مرتبة وجود المراد ولا لمرتبة عصيانه ، من جهة تأخر رتبتيهما عن رتبته ، ومن ذلك يكون اقتضائه للتأثير دائما في مرتبة قبل العصيان ، نعم قضية تقارن العلة زمانا مع المعلول انما هو وجود الامر في زمان الإطاعة والعصيان ، ولكن مع ذلك كل في رتبة نفسه ، كما في حركة اليد وحركة المفتاح ، حيث أنهما مع تقارنهما زمانا يكون كل منهما في رتبة نفسه إحديهما قبل الفاء والأخرى بعده ، وهو واضح.

وإذ عرفت ذلك نقول : بان مقتضى إناطة امر المهم بعصيان الأهم قهرا وقوع امره حسب الإناطة المزبورة في رتبة متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم ، ومعه يرتفع لا محالة محذور المطاردة بين الامرين حيث إنه في مرتبة اقتضاء امر الأهم لا امر بالمهم حتى يزاحم مع الأهم في اقتضائه ، من جهة أن أمره انما كان في رتبة متأخرة عن العصيان الذي هو متأخر عن الامر بالأهم ، وفي مرتبة ثبوت الامر للمهم واقتضائه في التأثير لا وجود للامر ولا اقتضاء له في التأثير حيث كان مثل هذه المرتبة مرتبة سقوطه عن التأثير دون ثبوته ، وعليه فما اجتمع الأمران في مرتبة واحدة حتى يقع بينهما المطاردة والمزاحمة في مرحلة اقتضائهما في التأثير.

واما ما قيل كما في الكفاية بأن طلب المهم وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم فلا يلزم في تلك المرتبة اجتماع طلبهما الا أنه في مرتبة طلب المهم كان اجتماع لطلبهما من جهة فعلية الامر بالأهم أيضا في تلك المرتبة بملاحظة عدم سقوطه بعد ما لم يتحقق المعصية ، ومعه يتوجه محذور المطاردة والمزاحمة في تلك المرتبة ، فمدفوع بما عرفت في المقدمة الثالثة من استحالة أن يكون لكل امر اطلاق وسعة يشمل مرتبة إطاعة نفسه وعصيانه ، كيف وأنه إذا فرض انه لايكون الامر بالمهم في مرتبة الامر بالأهم لكونه في رتبة متأخرة عن العصيان المتأخر عن الامر بالأهم فكيف يمكن ان يكون الامر بالأهم في مرتبة الامر بالمهم ، ومجرد وجود أمر الأهم وفعليته في زمان العصيان أيضا لا يقتضى وجوده وفعليته في مرتبته ، فضلا عن كونه في المرتبة المتأخرة عن العصيان التي هي رتبة الامر بالمهم ، كما عرفت نظيره في مثل حركة اليد والمفتاح ، حيث أنهما مع كونهما

ص: 375

متقارنتين زمانا متفاوتتان بحسب المرتبة بنحو يتخلل بينهما الفاء في قولك وجدت فوجدت ، وعليه فلا يبقى في البين الا مجرد مقارنة الامرين زمانا واجتماعهما في زمان واحد ، ولكنه بعد اختلافهما بحسب الرتبة وكون المدار في التأثير على الرتبة لا الزمان كما في كلية العلل والمعلولات لايكاد يضر حيث اجتماع طلبهما بحسب الزمان ، إذ كان اقتضاء كل واحد من الامرين وتأثيره حينئذ في مرتبة نفسه ، فكان تأثير الامر الأهم في رتبة قبل العصيان وتأثير المهم في رتبة بعد العصيان ، فتدبر.

ثم إنه مما ذكرنا ظهر لك حال بقية الشقوق والصور من فرض كونهما موسعين أو مختلفين أيضا ، فعلى ما ذكرنا من امكان الجمع بين الامرين بالضدين إما بنحو ما ذكرنا أو بنحو الترتب لا بأس باتيان ما هو الموسع منهما بداعي أمره ، فإذا كان الموسع عبادة كان للمكلف التقرب بها باتيانها بداعي أمرها بلا احتياج في تصحيحها إلى حيث رجحانها الذاتي ، نعم لو بنينا على مسلك من يقول باستحالة الجمع بين الامر بهما ولو في رتبتين أيضا لكان المتعين حينئذ في تصحيحها هو حيث رجحانها الذاتي ، من جهة انه بمزاحمة هذا الفرد مع المضيق فقهرا بحكم العقل يخرج عن دائرة الطبيعة المأمور بها ، ومع خروجه عنها لا جرم يختص الامر أيضا بغيره من الافراد الاخر ، فلا يبقى مجال تصحيحها حينئذ باتيانها بداعي أمرها.

واما توهم أن الفرد المزاحم مع المضيق بعد كونه كالأفراد الباقية في الوفاء بالغرض وعدم كون خروجه من باب التخصيص الكاشف عن خلوه عن المصلحة والوفاء بالغرض رأسا فأمكن التقرب به باتيانه بقصد الامر بالمتعلق بالطبيعة والجامع ، فمدفوع بأن داعوية الامر في التكاليف بعد أن كانت عبارة عن كون الامر علة فاعلية للايجاد فلا جرم بخروج هذا الفرد عن دائرة الطبيعة المأمور بها يتضيق دائرة الطبيعي المأمور به بما عدا هذا الفرد ، ومعه لايكاد اقتضاء للامر المتعلق بالطبيعة بالنسبة إليه في الداعوية حتى يصح جعله داعيا ومحركا نحوه بالايجاد ، وهذا هو الذي اشتهر بينهم بأن الامر لايدعو الا إلى متعلقه من جهة أن داعوية الامر انما هي باقتضائه للايجاد فمع عدم اقتضاء فيه بالنسبة إلى هذا الفرد يستحيل داعويته نحوه كما هو واضح.

ثم إن هذا كله فيما يتعلق بالضد الخاص.

واما الضد العام بمعنى الترك فلا إشكال فيه في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عنه

ص: 376

كما تقدم ، وانما الكلام والاشكال في أنه هل هو بنحو العينية أو التضمن أو من جهة الالتزام حيث إن فيه وجوها ، وفي مثله كان المتعين هو الأخير من كونه على نحو الالتزام دون العينية والتضمن.

وذلك اما عدم كونه بنحو العينية فواضح ، فإنه لا وجه له الا توهم ان حقيقة النهى عبارة عن طلب الترك قبال الامر الذي هو عبارة عن طلب الوجود وان ترك الترك في المقام بعد أن كان عبارة أخرى عن الوجود الذي هو طارد العدم قهرا كان طلب الوجود أيضا عبارة أخرى عن النهى عن النقيض الذي هو عبارة عن طلب ترك الترك ومقتضاه حينئذ هو عينية الامر بالشيء مع النهى عن النقيض بحسب المنشأ وان لم يكن كذلك بحسب المفهوم ، ولكنه فاسد جدا ، وذلك لما سيجيء من أن حقيقة النهى عن الشيء ليس الا عبارة عن الزجر عن الوجود في قبال الامر الذي هو الارسال والبعث نحو الوجود لا أنه عبارة عن طلب الترك كي يلزمه اشتراكه مع الامر في جزء المدلول وهو الطلب فيلزمه عينيتهما في المقام بحسب المنشأ ، وعليه فمن الواضح المغايرة التامة بين مدلوليهما علاوة عما كان بين مفهوميهما من المغايرة ، كما هو واضح.

واما عدم كونه بنحو التضمن والجزئية فظاهر أيضا ، من جهة ابتناء القول بالجزئية على تركب الوجوب من طلب الفعل مع المنع عن الترك ، والا فعلى التحقيق من بساطة حقيقة الوجوب وعدم تركبه لايبقى مجال دعوى كون الاقتضاء المزبور من جهة التضمن.

وحينئذ يتعين الامر بكونه على نحو الالتزام ، نظراً إلى ما هو الواضح من الملازمة التامة بين إرادة الشيء وكراهة تركه بحسب الارتكاز بحيث لو التفت إلى الترك ليبغضه ويمنع عنه ، نعم لا بأس بدعوى العينية بينهما بحسب الانشاء بلحاظ كونه مبرزا عن مبغوضية الترك كابرازه عن محبوبية الوجود ومطلوبيته فتدبر.

ص: 377

المبحث السادس

قد اختلفوا في جواز امر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه وعدم جوازه على قولين ، وقد نسب القول بالجواز إلى الأشاعرة ، ولكن الظاهر أن المراد من الشرط المنتفى انما هو شرط وجود المأمور به لا شرط نفس الامر ، لان ذلك مما لا مجال للنزاع فيه ، إذ لاينبغي الاشكال في عدم جوازه حتى من الأشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، نظراً إلى رجوعه حينئذ إلى البحث عن جواز تحقق المعلول بدون علته التامة ، وهو كما ترى لا يتوهمه من له أدنى شعور ، هذا إذا أريد من الانتفاء الانتفاء بقول مطلق ، واما لو أريد انتفاء شرط بعض مراتب الامر فهو أيضا مما لاينبغي الاشكال في جوازه ، فإنه إذا كان للامر مراتب من حيث الانشاء والفعلية والتنجز أمكن لا محالة الامر به بمرتبة انشائه مع انتفاء شرطه بالنسبة إلى مرتبة فعليته أو مرتبة تنجزه أو الامر به بمرتبة فعليته مع انتفاء شرط مرتبة تنجزه ، إذ لا محذور عقلايترتب عليه كي يصار لأجله إلى عدم جوازه وامتناعه ، كيف وان الدليل على امكانه حينئذ هو وقوعه في العرفيات والشرعيات كما في موارد الأصول والامارات المؤدية إلى خلاف الواقع ، بل ولعل كثيرا من الاحكام بعد واقفة على مرتبة انشائها ولم تصل إلى مرتبة فعليتها إلى أن يقوم الحجة عجل اللّه تعالى فرجه كما لعله من ذلك أيضا قوله علیه السلام : « ان اللّه سبحانه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا الخ » وحينئذ فيتعين إرادة انتفاء شرط وجود المأمور به ، وعليه أيضا ينبغي تخصيص مورد النزاع بالانتفاء الموجب لسلب قدرة المأمور على الامتثال واتيانه واجدا لشرطه لا مطلق الانتفاء ولو المستند إلى اختيار المكلف مع تمكنه من تحصيله ، فان ذلك أيضا مما لا

ص: 378

مجال للنزاع فيه ، إذ لا اشكال في جواز ذلك كما في تكليف الجنب بالصلاة عند دخول الوقت مع تمكنه من تحصيل الطهارة ، ومن ذلك كان الواجب عليه حينئذ تحصيل شرطها الذي هي الطهارة ، فإنه لولا وجوب الصلاة عليه لما كان الواجب عليه تحصيل الطهارة ، وهو واضح بعد وضوح كون وجوب الطهارة عليه وجوبا غيريا ترشحيا من وجوب ذيها.

وعليه فيرجع هذا النزاع إلى النزاع المعروف بين الأشاعرة وغيرهم من جواز تعلق التكليف بالمحال وعدم جوازه من جهة رجوع التكليف بالمشروط حينئذ مع انتفاء شرط المأمور به وعدم تمكن المكلف من تحصيله إلى التكليف بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، فيندرج حينئذ في ذلك النزاع الذي أثبته الأشاعرة حسب زعمهم الفاسد من انكار التحسين والتقبيح العقليين وتجويزهم على اللّه سبحانه تكليف عباده بما لا يقدرون عليه. وربما يبتني ذلك أيضا على النزاع المتقدم في مسألة وحدة الطلب والإرادة وتغايرهما ، بجعل الطلب عبارة عن معنى قابل للتعلق بالمحال مع كونه موضوعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، كما هو ظاهر استدلالهم بالمغايرة ، إذ حينئذ على القول بالاتحاد كما هو التحقيق يكون عدم جوازه من جهة كون التكليف بنفسه محالا لا من جهة انه تكليف بالمحال ، نظراً إلى وضوح استحالة تعلق الإرادة الفعلية بالممتنع ، بخلافه على القول بالمغايرة فان المحذور فيه انما هو من حيث كونه تكليفا بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، وفي مثله نقول بأنه على القول بالمغايرة وتسليم هذا المبنى الفاسد لا باس بالقول بالجواز في المقام ، ولكن الذي يسهل الخطب هو فساد أصل المبني لما عرفت في محله من اتحاد حقيقة الطلب والإرادة وانه لايتصور معنى آخر يكون هو الطلب في قبال الإرادة بحيث كان موضوعا للحكم بوجوب الامتثال وكان قابلا أيضا للتعلق بالمحال ، وعليه فكان التحقيق في المقام هو عدم جوازه من جهة ما عرفت من كون مثل هذا التكليف بنفسه محالا ، كما هو واضح.

* * *

ص: 379

المبحث السابع : ( في أنه هل الامر والطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي )

وقبل الخوض في المرام ينبغي بيان ما هو مركز التشاجر والكلام بتمهيد مقدمتين : فنقول :

المقدمة الأولى : لا اشكال في أنه على كلا القولين في المسألة لابد عند طلب شيء والامر به من لحاظ موضوع الطلب وتصوره واحضاره في الذهن ، كي بذلك يتمكن من طلبه والبعث إليه والا فبدونه يستحيل تحقق الطلب والبعث إليه وهو واضح.

الثانية : ان من المعلوم ان لحاظ الطبيعة يتصور على وجوه : منها لحاظها بما هي في الذهن ومحلاة بالوجود الذهني ، ومنها لحاظها بما هي شيء في حد ذاتها ، ومنها لحاظها بما هي خارجية بحيث لايلتفت إلى مغايرتها واثنينيتها مع الخارج ولا يرى في هذا اللحاظ التصوري الا كونها عين الخارج ومتحدة معه بحيث لو سئل بأنه أي شيء ترى في هذا اللحاظ يقول بأنه ما أرى الا الخارج وان كان بالنظر التصديقي يقطع بخلافه فيرى كونها غير موجودة في الخارج.

وفي ذلك نقول : بان من الواضح أيضا انه ليس المقصود من تعلق الامر بالطبيعي عند القائل به هو الطبيعي بما هو موجود في الذهن من جهة وضوح انه بهذا الاعتبار مع كونه كليا عقليا غير قابل للصدق على الخارج لايكون مما تقوم به المصلحة حتى يتعلق به الامر والطلب ، فلا يتوهم أحد حينئذ تعلق الطلب والامر به بهذا الاعتبار كما لايخفى ، كوضوح عدم كون المقصود أيضا هو الطبيعي بالاعتبار الثاني من جهة وضوح ان الطبيعة بهذا الاعتبار ليست الا هي فلا تكون هي أيضا مركب المصلحة حتى يتعلق بها الامر والطلب ، بل وانما المقصود من ذلك عند القائل به هو الطبيعي بالاعتبار الثالث الذي يرى كونها عين الخارج.

وعليه فمركز النزاع بين الفريقين في أن معروض الطلب وموضوعه هو الطبيعة أو الوجود انما هو في الطبيعي بالاعتبار الثالث فالقائل بالطبيعي يدعي تعلق الطلب والامر بنفس الطبيعي والعناوين بما هي ملحوظة كونها خارجية لا بمنشأ انتزاعها وهو الوجود

ص: 380

لا بدوا ولا بالسراية ، والقائل بالوجود يدعي عدم تعلقه الا بالمعنون الخارجي الذي هو منشأ انتزاع العناوين والصور الذهنية.

وإذ عرفت ذلك نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو الأول من تعلق الامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة إلى الخارج وملحوظة بحسب اللحاظ التصوري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما كان ذلك هو الشأن في سائر الكيفيات النفسية من المحبة والاشتياق بل العلم والظن ونحوها أيضا ، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركب الذي يعتقد بوجود شيء بالقطع المخالف للواقع فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحققه في الخارج ، إذ نقول بأنه لولا ما ذكرنا من تعلق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة خارجية يلزم خلو الصفات المزبورة عن المتعلق في مثل الفرض المزبور ، فإنه بعد مخالفة قطعه للواقع لايكون في البين شيء تعلق به تلك الصفات ، مع أن ذلك كما ترى من المستحيل جدا ، لوضوح أن هذه الصفات من العلم والظن والمحبة والاشتياق والإرادة كما كان لها إضافة إلى النفس من حيث قيامها بها كذلك لها إضافة أيضا إلى متعلقاتها بحيث يستحيل تحققها بدونها ، بل وقد يقطع الانسان ويذعن بعدم تحقق شيء كذائي في الخارج إلى الأبد ومع ذلك يشتاق إليه غاية الاشتياق ويتمنى وجوده كقولك « يا ليت الشباب لنا يعود » فان ذلك كله كاشف تام عن تعلق تلك الصفات المزبورة بنفس العناوين والصور الذهنية لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي وهو الوجود ، غايته بما هي ملحوظة بحسب النظر التصوري عين الخارج لا بما انما شيء في حيال ذاتها بحيث يلتفت عند لحاظها إلى مغايرتها مع الخارج ، ولئن شئت فاستوضح ما ذكرنا بالرجوع إلى الأكاذيب المتعارفة بين الناس في ألسنتهم ليلا ونهارا فإنه لا شبهة في أن الذي يخبر كذبا بثبوت القيام لزيد في قوله زيد قائم مثلا لا يلاحظ ولا يري من زيد والقيام والنسبة بينهما في لحاظه ونظره الأزيد أو القيام الخارجيين والنسبة الخارجية بينهما ، لا المفهوم منها بما انه شيء في قبال الخارج ، ولا الوجود الحقيقي الخارجي ، لأنه حسب اذعانه وتصديقه مما يقطع بخلافه والا يخرج اخباره بقيامه عن كونه كذبا كما هو واضح.

وعلى ذلك فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية ، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه ، لا بمنشأ انتزاعها والمعنون الخارجي لا بدوا ولا

ص: 381

بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، كيف وان الخارج بعد كونه ظرفا لسقوط الإرادة والطلب يستحيل كونه ظرفا لثبوتها ، فيستحيل حينئذ تعلق الإرادة والطلب بالمعنون الخارجي ولو بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، من جهة رجوعه حينئذ إلى طلب الحاصل المحال كما هو واضح. وارجاعه كما في الكفاية إلى إرادة صدور الوجود من المكلف وجعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته لا إلى طلب ما هو صادر وثابت في الخارج حتى يكون من طلب الحاصل المحال ، كما ترى ، فإنه بعد أن كان الايجاد وجعل الشيء بسيطا معلولا للطلب وفي رتبة متأخرة عنه بنحو يتخلل بينهما الفاء الكاشف عن اختلافهما بحسب الرتبة كقولك أردت ايجاد الشيء فأوجدته يستحيل وقوعه موضوعا للطلب ومتعلقا له.

فعلى ذلك لايبقى مجال جعل المتعلق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الايجاد وإفاضته بمعنى جعله بسيطا كما في الكفاية والفصول من اشراب الوجود في مدلول الهيئة مع جعلهم المادة عبارة عن نفس الطبيعة من حيث هي ، وذلك لما عرفت ما فيه من امتناع تعلق الطلب بالخارج وبالوجود ولو بمعنى جعله بسيطا لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور ، خصوصا مع ما يلزمه من لزوم تجريد الهيئة عن الوجود في نحو قوله أوجد الصلاة نظراً إلى ما هو الواضح من عدم انسباق الوجود في المثال مرتين في الذهن تارة من جهة المادة وأخرى من جهة الهيئة ، والالتزام فيه بالمجاز أيضا كما ترى.

ولعمري ان عمدة ما دعاهم إلى مثل هذا الالتزام انما هو لحاظهم الطبيعي بما أنه شيء في حيال ذاته وفى الخارج وعدم تصورهم إياه مرآة إلى الخارج بنحو ما ذكرنا ، فمن ذلك أشكل عليهم بان الطبيعة من حيث هي ليست الا هي فلايمكن ان يتعلق بها الامر والطلب ولأن الطلب انما يتعلق بما يقوم به الأثر والمصلحة والأثر والمصلحة بعد أن لم تكن قائمة الا بالوجود والماهية الخارجية لايتعلق الطلب أيضا الا بالوجود والماهية الخارجية فالتجأوا من هذه الجهة إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة وجعلوه متعلقا للطلب فرارا عن الاشكال المزبور ، والا فعلى ما ذكرنا من الاعتبار الثالث للطبيعة وهو لحاظها خارجية لايكاد مجال لهذا الاشكال حتى يحتاج في التفصي عنه إلى اشراب الوجود في الهيئة ، إذ عليه نقول بأن المصلحة حسب كونها من الاعراض الخارجية وان لم تكن قائمة الا بالخارج الا ان الطبيعي بهذا الاعتبار بعد ما لم يكن مغايرا مع الخارج بل

ص: 382

كان بينهما الاتحاد والعينية بالاعتبار المزبور يلزمه قهرا صيرورة كل من الخارج والصور الذهنية متلونا بلون الآخر في مرحلة الاتصاف ، فمن ذلك تتصف الصور الذهنية بلحاظ الاتحاد المزبور بكونها ذات مصلحة ، كاتصاف الخارج أيضا بالمرادية والمطلوبية ، نظير باب الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من حيث سراية صفات كل منهما إلى الآخر لأجل ما كان بينهما من الاتحاد ، ففي الحقيقة كان هذا الاتحاد موجبا لنحو توسعة في دائرة النسبة في مقام الاتصاف في صدق المطلوبية والمرادية على الخارج وصدق ذي الأثر والمصلحة على الصور الذهنية ، والا ففي مرحلة العروض لايكون المعروض للطلب الا العناوين والصور الذهنية كما أنه في طرف المصلحة أيضا لايكون المعروض لها الا الوجود والماهية الخارجية.

بل وعلى هذا البيان أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالوجود إلى الطبيعة بالاعتبار الثالث الملحوظة خارجية في قبال الاعتبار الثاني لها وهو لحاظها بما هي شيء في حيال ذاتها ، إذ على هذا الاعتبار لما كان لايرى من الطبيعة في ذلك اللحاظ الا الوجود ولا يرى بينهما المغايرة صح ان يقال بان الامر متعلق بالوجود لا بالمهية من حيث هي بإرادة هذا الوجود الزعمي التخيلي لا الوجود الخارجي ولو بجعله بسيطا ، فيتحد القولان من جهة رجوعهما حينئذ إلى امر واحد ولكن ذلك أيضا بالنسبة إلى كلمات السابقين الذين لم يتعرضوا لتفصيل المسألة وأو كلوها إلى ما هو المرتكز في الأذهان ، والا ففي كلمات المتأخرين المتعرضين لتفصيل المسألة كصاحب الفصول والكفاية ( قدس سرهما ) على ما عرفت من مصيرهم إلى اشراب الوجود في مدلول الهيئة في الأوامر لا يجري هذا التوجيه ، ولكن قد عرفت أيضا سخافة أصل المبني في نفسه وعدم امكان المصير إلى تعلق الطلب بالوجود الخارجي الذي هو نتيجة الطلب ولو بمعنى جعله بسيطا بنحو مفاد كان التامة الذي هو عبارة عن ايجاده وإفاضته على حسب ما تقدم بيانه مفصلا.

نعم لو كان المقصود من الوجود الذي جعلوه متعلقا للطلب في الأوامر هو مفهوم الوجود مرآة إلى الخارج على نحو ما قلناه في الطبيعي لا مصداقه وحقيقته الخارجية لكان يسلم عن هذه الاشكال ، إذ لايترتب عليه حينئذ محذور طلب الحاصل ولا محذور تعلق الطلب والامر بأمر متأخر عنه رتبة ، ولكن نقول بأنه مع بعد ذلك في نفسه لا داعي

ص: 383

حينئذ إلى مثل هذا الالتزام بل من الأول يصار إلى أن المتعلق هو الطبيعي غايته بما هو مرآة إلى الخارج ، كيف وانه ليس في البين ما يقتضي المصير إلى الالتزام المزبور لا من طرف المادة ، كما هو واضح ، ولا من طرف الهيئة أيضا لأنها على ما تقرر في محله لاتدل الا على نسبة ارسالية بين المبدء والفاعل أو طلب ما تدل عليه المادة فأين حينئذ مفهوم الوجود وأين الدال عليه؟ خصوصا مع ما يرد عليه من لزوم تكرر الوجود وانسباقه مرتين في الذهن في مثل قوله أوجد الصلاة تارة من جهة المادة وأخرى من ناحية الهيئة ، مع أنه كما ترى! والالتزام في مثل ذلك بالتجريد أوهن ، لوضوح انه لايكاد يرى فرق في مدلول الهيئة بين قوله صل وبين قوله أوجد الصلاة ، على أنه كثيرا ما يكون العنوان المأخوذ في حيز الطلب من العناوين العرفية الانتزاعية كما في المثال من قوله أوجد الصلاة وقوله أعدم الطبيعة ونحو ذلك مما لايمكن فيها اشراب حيث الوجود من الهيئة ، كما هو واضح.

وعليه فلا محيص من الغاء الوجود عن البين بالمرة والمصير إلى أن المتعلق للطلب والامر هي نفس العناوين والصور الذهنية بما انها ملحوظة خارجية دون المعنونات الخارجية ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوان من العناوين الانتزاعية أو من الطبايع المتأصلة كالصلاة والصوم ونحوهما.

ومن ذلك نقول أيضا بأن حق تحرير عنوان البحث هو تحريره بأنه إذا تعلق الامر بعنوان هل يسري منه إلى منشأ انتزاعه الذي هو المعنون الخارجي أو انه يقف الطلب والامر على نفس العنوان ولا يتعدى عنه إلى المعنون الخارجي ، لا تحريره بما هو الشايع بان الطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي من جهة ما عرفت بأنه كثيرا ما يكون المتعلق من العناوين الانتزاعية التي لايمكن فيها اشراب الوجود في الهيئة كما في الطبايع المتأصلة ، كما هو واضح.

المبحث الثامن

في أنه إذا تعلق الامر بعنوان فهل يسري إلى افراده ومصاديقه على نحو يكون الافراد بما لها من الحدود الفردية والخصوصيات الشخصية تحت الطلب والامر أم لا وعلى الثاني من عدم سرايته إلى الخصوصيات الفردية فهل يسرى إلى الحصص المقارنة لخواص

ص: 384

الافراد كما في الطبيعة السارية أم لا بل الطلب والامر يقف على نفس الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص؟

وتوضيح المرام هو أنه لا اشكال في أن الطبيعي إذا كان له افراد يكون كل فرد منه مشتملا على مرتبة من الطبيعي غير المرتبة التي يشتمل عليها الفرد الآخر ومن ذلك يتصور للطبيعي مراتب عديدة حسب تعدد الافراد مغايرة كل مرتبة منه باعتبار محدوديتها بالحدودات الفردية مع المرتبة الأخرى ، كما في الانسان حيث أنه كان الانسانية الموجودة في ضمن زيد بملاحظة محدوديتها وتقارنها لخواصه غير الانسانية الموجودة في ضمن عمرو المقارنة لخواصه ، فهما حصتان ومرتبتان من الانسانية انسانية قارنت خواص زيد وانسانية قارنت خواص عمرو ، وهكذا ، من غير أن ينافي ذلك أيضا اتحاد تلك الحصص بحسب الذات والحقيقة وكون الجميع تحت جنس واحد وفصل فارد من حيث صدق حيوان ناطق على الجميع وعلى كل واحدة من الحصص من الحصص كما لايخفى ، ومن ذلك أيضا قيل واشتهر بأن الطبيعي مع الافراد كنسبة الآباء مع الأولاد ، لا كنسبة الأب الواحد مع الأولاد وان مع كل فرد أبا من الطبيعي غير ما يكون مع الابن الآخر مع اتحاد تلك الآباء على اختلافها وتباينها بحسب المرتبة بحسب الحقيقة والذات واندراج الجميع تحت جنس واحد وفصل وبهذه الجهة أيضا ترى اشتمال هذه الحصص كل واحدة منها على جهات وحيثيات شتى ينتزع بها منها عناوين مقوماتها العالية كالجوهرية والجسمية والنامية والحساسية والحيوانية ، كما في زيد الذي هو فرد الانسان حيث يشتمل على جميع حدود مقوماته العالية من الجوهرية والجسمية إلى أن يبلغ إلى جهة الانسانية التي هي جهة مشتركة بينه وبين عمرو وخالد مع زيادة جهة أخرى فيه التي بها امتيازه عن عمرو وخالد ، وكذلك الانسان بالنسبة إلى الحيوان والجسم النامي والمطلق والجوهر ، وهكذا كل سافل بالنسبة إلى عالية فأنه لابد من اشتماله على جميع مقوماته العالية مع زيادة جهة فيه بها امتياز عن سائر الحصص المشاركة معه في جنسه وفصله القريبين ، وهو معنى قولهم بان كل ما هو مقوم للسافل أيضا ولا عكس ، وعليه أيضا اعتبارهم في التعريف الحقيقي للشيء بلزوم الاخذ بجميع مقوماته من الداني والعالي والاعلى.

وإذ عرفت ذلك فلنرجع إلى المقصود من سراية الامر من الطبيعي الملحوظ فيه صرف

ص: 385

الوجود إلى أفراده ومصاديقه وعدم سرايته ، وفي ذلك نقول بان التحقيق في المقام هو القول الثاني من وقوف الطلب على نفس الطبيعي وعدم سرايته لا إلى الخصوصيات الفردية ولا إلى الحصص الموجودة في ضمن الافراد المقارنة لخواصها ، إذ نقول بأنه يكفي في الدليل لذلك الوجدان عند طلب شيء والامر به كما في طلبك الماء للشرب ، فإنه قاض بداهة بأنه لايكون المطلوب الا صرف الطبيعي والقدر المشترك بين الحصص من دون مدخلية في ذلك للحصص ، فضلا عن الخصوصيات الفردية كماء الكوز والجرة والحب ونحو ذلك ، ولذلك لو عرض عليك تلك الحصص وهذه الخصوصيات لكنت تنفى الجميع وتقول بأن المطلوب انما كان صرف الطبيعي والقدر المشترك دون الحصص ودون خصوصيات الافراد ، كيف وأن الطلب حسب معلوليته للمصلحة لايتعلق الا بما تقوم به المصلحة فمع قيام بصرف الطبيعي والجامع وعدم سرايتها إلى الحدود الفردية ولا إلى الحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى الحدود الفردية أو الحصص المقارنة لخواصها ، على أن لازم ذلك هو صيرورة كل واحد من الافراد والحصص واجبا تعيينيا لكونه مقتضي سراية الطلب إليها ، وهو كما ترى ، لايظن توهمه من أحد وحينئذ فيكون ذلك كله برهانا تاما على وقوف الطلب حسب تبعيته للمصلحة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية فضلا عن سرايته إلى الحدود الفردية ، كما هو واضح.

ثم إن ما ذكر من عدم سراية الطلب إلى الحصص وخروجها عن دائرة المطلوبية انما هو خروجها بالقياس إلى الحيثية التي بها امتياز هذه الحصص الفردية بعضها عن البعض الاخر المشارك معها في الجنس والفصل القريبين ، واما بالنسبة إلى الحيثية الأخرى التي بها اشتراك هذه الحصص وامتيازها عن افراد النوع الآخر المشاركة معها في جنسها القريب ، وهي الحثيثة التي بها قوام نوعيتها ، فلا بأس بدعوى السراية إليها ، بل ولعله لا محيص عنه ، من جهة ان الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقومها العالي ليست الأعين الطبيعي والقدر المشترك ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبية كما لايخفى ، فعلى ذلك تكون الحصص المزبورة كل واحدة منها بالقياس إلى بعض حدودها وهي حدودها الطبيعية تحت الطلب والامر وبالقياس إلى حدودها الخاصة تحت الترخيص وخارجة عن دائرة المطلوبية ، لا أنها على الاطلاق تحت الطلب والامر كما في

ص: 386

الطبيعة السارية ولا خارجة كذلك عن دائرة الطلب ونتيجة ذلك هو رجوع التخيير بين الحصص والافراد أيضا إلى التخيير الشرعي لا العقلي كما قيل ، إذ بعد أن لم تكن قضية عدم السراية على ما بيناه الا خروج الحصص عن دائرة الطلب بالقياس إلى حدودها الخاصة والجهة التي بها امتياز بعض هذه الحصص عن البعض الاخر المشارك معها في جنسها وفصلها القريبين ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها ، بل كانت الحصص بالقياس إلى هذه الجهة تحت الطلب والامر ، فقهرا يلزمه صيرورتها موردا للوجوب التخييري ، حيث أنه كانت الحصص حينئذ ببعض حدودها تحت الالزام الشرعي وببعض حدودها الأخرى تحت الترخيص ، ومرجع ذلك على ما بيناه مرارا إلى وجوب كل واحدة منها بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك في حال ترك البقية ، مع كون الترك في حال الوجود تحت الترخيص ، ومقتضاه هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد منها والعصيان بترك الجميع.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للالتزام بخروج الافراد عن تحت الالزام الشرعي والمصير فيها إلى التخيير العقلي كما في الكفاية وغيرها ، بل لابد من ارجاع التخيير فيها إلى التخيير الشرعي ، نعم لو قلنا بوقوف الطلب في تلك الواجبات على نفس الطبيعي وصرف الجامع وعدم سرايته إلى الحصص الفردية حتى بالقياس إلى حدودها الطبيعية التي هي القدر المشترك بينها لاتجه القول فيها بالتخيير العقلي إذ لايبقى مجال حينئذ لدعوى وجوب الحصص والافراد بالوجوب الشرعي ، ولكن عمدة الكلام فيه حينئذ في أصل المبني ، والوجه فيه هو ما عرفت من أن الحصص من حيث حدودها الطبيعية لا تكون الا عين الطبيعي والقدر المشترك بينها ، غايته انها كانت محفوظة في ضمن الافراد نظير ما تصورناه في مبحث الوضع من القسم الآخر في تصور عموم الوضع والموضوع له ، ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن حيز الطلب ، كما لايخفى.

واما ما قيل بأن الطلب بعد تعلقه بالعناوين والصور الذهنية لا بالمعنونات الخارجية يستحيل سرايته إلى الحصص الفردية من جهة ان الحصص بصورها الذهنية حينئذ مبائنة مع الطبيعي ولو كانتا ملحوظتين خارجيتين فهما حينئذ صورتان متباينتان في الذهن ومع تباينهما يستحيل سراية الطلب من إحديهما إلى الأخرى ، فمدفوع بأنه كذلك

ص: 387

إذا لايكون الطبيعي مأخوذا لا بشرط والا فقضيته بعد لحاظهما خارجيتين واتحادهما خارجا بحسب المعنون والمنشأ كانت هي السراية لا محالة.

كاندفاع ما قيل أيضا بان صرف الطبيعي بعد ما كان انطباقه على خصوص أول وجود فلا جرم في ظرف الانطباق لا مجال لدعوى السراية بلحاظ كونه ظرف سقوط الطلب لا ثبوته ، واما في طرف قبل الانطباق فكذلك أيضا من جهة انه حينئذ كما يكون قابلا للانطباق على أول وجود كذلك يكون قابلا أيضا للانطباق على ثاني الوجود وثالثه ، وفي مثله لا مجال لدعوى السراية إلى واحد منهما. وجه الاندفاع : هو انا نفرض الكلام في ظرف قبل الانطباق ونقول بان كل واحد من هذه الافراد إذا فرضناه غير مسبوق في وجوده بفرد آخر فقهرا ينطبق عليه أول وجود وفي مثله يسرى إليه الطلب من جهة انطباق الطبيعي عليه حينئذ من دون احتياج في سراية الطلب إلى الانطباق الفعلي عليه في الخارج حتى يتوجه المحذور المزبور ، وعليه لايبقى مجال التشكيك في سراية الطلب إلى الحصص من حيث حدودها الطبيعية بمثل هذه البيانات ، كما هو واضح.

واما الانتقاض حينئذ بمورد العلم الاجمالي من حيث وقوف العلم مع كونه أيضا من صفات النفس كالإرادة على نفس الجامع وعدم سرايته إلى الخصوصيات ، بشهادة الشك التفصيلي الوجداني بالنسبة إلى كل واحد من الطرفين ، فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك عدم سرايته إلى الطرفين بخصوصيتهما فهو مسلم ولكنه غير ضائر بما نحن بصدده ، إذ نحن أيضا نسلم ونقول بخروج الحصص الفردية بحدودها الخاصة التي بها امتياز بعض تلك الحصص عن البعض الآخر ، فلايتوجه حينئذ الانتقاض المزبور ، وان أريد بذلك عدم سراية العلم إلى الطرفين على الاطلاق حتى بحدودهما الجامعي فهو ممنوع جدا ، بل نقول فيه أيضا بالسراية إلى الطرفين لكن بحدودهما الجامعي على نحو ما عرفت في الطبيعي وافراده ، فتأمل.

وعلى ذلك فالطلب المتعلق بالطبيعة ان لو حظ بالقياس إلى نفس الطبيعة اللابشرطية التي هي القدر المشترك بين الحصص يكون طلبا تعيينيا ، وان لو حظ بالقياس إلى الحصص المقارنة مع الخصوصيات يكون طلبا تخييريا ومرجعه على ما عرفت إلى تعلق طلب ناقص بكل واحدة من الحصص الفردية بنحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو الترك من ناحية حدودها الطبيعية التي بها اشتراك هذه الحصص بعضها مع

ص: 388

بعض آخر ، وحيث إن الترك من هذه الجهة ملازم مع ترك بقية الحصص صح ان يقال بان ترك كل واحدة من الحصص في ظرف ترك البقية كان تحت المنع وفي ظرف وجود حصة منها كان تحت الترخيص ، ونتيجته على ما عرفت هو تحقق الإطاعة والامتثال بايجاد فرد واحد وتحقق العصيان بترك جميع الافراد.

بل وعلى ما ذكرنا أيضا أمكن المصالحة بين الفريقين بارجاع القول بالسراية إلى الحصص إلى السراية إليها بحدودها المقومة لنوعها ، لا مطلقا حتى بحدودها الخاصة التي بها امتياز حصة عن أخرى ، وارجاع القول بعدم السراية أيضا عدم السراية إلى الحصص لكن بحدودها الخاصة ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدودها المقومة لنوعها إذ عليه يتوافق القولان ويرتفع النزاع من البين ، كما هو واضح ، فتأمل.

المبحث التاسع : في أنه إذا نسخ الوجوب يبقى الجوازم لا

والظاهر أن المراد بالجواز المتنازع فيه هو خصوص الجواز الاقتضائي الذي هو في ضمن الوجوب والاستحباب والإباحة لا الأعم منه والجواز اللا اقتضائي الناشي من عدم المقتضي للشيء فعلا أم تركا ، من جهة وضوح أن مثل هذا المعنى من الجواز بعد ورود الدليل على وجوبه مما يقطع بارتفاعه فلا معنى حينئذ للنزاع في بقائه بعد نسخ الوجوب ، كما هو واضح ، وإذ عرفت ذلك نقول بأن الكلام في المقام في بقاء الجواز وعدمه يقع تارة في أصل امكان بقائه ثبوتا ، وأخرى فيما يقتضيه الأدلة اثباتا فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فلاينبغي الاشكال في أنه لا ملازمة بين ارتفاع الوجوب وبين ارتفاع جوازه ، وذلك من جهة انه بعد أن كان له مراتب عديدة من حيث أصل الجواز والرجحان الفعلي وحيث الالزام والمنع عن النقيض فلا جرم أمكن ان يكون المرتفع لأجل دليل النسخ هو خصوص جهة الزامه ومنعه عن النقيض مع بقاء رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض على حاله ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة رجحانه الفعلي أيضا مع بقائه على الجواز بمعنى تساوي فعله وتركه ، كامكان ارتفاعه حتى بمرتبة جوازه أيضا ، وحينئذ فأمكن ثبوتا بقاء كل واحد من هذه المراتب بعد ارتفاع الوجوب بدليل النسخ من

ص: 389

غير أن يكون برهان عقلي على امتناعه بوجه أصلا ، وعلى هذا البيان أيضا لايحتاج في اثبات الرجحان الفعلي عند ارتفاع حيث المنع عن النقيض إلى تكلف إقامة الدليل على قيام الفصل الاستحبابي مقامه ، من جهة أنه بعد كونه من قبيل التشكيكيات فلا جرم بذهاب مرتبة منه يلزمه تحدده قهرا بالمراتب الباقية نظير مرتبة خاصة من الحمرة الشديدة التي إذا زالت مرتبة منها باجراء الماء عليها تبقى مرتبة أخرى منها محدودة بحد خاص ، وعليه فيكفي ذهاب خصوص جهة منعه عن النقيض في الحكم ببقاء رجحانه واستحبابه من دون احتياج إلى قيام دليل عليه بالخصوص بوجه أصلا ، كما لايخفى.

وحينئذ فإذا أمكن ثبوتا بقاء أصل جوازه ورجحانه الفعلي ولم يقم دليل عقلي على امتناعه يبقى الكلام في المقام الثاني في أنه هل قضية دليل النسخ رفع الوجوب بجميع مراتبه أو بخصوص مرتبة الزامه وجهة منعه عن النقيض كي يلزمه بقائه بمرتبة رجحانه الفعلي غير المانع عن النقيض؟

وفي مثله قد يقرب الثاني بدعوى ان القدر المتيقن الذي يقتضيه دليل الناسخ انما هو رفع خصوص جهة الزامه ففيما عداه يؤخذ حينئذ بدليل المنسوخ ويحكم بمقتضاه باستحبابه ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبه فكما انه هناك يجمع بينهما فيؤخذ بظهور دليل الوجوب في مطلق الرجحان ويرفع اليد عن ظهوره في الالزام وجهة المنع عن النقيض كذلك في المقام أيضا فإذا لم يكن لدليل النسخ دلالة على أزيد من رفع الوجوب فلا جرم يؤخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق رجحانه وبذلك يثبت استحبابه ، حيث لا نعنى من الاستحباب الا ذلك.

ولكن فيه ان هذا الجمع انما يصح في غير الحاكم والمحكوم واما فيهما فلا يتأتى مثل هذا الجمع بل لابد من الاخذ بدليل الحاكم ورفع اليد عن دليل المحكوم وان كان ظهوره أقوى بمراتب من دليل الحاكم. وفى المقام بعد أن كان دليل النسخ ناظرا بمدلوله اللفظي إلى مدلول دليل المنسوخ بلحاظ تعرضه لرفع الحكم الثابت بدليله فلا جرم بمقتضي نظره وحكومته هذه لايبقى مجال لملاحظة دليل المنسوخ وأقوائية ظهوره من ظهوره بل في مثله لابد من الاخذ بدليل الناسخ ورفع اليد عما يقتضيه دليل المنسوخ وان كان ظهوره أقوى بمراتب من ظهوره ، وعليه أيضا لايبقى مجال استفادة الاستحباب بمثل البيان المزبور بل لابد حينئذ من التماس دليل آخر في البين ، كما هو واضح. ولعل مثل ذلك هو

ص: 390

العمدة أيضا في عدم ملاحظتهم لقاعدة الجمع المزبور في المقام مع بنائهم على أعمالها كثيرا في الفقه بنحو صار من الجموع المتعارفة ، هذا.

اللّهم الا ان يقال بمزاحمة المحكوم في المقام مع أصل حكومة دليل الناسخ ومقدار نظره حيث يصرفه إلى خصوص جهة الالزام وحيث المنع عن الترك وفي مثله لا يتأتى ما ذكر من لزوم تقديم دليل الحاكم ولو كان أضعف ظهورا ، من جهة ان ذلك انما هو في ظرف ثبوت أصل حكومته وقوة نظره ، بل لابد حينئذ من لحاظ التعارض بينهما وحينئذ إذا فرضنا اقوائية دليل المنسوخ في مطلق الرجحان من ظهور دليل الناسخ في النظر إلى جميع المراتب فلا جرم توجب مثل هذه الأقوائية لصرف دليل الناسخ إلى خصوص مرتبة الالزام وجهة المنع عن النقيض.

وحينئذ فلئن خودش في ذلك فلابد من الخدشة في أصل المطلب بدعوى قوة ظهور دليل الناسخ في نظره إلى رفع جميع مراتب الحكم ، كما لعله ليس ببعيد أيضا لظهوره في رفعه لأصل الحكم الثابت بدليل المنسوخ بما له من المراتب ، وعليه لايبقى مجال للاخذ بظهور دليل المنسوخ في مطلق الرجحان لاثبات الاستحباب ، نعم لو فرضنا اجمال دليل الناسخ في نفسه وتردده بين رفع خصوص جهة الزامه أو رفعه حتى بمرتبة رجحانه وجوازه ففي مثله لا بأس بدعوى الرجوع إلى دليل المنسوخ لاثبات مطلق الرجحان لولا دعوى سراية اجماله إليه أيضا ، فتدبر.

واما الاستصحاب فيبتنى جريانه على أن يكون المشكوك عرفا من مراتب ما هو المتيقن سابقا بحيث على تقدير بقائه يعد كونه عرفا بقاء لما علم بتحققه سابقا لا كونه أمرا مبائنا معه وحادثا غيره ، والا فلا مجال لجريان الاستصحاب أيضا من جهة عدم اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة عرفا ، فتدبر.

المبحث العاشر

إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير فالمرجع فيه كما عرفت إلى وجوب كل واحد منها لكن بايجاب ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون هناك غرض

ص: 391

واحد يقوم به كل واحد منهما ولو بملاحظة ما هو القدر الجامع بينهما أو اغراض متعددة بحيث كان كل واحد منهما تحت غرض مستقل وتكليف مستقل وكان التخيير بينهما من جهة عدم امكان الجمع بين الغرضين اما من جهة التضاد بين متعلقيهما كما في المتزاحمين ، أو من جهة التضاد بين نفس الغرضين في عالم الوجود بحيث مع استيفاء أحد الغرضين في الخارج لايبقى مجال لاستيفاء الآخر ، أو في مرحلة أصل الاتصاف بحيث مع تحقق واحد الوجودات واتصافه بالمصلحة لاتتصف البقية بالغرض والمصلحة ، حيث أن مرجع الجميع إلى تعلق وجوب ناقص بكل واحد من الوجودات بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، لاتعلق الوجوب التام بكل واحد منها مشروطا بعدم الآخر ، ولا وجوب أحد الوجودات لا بعينه ، أو أحدها المعين عند اللّه

نعم غاية ما هناك من الفرق بين الصور المزبورة انما هو من جهة وحدة العقوبة وتعددها عند ترك الجميع ، حيث إنه في بعضها كالصورة الأولى والأخيرة لايترتب على ترك الجميع الا عقوبة واحدة ، وفي بعضها الآخر كالصورة الثانية والثالثة تترتب عقوبات متعددة حسب وحدة الغرض وتعدده.

لايقال بأنه مع المضادة المزبورة لايكاد يستند إلى المكلف عند تركه للجميع الأفوت أحد الاغراض ، من جهة فوات البقية عليه على كل تقدير ، ومعه كيف يمكن استحقاقه للعقوبات المتعددة ، وبعبارة أخرى ان استحقاق العقوبة لابد وأن يكون على ما هو تحت قدرة المكلف واختياره فإذا لم يكن للمكلف حينئذ بمقتضي المضادة المزبورة بين المتعلقين أو الغرضين في عالم الوجود الا القدرة على تحصيل أحد الغرضين لا جرم لايترتب على تركه للجميع أيضا الا عقوبة واحدة

فإنه يقال نعم وان كان لا قدرة للمكلف على الجمع بين الغرضين ولكن مجرد ذلك لايمنع عن استحقاقه للعقوبات المتعددة عند ترك الجميع ، من جهة تمكنه حينئذ من الاتيان بأحد الوجودين واخراج البقية عن حيز الوجوب الفعلي ، فتأمل.

لايقال على ذلك في الصورة الأخيرة أيضا لابد من الالتزام بتعدد العقوبة فما وجه التفرقة بينها وبين غيرها؟.

إذ يقال بان عدم الالتزام فيها بتعدد العقوبة انما هو من جهة عدم صدق ترك المتصف بالمصلحة الا على أحد التروك نظراً إلى ما كان بينها من المضادة في أصل

ص: 392

الاتصاف بالمصلحة ، وبالجملة ان ترتب العقوبة انما هو ترك الشيء في ظرف الفراغ عن اتصافه بكونه تركا لما فيه الغرض والمصلحة ، ومثل هذا المعنى انما يصدق في الصورة الثانية والثالثة ، واما في الصورة الأخيرة فلايكاد صدق ترك المتصف الاعلى أحد التروك فمن ذلك لايكاد يترتب على تركه للجميع الا عقوبة واحدة ، فتأمل.

بقى الكلام في التخيير بين الأقل والأكثر حيث إنه قد يقال بامتناعه واستحالته نظراً إلى أنه باتيان الأقل ووجوده ولو في ضمن الأكثر يتحقق الواجب لا محالة ويحصل الغرض ومع حصول الغرض وتحقق الواجب به يكون الزائد عليه لا محالة زائدا عن الواجب فيكون خارجا عن دائرة الوجوب فلايمكن حينئذ تعلق الوجوب به ، ولكن فيه انه كذلك إذا كان الأقل مأخوذا بنحو اللابشرط من جهة الزيادة وليس كذلك بل نقول بأنه مأخوذ على نحو بشرط لا بحيث كان لحده أيضا دخل في الواجب وفى حصول الغرض ، وعليه فيرتفع الاشكال المزبور حيث لايكون الآتي بالأكثر حينئذ آتيا بالأقل بحده في ضمنه حتى يتوجه الاشكال المزبور ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون للأقل الكائن في ضمن الأكثر وجود مستقل بحيث كان هناك تخلل سكون في البين كما في التسبيحات أم لا كما في مثل الخط الطويل الذي رسم دفعة ، وذلك من جهة أنه بالتجاوز عن حد الأقل الذي فرض كونه تسبيحة واحدة أو نصف ذراع من الخط مثلا ينتفى الأقل ويكون المأتى به من أوله إلى آخره امتثالا للامر بالأكثر دون الأقل ، كما هو واضح.

نعم قد يشكل على ما ذكرنا أيضا بأن الأكثر بعد أن أخذ لا بشرط من طرف الزيادة وقد وجب الاتيان بذات الأقل أيضا على كل تقدير فلا جرم لايبقى طرف التخيير الا نفس الحدين وهما الوقوف على الأقل أو التعدي والتجاوز عنه وحينئذ فحيث أنه مع الاتيان بذات الأقل لا محيص له من أحد الحدين ولايمكنه ترك كليهما يندرج لا محالة في التخيير العملي العقلي بمناط اللاحرجية نظير التخيير بين النقيضين أو الضدين اللذين ليس لهما ثالث لا في التخيير الشرعي من جهة عدم المجال حينئذ لأعمال المولوية بالامر التخييري نحو الحدين ، لما ذكرنا غير مرة بان مرجع الامر التخييري بأحد الامرين انما هو إلى النهى عن تركهما معا وهو انما يصح في مورد يتمكن المكلف من ترك كلا الامرين والا فمع عدم تمكنه من ذلك ولا بدية اتيانه بأحد الامرين عقلايكون الامر باتيان أحد

ص: 393

الفردين لغوا محضا ، فعلى ذلك حينئذ يتسجل الاشكال بأنه كيف المجال للتخيير الشرعي بين الأقل والأكثر مع كون ذات الأقل واجبة الاتيان على كل تقدير وكون التخيير بين الحدين أيضا عقليا محضا بمناط اللاحرجية ، هذا.

ولكن يمكن التفصي عن هذا الاشكال أيضا بان ما هو طرف التخيير حينئذ انما كان هو الأقل بما هو متقيد بحد الأقلية ، فكان لحيث التقيد أيضا دخل في موضوع الوجوب وفي مثله معلوم بداهة كمال المجال لتعلق الامر المولوي التخييري بأحد الامرين اما الأقل أو الأكثر ، وحينئذ فتمام الخلط انما هو من جهة الغاء حيث التقيد بحد الأقلية عن موضوع الوجوب ولحاظ ذات الأقل عارية عن التقيد المزبور فمن ذلك استشكل بان ذات الأقل حينئذ بعد أن كانت واجبة الاتيان على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير فلا جرم لايبقى في البين الا نفس الحدين الذين عرفت بأنه لايكون التخيير فيهما الا تخييرا عقليا بمناط اللاحرجية ، والا فبناء على ملاحظة مجموع الذات مع التقيد المزبور لايبقى مجال الاشكال المزبور أصلا ، من جهة وضوح ان الأقل حينئذ بوصفه لايكون واجب الاتيان على كل تقدير ، كما هو واضح. وعلى ذلك فمن اخذ الأقل بشرط لا محددا بحد الأقلية يرتفع تلك الاشكالات بأجمعها على التخيير بين الأقل والأكثر ، نعم على ذلك يكون مرجع التخيير المزبور إلى التخيير بين المتبائنين نظراً لأي مبائنة الأقل حينئذ ولو بحده مع الأكثر ، فتدبر.

المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي

وهو سنخ من الوجوب متعلق بفعل كل واحد من آحاد المكلفين ، ومرجعه كما في الواجب التخييري إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين بنحو لايقتضي الا المنع عن بعض أنحاء تروكه ، وهو تروكه في حال ترك بقية المكلفين ، غير أن الفرق بينهما هو توجه التكليف هناك إلى المكلف بكلا شقي التخيير من جهة كونه نتيجة التكليف التعييني بالجامع بخلافه في المقام حيث إنه بعد عدم قدرة شخص مكلف واحد على كل الشقين لايكاد يصح توجيه التكليف التعييني إليه بالجامع بمعناه الاطلاقي القابل للانطباق على فعل نفسه وفعل غيره ، ومن ذلك لايكون التكليف المتوجه إلى

ص: 394

كل مكلف الا تكليفا ناقصا متعلقا بشق واحد ولايكون امره الناقص الا أمرا واحداً

بل ولئن تأملت ترى جريان الشقوق المتصورة في الواجب التخييري في المقام أيضا من حيث تعلق غرض وحداني تارة بجامع فعل المكلفين القابل للانطباق على فعل كل واحد من آحادهم ، وأخرى تعلق اغراض متعددة بفعل كل واحد من المكلفين مع كونها بنحو لايكاد حصول الغرض في واحد مع حصوله وتحققه في الاخر نظراً إلى ما كان بين تلك الاغراض حينئذ من المضادة اما في مرحلة الوجود والتحقق واما ما في مرحلة أصل الاتصاف بالغرض والمصلحة ، حيث إن مرجع الجميع كما عرفت إلى تعلق وجوب ناقص بفعل كل واحد من المكلفين ، ففي جميع الصور كان المكلفون كل واحد منهم مكلفا بالايجاد ولكن بتكليف ناقص بنحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك البقية ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف بفعل بعضهم عن الجميع واستحقاقهم جميعا للعقوبة عند اخلالهم بالامتثال مع امتثال الجميع أيضا واستحقاقهم للمثوبة لو أتوا بالمأمور به دفعة واحدة ، نعم هذا الأخير مخصوص بالفرض الأول وهو فرض قيام الغرض الوحداني بالجامع فان قضيته حينئذ هو تحقق الامتثال بفعل الجميع فلا يجري في بقية الفروض لأنه فيها حسب مضادة تلك الاغراض القائمة بأفعالهم اما بحسب الوجود أو الاتصاف لايكاد انتهاء النوبة إلى امتثال الجميع مع اتيانهم دفعة واحدة حتى يترتب عليه استحقاقهم أجمع أيضا للمثوبة بل ومقتضي بطلان الترجيح بلا مرجح حينئذ هو عدم حصول الغرض وعدم تحقق الامتثال من واحد منهم أيضا ، كما لايخفى ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ان ما ذكرناه من الفروض الاخر في الواجب الكفائي مجرد فرض وبيان امكان جريان فروض الواجب التخييري في الكفائي أيضا ، والا فما هو الواقع في الواجبات الكفائية طرا انما هو خصوص الفرض الأول ، وعليه فكما أنه باخلالهم بالامتثال يستحق الجميع العقوبة كذلك باتيانهم جميعا للمأمور به دفعة واحدة يتحقق الامتثال من الجميع ويستحق الجميع المثوبة ، نعم على فرض وقوع ما عدا الفرض الأول فيها أيضا يبقى الكلام في أنه هل يمكن فيها تصوير إناطة التكليف بكل واحد منهم بعدم اتيان البقية كي يلزمه المصير إلى كون التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا تاما منوطا بعدم اتيان البقية أم لايمكن فينحصر تكليفهم كما في الواجب التخييري بالتكليف الناقص حسب ما عرفت ، وفي ذلك كان التحقيق هو الثاني ، وذلك فإنه ان أريد من

ص: 395

الإناطة إناطة كل واحد من التكاليف بعصيان البقية فعدم امكانه واضح ، من جهة ما يلزمه حينئذ من تأخر كل واحد من هذه التكاليف عن الآخر برتبتين ، وهو من المستحيل كما عرفت ، وان أريد إناطة كل واحد منها بعدم البقية أي العدم السابق على الامر والتكليف فكذلك أيضا ، إذ حينئذ وان لم يرد عليه المحذور المتقدم من جهة وقوع التكاليف حينئذ في رتبة واحدة الا انه بعد تحقق المنوط به بالنسبة إلى الجميع يلزمه ان يكون كل واجد منهم مكلفا بتكليف فعلى تام بالايجاد ، ومثل هذا المعنى بعد فرض مضادة تلك المصالح والاغراض وامتناع اجتماعها في الوجود والتحقق يكون من المستحيل ، لاستحالة البعث الفعلي التام نحو أمور يمتنع اجتماعها في التحقق ، فمن ذلك لا محيص في المقام أيضا كما في الواجب التخييري من ارجاع تلك التكاليف إلى التكليف الناقص بجعل التكليف المتوجه إلى كل مكلف تكليفا ناقصا على نحو لايقتضي الا المنع عن الترك في حال ترك بقية المكلفين ونتيجة ذلك كما عرفت انما هو سقوط التكليف عن الجميع بفعل البعض منهم مع استحقاق الجميع للعقوبة عند اخلالهم جميعا بالواجب والمأمور به ، كما هو واضح.

المبحث الثاني عشر ، في الواجب الموقت

وهو الذي كان للزمان دخل فيه شرعا ، وفي قباله غير الموقت وهو الذي لايكون للزمان دخل فيه شرعا وان كان مما لابد منه فيه عقلا.

ثم إن قضية دخله فيه شرعا تارة تكون من جهة كونه قيدا للهيئة وللطلب وأخرى من جهة كونه قيدا للمادة وللمتعلق الراجع إلى مقام الدخل في وجود المحتاج إليه والمتصف فارغا عن أصل الاتصاف والاحتياج ، حيث إنه يجري فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود الاخر ، نعم لو بنينا على عدم امكان المعلق واستحالته في نفسه لكان المتعين في المقام هو ارجاعه عقلا بقول مطلق إلى الهيئة والطلب ولو كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى المتعلق والمادة حتى في ما لو كان دخله في المصلحة من قبيل الدخل في وجود المتصف والمحتاج إليه ، غير أن الفرق حينئذ بينه وبين سائر المشروطات من جهة الإناطة حيث كان إناطة الطلب به في المقام عقلية وفي سائر المشروطات شرعية. وأما

ص: 396

بناءً على المختار من امكان المعلق أيضا كالمشروط فيجرى فيه كلا الاحتمالين كما في غيره من القيود ، فيكون قيدا للهيئة وللطلب تارة وللمتعلق أخرى.

ثم إن الزمان المأخوذ في الواجب ظرفا ان كان بقدر الواجب لا أوسع فمضيق كالصوم مثلا ، وان كان أوسع منه فموسع وأمثلته كثيرة كالصلوات اليومية وصلاة الكسوف والخسوف ونحوها. واما كونه أضيق من الواجب فغير ممكن من جهة امتناع التكليف بما لا يسعه وقته وظرفه مع إرادة ايجاد الواجب بتمامه في ذلك الوقت وهو واضح ، نعم لا باس به لو أريد ايجاده فيه ولو ببعض اجزائه لا بتمامه ولكن ذلك حينئذ خارج عن الفرض نظراً إلى أن الموقت حينئذ انما هو الواجب ببعض اجزائه لا بتمامه ومن أوله إلى آخره.

واما الاشكال في امكان الموسع أيضا فمدفوع بما عرفت من وقوعه الذي هو أدل على امكانه ، كالأمثلة المزبورة ، ومرجعه إلى مطلوبية الكلي الجامع بين الافراد التدريجية المنتجة للتخيير بين الافراد المزبورة. وفي كون مثل هذا التخيير عقليا أو شرعيا وجهان أوجههما الثاني ، كما تقدم بيانه مفصلا ، فراجع.

نعم يبقى الكلام حينئذ في اقتضاء الامر بالموقت مع الاخلال به في الوقت لوجوبه في خارج الوقت وعدمه ، وفي ذلك نقول : ان مجمل الكلام فيه ان قضية دليل الموقت اما ان تكون على نحو وحدة المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه ، واما ان تكون على نحو تعدد المطلوب بحيث يستفاد منه كون التقييد به بلحاظ تمام المطلوب لا أصله ، واما ان لا يستفاد منه شيء من الوجهين بل كان مجملا من هذه الجهة ومرددا بين التقييد في أصل المطلوب أو تمامه.

فان كان من قبيل الأول فلا اشكال في عدم اقتضاء الامر بالموقت لوجوب الاتيان به في خارج الوقت مع الاخلال به في الوقت ، لولا دعوى اقتضائه لعدم وجوبه.

كما أنه على الثاني أيضا لا اشكال في اقتضائه وجوب الاتيان به في خارج الوقت بعكس القسم الأول من غير فرق في ذلك بين ان يكون التوقيت بدليل متصل أو منفصل

واما ان كان من قبيل الثالث فان كان بدليل متصل بالكلام فلا اشكال أيضا في عدم اقتضاء دليل الواجب لوجوبه في خارج الوقت ، من جهة انه باتصاله به يوجب اجماله اجمالا لدليل الموقت أيضا ، ومعه لايبقى له ظهور حتى يصح التمسك به لاثبات الوجوب بعد انقضاء الوقت ، نعم لو كان التوقيت حينئذ بدليل منفصل وكان لدليل

ص: 397

الواجب أيضا اطلاق بان فرض كونه في مقام البيان من هذه الجهة لا في مقام أصل المشروعية لكان قضية اطلاقه حينئذ هو ثبوت الوجوب في خارج الوقت أيضا ولكن ذلك أيضا مجرد فرض ، إذ نقول أولا بظهور دليل التوقيت في وحدة المطلوب وفي كون التقييد به بلحاظ أصل المطلوب لا بلحاظ تمامه وعلى فرض عدم ظهوره واجماله من تلك الجهة لايكون لدليل العبادة في تلك الموقتات من نحو قوله : « أقيموا الصلاة » اطلاق يصح التمسك به لاثبات الوجوب في خارج الوقت لأنها طرا على ما حقق في محله في مبحث الصحيح والأعم كانت واردة في مقام أصل المشروعية لا في مقام البيان من تلك الجهات ، وعليه فلا يبقى مجال التمسك بدليل الموقتات في العبادات لاثبات الوجوب في خارج الوقت ، بل لابد حينئذ من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلا كنا نحن ونفس تلك الأدلة لايمكننا اثبات الوجوب به بعد انقضاء الوقت كما هو واضح.

نعم لو شك ولو يعلم من دليل الموقت بان التقييد بالوقت كان بلحاظ أصل المطلوب أو بلحاظ تمام المطلوب ربما كان مقتضى الأصل وهو الاستصحاب بقائه في خارج الوقت أيضا إذ حينئذ يشك عند ذهاب الوقت في ذهاب أصل المطلوبية أو ذهاب مرتبة منه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر فيستصحب حينئذ بقائه ولو ببعض مراتبه ، نظير الاستصحاب الجاري في اللون الخاص إذا شك في ذهابه من رأسه أو ذهابه ببعض مراتبه مع بقائه ببعض مراتبه الاخر ، ومعه فلا يجرى فيه أصالة البراءة عن الوجوب ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو ما عرفت من ظهور الأدلة في وحدة المطلوب وفى كون التقيد بالوقت بلحاظ أصل المطلوب لاتمامه وحينئذ فلابد في اثبات وجوب القضاء في خارج الوقت وفاقا للمحققين من قيام دليل عليه بالخصوص والا فلايكفيه نفس الامر الأول ، كما هو واضح.

نعم ربما ينافي ما ذكرنا ظهور مادة القضاء في التدارك المقتضي لوفاء المأتى به في خارج الوقت ببعض مراتب مصلحة الموقت ، حيث إن لازمه هو قيام المصلحة من الأول بالجامع بين الفرد الواقع في الوقت والفرد الواقع في خارجه ، ولازمه هو تعلق الامر الأول أيضا من الأول بالجامع بين الفردين لا بخصوص الفرد الواقع في الوقت ، ولازمه أيضا ان يكون وجوب الاتيان به في خارج الوقت بنفس الامر الأول لا بأمر جديد ، ولكنه يندفع ذلك بأنه وان كان الامر كذلك انه انه نقول بان فردية المأتي به في خارج الوقت للجامع

ص: 398

لما كانت في طول الافراد الواقعة في الوقت وفي رتبة متأخرة عن سقوط الامر والتكليف عنها ، فقهرا مثل هذه الطولية توجب تضيقا في دائرة الطبيعة المأمور بها بالامر الأول بنحو يخرج عنها مثل هذا الفرد ، فمن ذلك يحتاج في اثبات وجوبه بعد عدم شمول الامر الأول له إلى امر آخر يقتضي وجوبه في خارج الوقت ، وعليه فلا تنافي بين القول بان القضاء بأمر جديد وبين ما يقتضيه ظهور مادة القضاء في الوفاء ببعض مراتب مصلحة الموقت ، كما لايخفى.

المبحث الثالث عشر: في أنه هل الامر بالامر بشيء امر بذلك الشيء حقيقة أم لا

وتحقيقه ان يقال بان كلا الوجهين ثبوتا امر ممكن ، حيث إنه يمكن ان يكون الامر بالامر بشيء لا لأجل التوصل به إلى وجود ذلك الشيء في الخارج بل لأجل مطلوبية امر الآمر الثاني نفسيا كما أنه يمكن ان يكون ذلك لأجل التوصل إلى وجود الشيء في الخارج فحيث انه كان ذلك الشيء مطلوبا له أمر بالامر به ، الا انه في مقام الاثبات كان الظاهر من نحو تلك القضايا ولو بملاحظة قضية الارتكاز هو الثاني من كون الامر بالامر بشيء لمحض التوصل إلى الوجود ، لا من جهة مطلوبية أمر الآمر الثاني نفسيا وان لم يترتب عليه الوجود في الخارج.

وعلى ذلك فلا بأس باستفادة شرعية عبادة الصبي مما ورد من أمر الأولياء بأمر الصبيان باتيان العبادات ، نعم هذا المقدار من الشرعية أيضا لا يفي باثبات وفاء المأتي به حال الصغر بمصلحة الواجب كي يلزمه الاجتزاء به عن فعل الواجب فيما لو كان بلوغه بعد الفراغ عن العبادة أو في أثنائها ، من جهة ان القدر الذي يستفاد من قضية الامر بالامر انما هو كون فعلهم في حال عدم البلوغ مشروعا وواجدا للمصلحة ، واما كون هذه المصلحة من سنخ تلك المصلحة الملزمة الثابتة في حال البلوغ فلا ، ومن هذه الجهة أيضا تشبث بعضهم للاجتزاء به وعدم الإعادة بعد البلوغ باثبات المشروعية من جهة نفس الخطابات الأولية ، وحاصله انما هو دعوى شمول اطلاق الخطابات في التكاليف مثل أقيموا الصلاة ونحوه للصبي الذي يبلغ بعد يوم أو نصف يوم أو ساعة ، حيث إن

ص: 399

دعوى انصرافها عن مثل هذا الصبي أيضا كما ترى بعيدة غايته ، إذ لايكاد يفرق العرف في شمول تلك الخطابات بين البالغ سنه إلى خمس عشرة سنة كاملة وبين من نقص سنة من ذلك بيوم أو نصف يوم أو ساعة واحدة ، بل كان العرف يرى شمول تلك الخطابات لكل منهما وحينئذ فإذا شمل تلك الخطابات لمثل هذا الصبي يتعدى عنه بمقتضي عدم الفصل إلى من هو دون ذلك في العمر إلى أن يبلغ في طرف القلة إلى ست أو سبع سنين فيستفاد من ذلك حينئذ ان الصبي المميز والمراهق كالبالغ في كونه ممن شرع في حقه العبادة على نحو مشروعيتها في حق البالغين من حيث اشتمال عباداته على المصالح الملزمة ، غاية الامر بمقتضي دليل رفع القلم يرفع اليد عن جهة الزام التكليف ويقال بأنه غير مكلف بالايجاد بتكليف لزومي في حال عدم بلوغه ، ونتيجة ذلك انما هو سقوط التكليف عنه بالايجاد لو فرض بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، نظراً لأي استيفائه بفعله حينئذ قبل البلوغ لتلك المرتبة من المصلحة الملزمة الداعية على الامر والتكليف هذا. ولكن فيه انه لا قصور في هذا التقريب لاثبات المشروعية بالمعنى المزبور لولا دعوى كون اعتبار البلوغ في أذهان المتشرعة بمقتضى دليل ( رفع القلم ) ونحوه في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الخاصة الموجبة لصرف الخطابات إلى خصوص البالغين ، كما لعله ليس ببعيد أيضا والا فلا مجال لاثبات مثل هذا النحو من الشرعية أيضا حتى يترتب عليه الاجتزاء به عن فعل الواجب بعد البلوغ فيما لو كان بلوغه في أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها ، كما لايخفى.

المبحث الرابع عشر

إذا ورد امر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله كقوله : صل ، صل ، ففي كون الامر الثاني تأكيدا للامر الأول فلايجب الا الاتيان بالشيء مرة واحدة أو تأسيسا فيجب الاتيان به متكررا وجهان ، بل قولان ، مقتضي اطلاق المادة في صرف الطبيعي هو الحمل على التأكيد فإنه من جهة عدم قابليته للتكثر غير قابل لتعلق الطلب التأسيسي به مرتين الا مع التقيد بوجود ثم وجود ، كما أن مقتضي اطلاق الهيئة هو كونه للتأسيس الموجب للاتيان به متكررا ، فيدور الامر حينئذ بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين اما عن اطلاق المادة في

ص: 400

صرف الطبيعي بحمله على الطبيعة المهملة أو وجود ووجود واما من رفع اليد عن اطلاق الهيئة وظهورها في التأسيس مع ابقاء اطلاق المادة في صرف الطبيعي على حاله ، وفى مثله قد يقال بلزوم الحمل على التأكيد ترجيحا لاطلاق المادة على الهيئة باعتبار كونها معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة عليها ، إذ يقال حينئذ بجريان أصالة الاطلاق فيها في رتبة سابقة بلا معارض. ولكن يدفعه ان المادة كما كانت معروضة للهيئة وفي رتبة سابقة عليها كذلك الهيئة أيضا باعتبار كونها علة لوجود المادة في الخارج كانت في رتبة سابقة عليها فمقتضى تقدمها الرتبي عليها حينئذ هو ترجيح اطلاقها على اطلاق المادة. وبالجملة نقول : بأنه بعد أن كان لكل من الهيئة والمادة نحو تقدم على الآخر فلا وجه لملاحظة حيث تقدم المادة عروضا وترجيح اطلاقها على اطلاق الهيئة ، بل لنا حينئذ دعوى تعين العكس بحسب أنظار العرف نظراً إلى عدم اعتنائهم بحيث تقدم المادة على الهيئة في مقام العروض بعد ما يرون كون الهيئة علة لوجود المادة في الخارج وفي رتبة سابقة عليها ، إذ حينئذ يجرى فيها أصالة الاطلاق في رتبة سابقة فلابد معه حينئذ من التصرف في المادة برفع اليد عما هو قضية اطلاقها في الطبيعة الصرفة ، هذا. ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة من اشكال ينشأ من جهة ما عرفت من وجود ملاك التقدم حينئذ في كل واحدة منهما نعم مع الشك وعدم ترجيح أحد الاطلاقين على الآخر كان مقتضي الأصل هو التأكيد لأصالة البراءة عن التكليف الزائد.

ثم إن هذا كله إذا لم يكن هناك ذكر شرط أو سبب في البين والا فمقتضى قوة ظهور الشرط في السببية التامة على الاستقلال ربما كان هو لزوم الاتيان بالشيء مكررا ، كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى في مبحث المفاهيم.

ص: 401

المقصد الثاني في النواهي

وفيه أيضاً مباحث ،
المبحث الأول

الظاهر أن مفاد الهيئة في النهى عبارة عن الزجر عن الطبيعة المعبر عنه بالفارسية ب « بازداشتن » قبال الامر الذي يكون مفاد الهيئة فيه عبارة عن البعث إلى الطبيعة والارسال نحوها ، مع كون مفاد المادة فيهما عبارة عن صرف الطبيعة لكنه بما هي ملحوظ كونها خارجية لا بما هي هي ولا بما هي موجودة في الذهن كما عرفت بيانه مفصلا وبهذا الاعتبار أي : اعتبار الطبيعة خارجية أيضا صح إضافة كل منهما إلى الوجود بجعل الامر عبارة عن الارسال والبعث إلى الوجود والنهى عبارة عن الزجر عن الوجود ، والا فمتعلقهما في الحقيقة لايكون الا الطبيعة ، كما تقدم بيانه. وعليه تكون الهيئة في كل من الأمر والنهي مغايرا مع الآخر بتمام المدلول حيث كان مدلول الهيئة في الامر عبارة عن البعث والارسال إلى الوجود وفى النهى عبارة عن الزجر عن الوجود ، لا انه كان التغاير بينهما في بعض المدلول وجزئه ، كما يقتضيه كلام الفصول حسب اشرابه الوجود في مدلول الهيئة في الامر والترك في مدلول الهيئة في النهى ، وجعله مدلول الهيئة في الامر عبارة عن طلب وجود الطبيعة وفى النهى عبارة عن طلب ترك الطبيعة. إذ ذلك مضافا إلى ما عرفت سابقا من عراء الهيئة في الأوامر أيضا عن هذه الجهة وعدم دلالتها الا على النسبة الارسالية بين المبدء والفاعل ، نقول بان ذلك مخالف لما هو مقتضى الوجدان والارتكاز أيضا فان في مثل قوله : ( لا تضرب ) لايكاد ينسبق من الهيئة فيه الا الزجر والمنع عن الضرب وايجاده في الخارج ، لا انه ينسبق منها طلب ترك

ص: 402

طبيعة الضرب ، كما هو واضح.

وعليه أيضا لايبقى مجال للاشكال المعروف في الترك : بان الترك ومجرد ان لا يفعل لكونه أمرا عدميا خارج عن تحت قدرة المكلف واختياره فلايصح ان يتعلق به البعث والطلب وان كان فيه ما فيه أيضا يظهر وجهه من جهة ان كون الترك كك أزلا لايوجب خروجه عن تحت المقدورية بقول مطلق حتى بحسب البقاء والاستمرار الذي عليه مدار التكليف وحينئذ فإذا كان الترك بحسب البقاء تحت قدرته حيث كان له في كل آن قلبه بالنقيض وهو الفعل فأمكن لا محالة تعلق الطلب والبعث به ، كما هو واضح.

ثم لايخفى عليك انه كما أن لحاظ الطبيعي في الأوامر يتصور على وجهين : تارة على نحو السريان في ضمن الافراد المنتج لمطلوبية الحصص الفردية كلها وانحلال التكليف المتعلق بالطبيعي إلى التكاليف المتعددة حسب تعدد الحصص وأخرى لحاظه بنحو صرف الوجود المنتج لمطلوبية أول وجود الطبيعي ، كك تصورا يتأتى هذان الوجهان في النواهي أيضا ففيها أيضا قد يكون المأخوذ في حيز النهى الطبيعة بما هي سارية في ضمن الافراد وقد يكون المأخوذ فيه هو صرف وجودها المنطبق على أول وجودها كما يتصور ذلك في العرفيات في مثل النهى عن اكل الفوم لأجل ما فيه من الرائحة الكريهة الموجبة لتنفر طباع العامة واشمئزازهم حيث إنه في مثله ربما يتحقق تمام المبغوض في الوقعة الواحدة بصرف الوجود منه المنطبق على أول وجود الاكل منه ويخرج ثاني وجود الاكل منه في تلك الوقعة عن تحت المبغوضية إذا فرض عدم كونه سببا لازدياد تلك الرائحة الكريهة ، نعم قل ما يتفق وجود هذا القسم في النواهي النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا ولئن لوحظ وتأمل يرى عدم وجود هذا القسم في النواهي خصوصا في الشرعيات حيث إن المبغوض فيها طرا انما كان من قبيل الوجود الساري لا صرف الوجود ، ومن ذلك لايسقط التكليف بعصيان واحد أو بالاضطرار إلى المخالفة مرة واحدة ولو عند اطلاقها حتى أنه أوجبت هذه الجهة ظهورا ثانويا لها في الحمل عليها عند اطلاقها بخلافه في الأوامر فان المنصرف منها عند اطلاقها انما كان هو صرف الطبيعي دون الوجود الساري منه.

ومن اجل ذلك وقعوا في حيص وبيص بأنه كيف هذا التفكيك بين الأوامر والنواهي وانه ان كان الحمل على صرف الوجود كما في الأوامر من جهة اقتضاء مقدمات الحكمة فكيف لا توجبه في النواهي أيضا حيث يحمل فيها على الوجود الساري ولو مع اطلاقها؟

ص: 403

وان كان الحمل على الوجود الساري من جهة خصوصية في النواهي تقتضي الحمل على ذلك على خلاف ما اقتضته الحكمة ، فهي منفية بالفرض من جهة وضوح ان قضية النهى لا تكون الا الزجر عن تلك الطبيعة التي تعلق بها الامر مقيدة كانت أو مطلقة ومجرد الاختلاف بينهما بالايجاب والسلب أيضا غير موجب للتفرقة المزبورة ، كما لايخفى.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه غير نقية عن الاشكال : منها ان منشأ الحمل على الوجود الساري في النواهي من جهة كون طبع المفسدة في القيام بالشيء كلية قيامها به بوجوده الساري في ضمن تمام الافراد بخلافه في الأوامر حيث إن طبع المصحلة في قيامها بالشيء قد يكون بصرف وجوده وقد يكون بوجوده الساري ، وفيه ما لايخفى فإنه بعد ما يتصور في العرفيات قيام المفسدة أيضا بصرف وجود الشيء كما في اكل الفوم واكل الأشياء المضرة التي لا يفرق فيها بين القليل والكثير والدفعة والدفعات لا مجال لدعوى هذه الكلية حيث أمكن في النواهي الشرعية ان تكون المفسدة فيها على نحو صرف الوجود.

ومنها : دعوى كونه من جهة الغلبة حيث إن كل ما يرى من النواهي يرى كونه من قبيل الوجود الساري دون صرف الوجود ، وفيه أيضا انه وان كان لا سبيل إلى انكار ذلك الا ان الكلام في ذلك النهى الصادر في بدو الشريعة بأنه ما وجه حمله عند الاطلاق وعدم القرينة على الوجود الساري على خلاف الأوامر.

ومنها : ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو من جهة اقتضاء الاطلاق ومقدمات الحكمة ، نظراً إلى دعوى اختلاف نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف خصوصيات الموارد وعدم كونها على حد سواء في الجميع ، وان من الخصوصيات الموجبة لاختلاف نتيجة الاطلاق خصوصية المورد بحسب الايجاب والسلب فتوجب هذه الخصوصية للحمل على صرف الوجود في الأوامر وعلى الوجود الساري في النواهي.

وفيه ان ما ذكر من اختلاف نتيجة الاطلاق والحكمة بحسب اختلاف خصوصيات الموارد متين جدا ولكنه ليس منه الاختلاف بحسب الايجاب والسلب جدا ، فان مثل هذه الجهة لا توجب اختلافا بينهما فيما هو قضية الاطلاق في المتعلق الواحد في مثل قوله اضرب وقوله لا تضرب ، كما هو واضح.

ومنها : ان الحمل على الوجود الساري في النواهي انما هو جهة كونه مقتضي اطلاق الهيئة والطلب فيها ، بدعوى ان مقتضي اطلاق الهيئة والطلب في كل من الأمر والنهي

ص: 404

انما كان هو الارسال الموجب لبقاء الطلب بعد الايجاد أيضا الا ان الاكتفاء بايجاد واحد في الأوامر انما كان من جهة تقديم اطلاق المادة فيها في صرف الوجود على قضية اطلاقها وذلك أيضا بملاحظة ما يلزمه من فرض العكس بعد عدم تعين مرتبة خاصة من التكرار الموجب للوقوع في محذور العسر والحرج ، وهذا بخلافه في النواهي فإنه فيها لما لا يلزم هذا المحذور قدم فيها اطلاق الهيئة ولو بملاحظة كونها علة لوجود المادة في الخارج على اطلاق المادة في صرف الوجود ، وفيه ان مجرد لزوم العسر والحرج لايقتضي تقديم اطلاق المادة على اطلاق الهيئة في الأوامر والاكتفاء بايجاد واحد في تحقق الامتثال وسقوط التكليف وذلك من جهة امكان التحديد حينئذ بما يرتفع معه العسر والحرج المزبوران وحينئذ فإذا فرض تقدم اطلاق الهيئة على الطلاق المادة من جهة قضية عليتها لوجود المادة في الخارج يلزمه تقديم اطلاقها على اطلاقها في الأوامر أيضا والمصير إلى لزوم الايجاد متكررا إلى أن يبلغ حد العسر والحرج.

ومنها : ان لزوم التكرار والدوام والاستمرار في النهى انما هو من جهة انه لايكاد يصدق ترك الطبيعي عقلا والانزجار عنه الا بترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية ، إذ حينئذ لابد في مقام الإطاعة وامتثال النهى من ترك الطبيعي بما له من الافراد الدفعية والتدريجية والا فمع تحقق فرد واحد لايكاد يصدق الامتثال والطاعة بل يصدق العصيان والمخالفة وهذا بخلافه في الأوامر فإنه بعد ما كان وجود الطبيعي بوجود فرد واحد يكتفى في مقام الإطاعة بايجاد فرد واحد من جهة تحقق تمام المطلوب وهو الطبيعي بوجود واحد.

وفيه انه ليس الكلام في مقام الإطاعة إذ لا شبهة في أنه لابد في مقام امتثال النهى عن الطبيعي من ترك جميع أفراده الدفعية والتدريجية ، بل وانما الكلام في طرف العصيان والمخالفة في اقتضاء النهى لزوم ترك بقية الافراد حتى بعد العصيان نظراً إلى اقتضائه لكون المبغوض هو الوجود الساري دون صرف الوجود وحينئذ فلا يفيد ما ذكر لدفع الاشكال المزبور كما هو واضح ، هذا.

وقد تصدي شيخنا الأستاذ دام ظله لدفع الاشكال بوجه آخر حيث أفاد بما حاصله ان مبني الاشكال وأصله انما نشأ من جهة توهم كون مقتضي الاطلاق وقرينة الحكمة هو الطبيعة الساذجة الصرفة الغير القابلة للانطباق الا على أول وجود ، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بأنه إذا كان طبع الاطلاق في الأوامر عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي

ص: 405

مطلوبية صرف الطبيعي المنطبق على أول وجود وبذلك يكتفى في مقام الإطاعة وسقوط الامر بايجاد فرد واحد من جهة انطباق تمام المطلوب وهو الطبيعي الصرف عليه كك طبع الاطلاق في النهى عند عدم التقيد بالسريان ونحوه يقتضي أيضا كون المبغوض هو صرف الطبيعي المنطبق على أول وجود ، ولازم ذلك هو عدم لزوم ترك بقية الافراد عند العصيان والمخالفة بايجاد فرد واحد بلحاظ انطباق ما هو تمام المبغوض عليه مع أنه ليس كك فما وجه التفرقة حينئذ بين الأمر والنهي؟ والا فبناء على كون مقتضي الاطلاق وقرينة الحكمة عند عدم التقيد في كل من الأمر والنهي هو الحمل على الطبيعة المهملة التي هي مدلول اللفظ بما هي جامعة بين الطبيعة الصرفة والطبيعة السارية لايكاد يتوجه الاشكال المزبور ، إذ حينئذ يكون الفرق بين الأمر والنهي في اقتضاء الأول للاكتفاء بايجاد فرد واحد واقتضاء الثاني لعدم ايجاد شيء من الافراد واضحا ، حيث إن الاكتفاء بفرد واحد في الأوامر انما هو من جهة تحقق ما هو تمام المطلوب وهو الطبيعة المهملة بوجود فرد واحد فمن ذلك يسقط الامر ويتحقق الامتثال بذلك.

واما في النواهي فعدم الاكتفاء بذلك انما هو من جهة اقتضاء طبع الاطلاق المزبور لعدم ايجاد الطبيعة المهملة مطلقا ولو في ضمن ثاني الوجود وثالثه. ومن ذلك حينئذ يستفاد ان ما هو المبغوض وما فيه المفسدة هو الطبيعي بوجوده الساري لا بصرف وجوده المنطبق على أول وجود ولازم ذلك أيضا هو لزوم الانزجار عن جميع افراد الطبيعي ولو مع العصيان والمخالفة.

أقول : وفيه نظر ينشأ من أن الاكتفاء في الأوامر بايجاد فرد واحد في سقوط الامر وتحقق الامتثال ان كان من جهة انطباق ما هو المطلوب وهو الطبيعة المهملة عليه يلزمه القول به في طرف النهى أيضا فلابد فيه أيضا من المصير إلى عدم لزوم ترك بقية الوجودات عند المخالفة بلحاظ تحقق ما هو تمام المبغوض وهو الطبيعة المهملة بمجرد الاتيان والمخالفة بايجاد فرد واحد ، والا فلا وجه للاكتفاء بايجاد فرد واحد في الأوامر أيضا بل لابد فيه أيضا كما في النواهي من دعوى مطلوبية الطبيعة المهملة على الاطلاق ولو في ضمن ثاني الوجود وثالثه ، فتأمل.

* * *

ص: 406

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي
اشارة

قد اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد بجهتين ولكونه مجمع العنوانين على أقوال ثالثها الجواز عقلا والامتناع عرفا وتوضيح المقصد يقتضى رسم أمور :

الأول :

لايخفى عليك ان المسألة حيث كانت نتيجتها مما تقع في طريق الاستنباط تكون من المسائل العقلية الأصولية ، لا من مباديها الاحكامية ، فإنه مضافا إلى بعده لا يناسب أيضا ظهور عنوان البحث وهو جواز الاجتماع وعدم جوازه والا لاقتضى تحرير عنوانه بالبحث عن لوازم الوجوب والحرمة ، ولا من المسائل الكلامية أيضا ، إذ ذلك مضافا إلى ما عرفت من النتيجة نقول بان المهم عند الفريقين بعد أن كان في سراية النهى إلى متعلق الامر وموضوعه عند وحدة المجمع وجودا وعدمه يكون مرجع البحث إلى البحث عن أصل اجتماع الحكمين المتضادين وعدمه في موضوع واحد ومن المعلوم حينئذ عدم ارتباط ذلك بمسألة التكليف بالمحال كي يندرج بذلك في المسائل الكلامية المتنازع فيها بين الأشاعرة وغيرهم ، إذ حينئذ على السراية يكون التكليف بنفسه محالا حتى بمبادئه من الاشتياق والمحبوبية باعتبار كونه من اجتماع الضدين في موضوع واحد لا انه تكليف بالمحال وبما لايقدر عليه المكلف ، كما لايخفى ، واما احتمال كونها من المسائل الفرعية فبعيد غايته عن ظاهر عنوان البحث المزبور حيث لايكاد مناسبته مع كونها مسألة فرعية. وهذا بخلاف مسألة مقدمة الواجب فان الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة حيث كانت وجوب مقدمة الواجب شرعا أمكن فيها اندراجها في المسألة الفرعية وان كان التحقيق في ذلك المقام أيضا خلافه كما عرفت.

ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا كون المسألة عقلية محضة حيث كانت من الملازمات العقلية الغير المستقلة فكان ذكرها في المقام حينئذ لمحض المناسبة لا انها لفظية كما ربما يوهمه التعبير بالامر والنهى الظاهرين في الطلب بالقول ولذلك يجري هذا لنزاع فيما لو كان ثبوت الوجوب والحرمة بغير اللفظ من اجماع ونحو أيضا ، واما القول بالامتناع العرفي فليس المقصود منه دلالة اللفظ على الامتناع بل المقصود منه هو كون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف وان كان اثنين بحسب الدقة العقلية كما هو واضح.

ص: 407

الثاني من الأمور

المراد من الواحد المبحوث عنه في العنوان هو مطلق ما هو مندرج تحت العنوانين اللذين تعلق بأحدهما الامر وبالآخر النهى وان كان كليا كالصلاة في المغصوب حيث إنها باعتبار صدقها على كثيرين تكون كليا ومع ذلك يكون ذا وجهين ومجمعا للعنوانين لا الواحد السنخي الذي لايكون مجمعا للعنوانين كما في السجود لله وللشمس والقمر ونحو ذلك مما تعدد فيه متعلق الأمر والنهي وجودا.

بل ولئن تأملت ترى اختصاصه أيضا بالواحد الكلي وعدم شموله لما يعمه والشخصي كشخص الصلاة الواقعة في هذا الغصب ، إذ ذلك أيضا وان كان مجمعا للعنوانين ولو بتوسيط كلي عنوان الصلاة في الغصب الا ان المناسب للمسألة بعد كونها أصولية لا فقهية هو خصوص الكلي دون ما يعمه والشخصي ، كما هو واضح. نعم لو قيل بكونها أي المسألة من المبادي الاحكامية لا من المسائل الأصولية لأمكن دعوى تعميم المراد لما يعم الكلي والشخصي ، ولكن ذلك أيضا لولا دعوى انصراف العنوان إلى ما هو مجمع العنوانين ومصداق لهما بلا واسطة ، فان مصداقية شخص هذه الصلاة الواقعة في الغصب للكليين بعد أن كان بتوسيط كلي الصلاة في الغصب فقهرا بمقتضي الانصراف المزبور يختص الواحد المبحوث عنه في العنوان بالواحد الكلي ولايكاد يعمه والواحد الشخصي كما لايخفى ، بل قد يقال حينئذ بعدم امكان شمول العنوان ولو مع قطع النظر عن الانصراف لما يعم الكلي والشخصي نظراً إلى عدم امكان كون الواحد الشخصي مصداقا للجامع في عرض الكلي فتدبر.

الثالث من الأمور

لايخفى عليك ان عمدة النزاع بين الفريقين في هذه المسألة انما هو في سراية النهى إلى موضوع الامر ومتعلقه عند وحدة المجمع وجودا أو عدمه ، فكان القائل بالجواز يدعى عدم السراية والقائل بالامتناع يدعى السراية ، ومن هذه الجهة يكون تمام البحث بين

ص: 408

الفريقين صغرويا محضا والا فعلى فرض السراية المزبورة لايكاد يظن من أحد الالتزام بالجواز ، كما أنه في فرض عدم السراية وتعدد المتعلقين في المجمع لايظن من أحد الالتزام بالامتناع ، ومن ذلك ترى ان القائل بالجواز تمام همه اتمام عدم السراية اما بنحو مكثرية الجهات أو من جهة تعدد حدود الشيء أو غير ذلك ، وحيث كان كك نقول : ان مدرك القول بالجواز على ما يأتي بيانه مفصلا تارة يكون من حيث مكثرية الجهات بنحو يكون الوجود الواحد مجمع الجهتين ومركز الحيثين فيكون إحدى الجهتين معروض الامر والأخرى معروض النهى غايته انه كان المركزان موجودين بوجود واحد من غير فرق عنده بين كون متعلق الامر صرف وجود الشيء أو الوجود الساري ولا بين كون متعلقه هو الطبيعي أو الافراد بدوا أو بتوسيط السراية إليها من الطبيعي.

وأخرى يكون مبنى الجواز من جهة وقوف الامر على نفس الطبيعي وعدم سرايته إلى الفرد ولا إلى الوجود خارجا وان لم يكن اختلاف بين العنوانين بحسب المنشأ ولا كان تكثر جهة في البين أصلا كما عن المسلك المتقدم.

وثالثة يكون من جهة اختلاف أنحاء حدود الشيء الواحد بنحو ينتزع من مراتب وجود الشيء واحد من كل حد ومرتبة عنوان غير ما ينتزع من المرتبة الأخرى منه كما عرفت تحقيقه في مبحث الواجب التخييري حيث قلنا فيه بامكان ان يكون الشيء الواحد مع وحدته وجودا ومهية ببعض حدوده تحت الالزام وببعض حدوده تحت الترخيص فيكون الشيء على هذا المسلك مع وحدته وجودا وجهة ببعض حدوده تحت الامر وببعض حدوده الآخر تحت النهى.

وإذ عرفت ذلك نقول بأنه بعد هذا الاختلاف في مسالك الجواز وتعدد المشارب المزبورة فيه ، لا وجه لتحديد مركز النزاع في عنوان المسألة بصورة اختلاف العنوانين حقيقة وتباينهما منشأ.

كما أنه لا وجه أيضا لتحرير المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية في وجود واحد ولو بجهتين ، حيث إن ذلك مما لايكاد يصح على شيء من المشارب المزبورة.

وذلك : اما على مشرب مكثرية الجهات فظاهر لوضوح ان تكثر الجهة انما كان يجدي في رفع محذور اجتماع الضدين لا في رفع محذور التكليف بالمحال ومالا يطاق فلايكاد يمكن حينئذ اجتماع الامر الفعلي ولو بجهة مع النهى الفعلي بجهة أخرى في المجمع مع كون

ص: 409

الجهتين متلازمتين وجودا ، وذلك من غير فرق بين كون متعلق الامر هو الوجود الساري المنتج لوجوب الحصص الفردية كل واحدة منها على التعيين أو صرف الوجود المنتج للوجوب التخييري في الافراد ، إذ كما أنه لايمكن الامر التعييني بالمجمع ولو بجهة مع النهى عنه بجهة أخرى ملازمة معها وجودا من جهة كونه من التكليف بالمحال وبما لايطاق كك أيضا لايمكن الامر التخييري به مع النهى المزبور الموجب لمبغوضية الوجود من جهة ان مرجع التخيير كما عرفت انما هو إلى كون ترك هذا المجمع بلا بدل منهيا عنه ومثل هذا المعنى لايكاد يجامع النهى عنه الموجب لمبغوضية وجوده المستتبع لمحبوبية تركه ولو ، لا إلى بدل ، واما الالتزام باشتراط المندوحة حينئذ في تصحيح فعلية الأمر والنهي فهو كما ترى حيث لايكاد يجدي وجود المندوحة حينئذ في تصحيحها على مثل هذا المسلك بل انما يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد.

ومن هذا البيان ظهر لك الحال أيضا على مسلك مكثرية حدود الشيء واختلاف أنحاء حفظ وجوده فإنه على هذا المسلك أيضا لايكاد يمكن اجتماع الأمر والنهي الفعليين في شيء واحد باختلاف أنحاء حدوده من جهة استلزامه للتكليف بالمحال وان كان معروض التكليفيين مختلفين من جهة ما عرفت من أن مثل هذا الاختلاف في الحدود انما كان يجدي في رفع محذور اجتماع الضدين لا في محذور التكليف بما لا يطاق. واما اشتراط المندوحة فلقد عرفت عدم اجدائه على هذا المسلك أيضا في رفع غائلة التكليف بالمحال.

نعم انما يجدي ذلك على مسلك من سلك الجواز من جهة عدم سراية الامر من الطبايع إلى الافراد والتزامه بعدم وجوب الفرد بالوجوب التخييري الشرعي ولكنه على هذا المسلك أيضا لايكاد انتهاء النوبة إلى اجتماع الأمر والنهي الفعليين في المجمع. إذ لم يتعلق حينئذ امر شرعي بالمجمع ولو تخييرا لا بدوا ولا بتوسيط السراية من الطبيعي حتى يكون فيه اجتماع الأمر والنهي كما هو واضح.

وحينئذ فعلى جميع هذه المسالك والمشارب المزبورة في الجواز لايصح تحرير عنوان المسألة باجتماع الأمر والنهي الظاهرين في الفعلية بوجه أصلا كما لايخفى ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب في المقام هو كون المهم عند القائل بالجواز على جميع المسالك والمشارك المزبورة عبارة عن تصحيح العبادة في المجمع ، وحيث انه أي التصحيح

ص: 410

المزبور غير مبتن على فعلية الامر والتكليف في المجمع بل يكفي فيه مجرد رجحانه الغير المنوط بالقدرة كما هو كذلك أيضا في مثل الضد العبادي المبتلى بالأهم فلايحتاج إلى اثبات فعلية الامر والتكليف في المجمع كي يتوجه الاشكال المزبور ويبتنى على بعض المسالك وهو مسلك عدم السراية ، مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا في تصحيح العبادة أمكن اثباته بنحو الترتب ، كما لايخفى.

الرابع من الأمور في الفرق بين المسألة وبين مسألة النهى في العبادات

فنقول : قد يقال كما في الفصول في الفرق بين المسئلتين ما هذا لفظه وعبارته : أعم ان الفرق بين المقام والمقام المتقدم وهو ان الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا اما في المعاملات فظاهر واما في العبادات فهو ان النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة ولو كان بينهما العموم المطلق وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد بان تعلق الامر بالمطلق والنهى بالمقيد « انتهى ».

ولكنه فاسد لما عرفت من اختلاف المباني والمشارب في الجواز إذ نقول حينئذ بعدم تماميته على جميع المشارب المزبورة حتى مشرب مكثرية الحدود إذ عليه يجرى هذا النزاع ولو مع اتحاد المتعلقين حقيقة كقوله صل ولا تصل في مكان كذا حيث تكون الصلاة حينئذ ببعض حدودها تحت الامر وببعض حدودها الأخرى تحت النهى ومن ذلك قلنا بعدم احتياج مثل هذا المسلك إلى اختلاف العنوانين بحسب الجهة والمنشأ كما في مسلك تعدد الجهة وانه يكتفى فيه بمجرد اختلاف أنحاء حدود شيء واحد وجهة فاردة.

وفى الكفاية : ان الفرق بين المسئلتين هو ان الجهة المبحوث عنها في المقام في أصل سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيهما وجودا وعدم سرايته من جهة تعددهما جهة ، بخلاف مسألة النهى في العبادات ، فان الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة انما هي في اقتضاء النهى لفساد العبادة بعد الفراغ عن تعلقه بها والتوجه إليها فلايرتبط حينئذ إحدى المسئلتين بالأخرى ، نعم على القول بالسراية والامتناع وتقديم جانب النهى يكون المقام من صغريات المسألة الآتية حيث يبحث فيها حينئذ عن اقتضاء ذلك النهى لفساد العبادة وعدمه هذا ، ولكن فيه ما لايخفى إذ نقول بأنه لا وجه لجعل المسألة

ص: 411

على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات تلك المسألة الآتية لضرورة وضوح الفرق مع ذلك بين المسئلتين حيث إن الفساد في المقام على الامتناع وتقديم النهى انما كان مستندا إلى العلم بالنهي لا إلى النهى بوجوده الواقعي بل في الحقيقة يكون الفساد في المقام حينئذ من جهة انتفاء قصد القربة من جهة انه مع العلم بالنهي لايكاد يتحقق القرب المعتبر في صحة العبادة ، بخلافه في المسألة الآتية حيث إن الفساد فيها انما كان مستندا إلى نفس النهى بوجوده الواقعي ومن ذلك لايكاد يفرق فيها بين العلم بالنهي أو الجهل به فتفسد العبادة على كل حال ومن المعلوم انه لايكون الوجه فيه الا من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وكشف النهى عنها عن تخصيص الملاك والمصلحة من الأول بما عدا هذا الفرد المنهى عنه من الافراد الاخر ومن ذلك يندرج تلك المسألة في مسألة تعارض الدليلين وتكاذبهما ، من جهة تكاذب الدليلين حينئذ وتمانعهما في أصل الملاك والمصلحة أيضا مضافا عن تمانعهما في مقام الحكم فلابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض فيهما بالرجوع إلى المرجحات السندية ، وهذا بخلاف المقام حيث إنه باعتبار وجود الملاكين فيهما يندرج في صغريات مسألة التزاحم ولو على الامتناع أيضا نظراً إلى تحقق المزاحمة حينئذ بين الملاكين في عالم التأثير في الرجحان والمرجوحية كما يكشف عنه حكمهم بصحة العبادة في الغصب مع الغفلة أو الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور لا عن تقصير ولو مع البناء على تقديم جانب النهى حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه لحكمهم بالصحة مع الجهل بالموضوع أو الحكم بل لابد من الحكم بالبطلان وفساد العبادة مطلقا كما هو واضح ، ومن ذلك نقول أيضا في المقام بلزوم الرجوع فيه إلى قواعد باب التزاحم فيقدم ما هو الأقوى من الملاكين في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية وان كان أضعف سندا من غيره ، لا إلى قواعد باب التعارض والترجيح بالمرجحات السندية من حيث العدالة والوثوق ، كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام ( دام ظله ) (1) على ما قرر من اندراج مورد التصادق في المقام على الامتناع في صغرى باب التعارض نظير العامين من

ص: 412


1- قد توفي ره يوم السبت عند ارتفاع النهار في السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1355. « المؤلف » ومراد المؤلف قدس سره من هذا البعض هو المحقق النائيني قدس سره الشريف « المصحح ».

وجه كالعالم والفاسق فيما لو ورد الامر باكرام العالم والنهى عن اكرام الفاسق ، بدعوى ان التزاحم انما يكون بين الحكمين في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد الفراغ عن أصل تشريع الاحكام حسب ما تقتضيه الملاكات ، كما في الضدين مثلا ، وفي مورد اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كون المتعلقين متغايرين بالذات ومختلفين بالهوية ، واما التزاحم بين الملاكين في عالم تشريع الاحكام وجعلها فهو غير مرتبط بباب التزاحم بل هو مندرج في صغرى باب التعارض الذي ملاكه تنافى الدليلين باعتبار مدلوليهما في مقام الجعل والتشريع.

إذ فيه ما لايخفى ، إذ نقول : بأنه لاوجه لما أفيد الا الجمود بظاهر لفظ تزاحم الحكمين والا فلا نعنى نحن من باب التزاحم الا صورة الجزم بوجود الملاكين والغرضين في المورد مع ضيق خناق المولى من تحصيلهما الذي من نتائجه لزوم تقديم أقوى الملاكين منهما وان كان أضعف سندا من الآخر ، ومنها لزوم تقديم مالا بدل له بحكم العقل في التأثير في فعلية حكمه وتشريعه على ماله البدل ، ومنها تقديم المطلق منهما بحكم العقل على المشروط بالقدرة ، ومنها غير ذلك من نتائج باب التزاحم ، كما أنه لا نعنى من باب التعارض الا صورة عدم احراز الملاكين والغرضين في المورد بل صورة العلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين الذي من نتائجه أيضا الرجوع إلى قواعد التعارض من الترجيح بالمرجحات السندية بالأعدلية والأوثقية ونحوهما والتخيير في الاخذ بأحد الخبرين عند فقد المرجحات أو تساوى الخبرين فيها بمقتضي اخبار العلاج ، وعلى ذلك فكل مورد أحرز فيه وجود الغرضين كان ذلك داخلا في باب التزاحم ويجري عليه احكامه من غير فرق في ذلك بين ان يكون تزاحم الغرضين والملاكين في عالم تأثيرهما في الرجحان والمرجوحية كما في المقام على الامتناع ، أو كان التزاحم بينهما في عالم الوجود ومقام التأثير في فعلية الحكمين. وكل مورد لم يحرز فيه وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق بل أحرز عدم وجود الملاك والغرض في أحد الموردين يكون ذلك من باب التعارض الذي من حكمه الاخذ بالأرجح سندا من حيث العدالة والوثوق.

وعليه نقول : بأنه بعد أن أحرز في المقام وجود الملاكين والغرضين على الاطلاق في المجمع ولو على القول بالامتناع بشهادة أعمالهم فيه نتائج باب التزاحم وحكمهم بصحة الصلاة مع الجهل بالغصبية أو بحرمته فلا وجه لاخراج

ص: 413

مورد التصادق على الامتناع عن باب التزاحم وادراجه في صغريات باب التعارض على خلاف مشى القوم في ذلك ، الا إذا كان لك اصطلاح خاص في ذلك ، هذا.

مع أنه نقول بان ما أفيد من الضابط في بيان الفرق بين البابين وجعله التزاحم باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال وفي عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام وجعلها على طبق ما اقتضته الملاكات انما يتم بناء على كون القدرة أيضا كالعلم من شرائط تنجز الخطابات والتكاليف ، والا فبناء على ما هو التحقيق وعليه أيضا بناء الأصحاب من الفرق بين القدرة والعلم من رجوع القدرة ولو بحكم العقل إلى كونها شرطا لأصل فعلية الخطاب والتكليف في مرحلة سابقة عن تنجزه ، بخلاف العلم فإنه باعتبار كونه في رتبة لاحقة عن الخطاب غير صالح لتقييد أصل مضمون الخطاب فلابد فيه من رجوعه إلى كونه من شرائط تنجزه لا من شرائط نفسه ، فلا جرم عند عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما لاتنتهي النوبة (1) إلى مقام تشريع الحكمين على الاطلاق حتى في مثل الضدين نظير عدم تشريع اطلاق الحكمين في مجمع العامين من وجه ولازمه حينئذ هو المصير إلى دعوى اندراجه أيضا في صغرى باب التعارض مع أنه كما ترى لايكاد التزامه به.

واما دعوى الالتزام حينئذ بكون القدرة أيضا كالعلم من شرائط تنجز التكليف لا من شرائط أصل التكليف وفعليته فمدفوعة بأنه مع كونه خلاف التحقيق مناف أيضا لما ذهب إليه هو قدس سره في مبحث الضد من الالتزام بالترتب في تصحيح الامر بالضدين فإنه لولا كونها شرطا ولو بحكم العقل في أصل توجيه التكليف الفعلي إلى المكلف لما يحتاج في اثبات فعلية الامر بالضدين إلى تكلف الترتب بجعل أحد الامرين منوطا بعصيان الامر بالأهم وفى الرتبة المتأخرة عن سقوطه كما هو واضح وحينئذ فيتجه عليه الاشكال المزبور من لزوم مصيره في مثل الضدين والمتلازمين اللذين يلازم امتثال أحدهما مخالفة الاخر إلى الاندراج في صغرى باب التعارض من جهة امتناع تشريع حكمين فعليين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر ولزوم كون الحكم الفعلي في مقام الجعل والتشريع على طبق أحد الملاكين.

ص: 414


1- كذا في الأصل والصحيح : « تنتهي النوبة » كما يظهر للمتأمل [ المصحح ].

واما دعوى الالتزام بذلك حينئذ في فرض كون التلازم دائميا كاستقبال القبلة واستدبار الجدي في قطر العراق دون ما لو كان التلازم اتفاقيا فيدفعها منع الفارق بينهما حيث إنه لو كانت القدرة من شرائط نفس التكليف السابق عن مرحلة تنجزه لايكاد يفرق في الاستحالة بين العجز الدائم أو الحاصل من باب الاتفاق فكما انه يمتنع أصل تشريع الحكمين في فرض كون العجز دائميا ، كك يمتنع اطلاق تشريع الحكمين على الثاني أيضا بنحو يشمل مورد العجز من باب الاتفاق نظير امتناع تشريع الحكمين على الاطلاق في العامين من وجه الشامل للمجمع ، إذ لا فرق بينهما حينئذ الا من جهة كون الممتنع على الأول أصل تشريع الحكمين وفي الثاني اطلاق تشريعهما ، وحينئذ فلابد من ادراج مورد العجز الحاصل من باب الاتفاق أيضا في باب التعارض بين الاطلاقين ، لا التفكيك بينهما بادراج العجز الدائمي في صغرى باب التعارض والعجز الاتفاقي في صغرى باب التزاحم ،

وتوهم ان التفكيك المزبور حينئذ من جهة لغوية أصل التشريع في العجز الدائمي بخلافه في العجز الاتفاقي حيث يحسن معه أصل تشريع الحكمين ويحسن معه الخطابان أيضا يدفعه ان لازم ذلك هو الالتزام بمثله في الجهل أيضا فلابد فيه من الفرق بين الجهل بالخطاب وعدم العلم به للتالي وبين غيره لا بالتزام تقييد الخطاب به في الأول دون الثاني مع أنه كما ترى حيث إن العلم والجهل باعتبار كونهما في رتبة متأخرة عن الخطاب غير صالحين لتقيد مضمون الخطاب بهما ، كما هو واضح. وسيأتي مزيد بيان لذلك في تنبيهات المسألة إن شاء اللّه تعالى.

الخامس من الأمور

ان العناوين المنتزعة عن وجود واحد تارة يكون اختلافها في صرف كيفية النظر بلا اختلاف فيها بحسب المنظور والمنشأ نظير الاختلاف من حيث الاجمال والتفصيل كالانسان وحيوان ناطق حيث كان الاختلاف بينهما ممحضا بصرف كيفية النظر من حيث الاجمال والتفصيل والا وفى الحقيقة لايكون المنظور فيهما الا شيئا واحدا ، ونظير الاختلاف بنحو اللابشرطية والبشرط لائية كما بين الهيولي والجنس بناء على انتزاعهما عن جهة واحدة إذ حينئذ يكون تمام الفرق بينهما من جهة كيفية النطر من

ص: 415

حيث اللابشرطية والبشرط لائية فإذا لوحظ تلك الجهة بشرط لا بنحو يرى كونها في قبال الغير يكون مفهوم الهيولي ، وإذا لوحظت لا بشرط - بأن لوحظ ذاتها المحفوظة بين الحدين بلا لحاظ حد في الملحوظ بنحو يرى كونها في قبال الغير يكون مفهوم الحيوان.

وأخرى : يكون اختلافها من جهة اختلاف في منظورها لا انه كان الاختلاف بينها ممحضا بصرف كيفية النظر وذلك أيضا تارة بنحو يحكى كل عنوان عن جهة خارجية متأصلة ولو كانت من المحمولات بالضميمة كعناوين الأوصاف الحاكية عن الكم والكيف والفعل والأين ونحو ذلك ، وأخرى بنحو يحكى كل عنوان عن جهة غير متأصلة في الخارج وذلك أيضا على قسمين : فان المحكى حينئذ تارة يكون عبارة عن الإضافات والنسب الخارجية التي كان لها أيضا نحو خارجية اما بالالتزام بحظ من الوجود لها كما قيل ، واما بان الخارج كان ظرفا لنفسها ولولا لوجودها وبالجملة كانت من الأمور التي لها واقعية ولا تنوط في واقعيتها بلحاظ لا حظ واعتبار معتبر بل لو لم يكن في العالم لاحظ ومعتبر كان لمثل تلك الأمور جهة واقعية كما في الفوقية والتحتية وأمثالهما ، وأخرى عبارة عن الأمور الاعتبارية المتأصلة ولو في عالم الاعتبار وبالجملة كانت من الاعتباريات التي لها واقعية عند تحقق مناشئها بحيث كان اللحاظ طريقا إليها كالملكية والزوجية ونحوهما لا انها متقومة باللحاظ والاعتبار كي تنوط واقعيتها بلحاظ لاحظ واعتبار معتبر كالاعتبارات المحضة.

ثم إن العنوانين المختلفين في المنشأ المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاكهما في غير المنشأ تارة : يكون اختلافهما في تمام المنشأ ، على وجه يكون منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه غير المنشأ في الآخر ، كما لو كانا من مقولتين أحدهما من مقولة الفعل والآخر من مقولة الأين مثلا ، نظير الصلاة والغصب بناء على كون الصلاة من مقولة الفعل والغصب من مقولة الأين بجعله عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا عبارة عن الفعل الشاغل للمحل ، ونظير عناوين المشتقات بناء على عدم اخذ الذات فيها وكونها عبارة عن نفس المبدء الملحوظ لا بشرط كالعالم والفاسق ونحوهما

وأخرى : يكون اختلافهما في جزء المنشأ مع اشتراكهما في الجزء الآخر نظير عناوين المشتقات بناء على اخذ الذات فيها بنحو يكون مصب الحكم مجموع المبدأ والذات ، إذ حينئذ يكون اختلاف العنوانين كالعالم والفاسق في جزء المنشأ والا فهما مشتركان في

ص: 416

جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة ، ومثل ذلك كل مورد لايكون الجامع في العنوانين بسيطا ومأخوذا من مقولة واحدة بل كان مركبا من الذات مع عارضها أو من مقولتين أحدهما الفعل مثلا والآخر من مقولة أخرى كالأين أو غيره من الإضافات فإنه في مثله يكون المجمع باعتبار ذاته وجهة فعله واجدا للحدين وباعتبار النسبيات الاخر واجدا للإضافتين أحدهما مقوم أحد الجامعين والآخر مقوم الجامع الآخر كما في مثل الغصب والصلاة بناء على كونهما من مقولة الفعل المنضم ببعض الإضافات الاخر بجعل الصلاة عبارة عن الافعال الخاصة المقرونة بالإضافات المعهودة من الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية ، والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع بين الركوع والسجود وبين غيره من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فإنه في مثله يكون الغصب والصلاة لا محالة من قبيل العنوانين المشتركين في جزء المنشأ الممتازين في الجزء الآخر حيث كانا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى من الإضافات والنسبيات الأخرى.

وثالثة : يكون اختلافهما في صرف الحد المأخوذ فيهما مع اتحادهما ذاتا بل ومرتبة أيضا في خصوص المجمع وان اختلفا مرتبة في غيره نظير الجامع المأخوذ بين زيد وعمرو المنتزع من تحديد الانسان في عالم الاعتبار بحد خاص لايكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد المنتزع من تحديد الانسان بحد لايكون انطباقه الا عليهما فحينئذ يكون زيد مع وحدته ذاتا وجهة ومرتبة مجمع الجامعين بمعنى وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو مع كون النسبة بين الجامعين المزبورين بنحو العموم من وجه. ومن ذلك ظهر ان مجرد اختلاف العنوانين المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاك أحدهما عن الآخر في غير المجمع لايقتضي لزوم كونهما من مقولتين وكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، وذلك من جهة ما عرفت من امكان كونهما من مقولة واحدة حينئذ وكان الاختلاف بينهما من جهة لحد محضا كما مثلنا بالجامع المأخوذ بين زيد وعمرو من تحديد الانسان بحد خاص لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد منتزع من تحديد الانسان بحد آخر لا ينطبق الا عليهما ، فان زيدا حينئذ مع وحدته ذاتا يكون مجمع الجامعين من جهة وقوعه بين الحدين الشامل أحدهما لعمرو بلا شموله لخالد والآخر لخالد بلا شموله لعمرو ، وهكذا لو فرض جامع بين الضرب

ص: 417

والاكل منتزع من تحديد الفعل بحد لا ينطبق الا عليهما وجامع آخر كك بين الأكل والشرب حيث كان الاكل حينئذ مجمع الجامعين بمعنى كونه واجدا للحدين المأخوذين من مقولة الفعل الشامل أحدهما للضرب دون الشرب والآخر للشرب دون الضرب مع كونهما من مقولة واحدة وكون التركيب فيه اتحاديا لا انضماميا ، كامكان كون العنوانين أيضا مشتركين في مقولة ومختلفين في مقولة أخرى كما في العالم والفاسق بناء على اخذ الذات في المشتق وتركب حقيقته من المبدأ والذات حيث إن العنوانين حينئذ في المجمع وان اختلفا ببعض الجهات الا انهما اشتركا في جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة وحيثية فاردة.

وعليه فلا يبقى مجال المصير في مثل الصلاة والغصب المنتزعين من فعل المكلف إلى لزوم كونهما من مقولتين متغايرتين بمحض اختلاف العنوانين وتعدد حقيقتهما كما عن بعض الاعلام قدس سره فيما أسسه في مقدمات مرامه من دعوى ان العنوانين العرضيين بينهما العموم من وجه المنتزعين من وجود واحد لايمكن ان يكونا من مقولة واحدة بل لابد وان يكونا من مقولتين مختلفين أحدهما من مقولة الفعل مثلا والآخر من مقولة أخرى كالاين ونحوه مستنتجا من ذلك أن الصلاة بعد أن كانت من مقولة الفعل فلابد وأن يكون الغصب من مقولة الأين وكونه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل الشاغل للمحل ليكون كلاهما من مقولة واحدة ويكون التركيب بينهما اتحاديا. وذلك لما عرفت من الاشكال فيه بان مجرد اختلاف العنوانين العرضيين المنتزعين من مجمع واحد مع امكان انفكاكهما عن الآخر في غير المجمع لايقتضي كونهما من مقولتين متغايرتين وكون التركيب بينهما انضماميا ، بل حينئذ كما يمكن كونهما من مقولتين مختلفين كك يمكن أيضا كونهما من مقولة واحدة بحيث كان التركيب بينهما اتحاديا في المجمع وكان الاختلاف بينهما في الحد محضا كما في المثال المتقدم من فرض الجامعين أحدهما بين زيد وعمرو المنتزع من تحديد الانسان بحد لايكاد انطباقه الا عليهما وجامع آخر بين زيد وخالد منتزع من تحديد الانسان بحد لايكاد انطباقه الا عليهما خاصة كامكان كونهما مشتركين في بعض المنشأ وفي مقولة ومختلفين في مقولة أخرى أيضا ، إذ حينئذ نقول بأنه من الممكن حينئذ ان يكون كل من الصلاة والغصب من مقولة الفعل غايته منضما ببعض النسبيات الاخر فتكون الصلاة مثلا عبارة عن الافعال المخصوصة المقترنة بالإضافات المعهودة من

ص: 418

الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية الجامعة بين كونها في الدار المغصوبة أو في غيرها والغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدون اذنه ورضاه الجامع بين أفعال الصلاة وغيرها من الافعال الاخر. ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك لا محالة لايكون برهان عقلي يقتضي كون الغصب من مقولة الأين ، وعبارة عن اشغال المحل بالفعل في فرض كون الغصب من مقولة الفعل ، كما هو واضح. نعم يمكن أيضا ان يكون الغصب بحسب العرف أو اللغة عبارة عن اشغال المحل بالفعل ومن مقولة الأين ، ولكن مثل هذا النزاع راجع إلى الوضع اللغوي فلايرتبط بمقام اللابدية العقلية المدعاة ، كما لايخفى.

وبالجملة فالمقصود من هذا التطويل هو بيان عدم اقتضاء مجرد اختلاف العنوانين المنتزعين من وجود واحد بحسب المنشأ لكونهما من مقولتين بحيث كان المحكى من كل عنوان مقولة غير ما يحكى عنه العنوان الاخر نظراً إلى ما عرفت من امكان اشتراكهما في مقولة واختلافهما في مقولة أخرى ، بل وامكان كونهما من مقولة واحدة وحقيقة فاردة مع كون الاختلاف بينهما ممحضا بصرف الحد المأخوذ فيهما أو بحسب المرتبة كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها الذي هو منتزع عن مرتبة من الصوت الزائد عن أصل القراءة.

ومن هذا البيان ظهر أيضا عدم صحة ابتناء القول بجواز الاجتماع على كون التركيب بين العنوانين في المجمع انضماميا لا اتحاديا بل وانما المدار كله في ذلك - كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى على اختلاف العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على معنى كون المحكى في كل عنوان غير المحكى في العنوان الآخر وعدم اختلافهما كك ، فإذا كان العنوانان متغايرين بتمام المنشأ نقول فيه بالجواز من غير فرق بين كونهما من مقولتين ممتازتين الملازم لكون التركيب بينهما في المجمع انضماميا أو من مقولة واحدة كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها والقرائة بالقياس إلى الجهر بها ، حيث نقول بأنه من الممكن حينئذ كون إحدى الجهتين من هذا الوجود الوحداني وهي الجهة الحيوانية تبعا لقيام المصلحة بها محبوبة والجهة الأخرى منه وهي الجهة الناطقية مبغوضة ومتعلقة للنهي من دون سراية الحكم من إحدى الحيثيتين إلى الحيثية الأخرى ، وهكذا في مثال القراءة وحيثية الجهر بها حيث يمكن الالتزام فيه بجواز الاجتماع من جهة امكان كون أصل

ص: 419

القراءة تبعا لقيام المصلحة بها محبوبا وحيثية الجهر المنتزع عن مرتبة من الصوت الزائد عن أصل القراءة مبغوضة ومنهيا عنها مع وضوح كون التركيب بين العنوانين في أمثال ذلك اتحاديا لا انضماميا.

السادس من الأمور

لايخفى عليك ان العناوين المأخوذة في حيز الخطابات تارة : تكون من قبيل الجهات التعليلية وأخرى تكون من قبيل الجهات التقييدية ومرجع الأولى إلى خروج العنوان المزبور بنفسه عن كونه موضوعا للحكم وكونه من العناوين المشيرة إلى ما هو موضوع الحكم ومتعلقه وسببا لطرو الحكم عليه نظير عنوان المقدمية الذي هو من العناوين المشيرة إلى الدوات الخاصة الخارجية الموقوف عليها فعل الواجب كالطهارة والستر والقبلة ونحوها ومن ذلك أيضا كلية العناوين الاعتبارية المحضة التي من جهة اعتباريتها غير قابلة لتعلق الطلب بها وكان الطلب تبعا لقيام المصلحة متعلقا بمنشأ اعتبارها ، كما أن مرجع الثانية إلى كون ذلك العنوان المأخوذ في حيز الخطاب موضوعا بنفسه في القضية للحكم اما تماما أو جزء لا كونه مرآة إلى امر آخر يكون هو الموضوع حقيقة للحكم في القضية ومن ذلك كلية القضايا التوصيفية من نحو قوله : أكرم زيدا الجائي الظاهر في مدخلية عنوان المجيء أيضا بنحو القيدية في موضوع الحكم ومتعلقه ، قبال القضايا الشرطية من نحو قوله : أكرم زيد ان جائك ، أو إن جائك زيد فأكرمه ، الظاهر في أن تمام الموضوع للاكرام الواجب هو ذات زيد من غير مدخلية لعنوان المجيء في الموضوع ولو بنحو القيدية وانه انما كان علة وسببا لوجوب اكرامه وحينئذ فتمام المعيار في كون العنوان المأخوذ في حيز الخطاب من قبيل الجهات التعليلية أو التقييدية على ما ذكرناه ، لا ان المعيار فيه على كون التركيب بين العنوانين في المجمع اتحاديا أو انضماميا ، وذلك لوضوح انه لا تلازم بين كون العنوانين من قبيل الجهات التعليلية وبين كون التركيب بينهما في المجمع اتحاديا ولا بين كونها من قبيل الجهات التقييدية وبين كون التركيب بينهما انضماميا ، وذلك من جهة انه من الممكن حينئذ ان يكون العنوانان من قبيل الجهات التعليلية ، ومع ذلك يكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، كامكان كونهما من الجهات التقييدية ومع ذلك يكون

ص: 420

التركيب بينهما اتحاديا كما عرفت في مثال الجنس والفصل بل القراءة بالقياس إلى الجهر بها. وعليه فما أفيد كما عن بعض الاعلام قدس سره كما في التقرير من أن العنوانين المنتزعين من وجود واحد إذا كانا من قبيل الجهات التعليلية لابد وأن يكون التركيب بينهما اتحاديا ، وإذا كانا من الجهات التقييدية لابد وأن يكون التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا منظور فيه.

السابع من الأمور

لايخفى ان الطبيعي والفرد وان كانا متغايرين مفهوما وفي عالم التصور حيث كانا صورتين متبائنتين في الذهن بحيث لايكاد انتقال الذهن في مقام لحاظ الطبيعي وتصوره إلى الفرد ، وبهذه الجهة أيضا لايكاد سراية الحكم المتعلق بالطبيعي والكلي إلى الفرد ، الا على مبنى سخيف : من تعلق الاحكام بالخارجيات ، والا فعلى المذهب الحق كما حققناه في محله : من تعلق الاحكام بالعناوين وبالصور الذهنية يستحيل سراية الحكم من كل صورة في نظر إلى الصورة الموجودة في نظر وتصور آخر ، الا ان الفرد لما كان يحكى عما يحكى عنه عنوان الكلي وزيادة مفقودة في الكلي فكانا متحدين في جهة ومختلفين في زيادة الفرد لخصوصية زائدة عن الطبيعي وكانت الصور أيضا في مقام تعلق الاحكام بها مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية ، فقهرا تلك الجهة الواحدة الخارجية فيهما بعد قيام المصلحة بها بأي صورة تتصور أو شكل يتشكل توجب التلازم بين الصورتين المتحدتين في الجهة الخارجية في تعلق الإرادة والكراهة أيضا ، فيتعلق الحكم المتعلق بالطبيعي بالفرد أيضا لكن من حيث الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا بتمامه حتى بمشخصاته الفردية وحينئذ فإذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي فقهرا يسرى الحكم المزبور من الطبيعي إلى الحصص المحفوظة في ضمن الافراد من الطبيعي دون الخصوصيات الزائدة عنها ، بمعنى ان كل فرد إذا لوحظ كان الطبيعي المحفوظ في ضمنه متعلقا للإرادة أو الكراهة بالتقريب المزبور ، لا انه بمحض النظر إلى الطبيعي والكلي يسرى حكمه إلى الفرد أيضا وذلك لما عرفت من أن الطبيعي والفرد مفهومان متغايران في الذهن ، فيستحيل في هذا النظر سراية الحكم من أحد المفهومين إلى الاخر ، هذا إذا كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية.

ص: 421

وأما إذا كان متعلقا بصرف وجود الطبيعي الغير القابل للانطباق الاعلى أول وجود فكذلك أيضا ، غاية الامر انه في فرض تعلق الحكم بالطبيعة السارية يكون الحصص المحفوظة في ضمن كل فرد بتمام حدودها مشمولة للحكم ، ومن ذلك يصير كل فرد بما انه مصداق للطبيعي واجبا تعيينا ، بخلافه في فرض تعلقه بصرف وجود الطبيعي الجامع بين الافراد فان مشمولية الحصص الفردية حينئذ للوجوب انما يكون ببعض حدودها أعني حدودها المقومة لطبيعتها واما الحدود المقومة لشخصية الحصة المحفوظة في كل فرد التي هي مقسمة للطبيعي لا مقومة له فهي خارجة عن حيز الوجوب ومرجع ذلك كما عرفت في مبحث الواجب التخييري إلى لزوم سد باب العدم في كل حصة وفرد من قبل حدود عاليها المقومة لطبيعتها دون حدودها المقومة لشخصيتها المقسمة لطبيعتها الراجع ذلك إلى وجوب كل فرد من الافراد لكن بوجوب ناقص بنحو لايقتضي المنع الا عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك الملازم لترك بقية الحصص الأخرى ، ونتيجة ذلك كما عرفت سابقا هي صيرورة الافراد المزبورة واجبة بوجوب تخييري شرعي لا بوجوب تخييري عقلي محض كما هو مبنى القول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته منه إلى الافراد أصلا ، فتدبر.

الثامن من الأمور
اشارة

التزاحم بين المصلحة في الشيء ومفسدته تارة يكون في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية ومن حيث ايراث الحب والبغض ، وأخرى يكون التزاحم بينهما في عالم الوجود والتحقق بحيث يدور الامر بين وجود المفسدة وفوت المصلحة وبالعكس ، فعلى الأول لاينبغي الاشكال في أن الأثر للأقوى منهما ولا يلاحظ في هذه المرحلة مقام مزاحمتهما في عالم الوجود ، وان فرض امكان دركهما معا ولو في ضمن فردين ، وحينئذ فلو فرض قيام مصلحة أهم بصرف الطبيعي والجامع فقهرا بمقتضي ما عرفت في المقدمة السابقة من سراية المحبوبية من الجامع إلى الفرد ولو ببعض حدوده يصير الفرد بحدوده المقومة لعاليه تحت المحبوبية الفعلية وتلغو المفسدة المزبورة عن التأثير في المبغوضية فيه بالقياس إلى هذا الحد لمكان أهمية المصلحة المزبورة واما بالقياس إلى حدوده المقومة

ص: 422

لشخصيته فحيث انه لا تزاحمها المصلحة تبقى المفسدة القائمة بالفرد بجميع حدوده على حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد في حدوده المقومة لشخصيته فيصير الفرد المزبور حينئذ ببعض أنحاء حدوده وهو الحد الجامعي المستلزم لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى أهمية المصلحة تحت المحبوبية الفعلية وببعض حدوده الاخر وهو الحد المقوم لشخصية الحصة تحت المبغوضية الفعلية هذا بالنسبة إلى مقام مزاحمة الملاكين في عالم التأثير في الحب والبغض.

واما بالنسبة إلى مقام مزاحمتها في عالم الوجود فحيث انه أمكن حفظ كلا الغرضين ولو في ضمن وجودين فلا جرم يرجح العقل جانب المفسدة المهمة ومبغوضية الفرد من ناحية حدوده المشخصة على المصلحة الا هم المؤثرة في محبوبيته من ناحية حدوده الجامعي جمعا بين الغرضين ، وبهذه الجهة تصير الإرادة الفعلية على وفق المفسدة المهمة ولو كانت في أدنى درجة الضعف والمصلحة في أعلى درجة القوة من غير أن يلاحظ في ذلك درجات المصلحة والمفسدة وتأثيراتهما في المحبوبية والمبغوضية بوجه أصلا ، الا إذا فرض وقوع المزاحمة بينهما في عالم الوجود أيضا بحيث لا يتمكن من الجمع بين الغرضين فيؤثر الأقوى درجة منهما ويكون الإرادة الفعلية أيضا بحكم العقل على وفقه ، والا فمع عدم صدق المزاحمة بينهما حقيقة في هذه المرحلة وامكان الجمع بينهما ولو في ضمن وجودين فلا محالة يكون الترجيح بحكم العقل في لزوم الجمع بين الغرضين مهما أمكن للمفسدة المهمة وتكون الإرادة الفعلية أيضا على وفقها وان كانت في أدنى درجة الضعف حتى البالغة إلى حد الكراهة.

ومن هذا البيان ظهر حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا فإنه بمقتضى ما ذكرنا أمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة فيما لو كان الامر متعلقا بالجامع المنتج لوجوب كل فرد تخييرا ، والنهى متعلقا بالطبيعة السارية ، كالأمر بالصلاة الجامعة بين الصلاة في الحمام وبين الصلاة في غيره من الأمكنة مع النهى التنزيهي عن الصلاة في الحمام أو في موضع التهمة مثلا ، وذلك انما هو بالتفكيك بين حدود الفرد من حيث حدوده الجامعة وحدوده المشخصة له بالتقريب المتقدم من دون حاجة إلى الالتزام فيها بأقلية الثواب أو غيرها من المحامل الاخر ، كما هو واضح.

ثم إن هذا كله فيما لو كان الامر متعلقا بصرف الطبيعي الجامع بين الافراد.

واما لو كان الامر متعلقا بالطبيعة السارية كالنهي بحيث يقتضي مطلوبية كل واحدة من الحصص على نحو التعيين ، فلا جرم لايكاد يتم التفكيك المزبور بين مقام تأثير الملاكين

ص: 423

في الرجحان والمرجوحية وبين مقام تأثيرهما في الايجاد ، نظراً إلى أن المفسدة حينئذ كما تقتضي مبغوضية الفرد بتمام حدوده كك المصلحة أيضا تقتضي محبوبية الفرد بتمام حدوده وفي مثله لا محالة يكون الأثر للأقوى منهما حتى في عالم الوجود أيضا مصلحة كانت أو مفسدة ، والوجه فيه واضح ، لان المزاحمة حينئذ كما تكون بينهما في عالم التأثير في الحب والبغض ، كك تكون المزاحمة بينهما في عالم الوجود أيضا ، وفي مثله يكون الأثر لما هو الغالب منهما ، ومن ذلك أيضا لا يجري ما ذكرنا في النواهي التنزيهية في موارد يكون الامر بنحو الطبيعة السارية إذ لايمكن الالتزام فيها بالكراهة المصطلحة بالتقريب المتقدم ، بل بعد الفراغ عن صحة العبادة لابد من المصير إلى محامل أخر : اما بصرف النهى عن ظاهره والحمل على أقلية الثواب ، أو بصرفه عن نفس العبادة إلى حيثية ايقاعها وكينونتها في وقت كذا ومكان كذا نظير النهى عن جعل الماء للشرب في كأس كثيف ، أو غير ذلك من المحامل الاخر.

في بيان ما هو الحق في المسألة

وحيث اتضح لك هذه الأمور فنقول : ان اختلاف العنوانين لو كان في صرف كيفية النظر لا في المنظور فلاينبغي الاشكال فيه في عدم جواز الاجتماع ، وذلك لوضوح ان المنظور بعد ما كان فيهما واحدا ذاتا وجهة لايكاد يتحمل طرو الصفتين المتضادتين المحبوبية والمبغوضية ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بتعلق الاحكام بالخارجيات أو بالعناوين والصور الذهنية ، وذلك لان الصور وان كانت متغايرة ولكنها بعد ما كانت مأخوذة بنحو لا ترى الا خارجية وكان المنظور فيهما واحدا ذاتا وجهة فقهرا يرى المنظور فيهما غير قابل لطرو الصفتين المتضادتين عليه وهما المحبوبية والمبغوضية ، ومن ذلك أيضا نقول بامتناع اتصاف اجزاء المركب بالوجوب الغيري مع فرض كونها واجبة بوجوب الكل نفسيا ، وعدم اجداء مجرد الاختلاف في النظر فيها من حيث اللابشرطية والبشرط لائية في رفع محذور اجتماع المثلين بعد اتحاد الذات الملحوظة في ضمن الاعتبارين.

ومثله في عدم الجواز ما لو كان العنوانان من العناوين الاعتبارية المحضة الغير القابلة لقيام المصالح بها فإنه في مثل ذلك أيضا يكون مركب المصالح والحب والبغض هي الذات المعروضة لها ، وانها في ظرف وجود منشأها كانت من الجهات التعليلية

ص: 424

لمصلحة الذات المعروضة لها وحينئذ فإذا كانت الذات المعروضة لها واحدة ذاتا وجهة فقهرا تأبى عن ورود الصفتين المتضادتين عليها من الحب والبغض والإرادة والكراهة.

واما لو كان اختلاف العنوانين في المنظور لا في صرف كيفية النظر ، فان كان الاختلاف بينهما بتمام المنشأ على وجه يكون منشأ انتزاع كل بتمامه غير المنشأ في الآخر ففي مثل ذلك لا باس بالالتزام بجواز الاجتماع ، من غير فرق في ذلك بين كون العنوانين من مقولتين مختلفين أو من مقولة واحدة ، كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها ، وكذا القراءة بالقياس إلى الجهر بها ، إذ حينئذ بعد تغاير الجهتين أمكن تعلق الحكمين المتضادين بوجود واحد على وجه يكون مركب كل حكم جهة غير الأخرى ، ومجرد وحدة الوجود في الخارج وعدم قابليته للتقسيم وللإشارة الحسية خارجا غير مانع عن ورود الحكمين المتضادين عليه ، بعد حل العقل إياه في مقام التحليل بجهة دون جهة ومرتبة دون أخرى ، إذ حينئذ من جهة هذا التحليل العقلي يتميز معروض الحكمين بنحو يرتفع التضاد من البين ، فكان معروض أحد الحكمين جهة ومرتبة غير معروض الحكم الآخر. ومن غير فرق أيضا بين كون التركيب في المجمع انضماميا أو اتحاديا ، ولا بين كون العنوانين من قبيل الجهة التعليلة أو التقييدية ، ولا بين القول بوقوف الطلب على الصور أو سرايته إلى الخارجيات ، ولا بين كون الامر متعلقا بصرف الطبيعة أو بالطبيعة السارية ، فإنه على جميع تلك التقادير مهما اختلف معروض الحكمين ذاتا أو جهة أو مرتبة كما لو كان معروض أحد الحكمين هو حدوث الشيء ومعروض الآخر بقائه يصار فيه بالجواز على جميع التقادير حتى على القول بتعلق الاحكام بالخارجيات ، من جهة انه باختلاف المعروضين يرتفع غائلة محذور التضاد من البين ، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان اختلاف العنوانين بتمام المنشأ.

واما لو كان اختلافهما ببعض المنشأ بان كانا مشتركين في جهة أو مقولة وممتازين في جهة أو مقولة أخرى ففي مثله لابد من المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما ، من جهة عدم تحملها لطرو الصفتين المتضادتين عليها ، المحبوبية والمبغوضية ، فمن ذلك لابد وأن يكون الأثر لما هو الأقوى منهما مناطا مصلحة أو مفسدة ، من غير فرق بين ان يكون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو بالجامع وبصرف وجودها.

الا على مسلك من يقول بوقوف الطلب على نفس الطبيعي والجامع وعدم سرايته إلى

ص: 425

الافراد بوجه أصلا ولو من حيث حدودها الطبيعية ، بخيال ان الطبيعي والفرد صورتان مبتائنتان في الذهن والامر بعد تعلقه بالصور لا بالخارجيات لا يتعدى بوجه من الوجوه إلى الافراد ، وان الافراد حينئذ انما كانت واجبة بوجوب تخييري عقلي لا بوجوب تخييري شرعي ، وأيضا إن صرف الطبيعي والجامع بعد ما كان غير قابل للانطباق الا على أول وجود فلا جرم قبل الانطباق لايكون هناك أول وجود حتى يسرى إليه الحكم وكك بعد الانطباق ، نظراً إلى أن مثل هذا الظرف لسقوط الطلب عن الطبيعي فلايمكن كونه ظرفا لثبوته فمن ذلك يستحيل سراية الطلب إلى الفرد ، فإنه على هذا المسلك لا بأس بالالتزام بصحة العبادة باتيان هذا الفرد بداعي الامر بالطبيعي ، بل على هذا المسلك يخرج المسألة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد من جهة ان الوجود والفرد على ذلك لايكون الا مبغوضا محضا ، كما هو واضح.

ولكنك قد عرفت في المقدمة السابقة فساد المسلك المزبور وان التحقيق هو سراية الحكم من الطبيعي والجامع إلى الافراد بالتقريب المتقدم في شرح السراية ، وعليه فلابد من المصير إلى عدم جواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما نظراً إلى عدم قابليتها لطرو الصفتين المتضادتين عليها سواء فيه بين ان يكون الامر أيضا كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو كان متعلقا بصرف وجود المنتج لمحبوبية الافراد تخييرا إذ كما أن مبغوضية الشيء بجميع حدوده تنافى محبوبيته التعيينية كك تنافى أيضا محبوبيته التخييرية فان مرجع كون الشيء محبوبا تخييريا إلى كون تركه لا إلى بدل مبغوضا ومنهيا عنه وهو مما ينافي بداهة مبغوضية التعيينية الملازمة لمحبوبية تركه ولولا إلى بدل ، كما هو واضح.

وحينئذ فبعد ما امتنع الاجتماع بالنسبة إلى الجهة المشتركة بين العنوانين ولم تتحمل لطرو الصفتين المتضادتين عليها من المحبوبية والمبغوضية ، فلا جرم في مقام التأثير كان الأثر لما هو الأقوى منهما ملاكا مصلحة أو مفسدة ، وحينئذ لو كان الأقوى هو النهى فقهرا تصير الجهة المشتركة بجميع حدودها بمقتضي المفسدة الغالبة مبغوضة محضا لا محبوبة.

واما لو كان الأقوى هو الامر ، فان كان متعلقا بالطبيعة السارية فكذلك أيضا حيث إنه تصير الجهة المشتركة حينئذ بجميع حدودها بمقتضي المصلحة الغالبة محبوبة محضا لا مبغوضة عكس الصورة الأولى وان كان متعلقا بصرف الطبيعي والجامع ففي هذا الفرض يمكن الجمع بين الرجحان الفعلي والمرجوحية الفعلية بالنسبة إلى الجهة

ص: 426

المشتركة وذلك لما تقدم في المقدمة الثامنة من أن مقتضى المصلحة الأهم في الجامع المستتبع للسراية إلى الفرد حينئذ انما هو التأثير في رجحان الفرد ومحبوبيته بالقياس إلى بعض أنحاء حدوده وهو حدوده الجامعي لا مطلقا حتى بالقياس إلى حدوده المشخصة. وحينئذ فإذا فرض قيام المفسدة المغلوبة بالفرد بجميع حدوده حسب تعينها فلا جرم المقدار الذي تزاحمها المصلحة الأهم في الجامع في عالم التأثير انما هو بالقياس إلى حدوده الجامعي المقومة لعاليه. واما بالقياس إلى حدوده المشخصة المقومة لسافله فحيث انه لا تزاحمها المصلحة الأهم فقهرا تبقى المفسدة المهمة على حالها فتؤثر في مبغوضية الفرد من حيث حدوده المشخصة فيصير الفرد والجهة المشتركة حينئذ ببعض أنحاء حدوده وهو حده الجامعي المستتبع لحفظه في ظرف عدم بديله بمقتضى المصلحة الأهم في الجامع تحت الرجحان والمحبوبية الفعلية ، وببعض حدوده الاخر وهو حده المشخص له المقوم لسافله تحت المرجوحية والمبغوضية الفعلية ، بمقتضى خلو المفسدة المهمة عن المزاحم بالقياس إلى مثل هذه الحدود ويخرج عن كونه محبوبا فعليا على الاطلاق ومبغوضا فعليا كك ، كما هو واضح.

ثم إن ذلك كما عرفت بالنسبة إلى مقام تزاحم الملاكين في عالم التأثير في الرجحان والمرجوحية.

واما بالنسبة إلى مقام التزاحم في عالم الوجود فحيث انه أمكن استيفاء كلا الغرضين ولو بايجاد المأمور به في ضمن فرد آخر فلا جرم كان التأثير بحكم العقل للمفسدة المهمة المغلوبة ويقيد بحكم العقل دائرة فعلية إرادة الطبيعة بما عدا هذا الفرد وان لم يكن كك في عالم التأثير في الرجحان والمحبوبية ، فيصير الفرد المزبور حراما فعليا ويجب الاتيان بالطبيعي في ضمن فرد آخر ، جمعا بين الحقين وحفظا للغرضين ، وان كان لو اتى بالطبيعي في ضمن هذا الفرد بداعي رجحانه الفعلي من حيث حده الجامعي كان ممتثلا ومطيعا من تلك الجهة وعاصيا من جهة أخرى.

وبالجملة فالمقصود هو عدم ملاحظة حيثية أهمية مصلحة الجامع في هذا المقام عند التمكن من استيفائها في ضمن فرد آخر وانه يقدم حينئذ تلك المفسدة المهمة المغلوبة القائمة بالخصوصية على المصلحة الأهم في الجامع ، ولو كانت في أدنى درجة الضعف حتى البالغة إلى درجة الكراهة وكانت المصلحة في أعلى درجة القوة. وعمدة النكتة في ذلك

ص: 427

انما هي عدم صدق المزاحمة والدوران حينئذ بين الغرضين في الوجود بلحاظ امكان الجمع بينهما باتيان الطبيعي والجامع في ضمن غير هذا الفرد والا فمع صدق المزاحمة في هذا المقام أيضا لا اشكال في أن التأثير للأقوى منهما كما في فرض انحصار الطبيعي بهذا الفرد وكذا في فرض قيام المصلحة أيضا كالمفسدة بالطبيعة السارية.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا حل الاشكال في الكراهة في العبادات فيما كان لها البدل ، حيث إنه بمقتضي البيان المزبور أمكن الالتزام بفعلية الكراهة المصطلحة في الفرد ولو من حيث حدوده المشخصة مع الالتزام أيضا بصحة العبادة بلحاظ رجحانها ذاتا بمقدار يقتضي رجحان حفظ الفرد المزبور من ناحية حدود الطبيعي. نعم فيما لا بدل لها من العبادات لا يجري البيان المزبور من جهة وقوع المزاحمة حينئذ بين الأمر والنهي في الفرد بجميع حدوده ، فلابد فيها اما من الحمل على أقلية الثواب والرجحان ، أو صرف النهى عن ظاهره إلى ايقاع العبادة في الأوقات المخصوصة ، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في مكان قذر ، بجعل المبغوض كينونة العبادة في وقت كذا لا نفسها ، حتى لاينافي المبغوضية مع محبوبية العمل ورجحانه المقوم لعباديته.

وعلى ذلك فكم فرق بين الجواز بهذا المعنى وبين الجواز بالمعنى المتقدم بمسلك مكثرية الجهات ، حيث إنه على الأول يكفي في جواز الاجتماع مجرد تغاير العنوانين بتمام المنشأ على نحو يكون منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه مغايرا مع منشأ انتزاع الآخر من غير فرق بين ان يكون الامر متعلقا بالطبيعة السارية أو بصرف وجودها ولا بين اقوائية ملاك الامر في نفسه أو اقوائية ملاك النهى ، بخلافه على مسلك اختلاف أنحاء حدود الشيء فان الجواز بهذا المعنى يحتاج أولا إلى عدم كون الامر متعلقا بالطبيعة السارية بل بصرف الطبيعي والجامع المنتج للوجوب التخييري في الافراد بالتقريب المتقدم في المقدمة السابعة. وثانيا إلى أهمية مصلحة الجامع من المفسدة التعيينية في الفرد.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في المفاهيم الاشتقاقية المأخوذة في حيز الحكم بنفسها أو بعنوان ايجادها ، حيث إنه يختلف مصب الحكم حسب الاختلاف في مفهوم المشتق ، فعلى القول بأخذ الذات فيه وتركبه من المبدء والذات فلا جرم يكون العنوانان في المجمع من قبيل العنوانين المختلفين في بعض المنشأ والمشتركين في البعض الآخر ، من جهة اشتراك عنوان العالم والفاسق حينئذ في جهة الذات الحاكية عن جهة واحدة وحيثية

ص: 428

فاردة ، وفي مثله لابد من المصير إلى الامتناع بمقتضي ما تقدم ، لا الجواز ، الا في فرض تعلق الامر بصرف الطبيعي والجامع مع فرض أهمية المصلحة الجامعية أيضا من المفسدة التعيينية في الفرد ، فيصار حينئذ إلى الجواز بمقتضي البيان المتقدم.

واما على القول ببساطة المشتق وعدم اخذ الذات فيه فان قلنا بالفرق بين المشتق ومبدئه باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية وجعلنا مصب الحكم بهذا الاعتبار نفس المبدئين فالعنوانان من قبيل العنوانين المختلفين بتمام المنشأ وفي مثله كان الحكم هو الجواز من جهة اختلاف المتعلقين بتمام الحقيقة ، واما ان قلنا بعدم كفاية مجرد اعتبار اللابشرطية في كون مصب الحكم هو المبدء بشهادة عدم صحة جعله مصب الحكم في مثل أطعم العالم وقبل يد العالم وأكرم العالم ، ولو مع اعتبار اللابشرطية الف مرة وان مصب الحكم ومحطه انما كان عبارة عن نفس الذات غايته بما هي متجلية بجلوة العلم والقيام والقعود ونحو ذلك على نحو كان المبدء ملحوظا في مقام الحكم تبعا للذات وان كان بحسب اللب من الجهات التعليلية لمصلحة الذات فلا جرم يكون العنوانان في مقام الحكاية عن محط الحكم من قبيل حكاية المفهومين عن جهة واحدة وحيثية فاردة وفي مثله لابد من المصير إلى الامتناع من جهة استحالة طرو الصفتين المتضادتين على جهة واحدة وحيثية فاردة ، كما هو واضح.

مسألة الصلاة في محل مغصوب

بقى الكلام في مسألة الغصب والصلاة التي هي معركة الآراء بين الأصحاب بعد الفراغ عن اختلافهما حقيقة ، في أنه هل هما حاكيان عن الجهتين الخارجيتين الممتازتين بتمامهما في المجمع على نحو كان منشأ انتزاع كل بتمامه جهة غير الجهة التي ينتزع عنها الاخر؟ أم هما مشتركان في جهة خارجية وممتازان في جهة أخرى كك نظير العالم والفاسق بناء على القول بتركب المشتق من المبدء والذات؟ ومبني الخلاف انما هو الخلاف في خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وعدم خروجها عن حقيقتهما.

فعلى المختار من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وان الصلاة عبارة عن الافعال الخاصة من القيام والركوع والسجود المقرونة ببعض الإضافات والنسبيات

ص: 429

الاخر من الترتيب والموالاة ونشؤها عن قصد الصلاتية ، وكذا الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير في حال عدم رضاه الجامع بين الركوع والسجود وبين غيرهما من الافعال الاخر الأجنبية عن الصلاة فالعنوانان مشتركان في جهة وممتازان في جهة أخرى من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس الأكوان وامتيازهما في الخصوصيات الزائدة من الإضافات المقومة للصلاتية والإضافات المقومة للغصبية ، ومقتضي ذلك كما تقدم هو المصير إلى عدم الجواز الاجتماع في المجمع في تمام العنوانين في الجهة المشتركة بينهما وهي نفس الأكوان ، مع الالتزام بجواز الاجتماع بالنسبة إلى الجهتين الممتازتين القائمتين بالأكوان المقومة إحديهما للصلاتية والأخرى للغصبية.

واما على القول بخروج الأكوان عن حقيقة الصلاة أو الغصب اما بجعل الصلاة عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان الخاصة بجعلها عبارة عن مقولة الوضع ، مع جعل الغصب عبارة عن الفعل الشاغل لمحل الغير بدونه اذنه ورضاه ، أو عن مقولة الأين بجعله عبارة عن اشغال المحل بالفعل مع جعل الصلاة من مقولة الفعل فالعنوانان ممتازان في المجمع بتمام حقيقتهما ، ومقتضاه كما تقدم هو المصير إلى جواز الاجتماع.

وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة فنقول : والتحقيق حينئذ هو ما عرفت من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة والغصب وذلك فان القول بكون الصلاة من مقولة الوضع وانها عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان من الاستقامة والتقوس والانحناء مع خروج نفس الأكوان عن حقيقة الصلاة بعيد جدا ، فإنه مع الاغماض عن أن القراءة عبارة عن نفس الحركة لا عن الخصوصيات الواردة عليها نقول : بان ظاهر المنساق من العناوين المزبورة من نحو القيام والركوع والسجود هو كونها عبارة عن نفس الأكوان الخاصة دون الأوضاع الواردة ، عليها ، ومن ذلك أيضا لا يكتفي في القيام الواجب في الصلاة بصرف احداث هيئة القيام من دون وقوع ثقله على الأرض ونحوها في حال الاختيار فتأمل ، كبعد القول بان الغصب من مقولة الأين وانه عبارة عن اشغال المحل بالفعل لا الفعل الشاغل لمحل الغير فان الظاهر هو عدم فهم العرف من الغصب الأنفس التصرفات الشاغلة لا مجرد اشغال المحل بها كيف ومع الاغماض عن ذلك وتسليم كون الغصب عبارة عن نفس الحيطة على الشيء نقول : بأنه يكفينا حينئذ العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون اذنه ورضاه المعلوم انصرافه في الأذهان إلى نفس التصرفات الشاغلة حركة وسكونا من

ص: 430

جهة انطباق عنوان التصرف المنهي عنه في عموم عدم جواز التصرف حينئذ على نفس الأكوان الخاصة من القيام والقعود والركوع والسجود وحينئذ فإذا كانت الصلاة أيضا عبارة عن نفس الأكوان الخاصة غايته مقرونة ببعض الإضافات والنسبيات الاخر من الترتيب والموالاة ونشو كونها عن قصد الصلاتية ، فلا جرم تصير الصلاة والغصب من قبيل العنوانين المشتركين في بعض الجهة دون بعض ، من جهة اشتراكهما حينئذ في نفس الأكوان التي هي جهة واحدة ومقولة فاردة ، وفي مثله لابد كما عرفت من المصير إلى عدم الاجتماع بالنسبة إلى نفس الأكوان مع الالتزام بالجواز في الجهات الزائدة عن الأكوان من الخصوصيات والإضافات القائمة بها المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية.

على أن مجرد الالتزام بان الغصب من مقولة الأين مع الالتزام بان الصلاة من مقولة الفعل لا يجدي أيضا فيما هو المهم من تصحيح الصلاة ، فان الأكوان على ذلك تصير سببا للغصب المنهي عنه في عموم لايجوز التصرف في مال الغير الا باذنه فكانت محرمة حينئذ بالحرمة الغيرية ومع حرمتها تقع فاسدة من هذه الجهة من جهة اندراجها في باب النهى عن العبادة وان كان بينهما فرق من حيث تحقق ملاك الأمر والنهي في المقام دونه في ذلك المقام ، كما هو واضح. ولكن التحقيق في المقام هو ما عرفت من عدم خروج الأكوان عن حقيقة الصلاة ولا عن حقيقة الغصب وانه كما أن الصلاة عبارة عن الأكوان الخاصة بضميمة بعض الإضافات الخاصة كذلك الغصب أيضا حسب ما هو المنصرف منه لدى العرف من العمومات الناهية عن التصرف في مال الغير بدون رضاه عبارة عن نفس الافعال الشاغلة حركة وسكونا المنطبقة على الأكوان الخاصة فيكونان حينئذ مشتركين في نفس الأكوان التي هي جهة واحدة وحيثية فاردة وممتازين في الخصوصيات الزائدة من الإضافات الخاصة المقومة بعضها للصلاتية وبعضها للغصبية. ومقتضى ذلك هو لزوم المصير إلى عدم الجواز بالنسبة إلى نفس الأكوان التي هي جهة مشتركة بينهما في المجمع مع الجواز بالنسبة إلى الجهتين الزائدتين القائمتين بالأكوان المقومة إحديهما للصلاة والأخرى للغصب ، نعم لما كان المفروض حينئذ أهمية مفسدة الغصبية من مصلحة الصلاة باعتبار كونها من حقوق الناس فلا جرم يقع الأكوان الخاصة من القيام والركوع والسجود موردا لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية فتقع مبغوضا صرفا لا محبوبا ومعه تبطل الصلاة لا محالة لعدم المجال حينئذ للتقرب بها بايجادها.

ص: 431

اللّهم الا ان يقال حينئذ بأنه يكفي في تصحيحها التقرب بالجهات الزائدة عن الأكوان فيتقرب حينئذ بجعل الأكوان صلاة لان ما هو المبغوض حينئذ انما كان تلك الأكوان بعناوينها الأولية وبما هي قيام وركوع وسجود لا بما انها صلاة بهذا العنوان الطاري عليها الناشي من قصد الصلاتية بها. وحينئذ فبعد ان كانت هذه الخصوصيات القائمة بالأكوان موردا لتأثير المصلحة المهمة في المحبوبية الفعلية بمقتضى خلوها عن المزاحم فيها فلا جرم أمكن التقرب بحيثية كونها صلاة فيتقرب بحيثية صلاتية الأكوان لا بنفسها وإيجاد تمام حقيقة الصلاة ويكتفي أيضا في التقرب بمثلها في العبادة من دون احتياج في صحتها إلى التقرب بتمام حقيقتها كي يشكل من جهة مبغوضية نفس الأكوان ، ومع الشك في احتياج العبادة في القرب إلى أزيد من هذا المقدار فالأصل هو البراءة عن المقدار الزائد ، بناء على ما هو التحقيق من جريانها في الشك في أصل قربية العمل وتعبديته أو توصليته نعم بناء على مرجعية الاحتياط في أصل المسألة عند الشك في التعبدية والتوصلية بالتقريبات المذكورة في محله لابد من الاحتياط في المقام أيضا والمصير إلى عدم كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة ، هذا.

ولكن مع ذلك لا تخلوا لمسألة عن اشكال فان الظاهر هو تسالم الأصحاب على عدم كفاية القرب بالمقدار المزبور في صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها وحينئذ فإذا فرضنا مبغوضية الأكوان المزبورة من جهة أهمية مفسدة الغصب لكونه من حقوق الناس فلا جرم لايبقى مجال للتقرب بتمام حقيقة الصلاة فتفسد العبادة حينئذ لا محالة ، كما هو واضح ، نعم لو اغمض عن ذلك وقلنا بكفاية التقرب بحيثية صلاتية الأكوان والجهات الزائدة عنها لما كان مجال للاشكال عليه بان تلك الجهات الزائدة من الإضافات الخاصة المقومة للصلوتية والغصبية انما هي من الاعتباريات المحضة الخارجة عن حيز المصلحة والمفسدة وان ما هو مركب المصلحة والمفسدة انما هو الصادر الخارجي الذي هو نفس الكون ومعه يكون ما في الخارج مبغوضا محضا بتمامه لا ببعضه ، إذ يمكن دفعه بما عرفت في المقدمة الخامسة من عدم كون هذا النحو من الإضافات المقولية من قبيل الإضافات الاعتبارية المحضة التي لايكون لها واقعية بل هي بلحاظ خارجيتها في نفسها حينئذ كانت قابلة لان تكون مركب المصالح والمفاسد ضمنا أو استقلالا من غير فرق في ذلك بين ان نقول بحظ من الوجود لها أيضا كما قيل أم لا ، لأنها حينئذ كانت من قبيل

ص: 432

حدود وجود الشيء الذي بحده الخاص تقوم به المصالح والمفاسد ومعه لايبقى مجال الغائها عن التأثير في الصلاح والفساد بالمرة والحاقها بالأمور الاعتبارية المحضة التي لايكون لها واقعية في الخروج عن حيز الصلاح والفساد ، وحينئذ فلو لا الاجماع المزبور على عدم كفاية هذا المقدار من القرب من صحة العبادة واحتياجها إلى التقرب بتمام حقيقتها أمكن تصحيح العبادة بمقتضى القاعدة بالمقدار المزبور من القرب ، كما هو واضح.

وكيف كان فهذا كله في اجتماع الأمر والنهي وتميز موارد الجواز والامتناع على المسالك المزبورة.

وقد تلخص من جميع ما ذكرنا ان المختار هو جواز الاجتماع في فرض اختلاف العنوانين وتغايرهما بتمام المنشأ على نحو كان منشأ انتزاع كل عنوان بتمامه غير ما ينتزع عنه العنوان الاخر ، من غير فرق بين كون العنوانين من مقولتين كعناوين الأوصاف الحاكية عن الكم والكيف والأين أو من مقولة واحدة ، كان التركيب بينهما في المجمع اتحاديا أو انضماميا ، ومن غير فرق بين كون الامر كالنهي متعلقا بالطبيعة السارية أو بصرف وجودها ، ولا بين تعلق الامر بالعناوين والصور الذهنية أو بالمعنونات الخارجية ، ولا بين وقوف الطلب على نفس الطبيعي أو السراية إلى الافراد ، وعدم جواز الاجتماع فيما لم يكن تغاير العنوانين بهذا النحو سواء كان اختلافهما في صرف كيفية النظر دون المنظور ، أو كان اختلافهما في المنشأ وفى المنظور أيضا لكن لا بتمامه بل بجزء منه ، إذ حينئذ بالنسبة إلى الجهة المشتركة بينهما يتوجه محذور اجتماع الضدين وهما الحب والبغض في امر وحداني ، ولقد عرفت أيضا ان مثل الصلاة والغصب الذي هو معركة الآراء من هذا القبيل حيث إنه بعد عدم خروج الأكوان عن حقيقتهما كان اختلافهما في جزء المنشأ خاصة ، لا في تمامه كما هو مقتضي القول بخروج الأكوان عن حقيقة الغصب أو القول بخروجها عن حقيقة الصلاة بجعلها عبارة عن الأوضاع الواردة على الأكوان ، ولا كان اختلافهما أيضا بالاعتبار مع اتحادهما حقيقة في تمام المنشأ كما يظهر من الكفاية (1) من حيث عدة الصلاتية والغصبية من الاعتباريات الصرفة الخارجة عن حيز المصلحة والمفسدة هذا كله على مسلك مكثرية الجهات جوازا ومنعا.

ص: 433


1- ج 1 ص 249.

كما أنه على مسلك عدم سراية الامر من الطبيعي إلى الفرد كان المتجه هو المصير إلى الجواز في كل مورد كان الامر متعلقا بالطبيعي والجامع والنهى بفرد من افراده وان كان المبنى خلاف التحقيق ، كما مر بيانه وشرح السراية في المقدمة السابعة.

واما على المسلك اختلاف أنحاء حدود وجود الشيء الوحداني الجاري حتى في صورة وحدة عنوان المتعلق في الأمر والنهي كقوله : صل وقوله : لا تصل في الدار المغصوبة أو في الحمام فقد عرفت ان المختار على هذا المسلك أيضا هو الجواز في كل مورد كان المطلوب من الامر هو صرف الطبيعي والجامع دون الطبيعة السارية مع اقوائية المصلحة الجامعية من المفسدة التعيينية في الفرد والا فالمتجه هو عدم جواز الاجتماع ، ومن ذلك لايكاد يجدي هذا المسلك أيضا للجواز في مثال الغصب والصلاة الذي هو معركة الآراء وذلك انما هو من جهة ما يعلم من مذاق الشرع من أهمية مفسدة الغصب ولو من جهة كونه من حقوق الناس إذ حينئذ يخصص دائرة رجحان الطبيعي والجامع عقلا بما عدا هذا الفرد فيصير الفرد الغصبي بتمام حدوده مورد تأثير المفسدة الأهم التعيينية في المبغوضية الفعلية وهذا بخلافه في فرض أهمية مصلحة الجامع فإنه في هذا الفرض يكون التأثير للمصلحة الأهم فيمكن حينئذ الالتزام بجواز الاجتماع بالتفكيك بين أنحاء حدود الفرد المزبورة بالتقريب المتقدم.

بل وعلى هذا التقريب أيضا عرفت حل الاعضال في العبادات المكروهة أيضا ، حيث جمعنا بين صحة العبادة وبين ظهور النواهي المتعلقة بها في الكراهة المصطلحة بالالتزام بفعلية الكراهة في الفرد ولو ببعض حدوده مع الالتزام بصحة العبادة أيضا لمكان رجحانها ذاتا بمقدار يقتضي حفظ وجودها من قبل حدودها الطبيعي لا مطلقا حتى من قبل حدودها الشخصية ، ولكن مثل ذلك كما عرفت انما هو في العبادات المكروهة التي لها بدل كالصلاة في الحمام مثلا ، واما ما لا بدل لها منها كصوم يوم عاشورا والصلوات المبتدئة في الأوقات المخصوصة في أول طلوع الشمس وعند غروبها ونحو ذلك مما كان امره من قبيل الوجود الساري فلا يتم هذا التقريب ، إذ في مثل ذلك يقع التزاحم قهرا بين الأمر والنهي في الفرد بجميع حدوده ، ومن ذلك لابد فيها اما من صرف تلك النواهي عن ظاهرها إلى حيث ايقاع العبادة في الأوقات الخاصة ، نظير النهى عن ايقاع جوهر نفيس في مكان قذر ، فكان المبغوض حينئذ هو كينونة الصلاة في أوقات خاصة لأنفسها ، واما من حمل الكراهة

ص: 434

فيها على أقلية الثواب والرجحان ، وان كان المتعين هو الوجه الأول نظراً إلى عدم ملائمة أقلية الرجحان مع مداومة الأئمة علیهم السلام على الترك.

نعم هنا وجهان آخر ان تفصى بكل منهما في الكفاية (1) لدفع الاشكال : أحدهما دعوى قيام مصلحة أخرى أقوى على عنوان منطبق على الترك فكان رجحان تركها حينئذ لمكان ما في نفس الترك حينئذ من المصلحة الأهم بملاحظة ذاك العنوان المنطبق عليه وثانيهما دعوى قيام مصلحة أقوى على عنوان وجودي ملازم مع تركها ، فكان النهى عن ايجادها حينئذ في الحقيقة كناية عن الامر بذلك العنوان الملازم مع الترك ، حيث اكتفى في الامر به بالنهي عما هو نقيض ملزومه.

ولكن لايخفى ما في كلا الوجهين : اما الأول فلان مقتضى أرجحية الترك بعد فرض انطباق العنوان المزبور عليه واتحاده معه هو ان يكون نقيضه وهو الفعل بمقتضي اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن نقيضه مرجوحا فعليا ومع صيرورة الفعل الذي هو نقيض الترك مرجوحا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف المجال لصحة العبادة مع مرجوحيتها الفعلية؟ واما الثاني فلكونه مخالفا لما يقتضيه ظهور النهى من التعلق بنفس العمل لا بما يلازمه من امر آخر ، كما هو واضح.

بقى التنبيه على أمور

الامر الأول : لايخفى عليك انه لا اختصاص لنتيجة هذه المسألة بالعبادات بل كما انها تجرى في العبادات كك تجرى في المعاملات أيضا ، كما لو آجر نفسه على خياطة ثوب أو طحن حنطة بمعناهما المصدري فخاطه أو طحنها في مكان مغصوب حيث إنه تقع الخياطة وكذا الطحن بملاحظة كونهما أداء لحق الغير مأمورا بالايجاد ، وبملاحظة كونه غصبا وتصرفا في مال الغير بدون رضاه كان منهيا عن الايجاد. وحينئذ فبناء على جواز الاجتماع كان له ايجاد الخياطة والطحن في مكان مغصوب وباتيانه يقع العمل وفاء لعقد الإجارة نظراً إلى خروج محل الإجارة حينئذ عن المبغوضية وبقائه على ماليته فيصير حينئذ وفاء

ص: 435


1- ج 1 ص 256.

قهرا بعقد الإجارة ، نعم على ذلك لابد في صحة أصل الإجارة من وجود المندوحة من جهة انه بدون المندوحة لا قدرة له على الوفاء وهي شرط صحة الإجارة فمن ذلك يبطل الإجارة حينئذ لانتفاء شرط صحتها الذي هو القدرة على الوفاء ، ومن هذه الجهة يفرق العبادات عن المعاملات ، حيث إنه في العبادات لايحتاج إلى اعتبار قيد المندوحة الا من جهة رفع غائلة محذور التكليف بما لايطاق الذي هو غير مهم أيضا عند القائل بالجواز من جهة ما عرفت من أن المهم عنده انما هو محذور اجتماع الضدين الذي هو بنفسه من التكليف المحال ، بخلافه في المعاملات حيث إن الاحتياج إلى قيد المندوحة من جهة أصل صحة المعاملة. واما بناء على الامتناع وتغليب جانب النهى فحيث انه تسرى المبغوضية إلى الخياطة فقهرا تصير مبغوضة ومحرمة ومعه تخرج شرعا عن المالية فلا يصلح مثلها للوقوع وفاء بعقد الإجارة وحينئذ فلو كان المحل باقيا بعد ذلك فلا اشكال ، حيث يجب الاتيان بالخياطة في غير المكان المغصوب والا فيبطل الإجارة لعدم بقاء المحل للوفاء.

هذا إذا كانت الإجارة على نفس الخياطة والطحن بما انهما عمل له واما لو كانت الإجارة عليهما بما انهما نتيجة عمله وفعله ففي هذا الفرض صحت الإجارة مع المندوحة ويقع الطحن والخياطة أيضا وفاء للمعاملة بلا اشكال ، نظراً إلى عدم سراية المبغوضية حينئذ إليهما وبقائهما على ماليتهما لخروجهما حينئذ حقيقة عن فرض اجتماع الأمر والنهي في وجود واحد كما هو واضح.

الامر الثاني : قد عرفت سابقا ان المسألة كانت من صغريات باب التزاحم دون التعارض ولو على الامتناع ومن ذلك لابد من احراز الملاك والمقتضي لكل واحد من الحكمين على الاطلاق حتى في المجمع كي يحكم عليه على الجواز بكونه محكوما بحكمين من المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة ، وعلى الامتناع بأقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى والا فبحكم آخر غيرهما مثلا. ولقد عرفت أيضا بيان الفرق بين باب التزاحم والتعارض وان المدار في باب التزاحم انما هو على تزاحم الملاكين في مقام التأثير في الرجحان والمرجوحية أو في عالم الوجود ومرحلة فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين وجودا ، ومنه باب الاجتماع بناء على الجواز خصوصا مع عدم المندوحة ، لا على تزاحم الحكمين في مقام الامتثال كما توهم والا فكما عرفت لايكاد ينتهى النوبة إلى مقام تزاحم الحكمين حتى في المتضادين اللذين يلازم امتثال أحدهما عصيان الآخر الا على فرض

ص: 436

جعل القدرة من شرائط تنجز التكليف لا من شرائط أصل التكليف وفعليته ، والا فعلى فرض كونها من شرائط أصل التكليف وفعليته كما هو التحقيق لايكاد يكون مجال لوقوع المزاحمة بين الحكمين الفعليين حتى في المتضادين وجودا من جهة وضوح استحالة تشريع الحكمين حينئذ على الاطلاق في المتضادين ، نظير امتناع تشريع اطلاق الحكمين في مجمع العامين من وجه فلابد على هذا الملاك حينئذ من ادراج جميع هذه الموارد في باب التعارض مع أنه كما ترى. وحينئذ فلا محيص من الالتزام بما ذكرناه من المعيار بجعل المناط في باب التزاحم على تزاحم الملاكين من المفسدة والمصلحة في عالم التأثير في ايراث الحب والبغض كما في باب الاجتماع على الامتناع ، أو تزاحمهما في عالم الوجود ومقام فعلية الإرادة والكراهة كما في المتضادين وجودا ، ومنه باب الاجتماع على الجواز ، وان كان الحكم الفعلي دائما على طبق أحد الملاكين في قبال باب التعارض الذي ملاكه تكاذب الدليلين في مرحلة أصل الاقتضاء.

وعليه فكل مورد أحرز ولو من الخارج وجود الملاك والمقتضي لكل واحد من الحكمين كان ذلك من باب التزاحم الذي من لوازمه هو الاخذ بما هو الأقوى والاهم منهما ملاكا وان كان أضعف سندا من الآخر نعم يخرج عن ذلك صورة إناطة المصلحة في قيامها بالشيء بعدم تأثير المفسدة في المرجوحية ، كما في كلية التكاليف المشروطة بالقدرة شرعا عند مزاحمتها مع ما لايكون القدرة فيه الا شرطا عقليا ، كما في الحج الواجب في فرض انحصار المركوب بالدابة المغصوبة مثلا حيث إنه في هذا القسم لا يلاحظ جهة اقوائية المفسدة في مقام تقديمها على المصلحة ، بل حينئذ يقدم المفسدة على المصلحة في مقام التأثير في المرجوحية الفعلية ولو كانت أضعف بمراتب من المصلحة ، وذلك من جهة استحالة مزاحمة المصلحة التعليقية مع المفسدة التنجيزية ، لان مانعيتها دورية فتبقى المفسدة المزبورة في رتبة تأثيرها بلا مزاحم فتؤثر في المبغوضية ولو كانت في أدنى درجة الضعف وكانت المصلحة في أعلى درجة القوة وحينئذ فينحصر باب التمانع الذي يكون جهة تأثير كل من الملاكين تابع الأهمية والأقوائية بما عدا تلك الصورة ، كما هو واضح.

كما أن كل مورد لم يحرز وجود المقتضي والملاك لكل من الحكمين كان من باب التعارض الذي من حكمه هو الرجوع بعد العجز عن الجمع بينهما إلى المرجحات السندية.

ثم انه بعد ما اتضح لك ما هو كبرى المسألة وتميز ثبوتا عن كبرى باب التعارض

ص: 437

يبقى الكلام في تشخيص صغريات باب التزاحم عن صغريات باب التعارض ، وان مقتضي ظهور الخطابين عند عدم قيام قرينة قطعية من اجماع أو غيره على وجود الملاكين في المجمع هل هو كونه من باب التزاحم مطلقا؟ أو من باب التعارض كك؟ أو يفصل بين صورة تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه وبين صورة وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه؟ كما في اكرام العالم والهاشمي فيما لو تعلق الامر مثلا باكرام العالم والنهى باكرام الهاشمي.

فنقول : اما فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه حقيقة كالغصب والصلاة قضية اطلاق الخطابين حينئذ الكاشف عن وجود الملاك والمصلحة في موضوعيهما على الاطلاق حتى في المجمع بل وفي حال العجز عن موضوعهما وجدانا أيضا ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في كلية الخطابات. ومن ذلك أيضا ترى بنائهم على كشف قيام المصلحة بمتعلق التكاليف على الاطلاق حتى في حال العجز عن امتثالها من مثل تلك الخطابات مع الجزم باختصاص فعلية التكليف بحال القدرة ، من غير تخصيص للمصلحة أيضا بحالها الا في فرض اخذ القدرة أيضا قيدا في حيز الخطاب كما في الحج ، وحينئذ فإذا كان قضية اطلاق الخطابين هو الكشف عن وجود الملاك في موضوعهما على الاطلاق حتى في المجمع ، فقهرا يندرج في باب التزاحم الذي من حكمه هو الاخذ بأقوى الملاكين منهما.

نعم هنا اشكال معروف وهو ان طريق كشف المصلحة في المتعلق انما كان حيث ظهور الخطاب في فعلية التكليف والا فلا دلالة له على وجود المصلحة في المتعلق أو قيام الرجحان به في قبال دلالته على فعلية التكليف ، وحينئذ فإذا فرض سقوط دلالته على فعلية التكليف بمقتضي حكم العقل بتخصيص فعلية التكليف بحال القدرة وعدم العجز فلا جرم مع سقوط دلالته هذه لايبقى مجال الكشف عن قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق حتى في حال العجز وعدم القدرة ، ومعه أين الطريق بعد لكشف المناط والمصلحة في المتعلق على الاطلاق؟ ولكن يدفع هذا الاشكال بأنه انما يتم ذلك فيما لو كان حكم العقل باشتراط القدرة في الارتكاز بمثابة يكون من القرائن الحافة بالكلام الكاسرة لظهور اللفظ نظير قرينة الحكمة فإنه حينئذ كما أفيد لايبقى مجال الكشف عن وجود الملاك والمصلحة من اطلاق الخطاب ، لان دلالة الخطاب والهيئة على قيام المصلحة في المتعلق لما كانت بالالتزام كانت فرع دلالته على فعلية التكليف وبعد سقوط دلالته

ص: 438

على فعلية التكليف بمقتضي القرينة العقلية فقهرا لايبقى له الدلالة على قيام المصلحة أيضا الا في حال القدر ، ولكن ذلك في محل المنع جدا ، بل نقول : بأنه من قبيل القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لظهور اللفظ وان ما نعيته انما هو عن حجيته لا عن أصل ظهوره ، وعليه نقول : بان القدر الممنوع بحكم العقل حينئذ انما هو حجية الخطاب بهيئته في فعلية التكليف في حال العجز وعدم القدرة ، فيبقى ظهوره في الدلالة على قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق على حاله ، فيؤخذ بظهوره ذلك ويحكم بوجود الملاك في متعلق الخطابين على الاطلاق حتى في المجمع ، من دون احتياج حينئذ إلى التشبث باطلاق المادة والمتعلق لكشف المصلحة حتى في حال العجز عن الامتثال كي يقال بان المادة بعد ما اخذت موضوعة للهيأة في الخطاب فمقتضى طبع الموضوعية هو كونها سعة وضيقا بمقدار سعة الهيأة وضيقها ، وحينئذ فمع تضيق دائرة الهيأة واختصاصها بحال القدرة وعدم العجز لايكون للمادة سعة اطلاق في قبال الهيأة العارضة لها حتى يتشبث باطلاقها ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة مقايسة هذا الحكم العقلي في المقام بمثل قرينة الحكمة التي هي من الارتكازيات في مقام المخاطبات في كونها موجبة لانصراف الهيأة إلى صورة القدرة وعدم العجز وذلك فان قرينة الحكمة بملاحظة كونها من شؤون اللفظ في مقام المخاطبات تعد من قبيل القرائن اللفظية الحافة بالكلام ، وهذا بخلافه في حكم العقل باشتراط القدرة في فعلية التكليف ، حيث إنه لايكون بمثابة قرينة الحكمة حتى يكون ذلك أيضا من شؤون الألفاظ كالحكمة ، بل ولا كان في الارتكاز أيضا بمثابة لايحتاج إلى تأمل من العقل حتى يعد بذلك من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة ، بل هو من جهة احتياجه إلى نحو تأمل من العقل يكون من القرائن المنفصلة الغير المانعة الا عن حجية الظهور لا عن أصل الظهور ، وعليه فبعد عدم انثلام ظهور الهيأة بمقتضي حكم العقل باشتراط القدرة في التكليف الفعلي فلا محالة يؤخذ بظهورها في الدلالة على قيام المصلحة في المتعلق على الاطلاق حتى في حال العجز.

هذا كله فيما لو تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، ومثله بل أوضح منه ما لو تباينا وجودا أيضا مع تلازمهما خارجا فإنه أيضا مندرج في باب التزاحم بالبيان المزبور.

واما لو اتحد عنوان المأمور به والمنهى عنه كاكرام العالم والهاشمي حيث كان متعلق الأمر والنهي عنوانا واحدا وهو الاكرام فمقتضى ما ذكرنا وان كان هو اعمال قواعد

ص: 439

التزاحم فيه أيضا الا ان ظاهر الأصحاب في مثله على اعمال قواعد التعارض ، ولعل النكتة في الفرق بين الفرضين هو ان في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه لايكون العقل مانعا بدوا عن فعلية التكليف بالعنوانين بل وانما الممنوع فيه هو فعلية التكليفين في ظرف التطبيق في المجمع ، حيث يرى بعد التطبيق كونهما من التكليف بما لايطاق ، فمن ذلك يخرج عن كونه من القرائن الحافة الكاسرة لظهور الهيأة. وهذا بخلافه في صورة وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه كما في العامين من وجه كاكرام العالم والهاشمي فإنه في هذا الفرض يكون العقل بدوا مانعا عن فعلية التكليفين بعنوان وحداني وعن اجتماع المحبوبية والمبغوضية فيه ، إذ يرى كون أصل التكليف به بالفعل تارة وبالترك أخرى من التناقض ، ومن هذه الجهة يكون من قبيل القرائن المتصلة الحافة ، فيوجب كسر صولة ظهور الخطابين في الفعلية ، ومعلوم انه مع انثلام الظهور المزبور لايبقى مجال كشف المناطين فيه ، فمن ذلك لابد فيه من اعمال قواعد التعارض ، إذ يكفي في اجراء قواعد التعارض فيه مجرد عدم احراز كونه من باب التزاحم كما هو واضح ، هذا.

وقد يوجه نكتة الفرق بين الفرضين بوجه آخر وحاصله : دعوى ان اعمال قواعد التعارض في فرض وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه انما هو من جهة ما يقتضيه العقد السلبي في كل من الخطابين ، بتقريب ان كل واحد من الخطابين في الفرض المزبور كما يكشف عن وجود مناطه فيه أي في متعلقه كك يكشف عن عدم وجود مناط آخر فيه غير مناطه ، وحينئذ فحيث ان متعلق الخطابين عنوان واحد فقهرا يقع التكاذب بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي في الخطاب الآخر بنحو يوجب تقديم كل خطاب الغاء الآخر بالمرة حتى من جهة دلالته على وجود مناط فيه ، فمن ذلك لابد فيه من اعمال قواعد التعارض بينهما ، وهذا بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، فإنه في هذا الفرض لا ينتهى النوبة إلى مقام معارضة الخطابين حيث لايقتضي تقديم شيء من الخطابين حينئذ الغاء الآخر عن الدلالة على وجود المناط في متعلقه بوجه أصلا ، فمن هذه الجهة يؤخذ بظهور كل من الخطابين في الدلالة على وجود الملاك والمصلحة في متعلقه حتى في المجمع ويجري عليه بعد ذلك قواعد باب التزاحم ، هذا.

ولكن يمكن الخدشة في هذا التقريب بمنع التنافي بين الخطابين في فرض وحدة عنوان المأمور به والمنهى عنه أيضا وذلك من جهة امكان ان يكون الشيء الوحداني

ص: 440

بجهتين تعليليتين واجدا للمصلحة والمفسدة ، فيكون ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة أخرى ، وأمثلته كثيرة جدا ، ومعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك ثبوتا لايبقى مجال دعوى العقد السلبي للخطابين حتى ينتهى الامر إلى معارضته مع العقد الايجابي في الآخر. وحينئذ فالعمدة في الفرق بين الفرضين هو ما ذكرنا من كون منع العقل بدويا في فرض وحدة عنوان لمأمور به والمنهى عنه بخلافه في فرض تعدد عنوان المأمور به والمنهى عنه ، فان منعه انما يكون بملاحظة مقام تطبيق العنوانين على المجمع الوحداني لا ان منعه يكون بدويا كما في الفرض الأول.

وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا في العامين من وجه مع وحدة عنوان المأمور به ظهر لك الحال في صورة الامر بالمطلق والنهى عن المقيد كقوله : صل ، وقوله : لا تصل في الدار المغصوبة ، حيث إنه ثبوتا وان أمكن كونه من باب التزاحم الا انه اثباتا لابد فيه من اعمال قواعد التعارض نظراً إلى كشف دليل الخاص حينئذ في فرض اقوائية عن تضيق دائرة التكليف في طرف العام بغير المقيد بجميع مراتبه ، فتدبر.

واما لوازم البابين : فمنها كما عرفت هو الرجوع في باب التعارض بعد الياس عن الجمع إلى قواعد التعادل والترجيح بخلافه على التزاحم فإنه فيه لابد من ملاحظة ما هو الأهم مصلحة كانت أو مفسدة فيقدم الأقوى ملاكا على غيره وان أضعف سندا من غير أن يلاحظ فيه جهة اقوائية السند بل ولا الدلالة أيضا الا إذا فرض كون الأقوى دلالة أقوى ملاكا أيضا فيقدم حينئذ ما هو الأقوى دلالة على غيره لمكان كشف قوة دلالته حينئذ عن قوة ملاكه ، فتدبر.

ومن لوازم التعارض والتخصيص أيضا هو عدم قيام المصلحة واقعا الا بالمقيد ويتبعه أيضا فساد العمل الفاقد لقيد واقعا من دون إناطة بالعلم بالمصلحة أو الجهل بها ، بخلافه على التزاحم فان من لوازمه قيام المصلحة واقعا بنفس المطلق وان كان حكمه الفعلي مقيدا بعدم وجود المزاحم الأهم ، ومن لوازم هذا المعنى هو عدم تبعية الفساد واقعا مدار فقد قيد الحكم الفعلي بل يكون تبعيته حينئذ مدار العلم به وعدمه ، فمع الجهل يكون المأتى به صحيحا واقعا من جهة وجدانه لما هو الملاك والمصلحة ووفائه بغرض المولى ، ومن ذلك أيضا بنوا في مثل الغصب والصلاة ولو على الامتناع وتغليب النهى على صحة العبادة مع الجهل بالغصبية مطلقا أو الجهل بالحرمة إذا كان عن قصور ، ومعلوم انه لايكون ذلك

ص: 441

الا من جهة واجدية المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة إذا المانع عن صحته حينئذ انما كان هو فعلية نهيه وتنجزه عليه وتأثيره في مبعدية الفاعل وبعد فرض معذورية المكلف من جهة جهله يقع العمل صحيحا قهرا.

لايقال : هذا كك في غير العبادات واما فيها فبملاحظة احتياج صحتها إلى قصد القربة المنوط بوجود الامر الفعلي القائم بالعمل المأتي به بداعية ومحبوبيته فلا يتم ذلك حتى في ظرف الجهل المزبور ، وذلك لان الجهل المزبور حينئذ غير رافع لتأثير المفسدة الأهم في المبغوضية الفعلية ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة في رجحان العمل ومحبوبيته وفعلية الامر المتعلق به ، ومعه فأين امر فعلي قائم بالمأتى به يوجب التقرب به كي يصير العمل لأجله صحيحا؟ ففي الحقيقة تمام المنشأ للفساد حينئذ انما هو من جهة انتفاء مقتضي الصحة وهو التقرب لا من جهة وجود المانع وهو فعلية النهى وتنجزه حتى يقال : بأنه في ظرف الجهل المزبور لا تأثير للنهي في المنجزية ومبعدية الفاعل عن ساحة القرب إلى المبدء الاعلى عز شانه.

فإنه يقال : نعم ان ذات العمل حينئذ وان كان مبغوضا فعلا بمقتضي تأثير المفسدة الأهم ومع هذه الجهة من التأثير لايبقى مجال تأثير المصلحة المهمة المغلوبة فيه في المحبوبية الفعلية ، الا انه نقول : بأنه لا باس حينئذ في تأثير المصلحة المهمة في حسنه من حيث صدوره عن الفاعل ، إذا المانع عن تأثيره في حسنه حتى من حيث صدوره عن الفاعل انما كان هو حيث تنجز نهيه وبعد سقوط تنجزه لمكان جهله فقهرا تؤثر المصلحة في حسنه من تلك الجهة ويتبعه أيضا الامر الفعلي فيتقرب حينئذ بداعي امره ولو من حيث إضافة صدوره إلى الفاعل. ولئن خودش فيه أيضا بامتناع موردية العمل ولو بلحاظ إضافة صدوره إلى الفاعل لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية الفعلية مع كونه مبغوضا بالبغض الفعلي بمقتضي تأثير المفسدة الأهم الغالبة ، نظراً إلى استلزامه لاجتماع الضدين فيه من المحبوبية والمبغوضية بملاحظة اتحاد الوجود والايجاد حقيقة ، وان ما هو الصالح لان يكون موردا لتأثير المصلحة في الرجحان والمحبوبية انما هو حيث إضافة العمل إلى الفاعل فقط مع خروج المضاف عن مورديته لتأثير المصلحة ، ومثل هذا المقدار غير واف بالتقرب المعتبر في صحة العبادة من جهة ان ظاهرهم هو احتياج العبادة في صحتها إلى التقرب بذات العمل لا بحيث اضافته إلى الفاعل ، نقول : بأنه نمنع توقف القرب على فعلية الامر بالمأتى به و

ص: 442

رجحانه الفعلي ، إذ نقول بان من أنحاء القرب أيضا اتيان العمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى. ومن المعلوم حينئذ ان مثل هذا المعنى مما يتمشى من المكلف حتى مع الجزم بعدم الامر الفعلي بل ومع الجزم بكونه مبغوضا فعلا ما لم يكن العمل مبعدا له ، كما في المضطر بالغصب لا عن سوء الاختيار ، وحينئذ فإذا اتى بالعمل في ظرف الجهل المزبور بداعي التوصل به إلى غرض المولى وكان العمل أيضا من جهة وجدانه للمصلحة وافيا بغرض المولى فقهرا بنفس اتيانه بالقيد المزبور يتحقق القرب ويصح منه العبادة. مع أنه على فرض الاحتياج إلى الامر الفعلي أيضا نقول : بأنه بعد احتمال فعلية الامر ومطلوبيته يكفي في التقرب بالعمل اتيانه برجاء كونه مأمورا به بالايجاد من دون احتياج إلى الجزم بالامر أصلا ، كما هو واضح. هذا في الجهل البسيط.

واما في مورد الجهل المركب فيكفي أيضا في الداعوية وفي تحقق القرب اعتقاد الامر الفعلي وان لم يكن في الواقع امر أصلا فان ماله الدخل بتمامه في الداعوية والمحركية انما كان هو العلم بالامر لا هو بوجوده الواقعي ، وحينئذ فإذا علم بالامر وجدانا أو تعبدا لقيام امارة عليه كان علمه ذلك تمام العلة لتحقق الدعوة ، ومع اتيانه بالعمل بداعية يتحقق القرب المتوقف عليه صحة العبادة قهرا ، من جهة تحقق ما هو علته وهي الدعوة ، فيترتب عليه حينئذ صحة العبادة وان لم يكن هناك امر فعلي متعلق بالعمل في الواقع.

لايقال : كيف ذلك مع أنه خلاف ما بنوا عليه من احتياج العبادة في صحتها إلى قيام الامر الفعلي بها في الواقع كما يشهد عليه حكمهم بفساد العبادة عند خلوها عن الامر واقعا.

فإنه يقال : كلا ، وان اعتبارهم لوجود الامر انما هو باعتبار كشفه عن وجود المصلحة في متعلقه وبلوغه إلى مرحلة الوفاء بالغرض الفعلي نظراً إلى عدم طريق آخر إلى كشف المناط والمصلحة فيه الا امره وبعثه لا من جهة دخله في التقرب المعتبر في صحة العبادة ، كما هو واضح.

الامر الثالث في الاضطرار إلى الغصب فنقول : الاضطرار إلى الغصب تارة يكون لا عن سوء اختيار وأخرى يكون عن سوء اختياره ، وعلى التقديرين تارة يقطع بزوال العذر قبل خروج الوقت وأخرى يقطع ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت وثالثة يشك في ذلك ، وعلى التقادير تارة يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض وأخرى يكون الغصب

ص: 443

هو خصوص الأرض دون الفضاء وثالثة بالعكس ، فهذه صور متصورة في الاضطرار إلى الغصب ، وبعد ذلك نقول :

اما الصورة الأولى وهي ما لو كان الاضطرار إلى الغصب لا عن سوء اختياره ، فبناء على جواز الاجتماع لا اشكال ، حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط مطلقا ، سواء فيه بين علمه ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت أو علمه بزواله قبل خروج الوقت ، وسواء فيه بين كون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ،

واما على الامتناع وتقديم جانب النهى ولو لكونه من حقوق الناس فان كان الغصب مجموع الأرض والفضاء وقد علم أيضا ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا حيث إن له حينئذ الاتيان بالصلاة في الغصب بما لها من الاجزاء والشرائط نظراً إلى معلومية عدم استلزام صلاته حينئذ لزيادة تصرف في الغصب غير ما اضطر إليه وهذا واضح بعد وضوح عدم التفاوت في شاغليته للمكان بين حالة سكونه وحركته وقيامه وقعوده ، نعم قد يناقش في المقام أيضا في أصل صحة الصلاة بنحو ما مر في صورة الجهل بالغصبية ولكنك عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه هذا إذا كان الغصب هو مجموع الفضاء والأرض.

واما لو كان الغصب هو خصوص الأرض دون الفضاء فمقتضى القاعدة في هذا الفرض هو تقليل الغصب مهما أمكن ولازمه هو وجوب الاتيان بالصلاة حينئذ قائما موميا لسجوده نظراً إلى ما يلزم من وضع جبهته على الأرض من الغصب الزائد ، بل ذلك أيضا هو الذي يقتضيه الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، بل ولولا استلزام العسر والحرج لكان اللازم هو الاقتصار في قيامه على رجل واحد من جهة كونه أقل تصرفا من القيام على رجلين.

ومن ذلك ظهر الحال في فرض كون الغصب هو خصوص الفضاء دون الأرض حيث إن اللازم بمقتضي القاعدة هو وجوب الاتيان بصلاته مستلقيا على ظهره جمعا بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين عموم حرمة التصرف في مال الغير ، هذا.

ولكن ظاهر الأصحاب رضوان اللّه عليهم هو وجوب الاتيان بصلاة المختار عند كون الاضطرار لا عن سوء اختياره حيث إن ظاهرهم هو عدم الفرق بين فرض كون الغصب

ص: 444

مجموع الفضاء والأرض وبين كونه خصوص الأرض أو الفضاء وان له في جميع الفروض المزبورة الاتيان بالصلاة التامة الاجزاء والشرائط من القيام والركوع والسجود والتشهد ، ولعل ذلك منهم لمكان قيام السيرة على كونه مختارا حينئذ في قيامه وقعوده واضطجاعه واستلقائه خصوصا مع ما يلزم من العسر والحرج من بقائه على كيفية واحدة من القيام أو القعود ، كما أنه يشهد لذلك أيضا خلو كلمات الأصحاب عن التعرض حينئذ لمقدار الجائز من الحركات والسكنات والا لكان اللازم عليهم الغرض لذلك وبيان مقدار الجائز من الحركات والسكنات ، خصوصا في فرض كون الغصب هو الأرض خاصة دون الفضاء أو العكس ، هذا. ولكن مع ذلك في غير صورة الحرجية يشكل الحكم بجواز الاتيان بصلاة المختار حتى في فرض غصبية الأرض وإباحة المكان في قبال عموم حرمة التصرف في مال الغير ، خصوصا مع امكان حمل كلامهم على ما هو الغالب من فرض غصبية الأرض والفضاء معا ، كامكان منع قيام السيرة أيضا على الاطلاق على كونه مختارا في الحركات والسكنات حتى في غير صورة الحرجية ، فتأمل. ثم إن هذا كله في فرض العلم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت.

واما لو فرض علمه بزوال اضطراره قبل خروج الوقت وتمكنه من الاتيان بالصلاة في مكان مباح ففي جواز بداره بالصلاة حينئذ والاكتفاء بها وعدم جوازه اشكال ، أقواه العدم ، نظراً إلى تمكنه حينئذ من الاتيان بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط في غير الغصب. نعم في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض لا باس بجواز بداره واتيانه بصلاة المختار قاصدا التقرب به بقصد التوصل به إلى غرض المولى بناء على كفاية ذلك في القرب المعتبر في العبادة ، وهذا بخلافه في فرض غصبية خصوص الأرض أو الفضاء حيث إنه حينئذ لا مجال لاتيانه بصلاة المختار في مكان مغصوب ، لما عرفت من استلزامه لازدياد التصرف في مال الغير. واما الاجماع المدعى سابقا فغير جار في الفرض أيضا من جهة اختصاصه بفرض عدم تمكنه من الاتيان بالصلاة في غير الغصب ، ولا أقل من كونه هو القدر المتيقن منه فيبقى الفرض تحت القواعد التي مقتضاها وجوب الاتيان مهما أمكن بصلاة المختار التامة الاجزاء والشرائط ، وحينئذ فإذا فرض عدم تمكنه من الاتيان بصلاة المختار في الغصب يجب عليه الصبر والآتيان بها في غير الغصب.

بل ومن ذلك البيان ظهر الاشكال في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض أيضا

ص: 445

بناء على عدم كفاية مجرد الاتيان بالعمل بقصد التوصل به إلى غرض المولى في القرب المعتبر في العبادة واحتياجه إلى التقرب بالعمل بقصد الامر الفعلي أو رجحانه الفعلي ، إذ حينئذ من جهة خروج الأكوان عن دائرة المحبوبية بمقتضى أهمية مفسدة الغصب لايكاد تمكنه من التقرب بتمام العمل فمن ذلك لابد له من الصبر إلى أن يزول اضطراره فيتمكن من التقرب بالعمل بداعي امره ورجحانه الفعلي ، كما هو واضح.

واما صورة الشك في زوال اضطراره قبل الوقت فيلحق بالعلم ببقائه إلى آخر الوقت بمقتضي الاستصحاب فيما لو كان اضطراره الموجب لسقوط التكليف عنه شرعيا بمقتضي حديث الرفع لا عقليا محضا ، والا فلا مجال للاستصحاب لانتفاء الأثر الشرعي حينئذ ، كما هو واضح.

بقى الكلام فيما لو تمكن من الخروج وقد كان الوقت مضيقا أيضا بنحو لا يتمكن من ايجاد الصلاة في خارج الغصب في أنه هل يجب عليه الاتيان بصلاته حينئذ في حال الخروج بحيث لو ترك الخروج واتى بصلاته في حال استقراره تبطل صلاته ، أو لا ، بل كان له الاتيان بصلاته أيضا في غير حال الخروج وان اثم بتركه للخروج بملاحظة ما يترتب عليه من الغصب الزائد عن المقدار المضطر إليه؟ فيه وجهان : أقربه الثاني ، وذلك انما هو لوجود المقتضي لصحة صلاته وانتفاء المانع ، اما الأول فواضح من جهة فرض وجدان المأتي به حينئذ للملاك والمصلحة ، واما الثاني فكك أيضا إذ المانع المتصور حينئذ لايكون الا فعلية نهيه وتنجزه وهو بالفرض ساقط حسب اضطراره في تلك الساعة سواء على تقدير اختيار الخروج في تلك الساعة أو البقاء في الغصب ، وبالجملة نقول بأنه بعد اضطراره في تلك الساعة إلى ارتكاب الغصب وعدم التفاوت في شاغليته للمكان في تلك الساعة بين حال سكونه وبقائه وبين حال حركته وخروجه كان له اختيار البقاء في تلك الساعة وجعل كونه كونا صلاتيا. نعم في فرض اختيار البقاء يلازم بقائه فيه الغصب الزائد في الساعة الثانية ، ولكن مجرد ذلك غير مقتض للنهي عن كونه البقائي في الساعة الأولى كي يقع بذلك مبعدا له ، الا على القول باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده :

واما توهم مقدمية البقاء حينئذ لارتكاب الغصب الزائد فمدفوع بمنع المقدمية فان البقاء انما هو ملازم للغصب الزائد بلحاظ المضادة بين الكونين أي الكون في الغصب

ص: 446

والكون في خارجه لا انه مقدمة له ، وعليه فلايكون استتباع البقاء للغصب الزائد الا بصرف الملازمة الخارجية ، وإذا فرضنا حينئذ عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وملازمه فقهرا لا يقع الكون البقائي منه حراما ولا مبعدا له.

واما توهم ان البقاء وان لم يكن مقدمة للغصب الزائد الا ان له نحو تقدم عليه ولو ذاتا نظير تقدم حدوث الشيء على بقائه وهذا المقدار كان يكفي في المقدمية وفي نيل العقل الحرمة بالنسبة إليه ، فمدفوع بأنه لو سلم ذلك نمنع كفايته في ترشح الحرمة إليه حيث لا عموم لكبري الملازمة يعم مطلق ما هو مقدم على الشيء ولولا يكون من علل وجوده.

وعليه فلا مانع عن صحة صلاته فيما لو ترك الخروج واتى بالصلاة في حال الاستقرار وان اثم على ما يلزمه من الغصب الزائد في الساعة الثانية.

اللّهم الا ان يمنع عما ذكرنا بالمنع عن أصل جواز تطبيق اضطراره على الكون البقائي ، بدعوى انه انما يكون له الخيار في تطبيق اضطراره على أي فرد شاء فيما لم يكن هناك ما يقتضي تعين تطبيقه على فرد خاص والا فلا مجال لتطبيقه الا على ما تعين تطبيقه عليه ، وفى المقام حيث ما كان يستتبع الكون البقائي لازدياد الغصب فقهرا مثل هذا المعنى موجب لترجيح الكون الخروجي عليه بحكم العقل ومعه يتعين تطبيق اضطراره عليه لا على الكون البقائي ، ولكنه أيضا مدفوع ، بان مجرد وجوب اختيار الكون الخروجي بحكم العقل أيضا غير موجب لحرمة ضده الذي هو الكون البقائي بل ولا لكونه أزيد مفسدة من غيره كي يقال بلزوم ترك ما فيه المفسدة الزائدة ، نعم غاية ما هناك ان يستتبع البقاء ارتكاب الغصب في الساعة الأخرى وهو أيضا على ما عرفت غير موجب لكونه بقائه وسكونه أزيد مفسدة من خروجه ، كما هو واضح.

وكيف كان فهذا كله فيما لو كان اضطراره إلى الغصب لا عن سوء اختياره.

واما لو كان اضطراره عن سوء اختياره كما لو دخل ارض الغير من غير رضاه فتعذر عليه الخروج ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة :

ففيما لو علم بزوال اضطراره قبل خروج الوقت بحيث يتمكن من اتيان الصلاة في غير الغصب فلا اشكال ، حيث إنه يتعين عليه الاتيان بالصلاة في خارج الغصب ولايجوز له البدار بالصلاة في الغصب ، بل ولئن صلى فيه كانت صلاته فاسدة ، بملاحظة مبغوضية الأكوان ومبعديتها له من جهة تنجز النهى السابق ، من غير فرق في ذلك بين ان

ص: 447

يكون الغصب مجموع الفضاء والأرض أو كان الغصب خصوص الفضاء دون الأرض أو بالعكس.

كما أنه لو علم ببقاء اضطراره إلى آخر الوقت فلا اشكال أيضا في وجوب الصلاة عليه في الغصب بمقتضي ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال.

وانما الكلام في أن صلاته حينئذ هل هي صلاة المختار التامة المشتملة على الركوع والسجود والقيام والقرائة أو ان تكليفه حينئذ هو صلاة الغرقي بإشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض؟ فنقول : قد يقال حينئذ بالثاني نظراً إلى دعوى كونه مقتضى الجمع بين ما دل على أن الصلاة لا تترك بحال وبين ما دل على حرمة التصرف في مال الغير ، فان مقتضي عموم حرمة التصرف في مال الغير حينئذ هو خروج الأكوان عن الجزئية ومقتضاه هو انتهاء صلاته إلى إشارات قلبية كما في صلاة الغريق بناء على كون قرائته أيضا تصرفا في الغصب ، ولكن نقول بأنه حسن جدا لولا قيام الشهرة على خلافه ، حيث إن ظاهر الأصحاب هو كون تكليفه حينئذ هي الصلاة التامة للمختار المشتملة على القيام والركوع والسجود والقرائة خصوصا في فرض كون الغصب مجموع الفضاء والأرض. ولعل ذلك منهم من جهة دعوى خروج هذا الكون البقائي حينئذ من الأول عن تحت النهى ، بتقريب ان ما يجب عليه اختياره الموجب لتنجز نهيه من الأول انما هو ترك الغصب بترك الدخول فيه لأنه هو الذي كان مقدورا له ، واما تركه من غير جهة ترك الدخول كالطيران إلى السماء في ظرف الدخول فحيث انه كان مضطرا إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فلايكون منهيا عنه من جهة ان النهى انما يتعلق بما هو تحت قدرة المكلف واختياره لا بما هو خارج عن تحت قدرته واختياره ، ومن هذه الجهة أيضا قلنا سابقا بأنه إذا كان للشيء حدود بالإضافة إلى مقدماته وعدم اضداده لايكاد يصح توجيه التكليف إليه بالايجاد أو الترك على الاطلاق بنحو يقتضي حفظ الوجود من جميع الجهات ومن ناحية جميع المقدمات والأضداد الا في فرض تمكنه من الحفظ من جميع الجهات ، والا فمع خروج بعض المقدمات أو الأضداد عن تحت قدرته لايكاد يكون التكليف بالايجاد بالنسبة إليه الا تكليفا ناقصا يوجب الحفظ من ناحية ما هو تحت قدرته واختياره في ظرف انحفاظه من قبل الأمور الخارجة عن تحت الاختيار. وعلى ذلك يقال في المقام بأنه بعد أن كان للغصب نحو ان من الترك أحدهما الترك بترك الدخول فيه

ص: 448

وثانيهما تركه من غير جهة الدخول كالطيران في السماء في ظرف الدخول وكان الثاني مما اضطر إليه من الأزل في علم الباري عز اسمه فقهرا ما هو المنهى عنه لايكون الا ذاك النحو من الترك الاختياري والا فالترك الآخر من جهة اضطراره إليه أزلا لايكون منهيا عنه أصلا وحينئذ فإذا دخل الغصب بسوء اختياره فقد سقط نهيه المنجز عليه بالعصيان وبدخوله فيه صار مستحقا للعقاب ، واما بعد دخوله فيه لايكون له تكليف بترك الغصب من الأزل لاضطراره إليه فإذا لم يكن مكلفا بترك الغصب حينئذ من غير جهة ترك الدخول فلايكون صدوره عنه مبعدا أيضا ومع عدم كونه مبعدا فله الاتيان بالصلاة التامة المشتملة على القيام والركوع والسجود كما في الاضطرار لا عن سوء الاختيار حرفا بحرف ، هذا.

ولكن مع ذلك لا تخلو المسألة عن اشكال ينشأ من كفاية مطلق المقدورية ولو بالواسطة في توجيه التكليف بشيء إلى المكلف فيقال حينئذ بأنه بعد أن كان له القدرة على ترك البقاء في الغصب ولو بتركه للدخول فيه كان هذا المقدار كافيا في توجه النهى عن الكون البقائي إليه وتنجزه عليه فيكون البقاء فيه حينئذ كالدخول منهيا عنه من الأزل قبل الدخول فيه ، وعليه فبالدخول وان سقط نهيه المنجز عليه الا انه حيثما كان بالعصيان يبقى تبعته فيوجب كون ما يصدر عنه من الأكوان مبغوضا ومبعدا له ولازمه هو خروج تلك الأكوان عن الجزئية للصلاة فينتهى امر صلاته حينئذ إلى إشارات قلبية في فرض غصبية مجموع الفضاء والأرض دون الصلاة التامة للمختار ، وحينئذ فان تمت السيرة والاجماع المدعى في المقام على كون تكليفه صلاة المختار التامة فهو والا فلابد بمقتضي القواعد كما عرفت من المصير إلى كون وظيفته نظير صلاة الغرقى بإشارات قلبية في ركوعه وسجوده.

نعم لو تاب حينئذ أمكن دعوى وجوب صلاة المختار التامة نظراً إلى أن التوبة كانت مزيلة لاثر العصيان السابق وتجعله كان لم يكن فكان كمن اضطر إلى الغصب لا عن سوء الاختيار. ولكن الأستاذ دام ظله استشكل في ذلك أيضا مدعيا لان التوبة انما تجدي في رفع اثر العصيان إذا لم يكن المكلف في حال التوبة مشغولا بالعصيان ، وفى المقام لما كان مشغولا بارتكاب الغصب حال التوبة فلا تجديه في الخروج عما تقتضيه القواعد.

وكيف كان فمما ذكرنا ظهر الحال أيضا فيما لو ضاق الوقت وتمكن من الخروج حيث

ص: 449

انه يتعين عليه حينئذ الاتيان بصلاته في حال الخروج بإشارات قلبية ، لولا السيرة المزبورة ، والا فبما لا تزاحم مع خروجه فيقرء ويركع ماشيا موميا بسجوده ولا ينتهى النوبة في هذا الفرض إلى الصلاة في حال السكون والاستقرار.

واما نفس خروجه فهو كما عرفت لايكون الا منهيا عنه بالنهي السابق كالبقاء فيه لا انه يكون مأمورا به. إذ لا وجه لدعوى كونه مأمورا به الا توهم مقدميته للتخلص عن الغصب الزائد ، وهو كما عرفت في غير محله ، فان الحركة لا تكون الا عبارة عن تبدل كون بكون آخر فهي حينئذ عبارة عن ضد البقاء المستتبع للغصب الزائد وهو غير موجب لمحبوبية الحركة التي هي ضد السكون والبقاء. نعم لو كانت الحركة عبارة عما به تبدل أحد الكونين بالآخر لا نفس تبدل كون بكون لكان لما ذكر من المقدمية كمال مجال إذ كانت الحركة حينئذ علة لافراغ الكون في الغصب وتبدله بالكون في خارجه ولكنه محل منع جدا بل هي لا تكون الا عبارة عن نفس تبدل كون بكون آخر وعليه فلا تكون الحركة الا ضد السكون والبقاء الملازم للغصب الزائد ومثله أيضا غير موجب لسراية المحبوبية إليها وحينئذ فلا يبقى في البين الا لزوم الخروج عقلا ارشادا منه إلى اختيار ما هو أقل القبيحين ، كما هو واضح. هذا تمام الكلام في اجتماع الأمر والنهي.

المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد
اشارة

قد وقع الخلاف بين الاعلام في أن النهى عن الشيء يقتضي فساد ذلك الشيء أم لا وقبل الشروع في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الأول : قد مر سابقا وجه الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة ومحصل الفرق بينهما هو رجوع البحث في المقام حسب ما هو ظاهر العنوان إلى اقتضاء النهى بوجوده الواقعي للفساد بملاحظة كشفه ولو بالملازمة العرفية عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقة ، ومن ذلك يدور الفساد وعدمه على الاقتضاء مدار وجود النهى واقعا وعدمه ، كان المكلف عالما بالنهي أم جاهلا به ، وهذا بخلافه في تلك المسألة حيث إن الفساد فيها على الامتناع انما

ص: 450

يدور مدار العلم بالنهي لا مدار النهى بوجوده الواقعي النفس الأمري ، ومن ذلك أيضا عرفت بنائهم على صحة عبادة الجاهل القاصر أو الناسي إذا اتى بها في مكان مغصوب ، وعليه فلا تكون لإحدى المسئلتين مساس بالأخرى بوجه من الوجوه ، ومعه لايبقى مجال لما أفيد كما في الكفاية (1) من جعل نتيجة المسألة السابقة على الامتناع وتقديم جانب النهى من صغريات هذه المسألة ، كيف وقد عرفت ان الفساد في تلك المسألة انما هو من جهة خلو المتعلق عن الملاك والمصلحة ومن ذلك لو قام دليل على الصحة في قبال النهى لوقع بينهما التكاذيب ويرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض ، ومثل ذلك ينافي جدا بنائهم على صحة صلاة الجاهل بالغصبية ، كما هو واضح.

الامر الثاني قد يقال كما عن القوانين على ما حكى بتخصيص محل النزاع بما إذا كان هناك ما يقتضي الصحة من عموم أو اطلاق بحيث لولا النهى يحكم بصحته ، بتقريب انه لولا ذلك لما كان وجه للنزاع في اقتضاء النهى للفساد ، لان الفساد حينئذ غير مربوط باقتضاء النهى ، من جهة انه لولا النهى كان محكوما أيضا بالفساد ، ولكنه غير وجيه ، إذ نقول بان الجهة المبحوث عنها في المقام على ما يقتضيه ظاهر العنوان هو الحكم بالفساد من جهة دلالة النهى وكشفه عن عدم الملاك والمصلحة في متعلقه ، وقضية ذلك هو عدم الحكم بالفساد واقعا عند عدم النهى لا الحكم بالصحة كي يحتاج إلى احراز المقتضي للصحة من عموم أو اطلاق أو غيرهما.

واما ما أفيد من عدم الثمرة حينئذ نظراً إلى لزوم الحكم بالفساد حينئذ ولو على تقدير عدم النهى بمقتضي أصالة عدم المشروعية.

فمدفوع بظهورها فيما إذا قام دليل بالخصوص على الصحة فإنه على الأول يتعين الاخذ بدليل الصحة من جهة حكومته على أصالته بخلافه على الثاني حيث إنه يقع بينهما المعارضة فيرجع فيهما إلى قواعد باب التعارض.

الامر الثالث لايخفى عليك ان المراد بالشيء في عنوان المسألة يعم العبادات والمعاملات لا انه مخصوص بالعبادات ، والمراد من المعاملة هو ما في قبال العبادات مطلق مالا يلزم في صحته قصد القربة الشامل للمعاملات بالمعنى الأخص ولغيرها ، كالنهي عن

ص: 451


1- ج 1 ص 235.

اكل الثمن والمثمن ، نعم يختص ذلك بالأمور القابلة للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى فيخرج حينئذ ما لايكون كك كعناوين المسببات ونحوها مما كان أمرها يدور بين الوجود والعدم فتأمل فان الفساد حينئذ انما كان في قبال الصحة التي هي بمعنى التمامية وترتب الأثر المقصود عليه فهو عبارة عن نقصان الشيء بمعنى عدم ترتب الأثر المقصود منه عليه فلا يجري حينئذ بالنسبة إلى نفس الآثار ونحوها مما يدور امره بين الوجود والعدم وكذا يخرج أيضا من الأسباب ما لايكاد ينفك الأثر عنها كبعض أسباب الضمان.

واما المراد من العبادة فهي التي لو امر بها لكان أمرها أمرا عباديا بحيث لايكاد سقوطه الا باتيان متعلقه على نحو قربى ، لا ما هو عبادة ذاتا كالسجود والركوع ونحوهما مما جعل كونه آلة للخضوع والتذلل ، نظراً إلى عدم كون العبادات كلها من هذا القبيل ، ولا ما امر به فعلا لأجل التعبد به من جهة استحالة تعلق النهى الفعلي بما هو عبادة ومأمور به فعلا ، ولا ما لايعلم انحصار الغرض منه في شيء كي ينتقض طردا وعكسا بأنه رب واجب توصلي لايعلم انحصار الغرض منه في شيء ورب واجب تعبدي قد علم انحصار الغرض منه.

واما الاقتضاء في المقام فهو كما عرفت عبارة عن الاقتضاء بحسب مقام الاثبات باعتبار كشف النهي عن عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه لا الاقتضاء بحسب مقام الثبوت والا فمن الواضح عدم الملازمة عقلا بين حرمة الشيء وانتفاء ملاك الامر والمصلحة في متعلقه ، وعليه تكون المسألة من المسائل اللفظية لا من المسائل العقلية ، كما هو واضح.

واما النهى فظاهرهم اختصاصه بالنهي المولوي التحريمي ، دون ما يعمه والنهى التنزيهي ، باعتبار ان غاية ما يقتضيه النهى التنزيهي انما هو الدلالة على وجود حزازة في الشيء وهذا المقدار غير موجب لفساده ، ولكن ذلك انما هو بناء على ما اخترناه سابقا من جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد بالتفكيك بين أنحاء حدود شيء واحد ، واما بناء على غير ما اخترناه من عدم امكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية ولو تنزيها في عنوان واحد فيشكل جدا تخصيص النزاع بالنواهي التحريمية واما النهى التحريمي الغيري فالظاهر منهم هو دخوله أيضا في محل النزاع كما يشهد

ص: 452

لذلك جعلهم فساد العبادة ثمرة النزاع في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على المقدمية.

نعم هذا الثمرة تختص بخصوص العبادات فلا تجرى في المعاملات ولكنه أيضا غير ضائر بعموم النزاع كما لايخفى ، هذا ،

ولكن الأستاذ دام ظله منع عن أصل دخول النواهي التحريمية في محل النزاع وبنى على خروجه عن مورد الكلام بين الاعلام ، وقد أفاد في وجه ذلك بوجهين :

الأول : عدم المجال لتوهم دلالته واقتضائه للفساد مطلقا سواء في المعاملات أو العبادات ، اما المعاملات فواضح ، من جهة وضوح عدم اقتضاء مجرد النهى المولوي عن معاملة وحرمتها تكليفا لفسادها وضعا ، ومن ذلك لم يتوهم أحد فساد المعاملة في مورد نهى الوالد أو الحلف على عدم البيع ونحوه واما العبادات فكك أيضا وذلك فان الفساد المتصور فيها لا يخلوا اما ان يكون من جهة انتفاء الملاك والمصلحة فيها وعدم ترتب الغرض عليها واما ان يكون من جهة الخلل في القربة الموجب لعدم سقوط الامر عنها ، اما الفساد من الجهة الأولى فواضح انه غير مترتب على النهى حيث لا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على عدم المصلحة في متعلقه ، بل غاية ما يقتضيه انما هي الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم المصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا ، وهو واضح بعد وضوح عدم الملازمة بين مجرد حرمة الشيء وبين عدم ملاك الامر والمصلحة فيه ، نعم لو كان بين المصلحة والمفسدة أيضا مضادة كما بين المحبوبية والمبغوضية بحيث لايمكن اجتماعهما في موضوع واحد ولو بجهتين تعليليتين لكان المجال لدعوى دلالة النهى ولو بالالتزام على عدم وجود المصلحة في متعلقه ولكنه لم يكن كك لما عرفت من امكان اجتماعهما في عنوان واحد بجهتين تعليليتين ، ونظيره في العرفيات كما في مثل وضع العمامة على الرأس لمن كان له وجع الرأس في مجلس فيه جماعة من المؤمنين الأخيار ، حيث إن كون العمامة على الرأس مع كونه فيه كمال المفسدة بلحاظ وجع الرأس كان فيه أيضا كمال المصلحة بلحاظ كونه نحو اعزاز واكرام للمؤمنين وكون تركه هتكا وإهانة لهم ، وعليه فلا يبقى مجال دعوى دلالة النهى واقتضائه للفساد من هذه الجهة ، واما الفساد من الجهة الثانية فهو وان كان لا محيص عنه مع النهى ولكنه أيضا مترتب على العلم بالنهي لا على نفس وجود النهى ولو لم يعلم به المكلف ، فتمام العبرة في الفساد في هذه المرحلة على مجرد العلم بالنهي ، فإذا

ص: 453

علم بالنهي كان علمه ذلك موجبا لعدم تمشى القربة منه الموجب لفساد عبادته وان لم يكن في الواقع نهى أصلا ، كما أنه مع عدم العلم به يتمشى منه القربة وتصح من العبادة وان كان في الواقع نهى كما عرفت في مثال الجهل بالغصب أو الجهل بالحرمة عن قصور ، مع أن قضية ظاهر العنوان هو ترتب الفساد على نفس النهى الواقعي.

الوجه الثاني : انه لو سلم كون الفساد المفروض في محل الكلام هو الفساد من تلك الجهة الأخيرة لما كان معنى لانكاره من أحد في العبادات بعد تسلمهم على لزوم قصد القربة فيها ، وعلى ذلك ، فلا مجال لإرادة النهى المولوي التحريمي من لفظ النهى في عنوان البحث ، كما أنه لا مجال أيضا لإرادة النهى الارشادي منه لأنه أيضا مما لا اشكال في دلالته على الفساد في العبادات والمعاملات بل لابد وأن يكون المراد منه في العنوان طبيعة النهى في نفسه فيكون مرجع النزاع حينئذ إلى النزاع في أن النهى المتعلق بالشيء عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم نهى ارشادي إلى خلل فيه حتى يوجب الفساد هذا.

ولكن قد يناقش على البيان المزبور بان ما أفيد من خروج النهى المولوي التحريمي عن محل النزاع وارجاع محل البحث إلى النزاع الصغروي خلاف ظاهر الكلمات ، فان الظاهر من كلماتهم بل المصرح به في كلام بعضهم تخصيص النزاع بخصوص النهى المولوي التحريمي كما يشهد لذلك تفصيل بعضهم في الاقتضاء للفساد وعدمه بين العبادات والمعاملات ، حيث إنه لولا ذلك لما كان وجه للتفصيل المزبور ، بل ويشهد له أيضا استدلالهم كثيرا في الفقه على فساد العبادة بكونها حراما ومنهيا عنها ، وهكذا في مسألة اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص على مبني مقدمية ترك الضد لفعل ضده ، فان ذلك كله كاشف عن كون المراد من النهى في العنوان هو خصوص النهى المولوي التحريمي ، وعليه لابد وأن يكون النزاع في الاقتضاء وعدمه في اقتضاء النهى اثباتا ، ودلالته ولو بالالتزام عرفا على عدم ملاك الامر والمصلحة في متعلقه بدعوى انه وان لم يكن ملازمة عقلا بين حرمة الشيء ووجود المفسدة فيه وبين فقدانه لملاك الامر والمصلحة نظراً إلى ما تقدم من امكان اجتماع المصلحة والمفسدة في عنوان واحد بجهتين تعليليتين الا انه مع ذلك يرى العرف بينهما الملازمة فيرى من النهى كونه ذا مفسدة محضة ، ومن ذلك لو ورد في القبال امر يقتضي الصحة يقع بينهما التكاذب ويرجع فيها إلى قواعد باب

ص: 454

التعارض ، والا فلولا ذلك لما كان وجه للمعارضة بينهما والرجوع إلى قواعد التعادل والترجيح ، بل لابد وأن يكون بينهما المزاحمة بملاحظة اقتضاء كل من الأمر والنهي بمدلولهما الالتزامي لقيام المصلحة والمفسدة فيه ، مع أنه ليس كك قطعا ، وحينئذ فنفس هذا التعارض والتكاذب بينهما كاشف عن اقتضاء كل من الأمر والنهي عرفا بالالتزام لعدم قيام ملاك آخر فيه غير ملاكه ، كما هو واضح.

ولكن يدفع ذلك اما الاشكال الأول فبان ما يرى من حكم الأصحاب بفساد العبادة مع النهى فإنما هو من جهة الخلل في القرب المعتبر في صحة العبادة كما يكشف عنه استدلالهم كثيرا على الفساد بانتفاء التقرب وعليه أيضا جرى تفصيلهم بين العبادات والمعاملات ، فحيث ان قصد القربة مما لابد منه في صحة العبادة ومع النهى لايكاد تمشي القربة من المكلف ، بخلافه في المعاملة ، اقتضى ذلك التفصيل المزبور ، ولكنه كما عرفت غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي في نفسه للفساد من جهة عدم الملاك.

واما الاشكال الثاني فبما مر في البحث المتقدم بان ما يرى من التعارض بينهما عند ورود امر في القبال فإنما كان ذلك من جهة ذاك الارتكاز العقلي بعدم جواز اجتماع المحبوبية والمبغوضية في عنوان واحد حيث إنه بمقتضي هذا الارتكاز يرى العرف بينهما التكاذب في تمام مدلوليهما حتى في دلالتهما على المصلحة والمفسدة فيعامل معهما معاملة التعارض لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لعدم قيام ملاك الامر والمصلحة في متعلقه رأسا ولو مع قطع النظر عن المعارض فتأمل.

نعم في الفرض المزبور كما سيجيء لابد أيضا من الحكم بالفساد ولكنه لا من جهة اقتضاء النهى المولوي لذلك بل من جهة عدم احراز الملاك والمصلحة فيه لأنه في العبادات لابد في صحتها من احراز الملاك والمصلحة فيها فمع الشك فيها في الملاك يشك قهرا في مشروعيتها فتنفي بأصالة عدم المشروعية.

وعليه فلا محيص من اخراج النهى المولوي التحريمي كالارشادي عن حريم النزاع وارجاع البحث المزبور في دلالة النهى على الفساد وعدم دلالته عليه إلى البحث الصغروي بان النهى المتعلق بعنوان عبادة كانت أم معاملة مولوي تحريمي كي لايقتضي الفساد أم ارشادي إلى خلل فيه حتى يقتضي الفساد فتدبر.

الامر الرابع : لايخفى عليك انه لا أصل في المسألة يعول عليه عند الشك وحينئذ لو كان

ص: 455

هناك ظهور عرفي فهو والا يبقى المدعى بلا دليل. نعم الأصل في المسألة الفرعية كما عرفت كان هو الفساد ، سواء فيه العبادات أو المعاملات ، حيث كان الأصل في المعاملات عدم ترتب النقل والانتقال ، وفى العبادات عدم المشروعية عند الشك في الملاك فيها.

وإذ تمهد هذه الأمور فاعلم أن الكلام يقع في مقامين :

الأول في العبادات فنقول : النهى متعلق تارة بعنوان العبادة كالنهي عن الصلاة والصوم للحائض وأخرى بجزئها كالنهي عن قرائة السور العزائم في الصلاة ، وثالثة بشرطها كالنهي عن التستر بالحرير ونحوه مثلا ، ورابعة بوصفها الملازم كالجهر والاخفات في القراءة ، وخامسة بوصفها المفارق كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة عنها ، وعلى التقادير فالنهي اما ان يكون مولويا ، واما ارشاديا إلى خلل في العبادة ، اما لعدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع كالنهي عن التكتف في الصلاة أو من جهة كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة مثلا. واما ان يكون في مقام دفع توهم الوجوب الفعلي أو المشروعية الفعلية أو الاقتضائية فهذه أنحاء صور النهى المتعلق بالعبادة ، وربما يختلف النتيجة حسب اختلاف الصور ، فلابد حينئذ من بيان ما للصور المزبورة من اللوازم والآثار.

فنقول : أما إذا كان النهى متعلقا بعنوان المادة وكان مولويا محضا فهو كان عرفت غير مقتض لفساد العبادة الا من جهة قضية الاخلال بالقربة الموقوفة على العلم به ، والا فمن جهة فقد انها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجه من الوجوه ، لان غاية ما يقتضيه النهى المزبور بما انه نهى مولوي تحريمي انما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلقه ، واما الدلالة على عدم وجود ملاك والمصلحة فيه ولو من جهة أخرى فلا. نعم مع الشك في الملاك كان مقتضي الأصل هو الفساد ، ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهى المولوي لذلك ، كما هو واضح.

وأوضح من ذلك ما لو كان النهى في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ، وذلك من جهة وضوح ان غاية ما يقتضيه مثل هذا النهى انما هي الدلالة على عدم وجوبه ، واما دلالته على عدم استحبابه ورجحانه فلا ، فضلا عن الدلالة على عدم الملاك والمصلحة فيه أو الدلالة على وجود المفسدة في متعلقه ، وحينئذ لو كان في البين عموم أو اطلاق يثبت رجحانه

ص: 456

واستحبابه فهو ، والا فالأصل يقتضي الفساد ، لما عرفت من أنه لابد في صحة العبادة من احراز رجحانها ، فمع الشك في رجحانها ومشروعيتها كان مقتضي الأصل هو عدم مشروعيتها.

وكذلك الكلام فيما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الفعلية كما في النهى عن النافلة في وقت الفريضة ، فإنه أيضا لايقتضي فساد العبادة من جهة عدم الملاك إذ لايقتضي أزيد من عدم المشروعية الفعلية وعدم الرجحان والمحبوبية الفعلية في العمل ، ولا ملازمة بين عدم المشروعية الفعلية وبين عدم الملاك والمصلحة فيه ، وعليه فلو قام دليل على وجدان العمل للملاك في هذا الفرض يندرج في صغريات المسألة السابقة ، واما لو لم يقم دليل على ذلك كان الأصل فيه هو الفساد بالبيان المتقدم.

واما لو كان النهى في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية ، ففي هذا الفرض كان النهى يقتضي الفساد من جهة دلالته حينئذ على انتفاء الملاك والمصلحة فيه.

ومثل ذلك ما لو كان النهى ارشاديا إلى خلل في العبادة لانتفاء الملاك رأسا ، أو اقترانه بالمانع كالصلاة متكتفا ، حيث إنه كان النهى أيضا موجبا لفسادها من دون اقتضائه للحرمة والمبغوضية ، نعم لو كان قضية النهى المزبور هو الارشاد إلى كونه مخلا بغيره كالنهي عن الصلاة في الصلاة ففي هذا الفرض بالنسبة إلى العمل الذي وقع فيه العمل المنهى كان النهى دالا على فساده ، واما بالنسبة إلى نفس هذا العمل الذي نهى عن اتيانه فلا دلالة على فساده ، وحينئذ فلابد ان يلاحظ العمل الذي أخل به باتيان العبادة في أثنائه ، فان كان غير الفريضة فلا اشكال ، إذ لايكون ابطاله حينئذ حراما حتى يحرم ما أوجد في أثنائه ، واما ان كان من الفرائض التي يحرم ابطالها فيحرم قهرا ما أوجد في أثنائه بالحرمة الغيرية فيندرج حينئذ في صغريات المسألة السابقة ، فيفسد مع العلم بالنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى.

هذا كله حال النهى المتعلق بعنوان العبادة ، وقد تلخص بان مجرد تعلق النهى بعنوان العبادة غير موجب لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى خلل فيها اما من جهة عدم الملاك فيها أو من جهة اقتران ملاكها بالمانع.

واما النهى المتعلق بجزء العبادة ففيه أيضا الصور المزبورة من كونه تارة ممحضا في المولوية ، وأخرى ارشادا إلى خلل في الجزء ، وثالثة في مقام دفع توهم الوجب الفعلي ،

ص: 457

أو المشروعية الفعلية ، أو الاقتضائية.

فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساد الجزء الا من جهة الخلل في القربة الذي عرفت انه مترتب على العلم بالنهي لاعلى النهى الواقعي.

واما النهى الارشادي أو الواقع في مقام دفع توهم المشروعية الاقتضائية فهو موجب لفساده ولكنه بمعنى عدم وقوعه جزء للعبادة والا فلايقتضي بطلان أصل العبادة ، بل ولو قلنا حينئذ بفساد العبادة لابد وأن يكون من جهة النقيصة عند الاقتصار عليه ، أو يكون من جهة الزيادة العمدية بناء على استفادة مبطلية مطلق الزيادة العمدية. نعم لو كان النهى في مقام الارشاد إلى كونه مخلا بأصل العبادة أيضا كما في النهى عن قرائة العزائم في الفريضة على ما هو قضية التعليل في قوله علیه السلام : بأنها زيادة في المكتوبة كان مقتضيا لبطلان العبادة.

واما النهى المتعلق بالشرط ففيه أيضا الصور المزبورة ، فالنهي المولوي فيه أيضا غير مقتض لفساده الا إذا كان فيه جهة ارشاد إلى خلل فيه فيفسد وبفساده يفسد المشروط أيضا في فرض الاقتصار على الشرط المنهى بلحاظ انتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

واما النهى المتعلق بوصفها المقارن كالجهر في القراءة مثلا فهو أيضا غير مقتض لفسادها ما لم يكن فيه جهة ارشاد إلى كونه مخلا بالعبادة.

وعلى ذلك لابد للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد والقرائن الخاصة لاحراز ان النهى مولوي محض أو ارشادي ، والا فمع خلو المورد عن القرينة كان النهى ظاهرا في المولوية ، ولكن ظاهر الأصحاب في غير النواهي النفسية عند عدم القرينة على بعض المحتملات هو الحمل على الارشاد إلى المخلية والمانعية من غير فرق بين الجزء أو الشرط أو الوصف ، ولعله من جهة ظهور ثانوي في النواهي الغيرية في الارشاد إلى المانعية والمخلية بلحاظ ورودها في مقام بيان كيفية العبادة وحدودها ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط فتدبر.

واما لو تعلق النهى بالوصف المفارق ، فان كان النهى متعلقا بعنوان والامر بعنوان آخر كالنهي عن الغصب وعن النظر إلى الأجنبية والامر بالصلاة فأوجدهما المكلف في وجود واحد فهو يندرج في المسألة السابقة ، واما لو كان النهى عن الوصف من قبيل قوله : لا تغصب في صلاتك ، ففيه أيضا يجري ما ذكر في الجزء والشرط من لزوم الحمل

ص: 458

على الارشاد إلى المخلية ، الا إذا قام هناك ما يقتضي الخلاف كما في المثال ، حيث إنه بملاحظة ارتكاز مبغوضية الغصب والتصرف في مال الغير ولو في غير حال الصلاة لابد من حمل النهى على المولوية ومبغوضية الغصب بالبغض النفسي ، بصرفه عما هو ظاهره من الظهور الثانوي إلى ما يقتضيه طبع النهى من الظهور في الحرمة المولوية ، وعليه يندرج أيضا في المسألة السابقة كما أوردناه هناك وقلنا بأنه لا وجه لاخراجه عن محل النزاع بتخصيص مورد النزاع بما لو كان بين المتعلقين العموم من وجه.

هذا كله في المقام الأول.

واما المقام الثاني فالكلام فيه في النهى المتعلق بالمعاملة

وملخص الكلام فيه هو عدم اقتضاء مجرد النهى عنها للفساد ما لم يكن في مقام الارشاد إلى خلل فيها ، وذلك من جهة وضوح عدم الملازمة بين حرمة المعاملة ومبغوضيتها وبين فسادها وعدم ترتب النقل والانتقال ، حيث إنه بعد عدم توقف صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال على رجحانها أو عدم مبغوضيتها فقهرا يمكن صحة المعاملة ومؤثريتها في النقل والانتقال ولو مع كونها مبغوضة ومحرمة ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون النهى متعلقا بالسبب وهو العقد ، أو بالمسبب وهو النقل والانتقال ، أو بالتسبب إلى المسبب بالسبب ، فعلى جميع التقادير لا دلالة للنهي بما انه نهى مولوي على الفساد خصوصا على الأخيرين حيث إنه يمكن دعوى اقتضائهما للصحة نظراً إلى معلومية انه لولا ترتب المسبب وتحققه لما كان مجال للنهي عنه ، وحينئذ ينحصر وجه الفساد بما إذا كان للارشاد إلى خلل فيها. نعم لو كان النهى التحريمي عن لوازم المعاملة كالنهي عن اكل الثمن والمثمن والتصرف فيهما ففي مثل ذلك كان النهى مستلزما للفساد من جهة استلزام حرمة التصرف في العوضين لعدم نفوذ المعاملة والا ففي غير تلك الصورة لا اقتضاء للنهي التحريمي للفساد بوجه أصلا.

واما توهم منافاة حرمة المعاملة ومبغوضيتها مع الجعل تأسيسا أو امضاء لما بيد العرف ، فمدفوع بمنع التنافي بينهما ، من جهة امكان ان تكون المعاملة ممضاة ومؤثرة في النقل والانتقال على تقدير تحققها ومع ذلك كانت محرمة. وحينئذ فلا يستلزم مجرد تخصيص الجواز التكليفي أو تقييده تخصيص دليل الجواز الوضعي المثبت لصحة المعاملة ، ولو كانا ثابتين بدليل واحد ، كما لو قلنا بان مثل عموم ( الناس مسلطون ) مثبت للجواز

ص: 459

الوضعي والتكليفي حيث إنه بدليل النهى يخصص عمومه من جهة الجواز التكليفي دونه من جهة الجواز الوضعي أيضا ، كما هو واضح. نعم لو كان قضية النهى هو مبغوضية المعاملة بشر أشر وجودها حتى بالقياس إلى حدودها الراجعة إلى الجعل والامضاء لكان لدعوى التنافي المزبور كمال مجال ، ولكن من الواضح عدم قابلية مثل هذا المعنى لتعلق النهى المولوي به ، فان المعاملة بهذا المعنى خارج عن تحت قدرة المكلف فعلا وتركا ، فلايمكن حينئذ تعلق النهى المولوي بها ، بل وانما القابل لتعلق النهى به انما هو التوصل إلى وجود المعاملة من ناحية سببه في ظرف تحقق أصل الجعل من الشارع ، لأنه هو الذي يكون تحت قدرته واختياره فعلا وتركا ، ومعلوم حينئذ ان مبغوضية المعاملة من تلك الجهة غير منافية مع إرادة الجعل والامضاء ، من جهة امكان ان تكون المعاملة مبغوضة ومحرمة ايجادها من المكلف ، ومع ذلك كانت صحيحة ومؤثرة فيما هو الأثر المقصود منها ، وهو النقل والانتقال ، نعم قد يكون النهى دالا على الارشاد إلى عدم الامضاء وعدم النفوذ في بعض الموارد ، ولكن ذلك أيضا بمقتضي بعض القرائن الخارجية كما في البيع الربوي مثلا وفي بيع المصحف بالكافر. وحينئذ فعلى ذلك لابد في قمام الحكم بفساد المعاملة من جهة النهى من احراز كونه في مقام الارشاد إلى عدم الجعل والامضاء والا فطبع النهى لايقتضي الا المولوي التحريمي الذي عرفت عدم اقتضائه للفساد.

هذا إذا كان النهى متعلقا بعنوان المعاملة ، أو بالسبب ، أو بالتسبب بالسبب إلى وجود المعاملة.

واما لو كان النهى متعلقا باجزاء السبب وشرائطه فيكون كما في العبادات محمولا على الارشاد لبيان الكيفية اللازمة في السبب وما هو المانع والمخل بالمعاملة ، الا ان الفرق بينهما وبين العبادات حينئذ كان في الأصل الجاري فيها عند الشك في مولوية النهى وارشاديته ، فإنه في العبادات يفصل بين صورة تعلق النهى بعنوان العبادة وبين صورة تعلقه باجزائه وشرائطه ، فكان الأصل في الأول عند الشك في المشروعية عدمها ، وفى الثاني المحتمل المانعية فيه كان الأصل هو البراءة عنها والصحة ، بخلافه في المعاملات ، فإنه على كل تقدير كان الأصل هو عدم المشروعية وعدم النفوذ نظراً إلى عدم جريان البراءة فيها حينئذ لا عقلا ولا نقلا حتى يصبح الحكم بنفوذ المعاملة وصحتها ، وذلك من جهة ان البراءة العقلية مجريها العقوبة ، ولا الزام في المعاملة حتى تنفى العقوبة المحتملة من جهة الشيء المشكوك المانعية والمخلية ، واما البراءة النقلية فمجريها الامتنان ، ولا امتنان

ص: 460

في المقام في اثبات الصحة برفع المشكوك المانعية ، من جهة استلزامه لوجوب الوفاء الذي هو خلاف الامتنان في حقه. لايقال : ان ذلك كك في مثل دليل الرفع ونحوه مما كان مسوقا في مقا الامتنان لا في مثل دليل الحلية مما لايكون كك وحينئذ لولا دعوى اختصاصه بالحلية التكليفية لا بأس بدعوى جريانه واقتضائه لنفوذ المعاملة باجرائه في نفس المعاملة حيث إنه باقتران المعاملة بمشكوك المانعية والمخلية يشك في حليتها وضعا ونفوذها في النقل والانتقال فبدليل الحلية يثبت كونها حلالا وضعا ومؤثرا في النقل والانتقال ، فإنه يقال : نعم ولكنه من جهة اختصاصه بخصوص الحلية التكليفية غير جار في المعاملات حتى يقتضي صحة المعاملة ونفوذها ، ومن ذلك أيضا لم يتوهم أحد من الأصحاب جريان هذه الأدلة في أبواب المعاملات لاثبات الصحة فيها ، بل ومع الشك اطبقوا على جريان أصالة الفساد ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة اختصاصه بالحلية التكليفية ، كما هو واضح.

هذا كله حسب ما تقتضيه القواعد ، ولقد عرفت عدم اقتضاء النهى المولوي التحريمي للفساد مطلقا ، سواء بين تعلقه بالمسبب أو السبب أو بالتسبب به إلى المسبب ، وان المقتضى له انما هو النهى الارشادي.

واما حسب النصوص الخاصة فقد يقال : بدلالتها على ملازمة النهى للفساد كالخبر المروي في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر علیه السلام قال : سئلته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده فقال : علیه السلام ذاك إلى سيده ، ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما ، قلت : أصلحك اللّه ان الحكم بن عيينة ( عتيبة ) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : ان أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له ، فقال علیه السلام : انه لم يعص اللّه سبحانه وانما عصى سيده ، فإذا إجازة فهو له جائز (1) بتقريب دلالة الرواية على أن النكاح لم يكن مما حرمه اللّه حتى يقع فاسدا ولا يصلحه إجازة السيد ، فتدل حينئذ على ملازمة النهى والمولوي للفساد في المعاملات ،

ولكن فيه ان الظاهر من المعصية المنفية بقرينة المقابلة انما هو عدم كونه مما لم يمضه اللّه ولم يشرعه له كما كان ذلك هو المراد أيضا من معصية السيد حيث أريد منها عدم إجازة

ص: 461


1- وسائل الشيعة ، ج 14 ص 523 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث 1. والكافي ج 5 ص 478 الحديث 3.

السيد له وعدم اعطائه السلطنة في النكاح في قبال اذنه بذلك ، فان مقتضي المولوية والعبدية هو عدم نفوذ تصرفات العبد في شيء الا بإجازة واذن من سيده ومولاه ، فكان المراد حينئذ من قوله علیه السلام : انه لم يعص اللّه سبحانه الخ ، هو ان النكاح ليس مما لم يشرعه اللّه في حقه بحسب أصل الشرع حتى يقع باطلا وانما كان عدم التشريع والامضاء من قبل سيده فإذا جاز ونحن نقول أيضا باستتباع مثل هذا النحو من المعصية للفساد بلا مجال لانكاره من أحد.

ومما يؤيد ذلك بل يشهد عليه أيضا من عدم كون المراد من المعصية هو مخالفة النهى التحريمي قضية عدم انفكاك معصية السيد عن معصية اللّه من حيث وجوب اطاعته على العبد شرعا وجوبا تكليفيا كما في إطاعة الوالد ، فإنه لولا ما ذكرنا كان اللازم في المقام هو فساد النكاح المزبور مع أنه خلاف ما تضمنه الرواية من الحكم بالصحة. ومن هذه الجهة أيضا استدل بعضهم بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد بتقريب ما عرفت من الملازمة بين معصية السيد وبين معصية اللّه ، وان كان لا يخلو ذلك أيضا عن اشكال ، لامكان دعوى ان صحة النكاح ونفوذه بعد إجازة السيد انما هو من جهة ارتفاع معصية اللّه حسب تبعيتها لمعصية سيده عنه إجازة السيد له ، والا فقبل إجازة السيد له بمقتضى كونه عصيانا للنهي التكليفي لايكون النكاح صحيحا فعليا ومؤثرا في تحقق علقة الزوجية بل وانما غايته حينئذ كونه صحيحا شأنيا ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهذه الرواية على عدم دلالة النهى التحريمي على الفساد هذا.

ولئن قيل بان المقصود من اقتضاء النهى التكليفي للفساد وعدم صحة المعاملة انما هو فسادها وعدم صحتها ولو شأنا وحينئذ فبمقتضى الملازمة بين معصية السيد وبين معصية اللّه تكليفا تكون الرواية لا محالة حسب تضمنها للصحة دالة على عدم اقتضاء النهى التكليفي للفساد ، ومن ذلك لابد وأن يكون المراد من عصيان اللّه الموجب لفساد النكاح بعد عدم انفكاك معصية السيد عن معصية اللّه تبارك وتعالى هو العصيان الوضعي دون العصيان التكليفي ، نقول : بأنه كك إذا كان العصيان المتحقق في الفرض راجعا إليه سبحانه من جهة كونه مخالفة لتكليف من تكاليفه بحيث يستحق العقوبة من قبله ، وليس الامر كك بل العصيان في المقام انما هو راجع إلى مخالفته لمقتضي حق المولوية المجعول من قبله سبحانه لسيده ، من جهة ان مقتضي المولوية هو عدم جواز تصرف العبد في شيء الا

ص: 462

باذنه ورضاه ، فلايكون مثل هذا العصيان حينئذ راجعا سبحانه كعصيانه لتكاليفه كالصلاة والصوم ونحوهما ، حتى يوجب استحقاق العقوبة ويوجب فساد المعاملة. وحينئذ فلو ادعى أحد اقتضاء النهى المولوي التحريمي لفساد المعاملة لا مجال للاستدلال بالرواية المزبورة في القبال على عدم دلالة النهى التكليفي للفساد كما لايخفى ، فتأمل. نعم كما لا دلالة لها على عدم اقتضاء النهى للفساد لا دلالة لها أيضا على اقتضائه للفساد من جهة ما عرفت من ظهورها في إرادة العصيان الوضعي بمعنى عدم المشروعية ، فتدبر.

ومن الاخبار التي استدل بها للفساد رواية ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال من طلق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب اللّه عز وجل رد إلى كتاب اللّه عز وجل (1) ، وبمضمونه أيضا روايات كثيرة (2) ولكن الجواب عنها يظهر مما سبق حيث إن مخالفة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد لكتاب اللّه والسنة انما هي من جهة كونه مما ردع اللّه عنه ولم يشرعه في كتابه ، ونحن نقول بالفساد فيما كان من هذا القبيل.

ثم إن المحكي عن أبي حنيفة والشيباني انما هو دلالة النهى التكليفي على الصحة ، وقد حكى عن الفخر موافقتهما في ذلك.

وهو كك في المعاملات فيما لو كان النهى عنها بلحاظ الآثار ، من جهة وضوح اعتبار القدرة على المتعلق في النهى كما في الامر ، فإذا كانت المعاملة فاسدة من جهة النهى يلزم عدم كونها مقدورا للمكلف ، ومعه لايكاد يصح توجيه النهى إليه عن ايجادها وحينئذ فوجود النهى عن المعاملة بالفرض يقتضي كونها مقدورة له ، ومقدوريتها له تقضي صحتها وهو المطلوب ، هذا إذا كان النهى عن المعاملة بلحاظ المسبب أو بلحاظ التسبب بها إليه ، واما لو كان النهى عنها بلحاظ السبب فهو غير مقتض لصحتها وترتب الآثار عليها إذ لا يلزم من مجرد مقدورية السبب ترتب الأثر عليه ، كما هو واضح.

واما في العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالركوع والسجود ونحوهما من الأمور الموضوعة لان تكون آلات للخضوع فكذلك أيضا فإنها كانت مقدورة وكانت مع النهى باقية على وصفها العبادي ، فيتمكن من الاتيان بها صحيحة مع النهى ، حيث كان صحتها عبارة أخرى عن تحقق ذواتها ، نعم غاية ما هناك هو عدم وقوعها مقربة له من جهة

ص: 463


1- 1 و1. الوسائل ، ج 15 ص 313 ، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و ...
2- 1 و1. الوسائل ، ج 15 ص 313 ، الباب 29 من مقدمات الطلاق الحديث 8 و ...

احتياج مثل هذا النحو من العبادة في مقربيتها إلى عدم كونها مبغوضة للمعبود له. واما ما كان منها عبادة من جهة قصد القربة المتوقفة عباديتها على الامر بها أو رجحانها فلا يلزم من النهى عنها صحتها ، بل في مثله يستحيل تعلق النهى بها يوصف كونها عبادة فعلا ، فالنهي حينئذ انما يكون متعلقا بذات الشيء بما له من الاجزاء والشرائط غير الوصف الناشي من قبل الامر به نعم لو أريد من الصحة حينئذ الصحة التي يدعيها القائل بالوضع للصحيح : من كون الشيء واجدا لجميع الاجزاء والشرائط وكونه وافيا بالغرض على تقدير الامر به ، لكان لدعواه كمال مجال ، ولكنه لا ينتج ما هو المطلوب من الصحة الفعلية ، كما هو واضح.

بقى الكلام في النهى التشريعي ، في أنه هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة أم لا؟ ولتوضيح المرام ينبغي بيان حقيقة التشريع في الاحكام فنقول : ان حقيقة التشريع بعد أن كانت من سنخ البناء القلبي الذي هو من أفعال الجوانح دون الفعل الخارجي الذي هو من أفعال الجوارح فتارة في مقام التشريع يبنى الانسان على وجوب الشيء أو حرمته لكن لا بما انه من الدين ، نظير القوانين المجعولة من طرف السلطان بين الرعية وأخرى يبنى على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه مشرع ، وذلك بان يدعى نفسه شارعا كالنبي صلی اللّه علیه و آله ثم في مقام شارعيته يجعل الشيء الفلاني واجبا أو حراما أو غير ذلك ، وثالثة يبني على وجوب شيء أو حرمته في الدين بما انه هو الحكم المنزل من اللّه سبحانه بتوسيط رسوله من دون ادعائه الشارعية لنفسه ، وعلى التقادير تارة يخبر أو يعمل على طبق تشريعه ، وأخرى لا يخبر ولا يفتى بذلك ولا كان له عمل على طبق ما شرعه ، كما لو كان تشريعه في حكم عمل غيره الذي هو أجنبي عنه ، ثم على التقدير الأخير تارة يكون تشريعه في أصل الحكم الشرعي وأخرى في تطبيقه على المصداق الخارجي ، فهذه صور متصورة في التشريع.

وبعد ذلك نقول : اما القسم الأول فلا مجال لدعوى كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا فان مجرد البناء والالتزام على وجوب شيء لا بما انه من الدين والشرع لايقتضي كونه قبيحا عقلا ومحرما شرعا بوجه أصلا وان كان قد عمل على طبق ما شرعه فضلا عما لو لم يكن له عمل على طبقه.

واما القسم الثاني فكذلك أيضا من حيث تشريعه وبنائه على وجوب شيء أو حرمته

ص: 464

نعم انما يكون المحرم في هذا القسم هو حيث ادعائه الشارعية لنفسه ، حيث إنه من أكبر المعاصي وكان العقل أيضا مستقلا بقبحه.

كما أنه لاينبغي الاشكال أيضا في قبح القسم الثالث وحرمته إذ كان فضوليا في امر المولى وكان اخباره بذلك أيضا افتراء عليه. نعم يبقى الكلام حينئذ في أن حكم العقل بالقبح في المقام هل هو بنحو يستتبع حكمه أيضا باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح المعصية لكونها ظلما على المولى. حتى لايكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي ، أو انه بنحو لا يستتبع للحكم باستحقاق العقوبة كما في حكمه بقبح الظلم حتى يكون المورد قابلا للحكم المولوي الشرعي وكان المجال أيضا لاستكشاف الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة بناء على تماميتها؟ وفي مثله لايبعد دعوى كونه من قبيل الثاني إذ نقول : بان التشريع وان كان نحو ظلم على المولى لكونه تصرفا في سلطانه بحيث يستقل العقل بقبحه ، الا انه لايكون بمثابة يستتبع الحكم باستحقاق العقوبة كما في العصيان ، بل هو من هذه الجهة نظير الظلم على النفس الذي يحكم العقل فيه بالقبح من دون حكمه باستحقاق العقوبة عليه ، وعليه فكان كمال المجال لدعوى كونه محكوما بالحرمة المولوية الشرعية بمقتضي الملازمة ، ولكن حيث إن روح التشريع وحقيقته من سنخ البناء آت القلبية من غير دخل فيه للاخبار أو الفتوى على طبقه بل ولا للفعل الخارجي الجوارحي ، بشهادة تعلق التشريع بحكم فعل الغير كالتشريع في ايجاب الصلاة والصوم على الحائض والنفساء ، فلا جرم ما هو المحرم بالحرمة التشريعية أيضا لايكون الا نفس البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح دون العمل الخارجي أو الافتاء بشيء ، كما هو واضح.

وحينئذ فما أفيد من حرمة الافتاء والعمل الخارجي بالحرمة التشريعية أيضا بتخيل ان التشريع عبارة عن الفعل الصادر عن البناء المزبور كان الفعل هو الافتاء بشيء أو العمل الخارجي دون نفس البناء القلبي مجردا عن العمل والافتاء ودون الفعل الخارجي مجردا عن كون نشوه عن البناء المزبور ، وان الفعل الناشي عن البناء القلبي هو مصداق التشريع المحرم ، منظور فيه ، لما عرفت من أن روح التشريع وحقيقته ليس الا عبارة عن نفس البناء القلبي ، وان العمل والافتاء كالاخبار به خارج عن حقيقة التشريع ، حيث كان مرجع الافتاء إلى كونه اظهارا وابرازا لذلك البناء القلبي كالاخبار ، ومرجع العمل إلى كونه امتثالا لما شرعه بحسب بنائه على الوجوب أو الحرمة ،

ص: 465

وعليه فلايكاد يوجب حرمة التشريع حرمة الافتاء والعمل الخارجي الجوانحي ، حتى يوجب فساده إذا كان عبارة ، ولو مع فرض انكشاف مشروعية المأتي به واقعا وتبين كون ما بنى على وجوبه أو جزئيته باعتقاد حرمته وما نعيته واجبا شرعا وجزء للمأمور به واقعا وفرض كون تشريعه في تطبيق المأمور به على المصداق لا في مقام الامر الشرعي.

ومن ذلك البيان ظهر أيضا بطلان ما أفيد بان ذات العمل وان لم يكن قبيحا ومبغوضا حينئذ الا انه من حيث صدوره من المكلف كان قبيحا ومبغوضا ، ومعه لايكون قابلا للتقرب به ، وجه البطلان يظهر ما سبق من كون المحرم هو البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح وخروج العمل بقول مطلق عن موضوع التشريع المحرم ، كيف ومع الغض عن ذلك نقول : بان ما هو القبيح حينئذ انما كان حيث إضافة العمل إلى الفاعل دون نفسه ، وفي مثله لا بأس بالتقرب بذات العمل بعد فرض كونه راجحا واقعا وكون تشريعه أيضا في تطبيق ما هو المأمور به على المصداق الخارجي لا في ناحية الامر الشرعي فتأمل ، وعلى فرض سراية القبح والمبغوضية إلى ذات العمل ولو بدعوى اتحاد الوجود والايجاد وكون الاختلاف بينهما بالاعتبار ، نقول انه وان كان يلزمه حينئذ فساد العبادة ، لكن يلزمه أيضا المصير إلى الفساد في المعاملة أيضا بناء على ما سلكه القائل المزبور من اقتضاء النهى عن المعاملة لفسادها ، من جهة اقتضاء النهى لخروج المعاملة عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه ، إذ حينئذ بمقتضي هذا النهى التشريعي يخرج العمل عن حيطة قدرته وسلطانه بنحو كان له الفعل والترك ، ومع خروجه عن حيطة قدرته وكونه أجنبيا عنه لا جرم يبطل المعاملة ، فلايصح حينئذ التفكيك بين العبادات والمعاملات في اقتضاء النهى التشريعي للفساد ، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه.

ولكن أقول : بان التأمل في كلمات القائل المزبور يقتضي عدم ورود هذا الاشكال عليه حيث إنه قدس سره انما يدعى خروج النقل أو العمل عن حيطة قدرة المكلف وسلطانه بالنهي أو الامر فيما لو كان النهى أو الامر متعلقا بالشيء بمعناه الاسم المصدري لا مطلقا ولو كان المنهى عنه هو الشيء بمعناه المصدري ، وعليه فإذا كان المنهى عنه في المقام على ما صرح به في التقرير حيث إضافة اصدار العمل من المكلف بهذا العنوان لا نفس الصادر فلايكون فيه جهة مبغوضية أصلا ، فلا جرم يلزمه الالتزام بعد الفساد في المعاملة ، واما التزامه بالفساد في العبادات فإنما هو من جهة اعتباره في

ص: 466

صحة العبادة رجحان العمل في نفسه وعدم اتصافه بالقبح الفاعلي ، فحيث ان الفعل المشرع به في المقام يصدر عنه مبغوضا وقبيحا بالقبح الفاعلي ولم يكن قابلا للتقرب من هذه الجهة التزم فيها بالفساد ، هذا.

ولكن الذي يهون الامر هو فساد أصل هذا المبني لما تقدم من أن ما هو القبيح والمبغوض انما كان هو البناء القلبي لأنه حقيقة التشريع ، وروحه وان الافتاء وكذا العمل على طبق هذا البناء فخارج عن حقيقة التشريع ، وفي مثله لايكاد سراية الحرمة والمبغوضية منه إلى نفس العمل بوجه أصلا ، ولو بحيث إضافة اصداره من الفاعل. وعلى ذلك نقول : بأنه لو شرع وبنى على وجوب شيء أو جزئيته أو شرطيته في العبادة جهلا أو معتقدا بالخلاف ، وعمل أيضا على طبق ما شرع جزء أو شرطا أو مانعا ، فتبين بعد ، كون المشرع به مطابقا للواقع بحيث لم يقع منه اخلال في عمله بما هو الواجب والمأمور به في حقه ، فلا جرم تصح عبادته ما لم يكن هناك اخلال بالقربة من جهة الامر ، بان كان تمام داعيه على الاتيان هو الامر الشرعي الحقيقي وكان تشريعه ممحضا في تطبيق المأمور به على المأتي ، والا فتبطل من جهة اخلال بالتقرب ، هذا ذا تبين كون العمل المشرع به مطابقا للواقع.

واما تبين الخلاف ففيه صور : فعلى فرض مانعية الجزء أو الشرط المشرع به في الواقع فلا محالة تبطل العبادة لمكان ايجاد المانع فيها ، كما أنه كك أيضا فيما لو بنى على مانعية شيء للصلاة ولم يأت به فتبين كونه جزء أو شرطا في الواقع فإنه تبطل العبادة في هذا الفرض أيضا لمكان النقيصة ، واما على فرض عدم جزئية ما بنى على جزئيته أو شرطيته واقعا فيبنى البطلان وعدمه على مبطلية الزيادة.

وعلى أي حال فمجرد التشريع في العبادة لايقتضي البطلان ، بل الفساد والبطلان لابد وأن يكون من جهة أخرى كمحذور الزيادة أو النقيصة أو غير ذلك ، هذا في العبادات ، وهكذا في المعاملات فيدور الفساد فيها مدار الاخلال خارجا بما هو المعتبر فيها شرطا أو شطرا أو مانعا ، وهو واضح.

ص: 467

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

اعلم أنه قد عرف المفهوم بتعاريف : منها انه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق باعتبار كونه مدلولا التزاميا للفظ ، ولتنقيح المقال لابد من بيان ما لللازم من الأقسام كي به يتضح ما هو المراد منها من المفهوم المصطلح في المقام فنقول : ان اللزوم على مراتب وأقسام : منها ان تكون الملازمة بين الامرين بمرتبة من الخفاء ، بحيث يحتاج الانتقال إلى اللازم إلى الالتفات التفصيلي بأصل الملازمة بينهما كي ينتقل الذهن بعده إلى اللازم ، وبعبارة أخرى كانت الملازمة في الخفاء بنحو تحتاج في الانتقال إليها إلى تدقيق النظر ، ومن ذلك جميع ما يصدر من أرباب العلوم من الاشكالات العلمية في اخذ بعضهم بعضا بما يقتضيه لازم كلامه من التوالي الفاسدة ، حيث إنه لولا خفاء الملازمة على صاحب الكلام لما يصدر منه ما يلزم من التوالي الفاسدة من كذا وكذا. ومنها ان تكون الملازمة واضحة في الجملة بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم والملازمة ، من دون احتياج إلى دقيق النظر في أصل الانتقال إلى الملازمة ، ومن ذلك دلالة الآيتين على كون أقل الحمل ستة أشهر. ومنها ان تكون الملازمة في الوضوح بمثابة كانت ارتكازية ومألوفة في الأذهان ، بحيث يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم بلا احتياج إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ، ومن ذلك أكثر الكنايات كالحاتم والجود ، وانو شيروان والعدالة ، ونحو ذلك ، فهذه اقسام ومراتب للزوم ، ولئن شئت فعبر عن الأول باللزوم الغير البين ، وعن الثاني بالبين بالمعنى الأعم ، وعن الثالث بالبين بالمعنى الأخص.

ص: 468

وبعد ذلك نقول : ان التعريف المزبور وان كان يشمل جميع الأقسام المزبورة ، حيث ينطبق على الجميع التعريف المزبور بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، الا انه نقول بان المراد من المفهوم المصطلح في المقام ما هو من قبيل القسم الأخير الذي كانت الملازمة في غاية الوضوح بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم من دون احتياج في الانتقال إليه إلى الانتقال إلى الملازمة بينهما والالتفات إليها تفصيلا أو اجمالا ، لا مطلق ما يلازم الشيء ويستتبعه ، وعليه فيخرج من المفهوم المصطلح ما يكون من قبيل الأولين كالآيتين ونحوهما مما لم يكن اللزوم فيه من البين الأخص ، بحيث يحتاج في الانتقال إليه إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ولايكفيه مجرد تصور الملزوم.

نعم على ذلك يدخل في التعريف المزبور باب الكنايات كالحاتم والجود ونحوه مما كان اللزوم فيه من البين الأخص ومع ذلك لايكون من المفهوم المصطلح ، فمن ذلك عرفوه بوجه آخر ، تارة بأنه حكم لغير مذكور ، وأخرى بأنه حكم غير مذكور لازم لحكم مذكور ، حيث إن الغرض من العدول إلى هذا التعريف انما هو اخراج المفردات كالحاتم والجود ، وتخصيص المفهوم المصطلح بالقضايا وان كان الأولى حينئذ تعريفه بأنه قضية غير مذكورة اما بحكمها أو بموضوعها لازمة لقضية مذكورة ، ووجه أولوية ذلك سلامته عما أورد على التعريفين المزبورين ، حيث أورد على الأول بلزوم خروج مفهوم الشرط الذي هو من اجل المفاهيم عن التعريف ، نظراً إلى كون الموضوع فيه مذكورا ، في القضية اللفظية حيث كان الموضوع في طرف المفهوم في قوله ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو زيد المذكور في القضية ، وعلى الثاني بلزوم خروج مفهوم الموافقة في نحو قوله ( لا تهن عبد زيد ) الدال على حرمة إهانة زيد بالأولوية ، وهذا بخلافه على ما ذكرنا من التعريف حيث إن فيه جمعا بين الجهات.

وعلى أي حال فيعتبر في المفهوم المصطلح ان يكون الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة دون شخص الحكم ، والا فيخرج عن المفهوم المصطلح المتنازع فيه ، ومن ذلك أيضا بنوا على خروج القضايا المتكفلة لاثبات شخص الحكم عن حريم النزاع ، معللين بان انتفاء شخص الحكم المذكور في القضية عند انتفاء بعض القيود المعتبرة فيه يكون عقليا ، فلا مجال للنزاع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه ، كما لايخفى.

ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مركز التشاجر والنزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه

ص: 469

لابد وأن يكون ممحضا في ناحية عقد الحمل في القضية ، في أن الحكم المنشأ في القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة منه كي يلزمه انتفائه رأسا عن غير مورد وجود القيد أو انه شخص الحكم أو الطبيعة المهملة كي لاينافي ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد وجود القيد؟ فكان القائل بثبوت المفهوم للقضية يدعى ان الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة والقائل بعدم المفهوم يدعى خلافه وانه لا يدل عقد الحمل في القضية الا على الطبيعة المهملة ، مع تسالم الفريقين في ظهور عقد الوضع في القضايا - اسمية كانت أم فعلية أو غيرهما في كون القيود المأخوذة فيها بخصوصياتها دخيلة في ترتب الحكم كما هو ديدنهم في كلية العناوين المأخوذة في الخطابات ، حيث كان بنائهم على دخلها بخصوصياتها في ترتب الحكم لا بما أنها مرآة إلى امر آخر ، ولا بما انها مصداق للجامع بينها وبين غيرها.

لا انه كان مورد النزاع في ناحية عقد الوضع كما يظهر من الكفاية (1) وغيرها ، من جعل مركز التشاجر في ناحية عقد الوضع في القضية حيث قال : بان من يقول بالمفهوم في مثل الجملة الشرطية لابد له من اثبات دلالة الجملة الشرطية على ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة واما القائل بعدم المفهوم فهو في فسحة من ذلك ، لان له منع دلالتها على اللزوم تارة بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، ومنع دلالتها على الترتب أو على نحو الترتب على العلة ثانيا ، أو على العلة المنحصرة ثالثا ، بعد تسليم اللزوم والعلية.

وذلك لما عرفت من أن ظهور القضايا في مدخلية العنوان المأخوذ فيها لترتب الحكم بخصوصيته مما لايكاد ينكر عند أحد منهم أصلا ، فلايمكن ان يكون النزاع بينهم حينئذ في المقام في ناحية عقد الوضع في الدلالة على العلية أو بنحو الانحصار ، بل لابد وأن يكون النزاع ممحضا في المقام في ناحية عقد الحمل خاصة كيف وانه لولا مفروغية الظهور المزبور عندهم لما كان وجه لفهمهم التنافي عند احراز وحدة المطلوب بين قوله : أعتق رقبة ، وبين قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، وحملهم المطلق على المقيد ، وذلك من جهة امكان ان يكون موضوع الحكم بوجوب العتق حينئذ هو مطلق الرقبة الجامع بين المؤمنة وغيرها وان ذكر الايمان

ص: 470


1- ج 1 ص 302.

من جهة كونه أحد المصاديق أو أفضلها ، وحينئذ فنفس فهمهم التنافي بينهما في المثال شاهد ما بيناه من التسالم في ظهور عقد الوضع في القضايا كلية على أن العنوان المأخوذ فيها مما له الدخل بخصوصيته الشخصية في ترتب الحكم ، إذ حينئذ بعد ظهور دليل المقيد في دخل الايمان بخصوصيته في وجوب العتق واحراز وحدة المطلوب ولو من الخارج ، يقع بينهما التعارض فيحتاج إلى حمل المطلق منهما على المقيد ، وهكذا في قوله : أكرم زيدا ، وقوله : أكرم عمرا ، حيث إنه مع العلم بوحدة المطلوب يقع بينهما التعارض ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ظهور كل من الدليلين في مدخلية خصوصية العنوان ، وان كل عنوان بخصوصيته تمام الموضوع للحكم ، لا بما انه مصداق للجامع وان الواجب انما هو اكرام الانسان ، وعلى ذلك نقول : بأنه بعد تسلم هذا الظهور في عقد الوضع في كلية القضايا فلا جرم لايبقى مجال النزاع في المقام في المفهوم وعدمه الا في طرف عقد الحمل في القضية ، في أنه هل هو السنخ والطبيعة المطلقة أو الشخص والطبيعة المهملة؟ فمع احراز كون المحمول هو الحكم السنخي فلا جرم بمقتضى الظهور المزبور في عقد الوضع في دخل الخصوصية يستفاد انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية.

ومما يشهد لما ذكرنا أيضا تصريحاتهم كما سيجيء بخروج القضايا المتكفلة لشخص الحكم عن حريم النزاع وعن المفهوم المصطلح ، وتعليلهم لذلك بان انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي غير قابل للنزاع فيه في البقاء وعدمه. إذ نقول : بأنه لولا الظهور المزبور في دخل الخصوصية لكان من المحتمل ان يكون هناك فرد علة أخرى توجب بقاء ذلك الحكم الشخصي ، بان كان العلة في الحقيقة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما وان المذكور في القضية أحد فردي الجامع ، ومن المعلوم انه مع تطرق هذا الاحتمال لا مجال لجعل الانتفاء فيه عقليا عند الانتفاء الا بتسلم الظهور المزبور في عقد الوضع.

وعليه نقول : بأنه إذا كان ذلك يوجب انتفاء الحكم الشخصي عند الانتفاء فليكن الامر كك في الحكم السنخي أيضا ، فمع احراز الحكم السنخي فقهرا بمقتضي الظهور المزبور في دخل الخصوصية يلزمه عقلا انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة ، واما توهم عدم كفاية هذا المقدار في الحكم بانتفاء الحكم السنخي لولا اثبات انحصار العلة ، بدعوى انه بدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى توجب شخصا آخر من الحكم مثله ، ومعه فلايمكن الحكم بانتفاء السنخ بهذا المقدار الا

ص: 471

باثبات انحصار العلة ، فمدفوع بان ذلك كك فيما لو كان الحكم المحمول في القضية بنحو الطبيعة المهملة والا ففي فرض كونه بنحو الطبيعة المطلقة فلا جرم لا يفرق بينهما بل توجب قضية الظهور المزبور حينئذ في دخل الخصوصية لزوم انتفاء الحكم السنخي عند انتفاء الخصوصية.

وعلى ذلك فلا محيص حينئذ من صرف النزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه عن عقد الوضع في القضية وارجاعه إلى طرف عقد الحمل ، بان المحمول هو الطبيعة المهملة حتى لايلزمه الانتفاء عند الانتفاء أو هو السنخ والطبيعة المطلقة حتى يلزم الانتفاء عند الانتفاء؟ من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة.

ومن ذلك نقول : بأنه لابد للقائل بالمفهوم في كل قضية شرطية أو وصفية أو غائية أو غيرها من اثبات كون المحمول في تلك القضية هو السنخ ، اما من جهة دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق أو من جهة القرائن الخارجية ، كي يستفاد المفهوم بضم ظهور عقد الوضع في القضية في دخل الخصوصية ، والا فبدون اثبات هذه الجهة لايكاد يصح له الاخذ بالمفهوم والحكم بالانتفاء عند الانتفاء ولو مع اثباته انحصار العلة ، هذا.

ولكن أقول : بأنه لايخفى عليك ان مجرد ظهور عقد الوضع في دخل العنوان بخصوصيته في ترتب الحكم السنخي غير مجد أيضا في استفادة الانتفاء عند الانتفاء الا بضم قضية اطلاق ترتب الحكم والجزء عليه في الترتب عليه بالخصوص بنحو الاستقلال ، والا فبدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى تقوم مقامه عند انتفائه ، ومع هذا الاحتمال لايمكن الاخذ بالمفهوم في القضية ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا احتجنا إلى قضية اطلاق ترتب الجزاء في الحكم بالانتفاء عند الانتفاء - كما اعترف به الأستاذ أيضا نقول بأنه ملازم قهرا مع انحصار العلة فلا يستغني حينئذ في الحكم بانتفاء السنخ عن اثبات انحصار العلة ، كما لايخفى.

ثم اعلم بان السنخ والطبيعة المطلقة تارة يراد به المعنى القابل للانطباق على الافراد المتكثرة ، كالانسان مثلا بالقياس إلى افراده ومصاديقه المتكثرة ، حيث إن اطلاقه انما هو بمعنى قابلية انطباقه وصدقه في الخارج على افراده من زيد وعمرو وبكر وخالد وغير ذلك من الافراد ، وأخرى يراد به ما يقتضي حصر الكلي والطبيعي بفرده ومصداقه الخاص نظير قولك : انما العالم زيد ، مريدا به حصر تلك الطبيعة لزيد وعدم ثبوت مصداق آخر

ص: 472

لغيره. وإذ عرفت ذلك نقول : ان المراد من السنخ والطبيعة المطلقة في المقام انما هو السنخ بالمعنى الثاني لا هو بالمعنى الأول ، فالمراد هو ان المتكلم في قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، مثلا بصدد حصر هذا السنخ من الحكم بفرده الخاص والا فهو باعتبار المعنى الأول غير معقول لأنه من المستحيل اطلاق الحكم في المثال المزبور بنحو يشمل وجوب الاكرام الثابت لعمرو وخالد ، ضرورة ان شخص الحكم الثابت لموضوع غير قابل للثبوت لموضوع آخر ، وهو واضح.

ارشاد في طريق استخراج المفهوم

اعلم أن الحكم إذا كان له إضافات متعددة بالقياس إلى موضوعه وقيده وشرطه وغايته ونحو ذلك ، فطريق استخراج المفهوم من كل جهة شرطا أو وصفا أو غاية انما هو باعتبار لحاظ الحكم سنخا بالإضافة إلى تلك الجهة لا باعتبار لحاظه سنخا على الطلاق ، حيث إنه من الممكن ان يكون المتكلم في مقام تعليق السنخ ومقام الاطلاق بالإضافة إلى قيد ، مع كونه في مقام الاهمال بالقياس إلى قيد آخر ، وعلى ذلك فلو ورد حكم معلق على شرط ، ومرتب على لقب ، ومنوط على وصف ، ومغيى بغاية خاصة ، كقوله : ان جاء زيد راكبا إلى يوم الجمعة يجب اكرامه ، ففي مثله كان لهذا الحكم إضافات متعددة : إضافة إلى شرطه وهو المجيء ، وإضافة باللقب وهو زيد ، وإضافة إلى قيده ووصفه ، وإضافة إلى الغاية الخاصة.

وحينئذ فإذا فرضنا ان المتكلم كان في مقام اطلاق الحكم وإناطته من حيث السنخ بالإضافة إلى كل واحد من الشرط واللقب والوصف والغاية فلا جرم يلزمه استخراج مفاهيم متعددة حسب تعدد الإضافات ، فمن اضافته إلى المجيء يستفاد مفهوم الشرط فيحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند عدم المجيء وان كان راكبا ، ومن اضافته إلى موضوعه يستفاد مفهوم اللقب ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن غير زيد ولو كان غيره جائيا راكبا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى قيده يستفاد مفهوم الوصف ويحكم بانتفاء سنخ الوجوب عن زيد عند انتفاء الوصف ولو كان جائيا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى الغاية يستفاد مفهوم الغاية ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عنه عند

ص: 473

عدم مجيئه إلى يوم الجمعة ، ولو كان جائيا راكبا بعد يوم الجمعة.

وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاطلاق وإناطة الحكم من حيث السنخ الا بالإضافة إلى بعض تلك القيود ، مع كونه في مقام الاهمال بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ففي مثله يلاحظ المفهوم بالقياس إلى ما اعتبر كونه سنخا بالإضافة إليه شرطا أو وصفا أو غاية ، فإذا كان المتكلم في مقام تعليق السنخ بالإضافة إلى المجيء وهو الشرط مثلا كان المستفاد منه هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجيء ، ولكنه حيث لم يعتبر الحكم من حيث السنخ بالإضافة إلى موضوعه ووصفه وغايته فلاتدل القضية على انتفاء حكم وجوب الاكرام عن غير زيد ولا عنه عند انتفاء وصفه أو غايته ، كي لو ورد دليل على وجوب اكرامه عند انتفاء وصفه أو غايته يقع بينهما التعارض. نعم ذلك الحكم الشخصي ينتفي بانتفاء كل واحد من القيود ، ولكنه غير المفهوم المصطلح ، فان المصطلح من المفهوم انما هو انتفاء سنخ هذا الحكم وعدم ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد الوصف والغاية. وعلى كل حال فلابد في طرف المفهوم من حفظ القضية المنطوقية وتجريدها من خصوص ما أنيط به الحكم السنخي دون غيره.

نعم قد يقع الاشكال في أصل تصور الحكم السنخي واستفادته من القضايا وتنقيح المرام في ذلك هو ان الحكم المنشأ في القضايا الشرطية أو غيرها اما ان يكون بمادة الوجوب ، كقوله : ان جاء زيد يجب اكرامه ، واما ان يكون بصيغة الوجوب. فعلى الأول لاينبغي الاشكال في امكان تصور الحكم السنخي بل واستفادته من تلك القضايا. واما الاشكال عليه بان الحكم المنشأ بهذا الانشاء الخاص حينئذ انما كان حكما شخصيا حقيقتا ومن خصوصياته حصوله وتحققه بهذا الانشاء الخاص وتعلقه بالشرط الخاص ، وعليه فلايتصور جهة سنخية للحكم حتى يكون من حيث السنخ معلقا على الشرط أو الوصف ، فيلزمه انتفاء الحكم السنخي عند الانتفاء فمندفع بان مثل هذه الخصوصيات بعد ما كان نشوها من قبل الاستعمال المتأخر عن المعنى والمنشأ ، فلا جرم غير موجب لخصوصية المعنى المنشأ وعليه فكان المعنى المنشأ حينئذ معنى كليا ، وقد علق على الشرط أو الوصف ، وكانت الخصوصيات الناشئة من قبل الاستعمال من لوازم وجوده ، لا انها تكون مأخوذة فيه يصير المعنى لأجلها جزئيا ، كما هو واضح.

واما على الثاني فقد يشكل في أصل استفادة الحكم السنخي من الهيأة ، ومنشأه

ص: 474

هو الاشكال المعروف في الحروف والهيئات من حيث خصوص الموضوع له فيها ، بتقريب ان الحروف وكذا الهيئات لما كانت غير مستقلة بالمفهومية لكون معانيها من سنخ النسب والارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين ، فلا محالة كانت جزئية وغير قابلة للاطلاق الفردي والصدق على الكثيرين ، ومعه فلايتصور الحكم السنخي في مفاد الهيأة في الصيغة حتى يعلق على الشرط أو الوصف فيترتب عليه الحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء.

بل ومن ذلك قد يشكل أيضا في صحة أصل الإناطة والتعليق وارجاع القيد في القضايا الطلبية إلى الهيأة في نحو قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، بدعوى ان صحة الإناطة والتقييد فرع امكان اطلاق الهيأة ، ومع فرض خصوصية المعنى في الحروف والهيئات يستحيل التقييد أيضا ، فمن ذلك لابد من ارجاع تلك القيود في نحو هذه القضايا إلى المادة ، هذا.

ولكن الاشكال الثاني كما ترى واضح الدفع ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، وذلك من جهة وضوح ان المقصود من خصوص الموضوع له وجزئية المعنى في الحروف والهيئات انما هو جزئيته باعتبار الخصوصيات الذاتية التي بها امتياز افراد نوع واحد بعضها من بعض ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى الحالات والخصوصيات الطارية عليه من اضافته إلى مثل المجيء والقيام والقعود ، فكان المراد من عدم كلية المعنى في الحروف هو عدم كليته من جهة الافراد ، وانها موضوعة لاشخاص الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين ، وكونها من قبيل المتكثر المعنى ، ومن المعلوم بداهة ان عدم كلية المعنى في الحروف والهيئات وجزئية الموضوع له فيها من هذه الجهة غير مناف مع اطلاقه بحسب الحالات ، وعليه فكما ان للمتكلم ايقاع النسبة الارسالية في استعمال الهيأة مطلقة وغير منوطة بشيء من مثل المجيء وغيره بقوله أكرم زيدا كك كان له ايقاعها من الأول منوطة بالمجيء ونحوه بقوله ان جاء زيد فأكرمه. ومن ذلك أيضا أوردنا على الشيخ قدس سره في مبحث الواجب المشروط وقلنا بان مجرد خصوصية الموضوع له في الحروف والهيئات لايقتضي تعين ارجاع القيود الواقعة في القضايا الشرطية إلى المادة وصرفها عما تقتضيه القواعد العربية من الرجوع إلى الهيأة.

نعم انما كان لهذه الاشكال مجال بناء على مسلك آلية معاني الحروف وجعل الفارق بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية ، كما افاده في الكفاية ،

ص: 475

حيث إن لازم آلية المعنى فيها حينئذ هو كونه غير ملتفت إليه عند الاستعمال ، من جهة كونه ملحوظا باللحاظ العبوري المرآتي ، ولازم ذلك لا محالة هو امتناع التقييد رأسا ، بلحاظ ان صحة التقييد فرع الالتفات إلى المعنى ، فمع فرض عدم الالتفات إليه عند الاستعمال فلا جرم يمتنع تقييده أيضا ، ولكن عمدة الاشكال على ذلك في أصل هذا المبنى لما ذكرنا فساده في محله وقلنا بان معاني الحروف وكذا الهيئات انما هي من سنخ الارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين وان الفرق بينها وبين الأسماء انما هو من جهة ذات المعنى والملحوظ لا من جهة كيفية اللحاظ فقط ، وعليه فلا مجال لهذا الاشكال من هذه الجهة أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ يبقى الكلام في الاشكال الأول في أصل استفادة الحكم السنخي بل وتصوره ثبوتا بملاحظة جزئية الموضوع له في الحروف والهيئات ، وفي ذلك نقول : بانا وان أجبنا عن ذلك سابقا بكلية المعنى فيها ، من جهة ما تصورناه في مبحث الحروف من القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير عام الوضع والموضوع له المشهوري ، ولكن التأمل التام فيه يقتضي عدم اجداء هذا النحو من الكلية لدفع هذا الاشكال ، والوجه فيه هو ان ذلك المعنى العام والقدر المشترك الذي تصورناه لما لايمكن تصوره واحضاره في الذهن الا في ضمن إحدى الخصوصيات فلا جرم لايكاد يمكن ان يوجد في ذهن المتكلم عند استعمالها ، بمثل قوله : الماء في الكوز أو زيد على السطح وسرت من البصرة إلى الكوفة ، الا اشخاص النسب الخاصة والارتباطات المخصوصة كما هو ذلك على القول بخصوص الموضوع له فيها أيضا ، وفي مثله يتوجه الاشكال المزبور بان الموجود في ذهن المتكلم عند استعمال الهيأة بقوله : أكرم زيدا ان جائك ، بعد أن لم يكن الا شخص نسبة وربط خاص قائم بالطرفين فلا جرم لايتصور له الاطلاق الفردي حتى يتصور فيه السنخ فيكون هو المعلق على الشرط أو الوصف المذكور في القضية فينتج الانتفاء عند الانتفاء ، وحينئذ فهذا النحو من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير مجد لدفع الاشكال في المقام لأنه بحسب النتيجة كالقول بخصوص الموضوع له فيها.

فعلى ذلك فلابد من التصدي لدفعه بوجه آخر غير ذلك فنقول : ان قصارى ما يمكن ان يقال في دفع الاشكال وجهان :

أحدهما : ما افاده الأستاذ دام ظله في الدورة السابقة ، وحاصله هو ان دلالة الهيأة

ص: 476

على الطلب في قوله ( افعل ) بعد ما كانت بالملازمة ، من جهة كونه أي الطلب ملزوما للنسبة الارسالية التي هي مدلول الهيأة ، لا مدلولا لها بالمطابقة ، كما هو مختار الكفاية ، وكان المهم أيضا اثبات السنخ والاطلاق في طرف الحكم والطلب ، فلا بأس حينئذ بلحاظ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى ذلك الطلب الملازم مع الارسال ، ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، من جهة انه لا ملازمة بين خصوصية المدلول في الهيأة مع خصوصية ما يلازمه ، فأمكن ان يكون المدلول في الهيأة جزئيا وخاصا ، ومع ذلك يكون ملزومه وهو الطلب كليا ، وحينئذ فإذا كان المهم في المقام هو اثبات السنخ في طرف الحكم والطلب فأمكن اثبات السنخ من غير طريق الهيأة ولو بمثل الاطلاق المقامي ونحوه.

الوجه الثاني : ما افاده دام ظله أخيرا ، وتقريبه انما هو بدعوى ان مفاد الحروف وكذا الهيئات وان كان جزئيا ، لكونها عبارة عن اشخاص الارتباطات الذهنية المخصوصة المتقومة بالطرفين ، الا انها تبعا لكلية طرفيها أو أحد طرفيها قابلة للاتصاف بالكلية ، كما في قولك : الانسان على السطح والماء في الكوز والسير من البصرة إلى الكوفة ، في قبال قولك : زيد على السطح وهذا الماء في هذا الكوز وسرت من النقطة الكذائية من البصرة إلى النقطة الكذائية من الكوفة ، فان السير وكذا البصرة في قولك : السير من البصرة لما كان كليا وقابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين كالسير من أول البصرة ووسطها وآخرها فقهرا تبعا لكلية هذين المفهومين تتصف تلك الإضافة والربط الواقع بينهما أيضا بالكلية ، وهكذا في قولك : الانسان على السطح أو الماء في الكوز ، حيث إنه تبعا لكلية الطرفين تتصف تلك النسبة والربط والاستعلائية أو الظرفية بالكلية ، فينحل إلى الروابط المتعددة ، فيصدق في الخارج على زيد الكائن على السطح ، وعلى عمرو الكائن على السطح وهكذا ، ولا نعني من كلية المعنى الا كونه قابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين ، ويقابله قولك : زيد على السطح ، حيث إن ذلك الربط الخاص حينئذ تبعا لجزئية المتعلق غير قابل للانطباق في الخارج على الكثيرين. وحينئذ فعلى هذا البيان صح ان يقال : بان تلك النسب والروابط التي هي مفاد الحروف والهيئات بنفسها لاتتصف بالكلية والجزئية ، بل وانما اتصافها بالكلية والجزئية تابع كلية طرفيها أو أحدهما ، فمتى كان أحد طرفيها كليا قابلا للصدق في الخارج على الكثيرين فلا جرم تبعا لكليته تلك الإضافة والربط القائم به

ص: 477

أيضا تتصف بالكلية ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التكاليف الكلية الانحلالية ، كقوله : يجب اكرام العالم ويحرم شرب الخمر ، حيث إن كلية التكليف حينئذ انما هي باعتبار كلية متعلقه ، فإذا كان متعلقه كليا فلا جرم تبعا لكلية متعلقه يتصف الحكم أيضا بالكلية ، وينحل حسب تعدد افراد متعلقه في الخارج إلى تكاليف متعددة ، والا فالحكم المنشأ في مثل قوله : أكرم العالم ويحرم شرب الخمر ، لايكون الا شخص حكم وشخص إرادة متعلقة بموضوعه ، وهو الاكرام المضاف إلى العالم والشرب المضاف إلى الخمر. وعلى ذلك ففي المقام أمكن استكشاف الحكم السنخي من الهيأة في الصيغة باجراء الاطلاق في ناحية المادة المنتسبة بما هي معروضة للهيئة ، إذ حينئذ من اطلاقها يستكشف الحكم السنخي ، فإذا أنيط الحكم النسخي حينئذ بمثل الشرط أو الوصف في القضية بقوله ان جاء زيد فأكرمه أو أكرم زيدا العادل ، فقهرا بانتفاء القيد بعد فرض ظهوره في الدخل بخصوصيته واقتضاء اطلاق ترتب الجزاء عليه في ترتبه عليه بالاستقلال يلزمه انتفاء الحكم السنخي ، كما هو واضح.

وكيف كان فبعد ان ظهر لك طريق استكشاف المفهوم في القضايا بحسب الكبرى يبقى الكلام في صغريات المفاهيم.

مفهوم الشرط

فنقول ان من المفاهيم مفهوم الشرط في نحو قوله ان جاء زيد يجب اكرامه حيث إنهم اختلفوا في دلالة إن وأخواتها من أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء وعدم دلالتها عليه ونقول في تنقيح المرام انه لاينبغي الارتياب في أن القضية الحملية في مثل قوله : أكرم زيدا ، مع قطع النظر عن ورود أداة الشرط عليها بطبعها لاتقتضي أزيد من كون المتكلم في مقام اثبات حكم وجوب الاكرام لزيد بنحو الطبيعة المهملة ، واما اقتضائها لكونه بصدد اثبات سنخ الحكم والطبيعة المطلقة وفي مقام حصر الطبيعي في هذا الفرد في تلك القضية فلا ، لان ذلك مما يحتاج إلى عناية زائدة عما يقتضيه طبع القضية ، ومن ذلك يحتاج إلى قيام قرينة عليه بالخصوص ، والا فمع عدم القرينة عليه فلايقتضي طبع القضية الحملية الا مجرد ثبوت المحمول مهملا للموضوع.

ولذلك أيضا ترى بنائهم على عدم المفهوم في القضايا اللقبية وعدم اقتضائها انتفاء

ص: 478

سنخ الحكم المحمول على الاطلاق عن غير الموضوع المذكور في القضية ، كي لو ورد دليل آخر على ثبوت شخص حكم آخر لعمرو لوقع بينهما المعارضة ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة ما ذكرناه من عدم اقتضاء القضية الحملية بطبعها في نحو قوله : أكرم زيدا مع قطع النظر عن القرائن الخارجية الا مجرد ثبوت الحكم والمحمول لزيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي مع ثبوت شخص حكم آخر من هذا السنخ للعمر والبكر.

نعم لما كان مقتضاه حينئذ هو ثبوت هذا الحكم والمحمول على الاطلاق لزيد ، فلا جرم يلزمه اطلاق الحكم المزبور من جهة حالات الموضوع من القيام والعقود ونحو ذلك ، فكان مقتضي اطلاقه هو ثبوته له على الاطلاق وفي جميع الحالات الطارية عليه من القيام والقعود والمجيء ونحوه ، ولئن شئت قلت إنه لما كان لموضوعه اطلاق بحسب الحالات من المجيء وغيره يلزمه قهرا اطلاق في طرف الحكم المترتب عليه أيضا بحسب تلك الحالات بحيث يلزمه عدم جواز ثبوت وجوب آخر أيضا لذلك الموضوع في حال القيام أو القعود من جهة ما يلزمه حينئذ بعد هذا الاطلاق من لزوم محذور اجتماع المثلين ، من غير أن ينافي اطلاق الحكم والمحمول من تلك الجهة مع اهماله المفروض من الجهة المزبورة ، إذ مثل هذا النحو من الاطلاق في الحكم يجتمع مع اهماله من جهة الافراد بل ومع شخصيته أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ فإذا كان ذلك مقتضي طبع القضية الحملية فكان قضية اطلاقها في ثبوت الحكم المحدود الشخصي لموضوعه على الاطلاق وفي جميع الحالات هو حصر الطبيعي بهذا الفرد المحمول في القضية ، بلحاظ ما عرفت من استلزام اطلاق هذا الحكم الشخصي لجميع الحالات عدم ثبوت فرد آخر منه لموضوعه في بعض الحالات نقول : بان طبع أداة الشرط الوارد عليها أيضا في نحو قوله : ان جاء زيد يجب اكرامه لايقتضي الا مجرد إناطة النسبة الحكمية بما لها من المعنى الاطلاقي بالشرط وهو المجيء لان ما هو شأن الأداة انما هو مجرد إناطة الجملة الجزائية بما لها من المعنى الذي يقتضيه طبع القضية الحملية بالشرط وحينئذ فإذا كان مقتضي طبع القضية الحملية أو الانشائية في مثل قوله أكرم زيدا ، هو ثبوت حكم شخصي محدود لزيد على الاطلاق الملازم لانحصاره وعدم فرد آخر منه في بعض الحالات وكان قضية الأداة على ما هو شأنها إناطة تلك الجملة بما لها من المعنى بالشرط وهو المجيء في وقوله : ان جاء زيد فأكرمه ، فلا جرم بعد ظهور الشرط في دخل الخصوصية بمقتضي ما بيناه يلزمه قهرا انتفاء وجوب الاكرام عن

ص: 479

زيد عند انتفاء المجيء وعدم ثبوت وجوب شخص آخر له في غير حال المجيء من جهة ان احتمال ذلك مما ينافي ما تقتضيه طبع الجملة من ثبوت ذلك الوجوب الشخصي لزيد على الاطلاق وفي جميع الحالات التي منها عدم المجيء من جهة ما يلزمه من محذور اجتماع المثلين. واما احتمال التأكد حينئذ فيدفعه أيضا ظهور القضية في محدودية الحكم بحد شخصي مستقل ، فإذا فرضنا حينئذ انحصار الوجوب بهذا الفرد من الحكم الشخصي الثابت في القضية المنطوقية فقهرا بمقتضي الإناطة يلزمه عقلا انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجيء ، ولا نعنى من المفهوم الا ذلك. نعم لو كان قضية الأداة مضافا إلى إناطة الجزاء بالشرط هو اخراجه عما تقتضيه طبع الجملة الحملية من الاطلاق بحسب الحالات لكان للاشكال في الانتفاء عند الانتفاء كمال مجال ، ولكنه كما ترى بعيد جدا ، فان شأن الأداة على ما عرفت لايكون الا مجرد ربط إحدى الجملتين وإناطتها بما لها من المعنى والمدلول بجملة أخرى ، بلا اقتضائها لا همال القضية واخراجها عما يقتضيه طبعها من الظهور الاطلاقي الموجب لانحصار الطبيعي في الشخص ، كما لايخفى.

ولايخفى عليك انه على هذا البيان لايحتاج في اثبات المفهوم في القضايا الشرطية إلى اتعاب النفس لاثبات العلية المنحصرة ، كي يمنع تارة بمنع اقتضاء الشرط العلية بل مجرد الثبوت عند الثبوت ، وأخرى بمنع العلية المنحصرة على فرض تسليم اقتضاء أصل العلية ، فان ذلك كله منهم ناش عن عدم التفطن بوجه استفادة المفهوم في القضايا الشرطية وعدم ملاحظة ما يقتضيه طبع القضايا الانشائية والحملية من الظهور الاطلاقي الموجب لحصر الطبيعي في قوله : أكرم زيدا في حكم شخصي محدود بحد خاص ، والا فنفس ذلك كاف في استفادة المفهوم ، من جهة ان لازم إناطة مثل هذا الحكم الشخصي حينئذ هو لزوم انتفاء ذلك عند الانتفاء ، وحيث إن فرض انحصار الطبيعي أيضا بهذا الشخص بمقتضي الظهور الاطلاقي ، فقهرا يلزمه انتفاء الحكم السنخي بانتفائه ، من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة ، وهو واضح.

ثم انه لو أغمضنا عن ذلك البيان وبنينا على مقالة المشهور في استفادة المفهوم في القضايا الشرطية فهل للقضية الشرطية دلالة على التلازم بين المقدم والتالي أم لا؟ وعلى تقدير الدلالة فهل تدل على الترتب بينهما بنحو العلية أو العلية المنحصرة أم لا؟.

فنقول : انه وان لم يتعرض الأستاذ لذكر هذا البحث بل اكتفى في اثبات المفهوم

ص: 480

بما حررناه من البيان المتقدم ولكنه لا باس بالتعرض لبيان هذه الجهة جريا على طبق ممشى القوم.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على التلازم بين المقدم والتالي ، بل وعلى كون اللزوم بينهما بنحو العلية والمعلولية ، فالظاهر هو كونها في غاية الوضوح ، كما يشهد به الوجدان ويوضحه المراجعة إلى العرف وأهل المحاورة واللسان في نحو هذه القضايا ، حيث ترى انهم يفهمون منها الترتب بين المقدم والتالي بنحو العلية فضلا عن اللزوم بينهما ، وعليه فدعوى المنع عن الدلالة على اللزوم أو الترتب بنحو العلية في غاية السقوط.

نعم لدعوى المنع عن اقتضائها للترتب بنحو العلية المنحصرة كمال مجال ، من جهة احتمال فرد علة أخرى تقوم مقامها عند انتفائها ، وحينئذ فللقائل بالمفهوم اثبات هذه الجهة وسد باب الاحتمال المزبور كي يصح له الحكم بالانتفاء عند الانتفاء.

فنقول : انه قد استدل للدلالة على ذلك بأمور : منها انصراف اطلاق العلاقة اللزومية إلى أكمل افرادها وهو اللزوم بين المقدم والتالي بنحو العلية المنحصرة ، وأورد عليه في الكفاية (1) تارة بمنع كون الأكملية منشأ للانصراف ، وأخرى بمنع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم يكن بانحصار ، من جهة ان الملازمة لا تكون الا عبارة عن إضافة خاصة بين الشيئين ، ومن المعلوم انه لايكاد يختلف تلك الإضافة بالشدة والضعف في صورة الانحصار وعدمه ، بل هي على ما هي عليها ، كان بينه وبين شيء آخر أيضا ملازمة أم لا. ولكن يمكن ان يقال بان أشدية الملازمة حينئذ مع الانحصار انما هي من جهة ما يلزمه أيضا من الانتفاء عند الانتفاء ، بخلافه مع عدم الانحصار ، فان الملازمة حينئذ كانت بينهما من طرف الوجود الخاصة ، ومعلوم حينئذ ان العرف يرون الملازمة بينهما على النحو الأول أشد من الملازمة على النحو الثاني ، وحينئذ لو فرضنا الاغماض عن عدم منشئية هذه الأكملية للانصراف فلا جرم يصح الاستدلال بهذا الوجه لاثبات الانحصار.

بل ومن ذلك أيضا ظهر صحة التمسك باطلاق الملازمة بمقدمات الحكمة ، نظير التمسك باطلاق الطلب لاثبات الوجوب لكونه أكمل افراد الطلب ، بدعوى ان مقتضي الحكمة حينئذ هو الحمل على أكمل افراد اللزوم وهو اللزوم بين المعلول والعلة المنحصرة ، فتأمل.

ص: 481


1- ج 1 ص 304.

ومنها اطلاق الشرط بتقريب اقتضائه لانحصاره في مقام التأثير ، وانه تمام المؤثر في الجزاء ، سبقه أو قارنه امر آخر أم لا ، من جهة انه مع عدم الانحصار لايكون التأثير مستندا إليه خاصة فيما لو سبقه أو قارنه امر آخر ، بل التأثير على الأول كان مستندا إلى الامر السابق ، وعلى الثاني إلى المجموع لا إليه فقط أو الجامع بينهما ، فكان اللازم حينئذ تقييده بان لا يسبقه أو يقارنه آخر ، فاطلاقه حينئذ وعدم تقييده بذلك كاشف عن انحصاره في مقام التأثير وهو المطلوب. وقد أورد عليه أيضا في الكفاية (1) بمنع الاطلاق كك نظراً إلى دعوى ندرة تحققه بل عدم تحققه ، ولكن فيه تأمل واضح.

ومنها : اطلاق الشرط أيضا بتقريب اقتضائه كونه بنحو التعين وانه لايكون له بديل يقوم مقامه عند انتفائه ، والا كان اللازم تقييده بمثل ( أو كذا ) فعدم تقييده كاشف عن اطلاقه من هذه الجهة ، ومقتضاه هو كونه بنحو التعين ، نظير اقتضاء اطلاق الوجوب كونه تعيينا لا تخييريا وبذلك يثبت المطلوب وهو الانحصار في العلية. وأورد عليه أيضا في الكفاية بان التعين في الشرط ليس يغاير نحو فيما لو كان متعددا ، كما كان في الوجوب حيث إنه يغاير نحوا فيما لو كان له عدل فيحتاج في الوجوب التخييري إلى العدل ، ومقتضي اطلاقه هو كونه بنحو لايكون له عدل ، وهذا بخلافه في الشرط واحدا كان أم متعددا حيث إن دخله في المشروط على نحو واحد لا يتفاوت الحال فيه ثبوتا كي يتفاوت عند الاطلاق اثباتا ، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لايكون له عدل ، واما ما يرى من الاحتياج إلى ذكر العدل مع التعدد فإنما هو من جهة بيان التعدد لا من جهة نحو الشرطية وكونه مع الانحصار بنحو يغاير كونه مع التعدد وبينهما فرق واضح. ولكن فيه انه لا وجه لهذا الاشكال بعد تسليم أصل الاطلاق فان معنى تعين الشرط انما هو كونه مؤثرا بالاستقلال بخصوصيته الشخصية في المشروط ، ولازم ذلك هو ترتب الانتفاء عند انتفائه على الاطلاق ، كان هناك امر آخر لا ، فإذا أثبت ذلك حينئذ قضية الاطلاق وكان الحكم أيضا سنخيا ، فقهرا يلزمه الانتفاء عند الانتفاء ، نعم لو كان الحكم شخصيا أو ملحوظا بنحو الطبيعة المهملة لم يلزمه انتفاء الحكم بقول مطلق عند انتفائه ، من جهة امكان ان يكون هناك علة أخرى توجب شخص حكم آخر مثله عند انتفائه فتدبر.

ص: 482


1- ج 1 ص 305.
بقى التنبيه على أمور

الأول : انهم ذكروا ان المفهوم المصطلح انما هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشيء شرطا كان أو وصفا أو غاية عند انتفاء ذلك الشيء لا انتفاء شخص الحكم ، لان انتفاء شخص الحكم عند انتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي ، فلا يتمشى الكلام في مثل ذلك بان للقضية الشرطية دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، ولا ربط له بالمفهوم المصطلح ، وغرضهم من ذلك انما هو دفع ما ربما يورد عليهم من الاشكال في باب الوصايا والأقارير والأوقاف والنذر ونحو ذلك ، بأنه كيف المجال لدعوى انكار المفهوم مع أنه لا اشكال في دلالة هذه القضايا على الانتفاء عند الانتفاء ، فدفعوا الاشكال بان الحكم المعلق في مثل هذه القضايا انما يكون حكما شخصيا لا سنخيا فمن ذلك لايرتبط بالمفهوم المصطلح الذي هو معركة الآراء. ولكن نقول : بان هذا التفصي انما يتم فيما لو كان الوجه في انكار المفهوم عند منكريه من جهة عقد الحمل في القضية : من دعوى عدم كون الحكم المعلق هو السنخ والطبيعة المطلقة بل هو الطبيعة المهملة ، والا فإذا كان انكارهم ذلك راجعا إلى طرف عقد وضع القضية ، كما صنعه في الكفاية وغيرها ، من حيث جعل مركز النزاع في طرف عقد الوضع ومنع اقتضاء القضية لانحصار العلة ، فكان الاشكال كمال مجال كما بيناه سابقا ، إذ يقال حينئذ بأنه كما أنه في موارد الحكم السنخي يحتمل وجود علة أخرى غير المذكور في القضية ، ومن اجل هذا الاحتمال لا يحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء ، كك في موارد شخص الحكم أيضا يحتمل فرد علة أخرى في البين بحيث كانت العلة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما ، ومعلوم انه حينئذ لا مجال للحكم بلزوم الانتفاء عند الانتفاء وجعل الانتفاء فيه عقليا كما هو واضح ، فتأمل.

الامر الثاني : انه يعتبر في المفهوم في القضايا الشرطية بل الغائية والوصفية أيضا حفظ الموضوع في طرف المفهوم وتجريده عن خصوص الشرط في القضايا الشرطية وعن الوصف في الوصفية ، ففي مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرامه ، لابد من حفظ زيد في طرف المفهوم وتجريده عن خصوص الشرط وهو المجيء ، كي يكون الحاصل على المفهوم هو عدم وجوب اكرام زيد عند انتفاء المجيء ، والا فمع عدم بقاء الموضوع عند انتفاء المنوط به لايكون

ص: 483

انتفاء الحكم من المفهوم المصطلح ، فمن ذلك تخرج القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع عن المفهوم المصطلح كقوله : ان وجد زيد فأطعمه ، وان ركب الأمير فخذ ركابه ، وان رزقت ولدا فاختنه ، ونحو ذلك من القضايا التي كان انتفاء الحكم فيها عند الانتفاء من السالبة بانتفاء الموضوع.

الامر الثالث فيما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء وتنقيح الكلام فيه يقع فيه مقامين :

الأول : ما لو كان الجزاء واحدا غير قابل للتعدد بتعدد الشرط لا وجودا ولا مرتبة ، كما في وجوب القصر المترتب على خفاء الاذان والجدران في قوله : إذا خفى الاذان فقصر ، وإذا خفى الجدران فقصر ، حيث إن الجزاء في مثل هذا الفرض ليس قابلا للتكرر وجودا بل ولا للتأكد أيضا عند خفائهما. ونحوه قوله : إذا نمت فتوضأ ، وإذا بلت فتوضأ بناء على عدم قابليته للتأكد وجوبا.

الثاني : ما لو كان الجزاء واحدا بحسب الحقيقة ولكنه كان قابلا للتعدد والتكرر وجودا كما في الكفاية المترتبة على الافطار وعلى الظهار في قوله : ان ظاهرت فكفر وان أفطرت فكفر.

اما المقام الأول : فملخص الكلام فيه هو ان الجزاء في مثل قوله إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجداران فقصر ، لما كان واحدا شخصيا غير قابل للتكرر وجودا ولا مرتبة لقيام الاجماع والضرورة على عدم تعدد القصر عند تعدد الأسباب وخفائهما بل وعدم تأكد وجوبه فلا جرم يقع المعارضة بين الشرطين ، حيث لايمكن ابقاء ظهور كل منهما على حاله في الاقتضاء لترتب الجزاء عليه بالاستقلال ، فيعلم اجمالا بمخالفة ظهورهما للواقع فمن ذلك لابد من التصرف في ناحية عقد الوضع في الشرطين ، اما برفع اليد عن قضية اطلاقهما في الاستقلال في التأثير بتقييد كل منهما بحال وجود الاخر وجعل الشرط هو مجموع خفاء الاذان والجدران ، واما برفع اليد عن ظهورهما في الانحصار وفى الدخل بعنوانهما الخاص ، اما بجعل الشرط هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو تقييد كل منهما في اقتضائه لترتب الجزاء عليه بعدم كونه مسبوقا بوجود الآخر لو فرض عدم جامع بينهما ، كي يكون لازمه وجوب القصر بخفاء أول الامرين وانتفائه بانتفائهما معا.

واما احتمال تقييد المفهوم في كل منهما بمنطوق الآخر كما في الكفاية فهو (1) مع أنه

ص: 484


1- ج 1 ص 313.

راجع بحسب النتيجة إلى ما ذكرنا كما ترى ، لضرورة ان المفهوم في نفسه غير قابل للتقييد ، لأنه من اللوازم العقلية للقضية اللفظية حسب مالها من الخصوصيات الموجبة لذلك ، فكان مرجع تقييده حينئذ مع ابقاء القضية اللفظية المنطوقية على حالها بما لها من الخصوصية إلى نحو تفكيك بين الملزوم ولازمه ، وهو كما ترى من المستحيل جدا. وحينئذ ففي مقام التوفيق يدور الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين ، اما عن ظهور الشرطين في الاستقلال بجعل الشرط مجموع خفاء الاذان والجدران ، كي يكون لازمه وجوب القصر عند خفاء الامرين معا وانتفاء وجوبه عند خفاء أحدهما ، واما عن ظهورهما في الدخل بعنوانهما الخاص بجعل الشرط الجامع بينهما ، أو عن قضية ظهور اطلاقهما في الانحصار المقتضي لترتب الوجوب عليه وان سبقه آخر ، كي يلزمه وجوب القصر بمجرد خفاء أحدهما ، وفي مثله نقول : بأنه وان كان الظهور ان كلاهما بمقتضي الاطلاق ، ولكن أمكن دعوى تعين الثاني وترجيح ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهورهما في الدخل بعنوانهما الخاص وفى الانحصار ، إذ على هذا الفرض كان ظهور كل واحد من الشرطين في الاستقلال في التأثير على حاله ، بخلاف العكس ، فإنه علاوة عما يلزمه من رفع اليد عن ظهور الشرطين في الاستقلال يلزمه أيضا رفع اليد عن ظهورهما في الانحصار ، وواضح حينئذ انه عند الدوران كان المتعين هو الأول ، لان الضرورة تتقدر بقدرها ، وعليه فكان المدار في وجوب القصر على خفاء أول الامرين منهما. نعم لو خودش في ذلك ولم يرجح أحد الظهورين على الآخر فلا جرم يسقطان عن الحجية ، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وبعد تساقطهما كان المرجع هو الأصل ، وهو أصالة التمام إلى حد يعلم بخفائهما معا ، كما أنه في طرف الإياب كان الأصل مقتضاه وجوب القصر إلى حد لايخفى عليه واحد منهما وهو واضح. هذا كله في المقام الأول.

واما المقام الثاني : وهو ما لو تعدد الشرط واتحد الجزاء سنخا بحيث كان قابلا للتكرر وجودا كقوله : ان بلت فتوضأ وان نمت فتوضأ ، بناء على كونه من المثال ، وكقوله : ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر ، ففي عدم التداخل ووجوب الاتيان بالوضوء والكفارة متكررا حسب تعدد الشرط مطلقا ، أو التداخل وعدم وجوب الاتيان الا دفعة واحدة كك ، أو التفصيل بين صورة تحقق الشرط الثاني بعد امتثال الأول أو قبله فعدم التداخل على الأول والتداخل على الثاني ، أو التفصيل بين فرض اتحاد الشروط في الجنس

ص: 485

وبين فرض اختلافها فالتداخل على الأول وعدمه على الثاني وجوه ، بل أقوال.

وتحقيقه ان يقال : ان ظاهر الجملة الشرطية فيهما لما كان هو حدوث الجزاء عند كل شرط ، ومقتضاه كان هو لزوم تعدد الوضوء والكفارة وجودا عند تعدد الشروط ، وكان الاخذ بما يقتضيه ظاهر الشرطين مع ظهور المتعلق في الجزاء في صرف الوجود الغير القابل للتعدد والتكرر غير ممكن جدا ، لاستلزامه لاجتماع الوجودين في وجود واحد ، فلا جرم يقع بينهما التنافي ، حيث يعلم اجمالا بمخالفة أحد الظهورين للواقع اما ظهور المتعلق في صرف الوجود أو ظهور الشرطين ، وفي مثله لابد من التصرف في أحد الظهورين ، ورفع اليد اما عن ظهور المتعلق في الصرف وحمله على وجود ووجود ، أو عن ظاهر الشرطين في اقتضائهما الاستقلال في التأثير في الجزاء ، نعم لما كان طرف المعارضة لظهور الجزاء بدوا بمقتضى العلم الاجمالي هو مجموع الشرطين فلا جرم لايكاد يبقى مجال انتهاء الامر في هذا المقام إلى ملاحظة التعارض بين الشرطين والتصرف فيهما بإحدى الوجوه المتقدمة ، كما يظهر من الكفاية ، لضرورة انه انما ينتهى الامر إلى ذلك في فرض تحكيم ظهور الجزاء في الوحدة وصرف الوجود على ظهور الشرطين ، حيث إنه بعد هذا التحكيم يقع تعارض بالعرض بين نفس الشرطين ، فيحتاج إلى رفع التعارض من البين بالتصرف فيهما إحدى الوجوه المتقدمة ، والا ففي عدم تحكيم ظهور الجزاء وحمله على الطبيعة المهملة القابلة لتعدد فلايكاد يتصور تعارض بينهما حتى يحتاج إلى التصرف فيهما ، كما في المقام الأول ، من جهة وضوح امكان ابقاء كلا الشرطين حينئذ على ظاهرهما في الاستقلال واقتضائهما التعدد في الجزاء كما هو واضح ، وعليه نقول : ان التعارض بعد ما كان بدوا بين ظهور الجزاء في الصرف وبين مجموع الشرطين بمقتضي العلم الاجمالي فلا جرم في مقام التوفيق لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين اما عن ظهور الجزاء في صرف الوجود أو عن ظهور الشرطين في الاستقلال ، وفي مثله نقول : ان الذي يقتضيه التحقيق هو لزوم تحكيم ظهور الشرطين في الاستقلال على ظهور الجزاء في صرف الوجود ولزوم التصرف فيه بحمله على التعدد ووجود بعد وجود ، وذلك لما يلزمه من كونه أقل محذورا من العكس ، حيث إنه على تقدير تحكيم ظهوره على ظهور الشرطين يلزمه رفع اليد عن ظهور كل واحد من الشرطين في الاستقلال ، فيحتاج إلى ارتكاب خلاف ظاهرين ، وهذا بخلافه في طرف العكس ، حيث إنه لايلزمه الا ارتكاب خلاف الظاهر واحد ، ومن المعلوم أيضا انه

ص: 486

عند الدوران يتعين ما هو أقل محذورا من الآخر ، فان ارتكاب خلاف الظاهر بنفسه محذور ، وهو يتقدر بقدره ، هذا كله ، خصوصا بعد ملاحظة تبعية الجزاء ثبوتا للشرط بلحاظ كونه من علل وجوده ، فان هذه التعبية توجب تبعيته له عرفا أيضا في مقام الاثبات والدلالة ، فتوجب أولوية التصرف في الجزاء عند الدوران على التصرف في ناحية سببه وعلته ، من جهة اقتضائه اقوائية ظهوره من ظهوره ، كما هو واضح.

وعليه فيبطل القول بالتداخل على الاطلاق وجواز الاكتفاء بوجود واحد ، فان مبناه انما هو من جهة تحكيم ظهور الجزاء في صرف الوجود على ما يقتضيه ظهور الشرطين ، وبعد تعين التصرف في ظهوره بمقتضي تحكيم ظهور الشرطين عليه لايبقى مجال توهم التداخل وجواز الاكتفاء بوجود واحد على الاطلاق.

نعم بعد ما ظهر من لزوم تحكيم قضية الشرطين ولزوم التصرف في الجزاء بحمله على التعدد يبقى الكلام في أن قضية ذلك هل هو لزوم التصرف في خصوص الحكم وهو الوجوب مع ابقاء موضوعه ومتعلقه وهو الوضوء أو الكفارة - كما في المثال - على حاله من الظهور في صرف الوجود؟ كي يلزمه المصير إلى التفصيل المزبور بين ما قبل الامتثال وما بعده بالتداخل في الأول وعدمه في الثاني ، نظراً إلى أنه بعد الاخذ بظهور المتعلق في صرف الوجود لايكاد يكون قضية تعدد الشرط قبل الامتثال الا تأكد الطلب بالنسبة إلى المتعلق ، بخلافه فيما بعد الامتثال ، فإنه يوجب قهرا تعدد الوجوب ، أو ان قضية ذلك هو لزوم التصرف في المتعلق أيضا وحمله على وجود فوجود حسب تعدد الشروط؟ كي يلزمه المصير إلى عدم التداخل على الاطلاق ولزوم الاتيان بالكفارة متعددا حسب تعدد الشروط ، من جهة اقتضاء كل شرط وجودا للكفارة ، أو ان مقتضاه هو لزوم التعدد في ناحية متعلق المتعلق أيضا؟ فكان الواجب في مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرام العالم وان جاء عمر ويجب اكرام العالم ، هو اكرام العالمين ، ولا يكتفي باكرامين لعالم واحد ، بخلاف سابقه ، فإنه عليه يكتفى باكرامين لعالم واحد في نحو المثال فيه وجوه : ولكن الأقوى أوسطها ، وذلك لا لما أفيد كما عن بعض الأعاظم (1) في تقريب ذلك باقتضاء كل شرط وجودا للمتعلق وان تعدد الوجوب انما هو من جهة كونه مقتضي

ص: 487


1- هذا البعض حضرة السيد محمد الأصفهاني قدس سره « المؤلف ، قدس سره ».

تعدد الوجود ، لكي يورد عليه بان اقتضاء الشرط للوجود بعد ما لم يكن بنحو التكوين بل بنحو التشريع فمرجعه لا محالة إلى كونه منشأ لقيام المصلحة بالوجود واتصافه بكونه ذا مصلحة ، وحينئذ فبعد امكان قيام مصالح متعددة بوجود واحد شخصي بجهات مختلفه فلا مجال لاستفادة تعدد الوجود خارجا بمحض تعدد الشروط ، من جهة امكان ان يكون كل شرط حينئذ مؤثرا في قيام شخص من المصلحة بوجود المتعلق ، بل ذلك من جهة ظهور كل شرط في ترتب حكم محدود مستقل عليه ، حيث إن قضية تعدد الشرط حينئذ انما هو تعدد الحكم بحسب تعدده ، ولازمه بعد امتناع اجتماع المثلين في موضوع واحد هو لزوم المصير إلى تعدد الوجود في الموضوع والمتعلق أيضا ، فتعدد الوجود حينئذ في الحقيقة انما هو لكونه من لوازم تعدد الوجوب واستقلاله الناشي ذلك من جهة تعدد الشرط ، نظراً إلى اقتضاء كل شرط لوجوب خاص محدود بحد مستقل ، لا من جهة اقتضاء كل شرط بدوا وجودا وان تعدد الوجوب من جهة كونه من تبعات تعدد الوجود كما على المسلك الأول.

وعلى ذلك فيبطل القول بالتفصيل في التداخل وعدمه بين ما قبل الامتثال وما بعده ، من جهة ان القول بالتداخل وتأكد الوجوب فيما قبل الامتثال مما ينافي لا محالة ما يقتضيه ظهور كل شرط في ترتب حكم خاص محدود مستقل على الاطلاق ، فقضية الاخذ بظهورهما في استقلال الحكم حينئذ كما عرفت هو وجوب المصير إلى عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشرط وتكرره ، واما جواز الاكتفاء باكرامين لعالم واحد في مثل قوله : ان جاء زيد يجب اكرام العالم وان جاء عمرو يجب اكرام العالم ، وعدم لزوم التعدد في متعلق المتعلق واكرام العالمين ، فإنما هو من جهة عدم الدليل على ذلك ، من جهة ان غاية ما يقتضيه قضية تعدد الحكم انما هو التعدد في ناحية موضوعه ومتعلقه ، نظراً إلى ما يقتضيه امتناع اجتماع الحكمين المتماثلين في موضوع واحد ، واما اقتضائه التعدد في متعلق متعلقه أيضا فلا ، خصوصا بعد كونه كثيرا ما غير محتاج إلى المتعلق ، كما في قوله : ان أفطرت فكفر وان ظاهرت فكفر ، نعم قد يتفق الاحتياج إلى لزوم التعدد في متعلق المتعلق أيضا فيما لو كان الواجب من قبيل الاطعام ونحوه ، فإنه في مثل هذا الفرض ربما يحتاج إلى التعدد في طرف المتعلق أيضا ، نظراً إلى توقف صدق التعدد في الاطعام عرضيا لا طوليا على تعدد الشخص ، كما هو واضح.

فتلخص مما ذكرنا ان التحقيق في المسألة بحسب القواعد هو ما عليه المشهور من عدم

ص: 488

التداخل مطلقا ولزوم الاتيان بالجزاء متكررا حسب تعدد الشروط وتكرره ، دون القول بالتداخل الذي مبناه هو التصرف في ناحية الشرط وعقد الوضع في القضية ، ودون القول بالتفصيل بين ما قبل الامتثال وما بعده الذي مبناه على التصرف في ناحية الحكم والطلب ورفع اليد عن ظهور كل شرط في اقتضائه ترتب حكم محدود مستقل عليه ، وذلك لما عرفت بما لا مزيد عليه من هدم المبني فيهما ، من جهة قوة ظهور كل شرط في الاستقلال في العلية لترتب الاجزاء واقتضاء كل لجزاء مستقل ، حيث إن مقتضاه حينئذ هو عدم التداخل ووجوب الاتيان بالجزاء متكررا حسب تكرر الشرط ، من غير فرق بين حدوث الشرط الثاني قبل امتثال الأول أو بعده ، بل ولا بين فرض اتحاد الشروط في الجنس أو اختلافها أيضا.

حيث إنه لا وجه لمثل هذا التفصيل الا توهم ظهور القضية الشرطية في كون المؤثر في الجزاء هو الشرط بصرف وجوده المنطبق على أول وجود دونه بوجوده الساري ، بدعوى ان الشروط المتعددة حينئذ ان كانت من نوع واحد كما لو بال مكررا أو أفطر كك فالتأثير لا محالة كان مستندا إلى الجامع والقدر المشترك المنطبق على أول وجود ، ويلزمه كون الوجود الثاني منعزلا عن فعلية التأثير فيترتب عليه القول بالتداخل وعدم وجوب الاتيان بالجزاء متكررا وأما إذا لم تكن من نوع واحد فيلزمه عدم التداخل وجوب الاتيان بالجزاء متعددا ، من جهة اقتضاء كل شرط حينئذ حسب ما يقتضيه ظاهر القضية لجزاء مستقل ، ولكنه مدفوع بمنع الظهور المزبور في باب العلل والأسباب ، كما في المقام ، لولا دعوى ظهورها في التأثير بنحو الوجود الساري ، كيف وان حال العلل والأسباب الشرعية من هذه الجهة انما هو كالعلل والأسباب التكوينية العقلية ، فكما ان قضية السببية والمؤثرية الفعلية في العلل التكوينية لا تختص بصرف الوجود المنطبق على أول وجود ، بل جار في الوجود الساري في ضمن الافراد المتعاقبة ، ومع فرض قابلية المحل يكون كل وجود منه مؤثرا فعليا ، كما في النار ، حيث إن كل وجود منها كانت مؤثرة في الاحراق ، كك الامر في العلل الشرعية ، فكانت تلك أيضا مؤثرة بوجودها الساري في ضمن الافراد المتعاقبة ، ومن المعلوم أيضا ان قضية ذلك عند قابلية المحل للتعدد هو تعدد المسبب بتعدد أسبابه ، كما في فرض اختلاف الأسباب في الجنس ، وعليه فلا محيص من المصير بمقتضي القواعد إلى ما عليه المشهور من عدم التداخل

ص: 489

على الاطلاق ، كما هو واضح.

هذا كله فيما لو كان الجزاء واحدا سنخا وكان قابلا للتعدد والتكرر بتعدد شرطه وسببه ، وقد عرفت ان رجوع التداخل وعدمه فيه إلى التداخل في الأسباب وعدمه من حيث اقتضاء كل سبب لجزاء مستقل وعدمه ، وعرفت أيضا ان التحقيق فيه هو عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا.

واما لو كان الشرط واحدا والجزاء أيضا واحدا سنخا لا شخصا ، كقوله : ان أفطرت فكفر ، فهل قضية ذلك أيضا هو كون الشرطية بنحو الوجود الساري في ضمن الافراد كي يلزمه تعدد الجزاء وجودا حسب تعدد افراد الشرط خارجا؟ أو بنحو صرف الوجود حتى لايلزمه الا وجود واحد وان تعدد افراد الشرط؟ فيه وجهان : أظهرهما الأول كما تقدم وجهه آنفا.

واما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا اما عنوانا كالاكرام والاطعام ، أو من ناحية ما تعلق به موضوع الخطاب كاكرام العالم والهاشمي ، حيث كان الاكرام في ذاته حقيقة واحدة ، وانما الاختلاف فيه باعتبار اضافته إلى عنوان العالم والهاشمي ، ففي مثله يقع الكلام في أنه في مورد تصادق العنوانين هل يتداخل الامر ان؟ فيجوز الاكتفاء باكرام واحد في المجمع بداعي الامرين ، أم لا يتداخلان؟ فيجب تعدد الاكرام ، وهكذا في مثال الاكرام والاطعام ، فلايجوز الاكتفاء بالاطعام الواحد وان صدق عليه الاكرام أيضا. ومرجع التداخل في هذه المسألة إلى التداخل في المسبب ، بعد الفراغ عن عدم التداخل في الأسباب ، واقتضاء كل سبب لجزاء ، بخلاف التداخل في المسألة السابقة ، فان التداخل فيها انما كان في الأسباب وعدم اقتضاء الأسباب المتعددة الا جزاء واحداً.

ثم إن منشأ الاشكال في المقام انما هو من جهة محذور اجتماع المثلين ، حيث إنه بعد تحكيم ظهور الشرطين في اقتضاء كل منهما لترتب جزاء مستقل ووجوب محدود بحد خاص ، يتوجه الاشكال بأنه على التداخل في المجمع ، يلزمه اجتماع الوجوبين فيه وصيرورة ذاك الاكرام الشخصي محكوما بوجوبين مستقلين.

نعم قد يتوهم اشكال آخر عليه وهو لزوم التنافي بين مفهوم أحد الشرطين ومنطوق الاخر فيما لو تحقق أحد الشرطين وانتفى الآخر ، من حيث اقتضاء كل منهما بمفهومه انتفاء

ص: 490

سنخ الحكم بقول مطلق حتى في المجمع عند الانتفاء ولو مع تحقق الآخر. ولكنه كما ترى ، إذ مضافا إلى عدم ابتناء المسألة في المقام بالمفهوم وجريانه في شخص الحكم أيضا نمنع التنافي بينهما ، إذ نقول : بان غاية ما يقتضيه قوله : ان جاء زيد فأكرم عالما ، انما هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام في المجمع عند الانتفاء من حيث العالمية لا مطلقا ولو بلحاظ كونه هاشميا ، ولا منافاة بين ان يكون زيد مثلا واجب الاكرام من حيث كونه هاشميا وبين كونه غير واجب الاكرام من حيث كونه عالما.

وحينئذ فكان العمدة هو الاشكال الأول ، وفي مثله نقول : بان العنوانين المتصادقين على مجمع واحد تارة من قبيل الجنس والفصل كالحيوان والناطق ، وأخرى من قبيل العامين من وجه المتصادقين في مجمع واحد عنه الاجتماع ، فان كانا من قبيل الجنس والفصل فلا اشكال في التداخل وفي انه لا يلزم منه محذور أصلا ، إذ حينئذ بعد اختلاف العنوانين بحسب الحقيقة والمنشأ فقهرا يكون مركب كل حكم جهة غير الجهة الأخرى التي هي مركب الحكم الآخر ، ومعه فلا يلزم من القول بالتداخل محذور أصلا ، كما هو واضح. واما ان كانا من قبيل العامين من وجه كما في مثال اكرام العالم والهاشمي فيبتنى على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فعلى القول بالجواز في مثله ولو بدعوى كفاية هذا المقدار من المغايرة في رفع المحذور فلا اشكال في التداخل في المقام ، واما على القول بعدم الجواز كما هو التحقيق في نحو المثال ، بلحاظ وحدة الحقيقة في الجهة المشتركة وهو الاكرام ، ففيه اشكال جدا ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتماثلين في ذات الاكرام الذي هو مجمع الإضافتين ، مع كونه حقيقة واحدة وحيثية فاردة ، واما الحمل على التأكد حينئذ ورفع اليد عن استقلال الحكمين فهو ان يرتفع به المحذور المزبور ولكنه مخالف لما يقتضيه ظاهر الشرطين في اقتضاء كل لوجوب مستقل ، والا لما كان وجه للمصير إلى عدم التداخل في المسألة السابقة ، وحينئذ فبعد تحكيم ظهور الشرطين لابد فرارا عن المحذور والمزبور من المصير إلى عدم التداخل حتى في مورد التصاديق أيضا هذا.

ولكن مع ذلك بناء الأصحاب في مثله على التداخل وجواز الاكتفاء باكرام واحد في المجمع في سقوط الخطابين. اللّهم الا ان يقال حينئذ بكفاية التعدد في الحكم في المجمع في الجملة في حفظ ظهور الشرطين في الاستقلال ، بدعوى ان الواجب في قوله : أكرم عالما وأكرم هاشميا وان كان هو الاكرام المضاف إلى عنوان العالم والهاشمي بحيث كان

ص: 491

لحيثية الإضافة أيضا دخل في موضوع الحكم ، الا ان قضية الحكم في تعلقه بالاكرام المضاف هو مشمولية الإضافة المزبورة أيضا للحكم ولو ضمنا ، فلا باس في مثله بالمصير إلى التأكد برفع اليد عن استقلال الحكمين وتعددهما في المجمع بالإضافة إلى ذات الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين مع حفظ استقلالهما بالقياس إلى الإضافتين المزبورتين ، فان الذي ينافيه قضية الظهور المزبور انما هو رفع اليد عن تعدد الحكمين واستقلالهما في المجمع على الاطلاق ، حتى بالقياس إلى الإضافتين ، واما رفع اليد عن ذلك في الجملة في خصوص ذات الاكرام التي هي جهة مشتركة بين الإضافتين فلا ، وعلى ذلك فيتم قول المشهور من جواز الاكتفاء بايجاد واحد في المجمع ومورد التصادق في سقوط الامرين وعدم وجوب تعدد الاكرام في سقوطهما وامتثالهما ، نعم لابد حينئذ في سقوط الامرين من أن يكون الايجاد الواحد بداعي كلا الامرين ، والايكون الساقط خصوص ما قصد منهما ، ما لم يكن الآخر توصليا والا فيسقطان معاً.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال فيما لو كان الجزاء واحدا بحسب الصورة ومتعددا بحسب الحقيقة ، كما في الغسل على ما يظهر من بعض النصوص من قوله علیه السلام : إذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد (1) الظاهر في أنها أي الأغسال مع اتحادها صورة مختلفات بحسب الحقيقة وقابلية التصادق على الواحد ، الواحد ، حيث إن قضية الاجتزاء بغسل واحد عن المتعدد حينئذ انما هو جهة تصادفها على الواحد ، نعم ربما كان قضية اطلاقه حينئذ هو جواز الاكتفاء بالواحد عن المتعدد ، ولو مع عدم قصد البقية. ومن هذه الجهة ينافي ما ذكرنا من لزوم قصد الجميع في جواز الاكتفاء بالواحد وعدم سقوط الامر عن البقية مع عدم قصد امتثال الجميع. ولكنه يمكن دفع ذلك أيضا بدعوى تقييد تلك المطلقات بخصوص غسل الجنابة ، كما في خبر حريز ونحوه (2) فيقال حينئذ بان

ص: 492


1- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث 1.
2- ليس في ما رأينا من اخبار الباب ما كان الراوي فيه عن المعصوم علیه السلام حريزا ، نعم هو واقع في جملة من اسناد اخبار الباب. كما في موثق حريز عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال : إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد. ونحوه مرسل جميل بن دراج. فراجع الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة [ المصحح ].

جواز الاكتفاء بغسل الجنابة عن ما عداه من غسل الحيض والنفاس ومس الميت ونحوها انما هو من جهة ان الجنابة من أكبر الاحداث التي تندك في ضمنها سائر الاحداث نظير اندكاك السواد الضعيف في ضمن السواد الشديد ، فإنه حينئذ مع زوالها بغسلها لايبقى حدث حتى ينتهى بعد الغسل منها إلى الامر بالغسل لسائر الاحداث ، ففي الحقيقة سقوط الامر بالغسل عن الحيض والنفاس ونحوهما مع غسل الجنابة انما هو من جهة عدم بقاء المحل والموضوع وهو الحدث مع غسل الجنابة ، لا من جهة وقوع غسل الجنابة امتثالا للامر بسائر الأغسال تعبدا مع عدم قصد عنوانها حتى يتوجه الاشكال المزبور ، فتأمل. وهذا بخلاف غسل غير الجنابة ، فإنه من جهة عدم وفائه بزوال الحدث بجميع مراتبه لا يكتفى به في سقوط غسل الجنابة الا بقصدها أيضا ، كما يشهد له أيضا ما في الصحيح عن أبي عبد اللّه وأبى الحسن علیهماالسلام في رجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة قال (عليه السلام) غسل الجنابة عليها واجب (1) الظاهر في عدم كفاية ما تأتى به من غسل الحيض عن غسل الجنابة ولزوم الاتيان بغسلها أيضا ليرتفع به تمام مراتب الحدث ، فتأمل ، وتمام الكلام في هذا المقام موكول إلى محله في الفقه.

ثم إن هذا كله فيما لو أحرز تعدد الجزاء عنوانا واختلافه بحسب الحقيقة ولو بمعونة قرينة خارجية كما في الأغسال. واما لو لم يحرز ذلك واحتمل تعدده بحسب الحقيقة ، كما في الكفارة المترتبة على الافطار والظهار ، فهل مقتضي القواعد في هذه الصورة هو الحمل على تعدد العنوان والحقيقة كي يندرج في موضوع البحث المتقدم عند التصادق ، ويقال فيه بالتداخل ، أو الحمل على وحدة الحقيقة؟ فيه وجهان : أظهرهما الثاني ، إذ نقول : بان اختلاف الحقيقة في الجزاء لابد وأن يكون بأحد الامرين ، اما من جهة الاختلاف ذاتا كالظهرية والعصرية أو من جهة الإضافة إلى الشروط. اما الجهة الأولى : فهي منتفية في المقام من جهة عدم الطريق إلى اختلاف الحقيقة ذاتا فيه وكون الكفارة المترتبة على الافطار بذاتها غير الكفارة المترتبة على الظهار ، واما الجهة الثانية : فكذلك أيضا من جهة ظهور مثل هذه القضايا الشرطية في كون المشروط من الجهات التعليلية للحكم لا من الجهات التقييدية للموضوع ، كي يكون لإضافتها دخل في الموضوع. ومن ذلك نفرق

ص: 493


1- الوسائل ، الباب 43 من أبواب الجنابة ، الحديث 8.

بين القضايا التوصيفية في نحو قوله : أكرم زيد الجائي ، وبين القضايا الشرطية في نحو قوله : أكرم زيدا ان جائك ، حيث نقول بدخول التقييد بالمجيء على الأول في الموضوع حيث كان الموضوع لوجوب الاكرام هو زيد المتقيد بالمجيء ، بخلافه على الثاني حيث كان تمام الموضوع لوجوب الاكرام هو ذات زيد بلا اخذ جهة زائدة فيه في موضوعيته للحكم ، وانما المجيء كان علة للحكم بوجوب اكرامه ، وعلى ذلك فحيث انه كان الظاهر من القضايا الشرطية في مثل قوله : ان ظاهرت فكفر وان أفطرت فكفر ، هو كون الظهار والافطار من الجهات التعليلية لوجوب الكفارة لا من الجهات التقييدية للموضوع فلا جرم لايبقى مجال اخذ الإضافات المزبورة في طرف الموضوع ، وهو الكفارة ، ومعه فلا يبقى مجال الحمل على تعدد الحقيقة واختلافها بمحض قابلية الجزاء لذلك ، كما هو واضح ، وعليه ففي نحو هذه القضايا لابد من القول بعدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا على حسب تعدد الشرط.

فتلخص مما ذكرنا ان لنا صورا ثلاثا : الأولى : ما تكرر الشرط واتحد الجزاء شخصا بحيث لم يكن قابلا للتكرر كما في القصر في قوله : إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران فقصر ، وقد عرفت انه لابد فيه من التداخل في السبب ولزوم التصرف في عقد الشرط بأحد الوجهين المتقدمين ، الثانية : ما لو تكرر الشرط ولكنه اتحد الجزاء سنخا لا شخصا بحيث كان قابلا للتعدد وجودا ، وقد عرفت رجوع القول بالتداخل المطلق في هذا القسم أيضا إلى التداخل في الأسباب وان التحقيق فيه هو عدم التداخل ولزوم الاتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشرط ، الثالثة : ما لو تعدد الشرط وتعدد الجزاء أيضا عنوانا وحقيقة وان اتحد صورة مع قابليتها للتصادق على وجود واحد ، وقد عرفت رجوع التداخل في هذا القسم إلى التداخل في المسبب فارغا عن عدم التداخل في السبب واقتضاء كل سبب الجزاء مستقل وان التحقيق فيه هو التداخل عند التصادق وفى المجمع وجواز الاكتفاء بايجاد واحد في المجمع وسقوط الامرين فيما لو كان الايجاد بداعيهما ، والا فالساقط هو خصوص ما قصد الاتيان بداعية لولا اقتضائه لافناء موضوع آخر كما في غسل الجنابة أو كون الآخر توصليا يسقط بمجرد الانطباق القهري ولولا عن قصد الامتثال فتدبر.

بقى الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في التداخل وعدمه فنقول : قد عرفت ان الشك في التداخل وعدمه تارة يكون من جهة احتمال التداخل في الأسباب واحتمال

ص: 494

كون المؤثر هو الجامع بينهما المنطبق على أول وجود ، وأخرى من جهة احتمال تأكد الوجوب ، كما هو قضية القول بالتفصيل المتقدم ، وثالثة من جهة احتمال تصادق العناوين المتعددة على مجمع واحد. فان كان الأول فلا اشكال في أن مقتضي الأصل هو جواز الاكتفاء بوجود واحد وعدم وجوب الزائد عن وجود أحد لأصالة البراءة عن التكليف الزائد ، واما على الثاني فقد يقال بان مقتضي الأصل فيه أيضا هو البراءة عن الزائد لعدم العلم بالتكليف بالنسبة إلى الوجود الثاني بعد احتمال تأكد الوجوب بالنسبة إلى وجود الأول ، ولكن التحقيق خلافه ، إذ نقول بأنه انما يرجع إلى البراءة فيما لو كان الشك في أصل التكليف الزائد ، وفى المقام لايكون كك ، حيث إنه يعلم تفصيلا بتأثير كل شرط في مرتبة من التكليف ، وانما الشك في تعلقهما بوجود واحد أو بوجودين ، وبعبارة أخرى يعلم تفصيلا بأنه من قبل كل شرط توجه الزام إلى المكلف ، وانما الشك في تعلقهما بوجود واحد فيلزمه تأكد الوجوب فيه أو بوجودين مستقلين ، وفي مثله لا محيص الا من الاحتياط من جهة انه في الاكتفاء بايجاد واحد يشك في الخروج عن عهدة ذاك التكليف الناشي من قبل الشرط الثاني ، لاحتمال تعلقه بوجود آخر ، فلابد حينئذ من الاحتياط ، تحصيلا للقطع بالفراغ عما ثبت الاشتغال به ، وهذا بخلافه في الصورة الأولى حيث إنه بعد احتمال كون التأثير مستندا إلى الجامع المنطبق على أول وجود يشك في أصل توجه الالزام والتكليف من قبل الشرط الثاني ، فيندرج في الأقل والأكثر ، ويرجع فيه إلى البراءة ، ومن ذلك البيان ظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا فان المرجع فيه أيضا عند الشك في التداخل من جهة احتمال تصادق العنوانين على الواحد هو الاشتغال لا غير ، كما هو واضح.

الامر الرابع : لا اشكال في أنه تعتبر في مقام اخذ المفهوم مراعاة جميع ما اعتبر في المنطوق من القيود المأخوذة في الشرط والجزاء في المفهوم أيضا ، ومن ذلك يكون المفهوم في مثل قوله : ان جاء زيد راكبا فأكرمه يوم الجمعة ، هو انتفاء هذا الحكم الخاص ، وهو وجوب الاكرام يوم الجمعة عن زيد عند انتفاء الشرط المزبور بما له من القيود ، إذ كان المفهوم ان لم يجيء زيد راكبا فلاتكرمه يوم الجمعة ، كما أن المفهوم في قوله : ان جاء زيد زيد فأكرم مجموع الجماعة ، هو انتفاء وجوب اكرام الجماعة من حيث المجموع عند انتفاء المجيء الغير المنافي لوجوب اكرام بعضهم ، وهذا مما لا كلام فيه. وانما الكلام فيما لو كان الجزاء حكما عاماً

ص: 495

أصوليا ثابتا لافراد الطبيعة بنحو الاستغراق ، كقوله : ان جاء زيد فأكرم كل عالم ، وقوله إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء ، في أن قضية المفهوم هل هو السلب الكلي في الأول والايجاب الكلي في الثاني ، أو هو السلب الجزئي والايجاب الجزئي؟ ومبني الخلاف في المسألة ان قضية إناطة هذا الحكم العالم وتعليقه بالشرط في قوله : الماء إذا بلغ قدر كر الخ ، هل هو تعليق وإناطة شخصي غير قابل للانحلال إلى تعليقات متعددة بتعدد افراد النجاسات ، أو هو تعليق سنخي منحل إلى تعليقات متعدده؟ حيث إنه على الأول يلزمه كون المفهوم منه هو الايجاب الجزئي الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات عند عدم بلوغه كرا ، بخلافه على الثاني فإنه يلزمه كون مفهومه بنحو الايجاب الكلي ، من جهة ان لازم انحلال التعليق هو انحلال التعليق هو انحلال القضية الشرطية إلى قضايا متعددة حسب تعدد النجاسات ، ولازمه عقلا هو استخراج مفاهيم متعددة عند عدم بلوغه كرّاً.

وربما يبتنى الخلاف في المسألة على أن المعلق على الشرط في نحو المثال هو الحكم العام أو عموم الحكم ، بدعوى لزوم كون المفهوم على الأول هو الايجاب الكلي ، بخلافه على الثاني ، فإنه لايكون الا بنحو الايجاب الجزئي ، ولكنه كما ترى ، إذ نقول : انه على الثاني من تعليق العمومية وان لم يكن المجال الا للايجاب الجزئي ، بلحاظ عدم اقتضائه حينئذ في طرف المفهوم الا انتفاء هذه العمومية الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات ، الا انه نقول : بأنه على الأول لا يتعين كونه بنحو الايجاب الكلي ، بل هو بمقتضي ما بيناه قابل لإفادة الايجاب الجزئي أيضا ، ومع قابليته لذلك في فرض كون المعلق هو الحكم العام فلايصح ابتناء الخلاف المزبور على تعليق الحكم العام أو عموم الحكم ، بل ولعل التأمل التام يقتضي أيضا بكون النزاع المزبور في فرض تعليق الحكم العام ولو بملاحظة كونه مقتضي طبع مثل هذه القضايا من حيث ظهورها في كون المناط هو النسبة الحكمية في القضية في قوله : أكرم كل عالم ، دون حيث العمومية والاستيعاب الذي هو من شؤون موضوع العام ومن كيفياته القائمة به ، حيث إن تعليق هذه الجهة يحتاج إلى نحو عناية زائدة وتعقل ثانوي بلحاظ نحو العمومية.

وعليه فلابد من لحاظ هذه الجهة في أن إضافة الحكم العام بشرطه في قوله : الماء إذا بلغ قدر كر الخ ، هل هو من قبيل اضافته إلى موضوعه ، فكانت بتعليق سنخي حتى يلزمه انحلاله إلى تعليقات متعددة وقضايا شرطية عديدة حسب تعدد افراد الموضوع ، من مثل

ص: 496

إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه بول ، وإذا كان قدر كر لا ينجسه غائط ، ولا دم ، وهكذا ... فيلزمه استخراج مفاهيم متعددة من كل قضية مفهوما؟ أو بإناطة وتعليق شخصي غير منحل إلى تعليقات متعددة كي يلزمه كون مفهومه هو انتفاء هذا الحكم ، وهو عدم منجسية كل شيء له ، عند عدم بلوغه كرا الغير المنافي مع عدم منجسية بعض النجاسات؟ وفي مثله لايبعد ان يقال بالأول ، نظراً إلى دعوى ظهور القضية حينئذ في كون نسبة الحكم المزبور إلى شرطه بعينه على نحو كيفية تعلقه بموضوعه الملازم لكونه بتعليق سنخي منحل إلى تعليقات متعددة ، وعليه وعليه فقهرا تكون النتيجة في طرف المفهوم بنحو الايجاب الكلي لا الايجاب الجزئي ، فتدبر ، هذا تمام الكلام فيما فيما يتعلق بمفهوم الشرط.

مفهوم الغاية

ومن المفاهيم الغاية وقد اختلف كلماتهم في أنه هل التقييد بالغاية يقتضي انتفاء سنخ الحكم عما بعد الغاية ، بل وعن الغاية أيضا بناء على خروجها عن المغني ، كي لو ورد دليل على ثبوت الحكم فيما بعد الغاية يلاحظ بينهما التعارض؟ أو انه لايقتضي ذلك؟ ولكن الذي يقتضيه التحقيق هو الأول ، وذلك لعين ما ذكرنا في مفهوم الشرط ، إذ بعد ما يستفاد انحصار الحكم بمقتضي الاطلاق الجاري فيه في نحو قوله : أكرم زيدا ، بذلك الطلب الشخصي المنشأ في القضية وعدم ثبوت شخص طلب آخر عند مجيء الليل أو قدوم الحاج ، فقهرا في فرض إناطة تلك النسبة الحكمية في القضية بالغاية ، بقوله : أكرم زيدا إلى الليل أو حتى يقدم الحاج كما هو ظاهر طبع القضية من رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكمية لا إلى خصوص الموضوع أو المحمول يلزمه ارتفاع سنخ الحكم عند تحقق الغاية ، ولا نعنى من المفهوم الا هذا.

نعم لو كانت الغاية في القضية قيدا للموضوع أو للحكم لكان للمنع عن الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم عما بعد الغاية كمال مجال ، وذلك اما على الأول فلما يأتي إن شاء اللّه تعالى في الوصف. واما على الثاني فلان مرجعه إلى ثبوت حكم خاص محدود بحد مخصوص من الأول لزيد ، ومن المعلوم بداهة عدم منع ذلك عن ثبوت شخص حكم آخر له بعد انتهاء

ص: 497

أمد الحكم الأول ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو ظهور القضايا الغائية كلية في نفسها في رجوع الغاية فيها إلى النسبة الحكمية وان وجوب اكرام زيد في قوله : أكرم زيدا إلى أن يقدم الحاج ، هو المغيى بالغاية التي هي قدوم الحاج ، وعليه فلا جرم تكون القضية دالة على انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند الغاية ، من جهة ان احتمال ثبوت شخص وجوب آخر له فيما بعد الغاية مما يدفعه قضية الاطلاق المثبت لانحصاره في ذلك الفرد من الطلب الشخصي ، وهو واضح.

بقى الكلام في أن الغاية هل هي داخلة في المغيى أم خارجة عنه؟ حيث إنه قد اختلف فيه كلماتهم ، وربما ينسب الثاني إلى المشهور. وقد يظهر من بعضهم التفصيل بين الغاية المدلول عليها بحتى ونحوه وبين الغاية المدلول عليها بالي ، فالدخول في الأول دون الثاني ، بل ربما يظهر منهم أيضا تخصيص الخلاف بالغاية المدلول عليها بالى ونحوه مع جعل الغاية في نحو حتى مفروغ الدخول ، كما في قولك : اكلت السمكة حتى رأسها.

ولكن التحقيق هو خروجها عن المغيى مطلقا ، والوجه فيه ظاهر إذا الغاية للشيء عبارة عما ينتهى إليه وجود الشيء ولا يتعدى عنه فيستحيل حينئذ دخولها في الشئ.

وبالجملة نقول : بان مفاد الحروف لما كان عبارة عن النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين ، فلا جرم في قولك : سرت من البصرة إلى محل كذا ، ما هو طرف تلك الإضافة الغائية المدلول عليها بالى انما كان هو الجزء الأخير من السير الذي هو منتهى وجوده والجزء الأول من ذلك المحل الذي هو في الحقيقة حد وجوده ، وفي مثله من المستحيل دخول الغاية في المغيى ، كما هو واضح.

بقى الكلام في أنه هل يعتبر في المفهوم ان يكون الحكم المعلق بالشرط أو الغاية بنحو أمكن ثبوته للموضوع عند انتفاء القيد كي يكون قضية اعتباره بنحو السنخ لدفع توهم ثبوت فرد آخر منه في غير مورد وجود القيد ، أو انه لا يعتبر ذلك بل يكفي في المفهوم اعتباره بنحو السنخ وان لم يمكن ثبوته في غير مورد القيد لمكان انحصاره بفرد خاص ، فيكون مثل قوله (عليه السلام) كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام ، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، من المفهوم المصطلح؟ فيه وجهان ، أظهرهما الثاني ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب فائدة على هذا النزاع من جهة انتفاء الحكم على أي تقدير في نحو هذه الموارد عند

ص: 498

تحقق الغاية ، كان ذلك من باب المفهوم المصطلح أو غيره ، وهو واضح.

مفهوم الوصف

ومن المفاهيم مفهوم الوصف حيث اختلف فيه كلماتهم في ثبوت المفهوم وعدمه ، والظاهر هو اختصاص النزاع بالوصف الأخص من موصوفه بحيث كان قابلا للافتراق من طرف الموصوف ، كالعلم والعدالة والفسق ونحو ذلك ، دون الوصف المساوي والأعم ، كما هو واضح ، وعلى كل حال فالظاهر هو عدم ثبوت المفهوم لنحو هذه القضايا الوصفية بحسب طبعها ما لم يكن في البين قرينة عليه من حال أو مقال ، إذ لا دلالة للقضية بطبعها على كون الحكم المعلق على الوصف هو السنخ كي يقتضي انتفائه عند انتفاء القيد ، بل وانما غايتها الدلالة على مجرد ثبوت الحكم للمقيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت فرد آخر مثله في غير مورد القيد ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القضايا اللقبية حيث لا فرق بينهما من هذه الجهة الا من جهة كون الموضوع في القضايا الوصفية عبارة عن امر خاص مقيد بقيد خاص.

واما ما ذكرنا من قضية الاطلاق في الحكم المثبت لانحصاره في شخص الفرد المنشأ في الشرط والغاية فغير جار في المقام ، من جهة القطع بعدم اطلاقه كك في المقام وفى القضايا اللقبية ، إذ من الممتنع حينئذ اطلاق الحكم في قوله : يجب اكرام زيد أو زيد القائم ، بنحو يشمل جميع افراد وجوب الاكرام حتى الثابت لعمرو ، ومع امتناع اطلاقه كك ثبوتا لا مجال لكشفه اثباتا ، وهذا بخلافه في الشرط والغاية ، فان اطلاق الحكم فيهما انما هو بحسب الحالات دون الافراد ، فإذا اقتضى قضية الاطلاق في الحكم ثبوت ذلك الحكم الشخصي للموضوع في جميع الحالات من القيام والقعود والمجيء ونحوه وأنيط ذلك الحكم أيضا بالشرط أو الغاية ، فقهرا يلزمه عقلا انتفائه بانتفاء المنوط به شرطا أو غاية ، وهذا بخلافه في القضايا الوصفية واللقبية ، حيث إنه بعد اخذ الوصف قيدا في الموضوع لا مجال للاطلاق الحالي للحكم ، فلابد حينئذ وأن يكون السنخ والاطلاق فيه بلحاظ الافراد ، فإذا فرض حينئذ امتناع اطلاقه من هذه الجهة ، فلا جرم لايبقى مجال لدعوى دلالة القضية الوصفية على المفهوم والانتفاء عند الانتفاء ، بل لابد حينئذ في اثباته من قيام قرينة خارجية عليه.

ص: 499

من حال أو مقال تقتضي كونه في مقام التحديد ومقام حصر الحكم ، والا فلو كنا نحن ونفس القضية الوصفية لايكاد اقتضائها بحسب طبعها الا مجرد ثبوت المحمول للمقيد بنحو الطبيعة المهملة الغير المنافي لثبوت شخص حكم آخر لذات المقيد عند ارتفاع القيد.

واما توهم ان ذلك مقتضي قضية التقيد بالوصف من جهة ظهوره في دخله في اختصاص الحكم بمورده والا يلزم لغوية ذكره في القضية ، فمدفوع بمنع اللغوية ، إذ فائدته حينئذ تضيق دائرة الموضوع في القضية وبيان انه هو الذات المتقيدة بقيد كذائي ، وحينئذ فإذا فرض عدم كون الحكم المحمول في القضية الا بنحو الطبيعة المهملة فلايمكن الحكم بانتفاء الحكم على الاطلاق عند انتفاء القيد وعدم ثبوت شخص حكم آخر مثله للذات. نعم انما كان لهذا الكلام مجال فيما لو كان القيد والوصف بحسب اللب من الجهات التعليلية لثبوت الحكم اللذات ، ولكنه أيضا خلاف ما تقتضيه القضايا الوصفية من الظهور في كون الوصف من الجهات التقييدية الراجعة إلى اخذ التقيد بها في ناحية موضوع الحكم.

لايقال : انه وان كان الامر كك الا ان إناطة الحكم وتعليقه بالوصف الذي هو امر عرضي في نحو قوله : أكرم زيد العادل ، دون ذات الموصوف ودخل العنوان العرضي في موضوع الحكم تكشف عن أن ما له الدخل في ترتب الحكم على الذات انما هو ذلك العنوان العرضي ، ولازم ذلك لا محالة هو انتفاء سنخ الحكم المحمول في القضية عند انتفاء الوصف ، والا فلو فرض ثبوت شخص حكم آخر مثله للذات في مورد فقد الوصف يلزمه ان يكون ما له الدخل في ترتب الحكم هو ذات الموصوف ، وفي مثله يلزم لغوية ذكر القيد ،

فإنه يقال : بأنه لو تم هذا التقريب فإنما هو في نحو المثال المزبور حيث إنه بعد عدم مناسبة حكم وجوب الاكرام لعنوان الفسق يتوجه الكلام بأنه لولا دخل الوصف في اختصاص الحكم بمورده يلزم ان يكون المقتضي لثبوته هو ذات الموصوف ، من جهة فرض عدم مناسبة الحكم بوجوب الاكرام لعنوان فسقه ، فيتجه حينئذ دعوى عدم صحة الاستناد إلى العنوان العرضي ، كما هو الشأن أيضا في آية النبأ حيث أمكن بالتقريب المزبور استفادة المفهوم من جهة الوصف نظراً إلى ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع من اختصاص وجوب التبين بالنبأ المضاف إلى الفاسق وعدم ملائمته مع عدالة الراوي ، لا مطلقا حتى فيما لايكون كك مما كان الوصف من قبيل القيام والقعود ونحوهما كما في قوله : أكرم زيداً

ص: 500

القائم أو القاعد ، فإنه في أمثال ذلك لايكاد مجال للتقريب المزبور لاستفادة المفهوم ، كما هو واضح.

مفهوم الاستثناء

ومن المفاهيم مفهوم الاستثناء فيما لو استثنى بالا ونحوها ، كقوله : أكرم القول الا زيدا وجائني القوم الا زيدا ، ولاينبغي الاشكال في دلالته على انحصار سنخ الحكم الثابت في القضية بالمستثنى منه وخروج المستثنى من ذلك ، ومن ذلك اشتهر بينهم بان الاستثناء من النفي اثبات ومن الاثبات نفى ، حتى أنه من شدة وضوحه اشتبه على بعض فتوهم ان الدلالة المزبورة كانت من جهة المنطوق ، ولكنه فاسد قطعا ، من جهة ان القدر الذي يتكفله القضية المنطوقية انما هو مجرد اثبات الحكم سلبا أو ايجابا للمستثنى منه ، واما اثبات نقيض ذلك الحكم الثابت للمستثنى فهو انما يكون بالمفهوم ، من جهة كونه من لوازم انحصار سنخ الحكم بالمستثنى منه. وعلى كل حال فلا اشكال في دلالة القضية على خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه. ومن ذلك لو ورد دليل في القبال على اثبات الحكم للمستثنى يقع بينهما التعارض ، كما في قوله : أكرم القوم الا زيدا مع قوله : أكرم زيدا. وحينئذ فلا يصغى لما حكى عن أبي حنيفة من منع الدلالة محتجا بمثل قوله : لا صلاة الا بطهور ، من دعوى لزوم صدق الصلاة على الواجد للطهور ولو كان فاقدا لبقية شرائطها من الستر والقبلة ونحوهما ، مع أنه يمكن ان يقال : بان الملحوظ في هذا التركيب انما هو الصلاة الواجدة لجميع ما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط عدا الطهور ، وقضية ذلك في طرف المفهوم هو تحقق حقيقة الصلاة الواجدة لجميع ما اعتبر فيها في مورد تحقق الطهور ، فلا اشكال حينئذ في البين.

بقى شيء تعرض له في الكفاية (1) وغيرها ، وهو الاشكال المعروف في كلمة التوحيد ، وحاصله ان خبر ( لا ) في قول ( لا إله إلا اللّه ) اما ان يقدر ممكن واما ان يقدر موجود ، وعلى أي تقدير لا دلالة لها على التوحيد ، فإنها على الأول لاتدل على وجوده سبحانه من

ص: 501


1- ج 1 ص 327.

جهة أعمية الامكان ، وعلى الثاني لا تنفى امكان غيره سبحانه ، ولكنه مندفع بان المراد من ( اله ) في قول ( لا إله إلا اللّه ) بعد أن كان الواجب الذي يجب وجوده بذاته فلا جرم يتم دلالتها على المطلوب وهو التوحيد على كل تقدير ، اما في فرض تقدير ممكن فظاهر نظراً إلى الملازمة العقلية بين امكانه ووجوده سبحانه ، واما في فرض تقدير موجود فكك أيضا من جهة دلالتها أيضا بالملازمة العقلية على نفى غيره ولو امكانا ، لان امكان غير مساوق لوجوب وجوده ، فعدم وجود غيره سبحانه دليل عدم امكانه ، كما هو واضح.

مفهوم الحصر

ومن المفاهيم مفهوم الحصر فيما جئ بأنما ونحوه من أداة الحصر ، كقوله : انما زيد قائم وانما يجب اكرام زيد ، ولا اشكال في دلالتها على المفهوم من جهة اقتضائها حصر سنخ الحكم المحمول في القضية بالموضوع.

ومثل ذلك في الدلالة على المفهوم كلمة بل الاضرابية فيما جئ للاعراض عن حكم ما سبق لا غلطا أو سهوا ، إذ يستفاد منها اختصاص سنخ الحكم بما يتلوها.

واما تعريف المسند كقوله : زيد الصديق ، وتقديم ما حقه التأخير كقوله : الصديق زيد والعالم زيد ، فقد يقال بدلالته أيضا على المفهوم كما عن جماعة نظراً إلى دعوى ظهوره في الحصر ، ولكن الظاهر هو اختلافه بحسب الموارد من حيث الدلالة على الحصر في مورد وعدم دلالته في الآخر ، خصوصا الأول من جهة امكان ان يكون التعريف للعهد ، فلابد حينئذ في استفادة الحصر من ملاحظة الموارد والمقامات الخاصة ، فان كان هناك قرينة على ذلك من حال أو مقال أو غيرهما فهو ، والا فلا.

مفهوم اللقب

ومن المفاهيم مفهوم اللقب ، والحق فيه عدم المفهوم ، لما تقدم وجهه سابقا بان غاية ما يقتضيه تلك القضايا انما هو مجرد اثبات المحمول بنحو الطبيعة المهملة للموضوع ، فيحتاج حينئذ في استفادة المفهوم إلى قيام قرينة على كون المتكلم في مقام التحديد والحصر في قوله : أكرم زيداً.

ص: 502

مفهوم العدد

ومن المفاهيم مفهوم العدد ، والحق فيه أيضا عدم الدلالة على المفهوم ، الا إذا أحرز من الخارج ان المتكلم كان في مقام التحديد ، وحيث انه لم يكن في البين قرينة نوعية عامة على ذلك فلا جرم يحتاج في استفادة المفهوم إلى القرائن الخاصة ، فلابد حينئذ من لحاظ الموارد الخاصة والمقامات المخصوصة المقتضية لذلك ، هذا تمام الكلام في المفهوم والمنطوق.

ص: 503

المقصد الرابع في العموم والخصوص

اشارة

وفيه جهات من البحث :

الجهة الأولى

لايخفى عليك ان العموم والخصوص كالاطلاق والتقييد انما كان من صفات المعنى ومن العوارض الطارية عليه وان اتصاف اللفظ بهما انما كان بتبع المعنى ، من جهة ما كان بينهما من العلاقة والارتباط الخاص. ثم إن حقيقة العموم عبارة عن الإحاطة والاستيعاب للافراد بنحو العرضية أو البدلية ، لكن لا مفهوم الإحاطة بل ما هو واقع الإحاطة ومصداقها الذي هو منشأ انتزاع هذا المفهوم الذي هو في الحقيقة معنى حرفي. واما الاشكال عليه حينئذ بلزوم عدم جواز اجراء احكام الاسم على الألفاظ الموضوعة للعموم كلفظ كل وجميع ومجموع ونحوها ، من الاخبار عنها وبها ونحوهما من الاحكام المختصة بالأسماء ، مع أنه لايكون الامر كك قطعا ، حيث نرى صحة اجراء الاحكام المزبورة عليها بالاخبار عنها وبها وجعلها فاعلا ومفعولا ونحو ذلك فمدفوع ، فإنه انما يتجه الاشكال المزبور فيما لو كان المدلول المطابقي للفظ كل وتمام وجميع هو نفس الإحاطة والاستيعاب ، ولكنه ليس كك ، بل نقول بان مدلولها المطابقي عبارة عن معنى اسمى يلزمها الإحاطة والاستيعاب والشمول ، وهو مقدار كم المدخول وتحدده بأعلى المراتب الذي لازمه الاستيعاب. فالمدلول في لفظ كل وتمام وجميع من قبيل مداليل الأسامي الموضوعة للكميات والمقادير ، نظير باقي الكسور كالنصف والربع والثلث ، فكان لفظ الكل مثلا يبين مقدار كم المدخول بكونه أعلى المراتب في قبال البعض المحدد لدائرته بالبعض ، ولازم ذلك ، كما عرفت ، عقلا هو الإحاطة والاستيعاب لجميع الافراد المندرجة

ص: 504

تحته. وحينئذ فصحة اجراء احكام الأسماء عليها انما هو من جهة ما ذكرنا ، لا من جهة ان المدلول فيها هو مفهوم الإحاطة والشمول أو مصداقها ، كي يتوجه عليه على الأول بلزوم الترادف بين لفظ الكل ولفظ الإحاطة ، وعلى الثاني بلزوم عدم جواز اجراء احكام الأسماء عليها ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فلاينبغي الارتياب في أن حقيقة العموم - وهو الإحاطة والاستيعاب للافراد بنفسها من المعاني الواقعية التي لا تحتاج في تصورها إلى تحقق شيء آخر من الجهات الخارجة عن هذا المعنى من حكم أو مصلحة أو غير ذلك ، بل لو لم تكن تلك الجهات الخارجية أيضا كان المجال لتصور هذا المعنى وهو الإحاطة والشمول للافراد ، ومن هذه الجهة نقول أيضا بعدم اقتضاء مجرد الاستيعاب للافراد والإحاطة والشمول لشيء من الاستغراقية والمجموعية ، وان مثل هذين الامرين انما هو من الاعتباريات الطارية على العموم بنحو العرضية المقابل للبدلية بملاحظة امر خارجي في البين من مثل الحكم والمصلحة ، وان الاستغراقية انما هي بملاحظة كون الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لاحكام متعددة ومصالح كك حسب تعدد الافراد ، في قبال المجموعية التي هي أيضا بملاحظة كون الملحوظ بنحو الاستيعاب متعلقا لحكم واحد شخصي غير قابل للانحلال ومصلحة كك ، ففي الحقيقة اعتبار المجموعية والاستغراقية انما هو بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم ، والا فمع قطع النظر عن ذلك لايكاد يكون الفرق بينهما في عالم المفهوم ومقام تصوره أصلا ولقد أجاد في الكفاية (1) حيث فرق بين نحوي العموم من جهة كيفية تعلق الحكم بالعموم ، وجعل التقسيم بالاستغراقي والمجموعي بلحاظ كيفية تعلق الحكم بالعموم من كونه تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا لحكم واحد مع كون العموم فيهما بمعنى واحد وهو إحاطة المفهوم بجميع ما يصلح لان ينطبق عليه.

نعم ما افاده قدس سره من الحاق العام البدلي أيضا بهما في كونه أيضا من جهة كيفية تعلق الحكم بالعموم ، غير وجيه ، فان الظاهر هو ان الفرق بين البدلي وبين الاستغراقي والمجموعي من جهة كيفية العموم ولحاظه تارة بنحو الاستيعاب للافراد

ص: 505


1- ج 1 ص 232.

بنحو العرضية وأخرى بنحو البدلية ، لا من جهة كيفية الحكم كما في الاستغراقي والمجموعي ، كما أفيد ، حيث إنه فيهما انما يلاحظ سير الطبيعي وشموله للافراد بنحو العرضية في مقام التطبيق ، بحيث لو عبر عنها تفصيلا لكان يعطف بعضها على بعض بقوله هذا وذاك وذاك الآخر. بخلافه في العام البدلي ، فإنه فيه أيضا وان كان يرى في مقام اللحاظ سريان الطبيعي وشموله للافراد ، الا انه لا بنحو العرضية بل على نحو البدلية ، كقولك : رجل أي رجل ، في قبال قولك : كل الرجال وجميع الرجال ، ومن ذلك لو عبر عنه تفصيلا لكان ذلك بمثل قوله : هذا أو ذاك ، وعلى ذلك فنفس العام البدلي أيضا قبال الاستيعاب بنحو العرضية من المعاني الواقعية الغير المحتاجة إلى تحقق امر خارجي من حكم أو مصلحة ، بل لو لم يكن حكم أيضا كان له الواقعية. وعليه فتقابل العموم البدلي مع ذين العمومين وهما الاستغراقي والمجموعي انما هو بلحاظ تقابل مقسمها معه ، لا بلحاظ تقابل كل واحد منهما ، حتى يكون ما به الامتياز فيه أيضا من سنخ ما به الامتياز فيهما ، كما لايخفى.

ومما ذكرنا انقدح أيضا فساد ما أفيد كما عن بعض الاعلام فيما حكى عنه من أن اطلاق العموم على العام البدلي انما هو باب المسامحة ، والا فلايكون ذلك بعام حقيقة ، حيث لايكون متعلق الحكم فيه الا واحدا وان العمومية فيه انما هي في البدلية ، وتوضيح الفساد هو ان البدلية في مثل هذا العام انما كان في مقام التطبيق ، والا ففي عالم العموم والشمول كانت الافراد بأجمعها تحت اللحاظ في عرض واحد ، كما هو مفاد قولك : جئني برجل أي رجل ، حيث إن لفظة أي تدل على استيعاب جميع الافراد عرضا ، غايته على نحو يكون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا ، كما في العام الاستغراقي والمجموعي ، ومن المعلوم ان مجرد كون التطبيق فيه تبادليا لا عرضيا لايقتضي خروجه عن العمومية والاستيعاب لجميع الافراد. كما لايخفى.

وعلى كل حال فلا ريب في عدم ارتباط أسامي العدد من مثل العشرة ونحوها بالعموم والشمول ، بل مثل هذه المعاني انما هي من الاعتباريات الطارية على مداليل الاعداد وان أسامي العدد من هذه الجهة نظير الطبايع الصرفة في كونها مركز طرو هذه الاعتبارات ومورد هذه الأطوار ، غير أن الفرق بينها وبين الطبايع هو ان نسبة الطبايع إلى الآحاد المعروضة للعموم في دائرتها في نحو قوله : أكرم كل عالم من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد ، بخلافه في أسامي الاعداد فإنها لكونها عبارة عن مراتب الكم المنفصل للشيء يكون

ص: 506

نسبتها إلى الآحاد المندرجة فيها المعروضة لهذه الطواري في مثل قولك : كل العشرة ، من قبيل نسبة الكل إلى الجزء دون الكلي والفرد نعم انما يكون فيما لو كان نظر العموم فيها إلى مصاديق العشرة الراجع إلى إفادة كل عشرة عشرة ، حيث إن نسبتها حينئذ إلى المصاديق كانت من قبيل نسبة الكلي إلى الفرد ، من جهة انها بهذا الاعتبار كأحد الطبايع الصادقة على القليل والكثير ، فكان طروا لعموم عليها حينئذ بعين طروه على الطبايع.

ومن ذلك البيان ظهر الكلام في التثنية والجمع أيضا ، حيث إن مدلوليهما عبارة عن مرتبة خاصة من الكم القائم بالطبيعي اما بتحديد حديها كما في التثنية وجمع القلة ، أو بتحديد حدها الأقل كما في جمع الكثرة ، فكانت كأسامي الاعداد في نسبتها إلى الآحاد المندرجة فيها المعروضة للعموم والخصوص ، وفي مركزيتها لطرو هذه الطواري ، حيث كانت قابلة لطرو الخصوص والعموم عليها بنحو المجموعية والاستغراقية والبدلية ، من غير فرق في ذلك بين التثنية والجمع.

نعم الفرق بينهما انما هو من جهة أخرى وهي ان التثنية لما كان لا ابهام فيها في مرتبة كمها ففي طرو العموم عليها في مثل أكرم كلا من الرجلين أو جميع الرجلين لايحتاج إلى تعين آخر في مدلولهما. بخلافه في طروه على الجمع فإنه بملاحظة ما فيه من الابهام بين مراتب الجمع المختلفة آحادها لابد من اعتبار تعين بين هذه المراتب حتى يقتضي العموم الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحتها ، ومن ذلك نحتاج في فرض كون نظر العموم إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع لا إلى نفس مصاديق الجمع إلى الحمل ولو بقرينة الحكمة على الفرد الاعلى من افراد الجمع والمرتبة القصوى من مراتبه ، من جهة ان هذه المرتبة مما لها نحو تعين بالذات بخلاف بقية المراتب الاخر ، ولازم ذلك اقتضاء العموم الاستيعاب في الآحاد المندرجة تحت أقصى الافراد وأعلى المراتب لا الآحاد المندرجة تحت بقية المراتب ، من جهة ان قرينة الحكمة انما تقتضي الحمل على ما لاحد فيها من مراتب الكم ، ولايكون ذلك الا على المصاديق وأقصى المراتب ، من دون ان يكون ذلك أيضا من باب انسلاخ الجمع عن مدلوله ومعناه ، بل من باب إرادة العموم بالنسبة إلى الآحاد المندرجة تحت الفرد الاعلى من افراد الجمع وأقصى مراتبه ، هذا كله إذا كان العموم ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع ، واما لو كان العموم ناظرا إلى نفس مصاديق الجمع لا إلى الآحاد المندرجة تحتها ، كما في قوله : أكرم كل جماعة ، الناظر

ص: 507

إلى كل جماعة جماعة ، فان أريد من المصاديق ما هو القابل للتكرر بنحو لا يلزم التداخل في الحكم يؤخذ بأقل الافراد القابل للتكرر في جميع الدوائر ، فيحمل قوله : أكرم كل جماعة ، على كل ثلاثة ثلاثة منها من جهة ان هذا المعنى مما له نحو تعين بالذات ، بخلاف بقية المصاديق كالأربعة والخمسة والستة وما فوقها ، فإنها أيضا وان كانت قابلة للتكرر الا انه لا تعين في واحد منها حتى يحمل عليها ، بخلاف أقل الافراد من الجمع وهو الثلاثة فان له نحو تعين بالذات ، واما ان أريد من المصاديق ما هو القابل للتداخل في الحكم أيضا ففي مثله يؤخذ بجميع المراتب من الثلاثة والأربعة والخمسة وما فوقها ، ويحكم بالتداخل في الحكم.

ومن هذه الجهة ظهر جهة فرق آخر بين التثنية والجمع ، حيث إنه في التثنية لايتصور العموم باعتبار الوجه الأخير ، بل العموم المتصور فيها كما في أسامي الاعداد يتصور بأحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة المتصورة في الجمع ، بخلاف الجمع ، فان العموم فيه باعتبار كون مفهومه معنى تشكيكيا محفوظا بين جميع المراتب من الأقل والأكثر يتصور على وجوه ثلاثة : من حيث كون العموم تارة ناظرا إلى الآحاد المندرجة تحت مصاديق الجمع ، وأخرى إلى نفس مصاديق الجمع ، مع كونه على الثاني تارة بإرادته من المصداق ما هو القابل للتكرر كي لا يلزم التداخل ، وأخرى بإرادته من المصداق ما هو القابل للتداخل والتأكد في الحكم ، وان كان مثل هذا الفرض بعيدا في نفسه بل غير واقع من جهة بعده عن أذهان العرف وأهل اللسان.

ثم إن هذا كله فيما لو أحرز كون نظر العموم إلى الآحاد المندرجة تحت المصاديق ، أو إلى نفس مصاديق الجمع ، واما ان لم يحرز كون العموم بلحاظ المصاديق ، فيحمل على إرادة العموم بلحاظ الآحاد المندرجة تحتها ، ويدفع احتمال كونه بلحاظ نفس المصاديق ، بشمول اطلاق الجمع لصورة انحصار افراده بأقلها وهو الثلاثة ، من جهة ان شمول اطلاقه لصورة انحصار الافراد والآحاد بالثلاثة ينافي لا محالة مع احتمال كون العموم بلحاظ نفس المصاديق ، حيث إنه لايبقى مجال للعموم الا بلحاظ المندرجة تحت المصاديق ، غاية الامر بما ذكرنا يحمل على أقصى الافراد وأعلى المراتب أقل كانت أم أكثر من جهة تعينه بالذات ، كما هو واضح.

* * *

ص: 508

الجهة الثانية

لا شبهة في أن للعام صيغة تخصه ، كلفظ كل وتمام وجميع وأي وما يرادفها في أي لغة ك ( همه ) و ( هر ) بالفارسية. وذلك للتبادر حيث إن من الواضح تبادر العموم والاستيعاب منها. وكون التخصيص شايعا حتى قيل بأنه ما من عام الا وقد خص لا يستلزم الوضع للخصوص أو القدر المشترك بينهما كما لايخفى. بل ولئن تأملت ترى بان نفس الاحتياج إلى التخصيص في قولك : كل عالم ، قرينة وضعها للعموم وانها بحيث يستفاد منها الاستيعاب والشمول لولا التخصيص ، وعليه فلا يصغى إلى ما قيل من الوضع للخصوص في الألفاظ المدعى كونها موضوعة للعموم ، حيث إن في وضوح المسألة غنى وكفاية عن إقامة البرهان على العموم وابطال ما أقيم على كونها للخصوص ، وحينئذ فلا اشكال من هذه الجهة ولا كلام.

وانما الكلام في أن قضية هذه الأداة المدعي دلالتها على العموم وضعا كلفظ كل وتمام وجميع هل هو الاستيعاب والشمول لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد ، أم لا ، بل كان قضية عمومها تابعا لما يراد من المدخول فيها من حيث الاطلاق والتقييد ونحوهما؟ قال في الكفاية ما محصله : ان دلالة لفظ كل ونحوه على العموم وان كانت بالوضع لكن دائرة شمول العام بالنسبة إلى قلة الافراد وكثرته تابعة لما يراد من المدخول من حيث الاطلاق والتقييد ، فإذا كان المدخول مأخوذا بنحو الاطلاق والسريان فالشمول والعموم كان بلحاظ افراد المطلق ، كما أنه لو كان المدخول مقيدا ببعض القيود كما لو أراد من العالم في قوله : أكرم كل عالم ، العالم العادل أو العالم النجفي فلا جرم يكون العموم بالنسبة إلى الافراد في دائرة المقيد لا المطلق ، فعلى كل حال ما هو المدلول للفظ كل ونحوه من الألفاظ العموم انما هو الاستيعاب والشمول في دائرة ما يراد من المدخول ، وعلى ذلك ففي مثل قوله : أكرم كل عالم ، فلابد في الحكم بالاستيعاب بالنسبة إلى جميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد بناء على مسلك السلطان من الوضع للطبيعة المهملة القابلة للاطلاق والتقييد من احراز كون المراد من المدخول هو الطبيعة بنحو الاطلاق والارسال ، ولو كان ذلك من جهة قرينة الحكمة ، والا فمع عدم احراز هذه الجهة واحتمال كون المراد من المدخول وهو العالم الطبيعة المقيدة لايبقى مجال

ص: 509

الحكم بالاستيعاب بالنسبة إلى جميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد ، بل ربما كان اللازم حينئذ الاخذ بالقدر المتيقن وهو الاستيعاب بالنسبة إلى آحاد المقيد لا المطلق ، هذا.

ولكن لايخفى عليك ان المدخول في مثل قوله : كل عالم ، وان لم يدل على مسلك السلطان الا على الطبيعة المهملة ، فيحتاج استفادة الارسال والاطلاق منه إلى قرينة الحكمة ، الا انه بعد دلالة الكل بالوضع حسب الفرض على الإحاطة والاستيعاب في الافراد ربما يستغنى به عن مقدمات الحكمة من جهة قيامه حينئذ مقامها ، حيث إنه بوروده على مفهوم العالم في قوله : أكرم كل عالم ، يثبت به ما يفي به مقدمات الحكمة من الاستيعاب لجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه من الافراد ، من دون احتياج معه إلى جهة زائدة من قرينة الحكمة أو غيرها.

نعم ما أفيد من الاحتياج إلى الحكمة انما يتم بالنسبة إلى النكرة الواقعة في حيز النهى أو النفي ، نظراً إلى عدم كون مفاد النفي في مثل قوله : لا رجل في الدار ، الا سلب النسبة ، وعدم كون مفاد المدخول أيضا على مسلك السلطان الا الطبيعة المهملة ، ولا مفاد الهيأة التركيبية الا ايقاع النسبة بين الموضوع والمحمول ، فيحتاج استفادة العموم حينئذ منه إلى قرينة الحكمة في المدخول لاثبات ان المدخول بنحو الارسال والاطلاق كان موردا للنفي.

وهكذا الكلام في الجمع المحلى باللام كقوله : أكرم العلماء ، حيث إن استفادة العموم بالنسبة إلى جميع الافراد في مثله منوطة بقرينة الحكمة ، من جهة ان القدر المستفاد من الهيأة العارضة على المادة ، وهي هيأة الجمع ، انما هو تقييد الطبيعي بما فوق الاثنين ، واما انه أي مرتبة من مراتب الجمع وانه الأربعة أو الخمسة أو العشرة أو العشرون أو غير ذلك من مراتب الجمع فيحتاج تعينها إلى قرينة ، ولو كانت هي مقدمات الحكمة ، فيرفع بها ما فيه من الابهام بالنسبة إلى تلك المراتب المختلفة آحادها ، وتعينه بأعلى المراتب وأقصاها التي لا تكون فوقها مرتبة ، وهذا بخلافه عند ورود لفظ الكل على الجمع كقوله : أكرم كل العلماء أو جميع العلماء ، حيث إنه بلفظ الكل أو الجميع يستغنى عن مقدمات الحكمة من جهة وفائه بما تفي به مقدمات الحكمة.

ومن ذلك البيان ظهر الحال في المفرد المحلي باللام حيث إن استفادة العموم منه لابد وأن تكون بقرينة تقتضي كون المدخول فيه بنحو السريان في ضمن الافراد ، والا فمع قطع النظر عن القرينة الخارجية لايكاد يصح استفادة العموم

ص: 510

والسريان منه ، من جهة ان اللام فيه لاتقتضي حسب وضعها الا الإشارة إلى المدخول ، واما كونه بنحو السريان في ضمن الافراد فلا ، كما هو واضح.

ثم إن الظاهر هو اختلاف الألفاظ الحاكية وعدم كونها على وزان واحد من حيث حكاية بعضها عن نفس العموم والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم كما في لفظ العام بل ولفظ الكل بشهادة صحة استعمالها في مورد العموم الاستغراقي والمجموعي بلا عناية أصلا ، وحكاية بعضها عن الاستيعاب للافراد بملاحظة تعلق الحكم بها كما ( في الجميع ) الحاكي عن خصوصية الاستغراقية قبال ( المجموع ) الحاكي عن خصوصية المجموعية ، حيث إن مثل هذه الألفاظ كانت حاكية عن خصوصية الموضوعية المتأخرة رتبة عن الحكم وعن كيفية تعلق الحكم بالافراد ، نعم لايبعد دعوى ظهور لفظ الكل أيضا في الحكاية عن خصوصية الاستغراقية مضافا إلى حكايتها عن نفس العموم والاستيعاب المحفوظ في رتبة الذات السابقة عن الحكم ، حيث يستفاد من قوله : أكرم كل عالم ، استقلال كل واحد من الافراد في الموضوعية لحكم مستقل. واما أي فهو كما عرفت في قبال هذه الألفاظ يحكى عن العموم البدلي المحفوظ في مرتبة الذات السابقة عن الحكم.

ثم إن الكل يدخل على الفرد والجمع المنكرين والمعرفين كما في قولك : كل رجل وكل الرجل وكل رجال وكل الرجال ، فيفيد الاستغراق بحسب الافراد عند دخوله على المفرد والجمع المنكرين ، والاستغراق بحسب المرتبة في دخوله على المفرد والجمع المعرفين كقوله : كل العالم وكل العلماء ، ففي الأول يتحدد دائرة المدخول وهو الطبيعي من بين المراتب ، ويخرجه عما كان له من الابهام في المراتب ، ويعينه بأعلى المراتب التي لازمها الشمول لجميع الآحاد المندرجة تحتها ، كما كان ذلك أيضا على الثاني ، حيث إنه على ما عرفت يخرجه عما له من الابهام في المراتب ويعينه بأعلى مراتب الجمع وأقصى المصاديق التي لها التعين بالذات وتفيدها قرينة الحكمة ، ولازمه هو الشمول لجميع الآحاد المندرجة تحت المرتبة العليا.

واما الجميع والمجموع والتمام فهي انما تدخل على المفرد والجمع المحلى باللام ولا تدخل على غير المحلي باللام مفردا أو جمعا ، حيث لايقال : جميع رجل وجميع رجال ولا مجموع رجل ومجموع رجال ولا تمام رجل وتمام رجال ، بل وانما يقال ذلك في هذه الألفاظ

ص: 511

مع اللام وهو واضح.

الجهة الثالثة
اشارة

قد اختلف كلماتهم في حجية العام المخصص في الزائد عن المقدار المعلوم من التخصيص وعدم حجيته ، وتوضيح المقال يستدعى بيان اقسام صور التخصيص لكي يعلم ما هو محل الكلام وانه في أي قسم من اقسام فنقول :

اعلم أن صور التخصيص على أنحاء ، من جهة ان المخصص اما ان يكون متصلا أو منفصلا ، وعلى التقديرين تارة يكون مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما ، وأخرى مجملا بحسب المفهوم ، وثالثة يكون مبينا بحسب المفهوم دون المصداق ، ورابعة بعكس ذلك. ثم انه على تقدير الاجمال تارة يكون اجماله وتردده بين الأقل والأكثر ، وأخرى بين المتبائنين ، ثم المخصص أيضا تارة يكون لفظيا وأخرى لبيا ، فهذه اقسام صور التخصيص وأنحائه. وبعد ذلك نقول :

أما إذا كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق أيضا كقوله : أكرم جميعا العلماء أو كل عالم الا زيدا ، فلاينبغي الاشكال في حجية العام وجواز التمسك به في البقية ، وذلك اما على القول بوضع هذه الأسامي لاستيعاب افراد ما يراد من المدخول فظاهر ، فإنه عليه لا يلزم المجازية أيضا في العموم بمقتضي التخصيص ، حتى يقال بتردد الامر في المجازين بقية المراتب ولا تعين لمرتبة خاصة منها واما على القول الآخر من وضعها لاستيعاب المدخول لجميع ما يصلح للانطباق عليه من الافراد فكك أيضا ، من جهة ان قضية التخصيص بالمتصل حينئذ وان كان هو الكاسرية لظهوره في الاستيعاب في جميع المراتب ، فلايكون له ظهور معه مع الاستيعاب لجميع ما ينطبق عليه المدخول من الافراد ، ولكن نقول ببقاء ظهوره حينئذ على حاله بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر ، من جهة ان الخاص انما يمنع عن ظهور العام حينئذ بمقدار اقتضائه ، وهو لايكون الا المرتبة العالية ، واما غيرها من بقية المراتب فتبقى على حالها من الظهور الذي يقتضيه العام. ولا نعنى بذلك ان هناك ظهورات متعددة بحسب المراتب ، حتى يشكل بأنه كيف ذلك مع أنه لايكون للفظ واحد الا ظهور واحد وإرائة واحدة ،

ص: 512

ومع ارتفاعه بمقتضي احتفافه بالقرينة لايبقى له ظهور آخر في بقية المراتب ، بل وانما المقصود هو ان هذه الدلالة والظهور في استيعاب الافراد له مراتب عديدة وحدود كثيرة حسب التحليل العقلي ومن دون مدخلية لجهة الانضمام فيها ، وان القدر الذي يقتضيه القرينة المتصلة من الكاسرية لظهوره انما هو كسر صولة ظهوره بالنسبة إلى تلك المرتبة العالية لا مطلقا حتى بالنسبة إلى بقية المراتب الاخر المندكة في ضمنها. ومن المعلوم حينئذ انه بعد عدم مدخلية حيثية الانضمام في إرائته عن المراتب الاخر يتعين بقية المراتب الاخر بمقتضي ظهوره الوضعي أو الاطلاقي ، فهو نظير الخط الطويل الذي قطع منه قطعة من حيث بقاء البقية بعد على حالها ، على ما كانت عليها قبل قطع تلك القطعة ، وان كان قد تبدل حده بحد آخر أقصر من الحد الأول ، ونظيره المرآة التي وضعت لإرائة جماعة فوجد حائل في البين يمنع عن ارائتها لبعض منها ، من حيث بقاء ارائتها على حالها بالنسبة إلى البقية ، ففي المقام أيضا كك ، حيث إن لفظ الكل مثلا بمقتضي وضعه كان له الظهور في الاستيعاب بالنسبة إلى كل مرتبة مرتبة ولو في ضمن المرتبة العالية ، وبعد انعدام ظهوره في المرتبة العالية بمقتضي القرينة المتصلة يتحدد ظهوره بمرتبة أخرى دون تلك المرتبة ، لا انه ينعدم ظهوره من رأس حتى بالنسبة إلى بقية المراتب أيضا ، وعليه فبعد بقاء ظهوره في بقية المراتب فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في البقية فيما شك فيه في الخروج زائدا عن المقدار المتيقن ، من دون احتياج حينئذ إلى اثبات تعين الباقي من باب أقرب المجازات ، حتى يشكل بان المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي ليس هو الأقربية بحسب الكم والمقدار وانما هو بحسب زيادة الانس ، والا إلى اثباته أيضا من جهة اقتضاء عقد الاستثناء لذلك كما ادعى من دعوى ان الاستثناء ، كما تكون قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي ، كك تكون قرينة معينة لتعين ما دون المرتبة العالية من بين المراتب ، فان ذلك أيضا مبني على الالتزام بانعدام أصل الظهور بمجرد قيام القرينة المتصلة على العدم بالنسبة إلى المرتبة العالية ، وهو كما ترى مما لا وجه له.

ثم انه بعد ما عرفت من ظهور العام ، بعد التخصيص بالمتصل ، في البقية فلا يهمنا البحث في أن استعمال العام حينئذ هل كان من معناه الحقيقي وهو الشمول لتمام افراد المدخول أم لا؟ وان أمكن أيضا دعوى كونه على نحو الحقيقة ، بالفرق بين الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية ، بتقريب كونه مستعملا أيضا حينئذ في معناه الحقيقي ، وهو الشمول

ص: 513

لتمام افراد المدخول ، ولكنه في مقام الجد أريد منه ما عدا الفرد الخارج ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم الطريق لاثبات هذه الجهة ، كعدم الطريق أيضا لاثبات المجازية. واما أصالة الحقيقة فهي أيضا غير جارية ، لعدم ترتب اثر عملي عليها بعد العلم بعدم كون المراد الجدي هو المعنى ، كما هو واضح. هذا كله فيما لو كان المخصص متصلا وكان مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما.

واما لو كان مجملا بحسب المفهوم أو المصداق كقوله : أكرم العلماء الا الفساق منهم ، وتردد الفاسق من جهة الشبهة في المفهوم بين المرتكب للكبائر أو عمومه لمرتكب الصغائر أيضا ، أو من جهة الشبهة في المصداق بان تردد مصاديق الفاسق المبين المفهوم مثلا بين الخمسة والعشرة ، فلاينبغي الاشكال فيه أيضا في سقوط العام عن الحجية وعدم جواز التمسك به في المشتبه مفهوما أو مصداقا ، من دون فرق في ذلك بين ان يكون التردد والاجمال بين الأقل والأكثر كما في المثال المزبور ، أو بين المتبائنين كما في قوله : أكرم كل عالم الا زيدا ، مع تردد الخارج من جهة الشبهة في المفهوم بين زيد بن عمرو بين زيد بن بكر ، أو من جهة الشبهة في المصداق بين كونه هذا الشخص أو ذاك الشخص الآخر ولو مع تبين المفهوم فيه ، كما لو علم بان الخارج هو زيد بن عمرو ولكنه تردد بين كونه هذا الشخص أو ذاك الآخر ، حيث إنه في جميع هذه الصور لا مجال للتمسك بالعام في المشتبه. وعمدة الوجه في ذلك انما هو من جهة سراية اجمال المخصص حينئذ إلى عموم العام ، حيث إنه باتصاله به يوجب كسر صولة ظهوره في العموم وتحديد دائرته بمقدار اقتضائه ، وحينئذ فإذا فرض اجماله وتردده بين الأقل والأكثر أو المتبائنين فقهرا يسري اجماله إلى العام أيضا من جهة كونه من قبيل اتصاله بما يصلح للقرينية عليه ، ومعه فلا يبقى له ظهور حتى يتمسك به فيما يشك كونه من افراد المخصص. نعم لا بأس بالتمسك به بالنسبة إلى ما يعلم خروجه عن دائرة الخاص من الافراد الاخر ، فإذا شك في خروجها من جهة مخصص آخر يؤخذ بعموم العام بالنسبة إليها ، هذا كله فيما لو كان الخاص متصلا بالعام.

واما لو كان منفصلا عن العام ففيه أيضا يتأتى الصور المزبورة : فإذا كان الخاص مبينا بحسب المفهوم والمصداق كليهما فالحكم فيه كما في الخاص المتصل المبين بحسب المفهوم والمصداق ، من حجية العام وجواز التمسك به في الباقي ، بل الحكم فيه أوضح من فرض

ص: 514

اتصال المخصص ، وذلك من جهة استقرار الظهور حينئذ للعام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف كما في الخاص المتصل ، حيث إن غاية ما يقتضيه التخصيص بالمنفصل انما هو المانعية عن حجية ظهوره المستقر في العموم لا عن أصل ظهوره ، وذلك بملاك أقوى الحجتين ، ومن ذلك ربما يقدم ظهور العام على ظهوره فيما لو كان العام أقوى ظهورا منه. وعلى ذلك فكان اللازم هو اتباع ظهوره في العموم في غير مورد قيام الحجة على الخلاف ، وهو واضح.

واما لو كان الخاص حينئذ مجملا بحسب المفهوم ، فان كان الاجمال والتردد بين الأقل والأكثر ، كما لو ورد انه يجب اكرام كل عالم ، وورد بدليل منفصل انه لايجب اكرام الفساق من العلماء ويحرم اكرامهم ، وتردد الفاسق من جهة اجمال المفهوم بين المرتكب للكبائر أو الصغاير أيضا ، ففي مثله يقتصر في الخروج عن العموم على المتيقن وهو المرتكب للكبائر ، واما بالنسبة إلى المرتكب للصغاير فيؤخذ بالعموم ، والسر فيه ، واضح ، حيث إنه بعد استقرار ظهور العام وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف لابد من الاخذ بظهور العام في المقدار الزائد عن المتيقن من التخصيص ، من جهة رجوع الشك فيه حينئذ إلى الشك في أصل التخصيص ، فان رفع اليد عن أصالة العموم حينئذ مع فرض اجمال المخصص طرح للحجة المعتبرة بلا وجه ، هذا إذا كان الشك في خروج المشكوك وهو المرتكب للصغاير عن حكم العام ممحضا من جهة الشك في اندراجه تحت عنوان المخصص وهو الفاسق واقعا بحيث على تقدير عدم اندراجه تحته وفرض وضعه لخصوص المرتكب للكبائر يقطع بمشموليته لحكم العام.

واما لو لم يكن الشك فيه ممحضا بذلك بل كان مما يشك فيه في مشموليته لحكم العام ولو على تقدير خروجه عن تحت عنوان المخصص واقعا ، بحيث كان الشك في وجوب اكرامه من جهتين : تارة من جهة الشبهة الحكمية وانه على تقدير عدم كون المرتكب للصغاير مندرجا تحت عنوان الفاسق هل يشمله حكم العام أم لا بل كان خارجا أيضا عن حكمه ، وأخرى من جهة الشبهة المصداقية (1) وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم

ص: 515


1- مراده قدس سره بحسب الظاهر من الشبهة المصداقية هي الشبهة المفهومية في المخصص - كما يشهد به تفسيره لها بقوله وانه هل المرتكب للصغيرة فاسق أم آه وحيث كان مرجع هذه الشبهة أن يشك في مصداقية المرتكب للصغيرة لعنوان الفاسق عبر عنه بالشبهة المصداقية وكيف كان فهو على خلاف الاصطلاح الشايع [ المصحح عفى عنه ].

لابل الفاسق بحسب وضعه موضوع لخصوص مرتكب الكبيرة؟ ففي مثله بالنسبة إلى الشبهة الحكمية وهي الشبهة من الجهة الأولى لا اشكال في الاخذ بالعموم ، نعم انما الكلام في جواز الاخذ به بالنسبة إلى الشبهة المصداقية ، وهي الشبهة من الجهة الثانية ، حيث إنه قد يشكل في جواز التمسك بالعام من هذه الجهة ، بتقريب ان الشبهة من تلك الجهة لما كانت في طول الشبهة من الجهة الأولى ، فمع تطبيق أصالة العموم من الجهة الأولى ورفع الشك به من جهة الكبرى لا مجال لتطبيقها ثانيا من الجهة الثانية لرفع الشك به من جهة الصغرى ، نظراً إلى أن الظهور الواحد لا يتحمل لتطبيقين طوليين ، وحينئذ فمع فرض تطبيقه على أصل الكبرى يستحيل تطبيقه ثانيا على الصغرى. وهذا بخلافه في فرض تمحض الشك بالجهة الثانية وفرض العلم باندراجه في العام على تقدير كون الفاسق هو خصوص المرتكب للكبيرة فإنه حينئذ كان لتطبيقه على تلك الجهة كمال مجال لأنه حينئذ لايحتاج إلى تطبيقه في كبرى المسألة حتى يتوجه الاشكال المزبور ، هذا ، ولكن يمكن دفع الاشكال المزبور بما دفعناه به الاشكال المعروف في حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث إن الاشكال في المقامين واحد ، والجواب عنه أيضا واحد ، فراجع تلك المسألة وعليه فلا مجال للاشكال فيه من هذه الجهة فكان المتبع حينئذ هو أصالة العموم في غير مورد قيام الحجة الأقوى على الخلاف. هذا كله إذا كان اجمال المفهوم من جهة تردده بين الأقل والأكثر.

واما لو كان اجماله من جهة تردده بين المتبائنين ، ففي مثله يسقط العام عن الحجية بالنسبة إلى كل واحد من الخصوصيتين فلايكون بحجة في واحدة منهما ، وذلك فان العام حينئذ وان كان على ظهوره من دون سراية الاجمال إليه من الخاص المنفصل ، الا انه لما كان يساوى ظهوره بالنسبة إلى كل واحد من زيدين اللذين يعلم بخروج أحدهما عن تحته بمقتضي دليل المخصص ، لايكون بحجة فعلية في واحد منهما ، فيصير بحكم المجمل من حيث السقوط عن الحجية نعم لا بأس بالأخذ بالعموم بالنسبة إلى ما عدا الفرد الخارج ، وهو الفرد الآخر المعين في الواقع ، لكن بشرط ان يكون مما يحتمل دخوله في العام وخروجه عنه من جهة احتمال مخصص آخر لا نعلمه ، والا فمع العلم بدخوله تحت العام وعدم

ص: 516

مخصص آخر لا مجال لأصالة العموم بالنسبة إليه ، من جهة انتفاء الشك الذي به قوام جريان دليل التعبد بالظهور ، واما ثمرة ذلك فإنما هي دخول تلك الفرد الآخر باجراء أصالة العموم فيه في العلم الاجمالي ، فيحكم عليه بقواعده المقررة في محله.

نعم قد يتوهم جواز التمسك بأصالة العموم حينئذ بالنسبة إلى كل واحد من الفردين المعلوم خروج أحدهما بمقتضي الخاص المجمل ، في مورد كان مفاد دليل الخاص هو نفى الالزام ، كما لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام لكل واحد من العلماء وكان مفاد الخاص هو عدم وجوب الاكرام بالنسبة إلى زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد بن بكر ، نظير جريان الأصلين المثبتين في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بنفي الالزام في أحدهما ، بتقريب ان مانعية العلم الاجمالي عن جريان الأصول في الطرفين انما هو من جهة استلزامها المخالفة العلمية للتكليف الفعلي المعلوم ، والا فالعلم الاجمالي بنفسه لايكاد يمنع عن جريان الأصول في الأطراف ، من جهة ما تقرر في محله من اختلاف المتعلق فيهما ، وكون المتعلق للعلم الاجمالي هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الفردين واحدي الخصوصيتين ، ومتعلق الشك هو كل واحد من العناوين التفصيلية ، وحينئذ فبعد ان فرض عدم استلزامه لمحذور العلمية في المقام فلا جرم يجري أصالة العموم بالنسبة إلى كل واحد من زيدين وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام كل واحد منهما ، كما كان هو الشأن أيضا في الأصلين المثبتين في مورد العلم الاجمالي بنفي التكليف.

ولكنه توهم فاسد نظراً إلى الفرق الواضح بين المقامين حيث إن الامارات باعتبار حجيتها في مداليلها الالتزامية يمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، بملاحظة انتهاء الامر فيها بهذه الجهة إلى التعارض كما في الخبرين القائمين أحدهما على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة والاخر على وجوب صلاة الظهر فيه ، مع العلم بعدم وجوب الصلاتين على المكلف. وهذا بخلافه في الأصول فإنها من جهة عدم حجية مثبتاتها لايكاد انتهاء الامر فيها من نفس جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلى التعارض كما في الامارات ، فمن ذلك لا بأس بجريانها والتعبد بها في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي عند عدم استلزامه للمخالفة العملية للتكليف المعلوم. هذا مما افاده الأستاذ في ابداء الفرق بين المقامين.

ولكن أقول : بأنه لايحتاج في المنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين إلى التشبث

ص: 517

بمسألة المدلول الالتزامي في الامارات ، إذ مع الغض عن ذلك كان المجال أيضا للمنع عن جريان أصالة العموم في الطرفين ، وذلك انما هو بدعوى ان عدم جريان أصالة العموم في الطرفين انما هو من جهة منافاة العلم الاجمالي عقلا مع قضية طريقية الامارات وكاشفيتها عن الواقع ، من جهة انه مع العلم الاجمالي المزبور يقطع بمخالفة أحد الطريقين للواقع ، ومع هذا القطع يستحيل التعبد بهما في الطرفين للاستطراق إلى الواقع.

وهذا بخلافه في الأصول فان حجيتها لما لم تكن من باب الطريقية والكاشفية عن الواقع ، بل من باب التعبد المحض في ظرف الجهل واستتار الواقع ، فأمكن حينئذ التعبد بها في الطرفين في مورد العلم الاجمالي بالخلاف ما لم يلزم من جريانها المخالفة العملية للتكليف المعلوم في البين ، فتدبر. هذا كله فيما لو كان الخاص مجملا بحسب المفهوم

واما لو كان اجماله بحسب المصداق مع تردده بين الأقل والأكثر ففي جواز التمسك بالعام فيما يحتمل كونه من افراد الخاص وعدم جوازه خلاف بين الاعلام ، والأول وهو الجواز هو المنسوب إلى المشهور من قدماء الأصحاب ، وربما فصل بين المخصص اللفظي واللبي بالجواز في الثاني دون الأول ولعله هو المشهور بين المتأخرين. ولكن التحقيق كما ستعرف هو عدم الجواز مطلقا.

ثم إن غاية ما قيل في تقريب القول بالجواز هو دعوى وجود المقتضي وعدم المانع عنه.

اما الأول فمن جهة شمول العام وانطباقه على المشكوك نظراً إلى استقراره ظهوره وعدم انثلامه بالتخصيص بالمنفصل.

واما الثاني فمن جهة ان ما نعيه الخاص ومزاحمته للعام انما كانت بمقدار حجيته ، وحينئذ فإذا فرض عدم حجيته الا بالنسبة إلى ما علم كونه من افراده ومصاديقه دونه بالنسبة إلى ما شك كونه من افراده ، فقهرا فيما اشتبه كونه من افراده يرجع إلى العموم فيحكم عليه بحكمه لعدم قيام حجة فيه على خلافه.

وقد أورد عليه بان العام وان لم يرتفع ظهوره في العموم بواسطة الخاص المنفصل ، ولا كان الخاص أيضا حجة فيما اشتبه كونه من افراده ، فلايكون خطاب لاتكرم الفساق دليلا على حرمة اكرام من شك في فسقه من العلماء من جهة الشك في أصل تطبيقه على المشكوك الا ان عدم جواز الاخذ بالعام حينئذ انما كان من جهة اقتضاء قضية التخصيص حتى في المنفصل لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية تحت

ص: 518

العام الموجب لانقلاب العنوان المأخوذ في العام وهو العالم مثلا في قوله : أكرم كل عالم ، عن كونه تمام الموضوع لوجوب الاكرام إلى كونه جزء الموضوع ، من جهة صيرورة الموضوع حينئذ بعد ورود الدليل على حرمة اكرام الفساق من العلماء عبارة عن العالم المقيد بكونه عادلا أو غير فاسق ، ومن الواضح على ذلك عدم جواز التمسك بالعموم في المشتبه كونه من افراد الخاص ، لأن الشك في كونه من افراد الفساق يلازم الشك في ذلك العنوان الايجابي أو السلبي المأخوذ في موضوع حكم العام ، ومع هذا الشك فلايكاد يصح التمسك فيه بالعام ، من جهة كونه من التمسك بالعام مع الشك في أصل تطبيق عنوان العام على المورد هذا.

ولكن فيه منع اقتضاء التخصيص كالتقييد لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام ، وقياسه بباب التقييد والاشتراط الموجب لتعنون الموضوع بوصف وجودي أم عدمي مع الفارق جدا ، فان شأن التخصيص سواء في المتصل أو المنفصل في قوله : أكرم العلماء الا زيدا أو عمرا ، مثلا انما هو مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام وتخصيصه بالافراد الباقية ، من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بل هذه الافراد الباقية بعد التخصيص كانت على ما كانت عليها قبل التخصيص في الموضوعية للحكم العام بخصوصياتها الذاتية ، فهو أي التخصيص في الحقيقة بمنزلة انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه ، فكما ان خروج من مات منها لايوجب تعنون الافراد الباقية بعنوان وجودي أو سلبي بل كانت الافراد الباقية على ما هي عليها قبل خروج من خرج بالموت من كونها تمام الموضوع للحكم ، كك أيضا في التخصيص فلايوجب ذلك أيضا احداث عنوان سلبي أو ايجابي في الافراد الباقية ولا تغيرا فيها في موضوعيتها للحكم بالانقلاب عن كونها تمام الموضوع إلى جزئه ، ومجرد اختصاص حكم العام حينئذ في قوله : أكرم العلماء ، بعد التخصيص ، بغير دائرة الخاص من بقية الافراد أو الأصناف لايكون من جهة تعنوان الافراد الباقية بعنوان خاص في مقام موضوعيتها للحكم ، بل وانما ذلك من جهة ما في نفس الحكم من القصور الناشي من جهة تضيق دائرة الغرض والمصلحة عن الشمول ثبوتا لغير الافراد الباقية ، وهذا بخلافه في باب التقييد والاشتراط ، حيث إن قضية التقييد بشيء تعنون موضوع الحكم بوصف وجودي أم عدمي غير حاصل قبل توصيفه به ، كما في قوله : أكرم العالم وقوله أعتق الرقبة ، حيث إنه بورود دليل

ص: 519

التقييد بكونها مؤمنة ينقلب الذات عن كونها تمام الموضوع إلى جزء الموضوع ، فيصير الموضوع عبارة عن الرقبة المقيدة بالايمان ، بنحو خروج القيد ودخول التقيد.

وبالجملة فرق واضح بين باب التخصيص والتقييد حيث إنه في الأول لايكاد يكون قضية التخصيص الا مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن دائرة موضوع العام الموجب لحصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لتغيير في ناحية الافراد الباقية في مقام موضوعيتها للحكم ، بخلاف الثاني حيث إن شأن دليل التقييد والاشتراط انما هو توصيف الموضوع بوصف خاص وجودي أم عدمي ، وبذلك يوجب اخراجه عما عليه قبل التقييد من التمامية في الموضوع إلى جزئه ، وعليه فنقول بأنه لا مجال بعد هذا الفرق لمقايسة أحد البابين بالآخر بوجه أصلا.

ثم انه مما يشهد لما ذكرنا من الفرق بين البابين اطباقهم على عدم التمسك بدليل المطلق في موارد الشك في مصداق القيد ، كالشك في طهارة الماء واطلاقه ، حيث لم يتوهم أحد جواز التمسك حينئذ باطلاق ما دل على جواز التوضي بالماء لاثبات جواز الوضوء بما شك في طهارته أو اطلاقه ، بخلاف موارد الشك في مصداق المخصص في العام ، حيث إن فيها خلافا بين الاعلام بل المشهور من القدماء كما قيل على جواز التمسك بالعام. ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا ما أشرنا إليه من الفرق بين البابين ، والا فلو كان مرجع التخصيص أيضا كالتقييد إلى احداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية تحت العام لما كان وجه لاختلافهم في جواز الرجوع إلى العام في المقام مع اطباقهم على عدم جواز الرجوع إلى دليل المطلق عند الشك في مصداق القيد ، كما لايخفى.

ثم إن هذا كله في بيان الفرق بين كبرى البابين بحسب مقام الثبوت. واما بحسب مقام الاثبات واستظهار انه أي مورد من باب التخصيص وأي مورد من باب التقييد والاشتراط فلابد في استفادة أحد الامرين من المراجعة إلى كيفية السنة الأدلة. وفي مثله نقول : بان ما كان منها بلسان الاستثناء كقوله : أكرم العلماء الا زيدا ، فلا اشكال في أنه من باب التخصيص حيث إنه لا يستفاد من نحو هذا اللسان أزيد من تكفله لاخراج زيد عن العموم المزبور وحصر حكم العام بما عدا زيد من الافراد الاخر ، كما أن ما كان منها بلسان الاشتراط كقوله : يشترط ان يكون كذا وان لايكون كذا ، أو بلسان نفى الحقيقة عند فقدان امر كذائي كقوله : لا صلاة الا بطهور ولا رهن الا مبغوضا ، فلا اشكال أيضا

ص: 520

في كونها من باب التقييد ، واما ما كان منها بلسان لاتكرم الفساق من العلماء أو لايجب اكرام الفساق منهم كما هو الغالب في التخصيصات بالمنفصل فهو قابل لكلا الامرين حيث يصلح لان يكون من باب التقييد ، فيقيد به العنوان المأخوذ في العام في قوله : أكرم العلماء ، بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، كصلاحيته أيضا لان يكون من باب التخصيص الغير الواجب الا لحصر الحكم في قوله : أكرم العلماء بما عدا الفساق من الافراد الاخر ، من دون اقتضائه لتعنون الافراد الباقية بكونهم عادلين أو غير فاسقين ، وان كانوا في الواقع ملازمين مع العدالة قهرا ، وحينئذ فقد يقال في مثله بدوران الامر بين رفع اليد عن أحد الظهورين اما ظهور عنوان الموضوع في الاطلاق واما ظهور العام في العموم ، وان المتعين في مثله هو رفع اليد عن ظهوره في الاطلاق مع الاخذ بظهوره في العموم بالنسبة إلى كل فرد من افراد العالم ، ولا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون النتيجة حينئذ كالتقييد في عدم جواز التمسك بالعام عند الشك في مصداق المخصص. ولكنه مدفوع بمنع الدوران بينهما ، فإنه بعد القطع بخروج افراد الفساق عن دائرة حكم العام ، وهو وجوب الاكرام ، اما رأسا على التخصيص واما من جهة انتفاء القيد على التقييد ، فلا جرم لايترتب اثر عملي على أصالة العموم بالنسبة إليهم ، حتى يجري العموم بلحاظه ، ومعه فلا مجرى لأصالة العموم بالنسبة إلى كل فرد من العلماء حتى الفساق منهم ، وحينئذ فمع عدم جريان أصالة العموم وسقوطها عن الحجية فقهرا تبقى أصالة الاطلاق فيه بلا معارض ، ونتيجة ذلك قهرا هو التخصيص لا غير ، كما هو واضح.

وعلى كل حال فبعد ما اتضح وجه الفرق بين باب التخصيص وبين باب التقييد والاشتراط بحسب الكبرى ، وكون التخصيص من قبيل انعدام بعض الافراد أو الأصناف بموت ونحوه في عدم اقتضائه لاحداث عنوان سلبي أو ايجابي في ناحية الافراد الباقية لكي ينقلب عن كونها تمام الموضوع للحكم إلى جزئه ، ظهر لك عدم صحة ما أفيد من التقريب المزبور في وجه عدم جواز التمسك بالعام في المشتبه كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، من دعوى عدم الجزم بانطباق عنوان الموضوع بعد تقييده على المورد ، نظراً إلى الشك الوجداني حينئذ في جزئه الآخر وعدم صلاحية أصالة العموم لاحراز ذلك الجزء المشكوك ، إذ نقول بان هذا التقريب يتم في فرض ان يكون التخصيص أيضا كالتقييد موجبا لتعنون عنوان العام بأمر وجودي أو عدمي ، والا فعلى ما عرفت من الفرق

ص: 521

بين البابين لايكاد مجال لهذا الاشكال أصلا ، حيث إنه بعد عدم انقلاب عنوان العام عن كونه تمام الموضوع للحكم إلى جزء الموضوع فلا جرم أصل تطبيق العنوان على المورد عند الشك جزميا ، وفي مثله يتجه الاستدلال المزبور للقول بالجواز ، بتقريب انه بعد الجزم بانطباق عنوان العام على المورد واحتمال مطابقة ظهوره للواقع في الزائد عن الافراد المعلومة الفسق ، ولو من جهة احتمال كونهم عدولا ، يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، فان المدار في التعبد بالظهور انما هو على مجرد احتمال مطابقة الظهور للواقع ، وحينئذ فكما انه عند احتمال مطابقة الظهور للواقع في زيد العالم المشكوك فسقه وعدالته من جهة الشبهة الحكمية واحتمال خروج الفساق الداخل فيهم زيد على تقدير فسقه عن تحت حكم العام لأجل مخصص خارجي لايعلمه المكلف تجري أصالة الظهور ، وبمقتضاها يحكم بوجوب اكرام زيد المشكوك فسقه وعدالته ، كك الامر فيما لو كان احتمال مطابقة الظهور للواقع من جهة الشبهة المصداقية واحتمال كون المشتبه عادلا في الواقع ، فإنه في مثله أيضا يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف. نعم في المقام بالنسبة إلى الشبهة الحكمية لما قام حجة أقوى على الخلاف يرفع اليد عن حجية ظهوره ، واما بالنسبة إلى الشبهة المصداقية فحيث انه لم يعلم بمخالفة ظهوره للواقع من جهة احتمال كون المشتبه عدلا ولم تقم حجة أيضا على الخلاف من جهة فرض الشك في انطباق دليل الخاص على المورد فيؤخذ بظهوره ويحكم عليه بحكمه.

واما توهم اختصاص حجية الظهور بما لو كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية ، بدعوى ان الرجوع إلى أصالة الظهور انما هو في الشبهات التي كان رفعها وازالتها من شأن المتكلم دون غيرها مما ليس من شأن المتكلم ازالتها ، وبذلك ينحصر حجية الظهور في موارد الشبهات الحكمية ، لأنها هي التي كان إزالة الشبهة فيها من وظائف المتكلم ، ولا تعم الشبهات المصداقية ، نظراً إلى عدم كون مثل هذه الشكوك مما ازالتها من شأن المتكلم حتى يصح الرجوع إلى الظهور في رفع الشبهة فيها ، فمدفوع بأنه وان كان الامر كك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية على التفصيل ، ولكنه لا مانع من جعل امارة كلية لتميز الموارد وتشخيص حكم الصغريات ، فان ذلك أيضا من شأن الشارع ووظائفه ، كما في موارد اليد والبينة والسوق وغيرها.

وبالجملة نقول بان ما أفيد من عدم كون إزالة الشبهة في الصغريات

ص: 522

من شأن الشارع ووظائفه ، ان أريد ذلك بالنسبة إلى كل شبهة شخصية بنحو التفصيل فهو مسلم ، ولكنه لا ينتج المطلوب من سقوط أصالة الظهور عن الحجية في الشبهات المصداقية ، من جهة عدم كون أصالة الظهور من هذا القبيل ، وانما هي من قبيل جعل امارة كلية لتشخيص الصغريات وان أريد به خروج الشبهات الموضوعية كلية على الاطلاق عن موارد التمسك بالظهور ، بدعوى عدم كون إزالة الاشتباه فيها من شأن الشارع ووظائفه على الاطلاق ، ولو بنصب امارة كلية عليها للمكلف لكي يرجع إليها عند جهله وتحيره فهو ممنوع جدا بشهادة جعل البينة واليد والسوق ونحوها حجة عند اشتباه الموارد في الموضوعات ، وعليه نقول : بان من الامارات الكلية أيضا لتميز الوارد وتشخيص حكم الصغريات عند الجهل والاشتباه أصالة العموم ، فمتى تحتمل مطابقتها للواقع ولو من جهة الشبهة في المصداق ، ولم تقم حجة أقوى على خلافها يجب التعبد بظهوره والغاء احتمال الخلاف ، هذا.

ولكن مع ذلك فالتحقيق في المقام هو عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، إذ نقول : بان ما ذكر من التقريب المزبور للجواز مبنى على أن يكون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصورية المحضة التي هي عبارة عن مجرد تبادر المعنى وانسباقه إلى الذهن من اللفظ عند سماعه الناشي من جهة العلم بالوضع المجامعة مع القطع بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة والجد بالمراد أيضا ، كما في الألفاظ الصادرة عن الساهي والنائم ، حيث إنه مع القطع بعدم كون الألفاظ في مقام الإفادة والجد بالمراد يتبادر المعنى وينسبق إلى الذهن بمجرد سماع اللفظ ، فعلى هذا المسلك يتجه التقريب المزبور للجواز من جهة تحقق موضوع الحجية وهو الظهور التصوري مع احتمال المطابقة للواقع ، والا فعلى ما هو التحقيق من كون مدارا الحجية في أصالة الظهور على الدلالة التصديقية والكشف النوعي عن المراد فلايكون مجال لدعوى حجية أصالة العموم والظهور الا في موارد الشبهات الحكمية الناشئة من جهة احتمال مخالفة الظهور للواقع من جهة الشك في أصل التخصيص واصل القرينية ، والوجه فيه واضح بعد معلومية تبعية حصول التصديق بالمراد من اللفظ قطعا أو ظنا لاحراز كون المتكلم بكلامه في مقام الإفادة ومقام الجد بالمرام المتوقف ذلك على التفاته بجهات مرامه وخصوصياته ، إذ حينئذ يختص حصول التصديق النوعي بالمراد من اللفظ بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم

ص: 523

بجهات مرامه وخصوصياته ، فيختص ذلك حينئذ بخصوص ما كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة في الحكم الراجعة إلى الشك في التوسعة وتضييق دائرة مراد المتكلم. واما فيما عدا ذلك من موارد كون الشك في المخالفة من جهة الشك في مصداق المخصص فحيثما لايكون هناك غلبة نوعية فيها على التفات المتكلم ، بل ربما كان الامر بالعكس من حيث كون الغالب هو غفلة المتكلم وجهله بالحال ، بشهادة ما نرى من وقوع التردد والاشتباه كثيرا للمتكلم في تطبيق مرامه على الصغريات ، فلايكاد حصول التصديق النوعي بالمراد حتى يكون مشمولا لدليل التعبد ، فتكون نتيجته جواز الرجوع إلى العام في الشبهات المصداقية للمخصص ، بل ولو قلنا بان مدار الحجية في الظهورات على الظهور الفعلي والدلالة التصديقية الفعلية كان الامر في عدم جواز التمسك بأصالة العموم عند الشك في مصداق المخصص أظهر ، من جهة وضوح انتفاء الدلالة والتصديق الفعلي بالمراد مع تلك الغلبة النوعية على غفلة المتكلم وعدم التفاته في مقام التطبيق على الصغريات ، وان كان أصل المبني مما يبعد الالتزام به ، من جهة ما يلزمه من عدم حجية الظهورات في موارد قيام الظن الفعلي الغير المعتبر على الخلاف ، وهو مما لايمكن الالتزام به.

وحينئذ فلابد من تنقيح هذه الجهة بان حجية أصالة العموم ونحوها هل هي من باب الظهور التصوري المساوق لتبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن المجامع ولو مع الجزم بعدم كون المتكلم في مقام الإفادة ومقام الجد بالمراد الواقعي ، أو انه من باب الظهور التصديقي المفيد للظن بالمراد ولو نوعا وان لم يفده فعلا لمانع خارجي؟ وذلك بعد القطع بعدم كونه من جهة التعبد المحض ، بشهادة بنائهم على عدم حجية الظهورات مع الاتصال بما يصلح للقرينية ، بل ولا من باب الظن الفعلي بالمراد كما عليه بعضهم ، بشهادة ما عرفت من بنائهم على عدم اضرار قيام الظن الغير المعتبر على الخلاف.

فعلى الأول من كون مدار الحجية على الظهور التصوري المساوق لانسباق المعنى إلى الذهن ، فلا محيص كما عرفت من القول بجواز التمسك بالعام فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، نظراً إلى وجود المقتضي حينئذ للحجية وعدم المانع عنها ، حيث إنه بعد انطباق عنوان العام على المورد وعدم قيام حجة على الخلاف ، نظراً إلى فرض عدم حجية الخاص بالنسبة إليه بلحاظ الشك في انطباق عنوانه عليه ، فلا جرم

ص: 524

يشمله دليل التعبد بالظهور الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أو لبيا.

واما على الثاني : فلازمه كما عرفت هو المصير إلى عدم الجواز من جهة ما عرفت من اختصاص هذا المعنى أي إفادة الظهور للتصديق النوعي بالمراد بما إذا كان هناك غلبة نوعية على التفات المتكلم وعدم غفلته عن جهات مرامه الملازم ذلك للاختصاص بما إذا كان الشك في مخالفة الظهور للواقع من جهة الشبهة الحكمية الراجع إلى الشك في التوسعة والتضييق في دائرة المراد الواقعي في كبرى الحكم ، دون ما لو كان الشك في المخالفة والمطابقة من جهة الشبهة الموضوعية الراجعة إلى الشك في تطبيق الكبرى وما هو المراد الواقعي على المصاديق والصغريات ، وذلك من جهة انتفاء تلك الغلبة النوعية في هذا المقام ، لوضوح انه لا غلبة نوعية على التفات المتكلم بتطبيق مرامه على المصاديق والصغريات لولا دعوى كون الغلبة بالعكس ، على ما نرى ونشاهد بالوجدان من غفلة المتكلم وجهله وتردده كثيرا في تطبيق ما هو المرام على المصاديق والصغريات ، إذ حينئذ لايكون مجال لدعوى جواز الاخذ بأصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، حيث إنه لايكون اللفظ ظهور تصديقي ودلالة تصديقية ولو نوعية بالنسبة إلى الصغريات ومقام التطبيق على المصاديق ، حتى يشمله دليل التعبد من هذه الجهة ، ففي الحقيقة عدم حجية أصالة العموم فيما شك كونه من افراد المخصص كان من جهة عدم المقتضي للتعبد ، وهو الظهور التصديقي ، لا من جهة وجود المانع ، حتى يدفع بان دليل المخصص لما كان تطبيقه على المورد مشكوكا لايكون له صلاحية للمانعية عن التمسك بالعموم ، ولئن شئت قلت بان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية انما هو من جهة الشك في انطباق عنوان العام بما هو حجة على المورد ، حيث إنه بعد اقتضاء الدليل المخرج لقصر حكم العام في قوله : أكرم العلماء على ما عدا الفساق مثلا ، فقهرا عند الشك في كون المورد من مصاديق الفساق الخارج عن دائرة موضوع حكم العام يشك في انطباق ما هو المراد الواقعي على المورد ، وفي مثله لايبقى مجال لتوهم جواز الرجوع إلى العام في المشتبه كما هو واضح.

وحيث إن التحقيق في المسألة كما حقق في محله هو الثاني من كون مدار الحجية في الظهورات على الدلالة التصديقية لا الدلالة التصورية المساوقة لانسباق المعنى إلى

ص: 525

الذهن ، فلا جرم كان الأقوى هو عدم جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد المخصص ومصاديقه ، بل وكك الامر فيما لو شك في ذلك ولم يحرز من طريقة العقلاء ان مدار الحجية على الظهور التصوري أو الظهور التصديقي ، حيث إنه بعد ما لم يكن في البين اطلاق لفظي ، نظراً إلى كون الدليل عليه هو السيرة وبناء العقلاء ، فلابد من الاخذ بما هو الأخص وهو الدلالة التصديقية المعبر عنها بالظهور النوعي ، من جهة كونه هو القدر المتيقن من بناء العقلاء على الاخذ بالظهورات.

ومقتضاه كما عرفت هو لزوم المصير إلى عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص لفظيا أم لبيا ، لان مناط عدم الجواز انما هو انتفاء الدلالة التصديقية ، وعليه لا يفرق بين كون الخاص لفظيا أم لبيا ، كما أنه على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور أيضا لا يفرق بين لفظية المخصص ولبيته ، من جهة ما عرفت من جواز التمسك بالعام على هذا المسلك ولو مع كون المخصص لفظيا. وحينئذ فالتفصيل بين فرض كون المخصص لفظيا وبين كونه لبيا كما عن بعض ساقط على كل حال. بل اللازم على المسلك الأول في حجية أصالة الظهور هو المصير إلى الجواز مطلقا حتى في المخصص اللفظي ، كما أن اللازم على المسلك الثاني هو المصير إلى عدم الجواز كك حتى في المخصص اللبي.

ثم انه مما ذكرنا ظهر أيضا عدم صحة التشبث بقاعدة المقتضي والمانع لاثبات حكم العام في المشكوك ، بتقريب ان العام المنفصل عنه المخصص من جهة ظهوره واستقرار دلالته النوعية على المراد كان فيه اقتضاء الحجية وان الخاص المنفصل انما كان يزاحم حجيته في مقدار دلالته لا أصل ظهوره وحينئذ فعند الشك في فرد في كونه من مصاديق الخاص وعدمه يؤل إلى الشك في جود المزاحم وعدمه مع القطع بوجود المقتضي للحجية ، وهو الظهور ، وفي مثله لابد بحكم العقل من الجري على طبق المقتضي إلى أن يظهر الخلاف ، كما كان هو الشأن أيضا في كل واجب احتمل مزاحمته مع أهم منه كالصلاة والإزالة مثلا ، فكما انه هناك لا يعتنى باحتمال وجود المزاحم بل يجري على طبق المهم ويحكم بوجوب الاتيان به كك في المقام أيضا ، ففي المقام أيضا كان المقتضي للحجية وهو الظهور والدلالة النوعية متحققا وانما الشك في وجود المزاحم بالنسبة إلى المشكوك ، فلابد من الجري على طبق المقتضي والحكم على المشكوك بحكم

ص: 526

العام إلى أن ينكشف الخلاف ، حيث لا فرق بين المقامين ، غير أن المزاحمة هناك كانت في الحكم الفرعي وفى المقام في الحكم الأصولي وفي مرحلة الحجية.

وجه الفساد يظهر مما عرفت من المسلكين في وجه حجية أصالة الظهور ، إذ نقول : بأنه على المسلك الأول من كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية فان المقتضي للحجية وهو الظهور وان كان متحققا ، ولكنه بعد عدم حجية الخاص في المشكوك من جهة الشك في انطباق عنوانه عليه يقطع بعدم المزاحم له ، ومع القطع بعدم المزاحم لايكاد ينتهى النوبة إلى القاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما على المسلك الثاني من عدم كفاية مجرد الظهور التصوري في التعبد والحجية واحتياجها إلى الظهور التصديقي ولو نوعا فلاتحقق للمقتضي حينئذ حتى ينتهى الامر إلى القاعدة ، من جهة ما عرفت من أنه لايكون حينئذ للعام ظهور ودلالة تصديقية بالنسبة إلى مقام التطبيق على المصاديق والصغريات حتى يشملها دليل التعبد والحجية ، فعلى كل من المسلكين لا مجال للقاعدة المزبورة بوجه أصلا ، كما لايخفى.

تنبيه

لايخفى عليك ان المرجع بعد سقوط العام عن الحجية فيما شك كونه من مصاديق الخاص لفظيا أو لبيا انما هو الأصول العملية وحينئذ لو كان هناك أصل حكمي من استصحاب وجوب أو حرمة ونحوه فلا اشكال ، واما الأصل الموضوعي فيبتنى جريانه على ما تقدم من المسلكين في التخصيصات من أن قضية التخصيص هل هي كالتقييد في اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في الافراد الباقية بعد التخصيص الموجب لتقيد موضوع الحكم في نحو قوله : أكرم كل عالم ، بالعالم العادل أو العالم الغير الفاسق ، أم لا؟ بل وان قضيته مجرد اخراج بعض الافراد أو الأصناف عن تحت حكم العام الموجب لقصر حكم العام ببقية الافراد أو الأصناف من دون اقتضائه لاحداث عنوان ايجابي أو سلبي في موضوع حكم العام في الافراد أو الأصناف الباقية ، وان فرض ملازمة تلك الافراد الباقية بعد خروج الفساق مثلا من باب الاتفاق مع العدالة أو عدم الفسق.

فعلى المسلك الأول لا بأس بجريان الأصل الموضوعي في المشتبه حيث يجرز به كونه من افراد العام ، فيحكم عليه بحكمه بعد احراز جزئه الآخر وهو العالمية بالوجدان ، نظير

ص: 527

سائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالأصل وبعضها بالوجدان ، ففي المقام أيضا إذا جرى استصحاب العدالة أو عدم الفسق في الفرد المشكوك فبانضمام الاحراز الوجداني للجزء الآخر وهو العالمية يحرز ما هو موضوع حكم العام وهو العالم العادل أو العالم الذي لم يكن فاسقا فيحكم عليه بحكمه.

واما على المسلك الثاني الذي هو المختار فلا مجال لجريان الأصل الموضوعي المزبور من جهة عدم ترتب اثر شرعي عليه حينئذ فإنه على هذا المسلك لايكون لمثل هذه العناوين دخل في موضوع الحكم والأثر ولو على نحو القيدية حتى يجري فيها استصحابها ، بل وانما موضوع الأثر حينئذ عبارة عن ذوات تلك الافراد الباقية بخصوصياتها الذاتية من دون طرو لون عليها من قبل دليل المخصص ، غاية الامر هو اقتضاء خروج افراد الفساق مثلا لملازمة الافراد الباقية بعد التخصيص عقلا مع العدالة أو عدم الفسق ، ومن المعلوم في مثله حينئذ عدم اجداء قضية استصحاب العدالة أو عدم الفسق للمشكوك لاثبات كونه من الافراد الباقية الملازمة مع عدم الفسق ، الا على القول بالمثبت ، وحينئذ فعلى هذا المسلك لابد من الرجوع في المشكوك إلى الأصول الحكمية الجارية فيه من استصحاب وجوب أو حرمة أو غيرهما ، والا فلا مجال للتشبث بالأصول الموضوعية لاندراج المشكوك فيه من موضوع العام والحكم عليه بحكمه نعم لو كان مفاد الدليل الخاص نقيضا لحكم العام كما لو كان مفاد العام وجوب اكرام العلماء وكان مفاد الخاص عدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ففي مثله أمكن اثبات وجوب الاكرام الذي هو حكم العام بمقتضي استصحاب عدم الفسق ، من جهة انه باستصحابه يترتب عليه نقيض اللا وجوب الذي هو عبارة عن وجوب الاكرام. وهذا بخلافه في فرض كون مفاد الخاص عبارة عن حرمة الاكرام التي هي ضد لحكم العام ، حيث إنه في مثله لايكاد يمكن اثبات وجوب الاكرام باستصحاب العدالة أو عدم الفسق لان غاية ما يقتضيه الأصل المزبور حينئذ انما هو عدم حرمة اكرام الفرد المشكوك لا وجوب اكرامه الا على النحو المثبت كما هو واضح.

بقى الكلام في جواز التمسك بعموم العام لاخراج ما شك في كونه من مصاديق العام عن تحت العام مع القطع بخروجه عن حكمه وعدم جوازه واختصاصه بما لو كان الشك في خروج فرد عن حكم العام بعد القطع بفرديته له ، حيث إن فيه خلافا بين الاعلام ،

ص: 528

ولكن التحقيق هو عدم الجواز ، نظراً إلى أنه لايكون لنا دليل لفظي على الحجية حتى يصح الاخذ باطلاقه في مثل المقام ، حيث إن العمدة في الباب انما هي السيرة وبناء العقلاء ، وبعد عدم العلم باستقرار بنائهم على حجية أصالة العموم في مثل المقام لابد من الاقتصار على ما هو المتيقن منها ، وهو لايكون الا في موارد الشك في خروج ما هو من افراد العام ومصاديقه قطعا عن حكم العام ، ومن العجب ان صاحب الكفاية قدس سره مع اشكاله في المقام (1) ومنعه عن جواز التمسك بالعام فيما شك في كونه من افراد العام بمنع قيام السيرة على التمسك بأصالة العموم مطلقا تمسك به في مسألة الصحيح والأعم (2) حيث استدل لاثبات الوضع لخصوص الصحيح بعموم الدلالة المثبتة للآثار من نحو قوله علیه السلام : الصلاة معراج المؤمن ، وانها قربان كل تقي ، وانها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، بتقريب دلالتها بعكس النقيض على أن كل ما لايكون معراج المؤمن وناهيا عن الفحشاء والمنكر فليس بصلاة ، فراجع. وعلى كل حال فالتحقيق في المسألة كما عرفت هو ما افاده قدس سره في المقام من عدم الحجية الا في موارد الشك في الخروج عن العام حكما مع اليقين بدخوله فيه موضوعا.

الجهة الرابعة

لا اشكال في عدم الاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بعد الفحص التام عن المخصص والمقيد واليأس عن الظفر بهما والوجه في ذلك أمران : أحدهما : وهو العمدة حيث المعرضية للتخصيص ، كما هو كذلك في العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، فإنه لابد حينئذ في كل عام من الفحص التام عن مخصصاته بحيث يخرج المورد عن المعرضية للتخصيص وتطمئن النفس بأنه غير مخصص ، بل ذلك غير مختص بباب العمومات والمطلقات فيجري في كل ظاهر كان في معرض إرادة خلافه بإقامة القرينة على الخلاف ، كما في الظواهر الصادرة عن المعصومين علیهم السلام ، ففيها أيضا لابد من الفحص التام

ص: 529


1- ج 1 ص 350.
2- ج 1 ص 45.

عن القرينة بمقدار يخرج المورد عن المعرضية لإرادة الخلاف ، والا فقبل الفحص لايجوز الاخذ بها ، لعدم قيام السيرة على الحجية حينئذ قبل الخروج عن المعرضية ، ولدليل ( هلا تعلمت )؟ (1) المقتضي لعدم معذورية المكلف التارك للفحص.

وثانيهما : من جهة العلم الاجمالي بتقريب انه يعلم اجمالا بورود مخصصات كثيرة فيما بأيدينا من الاخبار لهذه العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، فيجب الفحص حينئذ عن مخصصات تلك العمومات بمقتضى العلم الاجمالي المزبور. ولكن يرد عليه ان لازم ذلك هو جواز الرجوع إلى العمومات الباقية بعد الظفر بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه نظراً إلى صيرورة الشك في البقية حينئذ بدويا ، كما أن لازمه أيضا في فرض عدم الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال هو عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص التام عن مخصصاتها من جهة بقاء المانع وهو العلم الاجمالي حينئذ على حاله ، مع أنهما كما ترى لايكاد يلتزمون بشيء منهما ، فان ظاهرهم هو وجوب الفحص عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد من العمومات ، مع تخصيص المنع عن الاخذ بالعمومات بما قبل الفحص عن المخصص ، وحينئذ فالأولى في التشبث بهذا التقريب لاثبات المدعى وهو وجوب الفحص والمنع عن الاخذ بالعمومات الا بعد الفحص التام عن مخصصاتها هو تقييد العلم الاجمالي المزبور بقيد خاص وهو كون المخصص المعلوم بالاجمالي على نحو لو تفحصنا عنه لظفرنا به ، بدعوى ان العلم الاجمالي وان كان بمخصصات كثيرة لتلك العمومات فيما بأيدينا من الاخبار ، ولكنه لا على نحو الاطلاق بل على نحو لو تفحصنا عنها بالمقدار المتعارف فيما بأيدينا من كتب الاخبار لظفرنا بها ، فإنه على هذا التقريب يتم المدعى ويسلم عن الاشكال المزبور ، من جهة ان عدم الظفر بالمخصص على هذا التقريب بالفحص يكشف عن خروج العام المتفحص عنه من الأول عن الطرفية للعلم الاجمالي ، وحينئذ فلابد على هذا التقريب أولا من الفحص التام عن المخصص بالنسبة إلى كل واحد من العمومات حتى يظفر بالمخصص أو يخرج بواسطة الفحص وعدم الظفر عن الطرفية للعلم الاجمالي ، هكذا افاده الأستاذ دام ظله في بحثه.

ولكن أقول : بأنه غير خفى عدم اجداء مثل هذا التقريب أيضا لدفع الاشكال الأول

ص: 530


1- البحار ج 1 ص 177 ح 58.

وهو لزوم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص مع الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال من المخصصات ، وذلك من جهة وضوح ان المعلوم بالاجمال بعد ما كان محدودا كمه ومقداره بالضرورة بحد خاص لا يتجاوز عنه كما في كلية الأقل والأكثر ، فلا جرم الظفر بذلك المقدار يوجب قهرا ارتفاع العلم الاجمالي من البين وصيرورة الشك في الزايد بدويا ، ومعه يلزم جواز الاخذ ببقية العمومات بلا فحص ، نعم انما يجدي هذا التقريب لدفع الاشكال الثاني وهو لزوم عدم جواز الاخذ بالعمومات ولو بعد الفحص عند عدم الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال ، والا فهو غير دافع للاشكال الأول ، وحينئذ فالعمدة في اثبات وجوب الفحص على الاطلاق والمنع عن الرجوع إلى أصالة العموم الا بعد الفحص التام هو الوجه الأول وهو المعرضية للتخصيص.

ثم إن هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما المقدار اللازم منه فهو على الوجه الأول كما عرفت بمقدار يخرج المورد عن المعرضية بحيث تطمئن النفس بأنه غير مخصص ، والظاهر هو تحقق الوثوق بالخروج عن المعرضية بالفحص عن المخصص بالمقدار المتعارف فيما بأيدينا من الكتب ، حيث إنه بهذا المقدار من الفحص يحصل الوثوق بل العلم العادي بأنه غير مخصص ، كما أن مقداره على مسلك مانعية العلم الاجمالي أيضا هو الفحص بالمقدار المتعارف عما هو من دائرة العلم المزبور من كتب الاخبار ، فإنه بهذا المقدار من الفحص يحصل الوثوق والعلم العادي بخروجه عن الطرفية للعلم الاجمالي ، فيجوز الاخذ معه حينئذ بأصالة العموم ، من دون احتياج إلى تحصيل القطع بالخروج عن الطرفية للعلم الاجمالي فتدبر.

الجهة الخامسة
اشارة

في أنه هل الخطابات الشفاهية تختص بالحاضرين المشافهين أو انها تعم الغائبين بل المعدومين أيضا؟ فيه خلاف بين الاعلام ، وتنقيح المرام في المقام هو ان الخطابات الواردة في الكتاب والسنة على أنحاء :

منها : ما كان من قبيل : قوله : يجب على الحاضر كذا وعلى المسافر كذا وعلى المستطيع كذا ونحو ذلك مما كان المخاطبة بنفس المواجهة من دون توسيط أداة خطاب في البين.

ص: 531

ومنها : ما كان من قبيل قوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ونحو ذلك ، مما كان الخطاب بأداة النداء وكان موضوع الخطاب عنوانا عاما قابلا للانطباق على الموجود والمعدوم.

ومنها : ما كان من قبيل قوله : يجب عليكم كذا وقوله : كتب عليكم الصيام ونحو ذلك ، مما كان التخاطب بأداة الخطاب وكان المكلف بالتكليف نفس المخاطب.

اما القسم الأول منها فلاينبغي الاشكال في شمولها للغائبين بل المعدومين ، بل الظاهر هو خروج مثل هذا القسم عن حريم النزاع وعن مورد النفي والاثبات بينهم ، كيف وانه لا وجه لتوهم اختصاص مثل هذا القسم من الخطابات بخصوص المشافهين وعدم شموله للغائبين والمعدومين بعد عموم العنوان وعدم ما يوجب الاختصاص بالحاضرين ، ومن ذلك ترى انه قد يكون المكلف والمقصود بالخطاب غير المخاطب في مجلس الخطاب ، كما في قولك لمن حضرك من الرجال : يجب على النساء كذا.

واما الاشكال في أصل شمول التكاليف المستفادة التكاليف المستفادة من الخطابات للمعدومين في زمن الخطاب ، نظراً إلى لا بدية وجود المكلف عقلا في صحة توجيه التكليف إليه ، فمدفوع بأنه كك في التكاليف الفعلية المستتبعة للبعث والزجر ، فإنها هي التي يحكم العقل باستحالة توجيهها نحو المعدوم فعلا ، واما الغير البالغة إلى تلك المرتبة فلا محذور فيها ، ضرورة انه لا مانع من توجيه التكليف على وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قانونا نحو الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا منجزا عند اجتماع الشرائط وفقد الموانع ، كقوله : يجب على المستطيع كذا وعلى المسافر كذا ، كما هو واضح.

واما القسم الثالث فالظاهر أنه لا اشكال أيضا في خروجه عن محل النزاع ، وعدم شموله الا لخصوص الموجودين الحاضرين حال الخطاب ، وذلك من جهة وضوح ان الخطاب الحقيقي يستدعى وجود المخاطب فعلا ، لعدم صحة المخاطبة مع غير الموجود حال الخطاب بل ومع الغائب عن مجلس الخطاب أيضا ، وحينئذ فإذا فرضنا ان المكلف هو المخاطب بالخطاب ، فقهرا يلازم ذلك اختصاص التكليف الذي هو مضمون الخطاب أيضا بخصوص الحاضرين وعدم شموله للغائبين ، فضلا عن المعدومين حال الخطاب ، واما توهم انه في الخطاب الحقيقي يكفي وجود المخاطب ولو ادعاء ولا يعتبر فيه وجود المخاطب حقيقة ، فمدفوع بأنه في الموجود الا دعائي لايكون الخطاب أيضا الا ادعائيا ، من جهة ما

ص: 532

عرفت من عدم صحة الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم الا إلى الموجود الحقيقي ، كما هو واضح.

وحينئذ فينحصر محل النزاع ومورد النفي والاثبات بالقسم الثاني الذي يكون موضوع الخطاب فيه من العناوين العامة القابلة للانطباق على الموجود والمعدوم حين الخطاب ، كقوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ، حيث إن مقتضي عموم المتلو هو الشمول للغائبين والمعدومين أيضا كما أن مقتضي ظهور الأداة في الخطاب الحقيقي هو الاختصاص بخصوص الحاضرين المشافهين ، فيدور الامر حينئذ بين الاخذ بظهور الأداة في الخطاب الحقيقي وتخصيص عموم ما في التلو بخصوص الحاضرين ، وبين الاخذ بعموم ما وقع في التلو وحمل الأداة على الخطاب الايقاعي ، وفي مثله قد يقال في تعميم الحكم المتكفل له الخطاب للغائبين والمعدومين بوجوه :

منها : ما افاده في الكفاية (1) من دعوى ان ظهور تلك الأدوات في الخطاب الحقيقي انما كان من جهة الانصراف ، والا فهي موضوعة للخطاب الايقاعي الانشائي ، وان الاختلاف انما كان ممن جهة الدواعي ، فالمتكلم ربما يوقع النداء لكن لا بداعي الخطاب الحقيقي ، بل بدواع أخرى كالتحسر والتأسف كقوله أيا كوكبا ما كان أقصر عمره ، وربما يوقعه بداعي الخطاب الحقيقي كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التمني والترجي ونحوهما ، فإنها أيضا موضوعة للايقاعي منها لا لخصوص الحقيقي منها ، وحينئذ فإذا كان ظهورها في الخطاب الحقيقي من جهة الانصراف دون الوضع نقول : بان الانصراف إلى الخطاب الحقيقي انما يكون إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه كما في المقام ، حيث يكفي في المانعية عمومية ما وقع في التلو ، خصوصا بعد ملاحظة عدم اختصاص الاحكام الملقى من الشارع غالبا في نحو هذه الخطابات من نحو قوله : يا أيها الناس اتقوا ، ويا أيها الذين آمنوا ، بخصوص من حضر مجلس الخطاب ، وعليه فيؤخذ في مثل هذه الخطابات بعموم العنوان المتلو للموجود والمعدوم حال الخطاب ، ويحمل الخطاب على الخطاب الايقاعي الانشائي من دون استلزام قضية العمومية أيضا لاستعمال كلمة ( يا ) في غير معناها الحقيقي. ولكن فيه ان ظهور الياء في الخطاب الحقيقي بمقتضي الانصراف أو الغلبة أو غير ذلك انما كان

ص: 533


1- ج 1 ص 357.

ظهورا مستقرا ، فيزاحم حينئذ مع ظهور المتلو في العموم ، فيوجب تخصيصه بالحاضرين ، خصوصا مع احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف المتكفل له الخطاب ، حيث يكفي في القرينية عليه نفس الخطاب.

ومنها : ان الياء وان كان ظاهرا في الخطاب الحقيقي وضعا أو انصرافا ويحتاج إلى وجود المخاطب حين الخطاب ، الا انه يكفي في صحة الخطاب مطلق الموجودية ولو ادعاء ، بادعاء المعدوم بمنزلة الموجود ، فان ذلك امر متداول عند أهل اللسان في محاوراتهم واستعمالاتهم ، ومن ذلك ترى كثيرا انهم يدعون ما لا شعور له بمنزلة ذي الشعور ويخاطبون معه ، كقوله : ( أيا جبلي نعمان باللّه خليا ) بل يثبتون للوجود الا دعائي آثار الوجود الحقيقي كما في ( انشبت المنية أظفارها ) ونحو ذلك من الاستعمالات المتداولة ففي المقام أيضا إذا ادعى المعدوم منزلة الموجود يصلح معه المخاطبة ، فلا محذور حينئذ في شمول الخطابات للمعدومين. ولكن فيه انه وان لم ينكر وقوع مثل هذه الادعاءات في نحو تلك الاستعمالات ولكنه بعد عدم صلاحية المعدوم للخطاب الحقيقي فلا محالة يكون الخطاب أيضا ادعائيا من جهة ان الخطاب الحقيقي بقصد التفهيم يستحيل توجيهه نحو المعدوم حال الخطاب. على أنه لو اغمض عن ذلك وقلنا بصحة الخطاب الحقيقي نحو الموجود الادعائي لايكاد يفيد أيضا في المطلوب من شمول الخطابات للمعدومين في زمان الخطاب ، من جهة ان ذلك كما ذكر يحتاج إلى ادعاء المعدوم بمنزلة الموجود الحقيقي ، ومثل ذلك مما لا طريق إلى احرازه ، إذ لم يعلم بان الشارع في خطابه ادعى المعدومين بمنزلة الموجود ، ومعه يشك لا محالة في شمول الحكم المتكفل له الخطاب للمعدومين ، خصوصا بعد احتمال مدخلية قيد الحضور أيضا في التكليف ، كما في وجوب صلاة الجمعة والعيدين ونحوهما ، واما قضية اطلاق الخطاب فهو أيضا غير منتج لاثبات ذلك ، من جهة عدم تكفله لاحراز موضوعه ، وعليه فكيف يمكن دعوى التعميم للغائبين والمعدومين؟

ومنها : دعوى تساوى الموجود والمعدوم في خطاباته سبحانه ، لإحاطته سبحانه بالموجود حال الخطاب والموجود في الاستقبال إلى يوم القيمة ، وفيه أيضا ما افاده في الكفاية (1) بان احاطته سبحانه وتعالى بالموجود في الحال والاستقبال لايقتضي

ص: 534


1- ج 1 ص 358.

صلاحية المعدوم للمخاطبة ، وعدم صحة المخاطبة الحقيقية معهم أيضا لايقتضي نقصا في ناحيته سبحانه بوجه أصلا ، كما لايخفى.

ثم انه من التأمل فيما ذكرنا أيضا من احتمال مدخلية قيد الحضور ظهر عدم اجداء قاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم للمعدومين ، وذلك من جهة ان الذي تقتضيه القاعدة المزبورة انما هو من مدخلية الخصوصيات الذاتية ، كخصوصية الزيدية والعمروية والبكرية. واما الخصوصيات العرضية الصنفية كخصوصية الحضور وكونهم موجودين في زمان الخطاب فلايكون من شأن القاعدة الغائها ونفيها ، ومن ذلك ترى اختصاص بعض الأحكام كوجوب صلاة الجمعة بل وصلاة العيدين وإقامة الحدود على قول بحال الحضور ، وحينئذ فمع احتمال مدخلية خصوصية الحضور في تكليف الحاضرين الموجودين في زمان صدور الخطاب ، فلا مجال للتشبث بقاعدة الاشتراك لاثبات الحكم المتكفل له الخطاب في حق المعدومين أيضا ، كما هو واضح.

وحينئذ فالأولى في اثبات تعميم الحكم المتكفل له الخطابات للمعدومين هو التشبث بعموم الناس أو المؤمنون الواقع في حيز الخطاب ، بدعوى ان الخطاب من جهة ظهوره في الخطاب الحقيقي وان كان غير شامل عقلا لغير الحاضرين في مجلس الخطاب الا ان مقتضي عموم العنوان الواقع في التلو هو شمول الحكم المتكفل له الخطاب لغير الحاضرين أيضا من الغائبين والمعدومين ، حيث لا منافاة بين اختصاص الخطاب بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب وبين عموم الحكم المكفل له الخطاب لغير الحاضرين ، بل قد عرفت امكان الحكم والتكليف بغير الحاضرين المخاطبين بالخطاب ، كما في قوله مخاطبا لجماعة من الرجال : يجب على الحائض من النساء كذا وكذا.

واما ما ذكرنا من احتمال مدخلية قيد الحضور في التكليف فيدفعه قضية الاطلاق حيث إن مقتضاه هو عدم مدخلية قيد الحضور في التكليف المستفاد من الخطاب.

واما توهم ان الاخذ بالاطلاق في نفى مدخلية القيد انما يصح فيما لو كان القيد المحتمل دخله من القيود المفارقة كالقيام ونحو ذلك ، لا في مثل القيود الملازمة الغير المفارقة كما في المقام.

وذلك لأنه في نحو هذه القيود لا يلزم من عدم بيانها اخلال للمتكلم بغرضه ، كي

ص: 535

بعدم بيان دخلها في الغرض يتم الاطلاق ، بخلاف القسم الأول فإنها من جهة قابليتها للانفكاك ففي فرض دخلها في الغرض يجب إقامة البيان على دخلها في الغرض ، والا يلزم الاخلال بالغرض الذي هو مستحيل من الحكيم ، فيستكشف من عدم بيانه عدم دخلها في المطلوب ، وعليه فإذا كان قيد الحضور المحتمل دخله من القيود اللازمة الغير المفارقة عن الموجودين الحاضرين في زمن الخطاب ، بحيث لا يلزم من عدم ذكره وبيانه على تقدير دخله اخلال بالغرض ، فلا جرم لا يتم امر الاطلاق كما لايخفى.

فمدفوع بأنه كك إذا لم يكن القيد المحتمل دخله من القيود الخفية المغفول عنها غالبا ، والا فمع فرض كونه غير ملتفت إليه بحسب الغالب فلايكاد يفيد مجرد وجدان القيد في الاكتفاء به عن ذكره وبيانه ، بل لابد من إقامة البيان على دخله في غرضه ومطلوبه لئلا يأخذ المكلف باطلاق كلامه حتى في غير مورد وجود القيد ، والا لأخل بغرضه ومرامه. وبهذه الجهة أيضا قلنا بصحة التمسك بالاطلاق لنفى دخل مثل قصد القربة والوجه والتميز في العبادة ، بملاحظة كونها من القيود الخفية المغفول عنها غالبا. ففي المقام أيضا نقول : بان قيد الحضور وان كان من القيود الملازمة الغير المنفكة عن الموجودين في زمان الخطاب ، ولكن لما كان مغفولا عنه وغير ملتفت إليه غالبا فعلى تقدير دخله في التكليف لابد للمولى من بيانه والتصريح بدخله في مرامه ومطلوبه ، كي لا يأخذ المكلفون باطلاق الحكم والتكليف الذي هو مفاد الخطاب ، ولايصح له الاكتفاء عن ذكره وبيانه بوجدان المخاطبين في مجلس الخطاب للخصوصية ، والا لأخل بغرضه ومرامه. وحينئذ فعلى ذلك فنفس الخطاب وان كان غير قابل للشمول لغير الحاضرين في مجلس الخطاب الا ان الحكم المتكفل له الخطاب بمقتضي عموم العنوان الواقع في التلو يعم الغائبين والمعدومين أيضا.

بل ومن ذلك البيان ظهر صحة التمسك بقاعدة الاشتراك أيضا في اثبات التعميم وذلك انما هو باجراء أصالة الاطلاق أولا في حق الموجودين المخاطبين في نفى احتمال مدخلية خصوصية قيد الحضور ثم تسرية الحكم بقاعدة الاشتراك القاضية بعدم مدخلية الخصوصيات الذاتية في حق غيرهم من الغائبين ، حيث إنه بمقتضي هاتين القاعدتين يثبت التكليف المستفاد من الخطابات في حق غير المشافهين ولو كان الخطاب بمثل قوله : يجب عليكم كذا وكذا.

ص: 536

ويمكن استفادة التعميم من وجه آخر ، وهو استفادته من جهة نفس الخطاب وظهوره في الكشف عن المصلحة المطلقة وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد وبلغ من افراد المكلفين ، بتقريب ان عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى المعدوم لما لم يكن من جهة وضع الأداة ، بل ولا من جهة قرينة متصلة لفظية أو عقلية ارتكازية بل كان ذلك من جهة قرينة عقلية غير مرتكزة ، بلحاظ ان حكمه بعدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي نحو المعدوم انما هو بعد التفاته إلى أن المواجهة بالخطاب الحقيقي لابد لها من طرف موجود ذي شعور ، فلا جرم يكون من قبيل القرائن المنفصلة الغير الكاسرة لظهور الخطاب ، نظير حكمه باشتراط القدرة في صحة توجيه التكليف ، وفي مثله فيؤخذ بظهور الخطاب في الكشف عن المصلحة المطلقة في الفعل وعن فعلية التكليف بالنسبة إلى كل من وجد وبلغ من افراد المكلفين ، كما يؤخذ بظهور الهيأة في الكشف عن المصلحة في المتعلق حتى في حال العجز وعدم القدرة ، وبهذا التقريب أيضا أمكن استفادة التعميم لغير المشافهين في الحكم الذي هو مفاد الخطاب وان كان نفس الخطاب بمقتضي تلك القرينة العقلية لا يعم غير المشافهين ، ولكن الأستاذ لم يتعرض لبيان هذا التقريب بل اقتصر على بيان التقريب الأول.

ثم إن الفرق بين التقريبين هو انه على التقريب الأول يختص استفادة التعميم بما لو كان الخطاب مصدرا بأداة النداء ، مثل قوله : يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ، بخلاف التقريب الأخير الذي ذكرناه ، فإنه عليه أمكن استفادة التعميم ولو كان التخاطب بأداة الخطاب ، كقوله : كتب عليكم الصيام ونحوه ، كما هو واضح.

ثم إن لو أبيت عن ذلك كله نقول بأنه يكفي في تعميم الحكم المتكفل له الخطاب القرينة النوعية العرفية على الغاء مثل هذه الخصوصيات في التكاليف الشرعية ، حيث إنه من جهتها يقطع بأنه لا مدخلية لخصوصية الحضور في التكليف وان توجيه التكليف إلى الحاضرين انما هو من جهة كونهم من افراد المكلفين لا من جهة خصوصية حضورهم.

ومن ذلك أيضا ترى بناء الأصحاب رضوان اللّه عليهم على الغاء مثل تلك الخصوصيات في التكاليف الشرعية المستفادة من الخطابات الواردة في الكتاب والسنة ، حيث لم يتوهم أحد اختصاص حرمة النقض في مثل علیه السلام لزرارة : ( لاينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ) بخصوص زرارة ، وكذا في قوله علیه السلام لزينب بنت

ص: 537

جحش ( تغتسل ) في الاختصاص بها دون غيرها ، وهكذا غير ذلك من الخطابات المتكفلة للأحكام الشرعية ، بل ولعل مثل تلك القرينة النوعية السارية في جميع الخطابات هي المدرك أيضا لقاعدة الاشتراك المعروفة ، والا فلا دليل عليها بالخصوص فتأمل. واما الاجماع فمدركه أيضا تلك القرينة النوعية وعليه فلاينبغي الاشكال في عدم اختصاص الاحكام المتكفلة لها الخطابات بخصوص المشافهين وشمولها للغائبين والمعدوم أيضا ، وان كان نفس الخطاب الحقيقي يقصر عن الشمول لغير الحاضرين من جهة تلك القرينة العقلية المتقدم ذكرها ، كما لايخفى.

بقى الكلام فيما قيل من الثمرة بين القولين وهي ثمرتان :

الأولى : حجية ظهور الخطابات لغير المشافهين من الغائبين كالمشافهين بناء على الشمول وعدم حجيته بناء على الاختصاص بالمشافهين ، نظراً إلى دعوى احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه على قرينة حالية أو مقالية معهودة بينه وبين المخاطب.

الثانية : صحة التمسك بالاطلاقات وظهورا الخطابات القرآنية لكل من وجد وبلغ من المعدومين على التعميم وعدم صحته على الاختصاص بالمشافهين حيث إنه على اختصاص الحكم بالمشافهين يحتاج اثبات تعميمه للمعدومين بمقتضي الاطلاق إلى احراز الاتحاد مع المشافهين في الصنف حتى يحكم بقاعدة الاشتراك بالاشتراك معهم في الحكم ، والا فمع عدم اثبات الاتحاد لايكاد يفيد التشبث بالاطلاقات وظهور الخطابات في التعميم للمعدومين ، وحيث انه لا دليل على ذلك ولاتقتضيه أيضا قاعدة الاشتراك من جهة ما تقدم من عدم اقتضائها الأنفى مدخلية الخصوصيات الذاتية دون الخصوصيات العرضية كخصوصية الحضور ونحوه ، فلا جرم بعد احتمال عدم الاتحاد مع المشافهين لا مجال لاثبات الحكم وتعميمه للمعدومين.

والفرق بين الثمرتين واضح ، فان الكلام في الأولى في صحة التمسك بظواهر الخطابات وجوازه بالنسبة إلى غير المشافهين والمخاطبين بالخطاب وعدم صحته ، نظراً إلى احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر واتكاله في تفهيم مرامه من خطابه على قرينة معهودة بينه وبين المخاطبين ، من غير نطر إلى اشتراك غير المشافهين مع المشافهين في الحكم والتكليف أو اختصاصه بخصوص المخاطبين ، ومن ذلك يجرى هذا الكلام حتى في موارد عدم الاتحاد

ص: 538

في الصنف كما في تمسك المجتهد بالظاهر لاثبات حكم صنف غير شامل له كتمسكه بظهور ما دل على الحكم المتعلق بالنساء لاثبات الاحكام المختصة بهن. ففي الحقيقة يكون البحث من الجهة الأولى ، وحجية ظهور الخطابات كلية لغير المخاطبين المقصودين بالافهام ، من جملة المقدمات في البحث للثمرة الثانية حيث إنه يحتاج في الثمرة الثانية إلى اثبات حجية الظهورات للمعدومين كي يتمسكوا بالظاهر لاثبات حكمه للموجودين ثم اثباته لنفسهم بمقتضي قاعدة الاشتراك بعد احراز الاتحاد في الصنف ، وهذا بخلافه في الثمرة الثانية ، فان الكلام فيها في صحة التمسك لكل من وجد وبلغ من المعدومين بالظواهر على التعميم ، وعدم صحته على الاختصاص ، واحتياج التعميم إلى قاعدة الاشتراك واحراز الاتحاد في الصنف.

وعلى كل حال فالثمرة الأولى منهما مبنية على القول بحجية الظهورات لخصوص من قصد افهامه ، والا فبناء على عدم الاختصاص بمن قصد افهامه كما هو التحقيق أيضا فلا مجال لهذه الثمرة ، حيث إنه كان لغير المشافهين أيضا الاخذ بظهور الخطابات في استفادة مرام المتكلم من خطابه ، خصوصا مع ما عرفت من منع كون المشافهين مخصوصين بكونهم مقصودين بالافهام من الخطابات المتكفلة للأحكام الشرعية ، بل وان جميع الناس إلى يوم القيمة كانوا كذلك وان لم يعمهم الخطابات.

واما الثمرة الثانية : فهي أيضا غير ظاهرة من جهة ما بينا سابقا من اقتضاء الاطلاقات نفى مدخلية قيد الحضور في التكليف الحاضرين باعتبار كونه من القيود المغفول عنها غالبا ، واما ما قيل : من عدم الاحتياج إلى ذكره والتنبيه عليه بعد كونه من القيود اللازمة للمشافهين ، فلا يلزم من عدم ذكره في دخله في التكليف اخلال منه بغرضه فمدفوع بان مجرد ذلك غير مجد في دفع محذور نقض الغرض بعد كونه من القيود المغفول عنها غالبا ، خصوصا بعد فرض كون المتكلم في مقام بيان مرامه على الاطلاق ، حتى بالنسبة إلى غير المشافهين ، بل لابد حينئذ من بيانه والتصريح بمدخلية قيد الحضور في تكليف الحاضرين لئلا يأخذ غير الحاضرين باطلاق تكليف الحاضرين ويستكشفوا من الخطاب المتوجه إليهم تكليف أنفسهم ، هذا كله مع امكان منع كون خصوصية الحضور من القيود اللازمة غير المنفكة عن الحاضرين من جهة وضوح عدم كون قيد الحضور في زمان الخطاب أو النبي مثلا من القيود اللازمة

ص: 539

الغير المفارقة عن اشخاص الحاضرين مجلس الخطاب ، بل وانما ذلك من قبيل الأوصاف المفارقة ، من جهة جواز كون المخاطبين فاقدين للحضور في أثناء عمرهم. وحينئذ فإذا جرى أصالة الاطلاق في نفى اعتبار قيد الحضور في تكليف الحاضرين فصح تمسك المعدومين لا محالة بظهور الخطابات لاثبات تعميم الحكم ، حيث إنه باجراء أصالة الاطلاق في حق المشافهين ينفى احتمال مدخلية خصوصية الحضور ثم ينفى احتمال دخل الخصوصيات الذاتية بقاعدة الاشتراك ، فيستفاد من اجل هاتين القاعدتين تعميم التكليف المستفاد من الخطاب لكل من وجود وبلغ من المعدومين ، ومعه فينتفي الثمرة المزبورة أيضا ، من جهة انه على كل تقدير يصح تمسك المعدومين باطلاقات الخطابات القرآنية وغيرها.

ومن ذلك كان الحري هو اسقاط هذا البحث من رأسه حيث إنه لا يزيد الا اغتشاشا في الأذهان الصافية ، والا فلا اشكال في جواز التمسك بالاطلاق الواردة في الكتاب والسنة للمعدومين كالمشافهين ، كما عليه أيضا ديدن الأصحاب من الصدر الأول إلى زماننا هذا ، حيث لا يزال يتمسكون عند الشك في مدخلية شيء في التكليف بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة ، فكان مثل هذه التشكيكات تشكيكات في البديهيات ، كما هو واضح.

الجهة السادسة

اختلفوا في أن الاستثناء الواقع عقيب الجمل المتعددة هل هو راجع إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة؟ وذلك بعد الفراغ منهم على مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن في المرجعية ، وظاهر عنوان البحث يقتضي تخصيص النزاع بما لو كان المخصص متصلا ، بان كان الخاص والجمل المتعددة في كلام واحد ، والا ففي فرض انفصاله وكونهما في كلامين مستقلين لا مجال لعنوان البحث بالاستثناء ولا لدعوى القطع بمرجعية الأخيرة بكونها القدر المتيقن من التخصيص ، إذ حينئذ يكون نسبة المخصص إلى الأخيرة والى غيرها على حد سواء ، فيحتاج تعين الأخيرة كغيرها إلى قرينة معينة ، والا فيسقط الجميع عن الحجية من جهة العلم الاجمالي بتخصيص الجميع أو احديها المرددة بين الأخيرة وغيرها ، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال.

ص: 540

ولكن محل الكلام كما عرفت حسب عنوانهم البحث بالاستثناء انما هو في فرض اتصال المخصص ، وعليه فلا كلام في مرجعية الأخيرة لكونها القدر المتيقن من التخصيص وانما الكلام في رجوعه إلى غيرها من الجمل الاخر ، والكلام فيه أيضا يقع تارة في أصل امكان رجوعه إلى الجميع ثبوتا ، وأخرى عن في وقوعه وترجيح احتمال الرجوع إلى الجميع على احتمال عدمه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوعه إلى الجميع ، فهنا مقامان :

اما المقام الأول : فقد يقال بعدم امكان رجوعه إلى الجميع باعتبار استلزامه لمحذور استعمال الا في اخراجات متعددة باستعمال واحد ، ولزوم هذا المحذور انما هو من جهة خصوصية الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف والهيئات. ولكن فيه انه مضافا إلى منع أصل المبني كما قررناه في محله من عموم الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف كالوضع لايكاد يتم فيما لو كان الاستثناء بغير الحروف من الأسماء الموضوعة للاخراج كغير وسوى وعدا وخلا ونحو ذلك ، حيث إنها باعتبار عمومية الموضوع له فيها يمكن رجوعهما إلى الجميع باستعمالها في طبيعة الاخراج غايته احتياجه في إرادة الخصوصيات إلى تعدد الدال والمدلول.

وعلى فرض كون الاستثناء بمثل الا وتسليم خصوص الموضوع له فيها نقول : بان ما ذكر من المحذور انما يتوجه إذا أريد كل واحدة من الإضافات الخروجية من اللفظ بالاستقلال والا ففي فرض لحاظ المجموع بلحاظ واحد فلا محذور يرد عليه ، وبيان ذلك هو ان المعاني الحرفية بعد ما كانت من سنخ النسب والإضافات المتقومة بالطرفين ففي مثل الفرض تارة يلاحظ في مقام الاستعمال الإضافة الخروجية بين شيء وبين أمور متعددة بنحو يكون كل واحد من تلك الأمور طرفا للإضافة في لحاظه بالاستقلال ويلزمه استقلال كل واحد من تلك الإضافات الاخراجية في مقام اللحاظ وأخرى يلاحظ الإضافة الاخراجية بينه وبين مجموع أمور متعددة بجعل المجموع طرفا للإضافة في لحاظه ، نظير ملاحظة نسبة التقابل بين الشيء وصف من العسكر من حيث لحاظ نسبة التقابل تارة بينه وبين كل واحد من افراد داك الصف بالاستقلال ، وأخرى لحاظها بينه وبين مجموع الصف.

وبعد ذلك نقول : بان الاشكال المزبور انما يتوجه على الفرض الأول من لحاظ اخراجات متعددة على الاستقلال ، والا فعلى الفرض الثاني من لحاظ الجمل المتعددة

ص: 541

بمجموعها طرفا للإضافة الاخراجية فلايتوجه الاشكال ، حيث إنه عليه لايكون في البين الا إضافة واحدة شخصية قائمة بالمخرج ومجموع الجمل ، ولايكون الأداة أيضا الا مستعملة في اخراج واحد شخصي ومجرد تعدد المخرج منه والمخرج مثلا خارجا حينئذ لايوجب تعددا في الإضافة الاخراجية القائمة بالمجموع ، كما هو واضح. وعليه فلا مجال للاشكال في امكان رجوع الاستثناء إلى الجميع بمثل البيان المزبور.

وحينئذ فالأولى في الاشكال في المقام هو الاشكال عليه من جهة المستثنى في مثل قوله : أكرم العلماء والشعراء والتجار الا زيدا ، مريدا به خروج زيد عن كل واحد من العمومات ، حيث إنه يلزمه حينئذ إرادة معان متعددة من لفظ واحد وهو زيد ، ومن هذه الجهة يتعين رجوعه إلى الأخيرة لا غيرها ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ذلك أيضا بإرادة المسمى بزيد من اللفظ المزبور ولو كان بعيدا في نفسه ، حيث إنه عليه يكون زيد مستعملا في معنى كلي له مصاديق متعددة ، غايته انه يحتاج إلى توسيط دوال أخر على إرادة الخصوصيات ، ولكن مع ذلك كله يبعد جدا الحمل على المسمى ، فلا محيص في مثله بعد بعد الحمل المزبور من تعين رجوعه إلى خصوص الأخيرة.

ثم إن ذلك أيضا إذا لم يكن في البين من هو مجمع العناوين الثلاث ، والا فمع وجوده فلا بأس باخراجه من الجميع ، كما لو فرض كون المسمى بزيد منحصرا في زيد بن عمرو وكان ذلك مجمعا للعناوين الثلاث ، حيث إن في هذا الفرض يصح اخراجه من الجمل المتعددة ، من دون استلزامه لمحذور أصلا ولا احتياج إلى التأويل بالمسمى ، كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر الحال أيضا فيما لو كان الاستثناء من قبيل الصنف كالفساق مثلا حيث يجوز رجوعه حينئذ إلى الجميع أيضا من غير استلزامه لمحذور استعمال اللفظ في أكثر من واحد.

ثم انه بعد الفراغ عن أصل امكان رجوع الاستثناء المتعقب لجمل متعددة إلى الجميع يبقى الكلام في المقام الثاني في مقام اثبات ذلك واستظهاره ، وفي ذلك نقول : انه قد عرفت ان الأخيرة هي القدر المتيقن في المرجعية لأنه على كل تقدير يعلم بتخصيصها ، واما غير الأخيرة فلا ظهور للكلام يقتضى رجوعه إليه ، وفي مثله لو بنينا على حجية أصالة

ص: 542

العموم من باب التعبد فلا اشكال في أن لازمه جريان أصالة العموم بالنسبة إلى ما عدا الأخيرة ، من جهة الشك في أصل التخصيص بالنسبة إليها. واما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور فيشكل جريان أصالة العموم فيها ، من جهة ان اتصالها بما يصلح للقرينية يوجب اجمالا فيها فلا يبقى لها ظهور حتى يتمسك بها عند الشك في تخصيصها ، فلابد حينئذ من الحكم عليها بالاجمال والرجوع فيها إلى ما تقتضيه الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، فيما لم تكن الدلالة في طرف العام بالوضع وفى المستثنى بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، والا فيؤخذ فيها بأصالة العموم ولا يعتنى إلى احتمال تخصيصها برجوع الاستثناء إلى الجميع.

وتوضيح ذلك هو ان الدلالة في كل من العمومات والاستثناء المتصل بها اما ان تكون بالوضع ، واما بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وثالثة تكون الدلالة في العام بالوضع وفى الاستثناء بالاطلاق ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين تسقط العمومات عن الحجية ، لتصادم الظهورات ، ولابد من الرجوع إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، من جهة اختلاف الحال حينئذ حسب اختلاف الحالة السابقة ، من حيث العلم بكونه محكوما بحكم العام تارة وبحكم الخاص أخرى والجهل بالحالة السابقة ثالثة.

وعلى الثالث لابد من الاخذ بالعام وعدم الاعتناء باحتمال رجوع الخاص إليه ، ولا مجال حينئذ أيضا لتوهم اجمال العام باتصاله بالخاص المحتمل رجوعه إليه ، من جهة ان ذلك انما هو في فرض صلاحية الخاص المتصل للقرينية عليه ، وبعد فرض كون الدلالة فيه من جهة الاطلاق لايكاد صلاحيته للقرينية على العام ، بل الامر حينئذ بالعكس ، فان العام من جهة كون الدلالة فيه بالوضع يصلح للبيانية عليه ، فينفي موضوع الاطلاق في طرف الخاص ، لكونه من قبيل الدليل بالنسبة إليه ، كما هو واضح.

ولئن شئت قلت بان ظهور العام في العموم بعد كونه بالوضع ظهور تنجيزي غير معلق على شيء بخلاف الخاص ، فان ظهوره لما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة يكون تعليقيا منوطا بعدم ورود بيان على خلافه ، وفي مثله يكون الأثر قهرا للظهور التنجيزي ، فيقدم على الظهور التعليقي من جهة صلاحيته للبيانية عليه ، بخلاف العكس فان صلاحية هذا الظهور التعليقي للقرينية على الظهور التنجيزي دوري ، ففي مثله لايكاد تصل النوبة مع

ص: 543

هذا العام إلى الظهور الاطلاقي في طرف الخاص ، حتى يجيء فيه احتمال الصلاحية للقرينية على العام ، وهو ظاهر.

وعلى الرابع يجيء فيه احتمال صلاحية الخاص للقرينية والبيانية للعمومات عند عدم ظهوره في الرجوع إلى الجميع ، فلابد من الحكم في غير الأخيرة من سائر الجمل بالاجمال والرجوع فيها إلى الأصول العملية من استصحاب ونحوه ، هذا كله في الخاص المتصل بالجمل المتعددة.

واما الخاص المنفصل عنها فقد عرفت عدم تعين مرجعية الأخيرة في مثله ، من جهة تساوي الأخيرة وغيرها في المرجعية ، وعليه فعند الدوران في رجوعه إلى بعضها أو إلى الجميع يسقط الجميع عن الحجية ، من جهة العلم الاجمالي ، ولابد من الحكم عليها أي على الجميع بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، من غير فرق في ذلك بين كون الدلالة في كل واحد من العمومات والخاص المنفصل بالوضع ، أو بالاطلاق ، أو كون الدلالة في طرف العمومات بالوضع وفي طرف الخاص بالاطلاق ، أو بالعكس ، وذلك لما سيجيء انشاء اللّه تعالى من أن عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو عدم البيان في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان على الاطلاق ولو في كلام آخر منفصل عن الكلام الذي وقع به التخاطب ، فإذا فرض حينئذ وقوع العام والخاص في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق منهما ، من غير صلاحية ما كان الوضع منهما للقرينية والبيانية عليه ، ومع استقرار الظهور فيه فقهرا بمقتضي العلم الاجمالي يتصادم الظهوران ويتساقطان عن الحجية ، ومعه لابد من الرجوع إلى ما يقتضيها الأصول العملية فتدبر.

الجهة السابعة

إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده فهل يوجب ذلك تخصيصه به أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام. وليكن الكلام فيما لو كان العام مستقلا فيما حكم عليه في الكلام كقوله سبحانه : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله : وبعولتهن أحق بردهن ) والا فإذا لم يكن كك بان كان العام قد ذكر توطئة لحكم الضمير كقوله : والمطلقات أزواجهن أحق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به ، كما أنه لابد وأن يكون محل

ص: 544

الكلام فيما لو كان العام والكلام الذي يتصل به الضمير في كلام واحد ، على نحو كان الكلام المشتمل على الضمير من توابع ما اشتمل على العام ، من جهة عدم تصور فرض استقلال كل من العام والضمير الراجع إليه في الكلام ، على معنى كونهما في كلامين مستقلين ، نعم لا بأس بذلك في مثل أسماء الإشارة حيث أمكن فرض كونهما في كلامين مستقلين كامكان فرضهما في كلام واحد وقع به التخاطب.

وعلى أي حال فحيثما لايمكن ابقاء العام على ظهوره في العموم مع حفظ ظهور الضمير في المطابقة مع المرجع من جهة العلم بمخالفة أحد الظهورين للواقع يدور الامر بين التصرف في العام وتخصيصه بما أريد من الضمير الراجع إليه ، بحمله على خصوص الرجعيات لا الأعم منها ومن الباينات ، وبين التصرف في الضمير : اما بنحو الاستخدام بارجاعه إلى بعض ما هو المراد من المرجع ، واما بنحو المجاز في الاسناد بارجاعه إلى تمام المرجع توسعا.

وفي مثله قد يقال كما في الكفاية وغيرها بتقديم أصالة الظهور في العام على أصالة الظهور في الضمير في التطابق مع لمرجع ، لكونه أي العام مما شك فيه في المراد مع العلم بأصل الوضع ، حيث يحتمل فيه كون المراد منه هو خصوص الرجعيات أو الأعم منها ومن الباينات ، فيجرى فيه أصالة الظهور ، بخلافه في الضمير ، فإنه لاشك فيه في المراد من جهة العلم بإرادة خصوص الرجعيات ، وانما الشك في كيفية الاستعمال ، وفي مثله لا مجرى فيه لأصالة الظهور والحقيقة ، فان القدر المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية انما هو في صورة الشك في المراد لا في صورة الشك في كيفية الاستعمال مع القطع بالمراد ، ومن ذلك أيضا قلنا بعدم جريان أصالة الظهور والعموم لاخراج ما يقطع بخروجه عن حكم العام عن موضوعه ، اقتصارا على المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على الحجية ، وحينئذ فإذا لا يجري أصالة الظهور في طرف الضمير ، بملاحظة معلومية المراد منه بالإرادة الجدية من كونه خصوص الرجعيات ، فلا دوران في البين بين أصالة الظهورين ، فتجري أصالة الظهور حينئذ في طرف العام ، ويتصرف في الضمير اما بنحو الاستخدام أو بنحو المجاز في الاسناد. ولئن شئت قلت : ان عدم جريان أصالة الظهور في طرف الضمير انما هو من جهة انتفاء الأثر عليه بخلافه في طرف العام فإنه مما يترتب عليه الأثر فتجري أصالة الظهور فيه دون الضمير.

ولكن يدفع ذلك بأنه وان كان لا مجرى لأصالة الظهور في طرف الضمير، فلا دوران

ص: 545

بين أصالة الظهور في الضمير في التطابق وبين أصالة الظهور في العام ، الا ان مجرد ذلك لايقتضي جريانها في طرف العام ، فإنه لا أقل من صلاحية الضمير باعتبار اتصاله بالكلام للقرينية على العام ، من جهة احتمال كون استعماله على طبق وضعه ، وفي مثله من المعلوم انه لايبقى مجال ظهور للعام في العموم ، حتى يجري فيه دليل التعبد بالظهور ، نعم لو كان العام والضمير في كلامين مستقلين كما قلنا بتصويره في مثل أسماء الإشارة ، أو قلنا بحجية أصالة العموم من باب التعبد المحض لكان للقول بجريان أصالة الظهور في العام كمال مجال ، ولكنك عرفت عدم تصور فرض استقلال العام والضمير في الكلام ، وعدم كون مدار الحجية في أصالة الحقيقة على التعبد ، بل على الظهور التصديقي النوعي ، وعليه فالضمير حسب اقترانه بالعام يكون مما يصلح للقرينية على العام ، ومعه فلايكون له ظهور في العموم حتى يشمله دليل التعبد الآمر بالغاء احتمال الخلاف ، كما لايخفى.

الجهة الثامنة

اختلفوا في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف وعدم جوازه ، كقوله علیه السلام : ( خلق اللّه الماء طهورا لا ينجسه شيء ) (1) وقوله علیه السلام : ( إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) (2) وذلك بعد الوفاق منهم ظاهرا على تخصيصه بالمفهوم الموافق.

ولكن التحقيق القول فيه هو ان العام وما له المفهوم مطلقا تارة يكونان في كلام واحد وقع به التخاطب وأخرى في كلامين مستقلين ، وعلى التقديرين فالدلالة فيهما تارة تكون بالوضع وأخرى بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وثالثة بالوضع في العام وبالاطلاق في المفهوم ، ورابعة بعكس ذلك.

فعلى الأولين لابد من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم على الآخر ، من غير فرق في ذلك بين كون العام وماله المفهوم في كلام واحد وفي كلامين مستقلين ، إذ على الأول فظاهر ، لعدم استقرار الظهور في واحد منهما حينئذ بعد صلاحية كل منهما للقرينية على الآخر وتساويهما في الوضع

ص: 546


1- الوسائل ج 1 ، الباب 1 من الماء المطلق ، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1 و 2.
2- الوسائل ج 1 ، الباب 1 من الماء المطلق ، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1 و 2.

والاطلاق ، وعلى الثاني أيضا كك من جهة تصادم الظهورين وصيرورتهما بحكم المجمل في عدم حجية واحد منهما ، حيث إنه لابد حينئذ من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان في البين ما يوجب قوة في أحدهما فيوجب استقرار ظهوره لو كانا في كلام واحد أو اقوائيته لو كانا في كلامين مستقلين. ولكن في مثل ذلك حيث لا ضابط كلي كذلك ، من جهة اختلافه باختلاف خصوصيات المقامات والمناسبات بين الاحكام وموضوعاتها ، لايمكن تأسيس قاعدة كلية سارية في جميع الموارد في تقديم أحدهما على الآخر ، بل لابد من لحاظ القرائن الخاصة وخصوصيات الموارد الخاصة من مناسبات الحكم والموضوع ونحوها ، فربما توجب قوة في العام ، وأخرى في المفهوم سواء في ذلك أيضا بين الموافق والمخالف.

وعلى الثالث من فرض كون الدلالة في العام بالوضع وفى المفهوم بالاطلاق : فان كانا في كلام واحد فلا اشكال في الاخذ بالعام ورفع اليد عن المفهوم ، بل لا دوران حينئذ حيث إنه مع الظهور الوضعي للعام لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في المفهوم ، حتى يجيء فيه احتمال التخصيص ، فان الظهور الاطلاقي من جملة مقدماته عدم البيان على خلافه ، والعام بعد كون الدلالة فيه بالوضع صالح للبيانية ، فيرتفع به موضوع الاطلاق.

واما لو كانا في كلامين مستقلين فقد يقال : بأنه أيضا كذلك وانه يقدم العام الوضعي عليه نظراً إلى تنجيزية الظهور الوضعي في العام وتعليقيته في الخاص والمفهوم ، وإناطته بعدم البيان على خلافه.

ولكنه فاسد لما تقدم ، وسيجيء بان عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان بقول مطلق ولو إلى الأبد بكلام منفصل آخر عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مقام تخاطبه ، ومن ذلك ترى اخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الكلام الملقى إليهم عند عدم نصب المتكلم قرينة على الخلاف في تخاطبه ، من غير حالة منتظرة منهم في الاخذ بالظهور الاطلاقي بأنه لعله يأتي البيان من قبله في الأزمنة الآتية بعد شهر أو شهرين أو سنة أو غير ذلك ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة استقرار الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب المتكلم قرينة على المراد في كلامه الذي أوقع به التخاطب. وعليه فإذا فرض كون العام وماله المفهوم في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق في قبال الظهور الوضعي للعام ، من غير

ص: 547

صلاحية الظهور الوضعي في العام للقرينية والبيانية عليه بنحو يرتفع موضوع الاطلاق ، وفي مثله لا مجال لتقديم ظهور العام عليه بمقتضي البيان المزبور ، بل بعد استقرار الظهور في الطرفين يقع بينهما المزاحمة فلابد من الحكم عليهما بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ان لم يكن اقوائية في إحداهما ، والا فيؤخذ بما هو الأقوى والا ظهر منهما ، ويرفع اليد عن ظهور الآخر كما هو واضح.

ومن ذلك البيان ظهر حكم الفرض الرابع أعني فرض كون الدلالة في المفهوم بالوضع وفى العام بالاطلاق فإنه في فرض كونهما في كلام واحد يقدم المفهوم على العام ، من جهة تنجيزية ظهوره وتعليقية ظهور العام ، وفي فرض كونهما في كلامين مستقلين ، يحكم عليهما بحكم الاجمال بمقتضي البيان المتقدم ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيؤخذ به ويرفع اليد عن ظهور الآخر ، فتدبر.

الجهة التاسعة

اختلفوا في جواز تخصيص العموم الكتابي بالخبر الواحد وعدم جوازه بعد الاتفاق منهم على تخصيصه بالخبر المتواتر. ولكن التحقيق هو الجواز ، للسيرة المستمرة من الأصحاب من قديم الأزمان إلى زمانا هذا على تخصيص العمومات الكتابية بالخبر الواحد الغير المحفوف بالقرائن القطعية كتخصيص غيرها به ، وعدم صلاحية ما تمسك به المانعون للمانعية ، تارة بقطعية العام الكتابي سندا وظنية سند الخبر فلا دوران بينهما من جهة عدم مقاومة الظني مع القطعي ، وأخرى بما ورد من الأخبار الكثيرة القطعية على طرح ما لا يوافق الكتاب أو يخالفه من نحو قوله علیه السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، (1) أو فاضربه على الجدار ، (2) أو زخرف (3) ) على اختلاف ألسنتها ، بدعوى ان المخالفة تعم المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق ، فيجب حينئذ طرح ما يخالف العموم الكتابي من الاخبار الآحاد ، إذ فيه

ص: 548


1- أصول الكافي ج 1 ح 5. وسائل الشيعة ، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 15.
2- لم نعثر عليه في كتب الحديث.
3- أصول الكافي ج 1 ص 69 ح 3 و 4 وسائل الشيعة ، ج 18 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 12 و 14.

ما لايخفى :

اما الأول فبأنه لا دوران بين سند العام الكتابي وسند الخاص الظني حتى يقال بعدم مقاومة الظني للمعارضة مع القطعي ، بل ولا دوران أيضا بين دلالتهما ، من جهة معلومية اقوائية الدلالة في الخاص من العام في العموم ، كيف وان لازمه عدم جواز تخصيص العام المتواتر السند بالخبر الواحد ، مع أنه ليس كك قطعا ، بل وانما الدوران انما كان بين دلالة العام الكتابي وسند الخاص الظني ، وفي مثله يكون الدوران والمعارضة بين الظنيين من جهة ظنية دلالة العام أيضا ، لا بين القطعي والظني ، فكان الخاص حينئذ بسنده يعارض دلالة العام الكتابي لا سنده حتى يتوجه الاشكال المزبور ، ولا بدلالته من جهة ما عرفت من اقوائية ظهوره من ظهور العام ، ومن ذلك يقدم عليه بلا كلام مع القطع بصدوره ، كما يكشف عنه اطباقهم على جواز تخصيصه بالمتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية.

واما الوجه الثاني ففيه أيضا منع اطلاق تلك النصوص وشمولها للمخالفة بنحو العموم المطلق بل ومن وجه أيضا ، بل نقول باختصاصهما بمقتضي الانصراف بخصوص المخالفة بنحو التباين الكلي ، كيف وانه من المقطوع صدور اخبار كثيرة مخالفة للكتاب بنحو العموم المطلق ومن وجه ، فلابد حينئذ من الالتزام بالتخصيص بما صدر عنهم علیهم السلام من الاخبار المخالفة بنحو العموم المطلق ومن وجه ، وهو كما ترى! من اباء هذه الأخبار بملاحظة ما اشتمل عليها من التعبيرات عن التخصيص ، فان قوله علیه السلام : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو فاضربه على الجدار ) ونحوها مما لايكاد يتحمل التخصيص ، فلا محيص حينئذ بقرينة صدور مثل هذه الأخبار المخالفة بنحو العموم من وجه والمطلق عنهم علیهم السلام من حملها على خصوص المخالفة بنحو التباين الكلي لو فرض اطلاق فيها.

كما أن ما دل منها على طرح ما لا يوافق أيضا لابد من الحمل على ذلك ، لو لم نقل باختصاصها بمورد تعارض الخبرين ومقام ترجيح أحدهما على الآخر.

ثم إن كل ذلك أيضا في فرض صدق المخالفة عرفا على المخالفة بنحو العموم المطلق ، والا فمع عدم صدق المخالفة على مثل ذلك عرفا يخرج موضوعا عن تلك الأخبار.

وحينئذ فعلى كل حال لا مجال للتشكيك في جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد بمثل البيانات المزبورة بل لابد بمقتضي القواعد المقررة في محله من تخصيصه به كتخصيصه

ص: 549

بالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية.

نعم بعد ما ظهر ان الدوران في المقام كان بين سند الخاص الظني وبين دلالة العام الكتابي لابين سنديهما ولا بين دلالتيهما يبقى الكلام في ترجيح أصالة التعبد بالسند في الخاص على أصالة التعبد بالدلالة في طرف العام القطعي ، ووجه تقديمه عليه بأنه من جهة الحكومة كما قيل بدعوى مسببية الشك في حجية الظهور في العام عن الشك في صدور الخاص الا ظهر في قباله ، باعتبار ان موضوع الحجية في أصالة الظهور هو الظهور الذي لم يرد أظهر في قباله أو من جهة الورود بمناط المزاحمة وتقديم أقوى الحجتين أو بمناط آخر. وقد أشبعنا الكلام في ذلك مفصلا في مبحث التعادل والترجيح فراجع هناك تعرف.

الجهة العاشرة

إذا ورد عام وخاص متخالفان ، ففي كون الخاص ناسخا أو منسوخا أو مخصصا للعام وجوه.

وقد يقرب قاعدة كلية في تنقيح ذلك وتعيين كونه ناسخا للعام أو منسوخا به أو مخصصا له ، وهي اعتبار كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام واعتبار كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لاقبله حيث يقال حينئذ بان الخاص ان كان مقارنا مع العام أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه مخصصا للعام وبيانا له ، لا ناسخا له ، من جهة انه يعتبر في النسخ ان يكون رافعا لحكم ثابت فعلى من جميع الجهات ، وقبل حضور وقت العمل بالعام لايكون حكم فعلى في البين حتى يكون قضيته رفع الحكم الثابت ، فمن ذلك يتعين فيه كونه مخصصا للعام وبيانا له لا ناسخا. واما ان كان وروده بعد حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه ناسخا له ، لا مخصصا وبيانا له ، فان مقتضى كونه بيانا هو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح بل محال ، لأنه نقض للغرض الذي هو محال من الحكيم واما لو كان ورود الخاص قبل ورود العام ففيه يحتمل الأمران ، حيث يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل كونه منسوخا به. هذا ملخص ما أفيد في وجه التفصيل بين صورة ورود الخاص قبل

ص: 550

حضور وقت العمل بالعام أو بعده.

وقد عرفت ابتنائه على تسليم مقدمتين : الأولى قبح تأخير البيان عن وقت حضور عمل المكلف بالعام ، والثانية اعتبار كون السنخ رفعا للحكم الفعلي على الاطلاق ، حيث إنه على تقدير تمامية هاتين المقدمتين لابد من التفضيل المزبور وملاحظة كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، بالالتزام بالتخصيص في الأول وبالسنخ في الثاني.

ولكن كلتا المقدمتين ممنوعة وذلك : اما المقدمة أولى وهي قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فان أريد من وقت الحاجة وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه فقبحه مسلم لا اشكال فيه بل هو محال ، من جهة استلزامه نقض الغرض الذي هو من المستحيل في حق الحكيم ، ولكن صغراه في المقام ممنوعه ، حيث نمنع تعلق غرض الشارع في مثل تلك العمومات ببيان المرام الواقعي ، ومجرد احتياج المكلف إلى العمل لايقتضي كون وقت حاجته هو وقت حاجة المولى ، من جهة جواز التفكيك بينهما. وان أريد بذلك وقت حاجة المأمور والمكلف ولو لم يكن وقتا لحاجة المولى إلى البيان فقبحه غير معلوم بل معلوم العدم ، حيث إنه من الممكن كون المصلحة في القاء ظهور العام إلى المكلف عن خلاف المرام الواقعي ليأخذ به ويتكل عليه حجة وبيانا إلى أن يقتضى المصلحة بيان المرام الواقعي ، كيف وانه كفاك في ذلك ما في موارد التعبد بالأصول والامارات المؤدية على خلاف الواقعيات مع تمكن المكلف من تحصيلها بالاحتياط أو بالسؤال عن الأئمة علیهم السلام بل وكثير من الاحكام التي بقيت تحت الحجاب إلى قيام الحجة عجل اللّه فرجه مع احتياج العباد إليها ، ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك واحتمال وجود المانع عن ابراز المرام النفس الأمري اما مطلقا أو إلى وقت خاص أو قيام المصلحة الأهم في عدم الابراز لا مجال لاثبات كون الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا لا مخصصا ، بل حينئذ كما يحتمل فيه كونه ناسخا يحتمل أيضا كونه مخصصا. نعم لو قيل بان وقت حاجة المأمور ووقت العمل بالعام هو بعينه وقت حاجة المولى إلى بيان المرام النفس الأمري وهو الخصوص لاتجه الحمل على النسخ في الخاص المتأخر ، ولكن ودن اثباته خرط القتاد ، لما عرفت من عدم السبيل إلى هذه الدعوى بعد احتمال وجود مانع أو مزاحم أقوى في البين اقتضى اخفاء الواقعيات بالقاء الظهور إلى المكلف على خلافها اما إلى

ص: 551

الأبد أو إلى وقت خاص بعد العمل بالعام.

واما المقدمة الثانية ففيها أيضا ان كون النسخ رفعا للحكم الثابت وان كان لا سبيل إلى انكاره ، ولكن نقول بأنه لايلزمه كون ذلك الحكم الثابت فعليا على الاطلاق ، بل يكفي في صحته كونه رفعا لحكم ثابت في الجملة ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة بينه وبين شرطه وسببه ، كما في الواجبات المشروطة ، كيف وان النسخ في الشرعيات كالبداء في التكوينيات المتصور في الموقتات والمشروطات بالنسبة إلى المخلوقين ، وحينئذ فكما انه يصح في الاحكام العرفية نسخ الحكم في الموقتات والمشروطات قبل حصول شرطها ، ويكفي في صحته مجرد كونه رفعا لما هو المنشأ بالانشاء السابق ، ولو كان ذلك مجرد احداث الملازمة بين الامرين ، كك في الأحكام الشرعية ، فيكفي في صحته أيضا مجرد كونه رفعا لما تحقق بالانشاء السابق ولو لم يكن حكما فعليا على الاطلاق ، بل كان عبارة عن صرف قضية تعليقية ومحض الملازمة بين وجود شيء ووجوب امر كذا ، إذ لا فرق بينهما الا من جهة انه في العرفيات عبارة عن ظهور الواقع بعد خفائه من جهة ما يبدو لهم لما يرون فيه من المفاسد أو المزاحمة لما هو الأهم بخلافه في الشرعيات فإنه من جهة علمه سبحانه بعواقب الأمور واحاطته بالواقعيات عبارة عن اظهار الواقع بعد اختفائه لمصلحة تقتضيه. ومن ذلك نقول : بان باب النسخ أشبه شيء بباب التورية والتقية ، في كونه من باب التصرف في الجهة ، من حيث اظهاره سبحانه حكما بنحو الدوام والاستمرار لمصلحة تقتضيه ، مع علمه سبحانه بنسخه فيما بعد حسب ما يرى في علمه من المصالح المقتضية لذلك ، وعليه فصح ان يقول : ان جاء وقت كذا يجب كذا ، ثم يقول بعد حين قبل مجيء الوقت : نسخت ذلك الحكم ، فكان المرفوع هو تلك الملازمة الثابتة بين وجوب شيء ومجيء وقت كذائي ، ونتيجة ذلك هو عدم وجوب ذلك الشيء عليه عند تحقق الوقت الكذائي. ثم إن ذلك أيضا بناء على المشهور في المشروطات من عدم فعلية التكليف فيها الا بعد حصول المنوط به والشرط خارجا ، والا فبناء على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف فيها بجعل المنوط به هو الشيء في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج فلايحتاج إلى جعل المرفوع هو الملازمة ، حيث كان المرفوع حينئذ هو الحكم الفعلي المنوط ، بل لو قلنا برجوع المشروطات إلى المعلقات بارجاع القيود الواقعة في الاحكام إلى الواجب والمأمور به كان الامر أظهر ، من جهة فعلية الإرادة المطلقة الغير المنوطة بشيء حتى في فرضه ولحاظه

ص: 552

فتأمل.

وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتفصيل المزبور بين فرض ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، فإنه على كل تقدير يتأتى فيه احتمال النسخ والتخصيص كما في الفرض الثالث ، فلابد حينئذ بعد جريان احتمال النسخ والتخصيص في كل من الفروض الثلاثة من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وقبل الشروع في بيان ترجيح أحد الامرين نذكر ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة عند الشك فنقول : أما إذا كان الخاص مقدما على العام بحيث يحتمل كونه منسوخا بالعام الوارد بعده أو مخصصا وبيانا له ، فمع الدوران يجري استصحاب حكم الخاص ، من جهة الشك في ارتفاعه لاحتمال كونه مخصصا للعام لا منسوخا به ، فيستصحب ، وأما إذا كان الخاص واردا بعد العام ، بحيث يحتمل فيه الناسخية والمخصصية ، فتارة يكون حكم الخاص المتأخر نقيضا لحكم العام ، كما لو كان حكم العام هو وجوب اكرام العلماء ، وكان حكم الخاص عدم وجوب اكرام الفساق منهم ، وأخرى يكون حكمه ضدا لحكم العام ، كان كان حكم الخاص في الفرض المزبور حرمة اكرام الفساق منهم أو كراهته. فعلى الأولى يجرى فيه أيضا حكم التخصيص بمقتضي الأصل العدمي قبل ورود العام ، من جهة انه قبل ورود العام يعلم بعدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ، وبورود العام وهو قوله : اكرام العلماء يشك في وجوب اكرامهم ، من جهة احتمال كون الخاص المتأخر مخصصا للعام وبيانا له في عدم دخول الفساق منهم من الأول تحت حكم وجوب الاكرام ، فيستصحب الحالة السابقة وهي عدم وجوب اكرامهم فينتج حكم التخصيص دون النسخ. واما على الثاني فلا أصل يجرى في البين من جهة القطع التفصيلي بانتقاض الحالة السابقة على كل تقدير اما بوجوب الاكرام بمقتضي العام على فرض الناسخية واما بحرمة الاكرام الثابت للخاص على فرض المخصصية ، فعلى كل تقدير فلا شك فيه في البقاء حتى يجرى استصحاب العدم السابق على العام ، كما أنه بالنسبة إلى حكمه الفعلي أيضا مقطوع بحرمته على تقدير المخصصية والناسخية. نعم لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام أو حرمته وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الاكرام أو كراهته أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضي استصحاب عدم المنع السابق ، حيث إنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية أمكن اثبات الكراهة أو الاستحباب ، فتأمّل.

ص: 553

هذا هو مقتضي الأصول العملية عند الشك وعدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، ولقد عرفت ان مقتضاها جريان حكم التخصيص في جميع صور المسألة عدا فرض تضاد الحكم الثابت للخاص مع الحكم الثابت للعام.

واما مقام الترجيح فقد يقال : بترجيح احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، بتقريب ان التخصيص أكثر وأشيع من النسخ حتى قيل من جهة كثرته وشيوعه : بأنه ما من عام الا وقد خص ، وبان النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان قبال التخصيص في الافراد ، ومع الدوران يقدم الثاني على الأول لكونه كثيرا من تخصيص الأزمان. ولكن فيه ما لايخفى ، فإنه أولا نمنع كون النسخ من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى باب التصرف في الدلالة ، بل هو كما عرفت أشبه شيء بباب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة قبال التخصيص الراجع إلى مقام التصرف في الدلالة ، كما يكشف عنه أيضا صحة النسخ بزمان يسير عقيب قوله : أكرم زيدا في كل زمان ، مصرحا بعمومه الأزماني ، حيث يرى بالوجدان انه يصح له نسخ ذلك الحكم بعد يوم أو ساعة ، بقوله : نسخت ذلك الحكم ، من دون استهجان أصلا ، مع عدم صحة ذلك بنحو التخصيص من جهة كونه من تخصيص الأكثر المستهجن ، حيث إن نفس ذلك أقوى شاهد وأعظم بيان على عدم ارتباط النسخ بباب التخصيص في الأزمان وكونه من سنخ الأكاذيب والتقية الراجعة إلى مقام التصرف في الجهة دون الدلالة ، وثانيا منع اقتضاء مجرد الشيوع والأكثرية لترجيح التخصيص والتصرف الدلالي على النسخ والتصرف الجهتي ، والا لاقتضى ذلك تقديم التقية على غيرها عند الدوران بينها وبين غيرها ، نظراً إلى شيوع التقية في زمان صدور هذه الأخبار ، مع أنه لايكون كك ، حيث إن بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال صدور الخطاب تقية الا في بعض الموارد الخاصة التي كان الأصل الجهتي فيها موهونا في نفسه ، كما في مسألة طهارة الكتابي ، ومسألة حلية اكل ذبائحهم وطهارتهم ، ومسألة عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بل ومنع أصل أكثرية التخصيص من غيره أيضا ، فان لنا فرض الكلام في الخصوصيات الواردة في صدر الشريعة وبدوها ، ولئن قيل بان الأكثرية والأشيعية انما هي بلحاظ الاحكام العرفية لا بلحاظ خصوص الخطابات الشرعية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، يقال انه من الممنوع أيضا أكثرية التخصيص في الاحكام العرفية من السنخ لولا دعوى أكثرية السنخ فيها بلحاظ جهلهم بالموانع

ص: 554

والمزاحمات الواقعية النفس الامرية ، ولا أقل من عدم كون التخصيص فيها في الكثرة بمثابة يوجب انس الذهن به كي يوجب الحمل عليه في الخطابات الشرعية عند الدوران والترديد. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو المنع عن كون وجه تقديم التخصيص على النسخ من باب الأكثرية والأشيعية ، والا فربما نحن نساعد أيضا على أصل المدعى من تقديم التخصيص على النسخ عند العرف والعقلاء بحسب ارتكازاتهم في الخطابات الشرعية والاحكام العرفية الجارية بنياتهم.

وقد يقرب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرب في وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة ، من دعوى ان الأصل الجاري في السند كما كان في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور لكونها منقحة موضوعها ، كك الأصل الجاري في الجهة أيضا ، بلحاظ ان موضوع الجهة في الظهور هو الكلام الصادر عن المعصوم علیه السلام عن داعي الجد لبيان حكم اللّه الواقعي ، لا للتقية ونحوها ، وانه لولا احراز أصل صدور الكلام عن الإمام علیه السلام واحراز جهة صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا ينتهى النوبة إلى مقام التعبد بظهوره ، ودلالته ، فبذلك يكون أصالة التعبد بالصدور والجهة في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور والدلالة ، لكونهما منقحتي موضوعها ، باعتبار كون الأول مثبتا لأصل الموضوع وهو كون الكلام صادرا عن الإمام علیه السلام ، والثاني لكيفية صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها ، وعليه فعند الدوران بين التصرف الدلالي والتصرف الجهتي يقدم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي ، من جهة تقدمه عليه رتبة في المشمولية لدليل الاعتبار. وبذلك يقال في المقام أيضا بان النسخ بعد أن كان سنخه من باب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة ، لا من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى التصرف الدلالي ، فمع الدوران في العام بين كونه منسوخا بالخاص المتأخر أو مخصصا به يقدم الأصل الجاري في جهته على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ، من جهة جريان أصالة الجهة فيه حينئذ في الرتبة السابقة بلا مزاحم ، ومعه لابد من رفع اليد عن ظهوره ودلالته في العموم بمقتضي ما في القبال من الخاص الأظهر ، من غير فرق في ذلك بين ظهور الخاص في ثبوت حكمه على فرض المخصصية من بدو الشريعة أو عدم ظهوره فيه بل ظهوره في ثبوت حكمه في زمان صدوره ، وان كان على الأخير لا ثمرة عملية في البين ، من جهة القطع بحجية العام على كل تقدير إلى زمان

ص: 555

صدور الخاص ولزوم الاخذ بالخاص من حينه ورفع اليد عن العام على كل تقدير أيضا سواء على الناسخية أو المخصصية ، هذا.

ولكن قد يورد على هذا التقريب بعدم اجداء هذا المقدار من الترتب والطولية لتقديم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي عند الدوران ، بدعوى انه كما لا مجال للتعبد بظهور الكلام بدون احراز أصل صدوره وجهته كك لا مجال أيضا للتعبد بسنده وجهته مع عدم ظهوره ، واجماله ، حيث لايترتب عليهما اثر عملي في البين حتى يجري فيهما أصالة التعبد ، بل وانما ترتبه على ظهور الكلام الصادر عن الإمام علیه السلام لأجل بيان الحكم الواقعي ، وعلى ذلك فكان كل من السند والجهة والدلالة مما له الدخل في ترتب الأثر على الخبر في عرض واحد ، حيث كان ترتب الأثر عليه ووجوب المعاملة معه معاملة الواقع منوطا بسد أمور ثلاثة : أحدها احتمال عدم صدوره ، وثانيها احتمال صدوره لا لأجل بيان حكم اللّه الواقعي بل لأجل التقية ونحوها ، وثالثها احتمال كون المراد غير ما هو ظاهره ، وفي ذلك يكون مجموع الأمور الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الأثر وهو وجوب العمل ، بحيث بانتفاء أحدها ينتفى الأثر المقصود من التعبد بالبقية ، وحينئذ فإذا كان كل من أصالة السند والجهة والدلالة في عرض واحد بالنسبة إلى ترتب الأثر والنتيجة فقهرا لايبقى مجال تقديم أحدها على الآخر في المشمولية لدليل الاعتبار بمحض تقدمها الطبعي.

ولكن يمكن دفع ذلك بان الامر وان كان كما ذكر من احتياج كل من التعبد بالسند والجهة والدلالة في الجريان التعبد بالآخر ، ولكن نقول : بان ذلك غير قادح في تقدم الأصل الجهتي على أصالة الظهور بعد اختلاف نحوي التوقف والاحتياج فيهما ، وكون التوقف والاحتياج في بعضها من جهة عدم احراز الموضوع ، وفى البعض الآخر من جهة عدم الأثر ولغوية التعبد بدونه ، حيث إن من المعلوم حينئذ ان الأصل الجهتي لكونه منقح موضوع الأصل الدلالي وفي رتبة سابقة عليه مقدم لا محالة على الأصل الدلالي في مقام الدوران في المشمولية لدليل الاعتبار ، فلابد حينئذ من رفع اليد عن أصالة الظهور والدلالة ، وذلك أيضا ينطبق على ما عليه ديدن الأصحاب من تقديم التصرف الدلالي على التصرف الجهتي ولو بنحو التقية مع كثرتها وشيوعها في زمن الأئمة علیهم السلام . وعليه فحيث ان باب النسخ كان من سنخ التورية والتقية في كونه من قبيل التصرف في الجهة لا من قبيل التصرف في الدلالة فعند الدوران بين كون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا

ص: 556

له يقدم التخصيص على النسخ ويحكم بكونه مخصصا له لا ناسخا ، هذا.

ولكن مع ذلك كله فالتحقيق هو عدم اثمار هذا الترتب والطولية بين الأصل الجهتي والدلالي لشيء بوجه أصلا ، وذلك :

اما في مقام الدوران بين التصرف الدلالي والتقية : فمع استلزام الأصل الجهتي لطرح الدلالة رأسا فظاهر ، من جهة لغوية التعبد بالجهة حينئذ مع انتفاء أصل الدلالة ، واما مع عدم استلزامه لذلك وامكان الاخذ بالعام ولو ببعض مدلوله فبأنه وان كان يجري الأصل الجهتي ويؤخذ بالعام مثلا في بعض مدلوله بلا كلام لكنه لا يتوقف هذا المقدار على ما ذكر من الترتب والطولية بينهما ، من جهة وضوح كون الامر كك ولو على القول بالعرضية ، من جهة العلم التفصيلي حينئذ بخروج مقدار من المدلول عن تحت الحجية سواء على تقدير التخصيص أو التقية ، واما فيما عدا هذا المقدار من المدلول فحيثما لا تنافي بين الأصلين يؤخذ بهما ، فيترتب عليهما وجوب العمل على طبقه سواء فيه بين طولية الأصلين أو عرضيتهما هذا إذا كان الدوران بين التقية والتخصيص.

وأما إذا كان الدوران بين النسخ والتخصيص كما في المقام ، فان كان الخاص مقدما على العام وقد احتمل فيه كونه مخصصا للعام أو منسوخا به ، ففي ذلك يقع التعارض بين الأصل الجهتي في الخاص وبين الأصل في العام المتأخر ، وحيث انه لايكون لأحدهما تقدم رتبي على الآخر كما في فرض اعتبارهما في دليل واحد فلا جرم ينتهي الامر فيهما بعد المعارضة إلى التساقط ، وفي مثله يكون المرجع هو استصحاب حكم الخاص. واما ان كان الخاص متأخرا عن العام فان كان ذلك قبل حضور وقت العمل بالعام فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخا أو مخصصا ، من جهة انه على كل تقدير يكون العمل على طبق الخاص المتأخر من حين صدوره ، وأما إذا كان صدوره بعد حضور وقت العمل بالعام بمدة فتارة لايكون له ظهور في ثبوت مدلوله من الأول من حين ورود العام وأخرى كان له هذا الظهور ، فعلى الأول فلا دوران في البين بين الأصلين إذا كما أنه يجري فيه الأصل الجهتي كك يجري فيه الأصل الدلالي أيضا إلى حين ورود الخاص ، ومعه يكون المتبع هو أصالة العموم إلى حين ورود الخاص ، ومن حين ورود الخاص يكون العمل على طبق الخاص المتأخر سواء كان ناسخا أو مخصصا ، واما على الثاني من فرض اقتضاء الخاص المتأخر على تقدير كونه مخصصا ولو من جهة اطلاقه لثبوت حكمه من حين ورود

ص: 557

العام ، كما كان ذلك شأن أغلب الخصوصات ، ففي مثله وان دار الامر بين التصرف في ظهور العام وبين التصرف في جهته وكان يثمر أيضا فيما قبل ورود الخاص منه الأزمنة المتقدمة من جهة القضاء والكفارة لو كان الواجب مما يترتب على تركه ذلك ، الا ان طرف المعارضة بدوا لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مفاده من أول الامر ، من جهة منافاته بالضرورة مع قضية ظهور العام في العموم ، فلا جرم ينتهى الامر فيهما إلى التساقط ، ومع سقوط أصل الظهور في العام عن الحجية في العموم يجرى عليه قهرا حكم التخصيص. ولئن شئت قلت بان أصل الجهة في العام في مثل الفرض من جهة اناطته بجريان أصالة الظهور في العام وشمول عمومه لزيد أيضا في نحو قوله : أكرم كل عالم إناطة الشيء بموضوعه كان غير جار على كل تقدير من جهة وضوح عدم المجال للتعبد بالجهة بالنسبة إلى زيد مع عدم التعبد بعموم العام وشموله له ، فيكون حينئذ طرف المعارضة قضية اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت حكمه على تقدير التخصيص من حين ورود العام ، ومع التعارض وسقوط أصالة الظهور في العام عن الحجية فقهرا يجرى عليه حكم التخصيص ، ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول التي توافق بحسب النتيجة مع التخصيص تارة كما في فرض كون مفاد العام هو وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص عدم وجوب اكرام زيد العالم ، وأخرى مع النسخ ، كما في فرض كون مفاد العام عدم وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص وجوب اكرام زيد حيث إن قضية البراءة عن القضاء مثلا حينئذ توافق النسخ ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب عدم ترتب اثر عملي على مثل هذا الفرض بالنسبة إلينا بعد تأخر زماننا عن زمان العام والخاص ، من جهة وضوح انه على كل تقدير كان الواجب علينا الاخذ بالخاص والعمل على طبقه ناسخا كان أو مخصصا. نعم في الخاص المتقدم كان له ثمرة مهمة من حيث كونه مخصصا للعام المتأخر أو منسوخا به ، ولكنك عرفت فيه أيضا ان اللازم فيه هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص من جهة معارضة الأصل الجهتي في الخاص حينئذ مع الأصل الدلالي في العام المتأخر وتساقطهما فتدبر. هذا تمام الكلام في العام والخاص.

ص: 558

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

اشارة

وقد عرفت المطلق بأنه ما دل على شايع في جنسه ، والظاهر أن المراد من الجنس في المقام هو السنخ ، لا الجنس المصطلح عند المنطقيين : أي الكلي المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو ، قبال النوع ، ولا ما هو المصطلح منه عند النحويين : أي الماهيات الكلية المقصورة بأسامي الأجناس ، كيف وان من المعلوم صحة اطلاقه على الافراد المعينة الشخصية بلحاظ الحالات الطارية عليها ، كما في زيد ، حيث إنه مع شخصيته يكون مطلقا بلحاظ حال القيام والقعود والمجيء وغيرها من الحالات ، فكان ذلك حينئذ شاهدا على أن المراد من الجنس المأخوذ في تعريفه هو مطلق السنخ الصادق على الذوات الشخصية الخارجية ولو بلحاظ تحليل الذوات الشخصية إلى حصص سارية في ضمن الحالات المتبادلة ، وعلى الحصص السارية في ضمن افراد الطبيعي كالحيوان والانسان مثلا ، غير أن الفرق بينهما هو استقلال كل حصة من حصص الطبيعي في عالم الوجود ، بخلافه في الحصص السارية من الذوات الشخصية بلحاظ الحالات المتبادلة حيث إنها موجودات بوجود واحد ومجتمعات تحت حد واحد في الخارج ، ولايكون التعدد فيها الا بحسب التحليل ، ولكن مجرد هذا المقدار من الفرق لا يضر بما هو المطلوب من شمول تعريف المطلق لمثله ، كما لايخفى ، فكان المراد من المطلق حينئذ في المقام ما هو المعبر عنه بالفارسية ب ( رهاى در مقام انطباق ) الغير الممنوع عن الصدق على ما هو من سنخه ، في قبال المقيد المعبر عنه بالفارسية ب ( بسته در مقام انطباق ) الممنوع على الصدق على هو من سنخه ، فان تقيد الشيء ببعض القيود كتقيد زيد بالقيام يمنع عن شيوع الحصة المحفوظة

ص: 559

في ضمنه بالنسبة إلى ما كان من سنخه من بقية الحصص ، ومن ذلك لا يصدق زيد القائم بلحاظ توصيفه بالقيام على زيد القاعد ، وان كان هو أيضا مطلقا باعتبار ما في ضمنه من الحصص بلحاظ الحالات المتبادلة الطارية كالضحك والتكلم والكتابة وغيرها ، وهو واضح.

واما الشياع فالمراد به تارة هو سريان الطبيعة في ضمن جميع الافراد ، وهو المعبر عنه في اصطلاح بعضهم بالعموم السرياني ، وأخرى قابلية الطبيعي للانطباق على القليل والكثير انطباقا عرضيا. والمطلق بالمعنى الأول يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي النواهي النفسية ، كقوله : لا تشرب الخمر ، وفي طي الأحكام الوضعية ، كقوله : أحل اللّه البيع ونحوه ، حيث إنه وان كان نحو ضيق في الطبيعة حينئذ باعتبار عدم الانطباق الا على الكثير ، والا انه من جهة لحاظ سريانها في ضمن الافراد كان له اطلاق ، في قبال المقيد بقيد خاص غير قابل للانطباق الا على المقيد. وبالمعنى الثاني يطلق غالبا على المواد المأخوذة في طي كثير من الأوامر ، والمطلق بهذا المعنى أوسع دائرة من المطلق بمعنى السريان ، من جهة عدم اعتبار تقيده بشيء من الخصوصيات حتى خصوصية السريان ، فكان من جهة ارساله وعدم تقيده بشيء من الخصوصيات الوجودية والعدمية مجامعا مع كل خصوصية ونقيضها وقابلا للانطباق على القليل والكثير ، ومثل هذا المعنى هو المعروف عندهم باللابشرط المقسمي.

ثم انه بعد ما اتضح لك هذه الجهة ، يبقى الكلام فيما هو مركز التشاجر والنزاع في مداليل أسماء الأجناس بين المشهور من القدماء وبين السلطان في أنها هل هي الطبيعة المطلقة المأخوذة لا بشرط وعلى وجه الارسال؟ أو هي الطبيعة المهملة المجامعة مع التقيد والاطلاق كما عليه السلطان؟ وفى ان المراد من الطبيعة المهملة ما هو؟ وقبل الخوض في المقصود ينبغي بيان أمرين لكي ينكشف بهما الحجاب عن وجه المرام :

الأول انه لا شبهة في أن للماهية تصورات بحسب التعقل الأولى : منها : تعلقها مقيدة ومع الضميمة والشرط ، كالانسان الملحوظ معه خصوصية الزيدية وكالرقبة الملحوظ معها خصوصية الايمان مثلا ونحو ذلك من الخصوصيات والضمائم ، وقد شاع التعبير عن ذلك بالمهية بشرط شيء ، وربما عبر عنه أيضا بالمخلوطة قبال المجردة. ومنها : تعلقها مجردة وبلا شرط وضميمة ، وهذا على قسمين : تارة اعتبارها بقيد التجرد عن جميع القيود والخصوصيات ، وأخرى اعتبارها بنفسها مجردة من غير اعتبار قيد التجرد عن الخصوصيات

ص: 560

فيها ، فكان تجردها حينئذ من جهة عدم تعدى اللحاظ عن ذات المهية إلى شيء آخر معها ، وبعبارة أخرى : الملحوظ في هذا القسم عبارة عما هو مصداق المجرد لا الطبيعة متقيدة بقيد التجرد عن الخصوصيات ، بخلاف سابقه فإنه قد اعتبر فيه قيد التجرد عن الخصوصيات ، وقد عبروا عن الأول باللابشرط القسمي وعن الثاني باللابشرط المقسمي ، وقالوا بامتناع صدق الأول وانطباقه على الخارجيات لكونه كليا عقليا لا موطن له الا في الذهن ، بخلاف الثاني فإنه من جهة عدم اعتباره مقيدا بقيد التجرد كان قابلا للانطباق على الخارج وللصدق على القليل والكثير. ومنها اعتبارها بنحو السريان في ضمن جميع الافراد الملازم لعدم انطباقها الا على الكثير دون القليل.

ولكن من الواضح أيضا لزوم ان يكون في البين امر واحد في هذه الاعتبارات يكون هو الجامع ، والمقسم لهذه الأقسام في قولك : الماهية اما ان تكون كذا واما ان تكون كذا ، وان لم يكن تصوره مستقلا ، وذلك من جهة وضوح مبائنة كل واحدة من هذه الاعتبارات في الذهن مع الاعتبار الآخر حتى المهية المجردة على النحو الثاني ، فإنها أيضا في ظرف اعتبارها كك تباين المهية المقيدة والمأخوذة بنحو السريان بحيث لايكاد انطباقها في ظرف اعتبارها كك على المقيدة ، وان كانت تنطبق على مصداقها وما بإزائها خارجا ، ومن ذلك أيضا ترى بناء المشهور على كون استعمال لفظ المطلق في المقيد مجازا ، وليس ذلك الا من جهة ما ذكرنا من تبائن كل من المطلق والمقيد بحسب الاعتبار مع الآخر ، وعليه فلايمكن ان تكون المهية المجردة المعبر عنها في مصطلحهم باللابشرط المقسمي هي المقسم حقيقة في هذه الاعتبارات ، بل لابد وأن يكون ما هو المقسم لها عبارة عن القدر المشترك بين تلك الاعتبارات. والمرجع للضمير في التقسيم في قولك المهية اما ان تكون كذا واما ان تكون كذا ، وان لايمكن تعلقه مستقلا ولا كان له وجود في الذهن بحسب التعقل الأولى الا في ضمن تلك الاعتبارات المختلفة ، نظير المادة المأخوذة في المشتقات المحفوظة في ضمن الصيغ الخاصة والهيئات المخصوصة ، وذلك لان كلما يتصور ويوجد في الذهن من الصور حسب التعقل الأولى لا يخلو من كونها اما صورة واجدة للقيد والخصوصية أو فاقدة لها ، فلا صورة ثالثة في البين مستقلا في ذلك الوعاء تكون هي الجامع والقدر المشترك بين الواجد والفاقد الا بالتحليل العقلي حسب التعقل الثانوي ، بتحليل كل صورة إلى ذات وخصوصية ، ولو كانت الخصوصية هي خصوصية التجرد والفقدان.

ص: 561

ولئن شئت فاستوضح ذلك بالطبيعي في الخارج ، فإنه كما لايكون للطبيعي وجود مستقل في الخارج ، بل كان وجوده في ضمن افراده ، كك الجامع في المقام ، فلايكون له في الذهن أيضا وجودا الا في ضمن الصور الخاصة ، ولايكون له وجود مستقل الا بالتحليل العقلي حسب التعقل الثانوي ، بتحليل كل صورة إلى ذات وخصوصية ، كتحليل الموجود الخارجي إلى ذات وهو الطبيعي وخصوصية ، غايته ان الفرق بينهما هو ان التحليل في الموجود الخارجي كان بحسب التعقل الأولى وفى الصور الذهنية بحسب التعقل الثانوي ، كما هو واضح.

وعلى ذلك فما أفادوه في الطبيعة المجردة المطلقة من التعبير عنها باللابشرط المقسمي ، بجعلها مقسما لهذه الاعتبارات ، وجعل القسمي هي الطبيعة المتقيدة بقيد التجرد عن جميع الخصوصيات منظور فيه ، من جهة ما عرفت من عدم كون المجردة مقسما حقيقة لتلك الاعتبارات ، وان المقسم لها حقيقة انما هو القدر المشترك المحفوظ في ضمن المجردة وغيرها الذي لايكون له في الذهن وجود منحاز مستقل الا بحسب التعقل الثانوي.

الامر الثاني لا اشكال ظاهرا في أن المراد من المهية المطلقة لدى المشهور في نحو مداليل أسامي الأجناس انما هو القدر المشترك بين المهية المجردة المعبر عنها عندهم باللابشرط المقسمي وبين الطبيعة المأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد كالمواد المأخوذة في طي النواهي ، لا ان المراد هو خصوص الطبيعة المجردة التي من شأنها قابلية الانطباق على القليل والكثير ، كيف ولازم ذلك هو المصير إلى المجاز في موارد إرادة الساري منها ، مع أنه كما ترى لايظن منهم الالتزام به ، فان المشهور كما بنوا على كونها حقيقة في الطبيعة المطلقة المعبر عنها باللابشرط المقسمي كك بنوا على كونها حقيقة في المأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد ، وانما خصصوا المجازية في خصوص المقيدة ببعض الخصوصيات ، في قبال السلطان القائل بوضعها للطبيعة المهملة وكونها حقيقة مطلقا حتى في المقيدة. وعلى ذلك فبعد اختلاف الاعتبارين : اعتبار المجردة والسارية وبطلان الاشتراك اللفظي لابد لهم من الالتزام بوضعها للقدر المشترك بينهما ، كما لايخفى.

وإذا عرفت ذلك نقول : ان المراد من المهية المهملة لدى السلطان ومن تبعه انما هو القدر المشترك بين ما يقبل الانطباق على القليل والكثير كالطبيعة المطلقة وبين ما لا يقبل الانطباق الاعلى الكثير أو القليل كالطبيعة السارية والمقيدة ، فكان دعوى السلطان

ص: 562

على أن أسامي الأجناس كالرقبة مثلا كانت موضوعة للقدر المشترك المحفوظ في جميع تلك الاعتبارات المختلفة الذي هو المقسم الحقيقي لها من دون دخل شيء من تلك الخصوصيات حتى خصوصية التجرد والاطلاق في الموضوع له فيها أصلا وان استفادة الخصوصيات انما كانت بدوال أخر ، في قبال المشهور القائلين بوضعها للطبيعة المجردة القابلة للانطباق على القليل والكثير أو للقدر الجامع بينها وبين الطبيعة السارية. ومن ذلك يحتاج مثل السلطان ومن تبعه في هذا المسلك إلى التشبث بقرينة الحكمة في استفادة معنى الشياع والاطلاق عند الاطلاق ، باعتبار ملائمة قضية الوضع مع إرادة كل من المطلق والمقيد ، بخلاف المشهور فإنهم يغنيهم قضية وضع اللفظ للمعنى الاطلاقي عن التشبث بقرينة الحكمة.

وحينئذ فحيث اتضح ذلك نقول بأنه لاينبغي التأمل في أن التحقيق هو ما عليه السلطان من الوضع لنفس المهية المهملة والقدر الجامع المحفوظ بين جميع تلك الصور المختلفة من المجردة والمقيدة والمأخوذة على نحو السريان ، كما يشهد له قضية الارتكاز والوجدان في كونها على نحو الحقيقة في جميع الموارد ، عند إرادة الخصوصيات بدوال أخر لا من نفس اللفظ باستعماله في الخصوصية ، حيث يرى أن استعمال الرقبة مثلا في الرقبة المؤمنة مع إرادة الخصوصية بدال آخر ، بعينه كاستعمالها في المجردة عن قيد الايمان ، من دون احتياج إلى رعاية عناية في البين أصلا ، وان المقصود من الرقبة في قولك : أعتق رقبة ، هو المراد والمقصود منها في استعمالها في المقيدة في قولك الرقبة المؤمنة ، بلا ارتكاب تجوز وعناية في البين ، حيث إن ذلك كاشف ان الموضوع له هو المعنى الجامع والقدر المشترك بين المطلقة والمقيدة ، كيف وقد عرفت ان المشهور لابد لهم أيضا من الالتزام بالوضع للقدر المشترك بين الطبيعة الشايعة بنحو السريان وبين الطبيعة الصرفة القابلة للانطباق على القليل والكثير ، من جهة ما عرفت من مباينة المهية بكل واحد من الاعتبارين في عالم اعتبارها مع الآخر. وعليه فبعد لا بدية الالتزام بالقدر الجامع بين نحوي الاعتبارين المزبورين : أي اعتبار الشياع ، بمعنى السريان ، والشياع بمعنى القابلية للانطباق على القليل والكثير ، يتوجه الاشكال بأنه لم لم يحدد دائرة الجامع بما يعم المقيد بل يقتصر في تحديده بما هو في ضمن الشياعين فتدبر. فلابد حينئذ بعد عدم وجه وجيه للتخصيص بذلك من الالتزام بما عليه السلطان قدس سره من الوضع للمهية المبهمة والقدر المحفوظ بين المقيدة وبين الشياعين. هذا كله في

ص: 563

أسامي الأجناس كالانسان والأسد.

واما علم الجنس كأسامة فهو أيضا من هذه الجهة كاسم الجنس ، فعند المشهور كان موضوعا للطبيعة المطلقة ، وعند السلطان ومن تبعه للطبيعة المهملة ، وانما الكلام في أنه هل فيه مزية زائدة على اسم الجنس من حيث التعين بالإشارة الذهنية كما عليه المشهور أيضا ، بشهادة المعاملة معها معاملة التعريف ولو بدون أداته؟ أم لا ، بل كان كاسم الجنس وكان التعريف فيه لفظيا لا معنويا؟ فيه وجهان ثانيهما مختار الكفاية ، حيث قال (1) ما محصله : ان التحقيق انه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ كونه متعينا بالتعين الذهني ، وان التعريف فيه كان لفظيا ، محضا لا معنويا ، كالتأنيث اللفظي في غيره ، والا لما صح حمله على الافراد وانطباقه على الخارجيات ، من جهة رجوع التقيد المزبور حينئذ إلى التقيد بالوجود الذهني المانع عن الصدق على الخارجيات ، فيحتاج حينئذ إلى التجريد في مقام الحمل على الافراد عن تلك الخصوصية والمصير إلى المجاز ، مع أنه كما ترى ، حيث يرى بالوجدان صحة حمله على الافراد وصدقه على الخارجيات من دون تجريد ورعاية عناية مجاز أصلا ، خصوصا مع بعد الوضع لمعنى يحتاج إلى التجريد عن الخصوصية دائما عند الاستعمال ، فان مثل هذه الجهة مما لاينبغي صدوره عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم ، هذا.

ولكن فيه انه بعد كون الإشارة الذهنية إلى الشيء غير وجوده في الذهن لكون الإشارة الذهنية إلى الشيء عبارة عن توجه النفس إليه في ظرف الفراغ عن وجوده في الذهن ، بشهادة صحة تصور أمور متعددة في الذهن والإشارة إلى بعضها بأنه أحسن من ذلك نقول بأنه من الممكن حينئذ الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس بحسب المعنى ، بدعوى ان الأول موضوع لنفس الطبيعة المطلقة أو المهملة على اختلاف المسكين ، والثاني موضوع للطبيعة بما انها معروضة للإشارة الذهنية ولو؟ متقيدة بها ، وبعبارة أخرى الموضوع له في علم الجنس هو حصة من الطبيعي تعلقت بها الإشارة الذهنية بلا اخذ جهة التقيد بها في مدلوله ومعناه ، وعليه فالفرق بين اسم الجنس وعلمه كان بحسب المعنى حيث إنه كان لاسم الجنس سعة اطلاق يشمل ما يشار إليه من الحصص وما

ص: 564


1- ج 1 ص 378.

لا يشار إليه منها ، بخلافه في علم الجنس ، فإنه لما اعتبر فيه كونه حصة من الطبيعي وقعت معروضة للإشارة فقهرا لم يكن له تلك السعة من الاطلاق بنحو يشمل مالا يشار إليه من الحصص ، بل يختص بالحصص المعروضة للإشارة ، كما أنه من جهة عدم اخذ التقيد بالإشارة فيه كان قابلا للحمل على الافراد وللانطباق على الخارجيات. وبالجملة فعلى هذا البيان أمكن دعوى الفرق بين علم الجنس واسمه بالمصير إلى ما عليه المشهور من أهل العربية من كون التعريف في علم الجنس معنويا. ثم إن ذلك كله بحسب مقام أصل الثبوت.

واما في مقام الاثبات والتصديق بأحد المسلكين فهو راجع إلى اللغة ويتبع التبادر ونحوه ، مع أنه لايكون البحث فيه بمهم أيضا في كون التعريف فيه لفظيا أو معنويا ، من جهة عدم ترتب ثمرة مهمة عليه ، كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرنا ظهر الحال في الجنس المحلى باللام أيضا ، حيث إنه يمكن دعوى كون اللام فيه موضوعا للتعريف ومفيدا للتعين من دون اقتضائه للمنع عن صحة انطباقه على الخارج كي يلزمه التجريد في مقام الحمل على الافراد ، كما لايخفى. نعم في مثل ( هذا الرجل ) لا باس بدعوى كون اللام فيه للزينة ، كما في الحسن والحسين ، وذلك أيضا انما هو من جهة ما يلزمه من لزوم تحقق الإشارتين في آن واحد إلى الطبيعة ، الذي هو من المستحيل ، بملاك استحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فتأمل. فلابد حينئذ من جعل اللام لمحض الزينة ، ولكن لايلزمها كونها للزينة على الاطلاق حتى في غير مورد تعين المدخول بمثل هذا ونحوه ، حيث إنه من الممكن حينئذ الالتزام بكونها مفيدة للتعريف وتعين المدخول عند عدم تعينه من جهة أخرى. وحينئذ فاللازم هو اثبات هذه الجهة من وضع اللام لغة للتعريف وتعين المدخول ، ولايبعد دعوى كونه كك بحسب اللغة من جهة ما هو المتبادر والمنساق منه في مثل قولك : الرجل ، والأسد ، والحيوان. والامر سهل.

ومن مصاديق المطلق النكرة ، وهي عبارة عن الطبيعة المتقيدة بإحدى الخصوصيات ، على أن يكون الأحد بيانا ومقدرا لكم القيد ، وانه إحدى الحصص قبال التمام والبعض والعشرة والعشرين ونحوها ، من دون ان يكون عنوان الأحد بنفسه قيدا للطبيعة بوجه أصلا ، وإلى ذلك أيضا نظر من عبر عنها بالفرد المنتشر حيث كان المقصود

ص: 565

منه هو الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها ومقدرها الواحد ، لا ان القيد هو هذا العنوان كما يظهر من الكفاية (1) ، من حيث ارجاعه النكرة إلى الطبيعة المتقيدة بعنوان الواحد بما هو هذا المفهوم ، كيف وان لازمه هو عدم خروجها عن قابلية الانطباق بانطباق عرضي على القليل والكثير ، لان مثل هذا العنوان أيضا عنوان كلي كأسامي الأجناس ، وتقيده بمفهوم الواحد لايوجب خروجه عن القابلية للانطباق عرضا على القليل والكثير ، وان كان قضية التقيد المزبور تضيق دائرته من جهة أخرى ، مع أنه كما ترى ، فان شان النكرة انما هو عدم الانطباق على المتكثرات الا بانطباق تبادلي. وهذا بخلاف ما لو كان الأحد بيانا ومقدرا لما هو كم القيد ، وانه إحدى الحصص ، وكان القيد نفس الحصص والخصوصيات ، فان لازم ذلك هو عدم صلاحيتها للانطباق على المتكثر الا بنحو البدلية دون العرضية. وبالجملة فرق واضح بين ان يكون عنوان الواحد بنفسه قيدا للطبيعة وبين ان يكون مقدرا لكم القيد وكان القيد هي الخصوصيات ، حيث إنه على الأول يصدق الطبيعة المتقيدة بالواحد على الكثيرين بانطباق عرضي ، بخلافه على الثاني من فرض كونه مقدرا لكم القيد ، فإنه عليه لا يصدق على الكثيرين الا بانطباق تبادلي ، والنكرة المعبر عنها بالفرد المنتشر في قوله ( رجل ) بنحو التنكير انما كانت من قبيل الثاني دون الأول كما هو واضح.

ثم انه مما يترتب على المسلكين هو تحقق الامتثال على مسلك اخذ عنوان الوحدة قيدا للطبيعة بأزيد من واحد فيما لو أتى في مقام الامتثال بعشر واحدات دفعة واحدة ، فإنه على هذا المسلك يتحقق الامتثال بالجميع ، بخلافه على مسلك اخذ عنوان الواحد مقدرا لكم ما هو القيد ، فإنه عليه لايتحقق الامتثال الا بواحد منها.

ومن لوازم ذلك أيضا هو دخول الخصوصيات طرا تحت الطلب دونه على المسلك الأول حيث كانت الخصوصيات عليه من لوازم المطلوب وخارجة عنه. وربما يثمر هذه الجهة فيما لو قصد الخصوصية في مقام الامتثال ، فإنه على المسلك الأول يكون تشريعا في قصده من جهة خروجها عن جيز المطلوبية ، بخلافه على المسك الثاني ، فإنه لايكون فيه تشريع ، بل ويتحقق القرب به أيضا.

وعلى كل حال فالنكرة التي قلنا برجوعها إلى الطبيعة المتقيدة بخصوصية كمها

ص: 566


1- ج 1 ص 382.

ومقدرها الواحد لا يفرق فيها ولا يختلف مدلولها بين وقوعها في حيز الطلب كقوله : جئني برجل وبين وقوعها في حيز الاخبار كقوله : جاء رجل من أقصى المدينة ، بل هي في الموردين كانت مستعملة في معناها الحقيقي ، غايته انه في الثاني قد علم المراد منها بدال آخر خارجي ، وانه حبيب النجار مثلا.

ثم اعلم أن الحمل على الاطلاق لايختص بالألفاظ المطلقة الغير المقيدة بشيء من الخصوصيات ، بل يجرى في كل ما يمكن ان يفرض لها الاطلاق والارسال ولو بجهة من الجهات ، وعليه فيجرى مقدمات الاطلاق في النكرة أيضا ، فإنها وان كانت مقيدة بإحدى الخصوصيات ، ولكنها من غير تلك الجهة لما كانت يمكن ان يفرض لها الاطلاق والارسال ، فعند الشك في مدخلية بعض الخصوصيات الاخر فيها تجرى فيها مقدمات الاطلاق ، بل وقد عرفت جريان اطلاقات حتى في نحو الاعلام الشخصية أيضا بلحاظ ما يفرض لها من الاطلاق والارسال بلحاظ الحالات ، كما لايخفى.

وكيف كان فبعد ان اتضح وجه الفرق بين المسكين نقول بأنه على مسلك المشهور من وضع الألفاظ للطبيعة المطلقة لابد بمقتضى الوضع من الحمل على الاطلاق والارسال عند عدم القرينة على التقييد ، من دون احتياج إلى التمسك بقضية مقدمات الحكمة ، واما على مسلك السلطان ومن تبعه من الوضع للطبيعة المهملة والجامع المحفوظ بين تلك الصور المجردة الفاقدة للخصوصية والواجدة لها ، فحيث ان وضع اللفظ بنفسه غير مقتض للحمل على الاطلاق والارسال من جهة ملائمته مع التقيد أيضا بنحو تعدد الدال والمدلول ، فيحتاج في استفادة الاطلاق والشياع إلى ضم قرينة الحكمة التي هي مؤلفة على التحقيق كما سنذكرها إن شاء اللّه من أمور :

منها : كون المتكلم بمدلول لفظه في مقام البيان على مرامه لا في مقام الاهمال والاجمال.

ومنها : عدم نصبه قرينة على التقييد وإرادة الخصوصية.

ومنها : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب أو مطلقا ولو من الخارج على وجه يأتي إن شاء اللّه تعالى.

حيث إنه باجتماع هذه الأمور يتم امر الاطلاق ويستكشف منها عدم تقيد موضوع طلبه بشيء من الخصوصيات وانه مأخوذ في اعتباره على نحو الاطلاق

ص: 567

والارسال ، وبانتفاء بعضها ينتفى امر الاطلاق.

نعم ربما يختلف تلك المقدمات بحسب اللوازم أيضا فان المقدمة الأولى مما ينتفى بانتفائها موضوع الاطلاق بحيث لايكاد وقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق آخر ولو مع احراز وحدة المطلوب ، بل يقدم ذلك المطلق الاخر عليه بلا كلام ، بخلاف المقدمة الثانية ، فان انتفائها موجب لوقوع المعارضة بينه وبين ما في القبال من مطلق آخر ، فينتهى الامر فيهما إلى مقام الجمع أو الترجيح.

وكيف كان فقبل الشروع في شرح مقدمات الاطلاق ينبغي بيان ان نتيجة تلك المقدمات هل هي الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة التي من شانها عدم قابلية انطباقها الا على أول وجود الطبيعي ، كما قيل؟ أو الحمل على الطبيعة المهملة وما هو المقسم للطبيعة الصرفة والمقيدة والمأخوذة بنحو السريان في ضمن جميع الافراد التي من شانها سعة قابلية الانطباق على القليل والكثير من الافراد العرضية والطولية؟ حيث إن فيه وجهين أظهرهما الثاني ، فان غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الوجه الأول هو دعوى ان كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم نصبه للقرينة على الخصوصية والتقييد يقتضى ان ما اعتبره في لحاظه هو تلك الصورة المجردة الفاقدة لجميع القيود والخصوصيات حتى خصوصية السريان في ضمن الافراد أعني الطبيعة الصرفة التي من شانها قابلية الانطباق على القليل والكثير عرضيا ، ومن لوازمها سقوط الطلب والامر عنها بأول وجودها كما في أغلب المواد المأخوذة في حيز الأوامر ، من غير مدخلية في ذلك في مقام طلبه أيضا لشيء من الخصوصيات ، والا كان اللازم عليه البيان على مدخلية الخصوصية بمقتضى برهان استحالة نقض الغرض.

ولكن يدفعه ان كينونة المتكلم في مقام بيان مراده بعد أن كانت بتوسيط لفظه واظهار ان مدلوله تمام مراده ، فلا جرم قضية ذلك بعد عدم نصب القرينة على دخل الخصوصية هو الاخذ بما هو مدلول لفظه الذي هو عبارة على هذا المسلك عن الطبيعة المهملة والمعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام من الصور والاعتبارات المتقدمة التي من شأنها سعة الانطباق على الافراد العرضية والطولية ، لا الحمل على الطبيعة المطلقة الصرفة التي من شانها عدم قابلية الانطباق الا على أول وجود كما هو واضح ، كيف وان لازم ذلك هو المصير إلى اختلاف نتيجة الحكمة بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى ، والالتزام بكونها منتجة في الأوامر لصرف الطبيعي المنطبق على أول وجوده وفي النواهي للطبيعة

ص: 568

السارية من جهة ما هو المعلوم من انحلالية التكليف غالبا فيها خصوصا في النواهي النفسية الشرعية فإنه لم يوجد فيها مورد يكون النهى فيه من قبيل صرف الوجود مع أنه كما ترى يبعد الالتزام به جدا. وهذا بخلافه على ما ذكرنا فإنه لايلزمه اختلاف نتيجة الحكمة بوقوع الطبيعي في حيز الامر أو النهى ، بل النتيجة على هذا المسلك في جميع الموارد عبارة عن معنى وحداني ، وهو ذلك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في ضمن جميع الأقسام والصور المتقدمة الذي من شانه الانطباق على الافراد العرضية والطولية ولو بتوسيط انطباقه على الطبيعة الصرفة والمأخوذة بنحو السريان.

غاية ما هناك ان الفرق حينئذ بين الأوامر والنواهي من حيث سقوط التكليف بأول وجود في الأول ، وعدم سقوطه وانحلالية التكليف إلى تكاليف متعددة في الثاني واقتضائه لامتثالات متعددة انما كان من جهة المصلحة والمفسدة القائمة بالطبيعي من حيث الشخصية والسنخية ، فحيث ان الغالب في الأوامر هو كون المصلحة فيها على نحو الشخص ، وكان من لوازم شخصيتها عقلا حصولها وتحققها بتمامها بأول وجود الافراد ، بخلافه في طرف النواهي ، فان الغالب في المفاسد فيها هو كونها على نحو السنخ الموجب لمبغوضية الطبيعي مهما وجد وفي ضمن أي فرد تحقق من الافراد العرضية والطولية بالبغض المستقل ، أوجب ذلك الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي.

وبالجملة فتمام الفرق على هذا المسلك انما هو من جهة المصلحة والمفسدة القائمة بالطبيعي من حيث الشخصية والسنخية ، والا ففي طرف معروض المصلحة والمفسدة لايكاد اختلاف نتيجة الحكمة بحسب الموارد ، فإنه على كل تقدير وفي جميع الموارد عبارة عن ذاك المعنى اللابشرط المقسمي المحفوظ في جميع الأقسام من الاعتبارات المتقدمة الذي عرفت انطباقه على القليل والكثير وعلى الافراد العرضية والطولية ، غاية الامر في فرض كون المصلحة والمفسدة على نحو الشخص يسقط التكليف عن الطبيعي بامتثال واحد فعلا أو تركا ، من جهة تحقق تمام المصلحة حينئذ بايجاد واحد. واما في فرض قيام سنخ المصلحة والمفسدة بالطبيعي فلايسقط التكليف عن الطبيعي رأسا بامتثال واحد ، بل لابد من امتثالات متعددة ، من جهة اقتضاء المصلحة السنخية لمطلوبية الطبيعي مهما وجدت ولو في ضمن الافراد الطولية. ففي الحقيقة الاكتفاء بأول وجود في موارد قيام شخص المصلحة أو المفسدة انما هو من جهة القصور في التكليف والمصلحة عن الشمول للوجود بعد الوجود ،

ص: 569

لا من جهة القصور في ناحية المتعلق في قابلية الانطباق على ثاني الوجود وثالثه ورابعه ، وبينهما فرق واضح. وهذا بخلافه على المسلك الأول فإنه عليه لا مجال للتفرقة بين الأوامر والنواهي من جهة المصلحة والمفسدة من حيث الشخصية والسنخية ، وذلك لان مقتضى الطبيعة الصرفة بعد أن كان هو الانطباق على خصوص أول وجود فلازمه انما هو سقوط التكليف رأسا باتيان أول وجود ، من غير فرق فيه بين كون المصلحة والمفسدة على نحو الشخص أو السنخ ، من جهة حصول تمام السنخ حينئذ تبعا للمتعلق بأول وجود ، فلابد حينئذ من المصير في الفرق المزبور بين الأوامر والنواهي إلى اختلاف نتيجة الحكمة وانها في الأوامر هي الطبيعة الصرفة وفي النواهي بملاحظة القرينة النوعية هي الطبيعة السارية كما هو واضح ، فتدبر.

وحيثما اتضح هذه الجهة فلنشرع في شرح مقدمات الاطلاق فنقول :

اما المقدمة الأولى التي هي عمدتها وهي كون المتكلم في مقام البيان فتارة يراد به كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بوصف التمامية بأعم من كلام به التخاطب وبكلام آخر له ولو منفصلا عن ذلك ، في مقابل السلب الكلي ، وهو ما إذا لم يكن في مقام البيان رأسا بل في مقام الاهمال والاجمال ، وبعبارة أخرى كون المتكلم في مقام بيان مرامه الواقعي بلفظه أو به وبكلام آخر منفصل عن هذا الكلام ، وأخرى يراد به كون المتكلم في مقام بيان مراده باعطاء الحجة إلى المخاطب على المراد بلفظ به التخاطب أو به وبما يتصل به من كلام آخر على نحو يعد المجموع عرفا كلاما واحدا ، لا مجرد كونه في مقام الجد لبيان المرام الواقعي النفس الأمري ، في قبال اهماله من رأس ولو لم يكن في مقام اعطاء الحجة والظهور على المراد إلى المكلف.

وربما يختلف هذان المعنيان بحسب اللوازم أيضا ، فإنه على الأول لو ورد في قباله عام وضعي منفصل يلزمه تقديم ذلك العام الوضعي عليه بلا كلام ورفع اليد به عن أصل ظهوره الاطلاقي وذلك بلحاظ ان أصل ظهوره في الاطلاق وفي كونه تمام المراد حينئذ منوط ومعلق بعدم بيان المتكلم جزء مرامه بكلام آخر فيما بعد ، والا فمع وجود البيان على بعض مرامه فيما بعد لايكاد يكون له هذا الظهور الاطلاقي ، فكان أصل ظهوره في الاطلاق وكونه تمام المراد حينئذ من لوازم عدم مجيء القيد ولو بالأصل ، وفي مثله من المعلوم انه بالظفر بكل بيان وحجة على القيد يرتفع هذا الأصل بالمرة ، كارتفاع اللابيان الذي هو

ص: 570

موضوع حكم العقل بالقبح بوجود البيان على التكليف ، وعليه فلا يبقى مجال توهم المعارضة بينهما بوجه أصلا ، وهذا بخلافه على الثاني فان قضية كون المتكلم في مقام اعطاء الحجة حينئذ انما كان ملازما مع ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن كونه تمام المراد ، بظهور فعلى تنجيزي ، من جهة ان اعطاء الحجة على المراد حينئذ لايكون الا باعطاء الظهور الكاشف عنه ، والا فلايكون في البين حجة غيره ، وحينئذ فمتى لم ينصب في كلام به التخاطب قرينة على القيد والخصوصية ، فلا جرم يلزمه استقرار الاطلاقي للفظه ، ومع استقرار الظهور الاطلاقي فيه يقع لا محالة التعارض بينه وبين ما في القبال من المقيدات المنفصلة ، وفي مثله لا يلاحظ قضية وضعية الظهور اللفظي في المقيدات المنفصلة في تقديمها على ظهوره الاطلاقي ، بل بعد استقرار الظهور الاطلاقي فيها أيضا لابد من ملاحظة أقوى الظهورين منهما وتقديمه على الاخر ، وهذا بخلافه على الأول فإنه عليه لا مجال لتوهم المعارضة بينهما بل لابد من تقديم الظهورات الوضعية في المقيدات المنفصلة على ظهوره الاطلاقي من جهة صلاحيتها للبيانية عليه ورافعيتها لأصل ظهوره الاطلاقي ، والوجه فيه ما عرفت بان عدم البيان على القيد فيما بعد على ذلك كان مقوم أصل انعقاد الظهور الاطلاقي فيه ، فمع مجيء البيان بالوجدان والظفر بالحجة على القيد يرتفع هذا الأصل بالمرة ، وبارتفاعه لايكاد يكون ظهور الاطلاقي لكلامه بوجه أصلا حتى يلاحظ التعارض بينهما ، كما لايخفى.

لايقال بان ذلك كك لولا ظهور حال المتكلم في المشي على طبق ما اقتضته الجبلة الأولية والفطرة الارتكازية من ابرازه تمام مقاصده بلفظ به التخاطب لا به وبكلام آخر منفصل عن هذا الكلام ، فإنه لا اشكال في أن الجبلة والفطرة في كل متكلم بكلام به التخاطب تقتضي كونه بصدد ابراز تمام مرامه الواقعي بمدلول لفظه الملقى إلى المخاطب على نحو كان مدلول لفظه تمام مراده بوصف التمامية ، لا في مقام الاهمال رأسا ، ولا في مقام بيان مجرد ان المدلول هو المراد ولو لم يكن تمام المراد بوصف التمامية بل كان ذلك جزء مراده ، وجزئه الآخر شيء يذكره فيما بعد بكلام آخر غير هذا الكلام ، فان ذلك كله وان أمكن في نفسه ، حيث لا محذور في ذكر المتكلم جزء مرامه بهذا الكلام وجزئه الآخر بكلام منفصل آخر فيما بعد ، وبعبارة أخرى لا محذور في كينونة المتكلم في بيان تمام مرامه لكن بأعم من هذا الكلام وكلام آخر فيما بعد ، الا انه خلاف ما تقتضيه الجبلة الأولية والارتكاز

ص: 571

الفطري ، ومن ذلك ترى بأنه لا يرتاب أحد في الخطابات الشفاهية في الحمل على الاطلاق في قوله : ادخل السوق واشتر اللحم ونحو ذلك ، والكشف عن كون مدلول اللفظ تمام المراد ، من دون اعتناء باحتمال كون المدلول جزء المراد في حكمه وان جزئه الآخر شيء يذكره فيما بعد بكلام آخر ، وعلى ذلك فإذا كان الظاهر من حال المتكلم كونه على طبق تلك الجبلة من كونه بصدد بيان تمام مراده بكلام به التخاطب في قوله : أعتق رقبة مثلا ، ولم متصلا بكلامه ذلك ما يدل على اعتبار قيد فيها من الايمان أو الكتابة أو غيرها ، فلا جرم في مثله الجبلة المسطورة تقتضي ظهور لفظه في الاطلاق الكاشف عن كونه تمام المراد ، من دون احتياج في ذلك إلى التشبث بأصالة عدم مجيء القيد فيما بعد ، بل نفس ظهور الحال يكفي في اطلاق المرام ، وحينئذ فمع استقرار الظهور الاطلاقي لكلامه بمقتضى المقدمات المزبورة عن الجبلة المسطورة قهرا يلزمه التعارض بينه وبين ما في القبال من المقيدات المنفصلة ، من جهة كشف ذلك حينئذ عن كون المدلول تمام المرام وكشف المقيدات المنفصلة عن كون المدلول من الأول جزء المرام لاتمامه الملازم لعدم كون المتكلم من أول الامر على طبق الجبلة من بيان مرامه بلفظ به التخاطب ، وعليه فلا فرق بين التقريبين من جهة انه على كل تقدير يستقر الظهور الاطلاقي للفظه ، ولا ينثلم ظهوره بقيام دليل منفصل فيما بعد على القيد ، سواء فيه على تفسير البيان باعطاء الحجة والظهور على المراد أو تفسيره ببيان المرام الواقعي النفس الأمري بلفظ به التخاطب.

فإنه يقال بعد الفرق الواضح في المقام بين مسلك المشهور من وضع اللفظ للاطلاق كسائر الحقائق ، وبين مسلك السلطان قدس سره من حيث استتباع المقدمة المزبورة بالجبلة المسطورة على الأول لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع مرامه لا لأصل انعقاد الظهور ، من جهة اقتضاء الوضع فيه لأصل انعقاد الظهور ، بخلافه على مسلك السلطان حيث كانت الجبلة المزبورة مقومة لأصل انعقاد الظهور الاطلاقي للفظ. نقول بان من المعلوم حينئذ ان احراز هذا الظهور وجدانا فرع أحرا الجبلة المسطورة كذلك ، والا فمع عدم احراز الجبلة واحتمال عدم كون المتكلم فعلا في مقام بيان تمام مرامه بهذا الكلام واحتمال مجيء القيد فيما بعد لا مجال لانعقاد الظهور الاطلاقي على هذا المسلك ، وعليه فمرجع احراز تلك الجبلة بظهور حال المتكلم ، مع احتمال كونه على خلاف الجبلة والارتكاز وجدانا ، بعد أن كان إلى أصالة عدم المانع عن الجبلة ، الراجعة

ص: 572

إلى أصالة عدم كونه في مقام بيان تمام مرامه بكلام آخر غير هذا الكلام فلا جرم بمجرد مجيء البيان على القيد يلزمه لا محالة ارتفاع هذا الأصل بالمرة ، لان مرجع أصالة عدم البيان على القيد التي يناط بها ظهور اللفظ انما هو إلى عدم الحجة عليه ولو بلفظ آخر منفصل عن هذا اللفظ ، فمع الظفر بكل بيان وحجة على القيد فيما بعد يرتفع لا محالة هذا الأصل الحاكم بكون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بهذا اللفظ ، ومع ارتفاعه لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في طرف المطلق حتى يعارض الظهور التنجيزي في طرف المقيدات المنفصلة ، وذلك أيضا من غير فرق بين فرض احراز القيد بالكشف القطعي أو احرازه بالكشف الظني ، فإنه على كل تقدير يكون الظفر بكل بيان وحجة على القيد رافعا حقيقة للأصل المزبور الذي به قوام الظهور المزبور. نعم لو كان الارتكاز والجبلة المزبورة في المقام كسائر الحقايق وعلى مسلك المشهور مستتبعا لمطابقة اللفظ الظاهر في نفسه لواقع مرامه ورافعا لاحتمال إرادة خلاف الظاهر لا مقوما لأصل الظهور ، أو كان ظهور اللفظ في مقام اناطته منوطا بعدم وجود القيد واقعا لا بعدم الحجة والبيان عليه الذي هو موضوع قبح العقاب بلا بيان لكان لدعوى المعارضة بين ظهور حال المتكلم الكاشف عن عدمه واقعا مع دليل القيد الكاشف عن وجوده كك كمال مجال ، والا فمع فرض تسليم إناطة أصل ظهوره بعدم الحجة وبيان القيد ولو فيما بعد فلا يبقى مجال دعوى المعارضة بين ظهور الحال مع دليل القيد ، بل مهما ظفر بالحجة على القيد فيما بعد يقطع بمخالفة الظهور للواقع.

وبالجملة نقول : ان موضوع حكم العقل بعدم نقض الغرض الذي هو مفاد مقدمات الحكمة انما هو كون المتكلم في مقام البيان وعدم إقامة حجة على مدخلية قيد في مرامه ، إذ لو أقام حجة عليه لا يلزم عليه نقض غرض بوجه أصلا ، وحينئذ فمهما ظفرنا بحجة على القيد فيما بعد يلزمه ارتفاع موضوع حكم العقل ، من جهة انقلاب اللابيان بوجود البيان ، كما هو واضح. وعليه فلابد من تنقيح هذه الجهة بان البيان الذي هو عمدة تلك المقدمات عبارة عن اعطاء الحجة والظهور على المراد ، كي يلزمه المعارضة مع المقيدات المنفصلة بالتقريب المتقدم ، أو هو عبارة عن كون المتكلم في مقام الجد لبيان تمام مرامه الواقعي بلفظ به التخاطب حتى يلزمه تقديم المقيدات المنفصلة عليه.

ثم إن من لوازم هذين المعنيين أيضا هو عدم اضرار القدر المتيقن الخارجي بالاطلاق

ص: 573

على الأول واضراره به على الثاني ، من جهة عدم محذور نقض غرض عليه في فرض إرادة التقييد واتكاله عليه بيانا وحجة على القيد ، بخلافه على الأول فإنه لما كان لايوجب مثله انثلاما لظهور اللفظ كما في كلية القرائن المنفصلة لايكاد يصح له الاكتفاء بذلك القدر المتيقن الخارجي في فرض عدم إرادة الاطلاق من لفظه ، كما هو واضح.

وحيث إن بنائهم طرا على عدم الاعتناء بوجود القدر المتيقن الخارجي في المضربة بالاطلاق. فالأقوى منهما هو المعنى الأول ، مضافا إلى كونه هو الغالب في هذه الخطابات خصوصا الخطابات الشرعية المتكفلة للأحكام الشرعية ، فإنها طرا بصدد اعطاء الحجة على المراد إلى المكلف ليكون له بيانا وحجة في الموارد المشكوكة في نفى ما شك في اعتباره وجودا أم عدما في المأمور به إلى أن يظهر الخلاف ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في القاء العمومات اللفظية وسائر الحقايق ، فان المقصود منها طرا انما هو مجرد اعطاء الحجة على المراد إلى المكلف ، لان يتكل بها بيانا على التكليف وجودا وعدما في مقام العمل عند الشك في القرينة أو التخصيص فتدبر.

واما المقدمة الثالثة : وهي انتفاء القدر المتيقن مطلقا ولو من الخارج أو في خصوص مقام التخاطب فالاحتياج إليها في صحة الاخذ بالاطلاق وعدمه أيضا مبني على أن المراد من البيان في المقدمة الأولى هو كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده على وجه يعلم المخاطب أيضا بان المدلول تمام المراد ، أو مجرد كونه في مقام بيان تمام مراده بنحو لا يشذ عنه شيء ، بلا نظر إلى فهم المخاطب بأنه تمام المراد ، فعلى الأولى لايحتاج إلى تلك المقدمة ولايكاد يضر وجود القدر المتيقن ولو في مقام التخاطب بقضية الاطلاق ، ما لم يصل إلى حد الانصراف الكاشف عن دخل الخصوصية في المطلوب ، فان مجرد القطع بكونه مرادا لا يقتضى عدم كون غيره مرادا أيضا ، بل على فرض إرادة المتكلم للقيد لابد بمقتضى برهان نقض الغرض من نصب البيان على مدخلية الخصوصية ، والا فليس له الاكتفاء بمحض كونه القدر المتيقن في مقام التخاطب ، واما على الثاني من كونه في مقام بيان تمام مرامه من دون تعلق غرضه بفهم المخاطب أيضا بان مدلول اللفظ تمام المراد بوصف التمامية فلازمه الاحتياج إلى عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وعدم جواز التعدي عنه مع وجوده إلى غيره ، فإنه على تقدير إرادة المقيد حينئذ لا يلزم من عدم بيانه نقض غرض في البين كما يلزم في الصورة الأولى ، ومعه لا طريق إلى احراز الاطلاق حتى

ص: 574

يتعدى عن القدر المتيقن إلى غيره ، كما هو واضح.

ولكن التحقيق حينئذ هو الثاني ، ذلك من جهة ان غاية ما تقتضيه تلك المقدمات بمقتضى برهان نقض الغرض انما هو عدم اخلال المتكلم بما هو واقع مرامه في خطابه ، واما من حيث فهم المخاطب أيضا بأنه تمام المراد فلا ، لان ذلك امر زائد قلما يتفق تعلق الغرض به ، وعليه فمع احتمال إرادة المتكلم للمقيد وهو المتيقن واتكاله في ذلك على حكم العقل بلزوم الاخذ به لا مجال للاخذ بالاطلاق ، حيث لا يلزم من ارادته بالخصوص محذور نقض غرض في البين ، وهذا بخلافه في الفرض الأول فإنه بعد فرض تعلق غرضه بمعرفة المخاطب أيضا بكون المدلول تمام المراد لابد له في فرض ارادته للمقيد من نصب بيان عليه ، والا فمجرد القطع بدخول القدر المتيقن في المطلوب وكونه مرادا للمتكلم لا يقتضى القطع بكونه تمام المراد بوصف التمامية الا مع بلوغه إلى حد الانصراف الكاشف عن دخل الخصوصية ، فعلى ذلك فلا اشكال في الاحتياج إلى المقدمة الثالثة ، وهي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

واما اضرار القدر المتيقن الخارجي وعدم اضراره فقد عرفت ابتنائه أيضا على كون البيان في المقام بمعنى اعطاء الحجة على المراد أو بمعنى كون المتكلم في مقام الجد بابراز مرامه الواقعي. وقد عرفت أيضا ان التحقيق هو الأول وانه لا يضر مجرد وجود القدر المتيقن ولو من الخارج بالأخذ بالاطلاق.

ثم لايخفى عليك انه مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وان كان لا مجال للاخذ بالاطلاق ، بل كان اللازم هو الاقتصار عليه وعدم التعدي عنه إلى غيره ، الا انه لايوجب التقيد بالخصوص حتى يلزمه معارضته مع مطلق آخر في قباله ، بل وانما غايته هو مانعيته عن الاخذ باطلاق ذلك ، وهو واضح.

ثم إن من القرائن المانعة عن الاخذ بالاطلاق كما عرفت هو الانصراف ، ولكنه لا مطلقا بل البالغ منه إلى حد مبين العدم أو المضر الاجمالي دون ما يوجب التشكيك البدوي ، وتوضيح ذلك هو ان للانصراف مراتب متفاوتة شدة وضعفا ، حسب زيادة ما يوجبه من انس الذهن الناشئ من كثرة الاطلاق وغلبة الاستعمال وغير ذلك.

فمن تلك المراتب ما يوجب التشكيك البدوي الزائل بالتأمل والتدقيق كما في انصراف الماء في الكوفة مثلا إلى الفرات ، فإنه لايوجب الا مجرد التشكيك البدوي الذي

ص: 575

يزول بأدنى تأمل وتدبر.

ومنها : ما يكون انس الذهن بمرتبه يوجب الشك المستقر بنحو لا يزول بالتأمل والتدبر أيضا ، كما في القدر المتيقن.

ومنها : ما يكون انس الذهن بمثابة يكون كالتقيد اللفظي ، فهذه مراتب ثلاثة :

فالمرتبة الأولى : منها هي المعبر عنها بالتشكيك البدوي وهي لا توجب شيئا ولا تمنع عن الاخذ بالاطلاق.

والثانية : هي المضرة الاجمالية فتمنع عن الاخذ بالاطلاق خاصة كما في القدر المتيقن في مقام التخاطب.

والثالثة : هي المعبر عنها بمبين العدم ، باعتبار اقتضائها لتحديد دائرة المطلوب وتقيده بالخصوصية الموجبة لصلاحيته للمعارضة مع ما في القبال من مطلق آخر ، فيفترق حينئذ هذه المرتبة مع المرتبة السابقة وهي المضرة الاجمالية ، من حيث عدم اقتضاء المضر الاجمالي الا مجرد الاضرار بالاطلاق والمنع عن التمسك به ، بخلاف هذه المرتبة ، فإنها مضافا إلى منعها عن الاطلاق توجب تحديد دائرة المراد والمطلوب وتقيده بالخصوصية كالتقييدات اللفظة.

ثم إن الانصراف إلى الخصوصية أيضا تارة يكون على الاطلاق من دون اختصاصه بحال دون حال ، وأخرى يكون مخصوصا بحال دون حال آخر كحال الاختيار والاضطرار وغير ذلك ، كما لو كان من عادة المولى مثلا اكل البطيخ في الحضر واكل ماء اللحم في السفر ، فان المنصرف من امره حينئذ باحضار الطعام في حضره شيء وفي سفره شيء آخر ، لا انه كان المنصرف إليه شيئا واحدا في جميع تلك الأحوال.

ومن ذلك أيضا انصراف وضع اليد مثلا على الأرض ، حيث إن المنصرف منه في حال الاختيار والتمكن ربما كان هو الوضع بباطن الكف لا بظاهرها ، وفي حال الاضطرار وعدم التمكن من وضع باطن الكف كان المنصرف منه الوضع بظاهر الكف ، ومع عدم التمكن من ذلك هو الوضع بالساعد ، وهكذا ، كل ذلك بملاحظة ما هو قضية الجبلة والفطرة من وضع الانسان باطن كفيه على الأرض في حال القدرة في مقام الوصول إلى مقاصده ، وبظاهرهما عند العجز وعدم التمكن من ذلك ، وبالساعدين عند العجز من ذلك أيضا.

وعليه فلا بأس بالتمسك باطلاقات أوامر المسح باليد في وجوب المسح بظاهر الكفين مع

ص: 576

عدم التمكن عن المسح بباطنها ، بل وجوبه ببقية اليدين عند تعذر المسح بظاهر الكفين أيضا كما هو المشهور.

فلا يرد عليه حينئذ ان المنصرف من الامر بالمسح باليد لو كان هو المسح بباطن الكفين بحيث كان بمنزلة التقييد اللفظي لما كان وجه لدعوى وجوبه بظاهرهما مع العجز عن المسح بباطنهما ، من جهة ان مقتضى الانصراف المزبور بعد كونه بمنزلة التقييد اللفظي حينئذ انما كان سقوط وجوب المسح رأسا ، فيحتاج اثبات وجوبه بظاهر الكفين إلى دليل خاص ، والا فلا يجديه اطلاقات أوامر المسح باليد.

إذ نقول بان ذلك انما يتم فيما لو كان الانصراف المزبور أولا بنحو الاطلاق ، والا فمع فرض اختصاصه بحال القدرة وعدم العجز لا مجال لهذا الاشكال ، بل حينئذ كما يتمسك باطلاق أوامر المسح عند التمكن لوجوب المسح بباطن الكفين ، كذلك يتمسك به أيضا لوجوبه بظاهرهما في حال عدم التمكن من المسح بباطنهما ، من دون احتياج في اثبات وجوبه بظاهر الكفين إلى قيام دليل خاص عليه ، كما لايخفى.

ثم اعلم أنه إذا كان للمطلق جهات فلابد في الاخذ بالاطلاق من كل جهة من احراز كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة والا فلايكفي مجرد كون المتكلم في مقام البيان من جهة من الجهات في الاخذ بالاطلاق مطلقا ولو من غير تلك الجهة ، بل بعد امكان كونه في مقام الاهمال لابد من الاقتصار في الاخذ بالاطلاق على الجهة المعلومة التي كان المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان وعدم التعدي عنها إلى غيرها ، الا إذا كانت الجهة المهملة من اللوازم الغالبية للجهة المعلومة التي كان المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان ، بحيث يوجب الحكم بالاهمال فيها من هذه الجهة صرف الاطلاق إلى الموارد النادرة ، فإنه في مثل ذلك ربما يلازم الاطلاق من هذه الجهة الاطلاق من غير تلك الجهة أيضا فيؤخذ حينئذ باطلاقه من الجهتين ، وعلى ذلك فيمكن الاخذ باطلاق ما دل على طهارة سؤر الهرة حتى من جهة الحالات من حيث طهارة فم الهرة وعدم طهارة فمها وتلطخها بالنجاسة ، بدعوى ان سوق الكلام وان كان من جهة افراد السؤر دون الحالات ولكنه لما كان الاهمال من جهة نجاسة فم الهرة وطهارته موجبا لحمل اطلاق طهارة سؤرها على المورد النادر ، بملاحظة انه قلما يتفق خلو في الهرة عن النجاسة ولو في زمان ، فيوجب حينئذ حمل اطلاق طهارة سؤرها على الموارد النادرة

ص: 577

التي لم يتلطخ فمها بالنجاسة أو تلطخ بها ولكنه صار طاهرا بالماء الكر أو الجاري ونحوهما ، فقهرا في مثله يلازم الاطلاق من تلك الجهة الاطلاق في الجهة المهملة فيؤخذ حينئذ باطلاق الطهارة من الجهتين.

وحينئذ فلابد أولا من ملاحظة جهات القضية وان الكلام مسوق لبيان أي واحدة من الجهات ، ثم بعد ذلك ملاحظة تلك الجهات المهملة التي لم يحرز كون المتكلم بالنسبة إليها في مقام البيان بأنها من اللوازم الغير المنفكة العقلية أو الغالبية للجهات المطلقة أم لا ، هذا كله في أصل كبرى المسألة.

واما تشخيص صغريات ذلك فموكول إلى نظر الفقيه حيث لا ضابط كلي لذلك يؤخذ به في جميع الموارد ، وانما ذلك يختلف باختلاف خصوصيات الموارد حسب ما تقتضيه القرائن الخاصة ومناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك ، فمن ذلك لابد للفقيه من بذل الجهد في تشخيص صغريات ذلك بملاحظة خصوصيات الموارد أو القرائن الخاصة فيها من مناسبات الحكم والموضوع ونحو ذلك ، فتدبر.

تتمة

إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يكونا متوافقين في الايجاب والسلب أو متخالفين. أما إذا كانا متوافقين وكانا مثبتين كقوله : أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة فاما ان يحرز ولو من الخارج كونهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده ، واما ان لا يحرز شيء منهما.

فعلى الأول فان أحرز كونهما على نحو وحدة المطلوب فلا اشكال في المعارضة بينهما ، فلابد حينئذ اما من حمل المطلق على المقيد واما من حمل المقيد على بيان أفضل الافراد برفع اليد عن ظهوره في دخل الخصوصية ، وان أحرز كونهما على نحو تعدد المطلوب على معنى كون مطلق الرقبة الجامع بين الواجدة للايمان والفاقدة له مطلوبا ، والرقبة المتقيدة بقيد الايمان مطلوبا آخر فلا تعارض بينهما ، حيث يؤخذ بكل واحد منهما ، ونتيجة ذلك هو سقوط كلا التكليفين بايجاد المقيد في مقام الامتثال ، وبقاء التكليف بالمقيد في صورة الاقتصار على المطلق.

واما على الثاني من عدم احراز أحد الامرين من وحدة المطلوب وتعدده والشك في

ص: 578

ذلك فلا اشكال أيضا في أن مقتضى الأصل هو الحمل على تعدد المطلوب ، لأنه مع احتمال كونهما بنحو تعدد المطلوب لم يحرز التنافي بينهما حتى يحتاج في مقام العلاج إلى حمل المطلق على المقيد ، فكان نفس الشك في كونهما على نحو وحدة المطلوب واحتمال كونهما بنحو تعدد المطلوب كافيا في عدم ترتيب آثار وحدة المطلوب بينهما ، وهذا مما لا اشكال فيه ظاهراً.

وانما الكلام في أن طبع ظهور القضية في مثله يقتضى أي الامرين منهما؟ وفي مثله نقول : بان كل واحد من الامرين في قوله : أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة ، لما كان له ظهور في إرادة مستقلة محدودة بحد خاص متعلقة بصرف وجود الشيء الذي هو غير قابل للتعدد والتكرر ، وكان الجمع بين ظهور الامرين في الاستقلال وبين ظهور المتعلق في صرف الوجود غير ممكن عقلا ، من جهة استحالة توارد الحكمين المتماثلين كالضدين على موضوع واحد ، فلابد في مقام العلاج من رفع اليد عن أحد الأمور الثلاثة :

اما عن ظهور المتعلق في الصرف بحمله على وجود ووجود ليختلف متعلق الحكمين.

واما عن ظهور الامرين في الاستقلال والتعدد بجعل المنكشف منهما إرادة واحدة لا إرادتين ، ليكون النتيجة وحدة المطلوب ، فيجمع بينهما اما بحمل المطلق على المقيد أو حمل المقيد على أفضل الافراد ، فيكون المنكشف في الامر بالمطلق على الأول عين الإرادة الضمنية في طرف الامر بالمقيد ، وعلى الثاني يكون المنكشف في الامر بالمقيد عين الإرادة المكشوفة في طرف المطلق مع زيادة الندبية مثلا.

واما من رفع اليد عن استقلال الامرين في الحد خاصة مع حفظ أصل ظهورهما في تعدد الإرادة والطلب ، فيحمل بعد الغاء الحدود الخاصة فيهما على التأكد في المجمع.

ولكن في مقام الترجيح لاينبغي اشكال في أن أردأ الوجوه هو الوجه الأول ، حيث إن رفع اليد عن ظهور المتعلق فيهما في صرف الوجود والمصير إلى لزوم تعدد الوجود في مقام الامتثال بعيد جدا ، وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين : من رفع اليد اما عن أصل ظهور الامرين في الاستقلال ذاتا والمصير إلى كون المنكشف من الانشائين إرادة واحدة فينتج وحدة المطلوب ، واما من رفع اليد عن خصوص الحدود مع ابقاء أصل ظهور الامرين في الاستقلال على حاله كي ينتج تعدد المطلوب والتأكد في المجمع ، وفي مثله لايبعد دعوى تعين الأخير من جهة أهونية التصرف في الحد من التصرف

ص: 579

في ظهور الامرين في تعدد الإرادة ، خصوصا مع امكان منع أصل ظهور الامرين في استقلالهما في الحد من جهة ان غاية ما يقتضيه الظهور المزبور انما هو الكشف عن تعدد أصل الإرادة والطلب واما محدوديتهما بحدين مستقلين فلا.

وبالجملة نقول بان التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة وان كان ممكنا في نفسه ، من حيث إنه يكون الانشاء في باب التكاليف كالانشاء في باب العقود في اقتضائه السببية لتحصل مضمونه في الخارج حتى يلزمه تعدد المسبب عند تعدد السبب ، بل وانما ذلك كان من قبيل الاخبار كاشفا عن الإرادة وحاكيا عنها ، فأمكن ان يقال حينئذ بعدم كشف الانشائين في المقام عن أزيد من إرادة واحدة. ولكنه مع ذلك كله عند الدوران بين التصرفين كان التصرف الأخير وهو التصرف في الحد أهون من التصرف في ظهور الامرين في تعدد الإرادة.

ثم إن ما ذكرنا من الدوران بين الوجوه المزبورة انما هو على المبنى المختار من استقرار الظهور للمطلق وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة على الخلاف ، والا فبناء على المبنى الآخر الذي تقدم شرحه فلا محالة يكون دليل المقيد حاكما عليه ، فلابد من التقييد ، ومعه فلا ينتهي النوبة إلى مقام الدوران بين الوجوه المتقدمة ، اللّهم الا ان يقال بأنه كك فيما لو كانت الدلالة في المقيد المنفصل وضعيا الا فبناء على كون الدلالة فيه أيضا من جهة الاطلاق وقرينة الحكمة فلا ، من جهة ان التعليق حينئذ كان من الطرفين ومعه لا وجه لتقديم دليل المقيد وتحكيمه على المطلق ، والمقام انما كان من قبيل الثاني ، حيث إنه كما كان ظهور المطلق في استقلال الطلب من جهة مقدمات الحكمة كذلك ظهور دليل المقيد أيضا : في قوله أعتق رقبة مؤمنة ، في أول مرتبة الإرادة كان من جهة الاطلاق ، بحيث لو تم ظهور الأول لابد من حمل الثاني على المرتبة الأكيدة من الإرادة ، ومعه لا وجه لتقديم دليل المقيد وتحكيمه على ظهور المطلق وحمل الامر المتعلق به على الامر الضمني.

اللّهم الا ان يدفع ذلك ويقال بان ظهور كل امر في أول مرتبة الطلب ظهور وضعي لا اطلاقي ، فتدبر.

ثم إن هذا كله بناء على عدم ثبوت المفهوم للمقيد واما بناء على ثبوت المفهوم له فقد يقال بأنه لا اشكال حينئذ في التقييد. ولكن فيه اشكال : إذ نقول بأنه انما يلزم التقييد فيما لو كان القيد بحسب ظهور القضية راجعا إلى أصل الوجوب ، والا فبناء على ظهور رجوعه إلى المرتبة الأكيدة من الوجوب أو احتمال رجوعه إليها فلا يلزم التقيد ، من غير فرق في

ص: 580

ذلك بين القول بثبوت المفهوم والقول بعدمه.

وبالجملة نقول : بأنه على فرض ظهوره في رجوع القيد إلى أصل الحكم لابد من التقييد ، قلنا بالمفهوم أم لم نقل ، وعلى فرض عدم ظهوره في ذلك ورجوعه إلى المرتبة الأكيدة من الحكم أو تردده بين الامرين فلا يحكم بالتقييد وان قلنا بالمفهوم ، فعلى كل تقدير لا ينفع قضية القول بالمفهوم في اثبات التقييد ، كما هو واضح. وعلى كل حال فهذا كله فيما لو كان لسان دليل المقيد بنحو قوله : أعتق رقبة مؤمنة.

واما لو كان لسانه بنحو قوله : يجب ان تكون الرقبة مؤمنة أو ما يفيد ذلك ، فلايبعد في مثله دعوى ظهوره في مطلوبية الايمان فيها مستقلا من باب المطلوب في المطلوب.

كما أنه لو كان بلسان الاشتراط كقوله : فليكن الرقبة مؤمنة ، لابد من التقييد من جهة ظهوره حينئذ في مدخلية قيد الايمان في المطلوب.

وعلى ذلك لابد حينئذ من ملاحظة كيفية لسان دليل المقيد في أنه بنحو قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، أو بنحو قوله : يجب ان تكون الرقبة مؤمنة ، الظاهرة في كونه من باب المطلوب في المطلوب ، أو بنحو الارشاد إلى الاشتراط ، فعلى الأول يتأتى فيه الوجوه المتقدمة ، وعلى الثاني يؤخذ بظهور كل واحد من المطلق والمقيد ولا تعارض ولا تنافى بينهما ، وعلى الثالث لابد من التقييد وحمل المطلق على المقيد فتدبر. هذا كله في المثبتين.

واما المنفيان كقوله : لا تعتق الرقبة ولا تعتق الرقبة المؤمنة ، فلا اشكال في عدم التنافي بينهما بل في مثله ربما كان ذلك مؤكدا في الحقيقة للاطلاق لا منافيا له ، الا على فرض القول فيه بالمفهوم ، فيلحق حينئذ بالمتخالفين من جهة اقتضائه حينئذ بمفهومه لعدم حرمة المطلق ، ومثله ما لو كانا بنحو قوله : لايجب عتق الرقبة ولايجب عتق الرقبة المؤمنة ، فان ذلك أيضا على فرض المفهوم كان ملحقا بالمتخالفين ، وعلى فرض عدم المفهوم كان مؤكدا للاطلاق لا منافيا له ، هذا ، ولكن في عد المثال الأول مثالا للمنفيين نحو خفاء ينشأ من كونه أشبه بالمثبتين ، كما هو ظاهر. وعلى كل حال فهذا كله في المتوافقين في الايجاب والسلب.

واما المتخالفان فهو يتصور على وجهين : الأول ما كان التخالف بينهما على وجه التناقض بنحو الايجاب والسلب كقوله : أعتق رقبة ولايجب عتق الرقبة المؤمنة ، وذلك

ص: 581

أيضا بأحد النحوين : اما بنحو كان الحكم في طرف المطلق اثباتا وفي طرف المقيد نفيا كما في المثال المزبور ، واما بعكس ذلك كقوله : لايجب عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة. فان كان الأول ففيه احتمالات : احتمال التقييد كما هو الظاهر وعليه العرف ، واحتمال نفى الوجوب الأكيد لا نفي أصل الوجوب ، واحتمال رجوع النفي إلى خصوص القيد ، ومع الدوران وعدم الترجيح قد عرفت ان الحكم هو عدم التقييد ، وان كان الثاني فالمتعين كان هو التقييد.

الثاني ان يكون التخالف على وجه التضاد كقوله : أعتق رقبة ويحرم عتق الرقبة الكافرة ، أو بالعكس كقوله : يحرم عتق الرقبة ويجب عتق الرقبة المؤمنة ، وحكم هذا القسم في الصورتين أيضا هو التقييد وتخصيص الوجوب في الصورة الأولى بما عدا الافراد الكافرة والحرمة في الصورة الثانية بما عدا الافراد المؤمنة.

نعم يحتمل أيضا رجوع الحكم في هذا القسم في الصورتين إلى ذات القيد على معنى اختصاص الحكم في طرف المقيد بذات القيد ، نظير الامر بالجامع مع النهى عن بعض الخصوصيات أو بالعكس ، وعليه فيبتنى على مسألة الاجتماع ، فعلى القول بالجواز خصوصا في الفرض فلا تنافى بينهما أصلا ، من جهة اختلاف المتعلق حقيقة حينئذ في الأمر والنهي وكونه في أحدهما هو الطبيعي والجامع وفى الآخر هو القيد والخصوصية ، واما على القول بعدم الجواز حتى في مثل الفرض يقع بينهما التنافي. ولكن قد عرفت ان الجمع العرفي في نحوه هو التقييد لا غير. هذا تمام الكلام في المطلق والمقيد. والحمد لله رب العالمين.

ص: 582

المقصد السادس في المجمل والمبين

وقد عرف المجمل بتعاريف : منها : ان المجمل عبارة عما لايكون بحجة ولا يستطرق به إلى الواقع فيقابله المبين وهو الذي يستطرق به إلى الواقع.

ومنها : ولعله هو الظاهر أنه عبارة عما لايكون له الدلالة والظهور في معنى خاص والمبين في قباله وهو الكلام الذي كان له الدلالة والظهور على المعنى. والمراد من الدلالة والظهور انما هو الدلالة التصورية التي هي بمعنى انسباق المعنى من اللفظ في الذهن عند اطلاقه ، لا الدلالة التصديقية التي هي موضوع الحجية ، ولعله إليه أيضا يرجع ما في الفصول من تعريفه بأنه عبارة عما دل على معنى لم يتضح دلالته. وعليه فيخرج المهملات طرا لأنها ليس لها معنى أصلا ، والظهور والدلالة فرع أصل وجود المعنى للفظ ، كما أنه يخرج أيضا عن هذا التعريف الألفاظ الظاهرة التي قام على خلافها القرينة الخارجية المنفصلة ، كالعمومات المخصصة بالمنفصل ، وموارد تعارض الظهورين المنفصلين ، ويدخل ذلك كله في المبين ، من جهة ان مجرد قيام القرينة الخارجية على عدم إرادة الظاهر منه على هذا التعريف لا يخرجه عن المبين. وهذا بخلافه على التعريف الأول فإنه عليه يدخل الموارد المزبورة في المجملات نعم يدخل فيه المشتركات اللفظية بل المعنوية والكلام المحفوف بالقرينة المجملة ونحوها مما لايكون له ظهور في معنى وان علم من الخارج ما أريد منه ، هذا.

ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب ثمرة مهمة على هذا النزاع ، لان موضوع الحجية بعد ما كان عبارة عن الظهور التصديقي الملازم لاحراز كون المتكلم في مقام الإفادة

ص: 583

والاستفادة ، فلا جرم كان تمام العبرة في مقام الحجية والاستطراق وجودا وعدما على هذا الظهور ، قلنا بكون المجمل عبارة عما لا يستطرق به إلى الواقع وكون موارد تعارض الظهورين المنفصلين من المجملات حقيقة ، أو بكونه عبارة عما لايكون له ظهور ودلالة على المعنى المراد بالظهور التصوري وان الموارد المزبورة مبينات حقيقة ولكنها محكومة بحكم الاجمال ، من جهة انه ليس لنا حكم في آية أو رواية كان مترتبا على العنوانين المزبورين حتى يصح لأجله النزاع والنقض والابرام في تعريفهما ، كما هو واضح.

ومن ذلك ظهر عدم المجال أيضا لما أفادوه من النقض والابرام في بعض الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة في أنها من المجملات أو المبينات كآية السرقة ، وآية تحريم الأمهات ، وقوله : لا صلاة الا بطهور ، ونحو ذلك ، من حيث حكم بعضهم باجمال اليد في الآية وترددها بين الكف والزند والمرفق ، وحكم بعض آخر بعدم الاجمال فيها ، وهكذا في آية تحريم الأمهات ، وقوله : لا صلاة الا بطهور ، وذلك لما عرفت من عدم ترتب ثمرة مهمة على ذلك بعد كون مدار الحجية في باب الظهورات وجودا وعدما على الظهور التصديقي ، هذا ، مع امكان دعوى كون الأمثلة المزبورة أيضا من المبينات بالمعنى الذي شرحناه ، نظراً إلى ظهور اليد في المجموع حسب الظهور التصوري الذي بمعنى الانسباق ، وظهور استناد تحريم الأمهات والأخوات إلى خصوص وطيها ، وحلية البهيمة إلى اكلها ، وظهور النفي في لا صلاة الا بطهور في نفى الحقيقة ، وعليه فكانت الأمثلة المزبورة من قبيل المبينات من غير أن يضر بذلك قيام القرينة في بعضها على الخلاف كما في آية السرقة ، حيث علم من الخارج بعدم إرادة مجموع اليد في الآية المباركة ، وعدم إرادة نفى الحقيقة مثلا في تركيب لا صلاة الا بطهور ونحوه ، وذلك من جهة ما عرفت مرارا من عدم اقتضاء القرائن المنفصلة كلية لكسر صولة الظهورات رأسا وجعلها حقيقة من المجملات بل وانما غايتها اقتضائها لعدم حجيتها.

تنبيه : لايخفى عليك ان الاجمال والتبيين في الكلام أمران إضافيان بالنسبة إلى الاشخاص فربما يكون الكلام مجملا بالإضافة إلى شخص لمكان جهله وعدم معرفته بالوضع أو من جهة تصادم ظهوره عنده بما يصلح للقرينية عليه من الأمور المحفوفة بالكلام ، ومبينا عند شخص آخر لعلمه ومعرفته بالوضع وعدم تصادم ظهوره بما حف به بنظره ، وهو واضح.

ص: 584

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ على ما تيسر لنا من تحرير ما استفدناه بفهمنا القاصر. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

وقد وقع الفراغ عن تسويده في التاسع عشر من ربيع المولود على يد الأقل محمد تقي البروجردي ابن عبد الكريم عفى اللّه عنهما انشاء اللّه تعالى بجاه محمد وآل محمد سنة 1356.

بسمه تعالى

لقد فوّض الى امر تصحيح النسخة الاصل من حيث رعاية اصول اللغة العربية فاجلت النظر فيها وصححت ما وجدت منها غير موافق لتلك الاصول، الا مازاغ عنه البصر، مراعياً لكمال الامانة وربما غيّرت بعضاً طفيفا من الالفاظ بما لا يخرج عن حد الاصلاح اوالتزيين. ومن اليقين رضى المؤلف قدس سره وابتهاجه به رزقنا اللّه تعالى الاخلاص في القول والعمل بمحمد وآله الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين.

قم المشرفة - محمد مؤمن

1362/9/20

ص: 585

ص: 586

فهرس امّهات المطالب

العنوان

الصفحة

المقدمة ... 1

الامر الأول : في بيان تعريف العلم وموضوعه ... 3

حقيقة كلّ علم قواعدة الخاصة ... 5

تمايز العلوم بالأغراض ... 7

هل لكلّ علم موضوع واحد ... 9

تمايز العلوم بالاغراض لا بالموضوعات ... 11

العرض الذاتي ما هو ... 13

تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ... 18

تعريف علم الاصول وموضوعه ... 19

حول تعريف علم الاصول ... 21

الامر الثاني : في الوضع ... 23

شرح حقيقة الوضع - تعريف الوضع ... 25

نقد القول بان الوضع هو التعهّد ... 27

اقسام الوضع ... 32

تصوير اقسام عموم الوضع والموضوع له ... 33

تصوير اقسام عموم الوضع وخصوص الموضوع له ... 35

بيان الممكن من اقسام الوضع ... 37

ص: 587

شرح المعاني الحرفية ... 38

فساد القول بان الحروف علامات ... 39

حول مختار الكفاية في معاني الحروف ... 41

شرح القول بان المعاني الحرفية روابط ... 43

نقد مختار الكفاية ... 45

نقد القول بان معاني الحروف ايجادية ... 47

معاني الحروف انبائية لا ايجادية ... 94

الحروف مطلقا انبائية ... 51

وضع الحروف من ايّ الاقسام ... 53

شرح معاني الهيئات ... 54

معاني هيئات المركبات التامة والناقصة ... 55

معني الجمل الخبرية والانشائية ... 57

في المبهمات ... 58

معنى المبهمات ... 59

الامر الثالث : في اطلاق اللفظ وارادة شخصه ونوعه ... 61

الامر الرابع : هل الالفاظ موضوعه للمعاني المرادة ... 63

الامر الخامس : لا وضع آخر للمركبات ... 65

الامر السادس : لا وضع للمعاني المجازية ... 65

الامر السابع في الحقيقة والمجاز ... 66

علائم الحقيقة والمجاز ... 67

الامر الثامن في ثبوت الحقيقة الشرعية ... 69

هل الحقيقة الشرعية ثابتة ... 71

الامر التاسع في الصحيح والاعم ... 73

المختار هو القول بالأعم وادلّته ... 87

ما استدل به للقول بالصحيح ... 89

ما استدل به للقول بالأعم ... 91

ثمرة القول بالصحيح والأعم ... 95

ص: 588

الكلام في ألفاظ المعاملات ... 96

الصحيح والأعم في المعاملات... 97

اقسام مطلوبية الشيء في العبادة ... 101

الامر العاشر في امكان الاشتراك ووقوعه ايضاً ... 103

الامر الحادي عشر في استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ... 104

استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ... 111

الامر الثاني عشر في المشتقات ... 118

بيان المراد من الحال ... 119

بيان المراد بفعلية التلبس ... 121

خروج المصادر والافعال عن محلّ النزاع ... 123

الاصل في المشتقات ما هو؟ ... 125

الزمان خارج من مدلول الافعال ... 127

هل اسم الزمان داخل في محل النزاع؟ ... 129

عموم النزاع لكل ما كان معناه وصفا جاريا على الذوات ... 131

اختلاف المبادي لا يخرج المشتقات عن محل النزاع ... 133

الحق وضع المشتقات لخصوص الملتبس ... 135

تقرير ادلّة القول المختار ... 137

ادلّة القول بالأعم ونقدها ... 139

ينبغي التنبيه على أمور : الأمر الاوّل : في ان المشتق بسيط أم مركب؟ ... 140

حول بساطة مفهوم المشتق وتركبه ... 145

الكلام فيما استدل به السيد الشريف على البساطة ... 146

حول استدلال الشريف على البساطة ... 149

الامر الثاني جريان النزاع المذكور في اوصاف الممكن والواجب تعالى ... 151

الامر الثالث قيام المبدأ بالذات لازم في صدق جميع المشتقات ... 153

الادعاء كاف في صدق المشتق حقيقة ... 155

* * *

ص: 589

المقصد الأول في الأوامر

وفيه مباحث : « المبحث الأول فيما يتعلق بمادة الامر »

معنى مادة الامر ... 157

حول اعتبار العلوّ في معنى المادة ... 159

هل المادة حقيقة أو ظاهرة في الوجوب؟ ... 161

اطلاق المادة يقتضي الوجوب ... 163

حول اتحاد الطلب والارادة ... 165

المبحث الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر ... 177

دلالة الصيغة على الوجوب ... 179

الجمل الخبرية المستعملة في مقام الانشاء ... 181

التعبدي والتوصلّي ... 183

التعبديات على قسمين ... 185

مقدار القرب المعتبر في العبادات ... 187

امتناع اخذ قصد القربة في متعلق الامر ... 189

الامر يدعو الى ما اتي به بقصد القربة ... 193

اخذ القربة في المتعلق بتعدد الامر ... 195

وجه دقيق لاخذ قصد الامر في متعلق نفسه ... 197

اطلاق الاوامر يقتضي التوصلية ... 199

الاصل العملي في المقام هو البرائة ... 201

هل اطلاق الامر يقتضي اعتبار المباشرة ... 203

اطلاق الخطاب يقتضي اعتبار المباشرة ... 205

مقتضى الاطلاق بالنسبة الى الاختيار ... 207

اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعينيّا عينياً وهل الامر الواقع عقيب الحظر ظاهر في الوجوب؟... 209

في المرة والتكرار ... 211

ما استدل به للقول بالتكرار ونقده ... 214

ص: 590

ثمرة الاقوال في المرة والتكرار ... 217

في الفور والتراخي ... 219

المبحث الثالث في الاجزاء ... 222

شرح الالفاظ الواقعة في العنوان ... 223

اجزاء الاتيان بكل مأمور به عن امر نفسه ... 225

اجزاء الماتي به الاضطراري عن الاختياري ... 272

حول الإجزاء في الأمارات ... 245

حول إجزاء المأتي به بالأمر الاستصحابي ... 247

حول الإجزاء في العمل بالبرائة الشرعية ... 249

هل العمل بأصاله الحل يقتضي الإجزاء ... 251

حول الإجزاء في العمل بأصالة الطهارة ... 253

تنبيهات البحث ، عدم الإجزاء في العمل بالقطع اذا انكشف الخلاف ... 255

القول بالإجزاء غير التصويب ... 725

المبحث الرابع : في مقدمة الواجب ... 258

مسألة مقدمة الواجب من المسائل الاصولية ... 259

مسألة مقدمة الواجب مسألة اصولية عقلية ... 261

هل المقدمات الداخلية داخلة في محل النزاع ... 263

نفي مناط المقدمية عن إجزاء المركب الاعتباري ... 265

نفي المقدمية عن إجزاء المركب الاعتباري ... 267

المقدمات الداخلية خارجة عن محل النزاع مطلقا ... 269

تقسيم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية ... 270

تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ، والعلم ... 271

تقسيم المقدمة إلى المقتضى والشرط وعدم المانع ... 273

هل عدم المانع مقدمة ... 275

بيان كيفية دخل الشرائط والموانع ... 277

دفع اشكال الشرط المتأخر ... 792

دفع اشكال الشرط المتأخر للتكليف أو المكلف به ... 283

ص: 591

تصوير الشرط المتأخر في الأحكام الوضعية ... 286

مقتضي الاطلاق ان الشرط مقارن ... 289

تقرير الاشكال في وجوب المقدمات المتعددة ودفعه ... 291

تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجوب والواجب وتقسيم الثاني إلى المعلق والمنجز... 292

بيان الفرق الماهوي بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب ... 293

في تصوير الواجب المشروط على المختار ... 295

حق المقال في تصوير الواجب المشروط ... 297

وجوب المقدمات المفوتة قبل وجوب ذيها ... 299

تصوير فعلية الوجوب قبل وجود شرطه في الخارج ... 301

في تصوير الواجب المعلق ... 303

ما قيل في ابطال الواجب المعلق ، ونقده ... 305

نقد التقريب الاولى لنفي الواجب المعلق ... 307

نقد سائر ما قيل في ابطال المعلّق ... 309

توهم رجوع المعلق الى المشروط ... 311

حول امتناع رجوع الشرط الى الهيأة وامكانه ... 313

بيان امكان رجوع القيد الى الهيأة ... 315

نقد جواب آخر في هذا المقام ... 317

حول وجوب المقدمات المفوتة ... 319

دوران الامر بين رجوع القيد الى الوجوب والواجب ... 323

تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري ... 324

تقربية الاوامر الغيرية ... 327

ملاك عبادية الطهارات الثلاث ... 329

تقسيم الواجب إلى النفسي والتهيئي ... 331

تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي ... 332

هل الواجب خصوص المقدمة الموصلة؟ ... 333

الحق ان الواجب مطلق المقدمة ... 335

تشييد القول بوجوب مطلق المقدمة ... 337

ص: 592

حول محاذير القول بخصوص الموصلة ... 339

بيان دقيق للقول بالمقدمة الموصلة ... 341

تأييد اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة ... 343

حول ثمرة القول بوجوب الموصلة ... 344

حول ثمرة القول بالمقدمة الموصلة على المختار ... 347

ثمرة أصل المسألة ... 348

حول ثمرة القول بوجوب المقدمة ... 349

تأسيس الأصل في المسألة ... 350

أدلة الأقوال في وجوب المقدمة ... 351

ادلّة القول بوجوب المقدمة ... 353

حول التفصيل بين السبب وغيره ... 355

مقدمة المستحب والمكروه والحرام ... 356

المبحث الخامس في الضد ... 359

حول تقريب الاقتضاء من ناحية المقدمية ... 361

حول تقريب المقدمية ونقده ... 363

اقسام ضد المأمور به ... 365

امكان الامر بالضدين المتساويين معاً بوجوب ناقص ... 367

اسراء التصوير المذكور الى الواجبات التخييرية ... 369

جواز الامر بالاهم والمهم معاً بالتصوير المذكور ... 371

اغناء البيان المذكور عن القول بالترتب ... 373

الكلام في الترتب ... 374

صحة الأمر بالضدين بنحو الترتب ... 375

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد العام ... 377

المبحث السادس في جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ... 378

المبحث السابع في انه هل الأمر والطلب متعلق بالوجود أو الطبيعي ... 380

الأمر متعلّق بالطبيعة لا بوجودها ... 381

في امكان المصالحة بين الفريقين ... 383

ص: 593

المبحث الثامن اذا تعلق الامر بعنوان فهل يسرى الى افراده أم لا؟ ... 384

ذكر مقدمة نافعة لوضوح الحق في المقام ... 385

توضيح المختار من تعلق الامر بالطبيعة ... 387

المبحث التاسع في انه اذا نسخ الوجوب هل يبقي الجواز أم لا؟ ... 389

المبحث العاشر في الواجب التخييري ... 391

التخيير بين الأقل والأكثر ... 393

المبحث الحادي عشر في الواجب الكفائي ... 394

تصوير الواجب الكفائي ... 395

المبحث الثاني عشر في الواجب الموقت ... 396

هل القضاء بالامر الاول ... 397

المبحث الثالث عشر هل الامر بالامر بشيء امر بذلك الشيء أم لا ... 399

المبحث الرابع عشر هل الامر الثاني تأسيس أم تأكيد ... 401

المقصد الثاني : في النواهي

وفيه مباحث : المبحث الاوّل في مفاد الهيئة في النهي

في ان النهي عن الطبيعة يقتضي ترك جميع الافراد ... 403

توجيه اقتضاء النهي عن الشيء لترك جميع افراده ... 405

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي ... 407

في ان النزاع في المسألة صغروي ... 409

الفرق بين هذه المسألة والنهي عن العبادة ... 411

هل الجمع على الامتناع داخل في باب التزاحم والتعارض ... 413

في ان اختلاف العناوين لا يقتضي كونها مقولات ... 415

انحاء العناوين المختلفة ... 417

مجرد اختلاف العناوين لا يقتضي كونها مقولتين ... 419

في ان الحكم المتعلق بالجامع يسرى الى حصته المحفوظة في الفرد ... 421

انواع تزاحم ملاكات الاحكام وبيان مقتضاها ... 423

في بيان المختار في المسألة وهو التفصيل ... 425

ص: 594

توضيح نتيجة المختار في الموارد المختلفة ... 427

مسألة الصلاة في محل مغصوب ... 429

تلخيص ما تقدم على المختار ... 433

تنبيهات المسألة ، جريان النزاع في المعاملات ... 435

ابتناء جريان النزاع على احراز ملاك الحكمين في الجمع ... 437

احراز الملاك من اطلاق المادة ... 439

لوازم باب التعارض والتزاحم ... 441

حكم صور الاضطرار الى الغصب ... 445

المبحث الثالث في اقتضاء النهى للفساد ... 450

تحرير محل النزاع ... 451

النواهي التحريمية خارجة عن محل النزاع ... 453

التأكيد على خروج النهي التحريمي عن محل النزاع ... 455

المقام الأوّل في النهي المتعلق بالعبادة ... 456

مجرد النهي عن العبادة لا يقتضي الفساد ... 745

المقام الثاني في النهى المتعلق بالمعاملة ... 459

نقد الاستدلال بالنصوص لاقتضاء الفساد ... 461

حول القول باقتضاء النهي للصحة ... 463

اقسام التشريع وحكمها ... 465

تأكيد ان التشريع لا يوجب الفساد ... 467

المقصد الثالث في المفاهيم

حول تعريف المفهوم ... 469

ابتناء ثبوت المفهوم على تعليق سنخ الحكم ... 471

الارشاد الى طريق استخراج المفهوم ... 473

حول الاشكال على استفادة تعليق السنخ ... 475

دفع الاشكال بوجهين ... 477

مفهوم الشرط ... 478

ص: 595

تنبيهات مفهوم الشرط ... 483

التداخل فيما تعدد الشرط واتحد الجزاء ... 485

التداخل فيما تعدد الشرط وتعدد الجزاء ... 491

التداخل فيما كان الجزاء واحد صورة لا حقيقة ... 493

مقتضي الاصل عند الشك في التداخل ... 495

مفهوم الغاية ... 497

مفهوم الوصف ... 499

مفهوم الاستثناء ... 501

مفهوم الحصر واللقب ... 502

مفهوم العدد ... 503

المقصد الرابع في العموم والخصوص

العموم واقسامه ... 505

دخول اداة العموم على التثنية والجمع ... 507

هل استفادة العموم متوقفة على مقدمات الإطلاق ... 509

اختلاف انواع ادواة العموم ... 151

حجية العام بعد التخصيص وعدمها ... 512

حجية العام المخصص بالمبين في الباقي ... 513

حكم الرجوع الى العام في الشيهة المفهومية للمخصص ... 515

التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص ... 517

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ... 519

تقريب جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ... 521

نقد التقريب المذكور للمجاز ... 523

بيان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ... 525

مرجعية الاصل العملي في الشبهة المصداقية ... 527

اشتراط حجية العام بالفحص عن المخصص ... 529

الخطابات الشفاهية ... 531

ص: 596

الاستثناء الواقع عقيب الجمل ... 541

تعقب العام بضمير بعض افراده يوجب تخصيصه به أم لا؟... 544

جواز تخصيص العام بالمفهوم لمخالف وعدمه ... 546

جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد وعدمه ... 548

دوران الامر بين النسخ والتخصيص ... 550

الاصل العملي في دوران الامر بين التخصيص والنسخ ... 553

دوران الامر بين النسخ والتخصيص ... 555

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

اعتبارات الماهية بالنسبة الى القيد ... 561

تأييد مسلك السلطان في اسامي الاجناس ... 563

علم الجنس ، المحلى باللام ، النكرة ... 565

الاحتياج الى الاطلاق في مقدمات الحكمة ... 567

نتيجة المطلقات ارادة الطبيعة المطلقة ... 569

من المقدمات كون المتكلم في مقام البيان ... 571

حول مقدمية عدم القدر المتيقن ... 575

الجمع بين المطلق والمقيد ... 579

المقصد السادس في المجمل والمبين 583

الفهارس ... 586

ص: 597

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

الصفحات: 496

الجزء الثالث

من كتابنهاية الأفكار

في مبحث القطع والظن وبعض الاصول العلمية

لحضره

حجة الاسلام والمسلمين آية اللّه في العالمين الورع التقي الشيخ محمد تقي البروجردي دامت افاضاته بالنبي وآله

تأليف الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي قدس سره

المصححة بيد المؤلف قدس سره الشريف

انتشارات اسلامي

وابسته بجامعه مدرسين حوزه علميه قم

ص: 1

اشارة

سرشناسه: عراقي، ضياء الدين، 1240 - 1321.

عنوان و نام پدیدآور: نهاية الأفكار «في مباحث الألفاظ» / تقرير أبحاث ضياء الدين العراقي ؛ تأليف محمد تقي البروجردي النجفي.

مشخصات نشر: قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم ، مؤسسة النشر الإسلامي، 1422ق.=1380.

مشخصات ظاهري: 4 ج. (در 3 مجلد).

فروست: (مؤسسة النشر الاسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم؛ 196، 198، 199.

شابك: (دورة): 3-272-470-964-978؛ ج. 2-1: 0-950-470-964-978

ج. 3: 7-951-470-964-978؛ ج. 4: 4-952-470-964-978.

یادداشت: عربي.

یادداشت: چاپ قبلی: مؤسسة النشر الإسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1405 ق.= 1365.

یادداشت: ج. 1-4 (چاپ ششم: 1435 ق. = 1393).

یادداشت: كتابنامه.

یادداشت: ج. 3. في مبحث القطع والظن وبعض الأصول العلمية. - ج. 4. في مبحث الاستصحاب.

موضوع: مباحث ألفاظ.

شناسۀ افزوده: جامعۀ مدرسين حوزۀ علميۀ قم. دفتر انتشارات اسلامي.

رده بندی كنگره: 1380 9 ن 4 ع / 164 BP

رده بندی دیویی: 297/31

شمارۀ كتابشناسي ملّي: 17890-81م.

نهاية الأفكار (ج 3)

تأليف: الفقيه المحقّق والأصولي المدقّق الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (طاب ثراه)

تقرير أبحاث: العلّامة المحقّق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 608

الطبعة: السابعة

المطبوع: 300

التاريخ: 1438 ه.ق

شابك ج 1-2: 0-950-470-964-978

ISBN 978-964-470-950-0

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

هذا هو

هذا هو

الجزء الثالث من كتاب

نهاية الأفكار في مبحث القطع

والظن وبعض الأصول

العملية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين الغر الميامين ولعنة اللّه على أعدائهم ومخالفيهم أجمعين إلى قيام يوم الدين « وبعد » فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الموسوم بنهاية الأفكار وهو يشتمل على مهمات مباحث القطع والظن وبعض الأصول العملية وهي نتيجة ما استفدناه من بحث أستاذ الفقهاء والمجتهدين شيخنا العلامة آية اللّه العظمى الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره فنقول وبه نستعين « اعلم » ان كل من وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فاما ان يحصل له القطع به أو الظن أو الشك فيه ، ولا اشكال في اختلاف هذه الأقسام بحسب اللوازم والاحكام كما سنحررها في محالها ( كما لا ينبغي ) الاشكال أيضا في عموم ما يذكر لها من الاحكام لكل من المجتهد والمقلد ( إذ لا وجه ) لتخصيصها بالمجتهد بعد اطلاق أدلتها ( عدا توهم ) كونه من مقتضيات اختصاص عناوين موضوعاتها بخصوص المجتهد ، بتقريب ان حصول تلك الصفات من القطع والظن والشك انما هو فرع الالتفات التفصيلي إلى الحكم الشرعي ومثله مختص بالمجتهد ، والا فالعامي من جهة غفلته لا يكاد تحصل له تلك الصفات ، وعلى فرض حصولها له لا عبرة بظنه وشكه بعد عجزه عن تشخيص موارد الأصول والامارات ومجاريها وعدم تمكنه من فهم مضامينها والفحص التام في مواردها ، والحال ان اختصاص تلك الخطابات بالمتمكن من تشخيص مجاريها والقادر على الفحص التام في مواردها في الوضوح كالنار على المنار ، كوضوح اختصاص خطاب لا تنقض أيضا بمن أيقن الحكم الفعلي وشك في بقائه وعدم شموله لغيره ( ولكنه كما ترى ) إذ نقول انه لا مانع من فرض حصول الصفات المزبورة لغير المجتهد أيضا كما

ص: 3

في كثير من المحصلين غير البالغين مرتبة الاجتهاد ، فإذا فرض حينئذ شمول اطلاقات أدلة الامارات والأصول لمثله يتعدى إلى العامي المحض بعدم القول بالفصل ( واما ) شبهة عدم تمكنه من الفحص عن الأدلة والبحث فيها ( فتندفع ) بقيام المجتهد مقامه بمقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء ، فيكون فحصه عن الدليل وعن المعارض فحصه وترجيحه لاحد الخبرين ترجيحه ، بل بهذا الاعتبار يكون يقينه وشكه أيضا بمنزلة يقينه وشكه في شمول اطلاقات الأدلة ، بلا احتياج إلى اتعاب النفس في التشبث بعدم الفصل ( مع أنه ) يمكن فرض حصول اليقين والشك للعامي المحض أيضا في الشبهات الحكمية بعين فرض حصولها للمجتهد فإنه كما أن المجتهد برجوعه إلى الأدلة في حكم الماء المتغير بالنجاسة مثلا يحصل له اليقين بنجاسته وبعد زوال تغيره من قبل نفسه وعدم ظفره بدليل يقتضي طهارته أو نجاسته حينئذ يشك في بقاء نجاسته السابقة ، كذلك العامي فإنه برجوعه إلى الفقيه في حكم الماء المتغير بالنجاسة وافتائه إياه بالنجاسة يحصل له اليقين بنجاسته لان فتوى الفقيه بالنسبة إليه بعينه كالامارة القائمة لدى المجتهد على النجاسة في الحجية بمقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء ( وحينئذ ) لو زال تغيره من قبل نفسه يشك قهرا في بقاء ذلك الحكم الكلي أعني النجاسة ، وبعد رجوعه ثانيا إلى الفقيه في حكم المسألة وعدم افتائه بالنجاسة الواقعية بل واعلامه بعدم ظفره في هذا الحال بدليل يقتضى طهارته أو نجاسته ، يستقر شكه قهرا ، فيتوجه إليه حينئذ خطاب لا تنقض من جهة تحقق كلا ركنية بالنسبة إليه وهما اليقين السابق والشك اللاحق ، غير أنه لما كان غير عارف بمضمون هذا الخطاب وما يقتضيه من الوظيفة الفعلية ينوب عنه المجتهد بمقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء كنيابته عنه في التكاليف الواقعية فيفتيه حينئذ بنفس الاستصحاب الذي هو مفاد لا تنقض كافتائه إياه بالحكم الواقعي ( ونتيجة ذلك ) هو تخير المجتهد عند رجوع العامي إليه بين الافتاء بالواقع بمقتضى الاستصحاب الجاري في حق نفسه ، وبين اقراره على شكه وافتائه بالأخذ باليقين السابق وعدم نقضه بالشك بالخلاف ( وهذا ) بخلاف مبنى تخصيص تلك الخطابات بالمجتهد ، فإنه يتعين عليه الافتاء بنفس الواقع حسب الاستصحاب الجاري بالنسبة إليه وليس له الافتاء بالاستصحاب والاخذ باليقين السابق هذا ( وقد ) يتوهم منافاة ما ذكرناه من التعميم لما هو المعهود من ديدن أرباب الفتاوى قديما وحديثا على

ص: 4

الافتاء بالحكم الواقعي عند رجوع العامي إليهم حيث لم يعهد منهم ولو في مورد ما الافتاء في الاحكام الكلية بالحكم الأصولي فيقال انه يستكشف من بنائهم المزبور فهمهم تخصيص تلك الخطابات بخصوص المجتهد وعدم شمولها للعامي ( ولكنه مندفع ) أولاً بمنع استقرار ديدن الأصحاب على ذلك ( وثانيا ) بمنع كشف مثله عن فهم اختصاص المجتهد بتلك الاحكام ، كيف ومن المحتمل قويا كون الوجه في بنائهم المزبور هو التسهيل على العامي ومع هذا الاحتمال كيف يبقى المجال للكشف المزبور.

( ثم اعلم ) ان تثليث الأقسام في المقام انما هو بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث الوجوب والامكان والامتناع لا بلحاظ مرحلة الحجية الفعلية ، حيث إن القطع من جهة تماميته في الكشف عن الواقع مما وجب حجيته عقلا ولا يعقل المنع عنه ، والظن من جهة نقصه في الكاشفية مما أمكن حجيته شرعا ، واما الشك فحيث انه لا كشف فيه أصلا لكونه عبارة عن نفس الترديد بين الاحتمالين الذي هو عين خفاء الواقع كان مما يمتنع حجيته ويستحيل اعتباره حجة في متعلقه ، لان اعتبار الحجية والطريقية انما يكون فيما من شأنه الكشف عن الواقع ولو ناقصا لا فيما لا يكون كذلك ، نعم أحد طرفي الشك وهو الاحتمال فيه جهة كشف ضعيف عن الواقع كالوهم المقابل للظن فأمكن اعتباره شرعا حجة في متعلقه بتتميم كشفه ، ولكنه خارج عن الفرض إذ الكلام في نفس الشك بما هو شك وترديد بين الاحتمالين والى ذلك نظر الشيخ قدس سره في تثليث الأقسام في المقام كما صرح به في أول البراءة بقوله القطع حجة في نقسه لا يجعل جاعل الخ فراجع ( وحينئذ ) فلا يتوجه عليه ما أفيد من الاشكال ( تارة ) بأنه لا وجه لتخصيص العلم في التقسيم المزبور بخصوص ما تعلق بالحكم الواقعي بعد كون موضوع الآثار المرغوبة هو العلم بمطلق الحكم الفعلي ولو ظاهريا ، وعليه فلابد وأن يكون التقسيم ثنائيا لدخول الشك الموضوع للوظائف الشرعية في اقسام العلم بمطلق الحكم ( وأخرى ) بأنه لا مقابلة حقيقية بين الظن والشك فيما هو الغرض المهم ، إذ ليس الظن بما هو ظن مانعا من اجراء ، الأصول كي تصح لأجله المقابلة المزبورة ، وانما المانع من اجرائها هو وجود الحجة ومانعية الظن أيضا كانت بهذا الاعتبار لا بما هو ظن وعليه فلا يستقيم المقابلة بين الظن والشك ، إذ يلزم تداخل القسمين في الحكم بحسب المصداق ، فإنه رب

ص: 5

ظن يكون ملحقا بالشك كالظن الغير المعتبر ، وبالعكس رب شك يكون ملحقا في الحكم بالظن ( وثالثة ) بأنه لا يصح بل ولا يعقل جعل الشك الموضوع للوظائف الفعلية عبارة عن الشك بالحكم الفعلي لاستحالة وقوع الشك بالحكم الفعلي موضوعا للوظائف الفعلية فلابد حينئذ من جعل متعلقه أعم من الحكم الفعلي والشأني ولازمه بمقتضى المقابلة جعل متعلق العلم أيضا عبارة عما يعم الفعلي والشأني ( وانما قلنا لا يتوجه ) لابتناء ذلك كله على كون التقسيم بلحاظ الحجة الفعلية ، والا فعلى ما ذكرنا من كونه بلحاظ خصوصيات الأقسام من حيث الاقتضاء لوجوب الحجية أو الامكان أو الامتناع لا يتوجه تلك المحاذير ، ضرورة صحة المقابلة حينئذ بين الظن والشك وبينهما وبين القطع ولا يتوجه أيضا محذور تداخل الأقسام ، ومجرد عدم اختصاص الآثار المرغوبة في القطع بخصوص القطع بالحكم الواقعي حينئذ كما ذكر في الاشكال الأول لا يقتضي تثنية الأقسام بعد فرض تعلق الغرض باستيفاء مباحث الأقسام الثلاثة ، إذ حينئذ لابد من جعل متعلق العلم عبارة عن خصوص الحكم الواقعي كي به يصح تثليث الأقسام توطئة لبيان موضوع المسائل الآتية ( والا ) فعلى فرض تثنية الأقسام لا يناسب التقسيم للتوطئة المزبورة خصوصا مع ما يلزمه أيضا من لزوم كون البحث عن حجية الظن والاستصحاب ومبحث التراجيح من مبادي القطع بالحكم لان نتيجتها مما تورث القطع بالحكم الظاهري مع أنه كما ترى لا داعي للمصير إليه ( ومن ذلك ) ظهر النظر أيضا فيما أفيد من التقسيم الاخر بقوله ان المكلف اما ان يحصل له القطع أو لا وعلى الثاني فاما ان يقوم عنده طريق معتبر أو لا ، إذ ذلك أيضا مضافا إلى عدم مناسبته لتوطئة بيان موضوع المباحث الآتية يلزمه كون البحث عن حجية الظن بحثا عن ثبوت الشيء لا عن ثبوت شيء لشئ ( واما الاشكال ) الأخير الناشئ عن عدم امكان جعل الشك الموضوع الوظائف الشرعية عبارة عن الشك بالحكم الفعلي ، فهو أيضا مبني على عدم امكان الجمع بين فعلية الاحكام الواقعية والظاهرية ( والا ) فبناء على امكانه على ما سيجيء توضيحه بما لا مزيد عليه فلا وقع لهذا الاشكال أيضا وحاصله هو ان ما لا يجامع الترخيص الشرعي انما هو الفعلي بقول مطلق بنحو يقتضي عدم قناعة الشارع بصرف خطابه الواقعي المتعلق بذات العمل في ظرف جهل المكلف به ولزوم صيرورته بصدد تحصيل

ص: 6

مقصوده في مرتبة الجهل بخطابه بايجاد الداعي للمكلف ولو بانشاء آخر من ايجاب احتياط ونحوه لكي يرفع به عذره العقلي على المخالفة ، ولكن مثل هذه المرتبة من الفعلية ، كما لا يجامع الترخيص الشرعي على الخلاف ، لا يجامع أيضا العذر العقلي فلابد من المصير إلى نفي فعليته حتى في مورد الترخيص العقلي ( واما الفعلي ) من قبل المولى الراجع إلى كونه بصدد تحصيل مقصوده من ناحية خصوص خطابه الواقعي المتعلق بذات العمل لا من جميع الجهات حتى من ناحية المقدمات المتأخرة من خطابه الواقعي ( فمثله ) مما لا شبهة في اجتماعه مع الترخيص الشرعي كاجتماعه مع العذر العقلي لأجل الجهل ، ولا نعني من الحكم الفعلي المشترك بين العالم والجاهل الا هذا فتدبر ( وكيف كان ) فبعد ان عرفت تثليث الأقسام فلنرجع إلى بيان ما يخص كل واحد منها من اللوازم والاحكام ( فنقول ) ان اشباع الكلام فيها يقع في طي مقاصد.

المقصد الأول في القطع

الجهة الأولی

وفيه جهات من البحث ( الجهة الأولى ) لا شبهة في وجوب متابعة القطع عقلا والوجه فيه ظاهر فان القطع من جهة كونه بذاته وحقيقته عين انكشاف الواقع بالكشف التام والوصول إليه بحيث يرى القاطع نفسه واصلا إلى الواقع إذا فرض تعلقه بحكم من الاحكام يكون له السببية التامة لحكم العقل تنجيزا بوجوب المتابعة ( على معنى ) حكمه بلزوم صرف الغرض والإرادة نحو امتثال امر المولى الراجع إليه أيضا حكمه بحسن الإطاعة وقبح المخالفة « لا بمعنى » حصول الحالة الانقداحية والمحرك العقلاني للجري إلى العمل على وفقه « لان » مثل هذا المعنى عند انكشاف الواقع وتعلق فعلية الغرض بالحركة نحو المقصود امر قهري الحصول والتحقق بمقتضى الجبلة والفطرة ، ومثله غير مرتبط بمرحلة التحسين والتقبيح العقلين ولذا ترى جريانه بالنسبة إلى غير الانسان من أصناف الحيوانات أيضا ، وبالجملة محل الكلام في المقام انما هو المرتبة الأولى أعني سببية القطع لحكم العقل تنجيزا بتحسين صرف الإرادة نحو امتثال امر المولى ( والا ) فالمرتبة الأخيرة تابعة لفعلية غرض المكلف بصرف ارادته نحو الطاعة والامتثال فان تعلق غرضه الفعلي بذلك يتحقق قهرا بمقتضى الجبلة تلك الحالة الباعثة للجري العملي نحو المقصود ، والا فلا ( وعلى كل حال ) فبعد ان

ص: 7

عرفت الجهة الكاشفية والطريقية الذاتية للقطع وسببيته التامة لحكم العقل التنجيزي بلزوم المتابعة وحسن الطاعة في المرحلة الأولى ولتحقق الحركة نحو المقصود في ظرف تعلق الغرض الفعلي بتحصيله في المرحلة الأخيرة ( نقول ) انه من المستحيل حينئذ قابلية مثله لتعلق الردع به ( لان الردع ) عنه اما ان يرجع إلى سلب طريقيته تكوينا واما ان يرجع إلى المنع عن متابعته والعمل على وفقه تشريعا ( والأول ) واضح الاستحالة لبداهة امتناع سلب ما هو ذاتي الشيء عن الشيء أو اثباته له ، بل ولا يظن أيضا توهمه من أحد ( واما الثاني ) فعدم امكانه أيضا بالنسبة إلى المرحلة الأخيرة واضح لما عرفت من أن في ظرف انكشاف الواقع وتعلق الغرض الفعلي بتحصيل المقصود تكون الحركة على وفق المقصود قهرية بحيث لا يمكن الردع عنها الا بسلب جهة كشفه ، واما بالنسبة إلى المرحلة الأولى أعني حكم العقل بتحسين صرف الإرادة نحو الطاعة ، فعدم امكانه انما هو من جهة منافاته لحكم العقل التنجيزي بوجوب المتابعة وحسن الطاعة ، لان مرجع ردعه حينئذ إلى ترخيصه في معصيته وترك طاعته ومثله كما ترى مما يأبى عنه الوجدان ولا يكاد يصدقه بعد تصديقه بالخلاف لكونه من التناقض في نظر القاطع وان لم يكن كذلك بحسب الواقع ( ولا يقاس ) المقام بالنهي عن الظن القياسي عند الانسداد على الحكومة ، فإنه لو قيل بصحة النهي المزبور حينئذ ، فإنما هو من جهة دعوى تعليقية حكم العقل هناك بعدم ورود منع شرعي على الخلاف الناشئ ذلك من جهة قصور الظن ونقصه في الكاشفية ، إذ حينئذ بنهي الشارع عن القياس لا يبقى حكم للعقل بلزوم الاخذ بالظن كي يتحقق بينهما التنافي والتضاد ، وهذا بخلاف المقام المفروض فيه تنجيزية حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المخالفة حيث إن في مثله يتحقق بينهما التنافي والتضاد فيأبى العقل حينئذ عن امكان مجيء الردع عن قطعه لما يرى من كونه ترخيصا في معصيته وترك طاعته ، كما أنه على التنجيزية هناك أيضا نلتزم بعدم امكان الردع عن الظن القياسي ( نعم لو قيل ) في المقام أيضا بتعليقية حكم العقل بوجوب المتابعة كما قيل به في العلم الاجمالي ، كان لدعوى صحة الردع عن متابعة القطع مجال واسع ( ولكن ) عهدة اثباتها على مدعيها ( ولكن ) على هذا المبني لا مجال للمنع عن صحة الردع بما أفيد من برهان المناقضة ومحذور التسلسل الناشئ من جهة ذاتية الطريقية للعلم ( إذ نقول ) ان المقصود من

ص: 8

برهان المناقضة ان كان مناقضة ترخيصه مع الحكم الشرعي المحفوظ في الرتبة السابقة على القطع ( ففيه ) انه لا مناقضة ولا تضاد بينهما بعد كون مرجع ردعه إلى الترخيص في الرتبة اللاحقة عن القطع ، كيف وانه بذلك يختلف الرتبة بين الحكمين فيرتفع المناقضة والتضاد من البين ( وان كان ) المقصود مناقضته مع الحكم العقلي في الرتبة المتأخرة عن القطع ( ففيه ) انه مبني على ثبوت تنجيزية حكم العقل بوجوب المتابعة لأنه من مبادي المناقضة المزبورة والا فعلى فرض تعليقيته لا يكاد يبقى مع الردع عنه حكم للعقل بوجوب المتابعة كي ينتهى الامر بينهما إلى مقام المضادة والمناقضة ( واما ) محذور التسلسل ، فهو أيضا مما ينقطع بانقطاع الردع لما هو المفروض من حكم العقل بدونه بلزوم المتابعة ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن امكان مجيء الردع هو اثبات تنجيزية حكم العقل ويكفي في اثباته ما ذكرناه من الوجدان وابائه بحسب الارتكاز عن امكان مجيء ردع عن العمل بقطعه لكونه ترخيصا من الشارع في المعصية وترك الطاعة.

( ايقاظ ) لا يخفى ان الآثار المترتبة على القطع من نحو وجوب الطاعة عقلا أو الجري عملا انما كانت آثارا لنفس القطع بحيث كان القطع بما هو طريق إلى الواقع تمام الموضوع للآثار المزبورة ( لا انها ) من آثار المقطوع والمرئي بوجوده الواقعي كما توهم ، كيف وفى ملاحظة موارد الجهل المركب شهادة على خلافه كما في القاطع بالتكليف بالقطع المخالف للواقع حيث إنه بمجرد قطعه يترتب عليه حكم العقل بلزوم الامتثال وحسن الإطاعة ولذا لم يشك أحد في حسن الانقياد وكالعطشان القاطع بكون السراب ماء والجبان القاطع بكون الشبح أسدا ( حيث ) يرى بالوجدان انقداح تلك الحالة الباعثة للتوجه نحو السراب والفرار عن الشبح ، مع أنه لا واقع لمقطوعه في الخارج ، وبالعكس في القاطع بكون الخمر ماء والماء سرابا والأسد شبحا ، حيث لا حكم للعقل في الأول بوجوب الاجتناب ولا ينقدح في النفس تلك الحالة الباعثة للتوجه نحو الماء ( فإنه ) يكشف ذلك كله عن ما ذكرناه من كون تلك الآثار من اثار العلم والكاشف ومن لوازم المرئي بوجوده الزعمي الملحوظ كونه في لحاظه مرآة للخارج بنحو لا يلتفت بهذا اللحاظ إلى ذهنيته لا من آثاره بوجوده الواقعي ( ولعل ) منشأ التوهم المزبور أيضا هو ما يقتضيه العلم وغيره من الصفات من التعلق أولاً وبالذات بالصور الذهنية الملحوظ كونها مرآة للخارج بنحو لا يلتفت إلى ذهنيتها الا

ص: 9

بلحاظ اخر ثانوي ، فان هذه الجهة من المرأتية للخارج صار منشأ لتخيل كون تلك الآثار آثارا للمرئي بوجوده الخارجي الذي هو المعلوم بالعرض ، مع كونها بحسب الدقة والحقيقة بالنظر الثانوي من اثار المرئي بوجوده الذهني ومن لوازم نفس العلم من حيث منوريته وكاشفيته ( ثم إن ذلك ) بالنسبة إلى الأعمال المترتبة على القطع ، واما الآثار الشرعية كحرمة الشرب مثلا في الخمر فلا ريب في كونها مترتبة على نفس عناوين موضوعاتها بوجودها ، الواقعي بلا مدخلية فيها للقطع أصلا.

الجهة الثانية

لا ريب في أن مرجع القطع بكل شيء انما هو إلى تعلقه بالنسبة بين الشيء ووجوده أو وصفه العنواني كخمرية الموجود أو بالنسبة بين المعنون بالوصف العنواني والمحمول المترتب عليه ، وبهذه الجهة قيل إن القطع بكل قضية هو عين اثبات النسبة فيها على معنى الحكم بالثبوت المساوق للتصديق بثبوتها الذي هو أحد اجزاء القضية على القول بالتربيع في اجزائها ، وبذلك يكون القطع بكل شيء من شؤون النسبة بين المنتسبين وفى رتبة متأخرة عنها ، ولازمه هو امتناع اخذ عنوانه في أحد طرفيها من الموضوع أو المحمول بلحاظ تأخر رتبته عن النسبة المتأخرة عنهما ( وبذلك ) لابد من تجريد كل من المنتسبين من مثل هذا الشأن بحيث لو تشكل القضية يقال هذا موجود أو خمر أو حرام من دون اخذ عنوانه جزءا للموضوع أو المحمول بان يقال هذا مقطوع الخمرية أو مقطوع الحرمة ونحو ذلك ، كيف وان عنوان الموضوع امر واقعي يدور مدار واقعه وكذا المحمول المترتب عليه يدور ترتبه مدار واقع عنوان الموضوع من غير أن يكون لعنوان القطع به دخل في ترتبه على موضوعه ( ومن هذه الجهة ) نقول أيضا بعدم صحة اطلاق الحجة بمعناها المصطلح على القطع على نحو اطلاقها على غيره وان صح اطلاقها عليه بمعنى آخر وهو القاطعية للعذر ، فان الحجة بالمعنى المصطلح في فن الميزان عبارة عن الوسط الذي به يحتج لثبوت الأكبر للأصغر لما بينه وبين الأكبر الذي أريد اثباته للأصغر من نحو علقة وربط ثبوتي بنحو العلية أو المعلولية أو التلازم كما في التغير في قولك العالم متغير وكل متغير حادث « ومن المعلوم » بداهة عدم تصور ذلك بالنسبة إلى القطع الطريقي الذي شانه مجرد التصديق بثبوت النسبة بين المنتسبين ،

ص: 10

إذ لا يكاد يطلق عليه الحجة بالمعنى المزبور ولا يصح اخذ عنوانه في أحد المنتسبين من الموضوع أو المحمول في مقام تأليف القياس بمثل ان هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية خمر أو حرام لما عرفت ان عنوان الموضوع امر واقعي يدور مدار واقعه وان ترتب الحرمة انما كان على نفس عنوان موضوعه وهو الخمر من دون ان يكون للقطع دخل في ترتبه عليه بل ولا له علاقة ثبوتية أيضا مع الأكبر ولو بنحو التلازم كما هو واضح ( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ظهر لك عدم صحة اطلاق الحجة في باب الأدلة عليه أيضا ، لان الحجة في باب الأدلة عبارة عن الطرق والامارات الواقعة وسطا لاثبات احكام متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي ومثله لا يكاد يصدق على القطع ، فإنه من جهة ذاتية طريقيته وتماميته كشفه يكون بنفسه عين اثبات الشيء لا واسطة له فمجرد تعلقه بالنسبة بين الشيء ووجوده أو وصفه العنواني كخمرية الموجود بعد احراز أصل الكبرى من الأدلة الخارجية وهو وجوب الاجتناب عن الخمر يقطع بالنتيجة بحيث يقال في مقام تأليف القياس هذا خمر وكل خمر يجب الاجتناب عنه ، بلا احتياج إلى اخذ عنوانه وسطا في القياس المؤلف ولا إلى توسيط جعل شرعي في البين في مثبتيته ( وهذا ) بخلاف الظن فإنه وان كان كالعلم في كونه من شؤون النسبة ، الا انه من جهة نقصه في الكاشفية لاحتمال الخلاف وجدانا لم يكن للعقل حكم في مورده ، بل يحتاج الحكم الجزمي بكون المظنون خمرا أو واجب الاجتناب إلى عناية اثبات من الشارع تتميم جهة كشفه وجعله بهذه العناية من مصاديق العلم والاحراز ، وبهذا الاعتبار يقع وسطا في القياس لاثبات حكم متعلقه فيقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية خمر أو يحرم شربه.

( ثم اعلم ) ان مفاد دليل اعتبار الظن ( تارة ) يكون تتميم الكشف بعناية اعتبار كونه من العلم والاحراز ، وذلك اما بنحو يكون المجعول البدوي هو الطريقية والكاشفية ، واما بنحو يكون المجعول البدوي هو التكليف أعني وجوب المعاملة مع الظن معاملة العلم بحيث يكون عناية اعتبار الظن من مصاديق العلم والاحراز من توابع ذلك الحكم التكليفي المجعول بعكس الأول ( وأخرى ) يكون مفاده مجرد تنزيل المؤدي بادعاء كونه هو الواقع بلا نظر في هذا التنزيل إلى تتميم جهة كشفه ( وثالثة ) يكون مفاده مجرد جعل الحجية للظن ( وعلى التقادير ) قد يمنع عن وقوع الظن وسطا

ص: 11

حقيقة لاثبات حكم المتعلق في القياس المؤلف من مثل هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية كذا ، وليس هو الا صورة قياس أشبه بالمغالطة ( واما على الأول ) فواضح لان نتيجة جعل الطريقية واعمال عناية الاثبات الحقيقي للظن انما هو وقوعه في القياس وسطا لاثبات العلم التعبدي بالواقع بحيث يقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية معلوم الخمرية بالعلم التعبدي ، لا لاثبات حكم المتعلق ، نعم لازم عناية الشارع واعتباره للاثبات هو ترتيب اثار الواقع على الموضوع الذي تعلق به الظن ، ولكن ذلك من نتائج الاثبات والتصديق بثبوت النسبة فلا يرتبط بمقام وسطية الظن لاثبات حكم المتعلق ( واما على الثاني ) وهو كون جعل الاحراز بلحاظ الحكم التكليفي المجعول في البين فلازمه وان كان صحة تأليف القياس ، تارة من حيث جعل الاحراز المنتج لكون الظن بالشيء علما به ، وأخرى من حيث الحكم التكليفي المنتج لوقوع الظن وسطا في القياس لثبوت حكم المتعلق ، الا ان وسطيته حينئذ كانت بالعناية لا بالدقة والحقيقة لضرورة عدم وقوعه وسطا حينئذ لثبوت حكم المتعلق وانما هو لما يماثله كيف والمحمول الواقعي انما كان ترتبه على الموضوع الواقعي لا على ما أدى إليه الظن الا على القول بالتصويب ( وعلى الثالث ) أيضا كذلك فإنه وان وقع الظن وسطا في القياس بقوله هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يحرم شربه ، ولكنه لا بالنسبة إلى حكم المتعلق بل لما يماثله ، فعلى كل تقدير لا يكون الظن وسطا في القياس بالنسبة إلى حكم المتعلق ولا يصح تأليف القياس الحقيقي منه وانما هو صورة قياس ( أقول ) ولا يخفى ان روح الحكم وحقيقته الذي هو موضوع حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح العصيان وباستحقاق الثواب والعقاب بعد أن كان عبارة عن الإرادة المبرزة بالخطاب بهذا العنوان التوليدي ، وكان انتزاع عنوان الوجوب والحرمة ونحوهما من مقام مبرزية الإرادة الجدية بالخطاب لا من نفسها بعنوانها الأولى ( فلا شبهة ) في أن مثل هذه الحقيقة لها مادة عبارة عن نفس الإرادة الجدية التي هي لب الحكم وصورة هي بروز هذه الإرادة بالخطاب ووصوله إلى المكلف ، ومن المعلوم ان هذا البروز كما يكون بالخطاب الواقعي ، كذلك قد يكون هذا البروز بالخطاب الثانوي الظاهري المتوجه إلى المكلف في ظرف جهله بالخطاب الواقعي ( إذ كما ) ان شأن الخطابات الواقعية بأي لسان كانت هي المبرزية عن الإرادة الواقعية الجدية ( كذلك )

ص: 12

الخطابات الظاهرية المتعلقة بعنوان الظن أو الشك فشأنها أيضا بأي لسان عبر عنها لا يكون الا المبرزية للإرادة الواقعية التي تتضمنها الخطابات الأولية كما سنحققه انشاء اللّه تعالى بلا ان يكون تحتها إرادة أخرى مستقلة غير الإرادة التي هي مضمون الخطابات الأولية ( وبذلك ) نقول أيضا برجوع جميع الخطابات الثانوية الظاهرية في موارد الامارات والأصول باي لسان تكون إلى كونها أحكاما طريقية راجعة في صورة المصادفة إلى كونها عين الحكم الواقعي وفي صورة عدم المصادفة إلى كونها أحكاما صورية وانشاءات محضة خالية عن الإرادة الجدية ( وحينئذ نقول ) ان الإرادة المبرزة بالخطاب الظاهري المتعلق بعنوان الظن أو الشك بعد أن كانت بمادتها واقعية وبصورتها من توابع الظن بالواقع ( صح ) بهذه الملاحظة وقوع الظن وسطا في القياس بالنسبة إلى حكم متعلقه ، حيث إنها من جهة بروزها بالخطاب الثانوي المتعلق بعنوان الظن يكون الظن نظير التغير واسطة في الثبوت وبذلك يكون القياس المؤلف منطقيا ، ومن حيث نفس المبرز بالفتح الذي هو عين الإرادة الواقعية القائمة بنفس المتعلق كان الظن واسطة في الاثبات بلحاظ صحة إضافة الحكم بروحه حينئذ إلى المتعلق ويكون القياس المؤلف حقيقيا بلا لزوم مغالطة فيه ( نعم ) المغالطة في القياس انما يلزم على القول بكون المبرز في الخطابات الظاهرية إرادة أخرى في قبال الإرادة الواقعية ، ولكن مثل هذا المعنى أجنبي عن الاحكام الطريقية كما هو ظاهر ( وبما ) ذكرنا أيضا يمكن الجمع بين كلامي الشيخ قدس سره في المقام من تنظيره الظن أولاً بالتغير الذي يكون القياس فيه منطقيا وتفرقته أخيرا بين الظن والقطع الموضوعي ( بجعل ) التنظير بالتغير بلحاظ نفس الجعل وإلا نشأ الظاهري المبرز عن الإرادة الواقعية ، وتفرقته بين الظن والقطع الموضوعي بلحاظ كون المثبت في القطع الموضوعي هو الحكم المجعول المستقل المغاير لحكم المتعلق بخلافه في الظن فإنه من جهة مبرزية الخطاب الظاهري عن نفس الإرادة الواقعية القائمة بالمتعلق يكون المثبت فيه عبارة عن نفس حكم المتعلق لا حكم آخر غيره ( وعلى كل حال فما ذكرناه ) من امتناع اخذ عنوان القطع في الموضوع انما هو بالنسبة إلى حكم متعلقه ، واما بالنسبة إلى حكم آخر فلا باس بأخذه في الموضوع كما سنذكره وعليه أيضا يصح اطلاق الحجة عليه ويتألف منه القياس المنطقي من غير فرق بين كونه تمام الموضوع أو جزئه أو قيده ، غاية الامر يكون على الأول

ص: 13

تمام الوسط وعلى الثاني جزئه ( نعم ) لابد ان يكون الحكم الذي اخذ القطع في موضوعه ملائما مع حكم المتعلق بحيث أمكن اجتماعهما ، والا ففي فرض مضادته فلا يجوز ولو بنحو تمام الموضوع فلا يمكن جعل القطع بالخمر الذي حكمه حرمة شربه موضوعا لوجوب شربه ، من جهة منافاته مع الحكم العقلي التنجيزي بوجوب الاجتناب عنه ( كما أنه ) لا يجوز ذلك في فرض المماثلة أيضا ، فإنه وان لم يلزم منه المحذور المتقدم ، الا انه يلزمه محذور اللغوية حيث إنه بعد حكم العقل بوجوب الاجتناب في المرتبة المتأخرة عن القطع وعدم قابلية الحكمين للتأكد لمكان طوليتهما يكون حكم الشارع في تلك الرتبة بوجوب الاجتناب لغوا محضا لعدم انتهائه بوجه إلى الداعوية والمحركية كما هو ظاهر.

الجهة الثالثة

في اقسام القطع ، اعلم أن القطع اما ان يتعلق بموضوع خارجي أو بحكم شرعي ، وعلى الأول فاما ان يكون ذلك الموضوع ذا حكم شرعي في نفسه ، أولاً بل كان لتعلق القطع به دخل في ترتب الحكم الشرعي عليه ( فعلى الأول ) لا اشكال كما عرفت في أن القطع بالنسبة إلى ذلك الموضوع وكذا بالنسبة إلى الحكم الشرعي المترتب عليه طريق محض فلا يعقل ان يكون له دخل في عنوان ذلك الموضوع ولا في الحكم الشرعي المترتب عليه ( واما على الثاني ) فبالنسبة إلى نفس عنوان الموضوع الخارجي وان كان طريقا محضا أيضا ، الا انه لا باس بأخذ عنوان القطع به موضوعا لثبوت حكم شرعي ( وهذا ) يتصور على وجوه حيث إن دخل عنوان القطع في ثبوت الحكم الشرعي ، قد يكون بنحو تمام الموضوع بحيث يدور الحكم الشرعي مدار عنوانه وجودا وعدما صادف الواقع أم خالف ، وقد يكون بنحو جزء الموضوع أو قيده بحيث كان للواقع أيضا دخل في ثبوت الحكم الشرعي ، وعلى التقديرين ، تارة يكون دخله من جهة كونه نورا في نفسه وصفة خاصة قبال سائر الصفات ، وأخرى من جهة طريقيته ومنوريته للغير ، وعلى الأخير أيضا ، تارة يكون دخله في الموضوع لخصوصية في كشفه ، وأخرى بما انه من أحد افراد الطرق بان كان الملحوظ هو مطلق الطريق وكان تخصيص القطع بالذكر لمكان انه أجلى الطريق وأتم افراد الحجة ( فهذه ) اقسام

ص: 14

أربعة بل خمسة للقطع المأخوذ في الموضوع ولا اشكال أيضا في امكان الأقسام المذكورة في نفسها ( نعم ) يظهر من بعض الأعاظم الاشكال في أصل امكان اخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية والكاشفية مع تسليمه جواز اخذه جزء الموضوع ( بتقريب ) ان اخذه تمام الموضوع يستدعى عدم لحاظ الواقع وذي الصورة واخذه على نحو الكاشفية والطريقية يستدعي لحاظ الواقع وذي الطريق الملازم لعدم الالتفات في لحاظه إلى نفس العلم والكاشف وبذلك يكون لحاظه طريقا منافيا مع لحاظه تمام الموضوع ( أقول ) لا يخفى ان العلم وغيره من الصفات الوجدانية القائمة بالنفس وان كانت متعلقة بالصور الحاكية عن الخارج بنحو لا يلتفت إلى ذهنيتها في ظرف وجودها ، ولكن مع ذلك أمكن التنبه والالتفات التفصيلي للقاطع ولو بالنظر الثانوي إلى نفس العلم من حيث كشفه وتعلقه بالخارج وان الخارج غيره ومتعلقه وانه المنكشف لا الكاشف ، خصوصا بالنسبة إلى الجاعل الذي هو غير القاطع حيث أمكن له ولو بالنظر الأولى تفكيك العلم عن متعلقه ولحاظ مفهومه من حيث عروضه على الصور الحاكية عن الخارج قبال قيامه بنفس القاطع بما هو صفة من الصفات وجعله بهذا اللحاظ تمام الموضوع للحكم ولا نعنى من تصور جهة كاشفية العلم الا هذا ، كيف ولو كان لحاظه من حيث الكاشفية موجبا للغفلة عن نفسه ، لامتنع جعله بهذا اللحاظ جزء الموضوع أيضا ، إذ لا فرق بينهما في الامكان والاستحالة بعد احتياج الموضوع على كل تقدير إلى لحاظه بنفسه باجزائه وقيوده ( واما الثالث ) وهو القطع بالحكم الشرعي فلا باس بأخذ عنوانه موضوعا لحكم آخر غير ما تعلق به ويأتي فيه الأقسام الأربعة من كونه تمام الموضوع أو جزئه وكونه على نحو الصفتية أو الطريقتية.

( واما ) اخذه في نفس ذلك الحكم الذي تعلق القطع به فهو مما لا يمكن لما عرفت من استحالة تقييد الحكم أو موضوعه بنفس العلم بحكمه لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه كاستحالة اطلاقه أيضا على نحو يشمل مرتبة العلم أو الجهل به ( نعم ) يمكن تصويره على نحو نتيجة التقيد الراجع إلى جعل الحكم لحصة من الذات في المرتبة السابقة التوأمة مع العلم بحكمه في المرتبة المتأخرة لا مقيدا به على نحو كان عنوان التوئمية مع العلم المزبور معرفا محضا لما هو الموضوع وكان الموضوع هو الحصة الخاصة بلا تعنونه بعنوان التوئمية أيضا فضلا عن عنوان العلم بحكمه ونحوه من العناوين المتأخرة ، كما هو الشأن أيضا في كل معروض بالنسبة إلى عارضه الملحوظ

ص: 15

في المرتبة المتأخرة ، وكما في ملازمة كل علة لمعلولها من دون اقتضاء التلازم والتوئمية لاتحاد الرتبة بينهما أصلا ، إذ على هذا البيان أمكن تصوير تضيق دائرة الموضوع على نحو يساوق التقييد بحسب النتيجة وهذا المقدار لا يحتاج في تصحيحه إلى متمم الجعل كما أفيد ، بل يكفيه نفس الجعل الأولى ، غاية الامر يحتاج في مقام الاثبات إلى قيام قرينة في البين يقتضي كون معروض الحكم ثبوتا في مقام الجعل والتشريع عبارة عن الحصة الخاصة الملازمة مع العناوين المتأخرة لا الذات المطلقة ( نعم الاحتياج ) إلى متمم الجعل انما يكون في فرض قيام المصلحة من الأول بالمقيد بالعناوين المتأخرة بما هو مقيد نظير قصد القربة بناء على دخله في المأمور به شرعا ، فإنه يعد عدم امكان اخذه في متعلق الامر ولو لقصور في الامر مع قيام المصلحة بالمقيد بما هو مقيد يحتاج الآمر في الوصول إلى غرضه إلى تعدد الجعل بتعلق الجعل الأولى بنفس الذات في المرتبة السابقة والجعل الاخر باتيانها بداعي الامر ( لا في مثل المقام ) المفروض خروج تلك العناوين المتأخرة طرا عن موضوع الحكم والمصلحة ، إذ مجرد عدم سعة الغرض ثبوتا عن الشمول لغير صورة العلم بالحكم لا يقتضى دخله في الغرض وفي موضوع المصلحة كما أن مجرد استحالة الاهمال في الواقع ثبوتا وامتناع التقييد بالعلم لا يقتضى المصير إلى التقييد بنحو متمم الجعل بعد امكان تصويره بنحو آخر يتكفله نفس الجعل الأولى بتعلقه بحصة من الذات في الرتبة السابقة الملازمة مع العلم بحكمها في الرتبة اللاحقة ، نعم غاية ما يكون احتياجه في مقام الاثبات إلى القرنية عليه ولكن ذلك أيضا غير مرتبط بمسألة متمم الجعل هذا كله في فرض العلم بالجعل في الرتبة المتأخرة وأما إذا لوحظ العلم بانشائه الملازم مع العلم بحقيقة الحكم فأمكن تقييد موضوع الحكم المنشأ بهذا الانشاء بالعلم بانشائه المحفوظة في الرتبة السابقة الملازمة مع العلم بنفسه في الرتبة اللاحقة أيضا بلا ورود محذور في البين ( ثم إن ) من هذا البيان يظهر امكان تصوير توسعة الحكم وكذا اطلاق موضوعه أيضا ، بفرض جعل الحكم لذات الموضوع المحفوظ في الرتبة السابقة عن العلم به الموسع في مرتبة ذاته من جهة الشمول لحالتي وجود العلم وعدمه بان يلاحظ الحالتين في مقام الجعل والتشريع بنحو كونهما من لوازم الذات في الرتبة المتأخرة قبال الحصة الخاصة المقارنة لوجود العلم لا ملحوظا في نفس الموضوع ، ومن المعلوم انه يكفي في هذا الاطلاق مجرد عدم لحاظ الإناطة والتقييد ولو من جهة استحالتهما ، إذ بمجرد عدم لحاظه في مرحلة الجعل والتشريع يكون له

ص: 16

سعة الانطباق بحكم العقل لحالتي وجود القيد وعدمه بلا اختصاص له بصورة امكان التقييد « ومن هذه الجهة » نقول ان جعل التقابل بين الاطلاق والتقييد مطلقا من باب تقابل التضاد أو العدم والملكة منظور فيه ، لان ما به قوام هذا الاطلاق هو عدم لحاظ التقييد ولو من جهة استحالته فيكون التقابل بينهما من باب الايجاب والسلب محضا ، قبال الاطلاق والتقييد اللحاظي الراجع فيه التقابل إلى تقابل التضاد أو العدم والملكة « نعم » مثل هذا الاطلاق يختص بصورة قابلية الحكم بذاته للسعة لحالتي فقدان القيد ووجد انه ، والا ففي صورة عدم قابليته بذاته للسعة بالنسبة إلى فقدان القيد فلا يتصور فيها الاطلاق كما في قيد التقرب بالنسبة إلى موضوع الحكم حيث إنه من جهة ضيق الحكم يطرء قهرا ضيق في موضوعه أيضا بنحو لا يتصور له اطلاق يشمل حال فقده « ولكن » ذلك لا يجرى في باب العلم ، إذ في مثله وان لم يمكن اخذه قيدا الا ان لسعة الحكم ذاتا لحال فقده كمال مجال ، ولقد عرفت كفاية مجرد عدم لحاظ الإناطة أو التقييد ثبوتا في سعة انطباقه بحكم العقل لحالتي وجود العلم وعدمه من غير احتياج أيضا في هذا المقدار إلى متمم الجعل بانشاء آخر ، نعم في مقام الاثبات يحتاج إلى قيام القرينة عليه من قاعدة اشتراك ونحوها هذا « ويمكن » أيضا تصوير الاطلاق بوجه آخر وهو لحاظ اطلاقه في المرتبة السابقة بالنسبة إلى الأزمنة التي هي في الواقع اما زمان العلم بالحكم أو الجهل به حيث إنه بمثله يثبت الحكم في كلتي حالتي وجود العلم وعدمه بلا ورود محذور في البين ولا احتياج إلى متمم الجعل أيضا غير أنه يحتاج في مقام للاثبات إلى القرينة عليه من قاعدة اشتراك ونحوها « نعم » مثل هذا التصوير لا يجرى في التقييد بزمان العلم لاحتياجه إلى لحاظ إضافة الزمان إلى العلم الذي هو في الرتبة المتأخرة الراجع بالآخرة إلى التقييد بالعلم ولحاظه في الرتبة السابقة ولو بتوسيط الزمان فتأمل « ثم انه » قد يعد مسألة الجهر والاخفات وكذا القصر والاتمام مثالا لشرطية العلم لثبوت الحكم واقعا بنحو نتيجة التقييد ، ولكنه لا يخلو عن نظر ، من جهة قوة احتمال ان عدم الإعادة في المثالين عند الجهل من باب جعل البدل المفوت لبقية المصلحة كما ربما يشهد له ما ينسب إلى ظاهر الأصحاب كما في مصباح الفقيه وغيره من الحكم باستحقاق الجاهل المقصر للعقوبة في الفرعين

ص: 17

المزبورين والا فبناء على التقييد بالعلم ولو بنحو متمم الجعل لا يبقى مجال لاستحقاق العقوبة لعدم تصور تقصير حينئذ في حق الجاهل فتدبر.

الجهة الرابعة

في قيام الطرق والامارات والأصول مقام القطع باقسامه ، وتنقيح المرام فيها يستدعى اشباع الكلام في مقامين « الأول » في قيام الامارات والأصول مقام القطع الطريقي « الثاني » في قيامهما مقام القطع الموضوعي « فنقول » اما المقام الأول فلا اشكال في قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة وغيرها مقام القطع الطريقي ، كما لا ينبغي الاشكال أيضا في أن قيامهما مقام العلم انما كان من جهة وجوب الاتباع والجري العملي الذي هو من الجهات المترتبة على القطع ، وانه تشرك الامارات في هذه الجهة مع الأصول بلا اقتضاء حيثية تتميم الكشف فيها تفاوتا بينهما في جهة قيامهما مقام القطع ، « إذ على » ما هو التحقيق فيها من كونها أحكاما طريقية ناشئة عن مصلحة الواقع ومبرزة عن نفس الإرادة الواقعية التي تضمنتها الخطابات الواقعية لا عن إرادة أخرى « يكون » مأل الجميع إلى امر واحد ، وهو الامر بالبناء والجري العملي بابراز الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها بهذه الانشاءات المتأخرة على اختلاف ألسنتها ، من كونها بنحو تتميم الكشف أو تنزيل المؤدي ، أو الامر بالبناء والجري العملي أو غير ذلك « حيث إنه » بذلك يكون جميع هذه الانشاءات المتأخرة حتى مثل ايجاب الاحتياط الذي لا عناية فيه بوجه أصلا مبرزة عن الإرادة الواقعية وموجبة لتنجيزها بعين مبرزية الخطابات الأولية عنها ، الا ان الفرق بينهما بأوسعية دائرة هذه الانشاءات عن لب الإرادة لأنه قد لا تكون في مورد انشائها إرادة في الواقع « بخلاف » الخطابات الأولية فان دائرة انشائها دائما تكون بمقدار الإرادة لا أوسع منها « ومن هذه الجهة » قلنا بان الخطابات الظاهرية طرافي فرض عدم المصادفة للواقع انشاءات صورية خالية عن الإرادة ، وفي فرض المصادفة ووجود الحكم في الواقع احكام حقيقية وانها من حيث المبرزية التي بها حكمية الحكم وقوامه ظاهرية وفي طول الواقع ، ومن حيث المبرز بالفتح أعني الإرادة التي هي حقيقة الحكم وروحه عين الحكم الواقعي

ص: 18

« وبهذا الوجه أيضا » صححنا اطلاق الوسطية في الثبوت والاثبات على الظن بلا لزوم مغالطة في القياس فراجع كما أنه بهذه الجهة من المبرزية ولو في ظرف وجود لب الحكم تكون هذه الخطابات موجبة لتنجيز الواقع المنوط تنجزه بوصوله إلى المكلف بلا احتياج في منجزيتها للواقع إلى عناية أخرى في البين من نحو اثبات الاحراز وتتميم الكشف وغيره ، ولذا نجري حتى في مثل ايجاب الاحتياط الذي لا عناية فيه بوجه أصلا ، حيث كان موجبا لتنجيز الواقع في مورده ولاستحقاق العقوبة في ترك الاحتياط على مخالفته لا على مخالفة نفسه ، ولا يضر الجهل بالفرض المزبور بعد كون الحكم على تقدير وجوده مقرونا بالبيان الواصل ، لأنه بمثله يرتفع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلحاظ ان موضوعه هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم لا عدم البيان بقول مطلق وسيجئ لذلك مزيد بيان في محله انشاء اللّه تعالى ( وبالتأمل فيما ذكرناه ) ينقدح ما في كلام بعض الأعاظم قده من التفصيل بين الامارات والأصول في جهة قيامهما مقام القطع ، بدعوى ان المجعول في الطرق والامارات حيث كان هي المحرزية والكاشفية كان موجبا لتخصيص جهة قيامها مقام العلم بالجهة الثانية من العلم أعني الطريقية والكاشفية التي كان العلم واجدا لها بذاته ، لأنه بنفس تتميم الكشف يتحقق مصداق الاحراز والعلم بالواقع وبتحققه يترتب عليه تنجيز الواقع فيترتب عليه بحكم العقل جهة البناء والجري العملي بخلاف الأصول المحرزة فان المجعول فيها عبارة عن الجهة الثالثة من العلم وهو الجري والبناء العملي على ثبوت الواقع ، ولا يمكن ان يكون المجعول فيها هي الكاشفية كالأمارات ، لان ذلك انما يكون فيما فيه جهة كشف عن الواقع ولو ناقصا ولا كشف للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول ( إذ نقول ) ان المراد من مجعولية الاحراز والطريقية والكاشفية ، اما ان يكون احداث حقيقته التي هي منشأ انتزاع مفهومه بنحو يطبقه العقل على المورد بالوجدان ، واما ان يكون احداثه عناية وادعاء بادعاء ما ليس بمحرز حقيقة محرزا حقيقيا المستلزم لكون تطبيق عنوانه على المورد بنحو العناية والادعاء نظير جعل الحياة أو الممات لزيد بالجعل التشريعي ولا ثالث لهذين المعنيين « والأول » واضح الاستحالة لبداهة ان الجعل التشريعي انما يتعلق بالحقائق الجعلية التي يكون تشريعها عين تكوين حقيقتها في

ص: 19

الوعاء المناسب لها ويكون القصد والانشاء من قبيل الجزء الأخير من العلة في تحققها كالملكية والزوجية ونحوهما ، لا بالأمور التكوينية الخارجية ، وحقيقة الاحراز والكشف التام المساوق لعدم احتمال الخلاف لكونها من الأمور التكوينية والصفات الوجدانية غير قابلة للتحقق من قبل الجعل والانشاء بشهادة احتمال الخلاف بعد الجعل والتشريع أيضا ( واما الثاني ) فهو وان كان متينا جدا ، ولازمه صحة اطلاق العلم ومرادفاته على الظن بنحو الحقيقة بعد الادعاء المزبور على ما هو مذهب السكاكي ولا يكون مجازا في الكلمة ( ولكن نقول ) ان تطبيق عنوان المجعول على المورد بعد أن كان ادعائيا لا حقيقيا يحتاج في صحة الادعاء والتنزيل المزبور إلى لحاظ اثر مجعول في البين ولو في طرف المنزل يكون هو المصحح للتنزيل كما في غيره من التنزيلات الشرعية وغيرها ، والا فبدونه لا يكاد يصح التنزيل أصلا وحيث إن الأثر المصحح لمثل هذا التنزيل في المقام لا يكون الا امر الشارع بالمعاملة مع ما أدى إليه الظن معاملة الواقع لكونه هو الذي زمام امر وضعه ورفعه بيده ويصلح أيضا لتنجيز الواقع لا غيره من الآثار الأخرى ولا نفس عمل المكلفين لأنه من جهة عدم نشؤه من قبله غير صالح للمصححية لتنزيله ، فلا جرم يكون مرجع تشريع الاحراز المزبور إلى الامر بالمعاملة مع مؤدى الظن معاملة الواقع ( وبعد كفاية ) مثل هذا الامر الطريقي من جهة مبرزيته لتنجيز الواقع ، تشترك الامارات لا محالة مع الأصول في جهة المنجزية وقيامها مقام القطع من جهة البناء والجري العملي لرجوع الجميع بالآخرة إلى الامر بالمعاملة والجري العملي الراجع إلى ابراز الإرادة الواقعية بمثل هذه الانشاءات ، غاية الامر هو كون الامر بالمعاملة في الأصول مجعولا بدوا وفى الامارات مستكشفا من جعل الاحراز وتتميم الكشف بدوا أو امضاء ( والوصول ) المعتبر في تنجيز الاحكام انما هو بمعنى المبرز الجاري حتى في ايجاب الاحتياط لا بمعنى تتميم الكشف والا يلزمه عدم منجزية ما عدى الامارات الملحوظ فيها تتميم الكشف مع أنه كما ترى ( وتوهم ) كفاية هذا المقدار في الفرق بينهما في جهة القيام مقام العلم بدعوى ان التنجيز لا يكون الا بالوصول إلى الواقع واحرازه وجدانا أم جعلا ومن الواضح انه بنفس تتميم الكشف يتحقق مصداق الاحراز فيترتب عليه التنجيز قهرا ( مدفوع ) بان مجرد ادعاء كون الظن علما

ص: 20

وتنزيله منزلته بدون استكشاف الامر بالمعاملة معه معاملة العلم لا يكون ملزما عقليا بالعمل ، ومعه يكون تمام الملزم العقلي بالعمل هو الامر الطريقي المستكشف منه وهو الموجب أيضا لقيام الظن مقام العلم لا جهة تتميم كشفه كما هو الشأن أيضا لو قلنا في مفاد أدلة الامارات بكونه مجرد التعبد بكون المؤدي هو الواقع بلا تتميم كشف فيه « وما ربما يقال » في توجيه جعل الطريقية والمحرزية في الامارات من أن المقصود به امضاء الشارع لما عليه سيرة العقلاء في موارد الامارات من الاعتماد عليها بما انها كواشف تامة وكونها علوما عادية عندهم من جهة غفلتهم عن احتمال الخلاف وان التفتوا إليه بعد التأمل والتدبر ، لا ان المقصود من ذلك جعل الشارع الطريقية والكاشفية التامة للظن تأسيسا بحيث يتحقق بجعله مصداق المحرز التام ، كي يتوجه الاشكال المتقدم من أنه من المستحيل تعلق الجعل التشريعي بما هو من قبيل الأمور التكوينية ( فمدفوع ) بمنع كون اعتماد العقلاء على الطرق والامارات من باب حصول العلم العادي ، لما يرى منهم بالعيان والوجدان من الاعتماد عليها حتى مع الالتفات ، بل ومع الظن بالخلاف أيضا كما في الظنون النوعية كظواهر الألفاظ المصرح في كلماتهم بان حجيتها انما هي من باب الظن النوعي الذي لا ينافيه الظن الشخصي بالخلاف ، لا من جهة إفادة الظن الشخصي فضلا عن كونها من باب الاطمينان أو العلم العادي ، وحينئذ فلابد وأن يكون ذلك منهم من باب البناء والتنزيل بلحاظ بنائهم على العمل بها فيكون مرجع امضاء الشارع للتنزيل المزبور إلى ايجاب معاملة العلم معها فينتهى بالأجرة إلى الحكم التكليفي ( وعليه ) فلا يكاد ينتج مثل هذه العنايات تفاوتا بين الامارات والأصول في جهة قيامها مقام العلم ( نعم ) انما يثمر مثل هذه الألسنة في مقام تقديم الامارات على الأصول وتحكيم الأصول بعضها على بعض ، حيث إنه بناء على تتميم الكشف في الامارات يكون تقديمها على مثل الاستصحاب ودليل الحلية والطهارة بمناط الحكومة بلحاظ اقتضائها بالعناية المزبورة لحصول المعرفة التي هي الغاية فيها بخلاف مسلك جعل المؤدى ، إذ عليه لا مجال لتقديمها عليها بمناط الحكومة لعدم اقتضائها حينئذ لاثبات العلم بالواقع الحقيقي لا وجدانا ولا عناية ، وانما غايته اقتضائه للعلم الوجداني بالواقع التعبدي وبعد كون الغاية في الأصول هو العلم بالواقع الحقيقي يحتاج في

ص: 21

قيام هذا العلم مقام العلم بالواقع الحقيقي إلى دليل آخر ، والا فلا يفي به مجرد التعبد بكون المؤدى هو الواقع ، ومن اجل ذلك التزم صاحب هذا المسلك بتقديم الامارات على الأصول بمناط اخر غير الحكومة كما سنذكره ( ولكن ) مثل هذه الجهة غير مرتبطة بجهة قيامها مقام القطع كما هو واضح ( ثم انه ) بالتأمل فيما ذكرنا يظهر لك الحال في الأصول المحرزة أيضا كالاستصحاب وانه لا يفرق فيها في جهة قيامها مقام القطع بين رجوع التنزيل فيها إلى اليقين أو المتقين لرجوعه على كل تقدير إلى ايجاب المعاملة وترتيب آثار الواقع عملا ( واما الأصول ) الغير المحرزة كايجاب لاحتياط فهي أيضا باعتبار مبرزيتها للإرادة الواقعية في ظرف الشك تقوم مقام القطع ، غير أن قيامها مقامه في جهة التنجيز لا في ترتيب آثار الواقع لعدم تكفل مثلها لاثبات الواقع ، ولا لاثبات العلم به ولو عناية وادعاء ، كما أنه بما ذكرنا ظهر أيضا عدم استلزام القول بجعل المؤدى في الامارات للتصويب وشبهه كما توهم لان ذلك لو سلم لزومه فإنما هو في فرض حكاية الجعل والا نشأ الظاهري عن إرادة أخرى قبال الإرادة الواقعية ، والا فبناء على حكايته في ظرف الجهل عن الإرادة الواقعية كما شرحناه فلا يبقى مجال لهذا الاشكال على من يقول بجعل المؤدي « وظهر أيضا » وجه حكومة الامارات والأصول المحرزة على الاحكام الواقعية ، وانه من باب الحكومة الظاهرية بلحاظ اقتضاء الامارة أو الأصل المحرز بمعونة دليل الاعتبار لتوسعة الواقع وايصاله عناية في الظاهر وفي ظرف الشك بالتكليف الواقعي ، حيث إنه بهذه العناية تكون حكومتها ظاهرية ، لا واقعية موجبة للتوسعة الحقيقية في موضوع الحكم « وفي ذلك » لا يفرق بين كون نتيجة الجعل تتميم الكشف ، أو تنزيل المؤدى ، وان كان في الحكومة على عناية تتميم الكشف نحو خفاء باعتبار ان مقتضى العناية المزبورة انما هي التوسعة في العلم الموجبة لحكومتها على أدلة الأصول كالاستصحاب ودليلي الحلية والطهارة ، لا التعبد بثبوت الحكم الواقعي ، ولكنه يرتفع هذا الظلام بما ذكرناه سابقا من رجوعه لبا إلى جعل حكم ظاهري في البين « ثم إن » ذلك على ما اخترناه في الامارات والا فعلى ما أفاده بعض الأعاظم قده من مجعولية نفس الاحراز والطريقية فيها ، بلا استتباعه لحكم شرعي ظاهري ، ولا تصرف في

ص: 22

الواقع ولو بالعناية فلا مجال لحكومتها على الاحكام الواقعية لا بالحكومة الواقعية كما هو ظاهر ، ولا بالحكومة الظاهرية ، لان غاية ما يقتضيه الجعل المزبور انما هو التوسعة في طريق الحكم لا في نفسه ولو عناية وتنزيلا ، ومعه كيف تكون الامارات حاكمة على الاحكام الواقعية بالحكومة الظاهرية بل وان تأملت ترى عدم حكومتها على أدلة الأصول أيضا نظرا إلى أنه بنفس جعل الاحراز والكشف التام يتحقق مصداق المعرفة وجدانا وبذلك تكون الامارات واردة على أدلة الأصول لا حاكمة عليها.

« المقام الثاني » في قيام الامارات والأصول المحرزة مقام القطع الموضوعي « فنقول » قد عرفت ان اخذ القطع في الموضوع ، تارة يكون على نحو الصفتية وأخرى على نحو الطريقية ، وعلى التقديرين ، تارة يكون تمام الموضوع ، وأخرى جزئه وقيده ( فإن كان ) مأخوذا بنحو الصفتية فلا اشكال في أنه لا تقوم مقامه الامارات فضلا عن الأصول « لان » أدلة الامارات ولو على تتميم الكشف انما تكون ناظرة إلى كونها كالعلم في ترتيب اثاره من حيث طريقيته وكاشفيته لا من حيث نوريته وصفتيته ، حيث إن هذه الجهة تحتاج إلى قيام دليل عليها بالخصوص يقتضي تنزيل الظن منزلته من حيث كون نورا وصفة خاصة قبال سائر الصفات النفسانية « والا » فنفس أدلة حجيتها غير وافية باثبات التنزيل من هذه الجهة ، ولكن الذي يسهل الخطب انه لم يوجد في الفقه مورد يكون القطع فيه مأخوذا على نحو الصفتية والأمثلة التي يتوهم كونها في بادي النظر من هذا القبيل كلها بالتأمل في النصوص راجعة إلى دخله من حيث الطريقية والكاشفية ، كباب أداء الشهادة ، والحلف عن بت ، والركعتين الأوليين المعتبر فيهما الاحراز ونحو ذلك فتدبر فيها تجد صدق ما ادعيناه ( واما ان كان القطع ) مأخوذا على نحو الطريقية فتقوم مقامه الامارات على المختار فيها من تتميم الكشف ، واما على القول بتنزيل المؤدى فيها ، ففي قيامها مقام القطع الموضوعي اشكال إذ بعد عدم تكفل دليلها لتتميم كشفها واثبات كونها علما بالواقع ولو عناية وادعاء لا يبقى مجال لقيامها مقامه ( وبهذه الجهة ) أيضا منعنا حكومتها على أدلة الأصول بلحاظ عدم اقتضاء مجرد تنزيل المؤدى والتعبد بكونه هو الواقع لاثبات العلم بالواقع لا وجدانا

ص: 23

ولا تعبد أو تنزيلا ( نعم ) نتيجة ذلك انما هو العلم الوجداني بالواقع التعبدي ولكنه بعد تغاير العلمين يحتاج في قيامها مقام العلم الموضوعي إلى توسيط جعل آخر يقتضى تنزيل العلم بالواقع التعبدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، والا فلا يفي به مجرد جعل المؤدى وتنزيله منزلة الواقع كما هو ظاهر ( وهذا بخلاف ) القول بتتميم الكشف حيث إنه وان لم يحصل بقيام الامارة العلم الوجداني بالواقع ، الا انه باقتضاء دليلها لتتميم كشفها تكون الامارة احرازا تعبديا للواقع فتقوم بهذا الاعتبار مقام العلم الموضوعي ومرجعه حينئذ إلى التوسعة الحقيقية في دائرة موضوع الحكم بجعله عبارة عما يعم العلم الوجداني والتعبدي بالواقع الحقيقي ( وبهذه الجهة ) أيضا تكون حكومتها من باب الحكومة الواقعية الموجبة لتوسعة موضوع الحكم واقعا نظير الطواف بالبيت صلاة ، لا من الحكومة الظاهرية الموجبة لتوسعة الحكم في مرحلة الظاهر وفي ظرف الشك به كما افاده بعض الأعاظم قدس سره ( وكذا الامر ) على مسلك جعل المؤدى بناء على قيام الدليل على تنزيل العلم بالواقع الجعلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي ، حيث إن حكومتها أيضا واقعية لا ظاهرية ( إذ ) بانتفاء القطع الوجداني بالواقع الحقيقي يقطع بانتفاء الحكم المترتب عليه ( معه ) كيف يكون اثبات اثار القطع بشيء للظن به توسعة لحكمه في الظاهر كي تكون الحكومة ظاهرية ( نعم ) الحكومة الظاهرية كما أسلفنا انما تكون بالنسبة إلى احكام المتعلق التي يكون القطع بالنسبة إليها طريقا محضا ( واما ) بالنسبة إلى احكام نفس القطع وآثاره فالحكومة لا تكون الا واقعية ( ثم إن ) في المقام اشكالا للمحق الخراساني قدس سره في أصل قيام الامارات مقام القطع الموضوعي بعد تسليم قيامها مقام القطع الطريقي بتقريب ان قيامها مقام القطع الطريقي يستدعى لحاظ المنزل والمنزل عليه آليا وقيامها مقام القطع الموضوعي يستدعى لحاظهما استقلاليا حيث إن اللحاظ في الحقيقة على الوجه الأول متعلق بالمؤدي والواقع وعلى الثاني بنفس المنزل والمنزل عليه ، وبعد ان لم يكن بينهما جامع ولم يمكن الجمع بينهما في تنزيل واحد لاستلزامه اجتماع اللحاظين المتنافين فلابد ان يكون نظر التنزيل إلى أحد الامرين ، اما إلى المؤدى والواقع واما إلى نفس المنزل والمنزل عليه ومع الدوران المزبور يكون المتعين هو الأول لكونه

ص: 24

هو المتيقن من أدلة الاعتبار لظهورها في غير المقام في النظر إلى نفس المؤدى والواقع لا إلى حيث وصول الواقع والعلم به ( ولكنه كما ترى ) إذ نقول ان ما أفيد انما يتم إذا كان التنزيل في موارد الطريقية المحضة متوجها إلى نفس الواقع بلحاظ الحكم الشرعي المترتب عليه ( والا ) فبناء على كون التنزيل فيها راجعا إلى نفس وصول الواقع والعلم به بلحاظ الآثار العملية المترتبة على وصول الواقعيات على ما هو التحقيق من تتميم الكشف فيها ( فلا يرد ) في البين محذور من اطلاق التنزيل ، حيث إنه من الممكن حينئذ كون التنزيل في التعبد بالظن ناظرا إلى جهة وصول الواقع والعلم به بلحاظ مطلق الآثار العملية المترتبة عليه بجعل الظن بشيء كالعلم به في كونه جاريا مجراه في الوصول الراجع إلى الامر بالمعاملة معه معاملة العلم من الحركة والجري العملي على وفقه في اي اثر يقتضيه العلم ، اما بموافقة حكم نفسه ، واما بموافقة متعلقه كما لو كان العلم حاصلا بالوجدان ، وبذلك يقوم الظن مقام العلم بكلا نحويه بلا ورود محذور في البين ، وعدم كون الأثر شرعيا في القطع الطريقي غير ضائر بصحة اطلاق التنزيل لان شرعيته في طرف المنزل كافية في صحة التنزيل وان لم يكن كذلك في طرف المنزل عليه فتدبر.

( هذا كله ) في القطع المأخوذ تمام الموضوع ( اما ) القطع المأخوذ جزء الموضوع ، فحكمه كالمأخوذ تمام الموضوع فتقوم مقامه الامارات على المختار من تتميم الكشف فيها ، حيث إنه بقيام الامارة يتحقق مصداق الاحراز ولو بالعناية فيتحقق كلا جزئي الموضوع المركب من الاحراز والواقع كما لو حصل العلم الوجداني بالواقع ، فيترتب عليها بعد عموم التنزيل اثر الواقع والاحراز بلا احتياج إلى جهة زائدة من احراز آخر للاحراز فكان التنزيل المزبور ينحل إلى تنزيلين أحدهما قائم بذات العلم والاخر بطريقيته للمتعلق الموجب لاختلاف جهة حكومتها أيضا بكونها بالنسبة إلى ما لنفس العلم من الأثر الضمني واقعية وبالنسبة إلى ما للمتعلق ظاهرية ( واما على القول ) بتنزيل المؤدي ففيه الاشكال المتقدم من حيث عدم اقتضاء مثله لاثبات العلم بالواقع لا وجدانا ولا عناية وادعاء لان ما يحصل من التنزيل المزبور انما هو العلم الوجداني بالواقع التعبدي وهو انما يجدى بالنسبة إلى جزء الموضوع فيحتاج جزئه الاخر إلى جعل آخر يقتضي تنزيل

ص: 25

العلم بالواقع التعبدي منزلة العلم بالواقع الحقيقي كي يلتئم كلا جزئي الموضوع والا فلا يفي به مجرد تنزيل المؤدي منزلة الواقع ( ودعوى ) الملازمة العرفية بين التنزيلين ( ممنوعة ) جدا حيث لا تلازم بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالواقع التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي لا عقلا ولا عرفا ومن هنا استشكل فيها في الكفاية أيضا ( نعم ) لو أغمض عن هذه الجهة وقلنا بثبوت الملازمة العرفية بين التنزيلين ( لا يرد ) عليه اشكال الدور بما أفيد في الكفاية من أن تنزيل أحد جزئي الموضوع بلحاظ اثره انما يصح إذا كان جزئه الاخر أيضا محرزا اما بالوجدان أو بتنزيل آخر في عرضه كما لو كان هناك دليل على تنزيل كلا الجزئين بالمطابقة وأما إذا لم يكن كذلك بان كان تنزيل الجزء الاخر من لوازم تنزيل هذا الجزء كما في المقام فلا يكاد يصح التنزيل الا على وجه دائر ، من جهة توقف دلالته على تنزيل المؤدى على دلالته على تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع الحقيقي إذ لولاه لا يكون للمؤدى اثر مصحح لتنزيله ، وتوقف دلالته الالتزامية على تنزيل أحد العلمين منزلة الاخر على تمامية التنزيل المطابقي في طرف المؤدي فيدور ( إذ نقول ) انما يرد اشكال الدور إذا قلنا باحتياج تنزيل الجزء إلى وجود الأثر الفعلي والا فبناء على كفاية الأثر التعليقي للجزء بأنه لو انضم إليه جزئه الاخر لوجب فعلا فلا يرد محذور الدور نظرا إلى صحة تنزيل المؤدى حينئذ بلحاظ اثره التعليقي بلا توقفه على شيء ( وحينئذ ) فالعمدة هو منع الملازمة بين التنزيلين ( هذا كله في الامارات ( واما الأصول المحرزة ) كالاستصحاب فقيامه مقام القطع الموضوعي مبنى على أن التنزيل في لا تنقض ناظر إلى المتيقن أو إلى اليقين ( فعلى الأول ) لا يقوم مقام القطع الموضوعي لعين ما ذكرناه في الامارات ( وعلى الثاني ) يقوم مقام القطع الموضوعي تماما أو جزء نظرا إلى اقتضائه بتلك العناية لاثبات العلم بالواقع ، ومرجعه على ما عرفت إلى ايجاب ترتيب اثار العلم بالواقع في ظرف الشك به ( نعم ) حيث إنه لوحظ في موضوعه الجهل بالواقع والشك فيه يحتاج في قيام مثله مقام القطع الموضوعي إلى استظهار كون موضوع الأثر في الدليل هو صرف انكشاف الواقع محضا بلا نظر إلى نفي الشك فيه ( والا ) فلا مجال لقيام الاستصحاب

ص: 26

مقامه نظرا إلى ما عرفت من انحفاظ جهة الشك بالواقع في موضوعه كغيره من الأصول غير أن الفرق بينه وبينها هو تكفل دليله لاثبات اليقين بالواقع في ظرف الشك به بخلاف سائر الأصول حيث لم يكن لأدلتها هذا النظر وبهذه الجهة يكون الاستصحاب جامعا للجهتين ، فمن حيث نظره إلى اثبات اليقين بالواقع يكون مقدما على سائر الأصول ، ومن حيث كون موضوعه الشك بالواقع والجهل به كان مؤخرا عن الامارات الناظر دليلها إلى الغاء احتمال الخلاف وتتميم الكشف محضا وعلى ذلك فلابد في قيامه مقام القطع الموضوعي تماما أو جزء من لحاظ ان الأثر في الدليل مترتب على مجرد العلم بالواقع وانكشافه أو على عدم الشك فيه محضا فيقوم مقامه على الأول دون الثاني ولعله إلى مثل هذه الجهة أيضا نظر المشهور فيما حكى عنهم من عدم جواز الحلف والشهادة تعويلا على الاستصحاب وان كان فيه ما فيه أيضا.

( تذييل ) كلما ذكرنا من الشقوق والصور في القطع يجرى في الظن أيضا من حيث تعلقه تارة بالموضوع وأخرى بالحكم وكونه طريقا محضا تارة وموضوعا أخرى تماما أو جزء وقيدا على نحو الصفتية تارة والطريقية والكاشفية أخرى وفيه أيضا يجرى الاشكال المتقدم سابقا في أصل امكان اخذه تمام الموضوع على نحو الطريقية والكاشفية مع دفعه بما بيناه في القطع ( ويزيد الظن في المقام ) في أن اخذه تمام الموضوع أو جزئه وقيده تارة بما انه حجة شرعية وطريق محرز لمتعلقه وأخرى بما انه ذات الظن واجمال الكلام في هذه الأقسام هو ان الظن إذا كان حجة شرعية فلا اشكال في عدم جواز اخذه موضوعا بالنسبة إلى نفس حكم متعلقه بعين ما ذكرناه في القطع من محذور تقدم الشيء على نفسه الا بنحو نتيجة التقييد على ما فصلناه سابقا من دون فرق بين الظن بنفس الحكم الشرعي والظن بموضوعه ( واما بالنسبة ) إلى حكم آخر غير حكم متعلقه فيجوز اخذه فيه على نحو الصفتية أو الطريقية ما لم يكن مضادا لحكم متعلقه أو مماثلا له كما لو رتب وجوب الحد على شرب مظنون الخمرية أو مظنون الحرمة من دون فرق فيه بين كونه تمام الموضوع وكونه جزئه على اشكال متوهم في الأول تقدم بيانه مع دفعه في القطع ( واما ) لو كان مضادا لحكم متعلقه أو مماثلا له فلا يجوز اخذه في الموضوع تماما أو جزء صفة أو طريقا ( لا ) مرجع حجيته إلى اثبات الواقع في المرتبة المتأخرة

ص: 27

عن الظن به فلو حكم الشارع حينئذ في هذه المرتبة بما يضاد الواقع أو يماثله بجعل الظن بالخمر أو بحرمته موضوعا لجواز شربه أو حرمته يلزم اجتماع الضدين أو المثلين في مرتبة واحدة في موضوع واحد ومثله مما يأبى عنه العقل هذا إذا كان الظن حجة وطريقا محرزا لمتعلقه شرعا ( واما ) إذا لم يكن حجة شرعية فلا باس بأخذ صفة أو طريقا موضوعا للحكم وان كان مضادا لحكم متعلقه ( واما ) ما أفيد من استلزامه حينئذ لمحذور اجتماع الضدين ولو في الجملة وفى بعض الموارد ( فيدفعه ) طولية الحكمين الموجب لاختلاف الرتبة بينهما إذ لا محذور حينئذ في اخذه في الموضوع بنفس ذاته بعد عدم حجيته شرعا ( ومن ذلك ) يظهر صحة اخذه أيضا موضوعا لمماثل حكم المتعلق بلا اقتضائه لتأكد الحكمين أيضا كما أفيد ( كيف ) والتأكد يقتضي وحدة الوجود ومع اختلاف الرتبة وطولية الحكمين يستحيل الاتحاد في الوجود ومعه لا يتصور التأكد ( نعم ) انما يلزم ذلك في فرض اخذ عنوان المظنونية بنحو الجهة التقييدية لا بنحو الجهة التعليلية الموجبة لطولية الحكمين ( ومن العجب ) عد مسألة النذر أيضا من باب التأكد مع أنه لا شبهة في أن عنوان المنذورية من الجهات التعليلية للحكم ( هذا كله ) في الظن المأخوذ تمام الموضوع ( واما ) المأخوذ جزء الموضوع ( ففيه ) اشكال منشئه عدم انتهاء الامر بعد عدم حجية الظن المزبور إلى مرحلة احراز جزئه الاخر لا وجدانا ولا تعبدا وتنزيلا ، إذ حينئذ لا تصل النوبة إلى مقام تطبيق كبرى الأثر على المظنون كي يحكم عليه بالوجوب أو الحرمة فيلزم حينئذ لغوية الجعل المزبور فان جعل الحكم لموضوع لا يقدر المكلف على تطبيقه في الخارج لغو محض ( نعم ) لا يجرى هذا الاشكال في الظن الذي هو حجة شرعا لأنه بمقتضى حجيته يكون احرازا لجزئه الاخر بالتعبد بالظن المزبور بمكان من الامكان ( واما الاشكال ) عليه بلزوم الدور من جهة إناطة الظن المزبور في حجيته ومشموليته لدليل الاعتبار بترتب الأثر الشرعي على المظنون وإناطة الأثر في ترتبه وفعليته بقيام الحجة عليه ( فمدفوع ) بما ذكرناه سابقا من كفاية الأثر التعليقي للجزء وهو كونه بحيث لو انضم إليه الطريق الشرعي لوجب أو حرم فعلا ( لان ) مثل هذا المعنى أيضا اثر شرعي وعليه فيرتفع الدور المزبور حيث إن ما أنيط ترتبه على قيام الطريق

ص: 28

عليه انما هو فعلية الأثر وما ينوط به الظن في حجيته انما هو الأثر التعليقي الواصل إلى مقام الفعلية بقيام الطريق عليه فتدبر هذا إذا كان المأخوذ في الموضوع تماما أو جزء هو ذات الظن مطلقا ( واما ) إذا كان المأخوذ في الموضوع هو الظن المصادف للواقع أو غير المصادف ففيه أيضا اشكال منشئه عدم امكان تطبيق كبرى الأثر على المورد ( نعم ) في الفرض الثاني يمكن القول بجوازه بلحاظ انتهاء الامر حينئذ إلى العلم الاجمالي بأحد الحكمين فيخرج عن محذور اللغوية لانتهائه بالآخرة إلى مرحلة ترتيب الأثر ، ولكن ذلك أيضا في فرض كون الحكم المترتب على الظن المزبور ملائما مع حكم المظنون أو مماثلا له ( والا ) فمع فرض مضادته له فلا مجال لصحة اخذه في الموضوع لعدم تأثير مثل هذا العلم الاجمالي بعد دوران المعلوم بالاجمال بين المحذورين الراجع إلى التخيير بمقتضى اللابدية العقلية ( واما ) الكلام في قيام غيره مقامه من الطرق الشرعية الغير المفيدة للظن فمجمل القول فيه هو ان الظن ان كان طريقا محضا إلى متعلقه يقوم مقامه العلم الوجداني وسائر الطرق الشرعية والأصول المحرزة ( واما ) ان كان موضوعا فإن كان على نحو الصفتية أو لكونه طريقا ناقصا لخصوصية في نقصه فلا يقوم مقامه العلم الوجداني فضلا عن الطرق الشرعية والأصول التعبدية ( وان كان ) اخذه بلحاظ رجحانه بلا نظر إلى جهة نقصه في الكاشفية ولا إلى جهة كونه صفة فيقوم مقامه العلم الوجداني ولكن لا تقوم مقامه الامارات التعبدية والأصول العملية ولو على القول بتتميم الكشف فيها نظرا إلى عدم اقتضاء دليل التنزيل المثبت لخصوصية العلم لاثبات مطلق الرجحان الا على القول بالمثبت بشهادة عدم اقتضاء استصحاب الفرد والخصوصية لاثبات الكلى والجامع ( فتأمل ) واما لو كان اخذه بلحاظ كونه حجة ومنجزا للواقع فيقوم مقام العلم الوجداني والامارات المعتبرة والأصول العملية حتى مثل ايجاب الاحتياط لكونه منجزا أيضا للواقع وان لم يكن طريقا مثبتا له هذا ولكن الفروض المزبورة أكثرها مجرد فرض ليس لها واقع أصلا.

الجهة الخامسة

لا اشكال في أن من شؤون القطع كونه حجة وقاطعا للعذر مع المصادفة بحيث

ص: 29

يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة ( وانما الكلام ) في كونه قاطعا للعذر مطلقا حتى في فرض عدم المصادفة بمحض كونه تجريا على المولى باتيان ما قطع بأنه حرام ومبغوض مثلا أولاً فيه وجوه وأقوال ( منها ) ما ارتضاه الشيخ قدس سره من عدم اقتضاء التجري شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه الذي لا يترتب عليه سوى اللوم كالبخل والحسد ونحوهما من الأوصاف المذمومة التي لا يترتب عليها استحقاق العقوبة ما لم تبرز في الخارج مع بقاء العمل المتجرى به على ما هو عليه من المحبوبية قبل تعلق القطع به ( ومنها ) اقتضائه للقبح الفاعلي محضا بمعنى كون الفعل من حيث صدوره من هذا الفاعل قبيحا لا من حيث ذاته الراجع إلى التفكيك في القبح بين ذات الفعل وجهة صدوره مع عدم استحقاق العقوبة عليه بدعوى ان مناط الاستحقاق انما هو القبح الفاعلي المتولد من القبح الفعلي لا المتولد من سوء السريرة وخبث الباطن ومنها اقتضائه لاستحقاق العقوبة على مجرد العزم على العصيان محضا لا على الفعل المتجري به نظرا إلى أن التجري كالتشريع من المحرمات الجنانية لا الجوارحية ( ومنها ) اقتضائه لكون الفعل المتجرى به قبيحا ومعاقبا عليه من جهة انطباق عنوان الطغيان عليه مع بقاء ذات العمل على ما هو عليه في الواقع ، بلا استتباعه لحرمته شرعا بهذا العنوان الطاري ( ومنها ) اقتضائه زايدا على ذلك لصيرورة العمل بهذا العنوان الطارئ عليه محرما شرعيا لكن لا مطلقا بل في بعض الموارد كما هو مختار الفصول قدس سره نظرا إلى دعوى مزاحمة الجهات الواقعية مع الجهات الظاهرية الناشئ من منع كون قبح التجري ذاتيا وأنه يكون بالوجوه والاعتبار ( ومنها ) اقتضائه لكون حراما شرعيا على الاطلاق لكون قبح التجري ذاتيا وعدم صلاحية الجهات الواقعية للمزاحمة مع مفسدته بلحاظ كونه طغيانا على المولى وظلما له ( فهذه ) وجوه ستة في المسألة والذي يقتضيه التحقيق هو الوجه الرابع توضيح المرام في المقام يقتضي بسط الكلام في مقامين.

اما المقام الأول فنقول لا ينبغي الارتياب في حكم العقل بقبح الاقدام على العمل الصادر عن اعتقاد المعصية واستحقاق العقوبة عليه « وذلك » لا من جهة اقتضاء مجرد القطع بالمبغوضية لصيرورة العمل قبيحا ومعاقبا

ص: 30

عليه ( كي يدفع ) ذلك بأنه خلاف ما يقتضيه الوجدان من بقاء الواقع على ما هو عليه من المحبوبية لدى المولى وعدم كون القطع بحرمة شيء بالقطع المخالف للواقع من العناوين المغيرة لجهة حسنه ومحبوبيته ( بل ) من جهة ان نفس اقدامه على ما اعتقد كونه مبغوضا للمولى ومعصية له مما ينطبق عليه عنوان الطغيان على المولى لكونه ابرازا للجرئة عليه وخروجا عن مراسم العبودية وان مبغوضية العمل واستحقاق العقوبة عليه انما هو لأجل هذا العنوان الطارئ عليه ، كما هو الشأن في اقدامه على العمل من قبل العلم المصادف ، حيث إن قبحه أيضا انما هو من جهة كونه طغيانا على المولى بابرازه للجرئة عليه بلا خصوصية في ذلك لعنوان العصيان فتمام المناط في القبح الفعلي واستحقاق العقوبة انما هو عنوان الطغيان المنطبق على الاقدام على ما اعتقد كونه مبغوضا للمولى ومعصية له الأعم من المصادف وغيره ولا يستلزم ذلك اخذ عنوان العلم في موضوع القبح على نحو الصفتية كما توهم ( بل العلم ) بما هو مأخوذ على نحو الطريقية والكاشفية يكون تمام الموضوع في احداث عنوان الطغيان على اقدامه ( واما ) الاشكال في امكان اخذه تمام الموضوع على نحو الطريقية ، فقد عرفت الجواب عنه فراجع ( واما المنع ) عن كون العلم الغير المصادف علما وانه حقيقة جهل مركب أطلق عليه العلم لمكان انه في نظر القاطع كاشف عن الواقع ، لا من جهة كونه كاشفا حقيقة ( فيدفعه ) كفاية مثل هذا الجهل أيضا كالعلم المصادف في احداث عنوان الطغيان على العمل المتجرى به وفى اشمئزاز العقل عنه بعين اشمئزازه عنه في العلم المصارف كاحداثه لعنوان التسليم على اقدامه في طرف الانقياد « كما » هو الشأن أيضا في مقام الانبعاث حيث كان مثل هذا الجهل محدثا لإرادة العالم بالبعث والمصلحة بعين محدثية العلم المصادف كما هو ظاهر ( نعم ) بينهما فرق من حيث إصابة المصلحة وعدمها ، ولكن ذلك أجنبي عن المقام الذي هو من وجدانيات العقل فتدبر « ولعمري » ان تمام المنشأ للتوهم المزبور انما هو تخيل ان الاحكام العقلية الوجدانية كغيرها مما تكون مصلحتها واقعية قابلة لتخلف الطريق عنها كما في مدركاته التي هي مركز بحث الملازمة ، مع أنها ليست كذلك جزما كما أوضحناه في محله « وعلى ذلك » لا يبقى في البين ما يقتضي المنع عن مبغوضية العمل المتجرى

ص: 31

به واستحقاق العقوبة عليه الا شبهة انقلاب الواقع عما هو عليه أو اجتماع الضدين وهما المحبوبية والمبغوضية والحسن والقبح في ذات واحدة وفى وجهة فاردة ( بتقريب ) ان مثل هذه الجهات بعد كونها من الجهات التعليلية الغير الموجبة للمكثرية فلا محالة يكون المنشأ فيها واحدا ذاتا وجهة وحيثية ، وحينئذ لو قيل بقبح التجري ومبغوضية العمل المتجرى به مع عدم انقلاب الواقع عما هو عليه ، يلزم اجتماع الضدين وهما المحبوبية والمبغوضية في ذات واحدة وفى جهة فاردة وهو من المستحل ولو على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في العنوانين المتحدين في الوجود فضلا عن القول بعدم جوازه ( لان ) القول بالجواز هناك انما هو في صورة اختلاف العنوانين في الجهة والحيثية لا في المقام المفروض اتحادهما ذاتا وجهة أيضا ، إذ في مثله لا شبهة في عدم جوازه حتى من القائل بالجواز هناك « ولكن فيه » أولاً النقض بباب الإطاعة المتسالم على حسنها حتى عند الأشعري ، وكذا الانقياد المتسالم على حسنه كموارد الاحتياط التي تسالموا على حسنه فيها عقلا وشرعا باعتبار كونه انقيادا وإطاعة حكمية حتى قيل بامكان تصحيح العبادة باتيانها بداعي حسنها الانقيادي مع كون العمل في الواقع مباحا أو مبغوضا ، وكباب النذر الذي تسالموا على اعتبار رجحان المتعلق في نفسه لولا النذر ، إذ فيه أيضا اجتماع الرجحانيين في ذات واحدة ، أحدهما الرجحان الثابت قبل النذر ، والاخر الرجحان الطارئ عليه من قبل النذر ، وكما في العهد واليمين عند تعلقهما بما هو راجح في نفسه ، وكما في امر الوالد ولده بما هو راجح في نفسه ، وغير ذلك من الموارد الكثيرة ( وثانيا ) الحل فتقول بعد الجزم بتعلق الاحكام بل جميع الصفات الوجدانية بنفس العناوين الحاكية عن مناشئها وعدم تعديها إلى المعنوات الخارجية لابد أولاً بالسراية بتوسيط العناوين كما أوضحناه في محله « ان مناط » استحالة اجتماع الضدين في العنوانين المتحدين في الوجود خارجا انما هو سراية الحكمين بواسطة اطلاق العنوانين لحال اجتماعهما في وجود واحد إلى جهة واحدة وحيثية فاردة ، وهذا لا يكون الا في العنوانين المنتزعين المشتركين ولو في بعض المنشأ نظير الغصب والصلاة بناء على اشتراكهما في بعض المنشأ على ما حققناه في محله « إذ حينئذ » تصير تلك الجهة الواحدة بلحاظ اطلاق العنوانين موردا لتوارد الحكمين المتضادين « والا »

ص: 32

فمع فرض عدم اشتراكهما ولو في بعض المنشأ كما في الأجناس بالقياس إلى فصولها وكما في الغصب والصلاة بناء على أن الغصب من مقولة والصلاة من مقولة أخرى فلا باس باجتماع الحكمين المتضادين في العنوانين المتحدين في وجود واحد ، إذ بعد وقوف كل حكم على نفس عنوان موضوعه وعدم تعديه إلى المعنون الخارجي لا يكاد يمنع مجرد وحدة المعنون خارجا عن اجتماع الحكمين لعدم انتهاء الامر في مثله إلى توارد الحكمين في جهة واحدة ( كما أنه ) في فرض طولية العنوانين بان كان انتزاع أحدهما عن الذات في مرتبة معروضيتها للإرادة والاخر عن الذات في المرتبة المتأخرة عن تعلق الإرادة بها لا بأس أيضا بالالتزام باجتماع الحكمين بلحاظ عدم سراية حكم كل عنوان حينئذ إلى العنوان الاخر « وبعد ذلك » نقول في المقام ان الاشكال المزبور انما يتوجه إذا كان ما ينطبق عليه عنوان التجري والطغيان هي الذات في مرتبة معروضيتها للإرادة وليس كذلك ، بل ما ينطبق عليه التجري انما هي الذات في المرتبة المتأخرة عن تعلق الإرادة بها أعني مرتبة موافقتها « وذلك » « لان » انتزاع عنوان التجري والانقياد كعنوان الإطاعة والعصيان انما كان عن الذات في المرتبة المتأخرة التي هي مرتبة فعلية تأثير الإرادة ، قبال العنوان المنتزع عن الذات المعروضة للإرادة المحفوظة في المرتبة السابقة عليها بنحو يرى المحكى منهما في مقام التصور ذاتان ، إحديهما في المرتبة السابقة معروضة للإرادة والاشتياق ، والأخرى في المرتبة المتأخرة التي هي مرتبة موافقتهما ، كعنوان الصلاة مثلا التي هي متعلق الامر المولوي ، وعنوان اطاعته المنتزع عن الفعل الماتى بدعوته بحيث يتخلل بينهما الفاء الكاشف عن اختلاف مرتبتهما ، كما في قولك أردت الصلاة فصليت وان لم يكن في الخارج لهاتين الذاتين الا منشأ واحد « وحينئذ » فحيث ان مثل هذه المرتبة مرتبة سقوط الإرادة بمباديها عن التأثير لا مرتبة ثبوتها لاستحالة سراية الحسن القائم بالذات في المرتبة السابقة على الإرادة إلى الذات المرئية في المرتبة المتأخرة عنها ، ولم يكن للمصلحة الواقعية أيضا تأثير في الحسن في هذه المرتبة لان تأثيرها كان ممحضا في المرتبة السابقة « فلا » غرو في مركزية إحدى الذاتين للحسن والمحبوبية ، والأخرى للمبغوضية العقلية ، فأمكن الالتزام حينئذ بمبغوضية العمل المتجرى به واستحقاق العقوبة

ص: 33

عليه لأجل انطباق عنوان الطغيان عليه ، مع الالتزام ببقائه على ما هو عليه في الواقع من الحسن والمحبوبية مثلا ، من غير أن تؤثر جهة وحدة وجود المعنون خارجا في المنع عن ذلك لعدم انتهائه إلى اجتماع الضدين في شيء واحد « بل » ولئن تأملت ترى الوجود الخارجي دائما بإزاء هذا العنوان الطارئ لا بإزاء العنوان الذي تعلق به الامر وان كان منشأ لانتزاعه لأنه يعتبر في تعلق الامر بعنوان عرائه عن الوجود ، إذ وجوده في الخارج منشأ سقوط الامر عنه لا ثبوته « واما » توهم مضادة المصلحة القائمة بتلك الذات مع مفسدة التجري ( فمدفوع ) بعدم كون مبغوضيته ناشئة عن مفسدة في ما ينطبق عليه بل هو كاردافه بنفسه مبغوض مستقلا « وما قيل » من أن العنوان المأخوذ في الحكم بعد أن لم يكن بلحاظ وجوده الذهني الاستقلالي بل بلحاظ آليته وحكايته عن الوجود الخارجي « فلا جرم » بعد اتحاد العنوانين المزبورين في الوجود الخارجي ، يكون المرئي منهما عبارة عن جهة واحدة وحيثية فاردة ، ولازمه اتصاف تلك الجهة الواحدة بحكمين متضادين بلحاظ ما كان بينها وبينهما بهذا اللحاظ من العينية والاتحاد وهذا مما يأبى العقل عنه « مدفوع » بان العنوانين بعد كونهما طوليين لا يرى في عالم اللحاظ والاعتبار من عنوان ما يرى من العنوان الاخر بل كان المرئي فيهما في عالم التصور ذاتان إحديهما معروضة للامر وفي رتبة سابقة عنه ، والأخرى معلولة للامر وفي رتبه لاحقة عنه ، وان لم يكن في الخارج وفي عالم التصديق الا ذات واحدة في قبال العنوان الطارئ وبإزائه ، لا العنوان الأول كما أشرنا إليه « وحينئذ » فبعد عدم مانعية وحدة المنشأ خارجا لمثل هذين الاعتبارين في عالم التصور وكون مدار تعلق الاحكام أيضا على الأنظار التصورية لا التصديقية « فلا محذور » في الالتزام بقبح الفعل المتجرى به بعنوان كونه تجريا وطغيانا مع بقاء الواقع على ما هو عليه من المحبوبية ، ( كما هو الشأن ) أيضا في الانقياد المتسالم على حسنه لديهم حسب اطباقهم على حسن الاحتياط حتى في العبادات على وجه يتوهم صلاحيته للتقرب وتصحيح العبادة المحتملة بمثله ، مع كونه في ظرف المخالفة انقيادا محضا ، حيث إنه بعد بقاء الواقع في مثله أيضا على ما هو عليه من الحكم يتأتى فيه أيضا شبهة اجتماع الضدين ، ولا تندفع هذه الشبهة الا بما ذكرنا من طولية العنوانين الموجبة

ص: 34

لعدم تعدى الحكم من عنوان إلى عنوان متأخر عنه رتبة « بل وكذا » الامر في الإطاعة الحقيقية والعصيان الحقيقي ، ولا يندفع شبهة اجتماع المثلين أو الضدين فيهما الا بما ذكرنا ( وبهذا البيان ) أيضا تندفع شبهة اجتماع المثلين في نحو النذر وغيره من العناوين المأخوذة جهة تعليلية للحكم ، حيث إنه بمقتضى طولية الحكمين نلتزم بالجمع بينهما بلا ورود محذور في البين ، ومن غير أن نلتزم بالتأكد أيضا في أمثال المقام كما أفيد ، كيف وان التأكد يقتضي الاتحاد في الوجود ، ومثله ينافي طولية الحكمين بنحو يتخلل بينهما الفاء الموجب للمغايرة ، إذ في مثله يستحيل الاتحاد فكيف يتصور التأكد فتدبر.

( ثم انه قد يتوهم ) اشكال آخر على ما ذكرنا من قبح التجري واستحقاق العقوبة عليه ، بتقريب ان اتصاف كل شيء بأي عنوان بالحسن أو القبح الموجبين للمثوبة والعقوبة فرع اختيارية ذلك العنوان ، إذ يأبى العقل عن تحسين ما لا يطاق أو تقبيحه واستحقاق المثوبة أو العقوبة عليه ، وهي غير متصورة في المقام ، لان عنوان التجري أو مقطوع المبغوضية بالقطع المخالف بهذا العنوان لا يكون اختياريا بحيث يقصده الفاعل ، لامتناع التفات الفاعل إليهما حين عمله ، والا ينقلب عن كونه متجريا ومقدما على مقطوع المبغوضية بالقطع المخالف بهذا العنوان ، ومعه يستحيل اتصافه بالقبح الموجب لاستحقاق العقوبة ( ولكنه يندفع ) بما أشرنا إليه سابقا من أن التقبيح والعقوبة انما يكونان على عنوان التمرد والطغيان وابراز الجرئة على المولى الذي هو جامع بين التجري والعصيان ، لا على خصوص عنوان التجري أو العصيان ، كي يقال ان الأول من جهة الغفلة عنه غير اختياري ، والثاني غير متحقق بالفرض ، ومن المعلوم بداهة كون هذا العنوان الجامع مما يلتفت إليه المتجرى حين اقدامه ، فان القادم على ارتكاب مقطوع المبغوضية قادم على هتك المولى وعلى الطغيان عليه ، غاية الامر يتخيل تحقق هذا العنوان في ضمن العصيان لغفلته عن الفرد الاخر وفي الواقع كان متحققا في ضمن فرد اخر وهو التجري ، ومن المعلوم ان مثل هذه الغفلة عن فرد الجامع مع الالتفات إلى نفسه غير ضائره بالتقبيح واستحقاق العقوبة عليه كما هو ظاهر ، فتمام الخلط انما هو في جهة تخيل كون مناط التقبيح والعقوبة خصوص عنوان العصيان والتجري

ص: 35

والا فبناء على جعل المناط بتمامه عنوان الطغيان على المولى أو التسليم له الجامعين بين العصيان والتجري والإطاعة والانقياد فلا يلزم محذور ، ( وبذلك أيضا ) يندفع ما أفيد من اشكال لزوم تعدد العقوبة في موارد العصيان ، تارة على تجريه المنطبق على العزم على العصيان الذي هو عبارة عن هيجان الرغبة بعد الشوق إلى العمل ولو بشروعه في بعض مقدماته ، وأخرى على نفس عصيانه المتحقق باتيان ما هو حرام ومبغوض للمولى « إذ نقول » ان مناط استحقاق المثوبة والعقوبة كما أنه عنوان التسليم للمولى والطغيان عليه ، كذلك مناط وحدة المثوبة والعقوبة وتعددهما أيضا هي وحدة التسليم والطغيان وتعددهما ، فالطغيان المتحقق في مورد العصيان الحقيقي ، حيث إنه طغيان واحد مستمر من حين شروعه في مقدمات المعصية إلى آخر العمل ، كانت العقوبة المترتبة عليه أيضا واحدة ، فحصول الطغيان وان كان بشروعه في مقدمات المعصية المفضية إليها ، الا انه يستمر طغيانه ذلك إلى آخر العمل ، فمتى استمر على عمله كان طغيانه أيضا مستمرا ، والا فينقطع من حيث قطعه ، كما هو الشأن أيضا في تسليمه للمولى في مقام الإطاعة ، ومن ذلك ترى العقلاء بأنهم لا ينتظرون في ذم المقدم على المعصية بايجاد المقدمات المفضية إليها إلى زمان صدور المعصية ، بل بنفس الاقدام على المقدمة المفضية إليها يقبحونه ويذمونه بطغيانه على المولى وابرازه للجرئة عليه ، وحينئذ فلا يكون طغيانه ولو بلغ باستمراره ما بلغ حسب كثرة المقدمات الا طغيانا واحدا مستتبعا لعقوبة واحدة « هذا مع امكان » التفكيك بين أصل الاستحقاق وجهة وحدة العقوبة وتعددها بجعل مناط أصل الاستحقاق عنوان التسليم والطغيان على المولى المتحقق ولو بالاقدام على المقدمة ، لا نفس العصيان وتفويت الغرض الأصلي ، ومناط وحدة العقوبة وتعددها وحدة الغرض الفائت وتعدده ، ولازم ذلك عدم استحقاقه بتفويت غرض اصلى واحد الا عقوبة واحدة ، ولو مع مخالفته لواجبات غيرية متعدده فتدبر ثم انك بعد ما عرفت استقلال العقل بقبح التجري واستحقاق العقوبة عليه بمناط كونه طغيانا على المولى ، يقع الكلام في المقام الثاني ، وهو استتباع مثل هذا القبح للتكليف المولوي وعدمه ( فنقول ) لا ينبغي الاشكال في عدم صلاحية عنوان التجري والانقياد كعنوان الإطاعة والعصيان للتكليف المولوي ( وذلك )

ص: 36

اما أولاً فلعدم قابلية مثل هذه العناوين لأعمال جهة المولوية فيها ، بل لو ورد امر أو نهى شرعي بعنوانهما لابد وأن يكون ارشادا محضا إلى حكم العقل ، كما في النهى عن العصيان والامر بالإطاعة « لان » الغرض من الحكم المولوي حينئذ ليس الا البعث نحو الشيء بالايجاد أو الزجر عنه للفرار عما يترتب على مخالفة التكليف الواقعي أو الاعتقادي من التبعات « ومن المعلوم » انه مع زجر العقل عنه وحكمه باستحقاق العقوبة لا يحتاج إلى زجر آخر بعنوان التجري أو العصيان لكونه لغوا محضا « ولئن شئت » قلت إن النهى المقطوع به ان كان زاجرا عن العمل بحكم العقل ، فلا يحتاج إلى زجر آخر مولوي بهذا العنوان ( والا ) فلا يكون النهى الثاني أيضا زاجرا عنه ( واما ثانيا ) فلعدم صلاحية مثل هذا القبح العقلي في المقام لاستتباع التكليف المولوي على وفقه ، لان الحسن والقبح العقليين انما يستتبعان التكليف المولوي على الملازمة إذا كانا ناشئين عن مصلحة أو مفسدة في نفس العمل ومثله غير متصور في المقام « إذ لا يحدث » من قبل طرو عنوان التجري والانقياد وكذلك الإطاعة والعصيان مصلحة أو مفسدة في نفس العمل ، كي بذلك يكون مثل هذا الحسن أو القبح العقلي مستتبعا على الملازمة للحكم الشرعي « وحينئذ » فلو ثبت حكم شرعي لكان ذلك بلا ملاك يقتضيه كما هو ظاهر ( بل وبمثل ) هذا البيان نقول بعدم المجال لاثبات الحكم المولوي أيضا ولو على القول بعدم اقتضاء التجري شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل فضلا عن سائر الأقوال ، حيث إن المنع عنه حينئذ انما هو من جهة عدم المقتضى للحكم المولوي ( نعم ) على سائر الأقوال يتجه المنع من جهة وجود المانع أيضا كما ذكرناه ( ثم انه ) بالتأمل فيما ذكرنا في وجه المختار يتضح لك ضعف سائر الأقوال وانه لا مجال لانكار القبح والعقوبة رأسا كما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره ( إذ هو ) مع مخالفته لما عرفت من حكم الوجدان بقبح الطغيان على ولى النعمة والاحسان مناف لما تسالموا عليه من حسن الانقياد وترتب المثوبة عليه ( واما توهم ) ان الثواب فيه تفضلي ( فيدفعه ) تصريحهم برجحان الاحتياط بالفعل الماتى بداعي المحبوبية لكونه انقيادا وإطاعة حكمية ، حتى أنه قدس سره بنى على امكان تصحيح العبادة المحتملة بهذا المقدار من الحسن العقلي ( ولا ) للتفكيك بين ذات الفعل وجهة صدوره

ص: 37

عن الفاعل بالتزام القبح في الثاني دون الأول كما افاده بعض الأعاظم قدس سره ( إذ بعد ) الغض عن عدم مكثرية مثل هذه الجهات للوجود يتوجه عليه انه ( ان أريد ) من موضوع القبح الفعل المضاف إلى الفاعل بإضافة صدورية ، فهو عين الالتزام بقبح نفس الفعل غايته بقبح ضمني لا استقلالي وهو خلاف المقصود ( وان أريد ) به نفس إضافة الفعل إلى الفاعل ، فلازمه أيضا سراية القبح المزبور إلى ما تقوم به الإضافة المزبورة ولو غيريا ( وان أريد ) به كشف صدور الفعل عن الفاعل عن سوء سريرته بلا قبح لا في نفس الفعل ولا في صدوره من الفاعل ابدا ( فهو ) لكونه خارجا عن الاختيار لا يكاد يوجب مثله لاحداث قبح فيه ، فيلزمه انكار أصل القبح كما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره لا اثبات القبح الفاعلي ( ولازم ) ذلك أيضا الالتزام بعدم استحقاق المثوبة في طرف الانقياد ، بل ولازمه عدم رجحان الاحتياط باحتمال كونه انقيادا ( وهو ) كما ترى خلاف مقصود هذا القائل ( وحينئذ ) فالالتزام بقبح صدور الفعل عن الفاعل فقط لا نفس الفعل مما لم نفهم له وجها ( ولعمري ) ان تمام المنشأ في الاستيحاش عن قبح الفعل المتجرى به المستتبع لاستحقاق العقوبة عليه ، انما هو من جهة شبهة التضاد بعد الفراغ عن بقاء ذات العمل على ما هو عليه في الواقع من الحكم بتوهم عدم امكان اجتماع حسن العمل ومحبوبيته واقعا مع مبغوضيته بالعنوان الطاري عليه ، حيث إنه لأجل هذه الشبهة التزم بما التزم ( ولكنه ) بعد حل هذه الشبهة مما أسلفناه لا يبقى مجال لهذه الالتزامات ( كما لا مجال ) أيضا لما افاده في الكفاية من تخصيص موضوع القبح بالعزم على المعصية الذي هو من المقدمات الخارجية ( إذ نقول ) ان مناط القبح في العزم بعد أن كان حيث طغيانه على المولى ، فلا شبهة في تحققه في نفس الفعل الصادر عن اعتقاد المعصية ، بل استحقاقه للعقوبة على العزم المزبور حينئذ انما هو لكونه شروعا في الطغيان بايجاد مقدمته ، والا فلا وجه للالتزام باستحقاق العقوبة على مجرد القصد والعزم ، كما هو الشأن أيضا في طرف الانقياد الذي هو إطاعة حكمية فان حسنه واستحقاق المثوبة عليه ، انما كان باعتبار اشتغاله باظهار العبودية بعمله وصيرورته في مقام التسليم لأوامر مولاه كما هو ظاهر ( بل ) وبما ذكرنا ظهر أيضا انه لا وجه لما عن الفصول قدس سره من

ص: 38

دعوى المزاحمة بين محبوبية العمل في الواقع ومبغوضيته بعنوان التجري ووقوع الكسر والانكسار بين الجهات الموجب لصيرورة التجري محكوما بأحكام خمسة وانقلاب الواقع أحيانا ( إذ ذلك ) كله فرع عدم امكان الجمع بين الحسن والقبح والمحبوبية والمبغوضية في الفعل بعنوانه الواقعي وبالعنوان الطارئ عليه لشبهة انقلاب الواقع أو اجتماع الضدين ( وبعد ) دفع تلك الشبهة بما بيناه من تعدد العنوانين وطوليتهما بنحو لا يسرى الحسن القائم بعنوان إلى العنوان المعروض للقبح ( لا يبقى ) مجال توهم المزاحمة بين تلك الصفات كي ينتهى الامر أحيانا إلى انقلاب الواقع أو عدم قبح التجري ( نعم ) لو اغمض عن ذلك لا يتوجه عليه ما افاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره من الاشكال ( تارة ) بان التجري على المولى قبيح ذاتا لكونه ظلما عليه فيمتنع عروض الصفة الحسنة له ، كما أن الانقياد بعكس ذلك ، فيمتنع ان يعرضه جهة مقبحة ( وأخرى ) بان المصالح الواقعية انما تصلح للمزاحمة مع مفسدة التجري مع الالتفات إليها لا مع الغفلة عنها ( والا ) فيكون التأثير للمفسدة الملتفت إليها ( إذ يمكن ) ان يجاب عن الأول بامكان أهمية مصلحة الواقع بالنسبة إلى مفسدة التجري في نظر المولى بنحو يمنع عن تأثير التجري في المبغوضية الفعلية ( وعن الثاني ) بان غفلة المكلف عن مصلحة الواقع ، انما تمنع عن تأثيرها في المصلحة بحسب نظره الذي به قوام حكم عقله بالقبح ( والا ) فبالنسبة إلى نظر المولى العالم بالواقع والملتفت إلى الجهتين فلا تمنع غفلة المكلف عن تأثير المصلحة التي هي أهم في نظره في المحبوبية الفعلية المانعة عن تأثير التجري في المبغوضية الفعلية والحرمة ( نعم ) تأثيرها في تحسين الفاعل واستحقاقه بذلك للمثوبة يحتاج إلى التفاته إلى الجهات المحسنة كما هو كذلك في تأثيرها في توجيه الحكم الفعلي إليه بنحو يصير داعيا ومحركا له على وفقه ، لما عرفت غير مرة من أن العلم والالتفات تمام الموضوع في هذه المراحل ( ولكن ) هذه الجهة غير مرتبطة بمرحلة مؤثرية المصلحة الواقعية في فرض أهميتها بنظر المولى في المحبوبية الفعلية المانعة عن تأثير مفسدة التجري في الحرمة ( وحينئذ ) فالأولى هو الاشكال عليه بما ذكرنا من منع المزاحمة بين تلك الجهات بعد تعدد الموضوع لها وطوليته ( ثم إن ) في الفصول كلاما اخر في مبحث مقدمة الواجب ( وهو ) ان التجري على المعصية

ص: 39

معصية أيضا لكنه ان صادفها تداخلا وعدا معصيته واحدة ( أقول ) وهو بظاهره مشكل بان التجري وان كان يصدق على ترك مقدمة من مقومات الواجب كما هو محل كلامه ويلزمه تحققه مع العصيان أيضا إذ ليس من مقومات التجري عدم مصادفته مع العصيان كما افاده بعض الأعاظم قدس سره وانما قوامه بعدم صدق العصيان عليه ( ولكنه ) بعد أن يباين العصيان وجودا وموردا بلحاظ ان مورده هي المقدمة التي هي غير نفس العصيان يستحيل تداخله معه ( وحينئذ ) لو قيل باستحقاق العقوبة على خصوص هذا العنوان المقابل للعصيان ، يلزمه لا محالة تعدد العقوبة ولا مجال للتداخل ( نعم ) على ما ذكرنا من أن مدار العقوبة على عنوان الطغيان على المولى الجامع بين التجري والعصيان لا على خصوص عنوانهما ( لا باس ) بالالتزام بوحدة العقوبة في الفرض المزبور بلحاظ كونه حينئذ طغيانا واحدا مستتبعا لعقوبة واحدة ولكن ذلك غير مرتبط بالتداخل كما هو واضح ولا يبعد ان يكون نظر الفصول أيضا إلى ما ذكرناه ولكنه سامح في مقام التعبير فعبر عنه بالتداخل هذا ( وقد أفيد ) في توجيه كلامه قدس سره بان المراد من المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي تجرى فيها بل معصية أخرى كما لو شرب مايعا باعتقاد انه خمر ثم تبين انه مغصوب فان المكلف تجرى بالنسبة إلى شرب الخمر وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب ، بناء على أن العلم بجنس التكليف يكفي في تنجز التكليف وان لم يعلم فصله كما سيأتي في العلم الاجمالي فيقال في المثال انه قد تعلق علمه بحرمة شرب المانع على أنه خمر فبالنسبة إلى كونه خمرا أخطأ علمه وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع لأنه كان مغصوبا ، فيكون قد فعل محرما ويعاقب عليه وان لم يعاقب على خصوص الغصبية لعدم تعلق العلم بها بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية ، فلو فرض ان عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر ولو انعكس الامر يعاقب عقاب الغصب لأن المفروض انه لم يشرب الخمر فلا يعاقب عليه وفي الصورة الأولى انما كان يعاقب عقاب شرب الخمر مع أنه لم يشرب الخمر من جهة ان عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل والمنفي هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب انتهى ( ولكنك خبير ) بما في هذا التوجيه مع ما فيه من التشويش والاضطراب إذ مضافا إلى كونه خارجاً

ص: 40

عن مورد كلام الفصول الذي هو التجري بترك مقدمة الواجب ( نقول ) ان كان الغرض ان الغصبية طرف للعلم الاجمالي فلا ريب في أن الغصبية كما انها محتملة كذلك الخمرية محتملة أيضا ، فلا معنى حينئذ لفرض العلم بالخمرية « وان كان » الغرض ان الغصبية غير محتمله رأسا وان المعلوم هو الخمرية فقط « ففيه » ان مجرد العلم بحرمة الخمر لا يستلزم العلم بحرمة الغصب ولا بالجامع بينهما ( إذ هما ) وانكانا تحت جامع الحرمة ، ولكن المعلوم بعد أن كان هي الحصة الخاصة من الحرمة المتعلقة بالخمر لا يسرى العلم منها إلى الحصة الأخرى المتعلقة بالغصب ولا إلى الجامع بينهما القابل للانطباق على كل من الحصتين ، كما في العلم بوجود زيد في الدار فإنه لا يكون الا علما بحصة من الانسانية المتحققة في ضمنه لا علما بمطلقه القابل للانطباق على سائر الافراد ، وما يأتي في العلم الاجمالي بجنس التكليف فإنما هو في مورد تعلقه بالجنس القابل للانطباق على كل واحد من الفردين لا فيمثل المقام « وحينئذ » فبعد عدم اقتضاء العلم بشخص حرمة الخمر للعلم بشخص حرمة الغصب ولا بالجامع بينهما فأين يتصور عصيان لحرمة الغصب أو للقدر المشترك بينهما وبين حرمة الخمر كما هو ظاهر ( بقى ) الكلام في اقسام التجري ( فنقول ) ان التجري ( تارة ) يكون في مقطوع المعصية ( وأخرى ) في مظنونه ( وثالثة ) في محتمله وعلى الأخيرين ( تارة ) يكون اقدامه على العمل برجاء المصادفة للواقع ( وأخرى ) برجاء عدم المصادفة للواقع ( وثالثة ) لمحض دعوة شهوته ( واما ) حكم هذه الأقسام فالقسم الأول منها قد تقدم مشروحا ( واما ) القسم الثاني وهو التجري في مظنون المعصية فحكمه كالتجري في مقطوع المعصية ان قام دليل معتبر على حجية ظنه ( لان ) ملاك القبح مخالفة ما هو المنجز في حقه علما كان أو غيره من غير فرق بين الصور الثلاث المتقدمة ( وان كان ) فرق بينها من جهة أشدية التجري في الصورة الأولى ( اللّهم ) الا ان يمنع أصل صدق التجري في الصورة الثانية ، بدعوى ان الامر بالغاء احتمال الخلاف لما كان حكما طريقيا راجعا إلى حكم صوري في ظرف المخالفة للواقع فالاقدام على العمل برجاء عدم مصادفة الطريق للواقع يرجع إلى البناء على كونه ترخيصا ، والاقدام مع هذا البناء لا يكون تجريا لا بالنسبة إلى الواقع ولا بالنسبة إلى الطريق فتدبر ( واما ) إذا لم يقم دليل

ص: 41

معتبر على حجية ظنه فلا اثر لتجريه بعد عدم حجية ظنه وعدم تنجز الواقع عليه بل يمكن التأمل في أصل تجريه حتى في فرض اتيان العمل برجاء المعصية ( وهكذا ) الكلام في القسم الثالث ( بقى ) الكلام فيما يمكن ان يجعل ثمرة لهذا النزاع ( وهو ) انه على المختار من قبح التجري ذاتا ومبعديته لو قامت امارة معتبرة على حرمة شيء فلا اشكال في عدم صلاحية العمل المتجرى به حينئذ للمقربية ولو مع اتيانه برجاء مطلوبيته واقعا ، من جهة انه مع قبحه فعلا ومبعديته يستحيل صلاحيته للمقربية ( واما ) على مختار الشيخ قدس سره فيمكن التقرب بمثله باتيانه برجاء المطلوبية الواقعية ، إذ لا تنافي بين كشفه عن سوء سريرته وبين صلاحيته للمقربية ( وتوهم ) مانعية سوء سريرته حينئذ عن مقربية عمله كما في عمل الكافر المأتي بقصد التقرب بناء على عدم مانعية الكفر ( ممنوع ) إذ يحتاج مثله إلى قيام دليل عليه ( واما ) على مختار الكفاية فيمكن الالتزام أيضا بصحة عمله وصلاحيته للمقربية ( إذ ) بعد عدم سراية القبح إلى نفس العمل ووقوفه على نفس العزم على المعصية فلا قصور في صلاحية عمله للمقربية ، اللّهم الا ان يقال بان قوام مقربية الأعمال بعد أن كان بقصدها ، فلا محاله يكون مبعدية قصده مانعا عن مقربية عمله ( ولعله ) إلى ما ذكرناه أيضا نظر الأصحاب في حكمهم ببطلان العبادة مع خوف الضرر الغير المالي ، وكذا بنائهم على بطلان عبادة الحائض في أيام الاستظهار أو عند الاشتباه بدم آخر قبل الاختبار بناء على الحرمة الذاتية ولو لم يكن في الواقع حيضا ولا كان في الواقع ضرر ( إذ بعد ) كون المرتكز في الأذهان هو طريقية هذه العناوين لا موضوعيتها يتمحض بنائهم على البطلان من جهة كونه تجريا ( واما ) توهم ان بنائهم على البطلان في نحو هذه الموارد انما هو من جهة التشريع لا التجري ( فيدفعه ) استلزامه للبناء على صحة العبادة في فرض الاتيان بها برجاء المطلوبية واقعا ، لعدم تأتي التشريع المحرم حينئذ ولو مع قيام الامارة المعتبرة على الحرمة مع أنهم لا يلتزمون بذلك

الجهة السادسة

« قد عرفت » ان القطع إذا كان طريقا محضا فلا يفرق فيه بين أسبابه

ص: 42

وأشخاصه وأزمانه وانه متى تحقق يتبعه حكم العقل تنجيزا بلزوم متابعته والحركة على وفقه بنحو يستحيل الردع عنه من قبل الشارع ( الا انه ) خالف في ذلك جماعة من أصحابنا الأخباريين فقالوا بأنه لا اعتبار بالقطع الناشئ من غير الأدلة السمعية ( وهو ) بظاهره مشكل بداهة اباء العقل بعد تنجيزية حكمه بلزوم الاتباع عن تشريع خلافه لكونه من المناقضة الواضحة في نظره ( نعم ) لهذا الكلام مجال بناء على تعليقية حكمه على عدم الردع عنه ( إذ حينئذ ) بالردع يرتفع حكم العقل فترتفع المناقضة ( كما لعله ) إلى ذلك أيضا نظر القائلين بجواز ارتكاب جميع الأطراف في العلم الاجمالي فكان تجويزهم ارتكاب الجميع من جهة دعوى كون حجية العلم الاجمالي كالظن في حال الانسداد على الحكومة ( معلقة ) على عدم ورود ترخيص شرعي على الخلاف ( وحينئذ ) فلا يبقى في البين الا شبهة المناقضة والمضادة الواقعية ، وهي أيضا مندفعة بما يجاب به في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من اختلاف الرتبة بين الحكمين هذا ولكن المبنى واضح البطلان ، بداهة انه ليس حكم العقل بلزوم اتباع القطع الا على نحو التنجيز الغير القابل للمنع عنه ، بشهادة ارتكاز المناقضة الكاشف إنا عن كون حكمه بلزوم اتباع القطع على نحو التنجيز والعلية التامة ، نظير كشف التبادر عن ثبوت الوضع ( إذ ) المناقضة المزبورة الارتكازية ثبوتا من توابع تنجيزية حكم العقل ( وعلى ذلك ) فمتى حصل القطع يتبعه حكم العقل التنجيزي بوجوب الموافقة سواء كان حصوله من المقدمات العقلية النظرية أو الضرورية أو الأدلة السمعية ، وسواء كان القاطع قطاعا أو غيره ، لاستواء الجميع بنظر العقل ( نعم ) يمكن ان يفرق بين القطع الناشي عن تقصير المكلف في مقدمات حصول قطعه وبين غيره في جهة معذريته عند مخالفة قطعه للواقع ، بدعوى عدم معذورية من يقصر في مقدمات قطعه خصوصا إذا كان ذلك من جهة الخوض في المقدمات العقلية التي نهى عن الخوض فيها ( ولكن ) مثل هذه الجهة غير مرتبطة بجهة منجزيته وعليته لحكم العقل بوجوب الحركة على وفقه ( إذ ) لا تلازم بين عدم معذرية قطعه ذلك عند تخلفه عن الواقع ، وبين عدم منجزيته في مقام اثبات الاشتغال بالتكليف وصحة الردع عن العمل على وفقه ( ولا بأس ) أيضا بالالتزام بهذا المقدار ، كما يشهد له النصوص الناهية عن

ص: 43

الخوض في المطالب العقلية ز بناء على شمولها للقطع بالأحكام الفرعية ، بل وما ورد من نفي الثواب على ما لا يكون بدلالة ولى اللّه ( فان ) الظاهر المستفاد منها هو النهي عن الخوض في المباني العقلية في مقام استنباط الاحكام الفرعية كالأقيسة والاستحسانات كما كان عليه ديدن العامة اللذين استغنوا بأمثال هذه الأمور عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام « لولا » دعوى سوقها في مقام شرطية الولاية في صحة الأعمال خصوصا بقرينة بناء الاسلام عليها ( نعم ) ما كان منها بلسان عدم جواز العمل به لابد من حمله على الظنون العقلية والاستحسانات الظنية ونحوها مما لا يستتبع حكم العقل بوجوب الاتباع ( ولعله إلى ما ذكرنا ) نظر القائل بعدم اعتبار قطع القطاع فيراد من ذلك عدم اعتباره في مقام المعذرية ، ولو بملاحظة تقصيره في مقدمات قطعه من الأول الناشئ من جهة قلة مبالاته وعدم تدبره الموجب لخروجه بذلك عما عليه متعارف الناس من الاستقامة إلى الاعوجاج في السليقة بنحو يحصل له القطع من كل شيء مما لا يكون مثله سببا عاديا لحصول الظن بل الشك لمتعارف الناس ، لا عدم اعتباره في مقام المنجزية ومرحلة اثبات التكليف والاشتغال به ( بل ويمكن ) ان يحمل عليه أيضا مقالة الأخباريين في حكمهم بعدم اعتبار القطع الناشئ من غير الأدلة السمعية لولا تصريح بعضهم بالخلاف ولو بدعوى كون القطع الناشئ من المقدمات العقلية أكثر خطأ من القطع الناشي من الأدلة السمعية وان كان فيه ما فيه أيضا لمنع أكثرية الخطأ في ذلك عما يحصل من الأدلة السمعية بنظر العقل ومساواتها بنظره من جميع الجهات ( وربما ) أفيد في توجيه كلامهم كما عن بعض الأعاظم قدس سره بجعله ناظرا إلى شرطية العلم الخاص في أصل ثبوت التكليف الواقعي بنحو نتيجة التقييد ( بل ) نفي البعد أيضا عن كون العلم الحاصل من غير الطرق الشرعية كالرمل والجفر وغيرهما مانعا شرعيا عن أصل ثبوت التكليف الواقعي « ولكنه » كما ترى فان نظر الأخباريين لو كان فيما اختاروه إلى شرطية العلم من سبب خاص في ثبوت الحكم الشرعي ولو بمتمم الجعل يلزمهم انكار حصول العلم بالحكم من غير الكتاب والسنة كما توجه إلى ذلك أيضا هو قده قبيل ذلك « لا المنع » عن حجيته ولزوم متابعته ( مع ) ان كلماتهم كما ترى مشحونه بأنه لو حصل العلم من غير الكتاب والسنة يطرح ولا يصلح

ص: 44

للمعارضة مع العلم الحاصل من الدليل النقلي ( ومن ذلك ) ترى الشيخ قدس سره يستوحش من هذه المقالة غايته وينادي بأنه ليت شعري مع حصول العلم من دليل العقل ، كيف يعقل حصول العلم بخلافه من غيره وبالعكس ، حتى يقع بينهما المعارضة وينتهي الامر إلى ترجيح النقلي عليه ، وانه في فرض حصول العلم كيف يعقل الردع عنه ( واما ) ما وقع منه قدس سره من جعل مقالة الأخباريين من أمثلة العلم المأخوذ في الموضوع فإنما هو لمحض التمثيل على ما يقتضيه مذاق الأخباريين من عدم العبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنة لا انه لأجل تصحيح كلامهم والا لم يكن مجال للانكار عليهم والاستيحاش من مقالتهم كما هو ظاهر وقد يوجه » كلامهم بوجه آخر وتقريبه ان قصد التقرب في الأحكام الشرعية لما كان منوطا بالجزم بالامر الشرعي الباعث على الاتيان كان للشارع تقييد القربة المعتبرة في المأمور به بالقرب الناشئ عن خصوص الجزم الناشئ من الأدلة السمعية لا مطلقا فحينئذ تصح مقالة الاخباري من عدم العبرة بالقطع الناشئ من المقدمات العقلية ، مؤيدا بما ورد من النصوص بعدم الثواب على الأعمال التي لم تكن بدلالة ولى اللّه الظاهرة في كون عدم المثوبة من جهة الاخلال بقصد القربة ( أقول ) ولا يخفى ان هذا التوجيه وان كان وجيها في نفسه ولا يرد عليه اشكال امتناع ردع الشارع عن العمل على وفق القطع الناشئ عن غير الأدلة السمعية لخروجه في الحقيقة عن مفروض البحث الذي هو القطع الطريقي ( ولكن ) يرد عليه مضافا إلى اختصاصه بالتكاليف العبادية وعدم جريانه في كلية التكاليف ، انه لا دليل على التقييد المزبور في العبادات لو لم نقل بظهور أدلة اعتبار قصد القربة في كفاية مطلق القرب الناشئ ولو من الجزم الناشي من الطرق العقلية ، واما التأييد المزبور فقد عرفت ان هذه النصوص ، بين ما يكون في مقام اعتبار شرطية الولاية في أصل صحة الأعمال ، وبين ما يكون في مقام النهى عن الخوض في الأقيسة والاستحسانات العقلية الظنية كما عليه العامة ( وحينئذ ) فأحسن التوجيهات لمقالتهم هو ما ذكرناه أولاً من تعليقية حكم العقل في وجوب اتباع القطع على عدم ردع الشارع عن خلافه كما ربما يؤيده كلام المحدث البحراني قدس سره في ترجيح للنقل على العقل عند تعارض القطعين وتأييد أحدهما بالنقلي فتأمل

ص: 45

الجهة السابعة

في أنه هل يعتبر العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي والكلام فيه يقع ( تارة ) في مقام اثبات التكليف به ( وأخرى ) في مقام الاسقاط به ( اما المقام الأول ) فيقع الكلام فيه ( تارة ) في تأثيره في التنجيز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية في قبال من يدعى عدم اقتضائه رأسا وانه كالشك البدوي ( وأخرى ) في تأثيره بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وعلى التقديرين فهل هو على نحو الاقتضاء أو بنحو العلية التامة غير القابل لمجئ الترخيص على خلافه ، أو يفصل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بكونه على نحو العلية في الأولى وعلى نحو الاقتضاء في الثانية ( فنقول ) لا ينبغي الاشكال في أن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في كونه علة تامة لاثبات الاشتغال بالتكليف وتنجيزه على وجه يأبى العقل عن الترخيص على خلافه ويشهد لذلك ارتكاز المناقضة هنا كما في العلم التفصيلي فإنها من تبعات عليه العلم الاجمالي وتنجيزية حكم العقل بالاشتغال ولولا عليته لما تحققت المناقضة المزبورة ( وبذلك ) اتضح فساد القول بالاقتضاء فضلا عن القول بعدم الاقتضاء رأسا وانه كالشك البدوي ( وبذلك يظهر الحال ) في الموافقة القطعية أيضا حيث إن لازم علية العلم الاجمالي لأصل الاشتغال وتنجيز المعلوم بالاجمال هو لزوم الخروج عن عهدته ، ولا يكون ذلك الا باتيان جميع المحتملات ، لان الاقتصار على بعضها مساوق لاحتمال عدم الخروج عن عهدة ما تنجز من التكليف ، ولازمه اباء العقل عن الترخيص الشرعي ولو في بعض الأطراف ، إذ مع تردد الواقع بين المحتملين واحتمال كون الطرف المرخص فيه هو الواقع المنجز ، يرى ترخيصه فيه ترخيصا في محتمل المعصية ومناقضا بحسب ارتكازه لما علم ثبوته في عهدته ، ( وعليه لا يبقى ) مجال للتفكيك بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية بحرمة الثانية وعدم وجوب الأولى ، إذ العلم الاجمالي ان كان قاصرا في أصل اقتضائه للاشتغال فلا مقتضى لحرمة المخالفة القطعية ، فأمكن اجراء الأصلين في الطرفين بلا ورود ومحذور في البين ، وان كان تاما في اقتضائه للاشتغال ، يلزمه وجوب الموافقة القطعية أيضا ، لان الاشتغال بالتكليف يقتضي الفراغ اليقيني عنه ولا يحصل ذلك الا باتيان جميع ما يحتمل انطباق

ص: 46

المعلوم عليه من الأطراف ( ثم إن المنشأ لتوهم ) التفكيك المزبور انما هو تخيل كون متعلق العلم الاجمالي هو نفس الجامع بين الطرفين بما انه حاك عن منشأه نظير الجامع المأخوذ في حيز التكاليف الشرعية فيقال ان شأن العلم اجمالا أو تفصيلا بعد أن كان تنجيز متعلقه لا غيره فلا جرم ان المنجز بالعلم الاجمالي ليس الا نفس الجامع بين الطرفين ، بلا سراية إلى الخصوصيتين ولازمه وان كان وقوع كل واحد من العناوين التفصيلية موردا للترخيص العقلي بمناط قبح العقاب بلا بيان ، ولكنه من جهة استتباع الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف لمحذور الوقوع في المخالفة القطعية لذلك التكليف المعلوم بالاجمال ، يقتصر في مقام الارتكاب على بعض الأطراف ، إذ هو مقتضى الجمع بين تنجز الجامع وبين الترخيص في ارتكاب كل واحد من الأطراف بعناوينها التفصيلية كما هو الشأن في جميع الواجبات التخييرية التي يكون مرجع الوجوب فيها إلى ايجاب الجامع بين الافراد فكما ان مقتضى الامر بالجامع هناك مع الترخيص في ترك الخصوصيات هو الاقتصار في الترك على بعض الأطراف دون جميعها لافضاء ترك الجميع إلى محذور المخالفة القطعية للتكليف بالجامع كذلك الامر في المقام أيضا ، « ولكنك خبير » بما فيه إذ نقول ان متعلق العلم الاجمالي ومعروضه وان كان هو الجامع بين الطرفين ليس الا لبداهة خروج الخصوصيتين عن متعلق العلم رأسا ، لكن لا بما انه في حيال ذاته ولا بما انه حاك عن منشأه كما في الطبيعي المأخوذ في حيز التكاليف ، بل بما انه مرات اجمالي عن الخصوصية الواقعية المرددة في نظره بين إحداهما بنحو تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو كشف الغطاء كان المعلوم بالاجمال عين المعلوم التفصيلي وينطبق عليه بتمامه لا بجزء تحليلي منه كالطبيعيات الصرفة ، فيكون المقام من هذه الجهة أشبه شيء بمدلول النكرة الذي هو عبارة عن إحدى الخصوصيات قبال عنوان الواحد الحاكي عن صرف منشئه من دون ان يكون مراتبا اجماليا للخصوصية وان كان بين المقامين فرق من حيث إن النكرة يراد بها الخصوصية المبهمة بنحو لا تعين لها في الواقع أيضا ، بخلاف المقام حيث إن للعنوان المعلوم بالاجمال واقعا محفوظا بنظر القاطع ، ولكنه مجهول عنده فلم يدر انه هذا أو ذاك والسر في الفرق المزبور هو ان الجامع في متعلق الاحكام عبارة عن نفس الطبيعة لا بوصف

ص: 47

تعينها وموجوديتها خارجا ، بل في ظرف عدمها بنحو يكون الطلب محركا لايجادها في الخارج ويكون تعينها بايجادها في الخارج ، والا فقبل ايجادها تكون لها قابلية الانطباق على كل واحد من الافراد ، وهذا بخلاف الجامع المتعلق للعلم الاجمالي ، فإنه عبارة عن المهية بوصف موجوديتها وتعينها في الخارج ، الا انه من جهة عدم تعينه في نظر القاطع يتردد انطباقه في نظره على هذا أو ذاك ، ولذلك لم تكن قابلية انطباقه على كل واحد من الطرفين الا احتماليا محضا ، ومن المعلوم بداهة سراية التنجز من مثل هذا الجامع إلى نفس تلك الخصوصية الواقعية ، ومع احتمال وجوده في كل واحد من الطرفين ، يحتمل في كل واحد منهما وجود الواقع المنجز ، ولازمه بحكم العقل الجزمي بالاشتغال لزوم الاتيان بجميع المحتملات لان الاقتصار على بعضها مساوق لاحتمال عدم الخروج عن عهدة ما تنجز عليه ، وان أبيت عن سراية التنجز من الجامع إلى الخصوصية الواقعية نقول بعد انحصار فرد هذا الجامع بإحدى الخصوصيتين لابد في مقام الخروج عن عهدة التكليف بهذا الجامع المنحصر فرده بإحدى الخصوصيتين ، من الاتيان بكلتا الخصوصيتين إذ مع الاتيان بأحديهما مع احتمال انحصاره بالأخرى ، يشك في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، وحينئذ فعلى أي تقدير لا يبقى مجال التفكيك بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ( وتوهم ) الفرق بينهما بان عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية ، انما هو باعتبار تعلقه بنفس المعلوم ومثله مما يأبى عنه العقل ، لارتكاز المناقضة بخلاف الترخيص في ترك الموافقة القطعية ، فإنه انما يتعلق بالمشكوك ، ومثله مما لا يأبى عنه العقل كما في الشبهات البدوية ( مدفوع ) بان منشأ ارتكاز المناقضة في الترخيص في المخالفة لا يكون الا تنجيزية حكم العقل بالاشتغال والا فلا مجال لتوهم المناقضة المزبورة ، وحينئذ فإذا فرضنا تنجيزية حكمه بالاشتغال فلا محالة نفس هذا المعنى يقتضي لزوم تحصيل الجزم بالفراغ عما ثبت الاشتغال به ولا يكون ذلك الا باتيان جميع المحتملات ( نعم ) للشارع الترخيص في ترك بعض الأطراف بجعل بعضها الاخر بدلا ظاهريا عن المأمور به في مقام تفريغ الذمة ولكنه غير مرتبط بمقام الترخيص في ترك الموافقة القطعية ، ولذلك يجرى هذا المعنى في موارد ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي أيضا ، كما في موارد جريان

ص: 48

الاستصحابات الموضوعية المنقحة لموضوع الفراغ كاستصحاب الطهارة والستر ونحوهما ، وكذا موارد جريان قاعدة التجاوز والفراغ ونحو ذلك ، مع أنه لا شك في علية العلم التفصيلي بالتكليف لوجوب الموافقة القطعية « وبالجملة » لا نعنى بعلية العلم الاجمالي الا كونه كالعلم التفصيلي في مقام اثبات الاشتغال ، بنحو لا يحتاج إلى جعل من قبل الشارع ولا يقبل المنع عنه « واما » مرحلة الفراغ المترتبة على الاشتغال فللشارع التصرف فيها بجعل بعض الأطراف مصداقا للمفرغ عما ثبت الاشتغال به ، من جهة ان هم العقل في هذه المرحلة انما هو تحصيل المفرغ بالأعم من الحقيقي والجعلي ، كما هو الشأن في حكمه بالفراغ في مورد ثبوت الاشتغال بالعلم التفصيلي الجارية فيه الأصول المنقحة لموضوع الفراغ وليس همه لزوم تحصيل الفراغ الحقيقي باتيان ما هو مصداق المأمور به حقيقية ، فالمقصود من علية العلم الاجمالي للتنجيز ، انما هو عليته لاستحقاق العقوبة على ترك الموافقة بأحد الوجهين وجدانا أو جعلا ولزوم تطبيق العمل على طبق المعلوم بأحد الوجهين وعلى ذلك لا يبقى مجال للتشبث بموارد قيام الامارة على نفى التكليف في بعض الأطراف ، وقيام الأصل المحرز للتكليف في بعضها ، لاثبات عدم علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وذلك لما عرفت من الفرق بين المقامين من حيث رجوع الموارد المزبورة إلى مرحلة التوسعة في ناحية المفرغ التي هي غير منافية مع علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، لا إلى مقام الترخيص في ترك تحصيل القطع بالموافقة ، ولذلك لا يفرق في هذه الجهة بين ثبوت الاشتغال بعلم تفصيلي وثبوته بعلم اجمالي كما أشرنا إليه ، وسيجئ مزيد بيان لذلك في مبحث البراءة والاشتغال.

« ثم انه » بعد ما اتضح اعتبار العلم الاجمالي في مقام اثبات التكليف ( يبقى ) الكلام في المقام الثاني وهو اعتباره في مقام اسقاط التكليف في ظرف ثبوت الاشتغال به بأي طريق كان ، وانه هل يجوز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، فيه خلاف بين الاعلام « فنقول » اما في التوصليات فلا ينبغي الاشكال في جوازه مطلقا لسقوط الامر والتكليف باتيان المأمور به كيفما اتفق ، واما في العبادات ، فلا اشكال أيضا في فرض تعذر

ص: 49

الامتثال التفصيلي ، من غير فرق بين استلزامه للتكرار وعدمه ( والا ) يلزم سد باب الاحتياط في العبادات بالمرة وهو كما ترى ( وانما الكلام ) في صورة التمكن من الامتثال الجزمي التفصيلي أو الظني المعتبر خصوصا في فرض استلزامه للتكرار « ومنشأ » الاشكال انما هي شبهة اعتبار قصد الوجه ، والتمييز في العبادة المستلزم للامتثال التفصيلي « والا » ففي سائر الوجوه المذكورة في كلامهم كاللعب بأمر المولى ونحوه مناقشة واضحة « وتقريب الشبهة المزبورة » انه بعد احتمال دخل قصد الوجه والتمييز في العبادة كأصل قصد القربة ، وعدم امكان نفي اعتبارهما باطلاق دليل العبادة ولو مع كونه مسوقا في مقام البيان بلحاظ عدم كون مثل هذه القيود على تقدير دخلها مما يمكن اخذها في المأمور به شرعا ، حتى يدفع اعتبارها باطلاق دليل العبادة أو بالأصل بلحاظ معلومية متعلق التكليف بتمام حدوده للقطع بعدم دخلها في المأمور به ، وان كانت على فرض اعتبارها دخيلة في أصل الفرض ، وفى سقوط الامر « لا مناص » من المصير إلى الاحتياط عند الشك في دخل مثلها في الغرض ولو على القول بمرجعية البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، بلحاظ ان الشك هناك راجع إلى الشك في أصل التكليف بالجزء المشكوك ، بخلاف المقام فان الشك فيه راجع إلى الشك في الامتثال والخروج عن عهدة ما ثبت الاشتغال به يقينا وفي مثله يحكم العقل بلزوم تحصيل القطع بالفراغ ولا يكون ذلك الا باتيان العمل بداعي وجوبه تفصيلا بحيث يجزم حال الاتيان بالعمل بكون الماتى به هو الواجب والمأمور به ، وعلى هذه الجهة فرعوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد وجعلوا الاحتياط خلاف الاحتياط بلحاظ ان في ترك سلوك الطريقين اخلال بقصد الوجه المحتمل دخله في العبادة ، هذا « أقول » وفيه انه وان احتمل دخل مثله في الغرض والمصلحة ، ولكنه بعد كون مثل هذه الأمور من القيود المغفول عنها غالبا فلا بأس بالتمسك بالاطلاقات المقامية في نفي اعتبارها في الغرض فان مقتضى الاطلاق المقامي هو عدم اعتبار ما شك في دخله من نحو هذه القيود المغفول عنها ، والا يلزم اخلال المولى بغرضه بسكوته وعدم التعرض لدخله في غرضه ولو بخطاب آخر « ويمكن التمسك » بالاطلاق اللفظي أيضا بما بنياه في مبحث التعبدي والتوصلي من امكان اخذ قيد

ص: 50

دعوة الامر في متعلقه بالتزام ان الحكم المنشأ بالانشاء الوارد في الخطاب الشخصي هو سنخ الحكم الساري في ضمن افراد طولية بعضها محقق لموضوع الاخر بنحو قابل للانحلال إلى خطابات متعددة بعدد الافراد ، كما في وجوب تصديق العادل الشامل باطلاقه للاخبار مع الواسطة ، إذ على هذا البيان تكون هذه القيود المتأخرة كغيرها من القيود في امكان اخذها في المتعلق ، الا انها تفترق عنها بتوقف اخذها في المتعلق على طلبين يتعلق أحدهما بذات العمل والاخر باتيانه بداعي امره بخلاف القيود الاخر فإنه يكفي في اخذها نفس الطلب المتعلق بالمقيد وحينئذ فعند الشك في دخل قصد الوجه في المصلحة ، لا بأس بالتمسك باطلاق الخطاب باعتبار كشفه عن الطلب لنفي اعتباره في المتعلق وعدم دخله في المصلحة ، ومجرد قصور شخص الخطاب وعدم قابليته للتقييد بما هو من شؤونه ولوازم وجوده ، غير ضائر باطلاق الإرادة ( إذ هي ) سعة وضيقا تابعة للمصلحة القائمة بالمتعلق فإذا لم يكن للقيد المشكوك دخل في المصلحة القائمة بالمتعلق تتبعها الإرادة قهرا في الاطلاق ، وبالجملة الفعل المأمور به وان لم يكن له اطلاق من ناحية شخص الخطاب المتعلق به الا انه من حيث الإرادة التشريعية التابعة للمصلحة القائمة به قابل للاطلاق والتقييد فأمكن التمسك باطلاقه لعدم دخل القيد في المتعلق ، إذ على تقدير دخله في المصلحة الموجبة للإرادة لابد للشارع من بيانه واخذه في حيز خطابه فمع عدم اخذه في خطابه يتمسك باطلاق الخطاب لنفي اعتباره في متعلق امره ( ويمكن ) تقريب الاطلاق بوجه اخر حتى على فرض كون المنشأ بالخطاب حكما شخصيا ، بتقريب انه وان يقطع بعدم امكان تقييد المأمور به بمثل قصد الوجه ، لامتناع اخذ ما هو من شؤون الامر في متعلقه ، ولكنه لا شبهة في أنه في فرض اعتباره في الغرض لا يكون له اطلاق أيضا يشمل حال فقده ، بل هو حينئذ عبارة عن الحصة الخاصة التوئمة مع قصد الوجه على نحو نتيجة التقييد كما أسلفنا وحينئذ فلو شك في دخله في الغرض يكون مرجع الشك المزبور لا محالة إلى الشك في اطلاق المأمور به وعدم اطلاقه الراجع إلى الحصة التوئمة وبعد ان كان للشارع بيان هذه الجهة يتمسك باطلاق خطابه في نفي اعتباره في غرضه ، وحينئذ فلولا قصور هذه المطلقات من جهة كونها في مقام البيان ، لا قصور في التمسك باطلاقها من هذه الجهة ( ثم انه )

ص: 51

لو بنينا على عدم تمامية الاطلاقات حتى المقامية منها فلنا ان نتمسك بالبرائة العقلية بناء على جريانها في الأقل والأكثر كما هو التحقيق ، فان ما أفيد في تقريب الاشتغال في المقام بعينه هو الاشكال الجاري هناك إذ احتمال دخل القيد في الغرض وفى الخروج عن عهدة الامر بالصلاة في المقام مساوق احتمال دخل الجزء المشكوك في الخروج عن عهدة التكليف بالأقل هناك غاية الامر انه في صورة امكان اخذ القيد في المتعلق ينبسط التكليف حسب تبعيته للغرض على ذوات الاجزاء مع تقييدها بالقيود على نحو كيفية قيام الغرض بها ، واما في صورة عدم امكان اخذه في المتعلق كما في المقام فيستقل ذات المقيد بالامر بلحاظ قصور التكليف حينئذ عن الشمول للقيد ولكن استقلالها بالامر لا يكون على نحو الاطلاق بحيث يشمل حال فقد القيد بل يكون وجوبها في حال انضمام القيد إليها على نحو القضية الحينية المعبر عنه بوجوب الحصة التوئمة مع القيد لان ذلك هو الذي تقتضيه المصلحة الضمنية القائمة بها « نعم » لو كان استقلال الذات بالامر في المقام ناشئا عن مصلحة مستقلة قائمة بها وراء المصلحة القائمة بالمقيد « لأمكن » الفرق بين المقامين في البراءة والاشتغال وارجاع الشك في المقام إلى التعيين والتخيير ، ولكنه ليس كذلك بل كان ثبوت التكليف بالذات في المقام ناشئا عن نفس تلك المصلحة القائمة بالمقيد وان استقلال الذات بالامر انما كان من جهة قصور في نفس الامر عن الشمول لمثل هذه القيود المتأخرة رتبة عنه ، وحينئذ فيشترك المقام مع الأقل والأكثر فكان مرجع الشك في المقام بعد احتمال دخل القيد في الغرض إلى الشك في أن ما في العهدة هو نفس هذه الذوات فقط أو هي بما انها توئمة مع القيد فيرجع إلى الأقل والأكثر ، ومن المعلوم انه لا يستقل العقل في مثله الا بلزوم الخروج عن عهدة التكليف من قبل ما تم البيان عليه دون غيره ، وفي هذا الظرف وان كان يحتمل عدم سقوط التكليف واقعا الا ان احتماله لما كان مستندا إلى جهة أخرى لم يتم البيان عليها لا من جهة قصور في الماتى به كان مما لا يعتني به العقل ، إذ ليس هم العقل اسقاط التكليف واقعا وفى نفس الامر وانما همه الا من عن تبعة مخالفة ما تم عليه البيان وذلك يحصل باتيان متعلق التكليف عاريا عن القيد « وبما ذكرنا » ظهر وجه عدم اعتبار قصد الوجه والتمييز بمقتضى الأصول

ص: 52

والاطلاقات وانه لا مجال للاشكال من هذه الجهة في الامتثال الاجمالي ولا ينتهى النوبة إلى ما قيل من بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ( نعم ) في المقام شبهة أخرى وهي ان مراتب الامتثال حيث كانت أربعة فلابد في الانتقال من كل مرتبة إلى المرتبة التالية من تعذر المرتبة السابقة ، والا فلا تصدق الإطاعة عقلا ويترتب عليه عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط والامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي خصوصا في فرض استلزامه للتكرار لرجوعه حينئذ إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي وانبعاثه عن احتمال البعث الذي هي الدرجة الأخيرة مع تمكنه من المرتبة القصوى بانبعاثه عن امر جزمي حال الاتيان بالعمل ، ولا أقل من الشك في اعتبار ذلك ، فيرجع إلى أصالة الاشتغال لرجوعه إلى الشك في التعيين والتخيير ( ولكنها مدفوعة ) بأنه لا دليل على ما أفيد في لزوم هذا الترتيب بين الامتثالين لولا رجوعه إلى دعوى لزوم قصد الوجه والتمييز في العبادة الذي تقدم الكلام فيه مفصلا وما أفيد من مرجعية الاحتياط عند الشك لرجوع الشك فيه إلى التعيين والتخيير ممنوع بل هو راجع إلى الشك في الأقل والأكثر في مراتب الامتثال إذ يكون الشك في دخل مرتبة زائدة من تلك المراتب المختلفة من حيث اشتمال بعضها على خصوصية زائدة دون بعض ومثله راجع إلى الأقل والأكثر ، والمرجع فيه على ما حقق في محله هي البراءة لا الاحتياط كما لا يخفى « كما أن ما أفيد أيضا » من كون الانبعاث في الامتثال الاجمالي انبعاثا عن احتمال البعث لان الداعي له على الاتيان في كل محتمل هو احتمال الامر « ممنوع » بان الانبعاث لا يكون الا عن الجزم بالامر ولو اجمالا وانما الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزما على مورده لا ان ما يدعوه بنفسه هو احتمال الامر وبين الامرين فرق واضح وسيأتي مزيد بيان لذلك انشاء اللّه تعالى عند التعرض لذكر شرائط جريان الأصول.

الجهة السابعة

هل تنجز التكليف بالقطع تفصيلا أم اجمالا أو بغيره من الطرق الشرعية كما يقتضى وجوب الموافقة عملا ، يقتضى وجوبها التزاما بالتدين به والتسليم له اعتقاداً

ص: 53

وانقيادا بحيث يكون له امتثالان واطاعتان « فيه خلاف » المشهور العدم وهو المختار ، لانتفاء ما يقتضى ذلك شرعا وعقلا ، مضافا إلى شهادة الوجدان بعدم استحقاق الآتي بالمأمور به من دون التزام للعقوبة ( إذ لو كان ) واجبا كنفس العمل للزم في الفرض المزبور استحقاقه للعقوبة ، بل ولزم تعددها في فرض ترك الموافقة العملية أيضا ( وهو كما ترى ) يحكم بداهة الوجدان بخلافه ( نعم ) لا باس بدعوى رجحانه في نفسه ، بلحاظ كونه منشأ لكمال العبد وقربه إلى سيده وارتفاع درجته لديه ، بخلاف العكس فإنه موجب لتنقيصه وانحطاط درجته لديه ، لما يرى بالوجدان من الفرق بين الآتي بالمأمور به ملتزما بوجوبه ، وبين الآتي به غير ملتزم به ولكن ليس ذلك إلى حد يقتضى لزومه ( وتوهم ) وجوبه حينئذ باعتبار كونه من مراتب شكر المنعم الذي يجب القيام به عقلا كما في الالتزام وعقد القلب بأصول العقائد وبما جاء به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ( مدفوع ) بان المقدار المسلم من الشكر الواجب انما هو الالتزام الاجمالي بالأحكام ( واما ) الالتزام التفصيلي بكل واحد من الاحكام ، فلم يقم على وجوبه دليل من الشرع ولا حكم من العقل ومجرد كونه من مراتب الشكر لا يقتضى وجوبه ، بل وجوب الالتزام الاجمالي بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله انما هو من جهة كونه من شؤون التدين والتصديق بنبوته لا من جهة كونه شكرا ( واضعف ) من ذلك الاستدلال على وجوبه بحرمة التشريع إذ ذلك أيضا كما ترى ، للفرق بين عدم الالتزام بالوجوب وبين التشريع الذي هو الالتزام بالخلاف ، مع وضوح عدم اقتضاء عدم وجوب الالتزام بالحكم لجواز الالتزام بخلافه كما هو ظاهر « تنبيهان » الأول لا يخفى انه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص الأحكام المتعلقة بأفعال الجوارح كوجوب الصلاة والحج ونحوهما « بل يعم » الأحكام المتعلقة بأفعال الجوانح كوجوب الاعتقاد بالمبدء ووجوب عقد القلب به وبرسالة أنبيائه ونحو ذلك ، فان وجوب الاعتقاد وعقد القلب ليس الا كسائر الكبريات الشرعية من نحو وجوب الصلاة والصوم غير أن متعلق الوجوب في أحدهما فعل الجوارح وفي الاخر فعل الجوانح فيقال فيها أيضا انه بعد ثبوت وجوب الاعتقاد وعقد القلب بشيء هل يجب الالتزام والتدين بهذا الوجوب من جهة الموافقة الالتزامية « الثاني » انه بعد البناء على وجوب الموافقة الالتزامية

ص: 54

بمناط شكر المنعم أو بمناط آخر لا شبهة في وجوبها في صورة قيام العلم التفصيلي بالتكليف بل وفي صورة ثبوت التكليف بالامارة المعتبرة حيث إنه يجب الالتزام بالحكم الظاهري على الجزم وبالواقع على ما هو عليه ، واما في صورة ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي فالمقدار الواجب انما هو الالتزام بالواجب الواقعي المردد بين الامرين لكونه هو المقدار الممكن في حقه ، واما الالتزام التفصيلي بوجوب كل واحد من الامرين فهو غير واجب بل غير جائز ( نعم الالتزام ) الاحتمالي بوجوب كل منهما رجاء حيث كان ممكنا أمكن دعوى وجوبه أيضا من دون ان ينافي ذلك ما تقتضيه الأصول الموضوعية أو الحكمية الموجبة للالتزام التفصيلي بالحكم الظاهري في مواردها ( وحينئذ ) ففي موارد جريان الأصول المثبتة في أطراف العلم الاجمالي وموارد دوران الامر بين المحذورين الجاري فيها أصالة الإباحة على ما هو التحقيق ينتهى الامر إلى وجوب التزامات ثلاثة ، الالتزام الجزمي بما هو الواجب الواقعي المردد بين الامرين ، والالتزام الاحتمالي بوجوب كل واحد من الامرين رجاء والالتزام التفصيلي بالحكم الظاهري المستفاد من الأصول الجارية في الأطراف فتدبر هذا تمام الكلام في المقصد الأول

المقصد الثاني

اشارة

ويقع الكلام فيه في مقامين الأول في امكان التعبد في الظن الثاني في وقوعه خارجا بعد الفراغ عن أصل امكانه « اما المقام الأول » فالمعروف المشهور بينهم هو امكانه ، بل الظاهر عدم الخلاف فيه عدى ما حكى عن ابن قبة وبعض آخر من دعوى استحالته وامتناعه لشبهة نقض الغرض وتحريم الحلال وعكسه وتفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ( أقول ) ظاهر هذا العنوان يقتضى خروج الظن في حال الانسداد على تقرير الحكومة عن حريم النزاع ( إذ ) على الحكومة لا يكون في البين تعبد من قبل الشارع بالظن كي يلزم منه المحاذير المزبورة ، بل لا يكون الا حكم العقل بلزوم الاخذ بالظن والعمل على طبقة لأقربيته إلى الواقع بالنسبة إلى الشك والوهم ( بل ) لئن ضم إلى ذلك ملاحظة عصر ابن قبة الذي هو قبل عصر السيد ( أمكن ) دعوى خروج مطلق الظن عند الانسداد عن حريم

ص: 55

النزاع ، وان كان ما ذكر من التعليل للمنع عنه من نحو شبهة اجتماع الضدين وتحليل الحرام وعكسه يعم كلا الحالين ( ثم لا ينبغي الاشكال ) في أنه ليس المراد من الامكان المبحوث عنه في المقام هو الامكان الذاتي وهو الذي لا يأبى بذاته عن الوجود والعدم المقابل للامتناع بهذا المعنى كاجتماع النقيضين والضدين بل المراد منه هو الامكان الوقوعي وهو الذي لا يكون بنفسه محالا ولا مستلزما لأمر محال ويقابله الامتناع الوقوعي وهو ما يكون مستلزما لأمر محال وان لم يكن بذاته محالا بنظر العقل كما في وجود أحد الضدين في ظرف وجود ضده الاخر حيث إن نفس وجود الضد وتحققه في ظرف وجود ضده لا يكون محالا وانما محاليته من جهة استلزامه لمحذور اجتماع الضدين الذي هو بنفسه محال عقلا ( وذلك ) لوضوح ان التعبد بالظن بنفسه لا يكون في الاستحالة من قبيل اجتماع النقيضين أو الضدين وانما محاليته لأجل ما يلزمه من محذور تحريم الحلال وعكسه واجتماع الضدين وتفويت المصلحة ونحو ذلك من المحاذير التي يدعيها القائل بالامتناع ( نعم قد ) يقال ان المراد من الامكان في المقام هو الامكان التشريعي المقابل للامتناع في عالم التشريع من حيث أداء التعبد بالامارة إلى تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ووجوب ما يكون حراما وحرمة ما يكون واجبا ونحو ذلك ، لا الامكان التكويني بنحو يلزم من التعبد بالامارة محذور في عالم التكوين ، فان المحاذير المزبورة كلها راجعة إلى عالم التشريع لكونها بين ما يرجع إلى المحذور الملاكي كتفويت المصلحة والالقاء في المفسدة وبين ما يرجع إلى المحذور الخطابي كوجوب ما يكون حراما وعكسه وعلى كل حال مرجع هذه المحاذير كلها إلى عالم التشريع دون التكوين ( وفيه ) ان مجرد كون موضوع الامكان والاستحالة أمرا تشريعيا لا يقتضى خروج الامكان والاستحالة عن معناهما التكويني ، كيف ومثل محذور اجتماع الضدين أو صدور لقبيح ممن يستحيل صدوره منه كنقض الغرض ونحوه هل هو غير الاستحالة التكوينية في هذا التعبد والتشريع وهل يقابله غير الامكان التكويني ، وحينئذ فلا وجه لاخراج الامكان والاستحالة في المقام عن الامكان التكويني بمجرد كون موضوعهما أمرا تشريعا كما هو ظاهر ( وكيف ) كان فيكفي القائل بالامكان مجرد احتماله وعدم قيام برهان عقلي على استحالته

ص: 56

في ترتيب اثار الممكن عليه في مقام العمل وعدم طرح الدليل الدال على التعبد به ، فان المانع عن الاخذ بما دل على التعبد بالظن وترتيب الأثر عليه انما هو قيام البرهان على استحالته وامتناعه فمع فرض احتمال امكانه وجدانا وعدم قيام برهان عقلي على استحالته يؤخذ بما دل على التعبد به ويرتب عليه اثر الممكن من دون حاجة إلى اتعاب النفس في اثبات الامكان والقطع به كي يرد عليه الاشكال كما عن الشيخ قده وغيره بتوقفه على الإحاطة بجميع الجهات المؤثرة في الحسن والقبح والعلم بها وهو غير حاصل ، وان كان فيه ما فيه أيضا بملاحظة امكان حصول العلم بالامكان ولو من جهة الغفلة عن الجهات المؤثرة في الحسن والقبح ( ولكن الذي يهون الامر ) هو ما ذكرناه أولاً من عدم الحاجة فيما هو المهم من ترتيب اثر الممكن في مقام العمل وعدم طرح ما يدل على التعبد به ، إلى اثبات الامكان وانه يكفيه مجرد احتماله وعدم قيام برهان على استحالته ( والى ذلك ) أيضا نظر الشيخ قدس سره في قوله وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان ( لا إلى ) الحكم الجزمي بالامكان كي يورد عليه ، تارة بأنه لا معنى للحكم الجزمي بالامكان مع احتمال امتناعه بالوجدان ، وأخرى بالمنع عن استقرار طريقة العقلاء على ذلك مع احتمال الامتناع بالوجدان ، واما القائل بالامتناع فإنه لا يكفيه مجرد احتماله في طرح ما دل على التعبد به بل لابد له من اتعاب النفس في إقامة البرهان على ما يدعيه من الاستحالة والامتناع ( ثم ) انه استدل للقول بالامتناع بأمور ( منها ) اقتضاء جواز التعبد بخبر الواحد غير المفيد للعلم في الاخبار عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة علیهم السلام ، جوازه في الاخبار عن اللّه سبحانه والتالي باطل اجماعا فالمقدم مثله لعدم الفرق بينهما الا من جهة المخبر عنه في كونه هو اللّه سبحانه تارة والنبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة أخرى وذلك لا يوجب فرقا بينهما بعد اشتراكهما فيما هو المهم من الاخبار عن الحكم التكليفي ( وفيه ما لا يخفى ) فان الاجماع على عدم جواز التعبد به في الاخبار عن اللّه سبحانه يمكن ان يكون من جهة ما يلزمه من الاخبار عن نبوة نفسه بلحاظ ان الاخبار عن اللّه سبحانه لا يكون الا بتوسيط الوحي أو نزول الملك عليه ، وهذان لا يكونان الا ممن كان نبيا من قبله سبحانه وأين ذلك والاخبار عن النبي صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة علیهم السلام في الحكم التكليفي وحينئذ فإذا كان اتفاقهم على عدم جواز

ص: 57

التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن اللّه سبحانه من هذه الجهة فذلك لا تقتضي المنع عنه في الاخبار عن النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة (عليهم السلام) ، إذ لا تلازم بينهما بعد الفرق المزبور ( مع أن ) في الاخبار عن اللّه سبحانه أيضا يمكن التفكيك بين الجهتين بالمصير إلى جواز التعبد به من جهة اخباره عن الحكم التكليفي وعدم جوازه بالنسبة إلى ما يلزمه من الاخبار عن نبوة نفسه لاحتياجه بالضرورة إلى العلم الوجداني كغيره من أصول العقائد ، والتفكيك بين اللوازم غير عزيز في مرحلة التعبد كما في الخبرين المتعارضين من حيث حجيتهما في مدلولهما الالتزامي في نفي الثالث مع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي ، وحينئذ فلنا ان ندعي جواز الاخذ باخباره عن اللّه سبحانه في خصوص الحكم التكليفي وتخصيص الاجماع على عدم الجواز بما يلزمه وهو الاخبار عن نبوة نفسه ، مضافا إلى أنه يمكن ان يكون وجه الاجماع على عدم قبول خبر الواحد في الاخبار عن اللّه سبحانه هو استناد اخباره في ذلك إلى الحدس المحض الذي ليس معتبرا عند العقلاء أيضا ، وذلك من جهة ما هو الواضح من عدم كون الوحي بمثابة يدرك بتلك القوى الحسية عند نزوله ولذلك لا يكون بحيث يسمعه من كان حول النبي صلی اللّه علیه و آله بل شخص النبي صلی اللّه علیه و آله عند نزوله يطرء له نحو حالة مخصوصة وكان نزوله أيضا على قلبه الشريف وهذا بخلاف ما نحن فيه فلا مجال للتعدي بمقتضى الاجماع المزبور إلى الاخبار عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي كان مبناه ممحضا بالحس ( نعم ) لو أحرز من الخارج كون اتفاقهم على عدم جواز التعبد بالخبر في الاخبار عن اللّه سبحانه لأجل جهة مقبحة في نفس التعبد بالخبر الواحد الموجبة لاستحالة صدوره عن الحكيم تعالى ، فلابد من التعدي إلى الاخبار عن النبي والوصي بلحاظ تحقق تلك الجهة المقبحة فيه أيضا ولكن انى باثبات ذلك ، إذ لا أقل من احتمال كون المناط في عدم جواز التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن اللّه تعالى هو ما ذكرناه ( ثم إن ) الشيخ قدس سره أجاب عن ذلك بعد الاشكال بان الاجماع انما هو على عدم الوقوع لا الامتناع بقوله ان الاجماع على عدم جواز التعبد بالخبر عن اللّه سبحانه انما هو فيما إذا بنى تأسيس الشريعة أصولا وفروعا على العمل بالخبر الواحد عن اللّه لا فيمثل المقام الذي ثبت أصل الدين أصولا وفروعا بالأدلة القطعية ولكن عرض الخفاء على بعضها لأجل اخفاء الظالمين

ص: 58

« ويمكن المناقشة » فيما افاده بان مدرك المنع في التعبد بالخبر عن اللّه سبحانه. ان كان وجود جهة مقبحة فيه السارية في التعبد بالخبر عن النبي والوصي (عليه السلام) بنحو لا يمكن صدوره من الحكيم تعالى ، فلا فرق بين ما لو بنى أساس الدين أصوله وفروعه على العمل بخبر الواحد وبين ما لو ثبت أساس الدين بالأدلة القطعية الا من جهة أقلبة القبح وأكثريته ، وان كان مدرك المنع هو ما احتملناه من كون وجه اتفاقهم استناد الخبر عن اللّه سبحانه إلى الحدس المحض دون الحس وما يقرب منه فلا فرق أيضا بين الفرضين فتأمل ( ومنها ) أي من الأمور التي استدل بها لامتناع التعبد بالظن لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال كما عن محكى ابن قبة ( ومنها ) لزوم تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ( ومنها ) لزوم اجتماع الضدين من الوجوب والحرمة عند عدم الإصابة واجتماع المثلين عند الإصابة بناء على اشتراك العالم والجاهل في التكاليف الواقعية ، ولزوم التصويب الباطل بناء على عدم الاشتراك وكون الحكم الفعلي في حق الجاهل هو مؤدى الامارة ( ومنها ) لزوم نقض الغرض فإنه بعد تعلق الإرادة الجدية بايجاد العمل أو تركه يكون الامر بالتعبد بالامارة المؤدية إلى خلاف الواقع نقضا منه لغرضه وهو من المستحيل حتى عند المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين ، فهذه جملة من المحاذير التي ذكروا لزومها في التعبد بغير العلم وان شئت فاجعل الوجوه الثلاثة الأخيرة من شؤون شبهة تحريم الحلال وتحليل الحرام المذكورة في كلام ابن قبة هذا ولا يخفى عليك ان تلك المحاذير على تقدير تماميتها لا تكون على منوال واحد على الموضوعية والطريقية وفى الحال الانفتاح والانسداد ، وذلك ( اما في ) ظرف الانسداد فعلى الطريقية لا يجرى شيء منها ( اما شبهة ) اجتماع الضدين والمثلين فعدم جريانها واضح لان مقتضى التعبد بالامارة على الطريقية ليس الا مجرد تنجيز الواقع عند الإصابة والاعذار عند عدم الإصابة من دون ان يكون في العمل بالامارة أو سلوكها مصلحة فلا يكون في البين انشاء حكم من المولى كي يلزمه محذور اجتماع المثلين أو الضدين ( واما شبهة ) نقض الغرض وتفويت المصلحة فهما غير جاريتين في ظرف الانسداد ، لان فوت الغرض والمصلحة حينئذ امر قهري لازم بمقتضى حكم العقل بالبرائة فلا يكون ذلك مستندا إلى التعبد بالامارة كما هو واضح ( واما ) على الموضوعية فيجرى فيه خصوص شبهة اجتماع الضدين أو المثلين

ص: 59

( واما شبهة ) نقض الغرض ولزوم تفويت المصلحة فهما أيضا غير واردتين ، لما عرفت من أن مع حكم العقل بالبرائة يكون الفوت قهريا بل حينئذ يكون تعبده بها موجبا لحفظ غرضه وللمصالح الواقعية في موارد إصابة الامارة للواقع هذا كله بالنسبة إلى حال الانسداد ( واما في حال الانفتاح ) والتمكن من تحصيل العلم بالواقع ولو بالسؤال عن الإمام (عليه السلام) ، فبناء على الموضوعية ربما تتوجه المحاذير الثلاثة المتقدمة واما على الطريقية فلا يتوجه الا شبهة تفويت المصلحة ونقض الغرض دون شبهة اجتماع الضدين أو المثلين كما هو ظاهر ( ولا مجال ) لدفعهما بما أفيد من أن المراد من انفتاح باب العلم انما هو امكان الوصول إلى الواقع بالسؤال من الإمام (عليه السلام) لا فعلية الوصول ويمكن ان تكون الأمارات الظنية في نظر الشارع كالأسباب المفيدة للعلم التي يعتمد عليها المكلف من حيث الإصابة والخطأ أي كانت إصابة الامارات وخطائها بقدر إصابة العلم الحاصل للمكلف وخطائه فلا يلزم حينئذ محذور من التعبد بالامارة الغير العلمية لعدم تفويت من الشارع للمصلحة في تعبده بالامارة ( إذ فيه ) ان فوت المصلحة من المكلف في موارد العلوم الخطائية امر قهري الحصول لعدم التفات القاطع حين قطعه إلى خطأ قطعه ، وهذا بخلاف التعبد بالامارة مع احتمال خطائها حيث إنه تفويت اختياري من الشارع عليه وهو قبيح ومعه لا مجال لمقايسة أحدهما بالآخر فتدبر « وكيف كان » فينبغي التكلم في الجواب عن أصل تلك الشبهات حتى على الموضوعية وحال الانفتاح فنقول وعلى اللّه التكلان ان توضيح المرام في المقام يقتضي تمهيد مقدمات.

« المقدمة الأولى» ، لا شبهة في أن الاحكام بحقائقها الراجعة إلى الاقتضاء والتخيير في مقام عروضها لا تكون قائمة الا بنفس العناوين المنتزعة عن الجهة التي قامت بها المصلحة الخارجية لكن لا بما انها ذهنية ولا بما هي شيء في حيال ذاتها في قبال الخارج بحيث يلتفت إلى مبائنتها مع الخارج ، لان ذلك مما يأبى عنه الوجدان بداهة عدم كون المفهوم بما هو في قبال الخارج محبوبا أو مبغوضا فضلا عن كونه ملحوظا ذهنيا ، بل بما انها ملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوري كونها غير الخارج وان كانت بالنظر التصديقي غيره مع وقوف الحكم على نفس العنوان وعدم سرايته بتوسيطه إلى المعنون الخارجي كيف وان سرايتها إلى الخارج ملازم

ص: 60

لوجود المعنون في موطنه وهو ملازم لسقوط الحكم ومعه كيف يعقل صيرورة المعنون الخارجي مركز عروض الحكم وهل هو الا طلب الحاصل ( نعم ) مقتضى لحاظ العنوان خارجيا هو اتصاف المعنون الخارجي بهذا الاعتبار بعنوان المطلوبية والمرادية والمبغوضية والمحبوبية كاتصاف تلك العنوان بكونها ذا اثر ومصلحة ، ولكن هذا الاتصاف من الطرفين لا يكون الا بالعناية ناشئا من جهة اكتساب كل من العنوان والمعنون لون الاخر لما بينهما من الاتحاد بل العينية في هذا الحاظ ، والا فمعروض المصالح ليس الا المعنون الخارجي كما أن معروض الإرادة والكراهة حقيقة ليس الا نفس العناوين بما هي ملحوظة خارجية ، ولعله إلى ذلك نظر القائل بمرأتية العنوان للخارج فكان المقصود من انكاره هو عدم كون العناوين في حيال ذاتها وبالاستقلال في قبال الخارج معروضة للأحكام وان معروضيتها لها انما هو بلحاظها خارجية بحسب النظر التصوري بنحو لا يرى من العنوان في هذا النظر غير الخارج لا ان المقصود وساطة العنوان لسراية الحكم إلى الخارج ، والا يتوجه عليه ما ذكرنا من استحالة سراية الحكم إلى الخارج.

« المقدمة الثانية » انه كما يتنزع من وجود واحد عنوانان عرضيان ، كذلك يمكن ان ينتزع منه عنوانان طوليان على وجه يكون انتزاع أحد العنوانين في طول الحكم المتعلق بالعنوان الاخر وفي هذا القسم ( تارة ) تكون طولية العنوانين من جهة طولية الوصف المأخوذ في أحد العنوانين بلا طولية في طرف الذات المعروضة للوصف كما في الخمر والخمر المشكوك حكمها حيث إن تأخر العنوان الثاني عن الأول بلحاظ اخذ صفة المشكوكية فيه والا فنفس الذات في الموضعين تكون محفوظة في مرتبة واحدة غير أنها تلحظ تارة مجردة عن الوصف وأخرى موصوفة ومقيدة بالوصف من غير أن يكون لحاظها موصوفة منشأ لطولية الذاتين أصلا ولذلك ترى صحة انطباق الأول على الثاني بنحو يرى الجمع مصداقا لهما في عالم اللحاظ كما في المطلق والمقيد بل في هذه الجهة لا يفرق بين الأوصاف الخارجية كالايمان ونحوه أو اللحاظية كوصف مشكوكيتها ومشكوكية حكمها فإنه على كل تقدير يكون المعروض وهو الذات محفوظا في الموضعين في مرتبة واحدة على وجه لا يكون له اطلاق في عالم اللحاظ يشمل المرتبة

ص: 61

المتأخرة عن وصفه لبداهة استحالة لحاظ المعروض في ظرف وجود العارض الذي هو في مرتبة متأخرة عنه نعم نتيجة تقييد الذات حينئذ بالوصف المزبور انما هو دخل إضافة معروضية الذات لوصفها في حكمها في قبال اطلاقها الكاشف عن عدم دخل الإضافة المزبورة في حكمها ولكن هذا المقدار لا يقتضى سير الذات من مرتبة إلى مرتبة كما هو ظاهر ( وأخرى ) تكون طولية العنوانين حتى من جهة الذات المحفوظة فيهما المستلزمة لاعتبار الذات في رتبتين ، تارة في الرتبة السابقة على الوصف التي رتبة معروضيتها له ، وأخرى في الرتبة اللاحقة عن الوصف نظير الذات المعروضة للامر والذات المعلومة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة على ما تقدم شرحه في مبحث التجري ( ومن هذا الباب ) كل وصف ينوط به الحكم القائم بالذات كما في القضايا الطلبية الشرطية ، فإنه لابد من فرض وجود الوصف قائما بموصوفه والحكم في هذا الظرف على نفس الذات الملحوظة في الرتبة المتأخرة عن الوصف بلا اخذ الوصف قيدا لهذا الموضوع ( ولذلك ) أيضا نقول انه لابد في القضايا الشرطية الطلبية من تجريد موضوع الحكم في عالم معروضيته له عن الوصف قبال القضايا التقييدية التوصيفية ( ومن هذا القبيل ) صفة المشكوكية بناء على كونها من الجهات التعليلية للأحكام الظاهرية لا من الجهات التقييدية المأخوذة في ناحية موضوعاتها كما هو الظاهر من أدلتها ، حيث إن المستفاد من أدلتها هو اخذ صفة المشكوكية على نحو الشرطية لنفس الاحكام الظاهرية لا على نحو القيدية لموضوعها وان شرب التتن مثلا لكونه مشكوك الحل والحرمة كان حلالا لا ان الحلية مترتبة عليه بعنوان كونه مشكوك الحل والحرمة ولازم ذلك على ما عرفت اعتبار الذات في رتبتين ، تارة في الرتبة السابقة على الوصف ، وأخرى في الرتبة للاحقه عنه ، وبذلك يختلف موضوع الحكم الواقعي والظاهري بحسب الرتبة بحيث لا يكاد تصور المجمع لهما في عالم عروض الحكم بخلاف فرض طولية العنوانين بالمعنى الأول إذ عليه تكون الذات مجمعا لهما حيث يرى كون الذات بنحو الاطلاق القابل للانطباق على المقيد معروضة للحكم الواقعي وفي ضمن المقيد معروضة للحكم الظاهري ( ودعوى ) عدم امكان تصور المجمع لهما على هذا الفرض أيضا بلحاظ ان موضوع الحكم الظاهري بعد امكان

ص: 62

هو الذات المقيد بوصف كونه مشكوك الحكم يلزمه لا محالة ملاحظة الذات في ظرف وجود الحكم الواقعي والشك به ومن المعلوم انه لا يكاد يرى في هذه المرتبة ولو ضمنا موضوع الحكم الواقعي الذي هو متقدم في الرتبة على الشك بحكمه كما أنه لا يكاد يرى من موضوع الحكم الواقعي موضوع الحكم الظاهري لان موضوع الحكم الواقعي انما هو الذات المجردة عن ملاحظة صفة مشكوكية حكمها لاستحالة ملاحظة هذه الصفة القائمة بالحكم في موضوعه ولذلك قيل باستحالة تقييد الذات بمثل هذه الطوارئ اللاحقة كاستحالة اطلاقها من هذه الجهة أيضا وعلى ذلك يختلف موضوعا الحكم الواقعي والظاهري في عالم اللحاظ الذي به قوام موضوعية العناوين للأحكام بلا سرايتها إلى المعنونات الخارجية ومع اختلاف الموضوعين وعدم سراية الاحكام إلى الخارج لا يفرق بين جعل عنوان المشكوكية من الجهات التعليلية لنفس الاحكام الظاهرية وبين جعله من الجهات التقيدية لموضوعاتها في عدم تصور المجمع لهما أصلا ( مدفوعة ) مضافا إلى أن اعتبار الذات في ظرف وجود قيدها والصفة المنسوبة إليها لا يصح الا فيما كان دليل المقيد بلسان كون الشيء في ظرف وجود كذا ككون التجارة في ظرف وجود الرضا لا فيما كان بلسان كون الشيء موصوفا بكذا كما هو قضية تقييد الذات بالصفة لاستحالة لحاظ المعروض حينئذ في ظرف وجود عارضه ( ان ما أفيد ) من كون موضوع الحكم الواقعي في ظرف تعلق الحكم به هي الذات المجردة عن ملاحظة الصفات الطارية على الحكم وان كان صحيحا الا ان عنوان التجرد المزبور في عالم اللحاظ ليس مأخوذا في حدود الموضوع وقيوده ، وانما هو منشأ لسعة اطلاقه وقابلية انطباقه على المقيد كما في جميع المطلقات الملحوظ كون الطبيعة فيها مجردة عن جميع القيود حتى قيد التجرد ، وبذلك ترى الذات بنحو الاطلاق القابل للانطباق على المقيد معروضة للحكم الواقعي وفي ضمن المقيد معروضة للحكم الظاهري ( نعم لو كان ) لوصف تجرد الموضوع في مقام اللحاظ دخل في عالم موضوعيته لأمكن دفع شبهة التضاد بمثل البيان المزبور ، ولكنك عرفت ما فيه.

( المقدمة الثالثة ) لا شبهة في أن لوجود المراد وتحققه في الخارج مقدمات اختيارية من قبل المأمور نظير الستر والطهور وغيرهما بالنسبة إلى الصلاة ، ومقدمات

ص: 63

اختيارية من قبل الآمر كخطابه الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث على ايجاده وخطابه الاخر في طول ذلك عند جهل المأمور بالخطاب الأول وهكذا ( ولا ) شبهة في أن الإرادة التشريعية التي يتضمنها الخطاب المتعلق بعنوان الذات انما يقتضي حفظ وجود المتعلق من قبل خصوص المقدمات المحفوظة في الرتبة السابقة على تلك الإرادة وهي المقدمات الاختيارية المتمشية من قبل المأمور سوى ارادته المنبعثة عن دعوة الخطاب كالستر والطهور وغيرهما من قيود المأمور به « واما » المقدمات المحفوظة في الرتبة المتأخرة عن تلك الإرادة كالخطاب الموجب لاعلام المكلف بإرادته الباعث لدعوته ، فلا تقتضي تلك الإرادة حفظها ، بل تعلق الإرادة بها انما يكون ناشئا عن إرادة أخرى متعلقة بعنوان آخر في طول إرادة الذات التي هي مضمون الخطاب ولا يمكن نشوها من قبل تلك الإرادة ، كيف وان مقدمية الخطاب لوجود المرام انما هو من جهة كونه سببا لعلم المكلف بمضمونه « وبعد كون » العلم المزبور الذي هو الغرض من تكوين الخطاب في رتبة متأخرة عن إرادة الذات « لا يمكن » ان يصير الخطاب محفوظا من قبل تلك الإرادة وناشئا قصده وارادته من قبلها ، بل لا محيص وأن يكون قصده وارادته ناشئا عن إرادة أخرى متعلقة بعنوان آخر « ومن هذه الجهة » نقول ان الغرض من الخطابات طرا انما هو تحريك المكلف من قبلها إلى ايجاد العمل بداعية ، من غير فرق في ذلك بين التعبدي والتوصلي ، وان كان بينهما فرق من حيث دخل الانبعاث عن الامر في التعبديات في الغرض الداعي إلى الامر بها بخلاف التوصليات ( وبهذا ) البيان يظهر وجه خروج إرادة المكلف المنبعثة عن دعوة الخطاب عن حيز اقتضاء الإرادة التشريعية كنفس الخطاب ، لأنها من جهة تأخرها لا يمكن ان يشملها اطلاق الخطاب ، فما هو في حيز اقتضائها انما هو ذات الفعل بماله من المقدمات المتمشية من قبل المأمور غير ارادته الناشئة من دعوة الخطاب « ومن » هذه الجهة نقول باستحالة صيرورة إرادة المكلف المنبعثة عن دعوة الخطاب واجبة بالوجوب الشرعي ولو غيريا ، وان وجوبها وجوب عقلي محض ، لاستقلال العقل بلزوم تحصيلها واستحقاق العقوبة على تفويتها لولا مسقط خارجي كما في التوصليات « نعم » الغرض من ايجاد الخطاب لما كان هو الانبعاث عن

ص: 64

دعوة خطابه كانت إرادة المكلف بهذا الاعتبار في حيز إرادة الامر في مقام ايجاد الخطاب ، إذ كان مرجع تكوين خطابه إلى ارادته لحفظ المرام من قبل دعوة خطابه.

« المقدمة الرابعة » بعدما عرفت من أن لوجود المرام مقدمات اختيارية من قبل المأمور ومقدمات اختيارية من قبل الآمر كخطابه الباعث لدعوة المأمور إلى الاتيان بالعمل ، وخطابه الاخر عند جهل المكلف بالخطاب الأول « نقول » انه لا شبهة في اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبة إلى المقدمات المتأخرة المتمشية من قبل الامر حسب اختلاف المصالح الواقعية في الأهمية ، فان المصلحة في الشيء « قد تكون » بمرتبة من الأهمية تقتضي تصدى المولى لحفظه في جميع المراتب المتأخرة « وقد تكون » بمرتبة دونها بحيث لا تقتضي الا حفظ وجود الشيء من قبل خطابه الأولى ( ففي الصورة ) الأولى لا شبهة في أنه لابد للمريد الحكيم من كونه بصدد حفظ مرامه في اي مرتبة من المراتب بحيث لو لم يتحقق من قبل خطابه الواقعي لجهل المأمور به يجب عليه الاهتمام بحفظه في المراتب المتأخرة عنه بتوجيه خطاب آخر إلى المأمور في ظرف جهله ولو بمثل ايجاب الاحتياط ، وليس له الاقتصار على مجرد خطابه الواقعي وابقاء المكلف على جهله فضلا عن صيرورته بصدد تفويته بانشاء آخر على خلافه ، الا إذا فرض قيام مصلحة مهمة جابرة لما فات أو مزاحمة له فيجوز له السكوت بل وانشاء خلافه « واما في الثانية » فلازمه جواز الاكتفاء في حفظه بمجرد خطابه الواقعي في المرتبة الأولى ، فإذا فرض عدم علم المأمور بخطابه لا يلزم عليه توجيه خطاب آخر إليه في المراتب المتأخرة ، بل له السكوت حينئذ وايكال المأمور إلى حكم عقله بالبرائة ، بل يجوز له أيضا في هذه المرتبة انشاء خلافه بلا احتياج إلى وجود مصلحة مهمة جابرة أو مزاحمة ، بل يكفي حينئذ أدنى مصلحة في انشاء الخلاف هذا كله في مقام الثبوت « واما مقام الاثبات » فلا طريق لاحراز كيفية المصالح الواقعية ومراتب الاهتمام بها الا الخطابات ، وحيث إن من قبل كل خطاب لا تستكشف المصلحة الا بمقدار استعداده للحفظ ( نقول ) انه بعد عدم شمول اطلاق كل خطاب للمراتب المتأخرة عن نفسه فلا تستكشف المصلحة من الخطابات

ص: 65

الواقعية الا بمقدار استعدادها للحفظ من قبلها ولو بتوسيط وصولها إلى المكلف بالأسباب العادية ، فإذا فرض عدم وصول الخطاب إلى المكلف ، اما لقصور في الخطاب في الوصول إليه ، أو لقصور المكلف في وصوله إليه ، فلا يلزم على المولى ان يتصدى لحفظ مرامه في المراتب المتأخرة بتوجيه خطاب آخر إليه ولو بمثل ايجاب الاحتياط ، فان لزوم ذلك عليه تابع لفعلية غرضه بحفظه حتى في المرتبة المتأخرة عن خطابه وحينئذ لو سكت المولى في هذه المرتبة وأوكل المكلف إلى حكم علقه بالبرائة ، لا يلزم قبح عليه من حيث نقص الغرض وتفويت المصلحة ، بل كان له انشاء خلافه بجعل الطريق المؤدى إلى الخلاف المستتبع الترخيصة في الترك من غير أن يكشف ذلك عن وجود مصلحة مزاحمة جابرة في المؤدى أو في سلوك الطريق ( نعم ) يستكشف ذلك في فرض قيام المصلحة في الشيء بمرتبة تقتضي الاهتمام بحفظه حتى في المراتب المتأخرة عن خطابه ، وذلك أيضا إذا لم يحتمل مانعا عن الجري على ما تقتضيه المصلحة ( ولكنه ) لا طريق إلى كشف المصلحة بهذه المرتبة ، لان الطريق إليها ليس الا الخطاب ، وبعد عدم شمول اطلاقه للمراتب المتأخرة لا يستكشف منه المصلحة الا بمقدار استعداده للحفظ من قبله بوصوله إليه بالأسباب العادية ( نعم ) في فرض الانفتاح وتمكن المكلف من الفحص ربما يستكشف من وجوبه بمقتضى ما دل من العقل والنقل كعموم هلا تعلمت بلوغ مصلحة العمل في الاهتمام بمرتبة تقتضي حفظه ولو بالفحص ( فيحتاج ) في مورد انشاء خلافه إلى كشف مصلحة جابرة في البين أو مزاحمة أهم ، ولكن ذلك أيضا لولا دعوى كشف ترخيصه في ترك الفحص عن عدم بلوغ المصلحة في المورد إلى مرتبة لزوم الفحص ( والا ) فلا ينتهى الامر أيضا إلى كشف المصلحة الجابرة أو المزاحمة الأهم كما هو ظاهر ( نعم ) نتيجة اطلاق الإرادة الواقعية حينئذ انما هي المحركية الفعلية نحو المطلوب في فرض وصولها إلى المكلف ( إذ بالعلم بها ) يحكم العقل بالطاعة ، ومرجعه إلى إناطة التكليف عقلا في مرحلة الفاعلية والمحركية بوصوله إلى المكلف ، نظير الواجب المشروط مع بقائه على فعليته في ظرف عدم وصوله إلى المكلف ، بلا اقتضاء هذه المرتبة من الفعلية لتصدي المولى لرفع جهل المكلف بنصب البيان على مراده في المراتب المتأخرة عن خطابه

ص: 66

( لان ) ذلك انما هو من لوازم الفعلية المطلقة لا مطلق الفعلية والتكليف الفعلي المشترك بين العالم والجاهل انما هو الفعلي بهذا المعنى ، لا الفعلي على الاطلاق كي ينافيه انشاء الخلاف في المراتب المتأخرة.

( وبعد ان عرفت ما مهدناه ) من المقدمات يظهر لك اندفاع الشبهة المذكورة في امكان جعل الطريق على خلاف الواقع بتقاريريها حتى على الموضوعية فضلا عن الطريقية في حال الانفتاح والانسداد ( اما تقريرها ) بلزوم اجتماع الضدين أو المثلين ( فعلى الطريقية ) قد عرفت انه لا موضوع لهذه الشبهة ، لان مقتضى الطريقية ليس الا تنجيز الواقع عند الإصابة والاعذار عند عدم الإصابة ، فلا يكون انشاء حكم من المولى على طبق الامارة وراء الحكم الواقعي حتى يلزم محذور اجتماع الضدين أو المثلين ، من غير فوق في ذلك بين حال الانفتاح والانسداد ( واما ) على الموضوعية فلازمها وان كان اشتمال المؤدي على حكم آخر في قبال الواقع ، الا انه لا ضير فيه بعد طولية العنوانين ووقوف الحكم على نفس العناوين وعدم تعديه إلى وجود المعنون على ما بيناه في المقدمة الأولى والثانية إذ حينئذ يختلف معروضا الحكمين ومع اختلافهما لا مانع من الجمع بينهما بعروض الإرادة على أحدهما والكراهة على الاخر ( نعم ) لو بنينا على سراية الحكم من العنوان إلى وجود المعنون خارجا ( لاتجه ) الاشكال المزبور ، ولا يجدى مجرد طولية العنوانين في الجمع بين المحبوبية والمبغوضية والإرادة والكراهة ، إذ مقتضى السراية حينئذ هو طرو المتضادين على المعنون الوجداني الخارجي ، وهو من المستحيل ، ولكن الشأن في ذلك كما عرفت ( وحينئذ ) ففي فرض طولية العنوانين حتى في جهة الذات على ما تقدم في المقدمة الثانية بجعل صفة المشكوكية ، من الجهات التعليلية لنفس الاحكام الظاهرية ، لا من الجهات التقييدية المأخوذة في موضوعاتها ( لا بأس ) بالالتزام بالجمع بين الحكمين ( نعم ) لو كانت طولية العنوانين لمحض الوصف المأخوذ في أحدهما بلا طولية في طرف الذات ( كان ) للاشكال المزبور كمال مجال ، ولا يجدى في رفعه أيضا مجرد طولية الحكمين ( فان الذات ) فيهما بعد أن كانت محفوظة في مرتبة واحدة ( يلزمه ) تعلق الحكم الثاني أيضا بما تعلق به الحكم الأول ، فيقتضى بذلك محبوبية تفويت الذات بفتح بعض أبواب عدمها

ص: 67

من قبل المقدمات المتمشية من قبل المأمور ، ومثله من المستحيل فإنه يؤدى إلى التضاد في مرحلة اقتضاء المولى من حيث الإرادة والكراهة والحب والبغض بالنسبة إلى حيث الذات ، وهو مما يأبى عنه العقل ، وان لم يكن أحد الخطابين مؤثرا في إرادة المأمور لجهله المانع عن تنجزه ( كما لا يجدى ) أيضا ما بيناه في المقدمة الأخيرة من اختلاف أنحاء المصلحة ومراتب الاهتمام بها في اقتضائها لحفظ الذات تارة على الاطلاق ، وأخرى في بعض المراتب ( فان ذلك ) انما يجدى بالنسبة إلى الجهات المتأخرة عن الخطاب لا في رفع التضاد بين الإرادة والكراهة في نفس المولى بالنسبة إلى الأمور المتقدمة على الخطاب ( وحينئذ ) فلا محيص في رفع التضاد بينهما عن الالتزام بما ذكرنا من تعدد الذات وعدم سراية الإرادة إلى الخارج ( واما تقريرها ) بلزوم نقض الغرض فمندفع أيضا بما بيناه في المقدمة الرابعة من أنها انما ترد في فرض احراز قيام المصلحة بوجود المرام على الاطلاق بنحو يقتضى لزوم كون المولى بصدد حفظه في اي مرتبة من المراتب ( وهذا ) مما لا طريق إليه ، لان الطريق إلى المصالح الواقعية لا يكون الا الخطابات الواقعية والمقدار الذي يقتضيه كل خطاب انما هو فعلية غرض المولى بالحفظ من ناحية ذلك الخطاب ، ومن المعلوم انه بانشاء الخطاب الواقعي يتحقق هذا المقدار من الحفظ حتى في فرض عدم وصوله إلى المكلف ، واما الزائد عن هذا المقدار فحيث انه لا يقتضيه اطلاق خطابه ، فلا محذور في صيرورته بصدد تفويت مرامه في المراتب المتأخرة عن خطابه بسكوته أو بانشاء خلافه في ظرف جهل المكلف بالخطاب الذي هو ظرف عدم محركيته ، إذ لا يكاد يلزم منه نقض غرض في البين ، بل لا محذور فيه حتى في فرض تمكن المكلف من الفحص ، حيث كان له الترخيص في الخلاف في هذه المرتبة ويرتفع به حكم العقل بلزوم الفحص بلحاظ تعليقية حكمه باللزوم على عدم ترخيص الآمر بالخلاف ، من غير كشف ترخيصه عن وجود مصلحة جابرة أو مزاحمة أهم ، ولا منافاته لما يقتضيه الخطاب الواقعي من الإرادة الفعلية في المورد كما هو ظاهر ( وبهذا ظهر ) الجواب عن تقرير الشبهة بلزوم تفويت المصلحة ، إذ ذلك أيضا فرع قيام المصلحة بالشيء على الاطلاق بنحو تقتضي الاهتمام بحفظه حتى في المراتب المتأخرة ( والا ففي فرض )

ص: 68

عدم قيام المصلحة الباعثة على الحفظ الا بمقدار استعداد الخطاب الواقعي ولو بتوسيط وصوله بالأسباب العادية فلا يلزم التفويت بسكوته أو انشاء خلافه في المراتب المتأخرة ، فان حفظ المصلحة بمقدار يقتضيه استعداد الخطاب الواقعي قد تحقق بنفس انشاء الخطاب الواقعي وفي الزائد عن هذا المقدار لم يكن لها اقتضاء الحفظ ( مع أنه ) لو فرضنا قيام المصلحة بالشيء على الاطلاق حتى في المراتب المتأخرة عن الجهل بالخطاب ( فيمكن ) أيضا دفع تلك الشبهة بالالتزام بالمصلحة الجابرة أو المزاحمة لها في انشاء الخلاف ، إذ لا قبح حينئذ في التفويت بعد كونها متداركة أو مزاحمة لما هو أهم منها « وبما حققنا » اندفعت الشبهة بتقاريرها على الطريقية والموضوعية في حال الانفتاح والانسداد حيث أمكن الالتزام بفعلية الحكم الواقعي بمقدار يقتضيه اطلاق الخطاب مع قيام الطريق المؤدى إلى الخلاف حتى على الموضوعية من غير أن يستلزم التصويب بشيء من معانيه « لان ذلك » انما هو في فرض خلو الواقع عن الحكم الفعلي « ولا الاجزاء عن الواقع » الا إذا فرض كون المصلحة القائمة بالمؤدى جابرة لما فات من المصلحة الواقعية « وعلى » ذلك لا يكون للأحكام الواقعية بعد وجود مقتضياتها الا مرتبتان ، مرتبة الفعلية ، ومرتبة الفاعلية والمحركية المعبر عنها بمرتبة التنجز ، وان الأخيرة تدور مدار قيام الطريق دون الأولى فإنها ثابتة حتى مع قيام الطريق على الخلاف على ما عرفت مرارا « ثم إن المحقق الخراساني قده » تصدى للتقصي عن الشبهة المزبورة بوجه آخر حيث إنه مع بنائه على عدم اجداء طولية الموضوع لدفع شبهة التضاد أجاب عنها بان مرجع جعل الطريق انما هو إلى جعل الحجية المستتبعة لحكم العقل بالتنجيز عند المصادفة وصحة الاعتذار به عند عدمها ، بلا استتباع لجعل تكليف مولوي على طبق المؤدى كي يلزم اجتماع الضدين أو المثلين ، فتكون أوامر الطرق طرا ارشادا إلى هذ الجعل ، وليست بأوامر مولوية « وعلى فرض » استتباعه لجعل حكم مولوي على وفق المؤدى ، نمنع المضادة أيضا « لان » مثل هذا التكليف لا يكون الا تكليفا طريقيا ، لا حقيقيا بحيث يكون حاكيا عن إرادة ناشئة عن مصلحة في المتعلق قبال الإرادة الواقعية « ومثله » لا ينافي الواقع ، لأنه مجرد ايجاب طريقي لحفظ الواقع ، ونتيجته كما في جعل الحجية هي تنجيز الواقع

ص: 69

عند المصادفة وصحة الاعتذار به عند عدمها ، بل استتباعه لترخيص شرعي على خلاف الواقع أصلا ، كما في جعل الحجية « نعم » في بعض الأصول كقاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما لما كان مفادها الترخيص الشرعي والاذن في الاقتحام وكان مثله ينافي الإرادة الواقعية ، لاستحالة اجتماع فعلية الإرادة الواقعية مع الترخيص على الخلاف « التزم فيها » بعد فعلية التكليف الواقعي في مواردها ولكن لا بنحو لو علم به المكلف لم يتنجز عليه كالأحكام الانشائية المحضة « بل على نحو » لو علم به المكلف لبلغ إلى مرتبة التنجز ، ففي الحقيقة هي مرتبة من الشأنية التي قد تم فيها مقتضيات الفعلية ( الا ان ) المانع عن فعليته هو جهل المكلف ( فمع ) ارتفاعه تبلغ إلى مرتبة الفعلية فيتنجز ( فكان ) الفارق بين موارد الامارات وبين الأصول المؤدية إلى خلاف الواقع بعد اشتراك التكليف الواقعي في مواردهما في التنجيز بمحض علم المكلف ( هو بلوغه ) في مورد الامارات إلى مرحلة الفعلية بنحو يتمحض تنجيزه بعلم المكلف ( بخلاف ) موارد الأصول المرخصة فان التكليف فيها لا يكون فعليا ، بل كان بمرتبة من الشأنية بحيث لو علم به المكلف لبلغ إلى مرتبة الفعلية فيتنجز عليه ( هذا محصل ما افاده قد ) في التفصي عن الشبهة ، وفي الفرق بين موارد الامارات والأصول من حيث فعلية التكليف وعدم فعليته ( أقول ) وفيه ان ما افاده قده أولاً من ارجاع أوامر الطرق إلى جعل الحجية غير المستتبع لحكم تكليفي وان كان يدفع به محذور اجتماع الضدين ( الا ) انه لا يدفع به محذور نقض الغرض وتفويت المصلحة كما في حال الانفتاح ( حيث إنه ) مع فعلية الغرض بحفظ المرام وصيرورة المكلف بصدد تحصيله بحكم عقله بوجوب الفحص ( فلا محاله ) يكون جعل ما يوجب تفويته نقضا منه لغرضه وهو من المستحيل ( ولا يقاس ) ذلك بفرض قيام الحجة العقلية على الخلاف ( فان ) فوت الغرض هناك يكون قهريا غير مستند إلى اختيار الآمر ، بخلاف جعل ما يوجب تفويته ، حيث إنه تفويت منه لغرضه باختياره وهو قبيح مستحيل صدوره من الحكيم « نعم » في فرض الانسداد وانتهاء الامر إلى البراءة بحكم العقل « أمكن » منع صدق التفويت بالنسبة إليه لان فوت الغرض حينئذ امر قهري لازم بحكم العقل بالبرائة كان هناك جعل طريق على الخلاف أو لم يكن

ص: 70

ولكن مورد الاشكال في امكان جعل الطريق لا يكون مختصا بهذا الفرض بل يعم فرض الانفتاح ( وبذلك ظهر ) الاشكال فيما افاده قده ثانيا من جعل أوامر الطرق أوامر طريقية غير مستتبعة للترخيص الشرعي ( إذ نقول ) انه في فرض فعلية الإرادة يتوجه عليه محذور نقض الغرض في حال الانفتاح عند مخالفة الامارة الواقع ، ومع فرض عدم فعلية الإرادة وعدم بلوغها إلى مرحلة الانقداح ، لابد من الالتزام بشأنية التكليف في موارد الامارات المخالفة للواقع على نحو ما افاده في موارد الأصول المرخصة ، فلا مجال للتفكيك بينهما ( مضافا ) إلى أن هذه الانشاءات ما لم تكن عن داعي جعل الترخيص في ظرف المخالفة لا تكون صالحة للمعذرية عند الانفتاح وحكم العقل بلزوم الفحص ، ومع كونها عن داعي جعل الترخيص في ظرف المخالفة لابد من رفع اليد عن فعلية الواقع والالتزام فيه بالشأنية كما في موارد الأصول المرخصة لاستحالة اجتماع فعلية الإرادة الواقعية مع الترخيص الفعلي بالخلاف ( وبما ذكرنا ) يظهر انه لا تندفع مثل هذه الشبهة بما أفيد في الامارات من أنه ليس المجعول فيها حكما تكليفيا وانما المجعول فيها مجرد الطريقية والكاشفية والوسطية في الاثبات فلا يكون في البين الا الحكم الواقعي فقط أصاب الطريق للواقع أو أخطأ ( إذ بعد ) الغض عما فيه من الاشكال في أصل المبنى ( يرد عليه ) بأنه وان يدفع به محذور التضاد الا انه يبقى محذور نقض الغرض على حاله في حال الانفتاح وصيرورة المكلف بحكم عقله بوجوب الفحص بصدد تحصيله ( ضرورة ) انه مع فعلية الإرادة الواقعية حينئذ بحفظ الغرض وشمولها ولو بنتيجة الاطلاق لمرتبة الجهل بها حسب اعترافه غير مرة في الجواب عن الشيخ قدس سره وغيره ( يكون ) جعل ما يوجب تفويته نقضا منه لغرضه وهو المستحيل ( كما أنه ) لا يدفع به محذور تفويت المصلحة في فرض الانفتاح وتمكن المكلف من الفحص ( وقياسه ) بفرض قيام الحجة العقلية على الخلاف ( مدفوع ) بما تقدم من أن القاطع حين قطعه لما لم يحتمل الخلاف يكون الفوت في مورده قهريا ( بخلاف المقام ) فإنه مع احتمال مخالفة الامارة للواقع وجدانا يكون التعبد بها تفويتا للمصلحة من المولى وهو قبيح هذا ( مع أنه ) لا يجرى هذا الوجه في الأصول المحرزة لأنها فاقدة للطريقية ( ودعوى ) انه المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على أحد طرفي الشك على

ص: 71

انه هو الواقع ، لا الحكم التكليفي ( كما ترى ) لا نفهم له وجها ( كيف ) وان البناء والجري فعل للمكلف ومثله غير قابل لتعلق الجعل به ، وما هو القابل للجعل انما هو الامر بالمعاملة والبناء على أحد طرفي الشك على أنه الواقع ( ومعه ) يقع الكلام في هذا الامر عند مخالفة الأصل للواقع ( فيتوجه ) عليه مضافا إلى المحذورين المتقدمين محذور التضاد أيضا « نعم » ما أفيد في الأصول غير المحرزة كاصالة الاحتياط والحل والبرائة ، من التزام طولية الموضوع في الحكم الواقعي والظاهري مع جعل الواقع « تارة » بمثابة من الأهمية بحيث يلزم على المولى رعايته حتى في ظرف الجهل ولو بانشاء آخر من ايجاب احتياط ونحوه ، وأخرى بمثابة لا يلزم عليه رعايته في مرتبة الجهل به « في غاية المتانة » وليته سلك هذا الوجه أيضا في موارد الطرق والأصول المحرزة حيث إنه يرجع إلى ما ذكرنا وتندفع بمثله الشبهة المعروفة بتقاريرها « ولكنه » ينافي ما تقدم منه غير مرة من عدم اجداء طولية الحكمين لرفع التضاد نظرا منه إلى الشمول الحكم الواقعي ولو بنتيجة الاطلاق لمرتبة الجهل به « ولعمري » ان الالتزام بمثل هذه الجهات ، انما هو لمحض دفع شبهة التضاد بتوهم عدم اجداء تعداد العنوان وطوليته في رفعها ، بتخيل سراية الحكم من العنوان إلى المعنون الخارجي « وبعد » ان عرفت طولية العنوانين حتى في جهة الذات ووقوف الحكم على نفس العناوين وعدم سرايته إلى المعنون ( لا يبقى ) مجال الشبهة المزبورة بوجه من تقاريرها حتى على الموضوعية وفى حال الانفتاح فضلا على الطريقية وفى حال الانسداد « ثم انه ما ذكرنا » من الطريقية والموضوعية في الامارات انما هو بحسب مرحلة الامكان ومقام الثبوت ( واما ) في مقام الاثبات والتصديق ، فلا ينبغي الارتياب في أن المتعين فيها هي الطريقية نظرا إلى ما هو المرتكز عند العرف والعقلاء في العمل بالطرق والامارات غير العلمية « لوضوح » ان اعتبارهم الطرق غير العلمية ليس الا من باب الاستطراق بها إلى الواقع « ومن المعلوم » أيضا ان الشارع في التعبد بالامارات غير متخطي عن طريقتهم وليس له طريق خاص في مقام اعتبار الامارات على خلاف الطريقة المألوفة بين العرف والعقلاء « على أن » اعتبار الامارة في الاحكام ليس الا كاعتبارها في الموضوعات ولا ريب في أن النظر في اعتبارها في الموضوعات انما كان على

ص: 72

وجه الطريقية لا غيرها ( وقد يستدل ) لاثبات الطريقية بقيام الاجماع على بطلان التصويب ( وفيه ان ) قيام الاجماع على بطلان التصويب لا يصير شاهدا على كون اعتبار الامارة من باب الطريقية لما بيناه من أنه لا تلازم بين الموضوعية وبين التصويب بجميع معانيه فالعمدة ، في اثبات كون اعتبار الامارة من باب الطريقية دون الموضوعية هو ما ذكرناه فتدبر.

« بقي الكلام » في وجه منجزية أوامر الطرق والأصول المحرزة كالاستصحاب ونحوه ، حيث إنه على الطريقية قد يستشكل بان مرجع تلك الأوامر على تقدير مخالفة الامارة للواقع لما كانت إلى انشاءات محضة خالية عن الإرادة الجدية ، فمع الشك واحتمال مخالفتها للواقع كيف يصلح مثلها لتنجيز الواقع واستحقاق العقوبة على مخالفته ، نعم هذا الاشكال يختص بفرض الانسداد وانتهاء الامر إلى حكم العقل في المورد بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان لولا هذا الجعل ( والا ) ففي فرض الانفتاح وتمكن المكلف من تحصيل العلم بالواقع لا موقع لهذا الاشكال من جهة كفاية مجرد احتمال التكليف حينئذ على وفق المؤدي في حكم العقل بتنجيز الواقع ( كما أنه ) على الموضوعية لا يرد هذا الاشكال ، لأنه بقيام الامارة على التكليف يقطع تفصيلا بالتكليف مرددا بين الواقع والظاهر فيحكم العقل بوجوب العمل على وفق المؤدى واستحقاق العقوبة على المخالفة ( فالاشكال كله ) انما هو على الطريقية في فرض الانسداد ، وحينئذ ينبغي صرف الكلام إلى دفع هذه الشبهة ( فنقول ) انه تفصى عن الشبهة بوجوه منها ) ما افاده بعض الأعاظم قده من أن المجعول في الطرق والامارات حيث كان هي الطريقية والكاشفية الموجب لصيرورة الظن وسطا حقيقة في الاثبات وكونه من مصاديق العلم فيترتب عليه جميع ما للعلم من الشؤون والآثار العقلية من الحجية والمنجزية والقاطعية للعذر ونحوها ( لان ) موضوع حكم العقل في هذه اللوازم أعم من العلم الوجداني والجعلي ومرجعه إلى قصر تصرف الشارع في التعبد بالامارة تأسيسا أو امضاءا بمقام الاحراز والكشف بلا تصرف منه في المؤدي بجعل حكم تكليفي من ايجاب المعاملة ونحوه ، وان امره بالعمل بالطرق لارشاد المكلف في بنائه على تتميم الكشف تبعا لجعل الشارع وبنائه لا انه امر مولوي تكليفي ( أقول ) وفيه مضافا إلى اختصاص البيان المزبور بخصوص الطرق والامارات

ص: 73

التي كان لسان دليل اعتبارها بنحو تتميم الكشف وعدم جريانه في الأوامر الواردة في باب الأصول كالاستصحاب ونحوه مما كان الامر الوارد فيها بلسان الامر بالمعاملة معه معاملة الواقع الذي هو راجع إلى الجهة الثالثة من العلم كما نص عليه هو قده قبال الطريقية التي هي الجهة الثانية من شؤون العلم ( إذ ليس ) في لسانها تتميم كشف أصلا ( فلابد ) فيها اما من الالتزام بالموضوعية المستتبعة لاستحقاق العقوبة على مخالفتها مطلقا ولو خالفت الواقع ( أو الالتزام ) بكفاية مثلها أيضا في المنجزية واستحقاق العقوبة على الواقع وان لم يكن في البين تشريع مصداق العلم ، ( فيقال ) انه بعد كفاية هذا المقدار في تنجيز الواقع لم لا يلتزم به في أوامر الطرق أيضا ولم التزم في خصوص أوامر الاحتياط بالوجوب النفسي مع وضوح ظهور أوامر الاحتياط في كونها لمحض احراز الواقع والفرار عن مخالفته كغيره من الأوامر الطريقية مع أن لازم النفسية استحقاق العقوبة على مخالفته وان لم يصادف الواقع وهو كما ترى ( ودعوى ) ان ذلك انما يكون فيما إذا كان حفظ الواقع حكمة لايجاب الاحتياط لا فيما كان علة له ، فإنه حينئذ يدور الحكم مدارها ولا يمكن ان يتخلف عنها ( مدفوعة ) بان الحكم الواقعي إذا كان علة لتشريع الاحتياط يلزمه انتفاء التشريع المزبور بانتفاء الحكم الواقعي ومعه يتردد الامر بالاحتياط لا محالة بين كونه أمرا حقيقيا أم صوريا فيتوجه الاشكال حينئذ في صلاحية مثل هذا الامر للمنجزية المستتبعة للعقوبة على المخالفة ( نقول ) ان تمامية الكشف بعد ما لم يكن من الحقائق الجعلية التي يكون تشريعها عبارة عن عين تكوين حقيقتها نظير الملكية والزوجية ونحوها من الحقائق الجعلية بل كانت من الأمور الواقعية كالموت والحياة والفسق والعدالة الغير القابلة لتحقق حقيقتها بالجعل والتشريع ( فلابد ) وأن يكون مرجع التشريع المزبور إلى نحو ادعاء وعناية تنزيل مستتبع لانطباق عنوان العلم عليه كسائر العنايات والتنزيلات ، فيحتاج إلى اثر شرعي مصحح للتنزيل المزبور ولو في طرف المنزل كغيره من التنزيلات الشرعية ولا يكون ذلك الا امره بالمعاملة مع الامارة مقابلة العلم بالواقع فتشترك مع الأصول حينئذ في ذلك وفى قيامها مقام القطع من حيث الجهة الثالثة كما ذكرناه سابقا ، غير أن الفرق بينهما في كون الامر بالمعاملة مجعولا بدوا في الأصول وفي الامارات مستكشفا من جعل

ص: 74

الطريقية « وعليه » فيتوجه الكلام في هذا الوجوب بأنه موضوعي مستتبع لاستحقاق العقوبة على مخالفته ولو خالفت الامارة للواقع أم طريقي وعلى الثاني يبقى الاشكال في وجه منجزيته للواقع ( واما توهم ) عدم الاحتياج إلى الامر الشرعي وكفاية مجرد هذا الادعاء والتنزيل في ترتيب الآثار العقلية كالحجية والمنجزية وغيرهما كما ترى إذ مرجعه إلى اكتفاء العقل في الحكم بالتنجيز بمجرد ادعاء كون الشيء علما بلا اثر شرعي منجز للواقع وعهدة اثباته على مدعيه ( وبالتأمل ) فيما ذكرنا يظهر الحال في فرض انتزاع الطريقية من الامر بالغاء احتمال الخلاف ، فان الامر المزبور لكونه منشأ لانتزاع الطريقية يكون في مرتبة سابقة عليها ، فيقع الكلام في أن هذا الامر مولوي أو ارشادي إلى جعل الطريقية ( والثاني ) يرجع إلى المسلك السابق إذ لا تكليف حينئذ في البين ينتزع منه الطريقية فيعود الكلام فيه ( واما على ) الأول فيتوجه الكلام بأنه موضوعي مستتبع للعقوبة على المخالفة مطلقا أو طريقي فيعود البحث في وجه منجزيته للواقع.

« ومنها ما عن الكفاية » من أن المجعول في باب الطرق والامارات هو الحجية بناء منه على أن الحجية من الأمور الاعتبارية العقلائية القابلة للجعل نظير الملكية والزوجية وأمثالهما وانها متى تحققت بالجعل تستتبع حكم العقل بوجوب الاتباع والقاطعية للعذر ومرجع امر الشارع بالتعبد بالامارة باي لسان كان إلى جعل الحجية لها « وفيه » ان ذلك وان كان مما يدفع به الشبهة المزبورة ويسلم أيضا عما ذكرناه من الاشكال على المسلك السابق إذا لحجية بهذا المعنى غير الكاشفية والوسطية للاثبات ( الا ) انه لا يساعد عليه الاعتبار إذ هو متفرع على اعتبار الواسطة في القطع بين كاشفيته وبين قاطعيته للعذر وليس كذلك ، بداهة ان العقل في حكمه بالقاطعية للعذر لا يرى المصحح لها الا نفس الكاشفية التامة بلا اعتبار وجود شيء زائد على الكاشفية ومعه لا مجال لاثبات الواسطة والالتزام بمجعولية الحجية بالمعنى المزبور في الامارات ( وتوهم ) كون المجعول حينئذ هي القاطعية للعذر والمصححية للعقوبة ( مدفوع ) بان جهة المصححية للعقوبة ليست الا من سنخ السببية غير القابل باعترافه للجعل إذ سببية الشيء ناشئة عن خصوصية تكوينته فيه الموجبة لتأثيره في المسبب ومثله مما لا يكاد تناله يد الجعل الشرعي كما أن المسبب وهو

ص: 75

حكم العقل باستحقاق العقوبة أيضا غير قابل لتعلق الجعل الشرعي به ( وبذلك ) ظهر اندفاع ما يقال من أن مرجع جعل السببية إلى جعل المسبب عند تحقق السبب كما في جعل سببية الدلوك لوجوب الصلاة الراجع جعلها إلى جعل الوجوب للصلاة عند الدلوك ( وذلك ) لما عرفت من عدم قابلية المسبب هنا للجعل ( نعم ) ما هو قابل له ليس الا ما صرح به من الحجية التي هي نحو اعتبار موجب لحكم العقل بالقاطعية للعذر كما في القطع ، غير أنه في القطع من جهة تمامية كشفه يكون ذلك منجعلا وفى الامارات يكون مجعولا ( ولكنه ) قد عرفت انه مما لا يساعد عليه الاعتبار والوجدان فلا وجه حينئذ لما التزم به من حمل أوامر الطرق على الارشاد إلى حكم العقل بالموافقة بملاحظة كشفها عن الحجية المجعولة إذ لا داعي إلى الالتزام بمثله بعد فرض صلاحية الأوامر المزبورة مع بقائها على مولويتها للمنجزية كأوامر الاحتياط على ما اعترف به قدس سره فتدبر.

ومنها ما عن بعض الأساطين قدس سره ، من دعوى ان تلك الأوامر ايجابات طرقية ناشئة عن إرادات جدية لحفظ الواقعيات ومثل لذلك بما إذا فقد من الانسان جوهر نفيس بين أحجار ولم يتمكن من تمييزه لظلمه أو غيرها ، حيث إنه يتمشى منه الإرادة لاخذ كل واحد من تلك الأحجار ، مع وضوح ان ارادته المتعلقة بأخذ تلك الأحجار ليست إرادة نفسية لغرض في تلك الأحجار ، وانما هي إرادة طريقية تعلقت باخذها لتحصيل ذلك الجوهر ( ثم قال ) كما أن الامر هذا في الإرادة التكوينية في المثال ( كذلك ) في الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير وان الامارات المطابقة للواقعيات بمنزلة ذلك الجوهر ، والامارات المخالفة للواقع بمنزلة تلك الأحجار من حيث إن الإرادة المتعلقة بها إرادة طريقية ناشئة عن غرض هو حفظ الواقع في موارد الامارات المطابقة ، وبذلك تكون تلك الأوامر المتعلقة بالطرق صالحة للمنجزية والداعوية بلحاظ نشوها عن إرادة نفسية حتى في موارد الامارات المخالفة للواقع ، وانها من هذه الجهة تشبه الموضوعية ، غير أن الفرق بينهما من حيث استحقاق العقوبة على الموضوعية على مخالفة الامارة مطلقا بخلاف ذلك فإنه في فرض مخالفتها للواقع لا يترتب على مخالفة الامارة الا التجري ( وفيه ) ان ما أفيد في المثال فهو على خلاف الوجدان حيث يرى بالضرورة انه ليس في البين الا

ص: 76

إرادة واحدة متعلقة بتحصيل مطلوبه وهو ذاك الجوهر الا انه لما لم يتميز عن غيره واحتمل انطباقه على كل واحد من الأحجار ، كان نفس احتمال الانطباق منشأ لمحركية الإرادة المتعلقة بالمطلوب لاخذ تلك الأحجار كما في صورة القطع بالانطباق ، غير أنه في صورة القطع بالانطباق تكون محركية الإرادة نحو ما يقطع بانطباقه عليه جزميا وفى صورة احتمال الانطباق تكون محركيتها نحو ما يحتمل الانطباق عليه رجائيا كما في كلية موارد العلم الاجمالي فلا تكون إرادات متعددة متعلقة بأخذ الأحجار كي يبقى المجال للبحث عن كونها نفسية أم طريقية لأجل غرض حفظ المطلوب وتحصيله بل لا يكون في البين الا إرادة واحدة متعلقة بما هو المطلوب غير أنه في مقام المحركية يتعدد محركيتها حسب تعدد المحتملات ( على أنه ) لو سلم تعدد الإرادة فإنما يتصور ذلك بالنسبة إلى الجاهل بالواقع ، لا بالنسبة إلى العالم به إذ يستحيل تمشى الإرادة الحقيقية منه بالنسبة إلى غير المطلوب ( والمقام من هذا القيل ) لإحاطة الشارع وعلمه بالواقعيات وتميز الامارات المطابقة للواقع عن غيرها عنده ( لا يقال ) انه كذلك بالنسبة إلى ما يتعلق بفعل نفس العالم بالواقع والا فبالنسبة إلى ما يتعلق بفعل الغير ( فلا محذور ) فيه بعد فرض اشتباه الامر عليه ، فإنه لا محيص للامر من إرادة جميع المحتملات مقدمة لحصول مرامه الذي هو في مورد الامارات المطابقة إذ لولا ذلك لفات غرضه لاتكال المأمور على حكم العقل بالبرائة « فإنه يقال » ان أريد بذلك مقدمية المجموع لحصول المراد وانه بذلك تتوجه إرادة غيرية نحوها ففساده واضح « ضرورة » ان المقدمية تحتاج إلى الترتب والعلية بينها وبين ذيها ولا ترتب في البين بينهما ، حيث إن كل واحد من المحتملات يدور امره بين كونه نفس الواقع وبين كونه أمرا أجنبيا عنه « نعم » لما لم يكن الواقع خارجا عنها صار هذه الجهة منشأ للتلازم بين حصول المجموع وحصول ما هو المطلوب « ولكن » مثله هذا التلازم الاتفاقي أيضا لا يقتضى مطلوبية المجموع لعدم اقتضاء مطلوبية الشيء مطلوبية لازمه ( وان أريد ) مقدمية نفس الإرادة المتعلقة بالمجموع لتحقق المرام ، بتقريب انه لولا التوسعة في الإرادة بنحو تشمل المجموع لم يتمكن الامر من تحصيل غرضه فلابد له من التوسعة في ارادته ليحصل للمكلف الداعي إلى الاتيان بالجميع فيحصل مطلوبه ضمنا فهو

ص: 77

في غاية المتانة الا انه مبني على كفاية مجرد المصلحة في نفس الامر والإرادة في الامر بالشيء وهو في محل المنع كما حققناه في محله « لأنه » مضافا إلى كونه خلاف الوجدان لقضاء الضرورة بعدم تعلق الإرادة بل ولا الميل والمحبة بما لا يكون فيه الصلاح مندفع بالبرهان « إذ المصلحة » المزبورة باعتبار قيامها بالإرادة تكون لا محالة في مرتبة متأخرة عن الإرادة فيستحيل صيرورتها من مقتضيات الإرادة ومن علل وجودها فان ما هو من مقتضيات الشيء لابد وأن يكون في رتبة سابقه على الشيء « ولا يقال » ان ذلك يتم إذا كان ماله الدخل في الإرادة هي المصلحة بوجودها الخارجي دون اللحاظي والا فلا يرد الاشكال ، إذ من الممكن تصور المصلحة القائمة بالإرادة ولحاظها قبل الإرادة لتحققها « فإنه يقال » ان ماله الدخل في الإرادة وان كان هي المصلحة بوجودها اللحاظي دون الخارجي ، الا ان المصلحة الملحوظة في المقام لما كانت خارجية بنحو ترى في هذا اللحاظ عين الخارج فلا محالة ترى المصلحة في هذا النظر قائمة بالإرادة وفى مرتبة متأخرة عنها ، ومع لحاظها كذلك يستحيل صيرورتها من مقتضيات نفس الإرادة ، فيستحيل مقدمية الإرادة المزبورة لحصول المطلوب « وتوهم » جريان هذه الشبهة في فرض قيام المصلحة في المتعلق أيضا نظرا إلى تأخرها وجودا عن المتعلق المتأخر عن الإرادة ، « مدفوع » بان المتعلق وان كان بوده الخارجي معلولا للإرادة الا انه في مقام معروضيته لها يكون في رتبة سابقة عليها وفي هذه المرحلة لما لوحظ بالنظر التصوري عين الخارج يرى في هذا النظر متصفا بالمصلحة قبل الإرادة ، وبذلك يصير مورد تعلق الإرادة والكراهة « وهذا » بخلاف المقام فان المصلحة في مقام لحاظها خارجية لما لوحظت قائمة بالإرادة ترى في هذا اللحاظ في مرتبة متأخرة عن الإرادة فيستحيل صيرورتها من مقتضيات تلك الإرادة ومن علل وجودها كما هو واضح اللّهم الا ان يريد قيام المصلحة بنفس انشاء هذه الايجابات فان ذلك امر متصور.

والتحقيق في رفع هذه الشبهة ان يقال ان التكاليف الطرقية وان لم تكن في صورة المخالفة للواقع الا ايجابات صورية خالية عن الإرادة « ولكنها » في فرض المصادقة للواقع لما كانت كاشفة عن اهتمام المولى بحفظ غرضه بحد لم يرضى بفوته حتى في ظرف الجهل به وتصدى لحفظه بانشاء خطاب آخر ظاهري ( فلا محالة )

ص: 78

يحصل للمكلف من نفس هذه الخطابات القطع بالاهتمام بالتكليف المحتمل بنحو لا يرضى بتركه حتى في ظرف الجهل به وبذلك يخرج المورد عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب ويندرج في موضوع حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل كما في حكمه بوجوب النظر في المعجزة فيكون شأن الأوامر الطريقية احداث القطع بالاهتمام بالتكليف المحتمل من غير فرق في ذلك بين ما كان بلسان تتميم الكشف والامر بالغاء احتمال الخلاف وبين ما لم يكن بهذا اللسان كأوامر الاحتياط ودليل حرمة النقض « ولنا بيان آخر » في جواب الشبهة المزبورة ، وحاصله ان شأن الأوامر الطريقية لما كان هو ابراز الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها كما أسلفناه كان التكليف المحتمل على تقدير وجوده مما قام عليه البيان فيخرج بذلك عن اللابيان الذي هو موضوع القبح وبذلك يفترق المقام عن الشبهات البدوية الجارية فيها البراءة لان موضوع البراءة انما هو الا بيان على التكليف في فرض الوجود ، إذ في ظرف عدم التكليف يكون عدم العقوبة مستند إلى عدم المقتضى لا إلى وجود المانع أعني عدم البيان بنحو لو أريد تشكيل القضية تشكل بنحو القضية الشرطية المتضمنة لشرطية أخرى بجعل الشرط في الشرطية الأولى محققا للشرطية الثانية فيقال ان التكليف المحتمل ان كان ثابتا في الواقع فان لم يقم عليه البيان تقبح المؤاخذة عليه وان تم عليه البيان جازت المؤاخذة عليه « ولا ريب » في صدق هذا المعنى في الشبهات البدوية « لأنه » في فرض الوجود يصدق بأنه مما لم يقم عليه بيان واصل من المولى بخلاف المقام فإنه بعد مبرزية الأوامر الطريقية عن الإرادة الواقعية في ظرف الجهل بها يصدق على التكليف المحتمل في مورد الامارة بأنه على فرض الوجود كان مما قام عليه البيان « وعلى ذلك » فشأن الأوامر الطريقية في الحقيقة انما هو رفع موضوع حكم العقل بالقبح ، فإنها في فرض عدم المصادفة وان كانت الزامات صورية ( الا ) انها في فرض المصادفة للواقع تكون بيانا على التكليف المحتمل وجوده في البين « وعليه » يندفع الاشكال المزبور في منجزية أوامر الطرق بما بيناه من صلاحية تلك الأوامر على تقدير المصادفة للبيانية والرافعية لموضوع القبح ( واما ) توهم اقتضاء مثل هذا البيان لسد باب البراءة حتى في الشبهات البدوية نظرا إلى دعوى وجود القطع بالتكليف الفعلي على تقدير مصادفة الاحتمال للواقع ( فمدفوع ) بأنه في

ص: 79

الشبهة البدوية لما كان وجود القطع معلقا على فرض وجود التكليف المجهول فلم يتحقق بيان فعلى في البين وهذا بخلاف الامارة فإنها لم تكن في أصل وجودها منوطة على وجود الواقع ولا في بيانيتها وانما تقصر عن البيانية من جهة عدم وجود واقع في البين حتى تكشف وتحكى عنه ( هذا كله ) فيما يتعلق بالمقام الأول ولقد عرفت امكان جعل الطرق غير العلمية على خلاف الواقعيات على الطريقة والموضوعية في حال الانفتاح والانسداد.

« واما المقام الثاني فالكلام » في وقوعه ( وقبل الخوض ) في المرام ينبغي تأسيس ما هو الأصل في المسألة عند الشك في حجية شيء وعدم الظفر بالدليل على حجيته والتعبد به ( فنقول ) وعليه التكلان لا شبهة في أن جواز البناء على مؤدى الطريق بمعنى التعبد به واسناده إليه سبحانه وجواز الحكم على طبقه والاخبار به ونحو ذلك غير مرتبط بجهة المنجزية والحجية وهو كون الشيء بحيث يصح به المؤاخذة والاحتجاج وذلك لوضوح امكان التفكيك بين المنجزية وبين جواز التعبد به والاسناد إليه سبحانه كما في احتمال التكليف قبل الفحص وكذلك الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ( نعم ) بناء على مسلك تتميم الكشف في الطرق يكون جواز التعبد من لوازم منجزيتها إذ مرجع الامر بتتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف إلى ترتيب تلك اللوازم من جواز التعبد به ونسبته إليه سبحانه وجواز الحكم والافتاء على طبقه والاخبار على وفق المؤدي بأنه الواقع ، بخلاف بقية المسالك حيث لا تلازم بين الامرين لامكان التفكيك بينهما ولذا لو شككنا في جواز التعبد به ولو مع القطع بأصل الحجية تجري أصالة عدم جواز التعبد ( ولعل نظر الشيخ قدس سره ) في تأسس الأصل في جواز التعبد بالمؤدى والاسناد إليه سبحانه إلى كفاية حيث تتميم الكشف في جواز التعبد بالمؤدي والاسناد إليه تعالى ككفايته في المنجزية على ما عرفت من الملازمة بين الامرين على هذا المسلك كما أن نظر المحقق الخراساني قدس سره في تأسيس الأصل في جهة المنجزية والحجية إلى ما اختاره في الامارات من جعل الحجية التي هي غير مرتبطة بحيث جواز التعبد به وعليه لا مجال للاشكال عليه بما أفيد لأنه راجع إلى الاشكال على أصل المبنى لا على بنائه والا فهو أوضح من أن يخفى كيف وقد عرفت ان مجرد المنجزية غير ملازم لجواز التعبد كما في ايجاب الاحتياط

ص: 80

في الشبهات البدوية فإنه مع كونه منجزا للواقع لا يجوز التعبد المزبور فيها وهكذا الظن على الحكومة في باب الانسداد بناء على كونه مثبتا للتكليف كما هو أحد المسالك في تلك المسألة على ما يأتي بيانه انشاء اللّه تعالى لا مسقطا له على ما هو مسلك التبعيض في الاحتياط ( وكيف كان ) لا شبهة في أن مثل هذه الأحكام انما هو من توابع العلم بالحجية ، فمع الشك في الحجية لا يترتب شيء منها ، لأصالة عدم الحجية وأصالة عدم التعبد بالمؤدى ( وقد يقال بعدم جريان الاستصحاب لا من جهة عدم ترتب اثر عملي على عدم الحجية الواقعية ، كي يقال في رده بما افاده العلامة الخراساني قده من كفاية كون المستصحب في نفسه أمرا شرعيا ولو لم يكن اثر عملي الا بتوسيط استصحابه كما في استصحاب الاحكام التي لا يترتب عليها عمل الا بتوسيط حكم العقل المترتب على استصحابها ( بل من جهة ) ان الاستصحاب لما لم يكن رافعا للشك في الواقع كالأمارات ، وانما مقتضاه اثبات حكم في ظرف الشك ( فلا يتحقق ) العلم بعدم الحجية من قبل الاستصحاب الا في رتبة متأخرة عن الشك ( وحينئذ ) وان كانت تلك الأحكام مترتبة على العلم بعدم الحجية أيضا ( الا ) ان الموضوع لها لما كان هو الجامع بين العلم بالعدم وعدم العلم فقهرا بعد تأخر العلم بالعدم عن الشك كان الشك أسبق فردي الموضوع فيترتب عليه الأثر بحكم العقل فيستحيل ترتبه ثانيا على الاستصحاب لكونه لغوا محضا ( ولا يجدى حينئذ ) مجرد شرعية المستصحب ما لم يترتب عليه عمل ولو بتوسيط استصحابه ( وبذلك ) يفرق بين الاستصحاب المزبور ، وبين قيام الامارة المعتبرة على عدم الحجية ( فان ) الامارات لما كان شأنها رفع الشك عن الواقع واثبات العلم به كانت موجبة لارتفاع موضوع القاعدة وهو الشك تعبدا فلا يبقى حينئذ معها مجال لجريان القاعدة المزبورة ( بخلاف ) الاستصحاب فإنه لا يكون رافعا للشك عن الواقع ( بل غاية ) اقتضائه بناء على رجوع التنزيل فيه إلى اليقين هو اثبات العلم التعبدي بالواقع في ظرف الشك به ، وبعد كون العلم المزبور في رتبة متأخرة عن الشك ، فبمجرد الشك يترتب عليه الأثر المترتب على الجامع بين عدم العلم والعلم بالعدم لكونه أسبق فردي الموضوع وبترتبه عليه لا يبقى مجال لترتبه ثانيا على الاستصحاب لكونه من تحصيل الحاصل هذا ( وفيه ) انه يتجه هذا الاشكال في فرض كون تلك الآثار من لوازم العلم

ص: 81

بالحجية فقط « والا » فعلى فرض كونها من اثار الواقع أيضا ولو بنحو الاقتضاء « لا مجال » لهذا الاشكال « إذ يكفي » في جريان الاستصحاب حينئذ مجرد كون المستصحب مقتضيا لترتب العمل عليه ولو في ظرف العلم به ، كما هو الشأن في الوجوب الواقعي بالنسبة إلى وجوب الامتثال حيث يكفي ذلك في استصحاب عدم الوجوب وحكومته على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعلى ذلك « نقول » انه بعد كون الحجية الواقعية مما يترتب عليها حكم العقل بالتنجيز ولزوم الموافقة فعند الشك فيها يجرى استصحاب عدمها ويترتب عليه عدم حكم العقل بالتنجيز ولزوم الموافقة ، وبجريانه لا يبقى مجال لجريان القاعدة وترتيب اثر عدم الحجية على نفس الشك « وان شئت » قلت إن الشك في الحجية ، كما يكون موضوعا للقاعدة ، كذلك يكون موضوعا للاستصحاب وعليه فعند الدوران لابد من تقديم الاستصحاب « لان بجريانه » يرتفع موضوع القاعدة وهو الشك تعبدا بخلاف العكس فإنه يلزم من تقديمها تخصيص الاستصحاب لبقاء موضوعه وعدم اقتضاء القاعدة لنفيه « لان » غاية ما يقتضيه القاعدة انما هي لغوية جريانه مع أن لازم البيان المزبور هو المنع عن استصحاب الحجية ، بل وعن استصحاب الطهارة والحلية في قبال القاعدة المثبتة لهما « مع أنه كما ترى » لا يظن التزامه بأحد خصوصا في الأخيرين ، حيث إن كلماتهم مشحونة بجريان استصحاب الطهارة والحلية وحكومته على القاعدة المثبتة لهما ( وما أفيد ) في الفرق بين المقام وما هناك بان المجعول هناك طهارتان ظاهرية واقعية وان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة فبالاستصحاب يتحقق الغاية وهو العلم بالطهارة أو النجاسة فيرتفع موضوع القاعدة وهو الشك ( بخلاف المقام ) ، حيث إنه لا يكون في البين الا حكم واحد مترتب على الجامع بين الشك والعلم بالعدم ( ومن المعلوم ) ترتب مثله على نفس الشك الذي هو أسبق فردي الموضوع ( مدفوع ) مضافا إلى منافاة ذلك لما التزم به في غير المقام من وحدة المجعول فيهما ( بان المجعول ) في مورد القاعدة لو كان هي الطهارة الظاهرية للزم عند العلم بنجاسة الماء المتوضى به الجاري فيه قاعدة الطهارة ، اما الحكم بصحة الوضوء واقعا ، واما عدم صحة التوضي به أصلا ( بيان الملازمة ) هي ان الطهارة المعتبرة في صحة الوضوء ، اما ان تكون هي الطهارة الواقعية ، أو الأعم منها

ص: 82

ومن الطهارة الظاهرية ( فعلى الأول ) لا يجوز التوضي بالماء المزبور لعدم احراز الطهارة الواقعية بقاعدة الطهارة لأن مفادها هي الطهارة الظاهرية ( وعلى الثاني ) يلزم عدم اقتضاء كشف نجاسته بعد ذلك لبطلان وضوئه به حال جريان القاعدة ، مع أنهم لا يلتزمون بذلك ، فيكشف ذلك عن وحدة ما هو المجعول في مورد القاعدة والاستصحاب ، وان مفاد القاعدة أيضا هو البناء على الطهارة الواقعية في المشكوك طهارته ونجاسته ( وعليه ) يتجه اشكال الانتقاض باستصحاب الحجية واستصحاب الطهارة والحلية وحينئذ فلا محيص عن المصير إلى ما ذكرنا من جريان استصحاب عدم الحجية وترتب لازمه عليه من دون وصول النوبة مع جريانه إلى القاعدة ( نعم ) لو قيل إن البيان الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن خصوص البيان على التكليف أو ما هو بحكمه لا مطلق البيان ولو على نفي التكليف ( لاتجه ) المنع عن استصحاب عدم الحجية لعدم ترتب فائدة حينئذ على الاستصحاب المزبور ( ولكن ) الشأن في ذلك ، حيث إن لازمه عدم حجية الامارة النافية للتكليف لعدم ترتب فائدة عليها مع حكم العقل بالبرائة والالتزام به كما ترى ( ثم انه قد يقرر ) الأصل بوجوه اخر ( منها ) ان الأصل إباحة العمل بالظن بمقتضى أصالة الإباحة في الأشياء ومن جملتها العمل بالظن المشكوك حجيته وقد نسب ذلك إلى السيد المحقق الكاظمي قده ( وفيه ) انه ان أريد مجرد العمل بالظن من دون الاكتفاء به في تحصيل فراغ الذمة عن التكاليف فغير مفيد ، وان أريد جواز العمل به في مقام تفريغ الذمة والتعبد بمؤداه فغير سديد ، بداهة انه لا معنى لإباحته وذلك اما في فرض الانفتاح والتمكن من تحصيل العلم فظاهر لاستقلال العقل حينئذ بعدم جواز الاعتماد على الظن ووجوب تحصيل العلم في مقام الخروج عن عهدة التكليف ( واما في فرض ) الانسداد والعلم الاجمالي بالتكاليف فمع وجود الطرق المعتبرة بمقدار المعلوم بالاجمال فكذلك ، فان الواجب بحكم العقل هو تحصيل تلك الطرق والاخذ بها في مقام الخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالاجمال دون الاخذ بالظن المشكوك حجيته ( واما ) مع عدم وجود الطرق المعتبرة اما رأسا أو بالمقدار الوافي ففي مثله وان كان ينتهى الامر إلى مقام الاخذ بالظن والعمل به الا ان العمل بالظن حينئذ يكون واجبا لا جائزا ( فعلى كل تقدير ) يدور امر العمل بالظن بين كونه واجبا أو غير

ص: 83

جائز فلا معنى لدعوى جواز العمل بالظن واباحته ، كما أنه لا معنى لدعوى التخيير بين العمل بالظن وبين العمل بالأصل أو الدليل الموجود في المسألة فتدبر ( ومنها ) ان العمل بالظن يدور امره بين الوجوب والحرمة لكون العمل به على تقدير الحجية واقعا واجبا وعلى تقدير عدم الحجية غير جائز ، وفي مثله لابد اما من التخيير أو ترجيح جانب الحرمة بناء على أولوية دفع المفسدة ( وأورد ) عليه الشيخ قدس سره بمنع الدوران نظرا إلى كفاية مجرد عدم العلم بالحجية في ثبوت التحريم الثابت بالأدلة الأربعة وهو كما افاده قده ، ولكن مقتضى ظاهر كلامه هذا تسليم انه لو كانت الحرمة من اثار عدم الحجية واقعا كان المقام من باب الدوران بين الوجوب والحرمة وهذا مما لا يلتزم به حيث إن لازم الدوران المزبور هو التخيير عقلا وجواز العمل بالظن لا إلى بدل وهو ينافي ما بنى عليه قده من دوران الامر حينئذ بين التعبد بالظن وبين التعبد بغيره من الأصول والدليل الموجود في البين إذ حينئذ يدور الامر في الحقيقة بين الوجوبين اما وجوب الاخذ بالظن والعمل به واما وجوب الاخذ بغيره من الأصول الجارية في المسألة ( ونتيجة ذلك ) هو التخيير أو تعيين الثاني لرجوع الشك في اعتبار الظن إلى الشك في تخصيص أدلة اعتبار تلك الأصول ، لان الحكومة نحو من التخصيص فبأصالة عدم التخصيص يتعين العمل بالأصول ( ومنها ) ان الامر دائر ، بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعية المعلومة اجمالا ، وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي فتكون المسألة من صغريات مسألة التعيين والتخيير ، والأصل فيها هو التعيين ( وأجاب عنه ) الشيخ قده أولاً بان تحصيل الاعتقاد بالأحكام انما هو مقدمة عقلية للعمل بها وحيث إن الحاكم بوجوبه هو العقل فلا يعقل ترديده في حكمه الفعلي ( وثانيا ) انه تكفي أدلة الأصول المخالفة له لاثبات تحريمه بلحاظ ان العمل بالظن في مورد مخالفته للأصول الموجودة في المسألة مخالفة قطعية عملية لحكم الشارع بوجوب الاخذ بتلك الأصول والعمل بها حتى يعلم خلافها هذا ( وقد ) أورد أيضا المحقق الخراساني قده على جعل المسألة من صغريات مسألة التعيين والتخيير ، بان تلك المسألة انما هي في صورة تعلق الشك بأحد الامرين في مقام اثبات التكليف ، لا في مرحلة اسقاط التكليف الثابت بمقتضى العلم الاجمالي ، وما

ص: 84

نحن فيه من قبيل الثاني لان الترديد انما هو في كيفية الفراغ عن الاحكام المعلومة بالاجمال ، وفى مثله لم يتوهم أحد جريان البراءة عن التعيين فلا يصح جعل المقام من مسألة التعيين والتخيير الذي هو معركة الآراء بين الاعلام ( ولكن نقول ) ان ما أفيد من الاشكال انما يتم إذا كان العلم الواجب تحصيله تعيينا أو تخييرا معينا للتكليف المعلوم بالاجمال ( واما ) إذا لم يكن متكفلا لتعيينه بل كان مثبتا للتكليف في بعض الأطراف بنحو يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه على وجه يوجب انحلاله حكما فلا يكون المقام من موارد الشك في الاسقاط بل هو راجع إلى الشك في الاثبات وانحلال العلم الاجمالي بخصوص العلم أو مطلق الاعتقاد ( هذا كله ) في تأسيس الأصل في المسألة ولقد عرفت ان الأصل فيما شك في حجيته شرعا هو عدم الحجية وعدم ترتب لوازمها لكونها بنظر العقل من توابع العلم بالحجية

في حجية الظواهر

( واما ما خرج ) عن هذا الأصل أو قيل بخروجه فأمور ( منها ) الأصول المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة والكلام فيها يقع في مقامين ( الأول ) فيما يعمل في تشخيص مراد المتكلم من ألفاظه عند احتمال إرادة خلاف الظاهر بعد الفراغ عن أصل ظهورها بالوضع أو بقرينة عامة أو خاصة وهي الأصول اللفظية المعروفة كاصالة الحقيقة والعموم والاطلاق وعدم القرينة وغيرها ( الثاني ) فيما يعمل في تشخيص أصل ظهورها والمقام الثاني وان كان بحسب الطبع مقدما على المقام الأول ولكن تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري قده نتكلم أولاً في المقام الأول ( فنقول وعليه التكلان ) ان الشك في إرادة المتكلم خلاف ظاهر كلامه تارة يكون من جهة الشك في مطابقة الإرادة الاستعمالية للظهور لاحتمال كون الاستعمال على نحو المجاز ( وأخرى ) من جهة الشك في مطابقة الظهور مع الإرادة الجدية مع القطع بان الإرادة الاستعمالية على طبق الظهور بان كان الشك في مطابقة الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية ، والمتكفل لرفع الشك في الجهة الأولى هي الأصول العدمية من أصالة عدم القرينة

ص: 85

وأصالة عدم التقييد والتخصيص ، ولرفع الشك في الجهة الثانية هي أصالة الحقيقة والعموم والاطلاق المثبتة لكون المراد الجدي على طبق الحقيقة والاطلاق والعموم ( نعم ) قد يقال كما عن العلامة الأنصاري قده برجوع الأصول الثلاثة الوجودية إلى أصل واحد عدمي وهو أصالة عدم القرينة على التخصيص والتقييد والمجاز على خلاف الحقيقة والعموم ، ولكن العلامة الخراساني قده ارجع الجميع إلى أصل وجودي واحد وهي أصالة الظهور عند احتمال إرادة خلافه ( ولكن التحقيق ) ان يقال بابتناء هذا الخلاف على النزاع المعروف من قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وعمل المكلف وعدمه ( فإنه على القول ) بالقبح لا محيص من ارجاع جميع الأصول إلى أصل واحد عدمي ( لان ) الشك في إرادة خلاف الحقيقة والعموم والاطلاق مسبب عن الشك في اقتران الكلام بالقرينة الصارفة إذ بدونها يقطع بإرادة الحقيقة حسب الفرض من قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فلا يحتمل حينئذ خلافها فلا يبقى موقع لجريان الأصول الثلاثة الوجودية بل يحتاج إلى أصالة عدم القرينة ( واما على القول ) بعدم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة على ما حققناه في باب تعارض النسخ والتخصيص حيث قلنا ان القبيح انما هو تأخير البيان عن وقت حاجة المولى أي الوقت الذي تعلق غرضه لبيان مرامه الواقعي بلفظه بحيث لو أخل به لزم نقض غرضه لا تأخيره عن وقت حاجة المكلف وعمله بداهة امكان القاء الظهور على خلاف مرامه لمصلحة تقتضيه ، فلا يصح ارجاع الأصول الوجودية إلى أصل عدمي فان القطع بعدم القرينة لا يجدي لرفع الشك في المراد فضلا عن أصالة عدمها ضرورة بقاء الشك في المراد بعد على حاله ولو مع الجزم بعدمها من جهة احتمال كون المراد الجدي على خلاف ما يقتضيه ظاهر لفظه وانه سيقيم عليه البيان فيما بعد ( وحينئذ لو قيل ) ان الحمل على الحقيقة وأخويها من باب التعبد المحض لمحض الشك في خلافها ولو مع عدم ظهور فعلى للفظ من جهة اتصاله بما يصلح للقرينية عليه فلا محيص من الاحتياج إلى الأصول الوجودية المزبورة ( واما لو قيل ) كما هو المختار ان الحمل على الحقيقة وأخويها من باب الظهور المستقر المستتبع لعدم حجية الكلام عند اتصاله بما يصلح للقرينية عليه فلابد من ارجاع الأصول الثلاثة الوجودية أيضا إلى أصل واحد وجودي وهو أصالة الظهور

ص: 86

كما افاده المحقق الخراساني قده ( نعم ) على القول ، بان موضوع الحجية هو الظهور الصادر من المتكلم لا الظهور الواصل إلى المكلف ربما يحتاج أيضا إلى أصل عدمي كما لو شك في اقتران الكلام حين صدوره بما يصلح للقرينية عليه إذ بدونه لا يحرز صغرى الظهور بالأصل الوجودي المزبور فقط ، فيحتاج إلى اعمال كلا الأصلين حيث لم يكن أحدهما مغنيا عن الاخر وعلى ذلك فينبغي تنقيح ما هو موضوع الحجية.

فنقول ان هنا جهات من البحث « الجهة الأولى » لا ريب في أن مدار الحجية في الظهورات ليس مجرد الظهور التصوري وانما المدار فيها الظهور المستقر التصديقي الصادر عن المتكلم في مقام الجد وإفادة مرامه الواقعي كما يكشف عنه عدم بنائهم على الحمل على الحقيقة عند اتصال الكلام بما يصلح للقرينية على الخلاف كالأمر الوارد في مقام توهم الخطر ( كيف ) وانه ليس لنا دليل لفظي في البين حتى يمكن الاخذ باطلاقه لان عمدة ما في الباب هي السيرة وبناء العقلاء وحيث انها لبية فلابد من الاخذ بالقدر المتيقن منها ولا يكون ذلك الا الظهور التصديقي المستقر الذي لا يتحقق الا بتجرد الكلام عما يصلح للقرينية وعليه فلا حاجة إلى الأصول الثلاثة الوجودية كما لا حاجة أيضا إلى الأصل العدمي على ما تقدم بيانه بل يكتفي بأصل وجودي واحد وهو أصالة الظهور ( نعم قد يقال ) بكفاية مجرد ظهور اللفظ الصادر من المتكلم في مقام الافهام ولو لم يكن في مقام الجد بإفادة مرامه الواقعي بلفظه بل كان في مقام اعطاء الحجة والظهور إلى المكلف ليكون مرجعا له عند الشك في مقام لم تقم حجة أقوى على خلافه ويلزمه جواز التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية في المخصصات اللبية بل اللفظية أيضا حتى مع القطع بكون المتكلم أيضا شاكا في مصداقية المشكوك للمخصص ( ولكنه يضعف ) بما بيناه انفا من لبية دليل الحجية في المقام لكونه هي السيرة وبناء العقلاء والقدر المتيقن منه هو الظهور المستقر التصديقي الصادر من المتكلم في مقام الجد بإفادة مرامه الواقعي ، ولازمه عدم جواز التمسك بالعام فيما شك في مصداقيته للمخصص في المخصصات اللبية فضلا عن اللفظية كما حققناه في مبحث العام والخاص.

« الجهة الثانية » في أن موضوع الحجية هو الظهور الصادر من المتكلم

ص: 87

أو الظهور الواصل إلى المكلف فيه وجهان ( أوجههما الأول ) ( لما عرفت ) من لبية الدليل المقتضية للاخذ بالمتيقن منه وتظهر الثمرة فيما شك في اقتران الكلام حين صدوره بما يصلح للقرينية عليه ، حيث إنه على الأول لا تجرى أصالة الظهور الا بعد احراز ظهوره حين صدوره ولو باجراء الأصل العدمي كما تقدم بيانه انفا بخلاف الثاني فإنه لا يحتاج الا إلى أصل وجودي واحد ولا يلتفت إلى احتمال اقتران الكلام بالقرينة أو ما يصلح لها بعد تحقق الظهور الفعلي بالوجدان واحتمال مطابقته للواقع ، وتظهر الثمرة أيضا في مورد يعلم بسقط من الكلام بنحو الاجمال على وجه يحتمل كونه قرينة حافة به ويحتمل عدمه حيث إنه على الظهور الصادر كان احتمال قرينية الساقط ملازما لاحتمال عدم ظهور الكلام حين صدوره فلا يحرز صغرى الظهور ( فلابد ) من التوقف ، واما أصالة عدم القرينة فهي غير مجدية لرفع الشك في قرينية ما يعلم وجوده في البين وأصالة عدم قرينية الموجود مما ليس له مبني ولا دليل وهذا بخلاف المسلك الثاني حيث إنه بعد فرض تحقق الظهور فيه بالوجدان واحتمال مطابقته للواقع تجري فيه أصالة الظهور ( وقد يتوهم ) ترجيح الثاني بان لازم اختصاص الحجية بالظهور الصادر هو الاخذ بأصالة الظهور في مورد القطع باقتران الكلام بما يصلح للقرينية عليه مع احتمال كونه من دس الداسين وكون الكلام حين صدوره مجردا عن ذلك ( وذلك ) من جهة جريان أصالة عدم القرينة وعدم اقتران الكلام بما يصلح للقرينية حين صدورها وهو كما ترى لا يلتزم به أحد بل المعلوم منهم عدم الاخذ بالظهور المزبور وعدم الاعتناء باحتمال كون الموجود من دس الداسين ( ولكنه مدفوع ) بان عدم اعتنائهم باحتمال دس الداسين فيما يحتمل قرينيته للكلام انما هو من جهة شمول دليل الاعتبار لمثله أيضا وحينئذ فلا ينافي ذلك تخصيص الحجية بالظهور الصادر فتدبر.

« الجهة الثالثة » في أن أصالة الظهور تختص بما إذا شك في الخروج عن الحكم مع القطع بفردية المشكوك للعام ( أو تعم ) ما لو كان الشك في فرديته للعام مع القطع بخروجه عن حكمه على كل تقدير كما لو ورد اكرام العلماء وعلم بعدم وجوب اكرام زيد ولكنه شك في أنه من افراد العام ومصاديقه كي يكون خروجه من باب التخصيص أو انه ليس من افراده كي لا يكون خروجه موجبا لتخصيص في العام

ص: 88

( فيه وجهان ) بل قولان ، والذي يظهر منهم في غير مورد من الموارد الثاني ( منها ) مسألة الصحيح والأعم حيث استدل بمثل قوله الصلاة معراج المؤمن وانها قربان كل تقى لاثبات الوضع للصحيح بتقريب دلالة الروايات المزبورة بعكس النقيض على أن كل ما لا يكون معراج المؤمن لا يكون بصلاة حقيقة فيستفاد منها ان الصلاة اسم للصحيح والا يلزم التخصيص ( ومنها ) في صيغة الامر حيث استدل على كون الامر للوجوب بمثل قوله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن امره بلحاظ ما هو المعلوم من عدم وجوب الحذر في غيره ( ومنها ) في غسالة الاستنجاء لو شك في أنه طاهر أو نجس يجوز استعماله في الشرب ونحوه حيث استدل على طهارتها بعموم ما دل على عدم جواز استعمال النجس ( ومنها ) في دم القروح والجروح من جهة الشك في أنه نجس معفو عنه في الصلاة أو طاهر ( ومنها ) في الزكاة من جهة الشك في أنها متعلقة بالعين أو الذمة بعد الفراغ عن كون تعيينها بيد مالك النصاب ( ومنها ) في المعاطاة من جهة انه بيع يفيد الإباحة أو ليس ببيع من أصله إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع في الفقه ( ولكن ) الأقوى هو الأول لما تقدم من لبية دليل الحجية في المقام وهي السيرة وبناء العقلاء والقدر المتيقن منها ما لو كان الشك في خروج ما هو من افراد العام عن حكمه.

« الجهة الرابعة » هل الحجية في الظهور منوطة بالظن الفعلي بالمراد أو بالظن النوعي وعلى الثاني فهل يناط الحجية بعدم الظن الفعلي على الخلاف أولاً ( فيه وجوه ) وأقوال أضعفها الأول لكونه خلاف ما تقتضيه السيرة من العمل بالظهورات والاخذ بها على الاطلاق حتى في موارد عدم إفادتها للظن بالمراد كيف ولازمه سد باب التعارض في الاخبار بالمرة والغاء مبحث التعادل والترجيح من الأصول رأسا لاستحالة الظن الفعلي بالمتنافيين كي ينتهى الامر إلى الترجيح أو التخيير ، إذ لا يخلوا ( اما ) ان لا يفيد واحد منهما الظن بالمراد ( واما ) ان يفيده أحدهما دون الاخر ( وعلى التقديرين ) لا ينتهى الامر فيهما إلى التعارض لانتفاء ملاك الحجية فيهما في الأول وكونه من باب تعارض الحجة واللاحجة في الثاني فيدور الامر بين الوجهين الأخيرين والمتعين منهما هو الأخير لقيام السيرة على الاخذ بالظواهر والعمل بها مطلقا حتى في صورة قيام الظن الفعلي على الخلاف على نحو

ص: 89

غيره من الامارات التي حجيتها باعتبار الظن النوعي الذي لا ينافيه الظن بالخلاف ( نعم ) لو شككنا في هذا المقام كان اللازم هو الاقتصار على صورة عدم قيام الظن الفعلي على الخلاف لكونه القدر المتيقن من السيرة وبناء العقلاء ولكنه مجرد فرض لما عرفت من اطلاق السيرة ( ثم انه بعد ) وضوح هذه الجهات نقول ، انه لا ريب في جواز الاخذ بالظواهر لاستكشاف المراد عند الشك فيه لاستقرار السيرة القطعية من العقلاء على اتباع الظواهر المتداولة بينهم في مقام تفهيم مقاصدهم واستكشاف مراداتهم ، ومن الواضح أيضا عدم تخطى الشارع عن هذه الطريقة المألوفة حيث لم يكن له طريق خاص في تفهيم مقاصده بل كان طريقته هي الطريقة المألوفة لدى العقلاء في تفهيم مقاصدهم لكونه في الحقيقة أحدهم ، وهذا مما لا اشكال فيه ( وانما ) الخلاف والاشكال في موضعين أحدهما في حجية مطلق الظواهر بالنسبة إلى غير من قصد افهامه بالخطاب وثانيهما في حجية ظواهر الكتاب.

« فنقول اما الموضع الأول » فقد خالف فيه المحقق القمي قده حيث منع عن حجية الظواهر بالنسبة إلى غير من قصد افهامه بالخطاب وحاصل ما افاده في وجه التفصيل بين المقصود بالخطاب وغيره هو ان أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة انما تكون حجة إذا كان المكلف ممن قصد افهامه بالخطاب ( لان ) احتمال الوقوع في خلاف المقصود لا يكون الا بأحد أمرين اما من جهة غفلة المتكلم عن نصب القرينة على المراد واما من جهة غفلة المخاطب وعدم تفطنه إلى القرينة المنصوبة وكلا الاحتمالين مرجوحان عند العقلاء ولا يعتنون بهما ( واما ) إذا كان المكلف غير مقصود بالخطاب ففي هذه الصورة لا ينحصر احتمال الوقوع في خلاف الواقع بالاحتمالين المزبورين ( بل هنا ) احتمال آخر وهو احتمال ان يكون بين المتكلم ومن قصد افهامه قرينة حالية أو مقالية معهودة سابقة الذكر أو لاحقة بنحو لا يطلع عليها غير المخاطب ومثل هذا الاحتمال ليس مما لا يعتنى به العقلاء ، ومن المعلوم بالبداهة انه مع مثل هذا الاحتمال لا يتحقق للكلام ظهور تصديقي في المراد فلا يجوز له الاخذ بظهوره لكشف مراد المتكلم ، إذ لم يثبت من العرف والعقلاء بناء على الاخذ بأصالة الظهور مطلقا ( وفيه ) ان هذا الاحتمال كسابقيه منفي بالأصول العقلائية ولا اختصاص لها باحتمال غفلة المتكلم أو المخاطب فكما ان

ص: 90

احتمال الغفلة من المتكلم أو المخاطب مرجوح عند العقلاء كذلك احتمال القرينة الخفية بينه وبين المخاطب مرجوح عند العقلاء وهي منفية بأصالة عدمها ( واما ) دعوى اختصاص حجية الظهور لدى العقلاء بما لو أحرز كون المتكلم في مقام تفهيم مرامه لكل أحد لا لشخص خاص ( والا ) فلا يفيد لغيره الظن بالمراد ولو نوعا ( فمدفوعة ) بمنع الاختصاص ، بل الظاهر هو كفاية مجرد كون المتكلم في مقام تفهيم مرامه ولو لشخص خاص في الاخذ بظهور كلامه كما يكشف عنه الزام العقلاء المتكلم بما هو ظاهر كلامه عند سماع كلامه الملقى إلى غيره ، ولذا ترى انه لو وقع كتاب شخص إلى شخص بيد ثالث لا يتأمل ذاك الثالث في استخراج مراده من كتابه وترتيب الأثر عليه ولذلك جرى ديدن الأصحاب رضوان اللّه تعالى عليهم على الاخذ بظواهر الاخبار الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) في جواب السائلين واستفادة الأحكام الشرعية منها مع كون المقصود بالافهام فيها هم السائلون ( فتأمل ).

« واما الموضع الثاني » وهو حجية ظواهر الكتاب فقد خالف فيه بعض الأخباريين واستدلوا على المنع بوجوه « منها » ان الكتاب وارد في مقام الاعجاز فلا تكون ظواهره كسائر الظواهر التي يعرف المراد منه كل أحد « بل يختص » فهم المراد منها بمن خوطب به وهو النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأوصياء فلا يجوز الاخذ حينئذ بشيء من ظواهره لاستفادة الأحكام الشرعية الا بمعونة ما ورد عن الأئمة من التفسير « ومنها » دعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف في القران الموجب لطرو الاجمال على الظواهر « ومنها » الأخبار الكثيرة الدالة على عدم جواز الاخذ بظواهر الكتاب معللا في بعضها بان الآية يكون أولها في شيء واخرها في شيء وانه كلام متصل ينصرف إلى وجوه « ومنها » العلم الاجمالي بالتقييد والتخصيص في كثير من المطلقات والعمومات الكتابية الموجب لسقوط ظواهرها عن الحجية « ولكن » لا يخفى ما في هذه الوجوه « اما الوجه الأول » ففيه عدم اقتضائه للمنع عن الاخذ بالآيات الظاهرة الدلالة بحسب الفهم العرفي ولا ينافي ذلك غموضها بحسب ما كان لها من البطون كما في النصوص « واما الوجه الثاني » ففيه منع العلم الاجمالي بوقوع التحريف في القران ، وعلى فرض التسليم لا اثر لمثل هذا العلم الاجمالي بعد احتمال كونه في الآيات غير المرتبطة بآيات الاحكام كآيات القصص ونحوها خصوصا مع

ص: 91

احتمال كون مورد التحريف جملة مستقلة غير مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الظواهر وان كانت مشتملة على الحكم « واما الوجه الثالث » ففيه ان الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وان كانت مستفيضة بل متواترة الا انها على كثرتها بين طائفتين طائفة تنهى عن تفسير القران بالرأي والاستحسانات الظنية وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظواهر الكتاب من دون مراجعة إلى ما ورد من الأئمة علیهم السلام ، ومن المعلوم ان شيئا منهما لا ينفع ما يدعيه الخصم من المنع عن العمل بظواهر الكتاب اما الطائفة الأولى فلوضوح عدم اندراج العمل بالظاهر في التفسير بالرأي لتشمله الأخبار الناهية « كيف » وان التفسير عبارة عن كشف القناع ولا قناع في الظواهر الواضحة الدلالة لأنها مما يعرفها كل أحد من أهل اللسان فيختص ذلك بالمتشابهات فإنها هي التي تحتاج إلى التفسير وكشف القناع عنها ( واما ) الطائفة الثانية ، فلان محل الكلام هو العمل بالظواهر بعد الرجوع إلى الاخبار والفحص عن تخصيصها ونسخها وإرادة خلاف ظاهرها وهذا مما لا ينفيه تلك الأخبار لما عرفت من أنها في مقام النهى عن الاستقلال بالرأي في العمل بالكتاب والاستغناء عن الرجوع إلى أهل البيت علیهم السلام كما عليه العامة ( هذا كله ) مضافا إلى ما ورد في بعض الاخبار من الامر بالرجوع إلى الكتاب والاخذ بظواهره كرواية عبد الاعلى فيمن عثر فانقطع ظفره فجعل على إصبعه مرارة من قوله (عليه السلام) يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة فان في إحالة معرفة المسح عليها على كتاب اللّه إشارة إلى عدم احتياج مثل ذلك إلى السؤال من جهة وجوده في ظاهر الكتاب ، كما أن في اطلاق المعرفة على ذلك دلالة على ما ذكرناه سابقا من أن حجية الظواهر من باب تتميم الكشف ( ومنها ) ما في رواية زرارة في جواب قوله من أين علمت أن المسح ببعض الرأس من قوله (عليه السلام) لمكان الباء حيث عرفه (عليه السلام) مورد استفادة ذلك من الكتاب ( ومنها ) الأخبار الواردة في عرض الاخبار المتعارضة على الكتاب وفى رد الشرط المخالف للكتاب إلى غير ذلك « واما الوجه » الرابع فقد أجيب عنه بان العلم الاجمالي ينحل بعد الفحص عن تلك المقيدات والمخصصات والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه « ولكنه كما ترى » لا يفي بدفع الشبهة مثل هذا العلم التفصيلي اللاحق ، إذ

ص: 92

مجرد الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال من المقيدات والمخصصات لا يرفع اثر العلم ولا يوجب انحلاله ما لم يكن قيامه على تعيين المعلوم بالاجمال لان من المحتمل ان يكون ما ظفر به من موارد إرادة خلاف الظاهر من التخصيصات والتقييدات غير ما هو المعلوم بالاجمال « والا » لما كان وجه لوجوب الفحص بعد الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال في بقية الظواهر فوجوب الفحص حينئذ في بقية الظواهر كاشف عن بقاء اثر العلم الاجمالي وعدم انحلاله ( فالأولى ) ان يقال في الجواب عن الشبهة ان هذا العلم الاجمالي مقرون حين وجوده بعلم اجمالي آخر وهو العلم بمقدار من المخصصات والمقيدات في ما بأيدينا من الاخبار بنحو لو فحصنا لظفرنا بها فينحل العلم الاجمالي الكبير بما في دائرة العلم الاجمالي الصغير من الأول ولازم هذا العلم الصغير هو الفحص عن كل ظاهر فإذا فحصنا ولم نظفر بقرينة على الخلاف نقطع بخروج ذلك الظاهر عن دائرة العلم الصغير من الأول فتدبر ( بقى الكلام ) في ما لو اختلفت القراءة في الكتاب كما في قوله سبحانه حتى يطهرن بالتخفيف من الطهارة الظاهرة في النقاء من الحيض وبالتشديد من التطهر الظاهر في الاغتسال واجمال القول في ذلك أنه اما ان نقول بتواتر القرائات واما لا وعلى الثاني اما ان نقول بالتلازم بين جواز القراءة بكل قرائة وجواز الاستدلال بها واما لا ( فعلى الأول ) ان أمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر منهما على الأظهر أو النص ولو بدعوى نصوصية يطهرن بالتخفيف في أن الواجب هو النقاء من الحيض وظهور يطهرن بالتشديد في أن الواجب هو الاغتسال فلا اشكال في حمل الظاهر منهما على النص أو الأظهر والحكم باستحباب الغسل والا يتوقف ويرجع إلى الأصل أو الدليل الموجود في المسألة لان حالهما حينئذ كآيتين متعارضتين ( وعلى الثاني ) فالامر كذلك فمع امكان التوفيق العرفي يجمع بينهما والا يتوقف ( واما على الثالث ) فبعد عدم تواتر القرائتين وعدم ثبوت التلازم بين جواز القراءة وجواز الاستدلال لابد من التوقف والرجوع اما إلى عموم جواز الاتيان بالزوجة في اي زمان بناء على استفادة العموم الا زماني من قوله سبحانه فأتوا حرثكم انى شئتم أو إلى استصحاب حكم المخصص على الخلاف المذكور في محله ولكن الذي يسهل الخطب ورود النص على الجواز بمجرد حصول النقاء وقد عمل به المشهور فلا ينتهى الامر إلى مقام البحث عن مرجعية عموم العام أو استصحاب حكم المخصص وان كان

ص: 93

المتعين في مثله هو الأول على ما حققناه في محله هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما المقام الثاني وهو ما يعمل في تشخيص أوضاع الألفاظ وتشخيص ظاهرها عن غيره ككون لفظ الصعيد حقيقة في مطلق وجه الأرض وان صيغة الامر حقيقة في الوجوب وان الجملة الشرطية ظاهرة في كذا ونحو ذلك والمتكفل لاثبات هذا المقام هي الأوضاع اللغوية فيما لم تكن المعاني من المرتكزات العرفية والا فالعبرة به وان خالف الأوضاع اللغوية ثم إن استكشاف الأوضاع اللغوية ان كان بالعلم فلا اشكال وان كان بالظن ففي حجيته خلاف بين الاعلام والمشهور على ما حكى هو عدم الحجية وهو الأقوى لان المتيقن من السيرة انما هو حجية الظاهر بعد الفراغ عن ظهوره واما حجية الظن بان هذا ظاهر في كذا وان ذاك حقيقة في كذا فلا دليل عليها ( نعم ) نسب إلى جماعة حجية قول اللغويين في تعيين الأوضاع واستدل عليه تارة باجماع العقلاء والعلماء على الرجوع إليهم في استعلام المعنى اللغوي والاستشهاد بقولهم في مقام الاحتجاج ( وأخرى ) بما دل على حجية خبر الواحد ( وثالثة ) بما دل على حجية قول أهل الخبرة والبصيرة من ذوي الفنون فيرجع إليهم حينئذ ويقبل قولهم كما يرجع إلى أهل الخبرة من ذوي الفنون والصناعات البارعين في فنونهم بمقتضي السيرة القطعية من العرف والعقلاء ولكن الكل كما ترى ( اما الأول ) ففيه ان رجوع العلماء إلى علماء اللغة في استعلام حال اللغات وفى مقام الاستشهاد والاحتجاج لو سلم فإنما هو فيما يتسامح فيه كتفسير خطبة وبيان شعر ومعنى رواية غير متعلقة بالحكم الشرعي لا في مقام استنباط الحكم الشرعي إذ لم يعهد منهم في هذا المقام الرجوع إلى اللغوي والاخذ بقوله نعم قد يحصل بالمراجعة إليهم الوثوق والاطمينان ولو من قول لغوي واحد بان المعنى من المسلمات عند اللغويين ولكن ذلك خارج عن مفروض البحث الذي هو حجية قول اللغوي في تعيين الأوضاع بما هو ( واما الوجه ) الثاني فيدفعه اختصاص أدلة حجية خبر الواحد بالأحكام الشرعية وعدم شمولها للموضوعات الخارجية وعلى فرض تسليم قيام السيرة وبناء العقلاء على الاخذ بخبر الواحد حتى في الموضوعات نقول انه يكفي في الردع عن بنائهم قوله (عليه السلام) في رواية مسعدة بن صدقة والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم بها البينة مضافا إلى أن دأب اللغويين ليس الا بيان موارد الاستعمالات لا بيان المعنى الموضوع له هذا ( وربما يورد ) عليه بان قول اللغوي

ص: 94

من جهة تضمنه لأعمال الاجتهاد والرأي يكون من الاخبار عن الحدس فلا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد لاختصاصها كأدلة الشهادة بالاخبار عن حس أو الحدس القريب منه ( ولكن يضعف ) بان اخباره إذا كان مستندا إلى اللوازم المحسوسة العادية أو القرائن النوعية الملازمة مع المخبر به كشياع المعنى عند أهل تلك اللغة كان داخلا في الحدسيات القريبة من الحس فتشمله أدلة حجية الخبر فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من الاشكال كبرويا وصغرويا ( واما الوجه ) الثالث ففيه ان الرجوع إلى أهل الخبرة والبصيرة من ذوي الفنون والصناعات فيما يرجع إلى فنهم وان كان في الجملة مما لا سبيل لانكاره لكونه مما استقرت عليه طريقة العقلاء واستمرت عليه السيرة العرفية ولم يردع عنه الشارع أيضا الا ان القدر المتيقن من السيرة هو ما إذا حصل الوثوق والاطمينان من قول أهل الخبرة لا بمحض كونهم من أهل الخبرة والبصيرة فإنه لم يثبت بنائهم على الاخذ بقول أهل الخبرة والعمل عليه تعبدا ولو مع الشك وعليه نمنع اعتبار قولهم إذا كان مبنيا على الحدس المحض ولو مع اشتماله على شرائط الشهادة من التعدد والعدالة من غير فرق بين باب فصل الخصومة وباب خيار العيب والتقويم وغير ذلك نعم يتجه ذلك فيما لو كان حدسه قريبا من الحس فيعتبر حينئذ فيه ما اعتبر في الشهادة من التعدد والعدالة لاندراجه في ضابط الشهادة ولا يفرق في ذلك بين الخصومة وغيرها « فما أفيد » من التفصيل في حجية قول أهل الخبرة بين باب الخصومة وغيرها باعتبار شرائط الشهادة في خصوص الأول بمقتضى قوله انما أقضي بينكم بالبينات والايمان مع الاعتراف بامتيازه عن باب الشهادة لكون الشهادة هي الاخبار عن حس بخلاف قوله أهل الخبرة « منظور فيه » إذ بعد الاعتراف بامتيازه عن باب الشهادة لا مجال للتفصيل المزبور واعتبار التعدد والعدالة فيه في باب الخصومة بمقتضى قوله انما أقضي بينكم بالبينات والايمان اللّهم الا ان يكون اجماع تعبدي في البين على لزوم اشتماله على شرائط الشهادة في باب الخصومة وخيار العيب ولكنه غير اعتبارها فيه بمقتضى دليل حصر القضاء مع الاعتراف بعدم شمول أدلة البينة لمثله لاختصاصها بالاخبار عن حس ( نعم ) عمدة الاشكال في حجية قول اللغوي هو عدم كونهم بصدد تعيين المعنى الموضوع له وتشخيص المعنى الحقيقي عن غيره وذلك لما هو الظاهر من حالهم

ص: 95

من كونهم بصدد تعداد موارد استعمال اللغات بلا نظر إلى تعيين ما هو الموضوع له نعم قد يظهر من بعضهم كونه بصدد بيان المعني الموضوع له اما بالتنصيص على عدم تعرضه لغير المعنى الحقيقي أو التنصيص على أن المذكور أولاً من المعاني هو المعنى الحقيقي كما نسب ذلك إلى القاموس ولكن الكلام حينئذ في حصول الوثوق من قول لغوي واحد إذ بدونه لا مجال لحجية قوله كما أشرنا إليه آنفا ( وقد يستدل ) على حجية قول اللغوي بالانسداد الصغير ( وفيه ) ما لا يخفى فان انسداد باب العلم في بعض الموضوعات التي يتوقف عليها العلم بالحكم لا يوجب حجية الظن المطلق ما لم يرجع إلى انسداد باب العلم بمعظم الاحكام بحيث يلزم من اعمال الأصول النافية أو الرجوع إلى الاحتياط محذور الخروج من الدين أو العسر والحرج الشديد واستلزامه لذلك محل نظر بل منع لانفتاح باب العلم بمعظم الألفاظ المستعملة في الكتاب والسنة ولو بمعونة القرائن الخارجية فلا محذور حينئذ في الرجوع إلى القواعد فيما انسد فيه باب العلم ومع الاغماض عن ذلك يتوجه عليه ما أوردناه انفا من عدم كون اللغويين في مقام تشخيص الأوضاع فتدبر

في حجية الاجماع المنقول

ومن الظنون التي قيل بخروجه عن الأصل الاجماع المنقول بالخبر الواحد حيث وقع فيه الخلاف بين الأصحاب ونسب القول بحجيته إلى جماعة من الاعلام واستدل عليها بما دل على حجية خبر الواحد لاندراجه فيه بل هو من الخبر العالي السند لرجوع دعوى الاجماع إلى حكاية قول الإمام (عليه السلام) أو رأيه بلا واسطة فتشمله أدلة حجية الخبر من السيرة والاخبار وآية البناء وغيرها « وفيه » ان المستند لمدعى الاجماع في اخباره عن الإمام (عليه السلام) حيث كان هو الحدس المحض لبعد وصوله إلى الامام وسماع قوله خصوصا في الغيبة الكبرى « لا يكون » اخباره مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد لاختصاص أدلتها كأدلة الشهادة بما إذا كان الاخبار مستندا إلى الحس أو الحدس القريب منه كالاخبار بالشجاعة وملكة العدالة ونحوهما « فان » عمدة الدليل على حجية خبر الواحد هي السيرة العقلائية والاجماعات وحيث انهما لبيتان لا يكون لهما اطلاق حتى يمكن الاخذ به لكل خبر ولو عن حدس

ص: 96

( واما الأدلة اللفظية كالاخبار والآيات فهي واردة في مقام امضاء السيرة العقلائية التي عرفت الحال فيها لا في مقام التأسيس ( مع أنها ) ناظرة إلى نفي احتمال الخلاف الناشي من جهة تعمد الكذب لا إلى كيفية خبر العادل من حيث المستند وعليه فلا يبقى مجال للتشبث بمثل هذه الأدلة لاثبات حجية الاجماع المنقول هذا ( ولكن ) التحقيق في المسألة التفصيل في الاجماعات المحكمية حسب اختلاف المباني في حجية الاجماع المحصل ، من باب التضمن ، أو قاعدة اللطف أو الحدس ونحو ذلك ( فما كان ) منها في أواخر الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى كالاجماعات الواقعة في كلمات مثل الكليني والصدوقين والمفيد والسيدين ونظرائهم قدس اللّه اسرارهم ممن أمكن في حقهم عادة الوصول إلى الإمام (عليه السلام) « لا بأس » بالأخذ به حيث إنه بعدما أمكن في حقهم ان يكون دعواهم اتفاق الأمة الظاهر في دخول المعصوم (عليه السلام) فيهم مستندة إلى الحس يكون دعواهم الاتفاق المتضمن لقول المعصوم حجيته فيشمله أدلة حجية الخبر فان من المعلوم كفاية مجرد احتمال كونه عن حس في حجية من غير حاجة إلى احراز حسيته بل وان فرض استناد ذلك إلى الحدس فهو من الحدس القريب من الحس فان استكشاف قول الإمام (عليه السلام) أو رأيه وان كان بطريق الحدس ولكنه من جهة الملازمة العادية بين اتفاق المجمعين الذين فيهم السفراء على حكم وبين رأى الإمام (عليه السلام) يكون ذلك من الحدس القريب من الحس نظير الاخبار بالشجاعة والعدالة باعتبار لوازمهما المحسوسة العادية ومنه يظهر الحال في الاجماعات المنقولة لنا عن مثل هؤلاء فإنها مشمولة لأدلة حجية الخبر ( واما ) ما كان منها مستندا إلى قاعدة اللطف كالاجماعات الواردة في كلام الشيخ قده ومن تبعه في هذا المسلك فللتوقف فيه مجال لضعف أصل المبني ( واما ) ما كان مبناه الحدس برأي الإمام (عليه السلام) ورضاه بما أجمع عليه للملازمة بين اتفاق آراء المرؤسين المنقادين لرئيسهم على حكم وبين رأى رئيسهم ورضائه به ( ففيه اشكال ) لكونه مستندا إلى الحدس الا إذا فرض كون الملازمة بينهما عادية نظير ملازمة لوازم الشجاعة والعدالة لهما فيقبل حينئذ لكونه من الحدس القريب إلى الحس ولعله ليس ببعيد لوضوح الملازمة العادية بين اتفاق آراء المرؤسين المنقادين لرئيسهم من حيث كونهم كذلك وبين رأى رئيسهم كما هو الشأن أيضا فيما كان مبناه على الكشف عن وجود دليل معتبر في المسألة مع كون مورد

ص: 97

الاتفاق مخالفا للأصول والقواعد فإنه أيضا يكون من الحدس القريب إلى الحس ( وبالجملة ) فالمدار كله في الحجية هو كون الاخبار مستند إلى الحس أو الحدس القريب منه المستند إلى اللوازم الحسية العادية نظير لوازم الشجاعة وملكة العدالة في قبال ما لو استند إلى غير اللوازم العادية الحسية من قرائن شخصية مثلا الحاصلة من حسن ظنه بالمجمعين فإنه يكون من الحدس المحض نظير الاخبار بموت زيد المستند إلى علمه الناشئ بصدق المخبر من جهة حسن ظنه به أو المبادئ الحدسية الاخر كالرمل ونحوه هذا كله في نقل لاجماع من حيث رجوعه إلى نقل المسبب وهو رأى الإمام (عليه السلام) و ( اما ) بالنسبة إلى نقل السبب الذي هو اتفاق الكل فهو أيضا يختلف من حيث كونه تارة حسيا وأخرى حدسيا ناشئا من لحاظ اتفاق جمع من أساطين الفقهاء على حكم بنحو يظهر منهم كونه من المسلمات حيث إنه يحصل من ذلك الحدس القوى بكونه متفقا عليه بين جميع الأمة ويختلف ذلك بحسب اختلاف الناقلين من حيث الإحاطة بكلمات الأصحاب وعدمها بنحو يبعد عادة اطلاع مثله على فتاوى الأصحاب من أهل عصره جميعا فضلا عن الاعصار المتقدمة على عصره وعلى كل حال يكون اخباره بالسبب معتبرا في المقدار الذي يحتمل في حقه الاطلاع عليه فيؤخذ بما يحكيه من السبب لاندراجه في حجية الخبر فان بلغ ذلك إلى مقدار يلازم عادة رأي الامام (عليه السلام) في نظر المنقول إليه فهو والا فيحتاج إلى ضم ما يتم به السبب ولكن لابد في هذه الضميمة عدم احتمال كونها هو المقدار الذي استند إليه ناقل الاجماع والا فلا يفيد هذه الضميمة شيئا أصلا فح يختلف الحال في استكشاف رأي الإمام (عليه السلام) باختلاف الحاكي من حيث قرب عهد الحاكي بزمان الإمام (عليه السلام) ومن حيث كثرة تتبعه وطول باعه ومن حيث دلالة اللفظ وصراحته في اتفاق الكل وعدمه ومن جهة كون المسألة معنونة في كلمات الأصحاب أو غير معنونة وهكذا يختلف باختلاف نظر المحكي له فلابد له من لحاظ تلك الخصوصيات في الحكم بالحجية وعدمها فتدبر ( ومن هذا البيان ) ظهر الحال في نقل التواتر فإنه يأتي فيه ما ذكرناه في نقل الاجماع إذ هو أيضا بما يختلف باختلاف الأنظار ومن حيث إحاطة الناقل وكثرة اطلاعه وعدمها ، فيؤخذ حينئذ بما احتمل في حق الناقل في نقله للتواتر من اخبار عشرين أو أزيد فإذا كان هذا المقدار بحد يثبت به التواتر عند المنقول إليه

ص: 98

لو ظفر هو باخبار تلك الجماعة فيرتب عليه حينئذ ماله من الآثار الشرعية والا فيحتاج إلى الضميمة على التفصيل المذكور في نقل الاجماع مع مراعاة عدم احتمال كون ما ظفر به هو عين ما استند إليه الناقل في نقل التواتر ( هذا إذا كان ) الأثر مترتبا على ما هو المتواتر واقعا أو المتواتر عند المنقول إليه واما لو كان الأثر مترتبا على التواتر في الجملة ولو عند الناقل كما لو نذر ان يحفظ الأخبار المتواترة ولو عند غيره أو يكتبها فلا يحتاج في ترتيب الأثر المزبور إلى الضميمة بل يكفيه تواتره ولو عند الناقل كما هو ظاهر

في حجية الشهرة

ومن الظنون التي قيل بخروجها عن الأصل الشهرة والمراد بها الشهرة الفتوائية فان الشهرة على اقسام ثلاثة ( الشهرة الروائية ) ( والشهرة العملية ) ( والشهرة الفتوائية ) ( اما الشهرة الروائية ) فهي عبارة عن اشتهار الحديث بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول وهي التي تكون من المرجحات في باب التعارض والمقصود مما ورد من قوله (عليه السلام) خذ بما اشتهر بين أصحابك ( واما الشهرة العملية ) فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها عند الأصحاب في مقام الفتوى ومثل هذه هي الجابرة لضعف الرواية ومصححة للعمل بها ولو كانت الرواية بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف لكن ذلك إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين لعهد الحضور لا من المتأخرين ( ويكفيك ) في ذلك الحديث النبوي المعروف على اليد ما اخذت حتى تؤدى فإنه على ما ذكره بعض مشايخنا مما لم يذكره أحد من رواتنا ولا كان معروفا من طرقنا ولا مذكورا في شيء من جوامعنا وانما روته العامة في كتبهم منتهيا إلى الحسن البصري عن سمرة بن جندب عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي قضاياه معروفة مع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في حديث لا ضرر مع وجود خلل آخر في الرواية وهو ان أرباب الحديث منهم ذكروا ان الحسن البصري لم يسمع حديثا قط منه ومع ذلك ترى بناء الأصحاب رضوان اللّه عليهم على الاخذ بالحديث المزبور في أبواب الفقه والاستناد إليه في مقام الفتوى بلحاظ جبره بعمل القدماء ( واما الشهرة الفتوائية ) فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في

ص: 99

مسألة من الأصحاب من دون استناد منهم إلى رواية سواء لم يكن هناك رواية أصلا أم كانت على خلاف الفتوى أو على وفقها ولكنه لم يكن استناد الفتوى إليها والمقصود بالبحث في المقام هي هذه الشهرة ( فنقول ) انه استدل على حجيتها بوجوه « منها » الأولوية بدعوى اقوائية الظن الحاصل من الشهرة من الظن الحاصل من الخبر الوحد « ومنها » ما في المرفوعة من قوله (عليه السلام) خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر حيث دل على الاخذ بها وترك ما يقابلها « ومنها » ما في المقبولة من التعليل بقوله فان الجمع عليه لا ريب فيه حيث تدل على وجوب الاخذ بكل ما لا ريب فيه وترك الاخذ بما فيه ريب فتدل بعموم التعليل على حجية الشهرة لكونها مما لا ريب فيه هذا ولكن الكل كما ترى « اما الأول » فلان مناط الحجية في الخبر الواحد ليس هو الظن الشخصي حتى يقال بأولوية الشهرة في الحجية لأقوائية الظن الحاصل منها من الظن الحاصل من الخبر الواحد وانما ذلك من جهة قيام دليل بالخصوص على حجيته من السيرة وغيرها ولو من جهة كونه مفيدا للظن النوعي ولذلك نقول بحجيته حتى في مورد قيام الظن الشخصي على خلافه « واما الثاني » ففيه مع الاغماض عما في سند الرواية نقول انها مختصه بالشهرة الروائية ولا عموم لها يعم كل شهرة كما يكشف عنه قول الراوي بعد ذلك فقلت يا سيدي هما معا مشهوران مأثوران عنكم فإنه من المعلوم عدم امكان تحقق الشهرة الفتوائية في الطرفين ومنه ظهر الجواب عن الثالث « لوضوح » اختصاصه بالشهرة في الرواية ، فان المراد من المجمع عليه هو كون أحد الخبرين مما قد اتفق الكل عليه وهو مخصوص بباب الشهرة في الرواية ، حيث أمكن كون أحد الخبرين مما قد اتفق الكل على روايته حتى الراوي لخبر الشاذ كامكان كون الخبرين كليهما مجمعا عليهما بهذا المعنى بخلاف الشهرة الفتوائية فإنها لا يمكن فيها هذا المعنى « واضعف » من ذلك كله الاستدلال على حجيتها بما في ذيل آية النباء من التعليل بقوله سبحانه ان تصيبوا قوما بجهالة بتقريب ان المراد من الجهالة هي السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه والشهرة لا يكون الاعتماد عليها مما لا ينبغي الاعتماد عليه « إذ فيه » ان غاية ما تقتضيه الآية على هذا البيان هو عدم جواز الاخذ بكل ما تصدق عليه الجهالة ، واما وجوب الاخذ بما لا يكون من الجهالة والسفاهة

ص: 100

فلا دلالة لها عليه أصلا « وحينئذ » فإذا لم يقم دليل على حجيتها تبقى لا محالة تحت الأصل « نعم » مثل هذه الشهرة إذا كانت من القدماء تكون موهنة للرواية التي على خلافها بحيث يخرجها عن الحجية ، وان لم تكن جابرة لضعف الرواية التي على وفاقها بعكس الشهرة العملية الاستنادية حيث إنها كانت جابرة لضعف الرواية ، كما أشرنا إليه انفا « فتدبر »

في حجية خبر الواحد

ومن الظنون الخارجة عن الأصل بالخصوص خبر الواحد في الجملة عند المشهور وكون البحث عن حجيته من المسائل الأصولية بل أهمها مما لا ينبغي التأمل فيه فان ضابط كون المسألة أصولية امكان وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي أو الوظيفة الفعلية كما تقدم تفصيله عند التعرض لبيان تعريف علم الأصول ( ومن المعلوم ) تحقق ذلك في المقام لوقوع نتيجتها كبرى القياس في مقام الاستنباط « بل لو » قيل في ضابط كون المسألة أصولية انها المسألة التي يختص تطبيقها بالمجتهد لكان منطبقا على المسألة المزبورة أيضا لأنها من جهة احتياجها إلى الفحص عن المعارض يختص تطبيقها بالمجتهد ( وكيف كان ) فاثبات الحكم الشرعي بالخبر الواحد يتوقف على عدة أمور ( منها ) أصل الصدور ( ومنها ) صدور الخبر عن المعصوم (عليه السلام) لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها ( ومنها ) ظهور الكلام الصادر من المعصوم (عليه السلام) في إرادة ما هو ظاهره فلا يثبت الحكم الشرعي بخبر الواحد الا بعد احراز هذه الأمور ولو بالأصول العقلائية ( ولكن المقصود ) بالبحث في المقام هو الامر الأول وهو صدور الخبر من المعصوم (عليه السلام) والمتكفل لاثباته هي الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ( واما المتكفل ) لجهة صدور الخبر هي الأصول العقلائية المقتضية لكون الكلام صادرا لبيان الحكم الواقعي ، ( والمتكفل ) لأصل ظهور الكلام الأوضاع اللغوية والقرائن العامة ، ولإرادة الظاهر هي أصالة الظهور التي عرفت كونها من الأصول العقلائية المتداولة بينهم في محاوراتهم ( نعم ) البحث عن الجهة الأولى يقع من وجهين ، تارة من جهة تعمد كذب الراوي في نقله عن الإمام (عليه السلام) ، وأخرى من جهة خطائه وغفلته ( والمقصود )

ص: 101

بالبحث في المقام هي الجهة الأولى والمتكفل للجهة الثانية هي أصالة عدم الخطاء والغفلة وحينئذ ( نقول ) ان المشهور حجية خبر الواحد بل يمكن دعوى الاجماع عليه في الاعصار المتأخرة خصوصا بالنسبة إلى الاخبار المدونة فيما بأيدينا من الكتب المعروفة حيث يظهر منهم كون وجوب العمل بهذه الاخبار من المسلمات عندهم ، وان اختلفوا في وجهه حيث إن منهم من يرى قطعية صدور تلك الأخبار ومنهم من يعتمد عليها من اجل اعتماده على الظن المطلق ومنهم من يعتمد عليها من جهة قيام الدليل بالخصوص عنده على حجيتها ومنهم من يعتمد على غير ذلك من الجهات ( ولكن ) الظاهر أن اختلافهم في وجه الاستناد انما هو من قبيل العلل بعد الوقوع وتطبيق ما هو المسلم عندهم على ما اختاروا من الوجه بحيث لو فرض التفاتهم إلى عدم تمامية ما استندوا إليه من الوجوه لم يزالوا باقين على ما أفتوا به من وجوب العمل بهذه الاخبار ومن المعلوم ان مثل هذا الاختلاف لا يخل بالاجماع كما هو ظاهر « نعم » حكى القول بعدم الحجية عن جماعة ( كالسيد ) ( والقاضي ) ( وابن زهرة ) ، ( والطبرسي ) ، ( وابن إدريس ) ، بل نسب ذلك إلى الشيخ أيضا ( ولكن ) المشهور هو المنصور والمهم هو اثبات الحجية في الجملة قبال السلب الكلي كما يدعيه القائل بالمنع ولنقدم الكلام أولاً في ذكر أدلة النافين للحجية ( فنقول ) وعليه التكلان ، استدل للمنع بالأدلة الأربعة ( اما الكتاب ) فبآيات ( منها ) ما دل على النهى عن اتباع غير العلم كقوله سبحانه ولا تقف ما ليس لك به علم ( ومنها ) ما دل على النهى عن الاستطراق بالظن والعمل به كقوله سبحانه ان الظن لا يغنى من الحق شيئا ( ومنها ) التعليل المذكور في اية النبأ على ما ادعاه امين الاسلام الطبرسي قده من دعوى دلالته على عدم حجية خبر الواحد ( ولكن ) في الكل ما لا يخفى ، اما الآيات الناهية عن اتباع غير العلم فلأنها انما تدل على المنع عن العمل بخبر الواحد في فرض عدم تمامية الأدلة المثبتة للحجية ، إذ في فرض تماميتها لا مجال للتمسك بتلك الآيات لحكومة تلك الأدلة عليها حسب اقتضائها لتتميم الكشف واثبات العلم بالواقع حيث إنها تقتضي كون العمل به عملا بالعلم ، ( وهذا ظاهر ) بعد معلومية وضوح عدم تكفل الآيات لاحراز موضوعها الذي هو عدم العلم ، وتمحضها لاثبات حكم كلي لموضوع كلي ، وبذلك ظهر عدم صلاحية تلك

ص: 102

الآيات للمعارضة مع تلك الأدلة أيضا ( ومن هذا البيان ظهر ) الجواب عن الآيات الناهية عن العمل بالظن واتباعه ، إذ بعد الغض عن كون مساقها في مقام اثبات حرمة العمل بالظن في أصول العقائد وتسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية ( نقول ) بحكومة أدلة حجية خبر الواحد عليها فإنها على تقدير تماميتها في نفسها توجب خروج كون العمل به عن كونه عملا بالظن بادراجه في العمل بالعلم حسب اقتضائها لتتميم الكشف ( هذا كله ) مع امكان دعوى ظهور الأدلة الناهية في كونها في مقام نفي اقتضاء الحجية في الظن من حيث ذاته قبال العلم الذي فيه اقتضاء الحجية بحكم العقل لا بصدد بيان اقتضائه لعدم الحجية فلا ينافي حجيته لمقتضى خارجي ( نعم ) لو كان مفاد الآية اثبات اقتضاء ذاته لعدم الحجية بنحو لا يزاحمه مقتضى خارجي « لكانت » دالة على المطلوب ، فتصلح حينئذ للمعارضة مع الأدلة المثبتة للحجية « ولكن » دون اثبات ذلك خرط القتاد ( ثم ) ان هذا كله فيما عدى السيرة العقلائية القائمة على حجية الخبر « واما السيرة » فقد يقال بصلاحية الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم للردع عنها ، فإنها بعد عدم اقتضائها الحجية في نفسها وإناطة حجيتها بامضاء الشارع وعدم ردعه عنها فلا جرم تصلح الآيات الناهية بعمومها للردع عنها فيخرج عن الحجية « ولكنه مندفع » بان ذلك يتم إذا كان بناء العقلاء في العمل بخبر الثقة من باب العمل بالظن « واما » إذا كان عملهم به من جهة انكشاف الواقع لديهم بقيام خبر الثقة وعدم اعتنائهم باحتمال الخلاف لبنائهم على تتميم الكشف المقتضى لالغاء احتمال خلافه فلا تصلح الآيات الناهية للردع عنها لخروج العمل بخبر الثقة « حينئذ » عن موضوع الآيات الناهية وهو العمل بالظن أو بما وراء العلم « نعم » لو اغمض عن ذلك لا يتوجه الاشكال على رادعية الآيات بما أفيد من محذور الدور ، بتقريب ان الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على كون الآيات رادعة عنها ولا أقل من أن يكون حال السيرة حال سائر أدلة حجية الخبر من كونها حاكمة على الآيات الناهية والمحكوم لا يصلح ان يكون رادعا عن الحاكم « إذ فيه » ان حجية السيرة بعد أن كانت معلقة على عدم الردع عنها يكون عدم الردع في المرتبة السابقة عن حجيتها لأنه بمنزلة

ص: 103

شرطها ، « وحينئذ » ففي المرتبة السابقة عن حجيتها تجرى أصالة العموم في الآيات الناهية فتوجب خروج مثلها عن الحجية بلا محذور دور « كيف » وحكومة السيرة المزبورة أو ورودها على الآيات فرع حجيتها المتأخر عن عدم الردع ، فلا يستقيم تشكيل الدور في رادعية الآيات الناهية وانما هو في ظرف مخصصية السيرة أو حكومتها على عمومات النواهي لتوقف مخصصيتها أو حكومتها على حجيتها المتأخرة عن عدم رادعية الآيات عنها في المرتبة السابقة وهو ظاهر « نعم ما أفيد » من محذور الدور في الرادعية يتم في فرض اقتضاء الحجية في نفس السيرة وكون الردع مانعا عنها ، إذ « حينئذ » يمكن ان يقال بكون المانعية معلقة في طرف الآيات على عدم تأثير المقتضى التنجيزي الموجب لعدم صلاحية الآيات للرادعية الا بنحو الدور ولكن الامر ليس كذلك بل أصل حجيتها منوط بامضاء الشارع لها وعدم ردعه عنها بحيث لولا الامضاء لما كان فيها اقتضاء الحجية أصلا ، وعليه فينحصر تصوير الدور في طرف المخصصية ( ثم إن ) ما ذكرنا من صلاحية الآيات للردع عن السيرة انما هو في السيرة العقلائية غير الراجعة إلى أمور معادهم والا فيرجع إلى سيرة المتشرعة ، و ( وفى مثله ) لا تصلح هذه النواهي للردع عنها لمضادتها حينئذ لأصل وجود السيرة وتحققها ( إذ ) من المستحيل تحقق السيرة المزبورة منهم بما هم متدينون مع ثبوت الردع من الشارع ، وعليه فمن قيام السيرة واستمرارها يستكشف بمقتضى المضادة المزبورة عدم صلاحية الآيات الناهية للردع عما بنوا عليه من العمل بخبر الثقة وسيأتي مزيد بيان لذلك ( واما السنة ) فهي على طائفتين ( الأولى ) ما دل على الاخذ بما علم صدوره عنهم (عليهم السلام) والتوقف والرد إليهم فيما لا يعلم أنه منهم فمن ذلك قوله (عليه السلام) في المروى عن بصائر الدرجات ما علمتم انه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا ( الثانية ) ما دل على عرض الاخبار المروية عنهم (عليهم السلام) على كتاب اللّه عز وجل وهي على طائفتين * أحدهما * تدل على الاخذ بما يوافق الكتاب ورد ما لا يوافقه * وأخرى * ما تدل على الاخذ بما لا يخالف الكتاب ورد ما يخالفه وكل منهما * على قسمين * من حيث كونه بلسان نفي الصدور ، تارة ولسان نفي الحجية ، أخرى * فمن الطائفة الأولى * قوله (عليه السلام) ما جائكم عنى ما لا يوافق القران فلم أقله ، وقوله (عليه السلام) وما اتاكم من

ص: 104

حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو باطل ، وقوله (عليه السلام) كل شيء مردود إلى كتاب اللّه عز وجل والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ونحو ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في نفى صدور ما لا يوافق القران عنهم « ومن الطائفة الثانية » قوله (عليه السلام) لا تصدق علينا الا ما يوافق كتاب اللّه وسنة نبيه ، وقوله إذا جائكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه عز وجل فخذوا به والا فقفوا عنده ثم ردده إلينا حتى نبين لكم ، وقوله (عليه السلام) في خبر ابن أبي يعفور بعد أن سئله عن اختلاف الحديث يرويه من يوثق به ومن لا يوثق به إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه عز وجل أو من قول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فخذوا به والا فالذي جائكم أولى به ، وقوله (عليه السلام) ما جائكم عنا فان وجدتموه موافقا للقران فخذوا به وان لم تجدوه موافقا للقران فردوه وان اشتبه الامر عندكم فقفوا عنده حتى نشرح لكم من ذلك ما شرع لنا ، وقوله (عليه السلام) لمحمد بن مسلم ما جائك من رواية من بر أو فاجر يوافق كتاب اللّه فخذ به وما جائك من رواية من بر أو فاجر يخالف كتاب اللّه فلا تأخذ به بناء على كون المراد من المخالفة بقرينية الصدر هو عدم الموافقة ونحو ذلك من الاخبار الظاهرة في عدم حجية ما لا يوافق الكتاب « ومن الطائفة الثالثة » قوله (عليه السلام) ما خالف كتاب اللّه عز وجل فليس من حديثي أو لم أقله كما في خبر آخر ، قوله (عليه السلام) ما جائكم عنى يخالف كتاب اللّه عز وجل فلم أقله أو ذره على الجدار كما في آخر أو زخرف كما في ثالث أو باطل كما في رابع « ومن الطائفة الرابعة » قوله (عليه السلام) لا تقبلوا عنا خلاف القران فانا ان حدثنا حدثنا بموافقة القران وموافقة السنة ، وقوله (عليه السلام) لا تقبلوا عنا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ونحو ذلك من النصوص الظاهرة بل الصريحة في عدم حجية ما يخالف الكتاب والسنة هذا ( والجواب ) « اما عن الطائفة الأولى » الظاهرة في عدم جواز الاخذ بما لا يعلم صدوره عنهم (عليهم السلام) « فبعد الغض » عن كونها من اخبار الآحاد التي لا يمكن التمسك بمثلها لعدم حجية خبر الواحد « يرد عليها » ما أوردناه على الآيات الناهية عن اتباع غير العلم من توقف الاستدلال بها على عدم تمامية أدلة حجية خبر الواحد لما عرفت من حكومة تلك الأدلة عليها على فرض تماميتها لاقتضائها لتتميم الكشف « واما

ص: 105

الطائفة الثانية » الدالة على عرض الاخبار على كتاب اللّه والسنة على اختلاف ألسنتها فبالنسبة إلى كل واحد منها يجري الاشكال المتقدم لكونها من اخبار الآحاد ولا يجوز التمسك بها لعدم حجية خبر الواحد « واما المجموع » من حيث المجموع فهو وان كان بالغا إلى حد التواتر « ولكن » التواتر المزبور فيها لما كان اجماليا لا معنويا بلحاظ اختلافها في المضمون وعدم وجود جهة متحدة فيها يحكى عنها الجميع « فلابد » من الاخذ بما هو أخص مضمونا منها لكونه القدر المتيقن على قواعد العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر وحيث إن الأخص مضمونا من الجميع هي النصوص المتضمنة لعنوان المخالف للكتاب لا خصية مضمونها من النصوص المتضمنة لعنوان ما لا يوافق وعدم احتمال صدور المخالف أو حجية دون ما لا يوافق ( فلابد ) في مقام الدوران من الاخذ بهذه الطائفة ( ثم ) بعد القطع بصدور الاخبار المخالفة للكتاب منهم (عليهم السلام) بنحو العموم المطلق بل وعلى نحو العموم من وجه ( لابد ) من حمل المخالف فيها على المخالفة بنحو التباين الكلي وبذلك أيضا ينحل العلم الاجمالي بعدم الصدور وعدم الحجية والقبول في الاخبار المخالفة ، للقطع التفصيلي بعدم جواز الاخذ بالخبر المخالف للكتاب والسنة بنحو التباين الكلي ، اما لعدم صدوره ، أو لعدم حجية فيصير الشك بدويا في البقية ( وعليه ) فلا محذور في الاخذ بما عدى هذه الطائفة من الاخبار المخالفة للكتاب بنحو العموم المطلق أو من وجه فضلا عن الاخبار غير المخالفة ولا ملازمة بين عدم جواز الاخذ بالاخبار المخالفة بنحو التباين الكلي وعدم حجيتها وبين عدم حجية غيرها من الاخبار كما هو ظاهر ( واما الاجماع ) المدعى في المقام فهو المحكى عن السيد قدس سره من أن العمل بالخبر الواحد عند مذهب الشيعة كالعمل بالقياس ( ففيه ) ان المحصل من هذا الاجماع غير حاصل لو لم نقل ان المتحقق خلافه كما أشرنا إليه سابقا ( والمنقول منه ) مع أنه غير حجة معارض بما يأتي من دعوى الشيخ قدس سره الاجماع على حجيته ( هذا ) مع امكان توجيه كلام السيد قدس سره بإرادة الاخبار الخالية عن شواهد الصدق على الصدور لابتلائه في زمانه بالعامة واخبارهم المروية بطرقهم غير النقية فلأجل ذلك أنكر هو قدس سره حجية اخبار الآحاد للتخلص عن محذور عدم العمل باخبارهم ( كيف ) ومن البعيد جدا خفاء هذا المعنى على

ص: 106

الشيخ قدس سره مع كونه في عصره وزمانه فيدعى الاجماع على خلاف ما يدعيه السيد فتدبر ( واما الدليل العقلي ) فهو البرهان المعروف المحكى عن ابن قبة في امتناع جعل الطرق غير العلمية من جهة محذور اجتماع الضدين ولزوم تحليل الحرام وعكسه وقد تقدم الجواب عن تلك الشبهة بما لا مزيد عليه.

( واما المثبتون ) فاستدلوا على حجية خبر الواحد أيضا بالأدلة الأربعة ( الكتاب والسنة ) ، ( والاجماع عملا وقولا ) ( والعقل ) ( اما الكتاب ) فبآيات ( منها ) قوله عز من قائل في سورة الحجرات يا أيها الذين آمنوا ان جائكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( وتقريب ) الاستدلال بهذه الآية المباركة من وجوه تارة من جهة دلالة الاقتضاء ، وأخرى من جهة مفهوم الشرط من حيث تعليق سنخ الحكم على مجيئ الفاسق بالنبأ ، ( وثالثة ) من جهة مفهوم الوصف من حيث تعليق سنخ الحكم على اخبار الفاسق المستلزم للانتفاء عند الانتفاء * اما الأول * فبدعوى ان المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي حجية خبر العادل لان وجوب التبين وعدم القبول بدونه يناسب جهة فسق المخبر لعدم تحرزه عن المعاصي التي منها تعمد كذبه فوجب التبين عن حال خبره لئلا يقع المكلف في خلاف الواقع ، فيحصل له الندامة * وهذا * بخلاف خبر العادل ، فإنه من جهة تورعه عن محارم اللّه لا يقدم على التعمد بالكذب فاحتمال تعمد كذبه في خبره منفي بعدالته ولازمه حجية خبره ووجوب العمل على طبقه بدون التبين * واما تقريبه * من جهة مفهوم الشرط ، فبدعوى ظهور الآية في إناطة كلي الحكم وسنخه وهو وجوب التبين على مجيء الفاسق بالبناء ، ولازمه انتفاء الحكم بسنخه عند انتفاء الشرط ، فيترتب عليه وجوب القبول بدون التبين عند مجيء العادل به * إذ * لورد * حينئذ * يلزم أسوئية العادل من الفاسق وبعد بطلان ذلك يتعين القبول بلا تبين * نعم * قد يقال تبعا للشيخ قدس سره بعدم الاحتياج إلى ضم مقدمة الأسوئية وتمامية الاستدلال بدونها لابتناء الاحتياج المزبور على كون التبين في الآية واجبا نفسيا في خبر الفاسق * والا * فبناء على كونه واجبا شرطيا في جواز العمل بقول الفاسق فلا يحتاج إلى الضميمة المذكورة من جهة تمامية الاستدلال بدونها أيضا ( لان ) مفاد المنطوق على هذا هو وجوب

ص: 107

التبين وشرطيته في العمل بقول الفاسق ، ومفاد المفهوم فيها هو انتفاء وجوب التبين في العمل بقول العادل * ولا ريب * في ظهور الآية في نفسها خصوصا بملاحظة التعليل الواقع في الذيل في الوجوب الشرطي لا الوجوب النفسي لأنه مع بعده في نفسه لا يكاد يناسب مع التعليل * ولكن فيه * ان التبين في الآية المباركة ، اما ان يكون بمعنى تحصيل العلم الوجداني ، واما ان يكون بالمعنى الأعم الشامل للوثوق والاطمينان * وعلى الأول * لا معنى لشرطية التبين للعمل بخبر الفاسق * إذ مع حصول العلم يكون العمل لا محالة بالعلم ، لا بالخبر * فمفاد * المنطوق على هذا هو الغاء خبر الفاسق بالمرة ولزوم تحصيل العلم بالواقع عند إرادة العمل * وحيث * كان الوجوب فيه عقليا كان الامر بالتبين ارشاديا محضا لا نفسيا ولا شرطيا وعلى ذلك تحتاج إلى مقدمة الأسوئية * ببيان * ان عدم وجوب التبين عن خبر العادل اما ان يكون من جهة القطع بكذبه فيكون أسوء حالا ، واما ان يكون لحجيته وهو المطلوب * واما على الثاني * فما أفيد من استفادة الوجوب الشرطي للتبين من الآية في العمل بخبر الفاسق وان كان وجيها * ولكن * هذا المقدار لا يجدى في نفي الاحتياج إلى مقدمة الأسوئية الا في فرض ان تكون الآية ناظرة إلى مجرد اثبات الشرطية ، فارغا عن أصل وجوب العمل بالخبر * واما * في فرض كونها ناظرة إلى وجوبه مقدمة للعمل بخبر الفاسق فلا تقتضي عدم الحاجة إلى المقدمة المزبورة * فان * مرجع الوجوب المزبور بعد كونه إلى الوجوب الغيري للعمل ، فنفيه في طرف المفهوم كما يناسب مع نفي شرطية التبين * كذلك * يناسب مع نفي أصل وجوب العمل أو جوازه ، فلا يتعين الأول الا بضم مقدمة الأسوئية وبالجملة نقول انه بعد ابطال الوجوب النفسي للتبين لا ينحصر الامر في الوجوب الشرطي * بل * كما يحتمل كونه وجوبا شرطيا * كذلك * يحتمل كونه وجوبا غيريا مقدميا للعمل بخبر الفاسق الموثق * ومع * دوران الامر بينهما يتعين الثاني * فإنه * على الأول لابد من رفع اليد عن ظهور الامر في المولوية وحمله على الارشاد إلى شرطية التبين التي هي الوضع * بخلاف الثاني * فإنه عليه يبقى ظهور الامر في المولوية ، بحاله * وعليه * لا محيص عن مقدمة الأسوئية * هذا * مع امكان دعوى ان مجرد عدم وجوب التبين في خبر العادل لا يقتضى نفي الشرطية المزبورة

ص: 108

( لان ) من الممكن ان يكون ذلك من جهة تحقق الشرط المزبور وحصوله في نبأ العادل بلحاظ ما هو الغالب من إفادة بناء العادل للوثوق بالواقع ( نعم ) قد يتوهم اختلال امر المفهوم حينئذ لوقوع الاشكال في موارد عدم إفادة قول العادل للوثوق ( ولكنه ) مدفوع بأنه يكفي للوثوق النوعي في الحجية فتدبر « واما تقريبه من جهة الوصف » فبوجهين ، تارة من جهة ظهور القضية في تعليق كلي الحكم وسنخه على عنوان الفسق المستلزم للانتفاء عند الانتفاء ، وأخرى من جهة دلالة الاقتضاء الناشئة من استناد وجوب التبين إلى عنوان الفسق الذي هو من العناوين العرضية ، لا إلى كونه خبر واحد ( بتقريب ) انه اجتمع في خبر الفاسق وصفان أحدهما ذاتي وهو كونه خبر الواحد * والاخر * عرضي وهو كون المخبر فاسقا فمن اقتران الكلام بالوصف واستناد الحكم إليه في ظاهر القضية يستفاد ان ما هو العلة لوجوب التبين هو هذا العنوان العرضي لا العنوان الذاتي نظير قوله أكرم عالما حيث يستفاد منه ان ماله الدخل في الحكم هو العالمية لا الانسانية ( والا ) يلزم بمقتضى الطريقة المألوفة بين أهل المحاورة استناده إلى العنوان الذاتي أعني الانسانية في المثال ووصف كونه خبر واحد في المقام لكونه في رتبة سابقة على العنوان العرض وحصوله قبل حصوله خصوصا مع لزوم خلو ذكر الوصف عن القائدة ( وحينئذ ) فمن نفس الانتقال من الذات إلى العرض يستفاد ان العلة والمنشأ هو وصف كون المخبر فاسقا ، ولازمه انتفاء وجوب التبين عند كون المخبر عادلا وبضميمة مقدمة الأسوئية يستفاد حجية قول العادل ( بل يمكن ) ان يقال بعدم الاحتياج إلى ضم المقدمة المزبورة بدعوى ظهورية الآية في أن تخصيص مقتضى التبين هذا بهذا العرض انما هو بالإضافة إلى عرض اخر وهو إضافة الخبر إلى العادل ومن المعلوم ان لازم ذلك هو حجية قول العادل والا لكان فيه أيضا مقتضى التبين * بل ولعل * هذه الجهة هي العمدة في الانتقال إلى العرض حيث كانت في مقام تمييز الحجية عن غيرها وما يجب فيه التبين عن ما لا يجب * لا ان * سر الانتقال هو عدم الاقتضاء في الذات المزبورة للتبين وانحصار مقتضيه بالخبر الفاسق كي يستشكل عليه ، تارة بان لازم عدم حجية قول الفاسق هو عدم وجود الاقتضاء للحجية في ذات الخبر المعروض لهذه الإضافة الملازم لاقتضاء

ص: 109

نفس الذات للزوم التبين أيضا فلا يثبت بهذا التقريب ( حينئذ ) انحصار مقتضى التبين بخصوص العرض دون الذات ( وأخرى ) بمخالفته لما عليه بناء الأصحاب من عدم اقتضاء الحجية لعنوان خبر الواحد بما هو كذلك لان القائلين بالحجية ، بين قائل بحجية خصوص خبر العدل بلحاظ هذا الوصف الطارئ ، وبين قائل بحجية خبر الموثق بما هو كذلك ، فلم يعهد من أحدهم القول بالحجية لذات الخبر الواحد بما هو كذلك والا للزم القول بحجية كل خبر لم يتصف بكونه صادرا عن الفاسق عند من يقول بجريان الأصل في مثله من الاعدام الأزلية ، ولم يلتزموا بذلك ما لم تحرز العدالة ( وهذا ) بخلاف ما ذكرناه ( إذ ) عليه يتم تقريب الاستدلال من دون ان يرد عليه شيء من الايرادين المذكورين وان لم يكونا خاليين عن الاشكال أيضا ( ولئن شئت ) فاجعل ذلك تقريبا ثالثا للوصف غير ما ذكرنا ( هذا ) كله في تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على حجية خبر العادل من جهة اقتضاء الشرط تارة والوصف أخرى ولقد عرفت تمامية الاستدلال وصفا وشرطا بناء على استفادة المفهوم من نحو هذه القضايا بملاحظة ظهور القضية في مدخلية عنوان الفسق لوجوب التبين كما في كلية العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ( وحينئذ ) فإذا كان المحمول في عقد الحمل هو الحكم السنخي فلا جرم يستفاد من اناطته بالشرط أو الوصف انتفاء الحكم السنخي عند الانتفاء هذا ( ولكن قد أورد على التمسك بها بأمور ).

« منها » ما يرجع إلى انكار أصل مفهوم الشرط ، بدعوى كون القضية فيها من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع حتى أن الشيخ قده جعل ذلك من الاشكالات غير القابلة للدفع عنها ( وتقريب الاشكال ) ان الشرط المذكور في الآية لما كان مما يتوقف عليه وجود الجزاء والمشروط عقلا بحيث لا يمكن فرض وجود الجزاء بلا فرض وجود الشرط ( كانت ) من القضايا المسوقة لبيان تحقق الموضوع كما في قولك ان رزقت ولدا فاختنه وان ركب الأمير فخذ ركابه ، وكقوله تعالى وإذا قرء القران فاستمعوا له وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها ( وبالجملة ) الضابط في كون القضية من ذوات المفهوم ( هو ) امكان فرض وجود الجزاء بلا فرض وجود الشرط بنحو كان السلب فيها من قبيل السلب بانتفاء المحمول وهذا المعنى

ص: 110

لا يتصور في المقام وانما المتصور فيه كونه من قبيل السلب بانتفاء الموضوع ( أقول ) تنقيح المرام في المقام يحتاج إلى بيان مقدمة في شرح كيفية اخذ المفاهيم من القضايا الملفوظة ( وهي ) انه لا شبهة في أن استخراج المفهوم من القضايا ( يحتاج ) إلى تجريد ما هو الموضوع المذكور فيها في طرف المفهوم من القيود التي أريد استخراج المفهوم من جهتها شرطا أو وصفا أو غاية ففي مثل ان جائك زيد يجب اكرامه ( لابد ) في استخراج مفهوم الشرط منه من تجريد الموضوع الذي هو زيد من اضافته إلى المجيء ، بجعله عبارة عن نفس الذات مهملة ( والا ) ففي فرض عدم تجريده منه لم يبق مجال لاستخراج المفهوم منه لكونه ( حينئذ ) من السالبة بانتفاء الموضوع ( فان ) الموضوع وما يرجع إليه الضمير في قوله يجب اكرامه ( يكون ) عبارة عن زيد المقيد بالمجئ ، ومن الواضح ان الانتفاء عند الانتفاء ( حينئذ ) لا يكون الا من باب السلب بانتفاء الموضوع من جهة انتفاء المقيد بانتفاء قيده ( وهذا ) بخلاف فرض تجريده عن الخصوصية ، إذ معه كان المجال لحفظ الموضوع في طرف المفهوم فأمكن استخراج مفهوم الشرط من القضية المزبورة ( وهكذا ) الكلام بالنسبة إلى الوصف والغاية والضابط الكلي هو ما عرفت من لزوم تجريد الموضوع في القضية عن كل قيد أريد استخراج المفهوم من جهته شرطا أو وصفا أو غاية أو غيرها بجعله من الجهات التعليلة لترتيب سنخ الحكم على الموضوع ( ومن ذلك ) لو كان في القضية قيود اخر كقوله ان جاء زيد راكبا يوم الجمعة يجب اكرامه يتعدد المفهوم حسب تعدد تلك القيود فمن تجريد الموضوع من اضافته إلى كل قيد يستخرج مفهوم غير المفهوم المستخرج من الاخر ( وإذا عرفت ذلك ) نقول ان المحتملات المتصورة في الشرط في الآية الشريفة ثلاثة « منها » كون الشرط فيها نفس المجيء خاصة مجردا عن متعلقاته « وعليه » يتم ما افاده الشيخ قده من انحصار المفهوم فيها بالسالبة بانتفاء الموضوع « فان لازم » الاقتصار في التجريد على خصوص المجيء هو حفظ إضافة الفسق في ناحية الموضوع بجعله عبارة عن البناء المضاف إلى الفاسق « ولازمه » هو كون الانتفاء عند الانتفاء من باب السلب بانتفاء الموضوع ، لضرورة انتفاء الموضوع وهو النبأ الخاص بانتفاء الشرط المزبور ( ومنها ) كون الشرط هو المجيء مع متعلقاته ( ولازمه ) بعد تجريد

ص: 111

الموضوع عن اضافته إلى المجيء الخاص هو كون الموضوع نفس النبأ مجردا عن اضافته إلى الفاسق أيضا لا النبأ الخاص كما في الفرض السابق وعليه يكون للآية مفهومان ( أحدهما ) السالبة بانتفاء الموضوع ( وثانيهما ) السالبة بانتفاء المحمول لان عدم مجيء الفاسق بالنبأ يعم مجيء العادل به فلا يلزم من عدم مجيئه به انتفاء ما يتبين عنه بقول مطلق حتى ينحصر المفهوم في القضية بالسالبة بانتفاء الموضوع ( ومنها ) كون الشرط عبارة عن الربط الحاصل بين المجيء والفاسق الذي هو مفاد كان الناقصة ، ولازمه بمقتضى ما ذكرنا هو الاقتصار في التجريد على خصوص ما هو المجعول شرطا أعني النسبة الحاصلة بين المجيء والفاسق ، وبعد حفظه قيد المجيء في ناحية الموضوع بجعله عبارة عن النبأ المجيء به ، وإناطة سنخ الحكم بكون الجائي به هو الفاسق « ينحصر » المفهوم فيه بالسالبة بانتفاء المحمول إذ بعد كون الموضوع هو النبأ المتحقق يكون عدم مجيء الفاسق به ملازما لكون الجائي به عادلا كما هو ظاهر ( فهذه وجوه ثلاثة متصورة ) فيما ذكر شرطا في الآية ولكن الأخير منها في غاية البعد لظهور الجملة الشرطية في الآية في كون الشرط هو المجيء أو هو مع اضافته إلى الفاسق ، لا الربط الحاصل بين المجيء والفاسق بما هو مفاد كان الناقصة مع خروج نفس المجيء عن الشرطية كي يلزمه ما ذكر من كون الموضوع فيها هو النبأ المجيء به كما افاده في الكفاية ( ويتلوه في البعد ) الوجه الأول الذي مرجعه إلى كون الشرط هو المجيء فقط فان ذلك أيضا مما ينافي ظهور الآية المباركة ، فان المتبادر المنساق منها عرفا كون الشرط هو المجيء بما هو مضاف إلى الفاسق ، بل وهو المتبادر عرفا في أمثال هذه القضية نحو ان جائك زيد بفاكهة يجب تناولها لظهوره في كون الشرط لوجوب التناول هو مجيء زيد بها ( وعليه ) فكما يجب تجريد الموضوع في المقام عن اضافته إلى المجيء كذلك يجب تجريده عن متعلقاته فيكون الموضوع وما يتبين عنه نفس طبيعة النبأ لا البناء الخاص المضاف إلى الفاسق ( ولازمه ) جواز التمسك باطلاق المفهوم في الآية لعدم انحصاره ( حينئذ ) بخصوص السالبة بانتفاء الموضوع كما عرفت * فتمام * الاشكال المزبور ناشئ عن تخيل كون الموضوع لوجوب التبين هو النبأ الخاص المضاف إلى الفاسق * والا * فمع فرض تجريده عن تلك الخصوصية لا يبقى مجال

ص: 112

للاشكال المزبور « ومنها » معارضة المفهوم فيها مع عموم التعليل في الذيل بإصابة القوم بجهالة « بتقريب » ان المراد بالجهالة هو عدم العلم بصدق المخبر وحيث إن ذلك مشترك بين خبر العادل والفاسق فمقتضى عموم التعليل هو وجوب التبين عن كل خبر غير علمي لا يؤمن في العمل به من الوقوع في خلاف الواقع الموجب لحصول الندامة ولو كان المخبر عادلا فيقع ( حينئذ ) بينهما التعارض ، فيدور الامر بين رفع اليد عن ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في المفهوم ، أو رفع اليد عن عموم التعليل في اقتضائه لوجوب التبين في كل خبر غير علمي ( وفى مثله ) يتعين الأول وترجيح عموم التعليل والحكم بخلو الجملة الشرطية أو الوصفية عن المفهوم لما هو المعلوم من اقوائية ظهور التعليل في العموم من ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في المفهوم وتبعيته له تبعية المعلول لعلته في العموم والخصوص كقوله لا تأكل الرمان لأنه حامض ولا تشرب الخمر لأنه مسكر ، حيث يخصص المنع في الأول بخصوص الفرد الحامض من الرمان ، ويعمم في الثاني لكل مسكر ولو لم يكن خمرا كما عليه بناء الأصحاب ( ففي ) المقام يؤخذ بظهور التعليل في العموم ويتعدى بمقتضى عمومه إلى كل ما لا يؤمن فيه عن الوقوع في الندم لا انه يؤخذ بالمفهوم ويخصص به عموم التعليل هذا ( وقد أجيب ) عنه ( تارة ) بمنع كون الجهالة في الآية بمعنى الجهل المقابل للعلم بل هي بمعنى السفاهة ، وذلك لا بمعناها المصطلح كي يستبعد من جهة اعتماد الصحابة على قول الوليد وإرادتهم تجهيز الجيش لقتال بنى المصطلق عند اخبار الوليد بارتدادهم * بل بمعنى * الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه بعد التأمل والتدبر ولا ريب في أن العمل بقول الفاسق من هذا القبيل ، حيث إنه من جهة فسقه الموجب لعدم الامن من تعمد كذبه في اخباره يكون العمل بقوله والركون إليه من السفاهة بالمعنى المزبور ( وهذا ) بخلاف العمل بقول العادل ، فإنه ليس الركون إليه والاعتماد على قوله عند العقلاء من الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه وعليه لا يشارك خبر العادل خبر الفاسق كي يندرج بذلك في عموم التعليل * وأخرى * بحكومة المفهوم على العموم المزبور ولو مع فرض كون الجهالة بالمعنى المقابل للعلم * بتقريب * ان المفهوم على تقدير ثبوته في نفسه من جهة اقتضائه لتتميم الكشف

ص: 113

والغاء احتمال الخلاف في خبر العادل موجب لجعله محرزا وكاشفا عن الواقع ولو تعبدا ، فيوجب خروج خبر العدل عن عموم التعليل موضوعا ببيان عدم كونه من افراده ، ومعه لا يكاد يعقل وقوع التعارض بينه وبين عموم التعليل فضلا عن تقديم العلة عليه ( بل يقدم ) المفهوم عليها ولو كان ظهورها أقوى بمراتب من ظهوره كما هو الشأن في كل حاكم ومحكوم حيث يقدم الحاكم عليه بعد الفراغ عن حكومته واصل نظره ولو كان ظهوره أضعف بمراتب من ظهور المحكوم ( فان ) اقوائية الظهور انما تجدي في موارد التخصيص والتقييد فيقدم ما هو الأقوى ظهورا على غيره ولذلك قد يقدم العام على الخاص والمطلق على المقيد عند كونهما أقوى ظهورا من الخاص والمقيد واما موارد الحكومة فيقدم الحاكم على المحكوم ولو كان أضعف ظهورا من المحكوم « وعمدة النكتة » فيه انما هو من جهة تعرض الحاكم بمدلوله للفظي وشارحيته لعقد وضع دليل المحكوم بالتوسع فيه ، تارة بادخال ما ليس داخلا فيه والتضيق أخرى باخراج ما كان داخلا فيه عنه كما في المقام من حيث اقتضاء المفهوم لتضيق موضوع العام واخراج خبر العادل عنه موضوعا بعناية تتميم كشفه ومحرزيته للواقع وكونه من مصاديق العلم « وحينئذ » فبعد عدم تكفل العموم المزبور الا لبيان حكم موضوع في فرض وجوده بلا تكفله لبيان موضوعه وضعا أو رفعا « يقدم » المفهوم على فرض ثبوته في نفسه على العموم المزبور ولا يقع التعارض بينهما « نعم » يتجه التعارض بينهما بناء على القول بكون مفاد أدلة حجية الامارات هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا اثبات الاحراز وتتميم الكشف ولكن التحقيق خلافه على ما مر غير مرة من كونه من باب تتميم الكشف في كلية الامارات هذا « أقول » ولا يخفى ان ما أفيد في الجواب الأول مبني على كون التبين في الآية بمعنى الوثوق لا العلم؟ إذ ( حينئذ ) يكون المراد من الجهالة ما يقابل الوثوق ولا يكون ذلك الا السفه بالمعنى المزبور أعني الركون والاعتماد إلى ما لا ينبغي الركون إليه عند العقلاء * ولكنه * خلاف ظاهر الآية المباركة كيف وان السفاهة بالمعنى المزبور انما توجب الملامة لا الندامة فلا يناسب التعبير ( حينئذ ) بالندامة وما يوجب الندامة انما هو العمل بكل امارة مخالفة للواقع خصوصا في الأمور المهمة كما في مورد الآية الشريفة ( وعلى ذلك )

ص: 114

تكون الجهالة في الآية عبارة عن مطلق خلاف العلم فيشارك خبر العادل خبر الفاسق في العلة وبذلك ظهر الجواب عن الثاني أيضا حيث نقول بجريان العلة حتى في صورة العمل بما هو حجة عند العقلاء من خبر الثقة والعدل فان العمل بقول الثقة والعدل عند مخالفته الواقع وان لم يكن موجبا للملامة والمذمة ولكنه موجب للندامة فتشمله العلة المذكورة في الآية فتقتضي الردع عن العمل بمثله ومعه لا مجال لحكومة المفهوم على عموم العلة ( بل ) يكون عموم العلة موجبا لمنع المفهوم في القضية هذا ( ولكن ) الانصاف انه لا وقع لهذا الاشكال ( فإنه بعد ) ان كان الندم في الأحكام الشرعية بل في مطلق الاحكام الجارية بين المولي والعبيد ملازما للملامة والعقوبة لما هو المعلوم من أن هم العقل في أمثال ذلك انما هو مجرد الفرار عن تبعة ما يترتب على مخالفة التكاليف الواقعية من الملامة والعقوبة ، لا تحصيل المصالح والاغراض الواقعية ( كان ) ذلك موجبا لاختصاص الندم في الآية بالندم الملازم مع اللوم والعقوبة ، فمع فرض اقتضاء المفهوم لحجية خبر العدل تترتب عليه المعذورية وعدم الملامة والعقوبة وعليه يتجه الجواب المزبور من حكومة المفهوم على عموم العلة ( كيف ) وان لازم ذلك هو الالتزام بالتخصيص الكثير في عموم العلة بالامارات المعتبرة كالبينة واليد والسوق والاقرار ونحوها من الموارد التي رخص فيها الشارع في ترك تحصيل العلم بالواقع والعمل على طبق الامارات المنصوصة مع أنه كما ترى ، فلا محيص ( حينئذ ) من تخصيص الندم المذكور في الآية بالندم الملازم مع الملامة ( فتدبر ) * نعم يمكن المناقشة * في تقرير الحكومة بوجه آخر * وحاصله * منع اقتضاء المفهوم في المقام لتتميم الكشف بلحاظ وجوب التبين ، حيث إنه لا طريق على التنزيل المزبور في طرف المفهوم الا من جهة نفي وجوب التبين المستفاد من الفهوم وبعد كون العلم بتتميم الكشف في رتبة متأخرة عن احراز عدم وجوب التبين يستحيل كون نظر تتميم الكشف في اثبات الاحراز إلى مثل هذا الأثر ومعه فلابد وأن يكون تقديم المفهوم على عموم التعليل في الرتبة السابقة عن احراز تتميم الكشف بمناط التخصيص * لان * في تلك المرتبة لا يكون تتميم كشف في البين حتى يتم معه الحكومة فلو قيل * حينئذ * بعدم وجوب التبين لابد وأن يكون بمناط التخصيص * لا يقال * انه كذلك إذا كان التنزيل ثبوتا في الرتبة المتأخرة

ص: 115

عن احراز عدم وجوب التبين ، وليس المقصود ذلك « بل المقصود » هو كشف عدم وجوب التبين عن اطلاق التنزيل في الرتبة السابقة كشفا آنيا « وعليه » فلا يتوجه الاشكال المزبور لتمامية الحكومة المزبورة في المرتبة السابقة « فإنه يقال » العبرة في الحكومة انما هي بكيفية دلالة الدليل وكشفه عن المعنى المراد ، وبعد فرض كون الكشف المزبور في الرتبة المتأخرة عن احراز عدم وجوب التبين يستحيل كون نظر تتميم الكشف في اثبات الاحراز إلى احراز مثل هذا الأثر المعلوم من غير ناحية جهة تتميم الكشف فيستحيل « حينئذ » تقديم المفهوم على عموم العلة بمناط تتميم الكشف كما هو ظاهر.

« ومن الاشكالات » ان المفهوم غير معمول به في الموضوعات الخارجية التي منها مورد الآية فان مورد نزولها انما هو في الاخبار عن الارتداد الذي لا يكاد يثبت الا بالعلم الوجداني أو البينة العادلة وحيث انه لا يجوز اخراج المورد عن عموم المفهوم فلابد من طرح المفهوم رأسا « وأجيب عنه » بان المورد داخل في عموم الكبرى في طرف المنطوق وهي قوله ان جائكم فاسق الخ فان خبر الفاسق لا اعتبار به لا في الموضوعات ولا في الاحكام « واما » المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضه الوجود والتحقق لأنه لم يرد في مورد اخبار العادل بالارتداد بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية التي لم ترد في مورد خاص القابلة للتخصيص باي مخصص فلا مانع من تخصيص عموم المفهوم بما عدى الخبر الواحد القائم على الموضوعات الخارجية ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي سوى ان المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق تستتبع ثبوت المفهوم والا فهو كالعام الابتدائي الذي لم يرد في مورد خاص « وفيه » ان المفهوم لابد وأن يكون تابعا للمنطوق فإذا كان الموضوع في المنطوق هو النبأ الكلي الشامل لخبر الارتداد فلا محيص من اخذ مثل ذلك في طرف المفهوم أيضا ومعه لا يكون الموضوع في المفهوم كليا غير ناظر إليه بخصوصه ليكون كسائر العمومات الابتدائية قابلا للتخصيص فيبقى الاشكال المزبور ( حينئذ ) من عدم جواز اخراج المورد عن عموم المفهوم بحاله ( فالأولى ) في الجواب هو ما افاده الشيخ قدس سره من تسليم العموم في طرف المفهوم والحكم بعدم وجوب التبين في خبر العادل مطلقا غاية ما هناك اعتبار ضم عدل

ص: 116

اخر إليه في الموضوعات التي منها باب الارتداد الداخل في العموم ولا يلزم من اخذ هذا الشرط واعتباره في بعض افراد العام تخصيصا للعام بما يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم وتقييده بغير هذا الفرد أو تخصيصه بخصوصية لا تشمل خبر الارتداد كما هو ظاهر ( نعم ) هنا اشكال اخر في طرف المنطوق وحاصله لزوم الاكتفاء بالخبر الفاسق في مثل باب الارتداد مع التبين وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به ولو مع التقييد بالتعدد لان في الموضوعات لابد « اما » العلم الوجداني أو البنية العادلة وهذه الشبهة وان كانت مدفوعة بإرادة التبين العلمي في الآية ولكنه لا يناسب مع ما ذهب إليه الشيخ قدس سره من شرطية وجوب التبين لجواز العمل بخبر الفاسق فان دعوى الوجوب الشرطي لا يناسب مع التبين العلمي إذ لا معنى لشرطية تحصيل العلم بالواقعة لجواز العمل بخبر الفاسق لان مع العلم بالواقعة تكون الحجة هو نفس العلم دون خبر الفاسق فالمناسب للوجوب الشرطي انما هو التبين الوثوقي ومعه يتوجه الاشكال المتقدم « ومن الاشكالات » ان العمل بالمفهوم « غير ممكن » اما في الموضوعات فظاهر للزوم التعدد فيها واما في الاحكام فلوجوب الفحص فيها عن المعارض ( وفيه ) ما لا يخفى ( فان ) وجوب الفحص عن المعارض والمزاحم غير وجوب التبين عن الخبر صدقا وكذبا فان الأول مؤكد لحجيته بخلاف الثاني فإنه مما ينافيها ( فان ) وجوب التبين عن الخبر صدقا وكذبا انما هو من جهة عدم اقتضاء الخبر للحجية بدونه ، لا من جهة احتمال وجود المانع أو المزاحم ( ومن الاشكالات ) ان الفاسق هو مطلق الخارج عن طاعة اللّه ولو بارتكاب صغيرة من الصغائر فيقابله العادل وهو الذي لم يخرج من طاعة اللّه ولو بارتكاب الصغيرة ( ومن معلوم ) إفادة قول مثله للعلم بالواقع لانحصاره بالمعصوم ومن يتلو تلوه فلا يمكن الاستدلال بالمفهوم لحجية خبر غير المعصوم فيمن يحتمل في حقه العصيان « وفيه » ما لا يخفى من منع كون المراد بالفاسق في الآية مطلق الخارج عن طاعة اللّه ولو بارتكاب الصغيرة فان الظاهر منه كما هو الشايع في عرفنا خصوص الخارج عن طاعة اللّه بالمعاصي الكبيرة الثابت تحريمها في زمان نزول الآية ( وهذا ) لولا دعوى ظهوره في الكافر بملاحظة كثرة اطلاقه عليه في الكتاب كما في قوله سبحانه أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا فالمرتكب للصغيرة غير مندرج تحت اطلاق الفاسق في الآية

ص: 117

هذا مع امكان فرض الخلو من الصغيرة فيمن علم منه التوبة من الذنب السابق واما « احتمال » فسقه من جهة تعمد كذبه في هذا الخبر ( فيدفعه ) ان المراد من العادل هو العادل لولا هذا الاخبار كما أن المراد من الفاسق في المنطوق هو ذلك إذ المراد بالفسق المترتب عليه وجوب التبين هو الفسق السابق مع قطع النظر عن هذا الاخبار

ومن الاشكالات

ما لا يختص بالآية بل يعم جميع أدلة حجية خبر الواحد « منها » وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم فيكون المرجع بعد التعارض أصالة عدم الحجية ( وفيه منع ) صلاحية الآيات الناهية للمعارضة معها لان تلك الأدلة حسب اقتضائها لتتميم الكشف كانت حاكمة على تلك الآيات حيث إنها توجب خروج العمل بالخبر الواحد عن كونه عملا بما وراء العلم أو بالظن تعبدا مع امكان ان يدعى ان الآيات الناهية عن العمل بالظن انما هي بصدد نفى اقتضاء الحجية في الظن ذاتا وعدم كونه بنفسه مما يصح الركون إليه والاعتماد عليه في قبال العلم الذي فيه اقتضاء الحجية ذاتا وليست بصدد اثبات اقتضاء الظن لعدم الحجية ، فلا ينافيها حجيته لمقتضى خارجي كما هو ظاهر.

( ومنها ) ان المفهوم لو دل على حجية خبر الواحد لدل على حجية خبر السيد واتباعه في نقلهم الاجماع على عدم خبر الواحد ويلزم من حجيته عدم حجية خبر الواحد « وفيه بعد » الغض عن منع شمول المفهوم لنقل الاجماع الذي لا يكون مستنده الا الحدس وتسليم شموله لنقل مثل السيد رأى الإمام (عليه السلام) بلحاظ قرب عصره من عصر الإمام (عليه السلام) وامكان اطلاعه على رأيه ولو بمقدمات حدسية قريبة إلى الحس ( والغض ) عن معارضته بمثل اجماع الشيخ قدس سره ومن تبعه على الحجية ( أولاً ) انه من المستحيل شمول اطلاق المفهوم لمثل خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية وذلك ، لا من جهة استلزام دخوله فيه لخروجه عنه كما قيل بل من جهة استلزامه لشمول اطلاق المفهوم لمرتبة الشك بمضمون نفسه

ص: 118

( فان ) التعبد باخبار السيد بعدم حجية خبر الواحد انما كان في ظرف الشك في الحجية واللاحجية الذي هو عين الشك بمضمون الآية « ومن المعلوم » استحالة شمول اطلاق مضمون الآية لمرتبة الشك في نفسه « بل على هذا » لا يمكن شموله لمثل خبر الشيخ الحاكي عن الحجية أيضا ، فان مناط الاستحالة جار في كليهما ولا يختص بالخبر الحاكي عن عدم الحجية كما أنه بهذه الجهة نقول بعدم شمول مضمون خبر السيد بعدم حجية كل خبر لنفس خبره الحاكي عن هذا المضمون « فالعمدة » في وجه عدم شمول مضمون المفهوم في الآية المباركة لخبر السيد هو ما ذكرناه وعليه لا ينتهى الامر إلى ما أفيد من أن ما يلزم من اعتباره عدم اعتباره لا يكون من الأول مشمولا لدليل الاعتبار « إذ » ذلك وان كان متينا في نفسه ، ولكنه يتوقف على امكان شمول اطلاق المضمون لمثل هذه المراتب المتأخرة ( والا ) فلا ينتهي الامر إلى مثل هذا الجواب « وثانيا » انه بعد شمول أدلة حجية خبر الواحد التي منها المفهوم لما عدى خبر السيد من سائر الأخبار لا يبقى مجال لشمولها لمثل خبر السيد ، لان القطع بحجيتها ملازم لانتفاء الشك في مطابقة مضمون خبر السيد للواقع وعدمها ، فيخرج بذلك عن عموم أدلة حجية الخبر ، ففي الحقيقة يكون عدم شمول الأدلة لمثل خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية من باب التخصص لانتفاء الشك في مطابقة مؤداه للواقع « وهذا » بخلاف ما لو شمل المفهوم أولاً لخبر السيد ، إذ عليه يلزم كون خروج ما عداه من سائر الأخبار من باب التخصيص لتحقق الموضوع فيها وهو الشك في ز المطابقة وجدانا ( ومن ) المعلوم انه مع الدوران بين التخصص والتخصيص يتعين الأول « لا يقال » ، كيف ولازم شمول المفهوم لمثل خبر السيد أيضا هو القطع بعدم حجية ما عداه من سائر الأخبار فيلزم ان يكون خروج ما عداه أيضا من باب التخصص لا التخصيص « فإنه يقال » ان المدار في التعبد بكل امارة انما هو الشك في مطابقة مضمونه ومؤداه للواقع ، ومؤديات ما عدى خبر السيد لا يكون حجية خبر الواحد كي بشمول أدلة الاعتبار لخبر السيد الحاكي عن عدم الحجية يقطع بعدم الحجية فينتفي الشك في مطابقة مؤدياتها للواقع ، بل وانما مؤديات ما عداه من الاخبار عبارة عن وجوب امر كذا وحرمة كذا واقعا ، ولا ريب في بقاء الشك في

ص: 119

مطابقة هذا المضمون للواقع وجدانا ولو على تقدير القطع بحجية خبر السيد فيشملها أدلة الحجية فلا يكون رفع اليد عن ذلك بمقتضى حجية خبر السيد والحكم بخروجها من عموم المفهوم الا من باب التخصيص لا غير ، مضافا إلى أنه على فرض الدوران بين خروج خبر السيد وخروج ما عداه لا شبهة في تعين الأول لما يلزم على الثاني من القبح إلى الغاية والفضاحة إلى النهاية ( وذلك ) لا من جهة استلزامه للتخصيص الكثير أو الأكثر كي يندفع بالالتزام بالتقييد بل من جهة خروج الكلام في فرض الاختصاص عما يقتضيه الطريقة المألوفة بين العقلاء وأرباب اللسان إذ لو كان المقصود من تلك الأدلة عدم حجية اخبار الآحاد كان اللازم هو التعبير بنحو ذلك بدوا لا التعبير بما يدل على حجية كل خبر إذ ذلك نظير ما لو قيل صدق زيدا في جميع ما يخبرك فأخبر زيد بألف خبر ثم أخبر بكذب كل ما أخبر به فإنه لو أريد من الامر بتصديق زيد في جميع اخباره بنحو العموم خصوص الخبر الأخير يلزم منه القبح إلى الغاية والاستهجان إلى النهاية عند أولى الدراية ( واما ما قد يجاب ) عن ذلك بالتفكيك في الأزمنة بإرادة حجية كل خبر من الصدر الأول إلى زمان صدور خبر السيد وإرادة خصوص خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية من زمان صدوره إلى ما بعده من الأزمنة فيرتفع بذلك القبح المزبور لكونه في الحقيقة من باب انتهاء أمد حكم العام في زمان صدور خبر السيد ( فيدفعه ) قيام الاجماع على عدم الفصل وان خبر الواحد لو كان حجة في زمان لطائفة كان حجة في جميع الأزمنة ولو لم يكن حجة في الأزمنة المتأخرة لم يكن حجة في الأزمنة المتقدمة أيضا ( مع أنه ) لو فرض جواز الفصل واقعا أو ظاهرا لا محيص أيضا من الغاء خبر السيد بلحاظ أظهرية الكلام في العموم الأزماني والاستمرار من عمومه الافرادي الموجب للشمول لخبر السيد كما هو ظاهر.

( ومنها ) الاشكال في أصل شمول أدلة الحجية للاخبار الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بواسطة أو بوسائط ( وتقريبه ) من وجوه « الأول » دعوى انصراف أدلة الحجية إلى الاخبار الحاكية لقول الامام بلا بواسطة ( وأجاب عنه ) الشيخ قدس سره بان كل واسطه من الوسائط يخبر خبرا بلا واسطة فإذا قال الشيخ حدثني المفيد انه قال حدثني الصفار انه قال سمعت العسكري (عليه السلام) يقول كذا

ص: 120

فهناك اخبارات متعددة حسب تعدد الوسائط « وفيه » انه يتوجه ذلك إذا كان المدعى هو الانصراف إلى ، ما لا واسطة في مطلق النباء ولو من غير الامام والا فلو أريد بالانصراف الاختصاص بالخبر الحاكي لقول الإمام (عليه السلام) بلا واسطه فلا يرد عليه ذلك ( وأجيب ) عنه أيضا بان كل واحد من الوسائط حيث إنه مجاز عن شيخه في نقل الرواية يدخل خبره في الاخبار عن الإمام (عليه السلام) بلا واسطة لان كل مجاز بإجازة شيخه يكون بمنزلة المجيز في نقل الرواية وهكذا فنقل الشيخ قدس سره باعتبار كونه مجازا عن المفيد بمنزلة نقل المفيد لنا الذي نقله أيضا بمنزلة نقل الصفار عن الامام ( ولذا ) كان الأصحاب من أرباب الحديث يهتمون بأخذ الإجازة في نقل الرواية لفوائد شتى منها هذه الجهة التي يدفع بها هذا الاشكال ( وفيه ) انه لو تم ذلك فغاية ما يجدى انما هو في صحة نقل الرواية عن الإمام (عليه السلام) بالغاء الوسائط من البين ( لا ) بالنسبة إلى مرحلة الحجية المفروض انصراف أدلتها إلى الاخبار الحاكية لقول الإمام (عليه السلام) بلا واسطة حتى يصح ان يدفع به الاشكال ( فالأولى ) في الجواب هو منع الانصراف هو ولذلك ترى بناء الأصحاب حتى في الصدر الأول على الاخذ بالاخبار المروية عن الامام ولو بوسائط عديدة من غير تشكيك منهم في الحجية من جهة تعدد الوسائط ( الوجه الثاني ) دعوى امتناع شمول أدلة الحجية للاخبار مع الواسطة لامتناع شمولها للوسائط التي لم يثبت أصل موضوع الخبر فيها الا بنفس الحكم بوجوب التصديق وبيانه ان الموضوع لوجوب التصديق لابد وأن يكون متحققا اما بالوجدان أو بالتعبد ليحكم عليه بوجوب التصديق والمتحقق بالوجدان في الاخبار مع الواسطة انما هو اخر السلسلة وهو خبر الشيخ قدس سره عن المفيد مثلا واما بقية الوسائط فلم يثبت موضوع وجوب التصديق فيها لا بالوجدان ولا بالتعبد مع قطع النظر عن وجوب التصديق وانما يثبت الموضوع فيها بنفس وجوب التصديق الشامل لاخبار الشيخ لاقتضائه لثبوت مضمونه وهو اخبار المفيد وهكذا غيره من الوسائط ( وهو ) من المستحيل ، لان ما ثبت أصل وجوده بوجوب التصديق يكون في مرتبة متأخرة عن وجوب التصديق فيستحيل صيرورته موضوعا لنفس هذا الحكم ( الوجه الثالث ) امتناع شمول أدلة الحجية للاخبار مع الواسطة من جهة استلزامه لان يكون الأثر الذي بلحاظه يجب

ص: 121

التصديق عين وجوب التصديق ( بتقريب ) انه لا معنى للتعبد بقول العادل ووجوب تصديق مضمونه الا ترتيب ما للمخبر به من الآثار الشرعية فلابد في صحة التعبد بالخبر من أن يكون للمخبر به في نفسه مع قطع النظر عن هذا الحكم اثر شرعي كي يكون الامر بالتصديق بلحاظ كما هو الشأن في التعبد في كلية الامارات القائمة على الموضوعات الخارجية ( وفى المقام ) لما لم يترتب على خبر الشيخ عن المفيد في نفسه اثر شرعي غير وجوب التصديق الثابت بهذا الانشاء ( لا يكاد ) يشمله دليل وجوب التصديق لا يقال ان وجوب التصديق أيضا اثر من الآثار الشرعية ( فإنه يقال ) نعم ولكن لما لم يكن ثابتا له مع قطع النظر عن الحكم بتصديقه بل كان ثبوته له بنفس هذا الحكم أعني وجوب التصديق ، فلا يمكن شمول الحكم بوجوب تصديقه بلحاظ ترتب نفسه على المخبر به وبذلك ظهر انه لا مجال لدفع الاشكال بالتشبث بتنقيح المناط أو القضية الطبيعية بدعوى ان الأثر الذي رتب عليه وجوب التصديق هو طبيعي الأثر الشامل لنفس هذا الحكم المستفاد من قوله يجب التصديق لان الحكم إذا رتب على الطبيعة يدور مدارها أينما دارت ( إذ ذلك ) انما يتم إذا كان الاشكال من جهة قصور اللفظ في مقام الاثبات بعد الفراغ عن امكانه ثبوتا ، وليس الامر كذلك لان الاشكال انما هو في امكانه ثبوتا ( ولذلك ) قلنا في مسألة قصد القربة بعدم اجداء مجرد اخذ القضية طبيعية في دفع الاشكال المذكور هناك بحيث تعم مطلق الدعوة ولو كانت ناشئة من قبل شخص هذا الامر المتعلق بالعبادة ، نظرا إلى امتناع اخذ ما هو الناشي من قبل الامر في متعلق شخصه ( هذا ) غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاشكالين ( ولكن ) لا يخفى ما فيهما ( اما الأول ) فان الممتنع انما هو توقف فردية بعض افراد العام ثبوتا على ثبوت حكم العام لبعض افراده الاخر ولزومه ممنوع في المقام ( إذ ) من الواضح عدم توقف خبرية قول المفيد ثبوتا على شمول حكم وجوب التصديق لخبر الشيخ عن المفيد ، بل المتوقف عليه انما هو العلم التنزيلي والاحراز التعبدي باخبار المفيد ، ومثله مما لا مانع عنه على مسلك تتميم الكشف في الامارات ( فإذا ) فرضنا بان لاخبار المفيد في حد ذاته اثر شرعي ولو كان هو وجوب التصديق بان أغمضنا عن الاشكال الثاني يكون لا محالة مشمولا لوجوب التصديق غاية الامر تنجز هذا

ص: 122

التكليف يتوقف على احراز موضوعه اما بالوجدان أو التعبد ، فإذا أخبر الشيخ باخبار المفيد كان اخباره بمقتضى وجوب التصديق طريقا لاحراز خبر المفيد الذي حكمه في نفسه وجوب التصديق فيكون كما لو أحرز خبره بالوجدان وهكذا بالنسبة إلى سائر الوسائط إلى أن ينتهى إلى من يروى عن الامام ( هذا ) بناء على تتميم الكشف في الامارات ( واما ) على مسلك تنزيل المؤدي منزلة الواقع والتعبد بثبوته عند الشك أو مسلك جعل الحجية فيمكن أيضا دفع الاشكال المزبور ( لان ) مرجع وجوب التصديق والتعبد بالمؤدى انما هو إلى ايجاب ترتيب اثار الواقع على المؤدى والمعاملة معه معاملة الواقع فإذا كان خبر المفيد في الواقع محكوما بوجوب التصديق فعند اخبار الشيخ باخبار المفيد إياه عن الصفار « كان » مقتضى التعبد بخبر الشيخ ووجوب تصديقه هو لزوم ترتيب الأثر على مؤداه الذي هو عبارة عن وجوب التصديق المترتب على قول المفيد واخباره واقعا ومرجع هذا الوجوب أيضا إلى ترتيب اثر مؤداه الذي هو قول الصفار عليه وهكذا إلى أن ينتهى إلى المؤدى الذي هو قول الإمام فيجب ترتيب الأثر عليه والحركة على طبقه فتأمل « على أنه » لو اغمض عن ذلك « نقول » انه يتوجه هذا الاشكال إذا كان الحكم المزبور حكما شخصيا لا سنخيا قابلا للانحلال واختصاص كل من الوسائط بشخص من وجوب التصديق غير الشخص المختص بالموضوع الاخر والا فلا مجال لهذه الشبهة لان الحكم الذي يتولد لأجله فردية خبر المفيد لموضوع العام عبارة عن شخص حكم غير الحكم الذي أريد اثباته لخبر المفيد « والممتنع » كما ذكر في تقرير الشبهة انما هو شمول الحكم لموضوع توقف فرديته للعام على شمول ذلك الحكم لبعض الافراد الاخر لا شمول شخص حكم لموضوع يتوقف فرديته على ثبوت شخص حكم آخر متحد معه في السنخ لفرد آخر من العام لان ذلك امر ممكن في نفسه ولا برهان يقتضي امتناعه * الا توهم * ان نسبة الانشاء إلى منشئه في الأحكام التكليفية من قبيل العلة لمعلولاته فلا يعقل ان يكون لعلة واحدة معاليل متعددة طولية بنحو يكون بعضها موضوعا للاخر لان المعاليل المتعددة إذا انتهت إلى علة واحدة وجب ان تكون عرضية لا طولية * لكنه مدفوع * بما ذكرناه مرارا من عدم معقولية ذلك في الأحكام التكليفية وان شأن الانشاءات فيها مجرد المبرزية عن الإرادة التي هي

ص: 123

روح الحكم ولبه فلا مانع من ابراز إرادات طولية بنحو يكون بعضها موضوعا للاخر بانشاء واحد فان الانشاء الوارد في الخطاب الشخصي « كما يمكن » ان يكون كاشفا عن الإرادة الشخصية القائمة بموضوع شخصي كقوله أكرم زيدا « كذلك » يمكن ان يكون كاشفا ومبرزا عن سنخها المتحقق في ضمن افراد عرضية كقوله أكرم العلماء وأحل اللّه البيع ونحوهما أو افراد طولية « اما من جهة » طولية أحد الفردين للاخر ذاتا كقوله إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور حيث كان وجوب الطهور من جهة معلوليته لوجوب الصلاة في طول وجوبها « واما من جهة » إناطة موضوع بعضها بشمول فرد آخر من الحكم لموضوعه كما في المقام في قوله صدق العادل فأريد من انشاء وجوب تصديق العادل سنخه المتحقق في ضمن افراد طويلة على النحو الأخير « وبذلك » تندفع الشبهة الثانية أيضا « توضيح الاندفاع » ان دليل الاعتبار وهو قوله صدق العادل مثلا وان كان بحسب الصورة قضية واحدة ولكنها تنحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد حصص الطبيعي بتعدد الافراد « وبعد » فرض انتهاء سلسلة سند الرواية إلى الحاكي لقول الامام (عليه السلام) وشمول دليل وجوب التصديق له لكونه المخبر به في خبره حكما شرعيا تصير بقية الوسائط ذات اثر شرعي فيشملها دليل وجوب التصديق إذ حينئذ يصير وجوب التصديق المترتب على مثل قول الصفار الحاكي لقول الامام (عليه السلام) اثرا شرعيا له ، فإذا قال الصدوق ان الصفار اخبرني فقد أخبر بموضوع ذي اثر شرعي في نفسه فيجب تصديقه بحكم الآية وبذلك يصير وجوب التصديق أيضا اثرا شرعيا لقول الصدوق الذي يحكى عنه المفيد وهكذا إلى منتهى الوسائط فكان كل لاحق مخبرا عن موضوع ذي اثر شرعي ووجوب التصديق المترتب على كل سابق اثرا شرعيا لاخبار لاحقه نظير سلسلة الأنواع والأجناس فتكون تلك الوجوبات الطولية المترتبة على الافراد الطولية بين ما هو اثر وموضوع محض كوجوب التصديق المترتب على قول الصفار الحاكي عن الإمام (عليه السلام) وبين ما هو حكم محض كوجوب التصديق المترتب على منتهى السلسلة وهو خبر الشيخ وبين ما فيه الجهتان باعتبارين كوجوب التصديق المترتب على قول المفيد فإنه باعتبار حكايته لقول الصدوق يكون حكما وباعتبار حكاية الشيخ عنه يكون اثرا وموضوعا

ص: 124

لوجوب التصديق المترتب على قول الشيخ فينتزع مما هو الحكم محضا أو اعتبارا مفهوم الوجوب مثلا بما هو حاك عن وجوبات متعددة وارادات طولية ، ومما هو اثر محضا أو اعتبارا مفهوم الأثر كذلك فيسند ذلك الحكم السنخي إليه بمثل قوله رتب الأثر على الخبر وعليه فيرتفع هذه الشبهة أيضا « فتدبر » ( نعم ) لو اغمض عما ذكرنا لا يتجه الجواب عنها بأنه بناء على أن المجعول في باب الطرق هي الطريقية والوسطية في الاثبات لا مورد لهذا الاشكال كي يحتاج إلى التفصي عنه ( فان ) المجعول في جميع السلسلة انما هو تتميم الكشف والطريقية إلى ما تؤدي إليه فكان كل لاحق طريقا إلى سابقه إلى أن ينتهى إلى قول الحاكي لقول الإمام (عليه السلام) ( إذ فيه ) ان الغرض من تتميم الكشف والوسطية في الاثبات ان كان هي الوسطية لاثبات اثر المؤدى ، فبعد ما لم يكن للمؤدى اثر غير تتميم الكشف « يبقى » الاشكال بحاله بأنه كيف يشمل تتميم الكشف نفسه « وان كان » الغرض وسطيته لاثبات اثر آخر السلسلة فلا يحتاج إلى شمول الدليل للوسائط واثبات حجيتها بتتميم الكشف فيها بل يقال بكفاية تتميم كشف أول السلسلة وحجيته لاثبات مضمون آخر السلسلة مع أنه كما ترى لا يمكن الالتزام به وعليه ينحصر التفصي عن الشبهة بما ذكرناه من البيان « ومن الاشكالات » ان المسألة أصولية فلا يكتفي فيها بالظن والظهور اللفظي لا يفيد الا مجرد الظن ومثله لا يكتفي به في المسألة لاثبات حجية خبر الواحد « وأورد عليه » الشيخ قدس سره بان الأصول التي لا يتمسك فيها بالظن مطلقا هي أصول الدين لا أصول الفقه والظن الذي لا يتمسك به في الأصول مطلقا هو مطلق الظن وظاهره اعتبار الظن الخاص في الفقه والأصول وهو كما افاده قدس سره ولذلك لم يفرق أحد ممن يقول بحجية الخبر الواحد والظهورات اللفظية بين المسائل الفرعية والأصولية كالاستصحاب ونحوه ولكن لا مجال لتخصيص حجية الظن المطلق بالفروع ونفي اعتباره في أصول الفقه لان الظن المطلق الذي ثبت اعتباره بدليل الانسداد لا يفرق فيه بين المسائل الأصولية والفرعية خصوصا على مختاره قده هناك كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى.

« ومن الآيات التي استدل بها » على حجية خبر الواحد قوله سبحانه في سورة البراءة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا

ص: 125

رجعوا إليهم لعلهم يحذرون « وتقريب » الاستدلال بها من وجوه « الأول » ان كلمة لعل بعد انسلاخها عن معنى الترجي المستحيل في حقه سبحانه ظاهرة في الطلب ومحبوبية مدخولها وهو يلازم وجوب الحذر في المقام « اما » عقلا كما ذكره صاحب المعالم قدس سره من أنه لا معنى لحسن الحذر ندبا لأنه مع قيام المقتضي له يجب الحذر ومع عدمه لا يحسن للجزم بعدم العقوبة عند عدم تمامية الحجية « واما » شرعا للاجماع المركب لان كل من قال بحسنه قال بوجوبه فلا قائل بالفصل بينهما « الثاني » ان الحذر غاية للانذار الواجب الذي هو أيضا غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة لولا التحضيضية وغاية الواجب إذا كان من الأفعال الاختيارية واجبة لا محاله لان عدم وجوبها ملازم لجواز تركها وهو ينافي كونه غاية للنفر الواجب ( الثالث ) استلزام ايجاب الانذار لايجاب الحذر للزوم لغوية ايجاب الانذار بدونه كما في اية حرمة كتمان النساء ما في أرحامهن ، حيث استدلوا بهذه الآية على وجوب تصديق المرأة وقبول قولها في العدة فرارا عن لزوم اللغوية بدونه فيستفاد حينئذ من ايجاب الانذار وجوب التصديق فتدل الآية على حجية خبر الواحد وهو المطلوب ( ولكن ) يمكن المناقشة في الوجوه المزبورة ، اما الأول فبما مر منا في مبحث الأوامر وغيره من أن مثل أدوات الترجي والتمني والاستفهام ونحوها موضوعة لمعانيها الايقاعية الانشائية التي يوقعها المتكلم ، تارة عن داعي وجود هذه الصفات حقيقة في نفس المتكلم ، وأخرى عن داع آخر غيره والمستحيل في حقه سبحانه انما هو الأول ، وعليه لا يكون لكلمة لعل دلالة وظهور في الطلب ومطلوبية الحذر حتى يقال بوجوبه من جهة الاجماع المركب أو البرهان المزبور « واما ما أفيد » من أن كلمة لعل مهما تستعمل تدل على أن ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها سواء كان من الأفعال الاختيارية أم من غيرها ولازمه في فرض اختيارية كونه محكوما بحكم ما قبلها وجوبا أو استحبابا « فيدفعه » منع الكلية المزبورة لاستعمال هذه الكلمة في غير ما ذكر كما في قوله ( لا تهن الفقير علك ان تركع والدهر قد رفعه ) فان من المعلوم عدم كون التالي غاية لعدم الإهانة « وان استعمال » هذه الكلمة في أمثال المقام انما كان لمجرد ابداء الاحتمال بلا اقتضائها لمطلوبية في مدخولها ومن ذلك قولك لا تدخل زيدا في بيتك لعله عدوك

ص: 126

« واما الوجه الثاني » فيما أورده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره من منع اقتضاء الآية لمطلوبية الحذر مطلقا ولو مع عدم حصول العلم للمنذرين بالفتح فإنه لا اطلاق للآية من هذه الجهة وانما اطلاقها مسوق لبيان ايجاب الانذار على المنذرين بالكسر بما هو الواقع من الأحكام الشرعية لا لبيان وجوب الحذر والقبول مطلقا فيمكن حينئذ ان يكون مطلوبية الحذر عند الانذار منوطا بحصول العلم فالمعنى انه يجب الانذار بالواقع لعله يحصل لهم العلم بالواقع فيحذرون كما يشهد لذلك استشهاد الإمام (عليه السلام) بتلك الآية على وجوب النفر لمعرفة الامام وانذار المتخلفين بما رأوه من اثار الإمامة ( كما ) في صحيحة يعقوب بن شعيب قال قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إذا حدث على الامام حدث كيف يصنع الناس قال (عليه السلام) أين قول اللّه عز وجل فلولا نفر الخ ثم قال هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم ( وصحيح ) عبد الاعلى ومحمد بن مسلم وغيرها من الاخبار المتضمنة لاستشهاد الإمام (عليه السلام) بهذه الآية على وجوب النفر لمعرفة الامام ووجوب انذار المتخلفين مع وضوح عدم ثبوت الإمامة الا بالعلم فان في ذلك شهادة على ما ذكرنا من عدم تكفل الآية لاثبات مطلوبية الحذر مطلقا ( بل ) يؤيد ذلك التعبير بالطائفة لان الطائفة عبارة عن الجماعة ومن المعلوم ان اخبار الجماعة بشيء يوجب عادة العلم بذلك الشيء فوجوب الحذر عليهم حينئذ انما كان لحصول العلم للمنذرين وعليه لا دلالة في الآية على حجية خبر غير العلمي ( والاشكال ) عليه بأنه يتم إذا أريد من الجمع في قوله تعالى ليتفقهوا وقوله تعالى ولينذروا هو انذار مجموع النافرين من حيث المجموع واما بناء على ما هو الظاهر من إرادة الجمع الاستغراقي الافرادي فلا يبقى موقع لهذا الاشكال ( مدفوع بان ) كون الجمع في تلك الفقرات على نحو العموم الاستغراقي لا المجموعي لا يقتضى الا وجوب الانذار على كل واحد واما كون موضوع الوجوب اخبار كل فرد حتى في حال الانفراد فيتوقف على اطلاق حالي بالنسبة إلى ذلك وبعد فرض اهمال الآية من هذه الجهة لا يكفي مجرد وجوب الانذار على كل واحد بنحو الاستغراق لاثبات اطلاق الآية من تلك الجهة الا إذا فرض كون المراد من الآية وجوب انذار كل واحد من النافرين لطائفة من المتخلفين فإنه يلازم الاطلاق من تلك الجهة

ص: 127

واثبات مثله من الآية محل منع ( نعم ) لو تم ذلك لا مجال لاحتمال التقييد بصورة إفادة العلم للزوم حمله على النادر ( وبذلك البيان ) ظهر الجواب عن الوجه الثالث إذ محذور اللغوية انما يتوجه إذا كان المراد انذار كل واحد من المتفقهين لطائفة خاصة من المنذرين بالفتح لا انذار كل واحد لكل واحد من أشخاص المتخلفين إذ عليه لا يلزم من عدم وجوب القبول في فرض عدم حصول العلم محذور لغوية ايجاب الانذار لامكان ان يكون ذلك من باب اظهار الحق ليتم به الحجة على المنذرين بالفتح لاستلزامه عادة حصول العلم بالواقع لأجل كثرة المنذرين أو احتفاف الانذار بالقرينة الموجبة لذلك ( وبذلك ) ظهر وجه الفرق بين المقام وبين مسألة تحريم كتمان ما في الأرحام على النساء فان قول المرأة واخبارها بنفسه لما كان غير موجب بحسب العادة للعلم بالواقع يستفاد من اطلاق تحريم الكتمان عليهن وجوب القبول للزوم اللغوية بدونه ( وهذا ) بخلاف المقام حيث إنه لا يلزم منه هذا المحذور بعد فرض امكان حصول العلم عادة من انذار المنذرين وتراكم انذاراتهم ( هذا ) مضافا إلى ما أورده الشيخ قدس سره من أن وجوب الحذر انما يكون عقيب الانذار بما تفقه والتفقه عبارة عن العلم بأحكام الدين من الواجبات والمحرمات الواقعية ، فلابد في وجوب الحذر عقيب الانذار من أن يكون المنذر بالفتح عالما بان انذار المنذر كان بالمحرمات والواجبات الواقعية والا فلا يجب عليه الحذر فيختص اعتبار قول المنذر بما إذا حصل العلم للمنذر بالفتح بالحكم الشرعي من قوله وانذاره ( والاشكال عليه ) بان الآية حسب اقتضائها لتتميم الكشف تدل على كون ما انذر به المنذر من الاحكام الواقعية لكونه نتيجة حجية قول المنذر وطريقيته شرعا كما في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق ( مدفوع ) بأنه يتم ذلك في فرض ثبوت حجية قول المنذر بدليل آخر يقتضى تتميم كشفه والا فلا يمكن اثبات جهة الكاشفية والمحرزية لقول المنذر بنفس دلالة الآية على وجوب الحذر لما يلزمه من محذور الدور لتوقف وجوب القبول على احراز كون ما انذر به من الاحكام الواقعية وتوقف ذلك على محرزية قول المنذر وكاشفيته المتوقف على وجوب الحذر والقبول ( فتأمل ) هذا ثم إن الشيخ قده أورد على التمسك بالآية اشكالا آخر بما حاصله ان الانذار الذي رتب عليه وجوب الحذر

ص: 128

ليس مطلق الاخبار عن الحكم وانما هو عبارة عن الاخبار المشتمل على التخويف الناشئ من اعمال الرأي والاجتهاد في فقه الاحكام من مفاد الاخبار الصادرة عن الحجج (عليه السلام) « ومن » المعلوم ان الحذر الواجب عقيب هذا الانذار انما يناسب حجية فتوى المجتهد لا حجية الخبر الحاكي عن قول الإمام (عليه السلام) لان وظيفة الراوي ليست الا مجرد حكاية الرواية بألفاظها أو بمضمونها وقضية حجيته ليس الا وجوب تصديقه فيما يحكيه عن الامام لا الحذر عند تخويفه وانذاره إذ ليس لفهم الراوي بتضمن الرواية للتحريم أو الوجوب الموجبين للخوف مدخلية في وجوب الحذر لعدم حجية فهمه بالنسبة إلى المنقول إليه كي يجب عليه الحذر وانما ذلك منوط وجودا وعدما مدار فهم المنقول إليه ونظره ، وهذا بخلاف فتوى الفقيه ، فان الحجة فيه بالنسبة إلى المقلد انما هو رأى المجتهد واعتقاده وان حجية اخباره من جهة كشفه عن رأيه الذي هو الحجة عليه وحيث انه رتب وجوب الحذر على الانذار الذي هو الاخبار المتضمن للتخويف بما تفقه يلزمه الاختصاص لا محالة بمقتضى المناسبة بمقام حجية الفتوى ووجوب التقليد لا بمقام حجية الخبر ، ومن ذلك استدل جماعة بهذه الآية على وجوب الاجتهاد كفاية ووجوب التقليد على العامي ( وأورد ) عليه بان الانذار وان كان هو الاخبار المشتمل على التخويف الا انه أعم من الصراحة والضمنية فإنه يصدق الانذار على الاخبار المتضمن للتخويف ضمنا وان لم يصرح به المنذر والا لم يصدق على فتوى المفتى أيضا لأنه ليس في الافتاء بالوجوب أو الحرمة تصريح بالتخويف فيشارك الفتوى حينئذ مع الرواية في أن كلا منهما يشتمل التخويف ولو ضمنا ومعه لا يبقى مجال لتخصيص الآية بمقام الفتوى « وفيه » ان مبنى تخصيص الآية بالفتوى ليس من جهة دعوى كون الانذار هو الاخبار المشتمل على التخويف كي يجاب عنه بان التخويف يعم التخويف الضمني ، وانما ذلك من جهة احتياج الانذار والتخويف إلى تفقه المنذر بالكسر والتفاته إلى لازم تخويفه وعنوانه ومثله لا يصدق على العامي الذي يحكى لمسموعاته عن الإمام (عليه السلام) ومع فرض صدقة لا يكون فهمه تضمن الرواية الوجوب أو الحرمة المستتبعين لاستحقاق العقوبة على المخالفة حجة على المجتهد ليجب الحذر عقيب انذاره ، وانما ذلك منوط بفهم المنقول إليه كما هو ظاهر ( ومن الآيات ) قوله سبحانه ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات

ص: 129

والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون « تقريب » الاستدلال بها كما في الآية السابقة ان وجوب الاظهار يلازم وجوب القبول حذرا عن اللغوية « وفيه » ان سوق الآية انما هو في أصول العقائد ردا على أهل الكتاب الذين أخفوا شواهد النبوة وبيناته وكتموا علائم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي بينها اللّه سبحانه لهم في الكتب السالفة ، فلا نرتبط بما نحن بصدده وعلى فرض التعميم « نقول » انه من المحتمل قويا ان يكون وجوب الاظهار عليهم لأجل رجاء وضوح الحق بسبب اخبارهم من جهة حصول العلم لهم لأجل تعدد المظهرين كما يقتضيه ظهور سوقها في أصول العقائد التي لا يكتفي فيها بغير العلم « نعم » لو كان للآية اطلاق يقتضي وجوب الاظهار عليهم ولو في فرض عدم إفادته للعلم بالواقع أمكن التمسك بها على وجوب القبول بمقتضى ما ذكر من الملازمة ولكن الشأن في اثبات هذه الجهة « ومن الآيات » قوله سبحانه فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ، بتقريب ان وجوب السؤال يلازم وجوب القبول للزوم اللغوية بدونه وخصوصية المسبوقية بالسؤال غير معتبرة في وجوب القبول للاجماع فتعم القول الابتدائي فثبت المطلوب ( وفيه ) مضافا إلى ورود الآية في أصول العقائد التي لا يكتفي فيها بغير العلم لظهورها بمقتضى السياق في إرادة علماء أهل الكتاب والسؤال منهم فيما يرجع إلى علائم النبوة المكتوبة في كتبهم السماوية « والى ما ورد » من النصوص في تفسير أهل الذكر بالأئمة المعصومين ، كخبر الوشا سئلت الرضا (عليه السلام) عن قوله فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فقال (عليه السلام) نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون فقلت فأنتم المسؤولون ونحن السائلون فقال ( نعم ) قلت حق علينا ان نسئلكم قال نعم قلت حق عليكم ان تجيبونا قال (عليه السلام) لا ذاك إلينا ان شئنا فعلنا وان شئنا لم نفعل اما تسمع قول اللّه عز وجل هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ( انه لا شبهة ) في أن المتبادر من مثل هذه الجملة إرادة وجوب السؤال لتحصيل العلم بالواقع كما يقال لمن ينكر شيئا لعدم العلم به سل فلانا ان كنت لا تعلم ( فالمراد ) فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون حتى تعلمون لا وجوب السؤال للعمل بالجواب تعبدا ( اللّهم ) الا ان يقال انه بعد شمول اطلاق الآية الشريفة للسؤال عن الواحد من أهل الذكر الذي لا يفيد قوله للعلم بالواقع يستفاد

ص: 130

من الآية تكفلها لتطبيق العلم والمعرفة على المورد بنفس شمولها لقول الواحد من أهل الذكر ، فتكون من هذه الجهة نظير اطلاق العلم والمعرفة على ظواهر الكتاب في رواية عبد الاعلى بقوله (عليه السلام) يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عز وجل فلا ينافي دلالتها على حجية خبر الواحد ظهورها في السؤال لتحصيل العلم بالواقع مضافا إلى أنه يتوجه عليها ما أوردناه في الآية السابقة من اختصاصها بباب التقليد لظهورها في السؤال عن أهل الذكر والعلم بما هم أهل الذكر والعلم عما هم عالمون به ومن المعلوم ان مثل ذلك انما يناسب مقام الفتوى وحجية الرأي لا مقام الرواية ونقل مسموعاته ومبصراته الخارجية ، فان السؤال عما يرجع إلى مقام المسموعات والمبصرات الخارجية لا يكون سؤالا من أهل العلم والذكر بما هم كذلك عما هم عالمون به وان كان شخص المسؤول أيضا من أهل العلم ( وعليه ) لا وجه للمناقشة في ذلك بفرض كون الراوي من أهل النظر والاجتهاد فإذا وجب التعبد بقوله بحكم الآية يتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل ، إذ مجرد فرض كون المسؤول من أهل العلم لا يقتضى كون السؤال عما يرجع إلى مبصراته ومسموعاته الخارجية سؤالا عما صار لأجله من أهل العلم والذكر فتدبر « ومن الآيات » قوله تعالى في سورة البراءة ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن قل اذن خير لكم يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين ( بتقريب ) انه سبحانه مدح نبيه صلی اللّه علیه و آله بتصديقه للمؤمنين وقرنه بالتصديق باللّه ، فإذا كان التصديق حسنا يكون واجبا ، إذ لا قائل بالفصل وبذلك يتم المطلوب وهو حجية خبر الواحد وفيه منع كون المراد من التصديق في الآية هو التعبد بثبوت المخبر به وترتيب الأثر عليه ( وانما ) هو بمعنى مجرد اظهار القبول وعدم المبادرة إلى تكذيب المخبر فيما يخبر به والانكار عليه ، كما يشهد له تكرار لفظ الايمان وتعديته في الأول بالباء وفى الثاني باللام ، كما أن المراد بالاذن فيها أيضا هو ما ذكرنا لأنه هو الذي يكون خيرا لجميع الناس دون المعنى الأول ( لا ان ) المراد منه هو سريع الاعتقاد ( كيف ) وان ذلك لا يناسب مقام النبوة ، فضلا عن كونه كمالا له وموجبا لمدح اللّه سبحانه إياه ( فكانت ) الآية المباركة في مقام بيان آداب المعاشرة مع الناس من اظهار القبول فيما يقولون وعدم المبادرة إلى تكذيبهم والانكار عليهم لما فيه من أدائه إلى العداوة والبغضاء

ص: 131

فيما بينهم مع العمل بما تقتضيه المصلحة من الاحتياط حسب ما يقتضيه المقام ( فمدحه سبحانه ) نبيه انما كان من اجل هذه الجهة حيث إنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من جهة محاسن أخلاقه ورأفته بالأمة لم يكن يبادر إلى تكذيب من يخبره بخبر يعلم بكذبه « بل » كان يظهر له القبول من غير ترتيب اثر عملي على اخباره ( كما قيل ) في سبب نزول الآية انه نم منافق وهو الجلاس بن سويد أو نبتل بن الحرث على النبي صلی اللّه علیه و آله فأخبره اللّه سبحانه بذلك فلما أحضره وسئله عما قال حلف انه لم يقل شيئا فقبل منه النبي صلی اللّه علیه و آله فاخذ المنافق يطعن على النبي ويقول إنه اذن يقبل كلما يسمع اخبره اللّه تعالى اني قلت كذا فقبل وأخبرته اني لم أقل شيئا فقبل فرده اللّه تعالى بقوله قل اذن خير لكم ( فان ) من المعلوم بالضرورة ان تصديقه صلی اللّه علیه و آله لذلك المنافق لم يكن الا صوريا لا حقيقا ( والى ما ذكرنا ) أيضا يشير قوله (عليه السلام) يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك فان شهد عندك خمسون قسامه انه قال قولا وقال لم أقله فصدقه وكذبهم حيث إن تصديق الأخ في هذه الرواية وتكذيب خمسين ليس الا بالمعنى الذي ذكرنا من كونه مجرد اظهار القبول لا بالمعنى الذي يراد في العمل بخبر الواحد كما هو ظاهر ( واما الرواية ) المتضمنة لقصة إسماعيل من قوله (عليه السلام) إذا شهد عندك المسلمون فصدقهم وتوبيخه على ابقاء الدنانير عند الرجل القرشي والحث على اخذها منه ( فإنما ) هو لأجل عدم الاخذ بالاحتياط واستيمانه من أخبر بأنه يشرب الخمر لا بمعنى ترتيب آثار الواقع.

( واما السنة فهي على طوائف ) منها الاخبار العلاجية المتكفلة لحكم الرواية المتعارضة من الترجيح بالشهرة والشذوذ وبموافقه الكتاب والسنة وبمخالفة العامة حيث إنها ظاهرة الدلالة بالملازمة في حجية خبر الواحد في نفسه عند عدم ابتلائه بالمعارض ( ومنها ) الأخبار الكثيرة الواردة في ارجاع الأئمة علیهم السلام إلى الصحابة ونقلة الأحاديث ( منها ) ما رواه محمد بن سنان عن الفضل بن عمر ان أبا عبد اللّه (عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس مشيرا إلى زرارة بن أعين ( ومنها ) خبر يونس بن عمار ان أبا عبد اللّه (عليه السلام) قال اما ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) فلا يجوز لك ان ترده ( ومنها ) قوله (عليه السلام) في رواية عبد الحميد رحم اللّه زرارة بن أعين لولا زرارة ونظرائه لاندرست

ص: 132

أحاديث أبي « ومنها » قوله (عليه السلام) لابن أبي يعفور بعدما سئله عمن يرجع إليه إذا احتاج فما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي فإنه سمع من أبي وكان عنده وجيها « ومنها » خبر أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) قال سئلته وقلت من أعامل وعمن آخذ وقول من اقبل فقال (عليه السلام) العمرى ثقة فما أدى إليك عنى فعنى يؤدى وما قال لك عنى فعنى يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون قال وسئلت أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك فقال (عليه السلام) العمرى وابنه ثقتان فما أديا إليك عنى فعنى يؤديان وما قالا لك فعنى يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان الحديث « ومنها رواية » على بن المسيب الهمداني قال قلت للرضا (عليه السلام) شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني فقال (عليه السلام) من ذكر يا بن آدم القمي المأمون على الدين والدينا « ومنها » خبر ابن أبي عمير بن شعيب العقرقوقي قال قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) ربما احتجنا ان نسأل عن الشيء فمن نسئل قال (عليه السلام) عليك بالأسدي يعنى أبا بصير « ومنها » ما في مكاتبة على بن سويد السائي إلى أبى الحسن (عليه السلام) واما ما ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا فإنك ان تعديتهم اخذت دينك عن الخائنين الحديث ( ومنها ) ما رواه مسلم بن أبي حبة قال كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) في خدمته فلما أردت ان أفارقه ودعته وقلت أحب ان تزودني فقال (عليه السلام) ائت أبان بن تغلب فإنه قد سمع منى حديثا كثيرا فما رواه لك فاروه عنى ( ومنها ) خبر عبد العزيز بن المهتدي قال قلت للرضا (عليه السلام) ان شقتي بعيده فلست أصل إليك في كل وقت فاخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين قال (عليه السلام) نعم « ومنها » خبره الاخر عن الرضا (عليه السلام) قال قلت لا أكاد أصل إليك أسئلك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني افيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني فقال (عليه السلام) ( نعم ) « ومنها » قوله (عليه السلام) في خبر آخر لعبد العزيز بعد أن سئله عمن يأخذ معالم دينه خذ عن يونس بن عبد الرحمن ( ومنها ) ما في التوقيع على القسم بن علا فإنه لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا قد عرفوا بانا نفاوضهم سرنا ونحمله إليهم ( ومنها ) قوله (عليه السلام) في مكاتبه أحمد بن حاكم ابن ماهويه وأخيه اعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا

ص: 133

( ومنها ) ما في كتاب الغيبة للشيخ واكمال الدين للصدوق والاحتجاج للطبرسي من قول الحجة عجل اللّه فرجه واما الحوادث الوقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ( ومنها ) ما دل على الحث والترغيب في الرواية وتدوينها إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على وجوب الرجوع إلى الثقات من رواة الحديث في اخذ معالم الدين ( ولا يخفى ) ان التواتر المدعى في تلك الأخبار وان لم يكن لفظيا الا انه يكون معنويا لوضوح كون الجميع بصدد بيان معنى واحد وهو حجية قول الثقة ووجوب العمل على طبقه بل وظاهر بعضها هو كون وجوب العمل بخبر الثقة أمرا مركوزا عندهم بحيث كان من المسلمات عند أصحاب الأئمة ولذلك وقع السؤال فيها عن الموضوع وهو كون الراوي ثقة أو غير ثقة ، كما في خبر عبد العزيز المتقدم ، وربما يشهد لذلك أيضا تعليله (عليه السلام) في خبر أحمد بن إسحاق بعدما ارجع إلى العمري وابنه بقوله انهما الثقتان المأمونان وحينئذ فلا ينبغي الارتياب في حجية خبر الثقة ووجوب الاخذ به ( ثم إن الثقة ) في تلك الأخبار وان كانت ظاهرة في العدالة بل أعلى درجتها ( ولكن يمكن ) دعوى عدم اعتبار وصف العدالة في الراوي في حجية روايته وان مدار الحجية انما كان على حيث الوثوق في نقل الرواية بنحو يضعف فيه احتمال الكذب بحيث لا يعتني به العقلاء وان التعبير بالمامونية في الدين والدينا انما هو من جهة كونه ملزوما للوثاقة في الحديث لا من جهة مدخلية لخصوصية المأمونية في الدين في الراوي في حجية روايته ( كما يشهد ) لذلك ما ورد منهم (عليهم السلام) من الامر بالأخذ بكتب بنى فضال بقوله (عليه السلام) خذوا ما رووا وذروا ما راو ، وما ورد من الاخذ بما روته العامة عن علي (عليه السلام) ، ومثل مرفوعة الكناني عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله سبحانه « ومن يتق اللّه الخ » ان هؤلاء قوم من شعيتنا ضعفاء وليس عندهم ما يحملون به إلينا فيسمعون حديثنا ويفتشون من علمنا فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلبوا إليهم فيعيه أولئك ويضعه هؤلاء فأولئك الذين يجعل اللّه لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون الخبر ( حيث ) ان فيه دلالة على جواز العمل بقول الثقة وان كان المخبر ممن يضيعه ولا يعمل به ( ولا ينافي ) ذلك ما ورد من حصر المعتمد في الشيعة

ص: 134

والمسن في الدين وفي حبهم فإنه محمول على وثاقتهم في الحديث وعدم تطرق احتمال الكذب في حقهم احتمالا يعتنى به العقلاء في قبال غيرهم ممن يتطرق في نقله تعمد الكذب على ما يشهد له التعليل الوارد في النهى عن اخذ معالم الدين من غير الشيعة بقوله (عليه السلام) فإنك ان تعديتهم اخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم انهم ائتمنوا على كتاب اللّه عز وجل فحرفوه وبدلوه فلعنة اللّه ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي عليهم إلى يوم القيمة الخبر ( حيث ) ان فيه دلالة واضحة على أن المنع عن اخذ معالم الدين منهم انما هو من جهة كونهم خائنين غير الموثقين في نقل الحديث من جهة تطرق احتمال تعمد الكذب في حقهم ( لا انه ) من جهة مجرد كونهم من غير الشيعة ولو مع كونهم موثقين في نقل الحديث ومتحرزين عن تعمد الكذب غاية التحرز فتأمل ( ومن ذلك ) ترى بناء الأصحاب رضوان اللّه عليهم على العمل بالخبر الموثوق به ولو من غير الشيعة إذا علموا بان الراوي سديد في نقل الرواية ومتحرز عن الكذب وكان ممن لا يطعن في روايته وان كان مخطئا في اعتقاده وسالكا غير الطريقة المستقيمة التي سلكها الشيعة والفرقة المحقة كأخذهم بروايات حفظ بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج وغيرهم من العامة وكذا اخذهم باخبار جماعة من الفطحية وغيرها كعبد اللّه بن بكير وسماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة البطائني اللعين الشقي وكتب بنى فضال ونحوهم ممن عرف منهم كونهم موثقين في نقل الحديث ( وناهيك ) في ذلك حديث النبوي المعروف على اليد ما اخذت المستدل بها في أبواب المعاملات ( مع أن ) من المعلوم انه لم يروه أحد من رواتنا الامامية ولا كان موجودا في شيء من جوامعنا ( وانما ) هو مروى في كتب العامة بطرقهم المنتهية إلى سمرة بن جندب الشقي عمن هو مثله فان ذلك شاهد صدق لما ذكرنا من أن مدار الحجية عندهم على مجرد كون الخبر موثوق الصدور عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الأئمة بنحو يضعف فيه احتمال الكذب ضعفا لا يعتنى به العقلاء بنحو يعد المعتنى به من الوسواسين ( لا ان ) مدار الحجية عندهم على عدالة الراوي وحينئذ فلا اشكال في دلالة تلك الأخبار على حجية خبر الموثوق به صدورا أو مضمونا كما يدل على الأول الترجيح بالشهرة والشذوذ وبعدالة الراوي ووثاقته وعلى

ص: 135

الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة « ثم إن هذا كله » بناء على ثبوت التواتر المعنوي للاخبار المزبورة « واما بناء » على المنع عنه فلا أقل من تواترها اجمالا ولازمه وان كان هو الاقتصار في الحجية على الأخص مضمونا منها وهو ما اجتمع فيه الوصفان أي العدالة والوثاقة « ولكنه » يمكن دعوى نهوض ما اجتمع فيه الوصفان من تلك الأخبار على حجية مطلق الخبر الموثق الذي يضعف فيه احتمال الخلاف ومعه يئول الامر بالآخرة أيضا إلى حجية خبر الموثق ( نعم ) لو منعنا من ذلك أيضا فلابد من الاقتصار في الحجية على خصوص ما اجتمع فيه الوصفان من الاخبار لا التعدي عنها إلى غيرها.

واما الاجماع فتقريره من وجوه ( الأول ) اتفاق الأصحاب طرا عدى السيد واتباعه على حجية خبر الواحد ، كما يظهر ذلك بالتتبع في فتاوى الأصحاب وكلماتهم وملاحظة الاجماعات المنقولة في ذلك ، حيث يعلم من ذلك كله كونهم مطبقين على حجية خبر الواحد خصوصا بالنسبة إلى الاخبار المدونة فيما بأيدينا من الكتب المعروفة « ولا يعارضها » الاجماع المدعى في كلام السيد قده على المنع ( لامكان ) حمل ما ادعاه السيد على الاخبار التي روته العامة في كتبهم بطرقهم غير النقية في المسائل التي روى أصحابنا الامامية خلافها كما لعله ليس ببعيد لابتلائه قده في زمانه بالعامة واخبارهم ، حيث إنه قده لعدم تمكنه من رد اخبارهم الخالية عن شواهد الصدق والتصريح بذلك والطعن عليهم « احتاج » في التخلص عن ذلك إلى دعوى الاجماع على المنع عن العمل باخبار الآحاد ( أو حمل العلم ) الذي يدعيه قده في العمل بالاخبار على الوثوق والاطمينان الذي يسكن به النفس المعبر عنه بالعلم العادي كما يشهد بذلك ما حكى عنه في تعريف العلم بأنه ما يقتضى سكون النفس ولقد صرح بذلك أيضا المحدث الاسترآبادي في الفوائد المدنية حيث إنه قده بعد أن ادعى قطعية صدور ما بأيدينا من الاخبار المودعة في الكتب الأربعة قال في كلام له بعد ذلك ما حاصله ان مرادنا من العلم واليقين هو ما يشمل العلم العادي الذي يقتضي سكون النفس دون اليقين الذي لا يقبل الاحتمال فراجع ، فمراد السيد من القرائن التي أوردها في عبارته هي مطلق ما يوجب الوثوق والاطمينان بالصدور الموجب لسكون النفس ولو كان من الأمور الخارجية قبال القول بحجية

ص: 136

خبر الواحد تعبدا ولو مع خلوه عن إفادة الوثوق ، وعليه يرتفع التهافت والتدافع بينه وبين الشيخ في دعويهما الاجماع « مع امكان » ان يقال ان انكار السيد ومنعه عن العمل باخبار الآحاد غير العلمية انما هو لعدم احتياجه إلى الاخبار المجردة عن القرائن القطعية بلحاظ انفتاح باب العلم لديه ومعلومية معظم الفقه عنده بالضرورة والاجماع القطعي وبالاخبار المتواترة « كما يشهد » له قوله في الجواب عما اعترض على نفسه بقوله فان قلت إذ سددتم طريق العمل باخبار الآحاد فعلى اي شيء تعولون في الفقه كله ، قلت إن معظم الفقه يعلم بالضرورة وبالاخبار المتواترة وما لم يتحقق ذلك فيه ولعله الأقل يعول فيه على اجماع الامامية وما يبقى من المسائل الخلافية يرجع فيها إلى التخيير « حيث إنه يفهم من ذلك تسليمه قده وجوب العمل باخبار الآحاد والتعويل عليها في الفقه في فرض انسداد باب القرائن المفيدة للعلم « الثاني » وهو الاجماع العملي فيظهر أيضا من اتفاق الأصحاب عملا على الاستناد في مقام الاستنباط والفتوى بتلك الأخبار المدونة فيما بأيدينا من الكتب في أبواب الفقه ولا يضره اختلاف وجه استناد كل طائفة لما تقدم في أول البحث من أن ذلك منهم انما هو من قبيل بيان العلل بعد الوقوع وتطبيق كل طائفة ما هو المسلم لديه ولدى الكل على وجه وقاعدة مخصوصة بحيث لو التفتوا إلى بطلان مستندهم لم يرفعوا اليد عن فتواهم بالحجية وتمسكهم بالروايات في أبواب الفقه ( الثالث ) السيرة وتقريرها تارة بإضافتها إلى المسلمين بما هم مسلمون وأخرى بإضافتها إلى العقلاء بما هم عقلاء وقد يعبر عن الأول بالسيرة وعن الثاني ببناء العقلاء وطريقتهم اما تقريب السيرة فبدعوى استقرار طريقة المسلمين من حيث كونهم متشرعين على العمل باخبار الآحاد فيما يرجع إلى أمور دينهم وهي على فرض تحققها لا اشكال في حجيتها والاعتماد عليها لكشفها لا محالة عن رضاء الشارع بذلك لأنه من المستحيل استقرار السيرة المزبورة من المسلمين من حيث كونهم متدينين على امر من تلقاء أنفسهم من دون جعل شرعي فيما قامت السيرة عليه وعلى هذا لا يحتاج في حجيتها إلى اثبات عدم ردع الشارع عنها لوضوح مضادة ردع الشارع لأصل السيرة المزبورة فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم للردع عن مثل هذه السيرة لمضادتها لأصل وجود السيرة فمهما استقرت السيرة المزبورة يستكشف

ص: 137

انه لم يكن لهم رادع شرعي نعم ذلك انما يكون في السيرة العقلائية فإنها بعد عدم مضادتها وجودا مع الردع الشرعي يحتاج حجيتها إلى اثبات عدمه واما بناء العقلا على الاعتماد بخبر الثقة والاتكال عليه في أمورهم الشرعية وغيرها مما يرجع إلى مصالحهم الدنيوية فلا شبهة في تحققه بمقتضى ارتكازاتهم والجبلة والفطرة المودعة فيهم والى ذلك يرجع ما في بعض الأخبار المتقدمة من السؤال عن وثاقة الراوي لا عن حكم العمل بقوله وكذا ما ورد في تلك الأخبار من التعليل بالثقة في مقام الارجاع إلى رواة الحديث بل من تلك الأخبار يستفاد كونها طرا في مقام الامضاء لما عليه الطريقة المألوفة العقلائية من جواز العمل بقول الثقة وحجيته في الاحكام لا في مقام تأسيس الحجية وجواز العمل باخبار الثقة بل ويمكن ) اثبات الامضاء أيضا بمعونة عدم الردع إذ لولا رضاء الشارع بها يلزمه ردعهم عما استقر عليه طريقتهم ( والآيات ) الناهية عن العمل بما وراء العلم غير صالحة للردع عن بنائهم بعد كون عملهم به من باب تتميم الكشف وكونه من افراد العلم الموجب لعدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف إذ لا يكاد يرون العمل به حينئذ من باب العمل بغير العلم كي يصلح الآيات للردع عن ذلك فلابد حينئذ في فرض عدم رضائه بذلك من ردعهم ببيان آخر نعم انما تصلح الآيات الناهية للردع إذا لم يكن بنائهم من باب تتميم الكشف واما اشكال الدور فقد عرفت الجواب عنه في طي أدلة النافين.

واما دليل العقل فتقريره من وجوه ( الأول ) العلم الاجمالي بصدور كثير من الاخبار المتضمنة للتكاليف المودعة فيما بأيدينا من الكتب عن الأئمة علیهم السلام بمقدار واف بمعظم الفقه كما يظهر ذلك بمراجعة أحوال الرواة في تراجمهم من حيث شدة اهتمامهم ومواظبتهم على حفظ الأحاديث واخذها من الكتب المعتبرة وتنقيح ما أودعوه في كتبهم لئلا يودع فيها الاخبار المدسوسة المكذوبة على الأئمة (عليهم السلام) حتى أنهم من شدة مواظبتهم في ذلك كانوا غير معتنين باخبار من كان يعمل بالقياس ومتحرزين عمن كان يروى عن الضعفاء أو يعتمد على المراسيل وان كان هو بنفسه من الثقات كما اتفق ذلك بالنسبة إلى البرقي الذي هو من أجلتهم ويشهد لما ذكرنا ما عن علي بن الحسين بن الفضال من أنه لم يرو كتب أبيه معتذرا بأنه يوم مقابلته الحديث مع أبيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالروايات فقرئها

ص: 138

ثانيا على أخويه احمد ومحمد فمن ذلك كله يحصل العلم الاجمالي بصدور كثير من الاخبار المتضمنة للتكاليف عن الأئمة فيما بأيدينا من الاخبار الموجودة بل جلها الا ما شذ ومثل هذا العلم الاجمالي موجب لانحلال العلم الاجمالي الكبير بثبوت تكاليف كثيرة بين الروايات وسائر الأمارات الظنية كالشهرة والاجماع المنقول ونحوها بما في دائرة خصوص الاخبار والشك البدوي في غيرها كاقتضاء العلم الاجمالي الكبير أيضا لانحلال العلم الاجمالي الأوسع بالتكليف في مجموع الوقايع المشتبهة ( ولازم ) هذا الانحلال هو الاقتصار على خصوص دائرة العلم الاجمالي الصغير ومقتضاه وجوب العمل على طبق جميع الاخبار المثبتة للتكليف مع الامكان وجواز العمل على طبق النافي منها لو لم يكن هناك أصل مثبت للتكليف من استصحاب ونحوه ومع عدم امكانه فالواجب هو الاخذ بما ظن صدوره منها ( هذا ولكن ) ( أورد عليه ) الشيخ قده أولاً بمنع انحلال العلم الاجمالي الكبير لأنه كما أن العلم الاجمالي بالتكليف حاصل في خصوص ما بأيدينا من الاخبار كذلك العلم الاجمالي حاصل لنا في مجموع الاخبار وسائر الأمارات الظنية الاخر من الشهرة والاجماع المنقول وغيرها بحيث عند التأمل كان الحاصل علمان ومعلومان بلا عنوان أحدهما متعلق بما في دائرة الاخبار والاخر بمجموع الأمارات الظنية من الاخبار وغيرها فكان سائر الامارات الاخر طرفا للعلم الاجمالي لا خارجا عنه بشهادة بقاء العلم الاجمالي بحاله عند عزل طائفة من الاخبار بمقدار المعلوم بالاجمال وضم سائر الأمارات الظنية إلى البقية فبقاء هذا العلم الاجمالي كاشف عن تعدد العلمين وعدم انحلال أحدهما بما في دائرة الاخر ( ولازمه ) وجوب مراعاة العلم الاجمالي الكبير بالاحتياط أو العمل بالظن في مجموع الأمارات الظنية لا في خصوص الاخبار ( وثانيا ) ان وجوب الاخذ بتلك الأخبار بعد ما كان من جهة تضمنها للتكاليف الواقعية لا بما هي هي ( كان ) اللازم هو الاخذ بما يظن كون مضمونه حكم اللّه ولو من جهة الشهرة لا بما ظن بصدوره ولو لم يحصل الظن بكون مضمونه حكم انه ( وثالثا ) ان أفضى ما يقتضيه الدليل المزبور انما هو وجوب العمل بالاخبار المثبتة للتكليف دون الاخبار النافية له مع أن مجرد وجوب العمل بها ( لا ) يقتضى حجيتها شرعا كي تنهض لصرف ظواهر الكتاب والسنة القطعية لان وجوب العمل بها انما

ص: 139

كان بحكم العقل من باب الاحتياط وهو لا يوجب حجيتها ونهوضها لتخصيص عمومات الكتاب والسنة كما لا يخفى ( أقول ) لا يخفى ان مجرد فرض العلم الاجمالي بالتكليف في سائر الأمارات الظنية وبقية الاخبار بعد عزل طائفة منها ، انما يمنع الانحلال ويقتضي الاحتياط في الجميع ، في فرض تغاير مؤديات الامارات المنضمة مع مضمون الاخبار المعزولة والمعزول منها ، إذ في مثله يكون المعلوم بالاجمال في الامارات المنضمة وبقية الاخبار ، غير ما هو المعلوم بالاجمال في مجموع الاخبار ، فيلزمه الاحتياط في الدائرتين ( واما ) مع احتمال اتحاد مؤدياتها مع الاخبار المعزولة أو الاخبار المعزول منها ( فلا يمنع ) ذلك عن انحلال العلم الاجمالي الكبير بما في دائرة الاخبار ( فان مرجع ) العلمين بعد احتمال اتحاد المعلوم بالاجمال في الأمارات الظنية وبقية الاخبار ، مع المعلوم بالاجمال في مجموع الاخبار ( انما ) هو إلى علم اجمالي بالتكليف في دائرة خصوص الاخبار والشك البدوي في غيرها لكونه من العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ( ومن المعلوم ) ان لازمه هو الانحلال بما في دائرة خصوص الاخبار وعدم وجوب الاحتياط في غيرها ( نعم ) غاية ما يقتضيه العلم الاجمالي المزبور انما هو التخيير عقلا في مقام الاحتياط بين الاخذ بالاخبار تماما ، وبين الاخذ بسائر الأمارات الظنية والاخبار المعزول منها ( حيث ) انه بكل من الامرين يقطع بالفراغ عما ثبت الاشتغال به يقينا ( كما هو ذلك ) أيضا في فرض احتمال اتحاد مؤديات الامارات المنضمة مع خصوص الاخبار المعزول منها ، غير أن التخيير حينئذ بين الاخذ بالاخبار تماما وبين الامارات المنضمة والاخبار المعزولة ( وعلى كل تقدير ) يكون الاخذ بالاخبار تماما موجبا للقطع بتفريغ الذمة عما ثبت الاشتغال به يقينا ( واما توهم ) رجوع العلم الاجمالي المزبور حينئذ إلى المتبائنين لا الأقل والأكثر ، لكونه من قبيل العلم بالتكليف المردد بين تكليف واحد أو تكليفين ، فيجب الاحتياط في الجميع ( فمدفوع ) بأنه كذلك إذا كان المعلوم بالاجمال من باب التكليف المردد بين تكليف واحد في طرف أو تكليفين آخرين في طرف آخر « وليس » المقام كذلك بل انما هو من قبيل التكليف المردد بين تكليف واحد أو تكليفين ، أحدهما هذا التكليف الثابت في هذا الطرف ، وثانيهما تكليف آخر في ذاك الطرف « وما قرع سمعك »

ص: 140

من وجوب الاحتياط انما هو الأول دون الثاني ، لأنه راجع إلى الأقل والأكثر لا المتبائنين « نعم » انما يكون ذلك في فرض تغاير مضمون الامارات المنضمة مع مضمون كل من الاخبار المعزولة والاخبار المعزول منها ، إذ كان مرجع العلمين حينئذ إلى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين تكليف واحد مثلا في دائرة الاخبار المعزولة أو تكليفين آخرين ، أحدهما في الاخبار المعزول منها ، وثانيهما في سائر الأمارات الظنية ، ولذلك قلنا في مثل هذا الفرض بعدم الانحلال ووجوب الاحتياط في الجميع ( نعم ) بناء على الانحلال يتوجه عليه ما افاده قده من الاشكال بان وجوب الاخذ بالاخبار الصادرة بعد أن كان من جهة تضمنها للأحكام الواقعية « كان » اللازم هو الاخذ بالاخبار التي يظن بمطابقة مضمونها للواقع ولو من جهة الشهرة والاجماع المنقول ، وان لم يظن بصدورها « لان العبرة » انما هي بظن مطابقة مضمون الخبر للواقع لا بظن الصدور « واما » ما افاده ثالثا من أن مقتضى التقريب المزبور انما هو مجرد وجوب العمل بالاخبار المثبتة للتكليف ولا يثبت به حجيتها شرعا على وجه تنهض لصرف ظواهر الكتاب والسنة القطعية « فهو » وان كان وجيها « ولكن » نقول انه يترتب عليه حينئذ نتيجة التخصيص والتقييد ، إذ مقتضى أصالة الظهور الجارية في الاخبار الصادرة المعلومة بالاجمال هو خروج العمومات المثبتة والنافية عن الحجية ، لانتهاء الامر فيها إلى العلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر في بعض تلك العمومات والمطلقات من المثبت والنافي « ولازمه » بعد عدم المرجح هو اجراء حكم التخصيص والتقييد عليها لسقوطها بذلك عن الاعتبار « نعم » لو لم يجزم بظهور ما هو الصادر اجمالا بمقدار المعلوم بالاجمال كانت العمومات المثبتة والنافية الجارية في مواردها باقية على حجيتها « لان » رفع اليد عن العمومات والمطلقات تخصيصا أو تقييدا فرع جريان أصالة الظهور في الاخبار الصادرة المعلومة بالاجمال وهو متوقف على احراز موضوعها وهو الظهور « والا فبدونه » لا تجرى أصالة الظهور فيها فتبقى العمومات والمطلقات على حجيتها « واما الأصول » الشرعية والعقلية ، فالنافية منها من الأول غير جارية في أطراف العلم مطلقا ، وان كانت بلا معارض لمانعية العلم الاجمالي عنها « واما الأصول المثبتة » فان كانت عقلية كقاعدة الاشتغال ،

ص: 141

فلا مانع عن جريانها في أطراف العلم الاجمال لعدم تنافيها معه كي يمنع عن جريانها « واما ان كانت » شرعية كالاستصحاب ونحوه ، فهي على المختار وان كانت جارية في جميع أطراف العلم الاجمالي « الا » ان في جريانها في المقام في دائرة الاخبار « اشكالا » نظر إلى ما تقتضيه أصالة الظهور الجارية في الاخبار الصادرة ، حيث إنه من جهة تردد انطباقها في تمام موارد الأصول المثبتة تسقط الجميع عن الاعتبار ، لمكان العلم الاجمالي حينئذ بحكومة تلك الحجج الشرعية على بعض تلك الأصول الجارية في مواردها وتخصيص لا تنقض بالنسبة إليها الموجب لسقوط الجميع بمقتضى عدم المرجح عن الاعتبار « وبهذه الجهة نقول » بعدم صلاحية الاستصحابات المثبتة لانحلال العلم الاجمالي بالاخبار الصادرة وان كانت بضميمة الأصول العقلية للمثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال « نعم » لو بنينا على عدم حجية أصالة الظهور في الاخبار الصادرة المعلومة بالاجمال وان وجه اتباعها من جهة العلم الاجمالي بمطابقة جملة منها للواقع ، أو كانت الأصول المثبتة جارية في بعض الأطراف كان لجريان الأصول المثبتة الشرعية مجال ( إذ ) على الثاني واضح لعدم العلم حينئذ بقيام ظاهر حجة في موارد تلك الأصول من جهة احتمال انطباق ما هو الظاهر الصادر اجمالا في غير مواردها ( وكذلك على الأول ) لان رفع اليد عن الاستصحابات الجارية في مواردها انما هو من لوازم جريان أصالة الظهور في الاخبار الصادرة اجمالا وبعد عدم جريان أصالة الظهور فيها تجرى الأصول المثبتة في مواردها ( ولكن ) الشأن في هذا البناء ، حيث نقول انه مع احراز ظهور ما هو الصادر اجمالا بمقدار المعلوم بالاجمال لا قصور في جريان أصالة الظهور فيها وبجريانها تسقط الأصول عن الاعتبار بمقتضى ما ذكرناه فتدبر « الثاني » من وجوه تقرير دليل العقل ما عن صاحب الوافية من الاستدلال على حجية الاخبار المودعة في الكتب المعتمدة للشيعة « بانا » نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيمة سيما بالأصول الضرورية كالصلاة والزكاة والحج ونحوها وان جل اجزائها وشرائطها وموانعها انما يثبت بالخبر الواحد غير القطعي بحيث لو ترك العمل بالخبر الواحد خرجت هذه الأمور عن حقائقها « ولكن » يرد عليه ما افاده الشيخ قده من أن العلم الاجمالي بثبوت الاجزاء

ص: 142

والشرائط والموانع حاصل في دائرة جميع الاخبار بل جميع الامارات غير العلمية فلا وجه لتخصيصه بالاخبار المدونة في الكتب المزبورة ومجرد العلم الاجمالي في دائرتها أيضا لا يقتضى التخصيص بها فيلزم حينئذ مراعاة الاحتياط في جميع الدوائر لا في خصوص الأخبار المذكورة ( مع أن ) لازم ذلك هو الاخذ بخصوص الاخبار المثبتة لهذه الأمور لا ما يعم النافية لها خصوصا إذا كان في قبالها أصل مثبت للتكليف ( الثالث ) من وجوه تقرير دليل العقل ما ذكره بعض المحققين في حاشيته على المعالم لاثبات حجية خصوص الظن الحاصل من الخبر وملخص ما افاده هو ان وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالاجماع والضرورة والأخبار المتواترة وبقاء هذا التكليف أيضا ثابت بالنسبة إلينا بالأدلة المذكورة وحينئذ ان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بالحكم أو الظن الخاص فهو والا فالمتبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما بالحكم ( وفيه ) ان المقصود ان كان وجوب العمل بالاخبار المدونة في ما بأيدينا من الكتب من جهة دعوى العلم الاجمالي بصدور كثير منها فهو راجع إلى التقريب الأول الذي ذكرناه بطوله فلا يكون دليلا برأسه في قباله ( وان كان ) المقصود هو ثبوت التكليف بالواقع وبقائه فعلا من جهة العلم الاجمالي بوجود تكاليف كثيرة في الواقع كما يقتضيه ظهور السنة في كلامه في السنة الواقعية فهو مع رجوعه إلى الدليل الآتي المعروف بدليل الانسداد لا يقتضي التخصيص بخصوص الاخبار بل يعم كل ما يظن بان مدلوله مضمون للكتاب أو السنة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره وان كان ) المقصود ثبوت التكليف شرعا بالرجوع إلى تلك الأخبار غير المفيدة للعلم وعدم جواز طرحها عملا بان كان المراد من السنة في كلامه هو الخبر الحاكي عن السنة لا نفس السنة الواقعية فللمنع عنه مجال إذ لم يثبت ذلك باجماع ولا ضرورة من الدين أو المذهب خصوصا مع دعوى مثل السيد الاجماع على المنع عنه وجرى العمل به مجرى العمل بالقياس عند الإمامية ( هذا ) كله في الوجوه العقلية التي استدل بها لاثبات حجية خبر الواحد ( وقد استدل أيضا بوجوه اخر عقلية لاثبات حجية مطلق الظن ) الشامل للخبر الواحد من غير تخصيص بالظن الخبري ( منها ) ان الظن بالتكليف ظن بالضرر ودفع الضرر المظنون واجب ( وفيه ) ان المراد من الضرر المظنون ان كان هو الضرر الأخروي

ص: 143

أي العقوبة فالصغرى ممنوعة لعدم استلزام الظن بالتكليف للظن بالعقوبة على المخالفة مع حكم العقل الجزمي بقبح العقاب بلا بيان فلابد في اثبات حجية الظن من دليل اخر يقتضى حجيته ( وان كان ) المراد من الضرر المظنون المفسدة المظنونة بناء على ما هو التحقيق من تبعية الاحكام لملاكات في متعلقاتها لا في نفسها كما توهم فعليه وان كان الظن بالتكليف يستتبع الظن بالمفسدة ( ولكنه ) نمنع كون مجرد فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة ضررا كي يستلزم الظن بالتكليف الظن بالضرر ( وعلى فرض ) التسليم يتم إذا لم يتدارك المفسدة والضرر بأمر آخر والا فمع تداركها لا حكم للعقل بالوجوب كما هو الشأن في الظنون التي نهى عن العمل بها وحينئذ فلا يمنع مجرد الظن بالمفسدة والضرر عن جريان الأصول المرخصة العقلية والشرعية وبجريانها يستكشف التدارك فيرتفع به موضوع حكم العقل لا العكس كما توهم بزعم انه مع الظن بالمفسدة والضرر ( يجري ) حكم العقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن معه من الضرر فيستتبع الحكم الشرعي بالحرمة ومعه لا مجال لجريان البراءة العقلية والشرعية من جهة حكومته عليهما ( واما توهم ) المنع عن تدارك الضرر بما أفيد من أن تدارك الضرر انما يجب على الشارع إذا كان هو الذي أوقع المكلف في خلاف الواقع وهذا لا يكون الا في فرض انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من الوصول إلى الواقع ( واما في ) فرض الانسداد فلا يتم ذلك في التعبد بالأصول العملية لان الوقوع في الضرر والمفسدة حينئذ لا يكون مستندا إلى الشارع لأنه لولا التعبد بالأصول كان المكلف يقع في المفسدة ( فمدفوع ) بأنه بعد فرض كون المفسدة أيضا ضررا لابد للشارع من حفظ المكلف عن الوقوع في الضرر ولو بايجاب الاحتياط عليه المعبر عنه بمتمم الجعل ( وتوهم ) إناطة وجوب ذلك بأهمية المصلحة الواقعية ( مدفوع ) بأنه كذلك في فرض عدم الملازمة بين المفسدة والضرر والا فأي شيء أهم من ذلك فلابد له من جعل ايجاب الاحتياط عليه ( هذا ومع الغض ) عن ذلك كله ليس حكم العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي الا ارشاديا نظير أوامر الطبيب ونواهيه وعلى فرض مولوية هذا الحكم العقلي اما لكونه طريقيا لمكان طريقية الظن في نظره أو لكونه نفسيا بان كان مجرد الظن بالتكليف الموجب للظن بالمفسدة والضرر تمام الموضوع لحكمه بقبح الاقدام لا تأثير لهذا الحكم العقلي الا من جهة استتباعه للحكم

ص: 144

الشرعي المتوقف على تمامية قاعدة الملازمة وهي ممنوعة لعدم إحاطة العقل بجميع الجهات الدخيلة في الأحكام الشرعية لاحتمال ان يكون في البين ما يمنع عن فعلية التكليف بحيث لم يدركه العقل فلا يكاد ينتج هذا المقدار لاثبات المطلوب كما هو ظاهر ( ومنها ) ان الامر في مورد الظن بالتكليف يدور بين الاخذ به وبين الاخذ بالوهم الذي هو الطرف المرجوح ( فيتعين الأول ) فرارا عن لزوم ترجيح المرجوح على الراجح ، وفيه انه ان أريد ذلك في حال الانسداد وتمامية مقدماته فيرجع إلى دليل الانسداد الآتي ذكره لأنه في الحقيقة مقدمة من مقدمات ذاك الدليل فلا يصلح جعله دليلا برأسه في قباله ( وان أريد ) ذلك في حال انفتاح باب العلم أو العلمي بمعظم الفقه ( فقيه ) انه لا دوران حينئذ في البين بل بعد الظفر بما يفي بمعظم الفقه يكون المرجع في الزائد هو البراءة فيجوز الاخذ بالفعل الذي هو الطرف الراجح مثلا أو الاخذ بالترك الذي هو الطرف المرجوح كما هو الشأن في الشبهات الموضوعية الجارية فيها البراءة ولو مع الظن بوجود التكليف ( ومنها ما عن السيد العلامة المجاهد قدس سره ) من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة في الوقايع المشتبهة ومقتضى ذلك وان كان وجوب مراعاة الاحتياط باتيان كل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة ولو موهوما ( وحيث ) ان ذلك يؤدى إلى العسر والحرج المنفيين في الشريعة يكون مقتضى الجمع بين قاعدة الاحتياط ، وقاعدة العسر والحرج هو العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ( وفيه ) أيضا ان ذلك راجع إلى دليل الانسداد الآتي لكونه عبارة عن بعض مقدمات ذاك الدليل فلا وجه لجعله دليلا برأسه في قباله.

في دليل الانسداد

( وهو ) مركب من مقدمات ( الأولى ) انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام الشرعية ( الثانية ) عدم جواز اهمال التكاليف في الوقايع المشتبهة والرجوع في كل منها إلى البراءة ( الثالثة ) بطلان الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل بالأحكام من الاحتياط

ص: 145

التام في جميع الوقايع ، أو الرجوع إلى فتوى الغير ، أو الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها من البراءة والاستصحاب والتخيير ونحوها ( الرابعة ) قبح ترجيح المرجوح على الراجح بالأخذ بالموهومات والمشكوكات فيتعين العمل بالظن ( وقد ) يضاف إليها مقدمة أخرى خامسة وهو العلم الاجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة في الوقايع المشتبهة « أقول » لا يخفى ان الاحتياج إلى هذه المقدمة انما يكون على بعض المسالك في الانسداد ، لأنها على ما يأتي مختلفة من حيث المقدمات ، ومن حيث النتيجة « فان » النتيجة على بعض المسالك هو التبعيض في الاحتياط والرجوع إلى الظن في مقام اسقاط التكليف ( وعلى ) البعض الاخر حجية الظن ومرجعيته في مقام اثبات التكليف بنحو الحكومة تارة ، والكشف أخرى ( ومنشأ ) هذا الاختلاف هو الاختلاف في مدرك عدم جواز اهمال التكاليف وانه هو العلم الاجمالي بالتكاليف في الوقايع المشتبهة ، أو هو الاجماع ومحذور الخروج عن الدين « فعلى الأول » يحتاج إلى مقدمية العلم الاجمالي وتكون النتيجة هو التبعيض في الاحتياط محضا « وعلى الثاني » لا يحتاج إليها وتكون النتيجة حجية الظن ومرجعيته في مقام اثبات التكليف بنحو الحكومة أو الكشف على التفصيل الآتي « بيان ذلك » انه بعد تنجيزية حكم العقل بالبرائة وقبح العقاب في ظرف الشك في التكليف لا شبهة في أن وجوب التعرض لامتثال التكاليف المجهولة وعدم جواز اهمالها لا يكون الا إذا كان هناك منجز في البين يكون رافعا لموضوع حكم العقل بالقبح « والا » ففي فرض اللابيان على التكليف ، لا مجال لدعوى وجوب التعرض للتكاليف المجهولة لاستقلال العقل حينئذ بالبرائة وقبح العقاب « وحيث عرفت ذلك » نقول ان البيان الرافع لموضوع حكم العقل بالقبح ، اما ان يكون هو العلم الاجمالي بالتكليف بحيث كان الاجماع ومحذور الخروج عن الدين من توابع العلم الاجمالي المزبور ، بحيث لو فرض انتفائه رأسا أو عدم منجيزيته اما مطلقا أو في خصوص المقام « لكان » المرجع في الوقايع المشتبهة هو البراءة « واما ان يكون » هو الاجماع أو محذور المخالفة الكثير المعبر عنها بالخروج عن الدين ولو في فرض انتفاء العلم الاجمالي أو عدم منجيزيته وكونه كالشك البدوي كما عليه المحقق الخونساري فيما نسب إليه « فعلى الأول » لا شبهة

ص: 146

في لزوم المصير إلى التبعيض في الاحتياط محضا ومرجعية الظن في مقام اسقاط التكليف لا اثباته إذ المثبت له على هذا التقرير انما هو العلم الاجمالي بالتكليف ولا معنى بعده لاثباته بمنجز آخر ولازم ذلك وان كان بحكم العقل هو الاحتياط التام في المظنونات والمشكوكات والموهومات الا انه بضميمة بقية المقدمات يتعين الاحتياط في مقام تحصيل الفراغ في خصوص دائرة المظنونات ومرجعه إلى التبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام اسقاط التكليف الثابت بالعلم الاجمالي لا في مقام اثباته كي ينتهى الامر إلى حجية الظن ومثبتيته للتكليف بنحو الحكومة عقلا أو الكشف شرعا ومن المعلوم ان في هذه المرحلة لا مجال لتصرف الشارع وجعله مولويا الا على نحو جعل البدل ( كيف ) وان لازم حجية الظن ومنجيزيته هو سقوط العلم الاجمالي المزبور عن المقدمية والمنجزية للتكليف لانحلاله حينئذ بما في موارد قيام الظن بالتكليف فيكون الشك بدويا في غيرها وهذا كما ترى ينافي ما هو الفرض من مقدمية العلم الاجمالي ومنجزيته « فلا محيص » على هذا المسلك من كون النتيجة هي التبعيض في الاحتياط ( وعلى الثاني ) وهو كون الاجماع ومحذور الخروج عن الدين مانعا مستقلا عن الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة كما لا يبعد ذلك لامكان تحصيل الاجماع على عدم جواز اهمال التكاليف عند انسداد باب العلم والعلمي حتى من القائلين بعدم منجزية العلم الاجمالي ( فان ) المسألة وان لم تكن معنونة في كلام الأصحاب ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان لانفتاح باب العلم والعلمي لديهم ( ولكن ) يكفي الاجماع التقديري ( حيث ) يعلم منهم اتفاقهم على وجوب التعرض للتكاليف في فرض انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الفقه وانتفاء العلم الاجمالي بالتكليف أيضا أو عدم منجزيته ( بحيث ) كان المقتصر على التدين بالتكاليف المعلومة التارك للأحكام المجهولة في الوقايع المشتبهة يعد عندهم كالخارج من الدين والمتدين بغير دين سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله « وكيف كان » على هذا المسلك يتعين المصير إلى حجية الظن ( ومرجعيته في مقام ) اثبات التكليف اما بنحو الحكومة عقلا أو بنحو الكشف شرعا ولا تنتهي النوبة إلى التبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام اسقاط التكليف ( إذ بالاجماع ) المزبور يستكشف وجود منجز واصل بنحو الاجمال يكون هو الرافع لقبح العقاب بلا بيان وبعد تعينه

ص: 147

بالظن بضميمة بقية المقدمات لا تنتهي النوبة إلى بيانية العلم الاجمالي ومنجزيته لانحلاله بذلك المنجز المستكشف من الاجماع المزبور وبهذا البيان ظهر عدم صحة الجمع بين مقدمية العلم الاجمالي وبين الاجماع ومحذور الخروج من الدين على مسلك واحد بجعل الاجماع ومحذور الخروج من الدين في قبال العلم الاجمالي محذورا مستقلا لعدم الاهمال والرجوع إلى البراءة ، فاللازم على الشيخ ونحوه ممن سلك مسلك التبعيض في الاحتياط هو الاقتصار على مقدمية العلم الاجمالي ( كما أن ) اللازم على من سلك غير مسلك التبعيض من المسالك الاخر الآتية هو الغاء العلم الاجمالي بالمرة عن المقدمية والاقتصار على الاجماع ومحذور الخروج عن الدين كما أنه ظهر ابتناء مسلكي الحكومة والكشف على ابطال مسلك التبعيض بالغاء العلم الاجمالي عن المنجزية واسقاطه عن البيانية ولو بدعوى قيام الاجماع على بطلان الاحتياط ولو تبعيضا المستكشف منه وجود مرجع آخر في البين ومثبت للتكاليف بمقدار الكفاية غير العلم الاجمالي الموجب قهرا لانحلاله ( كما ) يستفاد ذلك أيضا من الاجماع ومحذور الخروج عن الدين الذين هما المستند للمقدمة الثانية ( والا ) فبدونه لا تصل التوبة إلى مقام حجية الظن ومثبتيته للتكليف بنحو الحكومة أو الكشف ( كما أنه ) في فرض انتهاء الامر إلى ما عدى مسلك التبعيض من المسالك الاخر لا تنتهي النوبة إلى مسلك الكشف باقسامه حتى مثل ايجاب الاحتياط الشرعي الا بعد ابطال مسلك الحكومة ( اما ) بمنع حكم العقل بلزوم اتخاذ مرجع اخر في البين بمقدار يخرج عن محذور الخروج عن الدين وتعيينه في الظن ( واما ) بمنع ايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي في الحكم بلزوم التعرض لامتثال الاحكام ( والا ) فمع فرض استقلال العقل بذلك عند الانسداد وايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي ولو احتمالا لا مجال للكشف عن جعل شرعي في البين ولو بايجاب الاحتياط ( بداهة ) ان الكشف المزبور انما هو في فرض اللابدية العقلية وبعد حكم العقلي بمرجعية الظن في مقام تعرض التكليف ( واحتمال ) ايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي لا طريق إلى الكشف المزبور كما لا يخفى ( بل ) ولئن تدبرت ترى الترتب بين أنحاء الكشف أيضا لابتناء كشف حجية الظن وطريقيته شرعا على ابطال مجعولية مثل ايجاب الاحتياط الشرعي ولو بدعوى قيام الاجماع

ص: 148

على عدم بناء الشريعة في امتثال الاحكام بصرف احتماله ولزوم كون امتثال الاحكام بعناوينها الخاصة وجوبيا أو تحريميا ( إذ ) حينئذ لابد من كشف طريق شرعي في البين ويتعين بمقتضى المقدمة الأخيرة في الظن ( والا ) فمع المنع عن مثل هذا الاجماع لا ينتهى الامر إلى كشف ان المجعول هي الوسطية والطريقية للظن لوضوح ان ايجاب الاحتياط أخف مؤنة من جعل الكاشفية والوسطية للظن لاحتياج هذه إلى عناية زائدة ( مضافا ) إلى أن الاحتياط هو الطريق الموصل بالذات إلى الواقع ، وان لم يكن واصلا بنفسه لعدم الملازمة بينهما كما توهم ( لان ) المراد من الواصل بنفسه ما هو معلوم بنفسه طريقيته للمكلف بلا احتياج إلى طريق آخر توصله إلى العباد ومن الواصل بطريقه الطريق الذي ظن حجيته بظن علم حجية هذا الظن لدى المكلف بانسداد آخر قبال ما لا يكون واصلا إلى المكلف أصلا ولو بطريقه وكل ما علم جعله بنفسه فهو الطريق الواصل بنفسه وفي هذه الجهة لا يفرق بين كون المجعول ايجاب الاحتياط الذي هو محرز بنفسه للواقع أو حجية الظن ( وعلى ذلك ) فالمسالك في المقام أربعة بل خمسة مترتبة ومختلفه بحسب النتيجة لكونها في بعضها هي حجية الظن ومرجعيته في مقام اسقاط التكليف ، وفي بعضها مرجعيته في مقام اثبات التكليف بنحو الحكومة العقلية وفي بعضها مرجعية الظن في مجرد وجوب العمل على طبقه من باب الاحتياط ، وفي بعضها مرجعية الظن من جهة الحجية والمنجزية ، وفي بعضها مرجعيته في مقام المثبتية للتكليف شرعا ( وإذا عرفت ) ذلك فلنشرع في تفاصيل المقدمات واثباتها بما يمكن الاستدلال به لها وبيان ما هو المختار من المسالك المزبورة ( فنقول ) وعليه التكلان ( اما المقدمة ) الأولى فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مما لا اشكال فيه بداهة ان ما يوجب العلم التفصيلي بالحكم من النصوص المتواترة والاجماعات القطعية في غاية القلة بحيث لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ( واما ) بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فللمنع عنه مجال لما تقدم من تمامية الأدلة على حجية الخبر الموثوق به مع وفائه لكثرته بحمد اللّه بمعظم الفقه بحيث لا يلزم من الرجوع إلى الأصول العملية في الموارد الخالية عن الاخبار الموثوق بها محذور وحينئذ فلا مجال لدعوى انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعية

ص: 149

كي ينتهى الامر بضم بقية المقدمات إلى حجية الظن ومرجعيته بنحو الحكومة أو الكشف ( ومن ) هنا كان هذا البحث قليل الجدوى إذ لا يكاد يترتب عليه ثمرة مهمه عملية كما هو ظاهر ( واما المقدمة الثانية ) وهي عدم جواز اهمال التكاليف في الوقايع المشتبهة والاعتماد فيها على البراءة الأصلية فمما لا اشكال فيها ولا ريب يعتريها بل كادت ان تكون ضرورية ( وانما ) الكلام في مدرك هذه المقدمة بأنه هو العلم الاجمالي بتكاليف كثيرة في الشريعة ( أو هو ) الاجماع ومحذور الخروج عن الدين بحيث يكونان محذورا مستقلا لابطال الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة ولو مع فرض انتفاء العلم الاجمالي رأسا أو عدم منجزيته ( حيث ) استدل عليها بكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة ( وقد ) عرفت اختلاف النتيجة تبعيضا وحكومة وكشفا بحسب هذه الوجوه ( والذي يقتضيه التحقيق ) هو الثاني وهو كون المدرك الاجماع ومحذور الخروج عن الدين بداهة قيام الاجماع والضرورة على عدم جواز اهمال الوقايع المشتبهة بالرجوع فيها إلى البراءة عند الانسداد ولزوم التعرض لامتثال الاحكام فيها ( ولأنه ) بدونه يلزم المخالفة الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ( إذ ) بمقتضى هذا المحذور والاجماع المزبور ولو تقديريا يستكشف لا محالة وجود مرجع آخر في البين مثبت للتكاليف الواقعية بالمقدار الوافي غير العلم الاجمالي ، وبذلك يسقط العلم الاجمالي عن البيانية لانحلاله بذلك المنجز المستكشف من الاجماع ومحذور الخروج عن الدين بل يمكن دعوى كون العمدة في المستند لهذه المقدمة هو محذور الخروج عن الدين لقوة احتمال كون نظر المجمعين في بطلان الاهمال إلى محذور الخروج عن الدين ( إذ ) مع هذا الاحتمال لا مجال لكشف هذا الانفاق عن رأى المعصوم ( وبما ) ذكرنا انقدح فساد مسلك التبعيض في الاحتياط وانه لا وجه لتقرير دليل الانسداد على هذا الوجه لابتنائه كما عرفت على مقدمية العلم الاجمالي وعدم انحلاله بكشف وجود منجز آخر مثبت للتكاليف بمقدار الكفاية ( والا ) فلا تصل النوبة إلى هذا المسلك كما هو ظاهر بلا حاجة إلى ما في الكفاية من دعوى انحلال العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة بما في موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا من الاحكام بمقتضى الاجماعات القطعية والنصوص المتواترة أو المحفوفة بالقرائن القطعية سنداً

ص: 150

ودلالة كي يحاب عنه وترمى بالغرابة بان هذه لقلتها بمثابة لا تفي بأقل قليل من الاحكام المعلومة بالاجمال ( ومما يوهن ) المسلك المزبور أيضا ما سيأتي من قيام الاجماع على الترخيص المطلق في طرف الموهومات بل المشكوكات بمقتضى الاضطرار أو الحرج المقارن للعلم ( إذ ) لازم ذلك هو سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بالنسبة إلى بقية الأطراف الاخر أيضا ( واما المقدمة الثالثة ) وهي بطلان الرجوع إلى أحد الطرق المقررة للجاهل من التقليد أو الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها أو الاخذ بالاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ( اما التقليد ) فبطلانه مما لا ريب فيه فان الجاهل الذي وظيفته الرجوع إلى العالم انما هو الجاهل العاجز عن الفحص الذي لا يرى بطلان مدرك فتوى العالم ( واما ) الجاهل الباذل لجهده المعتقد لبطلان مدرك العالم المخطئ له في اعتقاده كما هو المفروض في المقام فلا دليل على حجية فتواه بالنسبة إليه بل ذلك من باب رجوع العالم إلى الجاهل ، لان من يرى انسداد باب العلم والعلمي لاعتقاده بعدم تمامية الأدلة على حجية خبر الواحد يخطئ القائل بحجيته فلا يجوز له الرجوع إلى مثله والاخذ بقوله تعبدا ( هذا ) كله مضافا إلى ما افاده الشيخ قده من دعوى الاجماع القطعي على عدم جوازه ( واما ) الرجوع إلى الأصول العملية في الوقايع المشتبهة فبالنسبة إلى الأصول النافية للتكليف فبطلانه مما لا اشكال فيه للعلم الاجمالي ولاستلزامه المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ( واما ) بالنسبة إلى الأصول المثبتة للتكليف من الاستصحاب والاحتياط في الموارد التي كانت الشبهة من أطراف العلم الاجمالي الشخصي ( فقد ) أفيد في ابطالها بوجهين ( أحدهما ) استلزمهما للعسر والحرج المنفيين كما عن الشيخ قده ( وثانيهما ) من جهة مانعية العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحابات كما افاده بعض الأعاظم قده بدعوى قصور المجعول في الأصول التنزيلية كلية عن الشمول لأطراف العلم الاجمالي ولو مع عدم استلزامه للمخالفة العملية ( بتقريب ) ان المجعول في الأصول التنزيلية لما كان هو البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع والغاء الطرف الآخر بجعله كالعدم في عالم التشريع فذلك انما يتم في الشبهات البدوية وفي بعض أطراف العلم الاجمالي ( واما ) بالنسبة إلى جميع أطراف العلم فلا يمكن

ص: 151

ذلك ، لأنه مع العلم الاجمالي يعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وانقلاب الاحراز السابق الذي في جميع الأطراف إلى احراز آخر يضاده ، ومع ذلك لا يمكن الحكم ببقاء الاحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا ( إذ ) لا يكاد يجتمع الاحراز التعبدي في جميع الأطراف مع الاحراز الوجداني بالخلاف في بعضها ( ولكن ) لا يخفى ما في كلا الوجهين ( اما الأول ) فلمنع استلزامهما للحرج والعسر وما يلزمه انما هو الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة كما يأتي الكلام فيه ( واما ) بالنسبة إلى الاحتياط الذي تقتضيه الموارد الشخصية من جهة كونها من أطراف العلم الاجمالي الشخصي والاستصحابات المثبتة للتكليف فدعوى لزوم الحرج والعسر منهما ممنوعة جدا نظرا إلى قلة مواردهما ( واما الوجه ) الثاني ففيه انه بعد تغاير متعلق اليقين والشك في العلم الاجمالي وعدم تعلق اليقين فيه الا بالعنوان الاجمالي بلا سرايته منه إلى العناوين التفصيلية كهذا الاناء وذاك الاناء على ما يأتي انشاء اللّه لبقائهما على مشكوكيتهما لا وجه لدعوى المضادة المزبورة بين جعل الاستصحابين في الطرفين مع العلم الاجمالي المزبور ( فان ) موضوع الا بقاء التعبدي فيهما لا يكون الا العناوين التفصيلية كهذا الاناء وذاك الاناء وبالعلم الاجمالي المزبور المتعلق بالعنوان الاجمالي لم ينقلب اليقين السابق في شيء منهما بعنوانهما التفصيلي إلى اليقين بالخلاف بل كان كل واحد منهما وجدانا مما يشك فيه بعد كونه مسبوقا باليقين من غير أن يتخلل بين الشك واليقين في واحد منهما يقين آخر يضاد اليقين السابق ( نعم ) الذي انقلب باليقين الاجمالي انما هو اليقين بأحد العنوانين أو أحد اليقينين بهذا العنوان الاجمالي ( ولكن ) موضوع التعبد بالابقاء لا يكون هو اليقين بأحد العنوانين ولا أحد اليقينين حتى ينافي العلم الاجمالي ( وانما ) هو اليقين بكل واحد من العناوين التفصيلية من اناء زيد واناء عمر ومثلا ونحو ذلك ( نعم ) لو كان اليقين الاجمالي ساريا إلى العناوين التفصيلية واقعا كان لما أفيد وجه ( ولكنه ) من المستحيل كيف ولازمه عدم امكان اجتماع اليقين والشك في وجود خارجي بتوسيط العناوين الاجمالية والتفصيلية مع بداهة خلافه كما في كلية موارد العلم الاجمالي المقرونة بالشكوك التفصيلية وهذا كاشف عن وقوف العلم على نفس متعلقه وهو العنوان

ص: 152

الاجمالي وعدم سرايته منه إلى المعنون الخارجي ولا إلى العناوين التفصيلية فإذا لم يكن الاحراز الوجداني منافيا مع الشك فيه بعنوانه التفصيلي مع كون العنوانين متحدين وجودا ومنشأ فكيف يكون منافيا مع ما هو من احكام هذا الشك المعبر عنه بالاحراز التعبدي « وبما ذكرنا » ظهر اندفاع توهم المنع عن جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي لاستلزامه المناقضة بين الصدر والذيل في قوله (عليه السلام) ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر « فإنه » بعد ظهوره في تعلق اليقين الناقض بعين ما تعلق به اليقين والشك من العنوان ، وتغاير متعلق اليقين الاجمالي بالانتقاض في المقام مع متعلق الشك « لا ينتهى » الامر باجراء الاستصحابين في طرفي العلم الاجمالي إلى المناقضة المزبورة بين الصدر والذيل كما هو ظاهر « فعلم » من ذلك أنه لا مانع من جريان الأصول المثبتة من الاستصحاب والاحتياط في أطراف العلم الاجمالي « نعم » الذي يسهل الخطب هو انه لا يجدى هذا المقدار في المنع عن جريان مقدمات الانسداد نظرا إلى قلتها وعدم كونها ولو بضميمة المعلومات التفصيلية إليها بمقدار ينحل به العلم الاجمالي ويرتفع به محذور الخروج عن الدين « واما بطلان » الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة « فيدل » عليه الاجماع القطعي ، وقاعدة نفي الحرج والعسر ، بل ولزوم اختلال النظام النوعي والشخصي لوضوح كثرة الوقايع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام مما يرجع إلى المعاش والمحاورة والعقود والايقاعات ونحوها مما يوجب العمل بالاحتياط فيها اختلال النظام « بل » لا أقل من استلزامه للعسر والحرج الشديد المنفيين بالاجماع وبأدلة نفي العسر والحرج ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون الحاكم بالاحتياط هو العقل من جهة العلم الاجمالي أو كان الحاكم به هو الشرع من جهة الاجماع ومحذور الخروج عن الدين ( فإنه ) على كل تقدير ينفي وجوبه بالاجماع المزبور ، وأدلة نفي العسر والحرج « واما الاشكال » في شمول دليل نفى الحرج على الثاني ، بدعوى ان أدلة نفي الحرج كأدلة نفي الضرر لما كانت حاكمة على الأدلة المتكفلة للأحكام المترتبة على الموضوعات الواقعية الشاملة باطلاقها لحالتي الحرج وغيره فلابد ان يكون لمتعلق الحكم حالتان حالة يلزم منها الضرر والعسر وحالة لا يلزم منها ذلك لتكون أدلة نفيهما موجبة لنفي

ص: 153

الحكم عن المتعلق في موضوع يلزم منه الضرر والعسر « واما » لو اختص الحكم بما يلزم منه الضرر والعسر دائما كوجوب الخمس والزكاة والجهاد فلا يكون لها نظر إلى نفي تلك الأحكام « والاحتياط » في المقام من هذا القبيل حيث كان من التكاليف التي يلزمها العسر والحرج دائما فلا يكون مشمولا لدليل نفي الحرج « فمدفوع » بان ذلك انما يتم إذا كان دليل نفي الحرج ناظرا بدوا إلى ايجاب الاحتياط واما « لو كان ناظرا » إلى الحكم الواقعي فلا شبهة في أنه يتصور له حالتان حالة لا يلزم من امتثاله الحرج والعسر وحالة يلزم منه ذلك كما في فرض الاشتباه ومنه المقام فينفي دليل الحرج حينئذ فعلية التكليف الواقعي بالنسبة إلى حال الاشتباه ويرفع فعليته في هذا الحال ينفي وجوب الاحتياط ، لأنه من لوازم فعلية التكيف الواقعي في هذا الحال « وبهذا البيان » يجاب عن شبهة عدم شمول أدلة نفي الضرر والحرج لنفي الاحتياط العقلي بدعوى ان أدلة نفي الضرر والحرج انما كانت ناظرة إلى التكاليف الشرعية التي يلزمها الضرر والعسر وفى المقام لا يلزم الضرر والعسر من قبل نفس التكاليف الواقعية لعدم تعلقها بما فيه الضرر والعسر « وانما » كانا من جهة امر خارج وهو حكم العقل بالجمع بين المحتملات وأدلة نفي الضرر والعسر لا تكون ناظرة إلى مثله كي يكون منفيا بعموم تلك الأدلة « إذ يقال » ان الضرر والعسر وان كانا من جهة امر خارج وهو حكم العقل ولكن المنشأ لذلك لما كان فعلية التكاليف المجهولة في هذا الحال فلا جرم بنفيها يرتفع ايجاب الاحتياط العقلي أيضا لأنه من لوازم فعلية التكاليف الواقعية في هذا الحال وحينئذ لا فرق في شمول دليل نفي الضرر والحرج في المقام بين كون ايجاب الاحتياط عقليا من جهة العلم الاجمالي أم شرعيا « واما » توهم اقتضاء البيان المزبور لعدم لزوم رعاية الاحتياط فيما عدى ما يدفع به الضرر والحرج لارتفاعه أيضا بارتفاع فعلية التكليف بمقتضى دليل نفي الحرج وهو كما ترى ( فمدفوع ) بأنه يتم ذلك لو أريد رفع فعلية التكاليف الواقعية على الاطلاق والا فلو أريد رفعها بمقدار يرتفع معه العسر في هذا الحال فلا يلزم منه ذلك بل لابد حينئذ من رعاية الاحتياط في الزائد عما يرتفع معه محذور الحرج والعسر فان الضرورات تتقدر بقدرها ( فإذا ) كان رعاية الاحتياط في الجميع يوجب الحرج فلا يرتفع بأدلة

ص: 154

نفي الحرج الا الاحتياط الكلي ( نعم ) لهذا الاشكال مجال إذا كان حكم العقل بالاحتياط من جهة العلم الاجمالي كما هو مسلك التبعيض فإنه بعد ثبوت الترخيص المطلق في طرف الموهومات بمقتضى الاضطرار أو الحرج يقع الاشكال في أنه كيف المجال حينئذ لمنجزية هذا العلم الاجمالي بالنسبة إلى بقية الأطراف ( فإنه ) بعد تقارن الاضطرار مع العلم الاجمالي واحتمال كون الطرف المضطر إليه هو الحرام الواقعي ( يرتفع ) العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي ومع ارتفاعه لا يبقى مقتض لوجوب رعاية الاحتياط في الطرف الآخر من جهة صيرورة الشبهة بالنسبة إليه بدوية كما أشرنا إليه أيضا في طي موهنات مسلك التبعيض ( نعم ) انما يجب ذلك إذا كان الاضطرار متأخرا عن العلم الاجمالي أو كان متعلقا بغير المعين مطلقا لان الاضطرار الطارئ كتلف بعض الأطراف لا يمنع عن تأثير العلم الاجمالي السابق كما حققناه في محله ( وكذلك ) الاضطرار إلى غير المعين لا يمنع الا عن الجمع بين المحتملين الملازم لرفع اليد عن اطلاق التكليف في كل طرف بنحو يلزم رعايته مطلقا حتى في حال الاتيان بالطرف الاخر المقتضى لحكم العقل بلزوم الجمع بين المحتملين لا انه يرتع أصل التكليف ( فكان ) العلم الاجمالي بأصل التكليف حينئذ باقيا على حاله ، غير أنه بمقتضى سراية الاضطرار إلى الواقع ، يرفع اليد عن اطلاق التكليف بالنسبة إلى كل طرف ويلتزم بتكليف توسطي بين نفي التكليف رأسا ، وبين ثبوته على الاطلاق ولازمه التخيير في ارتكاب أحد الطرفين كما حققناه في مبحث الاشتغال ( ولكن ) مفروض المقام انما هو من باب الاضطرار المتعلق بالمعين مع كونه مقارنا للعلم ، حيث إن الثاني واضح ( واما ) الأول فلان الاضطرار وان كان بدوا إلى غير المعين ولكنه بعد انتهائه بمقتضى المقدمة الرابعة إلى الترخيص المطلق نحو الابعد وهو الموهومات كان لا محالة بحكم المعين فيتوجه المحذور المزبور ( نعم ) لو فرضنا اقتضاء قاعدة الحرج بضميمة المقدمة الرابعة لتوجيه الترخيص نحو الموهومات في ظرف اتباع المظنونات بنحو يستتبع لنحو ترتب في حكم العقل بمتابعة العلم الاجمالي الراجع إلى حكمه بلزوم اتباع المظنونات على الاطلاق واتباع الموهومات على تقدير المخالفة في المظنونات ( كان ) ذلك بحكم الاضطرار إلى غير المعين ( ولكن ) الظاهر هو عدم التزامهم بذلك ، فان بنائهم

ص: 155

على كون الموهومات بقول مطلق تحت الترخيص ( وعليه ) يتوجه ما ذكرناه من مانعية مثله عن منجزية العلم الاجمالي ( وفي هذه ) الجهة أيضا لا يفرق بين القول باقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية وبين القول بعليته ، فإنه على كل تقدير يرتفع العلم الاجمالي بالتكليف بعد احتمال كون معلومه في مورد اضطراره ، وانما يفترقان فيما لو كان الترخيص في بعض الأطراف بمناط آخر غير الاضطرار أو الحرج من اجماع ونحوه ( حيث ) انه على القول بالاقتضاء وتعليقية حكم العقل يتعين العمل في البقية بعنوان الاحتياط ، بخلافه على القول بالعلية فإنه بعد مضادة الترخيص ولو في بعض الأطراف مع حكم العقل التنجيزي لابد من كشف جعل البدل من الترخيص المزبور كما يأتي بيانه في محله ( وحينئذ فما أفيد ) من لزوم التبعيض في الاحتياط مهما أمكن منظور فيه خصوصا فيما افاده من عدم الفرق بين الاضطرار إلى المعين وغير المعين فلاحظ كلامه ترى فيه مواقع للنظر ( واما توهم ) ان وجوب الاحتياط في البقية انما هو الاحراز المقتضى في البين ورجوع الشك في الحقيقة إلى الشك في طرو المانع عن تأثير المقتضى ، حيث إن العقل يحكم في مثله بالاحتياط نظير حكمه في الشك في القدرة ( فمدفوع ) بأنه بعد ارتفاع العلم الاجمالي لأجل الاضطرار أو الحرج كان الشك في البقية في أصل وجود المقتضى لا في المانع عن تأثيره وبينهما بون بعيد ، ومعه لا يبقى مجال لجريان الاحتياط كي يتم به مسلك التبعيض في الاحتياط ( ثم انه ) لو اغمض عما ذكرنا وقلنا ببقاء العلم الاجمالي على صفة التنجيز ( نقول ) انه لا ينتج هذا المسلك الا وجوب الاحتياط في خصوص المظنونات التي يظن بانطباق المعلوم بالاجمال عليها ، لا في مطلق مظنون التكليف كما يدعيه القائل بالتبعيض ( لان ) العلم الاجمالي في المقام وان كان بحسب الأطراف من قبيل العلم الاجمالي بين المتبائنات بنحو الكثير في الكثير ( ولكنه ) بعد كونه بحسب الاعداد من قبيل الأقل والأكثر لتردده مثلا بين الف وزيادة يلزمه لا محالة انحلاله بما في دائرة الأقل والشك البدوي في الأكثر ، فإذا كان الأقل منتشرا في أطراف بعضها ما يظن انطباق المعلوم بالاجمال عليه وبعضها مما يشك في انطباقه عليه وبعضها مما يوهم ذلك ( فلابد ) بمقتضى حكم العقل باقتضاء الاشتغال اليقيني بالتكليف للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط

ص: 156

في خصوص هذه الأطراف وبعد اقتضاء الاضطرار أو الحرج لعدم لزوم رعاية الاحتياط في المشكوكات والموهومات ولو بمعونة الاجماع أو المقدمة الرابعة يتعين الاخذ بالاحتياط في خصوص المظنونات التي يظن بانطباق التكليف المعلوم بالاجمال عليها لا في مطلق الظن بالتكليف ولو لم يظن بانطباق المعلوم عليه ( كيف ) وان هم العقل انما هو الخروج عن عهدة ما تنجز عليه من التكاليف بمقتضى العلم الاجمالي ، لا الخروج عن عهدة مطلق التكاليف الواقعية ولو لم تكن منجزة عليه مع أن القائل بالتبعيض لا يفرق بين نحوي المظنون ( هذا كله ) بناء على عدم ارتفاع الحرج والعسر بترك الاحتياط في الموهومات ، والا فمقتضى القاعدة على هذا القول هو وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، الا إذا كان هناك اجماع على الحاق المشكوكات بالموهومات كما احتمله الشيخ قده ، ولكن لا يلزمه حينئذ الكشف عن حجية الظن شرعا ومثبتيته ، كما توهم ( لان ) وصول النوبة إلى مثبتية الظن للتكليف انما هو بعد الفراغ عن ابطال مثبتية العلم الاجمالي ومنجزيته للتكاليف ، بل وابطال وجود مثبت آخر أيضا كما سنذكره ( والا ) ففي فرض عدم ابطال العلم الاجمالي ولو من جهة امكان التبعيض في الاحتياط ( لا يبقى ) مجال للكشف المزبور ، خصوصا على مبنى القول باقتضاء العلم الاجمالي وتعليقية حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية على عدم ترخيص الشارع في بعض الأطراف ( إذ ) في مثله لا يكشف الترخيص في المشكوكات عن وجود مثبت كاف في البين كي ينتهى إلى حجية الظن ، ومجرد وجوب العمل على طبقه من باب التبعيض في الاحتياط ، غير حجيته ومثبتيته شرعا « نعم » بناء على علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو المختار ، يلازم الترخيص المزبور في المشكوكات مع جعل البدل أو الانحلال لمضادة الترخيص في بعض الأطراف مع تنجيزية حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية « فلابد » حينئذ من كشف جعل البدل المزبور من ترخيصه ومرجعه إلى اكتفاء الشارع في مقام تحصيل الفراغ عن التكليف الثابت بالعلم الاجمالي بالعمل بالمظنونات ، ولكنه غير حجية الظن ومثبتيته للتكليف كما هو ظاهر الا إذا كان ذلك راجعا إلى الانحلال وفيه تأمل ظاهر « هذا » إذا كان الاجماع المزبور قطعيا « واما » إذا كان

ص: 157

ظنيا فلا يرفع اليد لأجله عن تأثير العلم ، فإنه بمقتضى الملازمة وان ظن بجعل البدل البدل أو الانحلال « ولكن » الظن بالانحلال لا يقتضى الانحلال « والى ذلك » أيضا نظر الشيخ قده في الجواب عما أورده في المقام على نفسه بقوله ، فان قلت إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظن بان المرجع فيها الأصول الموجودة الجارية فيها الخ « قلت » مسألة اعتبار الظن بالطريق الخ « وحاصله » ان نتيجة مقدمات الانسداد وان كانت أعم من الظن بالواقع والطريق ، الا ان ذلك فرع سلامة المقدمات وتماميتها ، والكلام بعد في سلامة المقدمة الثالثة ، إذ لم يثبت بعد بطلان الاحتياط رأسا حتى في الوقايع المشكوكة لتصير النتيجة هي حجية الظن مطلقا ( ولكنه ) قد ضرب على ذلك في بعض النسخ المصححة ، ( وأبدل ) في الحاشية بما لفظه ، قلت مرجع الاجماع قطعيا أو ظنيا على الرجوع في المشكوكات إلى الأصول هو الاجماع على وجود الحجة الكافية في المسائل التي انسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد الأصول ومرجع هذا إلى دعوى الاجماع على حجية الظن بعد الانسداد انتهى « أقول » هذا الكلام وان كان لبعض الأعاظم من تلاميذه وهو السيد الكبير الشيرازي قده على ما نقله الأستاذ قده ، الا ان الظاهر على ما حكى هو كونه برضاء الشيخ قده وامضائه ( ويا ليته ) لم يرتضه ولم يضرب على كلامه الأول لما عرفت من أن الاجماع القطعي لا يكشف عن وجود الحجة الكافية في المسألة خصوصا على مسلك اقتضاء العلم الاجمالي ، فضلا عن الاجماع الظني لان الظن بالانحلال لا يقتضى الانحلال ( وحينئذ ) فبعد فرض اندفاع العسر برفع اليد عن العلم الاجمالي في خصوص الموهومات لا مجال لرفع اليد عن المشكوكات ولو كانت موهومة من حيث الأثر حسب الظن بمرجعية الأصول فيها ، ومجرد كونها كذلك لا يقتضى الحاقها بموهوم الواقع الذي يرفع اليد عنه لأجل العسر « إذ » لا دليل في البين يقتضى باطلاقه رفع اليد عن كل موهوم حقيقة أم اثرا هذا « مع » ان غاية ما يقتضيه البيان المزبور انما هو نفي مثبتية العلم الاجمالي « واما » اثبات كون الظن طريقا ومثبتا للتكاليف شرعا ، فيتوقف على ابطال مثبت آخر في البين غيره ، واثبات هذه الجهة يتوقف على انعزال العقل عن الحكومة وعدم حكمه بمرجعية امر آخر في البين وتعيينه

ص: 158

بالظن بمقتضى المقدمة الرابعة « والا » فمع حكم العقل بذلك واحتمال ايكال الشارع في حكمه بلزوم تعرض التكاليف إلى هذا الحكم العقلي لا مجال لكشف جعل من قبل الشارع « ومن » هذا البيان ظهر الحال فيما لو كان بطلان الاحتياط ولو تبعيضا من جهة الاجماع على عدم كون مبنى الشريعة في امتثال التكاليف عند الانسداد على الاحتياط ( وانه لا مجال ) لتوهم اقتضاء الاجماع المزبور لتعين كون النتيجة هي حجية الظن ومثبتيته شرعا للتكاليف « إذ » غاية ما عليه الاجماع المزبور انما هو بطلان الاحتياط الناشئ من قبل منجزية العلم الاجمالي تماما أو تبعيضا ومرجعه إلى عدم منجزية العلم الاجمالي وعدم اقتضائه للاحتياط ولو تبعيضا ، ولازمه « وان كان » هو الكشف عن وجود مرجع اخر في البين ومثبت للتكاليف بمقدار الكفاية غير العلم الاجمالي الموجب لانحلاله ( كما ) هو المستفاد أيضا من بطلان الخروج عن الدين ( ولكن ) هذا المقدار لا يكشف عن حجية الظن ومثبتيته شرعا ( الا ) بعد ابطال حكم العقل بمرجعية شيء في البين وتعيينه في الظن بمقتضى المقدمة الرابعة كما يدعيه القائل بالحكومة ، أو اثبات عدم ايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي في لزوم التعرض للتكاليف ، بل وابطال منجز آخر شرعي بغير تتميم الكشف والا فلا مجال للكشف المزبور أصلا بلا فرق في هذه الجهة بين كون المستند لعدم جواز الاهمال هو العلم الاجمالي وبين كونه هو الاجماع ومحذور الخروج عن الدين ، فعلى كل تقدير لابد من ابطال مثبت آخر للتكاليف غيره وهو متوقف على عزل العقل عن الحكم ولا يكفيه مجرد قيام الاجماع على بطلان الاحتياط كلا أو بعضا « الا » إذا كان الاجماع قائما على عدم بناء الشريعة في امتثال الاحكام على الاكتفاء بصرف احتماله ولزوم الاتيان بكل تكليف بعنوانه الخاص وجوبا أو تحريما لا بعنوان الاحتمال ورجاء انطباقه على المأتي به ، فإنه بمقتضى هذا الاجماع لابد من الكشف عن جعل طريق شرعي في البين فيتعين ذلك حينئذ في الظن بمقتضى المقدمة الرابعة لان ما عداه يكون الامتثال فيه احتماليا « وهذا » الاجماع وان احتمله الشيخ قده في بعض كلماته وأصر به بعض الأعاظم قده الا ان الشأن كله في ثبوت هذا الاجماع وتحققه ولو ظنيا فضلا عن القطع به فان القدر المسلم من الاجماع انما هو قيامه على بطلان الاحتياط التام

ص: 159

لا مطلقا حتى يقتضى بطلان التبعيض وعلى فرض التسليم فالمسلم منه هو الاجماع على بطلان الاحتياط في الشريعة الموجب لرفض العلم الاجمالي عن المنجزية والبيانية رأسا واما قيامه على لزوم تعرض كل من المشتبهات بعنوانه الخاص وعدم جواز كونه بعنوان الاحتمال ورجاء انطباقه على المكلف به فغير معلوم بل ولا مظنون ( كيف ) وان القائلين بالحكومة على خلاف ذلك ( فان ) همهم اثبات كفاية اتيان مظنون التكليف بما هو مظنون لكونه منجزا بهذا الظن بحكم العقل ومعه لا يمكن دعوى اتفاق الأصحاب واجماعهم على الخلاف ( واما توهم ) ان مبنى الاجماع على بطلان الاحتياط ولو تبعيضا هو ما ذكر من عدم كفاية الامتثال الاحتمالي ولزوم كون امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة ( فممنوع ) جدا بأنه لا شاهد على هذا الدعوى ولا بينة ، بل الظاهر كونه من جهة رفض العلم الاجمالي عن المنجزية بالتقريب الذي ذكرناه ، ولا أقل من كونه هو المتيقن منه ( ومعه ) لا سبيل إلى دعوى كشف حجية الظن شرعا فضلا عن كونها بنحو تتميم الكشف الا برفض مسلك الحكومة العقلية اما بمنع حكومته العقلي رأسا أو منع ايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي ( والأول ) مما لا سبيل إليه لرجوعه إلى دعوى تجويز العقل عند عدم تصرف شرعي في البين لتعطيل الاحكام والخروج عن الدين بعدم تعرض المكلف للوقايع المشكوكة وهو كما ترى خلاف الوجدان السليم والذوق المستقيم ( ولا ) مجال لما أفيد من مقايسة مثل المقام بالوقايع المشتبهة القليلة التي لا يلزم من عدم حكم العقل فيها بشيء محذور تعطيل الاحكام والخروج عن الدين ( وذلك ) لوضوح الفرق ، بين مثل المقام المحرز شدة الاهتمام به بمقتضى بطلان الخروج عن الدين ولو مع عدم تصرف من الشارع بجعل شيء في البين ، وبين ما هناك الذي لم يحرز فيه اهتمام الشارع وعليه فلا يكون عدم حكم العقل بشيء في تلك الوقايع المشتبهة القليلة شاهدا لمنع حكمه فيمثل المقام الذي يلزم منه محذور الخروج عن الدين كما هو ظاهر ( واما الثاني ) فيكفيه مجرد احتمال ايكال الشارع إلى هذا الحكم العقلي إذ معه لا يبقى مجال للكشف عن جعل شرعي في البين أصلا وإذا عرفت ما ذكرناه في شرح المقدمات ( فنقول ان الحق ) هو تقرير دليل الانسداد على نحو الحكومة العقلية بمعنى مثبتية الظن للتكليف عقلا الراجع إلى تنزله من العلم إلى

ص: 160

الظن في مقام الاثبات لا في مقام الإطاعة والاسقاط وذلك لفساد ما عداه من المسالك الاخر الراجعة إلى التبعيض في الاحتياط ومرجعية الظن في مقام الاسقاط أو الكشف بأنحائه « اما » مسلك التبعيض فلما تقدم من ابتنائه على منجزية العلم الاجمالي وعدم انحلاله بكشف وجود منجز آخر في البين بمقدار الكفاية ( وهي ) ممنوعة جدا بما تقدم من قيام الاجماع والضرورة على بطلان الخروج من الدين ولو في فرض عدم علم اجمالي رأسا أو فرض عدم منجزيته للتكليف ( إذ ) بمثله يكشف عن وجود مرجع آخر في البين بمقدار الكفاية غير العلم الاجمالي موجب لانحلاله ولذلك جعلنا هذا المحذور هو العمدة في المستند للمقدمة الثانية أعني عدم جواز الاهمال ( مضافا ) إلى ما أوردنا عليه سابقا من لزوم سقوطه عن المنجزية أيضا بمقتضى الترخيص المطلق في طرف الموهومات بل المشكوكات من جهة الاضطرار أو الحرج والعسر المقارن للعلم الاجمالي ( فبعد ) سقوط العلم الاجمالي ( يتعين ) تقرير الحكومة ( إذ ) بعد انسداد باب العلم والعلمي وعدم ثبوت جعل من الشارع ولو بمثل ايجاب الاحتياط يحكم العقل بلزوم اتخاذ طريق في امتثال الاحكام بمقدار يرتفع به محذور الخروج عن الدين ويتعين في الظن بمقتضى المقدمة الرابعة باعتبار كونه أقرب إلى الواقع من الشك والوهم فيحكم بلزوم الاخذ به والرجوع فيما عداه إلى البراءة وان لم يستلزم الظن بانحصار التكليف في دائرة ظنونه ( لان هم ) العقل هو حصر مثبت التكليف في دائرة ظنونه لكي يرجع فيما عداه إلى البراءة ، لا ان همه تحصيل الظن بالفراغ كي يحتاج إلى الظن بحصر التكليف في الظنون وانما يكون ذلك بناء على مسلك التبعيض الراجع إلى مرجعية الظن في مقام الإطاعة والاسقاط ( فاعتبار ) ذلك على الحكومة كما أفيد لا يخلو عن خلط بين الحكومتين فراجع ( وبالجملة ) فهذا التقرير أعني الحكومة لا يحتاج الا إلى عدم وجود منجز آخر من علم أو علمي تفصيلي أو اجمالي ( فبعد ) انسداد باب العلم والعلمي وسقوط العلم الاجمالي عن البيانية والمنجزية للواقع بمقتضى الانحلال الناشئ من الاجماع والضرورة على بطلان الخروج عن الدين ، وعدم ثبوت جعل شرعي أيضا في البين ولو بمثل ايجاب الاحتياط يتعين تقرير الحكومة بالمعنى الذي عرفت ( واما ) فساد تقرير الانسداد نحو الكشف باقسامه حتى كشف ايجاب

ص: 161

الاحتياط الشرعي ، فيكفيه مجرد احتمال ايكال الشارع في حكمه بلزوم تعرض الاحكام إلى هذا الحكم العقلي ( إذ ) مع الاحتمال المزبور لا يبقى طريق لكشف جعل من الشارع في البين خصوصا مسلك كشف حجية الظن وطريقيته شرعا واليه نظر الشيخ قده في الجواب الأول بقوله اما أولاً فلان مقدمات الانسداد لا تستلزم جعل الشارع ( نعم ) بناء على ما ادعى من الاجماع على عدم بناء الشريعة في امتثال الاحكام على الاتيان بمحتمل التكليف بما هو محتمل ولزوم كونه بعنوانه الخاص من الوجوب والحرمة فعلا وتركا ( كان ) لما أفيد وجه ( فإنه ) لابد حينئذ بمقتضى هذا الاجماع من كشف وسط مجعول في البين ( ولكن ) الشأن كله كما عرفت في تحقق هذا الاجماع حيث لم يكن منه عين ولا اثر في كلمات الأصحاب ( فان ) ما يمكن تسليمه انما هو الاجماع على بطلان الاحتياط ولو تبعيضا لو لم نقل باختصاصه على بطلان الاحتياط الكلي الذي هو غير موجب لنفي ايجاب الاحتياط بنحو يتعين في دائرة الظنون ( ومن المعلوم ) ان هذا المقدار من الاجماع لا يجدى في اثبات جعل من الشارع فضلا عن اقتضائه لاثبات حجية الظن بنحو الوسطية والكاشفية ( الا بانضمام ) دعوى انعزال العقل في هذه المرحلة أو عدم ايكال الشارع في مقام تنجيز احكامه إلى حكم العقل ( بل ) على فرض اقتضائه لثبوت جعل شرعي في البين لا مجال لاثبات ان المجعول هو خصوص حجية الظن بنحو الوسطية ( إذ ) كما أنه يناسب ذلك يناسب أيضا مع كون وجوب العمل بالظن من باب المقدمة لتنجيز الواقع نظير ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية ، فتعيين الأول يحتاج إلى اثبات عدم صلاحية غير الحجية بمعنى الوسطية للمنجزية للواقع وانحصار المنجز بالعلم والعلمي ، وهذا وان ادعاه في بعض كلماته ، الا انه كما ترى لا يلتزم به أحد ، كيف ولازمه هو الالتزام في موارد ايجاب الاحتياط الشرعي بالعقوبة على مخالفة نفس ايجاب الاحتياط مطلقا ولو في مورد المخالفة للواقع مع أن بناء الأصحاب على خلافه ، هذا ( مع أنه ) في فرض تسليم الاجماع بالمعنى الأول ( نقول ) انه بعد عدم اقتضاء هذا الاجماع لحجية الظن بدوا وبلا واسطة شيء وتوقفه على ضم بقية المقدمات ، لأنه بدونه يخرج عن كونه نتيجة دليل الانسداد ، لرجوعه إلى قيام الاجماع عند الانسداد على حجية الظن شرعا كما

ص: 162

أشار إليه الشيخ قده ( فلا جرم ) يدور الامر في الوسط المجعول بين كونه في دائرة الظنون ، وبين كونه في غيرها ، وبعد انعزال العقل عن الحكم حينئذ يتوجه عليه بأنه ما المعين في كونه في دائرة الظنون بعد قابلية غيرها أيضا للجعل كما أشار إليه الشيخ قده في الجواب الثاني عن مسلك الكشف ، وأقربية الظن من غيره في نظر العقل كما على الحكومة لا ينفع في تعيين ما هو الأقرب بنظر الشارع كي يتعين مجعوله فيه ( واما ) توهم عدم قابلية غير الظن لتتميم الكشف والطريقية ( فكلام ) شعري ، فان كل محتمل قابل لتتميم ، كشفه الناقص حتى الوهم كما في الظنون النوعية كما أشرنا إليه في مبحث القطع ( ومعه ) من أن يحصل الجزم بكونه في دائرة الظنون بمقتضى الأقربية بنظر العقل ( فحينئذ ) يحتاج إلى اجراء مقدمات الانسداد مرة أخرى في تعيين ما هو المجعول شرعا ( فنقول ) انه بعد تردد الوسط المجعول بين كونه في دائرة الظنون وبين غيرها وسقوط العلم الاجمالي في هذه المرحلة أيضا عن المنجزية بمقتضى بطلان الخروج عن الدين ، ولزوم كون الطريق المجعول واصل إلى المكلف ولو بطريقه ، لان الطريق غير الواصل ولو بطريقه لا يزيد حكمه عن أصل التكليف الواقعي الذي انسد باب العلم به ( وعدم ) كونه بوجوده الواقعي منجزا للواقع ( يحتاج ) لا محالة في تعيين الوسط المجعول إلى منجز آخر في البين ( وفي هذه ) المرحلة أيضا يتأتى ما ذكرناه من الحكومة والكشف وهلم جرا ( فلا محيص ) من انتهاء الامر بالآخرة إلى حكومة العقل واستقلاله بكون الوسط المجعول هو الظن ( وهذا ) مع كونه منافيا للاجماع المزبور لرجوعه بالآخرة إلى كون امتثال الاحكام بالاحتمال ، لا بالجزم ، تبعيد للمسافة فلم لم يلتزم بالحكومة ابتداء في الظن بالتكليف ، والتزم بالكشف ( فتدبر ) في أطراف ما ذكرناه تجده حقيقا بالقبول ( فتحصل ) من جميع ما ذكرناه ان القول بالكشف خصوص الكشف بمعنى الوسطية مما لا مبنى له ولا أساس ولا ينبغي المصير إليه وانه بعد بطلان القول بالتبعيض وانتهاء الامر إلى مثبتية الظن لا محيص عن القول بالحكومة العقلية ( ثم إن ) تقرير الحكومة يتصور على وجهين الأول ) دعوى استقلال العقل عند الانسداد وعدم مثبت للتكاليف تفصيلا أو اجمالا بوجوب الاخذ بالاحتمال بمقدار يرتفع به محذور الخروج عن الدين وتعيينه بالظن

ص: 163

بمقتضى المقدمة الرابعة ( الثاني ) من جهة حكم العقل بلزوم الاخذ باحتمال تكليف يقطع على فرض وجوده باهتمام الشارع بها بنحو لا يرضى بتركه ولو في ظرف الجهل ، وخروج مثل الاحتمال المزبور عن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان نظير ما ذكرناه في وجه منجزية أوامر الطرق المجعولة ( فإنه ) بمقتضى الضرورة والاجماع على بطلان الاهمال ولو مع عدم علم اجمالي في البين يستكشف عن بلوغ التكاليف الواقعية على فرض وجودها في المحتملات في الاهتمام بمرتبة لا يرضى الشارع بتركها حتى في ظرف الجهل بها ، وبعد احراز هذا الاهتمام من الشارع بالتكاليف الواقعية والجزم بتلك القضية التعليقية في الموارد المحتملة يستقل العقل بلزوم التعرض لها ويحكم بحجية احتمال التكليف ومنجزيته ( نعم ) حيث إن مراتب الاهتمام بحفظ المرام مختلفة ، لكونه تارة بمرتبة يقتضى رعايته حتى في طرف الموهوم ، وأخرى بمرتبة لا يقتضى الا رعايته في طرف المظنون والمشكوك وثالثة بنحو يقتضى رعايته في خصوص طرف المظنون دون الموهوم والمشكوك ( كان ) القدر المتيقن من الاهتمام المحرز هي المرتبة الأخيرة فيستقل العقل بلزوم الاخذ بالظن ، ويبقى الموهوم والمشكوك على الشك في أصل الاهتمام بحفظ الواقع في موردهما فيرجع فيهما إلى الأصول ( وبذلك ) يتعين الاخذ بالظن حيث يكون حجة ومنجز للواقع بالحكومة العقلية ، من دون احتياج إلى المقدمة الرابعة بل ولا إلى المقدمة الثالثة أعني ابطال الاحتياط التام بمقتضى الاجماع أو الحرج والعسر ( فإنه ) بعد تخصيص الوجوب بمقتضى الاهتمام المحرز بخصوص المظنونات يبطل الاحتياط الكلي في المشكوكات والموهومات بانتفاء ملاكه فيهما ( وهذا ) بخلاف التقريب الأول ، فإنه يحتاج في تعيين خصوص الظن في المرجعية إلى المقدمة الرابعة ( لان ) التخلص عن محذور الخروج عن الدين كما يكون بالأخذ بالمظنونات ، كذلك يكون بالأخذ بما عدى المظنونات فيحتاج في تعين خصوص الظن إلى التشبث بالمقدمة الرابعة ( نعم ) ذلك أيضا لا يحتاج إلى المقدمة الثالثة ، حيث لا يلزم من حكم العقل بوجوب التعرض للتكاليف بمقدار يرتفع به محذور الخروج عن الدين الاحتياط الكلي كي يلزمه محذور الحرج والعسر فبطلان الاحتياط الكلى حينئذ كان من جهة انتفاء ملاكه من الأول ( ثم من الأوجه )

ص: 164

في تقرير الحكومة هو التقريب الثاني دون الأول ( لعدم ) ثبوت ملاك واضح لحكم العقل بمنجزية مطلق الاحتمال عدى توهم مناط الاحتمال قبل الفحص والنظر في المعجزة ( وهو ) غير متحقق في المقام ، لوضوح ان مناط حكم العقل بالتنجيز هناك ليس مجرد احتمال التكليف الفعلي والا لم يبق مورد لجريان البراءة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ( وانما ) المناط فيه هو احتمال الظفر بما يوجب تنجز التكليف ، من علم أو علمي ، وذلك أيضا في فرض كون احتمال الظفر بالدليل احتمالا عقلائيا لكون المنجز المحتمل بنحو لو تفحص عنه لظفر به على تقدير وجوده ، ففي الحقيقة الاحتمال المتحقق هناك احتمال للتكليف الثابت تنجزه بالدليل ( ومن المعلوم ) انتفاء هذا الملاك في المقام المفروض فيه انسداد باب العلم والعلمي بالتكليف بالمرة والقطع بعدم الظفر بالدليل ولو بعد الفحص التام ( وبذلك ) ظهر الحال في حكمه بوجوب النظر في المعجزة ( فان ) المناط فيه انما هو احتمال حصول العلم بصدق مدعى النبوة بالنظر في المعجزة ( وهو ) غير مرتبط بمسئلتنا هذه التي انسد فيها باب العلم والعلمي ( واما التخلص ) عن محذور الخروج عن الدين ، فهو انما يصلح ان يكون ملاكا لحكم العقل بمنجزية الاحتمال إذا كان محذور الخروج عن الدين بنفسه علة لعدم جواز الاهمال ، وليس كذلك ( وانما ) ذلك من جهة كشفه عن وجود منجز في البين يكون هو العلة لعدم جواز الاهمال ( وهو ) لا يكون الا ما ذكرناه من الاهتمام ، بل يمكن قويا كون مدرك المجمعين على بطلان الاهمال ولو مع عدم علم اجمالي أو عدم منجزيته هو استكشافهم الاهتمام المزبور وعليه يتعين الحكومة بالتقرير الثاني

بقى التنبيه على أمور

( الأول ) في أن نتيجة مقدمات الانسداد هل هي اعتبار الظن في خصوص المسألة الأصولية وهي كون الشيء طريقا ( أو هي ) اعتبار الظن في خصوص المسألة الفقهية « أو هي » اعتبار الظن في كل من المسألة الأصولية والفقهية « فنقول » « اما » على تقرير الكشف باقسامه فلا ينبغي الاشكال في عموم النتيجة « إذ » بعد استكشاف حجية الظن لا يفرق العقل فيه بين الظن بالواقع

ص: 165

والظن بالطريق فيحتاج تخصيصه بأحد الامرين إلى مخصص « واما » على تقرير الحكومة فتختلف باختلاف تقرير الحكومة « فعلى » تقريرها بملاك الاهتمام يمكن دعوى اختصاصها بخصوص الظن المتعلق بالواقع « لان » القدر المتيقن « من » الاهتمام المحرز انما هو اهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية في دائرة الظنون « واما » بالنسبة إلى الاخذ بالطرق المجعولة واقعا ، فلم يحرز اهتمامه بها بنحو لا يرضى بتركها ولو في ظرف الجهل بها ومع عدم احراز هذا الاهتمام بالنسبة إليها لا يبقى مجال لتعميم النتيجة لمطلق الظن « واما بناء » على تقريبها بمناط التخلص عن محذور الخروج عن الدين فلا يفرق فيه بين الظن بالواقع أو الطريق « لان » في العمل بكل منهما يرتفع المحذور المزبور « واما » على مسلك التبعيض في الاحتياط الناشئ من جهة العلم الاجمالي فتختلف النتيجة تعميما وتخصيصا باختلاف تقريب العلم الاجمالي « فعلى تقريبه » بالعلم الاجمالي بخصوص التكاليف الواقعية يلزم تخصيص النتيجة بخصوص الظن بالمسائل الفرعية « وتوهم » عموم النتيجة حينئذ بدعوى ان تمهيد مقدمات الانسداد انما هو لأجل رعاية التكليف المعلوم بالاجمال والخروج عن عهدته وهو كما يحصل بالظن بالواقع يحصل بالظن بالطريق ( مدفوع ) بان لازم تخصيص العلم الاجمالي بالأحكام الفرعية هو انتفاء العلم الاجمالي في الاحكام الأصولية اما بانتفاء العلم فيها رأسا واما من جهة عدم انسداد باب العلم فيها وعلى كلا التقديرين لا مجال للاكتفاء بالفراغ الظني الجعلي « وهذا » على الثاني ظاهر فإنه بعد عدم انسداد باب العلم بالأحكام الأصولية بحكم العقل بتحصيل الفراغ اليقيني الجعلي ولا معنى حينئذ للاكتفاء بالفراغ الظني الجعلي « وكذلك » على الأول لوضوح تبعية الظن للعلم الاجمالي فكلما ثبت الاشتغال به بمقتضى العلم الاجمالي كان الظن بمقتضى المقدمات المزبورة مرجعا في مقام اسقاطه والخروج عن عهدته فإذا فرض اختصاص العلم الاجمالي بخصوص الاحكام الواقعية وكان الشك بالنسبة إلى الطرق بدويا محضا فيما يترتب عليها من النتيجة لا يكون الا مرجعية الظن المتعلق بالواقع دون الطريق فتأمل « واما على تقريبه بالعلم الاجمالي » بمطلق الوظيفة الفعلية أعم من الواقعية والظاهرية فما يترتب عليها من النتيجة انما هو الظن بقول مطلق كان متعلقا بالواقع أو الطريق ( واما ) على تقريبه

ص: 166

بعلم اجمالي بالتكاليف الواقعية وعلم اجمالي آخر بجعل الطرق الخاصة للتكاليف الواقعية الوافية بالمعلوم بالاجمال من الاحكام ( فتختص ) النتيجة بالظن بالطريق لانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية بما في مؤديات تلك الطرق المعلومة بالاجمال والشك البدوي في غيرها ، ولازمه بعد عدم طريق علمي إلى تعيين تلك الطرق هو الرجوع فيها إلى الظن ( والى ذلك ) نظر صاحب الفصول قده فيما افاده من اعتبار الظن بالطريق دون الواقع ( حيث ) قال ما لفظه لا ريب انا كما نقطع بانا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام كثيرة لا سبيل بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه القطع ولو عند تعذره ( كذلك ) نقطع بان الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى امر واحد وهو القطع بانا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدي الطرق وحيث لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا طريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص مقامه ( فلا ريب ) في أن الوظيفة الفعلية في مثل ذلك بحكم العقل انما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن انتهى ( فان قوله ) قده سره ومرجع القطعين الخ ظاهر فيما ذكرنا من انحلال العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية بما في مؤديات تلك الطرق المعلومة بالاجمال والشك البدوي في غيرها ( لان ) بالعلم الاجمالي بنصب طرق خاصة للأحكام الواقعية تأسيسا أو امضاء وافية بالمعلوم بالاجمال من الاحكام ينحل العلم الاجمالي بالأحكام لا محالة بالعلم بما تضمنته تلك الطرق والشك البدوي في ما عداها ، ولازمه اختصاص النتيجة بالظن بالطريق دون الواقع ( ولا يخفى ) انه على هذا التقريب لا يتوجه عليه ما افاده الشيخ قده سره في الاشكال الخامس من منع اقتضائه لتعيين العمل بالظن بالطريق وان غايته كونه مجوزا له فيجوز العمل بالظن بالواقع أيضا ( إذ ) يتم ذلك لولا الانحلال المزبور ( واما ) مع انحلال العلم الاجمالي بالواقع وصيرورة الشك في غير ما تضمنته الطرق المنصوبة المعلومة بالاجمال بدويا ، فلا محيص من تخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق ( واما توهم ) منع اقتضاء مجرد العلم الاجمالي بنصب الطرق لانحلال العلم الاجمالي بالتكاليف « بتقريب » ان انحلال

ص: 167

العلم الاجمالي بالأحكام انما هو من لوازم جريان الأصول اللفظية والجهية في الطرق المجعولة وجريان هذه الأصول منوط بوصول تلك الطرق إلى المكلف تفصيلا بنحو يميزها عن غيرها كي بالعلم بها وظهورها وجهة صدورها ينحل العلم الاجمالي الكبير ( والا ) فمع عدم العلم بها تفصيلا لا يكاد تجرى فيها الأصول اللفظية والجهية ومع عدم جريانها يبقى العلم الاجمالي الكبير بالتكاليف على حاله ومقتضاه هو الخروج عن عهدتها علماء مع التمكن منه وظنا مع عدم التمكن من العلم ( فمدفوع ) بأنه يتم ذلك في فرض عدم الجزم بظهور ما هو الصادر اجمالا ( والا ) ففي فرض الجزم بظهوره فلا قصور في جريان الأصول وحجية مثل هذا الظهور المعلوم صدوره اجمالا بين الاخبار وسببيته لانحلال العلم الاجمالي الكبير بالأحكام الواقعية كما لا يخفي ، وعليه لا مجال للاشكال على الفصول من هذه الجهة ( نعم ) يمكن الاشكال عليه بمنع العلم الاجمالي المستقل بجعل الطرق المخصوصة للتكاليف ، ومنع كونها فيما بأيدينا فيمنع حينئذ أصل العلم الاجمالي بجعل الطرق الخاصة للتكاليف ولو امضاء إذ من الممكن ايكال الشارع واحالته للعباد في امتثال التكاليف إلى ما تداول بينهم في امتثال احكام مواليهم العرفية من الرجوع أولاً إلى العلم الحاصل من تواتر النقل ومع فقده إلى الظن والاطميناني أو الاخذ بالاحتياط ومع هذا الاحتمال لا مجال لدعوى القطع بنصب الشارع طرقا خاصة إلى ما هو المجعول من الاحكام الواقعية بتوهم ان كل حاكم لابد له من نصب طرق خاصة إلى احكامه المجعولة في مقام السلوك إليها وان الشارع أيضا غير متخطي عن تلك الطريقة المألوفة ( ولعله ) لما ذكرنا أنكر السيد قده ومن تبعه نصب طرق خاصة للأحكام الواقعية ( نعم ) دعوى العلم الاجمالي بمطلق الوظيفة الفعلية أعم من الواقعية والظاهرية كما هو مقتضى التقريب الثاني في محلها ( ولكنه ) غير دعوى العلم الاجمالي المستقل بجعل طرق خاصة بمقدار المعلوم بالاجمال وهذا هو الذي منعنا عنه ( كيف ) وانه لو كان لبان واشتهر لعموم البلوى به وتوفر الدواعي إلى نقله ( واما الانتصار ) له بان الممنوع انما هو نصب الشارع واختراعه طرقا مخصوصة للأحكام بنحو التأسيس فإنها هي التي تتوفر الدواعي إلى نقلها ( واما ) كونه بنحو الامضاء فلا مانع من دعوى العلم الاجمالي بامضاء الشارع لبعض ما بيد العرف والعقلاء من الطرق العقلائية

ص: 168

وافية بالأحكام الشرعية لخفاء ما أمضاه وعدم علمنا به تفصيلا ( فان ) النصب بهذا المعنى ليس مما تتوفر الدواعي إلى نقله كي يستبعد وقوعه خصوصا مع كفاية مجرد عدم الردع في الامضاء ( فمندفع أولاً ) بان دعوى العلم الاجمالي بامضاء الشارع لبعض ما بيد العرف من الطرق العقلائية ولو من جهة عدم الردع منوطة باثبات تخصيص الامضاء ببعض دون بعض ( والا ) فيلزم بمقتضى عدم الردع على ما أفيد حجية جميع الطرق العقلائية ، واثبات تخصيص الامضاء ببعض دون بعض لا يكون بأقل من جعل الشيء طريقا بالاستقلال في توفر الدواعي إلى نقله واشتهاره كما هو ظاهر ( وثانيا ) نمنع كونها فعلا فيما بأيدينا من جهة احتمال كونها من الامارات غير الواصلة إلينا وان كانت موجودة في الصدر الأول ( ومع هذا ) الاحتمال لا ينتهى الامر إلى لزوم العمل بالظن بالطريق ( وثالثا ) ان اللازم حينئذ هو الاخذ بما هو المتيقن منها في الحجية وهو الصحاح من الاخبار المفيدة للاطمينان إذ لا يحتمل عدم حجيتها وحجية ما عداها من الخبر الموثق والشهرة والاجماع المنقول ونحوها ( فمع ) وفائها بمعظم الفقه يقتصر عليها والا فيضاف إليها الموثقات لكونها متيقنة بالإضافة إلى مطلق الخبر والشهرة والاجماع المنقول ونحوها ومع عدم وفائها أيضا فالمتيقن بالإضافة وهكذا « ومع » الغض عن ذلك ولو بدعوى عدم كفاية الصحاح وانتفاء ما هو متيقن الحجية والاعتبار بالإضافة في البقية من جهة تساوى احتمال النصب في كل واحد منها كما قيل لا ينتج ذلك أيضا تعين العمل بالظن بالطريق « بل » يعم الظن بالتكليف الذي يظن كونه مؤدى طريق معتبر في الواقع « فان » القدر الذي يقتضيه البرهان المزبور انما هو خروج الظن بالتكليف الذي لا يظن كونه مؤدى طريق معتبر لا خروج مطلق الظن بالتكليف ولو مع الظن بكونه مؤدى طريق معتبر واقعا فحكم هذا الظن حكم الظن بطريقية طريق خاص في جواز الاكتفاء به وان لم يحصل الظن بطريقية طريق خاص « وهذا » أيضا لولا دعوى وجوب الاحتياط حينئذ في الجميع « ويمكن » توجيه كلامه قده بوجه آخر وان كان بعيدا وهو ان يكون المراد من قوله ومرجع القطعين « الخ » هو صرف التكاليف الفعلية إلى مؤديات الطرق المعلومة بالاجمال بدعوى ان العلم بجعل الطرق للتكاليف موجب للقطع بان الحكم الفعلي

ص: 169

ليس الا عبارة عن الاحكام التي قامت عليها الطرق لا مقيدة بقيام الطرق عليها كي يلزم التصويب وان غير ما في دائرة تلك الطرق المعلومة بالاجمال لا يكون حكما فعليا يجب اتباعه بل حكما شأنيا ومما سكت اللّه عنه ولازمه هو الاقتصار على خصوص الظن بالطريق دون الواقع للقطع حينئذ بعدم كونه حكما فعليا يجب اتباعه هذا « ولكن » فيه ان لازم البيان المزبور بعد تسليمه وان كان هو عدم تصور القطع ولا الظن بالحكم الفعلي في غير دائرة الطرق المجعولة ، الا ان لازمه كما ذكرنا هو الاخذ بما هو متيقن الاعتبار ولو بالإضافة بما يفي بمعظم الفقه ومع عدم كفايته أو عدم وجود المتيقن لتساوي احتمال الحجية في الجميع يتعدى إلى ما يظن كونه مؤدى طريق معتبر واقعا وان لم نعلمه نحن ولا كان واصلا إلينا أصلا « لا انه » يتعين الاخذ بخصوص الظن بالطريق « بل حينئذ » لا يكاد ينفك الظن بالحكم الفعلي في فرض حصوله عن الظن بكونه مما قام عليه طريق معتبر بحسب الواقع ، فمتى حصل الظن بالتكليف الفعلي ولو من طريق موهوم الحجية كالشهرة والاستحسان فلابد من الكشف عن كونه مؤدى طريق معتبر واقعا ( فلا ) يترتب حينئذ ثمرة بين هذا القول وبين القول بالتعميم ، لأنه على كل حال لا ينفك الظن بالحكم الفعلي عن الظن بكونه مؤدى طريق معتبر في الواقع وان لم يحصل الظن بطريقية طريق خاص فتدبر ( ثم إن في المقام تقريبا ) آخر لصاحب الحاشية قده سره في وجه تخصيص النتيجة بالظن بالطريق بلا احتياج فيه إلى دعوى العلم الاجمالي بجعل الطرق قال قده فيما حكى انه لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية ولم يسقط عنا التكليف بالأحكام الشرعية في الجملة وان الواجب علينا أولاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف بان يقطع معه حكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به وسقوط التكليف عنا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أو لا حسب ما مر تفصيل القول فيه وحينئذ نقول ان صح لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم الشارع فلا اشكال في وجوبه وحصول البراءة وان انسد علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبرائة في حكمه إذ هو الأقرب إلى العلم به فيتعين الاخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن وبينهما بون بعيد إذ ) المعتبر

ص: 170

في الوجه الأول هو الاخذ بما يظن كونه حجة بقيام دليل ظني على حجية سواء حصل منه الظن بالواقع أولاً ( وفي الوجه ) الثاني لا يلزم حصول الظن بالبرائة في حكم الشارع ( إذ ) لا يستلزم الظن بالواقع الظن باكتفاء المكلف بذلك الظن في العمل سيما بعد النهى عن اتباع الظن « فإذا » تعين تحصيل ذلك بمقتضى العقل يلزم اعتبار امر آخر يظن معه برضى المكلف بالعمل به وليس ذلك الا الدليل الظني الدال على حجيته فكل طريق قام ظن على حجيته عند الشارع يكون حجة دون ما لم يقم عليه انتهى « أقول وملخص » مرامه قده هو ان هم العقل حسب اقتضاء الاشتغال اليقيني للفراغ اليقيني انما هو تحصيل اليقين بالفراغ وجدانا أو جعلا وتنزيلا الذي هو عبارة عن تحصيل الحجة على الواقع بنحو كان تحصيل الحجة على الفراغ في عرض تحصيل اليقين بالفراغ الواقعي لا في عرض الفراغ الواقعي « ولازم » هذه العرضية انه مع التمكن من تحصيل اليقين أو اليقيني بالفراغ يتعين عليه ذلك قهرا ومع عدم التمكن وانتهاء الامر إلى الظن ( هو ) لزوم تحصيل الظن بالفراغ عن يقين تنزيلي الذي هو في عرض الفراغ عن يقين وجداني وهو منحصر بالظن بطريقية شيء وحجيته دون الظن بأداء الواقع « لان » الظن بأداء الواقع وان كان ظنا بالفراغ الواقعي ( ولكنه ) لا يلازم الظن بالفراغ عن يقين وجداني أو تعبدي بخلاف الظن بالطريق فإنه يلازم الظن بالفراغ اليقيني التنزيلي وان لم يلازم الظن بالفراغ الحقيقي حيث إن حجية شيء بتتميم كشفه مساوق لجعله يقينا تنزيلا فلا جرم يكون الظن بالطريق ملازما للظن بحكم الشارع بالفراغ فيظن حينئذ بالفراغ عن يقين تعبدي تنزيلي « ولئن » شئت قلت إن موضوع الزام العقل بعد أن كان هو تحصيل القطع أو القطعي بالفراغ فمع التمكن منه يتعين عليه ذلك حيث يقطع بحصول موضوع الالزام العقلي ، ومع عدم التمكن منه وانتهاء النوبة إلى الظن يتعين الاخذ بالظن بالطريق لكونه ظنا بما هو موضوع الالزام العقلي أعني الفراغ اليقيني التنزيلي ، بخلاف الظن بالواقع فإنه لا يكون ظنا بموضوع الالزام ، إذ لا يكون ظنا بالفراغ عن يقين وجداني ولا ملازما للظن بحكم الشارع بالفراغ كي يكون ظنا بالفراغ اليقيني التعبدي نعم هو ملازم للظن بالفراغ الواقعي الذي هو خارج عن

ص: 171

موضوع الزام العقل ( ولا يخفى انه ) على هذا البيان لا يرد عليه ما أفيد من الاشكال « تارة » بأنه لا معنى محصل لقوله الواجب علينا أولاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف فان باب الامتثال وتفريغ الذمة ليس مما يقبل الجعل الشرعي والحكم بأنه حصل الامتثال بل هو دائر مدار فعل متعلقات التكاليف فمع الآيتان بالمأمور به بما له من الاجزاء والشرائط يترتب عليه قهرا حصول الامتثال وتفريغ الذمة ، ومعه لا يبقى مجال حكم الشارع بالفراغ كي يحتاج إلى تحصيل العلم به ويتنزل عند الانسداد إلى لزوم تحصيل الظن بحكمه بتفريغ الذمة « وأخرى » بان تفريغ الذمة انما هو بفعل ما اراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية ، والاكتفاء بما قام عليه الطريق الجعلي انما هو لكون مؤداه بحكم الشارع نفس المراد الواقعي لا من جهة انه شيء مستقل في عرض الواقع فلا معنى حينئذ لجعل الطرق في عرض الواقع والحكم بتخيير المكلف بين تحصيل العلم بالواقع وبين العمل بالطرق ( وثالثة ) بان العلم بالواقع كما يلازم العلم بالفراغ في حكم الشارع كذلك يكون الظن بالواقع ملازما للظن بالفراغ في حكم الشارع إذ لا يعقل الفرق بين العلم والظن من هذه الجهة وغير ذلك من الاشكالات ( إذ نقول ) بابتناء المحاذير المزبورة على أن يكون مورد الزام العقل عند الاشتغال بشيء هو الفراغ الواقعي « والا » فلو كان مورد الزامه تحصيل اليقين أو اليقيني بالفراغ المستتبع لحكم الشارع به ولو ارشادا فلا يرد عليه شيء من المحاذير المزبورة حيث إنه بنفسه معنى وجيه وقابل لاخذ النتيجة منه إذ كان تحصيل تلك الطرق حينئذ في عرض تحصيل العلم بالواقع لا في عرض نفس الواقع والتخيير انما كان بين تحصيل العلم الوجداني بالفراغ الحقيقي وبين تحصيل العلم التعبدي التنزيلي بالفراغ الناشي من حجية شيء شرعا بتتميم كشفه الناقص في ظرف الجهل بالواقع ، لا ان التخيير كان بين نفس أداء الواقع وبين العمل بالطرق كي ترمى بالغرابة كما أن مراده بحكم الشارع بتفريغ الذمة حينئذ انما هو حكمه ارشادا بلزوم تحصيل اليقين أو اليقيني بالفراغ لا مولويا ( ومن ) المعلوم ان لازم ذلك في حال الانسداد عند التنزل إلى الظن هو الاخذ بما يظن كونه موضوع الزام العقل وهو لا يكون الا الظن بحجية شيء دون الظن بالواقع لعدم كونه ظنا بموضوع الزام العقل ( وملازمة ) العلم بالواقع

ص: 172

للعلم بالفراغ انما هي باعتبار العلم بحصول موضوع الالزام العقلي وأين ذلك والظن بصرف الواقع ، فإنه لا يكون ملازما للظن بحصول الزام العقل لا وجدانا ولا تنزيلا ( وفي ) هذا المقدار من الدعوى لاخذ النتيجة المزبورة ، لا يحتاج إلى دعوى العلم الاجمالي بنصب الشارع طرقا إلى احكامه تقتضي اشتغال الذمة بمؤدياتها كي يرد عليه ما أورد سابقا على الفصول ( بل ) يكفيه مجرد دعوى استقلال العقل عند الاشتغال بشيء بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ أو اليقيني منه ، فإنه ينتج عند عدم التمكن من تحصيل العلم أو العلمي بالفراغ لزوم الاخذ بما يظن كونه مورد الزام العقل الذي هو منحصر بالظن بالطريق « فتدبر » وحينئذ ( فالتحقيق ) في الجواب عنه هو ان يقال بان اكتفاء العقل عند الانسداد بمثل الظن المزبور ليس من جهة صرف كونه ظنا بالفراغ الجعلي بل انما ذلك من جهة حجية هذا الظن بمقدمات الانسداد وانتهائه بالآخرة إلى الفراغ اليقيني ( وفى ذلك ) نقول ان مقدمات الانسداد إذا اقتضت حجية الظن بالطريق تقتضي حجية الظن بالواقع أيضا لاقتضاء تلك المقدمات قيام الظن بالشيء عند الانسداد مقام العلم به في المنجزية والمعذرية فكما ان العلم بأداء الواقع الجعلي يجدى في تفريغ الذمة كذلك الظن بالواقع عند الانسداد فإنه بعد حجيته بمقدمات الانسداد يحصل القطع بالفراغ الجعلي ، فلا فرق حينئذ بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع لان بكل منهما بعد حجيته وقيامه مقام العلم بمقدمات الانسداد يحصل الفراغ اليقيني الذي هو مورد الزام العقل ( هذا ) « ويمكن توجيه كلام المحقق المزبور » وان كان بعيدا بما نسب إلى بعض منهم الشيخ الكبير كاشف الغطاء قده أستاذ المحقق المزبور من كون حجية القطع تعليقية قابلة لردع الشارع عنه ، فإنه على ذلك يتم ما افاده من الاحتياج إلى تحصيل العلم بحكم الشارع بتفريغ الذمة عن التكليف وعدم جواز الاكتفاء بمجرد القطع باتيان الواقع في الخروج عن عهدة التكاليف ما لم يحرز حكمه بالفراغ ولو بسكوته الكاشف عن امضائه وهذا بخلاف العمل على طبق ما علم طريقيته بجعل الشارع إذ القطع به مستلزم لحكمه بتفريغ الذمة عند سلوكه ، وعليه ففي فرض الانسداد وانتهاء الامر إلى الظن لابد من التنزل إلى خصوص الظن الذي يظن معه بحكم الشارع

ص: 173

بتفريغ الذمة وهو لا يكون الا الظن بالطريق دون الواقع لان الظن بطريقية شيء ملازم قهرا مع الظن بحكم الشارع بالفراغ بخلاف الظن بالواقع فإنه لا يكون بأعظم من القطع الوجداني بالواقع ، فإذا لم يكن ذلك مستلزما للقطع بحكم الشارع بتفريغ الذمة عما كلف به الا بضميمة امضائه ولو بسكوته الكاشف عنه ، فكيف بالظن بالواقع الذي هو غير مستلزم للظن بحكمه بالفراغ ولكن ) يرد عليه مضافا إلى فساد أصل هذا المبنى كما حققناه في محله ما أوردناه أخيرا على التقريب السابق من أن اكتفاء العقل بمثل الظن المزبور ليس من جهة صرف كونه ظنا بالفراغ الجعلي ، وانما ذلك من جهة حجية هذا الظن بمقدمات الانسداد وانتهائه بالآخرة إلى الفراغ اليقيني الجعلي وفى هذه الجهة لا يفرق العقل بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع إذ بعد حجية الظن بالواقع بمقتضى مقدمات انسداد وانتهائه بالآخرة إلى القطع برضاء الشارع بالأخذ به يكون لا محالة كالظن المتعلق بالطريق ، ومعه لا مجال لتخصيص حجية الظن بخصوص الظن بالطريق كما هو ظاهر.

( الامر الثاني ) في أن نتيجة الانسداد هل هي مطلقة أو مهملة والمراد باطلاق النتيجة هي كلية النتيجة واعتبار الظن مطلقا من جهة الأسباب والموارد والمراتب ويقابلها اهمال النتيجة بمعنى قابليتها للكلية والجزئية بحسب الموارد والأسباب والمراتب أو بالنسبة إلى بعض الجهات المزبورة وان كان المتيقن هو الجزئية ( فنقول ) اما بناء على مسلك التبعيض في الاحتياط بمناط منجزية العلم الاجمالي الراجع إلى مرجعية الظن عقلا في مقام اسقاط التكليف فلا ينبغي الاشكال في اطلاق النتيجة ( فان ) مقتضى العلم الاجمالي بعد عدم التمكن من الاحتياط التام أو عدم وجوبه وان كان هو التخيير في الاحتياط التبعيضي ولكنه بعد انتهاء النوبة إلى الامتثال الظني بمقتضى المقدمة الرابعة لا يفرق العقل في حكمه بمرجعية الظن بين موارده وأسبابه ومراتبه ( واما على مسلك ) الحكومة الذي هو المختار فلا اهمال فيها أيضا بل هي بحسب الموارد والأسباب على نحو الكلية من غير فرق في ذلك بين ان نقول ببطلان الاحتياط والبرائة في مجموع المسائل أو في كل واحد منها حيث إنه بعد استقلال العقل بمرجعية الظن بمقتضى المقدمة الرابعة لا يفرق فيه بين الموارد والأسباب ( فتوهم ) لزوم الاهمال فيه بناء على فرض كون بطلان الاحتياط والبرائة

ص: 174

في مجموع المسائل منظور فيه ( كيف ) وعلى الحكومة كان الامر بيد العقل وبعد احراز مناطه لديه لا معنى لاهمال حكمه ( نعم ) بحسب المراتب يتعين الاخذ بأقوى المراتب من الظنون في فرض كونه وافيا بمعظم الفقه لكونه هو المتيقن لدى العقل بل مقتضى المقدمة الرابعة ذلك أيضا ( إذ ) المناط فيها هو الاخذ بأقرب الطرق إلى الواقع فلابد من الاخذ بأقوى المراتب من الظنون مع وفائها بالفقه والا فما دونها من المراتب الاخر ، من غير فرق في ذلك أيضا بين تقريب الحكومة بمناط الاهتمام أو بمناط التخلص عن محذور الخروج عن الدين وعلى كل تقدير لا اهمال في النتيجة على هذا المسلك ( واما على مسلك الكشف ) ففيها اهمال من الجهات الثلاث موردا ومرتبة وسببا بل على هذا المسلك كما ذكرنا لا وجه لتعيين ما هو المجعول حجة في الظنون مع احتمال كون مناط الحجية في غير الظن وفرض عدم ايكال الشارع في بيان ما هو المجعول لديه إلى حكم العقل بلزوم الاخذ بالأقرب بالمقدمة الرابعة ( إذ ) حينئذ كما يحتمل ان يكون المجعول حجة هو مطلق الظن أو الظن في الجملة ، كذلك يحتمل ان يكون المجعول حجة غيره ( وعلى فرض ) انتهاء الامر إلى حجية الظن شرعا ( يتوجه ) الاشكال بأنه كما يحتمل ان تكون الحجة هو مطلق الظن ، كذلك يحتمل ان تكون هو الظن في الجملة ( وحيث ) لا يكون مناط جعل الشارع بيد العقل كي يحكم به تعميما أو تخصيصا ، فلابد في استفادة التعميم من المعممات الخارجية ، والا فيأتي فيه الاهمال من الجهات الثلاث ولو مع البناء على بطلان الاحتياط والرجوع إلى البراءة في كل مسألة من مسائل الفقه ، حيث لا يجدى مجرد ذلك في اثبات التعميم وكلية النتيجة كما هو ظاهر ( مضافا ) إلى ما تقدم من منع بطلان الاحتياط على الاطلاق وان المسلم منه انما هو بطلان الاحتياط الكلي في مجموع المسائل لا بطلانه في كل مسألة من غير فرق بين كون المستند لذلك هي أدلة نفي الحرج والعسر وبين كونه هو الاجماع فان القدر المسلم من الاجماع أيضا هو الاحتياط التام في مجموع الوقايع ( وكذا ) عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، فان عمدة الدليل على ذلك بعد سقوط العلم الاجمالي عن المنجزية بما بيناه انما هي المخالفة الكثيرة المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين ، ومن المعلوم عدم اقتضاء ذلك لبطلان الرجوع إلى البراءة

ص: 175

الا في مجموع الوقايع المتشبهة لا في كل واقعة واقعة ( واما ما أفيد ) من أن الوجه في ذلك انما هو استقلال العقل بقبح الاعتماد على البراءة في الوقايع المشتبهة قبل الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على مراد المولى ( وانه ) بذلك تسقط البراءة رأسا ولا تجرى ولو في مسألة واحدة ( فمدفوع ) بان ذلك يتم في فرض التمكن من الفحص والظفر بالدليل ، وهو غير متصور في ظرف الانسداد كي يقتضى المنع عن جريانها ( وتوهم ) ان الفحص في ظرف الانسداد انما هو بتعميم مقدمات الانسداد إلى أن ينتهى إلى حجية الظن ووجوب العمل على طبقه كشفا أو حكومة ( مدفوع ) بان مقدمات الانسداد انما تنتج حجية الظن ومرجعيته في ظرف سقوط البراءة عن الجريان ، حيث كان عدم جريان البراءة من مقدمات هذه النتيجة ( فلا ) يعقل كون ترتب هذه النتيجة مانعا عن جريان البراءة كما هو واضح وحينئذ ( فالتحقيق ) ان يقال ان النتيجة على القول بالكشف ، اما ان تكون الطريق الواصل بنفسه ( واما ) ان تكون الطريق الواصل بطريقه ( واما ) ان تكون مطلق الطريق ولو لم يصل ( والمراد ) من الطريق الواصل بنفسه هو ما علم حجيته ولو من جهة غاية خارجية ومعمم خارجي ككون الظنون متساوية الاقدام بنحو لا يحتاج في تعيين الحجة المجعولة إلى اجراء مقدمات الانسداد مرة أخرى أو مرارا إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو ظنون متعددة متساوية الاقدام ، ولا ينتهى أيضا إلى الاحتياط في الطريق ، في قبال الواصل بطريقه وغير الواصل رأسا ( لا ) ما علم حجيته بنفس مقدمات الانسداد الأول بلا ضم عناية خارجية ، ومن ذلك تريهم يعممون الظن من جهة تساوى الظنون وعدم ترجيح في البين ( فان ) نظرهم في التعميم بهذه الجهة إلى كون النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه في قبال التعميم من جهة اجراء مقدمات الانسداد مرة أخرى ، أو من جهة الاحتياط في الطريق الراجعين إلى الطريق الواصل بطريقه وغير الواصل ولو بطريقه ( وعلى كل حال ) نقول انه على الأول وهو كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه ( يلزمه ) عدم الاهمال لا بحسب الموارد ولا بحسب الأسباب بل ولا المراتب ( لان ) مقتضى ذلك هو الالتزام بايكال الشارع في تعيين مجعوله إلى حكم العقل ( ومن المعلوم ) انه بعد استقلال العقل بلزوم الاخذ

ص: 176

بالأقرب بمقتضى المقدمة الرابعة لا مجال لتصور الاهمال فيه ، إذ العقل لا اهمال في حكمه ( فلابد ) حينئذ وأن تكون النتيجة مطلقة بحسب الموارد والأسباب ومتعينة بحسب المرتبة بالأخذ بالأقرب ثم الأقرب من بين الظنون مع التفاوت في المرتبة ( الا بفرض عدم ايكال الشارع في تعيين مجعوله إلى حكم العقل ( ولكن ) ذلك مضافا إلى كونه خلاف الفرض وهو كون النتيجة الطريق الواصل بنفعه ، يتوجه عليه ما أشرنا إليه من أنه لا وجه حينئذ لتعيين ما هو المجعول حجة في الظنون ، فيلزمه الاحتياط في الطريق كما في الطريق غير الواصل ولو بطريقه ( ومن هذه ) الجهة نقول ان الجمع بين حجية الظن مع القول باهمال النتيجة لا يخلو عن تهافت ظاهر ، لان لازم القول بحجية الظن هو الالتزام بايكال الشارع إلى حكم العقل في تعيين مجعوله بما تقتضيه المقدمة الرابعة ، والا فلا يبقى مجال جعل النتيجة حجية الظن شرعا ( ومع ) فرض الايكال في تعيين الحجة المجعولة إلى حكم العقل بالأخذ بالأقرب لا محيص بعد عدم تصور الاهمال في حكم العقل عن الالتزام بعدم الاهمال ، لا بحسب الموارد والأسباب ، ولا بحسب المرتبة أيضا ، حيث إنه مع تساوى الظنون في المرتبة يحكم بالتعميم لعدم المرجح ومع التفاوت يحكم بالأخذ بالأقرب ثم الأقرب ( ومن ذلك ) نقول بترجيح مظنون الاعتبار على غيره لكونه أقرب إلى الواقع والى بدله في فرض المخالفة للواقع باعتبار ان الظن بالحجية ظن بالجبران في فرض المخالفة للواقع فبعين المناط الذي يحكم العقل بالأخذ بالأقرب يحكم أيضا بالأخذ بمظنون الحجية والاعتبار لا قربية مظنون الاعتبار إلى الواقع بجبرانه بلا احتياج في هذا التعيين إلى دليل خارجي كما توهم ، بل لازم ذلك كما افاده الشيخ قده هو الاخذ بما ظن حجيته بظن قد ظن حجيته وهكذا في فرض ترامي الظنون باعتبار كونه حينئذ أبعد عن مخالفة الواقع وبدله من غيره ، كما لو فرض حصول الظن من الشهرة بالواقع ثم حصل الظن من الخبر الواحد بحجية الشهرة ثم حصل الظن بحجية خبر الواحد من الاجماع المنقول وهكذا ( حيث ) انه يصير مثل هذا الظن من جهة ترامي الظنون المتأخرة أقرب إلى الواقع وبدله من غيره مما لا يكون كذلك من جهة ان الظن الثاني ظن بالجبران ووهم بعدمه والظن الثالث يسد هذا الوهم بالظن بالجبران وهكذا الظن الرابع فيلزمه صيرورة الظن المزبور أقرب إلى الواقع وجبرانه

ص: 177

فيكون عدم الجبران وهم في وهم ( فما أفيد ) من الاشكال على الشيخ قده بأنه لا اثر لترامي هذه الظنون في الأقربية إلى الواقع وجبرانه وانه بالوجدان لا يحصل ولو مع حصول الف ظن الا مجرد بادراك الواقع وبدله من غير أن يوجب هذا الترامي لقوة الظن بالواقع أو بدله الذي كان حاصلا في المرتبة الأولى ( منظور ) فيه ( فتلخص ) مما ذكرنا انه بناء على كون نتيجة الانسداد هو الطريق الواصل بنفسه لا يكون اهمال في النتيجة لا بحسب الموارد ولا الأسباب بل ولا بحسب المرتبة من غير فرق في ذلك بين ان يكون بطلان الاحتياط والبرائة في مجموع الوقايع المشتبهة أو في كل واحد منها حيث إنه بالبيان المتقدم يرتفع الاهمال ولو على بطلان الاحتياط والبرائة في مجموع الوقايع المشتبهة بلا احتياج في اثبات التعميم إلى ابطالهما في كل واحد من الوقايع المشتبهة بالعلم الاجمالي وبالاجماع المدعى على عدم بناء الشريعة على الامتثال الاحتمالي فتدبر ( واما بناء على كون النتيجة الطريق الواصل ) ولو بطريقه فيحتاج في رفع الاهمال بعد العلم الاجمالي بنصب الطريق إلى اجراء مقدمات انسداد آخر في تعيين ذلك الطريق المستكشف مرة أو مرارا إلى أن ينتهى إلى ظن واحد فيؤخذ به لتعينه قهرا أو ظنون متعددة متساوية في الاعتبار فيؤخذ بالجميع لعدم المرجح أو متفاوتة في كون بعضها متيقن الاعتبار وبعضها مظنون فيقتصر على المتيقن مع كفايته ولكن انتهاء النوبة إلى هذه المرحلة انما هو في فرض عدم ايكال الشارع في الانسداد الأول إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة والا فيخرج عن فرض كون النتيجة الطريق الواصل بطريقه لاستقلال العقل حينئذ بالأخذ بالأقرب فالأقرب فلا مجال للاهمال كي ينتهى الامر إلى الانسداد الثاني ( ولذلك ) لا يجرى فيه أيضا الترجيح بمظنون الاعتبار بالتقريب المتقدم لأنه مبنى على كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه كما أنه في فرض انتهاء الامر إلى الانسداد الثاني بعدم الايكال إلى المقدمة الرابعة في الانسداد الأول لا يختص جريانه بما ظن حجيته في خصوص الظنون بل يعم غيرها أيضا ( ومن ذلك ) ظهر الحال في الانسداد الثالث والرابع حيث إن انتهاء الامر إلى الانسداد الثالث فرع عدم ايكال الشارع إلى المقدمة الرابعة في تعيين الطريق في الانسداد الثاني من الاخذ بما هو أقرب الطرق إلى الطريق المجعول بالانسداد الأول والا فلا

ص: 178

تنتهي النوبة إلى جريان مقدمات الانسداد في الطريق ( كما أنه في فرض ) عدم الايكال إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة مطلقا لا في الانسداد الأول ( ولا ) في الانسداد في الطريق لابد من الاخذ بالاحتياط بمراعاة أطراف الاحتمال تماما أو تبعيضا تخييريا ما لم يكن بينها متيقن الاعتبار بمقدار الكفاية حيث إن عدم الايكال إلى حكم العقل بالمقدمة الرابعة مطلقا في معنى كون النتيجة هي الطريق غير الواصل ولو بطريقه ، ولازمه هو الاخذ بالاحتياط في دائرة الطرق تماما أو تبعيضا تخييرا بلا تعين في بعض دون بعض وهكذا الامر في فرض احتمال كون النتيجة الطريق غير الواصل رأسا فإنه لابد أيضا من الاحتياط في دائرة الطرق بلا مجال لاجراء الانسداد في تعيينه كما هو ظاهر.

( الامر الثالث ) في وجه خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد ( حيث ) انهم وقعوا في حيص وبيص من أنه كيف يمكن خروج القياس عن عموم النتيجة ، وكيف يجتمع نهى الشارع عن العمل بالقياس مع استقلال العقل وحكمه التنجيزي بان الظن في حال الانسداد كالعلم في كونه مناطا للإطاعة والمعصية ، مع أن الدليل العقلي غير قابل للتخصيص ( ولكن ) لا يخفى ان هذا الاشكال انما هو على خصوص مسلك التبعيض في الاحتياط بمناط العلم الاجمالي بالتكليف ( والا ) فعلى غيره من المسالك الاخر لا موقع للاشكال في خروجه ( وذلك ) اما على مسلك الكشف عن جعل ايجاب الاحتياط الشرعي أو جعل الحجية أو الطريقية والكاشفية للظن فظاهر لأنه بالنهي عن اتباع القياس لا يحتمل الحجية حتى يتوهم خوله في عموم النتيجة ( وكذلك الامر على مسلك المختار من الحكومة الراجع إلى حجية الظن ومثبتيته للتكليف عقلا بمناط الاهتمام ( فان ) حكم العقل حينئذ بمرجعية الظن انما كان مخصوصا باحتمال تكليف يقطع باهتمام الشارع به على فرض وجوده في مورد الاحتمال ( دون ) ما شك في أصل اهتمام الشارع به على فرض وجود ( ومن المعلوم ) انه مع نهى الشارع عن العمل بالظن القياسي لا مجال للقطع باهتمام الشارع به كي يكون مورد حكم العقل بالالزام بل هو كالشك البدوي في أصل الاهتمام في كونه مورد حكمه بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان ( وهكذا الكلام ) بناء على تقريب الحكومة بمناط منجزية الاحتمال كما

ص: 179

في احتمال قبل الفحص للتخلص عن محذور الخروج عن الدين حيث نقول بتعليقية حكم العقل حينئذ على عدم ترخيص واصل من الشارع أو نهيه عن الاخذ ببعض المحتملات ، فمع نهى الشارع حينئذ لا يبقى مورد لحكم العقل ( ولا يتوجه ) عليه ان لازم تعليقية حكم العقل على عدم نهى الشارع عن العمل بالظن هو عدم استقلاله بلزوم الاخذ بالظن في غير القياس أيضا ، نظرا إلى احتمال نهى الشارع عن امارة أخرى مثل نهيه عن العمل بالقياس ( ولا يندفع ) ذلك الا بالالتزام بتنجيزية حكم العقل في حال الانسداد بلزوم الاخذ بالظن وكونه مناطا للإطاعة والمعصية ، ومعه يتوجه اشكال خروج القياس على مسلك الحكومة أيضا « إذ نقول ان » ذلك انما يتم إذا كان حكم العقل معلقا على عدم المنع عنه واقعا « والا » فبناء على كونه معلقا على عدم وصول المنع الشرعي فلا مجال لهذا الاشكال كما هو ظاهر « وحينئذ » ينحصر الاشكال على مسلك التبعيض في الاحتياط بمناط منجزية العلم الاجمالي وعليته لحكم العقل الجزمي بلزوم الاخذ بالأقرب في مقام اسقاط التكليف بعد صرف أدلة الحرج إلى غيره « ولا دافع » للاشكال حينئذ الا الالتزام بتعليقية حكم العقل في أصل اقتضاء العلم الاجمالي أو استكشاف جعل البدل من النواهي كما تقدم نظيره بالنسبة إلى دليل الحرج « والا » فمع البناء على تنجيزية حكم العقل لا محيص عن الالتزام بعموم النتيجة وعدم خروج القياس عنها ولو بحمل تلك النواهي صرفا أو انصرافا على صورة الاستطراق بالقياس إلى الواقع في مقام اثبات التكليف كما كان عليه ديدن العامة من استطراقهم بالقياس ونحوه واستغنائهم بذلك عن الحجج الطاهرة عليهم الصلاة والسلام ، لا في مقام الاسقاط خصوصا في فرض الانسداد الذي هو مفروض الكلام « واما » ما ذكروه في التفصي عن الاشكال « فلا يجدى » شيئا خصوصا ما أفيد من أن الأحكام الشرعية ليست كالأحكام العرفية والعقلية في كون مناطاتها بيد العرف والعقل ، لما يرى من كون مبنى الشريعة على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، وان استقلال العقل بكفاية الامتثال الظني انما هو إذا كان عن منشأ عقلائي لا يكثر الخطاء فيه ، وبعد التفات العقل إلى كثرة خطأ القياس لا يستقل بكفاية الامتثال الظني الحاصل منه ولو مع قطع النظر عن الأدلة

ص: 180

القطعية الدالة على المنع عن العمل به ( ونحوه ) دعوى عدم حصول الظن من القياس بعد الالتفات إلى نهى الشارع عنه ( إذ من الواضح ) جدا انه كثيرا يحصل الظن من القياس ما لا يحصل من غيره من الامارات الاخر ( كوضوح ) ان عمدة المناط في نظر العقل في حكمه بلزوم الاخذ بالظن انما هو حيث قربه إلى الواقع لا جهة عقلائيته وانه ربما يكون الظن الحاصل من القياس أقرب من غيره إلى الواقع في نظر العقل الحاكم بالأخذ بالأقرب ( نعم ) ربما يكون الالتفات إلى كثرة خطائه منشأ لعدم حصول الظن بالواقع ، ولكنه غير مرتبط بمحل البحث الذي هو فرض حصول الظن بالواقع من القياس ( وعليه ) لا محيص في التفصي عن الاشكال من دعوى تعليقية حكم العقل في فرض الانسداد على عدم ردع شرعي على خلافه والا فعلى فرض تنجيزية حكمه لابد من الالتزام بعموم النتيجة وعدم خروج القياس ( واما ) الاشكال في أصل صحة نهى الشارع ومنعه عن العمل بالقياس ولو على القول بتعليقية حكم العقل نظرا إلى أنه قد يصيب الواقع ( فمدفوع ) بامكان اشتمال سلوكه لمفسدة غالبة على مصلحة الواقع بعكس مصلحة السلوكية في الطرق والامارات المجعولة كما ذكرناه سابقا فراجع.

( الامر الرابع ) في الظن المانع والممنوع كما لو قام ظن من افراد الظن المطلق على عدم حجية ظن بالخصوص ، وفي وجوب العمل بالظن المانع أو الممنوع أو تساقطهما خلاف مشهور بين الاعلام ، والذي يقتضيه التحقيق هو الأول ( وهذا ) على مسلك الحكومة بالتقريب المختار واضح ، لعدم احراز الاهتمام حينئذ في مورد ظن الممنوع ( وكذلك ) الامر على مسلك الكشف باقسامه والحكومة بالتقريب الاخر ، لما تقدم من تعليقية حكم العقل في باب الانسداد بالأخذ بالأقرب على عدم قيام دليل أو حجة على المنع عنه ( إذ حينئذ ) لابد من تقديم المانع ( فإنه ) من جهة تنجيزية اقتضائه للحجية يصلح للمانعية عن الظن الممنوع ، حيث لا مانع عنه بالفرض من دخوله تحت دليل الانسداد وحكم العقل فيه بالحجية الا الظن الممنوع الذي يكون أصل اقتضائه للحجية في ظرف عدم تأثير المقتضى التنجيزي في طرف المانع ( ومن المعلوم ) انه من المستحيل صلاحية مثله للمانعية عنه لكونه ، دوريا ، لتوقف مانعيته على حجيته المتوقفة على عدم تأثير المقتضى التنجيزي

ص: 181

في طرف المانع ، وتوقف ذلك على حجيته ومانعيته ( وحينئذ ) فلابد من تقديم المانع عليه بالتقريب المزبور كما في مقتضيين يكون أحدهما تنجيزيا والآخر تعليقيا ( من دون ) احتياج إلى اثبات الترجيح بقاعدة التخصيص والتخصص ، كي يناقش فيه بان مرجع هذه القاعدة انما هو إلى التمسك بأصالة العموم عند الشك في ورد التخصيص عليه ، باثبات لازمه وهو التخصص بالنسبة إلى خروج الفرد الاخر ، ومثلها أجنبية عن المقام لاختصاصها بالأدلة اللفظية الجارية فيها الأصول المعهودة ( نعم ) بناء على تنجيزية حكم العقل في باب الانسداد ( يتوجه ) الاشكال في تقديم المانع بلحاظ تنجيزية الاقتضاء في كل من المانع والممنوع وصلاحية كل منهما للمانعية عن الاخر ( بل ) قد يقوى حينئذ لزوم الاخذ بالممنوع بلحاظ انه مع استقلال العقل بلزوم الاخذ بالأقرب إلى الواقع لا يحتمل المنع ( ولكنه ) مشكل حيث إن ذلك فرع تطبيق دليل الانسداد أولاً على الظن الممنوع ، ولا ترجيح في ذلك بعد تساوى الظنين في نظر العقل وتنجيزية الاقتضاء في كل منهما ( نعم ) ذلك يتجه بناء على مسلك التبعيض في الاحتياط بمناط منجزية العلم الاجمالي حيث إنه بعد تنجيزية حكم العقل بالأخذ بالأقرب في مقام تحصيل الفراغ وآبائه عن مجيء الترخيص على الخلاف ( لا محيص ) عن الاخذ بالممنوع وطرح المانع ، ولذا كان عمدة اشكال خروج القياس أيضا على هذا المسلك ( مضافا ) إلى عدم اقتضاء المانع حينئذ لالغاء الظن الممنوع رأسا لان غاية ما يقتضيه هو عدم حجية الظن الممنوع ومنجزيته فأمكن الجمع بين الاخذ بالممنوع عملا بمناط التبعيض في الاحتياط وبين عدم اعتباره ، حيث لا يترتب اثر عملي عليه كي يقتضى العلم الاجمالي تنجزه ( مع ) انك عرفت في التفصي عن اشكال خروج القياس تعليقية حكم العقل في باب الانسداد حتى على هذا المسلك أيضا ( وعليه ) لابد من تقديم الظن المانع ( ثم انه ) بما ذكرنا يندفع ما أورده الشيخ قده في المقام من دعوى ان حصول الظن من المانع بعدم حجية الممنوع انما هو مع قطع النظر عن دخول الممنوع تحت دليل الانسداد ( والا ) فعلى فرض دخوله يقطع لا محالة بحجيته ومعه يستحيل بقاء المانع على إفادته للظن بعدم الحجية وحينئذ فعند الدوران لابد من تقديم الممنوع ، لأنه بدخوله تحت دليل الانسداد موجب لارتفاع الموضوع في طرف

ص: 182

المانع حيث يرتفع الظن بعدم الحجية وجدانا ( بخلاف ) العكس فإنه لا يلزم من دخول المانع ارتفاع الظن الممنوع وجدانا ، وانما غايته اقتضائه لالغاء حكمه ومنعه عن دخوله تحت الانسداد ( إذ نقول ) ان ما أفيد من لزوم ارتفاع الظن المانع في فرض تطبيق دليل الانسداد على الممنوع وان كان متينا ( الا ان ) الكلام في أصل تطبيق دليل الانسداد حينئذ على الممنوع مع وجود المانع التنجيزي وصلاحيته للمانعية عنه دونه ( فان ) الظن المانع حينئذ من جهة تنجيزية اقتضائه يقدم قهرا على الظن الممنوع فإنه لا مانع عنه في هذه الرتبة بالفرض عدى الممنوع الذي عرفت استحالة صلاحيته للمانعية عنه وبدخوله تحت الانسداد وحكم العقل فيه بالحجية يرتفع الموضوع في طرف الممنوع ( وان شئت ) قلت إن اقتضاء الممنوع للحجية من جهة تعليقته انما هو في الرتبة المتأخرة عن سقوط المانع عن الحجية ( ففي الرتبة ) السابقة يندرج المانع قهرا تحت دليل الانسداد بلا وجود مزاحم له في هذه المرتبة وبعد حكم العقل فيه بالحجية في هذه المرتبة لا يبقى مجال لحكمه بحجية الممنوع ( هذا ) وقد أورد على الشيخ قدس سره بمخالفة ما افاده من عدم امكان حصول الظن بعدم الحجية للوجدان ( وفيه ) ما لا يخفى فإنه ناشئ عن عدم التأمل في كلام الشيخ قدس سره ( ثم إن هذا ) كله في فرض عدم تخصيص دليل الانسداد بخصوص الظن بالواقع ، والا فعلى التخصيص به يتعين الاخذ بالممنوع محضا كما أنه في فرض تخصيصه بالظن بالطريق يتعين الاخذ بالظن المانع مع كون مفاد الممنوع هو الحكم الفرعي ( نعم ) في فرض كون مفاده حينئذ هو الحجية يأتي فيه الخلاف المتقدم كما لو قام امارة على عدم حجية امارة قامت على حجية امارة كذائية ومقتضى المختار فيه أيضا لزوم الاخذ بالامارة المانعة دون الممنوعة فتدبر.

( الامر الخامس ) لا يخفى ان ما ذكرنا في نتيجة دليل الانسداد على الحكومة والكشف في مرجعية الظن في مقام اثبات التكليف أو اسقاطه انما هو في مقام الخروج عن عهدة الاحكام الكلية المنسد فيها باب العلم والعلمي ( والظن ) انما كان مرجعا في مقام تعيين الحكم الكلي ، لا في مقام تطبيق المأمور به على المأتي به وموضوع الحكم الكلي المعلوم على الموضوع الخارجي فإذا شك في الصلاة المفروضة يوم الجمعة وقد ظن بكونها هي الجمعة فيتبع حينئذ ظنه ذلك واما لو ظن باتيان صلاة

ص: 183

الجمعة بعد ثبوت وجوبها فلا اعتماد على هذا الظن ( بل لابد ) بمقتضى قاعدة الاشتغال من الاتيان بها على نحو يقطع بانطباق المأمور به عليها ( وكذا الكلام ) في الشك في الموضوعات الخارجية كالشك في كون الشيء ترابا خالصا ، والشك في أن الجهة المعينة هي القبلة ونحو ذلك من الموارد الراجعة إلى الشك في تطبيق المفاهيم الكلية عليها ( فإنه ) لا يجدى مجرد الظن بالتطبيق والظن بالامتثال وبرائة الذمة عن الواقع في نحو هذه الأمور ( فالظن ) بالامتثال انما يجدي ويجوز الاعتماد عليه في أصل تعيين كون قبلة العراق مثلا ما بين المشرق والمغرب وتعيين كون الوظيفة يوم الجمعة هي صلاة الجمعة ، لا في تطبيق موضوع الحكم الكلي المعين على المأتي به ( الا ) إذا فرض رجوعه إلى الظن في تعيين الحكم الكلي كالظن ببعض المسائل الأصولية واللغوية ونحوهما ( نعم ) قد يجرى دليل الانسداد في بعض الموضوعات الخارجية كما في موضوع الضرر الذي أنيط به احكام كثيرة من نحو جواز التيمم والافطار ونحو ذلك فان باب العلم به لما كان منسدا في الغالب بحيث لا يعلم به الا بعد تحققه وكان اجراء أصالة العدم فيه أيضا موجبا للوقوع فيه غالبا أمكن دعوى جريان الانسداد فيه والاكتفاء بمجرد الظن بالضرر في ترتب الاحكام المزبورة ( ولكن ) ذلك أيضا لو لم نقل بإناطة تلك الأحكام حقيقة على مجرد الظن بالضرر وخوفه لا على الضرر الواقعي والا فلا يحتاج إلى اجراء الانسداد فتدبر.

( الامر السادس ) في جابرية مطلق الظن وموهنيته للرواية سندا ودلالة والمقصود بالكلام هو الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ولا على عدم اعتباره ( واما ) ما قام الدليل على عدم اعتباره كالظن القياسي فيظهر حكم مما سنذكره ( ومحل الكلام ) في ذلك يقع ، تارة في جابرية الظن أو موهنيته للسند ( وأخرى ) للدلالة فنقول اما جابرية الظن وموهنيته للرواية سندا فاجمال القول فيه هو انه يختلف ذلك باختلاف الوجوه المذكورة في مناط حجية الرواية من « كونه » مطلق الوثوق الشخصي بصدور الرواية عن الامام (عليه السلام) ولو من الخارج « أو كونه » الوثوق الحاصل من نفس الرواية باعتبار المزايا الداخلية لا مطلق الوثوق ولو من الخارج « أو كونه الوثوق » النوعي الناشئ من الأمور الداخلية كالظنون الرجالية المعمولة في تميز المشتركات وتحصيل عدالة الراوي

ص: 184

ووثاقته « أو مطلق » الوثوق النوعي ولو من الخارج اما مطلقا أو بشرط عدم قيام ظن فعلى على الخلاف « فعلى الأول » يلزمه المصير إلى جابرية الظن المزبور فإذا أفاد امارة غير معتبره كالشهرة الظن بصدور رواية عن الامام (عليه السلام) وكان الخبر ضعيفا في نفسه انجبر قصور سنده بها « كما أنه » يلزمه في الفرض المزبور الالتزام بالموهنية أيضا لأنه بقيام الظن الفعلي على الخلاف يرتفع الوثوق الشخصي بالصدور قهرا « ولو » مع كون الظن المزبور من الظنون القياسية المنهى عنها « وذلك » لا من جهة الاعتماد على الظن المزبور بل من جهة ملازمته لارتفاع الوثوق بالصدور الذي هو مناط الحجية « واما » على الثاني فلا عبرة بالظن المزبور لا جبرا ولا وهنا الا من جهة ملازمته لارتفاع الوثوق الفعلي بالصدور « وكذلك الامر » على الثالث بل الامر فيه أوضح إذ لا يكاد يؤثر قيام الظن الفعلي من الخارج في الجبر ولا في الوهن فإذا كان الخبر في نفسه باعتبار المزايا الداخلية مفيدا للوثوق النوعي لابد من الاخذ به ولو مع قيام الظن الفعلي على الخلاف نعم على القول بإناطة حجية الخبر بعدم قيام الظن الفعلي من الخارج على الخلاف اتجه قادحية الظن المزبور ولكن الكلام في أصل المبنى « واما » على الرابع وهو إناطة الحجية بمطلق الوثوق النوعي بالصدور ولو من الخارج فلا باس بجابرية الظن المزبور واما موهنيته له مع إفادته الوثوق النوعي في نفسه فلا « الا » إذا فرض كشفه عن خلل في سنده بنحو يرتفع معه الوثوق النوعي بالصدور « والا » فلا يقدح فيه مجرد قيام الظن المزبور على الخلاف نعم على فرض إناطة الحجية فيه بعدم قيام ظن شخصي على خلافه اتجه قادحيته ولكن الفرض ضعيف جدا « وحيث » ان التحقيق هو الاحتمال الرابع وهو كون مدار الحجية على مجرد الوثوق النوعي بالصدور ولو من الخارج من دون إناطة بعدم قيام الظن الفعلي على الخلاف كما تقدم في مبحث حجية خبر الواحد فلا يقدح في حجيته قيام الظن الفعلي على الخلاف « الا إذا » فرض كشفه عن خلل فيه يوجب ارتفاع الوثوق النوعي « ومن هذا البيان » ظهر عدم الاحتياج إلى القواعد الرجالية المعمولة في تصحيح الاخبار ، فان الاحتياج إليها انما هو على القول بتخصيص الوثوق الفعلي أو النوعي بالوثوق الناشئ

ص: 185

من المزايا الداخلية ( والا فعلى ) المختار من كفاية مطلق الوثوق النوعي ولو من الخارج كالشهرة الفتوائية الاستنادية لا يحتاج إلى اعمال القواعد الرجالية ( فإذا ) كان الخبر مما يفيد الوثوق النوعي بالصدور ولو من جهة استناد المشهور إليه في فتاويهم يؤخذ به ، وان كان ضعيفا في نفسه بمقتضى القواعد الرجالية ( كما أنه ) باعراض المشهور عنه لابد من طرحه ولو كان في نفسه صحيحا وكان رواته جميعا مزكاة بتزكية العدلين ( لان ) اعراض المشهور عن مثله يكشف لا محالة عن خلل في سنده موجب لارتفاع الوثوق عنه ( ومن ) هذه الجهة اشتهر بينهم بان الخبر كلما ازداد صحة ازداد باعراض المشهور عنه وهنا ( ثم إن هذا ) كله في الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ( واما ) ما قام الدليل على عدم اعتباره كالقياس فلا شبهة في أنه لا يعتنى به جبرا ولا وهنا حتى على القول بتخصيص الحجية بصورة عدم قيام ظن فعلى على خلافه إذ بعد نهى الشارع عن القياس واعماله فلا جرم بمقتضى النهى المزبور لابد من طرحه وفرضه كان لم يكن جبرا ووهنا ( نعم ) قادحية مثل القياس انما هو في صورة اعتبار مطلق الوثوق الفعلي في حجية الخبر إذ حينئذ بقيام الظن القياسي على الخلاف يرتفع الوثوق الفعلي وجدانا وبارتفاعه يخرج عن الحجية ( ثم إن ) هذا كله في جابرية الظن وموهنيته لسند الرواية ( واما مقام ) الترجيح به لاحد المتعارضين على الاخر فعلى القول بالتعدي من المرجحات المنصوصة فلا باس بالترجيح به عند التعارض ما لم يكن من الظنون المنهى عن أعماله والا فلا يعتني به ( واما ) على القول بعدم التعدي من المرجحات المنصوصة فلا عبرة بوجوده في هذا المقام كما سنذكره انشاء اللّه تعالى في محله ( واما ) الجهة الثانية الراجعة إلى مقام دلالة الرواية ( فتبتني ) على الوجوه المذكورة لحجية الظهورات ( فبناء ) على ما حققناه في تلك المسألة من كون مدار الحجية على ظهور اللفظ في المعنى المراد اما بحافة أو بمعونة القرائن الحافة المكتنفة بالكلام ( فلا ) شبهة في أنه لا تأثير للظنون الخارجية على الوفاق أو الخلاف ، لان الحجية حينئذ تدور وجودا وعدما مدار ظهور الكلام وعدمه ، ولا عبرة بقيام الظن من الخارج على الوفاق أو الخلاف ، الا إذا فرض كشفه عن احتفاف الكلام حين صدوره بقرينة قد خفيت علينا لأجل بعد الزمان وتقطيع الاخبار كما لعله من ذلك الظن

ص: 186

الحاصل من ذهاب المشهور من القدماء إلى الفتوى على خلاف عموم الرواية أو اطلاقها فإنه ربما يكشف ذهابهم إلى الفتوى على الخلاف مع قربهم بزمان صدور الاخبار عن احتفاف الخبر بقرينة قد خفيت علينا من جهة تقطيع الاخبار وبعد الزمان ( فتأمل ) هذا بناء على ما اخترناه في حجية أصالة الظهور ( واما ) على القول بكون مدار الحجية فيها على إفادته للظن الفعلي بالمراد فعليه يقع الاشكال بلحاظ ان قيام الظن الخارجي على الخلاف موجب لارتفاع الظن الفعلي بالمراد وبارتفاعه يخرج عن الحجية والاعتبار ولو كان الظن المزبور من الظنون التي نهى عنها بالخصوص كما هو ظاهر هذا كله في حجية الظن في الفروع العملية.

( تذيل ) في المسائل الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح فقد وقع الكلام فيها في وجوب تحصيل الظن فيها وقيامه مقام العلم في وجوب عقد القلب والتدين والانقياد على طبقه وعدمه ( ولكن ) التحقيق الثاني فان الاكتفاء بالظن في الاحكام الفرعية والمسائل العملية عند انسداد باب العلم والعلمي فيها انما هو من جهة عدم التمكن من تحصيل الواقع الا بالاحتياط المفروض عدم وجوبه أو عدم التمكن منه فمن ذلك يتعين بحكم العقل الاخذ بالأقرب إلى الواقع والعمل على طبقه وهذا المعنى لا يجرى في الأصول الاعتقادية فان باب العلم وان فرض انسداده فيها ( الا ) ان باب الاعتقاد الاجمالي بما هو واقع الامر والتدين والانقياد به على ما كان غير منسد على المكلف فلا مجال لجريان دليل الانسداد فيها كي ينتهى الامر إلى وجوب الانقياد بمظنونه وحينئذ فالواجب أولاً هو تحصيل المعرفة بما يجب الاعتقاد به كمعرفة الواجب تعالى وما يرجع إليه من صفات الجلال والجمال ومعرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه مع التدين والانقياد لجميع ذلك ومع عدم التمكن من المعرفة التفصيلية يعتقد وينقاد بما هو الواقع بنحو الاجمال ( واما ) وجوب تحصيل الظن عليه والتدين والانقياد بمظنونه فلا دليل عليه لعدم حكم للعقل حينئذ بوجوبه وعدم ثبوت كون مثله من مراتب شكر المنعم خصوصا مع التمكن من الاعتقاد الاجمالي بما هو واقع الامر إذ حينئذ لا ألجأ في التنزل إلى الظن كما كان في الفروع العملية.

( ثم إن ) ملخص المقال في الأصول الاعتقادية يقع في مقامات ( الأول ) فيما يرجع

ص: 187

إلى أصل وجوب المعرفة مع الامكان وبيان ما يجب تحصيل العلم والمعرفة به ( الثاني ) في وجوب التدين والانقياد بما ثبت وجوب المعرفة به ( الثالث ) فيما يقتضيه الأصل عند الشك في وجوب المعرفة والاعتقاد بالنسبة إلى الزائد من المقدار المعلوم ( الرابع ) في حكم غير المتمكن من تحصيل المعرفة من حيث الوضع والتكليف ( فنقول ) ( اما المقام الأول ) فلا ينبغي الاشكال في وجوب تحصيل معرفة الواجب تعالى ومعرفة ما يرجع إليه من صفاته الجمال والجلال ككونه واحدا قادرا عالما مريدا حيا غنيا لم يكن له نظير ولا شبيهه ولم يكن بجسم ولا مرئي ولا له حيز ونحو ذلك كما لا اشكال أيضا في كون الوجوب المزبور نفسيا لان المعرفة بالمبدء سبحانه هي الغاية القصوى والغرض الأصلي من خلق العباد وبعث الرسل كما ينبئ عنه قوله سبحانه ( وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ) حيث إن حقيقة العبودية هي المعرفة ولا ينافي ذلك مقدميتها لواجب اخر عقلي أو شرعي كالتدين والانقياد ونحوه ( ثم إن عمدة ) الدليل على وجوب المعرفة انما هو حكم العقل الفطري واستقلاله بوجوب تحصيل المعرفة بالمبدء تعالى على كل مكلف بمناط شكر المنعم باعتبار كونها من مراتب أداء شكره فيجب بحكم العقل تحصيل المعرفة به سبحانه وبما يرجع إليه من صفات الجمال والجلال بل ويجب أيضا معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه ( والا ) فمع الاغماض عن هذا الحكم العقلي الفطري لا تجدي الأدلة السمعية كتابا وسنة من نحو قوله سبحانه ( ما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون لعدم تمامية مثل هذه الاستدلال للجاهل بهما لا الزاما ولا اقناعا لان دليليتهما فرع الاعتقاد بهما وبكلامهما وحينئذ فالعمدة في الدليل على الوجوب هو حكم العقل الفطري ( نعم ) بعد تحصيل المعرفة بالمبدء ووسائط نعمه بحكم العقل لا باس بالاستدلال بالكتاب والسنة لاثبات وجوب المعرفة لما عداهما في فرض تمامية اطلاق تلك الأدلة من حيث متعلق المعرفة والا فبناء على عدم اطلاقها من هذه الجهة فلا مجال للتمسك بها أيضا ( ثم ) انه مما ذكرنا ظهر الحال في المقام الثاني حيث إنه بعد ما وجب تحصيل المعرفة بالواجب تعالى وبوسائط نعمه يجب بحكم العقل الاعتقاد وعقد القلب والانقياد له سبحانه لكون مثله أيضا

ص: 188

من مراتب أداء شكره الواجب عليه بل الظاهر أن وجوب ذلك أيضا كوجوب أصل المعرفة مطلق غير مشروط بحصول العلم من الخارج فيجب عليه حينئذ تحصيل العلم مقدمة للانقياد الواجب ( هذا كله ) بالنسبة إلى أصل وجوب المعرفة ( واما المقدار ) الواجب منها فإنما هو المعرفة بالمبدء جل شانه وبوحدانيته وبما يرجع إليه من صفاته الجمال والجلال وكذا معرفة أنبيائه ورسله وحججه الذين هم وسائط نعمه وفيضه وكذلك الحشر والنشر ولو بنحو الاجمال « واما » ما عدى ذلك كتفاصيل التوحيد وكيفية علمه وارادته سبحانه وتفاصيل المحشر وخصوصياته وان الميزان والصراط باي كيفية ونحو ذلك فلا يجب تحصيل العلم ولا الاعتقاد بها بتلك الخصوصيات « نعم » في فرض حصول العلم بها من الخارج يجب الاعتقاد وعقد القلب بها فوجوب الاعتقاد بخصوصيات الأمور المزبورة انما كان مشروطا بحصول العلم بها من باب الاتفاق لا ان وجوبها مطلق حتى يجب تحصيل العلم بها من باب المقدمة « نعم » الواجب على المكلف هو الاعتقاد الاجمالي بما هو الواقع ونفس الامر فيعتقد وينقاد بتلك الأمور على ما هي عليها في الواقع ونفس الامر ومن « هذا » البيان ظهر الحال في المقام الثالث أيضا فان مقتضى الأصل فيما عدى المقدار المزبور هو عدم وجوب تحصيل المعرفة زائدا على المقدار الذي يستقل العقل بوجوب تحصيله الا ما ثبت من الخارج وجوب الاعتقاد به من ضرورة ونحوه كالمعاد الجسماني « واما » الاستدلال على وجوب المعرفة بتفاصيل الأمور المزبورة بما ورد من الأدلة النقلية كتابا وسنة كقوله سبحانه : « وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون » وعموم اية النفر وقوله (عليه السلام) لا اعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من الصلوات الخمس وقوله (عليه السلام) طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة « فيدفعه » مضافا إلى قضاء العادة بامتناع حصول المعرفة بما ذكر الا للأوحدي من الناس « انه » لا اطلاق لها من حيث متعلق المعرفة لأنها بين ما كان في مقام بيان فضيلة الصلاة والحث والترغيب إليها لا في مقام بيان حكم المعرفة وبين ما كان بصدد اثبات أصل وجوب المعرفة بالمبدء ورسله وحججه لا في مقام وجوبها على الاطلاق حتى بالنسبة إلى التفاصيل المزبورة « وعليه » فعند الشك لابد من الرجوع إلى الأصل المقتضى لعدم وجوبها « نعم » حيث قلنا بعدم وجوب

ص: 189

تحصيل المعرفة في الزائد عن المقدار المعلوم فليس له انكاره والجحد به ، إذ لا يستلزم عدم وجوب المعرفة بشيء جواز انكاره « بل » ربما يكون انكاره حراما عليه بل موجبا لكفره إذا كان من الضروريات لما يظهر منهم من التسالم على كفر منكر ضروري الدين كالمعراج والمعاد الجسماني ونحوهما فلابد لمثل هذا الشخص حينئذ من الاعتقاد اجمالا بما هو الواقع « وحيث » انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف الكلام إلى بيان ان كفر منكر الضروري هل هو لمحض انكاره ، أو انه من جهة استتباعه لتكذيب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وتظهر الثمرة فيما لو كان منشأ الانكار الاعتقاد بعدم صدور ما أنكره عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو اشتباه الامر عليه « فإنه » على الأول يحكم عليه بالكفر ويرتب عليه اثاره بمحض انكاره بخلاف الثاني حيث لا يحكم عليه بالكفر في الفرض المزبور « فنقول » ان ظاهر اطلاق كلماتهم في كفر منكر الضروري وان كان يقتضى الوجه الأول « ولكن » النظر الدقيق فيها يقتضى خلافه وذلك لما هو المعلوم من انصراف اطلاق كلماتهم إلى المنكر المنتحل للاسلام المعاشر للمسلمين « ومن » الواضح ظهور انكار مثل هذا الشخص في تكذيبه للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومع هذا الانصراف لا مجال للاخذ باطلاق كلامهم في الحكم بكفر منكر الضروري حتى مع العلم بعدم رجوع انكاره إلى تكذيب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبعد عدم دليل في البين على ثبوت الكفر بمحض الانكار أمكن الالتزام بعدم الكفر فيمن يحتمل في حقه الشبهة وخفاء الامر عليه بحسب ظهور حاله كما فيمن هو قريب عهد بالاسلام عاش في البوادي ولم يختلط بالمسلمين حيث إن انكار مثله لا يكون له ظهور في تكذيب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبذلك يندفع ما قد يتوهم من اقتضاء البيان المزبور عدم الحكم بالكفر حتى في من نشأ في الاسلام وعاشر المسلمين مع احتمال الشبهة في حقه خصوصا مع دعواه عدم اعتقاده بصدور ما أنكره عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وانه من الموضوعات « إذ نقول » انه كذلك لولا ظهور حال مثله في تكذيب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعدم خفاء شيء عليه من أساس الدين وضرورياته « حيث » ان العادة قاضية بان من عاشر المسلمين مدة مديدة من عمره لا يخفى عليه شيء من أساس الدين وضرورياته فضلا عمن كان مسلما وكان نشوه من صغره بين المسلمين ،

ص: 190

فانكار مثل هذا الشخص يكشف لا محالة بمقتضي ظهور حاله عن تكذيب النبي بحيث لو ادعى جهله بذلك أو اعتقاده بعدم صدور ما أنكره عن النبي لا يسمع منه بل يحكم بكفره ( وهذا ) بخلاف غيره ممن كان نشوه في البوادي أو البلاد التي لا يوجد فيها المسلم فان ظهور حاله ربما يكون على العكس ، ومن ذلك لا نحكم بكفره بمجرد انكاره لشئ من ضروريات الدين خصوصا مع دعواه عدم علمه بكون ما أنكره صادرا عن النبي صلی اللّه علیه و آله ( بل ) ولعل في جعل مدار الكفر على انكار الضروري ( دلالة ) على ما ذكرنا من طريقية الانكار للتكذيب بلحاظ بعد خفاء ما هو أساس الدين وضرورياته على المنتحل للاسلام المعاشر مع المسلمين بخلاف غير الضروري حيث لا بعد في خفائه والا فلا فرق في استلزام الانكار للتكذيب بين الضروري وغيره ، وحينئذ فيمكن الجمع بين اطلاق كلامهم في كفر منكر الضروري وبين ما هو الظاهر من طريقية الانكار للتكذيب بحمل الاطلاقات على المنكر المنتحل للاسلام المعاشر مع المسلمين برهة من عمره ( وقد ) يستدل على استتباع مجرد الانكار للكفر بما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) من قوله (عليه السلام) لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ، ولكن يدفعه ظهور الرواية في الانكار الناشئ عن العناد إذ الجحد ليس الا عبارة عن ذلك ومن المعلوم عدم صلاحية مثله للدلالة على ثبوت الكفر بمحض الانكار ومجرد كون الانكار العنادي موجبا للكفر لا يقتضى تسرية الحكم إلى مطلق الانكار ، ومن ذلك نقول ان الانكار العنادي موجب للكفر مطلقا ولو في غير الضروري ( هذا ) كله في صورة التمكن من تحصيل العلم والاعتقاد الجزمي ولقد عرفت وجوبه عليه فيما يرجع إلى اللّه جل شأنه وما يرجع إلى أنبيائه ورسله وحججه وانه مع الاخلال به يكون معاقبا لا محالة ( نعم يبقى الكلام ) حينئذ في كفره وترتيب اثاره عليه من النجاسة وغيرها مع الاخلال بتحصيل المعرفة فنقول اما مع عدم اظهاره للشهادتين فلا اشكال في كفره وترتيب اثاره عليه من النجاسة وعدم الإرث والمناكحة ( واما مع ) اظهار الشهادتين « ففيه » اشكال ينشأ من كفاية مجرد اظهار الشهادتين مع عدم الانكار في الحكم بالاسلام ومن عدم كفايته ولزوم الاعتقاد في الباطن أيضا ولكنه لا ينبغي التأمل في عدم كفايته « فان » حقيقة

ص: 191

الاسلام عبارة عن الاعتقاد بالواجب تعالى والتصديق بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بكونه رسولا من عند اللّه سبحانه وان الاكتفاء باظهار الشهادتين من جهة كونه امارة على الاعتقاد في الباطن كما يظهر ذلك أيضا من النصوص الكثيرة ( ولا ) ينافي ذلك ما يترائى في صدر الاسلام من معاملة النبي صلی اللّه علیه و آله مع المنافقين معاملة الاسلام بمجرد اظهارهم الشهادتين مع علمه صلی اللّه علیه و آله بعدم كونهم مؤمنين باللّه ولا مصدقين برسوله واقعا وان اظهارهم الشهادتين كان لمحض الصورة اما لأجل خوفهم من القتل واما لبعض المصالح المنظورة لهم كالوصول إلى مقام الرياسة والآمال الدنيوية لما سمعوا وعلموا من الكهنة بارتقاء الاسلام وتفوقه على سائر المذاهب والأديان مع أنهم لم يؤمنوا باللّه طرفة عين كما نطقت به الاخبار والآثار المروية عن الأئمة الأطهار ( إذ ) نقول ان في معاملة النبي صلی اللّه علیه و آله والوصي مع هؤلاء المنافقين في الصدر الأول معاملة الاسلام بمحض اظهارهم الشهادتين وجوه ومصالح شتى ( منها ) تكثير جمعية المسلمين وازديادهم في قبال الكفار وعبدة الأوثان الموجب لازدياد صولة المسلمين في أنظار المشركين ومنها حفظ من في أصلابهم من المؤمنين الذين يوجدون بعد ذلك ( ومنها ) تعليم الأمة في الاخذ بما يقتضيه ظاهر القول بالشهادتين في الكشف عن الاعتقاد في الباطن ، فإنه لو فتح مثل هذا الباب في الصدر الأول لقتل كل أحد صاحبه لأجل ما كان بينهم من العداوة في الجاهلية بدعوى ان اعتقاده على خلاف ما يظهره باللسان وان اظهار الشهادتين كان لأجل الخوف من القتل أو الطمع في الشركة في اخذ الغنيمة ( مثله ) لا يزيد المسلمين وشوكتهم الا ضعفا ( كما ) يشهد لذلك الآية الشريفة ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ( وقضية ) أسامة بن زيد في ذلك معروفة ( ومنها ) غير ذلك من المصالح التي لاحظها النبي صلی اللّه علیه و آله مع علمه بكونهم حقيقة غير مؤمنين على ما نطق به الكتاب المبين في مواضع عديدة في قوله سبحانه يحلفون باللّه انهم لمنكم وما هم منكم وقوله وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض الخ وغير ذلك من الآيات الكثيرة ، وأين ذلك وزماننا هذا الذي قد كثر فيه المسلمون كثرة عظيمه ، وحينئذ فلا يمكن الالتزام بترتيب اثار الاسلام على مجرد اظهار الشهادتين مع العلم بعدم كون اظهارها الا صوريا محضا خصوصا مع ظهور اعتبار القول في كونه لأجل

ص: 192

الحكاية والطريقية عن الاعتقاد في الباطن بل لابد من ترتيب اثار الكفر عليه في الفرض المزبور ( بقى ) الكلام في المقام الرابع في حكم غير المتمكن من تحصيل العلم ويقع البحث فيه في جهتين ( الأولى ) في وجوب تحصيل الاعتقاد الظني عند عدم التمكن من الاعتقاد الجزمي ( الثانية ) في كونه معاقبا وترتيب اثار الكفر عليه فنقول ( اما الجهة الأولى ) فقد مر الكلام فيها بأنه لا دليل على وجوب تحصيل الظن حينئذ لعدم ثبوت كونه كالعلم والمعرفة من مراتب أداء شكر المنعم ودليل الانسداد أيضا غير جار في المقام بعد تمكنه من الاعتقاد الاجمالي بالواقع وعقد القلب على ما هو عليه في نفس الامر ( نعم ) يبقى الكلام فيما لو تفحص وحصل له الظن في أنه هل يقوم ظنه مقام العلم في ترتيب اثار العلم عليه من وجوب التدين والانقياد بمظنونه أم لا ( والتحقيق هو الثاني ) وهذا إذا كان الظن الحاصل من الظنون المطلقة التي لم يثبت حجيتها لدى العقلاء فظاهر واما لو كان من الظنون الخاصة المتبعة عندهم في أمور معاشهم ومعادهم فعدم قيام مثله مقام القطع في ترتيب اثاره عليه من التدين والتسليم وعقد القلب على طبقه انما هو من جهة كونها من الآثار العقلية المخصوصة بالعلم إذ حينئذ لا يجدي مجرد كونه من الطرق العقلائية في قيام مثله مقام العلم في ترتب الآثار المزبورة خصوصا مع عدم اطلاق لأدلة اعتبار الظن عقلا أو شرعا بالنسبة إلى أمثال هذه الأمور التي يمكن ترتيبها على نفس الواقع من دون احتياج إلى تعينه بالظن ( واما الجهة الثانية ) فيقع الكلام فيها ، تارة في الجاهل المقصر ، وأخرى في الجاهل القاصر ( اما الأول ) فلا شبهة في كفره وترتب اثاره عليه وفى استحقاقه للعقوبة أيضا لمكان تقصيره في اخلاله بتحصيل المعرفة ( واما الثاني ) فكفره وترتيب اثاره من النجاسة وعدم المناكحة والتوارث مما لا اشكال فيه لان ترتيب الآثار المزبورة كما تقدم انما هو على اظهار الشهادتين مع احتمال الاعتقاد في الباطن ومتى انتفى تنتفي تلك الآثار ( واما النسبة ) إلى استحقاق العقوبة والخلود في النار ( فقد ) يقال باستحقاقه للعقوبة لما يقتضيه الآيات والأخبار الكثيرة من خلود الكافر في النار وعدم الواسطة بين المؤمن والكافر وفيه تأمل لاستقلال العقل في الفرض المزبور بقبح العقوبة ( واما ) توهم كشف اطلاق تلك الأدلة الدالة على خلود الكافر في النار وعدم الواسطة بين

ص: 193

المؤمن والكافر عن تقصيره لا محالة في تحصيل المعرفة لتمكنه منها ولو في بعض الأزمنة الموجب لعدم معذوريته أيضا لدى العقل ( فمدفوع ) بأنه مع كونه خلاف مفروض البحث مخالف للوجدان حيث نرى قصور بعض الاشخاص وعدم تمكنه من تحصيل المعرفة ولو في زمان من الأزمنة ( بقى الكلام ) في أنه هل يعتبر في المعرفة بالواجب تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية ومعرفة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من كونها حاصلة عن اجتهاد ونظر واستدلال ( أو انه ) يكفي مطلق المعرفة ولو كانت ناشئة من كثيرة القاء الأبوين وغيرهما ( فيه وجهان ) ظاهر المحكى عن جماعة من أصحابنا الامامية رضوان اللّه عليهم منهم العلامة قده « الأول » حيث اعتبر لزوم كون المعرفة باللّه سبحانه وصفاته الثبوتية والسلبية عن اجتهاد منه ونظر واستدلال لا عن تقليد بل وادعى عليه اجماع العلماء « ولكن » الأقوى وفاقا للمعظم هو الثاني من كفاية مطلق المعرفة وعدم اعتبار كونها عن نظر واستدلال « لان » المقدار الذي دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية انما هو مجرد المعرفة والتصديق والاعتقاد ، واما كونها عن اجتهاد ونظر واستدلال فلا ، لقصور الأدلة عن اثباته وحينئذ فلو فرض حصول المعرفة والاعتقاد بالواجب تعالى ورسله من غير جهة النظر والاجتهاد ( فلا ) وجه لوجوب تبديلها عليه بالمعرفة الناشئة عن النظر والاستدلال ( كيف ) وان لازم القول بعدم كفاية مطلق الجزم والمعرفة هو الالتزام بكفر أكثر العوام بل كلهم الا ما شذ وندر مع أنه كما ترى خلاف ما جرت عليه سيرة العلماء قديما وحديثا بل سيرة الأئمة علیهم السلام ( إذ ) لم يسمع ان أحدا منهم أنكر على من لم يكن اعتقاده بالواجب تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية عن اجتهاد ونظر وبرهان ولم يسنده لو سئل عنه إلى حجة عقلية أو شرعية ( بل ) المعلوم من حالهم معاملتهم مع مثل هؤلاء معاملة المسلم من غير نكير منهم عليهم ( هذا ) مع أن النظر في البراهين أيضا قد لا يفيد الجزم بالواقع بلحاظ كثرة الشبهات الحادثة في النفس والمدونة في الكتب خصوصا الشيطان يغتنم الفرصة بوسوسوته وتشكيكه في البديهيات وحينئذ فلا ينبغي الاشكال في كفاية مطلق الجزم والمعرفة ولو من التقليد وكثرة القاء الأبوين وغيرهما ( نعم ) لو أريد من التقليد مجرد الاعتماد على قول الغير تعبدا نظير التقليد في الفروع بلا حصول جزم

ص: 194

في البين كان للمنع المزبور كمال مجال ( ولكنه ) خلاف مفروض الكلام لان الكلام انما هو في فرض حصول الجزم والاعتقاد من جهة كثرة القاء الأبوين وغيرهما ولو بضميمة بعض القرائن الدالة على الصدق ( وهذا هو الذي قلنا بكفايته وعدم لزوم كونه عن اجتهاد ونظر واستدلال ( هذا ) تمام الكلام في المقصد الثاني.

المقصد الثالث في احكام الشكوك

اشارة

( وقبل الشروع في المقصود ) ينبغي تقديم أمور الأول انه لا شبهة في أن المراد من الشك المبحوث عنه في المقام ليس خصوص تساوي الطرفين المقابل للظن والوهم كما ربما يوهمه ظاهر العنوان ( بل ) المراد منه هو مطلق خلاف اليقين ومطلق استتار الواقع وعدم انكشافه بعلم أو علمي فان الأحكام المذكورة فيما بعد مترتبة على الجهل بالواقع وعدم انكشافه علما أو علميا كما هو الشأن في الوظائف العرفية عند الجهل بالواقع ( فإنه ) كما أن لهم في ظرف عدم القطع الوجداني بالواقع طرقا عقلائية يعتمدون عليها في أمور معاشهم ونظامهم وامتثال احكام مواليهم في الاستطراق بها إلى الواقع كالخبر الموثق وباب ظواهر الألفاظ ونحوهما كذلك كان لهم أصول تعبدية ووظائف عملية في ظرف الجهل بالواقع وعدم انكشافه لهم بالعلم به وجدانا أو بما هو بمنزلته جعلا وتنزيلا ( بل ) ان تأملت ترى انه ليس للشارع في هذين الجعلين تأسيس جديد وطريقة خاصة وراء ما هو المعهود عند العرف والعقلاء في موارد طرقهم وأصولهم من حيث اعتبارهم مكشوفية الواقع في موارد قيام الطرق ، واعتبارهم مستوريته في موارد الأصول وان الحكم المجعول في مورد الأصل انما كان في ظرف الشك بالحكم الواقعي ( ومن ) هذه الجهة يكون مفاد الأصول دائما في الرتبة المتأخرة عن مفاد الامارات ( إذ ) مفاد الامارات عبارة عن نفس الحكم الواقعي ( بخلاف ) الأصول فان مفادها عبارة عن الحكم الثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي وبهذه الجهة يصير مفادها متأخرا رتبة قهرا عن مفاد الامارة ويكون الدليل رافعا لموضوع الأصل حقيقة ان كان علميا وحكومة ان كان غير علمي لأنه بمقتضى تتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف يثبت

ص: 195

العلم التعبدي بالواقع وبه يرتفع الشك المأخوذ في الأصول ولو تعبدا وتنزيلا فلا مجال لجريانها في قبال الامارة كي يقع بينهما التنافي ( وهذا ) هو الذي افاده الشيخ قده سره في فرائده بقوله ان دليل الامارة وان لم يكن رافعا لموضوع الأصل كالدليل العلمي الا انه نزل شرعا منزلة الرافع فهو حاكم على الأصل لا مخصص له الخ ، إذ لا نعنى من الحكومة الا ما يكون رافعا لموضوع الاخر تعبدا وتنزيلا قبال الورود الذي عبارة عن رافعية أحد الدليلين بعناية التعبد به لموضوع الاخر وجدانا ، في قبال التخصص الراجع إلى خروج فرد عن موضوع الاخر تكوينا بلا عناية تعبد في البين نظير خروج الجاهل عن موضوع العالم المحكوم بوجوب اكرامه ( بل ) لا اختصاص للحاكم بان يكون ناظرا إلى رفع موضوع الاخر وتضيق دائرته وانه ربما يكون شأنه التوسعة في دائرة موضوع الاخر كما لو ورد دليل على وجوب اكرام العالم وورد دليل اخر على أن زيدا المشكوك عالميته عالم حيث إن الدليل الثاني بمدلوله اللفظي ناظر إلى توسعة موضوع وجوب الاكرام بما يشمل زيدا « ومن » ذلك باب الامارات بالقياس إلى الأدلة المأخوذة فيها العلم موضوعا للحكم تماما أو جزء أو شرطا كقوله مقطوع الخمرية يحرم شربه أو ان شربه موجب للحد فان قيام الامارة على خمرية مايع مثلا يوجب بدليل اعتبارها المقتضى لتتميم كشفها توسعة في دائرة الموضوع المزبور ويثبت العلم التعبدي غير أن الحكومة في المثال الأول ظاهرية وفي الثاني واقعية « ومن » هذه الجهة قلنا في أول الكتاب بقيام الامارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع طريقا بنحو التمامية أو الجزئية أو الشرطية « كما » انه لذلك نلتزم أيضا بكفاية مجرد قيام الامارة على الحكم في جريان الاستصحاب بلا احتياج إلى اليقين الوجداني بالحكم السابق ، فان الامارة بدليل اعتبارها يوسع دائرة اليقين الذي اخذ ركنا في الاستصحاب بما يعم اليقين التعبدي بلحاظ اثر حرمة النقض كما كانت الامارة المخالفة للحالة السابقة موجبة لكون النقض بها نقضا باليقين لا بالشك ( ثم ) ان هذا كله بناء على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونها بنحو تتميم الكشف واثبات الاحراز التعبدي « واما » على القول بكونها في مقام تنزيل المؤدى منزلة الواقع بلا نظر إلى حيث تتميم الكشف واثبات الاحراز فيشكل حينئذ تقديمها

ص: 196

على الأصول بمناط الحكومة نظرا إلى بقاء الشك المأخوذ في موضوع الأصل على حاله وعدم ارتفاعه بقيام الامارة لا وجدانا ولا تعبدا وتنزيلا فيلزمه وقوع التنافي بينهما لان كلا منهما يثبت حكما ظاهريا على خلاف الاخر ( ولكن ) يمكن تقريب حكومتها بدعوى ان المعتبر في الحكومة ان يكون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل الاخر بوجه ما ولو إلى حكمه ولا يلزم كونه ناظرا إلى موضوعه بتوسعة أو تضيق فيكفي في حكومتها مجرد تكفل دليل اعتبارها لتنزيل المؤدى إذ باثبات كون المؤدى هو الواقع تعبدا وتنزيلا يوجب تضيق دائرة الحكم الذي يتكفله الأصل وتخصيصه بغير مورد ثبوت الواقع ولو تنزيلا ( نعم ) لو اغمض عن ذلك فلا محيص من كون تقديمها بمناط التخصيص لا غير كما قيل بتقريب ان النسبة بين الامارة وبين كل واحد من الأصول وان كانت من وجه الا ان الامارة لما لا يخلو موردها عن وجود أحد الأصول الثلاثة أي البراءة والاستصحاب والتخيير دون العكس وقام الاجماع على عدم الفرق بين الأصول في أنه لو قدم أحدها على الامارة في مورد يقدم الجميع عليها في سائر الموارد وبالعكس فلابد من تقديم الامارة على الأصول لان تقديم الامارة عليها لا يستلزم محذور اللغوية في جعل الأصول لبقاء موارد كثيرة لها غير الجارية فيها الامارة ( بخلاف ) العكس فإنه يلزم من تقديم الأصول عليها بعد قيام الاجماع المزبور على عدم الفصل بينها محذور لغوية جعل الامارة من جهة أعمية موارد الأصول وعدم خلو موارد جريان الامارة عن وجود أحد هذه الأصول هذا ( وقد ) يقرب تقديمها على الأصول حينئذ بمناط الورود بدعوى ان المراد من المعرفة واليقين في نحو دليل الحلية والطهارة وكذا الاستصحاب هو ما يعم المعرفة بالحكم الواقعي الحقيقي أو التنزيلي الظاهري وان بقيام الامارة على الحرمة أو النجاسة وان لم يحصل اليقين الوجداني بالحكم الواقعي ، الا انه يحصل اليقين الوجداني بالحكم الواقعي التعبدي وبحصوله يتحقق الغاية في دليلي الحلية والطهارة وجدانا فيرتفع موضوع الحلية والطهارة في قاعدتهما حقيقة ويصير النقض في الاستصحاب من نقض اليقين باليقين لا بالشك هذا ( ولكنك ) خبير بما فيه فإنه خلاف ما تقتضيه ظواهر تلك الأدلة بداهة ظهور دليل الحلية ونحوها في أن الغاية هي المعرفة بخصوص ما تعلق به الشك وهو الحكم الواقعي

ص: 197

النفس الأمري لا بما يعم الحكم الظاهري كما هو الشأن في اليقين والشك المأخوذين في حرمة النقض أيضا ، وعليه فلا يفيد مجرد المعرفة بالحكم الظاهري في حصول الغاية في دليلي الحلية والطهارة وفي صدق كون النقض بها من نقض اليقين باليقين لا بالشك وحينئذ فلا محيص في تقديم الامارات عليها على هذا المسلك اما من جهة مناط الحكومة بالتقريب الذي أشرنا إليه أو من جهة التخصيص بنحو ما أسلفناه ( ثم ) انه بما ذكرنا في وجه تقديم الامارات على الأصول يظهر وجه تقديم الأصول بعضها على بعضها الاخر كالأصول التنزيلية بالنسبة إلى غيرها وانه على نحو الحكومة ( فإنه ) من جهة اقتضاء الأصول التنزيلية لثبوت الواقع في مواردها توجب خروجها عن موضوع ما عداها من الأصول المحضة مثل حديث الرفع ودليل الحجب ونحوهما مما ليس له نظر إلى ثبوت الواقع ( نعم ) قد يقع الاشكال في تقديم بعض الأصول التنزيلية على البعض الاخر كالاستصحاب بالنسبة إلى قاعدة الطهارة بل الحلية أيضا في وجه قوى ، فإنها على ما يظهر من الأصحاب تكون من الأصول التنزيلية المثبتة للطهارة الواقعية للمشكوك ولذلك يرتبون عليها اثار الطهارة الواقعية في ظرف الشك من جواز التوضي به وجواز الدخول معه في الصلاة ونحو ذلك ( وعمدة ) الاشكال انما هو على مبنى رجوع التنزيل في لا تنقض إلى بقاء المتيقن لابقاء اليقين والا فعلى الثاني كما هو المختار على ما سيجيء لاشكال في تقديم الاستصحاب على القاعدة المزبورة بمناط الحكومة كالأمارات ( حيث ) انه من جهة تكفله لبقاء اليقين السابق مثبت لحصول ما هو الغاية وهي المعرفة في قاعدتي الحلية والطهارة كما في الامارات ، غير أن الفرق بينهما هو تكفل دليل الامارة لنفي الشك والغاء احتمال الخلاف أيضا بخلاف دليل حرمة النقض حيث إنه ناظر إلى ابقاء اليقين السابق مع حفظ أصل الشك والاحتمال ، ومن هذه الجهة يكون الاستصحاب برزخا بين الأصول وبين الامارات ( فإنه ) من جهة انحفاظ الشك والاحتمال في موضوعه كان شبيها بالأصول ويقدم عليه الامارات بنحو الحكومة ومن جهة اقتضائه لبقاء اليقين السابق كان شبيها بالامارات ويقدم على سائر الأصول الشرعية والعقلية ويقوم أيضا مقام القطع المأخوذ في الموضوع طريقا إلى متعلقه كما في باب الشهادة ومن ( ذلك ) نقول انه يجوز

ص: 198

للشاهد ان يشهد بالملكية الفعلية بمقتضى الاستصحاب وان لم يجز ذلك لنفس الحاكم في حكمه لعدم كون مثله من الموازين المجعولة لفصل الخصومات وانحصار ميزانه عند الشك بالبينات والايمان والاقرار ( فتدبر ).

( الامر الثاني ) لا يخفى ان الخلاف في البراءة والاشتغال في المقام غير مبتنى على الخلاف في أن الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة ، بداهة وضوح الفرق بين المقامين فان النزاع هناك انما هو فيما يستقل به العقل في حكم الأشياء مع قطع النظر عن ورود حكم من الشارع للأشياء ( بخلاف ) المقام فان الخلاف فيه براءة أو احتياطا انما هو بعد ملاحظة ورود حكم الأشياء من قبل الشرع وبين الامرين بون بعيد بل إن تأملت ترى عدم التلازم بين المسئلتين في الحكم أيضا ، حيث إنه أمكن اختيار الاحتياط في فرض اختيار الإباحة في تلك المسألة كامكان العكس ، وحينئذ فتوهم اتحاد المسئلتين وكفاية البحث في إحديهما عن البحث في الأخرى ساقط من أصله لما عرفت من عدم التلازم بين المسئلتين فضلا عن اتحادهما وعليه فلا مجال لتكثير الأدلة في المقام بايراد ما استدل به هناك على البراءة والاشتغال في المقام.

( الامر الثالث ) لا شبهة في أن أصالة البراءة المبحوث عنها في المقام أصل برأسه غير مرتبط بالاستصحاب ولا بمسألة عدم الدليل دليل العدم اما الأول فظاهر ( واما عدم ) ارتباطها بمسألة عدم الدليل دليل العدم ، فلان المهم في تلك المسألة انما هو نفي الحكم الواقعي في نفس الامر ولو مع القطع بعدم كونه فعليا بنحو يستتبع العقوبة على مخالفته ، بخلاف المقام فان المهم فيه لدى القائل بالبرائة انما هو نفي الحكم الفعلي ظاهرا ونفي المؤاخذة على مخالف ما لا طريق للمكلف إلى العلم به لا نفيه بحسب الواقع ونفس الامر كما هو ظاهر.

الامر الرابع لا ريب في أن من القضايا المسلمة بين الأخباريين والأصوليين بل بين قاطبة العدلية هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان وانه لا نزاع بينهم في أصل هذا الكبرى ، إذ لا يتوهم انكارها ممن له أدنى مسكة ودراية فضلا عن مثل هؤلاء الاجلاء ( كما أن ) من القضايا المسلمة بين الفريقين قاعدة دفع الضرر المحتمل الأخروي بل هذه القاعدة أيضا كسابقها مما أطبق عليه العقلاء ومن ذلك ترى

ص: 199

استدلال المتكلمين بهذه القاعدة على وجوب النظر في معجزة مدعى النبوة لما في تركه من احتمال الضرر والعقوبة ( كما ) لا اشكال أيضا في ورود القاعدة الأولى على القاعدة الثانية وانه في فرض جريانها في مورد يقطع فيه بعدم العقوبة فلا يحتمل فيه الضرر والعقوبة كي تجرى فيه القاعدة الثانية ويقع بينهما التعارض وحينئذ فتمام النزاع ( بين الأخباريين ) والأصولين في أصل الصغرى ، وفي كون مورد الشبهة مندرجا تحت كبرى قاعدة القبح أو تحت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( فكان ) هم الاخباري اثبات اندراج مورد الشبهة تحت القاعدة الثانية بدعوى وجود البيان على التكليف المشتبه من جهة العلم الاجمالي أو من جهة اخبار الاحتياط بزعم صلاحيتها للبيانية على التكليف الواقعي ( كما ) ان هم الأصولي انكار هذه الجهة واثبات عدم صلاحية اخبار الاحتياط للبيانية وللمنجزية للتكليف المشكوك اما بنفسها أو من جهة معارضتها بما دل على الترخيص في ارتكاب المشتبه الموجب لحملها على الاستصحاب أو الارشاد فعليه لا مجال لتكثير الأدلة من الطرفين بايراد القاعدتين المزبورتين والتشبث بهما أو بما يرجع إليهما من الأدلة السمعية لاثبات المطلوب في محل النزاع.

إذا عرفت ذلك فلنشرع في بيان المقصود من ذكر احكام الشكوك وبيان أقسامها ( فنقول ) اما أقسامها فهي حسب الحصر العقلي أربعة ( لأنه ) اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ( أولاً ) وعلى ( الثاني ) ( فاما ) ان لا يكون هناك حجة على التكليف المشكوك من علم اجمالي أو غيره ( واما ) ان يكون في البين ذلك ( وعلى الثاني ) فاما ان يتمكن المكلف من الاحتياط تماما أو بعضا ( واما لا ) فالأول مجرى الاستصحاب ( والثاني ) مجرى البراءة ( والثالث ) مجرى الاحتياط ( والرابع ) مجرى التخير ولا يخفى انه على هذا التقسيم لا يتوجه اشكال تداخل الأقسام في الحكم بتوهم جريان البراءة والإباحة الظاهرية في الفرض الأخير أيضا كصورة دوران الامر بين المحذورين لوضوح ان الترخيص الظاهري بمناط اللابيان انما يكون في الرتبة المتأخرة عن سقوط العلم الاجمالي عن التأثير والمسقط له عن التأثير في المقام انما هو حكم العقل بالترخيص بمناط اللاحرجية في الفعل والترك بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح ومع حصول الترخيص العقلي بمناط عدم

ص: 200

القدرة وعدم المرجح في الرتبة السابقة لا مجال للترخيص الظاهري في الرتبة المتأخرة بمناط اللابيان كما هو ظاهر ( ثم إن تنقيح الكلام في هذه الأقسام ) يكون في مقامين ( الأول ) في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة ( الثاني ) في حكمه بملاحظة الحالة السابقة ومقتضى الطبع وان كان تقديم المقام الثاني لكونه من الأصول المحرزة الناظرة إلى الواقع ولكن تبعا للشيخ قدس سره نقدم الكلام في المقام الأول وفي هذا المقام يقع البحث في موضعين ( الأول في حكم الشك في التكليف مع عدم قيام حجة عليه ( الثاني ) في حكم الشك في المكلف به بعد العلم بأصل الالزام ( اما الموضع الأول ) ففيه مبحثان ( الأول ) في الشبهة التحريمة ( الثاني ) في الشبهة الوجوبية ومنشأ الشك فيهما ، تارة يكون فقدان النص ، وأخرى اجماله ، وثالثة تعارض النصين ورابعة الأمور الخارجية فنقول وعليه التكلان.

المبحث الأول

اشارة

في الشبهة التحريمية وفيها مسائل ( المسألة الأول ) في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص ، وقد وقع فيها خلاف عظيم ، فذهب جمهور المجتهدين إلى البراءة ، وأصحابنا الأخباريون إلى الاحتياط وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة ، ( اما الكتاب ) فبآيات ( منها ) قوله عز من قائل لا يكلف اللّه نفسا الا ما آتاها ، بتقريب ان المراد من الموصول هو الحكم والتكليف ومن الايتاء الاعلام ( لان ) الايتاء عبارة عن الاعطاء وهو في الأمور المعنوية والمطالب العلمية عبارة عن الاعلام بها حيث إن اعطاء كل شيء بحسبه فكان إيتاء التكاليف عبارة عن الاعلام بها بخطابه ويقابله الاخذ بهذا المعنى كقولك اخذت من فلان علم كذا ومنه ما في النص خذ معالم دينك من كل مسن في ديننا ( فتدل ) الآية المباركة على نفي التكليف عند الشك فيه إذ كان مفادهما انه سبحانه لا يكلف عباده بشيء من احكامه الا بما أوصله إليهم بخطابه وأعلمهم إياه ( وأورد عليه ) بأنه كما يحتمل ان يراد من الموصول الحكم ومن الايتاء الاعلام ( كذلك ) يحتمل ان يراد منه خصوص المال ومن الايتاء الملكية بقرينة المورد ، أو يراد من الموصول

ص: 201

مطلق فعل الشيء وتركه ومن الايتاء الاقدار عليه ( ولا ظهور ) في الآية في الأول لولا دعوى ظهورها بقرينة المورد في الثاني أو الثالث ( ولا مجال ) لاحتمال إرادة الأعم من التكليف والمال والفعل من الموصول ( لعدم ) تصور جامع قريب بينها كي به يصح إضافة الفعل أي التكليف إليه ( لان ) الموصول على الأول عبارة عن المفعول المطلق وعلى الأخيرين عبارة عن لمفعول به وإضافة الفعل إلى الموصول بكل تقدير تبائن اضافته إليه بتقدير آخر ( فإنه ) على المفعول المطلق يحتاج في إضافة الفعل إلى الموصول إلى لحاظ كونه من شؤون الفعل وكيفياته على نحو يكون وجوده بعين وجود الفعل ، بخلافه على المفعول به فإنه يحتاج في إضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا في الخارج قبل الفعل ليكون الفعل موجبا لايجاد وصف عليه بعد وجوده ومفروغية ثبوته ( وبعد ) عدم تصور جامع قريب بينهما بنحو يوجب رجوع النسبتين إلى نسبة واحدة ، لا يمكن إرادة الجميع من الموصول الا بنحو استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ومثله من المستحيل ( مع ) ما يلزمه من أن يكون للفعل الواحد في الكلام في تعلقه بالموصول نسبتان مختلفتان إلى المفعول به تارة والمفعول المطلق أخرى المستلزم ذلك لاجتماع اللحاظين المتنافيين في كلام واحد باعتبار قوام تعدد النسبة بتعدد اللحاظ ( أقول ) وأنت خبير بما في هذا الاشكال ( اما أولاً ) فلانه يرد ذلك في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ( والا ) فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلى العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال اخر خارجية فلا يتوجه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا في لفظ الايتاء ، ولا من جهة تعلق الفعل بالموصول وذلك ( اما من ) جهة الموصول فظاهر فإنه لم يستعمل الا في معناه الكلي العام وان إفادة الخصوصيات انما كان بتوسيط دال آخر خارجي ( وكذلك ) الامر في لفظ الايتاء فإنه أيضا مستعمل في معناه وهو الاعطاء غير أنه يختلف مصاديقه من كونه تارة هو الاعلام عند اضافته إلى الحكم ، وأخرى الملكية أو الاقدار عند اضافته إلى المال أو الفعل ( وهكذا ) في تعلق الفعل بالموصول حيث لا يكون له الا نحو تعلق واحد به ومجرد تعدده بالتحليل إلى نحو التعلق بالمفعول به والتعلق بالمفعول المطلق لا يقتضى تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي

ص: 202

هو مفاد الموصول كما هو ظاهر غاية الامر انه يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول كما أشرنا إليه ( واما ثانيا ) فلان إرادة الحكم من الموصول انما يقتضى كونه المفعول المطلق لو كان المراد من التكليف في الآية أيضا هو الحكم ( والا ) ففي فرض كونه بمعناه اللغوي أعني الكلفة والمشقة ، فلا يتعين ذلك ( فإنه ) من الممكن حينئذ جعل الموصول عبارة عن المفعول به أو المفعول النشوي المعبر عنه في كلام بعض بالمفعول منه وارجاع النسبتين إلى نسبة واحدة ( إذ بذلك ) يتم الاستدلال بالآية على المطلوب ، فان معنى الآية على الأول انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم الا الحكم الذي أوصله إليهم بخطابه ، وعلى الثاني انه لا يوقع عباده في كلفة الامن قبل حكم اعلمه إياهم وأوصله إليهم بخطابه وحينئذ لو أريد من الموصول معناه الكلي العام مع إفادة الخصوصيات المزبورة بتوسيط دال آخر خارجي لا يتوجه على الاستدلال المزبور محذور من جهة كيفية تعلق الفعل بالموصول ، لما عرفت من أن نحو تعلقه به حينئذ تعلق واحد وهو تعلق الفعل بالمفعول به أو المفعول منه ( بل ) وان تأملت ترى انه لا مجال لجعل الموصول عبارة عن المفعول المطلق ولو على تقدير كون التكليف في الآية بمعناه الاصطلاحي فضلا عن كونه بمعناه اللغوي أعني الكلفة والمشقة ( وذلك ) لما يلزمه على الأول من محذور اختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها ، لان مفاد الآية حينئذ هو عدم تكليف الجاهل بالأحكام الواقعية ( وعلى الثاني ) من لزوم اخذ المشقة التي هو معلول العلم في متعلقه فان مفاد الآية على ذلك أنه سبحانه لا يجعل عباده في مشقة الا مشقة اعلمهم بها وهو من المستحيل ( فلا محيص ) حينئذ من جعل التكليف في الآية عبارة عن المشقة والموصول عبارة عن الحكم والتكليف المبرز بالانشاء ، فيكون الموصول حينئذ ممحضا بالمفعول به أو المفعول منه ولا يتصور فيه كونه المفعول المطلق العدم كونه من جنس الفعل المذكور في الكلام ( وحينئذ ) بعد امكان إرادة الأعم من الحكم والفعل والمال ولو بنحو تعدد المال والمدلول ، أمكن التمسك باطلاق الآية على مطلوب القائل بالبرائة من عدم وجوب الاحتياط عند الشك وعدم العلم بالتكليف هذا ويمكن المناقشة فيه ( أولاً ) بعدم تمامية اطلاق الآية مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ( حيث ) ان القدر المتيقن منه بقرينة السياق انما

ص: 203

هو خصوص المال ، ومثله يمنع عن الاخذ باطلاق الموصول لما يعم المال والتكليف ( وثانيا ) ان غاية ما يستفاد من الآية انما هو نفي الكلفة والمشقة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلف لا نفي الكلفة مطلقا ولو من قبل جعل ايجاب الاحتياط فمفاد الآية حينئذ مساوق لكبري قبح العقاب بلا بيان ( ومن المعلوم ) عدم كون مثله مضرا بالاخباري القائل بالاحتياط ، إذ هو انما يدعى اثبات الكلفة والمشقة على المكلف من جهة جعل ايجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف بدعوى دلالة الاخبار على وجوب الاحتياط عند الشك وعدم العلم بالتحريم ( لا يقال ) ان ذلك يتم بناء على كون ايجاب الاحتياط عند الشك ايجابا نفسيا مستتبعا للعقوبة على مخالفة نفسه ( والا ) فبناء على كون ايجابه طريقيا فما هو الموجب للكلفة لا يكون الا نفس التكاليف المجهولة ( وبعد ) دلالة الآية على نفيها من ناحية التكاليف المجهولة فلا جرم يتم المطلوب ويصح التمسك بها في قبال الأخباريين ( فإنه يقال ) نعم وان كان ايجابه حينئذ طريقيا ، ولكنه باعتبار كونه منجزا للتكليف على تقدير وجوده كان هو الموجب للضيق والرافع للبرائة العقلية كما هو الشأن في جميع الطرق الشرعية والعقلية الموجبة لتنجيز الواقع ( وعليه ) لا تصلح مثل هذه الآية لرد مقالة الاخباري القائل بوجوب الاحتياط واستحقاق العقوبة على الواقع إذ الكلفة والضيق ليس الا من قبل ما اوتى وهو جعل ايجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف ( وثالثا ) ان الايتاء في الآية المباركة لما كان منسوبا إليه سبحانه كان عبارة عن اعلامه سبحانه بالتكليف بالأسباب العادية المتعارفة بين الموالى والعبيد والحكام والرعية لا الاعلام بقول مطلق ولو بغير الأسباب العادية ( وحيث ) كان اعلامه سبحانه بالتكاليف بتوسيط الوحي إلى سفرائه وأمرهم بابلاغ ما أوحي إليهم إلى العباد ( كان ) عدم اعلامه عبارة عن عدم الوحي إلى سفرائه أو عدم الامر بابلاغ ما أوحي إليهم إلى العباد فيكون مفاد الآية المباركة أجنبيا عن المقام لان مساقها حينئذ مساق قوله (عليه السلام) ان اللّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فكانت دلالتها ممحصة في نفي الكلفة عما لم يوصل علمه إلى العباد لمكان سكوته وعدم بيانه واظهاره لا نفي الكلفة مطلقا عما لم يصل علمه إلى العباد ولو كان من جهة ظلم الظالمين واخفائهم للأحكام الصادرة عن النبي صلی اللّه علیه و آله والوصي بأمره سبحانه فان مثل ذلك

ص: 204

مما لا دلالة للآية المباركة عليه فتأمل.

( ومن الآيات ) قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، فان فيها دلالة على نفي العقوبة قبل بعث الرسل الذي هو كناية عن بيان التكليف ( وأورد ) عليه بان ظاهر الآية الشريفة انما هو الاخبار بعدم وقوع التعذيب على الأمم السابقة فيما مضى الا بعد بعث الرسل واتمام الحجة ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة ، فلا تدل على نفي العقوبة على ارتكاب مشكوك الحرمة ( وفيه ) انه مبنى على جعل المضي في وما كنا معذبين بلحاظ حال الخطاب وهو خلاف ظاهر الآية ( بداهة ) ظهورها في كونه بلحاظ زمان البعث واتمام الحجة لا بلحاظ زمان الحال والخطاب كما كان الاستقبال في بعث الرسول أيضا بلحاظ العذاب المنفي لا بلحاظ زمان الخطاب ، ( ومثله ) لا يختص بالعذاب الدنيوي ( بل الظاهر منها ) هو كونها بصدد اظهار العدل ببيان انه سبحانه لم يكن من شأنه عز وجل ان يعذب قوما الا بعد البيان واتمام الحجة نظير قوله وما كنا ظالمين ( ومن الواضح ) عدم اختصاص ذلك بقوم دون قوم ولا بعذاب دون عذاب ( كوضوح ) ملازمة ذلك لكون المنفي فيها هو الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي ، لا الفعلية المحضة مع ثبوت الاستحقاق ( لعدم ) مناسبة ذلك مع البيان المزبور ( لان ) مع الاستحقاق وان كان من شأنه سبحانه العفو رأفة ورحمة على العباد ، الا انه كان من شأنه العذاب أيضا ، ومثله ينافي ظهورها في أنه ليس من شأنه ذلك ( وعليه ) تكون للآية المباركة دلالة على مطلوب القائل بالبرائة لظهور المنطوق فيها في كون المنفي قبل البعث الذي هو عبارة عن اتمام الحجة ، هو أصل الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي ، لا انه مجرد الفعلية المحضة كي ( يحتاج ) في اثبات المدعى إلى دعوى الاجماع وعدم الفصل في خصوص المقام أعني الشبهات بين نفى الفعلية ونفي الاستحقاق ( أو دعوى ) كفاية عدم الفعلية أيضا للقائل بالبرائة من جهة اعتراف الخصم بالملازمة بين الفعلية والاستحقاق بمقتضى ما دل على الوقوع في الهلكة في الشبهات ، والتزامه بعدم المقتضى للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ( مع ما في الدعوى ) الأخيرة من لزوم كون الاستدلال بالآية جد لا محضا والزاما للخصم بما التزم به من الملازمة بين الفعلية والاستحقاق

ص: 205

( لا برهانا ) موجبا للتصديق والاذعان بالمطلوب ، ( ولذلك ) نقول بصحة ما أورده المحقق القمي قدس سره من اشكال المناقضة على من جمع بين الاستدلال بالآية على البراءة بان المنفى فيها هو الاستحقاق ، وبين رد من استدل بها على عدم الملازمة ، بان المنفي في الآية هو التعذيب الفعلي ونفي الفعلية أعم من نفى الاستحقاق لعدم الملازمة بينهما كما في الظهار ( حيث ) أنه مع تسليم دلالة الآية على نفي الاستحقاق لا مجال للثاني ، ومع عدم تسليم ذلك لا يصح الاستدلال بها على البراءة الا جدلا والزاما للخصم ، ( نعم ) لا مجال لمنكر الملازمة أيضا الاستدلال بها على عدمها الا باثبات ظهور مفهوم الغاية في الآية الشريفة في حصر الاستحقاق ببعث الرسول الظاهري والبيان النقلي ( والا فبناء ) على منع ظهور المفهوم في ذلك من جهة دعوى ان بعث الرسول كناية عن مطلق بيان التكليف وان التعبير به لكون البيان به غالبا لاحتياج الاحكام الا ما شذ وندر في اعلامها إلى بعث الرسول ( لا يبقى ) مجال التمسك بالآية على نفي الملازمة كما هو ظاهر ، ( نعم ) يتوجه على الاستدلال بالآية للبرائة انها لا تصلح للمقاومة مع أدلة الأخباريين لكونها مورودا بالنسبة إليها ( لان ) مفادها مساوق كبرى قبح العقاب بلا بيان.

( ومن الآيات ) قوله سبحانه « وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون » أي ما يجتنبونه من الافعال والتروك ( وتقريب ) الاستدلال بها كما في آية نفي التعذيب ( ويتوجه ) عليه أيضا الاشكال السابق بأنه مساوق كبرى قبح العقاب بلا بيان ، فلا ينفع التشبث بها في قبال الخصم المدعي لوجوب الاحتياط بمقتضى رواية التثليث ونحوها ( فان ) الخذلان على زعمه لا يكون الا عن بيان ( نعم ) لو كان المراد من البيان في الآية خصوص الاعلام بحكم الشيء واقعا بعنوانه الأولى لا الاعلام بمطلق حكمه ولو بعنوان كونه مشكوك الحكم وان الغرض من نفي الخذلان هو نفي جعل ما هو السبب لذلك من ايجاب احتياط أو غيره ( لكان ) للاستدلال بها على المطلوب مجال لصلاحيتها حينئذ للمقاومة مع اخبار الاحتياط ( ولكن ) دون اثباته خرط القتاد ( ثم ) انه أورد على الاستدلال بالآية بوجهين آخرين ( أحدهما ) بما في آية

ص: 206

نفي التعذيب من دعوى ظهورها في الاخبار عن حال الأمم السابقة بالنسبة إلى العذاب الدنيوي النازل بهم ، فلا تشمل العذاب الأخروي ( وثانيهما ) ان اضلاله سبحانه عبارة عن خذلانه الموجب لاستحقاق العذاب الدائم والخلود في النار ، وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف غيرها من المراتب النازلة عليه « ولكنهما » مردودان « اما الأول » فيما تقدم في آية نفي التعذيب من أن الآية انما تكون بصدد اظهار العدل بنفي ديدنه على التعذيب قبل البيان لكونه ظلما ، وفى ذلك لا فرق بين العذاب الدنيوي والأخروي « وبذلك » يظهر الجواب عن الاشكال الثاني « إذ نقول » ان المانع عن العذاب الدائم عند الجهل ليس الا عدم البيان الموجب لحكم العقل بقبحه على الحكيم تعالى « وفيه » لا يفرق بين مراتب العذاب لوجود المناط المزبور في جميع مراتب العقوبة.

« ومن الآيات » : قوله سبحانه « قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا » الآية « وتقريب » الاستدلال بها انه سبحانه لقن نبيه صلی اللّه علیه و آله طريق الرد على اليهود ، حيث حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم اللّه بقوله قل لا أجد الخ فرد عليهم بان ما حرمتموه على أنفسكم مما لم يعلم حرمته فالتزامكم بتحريمه افتراء عليه سبحانه ، فدلت الآية المباركة على الترخيص في ارتكاب كل ما لم يعلم حرمته « فان » عدم وجدانه صلی اللّه علیه و آله وان كان دليلا قطعيا على عدم وجوده فيما أوحي إليه « الا ان » في العدول عنه إلى هذا العنوان دلالة على كفاية ذلك في الترخيص في الارتكاب وابطال الحكم بالحرمة بملاحظة كونه من الأصول المسلمة عند العقلاء ويلزمه عدم وجوب الاحتياط عند الشك لكونه لازم ترخيصه في ارتكاب المشكوك « وأورد عليه الشيخ قدس سره » بان غاية ما تقتضيه الآية انما هو مجرد الاشعار بالمطلوب واما الدلالة فلا « وتأمل » المحقق الخراساني قدس سره في الاشعار أيضا بأنه من المحتمل كون النكتة في التعبير بذلك هو تلقين ان يجادلهم بالتي هي أحسن لما في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة الأدب ما ليس في التعبير بعدم الوجود « وفيه » ان هذا الاحتمال لا يمنع عن ظهور سوق الآية في التوبيخ على اليهود والزامهم بما هو من الأصول المسلمة العقلائية بان ما لا يعلم حرمته

ص: 207

لا يجوز الالتزام بتركه وترتيب آثار الحرام عليه وانه يكفي في الترخيص وجواز الارتكاب مجرد عدم العلم بحرمته واقعا « وتوهم » ان التوبيخ على اليهود انما هو من جهة ما يقتضيه التزامهم بالترك من التشريع المحرم ، لا من جهة مجرد الترك من باب الاحتياط « مدفوع » بان الآية كما تنفي ذلك تنفي ايجاب الاحتياط بنفس تكفلها لتجويز الاقتحام عند عدم وجدان خطاب على حرمته واقعا « فإنه » بذلك تكون الآية معارضة مع ما دل على وجوب التوقف والاحتياط ، وصالحه للقرينية على تلك الأدلة على الاستحباب.

« ومن الآيات » : قوله عز من قائل « وما لكم ان لا تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم » « وتقريب » الاستدلال بها كما في الآية السابقة ، لورودها في التوبيخ على اليهود في التزامهم بترك الفعل مع خلو ما فصل عن ذكر ما يجتنبونه ، بل لعل هذه أظهر من سابقتها « لان » السابقة تدل على أنه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى إلى النبي ، وهذه تدل على أنه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصل « ولكن » الدلالة موهونة بما أفاده الشيخ قدس سره من أن ظاهر الموصول العموم « فالتوبيخ » على الالتزام بترك شيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها في محله « لان » لازم تفصيل المحرمات الواقعية هو العلم بعدم كون المتروك محرما واقعيا ، فلا ترتبط الآية حينئذ بما نحن بصدده من جواز الاقتحام فيما شك في حرمته واقعا « هذا كله » فيما استدل به من الآيات على البراءة ، وقد عرفت دلالة بعضها على المطلوب ونهوضه لابطال ما يدعيه الاخباري من لزوم التوقف ووجوب الاحتياط.

واما الأخبار الدالة على البراءة

« منها » : النبوي المعروف المروي في الخصال بسند صحيح كما في التوحيد عن أحمد بن محمد بن يحيي العطار عن سعد بن عبد اللّه بن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : رفع عن أمتي تسعة : الخطاء والنسيان وما أكرهوا

ص: 208

عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفه ( فيقال ) ان حرمة شرب التتن مثلا مما لا يعلم حرمته فتكون مرفوعة عن الأمة ( أقول ) ولما كان هذا الحديث الشريف محل اعتماد الأصحاب رضوان اللّه عليهم في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات في العقود والايقاعات وغيرها ( كان الحري ) هو بسط الكلام في بيان فقه الحديث وما يستفاد من الفقرات المذكورة فيه ( وتنقيح ) ذلك يستدعى تقديم أمور.

( الامر الأول ) لا شبهة في أنه يعتبر في صدق الرفع وروده على امر ثابت ومن ذلك لابد في صحة استعماله من فرض وجود المرفوع في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن ورود الرفع بحيث لولا الرفع لكان موجودا ( بخلاف الدفع ) فإنه لا يعتبر في صدقه وصحة استعماله حقيقة الا كونه بعد ثبوت المقتضى لوجود الشيء ( لان ) شأن الدفع انما هي الممانعة عن تأثير مقتضى الشيء في تحققه وحينئذ فالرفع والدفع وان اشتركا في اعتبار ورودهما بعد فرض المقتضى للشيء ( الا ) انهما يفترقان من حيث الاحتياج إلى فرض وجود الأثر سابقا وعدمه ( فان ) العناية المصححة لصدق الرفع وصحة اطلاقه حقيقة انما هو فرض تأثير المقتضى في الشيء في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن وروده ( بخلاف ) الدفع ، فان المعتبر في صدقه انما هي الممانعة عن تأثير المقتضى في الوجود المقارن ( نعم ) لا يعتبر في صدق الرفع وصحة استعماله حقيقة وجود المرفوع حقيقة ( بل ) يكفي في العناية المصححة لذلك وجوده عناية وادعاء ولو باعتبار وجود مقتضيه ، ( فان ) مع وجود المقتضى للشيء يعتبر العقلاء وجود الشيء ويرونه كأنه موجود فيرتبون عليه أحكاما كثيرة ، كما في اطلاق السقوط في اشتراط سقوط الخيار في متن عقده مع أنه في الحقيقة عبارة عن عدم الثبوت ، حيث كان المصحح لاطلاق السقوط عليه وجوده الادعائي بلحاظ وجود مقتضيه وهو العقد ( وبذلك ) يظهر انه لا مانع من ابقاء الرفع في الحديث الشريف على ظهوره في الرفع الحقيقي في جميع الأمور التسعة حيث إنه يكفي في صحة اطلاق الرفع فيها مجرد اعتبار وجود الشيء سابقا على الرفع عند وجود مقتضيه ، بلا حاجة إلى جعل الرفع في الحديث بمعنى الدفع ، بالمصير إلى التجوز في الكلمة أو الاسناد ،

ص: 209

أو المصير إلى ما أفيد من أن حقيقة الرفع هي الدفع وان العناية المصححة لذلك هو كون الرفع في مرتبة وروده دفعا أيضا حقيقة باعتبار ممانعته عن تأثير مقتضى الشيء في بقاء ذلك الشيء في الآن المتأخر عن حدوثه ( فان ) ذلك كله كما ترى اتعاب للنفس بلا موجب يقتضيه ، مع وضوح فساد الأخير بما بيناه في الفرق بين الرفع والدفع ، من احتياج الرفع في مرحلة صدقه إلى وروده على امر مفروغ الثبوت والتحقق الملازم لفرض تأثير المقتضى في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن وروده ( قبال ) الدفع المعتبر في صدقه فرض عدم تأثير المقتضى في زمان سابق عن وروده ( إذ ) في مثله لا يكاد يوجب مجرد احتياج الموجود السابق في بقائه إلى علة البقاء وإفاضة الفيض عليه في كل آن ( انقلاب ) الرفع في مرحلة وروده إلى كونه دفعا حقيقة كما هو ظاهر.

( الامر الثاني ) ان مقتضى ظهور الحديث الشريف في الفقرات الأربع ، وهي ما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما أكرهوا عليه ، وما اضطروا إليه من حيث إضافة الرفع فيها إلى الموصول ( هو كون ) العناوين المزبورة من الجهات التعليلية للرفع والمانعة عن تأثير ما يقتضى انشاء الحكم ( بخلاف ) مثل الطيرة ، والحسد ، والوسوسة ( فإنها ) لا تكون مانعة عن تأثير المقتضى كما في الأربع المتقدمة بل المقتضى للحرمة فيها هو نفس تلك العناوين الثلاثة والا فلا يكون ورائها مقتض آخر تمنع هذه العناوين عن تأثيره ، ولذلك أضيف الرفع في الحديث إلى نفس الأمور الثلاثة على خلاف الأربع المتقدمة حيث إنه من جهة اقتضائها للحرمة كان الشارع رفعها لمانع خارجي من امتنان أو غيره واما المانع ) عن اقتضاء مثل هذه الأمور لتشريع الحكم التحريمي من جهة عدم اختباريتها ( فمدفوع ) بأنها بمباديها تكون اختيارية حيث يمكن التحرز عنها وعدم الوقوع فيها بالرياضات والمجاهدات ولذا كانت من الواجبات الأخلاقية ( واما الخطاء والنسيان ) فمقتضى الجمود على ظاهر الحديث هو كونهما كالثلاثة المتقدمة في تعلق الرفع بنفس الخطاء والنسيان بلحاظ آثارهما لا بما أخطاء وما نسى ( ولكن ) الذي يظهر منهم هو خلافه وان المرفوع فيهما هو المخطئ والمنسى كما يظهر من استدلالهم بهذا الحديث على صحة الصلاة المنسية فيها السجدة أو التشهد بتطبيق الرفع على السجدة

ص: 210

المنسية والتشهد المنسى ( وعليه ) يشكل الجمع بين ما يقتضيه ظهور الحديث في تعلق الرفع بنفس الخطأ والنسيان ، وبين ما تسالموا عليه من كون المرفوع هو هو المخطئ والمنسى ( واما الالتزام ) بكون المصدر حينئذ بمعنى المفعول وان المراد من الخطأ والنسيان هو المخطئ والمنسى ( فبعيد ) عن ظاهر الرواية ( وابعد ) منه توهم ان ذلك مقتضى السياق الظاهر في كون الرفع فيهما على حذو الرفع فيما لا يعلمون وما استكرهوا عليه ( إذ نقول ) انه كذلك لولا الطيرة والحسد والوسوسة في التفكر في الخلق المقتضية لاختلاف سياق الرواية في الأشياء التسعة ( نعم ) لا بأس بارتكاب خلاف الظاهر في الرواية بجعل الخطأ والنسيان فيها كناية عن المخطئ والمنسي كما يؤيده خبر البزنطي الوارد فيمن حلف بالطلاق والعتاق المتضمن لحكمه (عليه السلام) بعدم تأثير الحلف بالطلاق واستشهاده بقول رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطأوا ، حيث إنه من جهة تضمنه للتصريح بما أخطأوا يستفاد ان المراد من الخطأ والنسيان في حديث الرفع أيضا ذلك لان الاخبار يفسر بعضها بعضا ( وهذا ) لو لم نقل بظهوره في كون ما استشهد به هو ذاك الحديث المتضمن للأشياء التسعة ، لا كونه خبر آخر عنه صلی اللّه علیه و آله ، والا فالامر أوضح وسيأتي مزيد بيان لذلك انشاء اللّه تعالى.

( الامر الثالث ) لا شبهة في أن الرفع بالنسبة إلى جميع المذكورات لا يكون الا رفعا تنزيليا لا حقيقيا فلا يحتاج حينئذ إلى تقدير امر في شيء من الأشياء التسعة ( لان ) الاحتياج المزبور انما هو فيما لو كان الرفع حقيقيا حيث إنه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية يحتاج إلى تقدير شيء في البين فيقال انه خصوص المؤاخذة أو غيرها والا فبناء على كونه في جميع المذكورات من باب العناية والتنزيل لا يحتاج إلى شيء فيصح إضافة الرفع إليها تشريعا كما يصح اخبارا ولا يلزم منه أيضا مجاز في الاسناد أو الكلمة ( نعم ) حيث إن التنزيل لابد من كونه بلحاظ الآثار المترتبة على الشيء ، ففي فرض تعدد الأثر ربما يقع الكلام في أن التنزيل هل هو بلحاظ جميع الآثار أو بلحاظ بعضها ، ولكن ذلك غير مرتبط بالتقدير وحينئذ فما في كلام شيخنا العلامة الأنصاري قده من التعبير بالتقدير لا يخلو عن مسامحة واضحة ( نعم ) لابد وأن يكون الأثر المرفوع من الآثار الشرعية التي

ص: 211

كان امر رفعها ووضعها بيد الشارع فما لا يكون كذلك كان خارجا عن مصب الرفع في الحديث الشريف.

( الامر الرابع ) الظاهر من حديث الرفع بملاحظة وروده في مقام الامتنان على الأمة هو الاختصاص برفع الآثار التي يكون وضعها خلافه المنة ، فما لا يكون كذلك كان خارجا عن مصب الرفع ولا مجال للتمسك بالحديث لرفعه وان فرض الامتنان في رفعه ( ولا أقل ) من الشك في شمول حديث الرفع لمثله فيؤخذ بالقدر المتيقن ولا يكون ذلك الا الآثار التي كان وضعها خلاف المنة على المكلف لا مطلق ما يكون في رفعه الامتنان والتوسعة على المكلف وان لم يكن في وضعه ضيق عليه ( ومن ذلك ) نقول انه لا يشمل الحديث فيما لا يعلمون الحكم الواقعي الثابت للذات في الرتبة السابقة على الشك لعدم كونه بوجوده الواقعي مما فيه الضيق على المكلف حتى يقتضى الامتنان رفعه ( كما أنه ) لا يشمل الجهل بالحكم وكذا الخطاء والنسيان عن تقصير من المكلف وكذلك الاضطرار ونحوه إذ لا يأبى العقل حينئذ عن فعلية التكليف واستحقاق العقوبة على المخالفة ( نعم ) لو بلغ التحفظ عن الوقوع في الأمور المزبورة إلى حد الحرج ( يشمله ) حديث الرفع لان وضع التكليف حينئذ خلاف الامتنان على المكلف ( فكان ) حديث الرفع من هذه الجهة نظير حديث نفي الضرر الوارد في مقام الارفاق بالأمة الغير الشامل للمقدم على الضرر ( ولذلك ) تريهم يفرقون في أبواب المعاملات ، بين المقدم على الضرر كمورد الاقدام على المعاملة مع العلم بالغبن ، وبين غيره ، حيث يتمسكون بنفي الضرر على نفي لزوم المعاملة الغبنية في الثاني دون الأول ، مع أن في نفي اللزوم كمال المنة على المقدم في الأول أيضا ( ومما ذكرنا ) من ورود الحديث في مقام الامتنان على الأمة يظهر اختصاص المرفوع أيضا بالآثار التي لا يلزم من رفعها خلاف الارفاق على المكلف ( فما ) لا يكون كذلك لا يشمله حديث الرفع ، كما في الشرائط الراجعة إلى أصل التكليف كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ونحوها ( حيث ) لا يجرى فيها حديث الرفع لاقتضاء رفع الشرطية فيها لوضع التكليف على المكلف وهو خلاف الارفاق في حقه ( بخلاف ) شرائط الواجب فإنه يجرى فيها حديث الرفع كما سنشير إليها ( كما أنه ) لو كان رفع التكليف عن شخص موجبا لضيق على الاخر

ص: 212

لا يجرى فيه حديث الرفع ( لان ) رفعه وان كان منة على الأول ولكنه من جهة استلزامه لوضع التكليف على الاخر يكون خلاف الارفاق عليه فمن ذلك لا يشمله الحديث لكونه منافيا لما يقتضيه من الامتنان على الأمة الظاهر في الارفاق على جميع الأمة لا على بعض دون بعض ( ونظيره ) حديث نفي الضرر حيث نقول فيه بعدم جريانه في موارد استلزامه للضرر على شخص آخر.

( الامر الخامس ) يعتبر في الأثر الذي يراد رفعه ان يكون من الآثار المترتبة على عناوين موضوعاتها لا بشرط عن طرو العناوين المذكورة في الحديث بمعنى انه لم يعتبر في موضوع الأثر عنوان العمد أو الخطأ والنسيان ونحو ذلك ( والا ) لم يكن مرفوعا بالحديث ( فلو فرض ) انه اعتبر في موضوع الأثر عنوان العمد كالقصاص في القتل والكفارة في الافطار بالاكل ونحوه فمع الخطاء أو النسيان لا يجرى فيه حديث الرفع من جهة ارتفاعه بنفسه بانتفاء موضوعه وهو العمد ( كما أنه ) لو اعتبر في موضوعه عنوان الخطأ والنسيان كالدية في قتل الخطأ وسجدتي السهو لا يكون مرفوعا بحديث الرفع ، بل لا يمكن ذلك ( لان ) عنوان الموضوع يقتضى وضع تلك الآثار لا رفعها وهكذا الكلام في الاكراه والاضطرار ونحوهما.

( وإذا عرفت ) هذه الأمور فلنرجع إلى ذكر العناوين المذكورة في الحديث وبيان ما يصلح ان يكون مرفوعا فيها من الآثار التكليفية والوضعية ( فنقول ) وعليه التكلان من العناوين المذكورة في الحديث عنوان ما لا يعلم ، والظاهر انحصار المرفوع فيه بايجاب الاحتياط ( لأنه الذي ) يكون امر رفعه ووضعه بيد الشارع وهو الذي يكون المكلف من قبل وضعه في الضيق ويقتضي الامتنان رفعه فيكون هو المرفوع حقيقة من بين الآثار ، دون المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، ودون الحكم الواقعي ولو بمرتبته الفعلية ( إذ ) المؤاخذة والاستحقاق انما هي من المدركات العقلية التي لا تنالها يد الجعل التشريعي بلا توسيط منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط ( واما العقوبة ) الفعلية فرفعها وان كان بيد الشارع حيث كان له العفو تفضلا مع ثبوت الاستحقاق ( الا ) ان رفعها ليس من تمام المنة على المكلف ، فان تمام المنة انما هو رفع أصل الاستحقاق بحيث يرى المكلف نفسه غير مستوجب

ص: 213

لشيء ( مضافا ) إلى أنه لا يجدى فيما هو المهم في المقام من نفي استحقاق العقوبة على ارتكاب المشتبه ( واما الحكم الواقعي ) فهو وان كان مجعولا شرعيا ، الا انه لا يمكن ان يتعلق به الرفع الحقيقي لوجوه ( منها ) ما عرفت في الامر الرابع من أن حديث الرفع ناظر إلى رفع الآثار التي وضعها خلاف الامتنان بحيث لولا الرفع كان المكلف من قبل وضعها في الضيق ، فان من الواضح ان ذلك لا يتصور في التكليف الواقعي ولو بمرتبة فعليته ، إذ لا يكون المكلف من جهة مجرد ثبوته في الواقع ونفس الامر في الكلفة والضيق حتى يجرى فيه دليل الرفع فيكون هو المرفوع حقيقة ( وهذا ) بخلاف ايجاب الاحتياط فإنه لولا الرفع كان المكلف من قبله في الكلفة ، فيتعين كونه هو المرفوع حقيقة ( نعم ) لما كان ايجاب الاحتياط منشأ لاستحقاق العقوبة على الواقع باعتبار كونه بيانا ومنجزا للواقع ورافعا لموضوع حكم العقل بقبح المؤاخذة كان رفعه رفعا للاستحقاق وبهذه العناية يصدق ان المرفوع هي المؤاخذة والاستحقاق ( كما أن ) مرجع رفع ايجاب الاحتياط لما كان إلى دفع مقتضيات الاحكام في تأثيرها في جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الجهل بالواقع لاقتضاء الاهتمام بالواقع حينئذ عدم القناعة في حفظ المرام الواقعي بصرف الخطاب الواقعي المتعلق بعنوان الذات ولزوم كونه بصدد حفظه في المرتبة المتأخرة عن الجهل بخطابه بانشاء آخر متعلق بعنوان الاحتياط ( كان ) رفع ايجابه يعد بهذه العناية رفعا للحكم الواقعي ومصححا لإضافة الرفع إلى عنوان ما لا يعلم ( ومنها ) كونه خلاف مقتضى ظهور سياق الحديث في سائر الفقرات الاخر كالخطأ والنسيان والاكراه والاضطرار ونحوها فإنه بعد أن كان الرفع فيها رفعا بالعناية لا رفعا حقيقيا ، يقتضى السياق كونه كذلك فيما لا يعلم أيضا ( ومنها ) ظهور الحديث الشريف في كون الجهل من الجهات التعليلية للرفع ، حيث إن مقتضى علية الجهل وسببيته للرفع هو كونه في المرتبة المتأخرة عن الجهل بالواقع ( ولازمه ) بعد عدم شمول اطلاق الواقع لمرتبة الجهل بنفسه هو امتناع تعلقه بالحكم الواقعي ، لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهل بشيء على الشيء الملحوظ في الرتبة السابقة عن الجهل بنفسه ( كيف ) ورفع كل شيء عبارة عن نقيضه وبديله ونقيض الشيء لابد وأن يكون في مرتبته ، ولا

ص: 214

يكون الحكم الواقعي بما هو ملحوظ في المرتبة السابقة على الجهل نقيضا لهذا الرفع المتأخر عن الشك حتى يمكن تعلق الرفع الحقيقي بالحكم الواقعي ولو بمرتبة فعليته وحينئذ ) لا محيص من تعلق الرفع الحقيقي بايجاب الاحتياط بلا توجيهه إلى ما لا يعلمون الا بنحو العناية ( وذلك ) أيضا لا من جهة كونه اثرا للحكم الواقعي كما توهم ، بل من جهة كونه بنفسه هو المرفوع بدوا ( كيف ) وان انشاء ايجاب الاحتياط في ظرف الشك بالواقع انشاء مستقل مبرز عن الإرادة الواقعية في قبال الانشاء الواقعي المتعلق بعنوان الذات في الرتبة السابقة كما أوضحناه في مبحث جعل الطرق ، إذ حينئذ لا يرتبط مثل ايجاب الاحتياط بالحكم الواقعي ولا كان من لوازمه وآثاره ( نعم ) مرجع رفع ايجاب الاحتياط كما ذكرناه لما كان إلى دفع مقتضيات الاحكام في تأثيرها في جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك بالخطاب الواقعي كان رفعه بهذه العناية رفعا للحكم الواقعي إذ يصدق بهذا الاعتبار ان المرفوع هو الحكم الواقعي ولو بمرتبة من الفعلية المقتضية لايجاب الاحتياط في ظرف الشك بالواقع ( كما أنه ) بعناية كون ايجاب الاحتياط منشأ لصحة المؤاخذة والاستحقاق يكون رفعه رفعا لهما ، والا فالرفع الحقيقي لا يكون الا متوجها بايجاب الاحتياط ( وبهذا البيان ) يمكن الجمع بين الكلمات بارجاعها إلى معنى واحد لبا وهو رفع الأثر المجعول الذي لولا الرفع كان المكلف من قبله في الكلفة والمشقة ، لوضوح عدم كون مراد القائل برفع جميع الآثار أو الأثر المناسب الظاهر هو مطلق الأثر المترتب على الشيء ولو لم يكن في وجوده ضيق على المكلف ، وعدم كون مراد القائل برفع خصوص المؤاخذة من بين الآثار رفعها بلا توسيط رفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط ( إذ على جميع ) التقادير لا ينطبق المرفوع الا على ايجاب الاحتياط قيل بان المرفوع هو جميع الآثار أو الأثر المناسب أو المؤاخذة واستحقاق العقوبة.

( بقى ) الكلام عموم الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية وعدم عمومه ( حيث ) انه قد يقال باختصاصه بالشبهات الموضوعية ( تارة ) من جهة اقتضاء وحدة السياق في إرادة الموضوع المشتبه من الموصول فيما لا يعلمون ( بتقريب ) ان المراد من الموصول فيما أكرهوا وما لا يطيقون وما اضطروا وما أخطأوا بعد

ص: 215

ان كان هو الفعل الذي أكره عليه أو اضطر إليه أو لا يطيقونه ، فوحدة السياق تقتضي ان يكون المراد من الموصول فيما لا يعلمون هو الفعل الذي اشتبه عنوانه كالشرب الذي لم يعلم كونه شرب خمر أو شرب خل ( وأخرى ) من جهة عدم تصور الجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية حتى يمكن إرادة ما يعمهما من الموصول ، بدعوى ان المرفوع في الشبهات الحكمية بعد ما كان عبارة عن نفس متعلق الجهل أعني الحكم الواقعي المجهول ، كان استناد الرفع فيه إلى الموصول من قبيل الاسناد إلي ما هو له ( بخلاف ) الشبهات الموضوعية فان متعلق الجهل فيها أولاً وبالذات هو الموضوع الخارجي ، وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي والموضوع الخارجي لما كان بنفسه غير قابل للرفع ( كان ) اسناد الرفع إليه من قبيل الاسناد إلى غير ما هو له ، وحيث انه لا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد واسناد واحد يدور الامر بين ان يراد من الموصول الحكم المشتبه أو الموضوع ، فمع قطع النظر عن السياق وان كان الأولى هو الأول حفظا لظهور الاسناد في كونه اسنادا إلى ما هو له ( الا ) ان وحدة السياق تقتضي تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية لأقوائية ظهور السياق من الظهور المزبور ( ولكن ) لا يخفى ما فيه اما ( الوجه الأول ) فلمنع وحدة السياق ( كيف ) وان من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسة ولا يكون المراد منها الفعل ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه ( مع أن ) ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة أخرى فان الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض الوصف وهو عدم العلم كما في غيره من العناوين الاخر كالاضطرار والاكراه ونحوهما حيث كان الموصول فيها معروضا للأوصاف المزبورة فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا الظهور إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضا للجهل وانما المعروض له هو عنوانه ، وحينئذ يدور الامر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول فيما لا يعلم على الحكم المشتبه وبين حفظه من جهة أخرى بحمله على إرادة الفعل ولا ريب في أن العرف يرجح الأول فيتعين الحمل فيما لا يعلمون على إرادة الحكم ( واما الوجه الثاني ) ففيه ان المراد من الموصول فيما لا يعلم هو مطلق الحكم الشرعي المجهول الجامع بين الشبهات

ص: 216

الحكمية والموضوعية ، حيث لا فرق بينهما الا ان منشأ الشك في الشبهات الحكمية فقد النص أو اجماله وفى الشبهات الموضوعية الأمور الخارجية ولا يوجب ذلك فرقا بينهما في إضافة الرفع واسناده إلى الموصول كما هو ظاهر ( وعليه ) يتم الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في قبال القائل بوجوب التوقف والاحتياط عند الشك في التحريم ، لان مقتضاه كما عرفت انما هو نفي وجوب الاحتياط عند الشبهة والترخيص في الارتكاب فيعارض ما دل على وجوب التوقف والاحتياط ( ثم انه ) بعد أن ظهر عموم الرفع للشبهات الحكمية والموضوعية ، نقول انه لا فرق ، بين التكاليف الاستقلالية ، أو الضمنية ، فنجري في الثاني أيضا عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته للمأمور به كما سنحققه في مبحث الأقل والأكثر انشاء اللّه تعالى ( هذا ) بناء على جريان البراءة العقلية في تلك المسألة واما على القول بالاشتغال العقلي فيها ، ففي جريان دليل الرفع اشكال كما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى.

« ومن العناوين » المذكورة في الحديث ، عنوان الخطاء ، والنسيان والمراد بهما كما قربناه سابقا هو المنسي وما أخطأ لا نفس عنوان الخطأ والنسيان فكل ما كان مخطيا أو منسيا فعلا كان أو تركا جزء كان أو شرطا أو مانعا يكون مرفوعا بهذا الحديث ( ومرجع ) الرفع فيهما بعد كونه رفعا تنزيليا لا حقيقيا إلى رفع ما يترتب عليهما من الأثر المجعول الذي كان المكلف من قبله في الكلفة ويناسب الامتنان رفعه « ومرجعه » فيهما إلى رفع ايجاب التحفظ المستتبع لرفع التكليف الفعلي عن المنسى وما أخطأ حال النسيان ( فان ) الناسي وكذلك المخطئ وان سقط عنه التكليف حال النسيان « الا » ئنه لما كان متمكنا قبل النسيان من امتثال التكليف بالتحفظ وعدم الوقوع في مخالفة الواقع بالنسيان « كان » هذا المقدار كافيا في فعلية التكليف في حقه قبل النسيان بنحو يستتبع وجوب حفظ الالتفات مقدمة لعدم الوقوع في خلاف الواقع ويوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ( الا ) ان الشارع من باب الامتنان رفع عن الناسي والمخطئ وجوب التحفظ يرفع منشئه الذي هو التكليف الفعلي « وعلى » ذلك فلو شرب خمرا أو ترك واجبا مثلا خطأ أو نسيانا كان هذا الشرب وهذا الترك كالعدم في عدم ترتب حكم عليهما

ص: 217

« فلا يستحق » العقوبة والمؤاخذة على مثل هذا الشرب وذاك الترك الناشئين عن الخطاء والنسيان « نعم » لابد من تقييد ذلك بما إذا لم يكن ترك التحفظ ناشئا عن سوء اختيار المكلف « والا » فلا يشمله حديث الرفع كما أشرنا إليه سابقا « ثم انه بما ذكرنا » يظهر الحال في نسيان الجزء والشرط والمانع « حيث » ان مقتضى رفع النسيان في هذه الأمور انما هو رفع التكليف الفعلي عن الجزء والشرط المنسيين ويلزمه بمقتضى الارتباطية سقوط التكليف عن البقية أيضا ما دام النسيان « الا انه » بعد النسيان تقتضي المصلحة القائمة بالمركب احداث التكليف بالاتيان إعادة في الوقت وقضاء في خارجه كاقتضائها في أصل التكليف به قبل النسيان « وبذلك » يظهر انه لا مجال للتمسك بهذا الحديث لاثبات اجزاء المأتي به في حال النسيان ، بتقريب انه بعد الزام العقل في حال النسيان باتيان البقية يستكشف من رفع جزئية المنسي أو شرطيته عن رفع وجوب الإعادة « إذ نقول » انه كذلك إذا كان نظر الحديث إلى رفع جزئية المنسي مطلقا حتى بعد التذكر والالتفات الملازم لتحديد دائرة الطبيعة المأمور بها حال النسيان بما عدا الجزء المنسي « والا فبناء » على ما هو الظاهر منه من كونه ناظرا إلى رفع المنسي ما دام النسيان بلا نظر منه إلى تحديد دائرة المأمور به واثبات كونه في حال النسيان هو ما عدا الجزء المنسي « فلا يتم » ذلك « لان » غاية ما تقتضيه حينئذ انما هو رفع ايقاء الامر والتكليف ما دام النسيان « واما » بعده فالمصلحة الداعية إلى الامر بالمركب أولاً لما بقيت غير مستوفاة تقتضي احداث التكليف بالإعادة بعد الالتفات « نعم لو اغمض » عن هذه الجهة لا يتوجه عليه الاشكال ، تارة من جهة المثبتية « بتوهم » ان وجوب الإعادة وان كان من الآثار الشرعية ، الا ان ترتبه على نسيان الجزء أو الشرط انما يكون بتوسيط امر عقلي وهي مخالفة المأتي به للمأمور به « فلا يجرى » فيه حديث الرفع لان دليل الرفع كغيره من التنزيلات ناظر إلى خصوص الآثار الشرعية المترتبة عليه بلا واسطة « وأخرى » بما افاده بعض الأعاظم قده من أن شأن حديث الرفع انما هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لان تنزيل المعدوم منزلة الموجود انما يكون وضعا وحديث الرفع لا يتكفل الوضع لان مفاده انما هو مجرد الرفع وعليه فلا يمكن تصحيح

ص: 218

العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو غيره بحديث الرفع « وهذا » بخلاف الفعل الصادر عن المكلف نسيانا أو اضطرارا فإنه يشمله حديث الرفع لاقتضاء رفعه جعله بمنزلة المعدوم في عدم ترتيب اثر الوجود عليه « أقول » ولا يخفى ما في هذين الاشكالين « اما الأول » فبمنع كون ترتب وجوب الإعادة على عنوان مخالفة المأتي به للمأمور به « بل هو » انه مترتب على بقاء الامر الأول كترتب عدم وجوب الإعادة على عدم بقائه ، غاية الامر يلازم بقاء الامر وعدم بقائه مع مخالفة المأتي به للمأمور به وموافقته معه ، ومجرد هذا التلازم لا يقتضي ترتب وجوب الإعادة على هذا الامر العقلي حتى يتوجه عليه الاشكال المزبور « وحينئذ » فإذا كان بقاء الامر كحدوثه أمرا شرعيا تناله يد الجعل والرفع فلا محذور في التمسك بالحديث من هذه الجهة لنفي وجوب الإعادة « فتأمل » « واما الثاني » ففيه ان مرجع رفع الشيء بعد أن كان إلى الرفع بالعناية الراجع إلى خلو صفحة التشريع عن حكمه وعدم اخذه موضوعا لاحكامه « لا يكاد » يفرق بين رفع الفعل أو الترك « إذ » كما أن معنى رفع الوجود في عالم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتب عليه وخلوه عن الحكم في عالم التشريع ( كذلك في رفع العدم ) حيث إن مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتب على هذا العدم الراجع إلى عدم اخذه موضوعا للحكم بالفساد ووجوب الإعادة مثلا بملاحظة دخل نقيضه وهو الوجود في الصحة ( لا ان ) مرجع رفعه إلى قلب العدم بالوجود وتنزيله منزلة الموجود ، أو تنزيل الموجود منزلة المعدوم كي يشكل بان رفع المعدوم لا يكون الا بالوضع وحديث الرفع لا يتكفل الوضع ( إذ فرق ) واضح بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته وبالعكس وبين قلب اخذه موضوعا للحكم بعدم اخذه في مرحلة تشريع الحكم وخلو خطاباته عنه ( والاشكال ) المزبور انما يرد على الأول دون الثاني ، وما يقتضيه بحديث الرفع انما هو الثاني دون الأول « وعلى ذلك » نقول انه لا بأس بالتمسك بحديث الرفع لصحة العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو غيره « فان » رفع ترك الجزء عن نسيان ، انما هو بلحاظ الأثر المترتب عليه وهو الفساد الذي هو نقيض الصحة المترتبة على وجوده ومرجعه إلى خلو صفحة تشريع الحكم بالفساد عن مثل هذا

ص: 219

الترك الراجع إلى رفع جزئية المنسى وعدم دخله في الصحة ( لا ان ) الرفع بلحاظ الأثر المترتب على الوجود كي يحتاج إلى تنزيل المعدوم منزلة الموجود فيشكل بان رفع المعدوم لا يمكن الا بالوضع ( ولا ) بان يجرى حديث الرفع بلحاظ رفع ذلك حتى يقال بأنه خلاف الامتنان ( وحينئذ ) فلا قصور في شمول الرفع للجزء والشرط المنسيين واقتضائه لصحة العبارة الفاقدة لهما باخراج مثل هذا الترك عن حيز تشريع الفساد ( كما كان ذلك ) هو الشأن أيضا في المانع إذا اتى به نسيانا أو اضطرارا ، حيث إن الأثر المرتب على المانع لا يكون الا الفساد وعدم الصحة ( والا ) فليس له اثر مستقل حتى يكون هو المصحح لجريان حديث الرفع فيه ، فلولا كفاية ذلك في شمول دليل الرفع يلزم عدم محل للرفع فيه أيضا ، مع أنه معترف بجريان حديث الرفع في المانع ( ومن ذلك ) يظهر عدم تمامية ما افاده من الاشكال على رفع جزئية المنسي ، بان المنسى ليس هي الجزئية حتى ترتفع بهذا الحديث وانما هو وجود الجزء ، ومع العلم بالجزئية والالتفات إليها ليس في البين ما يرد الرفع التشرعي عليه من حيث الموضوع والأثر حتى يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء والشرط ( إذ فيه ) ان هذا الاشكال بعينه جار في صورة ايجاد المانع نسيانا حيث لا يكون المنسي فيه أيضا هي المانعية ( فكما انه ) يجرى دليل الرفع في نسيان المانع ويكون رفعه راجعا إلى رفع مانعيته ( كذلك ) يجرى في نسيان الجزء والشرط ( وحينئذ فالعمدة ) هو الاشكال عليه بما ذكرناه من أن غاية ما يقتضيه رفع النسيان انما هو رفع التكليف الذي هو منشأ انتزاع الجزئية ما دام النسيان ( لا رفع ) دخل المنسي في المصلحة ، لان مثل هذا الدخل امر تكويني لا يتعلق به الرفع التشريعي ( إذ حينئذ ) بعد النسيان تكون المصلحة الداعية إلى إلى التكليف بالمركب مؤثرة في التكليف بالإعادة بعد زوال النسيان ( نعم ) لو كان مفاد رفع النسيان هو تحديد دائرة المأمور به في حال النسيان بما عدا المنسى بان كان ناظرا إلى الاطلاقات الأولية المثبتة للاجزاء والشرائط بتخصيص الجزئية والشرطية فيها بغير حال نسيان الجزء والشرط كما في دليل نفي الحرج بالنسبة إلى الاطلاقات الأولية المثبتة للجزئية والشرطية ( لكان ) لاستفادة الاجزاء وعدم وجوب الإعادة مجال واسع ( ولكن ذلك ) خارج عن عهدة حديث الرفع ، حيث

ص: 220

انه لم يكن من شأنه اثبات التكليف بالفاقد للجزء المنسي وانما شأنه مجرد رفع التكليف عن المنسي ما دام النسيان ( وعليه ) لابد من الالتزام بعدم الاجتزاء بالفاقد للجزء أو الشرط المنسي ولزوم الإعادة بعد زوال النسيان ، لخروج البقية بمقتضى الارتباطية عن حيز الامر والتكليف وعن تحت المصلحة الضمنية ( من غير ) فرق في ذلك بين نسيان المستوعب للوقت وغيره ، ولا بين ترك الجزء والشرط وبين فعل المانع ( فلابد ) للحكم بالصحة من التماس دليل آخر يقتضى الاجتزاء بالفاقد للجزء أو الشرط المنسي كما في الصلاة من قوله (عليه السلام) لا تعاد الصلاة الا من خمس حيث دل على عدم بطلان الصلاة بالاخلال السهوي بما عدا الأركان ( هذا كله ) في الأحكام التكليفية ( واما الأحكام الوضعية ) كالعقود والايقاعات ، فلا مجال لرفع الخطاء والنسيان فيهما ، ووجهه ما عرفت سابقا من اختصاص الرفع بالأمور التي لم يعتبر في قوام تحققها القصد والعمد ، والمعاملات لما كانت متقومة بالقصد والعمد كانت خارجة عن مصب الرفع في الحديث ( لان ) في فرض الخطاء والنسيان لا يتحقق عنوان العقد ولا عنوان المعاملة حتى يجرى فيها الرفع ( هذا ) بالنسبة إلى عنوان المعاملة ( واما بالنسبة ) إلى الشرائط الراجعة إليها كالعربية والماضوية وتقدم الايجاب على القبول لو قلنا باعتبارها في العقد ، فعدم جريان الرفع فيها انما هو من جهة اقتضائه للوضع الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقد ( ومثله ) خلاف الامتنان في حق المكلف ولذا فرقنا بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب وقلنا باختصاص الحديث بالثاني دون الأول بلحاظ اقتضاء نفي الشرطية لاثبات الوجوب على المكلف.

( ومن العناوين ) المذكورة في الحديث قوله (عليه السلام) ما اضطروا إليه وحكمه حكم الخطأ والنسيان في الاختصاص بالتكليفيات وعدم شموله للوضعيات من العقود والايقاعات الا ان عدم شموله لها انما هو من جهة اقتضائه للضيق على المكلف ( فان ) رفع الصحة عن المعاملة التي اضطر إليها المكلف لقوت نفسه وعياله موجب لتأكد اضطراره وهو خلاف ما يقتضيه الارفاق والامتنان ( وهذا ) بخلاف التكليفيات فان في رفعها كمال الامتنان على المكلف ( نعم ) ينبغي تقييده بما إذا لم يكن الاضطرار إلى ترك الواجب أو فعل الحرام ناشئا عن سوء اختيار

ص: 221

المكلف ، والا فلا يكون مرفوعا لما تقدم من عدم شمول الحديث للمقدم على المخالفة بسوء اختياره ( ولذا ) لا شبهة في استحقاق مثله للعقوبة على التفويت ( ثم إن ) المرفوع فيه هو نفس التكليف الوجوبي أو التحريمي لأنه بنفسه قابل للثبوت في حقه عنه الاضطرار ولا يأباه العقل أيضا ، فيكون رفعه منة عليه بلا احتياج إلى ارجاع الرفع فيه إلى ايجاب التحفظ ( نعم ) انما يحتاج إلى ذلك إذا كان الاضطرار بمرتبة لا يقدر معه على التجنب عن الوقوع في مخالفة التكليف ، فإنه من جهة اباء العقل حينئذ عن فعلية التكليف في مورده يحتاج إلى ارجاع الرفع فيه إلى رفع ايجاب التحفظ ( كما أنه ) في فرض عدم تمكنه من التحفظ أيضا يخرج عن مصب الرفع رأسا لاستقلال العقل حينئذ بانتفاء التكليف وكذا المؤاخذة في مورده ، فلا يكون في البين شيء يقتضي الامتنان رفعه عنه ( وكيف كان ) فلا فرق في رفع التكليف في الاضطرار بين كونه متعلقا بالوجود أو العدم ( ولا بين ) كون الاضطرار متعلقا بالوجود أو العدم ( فإنه ) على كل تقدير يجرى فيه الرفع ، ومرجعه في الجميع على ما عرفت في الخطأ والنسيان إلى خلو ما اضطر إليه فعلا أو تركا عن الحكم في عالم التشريع لا إلى جعل الموجود بمنزلة المعدوم وبالعكس كما توهم ، كي يشكل في الاضطرار إلى الترك بان تنزيل المعدوم منزلة الموجود يكون وضعا وحديث الرفع لا يتكفل الوضع ( كيف ) ولازم عدم شمول حديث الرفع للترك هو الالتزام بوجوب الاتيان بكلا طرفي العلم الاجمالي بالتكليف عند الاضطرار إلى ترك أحدهما معينا أو غير معين مع أنه كما ترى ( فتأمل ) « ثم انه » بما ذكرنا من اختصاص الرفع في الاضطرار بالتكليفيات يظهر عدم شموله لرفع الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية بالنسبة إلى الجزء أو الشرط الذي اضطر إلى تركه ( وذلك ) لما يلزمه حينئذ من اقتضائه لاثبات التكليف بالبقية وهو خارج عن عهدة حديث الرفع ( إذ لولا ) الرفع كان المكلف من جهة ارتباطية التكليف بالمركب باضطراره إلى ترك الجزء في فسحة عن التكليف بالبقية ، حيث لا يكون له ملزم عقلي أو شرعي باتيان البقية ، وبذلك يمتاز المقام عن فرض نسيان الجزء ( فان ) الناسي من جهة غفلته عن نسيانه يكون له ملزم عقلي باتيان البقية ( بخلاف ) الاضطرار ( فإنه ) من جهة التفاته إلى اضطراره بترك الجزء

ص: 222

والتفاته إلى ارتباطية التكليف واقتضائه لسقوط التكليف عن المركب بتعذر بعض اجزائه ( لا يكون ) له ملزم باتيان البقية « وعلى ذلك » يحتاج في اثبات التكليف بها إلى ملزم خارجي من قاعدة ميسور ونحوه « والا » فلا مجال لاثباته بحديث الرفع بتطبيقه على الجزء أو الشرط المتعذر لما عرفت من كون ذلك خارجا عن عهدة حديث الرفع « فلا محيص » حينئذ من تطبيقه على نفس المركب « ونتيجة » ذلك هو رفع التكليف الفعلي عن المركب ما دام الاضطرار بالبيان المتقدم سابقا « ولازمه » وجوب الإعادة بعد ارتفاع الاضطرار لاقتضاء المصلحة الداعية إلى التكليف بالمركب حينئذ الامر بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ( الا ) إذا قام دليل بالخصوص أو بالعموم على وجوب الاتيان بالفاقد للجزء المتعذر من قاعدة ميسور ونحوه فيستفاد منه بضميمة الاجتماع على أنه لا يكون عليه الا تكليف واحد الاجزاء وعدم وجوب الإعادة.

( ومن العناوين ) قوله صلی اللّه علیه و آله ، وما لا يطيقون ويجرى فيه جميع ما ذكرناه في الاضطرار ( فيختص ) ذلك أيضا بالتكليف ولا يشمل المعاملات ، ويكون المرفوع فيه هي المؤاخذة الناشئة من عدم حفظ الطاقة بمقدماته الاختيارية بناء على كون المراد به معناه الحقيقي ( نعم ) لو كان المراد به المشقة الشديدة التي لا يتحمل عادة ( أو كان ) المراد هو ما لا يطاق العرفي اي التكليف الشاق الناشئ عن اختيار المكلف البالغ إلى حد الحرج كما لعله هو الظاهر من الحديث ( كان ) المرفوع هو نفس التكليف الفعلي ، إذ لا يحتاج في مثله إلى ارجاع الرفع فيه إلى رفع ايجاب تحفظه بعد كونه بنفسه قابلا لتعلق التكليف به فيكون رفعه حينئذ منة عليه ، بل ولعل ذلك أيضا هو المراد في الآية المباركة الحاكية عما استوهبه النبي صلی اللّه علیه و آله من ربه جل ذكره ليلة المعراج لا ان المراد هو ما لا يتحمل عادة أو العذاب والعقوبة ، فكان مفاد الآية حينئذ مساوقا لما نفاه اللّه عز وجل في آية أخرى بقوله عز من قائل وما جعل عليكم في الدين من حرج ( ثم ) ان في شمول الحديث الشريف لرفع الجزئية عن الجزء الذي لا يطاق فعله ( الاشكال ) المتقدم من حيث استلزامه لوضع التكليف بالبقية الذي هو خلاف الامتنان عليه نظرا إلى ما هو المفروض من عدم اطلاق لدليلها بنحو يشمل حال فقد جزء آخر

ص: 223

( ومن العناوين ) قوله صلی اللّه علیه و آله ، وما أكرهوا عليه ( والظاهر ) اختصاص مجرى الرفع في هذا العنوان بباب المعاملات بالمعنى الأخص بعكس الرفع في عنوان الاضطرار فلا يجرى في التكليفيات من الواجبات والمحرمات ( لان ) الاكراه على الشيء بصدق بمجرد عدم الرضا وعدم طيب النفس بايجاده ولذا يصدق عنوان الاكراه على المعاملة بمجرد التوعيد على تركها ولو بأخذ مال يسير لا يكون تحمله حرجيا عليه حتى مع امكان التفصي بالتورية ونحوها كما هو ظاهر النصوص والأصحاب ( ومن المعلوم ) بداهة عدم كفاية ذلك في تسويغ ترك الواجبات ما لم ينته إلى المشقة الشديدة الموجبة للعسر والحرج فضلا عن الاقتحام في ارتكاب المحرمات التي لا يسوغها الا الاضطرار ( ومن هنا ) لم يلتزم أحد بجواز ترك الواجب بمطلق الاكراه عليه ولو لم يبلغ إلى حد الحرج نعم لو بلغ الاكراه إلى حد الحرج جار ذلك ولكنه حينئذ من جهة الحرج لا الاكراه ( بخلاف ) باب المعاملات ، حيث إن بنائهم فيها على كفاية مطلق الاكراه على المعاملة ولو بايعاد ضرر يسير على تركها في فساد المعاملة ( ثم ) ان الوجه في اختصاص مجرى الرفع في الاكراه بباب المعاملات بالمعنى الأخص انما هو بملاحظة ما اعتبر فيها من الرضا وطيب النفس في مترتب الأثر عليها بمقتضى قوله سبحانه تجارة عن تراض وقوله (عليه السلام) لا يحل مال امرء الا بطيب نفسه ( فان ) الاكراه لما كان منافيا لطيب النفس بالمعاملة اقتضى الامتنان رفعها ، وهذا المناط وان كان جاريا في الاضطرار بالمعاملة أيضا ، الا ان عدم جريان الرفع فيها انما هو من جهة كونه خلاف الارفاق والامتنان في حق المضطر ، لاقتضاء رفع الصحة عن المعاملة المضطر إليها لقوت نفسه وعياله تأكدا في اضطراره ( بخلاف ) باب الاكراه فان في رفع الصحة عن المعاملة المكره عليها كمال الارفاق في حق المكره « ثم إن » الأثر المرفوع في ذلك انما هي الصحة الفعلية لأنها هي التي يقتضى الامتنان رفعها ( لا أصل ) صحتها بنحو لا يصححها الإجازة المتأخرة ( فان ) ذلك خلاف الامتنان على المكره بالفتح لأنه قد يتعلق غرضه بامضاء تلك المعاملة والرضا بها لما يرى فيها من الصلاح ( ولا الاحكام ) التكليفية المترتبة على الصحة كوجوب القبض والتسليم فان ترتب هذه الآثار انما يكون في فرض صحة المعاملة وتأثيرها في النقل والانتقال ( وفي )

ص: 224

فرض صحة المعاملة وان كان رفعها منة على المكره بالفتح ( ولكنه ) خلاف الامتنان في حق المشترى لرجوعه إلى سلب سلطنة المشتري على المبيع مع فرض كونه مالكا له.

« ومن العناوين » المذكورة في الحديث ، الحسد والطيرة ، والوسوسة في التفكر في الخلق « والظاهر » ان المرفوع في الجميع بقرينة إضافة الرفع إلى نفس المذكورات هي المؤاخذة عليها بملاحظة ما فيها من الاقتضاء لتشريع الحكم التحريمي ، فالشارع من باب الامتنان دفع المقتضى فيها عن تأثيره في تشريع الحكم التحريمي ( واما الاشكال ) في ذلك بان هذه الأمور لكونها غير اختيارية خصوصا الحسد لكونه عبارة عن الملكة الرذيلة الخاصة أو الخطرات القلبية الناشئة منها ، لا يصح تعلق الرفع بها ولو باعتبار حكمها حيث لا يمكن اقتضاء مثلها لتشريع الحكم التحريمي ( فمدفوع ) بأنها وان كانت بنفسها غير اختيارية ولكنها بمباديها كانت اختيارية حيث أمكن التحرز عنها وعدم الوقوع فيها ويكفي هذا المقدار في اقتضائها للتحريم ( ويمكن ) ان يكون المرفوع فيها غير ذلك ، بان يقال ان المرفوع ( في الحسد ) انما هو وجوب رفعه بالرياضات والمجاهدات التي منها التحفظ وعدم التفتيش في أمور الناس والاطلاع على ما أعطوا من الأموال والأولاد ونحو ذلك مما هو منشأ حصول هذه الصفة الرذيلة ، فان الانسان إذا صرف نفسه إلى أحوال نفسه وامر آخرته ولم يتعرض للناس وما وهب لهم من النعيم كالرياسة والأموال والأولاد والسعة في العيش ونحو ذلك مما هو فاقد له لا يحصل له هذه الملكة الرذيلة ولو كانت حاصلة تزول عنه تلك الملكة وتنقطع عنه مادة الحسد على التدريج ( فكان ) الشارع امتنانا رفع هذا الوجوب مع كون رفعه مستحسنا في نفسه في مقام تحسين الأخلاق كرفع ساير الأخلاق الرذيلة والصفات الذميمة ( نعم ) لا يجوز ترتب الأثر الخارجي عليه لكونه حراما بلا اشكال وعليه أيضا يحمل ما دل من الاخبار على النهى عنه واثبات العقوبة عليه ( واما الطيرة ) فالمرفوع فيه هو الصد عن المقاصد عند التطير والتشأم لكونه أمرا قابلا للجعل ولو امضاء لما عليه بناء العرف من الالتزام بالصد عن المقاصد عند التطير والتشاءم فنفاه الشرع امتنانا على الأمة كما يشهد

ص: 225

لذلك قوله (عليه السلام) إذا تطيرت فامض ( واما الوسوسة ) في التفكر في الخلق فالمرفوع فيها هو وجوب التحفظ وصرف الذهن إلى أمور اخر غير مرتبطة بمقام امر الخلقة ولكن إرادة رفع الحرمة فيها أظهر بقرينة ظهور استناد الرفع إلى نفسها وقد استفاضت النصوص أيضا على أنه لا شيء فيها وانه تقول لا إله إلا اللّه.

( ومنها ) أي من الاخبار التي استدل بها للبرائة قوله (عليه السلام) ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ( فإنه ) يدل على نفي الكلفة ووجوب الاحتياط فيما حجب علمه من الاحكام المجهولة كحرمة شرب التتن ونحوه فيعارض ما دل على وجوب الاحتياط عند الشك ( ولعل ) هذا الخبر أظهر في الدلالة على المطلوب من حديث الرفع ، إذ لا يتوجه عليه اشكال الاختصاص بالشبهات الموضوعية ، بل يمكن فيه دعوى العكس ( فان ) الموصول وان كان عاما لكن بقرينة استناد الحجب إليه سبحانه يختص بالأحكام التي كان رفع الجهل عنها من وظائفه سبحانه بايصال البيان إلى العباد ولو بتوسيط رسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي لا تكون الا الاحكام الكلية دون الجزئية لان رفع الجهل عنها لا يكون من وظائف الفقيه فضلا عن الشارع ( وقد أورد ) على الرواية كما عن الشيخ قده بأنها بقرنية استناد الحجب إليه سبحانه ظاهرة في الاختصاص بالأحكام التي ما بينها الشارع للعباد رأسا فلا تشمل الاحكام التي بينها الشارع للعباد واختفيت عليهم بعد ذلك لأجل معصية من عصى اللّه سبحانه بكتمان الحق ( فتكون ) الرواية مساوقة لما ورد عن علي (عليه السلام) بان اللّه سبحانه حدد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة لكم ( فلا ) تصلح للاستدلال بها في المقام ( لان ) محل الكلام بين الأخباريين والمجتهدين انما هو في الاحكام المبينة من قبله سبحانه التي لم يصل إلى المكلفين ولم يقم عليها طريق معتبر وان كان سبب ذلك اخفاء الظالمين ودش الداسين ( وبعبارة أخرى ) مورد النزاع انما هي الاحكام المجهولة التي يقطع بفعليتها على تقدير ثبوتها واقعا لا الاحكام الشأنية المحضة ( والرواية ) بقرنية استناد الحجب إليه سبحانه مختصة بالثاني ( لان ) ما لم يبينه الشارع وسكت عن اظهاره يقطع بعدم فعليته ولو مع القطع بثبوته في نفس الامر كما في الضد المبتلى بالأهم ( ولكن ) فيه ان ما أفيد

ص: 226

من عدم فعلية الاحكام مع السكوت عنها انما يتم في فرض السكوت عنها بقول مطلق حتى من جهة الوحي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ( واما ) في فرض اظهاره للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتوسيط خطابه ووحيه ( فيمكن ) دعوى كونها من الاحكام الفعلية ( إذ ) لا نعنى من الحكم الفعلي الا ما تعلقت الإرادة الأزلية بحفظه من قبل خطابه ( حيث ) انه يستكشف من تعلق الإرادة بايجاد الخطاب عن فعلية الإرادة بالنسبة إلى مضمون الخطاب ولو مع القطع بعدم ابلاغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إياه إلى العباد ، اما لعدم كونه مأمورا بابلاغه ، أو من جهة اقتضاء بعض المصالح لاخفائه ( وتوهم ) منافاة ذلك مع فعلية الإرادة المضمونية ( ممنوع ) جدا حيث إن المنافى له انما هي الفعلية المطلقة لا الفعلية ولو من جهة الخطاب ( والا ) ينافيها الترخيصات الشرعية الظاهرية في جعل الامارات والأصول المخالفة للواقع ، فلابد من الالتزام فيها أيضا بعدم فعلية التكليف الواقعي ، مع أنه كما ترى ( وحينئذ ) بعد كفاية هذا المقدار في فعلية التكليف ( نقول ) ان رواية الحجب وان لم تشمل التكاليف المجهولة التي كان السبب في خفائها معصية من عصى اللّه ( ولكن ) بعد شمول اطلاقها للأحكام الواصلة إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بتوسيط خطابه إليه التي لم يؤمر من قبله سبحانه بابلاغها إلى العباد بملاحظة صدق استناد الحجب فيها إليه سبحانه يمكن التعدي إلى غيرها من الاحكام المجهولة التي كان سبب خفائها الأمور الخارجية بمقتضى عدم الفصل بينهما بعد صدق التكليف الفعلي على مضامين الخطابات المنزلة إلى النبي ولو مع عدم الامر بابلاغها إلى العباد وبذلك تصلح الرواية لمعارضة ما دل على وجوب الاحتياط هذا كله ( مع امكان ) دعوى شمول الموصول فيما حجب للأحكام المبينة عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو الوصي (عليه السلام) المجهولة بسبب الأمور الخارجية وان نسبة حجب علمها إليه سبحانه كنسبة سائر الأشياء إليه تعالى نظير قوله (عليه السلام) ما غلب اللّه على العباد فهو أولى بالعذر فكان المراد من حجب اللّه سبحانه هو الحجب في مقام التكوين الراجع إلى عدم توفيقه سبحانه لمعرفتها مع فعليتها في الواقع كما يؤيده لفظة موضوع عنهم الظاهرة في وضع الاحكام الفعلية عند الجهل بها عن العباد بعدم ايجابه للاحتياط في ظرف الجهل خصوصا بعد ملاحظة ظهور الحجب في كون العلة للوضع هو الجهل بالواقع الملازم لكون الرفع في المرتبة المتأخرة

ص: 227

عنه إذ حينئذ يكون المرفوع منحصرا بايجاب الاحتياط فتصلح للرد على الاخباري القائل بوجوب الاحتياط.

( منها ) قوله (عليه السلام) ، الناس في سعة ما لا يعلمون ( ودلالتها ) على المطلوب ظاهرة كانت كلمة ما مصدرية ظرفية ، أو موصولة أضيف إليه السعة ( إذ ) المعنى على الأول انهم في سعة ما داموا غير عالمين بالواقع ( وعلى الثاني ) انهم في سعة ما لا يعلمونه من الاحكام الراجع إلى عدم كونهم في كلفة ايجاب الاحتياط فيعارض ما دل على وجوب التوقف والاحتياط ( وأورد ) على الاستدلال المزبور بان الخصم غير منكر للسعة على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل بعد التأمل والتدبر وانما يدعى الضيق والكلفة من جهة العلم بوجوب الاحتياط بزعم قيام الدليل العقلي والنقلي على وجوبه فتكون أدلة الاحتياط على تقدير تماميتها واردة على هذه الرواية ( ولكن فيه ) ان ذلك يتم إذا كان دعوى الاخباري اثبات العقوبة على مخالفة نفس ايجاب الاحتياط في قبال الواقع وليس كذلك ( بل مقصودهم ) انما هو اثبات العقوبة على مخالفة التكليف المجهول بمقتضى ما دل على وجوب التوقف والاحتياط في قبال الأصولي ( فان ) هذا هو الذي يساعد أدلتهم من نحو رواية التثليث من نحو قوله (عليه السلام) وهلك من حيث لا يعلم ( وعليه ) فلا وجه لتوهم ورود أدلة الاحتياط على الرواية ولا حكومتها عليها ( نعم ) لو كان أدلة الاحتياط متكفلة لاثبات العلم بالواقع كالأمارات كان لدعوى الحكومة كمال مجال ( ولكنه ) ليس كذلك ، بداهة ان مفاد تلك الأدلة لا يكون الا مجرد اثبات وجوب التوقف والاحتياط عند الجهل بالواقع ( ومجرد ) صلاحيتها لتنجيز الواقع عند الموافقة لا يقتضي الطريقية والكاشفية أيضا كما هو ظاهر ( نعم ) لو كان العلم في الرواية كناية عن مطلق قيام الحجة على الواقع ، أو كان المراد من عدم العلم الذي عليه مدار السعة هو عدم العلم بمطلق الوظيفة الفعلية لأمكن دعوى ورود أدلة ايجاب الاحتياط عليها ( ولكن ) ذلك خلاف ما يقتضيه ظهور الرواية في كون العلم الذي عليه مدار الضيق هو العلم بالواقع كما هو ظاهر.

( ومنها ) رواية عبد الاعلى عن الصادق (عليه السلام) قال سئلته عمن لا يعرف شيئا هل عليه شيء قال (عليه السلام) لا ( بتقريب ) ان الظاهر من الشيء الأول في كلام السائل

ص: 228

هو مطلق ما لا يعرفه من الاحكام ، ومن الشيء الثاني الكلفة والعقوبة من قبل الحكم الذي لا يعرفه ، فيستفاد من نفي العقوبة عليه في جواب الامام (عليه السلام) بقوله لا عدم وجوب الاحتياط عليه ، فتعارض ما دل على وجوب الاحتياط عند الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي ( ويمكن المناقشة ) فيه بظهور الشيء الأول في إرادة عموم الاحكام فيختص بالجاهل القاصر الغافل عن الاحكام كما في أهل البوادي والسودان ويخرج عن مفروض البحث ( اللّهم ) الا ان يمنع اختصاصه بالغافل بدعوى شموله أيضا للجاهل بمجموع الاحكام الملتفت إليها مع كونه غير قادر على الفحص عنها لكونه ممن يصدق عليه انه لا يعرف شيئا فإذا استفيد من قوله (عليه السلام) في الجواب لا نفي العقوبة بنفي منشئها الذي هو وجوب الاحتياط يتعدى إلى الجاهل ببعض الاحكام بعد الفحص لعدم الفصل بينهما ( ومنها ) قوله (عليه السلام) ، ايماء امرء ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه ( حيث ) ان فيه الدلالة على نفي الباس وعدم العقوبة على ارتكاب ما لا يعلم حرمته ( وأورد ) عليه الشيخ قده بان الباء في قوله (عليه السلام) بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب فيختص بالغافل والجاهل المركب ولا يشمل الجاهل البسيط المحتمل لكون فعله صوابا أو خطأ ، ثم أيده باحتياجه إلى التخصيص بالنسبة إلى الجاهل المقصر بناء على التعميم بخلافه على التخصيص بالغافل محضا والجاهل المركب المعتقد لكون فعله صوابا لا غيره ( وفيه ) ان الالتزام بالتخصيص مما لابد منه على اي حال للزوم خراج الجاهل المقصر وان كان معتقدا بالخلاف ولعل امره بالتأمل إشارة إلى ذلك ( واما ما افاده ) في وجه التخصيص بالجاهل المركب والغافل بكونه مقتضى ظهور الباء في السببية ( ففيه ) انه كذلك في الجهل البسيط أيضا لكونه هو السبب في الارتكاب بمقتضى حكم عقله بقبح العقاب بلا بيان ( ودعوى ) ان الباء ظاهر في السببية بلا واسطة فلا يشمل الجهل البسيط ( لان ) سببيته للارتكاب انما هو بتوسيط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كما ترى ( نعم ) لو كان المراد بالجهالة هو الجهل بمطلق الوظيفة الفعلية ، يشكل التمسك به على المطلوب لورود أدلة الاحتياط حينئذ عليه ( ومنها ) قوله (عليه السلام) ان اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم اي آتاهم من الاحكام وأوصلها إليهم ( حيث ) يدل على نفي العقوبة على مخالفة الاحكام المجهولة غير الواصلة إلى المكلف

ص: 229

ولو من جهة اخفاء الظالمين وفيه انه لا يقاوم أدلة الاحتياط لأنها على تقدير تماميتها تكون واردة عليه حيث يكون الاحتجاج والمؤاخذة على الواقع من قبل ما اوتى وهو جعل ايجاب الاحتياط ( الا ) ان يدعى ظهوره في إيتاء الاحكام الواقعية بعناوينها الأولية ومعرفتها كذلك فيعارض حينئذ ما دل على وجوب الاحتياط.

( ومنها ) قوله (عليه السلام) ، كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى ( وقد ) جعل الشيخ قده هذه الرواية أظهر ما في الباب في الدلالة على المطلوب ( وهو ) كما افاده بناء على كون المراد من النهى الواقعي المتعلق بالشيء بعنوانه الأولى كما هو ظاهر ، ومن الورود وصوله إلى المكلف لا مجرد صدوره واقعا فإنه على ذلك يدل على المطلوب بلحاظ ظهور اطلاق الشيء في الترخيص وعدم وجوب الاحتياط عند الجهل بالحرمة ( واما ) بناء على كون المراد من النهى الذي جعل غاية للاطلاق هو مطلق النهى المتعلق بالشيء ولو من حيث كونه مجهول الحكم فلا يتم الاستدلال به للمطلوب من جهة كونه حينئذ مورودا بأدلة الاحتياط ( كما ) لا يتم الاستدلال به أيضا لو كان المراد من الورود هو مجرد صدور النهي واقعا ولو لم يعلم به المكلف ( إذ ) عليه يصير مفاد الرواية خارجا عن مفروض البحث بين الفريقين لان ما لا نهى فيه واقعا لا كلام في أنه لا عقوبة على ارتكابه ولا يجب فيه الاحتياط عند الاخباري ( ولعل ) إلى مثل هذا البيان نظر من استدل بهذه الرواية على كون الأصل في الأشياء الإباحة لا الحظر ( ولكن ) احتمال كون المراد من النهى هو مطلق النهى المتعلق بالشيء ولو بعنوان كونه مجهول الحرمة بعيد جدا عن ظاهر الرواية ( واما احتمال ) كون المراد من الورود هو مجرد ورود النهى واقعا لا وصوله إلى المكلف فغير بعيد عن ظاهر الرواية ( وعليه ) لابد في صحة الاستدلال بها للمطلوب من سد هذا الاحتمال ( والا ) فبدونه لا يستقيم الاستدلال بها في قبال الأخباريين ( واما ) توهم بعد الاحتمال المزبور في نفسه لأوله إلى توضيح الواضح لكون مفاده حينئذ ان ما لم يرد فيه نهى لا نهى فيه ومثله مما يبعد جدا عن مساق الرواية الظاهرة في مقام التوسعة على العباد ( فيتعين ) الاحتمال الأول ويتم معه الاستدلال بها على المطلوب ( فمدفوع ) بمنع أوله إلى توضيح الواضح فان مفادها حينئذ انما هو نفي الحرمة الفعلية في الشيء قبل ورود النهى

ص: 230

عنه ولو مع وجدانه لمقتضيات الحرمة من المفاسد ، ومن المعلوم ان بيان هذه الجهة لا يكون من قبيل بيان البديهيات ( والثمرة ) المترتبة عليه انما هو نفي ما يدعيه القائل بالملازمة ، ويترتب عليه عدم جواز الاتيان بالشيء الذي أدرك العقل حسنه بداعي الامر به شرعا وعدم جواز ترك ما أدرك العقل قبحه عن داعي النهى الشرعي لكونه من التشريع المحرم فتدبر.

( ومنها ) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال سئلته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أهي ممن لا تحل له ابدا فقال (عليه السلام) أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك قلت باي الجهالتين اعذر بجهالة ان ذلك تحرم عليه أم بجهالة انها في العدة قال (عليه السلام) إحدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بان اللّه تعالى حرم عليه ذلك وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط قلت فهو في الأخرى معذور قال (عليه السلام) نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يزوجها ( وتقريب ) الدلالة انما هو من جهة قوله (عليه السلام) فقد يعذر الناس بما هو أعظم حيث دل على معذورية الجاهل من جهة العقوبة عند الجهل وعدم العلم بالواقع الشامل باطلاقه للمعذورية عن العقوبة والنكال الأخروي « ولكن » فيه ان الظاهر من الجهالة في هذه الفقرة بقرينة التعليل بعدم القدرة على الاحتياط انما هي الغفلة عن أن اللّه تعالى حرم عليه ذلك دون الشاك الملتفت ( فأنه ) مضافا إلى بعد ذلك في نفسه مع اشتهار الحكم بين المسلمين وعدم خفائه على أحد ممن كان نشؤه في الاسلام ( لا يستقيم ) تعليله بعدم القدرة على الاحتياط ، لوضوح قدرة الجاهل الملتفت بالحرمة على الاحتياط ( وهذا بخلاف ) الغافل عن الحكم الشرعي فإنه في ظرف غفلته لا يقدر على الاحتياط ، فيصح فيه التعليل المزبور ( بل لو فرض ) ظهور لفظ الجهالة في الشك والترديد لابد من صرفه عن ظهوره وحمله بقرينة التعليل المزبور على الغفلة « وعليه » يخرج مفروض الرواية عن مورد البحث في المقام فلا يستقيم الاستدلال بها للمطلوب لا في الشبهات الحكمية ولا في الشبهات الموضوعية من غير فرق بين صور الشك وأنحائه « وتوضيحه » ان الشك في الحرمة في مفروض المسألة يكون من جهات « تارة » من جهة الشك في أصل تشريع العدة على المرأة المطلقة أو المتوفى

ص: 231

عنها زوجها في الشريعة ، وأخرى من جهة الشك في مقدارها مع العلم بتشريع العدة عليها في الجملة ، وثالثة من جهة الشك في انقضائها بعد العلم بتشريع العدة ومقدارها ، ورابعة من جهة الشك في كونه عدة وفاة أو طلاق ، وخامسة من جهة الشك في أصل تكليفها بضرب العدة من جهة جهله بكونها معقوده للغير ( وعلى جميع المقادير ) لا ينتهى الامر فيها إلى البراءة أو الاشتغال ، لأصالة عدم حل النكاح وعدم تأثير العقد كما في الصورة الأولى والاستصحاب المثبت لبقاء العدة في الصورة الثانية والثالثة والرابعة ( أو الاستصحاب ) النافي لوجوب العدة عليها بنفي كونها معقودة للغير كما في الصورة الأخيرة ثم انه على ما ذكرنا يبقى اشكال في الرواية من حيث التفكيك فيها بين الجهالتين من جهة القدرة على الاحتياط وعدمها ان يقال ان المراد من الجهالة في قوله (عليه السلام) فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك أن كان هي الغفلة فلا وجه لتخصيص التعليل بعدم القدرة على الاحتياط بالجاهل بالحكم لان الجاهل بالعدة أيضا إذا كان غافلا لا يقدر على الاحتياط ( وان كان ) المراد الجهل البسيط ( فلا ) يستقيم التعليل المزبور ( لان ) الجاهل بالحكم كالجاهل بالعدة يكون قادرا على الاحتياط ( وبالجملة ) لا فرق بين الجهل بالحرمة وبين الجهل بالعدة ( فإنه ) بمعنى الشك والترديد كان قادرا على الاحتياط في الصورتين ، وبمعنى الغفلة لا يكون قادرا على الاحتياط في الصورتين ( ويمكن ) دفع ذلك بان المراد بالجهالة في الموضعين انما هو مطلق الجهل الشامل للغافل والشاك في قبال العالم ( ولكن ) تخصيص الأولى بالغفلة انما هو لبعد تصور الجهل بالحرمة مع الالتفات إليها ممن كان نشؤه في الاسلام بعد اشتهار حرمة تزويج المعتدة بين المسلمين وصيرورتها من الضروريات غير الخفية على الملتفت إليها والى موضوعها ( إذ حينئذ ) لا يتصور الجهل بالحرمة الا من جهة الغفلة عنها ( بخلاف ) الجهل بكونها في العدة ( فإنه ) بعكس ذلك لان الغالب هو التفات المكلف إليها عند إرادة التزويج بحيث قلما ينفك إرادة التزويج عن الالتفات إلى كونها في العدة ( وبذلك ) يستقيم تخصيص الأولى بعدم القدرة على الاحتياط دون الثانية حيث كان النظر إلى ما هو الغالب في الجهل المتصور في الموردين ( من غير ) ان يلزم منه تفكيكا بين الجهالتين بإرادة الغافل من إحديهما والملتفت من الأخرى فان

ص: 232

الاختلاف المزبور انما نشاء من جهة اقتضاء خصوصية الموردين والا فما أريد من الجهالة في الموردين الا المعنى العام الشامل للغفلة والشك.

( ومنها ) قوله (عليه السلام) في صحيحة عبد اللّه بن سنان ، كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ( بتقريب ) دلالتها على أن كل فعل قابل لان يتصف بالحلية والحرمة فهو حلال حتى تعرف حرمته ( وفيه ) ان ظاهر قوله (عليه السلام) كل شيء فيه انما هو كون الشيء منقسما إليهما فعلا بمعنى وجود القسمين فيه بالفعل لا تردده بين كونه حلالا أو حراما ( وهذا ) لا يتصور في الشبهات الحكمية فان القسمة فيها ليست فعلية وانما هي فرضية محضة حيث إنه ليس فيها الا احتمال الحل والحرمة كما في شرب التتن المشكوك حليته وحرمته وكذا لحم الحمير ونحوه ( فيختص ) بالشبهات الموضوعية التي كان الشك فيها في الحل والحرمة من جهة الشك في انطباق ما هو الحرام على المشتبه كما يؤيده ظاهر كلمة منه وبعينه أيضا ( إذ ) فيها يصح الانقسام الفعلي كما في اللحم المطروح المشكوك كونه من المذكى أو الميتة ، فان اللحم قسم منه حرام بالفعل وهو الميتة وقسم منه حلال وهو المذكي فإذا اشتبه الحال ولا يعلم أن المشكوك من اي القسمين يحكم عليه بالحلية إلى أن يعلم كونه من القسم الحرام ( فتكون ) هذه الرواية مساوقة لرواية عبد اللّه بن سنان عن أبي جعفر (عليه السلام) الواردة في السؤال عن حكم الجبن قال سئلت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقال (عليه السلام) سئلتني عن طعام يعجبني ثم اعطى الغلام درهما فقال يا غلام ابتع لنا جبنا ثم دعى بالغذاء فتغذينا واتى الجبن فأكلنا فلما فرغنا قلت ما تقول في الجبن قال أو لم ترني آكله قلت أحب ان أسمعه منك فقال (عليه السلام) سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ( فان ) المنساق منها أيضا بقرينة المورد هو الاختصاص بالشبهات الموضوعية هذا ( ولكن يمكن ) ان يقال بشمول الرواية للشبهات الحكمية نظرا إلى امكان فرض الانقسام الفعلي فيها أيضا كما في كلي اللحم ( فان ) فيه قسمان معلومان حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الأرنب وقسم ثالث مشتبه وهو لحم الحمير لا يدرى بأنه محكوم بالحلية أو الحرمة ومنشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين المعلومين فيقال بمقتضى عموم الرواية انه حلال حتى تعلم حرمته

ص: 233

( بل يمكن ) فرضه في لحم الغنم أيضا بالإضافة إلى اجزائه ، فإنه مما يوجد فيه قسمان معلومان ( وقسم ثالث ) مشتبه كالقلب مثلا فلا يدري انه داخل في الحلال منه أو الحرام فيقال انه حلال حتى يعلم كونه من القسم الحرام ويخرج بذلك عن دائرة المشتبهات المحكوم فيها بالحلية ، وبعد شمول العموم المزبور لمثل هذا المشتبه الذي يوجد في نوعه القسمان المعلومان ، يتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل.

( ومنها ) قوله (عليه السلام) كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ( ودلالتها ) على المطلوب ظاهرة لو كانت هي غير رواية مسعدة بن صدقه لخلوها عن الاشكالات المتقدمة في الرواية السابقة ( والا ) فعلى تقدير كونها هي تلك الرواية ، فيشكل الاستدلال بها للمطلوب في الشبهات الحكمية ( حيث ) انها بملاحظة تطبيقها على ما في ذيلها من الأمثلة بقوله (عليه السلام) وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة أو العبد يكون عندك ولعله قد باع نفسه الخ تكون ( ظاهرة ) في الاختصاص بالشبهات الموضوعية ولا أقل من كون مثلها هو المتيقن في مقام التخاطب المانع عن ظهور الصدر في العموم للشبهات الحكمية ( وعليه ) تكون هذه الرواية نظير الرواية المتقدمة بل أسوء حالا منها في الدلالة على المطلوب ( ولكن ) الذي يقتضيه ظاهر كلام شيخنا العلامة الأنصاري قده في المقام بل وصراحته في الشبهة الموضوعية التحريمة هو ان هذه الرواية غير رواية مسعدة المذيلة بالأمثلة المذكورة ( نعم ) نحن لم نظفر بها فيما تفحصنا عنه في كتب الاخبار الموجودة عندنا ، وظني واللّه العالم انها مضمون ما رواه في الكافي بسنده عن أبان بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الجبن قال (عليه السلام) كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة ( وكيف كان ) قد يورد على رواية المسعدة اشكال آخر من جهة تطيق كبرى الحلية على الأمثلة المذكورة في الذيل الجارية فيها الأصول الموضوعية واليد والسوق الحاكمة كلها على الكبرى المزبورة ( ولكن ) يمكن دفعه بأنه يتجه ذلك إذا كان الصدر انشاء للحلية في الأمثلة المزبورة بعنوان كونها مشكوك الحرمة ( والا فبناء ) على كونه حاكيا عن انشاءات الحلية في الموارد المزبورة بعنوانات مختلفة من نحو اليد والسوق والاستصحاب ونحوها من العناوين التي منها عنوان مشكوك الحل والحرمة ( فلا )

ص: 234

يرد اشكال ، إذ المقصود حينئذ بيان عدم الاعتناء بالشك في الحرمة في هذه الموارد لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها بعنوانات مختلفة غير أنه جمع الكل ببيان واحد ( لا ان ) ، المقصود هو انشاء الحلية في الموارد المزبورة بعنوان قاعدة الحلية فتدبر هذه جملة ما استدل به من الاخبار على البراءة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نص فيه في الشبهات ولقد عرفت ظهور بعضها في الدلالة على ذلك بحيث لو فرض تمامية الاخبار الآتية للقول بالاحتياط وقعت المعارضة بينهما.

( واما الاجماع ) فتقريره ، تارة باجماع العلماء كافة على أن الحكم فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث إنه مجهول الحكم هي البراءة ، وأخرى باجماعهم على عدم وجوب الاحتياط فيما لم يرد دليل معتبر على حرمته من حيث هو ( ولا يخفى ما في كلا التقريرين ، فان الأول غير نافع لكونه مساوقا لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان المسلم عند الاخباري أيضا ( واما الثاني ) فهو أيضا غير تام مع مخالفة الأخباريين وذهابهم إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمة الحكمية ( مضافا ) إلى عدم كشف مثله في المقام عن رأى المعصوم (عليه السلام) ولا عن وجود دليل معتبر غير واصل إلينا ، فإنه من المحتمل كون منشأ اتفاقهم سائر الأدلة كما يظهر من كلماتهم ( نعم ) لو فرض مفروغية أصل الحكم عند المجمعين بان كان تمسكهم ببعض الأدلة من قبيل بيان نكتة الشيء بعد وقوعه بحيث لو لم تتم تلك الأدلة لزالوا باقين على حكمهم بالبرائة « كان » للاستدلال به مجال واسع ، ولكن الشأن في ثبوت ذلك ولا أقل من الشك فلا يتم الاستدلال به للمطلوب.

( واما العقل ) فحكمه بالبرائة لقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف مما لا يكاد لا يخفى ( الا ) انك عرفت عدم الجدوى للتشبث بهذه الكبرى في محل النزاع لان أصل الكبرى مسلمة عند الفريقين ولا نزاع فيها بينهم وانما النزاع بين المجتهدين والأخباريين في صغراها حيث يدعى الأخباريين منع الصغرى باثبات بيانية أدلة الاحتياط من العلم الاجمالي والاخبار ( نعم ) لو اغمض عن ذلك لا يرد عليها ما توهم من معارضتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بل ورود القاعدة الثانية على الأولى ، بدعوى انها بيان عقلي فيرتفع بها موضوع حكم العقل بالقبح ( لوضوح ) انه مع جريان القاعدة الأولى يقطع بعدم العقوبة والضرر في المشتبه

ص: 235

فلا يحتمل الضرر فيها حتى تجرى القاعدة الثانية ( ولا مجال ) لدعوى العكس بتوهم ان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا موضوع لقاعدة القبح مع جريان قاعدة دفع الضرر ( إذ نقول ) ان حكم العقل بالوجوب انما هو فرع وجود موضوعه وهو احتمال الضرر في الرتبة السابقة ، والا فمن المستحيل تحقق الموضوع من قبل حكمه ، وتحقق احتمال الضرر فرع ابطال قاعدة القبح في المرتبة السابقة عن الوجوب المزبور ( فلو أريد ) حينئذ ابطال قاعدة قبح العقاب بمثل هذا الوجوب المتفرع على احتمال الضرر يلزم الدور ( وببيان ) أوضح ان البيان الذي ينشأ منه احتمال الضرر لابد من كونه في الرتبة السابقة على الاحتمال المزبور كما هو شأن كل علة بالقياس إلى معلوله ، وبعد عدم امكان نشو الاحتمال المزبور عن مثل هذا الوجوب المتفرع على الاحتمال المزبور ، لابد في تحقق هذا الاحتمال من فرض وجود بيان آخر غير هذا الوجوب حتى ينشأ منه احتمال الضرر على المخالفة فيترتب عليه هذا الوجوب العقلي ، والا فبدونه تجرى قاعدة القبح ويقطع معها بعدم العقوبة والضرر ( ولما ) كان المفروض عدم وجود بيان آخر غير هذا الوجوب العقلي ، ففي الرتبة السابقة عنه التي هي ظرف اللابيان تجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيقطع بعدم العقاب على ارتكاب المشتبه ومعه لا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل ( الا ) بانكار حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بادعاء ان مجرد احتمال التكليف حتى في ظرف اللابيان ملازم لاحتمال العقاب على المخالفة ( وهذا ) كما ترى فإنه مضافا إلى بطلانه في نفسه ينافي دعوى ورود قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على تلك الكبرى العقلية ، فإنها تقتضي تسليم كبرى قبح العقاب بلا بيان في نفسها ، ولازمه الاعتراف بعدم العقوبة والضرر في ظرف اللابيان على التكليف الواقعي لا المنع عن حكم العقل بالقبح ( هذا كله ) لو أريد العقوبة ( واما لو أريد ) به المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام فعليه وان كان احتمال التكليف مستتبعا لاحتمال المفسدة في مخالفته بناء على ما هو التحقيق من تبعية الاحكام لملاكات في متعلقاتها ولا يرتفع الاحتمال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ( ولكنه ) تمنع كون مجرد فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة ضررا يحكم العقل بوجوب دفعه ، فان الضرر عند العقلاء عبارة عن النقصان الوارد على النفس والبدن والمال ، ومطلق

ص: 236

المفسدة لا يكون نقصانا في العمر أو البدن والمال ( وعلى فرض ) تسليم حكم العقل بوجوب التحرز عن مثله يمنع كونه حكما مولويا يستتبع القبح واللوم ، بل هو ارشاد محض للتخلص عن الوقوع في المفسدة المحتملة نظير أوامر الطبيب ونواهيه ( ومع تسليم ) مولويته نفسيا أو طريقيا يمنع استتباعه للحكم الشرعي في صورة القطع بالمفسدة فضلا عن فرض احتمالها ، فان ذلك مبني على تمامية الملازمة بين حكم العقل بالحسن والقبح وحكم الشرع بالوجوب والحرمة وهو في محل المنع لعدم كون مجرد تحقق المناط في الشيء علة تامة للتكليف به شرعا لاحتياجه إلى أمور اخر من فقد الموانع والمزاحمات الواقعية التي لا سبيل للعقل إلى دركها ( ومع الغض ) عن ذلك نقول انه يتم ذا إذا لم تكن المفسدة متداركة ، والا فلا حكم للعقل في مطلق الضرر والمفسدة ، كيف ولازمه هو عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية أيضا لتحقق المناط المزبور فيها وهو كما ترى لا يلتزم به القائل المزبور ، فلابد فيها من الالتزام ، اما بعدم وجوب دفع المفسدة المحتملة ، أو الالتزام بتخصيص الوجوب الضرر بالضرر غير المتدارك فبكلما يوجه ذلك يقال بمثله في الشبهات الحكمية أيضا ( حيث ) أمكن فيها دعوى الجزم بتدارك المفسدة على تقدير تحققها بمقتضى الأدلة المرخصة ، إذ يستكشف من اطلاقها جبران المفسدة المحتملة وتداركها على تقدير تحققها واقعا ، وبذلك لا يبقى موضوع للقاعدة المزبورة.

( ثم إن السيد أبو المكارم قده ) استدل في الغنية للبرائة بان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ( والظاهر ) ان المراد به كما استظهره الشيخ قده هو الاتيان بالعمل على وجه الإطاعة والامتثال بحيث كان الامر هو الداعي إلى اتيان العمل ، لا مجرد صدور العمل في الخارج كيفما اتفق ، والا فلا يكون ذلك مما لا يطاق بمجرد عدم العلم بالتكليف به ( وبيان ذلك ) ان الغرض من الامر المولوي لما كان هو داعوية الامر ومحركيته لايجاد العمل ولو بتوسيط حكم العقل بلزوم الإطاعة ، فلا جرم في مقام توجيه التكليف يحتاج إلى ايصال الخطاب إلى المكلف ليتمكن من اتيان المأمور به على وجه الإطاعة والامتثال ، والا فبدونه يستحيل توجيه التكليف الفعلي إلى المكلف بايجاد العمل لعدم تمكنه حينئذ من الايجاد عن دعوة الامر وعدم ترتب ما هو الغرض من الامر والخطاب

ص: 237

وهي الدعوة ( وتوهم ) كفاية مطلق ايجاد الفعل ولو عن دعوة شهوة المكلف في الغرض من التكليف به ، مندفع بأنه من المستحيل كون الغرض من التكليف بشيء مطلق وجوده ولو عن غير دعوته حتى في التوصليات وان سقط التكليف فيها بمجرد الفعل أو الترك كيفما اتفق « كاندفاع » توهم كفاية مجرد الاتيان بالعمل عند الشك انقيادا بداعي احتمال المطلوبية في التكليف به « إذ نقول » ان مجرد احتمال المطلوبية ان كان كافيا بحكم العقل في لزوم العمل اغنى ذلك عن التكليف بايجاده وان لم يكن ذلك كافيا بحكم العقل فمضافا إلى أنه لا ينفع التكليف بالشكوك حينئذ في حصول الغرض المزبور « يتوجه عليه » بأنه تكليف بما لا يطاق هذا غاية ما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه كلامه قده ( ولكن نقول ) ان ذلك انما يتم إذا كان الغرض من الامر والتكليف في الخطابات هي الداعوية والمحركية الفعلية « وليس كذلك » بل نقول ان الغرض من الامر انما هي الداعوية الشائنية والمحركية الاقتضائية على نحو تكون فعليتها في ظرف قابلية المكلف للانبعاث الملازم لعلمه بالامر والخطاب ، وبعد وضوح اجتماع هذا المرتبة من الدعوة مع الجهل المأمور بالخطاب أمكن الالتزام بفعلية التكاليف في حق الجاهل من غير أن يلزم منه محذور التكليف بما لا يطاق ولا نعنى من التكليف الفعلي المشترك بين العالم والجاهل الا الفعلي من قبل الخطاب بالمعنى الذي عرفت لا الفعلي على الاطلاق « نعم » لا يكفي هذا المقدار في تنجيز الواقع على المكلف وصحة المؤاخذة على المخالفة ، بل يحتاج إلى ايصال البيان إلى المكلف ليتم عليه الحجة ولو كان ذلك بجعل ايجاب الاحتياط.

( وقد يستدل ) للبرائة أيضا بالاستصحاب « وتقريبه » من وجوه تارة باستصحاب عدم التكليف بالمشكوك وعدم المنع الواقعي الثابت قبل البلوغ وأخرى باستصحاب البراءة وعدم الاشتغال بالتكليف به ، وثالثة باستصحاب عدم استحقاق العقوبة والمؤاخذة على ارتكاب المشتبه قبل البلوغ « اما التقريب الثاني والثالث » فالظاهر أنه لا سبيل إلى دعواه من جهة اختلال أحد ركنية وهو الشك على كل تقدير ، لوضوح انه لا يخلو اما ان يكون في البين بيان على التكليف المشكوك ، واما لا وعلى التقديرين لا شك في الاشتغال وفى استحقاق العقوبة ( فإنه على الأول ) يقطع بالاشتغال وباستحقاق العقوبة ( وعلى الثاني ) يقطع بالعدم فلا شك على

ص: 238

التقديرين حتى ينتهى الامر إلى الاستصحاب ( وعلى فرض ) وجود الشك لا مجال أيضا للاستصحاب ( إذ ) بعد ما لم يكن شأن الاستصحاب رفع الشك عن المتيقن السابق كان الشك في العقوبة وبرائة الذمة على حاله حتى في ظرف جريان الاستصحاب فيلزمه بمقتضى قاعدة دفع الضرر المحتمل التوقف والاحتياط ( وببيان ) آخر ان كانت نتيجة الاستصحاب المزبور هو القطع بالترخيص والامن من العقوبة في ظرف الشك بها يلزمه بمقتضى المضادة بين القطع بالأمن والشك في العقوبة ارتفاع الشك المزبور بنفس جريان الاستصحاب ، وهو كما ترى من المستحيل ، لاستحالة كون الحكم رافعا لموضوعه وان لم يقتض الاستصحاب القطع بالترخيص والامن من العقوبة بان كان الشك في العقوبة وبرائة الذمة على حاله في ظرف جريانه ، فلا فائدة في الاستصحاب المزبور ، لأنه مع الشك في العقوبة وعدم بقاء المستصحب يحكم العقل بلزوم تحصيل القطع ببرائة الذمة والقطع بالمؤمن وبدونه لابد بمقتضى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل من التوقف والاحتياط بترك ما يحتمل الحرمة وفعل ما يحتمل الوجوب فتأمل ( نعم لو اغمض ) عما ذكرنا لا يرد عليه اشكال كون المستصحب من الاحكام العقلية ( إذ يمكن ) دفعه بما تقدم في حديث الرفع من كفاية كونه بمنشئه شرعيا في شمول دليل التعبد لمثله ( فان للشارع ) حينئذ رفع الاستحقاق المزبور بتوسيط منشئه وهو الاذن والترخيص في الارتكاب وعدم ايجابه للاحتياط ( واما التقريب الأول ) فالظاهر أنه لا قصور في استصحابه حيث لا يرد عليه اشكال حتى الاشكال الوارد على الوجهين الأخيرين ، إذ لم يؤخذ في موضوعه على هذا التقريب احتمال العقوبة حتى ينافي الترخيص الظاهري من قبل الاستصحاب وانما المأخوذ فيه هو مجرد احتمال التكليف والمنع الواقعي وهو يلائم القطع بالترخيص الظاهري ( واما الاشكال ) عليه بان عدم المنع عن الفعل لا يكون من الأمور المجعولة حتى يجرى فيه استصحابه ( فمندفع ) بما مر منا مرارا من كفاية مجرد كون الشيء مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع في مجعوليته « ولا ريب » في أن للشارع ابقاء عدم المنع السابق على حاله كما كان له رفعه باحداث المنع عنه فإذا حكم الشارع بمقتضى الاستصحاب ببقاء عدم المنع السابق ظاهر يترتب عليه جميع لوازمه التي منها الاذن في الارتكاب وعدم استحقاق العقوبة ، لأنها من اللوازم العقلية المترتبة على الأعم من الواقع

ص: 239

والظاهر ، نظير وجوب الإطاعة وحرمة المعصية المترتبتين على مطلق التكليف الشرعي ولو ظاهريا ، من غير فرق في ذلك بين القول باعتبار الاستصحاب من باب الظن ، أو من باب التعبد بمقتضى الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ( واما ما أفيد ) من الاشكال عليه بعدم الفائدة للاستصحاب المزبور بعد حكم العقل بالبرائة لقبح العقاب بلا بيان واستتباعه للقطع بعدم استحقاق العقوبة الذي هو المطلوب من الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ( فمدفوع ) بما حققناه في محله من ورود الاستصحاب على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه من جهة كونه مثبتا لنفي الواقع يكون بيانا على النفي فيرتفع به عدم البيان الذي هو موضوع القاعدة ( نعم ) لو كان المراد من عدم البيان هو خصوص البيان على التكليف أو ما بحكمه لا مطلق البيان ولو على العدم لاتجه الاشكال المزبور في جريان الاستصحاب لبقاء موضوع القاعدة حينئذ على حاله وعدم ارتفاعه بالاستصحاب ، فتجري القاعدة حينئذ وبجريانها لا يحتاج إلى استصحاب عدم المنع السابق لعدم ترتب فائدة عليه « ولكن » الالتزام بذلك مشكل ، فان لازمه هو المنع عن جريان الامارات النافية أيضا لعدم ترتب فائدة عليها مع حكم العقل بالبرائة وهو كما ترى « مضافا إلى أنه » يكفي في فائدته معارضته مع ما دل على وجوب التوقف والاحتياط كرواية التثليث ونحوها « فإنه » لولا الاستصحاب لكانت تلك الأخبار واردة على القاعدة لصلاحيتها للبيانية والمنجزية للواقع المجهول بخلاف ما لو قلنا بجريان الاستصحاب المزبور فإنه موجب لسقوط ما دل على وجوب التوقف والاحتياط اما بالحكومة كما هو التحقيق أو بالمعارضة فيرجع بعد سقوط الطرفين إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان من دون احتياج في هذا المقدار إلى تعميم عدم البيان الذي هو موضوع قاعدة القبح بمطلق البيان ولو على عدم التكليف « نعم » انما يثمر ذلك في الشبهات الموضوعية البدوية التي لا تجب الاحتياط فيها عند الجميع ( فإنه ) بناء على التخصيص بالبيان على وجود التكليف يمكن المنع عن جريان الاستصحاب النافي بمقتضى البيان المزبور ، ولكن ذلك أيضا إذا كان الأثر ممحضا بالترخيص في الارتكاب « واما » إذا كان هناك اثر آخر مترتب على الحلية الواقعية أو عدم المنع الواقعي كجواز الصلاة في محلل الاكل ونحوه فيجرى الاستصحاب أيضا « هذا كله » فيما استدل به للبرائة

ص: 240

القسم الثاني

الجزء الثالث

من كتاب نهاية الأفكار

في مبحث القطع والظن وبعض الأصول العملية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

واستدل للاحتياط بالأدلة الثلاثة

« اما الكتاب » فبآيات ( منها ) ما دل على النهى عن القول بغير علم لكونه افتراء عليه سبحانه كقوله عز وجل لم تقولون على اللّه ما لا تعلمون ، وقوله سبحانه قل آلله اذن لكم أم على اللّه تفترون ( بتقريب ) ان الحكم بالترخيص في محتمل الحرمة قول بغير علم وافتراء عليه سبحانه ( ومنها ) ما دل على لزوم الورع والاتقاء ولزوم المجاهدة في اللّه كقوله سبحانه واتقوا اللّه حق تقاته ، وجاهدوا في اللّه حق جهاده ، بتقريب دلالتها على لزوم الاتقاء عما يحتمل الحرمة والمجاهدة بعدم ارتكابه لكونه حق التقوى وحق الجهاد الذي امر به في الآية « ومنها » ما دل على حرمة القاء النفس في التهلكة كقوله عز من قائل ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، بتقريب ان في ارتكاب المشتبه القاء للنفس في التهلكة فيجب التوقف والاحتياط ( ومنها ) ما دل على المنع عن متابعة ما لا يعلم الظاهر في وجوب التوقف وعدم المضي كقوله سبحانه ولا تقف ما ليس لك به علم ( ومنها ) ما دل على التوقف ورد ما لا يعلم حكمه إلى اللّه سبحانه ورسوله كقوله عز وجل فان تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه ورسوله ( والجواب ) اما عن الطائفة الأولى فبمنع كون الحكم بالترخيص الظاهري بمقتضى الأدلة المتقدمة قولا بغير علم « واما الحكم » بالترخيص الواقعي فهو وان كان قولا بغير علم ولكنه لا يدعيه القائل بالبرائة ( لان ) تمام همه انما هو اثبات الترخيص الظاهري في ارتكاب المشتبه وعدم وجوب الاحتياط كما أن هم القائل بالاحتياط انما هو اثبات المنع الظاهري بمقتضى ما دل على وجوب التوقف والاحتياط « واما عن الطائفة الثانية » فبمنع كون ارتكاب المشتبه بمقتضى الأدلة المرخصة منافيا مع المجاهدة والتقوى ، بل المنافي لها هو ترك

ص: 241

الواجبات وفعل المحرمات كما تدل عليه النصوص الكثيرة ، على أن غاية ما تقتضيه انما هي الدلالة على رجحان هذه المرتبة من التقوى التي ينافيها ارتكاب المشتبه ، فان حق التقوى لا يكون الا باتيان المندوبات وترك التعرض للمكروهات والمشتبهات فتكون هذه المرتبة هي حق التقوى التي لا تكون فوقها مرتبة ، وهي مما لا اشكال في رجحانها عقلا ونقلا فكان الامر بتقوى اللّه سبحانه حق تقاته في هذه الآية مساوقا لما في الآية الأخرى من قوله عز من قائل ان أكرمكم عند اللّه اتقيكم في كونه للاستحباب لا للوجوب « اما عن الطائفة الثالثة » فالهلاك بمعنى العقوبة مقطوع العدم بمقتضى أدلة البراءة وبمعنى آخر غيرها تقدم الجواب عنه سابقا « واما الطائفة الرابعة » فيعلم الجواب عنها بما يأتي في الجواب عما دل على وجوب التوقف والاحتياط من الاخبار الآتية انشاء اللّه « واما الطائفة الخامسة » الا مرة برد مالا يعلم إلى اللّه سبحانه ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فبعد الغض عن دعوى ظهورها في عدم الحكم بالترخيص الواقعي عند الشك ، انها محمولة على صورة التمكن من إزالة الشبهة بالرد إليهم صلوات اللّه عليهم ، فلا تعم الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يوجب إزالة الشبهة.

« واما السنة » فباخبار كثيرة وهي أيضا على طوائف « الأولى » ما دل على حرمة الافتاء بغير علم كقوله (عليه السلام) في خبر زرارة ، على العباد ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون « وقد » ظهر الجواب عنها بما ذكرناه في الآيات « الثانية » ما دل على وجوب التوقف فيما لا يعلم ورد حكمه إليهم (عليهم السلام) وهي كثيرة « منها » قوله (عليه السلام) في رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديثين ، وما لم تجدوا في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم الكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا « ومنها » قوله (عليه السلام) ، إذا اشتبه الامر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم ما شرح اللّه لنا إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة بهذا المضمون « والجواب » عنها قد تقدم في الآيات باختصاصها بصورة التمكن من إزالة الشبهة فلا تعم مفروض البحث الذي هو فرض عدم التمكن من ازالتها « الثالثة » ما دل على أن الوقوف عند الشبهة من الورع كقوله (عليه السلام) أورع

ص: 242

الناس من وقف عند الشبهة وقوله (عليه السلام) ، لا ورع كالوقوف عند الشبهة وقوله (عليه السلام) ، من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك « وقد تقدم » الجواب عنها أيضا بأنها ظاهرة في الاستحباب فلا تصلح للمقاومة مع ما دل على الترخيص في ارتكاب المشتبه « الرابعة » ما دل على الامر بالوقوف عند الشبهة معللا بالاقتحام في الهلكة وهي أيضا كثيرة « منها » قوله (عليه السلام) قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة « ومنها » قوله (عليه السلام) في موثقة سعد بن زياد عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، انه قال لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة إلى أن قال فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ونحوها رواية التثليث « وفيه » انها بقرينة ما في ذيلها من التعليل مختصه بموارد تمامية البيان من الخارج كالشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي فلابد من حملها على الارشاد وتخصيص الشبهة فيها بغير الشبهات البدوية المحضة بعد الفحص ( حيث إن ) ظاهر التعليل هو كون الهلكة المترتبة على الاقتحام مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الامر بالتوقف وانها هي العلة للامر بالوقوف عند الشبهة ( ومن ) الواضح انه لا يمكن فرض وجود الهلكة الا بفرض منشأ آخر لها في المرتبة السابقة عن الامر بالتوقف من علم اجمالي ونحوه يكون هو المنجز للتكليف والرافع لقبح العقاب بلا بيان ، والا فيستحيل ترتب الهلكة المفروضة على نفس هذه الأوامر المتأخرة عنها ، فلا محيص حينئذ من حمل الامر بالتوقف في هذه الأخبار على الارشاد المحض وتخصيص الشبهة فيها بالشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهات البدوية قبل الفحص ، إذ لا يمكن شمول اطلاقها للشبهات البدوية المحضة بعد الفحص ، لأنها بمقتضى قبح العقاب بلا بيان مما يقطع بعدم الهلكة فيها ، كما لا يمكن ان يكون الامر بالتوقف فيها أمرا مولويا وبيانا على الواقع المجهول ، لان شأن البيان ان يكون منشأ لترتب الهلكة على المخالفة ، وبعد كون الهلكة المحتملة مفروضة في رتبة سابقة عن الامر بالتوقف يستحيل صلاحية مثله للبيانية على التكليف المحتمل ( نعم ) هنا تقريب آخر للاستدلال بهذه الاخبار ( وحاصله ) انه بعد شمول اطلاق الشبهة للشبهات البدوية بعد الفحص وظهور الهلكة في العقوبة

ص: 243

يستكشف من اطلاقها بنحو الان بضميمة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان عن ايجاب الشارع الاحتياط في الرتبة السابقة عن الامر بالتوقف والسكون ، وبعد صلاحية ايجاب الاحتياط المستكشف للبيانية والمنجزية للتكليف المجهول تخرج الشبهات البدوية عن مورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ( وأجاب عنه ) الشيخ قده ان ايجاب الاحتياط المزبور ، ان كان مقدمة للتحرز عن العقوبة المحتملة فهو مستلزم لترتب العقوبة على التكليف المجهول وهو قبيح ، وان كان حكما ظاهريا نفسيا لا مقدميا فالهلكة وان كانت معلومة لكنها مترتبة حينئذ على مخالفة نفس هذا التكليف لا على مخالفة الواقع انتهى ( أقول ) وكان ذلك منه قده مبنى على تخصيص البيان الرافع لحكم العقل بالقبح بخصوص العلم الوجداني أو التعبدي كما تقدمت الإشارة إليه في مبحث الانسداد وعند البحث عن وجه منجزية أوامر الطرق ، فإنه على هذا المسلك صح المنع عن صلوح ايجاب الاحتياط للبيانية لعدم كون شأن مثله تتميم الكشف كما في الامارات ( ولكن فيه ) مضافا إلى منافاته لما افاده في حديث الرفع في دفع اشكال عدم كون استحقاق العقوبة اثرا شرعيا ، من أن رفعه انما هو برفع منشئه وهو ايجاب الاحتياط ولما افاده غير مرة من ورود أدلة الاحتياط على أغلب أدلة البراءة ( انه لا ينحصر ) البيان المصحح للعقوبة على الواقع بخصوص العلم الوجداني أو التعبدي ، بل هو يعم ذلك وايجاب الاحتياط أيضا كما يشهد به الوجدان والارتكاز من العرف والعقلاء فان البيان الرافع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان عبارة عن مطلق ما انشاء بداعي حفظ المرام الواقعي عند الشك به كان ذلك بلسان تتميم الكشف أو بلسان ايجاب الاحتياط أو غير ذلك ، وعليه نقول انه لا ينحصر الامر في ايجاب الاحتياط المستكشف بما أفيد من الشقين النفسي والمقدمي ، فإنه يتصور فيه شق ثالث وهو كونه ايجابا طريقيا أنشأ بداعي حفظ المرام الواقعي في مرتبة الشك به بملاحظة بلوغ الاهتمام به بمرتبة لم يكتف الشارع في حفظه بخطابه الواقعي ( كما أن ) وجوب التعلم في قوله هلا تعلمت على بعص الوجوه يكون من هذا القبيل حيث يكون ايجابه ايجابا طريقيا لا نفسيا ولا مقدميا كي يشكل عليه بلزوم انفكاكه في بعض الموارد عن وجوب ذيها ( وعليه ) فبعد صلاحية مثل ايجاب الاحتياط للمنجزية يتوجه

ص: 244

الاشكال المزبور ، فان للقائل بالاحتياط حينئذ اثبات العقوبة على مخالفة الواقع المشكوك بنفس ايجاب الاحتياط المستكشف من اطلاق الشبهة في هذه الأخبار ولا يكاد اندفاعه بما أفيد من جعل ايجاب الاحتياط مرددا بين النفسي والغيري كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فالأولى هو الاشكال على الاستدلال المزبور من جهة لزوم الدور ( بتقريب ) توقف جريان أصالة الاطلاق لاحراز ان كل شبهة فيها الهلكة حتى الشبهة البدوية على العلم بوجود البيان في الرتبة السابقة على ذلك ، إذ لولاه يقطع بعدم الهلكة في ارتكابها بمقتضى قبح العقاب بلا بيان ومع القطع بالعدم لا يحتمل مطابقة الظهور الاطلاقي للواقع فلا تجرى فيه أصالة الظهور ، وتوقف العلم بالبيان على جريان أصالة الاطلاق في المشتبه ( لان ) الفرض انه لا طريق لكشف جعل ايجاب الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص سوى هذا الاطلاق فيدور ( نعم ) لو كان مجرد البيان بوجوده الواقعي كافيا في تنجيز التكليف المجهول لكان للتمسك بالاطلاق المزبور مجال ، لتصور الشك في مطابقة الظهور الاطلاقي حينئذ للواقع للشك في وجود البيان في نفس الامر على التكليف المشكوك ( ولكن ) ذلك مما يقطع ببطلانه ، فإنه لا شبهة في أن مدار التنجيز انما هو على البيان بوجوده الواصل إلى المكلف بحيث لولا وصوله يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كيف وان مثل هذا البيان المجهول لا يزيد عن أصل الخطاب الواقعي المجهول ، فالالتزام بحسن العقوبة معه مساوق انكار قبح العقوبة على ما لا يعلم ( لا يقال انه ) من الممكن حينئذ اجراء أصالة الاطلاق بالنسبة إلى المشافهين بهذه الخطابات الا مرة بالتوقف لكشف وجوب الاحتياط عليهم في الشبهات البدوية بخطاب سابق عن هذه الخطابات ، فإنه بعد أن يحتمل وجوب الاحتياط عليهم ولو بخطاب آخر ، لا مانع عن التمسك باطلاق الشبهة للشبهات البدوية بعد الفحص بالنسبة إلى الموجودين في زمان الخطاب ( بعد ) ان ثبت وجوب الاحتياط عليهم بمقتضى الاطلاق المزبور ، يثبت في حقنا أيضا بمقتضى قاعدة الاشتراك ( فإنه يقال ) ان ذلك مبني على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فإنه بعد اقتضاء أدلة البراءة نفي الهلكة على ارتكاب المشتبه في ظرف عدم البيان يراد بالتمسك بالاطلاق المزبور في أن كل شبهة فيها الهلكة لادخال الشبهات

ص: 245

البدوية تحت حكم العام باثبات ان الهلكة فيها كانت مع البيان ( ومثله ) كما ترى غير جائز على ما حقق في محله ( ومع الغض ) عن ذلك وانتهاء الامر إلى المعارضة مع أدلة البراءة ( يتعين ) تقديم أدلة البراءة عليها فإنها من جهة قصورها عن الشمول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي تكون أخص مطلق من أدلة الاحتياط الشاملة للشبهات البدوية والثانوية ( الخامسة ) ما دل على الاخذ بالاحتياط مطلقا بلا تعليل بالهلكة وهي كثيرة ( منها ) قوله (عليه السلام) أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت ( ومنها ) قوله (عليه السلام) ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط ( ومنها ) قوله (عليه السلام) خذ الاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك عتبة للناس ( ومنها ) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال سئلت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الحزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء ، قال (عليه السلام) بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت إن بعض أصحابنا سئلني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال (عليه السلام) إذ أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه وتعلموا ( ومنها ) موثقة عبد اللّه بن وضاح قال كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) تواري القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عنا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة وتؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر ان كنت صائما أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل ، فكتب (عليه السلام) أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك ، فان الظاهر منها هو السؤال عن الشبهة الحكمية فكان جوابه (عليه السلام) بالأخذ بالاحتياط دالا على المقصود ( ولكن الجواب ) اما عن الأولين ، فبظهورهما في الاستحباب لكونهما مسوقين في بيان أعلى مراتب الاحتياط وان كلما تحتاط لدينك كان في محله لكونه بمنزلة أخيك ومنه يظهر الجواب عن الثالث أيضا ، واما الهرب عن الفتيا بالواقع عند عدم العلم فمما يعترف به المجتهدون أيضا إذ تمام همهم انما هو اثبات الترخيص الظاهري وعدم وجوب الاحتياط بمقتضى أدلة البراءة ( وبذلك ) يظهر الجواب عن الرابع أيضا ( فان ) مفاده انما هو المنع عن الافتاء بالواقع عند الجهل به وهو مما يعترف به المجتهدون ، فلا يرتبط بما هو مفروض البحث وهو الاحتياط في مقام العمل ( واما عن الخامس ) وهو قوله (عليه السلام) في الموثقة أرى لك ان تأخذ

ص: 246

بالحائطة لدينك ، فبالحمل على التقية بناء على ما استظهرناه من كون المسؤول عنه فيها هي الشبهة الحكمية ، إذ لولاها لكان اللازم هو الجواب بالحكم الواقعي لا تقرير السائل وابقائه على جهله وأمره بالأخذ بالاحتياط ، فان ذلك بعيد عن شأن الامام (عليه السلام) ويشهد لذلك أيضا امارات آخر منها شدة التقية في زمانه (عليه السلام) وعدم تمكنه من بيان احكام اللّه سبحانه ، ومنها اشتهار الحكم باستتار القرص بين العامة « ومنها » تعبيره (عليه السلام) بقوله أرى لك الخ حيث إنه يستشم من مثل هذا التعبير رائحة التقية وانه كان ذلك منه لخوفه عن اظهار الحق ببيان الحكم الواقعي خصوصا في المكاتبات التي كان الاتقاء فيها ما لا يكون في غيرها ( حينئذ ) فكان قوله (عليه السلام) أرى لك ان تأخذ بالحائطة لدينك بيانا لوجوب الانتظار إلى ذهاب الحمرة المشرقية والتعبير بالاحتياط لأجل التباس الامر على العامة لكي يزعموا ان الحكم بالتأخير انما هو لأجل الاحتياط ، ومن المعلوم خروج ذلك حينئذ عن مفروض البحث في المقام ( هذا كله ) بناء على كون المسؤول عنه هي الشبهة الحكمية ( واما بناء ) على احتمال كونه هي الشبهة الموضوعية لاحتمال كون المراد من الحمرة المرتفعة غير الحمرة المشرقية فعليه وان كان الواجب هو الاحتياط والانتظار كما في الرواية ، ولكن وجوب الانتظار حينئذ انما هو لأجل الاستصحاب وقاعدة الاشتغال بالصلاة والصيام فتخرج مفاد الرواية عن مفروض البحث كما هو ظاهر.

( واما الدليل العقلي ) فتقريبه من وجهين ( الأول ) ان احتمال التكليف الوجوبي أو التحريمي مساوق لاحتمال الضرر على مخالفته ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا ( وربما ) يجعل ذلك أصلا في الافعال غير الضرورية فيقال ان الأصل فيها الحظر فلابد من العمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة ولم يرد فيما لا نص فيه إباحة من الشارع ، وما ورد معارض بما ورد من الامر بالتوقف والاحتياط وبعد التعارض يرجع إلى الأصل المزبور وقد احتج على ذلك شيخ الطائفة قده في العدة فقال فيما حكى عنه ان الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة ( والجواب ) عنه قد تقدم سابقا وحاصله ان المراد من الضرر ان كان هي العقوبة فالصغرى ممنوعة وان كان غير العقوبة وهي

ص: 247

المفسدة التي تبتني عليها الاحكام على مذهب العدلية ( فهذا ) أيضا بعد تسليم ان كل مفسدة ضرر ، وتسليم مولوية هذا الوجوب العقلي ، وتمامية الملازمة بين حكم العقل والشرع مبنى على كون موضوع الوجوب المزبور عند العقل مطلق الضرر ولو كان متداركا ، والا فعلى فرض اختصاصه بالضرر غير المتدارك كما هو التحقيق فلا مجال لدعوى الوجوب المزبور ، إذ حينئذ يمكن دعوى تدارك الضرر على فرض وجوده بمقتضى أدلة البراءة كحديث الرفع وغيره حيث إنه يستكشف من هذه الأدلة المرخصة تدارك الضرر وجبرانه على فرض وجوده كما هو الشأن في الشبهات الموضوعية الجارية فيها البراءة باتفاق الفريقين بل الشبهات الحكمية الوجوبية أيضا ( الوجه الثاني ) من تقريب العقل العلم الاجمالي ، بتقريب انه قبل مراجعة الأدلة يعلم اجمالا بثبوت محرمات كثيرة في الشريعة فيجب بحكم العقل الجزمي الاجتناب عن كل ما يحتمل الحرمة تحصيلا للجزم بالفراغ لاقتضاء الاشتغال اليقيني بالتكليف البراءة اليقينية باتفاق المجتهدين والأخباريين ، إذ لم يحصل بعد المراجعة إلى الأدلة والعمل بها ما يعلم معه الخروج عن عهدة تلك المحرمات الواقعية التي كلفنا الشارع بالاجتناب عنها ( وفيه ) انه لا تأثير لمثل هذا العلم الاجمالي بعد العلم بقيام طرق خاصة على مقدار من المحرمات التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها خصوصا بعد أن ضم إليها موارد الأصول المثبتة الشرعية والعقلية كالاستصحاب وقاعدة الاشتغال ، فإنه بذلك ينحل العلم الاجمالي ويخرج عن المنجزية فيرجع فيما عداها من الشبهات المشكوكة من قبل العلم الاجمالي إلى البراءة ، وهذا المقدار مما لا اشكال فيه ( وانما الكلام ) في أن الانحلال المزبور حقيقي أو حكمي.

( وتنقيح المرام ) يحتاج إلى تمهيد مقدمة وهي ان موضوع البحث في الانحلال الحقيقي أو الحكمي في المقام انما هو صورة قيام الطريق القطعي أو الظني المعتبر على التكليف في بعض الأطراف بلا عنوان بنحو قابل لانطباق المعلوم بالاجمال عليه ، واما صورة قيام الطريق القطعي أو الظني على تعيين المعلوم بالاجمال وتشخيصه في بعض الأطراف بالخصوص فهو خارج عن محط البحث في الانحلال في المقام ( فان الصورة الأولى ) كانت راجعة إلى مقام انكشاف الواقع وتبدل

ص: 248

الصورة الاجمالية إلى الصورة التفصيلية والصورة الثانية راجعة إلى مقام جعل البدل المعين لمصداق المعلوم بالاجمال في مرحلة الفراغ والخروج عن عهدة التكليف ، ومثله غير مرتبط بمقام الانحلال ، ولذا يجرى ذلك في موارد ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي أيضا كما في قاعدتي التجاوز والفراغ ( وبالجملة ) فرق واضح بين باب الانحلال وبين باب جعل البدل ( فان الأول ) راجع إلى الممانعة عن تأثير العلم الاجمالي في الاشتغال بمعلومه حيث إن الامارة القائمة على ثبوت التكليف في مورد بالخصوص كانت مانعة عن تأثير العلم الاجمالي في الاشتغال بمعلومه ( بخلاف ) جعل البدل فإنه راجع إلى التصرف في ناحية الفراغ عن عهدة التكليف فارغا عن أصل الاشتغال به بعلم تفصيلي أو اجمالي ومرجعه إلى اكتفاء الشارع في مقام الخروج عن عهدة التكليف الواقعي بفعل ما قام عليه الطريق بدلا عن الواقع ولذلك لا يعتبر في قيام الطريق على تعيين المفرغ كونه مقارنا للعلم الاجمالي بل يكتفي به ولو كان قيامه بعد العلم الاجمالي ، بخلاف باب الانحلال فإنه على ما يأتي يعتبر كونه مقارنا للعلم الاجمالي والا فلا يمنع عن تأثير العلم الاجمالي في التنجيز ( وحيث ) اتضح ذلك نقول ان ما به الانحلال اما ان يكون هو العلم ، واما ان يكون غيره من امارة ظنية معتبرة أو أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف شرعيا كان كالاستصحاب ونحوه أو عقليا كقاعدة الاشتغال ( وعلى التقادير ) فقيام الطريق المثبت للتكليف تارة يكون مقارنا لحصول العلم الاجمالي ، وأخرى يكون سابقا عليه ، وثالثة يكون متأخرا عنه وأمثلة الكل واضحة ( وعلى التقادير ) فتارة يكون ذو الطريق وهو التكليف المعلوم بالتفصيل قبل التكليف المعلوم بالاجمال كما لو علم تفصيلا بنجاسته شيء معين ثم بعد ذلك علم اجمالا بموجب آخر للنجاسة وتردد متعلقها بين كونه ذاك الشيء المعين أو غيره ، وأخرى يكون مقارنا لما هو المعلوم بالاجمال وثالثة متأخرا عنه كان زمان العلم به سابقا عليه أو مقارنا أو متأخرا عنه ( وبعد ذلك ) نقول أما إذا كان قيام الامارة التفصلية مقارنا لحصول العلم الاجمالي للتكليف ( فقد يتوهم ) كونه منشأ لانحلال العلم الاجمالي حقيقة وانقلابه إلى علم تفصيلي وشك بدوي وجدانا كما في الأقل والأكثر الاستقلاليين من جهة رجوع العلمين عند التأمل إلى علم واحد بالتكليف في طرف بالخصوص وشك بدوي في غيره

ص: 249

( بتقريب ) ان ذلك هو مقتضى تعلق العلم الاجمالي بالجامع القابل للانطباق على كل واحد من الطرفين فإنه إذا علمنا بحرمة أحد الانائين بلا عنوان فيه وعلمنا أيضا بحرمه أحدهما المعين يلزمه انطباق المعلوم بالاجمال بما هو معلوم على الاناء المعلوم حرمته تفصيلا ومع انطباقه عليه واتحاده معه خارجا يستحيل بقاء العلم الاجمالي على حاله لاستحالة توارد العلمين على شيء واحد فلا محيص حينئذ من ارتفاع العلم الاجمالي وتبدله بالعلم التفصيلي بحرمة أحد الانائين معينا والشك البدوي في الاخر ( هذا ) غاية ما قيل في تقريب انحلال العلم الاجمالي بالجامع وانقلابه حقيقة إلى العلم التفصيلي بالتكليف في أحد الطرفين معينا والشك البدوي في الطرف الآخر ، مضافا إلى دعوى الوجدان بعدم العلم بأزيد من حرمة الانائين معينا ( وفيه ) مضافا إلى عدم تماميته في الطرق غير العلمية لعدم حصول العلم التفصيلي منها بالواقع ( انه يتم ذلك ) في صورة العلم بانطباق المعلوم بالاجمال وهو الجامع على الفرد المعلوم حرمته تفصيلا ، والا فلا يقتضى مجرد تعلق العلم الاجمالي بالجامع لانحلاله بقيام العلم التفصيلي على التكليف في بعض الأطراف ( فإنه ) كما يحتمل انطباقه على الطرف المعلوم حرمته تفصيلا ، كذلك يحتمل بالوجدان انطباقه على الطرف الآخر ، إذ ليس احتمال التكليف فيه بدويا محضا كسائر الشبهات البدوية ، وانما كان ذلك من جهة احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه ( ومع ذا ) كيف يمكن دعوى ارتفاع العلم الاجمالي بالتكليف وتبدله بالعلم التفصيلي ، بل وجود هذا الاحتمال حينئذ كاشف قطعي عن بقاء العلم الاجمالي لكونه من لوازمه حيث لا يمكن بقاء الاحتمال المزبور بدون بقاء ملزومه وهو العلم الاجمالي ( وبذلك ) يظهر فساد مقايسة المقام بباب الأقل والأكثر ( لان ) في الأقل والأكثر لا يكون من الأول الا علم تفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الزائد حتى في الارتباطي منه ، وانما الاجمال فيه في حدى الأقل والأكثر لا بالنسبة إلى ذات التكليف ولذلك لا تصدق فيه تلك القضية التعليقية اللازمة للعلم الاجمالي وهي انه لو كان الواجب هو الأكثر لكان الأقل غير واجب من جهة القطع بوجوب الأقل على كل تقدير ( وهذا ) بخلاف المتبائنين الذي كان الاجمال فيه في ذات التكليف من حيث تردده بين كونه في هذا أو ذاك ، فإنه تصدق فيه تلك القضية التعليقية من

ص: 250

الطرفين حتى مع العلم التفصيلي بالتكليف في طرف بالخصوص فصدق هذه القضية التعليقية من الطرفين في المقام حتى بعد العلم التفصيلي يكشف عن بقاء ملزومها وهو العلم الاجمالي وعدم انحلاله حقيقة كما في الأقل والأكثر ( واما ما أفيد ) من البرهان المزبور في وجه الانحلال واتحاد العلمين بأنه لولا الانحلال يلزم اجتماع العلمين في موضوع واحد ( ففيه ) انه يرد هذا المحذور بناء على تعلق العلم بالخارجيات ( والا فبناء ) على ما هو التحقيق من تعلقه بالعناوين والصور الذهنية غايته لا بالنظر إليها استقلالا وبنحو التخلية في الذهن بل بالنظر إلى كونها مرأتا للخارج بنحو لا يرى بذاك النظر الا الخارج ، من دون اقتضاء هذا النظر أيضا لسرايته من العناوين والصور الذهنية إلى وجود المعنون في الخارج ( فلا يلزم ) هذا المحذور ، إذ نقول ان وجود الجامع وان كان متحدا في الخارج مع الفرد والخصوصية ، ولكن بعد كونهما في الذهن صورتان متبائنتان وفرض قيام العلم بمثل هذه الصور المتبائنة بلا سراية إلى الخارج لا محذور من تعلق العلمين بشيء واحد بتوسيط عنوانين الاجمالي والتفصيلي ، إذ لا يلزم من مثله محذور اجتماع المثلين في موضوع واحد ، كيف ولا يزيد ذلك عن التضاد بين العلم والشك وبعد امكان تعلق العلم بشيء بعنوان والشك فيه بعنوان آخر ووقوعه في جميع موارد العلم الاجمالي لا مجال للاشكال في تعلق العلمين بشيء بتوسيط عنوان الاجمالي والتفصيلي فلا مجال حينئذ لدعوى اتحاد العلمين بمحض قابلية العنوانين بذاتهما للانطباق على وجود واحد ( نعم ) لا بأس بدعوى الانحلال الحكمي فيه ( بتقريب ) انه مع قيام المنجز في أحد طرفي العلم الاجمالي علما كان أو امارة أو أصلا يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثرية في هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمل تكليف واحد للتنجيزين وبخروجه عن قابلية التأثر من قبل العلم الاجمالي مستقلا يخرج المعلوم بالاجمال وهو الجامع الاطلاقي عن القابلية المزبورة ، فلا يبقى مجال لتأثير العلم الاجمالي في متعلقه لان معنى منجزية العلم الاجمالي هو كونه مؤثرا مستقلا في المعلوم على الاطلاق وهذا المعنى غير معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابلية التأثر من قبله مستقلا فلا يبقى في البين الا تأثيره على تقدير خاص وهو أيضا مشكوك من الأول إذ لا يكون التكليف على ذاك التقدير متعلقا للعلم فما هو المعلوم

ص: 251

وهو الجامع المطلق القابل للانطباق على كل واحد من الطرفين غير قابل للتأثر من قبل العلم الاجمالي وما هو القابل لذلك وهو الجامع المقيد انطباقه على الطرف الآخر لا يكون من الأول معلوما لعدم قابليته للانطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل وبذلك يسقط العلم الاجمالي عن السببية للاشتغال بمعلومه بجعله في عهدة المكلف وبسقوطه تجرى الأصول النافية في الطرف الآخر ، ( وفى ذلك ) لا فرق بين أنحاء الطرق بل الأصول المثبتة حيث إن الجميع على منوال واحد في كون الانحلال حكميا لا حقيقيا ، كما لا فرق بين ان يكون ذو الطريق وهو التكليف المعلوم بالتفصيل سابقا أو مقارنا لزمان التكليف المعلوم بالاجمال ( هذا كله ) إذا كان العلم التفصيلي أو الامارة مقارنا للعلم الاجمالي ( واما ) إذا كان سابقا على العلم الاجمالي فلا شبهة في أنه لا يكون بوجوده السابق منشأ لانحلال العلم الاجمالي من جهة وضوح ان العلم بالتكليف في كل آن انما يكون منجزا للتكليف في ذلك الان لا انه بحدوثه منجز إلى الأبد ( فلابد ) من بقائه إلى زمان حدوث العلم الاجمالي كي بتأثيره في تنجيز التكليف في ذلك الآن يخرج العلم الاجمالي عن المؤثرية ومعه يرجع إلى العلم المقارن ، من غير فرق في ذلك بين قيامه على التكليف السابق الباقي إلى زمان العلم الاجمالي ، وبين قيامه على حدوث التكليف حين وجود العلم الاجمالي بالتكليف فعلى كل تقدير لابد في الانحلال من وجوده حين العلم الاجمالي والا فبدونه كان العلم الاجمالي مؤثرا في تنجيز متعلقه ( وأما إذا كان ) العلم أو الامارة التفصيلية متأخرا عن العلم الاجمالي ففي انحلال العلم الاجمالي بمثله مطلقا ولو حكما ، أو عدم انحلاله كذلك ، أو التفصيل بين سبق التكليف المعلوم بالتفصيل أو تقارنه للتكليف المعلوم بالاجمال وبين لحوقه بانحلال العلم الاجمالي حقيقة أو حكما في الأول وعدمه في الثاني وجوه وأقوال ( أقواها ) أوسطها ( فان ) توهم الانحلال في هذه الصورة ولو حكما مبنى على تأثير العلم اللاحق في تنجيز التكليف السابق على وجوده ( وهو ممنوع ) جد الامتناع تأثير العلم المتأخر في تنجيز التكليف فيما قبل وجوده فيبقى العلم الاجمالي السابق على حاله فيؤثر من حين حدوثه في الاشتغال بمعلومه فيجب مراعاته بحكم العقل بالاجتناب عن الطرفين ، من غير فرق بين قيام الطريق التفصيلي على التكليف السابق أو المقارن أو اللاحق ( لان ) التنجيز

ص: 252

انما هو من لوازم العلم والطريق لا المعلوم وذي الطريق ( لا يقال ) سلمنا ذلك لكن لا مانع من تأثير العلم التفصيلي المتأخر من حين قيامه على أحد الطرفين ، فإنه بعد ما لا يكون العلم الاجمالي السابق بحدوثه علة للاشتغال بالتكليف المردد إلى الأبد ودوران تأثيره في كل آن مدار وجوده في ذاك الان وبقائه على صفة حدوثه ، فلا محالة يكون العلم التفصيلي بالتكليف في الطرف المعين من حين وجوده بضميمة المقدمة المزبورة من قبيل العلم المقارن فيمنع عن استقلال العلم الاجمالي في تنجيزه بقاء للجزم بدخل هذا العلم التفصيلي حين وجوده في تنجيزه وبذلك يسقط العلم الاجمالي عن التأثير في الجامع فلا يلزم رعاية الاحتياط في الأطراف الاخر ( فلو ) علم اجمالا في أول الصبح نجاسة أحد الكأسين ثم علم تفصيلا في أول الزوال بنجاسة أحدهما المعين فإنه وان لم يسقط العلم الاجمالي عن التأثير فيما قبل الزوال ، ولكنه من حين الزوال الذي هو زمان حدوث العلم التفصيلي يسقط عن التأثير في الاشتغال بالامر المردد في البين لابتلائه حينه بالعلم التفصيلي المقارن ولازمه عدم لزوم رعاية الاحتياط من حين الزوال في بقية الأطراف ( فإنه يقال ) نعم العلم الاجمالي المزبور وان سقط عن التأثير من حين وجود العلم التفصيلي ( ولكن ) هناك علم اجمالي آخر يكون هو الموجب للاحتياط في بقية الأطراف وهو العلم الاجمالي التدريجي المتعلق بوجوب الاجتناب اما عن خصوص الذي صار معلوما بالتفصيل في أول الصبح أو عن الطرف الآخر المقابل له في أول الزوال نظير العلوم الحاصلة في التدريجات ( بيان ذلك ) هو ان العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الطرفين تبعا لانحلال التكليف المعلوم بحسب الانات إلى تكاليف متعددة ينحل إلى علوم متعددة ( بعضها ) دفعي كالعلم بالتكليف المردد بين الطرفين في كل من انات الأزمنة كالصبح والزوال في المثال المتقدم ( وبعضها ) تدريجي وهو العلم بحدوث التكليف في طرف في الصبح أو بقائه في الطرف الآخر في الزوال مثلا ( والذي ) يسقط عن التأثير حين وجود العلم التفصيلي انما هو العلم الاجمالي الدفعي ( واما الثاني ) وهو العلم الاجمالي التدريجي فيبقى على تأثيره بعد عدم صلاحية العلم التفصيلي اللاحق للتأثير في تنجيز المعلوم السابق عن نفسه حيث يحكم العقل في مثله بالاشتغال بالمردد بينهما ولزوم تحصيل الجزم بالفراغ عنه ما دام بقاء العلم

ص: 253

الاجمالي بحاله وعدم انقلابه بالشك البدوي بالحدوث من الأول بنحو الشك الساري ( وبمثل ) هذا البيان نقول بلزوم مراعاة العلم الاجمالي في صورة الاضطرار الطارئ بعد العلم وكذا تلف بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء بعد العلم حيث إن المناط كله في لزوم رعاية الاحتياط في المحتمل الاخر انما هو هذا العلم الاجمالي التدريجي الموجب لصيرورة جميع الآنات في الطرف الباقي طرفا للعلم بالتكليف في الان الأول في الطرف الآخر التالف بعد العلم ( والا ) فلا شبهة في سقوط العلم الاجمالي الدفعي حين طرو الاضطرار أو تلف بعض الأطراف حيث لا يكون علم بالتكليف الفعلي بعد التلف أو الاضطرار ولازمه جواز الرجوع إلى البراءة حينئذ في الطرف الباقي الا باتعاب النفس بالتزام تأثير العلم الاجمالي بحدوثه في التنجيز الأبدي ولو مع سقوطه وارتفاعه بعد ذلك ما لم يكن ارتفاعه بانقلابه بالشك البدوي بالحدوث من الأول ( ولكنه ) كما ترى فإنه لازمه بقاء التنجيز السابق مع زواله من جهة احتمال نسخ أو غيره ( وحينئذ ) فالعمدة في لزوم رعاية الاحتياط في المقام وفى موارد التلف أو الاضطرار الطارئ بعد العلم هو العلم الاجمالي التدريجي بالمردد بين ثبوت التكليف في الان الأول في طرف أو بقائه في الآن الثاني في الطرف الآخر فان العقل يحكم في مثله بالاشتغال بالامر المردد بينهما ولزوم الاحتياط في الطرف الآخر وان شك في سقوطه من جهة عصيانه أو امتشاله أو خروجه عن الابتلاء بمضي زمانه ، حيث لا يعتنى العقل بالشك في السقوط من الجهات المزبورة ( نعم ) على هذا قد يتوهم تسجل دعوى الاخباري وجوب الاحتياط في الشبهات بمقتضى العلم الاجمالي بالمحرمات الواقعية ( حيث ) يقال ان العلم التفصيلي بالمحرمات بمقدار المعلوم بالاجمال بعد ما لم يكن سابقا أو مقارنا للعلم الاجمالي بالوجدان بل كان متأخرا عنه لوضوح عدم حصوله الا بعد الرجوع إلى الأدلة والسير التام فيها وملاحظة موارد الاجماعات والنصوص الواردة عن الأئمة علیهم السلام والأصول المثبتة للتكاليف شرعيها وعقليها ( فلابد ) بمقتضى البيان المزبور من الاحتياط في كل ما يشك كونه من المحرمات الواقعية ولو بعد حصول العلم التفصيلي بجملة من المحرمات بمقدار المعلوم بالاجمال ( ولكنه ) مدفوع بأنه يتم ذلك لولا حكم العقل بمنجزية الاحتمال الطرق القائمة على ثبوت التكاليف في بعض

ص: 254

الأطراف من الأول بمناط الشبهة قبل الفحص ( والا ) فعلى ما هو التحقيق من حكمه بذلك لا مجال لتأثير العلم الاجمالي فان حال العلم الاجمالي مع الاحتمال المزبور بعد تقارنه لوجود العلم بعينه حاله مع العلم التفصيلي المقارن فيمنع ذلك أيضا عن تأثير العلم الاجمالي في تنجيز متعلقه كما يمنع عنه العلم التفصيلي ( وعليه ) فلا يكون الظفر بالامارات التفصيلية بعد ذلك مضرا بموجبيتها لانحلال العلم الاجمالي ، لان بالظفر بها يستكشف عن موجبيتها لانحلال العلم السابق لكونها من المنجز المقارن له ، ولازمه رجوع الشك في الشبهات بعد الفحص إلى الشك البدوي فتجري فيها البراءة.

( بقى الكلام في التنبيه على أمرين ( الامر الأول ) يعتبر في جريان أصالة الإباحة في مشتبه الحكم عدم وجود أصل حاكم عليها ، بل لا يختص ذلك بأصل الإباحة فيجرى في غيرها من الأصول أيضا ، بل في جعل ذلك من الشرائط مسامحة في التعبير ( لان ) مرجع ذلك في الحقيقة إلى اشتراط تحقق الموضوع للأصل في جريانه ، فان مع وجود الحاكم لا مورد لجريان الأصل المحكوم لارتفاع موضوعه ولو تعبدا بجريان الأصل الحاكم ( ومن ذلك ) ما لو شك في الحكم الوجوبي أو التحريمي لأجل الشك في النسخ ، فإنه تجرى فيه أصالة عدم النسخ وبجريانها لا يبقى مورد لأصالة الإباحة والبرائة عن التكليف ( ومنه ) أيضا ما لو شك في حل اكل لحم حيوان من جهة الشك في تذكيته مع عدم كونه في سوق المسلمين ولا في يد المسلم ، حيث إنه مع جريان أصالة عدم التذكية لا تجرى فيه أصالة الحل والبرائة ( ولما انتهى ) الكلام إلى ذلك لا بأس بالتعرض بما يتعلق بالمثال من الشقوق المتصورة للشك في طهارة اللحم وحليته من جهة الشك في التذكية ، فنقول ان الشك فيها ، تارة يكون من جهة الشبهة الحكمية كالشك في قابلية الحيوان الكذائي للتذكية في فرض عدم قيام دليل على قابلية كل حيوان للتذكية ، وكالشك في اعتبار اسلام الذابح أو الاستقبال مثلا فيها ، وأخرى من جهة الشبهة الموضوعية وصورها كثيرة وعلى أي تقدير ( التذكية ) اما ان تكون عبارة عن امر بسيط معنوي متحصل من قابلية المحل وقطع الأوداج الأربعة بالحديد وسائر ما يعتبر فيه نظير الطهارة بالنسبة إلى الغسلات الخاصة ( واما ان تكون ) عبارة عن قطع الأوداج الأربعة بشرائطه الوارد على المحل القابل بان

ص: 255

تكون القابلية شرطا لتأثير الأمور المزبورة ( واما ان تكون ) عبارة عن مجموع الأمور المزبورة مع القابلية ( فعلى الأول ) تجرى في جميع الصور أصالة عدم التذكية من غير فرق بين ان يكون الشك من جهة الشبهة الحكمية أو من جهة الشبهة الموضوعية بأنحاء ما يتصور فيها من الشك ( فإنه ) يشك حينئذ في تحقق ذلك الأثر الحاصل البسيط والأصل عدمه ( ويترتب ) عليه الحرمة بل النجاسة في وجه قوى ، ولا ينافي ذلك ما دل على ترتب الحرمة والنجاسة على عنوان الميتة التي هي عبارة عما مات حتف أنفه حتى يشكل بعدم اقتضاء الأصل المزبور لاثبات هذا العنوان الا على القول بالمثبت ( إذ الحكم ) كما رتب في الأدلة على عنوان الميتة ، كذلك رتب على ما يعم العنوان المزبور وهو غير المذكى ( ومن الواضح ) انه لابد في مثله من الاخذ بذلك العنوان العام كما يكون ذلك هو الشأن في كل مورد رتب الحكم الشرعي في لسان الدليل على عنوانين أحدهما أعم من الاخر ، حيث تكون العبرة بالعنوان العام دون الخاص ( ثم إن ذلك ) إذا لم نقل ان الميتة في لسان الشارع عبارة عن غير المذكى والا فبناء على كونها عبارة عن غير المذكى كما قيل به فالامر أوضح ( واما على الثاني ) وهو كون التذكية عبارة عن نفس فرى الأوداج بشرائطه مع كون القابلية شرطا في تأثيره ، فان كان الشك في الطهارة والحلية من جهة الشك في ورود فعل المذكي عليه تجرى فيه أصالة عدم التذكية واما ان كان الشك من جهة قابلية الحيوان للتذكية اما من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية كالشك في كون اللحم المطروح من الحيوان الذي يقبل التذكية كالغنم أو من الذي لا يقبل التذكية فمع العلم بورود فعل المذكى عليه من فرى الأوداج الأربعة بما اعتبر فيه لا تجرى أصالة عدم التذكية ، بل ومع الشك فيه أيضا فإنه وان لم يكن قصور حينئذ في جريان أصالة عدم التذكية ، ولكنه مع الشك في القابلية لا ينتج شيئا ، كيف وان القطع بوجوده لا تثمر شيئا مع الشك في القابلية ، وحينئذ فان كانت القابلية مسبوقة بوجودها كما لو شك في زوالها بمثل الجلل ونحوه تجرى فيها استصحابها ويترتب عليه اثار فرى الأوداج وعدمه ولو بالأصل ( والا ) فتجري أصالة الطهارة والحلية في اللحم المزبور لعدم كون القابلية المزبورة مسبوقة باليقين بالعدم حتى تستصحب ( واما توهم ) امكان احراز

ص: 256

عدمها حينئذ بالأصل بنحو السلب المحصل كما في مشكوك القرشية والشرط المشكوك مخالفته للكتاب ومشكوك الانتساب في الإرث لكون القابلية المزبورة بهذه الملاحظة مسبوقة بالعدم قبل الوجود ( فمدفوع ) بأنه وان كان المختار هو جريان الأصل في الاعدام الأزلية ، ولكن ذلك انما يكون في الأوصاف العارضة على الذات بتوسيط وجودها كالقرشية في المثال ( لا بالنسبة ) إلى ما هو من لوازم ذات الشيء فان في مثله لا مجال لجريان الأصل من جهة وضوح عدم كونه مسبوقا باليقين حتى في مرحلة صقع الذات قبل الوجود ، وقابلية الحيوان للتذكية انما تكون من هذا القبيل ، إذ لم تكن القابلية المزبورة من الأوصاف العارضة على الذات بتوسيط وجودها وانما هي من الأمور المأخوذة في ذات الحيوان وبهذه الجهة لم تكن لها حالة سابقة حتى في مرحلة صقع الذات كي يجرى فيها الأصل ( وعليه ) ينتهى الامر إلى الأصول الحكمية وهي أصالة الطهارة والحلية ( ومن ذلك ) البيان يظهر الحال على الاحتمال الثالث في التذكية وهو كونها عبارة عن مجموع الأمور الخمسة وقابلية المحل ( فإنه ) مع الشك قي قابلية الحيوان للتذكية لأجل الشبهة الحكمية أو الموضوعية لا تجرى فيه أصالة عدم التذكية ، لان التذكية على ذلك تكون من الموضوعات المركبة التي لابد في جريان الأصل فيها من لحاظ خصوص الجهة المشكوكة لا المجموع المركب من حيث المجموع وبعد عدم جريان الأصل في الجهة المشكوكة وهي القابلية تجري فيه لا محالة أصالة الطهارة والحلية من غير فرق في ذلك بين صورة العلم بورود فعل المذكى على الحيوان وعدمه نظرا إلى ما تقدم من عدم ترتب فائدة على استصحاب عدمه مع الشك في القابلية وعدم كون القطع بوجوده مع الشك المزبور منتجا لشيء ( نعم ) ينتج ذلك في فرض احراز قابلية الحيوان للتذكية فإنه مع الشك في ورود فعل المذكى عليه يجرى فيه أصالة العدم فيترتب عليه الحرمة والنجاسة ( ثم إن المتعين ) من المحتملات الثلاثة المتصورة في التذكية انما هو المعني الثاني ( فان المستفاد ) من قوله سبحانه الا ما ذكيتم من نسبة التذكية إلى الفاعلين ، وكذا قوله (عليه السلام) في ذيل موثقة ابن بكير ، ذكاة الذبح أم لا ، وقوله في خبر علي بن أبي حمزة بعد قول السائل أو ليس الذكي ما ذكى بالحديد ، بلى إذا كان مما يؤكل لحمه ( هو ان التذكية )

ص: 257

عبارة عن فعل المذكى وان قابلية المحل امر خارج عن حقيقة التذكية وكان لها دخل في تأثيرها في الطهارة والحلية لا انها عبارة عن مجموع فعل الذابح بما اعتبر فيه مع قابلية المحل ، ولا كونها عبارة عن الأثر الحاصل منهما ( وعليه ينبغي ) التفصيل في جريان أصالة الطهارة والحلية ، بين ان يكون الشك في حرمة اللحم ونجاسته من جهة الشك في قابلية الحيوان المذبوح للتذكية ، وبين ان يكون ذلك من جهة الشك في ورود فعل الذابح عليه فتجري في الأول أصالة الطهارة والحلية لعدم أصل حاكم عليهما ( بخلاف الثاني ) فإنه تجرى فيه أصالة عدم التذكية ويترتب عليها الحرمة والنجاسة.

( الامر الثاني ) لا اشكال ولا خلاف في رجحان الاحتياط عقلا ( وانما الاشكال ) في قابليته للرجحان الشرعي والاستحباب المولوي من جهة الأخبار الآمرة بالاحتياط ( والتحقيق في المقام ) يتوقف على شرح حقيقة الاحتياط وبيان الوجوه المتصورة في الامر به من حيث الارشادية والمولوية ( فنقول ) الوجوه المتصورة في مفاد الأوامر الواردة في هذا الباب أربعة ( أحدها ) كونه لمحض الارشاد إلى عدم الوقوع في المفاسد الواقعية والحزازة للنفس الامرية على تقدير وجودها واقعا نظير أوامر الطبيب ونواهيه بحيث لا يترتب على موافقتها سوى التخلص عن الوقوع في المفسدة الواقعية المحتملة ، واليه يرجع كلام الشيخ قده من حيث تنظيره بأوامر الطبيب ونواهيه وبالاشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع فيها ( وثانيها ) كونه ارشادا إلى ما في نفس عنوان الاحتياط من الحسن والرجحان العقلي مطلقا حتى في صورة عدم مصادفة الاحتمال للواقع لكونه انقيادا وإطاعة حكمية نظير الامر بعنوان الإطاعة ، ولازمه استحقاق المثوبة عليه وان لم يصادف الواقع بناء على ما اخترناه في مبحث التجري ، فارشادية الامر المتعلق به حينئذ انما هي بمعنى خلوه عن جهة المولوية كما في الامر بعنوان الإطاعة لا بمعنى خلو المتعلق بالعنوان المزبور عن الرجحان رأسا كما في الصورة الأولى ( وثالثها ) كونه حكما مولويا نفسيا بان كان في الفعل المشكوك حكمه بهذا العنوان مصلحة اقتضت استحبابه النفسي في مرتبة الشك بالواقع فيثاب عليه وان لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي ( ورابعها ) كونه حكما مولويا طريقيا انشاء

ص: 258

بداعي حفظ المرام الواقعي عند الشك به كما في جميع أوامر الطرق والامارات على ما مر شرحه مفصلا ( ولازم ) ذلك وان كان ترتب المثوبة عليه مطلقا الا انها على تقدير المصادفة تكون بعنوان الإطاعة وعلى تقدير آخر بعنوان الانقياد والإطاعة الحكمية ( بخلاف ) فرض المولوية النفسية فإنه عليه يكون ترتب المثوبة على الموافقة على كل تقدير بعنوان الإطاعة الحقيقية للامر المتعلق بعنوان الاحتياط ( واما عنوان الاحتياط ) فاما يكون عبارة عن الفعل أو الترك المنبعث عن دعوة احتمال الوجوب أو الحرمة ، واما ان يكون عبارة عن مجرد فعل مشكوك الوجوب أو ترك مشكوك الحرمة بهذا العنوان ( والفرق ) بينهما واضح فإنه على الأول يكون عنوان الاحتياط منتزعا عن الذات في المرتبة المتأخرة عن الذات المعروضة للوجوب أو الحرمة بنحو يرى في عالم التصور ذاتان إحديهما في رتبة سابقة عن الوجوب والأخرى في الرتبة المتأخرة عن دعوه احتمال الوجوب نظير عنوان الإطاعة وبذلك لا يلزم اجتماع الضدين أو المثلين في ذات واحدة كما تقدم شرحه في مبحث التجري ، ويترتب عليه حكم العقل بحسنه مطلقا حتى في صورة المخالفة للواقع لكونه بهذا العنوان انقيادا وإطاعة حكمية ( بخلاف الثاني ) فإنه وان كان منتزعا عن العنوان في المرتبة المتأخرة عن الامر بعنوان ذات الشيء الا ان تأخره لا يكون بتمام العنوان حتى بلحاظ ذات الموصوف ، بل انما كان ذلك بلحاظ قيده ووصفه فقط وهو الجهل مع كون الذات في العنوانين محفوظة في مرتبة واحدة غير أنها تلاحظ تارة مجردة وأخرى موصوفة كعنوان الخمر والخمر المشكوكة خمريتها أو المشكوكة حكمها مع قابلية الأول للانطباق علي الثاني كما في كل مطلق ومقيد ( وبعد ) ذلك نقول انه بناء على المعنى الأول للاحتياط لا شبهة في أن من لوازمه عدم قابليته للامر المولوي نفسيا أو طريقيا ضرورة انه بهذا المعنى مما يستقل العقل بحسنه لكونه مما ينطبق عليه عنوان الإطاعة والانقياد ومعه لا يكون الامر به الا ارشادا محضا إلى حكم العقل بحسنه بلا شائبة مولوية فيه كما في الامر بعنوان الإطاعة الحقيقية ، كما أنه على هذا المعنى لا يتأتى فيه احتمال الارشاد بالمعنى الأول أيضا لتمحضه بالارشاد العقلي الاطاعي ( بخلاف المعنى ) الثاني الاحتياط فإنه قابل لاستحباب المولوي الطريقي أو النفسي من جهة امكان اشتمال الفعل المشكوك

ص: 259

حكمه بما هو مشكوك على مصلحة تقتضي استحبابه النفسي في هذه الرتبة حتى في فرض المخالفة للواقع من غير أن ينافي ذلك مع الحكم الواقعي كما توهم بتخيل ان الذات على هذا الفرض لما كانت واحدة يلزم اجتماع الضدين في ذات واحدة ، إذ بعد قصور الخطابات الواقعية عن الشمول لمرتبة الشك بنفسها كما تقدم بيانه في وجه الجمع بين الاحكام الواقعية والظاهرية لا مانع من تعلق حكم آخر في هذه المرتبة يقتضي استحبابه ( نعم ) على هذا المعنى لا مجال لدعوى رجحانه العقلي لما هو المعلوم من أنه لا يكون فعل ما شك في وجوبه بهذا العنوان مع قطع النظر عن نشوه عن داعي احتمال الوجوب مصبا لحكم العقل بالحسن والرجحان حتى يتأتى فيه الارشاد العقلي الاطاعي وان كان لتصور الارشاد بالمعنى الأول فيه مجال واسع ( وبما ذكرنا ) ظهر أنه لا مجال لما عن الشيخ قده وغيره من جعل المحتملات الأربعة المتقدمة في عنوان المسألة على منوال واحد ، لما عرفت من أنه على المعنى الأول للاحتياط لا تصلح الأوامر الشرعية لغير الارشاد العقلي الاطاعي ( وعلى ) المعنى الاخر وان كانت قابلة للمولوية وللارشاد بالمعنى الاخر ، ولكنه خارج عن مصب حكم العقل بالرجحان إذ لا حكم للعقل برجحان فعل المشتبه أو تركه بهذا العنوان ما لم يؤخذ فيه جهة نشوه عن دعوة احتمال الوجوب أو الحرمة وينطبق عليه عنوان الإطاعة والانقياد كما هو ظاهر ( وحيث ) ان الظاهر من عنوان الاحتياط خصوصا بقرينة اتفاقهم على حسنه عقلا هو العمل المأتى عن داعي احتمال الوجوب لا مجرد اتيان مشكوك الوجوب أو ترك مشكوك الحرمة بهذا العنوان ( فلا محيص ) من حمل الأوامر الشرعية المتعلقة بعنوان الاحتياط على الارشاد إلى حكم العقل برجحانه ( نعم ) هنا عنوان آخر قابل للرجحان العقلي والشرعي وهو جعل احتمال الوجوب أو الحرمة في المشتبه داعيا إلى الفعل أو الترك ، فان هذا المعنى مما يحسنه العقل تحصيلا للإطاعة والانقياد ويكون قابلا أيضا للامر المولوي ( ولكنه ) بعيد عن مساق الاخبار وعن الكلمات ( وبعد ) ان عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان ما يستفاد من الاخبار الا مرة بالتوقف والاحتياط ( فنقول ) ان الأخبار الواردة في المقام على طوائف ( منها ) ما يشتمل على عنوان الاحتياط كقوله (عليه السلام) أخوك دينك فاحتط لدينك ، وقوله (عليه السلام) إذا أصبتم بمثل هذا فعليكم بالاحتياط

ص: 260

( ومنها ) ما يشتمل على عنوان المشتبه وهذه الطائفة على صنفين ( أحدهما ) ما يكون مذيلا بالتعليل بأنه خير من الاقتحام في الهلكة ( وثانيهما ) ما لا يكون له هذا الذيل ، كقوله (عليه السلام) من ترك الشبهات كان لما استبان له اترك ( اما الطائفة الأولى ) فلابد من حملها على الارشاد كأوامر الإطاعة والانقياد ( واما الطائفة الثانية فهي أيضا بمقتضى التعليل الواقع في ذيلها ظاهرة في الارشاد لكن لا إلى حكم العقل بحسن الإطاعة ، بل إلى عدم الوقوع في مخالفة التكاليف الواقعية والمفاسد النفس الامرية نظير أوامر الطبيب ونواهيه ( واما الطائفة الثالثة ) فهي وان كانت قابلة للارشاد وللمولوية الا ان ظهورها في المولوية ينفي الارشادية ( نعم ) يدور أمرها بين الاستحباب النفسي ، أو الطريقي كسائر الاحكام الطريقية المجعولة لحفظ الواقعيات المجهولة كما في أوامر الطرق والامارات على ما بيناه ، وحينئذ فظاهر تعلق الامر بعنوان المشتبه وان كان يقتضى كونه مستحبا نفسيا حكمته اعتياد المكلف على الترك بنحو يهون عليه الاجتناب عن المحرمات المعلومة ( ولكن ) لا يبعد ترجيح الطريقية نظرا إلى بعد الاستحباب النفسي عن مساق تلك الأخبار لظهورها الثانوي في كونها على حذو سائر الأحكام الطريقية المجعولة لأجل حفظ الواقع في موارد الشبهات من غير أن ينافي ذلك مع الحكمة المزبورة المؤدية إلى الاعتياد على الترك « مضافا » إلى بقاء اطلاق مصلحة الواقع على الطريقية في اقتضائها لمحبوبية الذات حتى في المرتبة المتأخرة عن الجهل بخطابه « بخلافه » على الموضوعية والاستحباب النفسي فإنه لابد من رفع اليد عن اقتضاء المصلحة للإرادة بجميع مباديها حتى المحبوبية نظرا إلى مضادة الاشتياق الذي هو من مبادي الإرادة الواقعية في مرتبة الشك مع الاشتياق بخلافه في هذه المرتبة وبهذه الجهة رجحنا الطريقية على الموضوعية في أوامر الطرق بلحاظ عدم اقتضاء الطريقية في ظرف المخالفة للواقع الا رفع اليد عن فعلية الإرادة في ظرف الشك لا عن مباديها من الاشتياق والمحبوبية لعدم التنافي بين محبوبية الواقع في هذه المرتبة وبين الترخيص على خلافه لمصلحة تقتضيه « فعلى هذا » صح لنا دعوى عدم استفادة الاستحباب المولوي النفسي من الأخبار الواردة في المقام حتى المشتمل منها على عنوان المشتبه.

ص: 261

« المسألة الثانية » في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل اجمال النص ، وهو قد يكون من جهة اجمال ما يدل على الحكم اما ذاتا كما لو قلنا باشتراك الصيغة في النهى بين الحرمة والكراهة ، واما من جهة وجود القرائن الحافة بالكلام المانعة عن ظهوره في الحرمة كما في النهى عقيب توهم الوجوب ، وقد يكون من جهة المتعلق ، سواء كان لأجل الشك في المراد منه مع العلم بوضعه كما إذا شك في شمول الخمر للخمر غير المسكرة ولم يكن في البين اطلاق يؤخذ به ، أم لأجل الشك في نفس المفهوم من جهة الوضع مع العلم بكون المراد ما هو مدلول هذا اللفظ ، كما في الغناء إذا قلنا باجماله وتردده بين مطلق الصوت المطرب أو خصوص الصوت المطرب مع الترجيع ، وكما في الفسق إذا قلنا باجماله وتردده بين خصوص المرتكب للكبائر أو ما يعم المرتكب للصغاير « ثم إن » التردد في المتعلق « تارة » يكون بين الأقل والأكثر كالأمثلة المزبورة « وأخرى » يكون بين المتبائنين كما لو دل الدليل على حرمة اكرام زيد وتردد بين شخصين « فهذه » صور الاجمال في المسألة ، ولكن الحكم فيما عدى الصورة الأخيرة هي البراءة « وذلك » اما في صورة الاجمال في ناحية الدال على الحكم اما ذاتا واما من جهة احتفافه بما يصلح للقرينية فظاهر لكون الشك حينئذ في أصل التكليف التحريمي فيكون كصورة فقد النص فيجرى فيه جميع ما ذكرناه من الأدلة الدالة على البراءة عقليها ونقليها « واما » في صورة اجمال المتعلق كمثال الغناء أو اجمال المراد منه فكذلك من جهة انتفاء العلم بالتكليف في الزائد عن المقدار المعلوم من غير فرق في ذلك بين ان يكون تعلق النهى على نحو الطبيعة السارية أو على نحو صرف الوجود فإنه في الجميع تجرى البراءة في المشكوك ويحكم فيه بجواز الارتكاب ( واما توهم ) ان المطلوب في النهى بعد أن كان عبارة عن ترك صرف الطبيعي كان اللازم هو الاحتياط بترك المشكوك مقدمة لامتثال التكليف المعلوم في البين ( فمدفوع ) بان هذا الاشكال لو تم لكان ساريا في جميع موارد الأقل والأكثر الارتباطيين ولا يكون له اختصاص بالمقام وسيجيء دفعه بما لا مزيد عليه انشاء اللّه تعالى « وحينئذ » يكون الحكم في جميع صور اجمال النص هي البراءة الا في فرض اجمال المتعلق وتردده بين المتبائنين ، فان المرجع فيه هي قاعدة

ص: 262

الاحتياط للعلم الاجمالي بحرمة اكرام أحد الشخصين.

( المسألة الثالثة ) ما لو اشتبه الحكم الشرعي من جهة تعارض النصين كما لو قام نص على حرمة شيء وقام نص آخر على عدم حرمته والحكم فيها أيضا كما في صورة فقدان النص هي البراءة ( فان ) المناط فيها انما هو فقد الحجة على التكليف فلا يفرق فيها بين ان لا يكون في المسألة نص أصلا أو كان ولكنه سقط عن الحجية بالمعارضة ( وقد يستدل ) على الاحتياط بما في غوالي اللئالي من مرفوعة العلامة إلى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) من قوله بعد ذكر المرجحات وفرض الراوي تساوى الخبرين في جميع ما ذكره الإمام (عليه السلام) من المرجحات فخذ الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط ( ولكن فيه ) بعد الغض عن ضعف الرواية ان الاحتياط حينئذ يكون مرجحا للخبر الموافق له لا مرجعا ، فيخرج عن مفروض الكلام ( فان ) مفروض الكلام في المقام انما هو صورة فقد الحجة الشرعية على التكليف وهذا انما يكون إذا لم يكن في البين ما يقتضى ترجيح أحد الخبرين ولو كان هي قاعدة الاحتياط بناء على القول به كما تقتضيه المرفوعة ( والا ) فمع وجود المرجح يخرج عن مفروض البحث ( نعم ) يتحد ذلك بحسب النتيجة مع القول بمرجعية الاحتياط ، ولكنه لا من جهة انه مورد فقدان الحجة الشرعية على التكليف ، بل من جهة كونه مورد قيام الحجة الشرعية على التكليف ( وبما ذكرنا ) ظهر انه لابد من فرض الكلام في المسألة براءة واشتغالا على القول بالتساقط في الخبرين المتعارضين ( والا ) فعلى القول بالتخيير في المتعارضين من الاخبار تخرج المسألة عن مفروض البحث بين الفريقين ( ولكن ) حيث إن الحكم في المتعارضين من الاخبار بمقتضى الاخبار العلاجية يكون هو التخيير اما مطلقا كما هو التحقيق أو في صورة فقد المرجحات المنصوصة أو صورة تكافئهما في الجميع لا التساقط كان الحري عدم ادخال هذه المسألة في مسألة البراءة نظرا إلى العلم بوجود حجة معتبرة في البين على التكليف وهو أحد الخبرين اما على التعيين أو على التخيير ( نعم ) يدخل في المسألة تعارض الآيتين وتعارض الاجماعين المنقولين بناء على عدم الحاقهما بالخبرين المتعارضين في الترجيح والتخيير « المسألة الرابعة » ما لو اشتبه الحكم الشرعي في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في الأمور الخارجية كالشك في كون المايع الخاص خمرا أو خلا ولا اشكال ولا خلاف حتى من

ص: 263

الأخباريين في أن مقتضى الأصل فيه الإباحة ، ويدل عليه مضافا إلى الاجماع الأدلة المتقدمة من الكتاب والسنة والعقل ، بل ظاهر بعضها هو الاختصاص بهذه المسألة كرواية مسعدة بن صدقه وغيرها.

المبحث الثاني

فيما لو دار حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة كالدعاء عند رؤية الهلال المردد حكمه بين الوجوب والاستحباب « وفيه » أيضا المسائل الأربع المتقدمة في المبحث الأول ( والتحقيق ) فيها أيضا هو البراءة من غير فرق بين ان يكون منشأ الشك هو فقدان النص أو اجماله أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية للأدلة المتقدمة من مثل حديث الرفع ودليل الحجب وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وعدم الفصل بين المقامين لان كل من قال بالبرائة في المسألة الأولى قال بها في هذه المسألة وان لم يكن الامر بالعكس لمصير جماعة من محققي الأخباريين في الشبهة الوجوبية إلى البراءة وفاقا للمجتهدين مع قولهم بالاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، فلا يحتاج إلى افرادها بالبحث المستقل واطناب الكلام فيها « نعم ينبغي التنبيه على أمور » الأول في ذكر الشقوق المتصورة في الشبهة الموضوعية وان كانت تحريمية وبيان أحكامها « فنقول » وعليه التكلان ، اعلم أن متعلق الطلب وجوبيا أو تحريميا « تارة » يكون نفس فعل المكلف من دون تعلقه بموضوع خارجي كالصلاة والحج والكذب والغيبة « وأخرى » يكون له تعلق بالموضوع الخارجي كاكرام العالم وتوهينه « وعلى الثاني » فتارة يكون التكليف منوطا شرعا بوجود الموضوع في الخارج كما في مثال اكرام العالم « وأخرى » لا يكون كذلك بل كان التكليف مطلقا بالنسبة إليه بحيث يقتضى لزوم ايجاد الموضوع في الخارج مع التمكن منه في الأوامر واعدامه في النواهي في فرض عدم التمكن من الاجتناب عنه الا باعدامه « وعلى التقادير » فتارة يكون المطلوب في الطلب الوجوبي أو التحريمي هو صرف وجود الشيء و « أخرى » يكون المطلوب هو الطبيعة السارية في كل فرد « وثالثة » على نحو العموم الاستغراقي أو المجموعي ، والفرق بين الطبيعة السارية والعموم الاستغراقي ظاهر ، فإنه على

ص: 264

الأول يكون المطلوب هو الطبيعي بخصيصة السارية في ضمن الافراد مع خروج الخصوصيات الفردية عن حيز الحكم والتكليف ، بخلاف على الثاني فإنه على ذلك تكون الخصوصيات الفردية أيضا داخلة في حيز التكليف ( وربما يثمر ) ذلك فيما لو اتى بالفرد وقصد الامتثال بالخصوصية ، فإنه على الأول يكون مشرعا في قصده بالنسبة إلى الخصوصية ، بخلاف الثاني فإنه عليه لا تشريع من جهة وقوع الخصوصية أيضا في حيز التكليف ( وحيث اتضح ) هذه الفروض فلنشرع في بيان حكم كل واحد منها ( فنقول ) أما إذا كان التكليف وجوبيا متعلقا بفعل المكلف بصرف وجوده ولا يكون له تعلق بموضوع خارجي كالصلاة والحج ونحوهما ( فلا اشكال ) في أنه عند الشك لابد من الاشتغال وعدم جواز القناعة بالفراغ الاحتمالي ، لاستقلال العقل بعد العلم بأصل الخطاب بلا اجمال في ناحية الحكم والتكليف ولا في ناحية موضوعه ومتعلقه ، بلزوم الجزم بالفراغ باتيان ما يعلم كونه مصداق المأمور به وجدانا أو جعلا وتنزيلا وعدم جواز الاكتفاء باتيان ما يشك معه الخروج عن عهدة التكليف ( واما لو كان ) له تعلق بالموضوع الخارجي ( فان كان ) التكليف مطلقا بالنسبة إلى ذلك الموضوع بنحو يقتضى مع الامكان وجوب ايجاده كسائر مقدمات الواجب المطلق فكذلك أيضا ( فإنه ) مع العلم بوجود الموضوع في الخارج لا يجوز العدول عنه إلى غيره مما هو محتمل المصداقية للطبيعي لاستقلال العقل حينئذ بعد العلم بالتكليف والقدرة على امتثاله بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ وعدم الاكتفاء في مقام الامتثال بالفراغ الاحتمال ( ومع الشك ) فيه وانحصار الامر فيما هو محتمل المصداقية ، لابد من الاحتياط ، لرجوع بعد العلم بأصل الغرض وقيامه بالشيء إلى الشك في القدرة على الامتثال المحكوم عقلا بالاحتياط ووجوب التعرض للامتثال إلى أن يحصل الجزم بالعجز على ما هو الشأن في جميع موارد الشك في القدرة على الامتثال ( ولا مجال ) في مثله للرجوع إلى البراءة ، لان الرجوع إليها انما يكون في مورد كان الشك فيه راجعا إلى الشك في أصل غرض المولى ( لا في مورد ) الشك في القدرة على تحصيله بعد الجزم بأصله فان في مثله يحكم العقل بالاحتياط ، ولذلك لا يعتني باحتمال عدم القدرة في الواجب المبتلى باحتمال وجود المزاحم الأهم ( نعم ) انما يرجع إلى البراءة عند الشك في القدرة فيما لو

ص: 265

كان التكليف منوطا بها شرعا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ، فان الشك فيها حينئذ يرجع إلى الشك في أصل ثبوت الغرض وتحققه ، لا مطلقا حتى فيما كان الحاكم باعتبارها هو العقل لان في مثله يكون الغرض مما يعلم بوجوده ولو مع القطع بعدم القدرة على الامتثال ( وحينئذ ) فمع الشك في القدرة بعدم الجزم بأصل الغرض لابد من الاحتياط ( واما لو كان ) التكليف منوطا بوجود الموضوع كما في اكرام العالم واطعام الجايع ، فمع العلم بوجود الموضوع في الخارج أو بعدمه لا اشكال ومع الشك في أصل وجوده يكون المرجع هي البراءة لرجوع الشك المزبور إلى الشك في ثبوت الغرض وفي أصل توجه التكليف إليه وهو ظاهر ( هذا كله ) إذا كان تعلق التكليف على نحو صرف الوجود ( واما لو كان ) تعلقه على نحو الطبيعة السارية أو العموم الاستغراقي بنحو ينحل التكليف المتعلق بالطبيعي إلى تكاليف متعددة حسب تعدد الحصص والافراد ، ففي ذلك مهما شك في الموضوع يكون المرجع فيه البراءة دون الاشتغال من جهة رجوع الشك المزبور بعد انحلالية التكليف إلى الشك في التكليف الزائد فيندرج في مسألة الأقل والأكثر الاستقلالين التي كان المرجع فيها هي البراءة بالاتفاق ( من غير فرق ) بين ان يكون لمعروض التكليف الذي هو فعل المكلف تعلق بموضوع خارجي كاكرام العالم وعدمه كالصلاة ( ولا ) بين ان يكون التكليف منوطا بوجود ذلك الموضوع ، وبين كونه مطلقا بالنسبة إليه ، فإنه على جميع التقادير يكون المرجع عند الشك هي البراءة ، نظرا إلى رجوع الشك المزبور بعد سراية الطلب إلى الحصص والافراد إلى الشك في أصل اقتضاء الخطاب تكليفا بالنسبة إلى المشكوك فيه زائدا عما علم بانطباق الطبيعي عليه ( لا يقال ) على هذا لم التزمت بالاحتياط في فرض كون التكليف على نحو صرف الوجود ( لان ) مجرد الشك في انطباق الطبيعي على فرد لو كان كافيا في الحكم بالاشتغال ووجوب الاحتياط كما في فرض تعلق التكليف بالشيء بصرف وجوده فليكن كذلك في فرض تعلقه به بنحو الطبيعة السارية ( وان لم يكن ) ذلك كافيا في الحكم بالاشتغال كما في مفروض المسألة نظرا إلى دعوى احتياج التكليف في تنجزه إلى احراز عنوان موضوعه في الخارج وانطباق الكبرى المجعولة عليه فمع الشك في وجود الموضوع وانطباق عنوانه على المورد لا يكون للعقل حكم بالاشتغال

ص: 266

بمثله ( فليكن كذلك ) في فرض تعلق التكليف بالشيء بصرف وجوده ، فعلى اي حال لا وجه للتفصيل بين الفرضين في مرجعية البراءة والاشتغال ( فإنه يقال ) ان الفرق بين الفرضين هو ان في التكليف بصرف الوجود كان موضوع التكليف عبارة عن الطبيعي بما هو قابل للانطباق على اي فرد لا الطبيعي المنطبق على فرده ، وبذلك يكون امر تطبيقه على الفرد في عهدة المأمور في مقام الخروج عن عهدة التكليف لا في عهدة الامر حتى يجب عليه بيانه ( ولازمه ) بعد العلم بتعلق التكليف بالطبيعي المزبور وخروج جهة الانطباق عن موضوع التكليف ، هو رجوع الشك في انطباق الطبيعي على المورد إلى الشك في القدرة على التطبيق فيجب بحكم العقل الاحتياط باتيان ما يحتمل كونه مصداقا للطبيعي كما بيناه ( وهذا بخلاف ) التكليف المتعلق بالطبيعة السارية ( فان ) موضوع التكليف فيه بنظر الامر انما كان هي الطبيعة المنطبقة على افراده فتكون جهة الانطباق على الفرد مأخوذة في موضوع التكليف وفي عهدة الامر حيث إنه كان عليه بيانه بعكس الفرض الأول ، فمتى شك في فردية شيء للطبيعي يكون ذلك راجعا إلى الشك في بيان الامر وفى توجيه تكليفه إلى مشكوك الانطباق وعدمه لا إلى الشك في القدرة على الامتثال كما هو ظاهر فتدبر ( هذا كله ) في فرض كون التكليف وجوبيا ( واما لو كان ) التكليف تحريميا ( فان كان ) النهى متعلقا بالطبيعة السارية ، فلا اشكال في أن المرجع عند الشك في الموضوع هي البراءة دون الاحتياط من غير فرق ، بين ان يكون لمعروض النهى الذي هو فعل المكلف تعلق بأمر خارجي كشرب الخمر ، وعدمه كالغنا والكذب ( ولا بين ) كون النهى منوطا شرعا بذلك الامر الخارجي ، وعدمه ( فإنه ) بعد انحلال التكليف إلى تكاليف متعددة بمقتضى السراية إلى الحصص يكون المرجع عند الشك في المصداق في جميع هذه الصور هي البراءة لرجوع الشك المزبور إلى الشك في أصل الخطاب بالنسبة إلى المشكوك فيه ( واما لو كان ) متعلقا بصرف الطبيعي ( فان كان ) الفعل مما له تعلق بموضوع خارجي وكان النهي أيضا منوطا شرعا بفرض وجود ذلك الموضوع ( فلا اشكال ) في البراءة مع الشك في الموضوع لعدم احراز الخطاب بالاجتناب عن المشكوك فيه ( وأما إذا ) لم يكن للفعل المنهى عنه تعلق بأمر خارجي ( أو كان ) ولكن كان النهي مطلقا بالنسبة إليه لا مشروطا بوجوده بحيث ربما يقتضى

ص: 267

لزوم اعدامه في فرض عدم التمكن من الاجتناب عنه الا باعدامه « فقد يقال » باقتضاء مثل هذا النهي كالأمر المتعلق بصرف الوجود للاشتغال « بدعوى » اقتضاء النهي عن صرف الوجود المبين حكما وموضوعا للاشتغال بعدم الطبيعي الذي هو نقيض صرف وجوده « ولازمه » بحكم العقل هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه من افراده تحصيلا للفراغ اليقيني عما ثبت الاشتغال به يقينا « ولكن فيه » ما لا يخفى فان النهي عن صرف وجود الطبيعي وان كان يقتضى الاشتغال بعدم الطبيعي الذي هو نقيض صرف وجوده ولا يحصل ذلك الا بعدم تمام افراده ( الا انه ) بعد اختلاف دائرة عدم الطبيعي سعة وضيقا بازدياد الافراد وقلتها بلحاظ ان عدم الطبيعي عين عدم افراده ، لا انه امر حاصل منها « فلا محالة » يكون مرجع الشك في انطباق الطبيعي على المشكوك إلى الشك في مقدار دائرة المأمور به ، بان تلك المرتبة من العدم المنبسط على الافراد بحد يكون المشكوك داخلا فيه أو بحد يكون المشكوك خارجا عنه « فيندرج » في صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين فيجري فيه البراءة بناء على المختار في جريانها في تلك المسألة « وبذلك » يتضح الفرق ، بين التكليف الوجوبي المتعلق بصرف الوجود ، وبين التكليف التحريمي المتعلق به ( حيث ) ان الالتزام بالاشتغال في الأول انما هو من جهة عدم التكرر لصرف وجود الطبيعي وعدم تصور السعة والضيق في دائرة موضوع التكليف بازدياد الافراد وقلتها كي يتصور فيه الوجود الساري بنحو الانضمام ( لان ) ما يتصور فيه التوسعة والتضييق من جهة قلة الافراد وكثرتها انما هو بالنسبة إلى ما ينطبق عليه موضوع التكليف لا بالنسبة إلى نفس موضوع التكليف ( وهذا بخلاف ) فرض كون التكليف تحريميا ، إذ عليه تكون كثرة الافراد وقلتها موجبة لاتساع دائرة موضوع التكليف وتضييقه ( نعم ) لو قيل إن عدم الطبيعي عبارة عن معنى غير عدم الافراد وان نسبة الافراد إليه من قبيل المحقق والمحصل كما قيل به في طرف الوجود حيث جعل نسبة الافراد إلى وجود الطبيعي من قبيل المقدمة بالنسبة إلى ذيها لكان للفول بمرجعية الاشتغال عند الشك في المصداق مجال « ولكن » الشأن في صحة المبنى ، فان التحقيق كما عليه المحققون هو ان وجود الطبيعي عين وجود فرده ، فيكون عدمه عبارة عن عين اعدام افراده ، لا بمعنى

ص: 268

ان النقيض هو عدم كل فرد فرد بخصوصيته ، كي يشكل بأنه لا يكون لصرف وجود الطبيعي الا نقيض واحد ، بل بمعنى ان النقيض هو العدم الساري في ضمن تمام الأعدم الفردية مع خروج خصوصيات اعدام الافراد عن النقيض بعين خروج خصوصيات الوجود عن صرف الوجود ( وعليه ) يندرج المقام في الأقل والأكثر ويكون المرجع فيه هي البراءة دون الاحتياط « من غير فرق » بين ان يكون المنهى عنه على نحو السالبة المحصلة كقوله لا تشرب الخمر أو الموجبة المعدولة المحول كقوله كن لا شارب الخمر « وما أفيد » من لزوم الاحتياط في الثاني بملاحظة ان ترك الافراد حينئذ مقدمة للاتصاف بالسلب المزبور فيكون مرجع الشك في خمرية مايع إلى الشك في حصول عنوان كونه لا شارب الخمر مع عدم ترك المشكوك ومرجعه إلى الشك في الامتثال « مدفوع » بان مجرد وقوع السلب قيدا للربط والاتصاف في المعدولة لا يوجب مغايرة السلب المزبور مع سلب الافراد خارجا بل بل هو على حاله من العينية مع سلب الافراد كما السلب الوارد على الربط في السالبة المحصلة « بداهة » ان المسلوب في المعدولة انما هي الطبيعة المتعلقة لسلب الربط في السالبة « فكما ان » وجود الطبيعي لا يكون الأعين وجود فرده « كذلك » عدمه لا يكون الأعين اعدام افراده ، لا انه امر متحصل منها « فإذا » كان العدم المزبور مرددا بين الأقل والأكثر من جهة قلة الافراد وكثرتها « فلا جرم » يكون وقوعه طرفا للربط والاتصاف في المعدولة موجبا للترديد في نفس الاتصاف أيضا فيكون اللاشاربية مرددا بين الأقل والأكثر بملاحظة تبعية المعنى الحرفي للمتعلق في القلة والكثرة والترديد والتعيين كتبعيته له في الكلية والجزئية « وعليه » فلا فرق بين كون النهى عنه في القضية على نحو السالبة أو المعدولة ، فإنه على كل تقدير يكون التكليف انحلاليا لرجوع التكليف مع الشك في المصداق إلى التكليف بالمردد بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن التكليف بالترك الزائد المشكوك « نعم » الفرق بين المعدولة والسالبة هو ان في المعدولة يكون العدم المردد بين الأقل والأكثر من قيود عنوان المأمور به وهو كونه لا شارب الخمر ، وفي السالبة نفس عنوان المكلف به « ولكن » هذا المقدار لا يوجب فرقا بينهما في مرجعية البراءة ، ولذلك لم يلتزم أحد بالاحتياط في موارد تقييد المأمور به بشيء مردد بين الأقل

ص: 269

والأكثر ( ثم إن هذا كله ) في النواهي النفسية ( واما ) النواهي الغيرية فتجري فيها أيضا الشقوق المتصورة في النواهي النفسية ويكون المرجع فيها أيضا عند الشك في المصداق هي البراءة دون الاحتياط « نعم » قد يتصور الاحتياط فيما لو كان النهى عن الشيء منوطا بوجود صفة خاصة كما في النهي عن ايقاع الصلاة في غير المأكول في ظرف لبس الحيواني بناء على استفادة إناطة المانعية بوجود صفة الحيوانية في لباسه ، فإنه في ظرف العلم بحيوانية الملبوس مع الشك في مأكولية « أمكن » دعوى مرجعية الاشتغال بلحاظ ان في ظرف لبس الحيواني لا يتصور لمأكوليته افراد حتى يتصور فيه العدم الساري في ضمن الا افراد ليندرج في الأقل والأكثر الارتباطيين ، فمتى علم يكون الملبوس حيوانيا وشك في مأكوليته ، لابد من الاحتياط للعلم بتوجيه التكليف بالتقييد بعدم مأكولية ملبوسه ذلك فلابد من تركه لبسه في الصلاة تحصيلا للجزم بالفراغ ( ولكن الفرض ) بعيد جدا كما بيناه في محله ( فتلخص ) من جميع ما ذكرنا انه إذا كان التكليف تحريميا ففي جميع صور المسألة يكون المرجع عند الشك في الموضوع هي البراءة حتى في صورة تعلق النهي بصرف وجود الشيء ( وأما إذا كان التكليف وجوبيا فلابد من التفصيل بين تعلقه بصرف الوجود وتعلقه بالوجود الساري ( فعلى الأول ) يكون المرجع عند الشك في الموضوع الاحتياط ( الا إذا ) كان لمعروض التكليف الذي هو فعل المكلف تعلق بالموضوع الخارجي وكان التكليف منوطا أيضا بوجود ذلك الموضوع ، فإنه يكون المرجع فيه عند الشك هي البراءة ( واما على الثاني ) فالمرجع فيه عند الشك في الموضوع مطلقا هي البراءة ، من غير فرق بين شقوق المسألة وصورها لرجوع الشك المزبور بعد انحلال التكليف بمقتضى السراية إلى الحصص والافراد إلى الأقل والأكثر الراجع إلى الشك في أصل اقتضاء الخطاب تكليفا بالنسبة إلى المشكوك هذا ( ولكن الذي ) يظهر من جماعة بل قيل إنه المشهور في مسألة تردد الفائتة من الصلاة بين الأقل والأكثر هو خلاف ما ذكرنا ( حيث إن ) بنائهم في تلك المسألة على وجوب الاحتياط ولزوم القضاء إلى أن يعلم أو يظن بالفراغ مع أن ) المسألة من صغريات الأقل والأكثر الاستقلاليين ( فيشكل ) الفرق بين هذه المسألة وسائر موارد الأقل والأكثر الاستقلاليين كالدين المردد بين الأقل والأكثر ( حيث ) ان بنائهم في غير

ص: 270

فرض المسألة المزبورة على البراءة وعدم وجوب الاحتياط « ويظهر من الشيخ قده » ابتناء المسألة براءة واشتغالا على الخلاف في مسألة « ان القضاء » بتكليف جديد مغاير للتكليف الأول بان كان الامر بالصلاة في الوقت على نحو وحدة المطلوب وكان الامر بالقضاء في خارج الوقت من باب تداركه بعد فوته « أو انه بمقتضى » الامر الأول بحيث كان الامر بالقضاء كاشفا عن استمرار المطلوب بالامر الأول من حين دخول وقته إلى آخر زمان تمكن المكلف من الاتيان به ولو في خارج الوقت الراجع إلى كون الامر الأول على نحو تعدد المطلوب بان يكون الكلي المشترك بين ما في الوقت وخارجه مطلوبا وكون اتيانه في الوقت مطلوبا آخر ، فحاول تطبيق فتوى المشهور في وجوب الاحتياط على المبني الثاني ، نظرا إلى اقتضائه للاشتغال بالكلي المشترك بين ما في الوقت وخارجه ورجوع شكه إلى الشك في الخروج عن عهدة ما ثبت الاشتغال به « ولكن » فيه ان ما أفيد من التوجيه مع أنه غير تام لا ينتج وجوب الاحتياط الا بنحو الموجبة الجزئية « إذ للمسألة » فروض كثيرة لأن الشك في قضاء الفوائت وتردده بين الأقل والأكثر « تارة » يكون من جهة الشك في عدد السنين التي مضت من عمره كما لو علم بفوت فرائضه في تمام ما مضى من عمره اما لعدم الاتيان بها رأسا أو لاخلاله بما يوجب فسادها ولكنه لا يعلم مقدار ما مضى من عمره وانه ثلثين سنة أو أكثر « وأخرى » بعكس ذلك وهو ان يكون الشك في مقدار ما فات منه من جهة نسيانه أو نومه أو تساهله في الاتيان بالفريضة مع العلم بكمية عمره « وفى هذه الصورة » تارة يقطع أو يحتمل التفاته إلى الفائتة في كل يوم قبل مضي الوقت وأخرى لا يحتمل ذلك بل يكون التفاته إلى الفوت حادثا بعد مضى الوقت « وبعد ذلك » نقول ، اما الصورة الأولى وهي ما كان الشك في مقدار الفائتة ناشئا من جهة الشك في عدد السنين التي مضت من عمره « فلا اشكال » في جريان البراءة عن الأكثر لرجوع الشك فيه إلى الشك في أصل التكليف بالقضاء بالنسبة إلى المشكوك « من غير فرق » في ذلك بين القول بوحدة المطلوب في الامر الأول واحتياج القضاء إلى تكليف جديد ، وبين القول بتعدد المطلوب وكون القضاء باقتضاء الامر الأول « وذلك » على الأول ظاهر « واما على الثاني » فكذلك أيضا لعدم العلم بالاشتغال بالكلي المشترك بين ما في الوقت

ص: 271

وخارجه بأزيد من المقدار المعلوم ( وكذلك الامر ) في الصورة الأخيرة ، فان المرجع فيها أيضا هي البراءة عن الأكثر ولو على القول بان القضاء بالامر الأول لا بأمر جديد « فان مقتضى » الأصل الأولى حينئذ وان كان هو الاحتياط والاخذ بالأكثر « الا ان » مقتضى الأصل الثانوي وهي قاعدة حيلولة الوقت ، هي البراءة وعدم وجوب الاحتياط ( حيث ) ان مقتضى القاعدة المزبورة هو رفع الاشتغال الثابت بالتعبد بالفراغ عن عهدة التكليف ( واما ) الأصل الموضوعي وهو أصالة عدم الاتيان بالفريضة كل يوم في وقتها فهو أيضا غير جار مع جريان هذه القاعدة المضروبة في مورده نظرا إلى أخصيتها منه باختصاص موردها بالشك الحادث بعد الوقت ( واما الصورة الثانية ) وهي ما كان الشك حادثا في الوقت كل يوم وبقى الشك إلى أن خرج الوقت أو انه غفل عن شكه ولم يلتفت الا بعد مضى الوقت ، فمقتضى القاعدة في مثل هذا الفرض هو الاحتياط ووجوب القضاء إلى أن يعلم بالفراغ حتى القول بوحدة المطلوب وكون القضاء بتكليف جديد مغاير للتكليف بالأداء فضلا على القول بوحدة المطلوب ( والوجه ) في ذلك انما هو الأصل الموضوعي المزبور وهي أصالة عدم الاتيان بالفريضة في وقتها ( فان ) مقتضى الأصل المزبور حينئذ بعد عدم جريان قاعدة حيلولة الوقت في الفرض لاختصاص جريانها بمورد الشك الحادث بعد الوقت ، انما هو الاخذ بالأكثر ووجوب القضاء إلى أن يعلم بالفراغ ( واما توهم ) عدم اقتضاء الأصل المزبور لاثبات وجوب القضاء بلحاظ ترتبه على عنوان الفوت غير المحرز بالأصل المزبور الا على المثبت ( فمدفوع ) بمنع كون القضاء مترتبا على عنوان الفوت ( بل هو ) على ما يستفاد من مجموع الأدلة مترتب على ما يعم ذلك وهو الترك وعدم الاتيان بالفريضة المأمور بها على وجهها بما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط ( وحينئذ ) لا قصور في جريان هذا الأصل لاثبات وجوب القضاء كما هو ظاهر ، وحينئذ فعلى كل تقدير لا يتم ما افاده من التوجيه المزبور لكلام المشهور ، لما عرفت من أن في جميع هذه الصور لا فرق بين القول بان القضاء بأمر جديد والقول يكونه مقتضى الامر الأول ( وقد أفيد ) في تطبيق فتوى المشهور على القاعدة بوجه آخر ، وحاصله انه يعتبر في جريان البراءة بل الأصول العملية مطلقا ان يكون الشك الذي اخذ موضوعا فيها بدويا غير مسبوق بالعلم ،

ص: 272

والا فمع سبقه بالعلم ولو انا ما لا يبقى مجال لجريان البراءة في المشتبهة ( لان بسبق ) العلم ولو آنا ما يتنجز التكليف عليه فلا يكون العقاب معه عقابا بلا بيان ، بل ومع احتمال سبق العلم بحكم الشبهة وتنجزه عليه أيضا ، إذ لا قطع بالمؤمن حينئذ حيث لا تجري الأصول العملية مطلقا عقلية كانت أو شرعية ( اما الأولى ) فلعدم استقلال العقل حينئذ بقبح العقاب ( واما الثانية ) فلانه مع احتمال سبق العلم يحتمل حصول الغاية فيها فيكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ( وعلى ذلك ) فحيث ان الغالب هو حصول العلم بالفائتة عند فوات كل فريضة تكون فتوى المشهور لا محالة في محلها ( لأنه ) بالنسبة إلى الزائد المشكوك كما يحتمل فوته كذلك يحتمل تعلق العلم بفوته على تقدير فوته واقعا ومع احتمال سبق العلم لا تجرى فيه البراءة ولا قاعدة حيلولة الوقت فلابد من الاحتياط ووجوب القضاء إلى أن يعلم بالفراغ ( أقول ) وفيه ما لا يخفى ، فإنه ليس مجرد حدوث العلم في آن علة لتنجيز معلومه إلى الأبد حتى مع زواله لان ذلك مما يأبى عنه العقل ، وانما يكون تأثيره في كل آن مقصورا بحال وجوده في ذاك الآن ( وحينئذ ) فبعد طرو الشك تجرى لا محالة أدلة البراءة عقليها ونقليها حيث لا مانع عنها في الحالة الفعلية ( ولأجل ذلك ) التزم أخيرا بجريان البراءة العقلية والشرعية حيث جعل المدار في التنجيز على البيان في الحالة الفعلية ، ولكنه خص الحكم بالبرائة بفرض احتمال حصول العلم سابقا ويا ليته يلتزم بها حتى في فرض الجزم يسبق العلم مع زواله في الحالة الفعلية ، إذ بعد ما لا يكون العلم السابق الا منجزا في حال وجوده لا يفرق في الحالة الفعلية بين الفرضين وحينئذ لا يمكن تطبيق فتوى المشهور من هذه الجهة على القاعدة ( وحينئذ ) فالأولى هو حمل كلامهم على الفرض الأخير الذي فرضناه ، فإنه عليه تكون فتواهم بوجوب الاخذ بالأكثر وعدم جريان البراءة في المشكوك في محلها حتى على القول بمغايرة التكليف بالقضاء مع التكليف الأول وانهما من باب الأمر بالشيء والامر بتداركه بعد فوته ، كما أنه عليه يكون منعهم عن جريان قاعدة حيلولة الوقت في محله أيضا بلحاظ اختصاصها بمورد الشك الحادث بعد الوقت.

( الامر الثاني ) لا اشكال في رجحان الاحتياط وجريانه في التوصليات حتى فيما كان الدوران بين الوجوب والكراهة حيث أمكن الاحتياط فيها باتيانها برجاء

ص: 273

المطلوبية ويترتب عليه المثوبة أيضا لكونه مرددا بين الطاعة والانقياد ( كما لا اشكال ) أيضا في جريانه في العبادات فيما لو كان الدوران بين الوجوب والاستحباب ولو على القول باعتبار القربة الجزمية في العبادة ، فإنه بعد الجزم بتعلق الامر الشرعي بالعمل يمكن الاحتياط فيها باتيانها بداعي الامر الجزمي المتعلق به ( واما لو كان ) الدوران بين الوجوب وغير الاستحباب ، ففي جريان الاحتياط فيها اشكال ينشأ من اعتبار الجزم بالامر الشرعي تفصيلا أو اجمالا في تحقق القرب المعتبر في العبادة ( فإنه ) قد يقوى العدم نظرا إلى أن الاحتياط عبارة عن الاتيان بالعمل المحرز للواقع وهذا بعد اعتبار القربة الجزمية في العبادة مما لا سبيل إليه لانتفاء الجزم بالامر الشرعي وعدم العلم به تفصيلا ولا اجمالا ( وفي ذلك ) لا يفرق بين كون القربة مأخوذة شطرا أو شرطا في العبادة ، وبين خروجها عنها وكونها مأخوذة عقلا في الغرض منها ، فإنه على كل تقدير يستحيل جريان الاحتياط فيها لاستحالة تحقق القربة الجزمية مع الشك في الامر ( ولكن الأقوى هو الجريان لمنع اعتبار القربة الجزمية في عباديته مطلقا وكفاية مجرد احتمال المطلوبية في ذلك فيما لا يعلم مطلوبيته ويترتب عليه المثوبة أيضا كما في التوصليات حيث يستقل العقل بالمثوبة على الاتيان بما يحتمل الوجوب بداعي احتمال وجوبه من جهة كونه إطاعة وانقيادا لأمر الشارع كاستقلاله بذلك في الاتيان بالواجب بداعي وجوبه الجزمي ( إذ لا فرق ) بين التعبدي والتوصلي من هذه الجهة ، وانما الفرق بينهما من جهة حصول الغرض في التوصليات باتيانها كيفما اتفق بخلاف التعبديات فان حصول الغرض وسقوط الامر فيها يتوقف على اتيانها عن داعي قربى اللّهى ( نعم ) لو قلنا بعدم كفاية القربة الرجائية في عباديته واحتياج العبادة إلى ضم القربة الجزمية لاشكل جدا جريان الاحتياط في العبادة ( ولا تجديه ) دعوى كفاية الاتيان بذات العمل بداعي حسنه العقلي في المقربية ( لاستحالة كون ) مثل هذا الحسن العقلي المترتب على عنوان الاحتياط من مبادئ ثبوته وتحققه ( وبالجملة ) نقول ان العمل الصادر بعنوان الإطاعة والانقياد على ما أسلفناه في مبحث التجري وان كان متصفا بالحسن الجزمي العقلي ولكن المتصف بهذا الحسن بعد أن كان هي الذات الملحوظة في المرتبة المتأخرة عن الإرادة ( فلابد ) في ترتب هذا الحسن العقلي من الجزم بحسن الذات

ص: 274

في المرتبة السابقة على الطاعة المحرك إليها كي به يتحقق عنوان الموضوع وهي الطاعة في العبادة فيترتب عليه هذا الحسن العقلي ( والا ) فمع عدم الجزم بذلك حسب الفرض لا يتحقق عنوان الموضوع وهي الطاعة كي يصير حسنا بذلك الحسن العقلي المردد بين الإطاعة والانقياد ( وبذلك ) يظهر فساد القول بان الاحتياط في العبادة انما هو الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدى نية القربة وان قربيته يتحقق باتيانه بداعي حسنه العقلي الجزمي ( وذلك ) لما عرفت من أن موضوع هذا الحسن انما هو عنوان الإطاعة والانقياد ، ولا يكون الفعل بنفسه إطاعة ولا انقيادا ليكون حسنا بالحسن العقلي ( كما أنه ) يظهر به فساد دعوى الاكتفاء في التقرب بما يحتمل عباديته باتيانه بداعي الأوامر المتعلقة بالاحتياط ( فإنه مضافا ) إلى عدم صلاحية مثل هذه الأوامر للمقربية لكونها ارشادية محضه ( ان الكلام ) انما هو في موضوع الاحتياط الذي يتوقف عليه هذه الأوامر ( نعم ) انما يتم ذلك بناء على جعل الموضوع في تلك الأوامر عبارة عن مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدى نية القربة ، فإنه بضميمة استفادة الاستحباب النفسي من الأوامر المتعلقة بعنوان الاحتياط ( أمكن ) تصحيح الاحتياط في العبادات ، حيث يأتي المكلف بذات العبادة المحتملة مستجمعة لجميع ما يعتبر في العبادة شرطا وشطرا ويقصد التقرب بها بإطاعة هذه الأوامر بناء على كفاية مطلق الامر المتعلق بالشيء في المقربية ( وكذلك ) الامر بناء على جعل الاحتياط منتزعا عن الفعل بعنوان كونه مشكوك الحكم ومحتمل المطابقة للواقع بهذا العنوان الثانوي بحيث كان احتمال الوجوب قيدا للمأمور به فإنه على هذا المعنى أيضا يندفع الاشكال المزبور ( ولكنهما ) كما ترى ، اما الأول فمضافا إلى كونه التزاما بالاشكال لوضوح عدم كونه احتياطا حقيقة ، انه لا دليل يساعد عليه بعد ظهور الأخبار الآمرة بموضوع الاحتياط في معناه الحقيقي غير المتحقق في العبادات ( ومنه ) يظهر الكلام في الثاني أيضا ، فإنه مضافا إلى أن الظاهر من عنوان الاحتياط هو العمل المأتي بداعي الاحتمال لا صرف اتيان مشكوك الوجوب بما هو كذلك ( انه ) خارج عن موضوع حكم العقل بالحسن لعدم كون فعل ما شك في وجوبه بهذا العنوان مع قطع النظر عن نشوه عن دعوة احتمال الوجوب محكوما عقلا بالحسن

ص: 275

والرجحان ، فلو ثبت حسنه حينئذ بهذا العنوان لكان عبادة مستقلة غير مرتبطة بالاحتياط في العبادة الذي هو موضوع حكم العقل بالحسن كما هو ظاهر ( ولكن الذي ) يسهل الخطب هو كفاية مجرد احتمال المطلوبية فيما لا يعلم مطلوبيته ولو اجمالا في تحقق القرب المعتبر في العبادة ( وعليه ) فلا موقع للاشكال في جريان الاحتياط في العبادات لبداهة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بداعي احتمال مطلوبيته لدى المولى كما هو ظاهر ( نعم ) على ذلك لا يجوز الافتاء باستحباب العمل الذي يحتمل وجوبه بل لابد من تقييد اتيانه بكونه برجاء المطلوبية ، وعليه فيشكل الامر فيما حكى عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل وجوبه من غير تقييد اتيانه بكونه بداعي احتمال المطلوبية.

( ثم انه لو كان ) منشأ احتمال الوجوب قيام خبر ضعيف عليه فقد يقال بعدم الاحتياج حينئذ في الافتاء بالاستحباب إلى أوامر الاحتياط وكلفة اثبات كونها للاستحباب المولوي لا الارشاد العقلي لورود الأخبار الكثيرة الامرة بفعل كل ما بلغ فيه الثواب بخبر ضعيف ، حيث إن المستفاد منها هو استحباب ما بلغ فيه الثواب ( وحيث انجر الكلام إلى ذلك فلا بأس بالتعرض لذكر الأخبار الواردة في الباب وبيان ما يستفاد منها من الوجوه المحتملة فيها ( فنقول ) ان الأخبار الواردة في الباب كثيرة ( منها ) صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) ، قال من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله شيء من الثواب فعمله كان اجر ذلك له وان كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله ( ومنها ) المروى عن صفوان عن الصادق (عليه السلام) قال ، من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له اجر ذلك وان كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله ( ومنها ) خبر محمد بن مروان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلی اللّه علیه و آله كان له ذلك الثواب وان كان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يقله ( ومنها ) خبره الاخر قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه « ومنها » ما رواه الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمة ، من بلغه شيء من الخبر فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وان لم يكن الامر كما نقل إليه ( ومنها ) ما في

ص: 276

الاقبال عن الصادق (عليه السلام) قال من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وان لم يكن الامر كما بلغه إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المستفيضة المتقاربة بحسب المضمون ( ولا اشكال ) فيها من جهة السند بعد استفاضتها وكون بعضها من الصحاح وعمل المشهور بها والفتوى على طبقها ( وانما الاشكال ) في دلالتها على الاستحباب حيث إن الوجوه المحتملة فيها كثيرة ( أحدها ) ان يكون مفادها الاستحباب وذلك بجعل عنوان البلوغ قيدا للموضوع بان يكون العمل البالغ عليه الثواب بهذا العنوان فيه المصلحة اقتضت استحبابه نظير عنوان ما أخبر به العادل على الموضوعية « فكان » المستفاد من قوله (عليه السلام) فعمله أو ففعله هو الامر بالفعل اما لكون الجملة الخبرية بمعنى بالانشاء والطلب كما قيل ، أو لدلالتها عليه بالملازمة أو غير ذلك من الوجوه المذكورة في وجه استفادة الطلب من أمثال هذه الجمل الواردة في مقام تشريع الاحكام كقوله من سرح لحيته فله كذا وقوله تسجد سجدتي السهو وتعيد الصلاة « ثانيها » ان تكون الجملة الخبرية أيضا بمعنى الانشاء ولكن مفادها هو الحكم المولوي الطريقي لا النفسي الراجع إلى تيمم كشف قول المبلغ وحجية اخبار الضعاف في الحكم الاستحبابي نظير الأوامر الدالة على حجية خبر الواحد ، فتكون هذه الأخبار حينئذ مخصصه لما دل على اعتبار الوثاقة والعدالة وانها انما تعتبر في الخبر القائم على الحكم الإلزامي « واما » في الخبر القائم على الحكم الاستحبابي فلا يعتبر فيه ذلك « ثالثها » ان تكون ارشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب واحتمال المطلوبية كما يقتضيه ظهور قوله (عليه السلام) طلب قول النبي والتماس الثواب بل وقوله (عليه السلام) فعمله الظاهر في تفريع العمل على البلوغ الذي هو كناية عن احتمال المطلوبية « رابعها » ان يكون مفادها مجرد الاخبار عن فضل اللّه سبحانه وانه إذا عمل العامل عملا بلغه ثواب عليه اعطاء اللّه سبحانه بفضله ذلك الثواب الذي بلغه وان لم يكن الامر في الواقع كما بلغه ، من غير أن تكون هذه الأخبار بصدد بيان حال العمل قبل صدوره من العامل وانه مستحب أو راجح « وبالجملة » تكون هذه الأخبار ناظرة إلى العمل فارغا عن وقوعه من العامل لا ناظرة إليه قبل صدوره منه « وعليه » فيمكن ان يعتبر في الخبر القائم على الحكم الاستحبابي ما يعتبر في الخبر القائم على الحكم الإلزامي من

ص: 277

العدالة والوثاقة والضبط في الراوي حيث لا اطلاق لها من هذه الجهة حتى يؤخذ به لعدم اعتبار شرائط الحجية في قول المبلغ « ولكن » الوجه الأخير منها بعيد عن ظاهر تلك الأخبار فان الظاهر المتبادر منها هو كونها مسوقة لبيان حال العمل قبل صدوره من العامل والحث والترغيب نحوه بالايجاد اما بنحو المولوية النفسية أو الطريقية أو على نحو الارشاد إلى حكم العقل بحسن الطاعة والانقياد « لا لبيان » العمل بعد وقوعه من حيث تفضله سبحانه باعطاء الثواب الموعود للعامل ولو مع عدم مصادفة قول المبلغ للواقع حتى يقال بامكان اعتبار شرائط الحجية من العدالة والوثاقة وغيرهما في صحة الاخذ بقول المبلغ ولو بدعوى ان العامل لا يعتمد في عمله على قول المبلغ الا إذا كان فيه شرائط الحجية « فان ذلك » كله مخالف لما يقتضيه ظاهر هذه النصوص من كونها مسوقة للترغيب إلى العمل وما هو الظاهر من بلوغ الثواب من كونه كتابة عن ثبوت مقتضيه خصوصا المتضمنة منها لذكر الاجر الظاهر في الاستحقاق لا التفصل ، مع أنه لا ينحصر وجه صدور العمل عن العامل في كونه عن اعتماد على قول المبلغ ، فإنه كما أن الخبر الصحيح يكون داعيا على العمل ، كذلك قد يكون الداعي عليه هو الاحتمال ورجاء الوصول إلى الواقع خصوصا في الاحكام غير الالتزامية « ومعه » لا يبقى مجال حمل تلك النصوص على صورة كون خبر المبلغ واجدا لشرائط الحجية « فلابد » حينئذ اما من حمل تلك النصوص على الاستحباب النفسي المولوي أو الاستحباب الطريقي الراجع إلى حجية الخبر الضعيف في الحكم الاستحبابي كما يقتضيه ظاهر عناوين الكلمات من التعبير بالسامح في أدلة السنن « أو حملها » على بيان الارشاد إلى حكم العقل بحسن الاتيان بالعمل برجاء الواقع واحتمال المطلوبية وترتب المثوبة عليه بلا مولوية نفسية فيها ولا طريقية « لكن » استفادة الامر الطريقي منها في غاية البعد لاباء الاخبار عن استفادة ذلك بمقتضى قوله (عليه السلام) وان لم يكن الامر كما بلغه « نعم » على المختار من استحقاق المنقاد أيضا للثواب على العمل لا بأس بترتب الثواب على العمل بقول مطلق لكونه من الثواب المردد بين الإطاعة والانقياد « فيتردد الامر » حينئذ بين الحمل على الاستحباب النفسي المولوي « وبين » الحمل على الارشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الانقياد وترتب المثوبة عليه « ولا

ص: 278

ريب » في أن المتقين من الاخبار هو الثاني ، كما يشهد له قوله (عليه السلام) في تلك الأخبار فعمله أو ففعله بعد قوله من بلغه الظاهر في كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه هو الداعي والباعث على الاتيان به ( بل ويشهد ) له تقييد العمل في بعض تلك الأخبار بطلب قول النبي صلی اللّه علیه و آله وفي البعض الاخر بالتماس ذلك الثواب ( فإنه ) ظاهر بل صريح في كون الامر به للارشاد ( مضافا ) إلى ما يلزم من الحمل على الاستحباب النفسي من رفع اليد عن ظهور الثواب المحتمل في الفعلية بحمله على الثواب الاقتضائي حذرا من لزوم اجتماع المثلين ( فلابد ) حينئذ من صرف تلك الأخبار لبيان الارشاد إلى ما يستقل به العقل من استحقاق العامل برجاء المطلوبية للثواب ولو مع عدم مصادفة الاحتمال للواقع ( وعليه ) فلا مجال لاستفادة الاستحباب المولوي النفسي أو الطريقي منها بمحض ظهور بعضها كصحيحة هشام بن سالم في ترتب الثواب على ذات العمل بعنوانه الأولى لا بعنوان كونه مأتيا بداعي احتمال الثواب ( بدعوى ) انه يستكشف من ترتب الثواب على ذات العمل عن كونه متعلقا لأمر شرعي مولوي وان الأجر والثواب انما هو بلحاظ كونه إطاعة لذلك الامر الشرعي المستكشف كما يستكشف ذلك من نحو قوله (عليه السلام) من سرح لحيته أو من صلى أو صام فله كذا ( إذ فيه ) انه كذلك لولا ظهور الاخبار في داعوية البلوغ لنفس العمل ( والا ) فيعد ظهورها بمقتضى التفريع في كونه ناشئا عن داعي البلوغ وعدم اطلاق للعمل يشمل حال عدم داعوية البلوغ ( فلا جرم ) ينطبق عليه عنوان الانقياد وبانطباقه عليه يستقل العقل فيه بالمثوبة ( وبعد ) ذا لا طريق لاستكشاف الامر الشرعي من ترتب الثواب على ذات العمل ( وبذلك ) يظهر وضوح الفرق بين مفاد هذه الأخبار ، ومفاد ما دل على أن من سرح لحيته فله كذا ( فان ) استكشاف الامر الشرعي هناك انما هو من جهة انحصار مناط المثوبة عليه بالإطاعة الحقيقة بلحاظ انتفاء البلوغ من الخارج وعدم احتمال رجحانه أيضا مع قطع النظر عما دل على ترتب المثوبة عليه ( بخلاف ) المقام المفروض ظهور الاخبار في داعوية البلوغ والاحتمال لنفس العمل ، فإنه ينطبق عليه عنوان الانقياد وبعد حكم العقل باستحقاق المثوبة عليه لا طريق لاستكشاف الامر الشرعي ( ومثل ) هذا الداعي وان لم يكن قيدا لموضوع الأجر والثواب ولا يوجب

ص: 279

وجها وعنوانا للعمل كما هو شأن كل جهة تعليلية ( ولكنه ) مانع عن اطلاقه بنحو يشمل حال عدم داعوية البلوغ بداهة اقتضاء كل علة ضيقا في ناحية معلوله على وجه يستحيل شمول اطلاقه لحال عدم علته ( ومعه ) لا ينتج ذلك شيئا في الكشف المزبور كما هو ظاهر ( نعم ) لو قلنا بعدم اقتضاء التجري والانقياد شيئا سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل وحسنها كما عليه الشيخ قده ، أو قلنا باقتضائهما لاستحقاق المثوبة والعقوبة لكن على صرف العزم على الطاعة والمعصية لا على العمل الصادر خارجا كما عليه صاحب الكفاية قده ( لاتجه ) ما أقيد من الكشف المزبور ، لانحصار مناطا المثوبة عليه حينئذ بالإطاعة الحقيقية التي لا تكون الا بتعلق الامر الشرعي به كما في قوله (عليه السلام) من سرح لحية فله كذا ( ولكنهما ) على ما بيناه في مبحث التجري خلاف التحقيق ( نعم ) على ذلك لا مجال للتفصيل في اخبار الباب ، بين المشتمل منها على التقييد بطلب قول النبي أو التماس الثواب الموعود ، وبين ما لا يشتمل على ذلك باستفادة الاستحباب النفسي من الثانية دون الأولى ( فإنه ) بناء على منع انطباق عنوان الانقياد على نفس العمل الصادر خارجا ( لابد ) من استكشاف الامر الشرعي في الطائفة الأولى أيضا من مجرد إضافة الأجر والثواب إلى العمل المعنون والمقيد ، نظرا إلى الجزم حينئذ بعدم ترتب الثواب الانقيادي على العمل وانحصار مناط المثوبة عليه بالإطاعة الحقيقية ( كما أنه ) على القول بانطباق عنوان التجري والانقياد على نفس العمل واقتضائهما لاستحقاق العقوبة والمثوبة عليه لابد من المصير في الطائفتين إلى الارشاد من جهة ما ذكرنا من استقلال العقل حينئذ بترتب المثوبة على العمل من جهة الانقياد ( وبما ذكرنا ) يظهر النظر فيما افاده الشيخ قده في المقام من أن ترتب الثواب الموعود على العمل في هذه الأخبار انما هو باعتبار الانقياد والإطاعة الحكمية وان ما ورد من الامر به انما كان لمحض الارشاد إلى حكم العقل كما في أوامر الاحتياط ( حيث ) تقول ان ما افاده في المقام وان كان صحيحا ، ولكنه مناف لما اختاره في مبحث التجري من عدم اقتضائه سوى الكشف عن سوء سريرة الفاعل ، فان لازمه هو انكار المثوبة في الانقياد أيضا لان التجري والانقياد كالإطاعة والعصيان توئمان يرتضعان من ثدي واحد ولا مجال للتفكيك بينهما

ص: 280

( وينبغي التنبيه على أمور ) الأول لا يخفى انه بناء على استفادة الاستحباب المولوي يختص هذا الحكم بمن قام عنده خبر ضعيف على الوجوب أو الاستحباب نظرا إلى موضوعية البلوغ في ترتب الحكم المزبور ( وحينئذ ) فللفقيه استنباط هذا الحكم القائم بموضوعه من الدليل والافتاء بمضمونه من استحباب العمل لمن بلغ إليه الثواب ( واما الافتاء ) باستحبابه حتى بالنسبة إلى من لم يبلغ إليه الثواب فليس له ذلك ، بداهة عدم شمول هذا الحكم ثبوتا لغير من صدق عليه عنوان البلوغ ( وعليه ) يشكل ما حكى عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل مطلقا من غير تقييد بكونه لمن بلغ إليه الثواب ، حيث لا ينطبق على القواعد ( ولا تجدي ) في تصحيح ذلك أدلة نيابة المجتهد عن المقلد في استنباط حكمه ( لأنها ) انما تكون في فرض شمول الحكم المزبور ثبوتا لغير البالغ إليه الثواب ، لا في فرض اختصاصه بخصوص البالغ إليه الثواب « فان » في مثله لابد في الفتوى بالاستحباب اما من التقييد بعنوان البالغ إليه الثواب ، واما من الاخبار أولاً بان في المورد خبر ضعيف على وجوبه أو استحبابه ليتحقق بذلك البلوغ ثم الافتاء باستحباب الاتيان به « اللّهم » الا ان يحمل فتواهم بالاستحباب مطلقا عن فهمهم من البلوغ ما يعم البلوغ إلى المقلد نفسه ومن هو نائب عنه في الفحص عن الأدلة « هذا » بناء على استفادة الاستحباب النفسي من الروايات المتقدمة « واما بناء » على استفادة الحكم الطريقي منها الراجع إلى حجية الخبر الضعيف القائم على وجوب شيء واستحبابه بالنسبة إلى أصل الرجحان فلا محذور في الفتوى باستحباب العمل علي الاطلاق ( فإنه ) بقيام خبر ضعيف على وجوب شيء أو استحبابه يرى الفقيه ثبوت رجحانه في الواقع لجميع المكلفين فيفتى على طبق مضمونه من استحباب ذات العمل واقعا وان كان دليل اعتبار هذا الطريق مختصا بالمجتهد لكونه هو البالغ إليه الثواب « كما » ان له الفتوى أيضا بما هو مفاد تلك الأخبار من الحكم الأصولي بناء على عدم لزوم الفحص في مثله واختصاصه بالأحكام الكلية الالزامية « واما » بناء على استفاد الارشاد منها ، فالامر أشكل حيث لا مجال حينئذ للفتوى بالاستحباب مطلقا ولو مع التقييد بعنوان البالغ إليه الثواب ، كما لا يجوز للفقيه البناء على استحبابه في عمل نفسه ، بل اللازم هو الاتيان بالعمل برجاء المطلوبية كما أنه في مقام الفتوى لابد

ص: 281

أيضا من التقييد بهذا العنوان كقوله لا بأس بالعمل به رجاء فتدبر.

« الثاني » الظاهر عدم اختصاص هذا الحكم بناء على استفادة الاستحباب بما لو كان مفاد الخبر الضعيف ومؤداه هو الاستحباب بل يعم ما يكون مفاده الوجوب أيضا فإنه من جهة اشتماله على أصل الرجحان يصدق عليه بلوغ الثواب فتشمله الروايات « وهكذا » الامر بناء علي استفادة الامر الطريقي منها المنتج لحجية الخبر الضعيف غاية الامر انه يبعض في مضمونه فيؤخذ به من جهة دلالته على أصل الرجحان ويترك دلالته على المنع عن النقيض « واما » بناء على الارشاد فالامر أوضح « وهل » يلحق بالوجوب والاستحباب الحرمة والكراهة فتشملهما تلك الأخبار بلحاظ ما يترتب على تركهما من الثواب « وجهان » بل قولان أظهرهما العدم ، فان الظاهر بل المنصرف من تلك النصوص من قوله بلغه ثواب على عمل فعمله هو الاختصاص بالامر الوجودي غير الصادق على التروك في باب المحرمات والمكروهات ، بل وكذا قوله (عليه السلام) من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير لظهوره أيضا في الاختصاص بالامر الوجودي بلحاظ ما فيه من المصلحة المقتضية لمطلوبية « ومن » المعلوم ان مطلوبية الترك في المحرمات ليس من جهة قيام المصلحة بنفس الترك ، وانما كان ذلك باعتبار ما في الفعل من المفسدة الموجبة لمبغوضية الوجود وللزجر عن ايجاده ، ولذلك نقول ان حقيقة النهى عن الشيء سواء كان بنحو الالزام أو غيره عبارة عن الزجر عن الوجود باعتبار ما فيه من المفسدة ، قبال الامر بالشيء الذي هو عبارة عن البعث إلى الوجود باعتبار ما فيه من المصلحة ، من دون ان يكون في البين ما يقتضى مطلوبية الترك بوجه أصلا وان ما تعارف من تفسير النهي بطلب الترك قبال الامر الذي هو طلب الفعل انما هو باعتبار كونه من لوازم الزجر عن الوجود ، لا من جهة ان المطلوب في النهي حقيقة هو نفس الترك « وحينئذ » لا مجال لتوهم شمول الاخبار للمحرمات والمكروهات باعتبار ما في تركها من الأجر والثواب حتى يشكل في موارد قيام الخبر الضعيف على الكراهة قبال ما يقتضى الوجوب أو الاستحباب « فإنه » على ما ذكرنا لا يكون في ترك المحرمات مصلحة حتى يصدق عليه بلوغ الثواب ( نعم ) ربما يكون نفس الترك موردا للطلب والبعث لقيام المصلحة به كما في تروك

ص: 282

الصوم فيندرج بذلك في عموم اخبار من بلغ كما لو قام خبر ضعيف على استحباب ترك شيء أو وجوبه ( ولكنه ) خارج عن مفروض الكلام كما هو ظاهر ( ثم إن هذا كله ) بناء على استفادة الاستحباب النفسي أو الطريقي من الاخبار ( واما بناء ) على الارشاد والانقياد فيتعدى إلى المحرمات والمكروهات بلا كلام ، فان حسن الانقياد لا يختص بالواجبات والمستحبات بل يعمهما والمحرمات والمكروهات أيضا.

« الثالث » لا يخفى ان الظاهر من الاخبار بناء على الاستحباب النفسي أو الطريقي انما هو استحباب الشيء على النحو الذي دل عليه الخبر الضعيف من كونه نفسيا استقلاليا ، أو جزء واجبيا أو مستحبيا لأمر واجب أو مستحب ، أو شرطا كذلك « فلابد » حينئذ من ملاحظة الخبر القائم على الوجوب أو الاستحباب ، فإذا كان مفاده هو جزئية الامر الكذائي وجوبا أو استحبابا لأمر واجب أو مستحب ، أو شرطيته له ، فيحكم باستحبابه وصيرورته من الاجزاء المستحبة للمركب « ولازمه » جواز ترتيب ما لذلك المركب عليه من اللوازم والآثار الخاصة ، ومن ذلك غسل مسترسل اللحية في الوضوء « فإذا » قام خبر ضعيف على وجوب غسله أو استحبابه ، يحكم عليه بكونه من الاجزاء المستحبة فيترتب عليه جواز المسح ببلته كبلة بقية الاجزاء فلا يفرق في هذا الحكم بين بلة الحاجبين وبين بلة المسترسل من اللحية « نعم » لو كان مفاد الجزء الضعيف مجرد استحباب غسل المسترسل من اللحية نفسيا من دون ان يقتضى جزئيته أو كان مفاد تلك الأخبار اثبات الاستحباب النفسي لما بلغ عليه الثواب لا على النحو الذي دل عليه الخبر الضعيف « لاشكل » الاكتفاء ببلته في المسح ، لان المقدار الثابت من المسح بالبلة انما هو المسح ببلة الوضوء لا مطلقا « واما بناء على الارشاد » كما استفدناه فلا اشكال في عدم جواز المسح ببلته لما عرفت من لزوم كون المسح ببلة الوضوء ولم يثبت كونها بلته.

« الرابع » لا اشكال في أنه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللفظ في المعنى المراد والا فلا يصدق عنوان البلوغ « وعليه » فيعتبر في صدق البلوغ عدم اتصال الكلام بما يوجب سلب ظهوره من القرائن الحافة « نعم » على الانقياد

ص: 283

لا باس بذلك نظرا إلى عدم توقفه على صدق البلوغ وكفاية مجرد احتمال المطلوبية فيه ولو مع اجمال اللفظ وعدم ظهوره في المعنى المراد اما في نفسه أو من جهة اتصاله بما يوجب اجماله أو صرفه عماله من الظهور إلى غيره « نعم » لا اعتبار بقيام القرائن المفصلة على الخلاف ، لأنها على ما حقق في محله لا توجب انثلاما لظهور الكلام كالقرائن المتصلة ، وانما غاية افتضائها هو المنع عن حجيته خاصة مع بقاء أصل ظهوره على حاله ، فلو قام خبر ضعيف على وجوب اكرام العلماء أو استحبابه ، وقام خبر آخر على عدم استحباب اكرام النحويين منهم أو كراهته « فعلى » الاستحباب يجرى فيه التسامح ويحكم باستحباب اكرام الجميع نظرا إلى تحقق موضوعه وهو البلوغ بعد عدم انثلام ظهوره في العموم بواسطة ذاك الخاص المنفصل ، وكذلك الامر فيما لو كان هناك ما يعارضه بنحو التباين حيث يجري فيه التسامح لتحقق موضوعه الذي هو البلوغ « ولا ينافيه » عدم استحبابه أو كراهته بواسطة ما يعارضه من الخبر الدال على عدم استحبابه « لان » غاية ذلك هي عدم اقتضائه من هذه الجهة لان يكون مشمولا لعمومات الاخبار « لا ان » فيه اقتضاء العدم كي ينافي استحبابه من جهة بلوغ الثواب « هذا إذا » لم يكن الخبر الدال على عدم استحبابه معتبرا في نفسه « وأما إذا » كان معتبرا في نفسه « فقد » يقال بعدم جريان التسامح نظرا إلى اقتضاء دليل تتميم كشفه حينئذ بالغاء احتمال الخلاف للقطع التعبدي بعدم استحبابه « ويلزمه » ارتفاع البلوغ المأخوذ في تلك الأخبار فلا يبقى معه مجال للحكم باستحبابه « ولكنه » مدفوع بأنه لا تنافى بينهما حيث لا يردان النفي والاثبات فيهما على موضوع واحد ( بداهة ) ان ما تثبته اخبار التسامح انما هو استحباب العمل البالغ عليه الثواب بهذا العنوان أو استحباب ذات العمل لكونه بلغ عليه الثواب على الخلاف المتقدم في كون البلوغ قيدا لموضوع الثواب أو داعيا على العمل وهذا مما لا تنفيه ذلك الدليل المعتبر فان ما ينفيه انما هو استحبابه بعنوانه الأولى ، وحينئذ فبعد صدق بلوغ الثواب بالوجدان وعدم اقتضاء ذلك الدليل المعتبر للمنع عن ظهور ما دل على استحبابه « تشمله » تلك الأخبار لا محالة ، ولا يكاد انتهاء الامر إلى المعارضة بين دليل حجية تلك الامارة الدالة على عدم الاستحباب وبين تلك الأخبار المثبتة لاستحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب

ص: 284

من غير فرق بين ان نقول في مفاد دليل حجية الامارة بكونه عبارة عن تتميم الكشف أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع بجعل مضمونها حكما ظاهريا للمكلف فإنه على كل تقدير تجرى فيه أدلة التسامح وان كان جريانها على الثاني أوضح فتأمل « نعم » بناء على استفادة الحكم الطريقي ينتهى الامر في فرض المسألة إلى التعارض والتساقط « لان » مفاد اخبار من بلغ حينئذ هو حجية قول المبلغ وان ما أخبر به من استحباب العمل هو الواقع فيعارض ما دل على عدم استحبابه واقعا « هذا كله » بناء على استفادة الحكم المولوي النفسي أو الطريقي من اخبار من بلغ « واما على » ما اخترناه من استفادة الارشاد فلا اشكال في جريانه حتى في مورد قيام الامارة المعتبرة على الخلاف بل ومع عدم قيام خبر ضعيف أيضا على الثواب ، فإنه يكفي في الانقياد مجرد احتمال الثواب ورجاء المطلوبية في الواقع « ولذلك » ترى اطباقهم على حسن الاحتياط في موارد احتمال الوجوب أو الاستحباب ولو مع قيام الامارة المعتبرة على عدم الوجوب أو الاستحباب « بقى الكلام » فيما لو ورد خبران ضعيفان أحدهما على استحباب شيء والاخر على استحباب شيء آخر مع العلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين في الواقع « فنقول » اما على الانقياد فلا اشكال ، فإنه يكفي في جريانه مجرد احتمال المطلوبية في كل منهما ولا يمنع عنه العلم الاجمالي المزبور « كما أنه كذلك » بناء على الاستحباب النفسي لما تقدم من أنه يكفي في شمول اخبار من بلغ مجرد كون الشيء مما بلغ عليه الثواب مع احتمال المطابقة للواقع ، فإذا قام على استحباب كل منهما خبر ضعيف واحتمل المطابقة للواقع أيضا في كل واحد منهما في نفسه مع قطع النظر عن الاخر فلا جرم تشمله اخبار التسامح ويستفاد منها استحباب كل بالخصوص بما لمنه بلغ عليه الثواب ولا يضربه العلم الاجمالي بعدم استحباب أحدهما في الواقع بعنوان ذاته وعدم وجود ملاك الرجحان فيه كذلك « واما بناء » على الحكم الطريقي الراجع إلى حجية اخبار الضعاف في المستحبات ، فحيث ان المدلول الالتزامي في كل من الخبرين بمقتضى العلم الاجمالي المزبور هو نفي الاستحباب الاخر « فان قلنا » بشمول اخبار من بلغ لكل واحد منهما بمالهما من المدلول المطابقي والالتزامي فلا جرم يتحقق بينهما المعارضة وينتهي الامر فيهما بعد التعارض إلى التساقط « واما ان »

ص: 285

قلنا باختصاص الحجية حينئذ من جهة دلالتهما على الثواب أعني مدلولهما المطابقي دون الالتزامي كما لعله هو الظاهر أيضا ( فلا مانع ) من الاخذ بهما معا ( حيث ) يكون هذين الخبرين كالأصلين المثبتين للتكليف الذين بينا في محله جريانهما في طرفي العلم الاجمالي.

( الخامس ) هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه بالوجوب والاستحباب فتشمله الاخبار ، فيه وجهان ، بل قولان ( ومحل الكلام ) في المقام هو ما لو كان الافتاء بالاستحباب بمثل قوله يستحب كذا مع احتمال استناده إلى رواية عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ( واما ) مع عدم احتمال ذلك بان علم استناد فتواه إلى بعض القواعد العقلية كتحسين العقل الاقدام على الاتيان بمقدمات الواجب مثلا فلا اشكال في عدم الالحاق خصوصا لو كان مستنده غير تام لدى مجتهد آخر ( وكذلك ) الامر فيما لو كان فتواه بمثل قوله رأيي أو ان المختار عندي هو استحباب امر كذائي ( فإنه ) وان صدق عليه البلوغ حينئذ بملاحظة كشف رأيه عنه الا ان عدم الالحاق انما هو من جهة انصراف اخبار البلوغ إلى البلوغ بلا واسطة ولو مع احتمال استناد فتواه إلى رواية عن الأئمة (عليهم السلام) ( وحينئذ نقول ) اما على الانقياد فلا اشكال لما عرفت من أنه يكتفي في جريانه مجرد احتمال الثواب ورجاء المطلوبية الواقعية وان لم يكن هناك خبر أصلا ( واما على الاستحباب النفسي المولوي أو الطريقي ففي التعدي إلى فتوى الفقيه ( اشكال ) خصوصا على الطريقية والحجية ( حيث ) ان الاستحباب خلاف الأصل والقدر المتيقن من تلك الأخبار هي صورة قيام الخبر على الاستحباب مضافا إلى دعوى انصراف اخبار بلوغ الثواب إلى الثواب البالغ من غير جهة الحدس فلا تشمل حينئذ لمثل فتوى الفقيه المستندة إلى حدسه باعمال اجتهاداته الظنية ( بقي الكلام ) فيما لو قام خبر ضعيف على استحباب شيء مع قيام الشهرة الفتوائية أيضا على طبقه فإنه بناء على استفادة الاستحباب النفسي أو الطريقي لا اشكال في جواز الافتاء باستحبابه ( واما بناء ) على استفادة الارشاد والانقياد ، فلا اشكال ، أيضا فيما لو علم استناد فتواهم بالاستحباب إلى ذلك الخبر حيث يجوز الافتاء بمضمونه بالاستحباب الواقعي نظرا إلى انجبار ضعفه حينئذ بتلك الشهرة ( واما لو لم ) يعلم منهم الاستناد إليه بان يحتمل استنادهم في ذلك إلى

ص: 286

أدلة التسامح ففيه اشكال نظرا إلى بقاء الخبر بعد على ضعفه بل لا يجوز ذلك من جهة كونه حينئذ من التشريع المحرم ، فلابد حينئذ من نفي الباس عن العمل به رجاء لادراك الواقع كما هو ظاهر.

« الامر الثالث » في أن أدلة البراءة هل تختص بما لو كان الشك في الوجوب التعييني بالأصل أو بالعرض كالواجب المخير المتعين لأجل الانحصار ، أو يعم الشك في الوجوب التخييري ( الظاهر ) هو الثاني لانتفاء ما يقتضى التخصيص بالوجوب التعييني بعد عموم أدلتها ( ودعوى ) ان الظاهر من أدلتها هو عدم تعين الشيء المجهول على المكلف بنحو يلتزم به ويعاقب على تركه وليس المشكوك المردد حكمه بين الوجوب التخييري والإباحة من هذا القبيل ( مدفوع ) بان ما يحتمل كونه من افراد الواجب المخير أيضا كان مما يعاقب على تركه ولو على تركه المقرون بترك الاخر المعبر عنه بالترك لا مع البدل فمن هذه الجهة تعمه أدلة البراءة ( واما توهم ) ان المنسبق من أدلتها هو الاختصاص بما لو كان المشكوك مما يحتمل العقوبة على تركه بقوله مطلق فتختص حينئذ بما لو كان الشك في الوجوب التعييني ( فمدفوع ) بان ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها ولا شاهد لها ، بل لا يعتبر في جريانها أزيد من كون الشيء مما يحتمل فيه العقوبة ولو على بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك العدل والبدل ( لان ) مثل هذه الجهة أيضا نحو ضيق على المكلف فترفعه أدلة البراءة عقليها ونقليها ، هذا ( ولكن ) الذي يقتضيه دقيق النظر هو التفصيل في المقام براءة واشتغالا بين شقوق المسألة ( حيث ) ان الشك في الشئ في وجوبه التخيير بتصور على وجوه ( الأولى ) الشك في كون الشيء واجبا تخييريا أو مباحا سواء احتمل وجوبه التعييني أيضا أم لا ( اما الثاني ) كالشك في أن الارتماس في نهار رمضان هل يقتضى وجوب إحدى الخصال تخييرا أو لا يقتضي شيئا « واما الأول » كالشك في أن المفطر الكذائي هل يقتضى الكفارة أو لا وعلى تقدير الاقتضاء فهل يقتضى كفارة معينة كالصوم مثلا أو يقتضى إحدى الخصال بحيث كان الصوم على تقدير وجوبه أحد افراد الواجب المخير « الثانية » الشك في كون الشيء واجبا تعيينيا أو تخييريا مع العلم بأصل وجوبه ، كما لو علم بتعلق التكليف بشيء بخصوصه كالعتق مثلا ( ولكنه ) يشك في شيء

ص: 287

آخر في أنه هل هو واجب وعدل لذلك حتى يكون ما علم وجوبه أحد فردي الواجب المخير ، أو انه ليس عدلا له حتى يكون ذاك واجبا تعيينيا ( الثالثة ) ما لو علم بتعلق التكليف بكل من العتق والصوم مثلا ولكنه يشك في كونهما واجبان تعيينيان أو تخييريان « الرابعة » ما لو علم بوجوب شيء بخصوصه كالقراءة في الصلاة وعلم أيضا بان الاخر مسقط له كالجماعة ، الا انه يشك في أن مسقطيته له لكونه عدلا له أو لكونه مستحبا أو مباحا مسقطا للواجب من جهة مفوتيته لملاكه أو غير ذلك فهذه صور الشكوك المتصورة في المسألة ( فنقول ) اما الصورة الأولى فلا ينبغي الاشكال في جريان البراءة فيها مطلقا عقلية وشرعية لرجوع الشك فيها إلى الشك في أصل تعلق التكليف بالنسبة إلى المشكوك ، بل ويمكن دعوى انصراف كلام الشيخ قده عن هذه الصورة في منعه عن جريان البراءة ( واما الصورة الثانية ) وهي ما لو علم بتعلق التكليف بشيء بخصوصه كالعتق مثلا وشك في كون شيء آخر عدلا له فقد يقال فيها أيضا بجريان البراءة عن التعيين لأنه كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف فتنفي بأدلة البراءة عقليها ونقليها ( ولكن التحقيق ) فيها هو الاحتياط ( وذلك ) لان مرجع كون الشيء واجبا تعينييا انما هو إلى كونه مطلوبا بطلب تام تائم به بشرا شر وجوده الموجب بمقتضى النهي عن النقيض للمنع عن جميع أنحاء عدمه حتى العدم في حال وجود غيره ، في قبال الواجب التخييري الذي مرجعه إلى كونه متعلقا لطلب ناقص على نحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء عدمه وهو العدم في حال عدم العدل ( فتمام ) الامتياز بين الواجب التعييني والواجب التخييري انما هو من هذه الجهة من حيث كون الطلب المتعلق بالشيء تارة على نحو يكون طاردا لجميع أنحاء عدمه ( وأخرى ) كونه على نحو لا يكون الا طاردا لبعض أنحاء عدمه ( لا ان ) الامتياز بينهما من جهة تقييد الطلب في الواجب التخييري بعدم الاتيان بالغير كما توهم ، ولا من جهة مجرد جعل العدل له في طي الخطاب وعدمه ( وكيف ) ويرد على الأول ان لازمه هو عدم تحقق الامتثال بالواجب التخييري عند الاتيان بهما معا وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به ( وعلى الثاني ) بان جعل العدل وعدم جعله في طي الخطاب انما هو من لوازم نقص الطلب المتعلق بالشيء وتماميته من حيث اقتضائه تارة لطرد جميع اعدام الشيء

ص: 288

وأخرى لبعض اعدامه ( لا ان ) ذلك من مقومات تعيينية الطلب وتخييريته ( وعلى ذلك ) نقول ان مرجع الشك في كون الشيء واجبا تعيينيا أو تخييريا حينئذ إلى العلم الاجمالي ، اما بوجوب الاتيان بخصوص الذي علم بوجوبه في الجملة وحرمة تركه مطلقا حتى في ظرف الاتيان بما احتمل كونه عدلا له « واما » بحرمة ترك الاخر المحتمل كونه عدلا له في ظرف عدم الاتيان بذلك « ولازم » هذا العلم الاجمالي انما هو الاحتياط بتحصيل الفراغ اليقيني باتيان خصوص ما علم وجوبه في الجملة ، ووجوب الاتيان بما احتمل كونه عدلا له عند عدم التمكن من الاتيان بما علم وجوبه لاضطرار ونحوه « نعم » لو اغمض عن ذلك لا مجال للمنع عن جريان البراءة عن التعيين بما افاده بعض الأعاظم قده من أن صفة التعينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة شرعا ولو بالتبع حتى يجري فيها حديث الرفع وانما كانت عبارة عن عدم جعل العدل فمهما تعلق التكليف بشيء ولم يجعل له عدل في طي الخطاب كان التكليف تعيينيا كما أنه مهما تعلق التكليف بشيء له عدل كان التكليف تخييريا فتعيينية التكليف حينئذ عبارة عن تعلق الإرادة المولوية بشيء ليس له عدل بلا فصل وجودي ( وعلى ذلك ) فلا تكون جهة تعيينية التكليف صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة ، بل كان مقتضى الأصل بعد رجوع الطلب التخييري إلى تعلق التكليف بشيء يكون له البدل والعدل هو عدم جعل العدل ووجوبه المنتج لتعينية وجوبه نظرا إلى رجوع الشك في التعيينية والتخييرية إلى الشك في وجوب العدل وعدمه والأصل عدم وجوبه ( وفيه ) ما عرفت من أن صفة التعينية للطلب انما تنتزع عن كون الطلب المتعلق بالشيء حاويا لجميع حدود وجوده بنحو يقتضى طرد جميع أنحاء عدمه التي منها عدمه الذي في حال وجود غيره ، ويقابلها التخييرية حيث إنها كانت منتزعة عن قصور الطلب وعدم احتوائه الا لبعض حدود وجوده الملازم لخروج بعض أنحاء عدمه وهو العدم في حال وجود الاخر عن حير المنع وكونه تحت الترخيص ( نعم ) من لوازم هذا القسم من الطلب غير الحاوي للوجود على الاطلاق هو جعل البدل والعدل في حيز الخطاب لا انه مما به قوام حقيقته وكونه فصلا وجوديا له ( فالوجوبان ) حينئذ مختلفان سنخا لا انهما متحدان وكان الاختلاف من جهة وجوب العدل وعدمه ولقد أجاد

ص: 289

بعض المحققين في المقام فيما أفاد من التعبير عن الواجب التخييري بأنه طلب الفعل مع المنع عن بعض أنحاء تروكه ( فإذا كانت ) جهة التعيينية منتزعة عن سعة الطلب وشموله للوجود على الاطلاق وفي قبالها التخييرية الراجعة إلى قصور الطلب وعدم شموله لجميع حدود وجود الشيء ( فلا جرم ) يكون مرجعها إلى صفة وجودية للخطاب ( وفي مثله ) لو شك في التعيينية والتخييرية يكون مرجع الشك إلى جهة زائدة عما يقتضيه الخطاب التخييري فتجري فيها البراءة ثم إن ذلك ) كله أيضا بالنسبة إلى البراءة الشرعية ، واما البراءة العقلية فلا يحتاج في جريانها إلى اثبات ان التعينية صفة وجودية بل يكفي في جريانها مجرد كون المشكوك بخصوصه موجبا للعقوبة ( وبما ذكرنا ) ظهر النظر فيما افاده من الرجوع إلى أصالة عدم وجوب العدل فإنه انما ينتج ذلك لو كان العدل وعدمه مما به قوام حقيقة التعينية والتخييرية والا فبناء على ما ذكرنا من كونه من لوازم نقص الطلب وقصوره عن الشمول لجميع حدود وجود الشيء فلا ينتج مثل هذا الأصل الجاري في اللوازم لاثبات تعينية الطلب كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن جريان البراءة في المقام هو ما ذكرناه من العلم الاجمالي ( واما الصورة الثالثة ) وهو صورة العلم بوجوب الشيئين مع الشك في أنهما واجبان تعينيان أو تخييريان فلا يجري فيها العلم الاجمالي المزبور لاحتمال التعينية في كل منهما ( وبعد ) العلم التفصيلي بحرمة ترك كل منهما في حال ترك الاخر يرجع الشك المزبور إلى الشك في حرمة ترك كل واحد في حال وجود غيره فيجري البراءة فيهما لاندراجه في الأقل والأكثر الارتباطيين ( ولا مجال ) لاجراء قاعدة الشك في المسقط ، لان ذلك انما يكون في فرض ثبوت أصل الاشتغال بالتكليف وفي المقام كان الشك في أصل التكليف بالترك الخاص في كل منهما ومثله كما عرفت يكون مجرى للبرائة ( كما أنه ) لا مجال للتمسك باستصحاب وجوب كل منهما بعد الاتيان بالآخر ، لان الوجوب المردد بين الأقل والأكثر مما لا ينتج شيئا والوجوب الاخر من الأول كان مشكوكا ( واما الصورة الرابعة ) وهي ما لو علم بتعلق التكليف بشيء مع العلم بان الاخر مسقط للتكليف به ، ولكن يشك في أن ذلك من جهة كونه عدلا له وانه أحد فردي الواجب المخير أو انه من جهة كونه مفوتا لملاكه أو غير ذلك ( فالحكم فيها ) أيضا هي البراءة عن وجوب ما علم

ص: 290

كونه مسقطا ولو مع عدم التمكن من الاتيان بما علم تعلق التكليف به وتعذره عليه ( نظرا ) إلى الشك في أصل تعلق التكليف به ولو تخييرا ثم انه قد يقال ان الجماعة بالنسبة إلى الصلاة الفرادى من هذا القبيل وانه يتأتى فيها الاحتمالات المزبورة فيشك في وجوبيها حينئذ عند تعذر القراءة على المكلف ( ولكن ) التحقيق فيها انها طرف التخيير بالنسبة إلى الصلاة فرادى بما لها من العرض العريض الصادقة على الفرد الاختياري والاضطراري ان المكلف في كل حال مخير بين الصلاة فرادى وبين الصلاة جماعة لا انها طرف التخيير بالنسبة إلى الفرد الاختياري ولا كونها مستحبة مسقطة للوجوب عن الصلاة فرادي ، ولا كونها من حيث قرائة الامام منزلة قرائة المأموم ولو في ظرف اختيار الجماعة ( وعليه ) فلا تجب الجماعة عند تعذر القراءة ، بل المكلف مخير بين الفرادى بما يحسن من القراءة وبين الجماعة ( هذا كله ) فيما لو دار حكم الشيء بين الوجوب التخييري والإباحة ( واما لو دار الامر ) بين الوجوب الكفائي والإباحة ، فمقتضى الأصل فيه أيضا هي البراءة عن وجوبه حتى مع العلم بعدم اقدام الغير على الاتيان به نظرا إلى الشك في أصل توجه التكليف بالنسبة إليه ولو كفائيا فتجري فيه أدلة البراءة عقليها ونقليها ( سواء ) كان الشك في وجوبه عليه من جهة الشك في أصل توجه التكليف الكفائي بالنسبة إليه أم كان الشك في وجوبه عليه كفائيا مع العلم بوجوبه المردد بين العيني والكفائي على الغير ( فإنه ) على كل تقدير تجري البراءة عن وجوبه عليه ولو مع العلم بعدم اقدام الغير على الاتيان به فيجوز له ترك الاتيان بما احتمل وجوبه عليه كفائيا وان لم يجز ذلك بالنسبة إلى ذلك الغير ( وفي ) سقوط التكليف عن المتيقن توجه التكليف إليه باقدام هذا واتيانه بما احتمل وجوبه عليه كفائيا اشكال ( ودقيق النظر ) في ذلك يقتضى ملاحظة كيفية توجيه التكليف الكفائي ( وانه ) بنحو يكون تعلقه بجامع المكلفين بان يكون هناك غرض واحد يقتضي تكليفا واحدا متوجها إلى الجامع وكان كل فرد بما انه ينطبق عليه الجامع مكلفا بالايجاد نظير التكليف التخييري بين الافراد المندرجة تحت جامع واحد أو انه بنحو يكون متعلقا بكل واحد من آحاد المكلفين ولكن بوجوب ناقص كما هو التحقيق نظير ما ذكرناه في الواجب التخييري ( أو انه ) بنحو يكون متعلقا بكل واحد من آحاد المكلفين بحيث كان هناك تكاليف متعددة ناشئة عن اغراض

ص: 291

عديدة متعلقه بآحاد المكلفين بنحو يكون اقدام بعضهم على الاتيان موجبا لسقوط التكليف عن البقية اما بملاك المفوتية أو غيرها ( فعلى الأولين ) تجرى البراءة عن التكليف بالنسبة إليه بعد اتيان الغير به من جهة رجوع الشك فيه مع اتيان الغير به إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف لا في الشك في السقوط كما توهم ( فان ) القدر المتيقن من اقتضاء الخطاب المزبور حينئذ انما هو حرمة تركه في ظرف عدم اتيان الغير بالفعل ، واما حرمة تركه على الاطلاق حتى في ظرف اتيان الغير بالعمل فمن الأول كانت مشكوكة لعدم العلم بكون التكليف المتوجه إليه تكليفا عينيا حتى تقتضي حرمة تركه على الاطلاق فكان الشك حينئذ في أصل الاشتغال بالترك الخاص ومثله كما عرفت يكون مجرى للبرائة ( واما على الأخير ) فلازمه المصير إلى الاشتغال ، من جهة رجوع الشك بعد العلم بأصل الاشتغال وقيام الغرض بالشيء إلى الشك في القدرة على الامتثال المحكوم عقلا بلزوم الاخذ بالاحتياط بالتعرض للامتثال وعدم الاعتناء بالشك في السقوط واحتمال العجز ( بل وتجري ) فيه أيضا استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه عنه باقدام الغير فتدبر

خاتمه في دورانه الامر بين المحذورين

إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ، اما جهة فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، واما من جهة الاشتباه في الامر الخارجي ( فتارة ) يكون كل من الواجب والحرام المحتملين توصليا يسقط الغرض منه بمجرد الموافقة كيفما اتفق ( وأخرى ) يكون أحدهما أو كلاهما تعبديا يتوقف سقوط التكليف عنه إلى قصد الامتثال ( وعلى الأول ) تارة تكون الواقعة المبتلى بها واحدة كما في المرأة المردد وطيها في ساعة معينة بين الوجوب والحرمة لأجل الحلف المردد تعلقه بالفعل أو الترك ( وأخرى ) تكون متعددة كالمثال المزبور إذا كان الحلف المردد تعلقه بالفعل أو الترك في كل ليلة مثلا ( اما الصورة الأولى ) فلا شبهة في حكم العقل بالتخيير بينهما بمعنى عدم الحرج في الفعل والترك نظرا إلى اضطرار المكلف وعدم قدرته على مراعاة العلم الاجمالي بالاحتياط وعدم خلوه في الواقعة تكوينا من الفعل أو الترك ، فيسقط العلم الاجمالي حينئذ عن التأثير بعين اضطراره

ص: 292

الموجب لخروج المورد عن قابلية التأثر من قبله بداهة ان العلم الاجمالي انما يكون مؤثرا في التنجيز في ظرف قابلية المعلوم بالاجمال لان يكون داعيا وباعثا للمكلف نحوه وهو في المقام غير متصور حيث لا يكون التكليف المردد بين وجوب الشيء وحرمته صالحا للداعوية على فعل الشيء أو تركه ( وبذلك ) نقول انه لا يصلح المقام للحكم التخييري أيضا فان الحكم التخييري شرعيا كان كما في باب الخصال أو عقليا كما في المتزاحمين انما يكون في مورد يكون المكلف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير فكان الامر التخييري باعثا على الاتيان بأحدهما وعدم تركهما معا « لا في » مثل المقام الذي هو من التخيير بين النقيضين « فإنه » بعد عدم خلو المكلف تكوينا عن الفعل أو الترك لا مجال للامر التخييري بينهما واعمال المولوية فيه لكونه لغوا محضا ، نعم لا باس بجريان التخيير في باب تعارض الأدلة في المقام « فان » مرجع التخيير هناك انما هو إلى التخيير في الاخذ بأحد الدليلين بنحو ينتج الحكم التعيني في المأخوذ « ومثله » يتصور في المقام حيث أمكن الامر التخييري بالأخذ بأحد الاحتمالين بنحو يستتبع الحكم الظاهري التعيني بعد الاخذ ولا محذور فيه عقلا ولكنه يحتاج إلى قيام دليل عليه الخصوص فينحصر التخيير في المقام حينئذ بالعقلي المحض بمناط الاضطرار والتكوين بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح لا بمناط الحسن والقبح كما هو ظاهر « وبهذه » الجهة نقول انه لا مجال لجريان أدلة البراءة وأصالة الحلية والإباحة في المقام لاثبات الترخيص في الفعل والترك وذلك لا من جهة ما افاده الشيخ قده سره من انصراف أدلتها عن مثل الفرض « بل من جهة » اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضى الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ، فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين لا ينتهى الامر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان « ولئن شئت » قلت إن الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان انما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك « نعم » لو اغمض عن ما ذكرنا لا مجال للمنع

ص: 293

عن جريان الأصول النافية والمرخصة كاستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة وأصالة الحل والإباحة في كل من الفعل والترك بما أفيد من مناقصة مفاد أصالة الإباحة في المقام لنفس المعلوم بالاجمال « لان » مفادها انما هو الرخصة في كل من الفعل والترك وهو ينافي العلم بالالزام وان لم يكن منجزا فلا تجرى حينئذ لعدم انخفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيها « وكذا » استصحاب عدم الوجوب والحرمة « حيث » ان التعبد بالبناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته ينافي العلم بوجوب الفعل أو حرمته « إذ فيه » ما لا يخفى من منع المناقضة والمضادة بينهما « فان » قوام العلم وكذا الشك والظن في مقام عروضها بعد أن ان كان بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي مرأت إلى الخارج بلا سرايتها منها إلى وجود المعنون خارجا ولا إلى العنوان المعروض لصفة أخرى بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسيط العناوين الاجمالية والتفصيلية « فلا محالة » ما هو معروض للعلم الاجمالي انما هو عبارة عن عنوان أحد الامرين المبائن في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك إذ كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك « وعليه » فبعد ان كان موضوع الحلية والإباحة التعبدية هو الشك في لزوم الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي « كان » الموضوع لهما متحققا بالوجدان حيث كان كل من الفعل والترك بعنوانه التفصيلي مشكوكا وان كان بعنوان أحدهما معلوم الالزام « وبعد » عدم اقتضاء أصالة الحل والإباحة بأزيد من الترخيص في عنوان الفعل والترك المشكوكين وعدم شموله للعنوان الاجمالي ، فلا قصور في جريانها في كل من الفعل والترك « إذ لا يكاد » يضاد هذا المعنى مع العلم الاجمالي بعنوان أحد الامرين ( نعم ) لو قلنا بان مفاد أصالة الإباحة هو عدم لزوم الفعل والترك مجتمعا لا عدم لزوم كل منهما منفردا ( اتجه ) المنع عن جريان أصالة الإباحة في المقام لمضادة لا وجوبهما مجتمعا مع العلم بجنس الالزام بينهما كمضادة احتمال عدم وجوبهما كذلك مع العلم الاجمالي بالالزام بينهما « ولكن ذلك » ممنوع بل مفادها انما هو عدم لزوم كل منهما منفردا بعنوانه التفصيلي المشكوك كما في سائر الأصول كالاستصحاب وحديث الرفع ، غير أن الفرق هو اقتضاء أصالة الإباحة للترخيص في طرفي العلم الاجمالي بتطبيق

ص: 294

واحد وفى سائر الأصول بتطبيقين تارة على الفعل وأخرى على الترك ، وهذا المقدار لا يوجب فرقا بينهما فيما هو الهم فتدبر ، وحينئذ فالعمدة في المنع عن جريان أدلة البراءة العقلية الشرعية في مفروض البحث هو ما ذكرناه من أن مع حكم العقل بالتخيير لا موقع لجريان أدلة البراءة لاثبات الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان ( ثم إن ذلك كله ) عند تساوى المحتملين ملاكا بنظر العقل ( واما ) مع عدم تساويهما فلا حكم للعقل بالتخيير بينهما بل يحكم حينئذ بلزوم لاخذ بذى المزية منهما حيث إن مناط حكمه بالتخيير انما هو فقد المرجح لاحد المحتملين فمع وجوده لا حكم له بالتخيير ، وحينئذ ربما ينتهى الامر إلى جريان البراءة بالنسبة إلى ذي المزية منهما بل مطلقا ( نعم ) لا يكفي في ذلك الترجيح من حيث الاحتمال فلا يؤثر مجرد اقوائية احتمال الوجوب مثلا في تعيين الاخذ به ( كما لا يكفي ) نفس احتمال الحرمة في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب ( وما قيل ) في الترجيح بذلك من أولية دفع المفسدة المحتملة من جلب المنفعة مدفوع بمنع الكلية وانه انما يكون ذلك تابع احراز الأهمية في المفسدة المحتملة ( وعليه ) ربما يكون الامر بالعكس فيجب تقديم المصلحة المحتملة بملاحظة ما فيها من شدة الاهتمام بما لا تكون في جانب المفسدة كما في الغريق المردد بين كونه نبيا أو كافرا مهدور الدم ( فتخلص ) انه في فرض تساوى المحتملين ملاكا لابد من المصير إلى التوقف والتخيير عقلا بمناط الاضطرار والتكوين ( لا البراءة ) والحكم بالإباحة ظاهرا ( ولا الاحتياط ) بمعنى تقديم جانب الحرمة المحتملة ( ثم إن ذلك كله ) مع وحدة الواقعة المبتلى بها ) ( واما مع ) تعددها فالحكم فيه أيضا التخيير عقلا كما في فرض وحدة الواقعة ( نعم ) انما الكلام في أن التخيير فيه بدوي فليس له ان يختار في الواقعة الثانية الا ما اختاره أولاً ( أو انه استمراري ) فيجوز له ان يختار خلاف ما اختاره في الواقعة الأولى وان لزم منه الوقوع في المخالفة القطعية ( وحيث ) ان استمرار التخيير يلازم القطع بكل من الموافقة والمخالفة بخلافه على بدوية التخيير حيث لا يلزم منه إلا احتمالهما ( فقد يقال ) بلزوم تقديم حرمة المخالفة القطعية على الموافقة القطعية بدعوى ان حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية التدريجية لما كان على نحو التنجيز والعلية وبالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية على نحو الاقتضاء

ص: 295

القابل لمنع المانع عنه فلا جرم عند الدوران بين الطاعتين يقدم جانب العلية على الاقتضاء لصلاحيته للمانعية عن اقتضائه بالنسبة إلى الموافقة القطعية ونتيجته هو المنع عن استمرار التخيير الموجب للوقوع في المخالفة القطعية ( أقول ) وفيه ما لا يخفى فإنه مضافا إلى ما هو التحقيق من كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية أيضا كالمخالفة علة تامة ( ان البحث ) في الاقتضاء والعلية للعلم بالنسبة إلى الموافقة والمخالفة القطعية ، انما هو بالنسبة إلى الترخيصات الظاهرية الجارية بمناط عدم البيان بعد عدم قصور المعلوم بالاجمال في نفسه للتنجز من قبل العلم ( حيث ) ان هم القائل بالاقتضاء انما هو اثبات قابلية العلم الاجمالي للترخيص الشرعي على خلافه في جميع الأطراف أو بعضها ( كما أن ) هم القائل بالعلية اثبات عدم قابليته لذلك وانه كالعلم التفصيلي في المثبتية للتكليف والمنجزية بنحو يمنع عن الترخيص على خلافه ولو في بعض الأطراف ( لا بالنسبة ) إلى الترخيص بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق « إذ لم يلتزم أحد بمنجزية العلم التفصيلي في هذه المرحلة فضلا عن العلم الاجمالي وذلك لا من جهة قصور في نفس العلم والكاشف ، بل من جهة القصور في المعلوم والمنكشف وعدم قابليته مع الاضطرار في مورده للبلوغ إلى مرتبة الفعلية فضلا عن التنجز حتى في مورد العلم التفصيلي الذي لا شبهة في عليته لوجوب الموافقة القطعية ( وعليه ) نقول ان عدم الجمع بين تحصيل الموافقة القطعية وبين الفرار عن المخالفة القطعية بعد أن كان بمناط الاضطرار من جهة ملازمة تحصيل الموافقة القطعية للوقوع في المخالفة القطعية بمقتضى الاضطرار والتكوين ، وبالعكس حيث يلازم ترك المخالفة القطعية لعدم القدرة على تحصيل الموافقة القطعية ( فلا جرم ) يدور الامر بمقتضى الاضطرار والتكوين بين رفع اليد اما عن حرمة المخالفة واما عن وجوب الموافقة ( وبعد ) عدم الترجيح في هذا المقام لاحد الامرين ينتهي الامر إلى التخيير بينهما ونتيجته هو التخيير الاستمراري ( هذا كله ) فيما لو كان كل من الواجب والحرام توصليا ( واما لو كانا ) أو أحدهما تعبديا يحتاج في سقوط التكليف عنه إلى قصد الامتثال كما يتصور ذلك فيما تراه المرأة المضطربة وقتا وعددا من الدم المردد بين كونه حيضا أو استحاضة الموجب لتردد صلوتها بين الوجوب والحرمة بناء على حرمتها على

ص: 296

الحائض ذاتا ( ففي مثله ) وان لم يتمكن المكلف من تحصيل القطع بالموافقة كما في التوصليين ، ولكن بعد التمكن من المخالفة القطعية ولو باتيان الصلاة لا بقصد الامتثال يكون العلم الاجمالي مؤثرا بالنسبة إليها فيدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي لا على التعيين في الشبهة المحصورة ( وبناء ) على المختار في تلك المسألة من لزوم مراعاة العلم الاجمالي بقدر الامكان وعدم جواز الغائه رأسا ( لابد ) في المقام ، اما من ترك الصلاة رأسا ، واما من الاتيان بها عن قصد قربى ولا يجوز ترك كلا الامرين رأسا ( نعم ) على مختار صاحب الكفاية في مسألة الاضطرار المزبور لا باس بالغاء العلم الاجمالي والاقتحام في مخالفة كلا الامرين ( ولكن ) من العجب التزامه قده سره في المقام بوجوب رعاية العلم الاجمالي بقدر الامكان وعدم جواز المخالفة القطعية على خلاف مختاره في تلك المسألة من عدم منجزية العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف ولولا على التعيين المستلزم لجواز المخالفة القطعية ولذلك التزم في مبحث الانسداد باستكشاف ايجاب الاحتياط من الخارج بحيث لولاه لما كان لمنجزية العلم الاجمالي مجال مع ترخيص العقل في الاقتحام في بعض الأطراف من جهة العسر المخل بالنظام فتدبر هذا تمام الكلام في الموضع الأول.

الموضع الثاني

في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف من التحريم أو الايجاب وفيه مبحثان ( الأول ) في الشبهة التحريمية وفيه المسائل الأربع المتقدمة وحيث إن الحكم متحد في الجميع نقتصر على البحث عن الشبهة الموضوعية لاشتهار عنوانها في كلمات الأصحاب وعموم البلوى بها فنقول وعليه التكلان ان الكلام يقع فيها من جهات « تارة » في أصل منجزية العلم الاجمالي قبال من يدعى قصوره عن ذلك وانه كالشك البدوي كما هو المحكى عن بعض ( وأخرى ) في أنه على فرض منجزيته هل يكون ذلك على نحو الاقتضاء القابل لمنع المانع عنه حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية المستتبع لجريان الأصول النافية في جميع الأطراف أو انه يكون على نحو العلية ينحو يمنع عن مجيء الترخيص على خلافه مطلقا أو

ص: 297

بالنسبة إلى خصوص حرمة المخالفة القطعية وتنقيح الكلام فيها يستدعي بيان أمور.

( الأول ) لا يخفى ان البحث في قابلية أطراف العلم الاجمالي لمجئ الترخيص على خلافه في المقام ليس في تمامية الحكم الواقعي في الفعلية وعدمه وانه بأي مرتبة من الفعلية يكون قابلا للترخيص على الخلاف وباي مرتبة لا يكون قابلا لذلك بل البحث انما هو في قصور العلم الاجمالي في المنجزية وعدمه وفى كيفية طريقيته من حيث قابليته للارتفاع بالترخيص وعدمه بعد الفراغ عن تمامية التكليف الثابت في مورده في الفعلية بمقتضى ظهور الخطابات وعدم قصوره في التنجيز على المكلف في ظرف قيام الطريق التنجيزي إليه عقليا أو نقليا كيف ومحل البحث في المقام انما هو صورة تعلق العلم الاجمالي بما هو مفاد الخطابات الواقعية ، ولا اشكال في ظهور الخطابات الواقعية في فعليه التكاليف المتعلقة بذوات الأشياء على وجه تتصف بالباعثية أو الزاجرية الفعلية في ظرف وصولها إلى المكلف بقيام طريق تنجيزي إليها كما لا ينبغي الاشكال في أن هذا المقدار من الفعلية التي يقتضيها ظهور الخطابات مما لا ينافيه الترخيص على الخلاف في ظرف الجهل بالواقع ، نعم الذي ينافيه الترخيص انما هو الفعلية على الاطلاق الناشئ عن إرادة حفظ المرام حتى في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي ولو بخطاب آخر ثانوي في طول الخطاب الأول ولكن هذه المرتبة من الفعلية كانت خارجة عن عهدة الخطابات الواقعية قطعا لاستحالة تكفلها للفعلية بأزيد من مقدار استعدادها لحفظ وجود المرام من قبلها كما شرحناه في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، كيف وان كل مقدمة من مقدمات وجود المرام انما تشاء عن الإرادة المقتضية لحفظ المرام من قبلها لا أزيد ومع عدم اقتضاء الخطابات الواقعية لحفظ المرام حتى في ظرف الجهل بها يستحيل تمشى قصد التوصل إلى وجود المرام على الاطلاق من قبل مجرد انشاء الخطاب الواقعي وعليه فلا مجال للبحث عن مراتب فعلية الخطابات الواقعية وانها بأي مرتبه تكون قابلة للترخيص على الخلاف وباي مرتبة لا تكون قابلة لذلك لما عرفت من أن ما تضمنته الخطابات الواقعية لا يكون الا مرتبة خاصة من الفعلية المتحققة حتى في ظرف الجهل واتصاف مثل هذه المرتبة بالباعثية أو الزاجرية الفعلية بقيام الطريق إليها لا يوجب تفاوتا في ناحية الإرادة بسيرها من مرتبة إلى مرتبة أخرى لان طرو مثل هذه

ص: 298

الصفات عليها انما كان في رتبة متأخرة عن قيام الطريق إليها ( الثاني ) ان قوام العلم والشك بل جميع الصفات الوجدانية كالإرادة والكراهة والتمني والترجي وغيرها بعد ما كان بقيامها بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة كونها خارجية بلا سراية منها إلى وجود المعنون خارجا لان ظرف عروضها هو الذهن وان الخارج ظرف اتصافه بالمعلومية بشهادة انه قد لا يكون للمعنون وجود في الخارج فلا محالة يكون مرجع العلم الاجمالي بشيء تكليفا كان أو غيره إلى تعلقه بصورة اجمالية حاكية عن الواقع لا بشراشره ومن لوازمه قهرا هو الشك الوجداني بكل واحد من العناوين التفصيلية للأطراف مع وقوف كل من الوصفين على نفس عنوان معروضه من غير أن يكون وحدة وجود المعنون لهما في الخارج موجبا لسراية أحد الوصفين إلى متعلق الاخر بشهادة اجتماع اليقين بالعنوان الاجمالي مع الشك بكل واحد من العناوين التفصيلية للأطراف ولو مع اتحاد العنوانين في المعنون الخارجي فإنه لولا وقوف كل من الوصفين على عنوان معروضه للزم اجتماع اليقين والشك في موضوع واحد ، مع أن مضادة اليقين والشك في الوضوح كالنار على المنار و ( بما ذكرنا ظهر ) وجه امتياز العلم الاجمالي عن العلم التفصيلي وانه انما كان من جهة المعلوم والمنكشف لا من جهة العلم والكاشف فكان اتصاف العلم بالتفصيل من جهة ان متعلقه عنوان تفصيلي للشيء حاك عن شراشر وجوده ، ولذلك لا يجتمع مع الشك لأوله إلى اجتماع الضدين ، بخلاف العلم الاجمالي فان اتصافه بالاجمال انما كان باعتبار متعلقه لكونه عبارة عن الصورة الاجمالية المعبر عنها بعنوان أحد الامرين وبالجامع بين الطرفين ، وذلك أيضا لا بمعنى ان الجامع بنفسه وحيال ذاته متعلق للعلم الاجمالي ولو بنحو الحكاية عن منشيه كما في الطبيعي المأخوذ في حين التكاليف ، بل بما انه مرآت اجمالي إلى الخصوصية الواقعية المرددة في نظر القاطع بين خصوصيات الأطراف بنحو تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو كشف الغطاء لكان المعلوم بالاجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقا عليه بتمامه لا بجزء تحليلي منه كما في الطبيعي بالنسبة إلى فرده فكان المقام من هذه الجهة أشبه شيء بمدلول التكرة المأخوذة في متعلق الاحكام الذي هو عبارة عن إحدى الخصوصيات قبال عنوان الواحد الحاكي عن صرف منشئة ، غير أن الفرق بينهما هو ان في النكرة يراد بها الخصوصية المبهمة بنحو لا تعين لها

ص: 299

في الواقع أيضا ، بخلاف المقام فان للعنوان المعلوم بالاجمالي واقع محفوظ بنظر القاطع ولكنه مجهول عنده فلم يدر انه هذا أو ذاك ومن ذلك تنحل القضية المعلومة بالاجمال دائما إلى قضية معلومة على سبيل منع الخلو وهي وجوب أحد الامرين وقضيتين أو قضايا مشكوكة بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف حيث كان انطباقه على كل واحد منها احتماليا محضا وبهذه الجهة يفترق هذا الجامع عن الجامع المأخوذ في متعلقات الاحكام ، حيث إن الجامع المأخوذ في حيز التكاليف عبارة عن الطبيعي قبل الانطباق لا بوصف تعينه وموجوديته خارجا بل في ظرف عدمه بنحو يكون الطلب محركا لايجاده ويكون تعينه بايجاده في الخارج والا فقبل الايجاد لا يكون له الا مجرد قابلية الانطباق على كل فرد ، ولذا يتحقق الامتثال باتيان أي فرد يختاره المكلف حتى في مثل النكرة التي تكون قابلية الانطباق فيها تبادليا وهذا بخلاف الجامع المتعلق للعلم الاجمالي فإنه عبارة عن الجامع المنطبق بوصف موجوديته وتعينه في الخارج وكان الترديد في أن المنطق عليه هو هذا أو ذاك ومن لوازم ذلك كما سيجيء هو سراية التنجز إلى الواقع بملاحظة كونه من توابع ما هو الموجود من الحكم في الخارج وان لم يسر إليه العلم لوقوفه على نفس العنوان الاجمالي.

الثالث الظاهر أنه لا قصور في شمول أدلة الأصول بذاتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي مع قطع النظر عن منجزية العلم ، وذلك اما الأصول غير التنزيلية فظاهر لتحقق موضوعها وهو الشك بالوجدان فان كل واحد من الانائين الذين علم بحرمة أحدهما أو بنجاسته مما يصدق عليه بعنوانه الخاص انه شيء لا يعلم حرمته أو نجاسته فتشمله حديث الرفع والحجب ودليل السعة والحلية والطهارة من غير فرق بين ما كان منها مذيلا بالغاية وهي المعرفة وبين غيره مما لم يكن مذيلا بهذا الذيل وهذا بناء على انصراف الغاية إلى العلم التفصيلي واضح وكذلك بناء على منع الانصراف المزبور وشمول المعرفة للعلم الاجمالي أيضا ، فان جريان الأصول انما كان في كل واحد من المشتبهين بعنوانه الخاص ، ومع تغاير متعلق كل من اليقين والشك في العلم الاجمالي ووقوف العلم على نفس عنوان معروضه من الصورة الاجمالية وعدم سرايته إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية ، لا قصور في شمولها لكل واحد من الأطراف بخصوصه ، حيث إن كل واحد منها مما يصدق عليه بعنوانه الخاص انه مما لا يعلم حرمته لا تفصيلا

ص: 301

ولا اجمالا فيكون حلالا بمقتضى عموم دليل الحلية وكان الناس في سعة من جهته وكان مرفوعا وموضوعا عنهم فان الذي علم حرمته انما هو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الامرين ، ولكن نفى السعة من جهته لا يقتضى نفيها من غير تلك الجهة كما أنه ليس مؤدى شيء من الأصول أيضا نفى الالزام بالنسبة إلى العنوان المزبور لما عرفت من أن مؤدياتها انما هو نفى الالزام في كل واحد من المشتبهين بخصوصه ( نعم ) لو كان مفادها هو نفى الالزام في كل واحد منضما مع الاخر ، لاتجه المنع عن جريانها لمكان العلم الاجمالي بحرمة أحدهما ولكنه ليس كك ، بل انما مفادها هو عدم حرمة هذا بخصوصه وذاك بخصوصه ، وبعد عدم تعلق العلم الاجمالي بحرمة شيء منهما بعنوانه الخاص لا يكاد يمنع العلم الاجمالي المزبور عن شمول العمومات المزبورة لكل واحد منهما بعنوانه الخاص خصوصا مع اقتران ذيل بعضها كعمومات الحلية بكلمة بعينه الظاهرة في العلم التفصيلي بمقتضى ظهورها في اتحاد متعلق الشك والغاية ( نعم ) في رواية السعة يمكن منع شمولها لأطراف العلم الاجمالي بناء على احتمال كون كلمة ما مصدرية ظرفية لا موصولة فإنه بناء على تعميم العلم فيها بالعلم الاجمالي يشكل شمولها لأطراف العلم الاجمالي ( ولكن ذلك ) مضافا إلى كونه خلاف الظاهر أنه يكفي * ح * سائر العمومات المرخصة حيث لا قصور في شمولها لكل واحد من الأطراف من حيث نفسه مع قطع النظر عن منجزية العلم الاجمالي.

( واما الأصول التنزيلية ) كالاستصحاب ونحوه مما كان ناظرا إلى الواقع فقد يمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ولو مع قطع النظر عن منجزية العلم الاجمالي واستلزامه المخالفة العملية وقد أفيد في وجه المنع ) بوجهين أحدهما ما عن بعض الأعاظم قده من دعوى قصور المجعول فيها ثبوتا عن الشمول لجميع أطراف العلم نظرا إلى مضادة جعل الاستصحابين في الطرفين مع ذات العلم الاجمالي بتقريب ان مع العلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين يعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وانقلاب الاحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى احراز آخر يضاده ، فلا يمكن ثبوتا جعل الاستصحابين في الطرفين والتعبد ببقاء الاحراز السابق فيهما لامتناع اجتماع الاحراز التعبدي فيهما مع الاحراز الوحداني بالخلاف في أحدهما من غير فرق بين ان يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال

ص: 302

وهو وجوب الاجتناب عن النجس بينهما وعدم جواز استعماله في المشروط بالطهارة ، وبين ان لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية ، كما في الانائين مقطوعي النجاسة سابقا مع العلم بطهارة أحدهما لاحقا حيث لا يلزم من استصحاب نجاستهما مخالفة عملية للمعلوم الاجمالي فعلى كل تقدير لا يمكن ثبوتا جعل كلا الاستصحابين معا في الطرفين لامتناع اجتماع الاحراز التعبدي فيهما مع الاحراز الوجداني في أحدهما بالخلاف ( ولكن لا يخفى ما فيه ) إذ بعد ما عرفت في شرح العلم الاجمالي من تغاير متعلق اليقين والشك ووقوف العلم على معروضه الذي هو العنوان الاجمالي وعدم سرايته منه إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية للاطراف ، نقول انه لا وجه لدعوى المضادة المزبورة بين الاحراز التعبدي في كل من الطرفين بخصوصه مع الاحراز الوجداني بنحو الاجمال بالخلاف ، فان موضوع الابقاء التعبدي فيهما لا يكون الا المتيقن أو اليقين السابق بنجاسة كل من اناء زيد واناء عمر وبخصوصه ، وبالعلم الاجمالي المزبور لم « ينقلب » اليقين السابق في شيء منهما إلى اليقين بالخلاف إذ كل واحد منهما بعنوانه الخاص مما يشك وجدانا في بقاء طهارته بعد كونه مسبوقا باليقين بها ( نعم ) ما هو المنقلب بالعلم الاجمالي انما هو اليقين بأحد العنوانين أو أحد اليقينين بهذا العنوان الاجمالي ولكن موضوع التعبد بالبقاء لا يكون هو اليقين بأحد العنوانين ولا أحد اليقينين حتى ينافي العلم الاجمالي ( وانما الموضوع ) فيه هو خصوص اليقين بنجاسة اناء زيد واليقين بخصوص اناء عمرو وشئ منهما لا يعلم بانتقاضه حتى يمنع عن جعل كلا الاستصحابين ومجرد اتحاد العنوانين بحسب المنشأ والعنوان الخارجي لا يقتضى قلب الاحراز السابق فيهما إلى احراز اخر يضاده بعد فرض تغاير العنوانين ووقوف كل من اليقين والشك على نفس متعلقه من العنوان الاجمالي والتفصيلي ( نعم ) لو قيل بسراية اليقين من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى الخارج لكان لما أفيد وجه وجيه ، ولكنه ممنوع جدا بشهادة اجتماع اليقين والشك في العلم الاجمالي بتوسط العنوان الاجمالي والتفصيلي فإنه لولا وقوف كل من الوصفين على عنوان معروضه للزم اجتماع اليقين والشك مع ما كان بينهما من المضادة في موضوع واحد « وعليه نقول » انه إذا لم يكن هذا الاحراز الوجداني القائم بالعنوان الاجمالي منافيا مع الشك بالعنوان التفصيلي ولو مع كونهما متحدين وجودا في

ص: 303

الخارج ، فكيف يكون منافيا مع ما هو من احكام هذا الشك القائم بالعنوان التفصيلي المعبر عنه بالاحراز التعبدي ، وبالجملة لا تعرف وجها لانكار الجمع بين الاحراز التعبدي في كل من الطرفين مع الاحراز الوجداني بالخلاف في أحدهما بنحو الاجمال فإنه ان أريد بالعلم بالانتقاض انقلاب اليقين بخصوص اناء زيد وخصوص اناء عمرو إلى اليقين بالخلاف فهي مما يكذبه الوجدان ، وان أريد به انقلاب أحد اليقينين بنحو الاجمال أو اليقين بأحد الامرين فهو مسلم ولكنه لا يجدى في المنع عن جريان الاستصحابين في الطرفين بعد كون موضوع الابقاء التعبدي فيهما هو خصوص اليقين بطهارة اناء زيد وخصوص اليقين بطهارة اناء عمرو ، مع أن لازم البيان المزبور هو المنع عن جريان الأصول في الموارد التي يلزم من جريانها التفكيك بين المتلازمين كاستصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن عند الوضوء بمايع مردد بين الماء والبول نظرا إلى تحقق المناط المزبور وهو المضادة فيه أيضا فإنه كما أن التعبد بنجاسة الانائين ينافي الاحراز الوجداني بطهارة أحدهما كك التعبد ببقاء كل من الحدث وطهارة البدن ينافي الاحراز الوجداني بعدم بقاء أحدهما مع أن ذلك كما ترى خلاف ما تسالموا عليه من التفكيك بين المتلازمين والجمع بين الاستصحابين في نحو الفرض المزبور ، ودعوى الفرق بين القسمين بان المنع عن جريان الأصل في طرفي العلم الاجمالي انما يكون إذا كان الاستصحابان متحدين في المؤدي ومتوافقين على نفي ما علم تفصيلا ثبوته أو على ثبوت ما علم تفصيلا نفيه كما في استصحاب طهارة الانائين أو نجاستهما مع العلم بنجاسة أحدهما أو طهارته حيث كان الاستصحابان متوافقين على نفي ما يعلم تفصيلا من نجاسة أحدهما أو طهارته فيعلم تفصيلا بكذب ما يؤديان إليه ، وأما إذا لم يكونا كك بان كانا متخالفين في المؤدي كما في استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث في المثال فلا مانع من جريانهما إذ لا يلزم من التعبد بهما العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه وانما يعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع ولا ضير في هذا المقدار بعد عدم توافقهما على خلاف ما يعلم تفصيلا ثبوته أو نفيه ( مدفوعة ) بان مجرد مخالفة مؤدي الأصلين لا يجدى في رفع المضادة بين التعبد ببقاء كل من الامرين مع العلم بعدم بقاء أحدهما تفصيلا.

الثاني من وجهي المنع مما يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره

ص: 304

من المنع عن شمول أدلة الأصول لأطراف العلم بدعوى انه يلزم من الشمول لأطراف العلم الاجمالي مناقضة الصدر والذيل في مثل قوله (عليه السلام) لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين آخر ، حيث إن حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الامرين ينافي وجوب نقض اليقين بمقتضى الذيل والحكم بالأخذ بخلاف الحالة السابقة في أحدهما فمع العلم الاجمالي بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين لابد من خروجهما عن عموم لا تنقض ، إذ لا يمكن ابقاء كل منهما تحت عمومه لمحذور المناقضة ، ولا ابقاء أحدهما المعين لعدم الترجيح بعد اشتراك الاخر معه في مناط الدخول ولا أحدهما المخير لعدم كونه من افراد العام إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المشخصين في الخارج « ولكن فيه » بعد الغض عن انصراف الذيل إلى اليقين المتعلق بما تعلق به الشك واليقين السابق في قوله (عليه السلام) لا تنقض غير الشامل لليقين الاجمالي ، انه يمنع كون وجوب النقض عند العلم بالخلاف ولو اجمالا حكما تعبديا كي يتحقق المناقضة المدلولية بين حرمة النقض في كل واحد من اليقينين وبين وجوب النقض في أحدهما كيف وان وجوب النقض عند اليقين بالخلاف ارتكازي عقلي غير قابل لتصرف الشارع فيه مولويا بخلاف حرمة نقض اليقين بالشك ، فلا محيص من أن يكون ارشادا محضا إلى ما يقتضيه حكم العقل من تنجيز الواقع في ظرف اليقين بالخلاف ، وذلك أيضا في فرض تعلق العلم الاجمالي بتكليف ملزم بنحو يلزم من جريان الأصل في الطرفين مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، والا ففي فرض عدم تعلقه بالتكليف فلا يقتضي ذلك وجوب نقضه كما في العلم بطهارة أحد الانائين مع اليقين السابق بنجاستهما لان غاية ما يقتضيه ذلك هو عدم الاجتناب عنه عملا وهو غير مناف لوجوب الاجتناب عن كل منهما بمقتضى حرمة النقض ، نعم لو أريد بذلك تقييد الصدر بصورة عدم قيام العلم بالخلاف مطلقا ولو اجمالا لكان لما افاده وجه وجيه فان للشارع ان يجعل حكم الصدر مغيا بعدم العلم بالخلاف ولو اجمالا مطلقا ، ولكنه مضافا إلى بعده عن ظاهر الرواية لظهور الذيل فيها في كونه لمحض الارشاد إلى حكم العقل كما بيناه بلا نظر إلى حيث لتقييد المزبور ، مبني على اطلاق اليقين في الذيل وشموله للموارد التي لا يلزم من جريان الأصل في الطرفين طرح ونقض عملي للمعلوم بالاجمال

ص: 305

وهو في محل المنع ولا أقل من اجماله من هذه الجهة فيؤخذ باطلاق الصدر الشامل لكلا الشكين ( وعلى فرض ) اجماله أيضا ولو من جهة اتصاله بالذيل المزبور لا مانع من الرجوع إلى اطلاق الاخبار الخالية عن هذا الذيل في الشمول لطرفي الشبهة ( مع أن ) لازم المنع عن الشمول لموارد العلم بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما مطلقا ولولا يلزم مخالفة عملية هو المنع عنه في الصورة الثالثة في كلامه التي صرح بعدم مانعية العلم الاجمال عن العمل بالأصلين كاستصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث فيمن توضأ غفلة بمايع مردد بين الماء والبول لجريان مناط المنع فيها أيضا ( وكيف كان ) فالتحقيق انه لا قصور في شمول أدلة الأصول بنفسها لأطراف العلم الاجمالي ما لم يستلزم طرحا لتكليف منجز في البين من غير فرق فيه بين الأصول التنزيلية وغيرها ، وان عدم جريانها في أطراف العلم انما هو لمانعية العلم الاجمالي من جهة منجزيته لا من جهة قصورها بنفسها ولا من جهة مناقضة الصدر والذيل ( و ح ) على القول بعلية العلم الاجمالي للموافقة القطعية كما هو التحقيق لا مجال لجريانها ولو في بعض الأطراف حتى مع فرض الخلو عن المعارض ( كما أنه على ) القول بالاقتضاء بالنسبة إلى الموافقة القطعية دون المخالفة كان المانع عن جريانها معارضة كل منها مع الاخر الموجب لسقوط الجميع عن الجريان ، وهذا أيضا لولا ما سيجيء من شبهة التخيير الناشئ من تقييد جريان كل واحد من الأصلين في ظرف عدم العمل بالآخر لان علية العلم لحرمة المخالفة القطعية انما تكون مانعة عن الجمع بينهما وبعد التقييد المزبور لا باس بجريانهما واما على القول بالاقتضاء حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية وقابليته لمنع المانع فلا باس بجريانها في جميع الأطراف حتى الاستصحاب الذي هو من الأصول المحرزة نظرا إلى صلاحيتها للمانعية عن اقتضائه ، كما أنه في الأصول المثبتة الموافقة للمعلوم بالاجمال أيضا لا مانع من؟ جريانها في أطراف العلم كما هو ظاهر.

« وبعد ما عرفت هذه الأمور » فلنشرع في المقصود من صلاحية العلم الاجمالي للمنجزية وعليته بالنسبة إلى الحرمة المخالفة القطعية ( فنقول ) لا اشكال في أنه لا قصور في منجزية العلم الاجمالي لما تعلق به من التكليف ، وانه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلق به كالعلم التفصيلي في حكمه بوجوب الامتثال ، إذ لا فرق بينهما الا من حيث اجمال

ص: 306

المتعلق وتفصيله وهو غير فارق في المقام بعد كون مناط التحميل بنظر العقل احراز طبيعة امر المولى بلا دخل خصوصية فيه ، فمع فرض انكشاف ذلك لدى العقل يتحقق موضوع حكمه فيحكم بالاشتغال ووجوب الامتثال ، بل التحقيق ان حكمه بذلك يكون على نحو التنجيز بحيث يأبى عن الردع عنه بالترخيص على خلاف معلومه في تمام الأطراف ، كابائه عنه في العلم التفصيلي لكون ذلك بنظرة ترخيصا من المولى فيه معصيته وترك طاعته ، ومثله مما لا يصدقه وجدان العقل بعد تصديقه خلافه ، والشاهد على ذلك هو وجدان تلك المناقضة الارتكازية المتحققة في مورد العلم التفصيلي في المقام أيضا ( ومن الواضح ) انه لا يكون ذلك الا من جهة علية العلم الاجمالي وسببيته لحكم العقل تنجيزيا بصيرورة معلومه في العهدة بنحو يأبى عن الردع عنه ( والا ) فعلى فرض عدم اقتضاء العلم الاجمالي للاشتغال رأسا ، أو اقتضائه وتعليقية حكم العقل باشتغال العهدة بالتكليف بعدم مجيء الترخيص على الخلاف المفنى لطريقيته كالظن في حال الانسداد على ما قيل لم يكن مجال المناقضة المزبورة ( وذلك ) على الأول واضح ، إذ عليه لم يثبت شيء في العهدة حتى ينافيه الترخيص ( وكذلك على الثاني ) فإنه بالنسبة إلى فعلية الحكم الواقعي بمقدار يقتضيه ظهور الخطابات الواقعية لا تنافي بينهما بعد كون مرجع الردع عنه إلى الترخيص في المرتبة المتأخرة عن الواقع التي هي رتبة حكم العقل بالإطاعة ، ( بداهة ) اجتماع هذا المقدار من الفعلية مع الترخيص على الخلاف عند الجهل بالواقع ( نعم الذي ) لا يجتمع مع الترخيص انما هو الفعلي على الاطلاق حتى في ظرف الجهل بالواقع ، ولذا ينافيه الترخيص حتى في الشبهات البدوية المحضة الخارجة عن مفروض الكلام « دون الفعلي » من قبل الخطاب بمقدار اقتضائه واستعداده لحفظ وجود المرام « والأول » خارج عن مفروض الكلام « لان » محل البحث في علية العلم الاجمالي واقتضائه انما هو فرض تعلقه بصرف فعلية الخطابات الواقعية على وجه تتصف بالباعثية والزاجرية الفعلية عند قيام طريق منجز إليها عقليا كان أو شرعيا « و ح » فكما ان الترخيص في ظرف الجهل بالواقع غير مناف مع فعلية التكليف الواقعي « كك » الترخيص المحدث للجهل المفنى لطريقية الطريق بناء على التعليقية غير مضاد مع فعلية الواقع لعدم كون مثله موجبا لنقص في فعليته « واما بالنسبة »

ص: 307

إلى حكم العقل بالاشتغال ولزوم المتابعة في الرتبة المتأخرة عن القطع ، فلان ثبوت المناقضة بينهما فرع تنجيزية حكم العقل بالاشتغال من قبل العلم الاجمالي ، لأنه من مبادئ المناقضة المزبورة ( والا ) فعلى فرض تعليقية حكمه بعدم الردع عنه بالترخيص على خلافه لا مجال للمناقضة في هذه المرحلة أيضا لوضوح ارتفاع موضوع حكم العقل بنفس الترخيص على خلاف « ولا فرق » فيما ذكرنا بين العلم الاجمالي والتفصيلي ، فإنه على مبنى اقضاء العلم التفصيلي أيضا وتعليقية طريقيته على عدم مجيء الترخيص على خلافه ، كان للشارع الغاء طريقيته بترخيصه على الخلاف « لان » مرجع تعليقية طريقيته إلى كونه قابلا لان لا يحصل به الاشتغال بالتكليف بترخيص الشارع على الخلاف من غير أن ينافي هذا الترخيص مع فعلية الواقع ولا مع حكم العقل بوجوب المتابعة والامتثال كما ذكرناه ( وحيث ) ان المناقضة الارتكازية في المقام متحققة فلا جرم يكشف مثلها انا عن علية العلم لاجمالي للاشتغال وتنجيزية حكم العقل من قبله بلزوم الامتثال بنحو يأبى عن الردع عنه بالترخيص على الخلاف في جميع الأطراف ، ولا نعنى من علية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية الا ذلك « هذا كله » فيما يتعلق بالجهة الأولى.

( واما الجهة الثانية ) فالتحقق فيها أيضا هو علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية على وجه يمنع عن مجيء الترخيص على الخلاف ولو في بعض الأطراف « ويظهر » وجهة مما قدمناه في الجهة الأولى « حيث نقول » ان من لوازم علية العلم الاجمالي بالتكليف للاشتغال به وسببيته لحكم العقل التنجيزي بتنجز ما يحكى عنه العنوان الاجمالي على المكلف وصيرورته في عهدته ، انما هو حكم العقل تنجيزيا بوجوب التعرض للامتثال ولزوم تحصيل الجزم بالفراغ والخروج عن عهدة ما تنجز عليه من التكليف بأداء ما في العهدة ( ومقتضى ) ذلك بعد تردد المعلوم بالاجمال ومساوقة احتمال انطباقه على كل طرف لاحتمال وجود التكليف المنجز في مورده المستتبع لاحتمال العقوبة على ارتكابه ، هو حكم العقل بلزوم الاجتناب عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم عليه من الأطراف وعدم جوز القناعة بالشك في الفراغ والموافقة الاحتمالية ، لعدم الا من من مصادفة ما ارتكبه لما هو الحرام المنجز عليه ، فتجري فيه قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولازمه

ص: 308

اباء العقل أيضا عن مجيء الترخيص الشرعي ولو في بعض الأطراف من جهة كونه من الترخيص في محتمل المعصية الذي هو من الحكيم في الاستحالة كالترخيص في مقطوعها ( ولازمه ) بطلان التفكيك في علية العلم الاجمالي بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، بل بناء على العلية في طرف المخالفة لا محيص عن الالتزام بها في طرف الموافقة القطعية أيضا بنحو بمنع عن مجيء الترخيص الشرعي ولو في بعض الأطراف بلا معارض ( وبذلك يظهر ) اندفاع توهم الفرق بين المقامين من دعوى ان عدم تجويز العقل الاذن في الاقتحام في جميع الأطراف انما هو من جهة استلزامه الترخيص في نفس ما هو المعلوم المنجز في البين ، ومثله مما يمنع عنه العقل لكونه ترخيصا في المعصية ، بخلاف الاذن في الارتكاب بالنسبة إلى بعض الأطراف فإنه لما لا يستلزم ذلك لا يمنع عنه العقل لعدم تعلقه بنفس المعلوم بالاجمال وعدم العلم يكون الطرف المأذون فيه هو الحرام المعلوم في البين ( وجه ) الاندفاع ما عرفت من أن المنع عن الترخيص في كل طرف ، انما هو من جهة احتمال انطباق ما هو المنجز عليه الموجب لاحتمال العقوبة عليه ولكون الترخيص فيه ترخيصا في محتمل المعصية ( لا من جهة ) قصور أدلة الترخيص عن الشمول لأطراف العلم من جهة عدم الموضوع كي يصح الفرق المزبور بين المخالفة القطعية وموافقتها بعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الأولى وانحفاظها في الثانية ( واما دعوى ) ان شأن العلم تفصيليا أو اجماليا انما هو تنجيز متعلقه دون غيره وبعد وقوف العلم الاجمالي على نفس متعلقه وهو العنوان الاجمالي والجامع بين الافراد وعدم سرايته إلى الواقع ولا إلى خصوصيات الأطراف ( يلزمه ) لا محالة وقوف التنجيز أيضا تبعا للعلم على نفس الجامع بلا سرايته إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية لخصوصيات الأطراف ومع عدم سرايته يكون كل واحد من افراد الجامع تحت الترخيص العقلي بمناط عدم تمامية البيان ومعه لا موجب لوجوب الموافقة القطعية كي يمنع عن مجيئ الترخيص الشرعي في بعض الأطراف لعدم اقتضاء مثل هذا اليقين المتعلق بالجامع أزيد من حرمة المخالفة القطعية ، بل لازم ذلك جواز ترك الموافقة القطعية أيضا ولو لم يكن في البين ترخيص من قبل الشارع لكونه مقتضى الجمع بين تنجز الجامع وبين الترخيص العقلي في كل واحد من الافراد ( فمدفوعه )

ص: 309

بان تنجز الاحكام انما هو من لوازم وجودها خارجا في ظرف وصولها إلى المكلف بأي طريق لا من لوازم وجودها ذهنا ولو بمرأتيته إلى الخارج ولذا عند كشف الخلاف وتبين عدم وجود الحكم لا تنجز في البين حقيقة وانما هو مجرد اعتقاد التنجز بتبع اعتقاد وجود الحكم ، ومجرد قيام العلم بالصور الذهنية وعدم قابليته للسراية إلى الخارج لا يقتضى عدم سراية التنجز إليه ، ( و ح ) فمع تنجز واقع التكليف بطريقه واحتمال وجوده في أي طرف يصير كل منهما لا محالة محتمل التنجز بعلمه فيجئ فيه احتمال الضرر والعقوبة ، فيندرج تحت كبرى وجوب دفع الضرر المحتمل لا كبرى قبح العقاب بلا بيان ( ولعل ) منشأ التوهم المزبور ، هو تخيل كون متعلق العلم الاجمالي عبارة عن صرف الطبيعي والجامع بين الافراد بما هو في حيال ذاته أو بما هو حاك عن منشئه محضا نظير الجوامع المأخوذة في حيز التكاليف القابلة للانطباق عرضيا أو تبادليا على أي فرد و ( لكنه ) توهم فاسد لما تقدم من الفرق بينهما وان الجامع المتعلق للعلم الاجمالي انما هو العنوان الاجمالي بما هو حاك عن الخصوصية الواقعية المرددة في نظر القاطع بين خصوصيات الأطراف بنحو تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل وينطبق عليها في فرض انكشاف الحال بتمامها لا بجزء تحليلي منها كما في الطبيعي المأخوذ في حيز التكاليف ( ومن ) الواضح ان من لوازم العلم بالجامع المزبور انما هو سراية التنجز منه إلى ما هو الموجود من الحكم خارجا ، فمع احتمال وجوده في كل طرف لا محيص بحكم العقل من الاجتناب عن الجميع ، لان في الاقتصار على البعض لا يؤمن من مصادفة ما ارتكبه لما هو الحرام المنجز عليه ( ولئن أبيت ) عن سراية التنجز إلى الواقع ( نقول ) بعد انحصار فرد هذا الجامع بأحد المحتملين ، انه يكفي في وجوب الموافقة القطعية مجرد تنجز الجامع المزبور ، لان من لوازم الاشتغال المزبور هو حكم العقل تنجيزيا بوجوب تحصيل الجزم بالفراغ بأداء ما في العهدة ولازمه وجوب الاجتناب عن الجميع ، لان الاقتصار على بعضها مساوق لاحتمال عدم الخروج عن عهدة ما تنجز عليه ، ولازمه اباء العقل عن الترخيص في ترك الموافقة القطعية بالاكتفاء بمشكوك الفراغ ( نعم ) لما لم يكن حكم العقل في مقام تفريغ الذمة مخصوصا بالمفرغ الوجداني الحقيقي ، بل يعم المفرغ الجعلي التعبدي ، كان للشارع

ص: 310

التصرف في هذه المرحلة بجعل بعض الأطراف بدلا ظاهريا عن الواقع في مقام تفريع الذمة ومصداقا جعليا لما هو المفرغ عما اشتغلت الذمة به من غير أن يكون ذلك منافيا مع حكم العقل في أصل تحصيل الجزم بالفراغ ، كما كان له ذلك في موارد ثبوت التكليف بالعلم التفصيلي الذي لا شبهة في كونه علة تامه لوجوب الموافقة القطعية ، كما في الامارات والأصول المجعولة في وادى الفراغ كقاعدتي التجاوز والفراغ والاستصحابات الموضوعية ونحوها المنقحة لموضوع الفراغ ، وهذا » بخلاف الترخيص في بعض الأطراف بلا جعل بدل ، فإنه مستلزم اما لتعليقية حكم العقل بالاشتغال من قبل العلم الاجمالي ، واما لتعليقية حكمه في ظرف الاشتغال بالتكليف بتحصيل القطع بالفراغ ، وهما كما ترى * كيف * وان لازم الأول تجويز المخالفة القطعية بمجئ الترخيص على الطرفين ، كما أن لازم الثاني تجويز الاكتفاء بمشكوك الفراغ حتى في موارد العلم التفصيلي بوجوب شيء كالصلاة ونحوها باجراء حديث الرفع ونحوه عند الشك في مصداق شرطه أو جزئه كموارد الشك في الطهارة عند تعاقب الحالتين وموارد الشك في المحصل ونحوه ، نظرا إلى اتحاد المناط فيهما ، إذ لا فرق في حكم العقل بتحصيل الجزم بالفراغ في ظرف الاشتغال بالتكليف بين ان يكون الاشتغال بطريق تفصيلي أو اجمالي ، ولا بين ان يكون الطريق عقليا أو جعليا ، مع أنه لا يلتزم به أحد ، فيكشف ذلك عن تنجيزية حكم العقل في المقامين * وعليه * لا محيص من عدم التفكيك في علية العلم الاجمالي بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية * ثم إن ما ذكرنا * من علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية هو الظاهر بل الصريح من كلام الشيخ قده في الجواب عن القائل بجريان أصالة الحل في الطرفين بقوله * قلت * ان أصالة الحلية غير جارية في المقام بعد فرض كون المحرم الواقعي مكلفا بالاجتناب عنه منجزا عليه على ما هو مقتضي الخطابات بالاجتناب عنه لان مقتضى العقل في الاشتغال اليقيني بترك الحرام الواقعي هو الاحتياط والتحرز عن كلا المشتبهين حتى لا يقع في محذور فعل الحرام وهو معنى المرسل في بعض الكتب اترك ما لا بأس به حذرا عما به البأس فلا يبقى مجال الاذن في فعل أحدهما انتهى * وأصرح * من ذلك ما افاده في الشبهة الوجوبية في الجواب عن القول بالتفكيك بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، بقوله قلت

ص: 311

العلم الاجمالي كالتفصيلي علة تامة لتنجز التكليف بالمعلوم الا ان المعلوم اجمالا يصلح لان يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر فكل مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع اما تعيينا كحكمه بالأخذ بالاحتمال المطابق للحالة السابقة واما تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل فان الواقع إذا علم به وعلم إرادة المولى بشيء وصدور الخطاب عنه إلى العبيد وان لم يصل إليهم لم يكن بد عن موافقته اما حقيقة بالاحتياط واما حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه انتهى ، حيث إن كلامه ذلك كما ترى ينادى بأعلى الصراحة بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية بنحو يمنع عن مجيء الترخيص على خلافه ولو في بعض الأطراف « نعم » ربما يظهر من التصريح بتعارض الأصول النافية وتساقطها في بعض كلماته الاخر ما يوهم خلاف ذلك ، حيث يستفاد منه ان المانع من جريان الأصول النافية في أطراف العلم هي المعارضة ، ومثله يناسب القول بالاقتضاء للموافقة القطعية دون العلية ، لأنه على العلية لا تجرى الأصل النافي ولو في طرف واحد بلا معارض * ولعل * ذلك هو المنشأ لما عن بعض من نسبة التفصيل المزبور إليه قده والا فلم يكن في شيء من كلماته التصريح بهذه الجهة بل التصريح منه كان على خلافه * ولكن * لا يصلح هذا المقدار لنسبة التفصيل المزبور إليه ، لان غاية ما يقتضيه ذلك هو مجرد التلويح على القول بالاقتضاء ومثله لا يكاد يقاوم التصريح بالعلية ، فيمكن حمل كلامه ذلك على بيان كون المعارضة في الأصول وجها آخر لعدم جريانها في أطراف العلم ولو على الاقتضاء لا بيان حصر المانع بذلك كي يلزم جريانها في فرض عدم التعارض فينافي تصريحه بالعلية ( وكيف كان ).

فالظاهر أن المنشأ لتوهم التفصيل المزبور في العلم الاجمالي بين حرمه المخالفة ووجوب الموافقة انما هو من جهة الخلط بين المقام وبين مقام الانحلال ومرحلة جعل البدل ، بتخيل ان جواز الرجوع إلى الأصل النافي في موارد الانحلال عند قيام منجز عقلي أو شرعي على ثبوت التكليف في بعض الأطراف بلا عنوان وكذا موارد قيام الطريق على تعيين المعلوم بالاجمال وتطبيقه على طرف أو قيامه على نفي التكليف في طرف خاص كموارد جعل البدل ، انما هو من جهة الاكتفاء فيها

ص: 312

بالموافقة الاحتمالية ، فجعل ذلك شاهدا على اقتضاء العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وجواز الاذن في ترك تحصيل القطع بالموافقة بالترخيص في البعض ولو بلا جعل بدل ، بدعوى ان العلم الاجمالي ان كان علة تامة لوجوب الموافقة القطعية فلا يجوز الترخيص حتى مع جعل البدل وان كان مقتضيا فيجوز ولو بلا جعل بدل ( ولكنه فاسد جدا ) لوضوح الفرق بين مقامنا وذين المقامين ، وذلك اما مقام الانحلال فواضح * فان * جواز الرجوع فيه إلى الأصل النافي في غير ما قام عليه المنجز العقلي أو الشرعي انما هو من جهة انتفاء أصل الاشتغال وعدم مؤثرية العلم الاجمالي في الاشتغال بمعلومه واثباته في العهدة ، لان العلم انما ينجز التكليف المردد بين الطرفين في صورة قابلية كل طرف للتنجز من قبله مستقلا ومع خروج أحد الطرفين بقيام المنجز عليه عن القابلية المزبورة يخرج المعلوم المردد بما هو قابل للانطباق على كل طرف عن صلاحية التنجز من قبل العلم الاجمالي فلا يصلح؟ مثل هذا العلم للمنجزية لمعلومه * نعم * ما هو الصالح للتنجز انما هو التكليف المقيد انطباقه على الطرف الآخر ، ولكنه لا يكون متعلقا للعلم بل كان مشكوكا من الأول ففي الحقيقة يكون مرجع الانحلال إلى التصرف في أصل الاشتغال وهذا بخلاف المقام فان البحث عن اقتضاء العلم الاجمالي وعليته بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية انما هو في ظرف الفراغ عن أصل ثبوت الاشتغال بالتكليف بالعلم الاجمالي بلا قصور لا من جهة العلم والكاشف في المنجزية ولا من جهة المعلوم في قابليته للتنجز من قبله ومع ذلك أين يبقي مجال مقايسة المقام بباب الانحلال * واما مقام * جعل البدل كموارد قيام الامارة على تعيين المعلوم بالاجمال في طرف خاص اما مطابقة أو التزاما فلما عرفت من أن اكتفاء العقل بالأخذ بذلك في مقام تحصيل الفراغ انما هو من جهة كونه معينا لموضوع الفراغ عما اشتغلت الذمة به لا من جهة الاكتفاء بالشك في الفراغ وتجويز الترخيص في الاكتفاء بمشكوك الموافقة كما هو مورد البحث في المقام ، إذ ليس المقصود من علية العلم الاجمالي كونه علة لوجوب خصوص الفراغ الحقيقي الوجداني ، بل المقصود منه كونه علة لوجوب تحصيل مطلق ما يوجب معه الخروج عن عهدة التكليف الأعم من المفرغ الحقيقي أو الجعلي إذ لا خصوصية بنظر العقل في حكمه بالفراغ للمفرغ

ص: 313

الحقيقي الوجداني بل يكتفي فيه بما كان بحكم الشارع مصداقا لما اشتغلت الذمة به لكونه أيضا معينا للفراغ فكان للشارع التصرف في هذه المرحلة بجعل بعض الأطراف بدلا ظاهريا ومصداقا جعليا لما هو المفرغ ، من غير أن ينافي ذلك مع علية العلم الاجمالي لوجوب تحصيل الجزم بالفراغ ( كيف ) وليس حال العلم الاجمالي من هذه الجهة بأولى من العلم التفصيلي بالتكليف ، مع بداهة عدم انحصار الخروج عن العهدة في مورده بخصوص المفرغ الحقيقي بشهادة الطرق المجعولة في وادى الفراغ كقاعدتي التجاوز والفراغ والأصول الموضوعية ونحوها ، مع أنه لا شبهة في علية العلم التفصيلي بالتكاليف لوجوب الموافقة القطعية ، فكما ان جعل تلك الطرق والأصول الجارية في وادى الفراغ لا ينافي العلية في العلم التفصيلي بل كان مؤكدا لما يقتضيه العلم من لزوم تحصيل الجزم بالفراغ وعدم جواز الاكتفاء بالشك فيه ، كذلك في العلم الاجمالي فلا تنافي الامارة المعينة لموضوع الفراغ في بعض الأطراف مع العلية فيه أيضا ، لما عرفت من اكتفاء العقل بذلك في الخروج عن عهدة التكليف لكونه مصداقا جعليا لما هو المأمور به ( وهذا ) بخلاف صرف الترخيص في بعض الأطراف بلا جعل بدل فإنه ملازم للترخيص في الاكتفاء بالشك في الفراغ فينافي الحكم العقل التنجيزي في ظرف الاشتغال بالتكليف بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ بأداء ما في العهدة وجدانا أو تعبدا وابائه عن الترخيص في ترك تحصيل القطع بالفراغ بأحد النحوين ( ولا يندفع ) ذلك الا بالالتزام بتعليقية حكم العقل في هذه المرحلة ، وهذا مع أنه خلاف ما يقتضيه بداهة الوجدان ، يلزمه جواز الاكتفاء بمشكوك الفراغ حتى في مورد العلم التفصيلي عند الشك في مصداق شرطه أو جزئه باجراء مثل حديث الرفع ونحوه في المشكوك لاتحاد المناط فيهما ، مع أن ذلك كما ترى لا يلتزم به أحد ( وتوهم ) رجوع الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف إلى جعل البدل في الطرف غير المأذون فيه ولو كان ذلك بمثل أصالة الإباحة والبرائة إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بلا معارض ( مدفوع ) بأنه ان أريد بذلك جعل الطرف الآخر معينا للفراغ ومصداقا جعليا للمعلوم بالاجمال فهو متين جدا ( ولكنه ) مضافا إلى كونه اعترافا بالعلية يحتاج إلى احرازه بطريق آخر لوضوح انه ليس المصحح للترخيص

ص: 314

عند العقل مجرد جعل البدل الواقعي وانما المصحح له هو ذلك بوجوده الواصل إلى المكلف وعليه لابد في تطبيق الأصول النافية من احراز البدلية من الخارج ، والا فلا يمكن احرازها بعموم دليل الترخيص من جهة لزوم الدور ، لان شموله فرع العلم بالبدلية والمصداقية في الطرف الآخر غير المأذون فيه فلا يمكن حصول العلم بها من نفس عموم دليل الترخيص وشموله « وان أريد به » جواز الاكتفاء بالطرف الاخر مع الشك في مصداقيته للمأمور به لمحض الاذن في ارتكاب بعض الأطراف نظرا إلى حصول المؤمن وهو الاذن كما يظهر ذلك من التزام هذا القائل في ذيل كلامه بان الأصل النافي للتكليف في بعض الأطراف إذا كان بلا معارض موجب للتأمين في الطرف الذي يجرى فيه ولو لم يقم دليل على كون الطرف الآخر بدلا ومصداقا للمعلوم بالاجمال ولا كان فيه أصل مثبت للتكليف من غير ناحية العلم الاجمالي ( فيتوجه ) عليه ما ذكرنا من لزوم جواز الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية في مورد العلم التفصيلي بالتكليف أيضا باجراء مثل حديث الرفع ونحوه عند الشك في تحقق شرطه أو جزئه لكونه موجبا للتأمين على ترك الموافقة المشكوكة أو المخالفة غير المعلومة ومانعا عن حكم العقل بعدم جواز الاكتفاء بمشكوك الفراغ ( وبما ذكرنا ) ظهر انه لا مجال لمقايسة الأصول المرخصة بالامارات النافية القائمة على نفي التكليف في طرف خاص ، حيث إن جواز الاخذ بالامارة النافية انما هو من جهة مثبتية الامارة بمدلولها الالتزامي لتعيين المعلوم بالاجمال في الطرف الآخر الموجب لكونه مصداقا جعليا للمأمور به في مقام تفريغ الذمة ، فان دليل الحجية كما يشمل ظهورها في المدلول المطابقي كذلك يشمل ظهورها في المدلول الالتزامي ( وهذا ) بخلاف الأصول المرخصة أو النافية للتكليف إذا فرض جريانها في بعض أطراف العلم بلا معارض ، فإنه ليس لها مثل هذه الدلالة ، لان غاية ما تقتضيه تلك الأصول انما هو البناء على الحلية والترخيص في الارتكاب في الطرف المأذون فيه ، واما اقتضائها للبناء على كون المعلوم بالاجمال هو المشتبه الاخر فلا « نعم » لازم البناء على الحلية في طرف مع العلم الاجمالي بحرمة أحد الامرين هو البناء على كون الحرام المعلوم في الطرف الآخر غير المأذون فيه ، ولكن الاخذ بمثل هذا اللازم مبنى على حجية المثبت ، بدعوى

ص: 315

شمول اطلاق التنزيل لمثل هذه اللوازم العقلية أو العادية ولكن ذلك مع أنه مخصوص بالأصول التنزيلية لا في مثل حديث الحجب والرفع ودليل الحلية على أحد الوجهين خلاف « ما هو التحقيق » من عدم حجية مثبتات الأصول فلا مجال لجريانها في طرف العلم بلا ثبوت جعل بدل من الخارج وان فرض كونها بلا معارض * ولا ينتقض * ذلك بما لو كان المتكفل لتطبيق دليل الترخيص على بعض أطراف العلم هو الشارع حيث يؤخذ بالترخيص في الطرف المأذون فيه ويكتفي في موافقة العلم بالاجتناب عن الطرف الآخر ( لان ) هذا الفرض لو فرض تحققه فلابد بمقتضى تنجيزية حكم العقل بتحصيل الفراغ الجزمي ، من التصرف في ترخيصه بجعله كناية عن جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع ، أو المصير إلى حجية المثبت في خصوص ذلك المورد فرارا عن الترخيص بلا جعل بدل ( كما لا ينتقض ) أيضا بموارد الدوران بين التكليفين المترتب أحدهما على عدم التكليف بالآخر كما في نذر الصوم المعلق على عدم كونه مديونا ، وكما في وجوب الحج المترتب على عدم كونه مكلفا بأداء دين ونحوه مما يوجب دعم الاستطاعة من جهته ، بدعوى انه لا شبهة في بنائهم على اثبات وجوب الصوم والحج في المثالين باجراء الأصول النافية مطلقا حتى غير التنزيلية بالنسبة إلى الدين ونحوه وانه لا يكون ذلك الا من جهة اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية ، والا فبناء على علية العلم الاجمالي ومنعه عن جريان الترخيص في بعض الأطراف بلا جعل بدل في الرتبة السابقة ، لا مجال لاجراء الأصول المرخصة في المثالين بالنسبة إلى التكليف بأداء الدين فان في رتبة جريانها لم يثبت تكليف بالصوم والحج بل ثبوت التكليف بهما انما يكون في رتبة متأخرة عن جريان الأصول بالنسبة إلى التكليف بالدين ، ومثله لا يناسب علية العلم الاجمالي ( إذ نقول ) ان بنائهم على جريان الأصل النافي بالنسبة إلى الدين ونحوه في نحو المثال المزبور انما هو بالنظر إلى ما يترتب عليه من الأثر الوجودي وهو ثبوت التكليف بالصدقة في المثال الأول والحج في الثاني الموجب لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير بالنسبة إلى طرفه ، لا انه بدوا بلحاظ صرف الترخيص والمعذورية فيه ( ومن الوضح ) انه مثله لا ينافي علية العلم الاجمالي ، لأنه بهذه الجهة يكون من قبيل الأصول المشتبه للتكليف في

ص: 316

بعض أطراف العلم الموجبة لسقوطه عن التأثير بالنسبة إلى الطرف الآخر ، ورجوع الشك فيه بدويا كما لو لم يكن له اثر غير ذلك ، ففي الحقيقة يكون ذلك نحو حيلة لايجاد العذر والتسهيل على المكلف باجراء الأصول النافية في بعض أطراف العلم ، ولكن لا بلحاظ نفس العذر والتسهيل كي ينافي علية العلم الاجمالي بل بمعونة احداث التكليف بالتصدق والحج الموجب لسقوط العلم عن التأثير ، ولا فرق في ذلك بين ان يكون التكليف مترتبا شرعا على عدم التكليف بالدين واقعا ، أو على مطلق الحكم الأعم من الواقعي والظاهري ، غير أنه على الأول ينحصر الأصل الجاري في الدين في مقام اثبات التكليف بالأصول المحرزة كالاستصحاب ، بخلاف الثاني فإنه يكفي لاثبات التكليف المزبور الأصول غير التنزيلية أيضا ( ثم إن ذلك ) كله في فرض ترتب التكليف المزبور على عدم التكليف بالدين واقعا أو على مطلق عدم التكليف بالدين ولو ظاهرا ( واما لو كان ) مترتبا على مجرد معذورية المكلف عن الدين ولو عقليا كما في الحج بناء على ترتب وجوبه على القدرة الناشئة عن مطلق معذورية المكلف عن الدين أو عن تكليف آخر ، فجريان البراءة عن التكليف بالدين في هذا الفرض انما هو من جهة عدم منجزية مثل هذا العلم الاجمالي ( فان ) صلوح تأثيره في التنجيز انما يكون في فرض قابلية كل طرف من جهة احتمال انطباق المعلوم عليه للتنجز من قبله في عرض تنجز الطرف الآخر على نحو كان العلم الاجمالي محدثا عقلا لايجاب الحركة على وفق المحتملين كما في العلم الاجمالي بحرمة أحد الانائين حيث لا ينفك منجزية العلم الاجمالي في كل طرف عن منجزيته في الطرف الآخر ( ومن ) الواضح ان ذلك غير متصور في المقام ، إذ لا يكاد يجتمع منجزية العلم الاجمالي للتكليف بالحج مع منجزيته للتكليف بالدين لان في فرض منجزيته للتكليف بالدين نقطع بعدم وجوب الحج واقعا فلا يحتمل وجوبه كي يتنجز من قبله ومعه لا يصلح العلم المزبور للمنجزية ( وهذا ) بخلاف فرض ترتب وجوبه على عدم التكليف بالدين واقعا ( فان ) في فرض منجزية العلم للتكليف بالدين يحتمل وجوب الحج أيضا لاحتمال براءة ذمته عن الدين واقعا فلا قصور في العلم الاجمالي في منجزيته لكل من التكليفين لولا اقتضاء الأصل النافي للتكليف في طرف لاثبات التكليف في الطرف الآخر * وعلى كل حال *

ص: 317

لا مجال للتشبث بمثل هذه الموارد لاثبات اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية لما عرفت من عدم كون الترخيص الجاري فيها منافيا مع علية العلم الاجمالي لوجوب تحصيل الجزم بالفراغ عند الاشتغال بالتكليف.

« هذا كله » مضافا إلى ما يلزم القول بالاقتضاء من الالتزام بالتخيير في الأصول النافية المشتملة على الترخيص على خلاف الواقع ، وذلك لا من جهة بقاء أحدهما لا بعينه تحت عموم دليل الترخيص كي يقال ان أحدهما المخير ليس من افراد العام ، بل من جهة تقييد اطلاق دليل الترخيص الجاري في كل طرف بحال عدم ارتكاب الاخر * لان * منجزية العلم الاجمالي وعليته لحرمة المخالفة القطعية على مسلك الاقتضاء انما يكون مانعا عن اطلاق الترخيص في كل واحد من طرفي العلم بالنسبة إلى حال الاجتناب عن الطرف الآخر وعدمه المستتبع لتجويز الجمع بينهما في الارتكاب ، وبالتقييد المسطور يرتفع المحذور المزبور ، ولا يحتاج إلى ارتكاب التخصيص باخراج كلا الفردين عن عموم أدلة الأصول ولو بضميمه بطلان الترجيح بلا مرجح ( إذ لا وجه ) لارتكاب التخصيص بعد امكان ابقاء كلا الفردين تحت عموم أدلة الأصول بتقييد الترخيص الجاري في كل طرف بحال عدم ارتكاب الاخر ( ونتيجة ) ذلك هو الالتزام بالتخيير في جريان الأصول في أطراف العلم ، لا التساقط * مع أن * ذلك مما لا يلتزم به أحد فيما اعلم * فان * بنائهم طرا على عدم جريان الأصول النافية في أطراف العلم الاجمالي ولو على نحو التقييد بالتقريب الذي ذكرناه * وقد أجاب * بعض الأعاظم قده عن هذا الاشكال بما حاصله ان التخيير في الموارد التي نقول به عند عدم قيام دليل عليه بالخصوص لابد وأن يكون بأحد الامرين ( أحدهما ) من جهة اقتضاء الكاشف والدليل الدال على الحكم ، كما لو ورد دليل عام على وجوب اكرام العلماء وعلم بخروج زيد وعمرو عن حكم العام في الجملة ، ولكنه شك في أن خروجهما عن عمومه هل هو على وجه الاطلاق بحيث لا يجب اكرامهما في حال من الأحوال ، أو أن خروجهما لا يكون على وجه الاطلاق بل كان خروج كل منهما مشروطا ومقيدا بحال اكرام الاخر بنحو يلزم من خروج كل منهما عن العام دخول الاخر فيه ، فالتزم في ذلك بان الوظيفة هو

ص: 318

التخيير في اكرام أحد الفردين وترك اكرام الاخر من جهة رجوع الشك بعد دوران التخصيص بين الافرادي والأحوالي إلى الشك في مقدار الخارج عن العموم المزبور ، المعلوم لزوم الاقتصار فيه على المتيقن خروجه وهو التخصيص الأحوالي فقط ( وثانيهما ) من جهة اقتضاء المدلول والمنكشف ولو مع عدم اقتضاء الدليل والكاشف لذلك ، كما في موارد تزاحم الواجبين في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما ( وشئ ) من الوجهين غير تام في باب تعارض الأصول ( إذ لا ) شاهد عليه لا من جهة الدليل والكاشف ولا من جهة المدلول والمنكشف ، اما الأول فمن جهة اقتضاء دليل كل أصل من الأصول العملية جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أم لا ، وعدم ما يوجب التخيير في اجراء الأصلين المتعارضين ، واما الثاني فمن جهة ان المجعول في باب الأصول العملية انما هو مجرد الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل اما بقيد انه الواقع ، واما لا بقيد ذلك على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها ، مع اعتبار أمور ثلاثة فيه ، أحدها الجهل بالواقع ، وثانيها امكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وثالثها عدم لزوم المخالفة العملية من اجرائها الموجب لانتفاء الحكم الظاهري بانتفاء أحد هذه الأمور الثلاثة ( وحيث ) انه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جميعا ، وجعل أحدهما تخييرا وان كان ممكنا الا انه يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ولا من ناحية المجعول فيها لعدم كون المجعول فيها معنى يقتضى التخيير انتهى ( ولكن لا يخفى ) ما فيه فإنه لم يعرف وجه للفرق بين المقام وبين ما ذكره من المثال في موارد ثبوت التخيير من جهة اقتضاء الكاشف بل المنكشف أيضا ( إذ نقول ) ان عموم دليل الأصل كقوله كل شيء لك حلال بعدما يقتضى بنفسه الشمول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، انما هو بمنزلة عموم اكرام العلماء في المثال ، وحكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية المخرج لكلا المشتبهين في الجملة عن عموم دليل الحلية ، بعينه بمنزله ذلك المخصص المخرج لزيد وعمرو عن عموم اكرام العلماء ، والشك في أن خروج كل واحد من الطرفين عن عموم الحلية على وجه الاطلاق الشامل لحالي ارتكاب الاخر وعدمه

ص: 319

أولا على وجه الاطلاق بل مقيدا بحال عدم ارتكاب الاخر ، بمنزلة تردد خروج زيد وعمر وفي المثال في كونه على وجه الاطلاق أو مقيدا بحال عدم اكرام الاخر بنحو يلزم من خروج أحدهما عن العموم دخولي الاخر فيه ، فكما ان بعموم أكرم العلماء في المثال يعين التخصيص الأحوالي ويقال ان الوظيفة هو التخيير في اكرام أحدهما وترك اكرام الاخر « كذلك » بعموم دليل الحلية في المقام لكل من المشتبهين بعين التخصيص الأحوالي ويثبت التخيير في اجراء أحد الأصلين المتعارضين ، جمعا بين عموم دليل الحلية لكل واحد من الفردين ، وبين حكم العقل بعدم امكان الجمع بين الحليتين ، بل التخيير في المقام أوضح مما في المثال * لان * المنع العقلي فيه بدوا انما كان عن الاطلاق الحالي في الأصل الجاري في كل واحد من الفردين الموجب للجمع بينهما في الحكم بالحلية ، لا عن أصل عموم الحلية لكل واحد منهما ولو مقيدا بحال دون حال ، فبالتقييد الحالي يرتفع المنع العقلي ، وتصير النتيجة هو التخيير في اجراء أحد الأصلين ، بخلاف المثال فان الحكم بالتخيير فيه انما هو من جهة قضية الاقتصار على المتيقن خروجه بعد اجمال المخصص ودورانه بين كونه أفراديا وأحواليا ( وتوهم ) ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي انما هو من جهة عدم انحفاظ مرتبه الحكم الظاهري مع العلم الاجمالي لا من جهة مخصص لعمومه * مدفوع * بما تقدم سابقا من عدم منافاة مجرد العلم الاجمالي مع قطع النظر عن منجزيته عن شمول الأصل ثبوتا لأطراف العلم بعد الشك الوجداني في كل واحد منها * وبما ذكرنا * ظهر امكان تطبيق التخيير في المقام على التخيير في باب المتزاحمين * بتقريب * ان عدم امكان الجمع بين الفعلين في المتزاحمين كما يكون مانعا عن الاخذ باطلاق التكليفين في الفعلية لكونه من التكليف بما لا يطاق « كذلك » يكون حكم العقل بامتناع الجمع بين الحليتين مانعا عن الاخذ باطلاق الحليتين ، وكما أن المانع في المتزاحمين لا يقتضى الا رفع اليد عن إحدى الفعليتين لا عن كليتهما ، كذلك لا يقتضي هذا المانع الا رفع اليد عن إحدى الحليتين لا عن كليتهما ( ولازمه ) هو الالتزام بالتخيير في المقام أيضا ، اما بالتقييد الحالي في اطلاق الحلية لكل من الطرفين ، واما لكشف العقل الحلية التخييرية بعين كشف الحكم التخييري في

ص: 320

المتزاحمين بعد سقوط التكليفين ، لوجود الملاك التام في كل من الحليتين كالتسهيل على المكلفين ونحوه لا البناء على التساقط واخراج كلا الفردين عن عموم الحلية ، ولعمري ان هذا الاشكال على القول بالاقتضاء في الوضوح بمثابة لا مجال للخدشة فيه ولا للذب عنه الا بالالتزام بعلية العلم الاجمالي للموافقة القطعية.

( ثم إن لازم ) القول بالاقتضاء جواز الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في بعض الأطراف عند خلوه عن المعارض في الطرف الآخر كما يفرض ذلك في العلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين اللذين كان أحدهما متيقن الطهارة سابقا ، فان مقتضى ذلك بعد تعارض أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر مع استصحاب الطهارة في متيقن الطهارة ، هو الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الاناء الجاري فيه استصحابها ، نظرا إلى سلامتها عن المعارض في ظرف جريانها ، لسقوط معارضها في المرتبة السابقة عن جريانها بمعارضته مع الاستصحاب الحاكم عليها ( مع أن ذلك ) كما ترى لا يظن التزامه من أحد ، حيث إن ظاهر الأصحاب قدس اللّه اسرارهم هو التسالم على عدم ترتيب اثار الطهارة على مثله من جواز شربه واستعماله فيما يعتبر فيه الطهارة كما يكشف عنه حكمهم بلزوم اهراقهما والتيمم للصلاة كما في النص الشامل باطلاقه لمثل الفرض ( وقد يقال ) في التفصي عن ذلك بان عدم التزامهم بالطهارة في نحو الفرض المزبور انما هو من جهة سقوط أصالة الطهارة فيه بمعارضتها مع أصالة الطهارة الجارية في الاناء الاخر ( بتقريب ) ان تعارض الأصول انما هو باعتبار تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ( وحيث ) ان المجعول والمؤدى في كل من القاعدة والاستصحاب لا يكون الا طهارة واحدة لمشكوك الطهارة والنجاسة ، لا طهارتان مستقلتان ، تارة بمقتضى الاستصحاب وأخرى من جهة القاعدة ، لوضوح عدم امكان جعل الطهارتين لشئ واحد ، لأنه مضافا إلى لغوية الجعل الثاني بعد جعل الأول بمقتضى الاستصحاب ، يلزم اجتماع المثلين في موضوع واحد ( فلا جرم ) بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين ووحدة المؤدى والمجعول في كل من الاستصحاب والقاعدة ، تعارض قاعدة الطهارة في الاناء الاخر مع كل من

ص: 321

الاستصحاب والقاعدة في متيقن الطهارة ، فتسقط الجميع في عرض واحد ، ولا يلتفت إلى ما بين استصحاب الطهارة وقاعدتها من الحكومة بعد اتحاد المجعول فيهما ( ولكن فيه ) أولاً ان الممتنع انما هو جعل الطهارتين لشئ واحد في عرض فارد ، واما جعل الطهارتين الطوليتين بنحو يكون أحد الجعلين في طول الجعل الاخر وفي ظرف عدم ثبوته ، فهو في غاية الامكان ، إذ لا محذور من مثل هذين الجعلين بعد عدم اجتماعهما في زمان واحد بل ومرتبة واحدة وعدم ثبوت المتأخر الا عند عدم ثبوت المتقدم ومعه يبقى الاشكال على حاله لجريان قاعدة الطهارة في الاناء الجاري فيه استصحابها بلا معارض ( وثانيا ) مع الاغماض عن ذلك ، نقول انه بعد جعل الشارع لهذا المجعول الواحد طريقين أحدهما في مرتبة الدلالة والحجية في طول الاخر بحيث لا يكاد وصول النوبة إلى التعبد بعموم الثاني الا بعد سقوط عموم الأول عن الحجية ولو بالتعارض ، لا بأس في الاخذ بالقاعدة والتمسك بعمومها في ظرف سقوط الاستصحاب عن الحجية بالتعارض ( وما أفيد ) من معارضه قاعدة الطهارة في الاناء الاخر مع كل من الاستصحاب والقاعدة في متيقن الطهارة « مدفوع » بان الأصل الواحد الجاري في طرف وان كان يعارض الأصول المتعددة في الطرف الآخر ، الا انه لا يعارض الا ما كان جاريا في ظرف جريانه « وبعد ما » لا تجرى قاعدة الطهارة في مستصحب الطهارة الا في ظرف سقوط أصالة الطهارة في الطرف الآخر في المرتبة السابقة عن جريانها بالمعارضة مع الاستصحاب الحاكم عليها ، لا مجال لدعوى السقوط فيها كما هو واضح « مع أن » لازم البيان المزبور هو المنع عن جريان قاعدة الطهارة في طرف المسبب أيضا عند سقوط الأصل الجاري في السبب بالمعارضة كما في الثوب المغسول في الاناء المتيقن طهارته في الفرض ، وكذا المغسول بالماء المتمم كرا بطاهر أو نجس ، نظرا إلى ما يلزمه من تعدد الجعل فيه « تارة » من ناحية الأصل الجاري في السبب وهو الماء بلحاظ كونه من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء المغسول به الموجب لكون التعبد بطهارته تعبدا بطهارة الثوب أيضا ( وأخرى ) من جهة الأصل الجاري في نفس الثوب في ظرف سقوط الأصل السببي ( فلا بد ) ح من المنع عن جريان استصحاب

ص: 322

الطهارة أو قاعدتها فيه بعين مناط المنع عن جريان قاعدة الطهارة في الطرف الجاري فيه استصحابها ، وهو كما ترى لا يظن توهمه من أحد « فلا محيص » من الالتزام بجريان أصالة الطهارة في طرف الثوب في نحو المثال المزبور عند سقوط الأصل الجاري في طرف السبب ، اما بمناط الطولية بين الجعلين كما ذكرناه ، واما بمناط الطولية بين الطريقين في فرض وحدة المجعول وعدم تعدده « ولازمه » المصير في المقام إلى طهارة أحد الطرفين لجريان قاعدة الطهارة فيه بلا معارض ، وهذا أيضا مما لا يكون له دافع الا الالتزام بعلية العلم الاجمالي للموافقة القطعية ومنعه عن جريان الأصل النافي للتكليف في بعض الأطراف ولو بلا معارض.

بقى التنبيه على أمور

( الأول ) لا فرق في منجزية العلم الاجمالي وعليته لوجوب الموافقة القطعية ، بين ان يكون المعلوم بالاجمال عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة كالعلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين ، وبين ان يكون عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما في العلم الاجمالي اما بنجاسة هذا الاناء أو غصبية الاناء الاخر ، فيجب الاجتناب عن الجميع للأدلة المتقدمة ( خلافا ) للمحكي عن صاحب الحدائق قدس فاعتبر ان يكون المعلوم بالاجمال عنوانا معينا غير مردد ، نظرا إلى أنه مع التردد بين العنوانين لا علم بخطاب جامع بينهما ( لان ) المعلوم فيه انما هو مفهوم الخطاب وهو غير صالح للتنجز « ولكن » فيه انه يكفي في تنجيز الواقع العلم بما هو منشأ انتزاع هذا المفهوم وهو الالزام المولوي بعثا وزجرا فان مناط التحميل بنظر العقل انما هو احراز طبيعة امر المولى أو نهيه بلا دخل خصوصية فيه فمع فرض انكشاف ذلك لدى العقل وعدم قصور العلم في كشفه عن الالزام المولوي بالاجتناب عن أحد الانائين يتحقق موضوع حكمه بالاشتغال ووجوب الموافقة القطعية « واما توهم » عدم تأثير العلم الاجمالي في الفرض المزبور ، بدعوى ان حرمة التصرف في العصب انما هي من الآثار المترتبة على العلم بالغصبية بحيث كان للعلم والاحراز دخل في ترتبها ، لا انها من لوازم الغصب الواقعي بشهادة بنائهم

ص: 323

على صحة الوضوء والغسل بالماء المغصوب مع الجهل بالغصبية حين الوضوء ، ومع عدم احرازها لا اثر للعلم الاجمالي المزبور ، إذ لا يحدث من مثله العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير « لان » أحد الطرفين وهو مشكوك الغصبية لا تكليف بالاجتناب عنه ، والطرف الآخر وهي النجاسة يرجع الشك فيها إلى الشك البدوي ( فمدفوع ) بمنع دخل العلم والاحراز في موضوع الحرمة في طرف الغصب ، بل تمام الموضوع لها كما تقتضيه النصوص وكلمات الأصحاب انما هو الغصب الواقعي علم به المكلف أو جهل ، غاية الامر مع الجهل به يكون المكلف معذورا كمعذوريته في شرب النجس مع الجهل بالموضوع أو الحكم لا عن تقصير ، وبنائهم على صحة العبادة مع الجهل بالغصبية ولو على الامتناع وتغليب المفسدة ، انما هو من هذه الجهة لاشتمال الماتى به « ح » على المصلحة وتأثيرها في حسنه الفعلي ولو من حيث صدوره عن الفاعل بعد عدم تأثير المفسدة الغالبة مع المعذورية بالجهل المزبور في المبغوضية الفعلية ، ولذلك لا يفرقون في الحكم بالصحة والمعذورية من جهة العقوبة بين الجهل بالموضوع والجهل بالحكم لا عن تقصير ( و ح ) فإذا لم يكن قصور في العلم الاجمالي في كشفه عن الالزام المولوي المردد في البين ، فلا محالة يؤثر في التنجيز ولازمه بحكم العقل هو الخروج عن عهدة التكليف بترك التصرف في كل من الانائين وترتيب اثار كل من النجاسة والغصب على كل منهما تحصيلا للموافقة القطعية لكلا الحكمين.

( الامر الثاني ) الظاهر أنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية ، بين الموجودات فعلا ، والموجودات تدريجا لجريان الأدلة المتقدمة واتحاد المناط فيهما فيجب على المرأة المضطربة التي تعلم أنها تحيض في الشهر ثلاثة أيام الاجتناب عن قرائة الغرائم ودخول المساجد ويجب على زوجها الاجتناب عن وطيها في تمام الشهر ( وكذا ) يجب على التاجر الذي يعلم ابتلائه في يومه أو شهره بالمعاملة الربوية الامساك عن ما لا يعلم حكمه من المعاملات في تمام اليوم والشهر ( من غير فرق ) في ذلك بين ما يكون الزمان فيه مأخوذا على نحو الظرفية المحضة بلا دخل فيه لا في التكليف ولا في موضوعه كما في المثال الثاني ، وبين ما يكون الزمان فيه مأخوذا على نحو القيدية ، للمكلف به كما

ص: 324

لو نذر أو حلف على ترك الوطي في ليلة خاصة واشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، أو لنفس التكليف كمثال الحيض المتقدم فان لأيام الحيض دخل في ملاك الحكم وفي أصل التكليف بترك الوطي والعبادة ودخول المساجد وقراءة العزائم ( فان ) في جميع هذه الصور لابد بمقتضى العلم الاجمالي من الاحتياط بالاجتناب عن جميع الأطراف ( اما الصورة الأولى ) كمثال العلم بالابتلاء بالمعاملة الربوية في خلال اليوم أو الشهر ، فظاهرة « للعلم » بالتكليف الفعلي من أول اليوم أو الشهر بالاجتناب عن المعاملة الربوية في تمام اليوم أو الشهر ، فلابد من التحرز في تمام اليوم والشهر عن كل معاملة يحتمل كونها ربوية « نعم بناء » على عدم التفكيك بين ظرف فعليته التكليف وظرف فاعليته الذي هو ظرف المأمورية وارجاع الواجب المعلق لأجله إلى الواجب المشروط بزمانه « لابد » من الحاق هذه الصورة بالواجب المشروط للاشكال حينئذ في تأثير مثل هذا العلم الاجمالي بعدم تعلقه بالتكليف الفعلي على كل تقدير ( بداهة ) انه على المبنى المزبور لا يكاد يكون التكليف بالترك في اخر اليوم والشهر فعليا من أول اليوم والشهر كي يصدق العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي على الاطلاق من أول اليوم والشهر ، بل لابد وأن يكون التكليف بالترك في اخر اليوم مشروطا بزمانه لرجوعه إلى دخل الزمان فيه في أصل الخطاب وتوجيه التكليف الفعلي بالنسبة إليه وان لم يكن له دخل في ملاك الحكم ، ولازمه جريان الأصول النافية للتكليف في جميع الأطراف لولا دعوى استقلال العقل حينئذ بقبح الاقدام على ما يؤدى إلى تفويت مراد المولى ( وبما ذكرنا ) ظهر الحال في الصورة الثانية أيضا ، فإنه على المختار من امكان المعلق كما حققناه في مبحث مقدمة الواجب لا اشكال في وجوب الاجتناب ، لامكان التكليف الفعلي من الحين بالنسبة إلى الامر الاستقبالي قبل مجيء وقته فيجب بمقتضى العلم الاجمالي الاحتياط بترك الوطي في كل من الليلتين ولزوم حفظ القدرة فعلا على الطرف الآخر في ظرفه وموطن قيده ، لاقتضاء فعلية الخطاب حينئذ لاحداث الإرادة الغيرية نحو المقدمات المفوتة حتى في الموقتات قبل وقتها ، كما يكون ذلك هو الشأن في فرض كون الخطاب وجوبيا ( فإنه ) مع العلم الاجمالي بوجوب أحد الامرين يحكم العقل بلزوم الآيتان بالطرف الفعلي مع حفظ القدرة على الطرف

ص: 325

الاخر في موطنه ، من دون احتياج إلى خطاب آخر مسمى بمتمم الايجاب وبالوجوب التهئ ، ولا إلى اتعاب النفس باثبات انه مع العلم بتحقق الملاك الملزم فيما بعد يستقل العقل بقبح تفويته ( نعم ) انما يتجه ذلك بناء على ارجاع المعلق إلى المشروط لعدم التفكيك بين ظرف فعلية التكليف وظرف المأمور به ( فإنه بعد ) ما لا يكون التكليف بترك الوطي في الليلة المتأخرة فعليا من الليلة الحاضرة لخروجه عن القدرة فعلا ، يحتاج في المنع عن جريان الأصول النافية إلى دعوى استقلال العقل في ظرف العلم بتحقق الغرض الملزم من المولى ، بلزوم حفظ القدرة على تحصيله وقبح الاقدام على ما يوجب فواته المنتج في المقام لحكمه بترك الاقتحام في الطرف الفعلي مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في زمانه ( وبذلك اتضح ) حكم ما إذا كان للزمان دخل في كل من الملاك والخطاب كالحيض المردد بين كونه في أول الشهر أو اخره ( فإنه ) وان لم يكن تأثير للعلم الاجمالي لعدم تعلقه بالتكليف الفعلي في شيء من آنات أزمنة الشهر ( الا انه ) بعد استقلال العقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مطلوب المولى لابد من الاحتياط بترك الاقتحام في الطرف الفعلي مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في زمانه ، لرجوع العلم الاجمالي المزبور مع هذا الحكم العقلي إلى العلم بلزوم أحد الامرين عليه ، ومعه لا يبقى المجال لجريان الأصول النافية للتكليف في الأطراف كي ينتهى الامر إلى جواز المخالفة القطعية ( ثم إن ذلك ) على ما هو المشهور في الواجب المشروط من إناطة فعلية البعث والتكليف بوجود الشرط خارجا ( واما على ) ما هو المختار فيه كما حققناه في محله من عدم اناطته الا بفرض وجود الشرط ولحاظه طريقا إلى الخارج من دون توقف لفعليته على وجوده في الخارج فالامر أوضح ، نظرا إلى فعلية الايجاب والإرادة التي هي مضمون الخطاب في الفرض المزبور ، غاية الامر محركية مثل هذه الإرادة وفاعليتها انما تكون في ظرف وجود القيد في الخارج وتطبيق العبد إياه على المورد ، ولكن مثل هذه المرحلة خارجة قطعا عما هو مفاد الانشاء في الخطابات التكليفية ، لأنها انما تنتزع عن مرتبة تأثير الخطاب في تحريك العبد نحو الإطاعة التي هي متأخرة عن مرتبة الخطاب ومضمونه فلا يمكن اخذ مثل هذه الجهة في مضمون

ص: 326

الخطاب في عالم جعل الاحكام ولتحقيق الكلام في هذه الجهة مقام آخر ، والمقصود في المقام بيان انه على المختار في الخطابات التكليفية طرا من كفاية مجرد فرض وجود الموضوع بحدوده وقيوده في لحاظ المولى طريقا إلى الخارج في فعلية مرتبة من الإرادة الباعثة إلى التوصل إلى حفظ المراد من ناحية انشاء الخطاب واقتضائها بحكم العقل بلزوم حفظ القدرة من ناحية غير شرط الوجوب ، لا قصور في المقام في صدق العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي ومنجزيته عقلا ، فإنه في ظرف العلم بحصول شرط الوجوب في موطنه بحكم العقل بمقتضى العلم الاجمالي بلزوم ترك الطرف الفعلي مع حفظ القدرة على الطرف الآخر في موطنه كما هو ظاهر.

( الامر الثالث ) الظاهر أنه لا فرق في وجوب الاحتياط بالموافقة القطعية ، بين ان يكون ثبوت التكليف في البين من جهة العلم الوجداني كما في العلم الاجمالي بنحاسة أحد الكأسين أو خمرية أحد المايعين ، وبين ان يكون بقيام طريق تعبدي عليه كما لو قامت البينة على خمرية أحد المايعين ففي الثاني أيضا لابد من اجراء قواعد العلم الاجمالي من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ومقتضاه هو المنع عن جريان الأصول النافية أيضا ولو في طرف واحد بلا معارض فضلا عن جريانها في الطرفين كل ذلك لدليل التعبد بالبينة ( نعم ) قد يتوهم حينئذ وقوع التنافي بين التعبد بنجاسة أحد الكأسين بمقتضى البينة ، وبين التعبد بطهارة كل من الكأسين بمقتضى الأصل الجاري فيهما ( بتقريب ) ان مفاد البينة لما لا يكون الا نجاسة أحد الكأسين بهذا العنوان الاجمالي ، فلا جرم تجرى أصالة الطهارة في كل واحد من الكأسين بعنوانهما التفصيلي لمكان تحقق موضوعها هو الشك الوجداني في كل واحد منهما وعدم ارتفاعه لا بالوجدان ولا بالتعبد ، لاختلاف موضوع التعبد بالبينة مع موضوع التعبد بالطهارة في الأصلين ( ومع جريان ) أصالة الطهارة فيهما يقع التنافي بين التعبد بالبينة بالنسبة إلى العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الكأسين ، وبين التعبد بكل من الأصلين في كل واحد من الكأسين ، ولا ترجيح في تقديم التعبد بالبينة على التعبد بالأصل الجاري في الطرفين ( ولا يقاس ) ذلك بالعلم الوجداني بنجاسة أحد الكأسين ، لان

ص: 327

العلم الاجمالي لما كان بنفسه كاشفا تاما عن الواقع وحجة على ثبوت التكليف في البين كان مانعا بحكم العقل عن مجيء الترخيص على خلافه في الأطراف ( وهذا بخلاف ) مثل البينة حيث إن طريقيتها لثبوت التكليف لا يكون ذاتيا كالعلم لمكان احتمال الخلاف بالوجدان وانما كان ذلك بمعونة جعل شرعي بالتعبد بها ، ومع فرض التنافي بين قضية التعبد بها وبين التعبد بالأصل الجاري في كل واحد من الأطراف ، يتوجه الاشكال في تقديم البينة على الأصل الجاري في الأطراف بعد تغاير موضوعهما وعدم اقتضاء البينة ولو بدليل اعتبارها لرفع موضوع الأصل ( ولكن يندفع ذلك ) بان مفاد البينة في مفروض البحث وان كان نجاسة أحد الكأسين بهذا العنوان الاجمالي الا ان تقديمها على الأصل الجاري في الطرفين انما يكون بمناط الحكومة لمكان ورودها على موضوع الأصلين واقتضائها بالالتزام لنفى الطهارة الثابتة في كل من الطرفين بنحو يلازم نفيها في كل طرف لثبوتها في الطرف الآخر ( توضيح ذلك ) انه لا شبهة في أن مقتضى أصالة الطهارة في الطرفين مع قطع النظر عن قيام البينة على نجاسة أحدهما انما هو طهارة كل واحد من الكأسين بالطهارة المطلقة المجتمعة مع طهارة الكاس الاخر ، واما بعد قيام البينة على نجاسة أحدهما ، فحيث انه يلازم قيامها على ذلك لقيامها على انتفاء تلك الطهارة المطلقة التي يقتضيها الأصل في كل منهما ، فلا محاله بشمول دليل اعتبارها لمدلولها الالتزامي ترتفع تلك الطهارة المطلقة الثابتة بمقتضى الأصل لكل واحد من الطرفين ، ولازمه الغاء التعبد بالأصلين في كل من الطرفين من هذه الجهة لحكومة دليل التعبد بالبينة من هذه الجهة حسب اقتضائه لتتميم الكشف على دليل التعبد بالطهارة فيهما ( نعم ) بعد قيام البينة على نحاسه أحد الكأسين واقتضائها بدليل اعتبارها لالغاء احتمال تلك الطهارة المطلقة فيهما ، يحدث شك اخر في طهارتهما على نحو يلازم طهارة كل منهما لنجاسة الاخر ( ولكن ) نشؤ هذا الشك حيث كان من قبل قيام البنية على نجاسة أحدهما ، يتمحض التنافي في هذه المرحلة بين الأصلين الجاريين في الطرفين لاقتضاء كل أصل لقصر الطهارة في مورده وفى مثله لابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية المستلزم للمنع عن جريان الأصل ولو في طرف

ص: 328

واحد بلا معارض.

( الامر الرابع ) لو كان العلم الاجمالي في أطراف غير محصورة عرفا ، ففي تأثيره في وجوب الاجتناب مطلقا أو بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية وعدمه خلاف بين الاعلام والمشهور على عدم وجوب الاحتياط ، وتنقيح الكلام فيه يقع من جهتين ( الأولى ) في بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة ( الثانية ) في بيان حكمها ( اما الجهة الأولى ) فقبل التعرض لها لا بأس بتمهيد مقدمة في تحرير موضوع البحث ، وهي انه لا شبهة في أن البحث في المقام عن منجزية العلم الاجمالي وعدمه كما يقتضيه ظاهر العنوان في كلماتهم ممحض في مانعية كثرة الأطراف عن تأثير العلم وعدمه فلابد حينئذ من فرض الكلام في مورد يكون خاليا عن جميع ما يوجب المنع عن تأثير العلم الاجمالي كالعسر والحرج وكالاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، أو خروجه عن مورد الابتلاء ، بحيث لولا كثرة الأطراف لكان العلم الاجمالي منجزا بلا كلام ، والا فمع طر واحد هذه الطوارئ لا يفرق بين المحصور وغيره ، لان في المحصور أيضا لا يجب الاحتياط فلا خصوصية حينئذ لغير المحصور كي يصح جعله عنوانا برأسه في قبال المحصور ( وعليه ) فلا مجال للاستدلال في المقام على عدم وجوب مراعاة العلم الاجمالي ، بالعسر والحرج تارة ، وبعدم كون جميع الأطراف محل الابتلاء أخرى ، وثالثه بغير ذلك من الطوارئ المانعة عن تأثير العلم الاجمالي ( وتوهم ) ان ذلك من جهة ملازمة كثرة الأطراف مع أحد هذه الموانع خصوصا العسر والحرج ( مدفوع ) بأنه لو سلم ذلك فإنما هو في العلم الاجمالي في الواجبات ( واما ) في المحرمات المقصود منها مجرد الترك فلا ، لان كثيرا ما يتصور خلو كثرة الأطراف عن الموانع المزبورة ( مع أن العبرة ) حينئذ تكون بها لا بكثرة الأطراف ( وبعد ما عرفت ) ذلك نقول انهم ذكروا وجوها في ضابط كون الشبهة غير محصورة ( منها ) ما عن الشيخ قدس سره من تحديده بما بلغ كثرة الأطراف إلى حد يوجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي فيها ، لما هو المعلوم من اختلاف حال العلم الاجمالي عند العقلاء في التأثير وعدمه مع قلة المحتملات وكثرتها ، كما يرى بالوجدان الفرق الواضح بين قذف أحد

ص: 329

الشخصين لا بعينه وبين قذف أحد من في البلد ، حيث يرى تأثير كلا الشخصين في الأول وعدم تأثير أحد من في البلد في الثاني وكذا لو أخبر شخص بموت شخص مردد بين ولده وشخص اخر أجنبي ، فإنه يضطرب حاله بمجرد سماع هذا الخبر ، بخلاف صورة الاخبار بموت شخص من أهل بلده مرددا كونه في نظره بين ولده وبين غيره من أهل البلد ، حيث لا يتأثر ولا يضطرب حاله من الاخبار المزبور ( وفيه ان ) ما أفيد من عدم اعتناء العقلاء بالضرر مع كثرة الأطراف ، انما يتم في مثل المضار الدنيوية ، وذلك أيضا فيما يجوز توطين النفس على تحملها لبعض الاعراض ، لاما يكون مورد الاهتمام التام عندهم كالمضار النفسية ، والا ففيها يمنع اقدامهم على الارتكاب بمحض كثرة الأطراف لو علم بوجود سم قاتل في كأس مردد بين الف كؤوس أو أزيد يرى أنه لا يقدم أحد على ارتكاب شيء من تلك الكؤوس وان بلغت الأطراف في الكثرة ما بلغت ، لا في المضار الأخروية التي يستقل العقل فيها بلزوم التحرز عنها ولو موهوما ، فان في مثله لابد في تجويز العقل للارتكاب من وجود مؤمن يوجب القطع بعدم العقوبة على ارتكابه ولو باخراجه عن دائرة المفرغ بجعل ما هو المفرغ غيره من الأطراف الاخر ، والا فبدونه لابد من الاحتياط بالاجتناب عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه ولو موهوما ، نظرا إلى مساوقة احتمال المزبور لاحتمال الضرر والعقوبة المحكوم بحكم العقل بوجوب دفعه والتجرز عنه ( ومنها ) تحديده كما عن جماعة بما بلغ كثرة الأطراف إلى حد يعسر عدها في زمان قليل ( وفيه ) أيضا ما لا يخفى ، فان لازمه ان يكون العلم الاجمالي بنجاسة حبة من الحنطة أو الأرز أو غصبيتها في ضمن أوقية من غير المحصور للمناط المزبور ، مع أنه كما ترى لا يظن منهم الالتزام بذلك ( ومنها ) ما عن بعض الاعلام قدس سره من تحديد عدم حصر الشبهة ببلوغ كثرة الأطراف إلى حد لا يتمكن المكلف عادة من جمعها في الاستعمال من اكل أو شرب أو غيرهما ، لا مجرد كثرة الأطراف ولو مع التمكن العادي من المخالفة بالجمع بين الأطراف في الاستعمال ، ولا مجرد عدم التمكن العادي من الجمع بينها من دون كثرة الأطراف ( وفيه ) ان أريد من عدم التمكن من الجمع بين الأطراف في

ص: 330

الاستعمال عدم التمكن منها ولو تدريجا بمضي الليالي والأيام ، فلا ريب في فساده إذ ما من شبهة غير محصورة الا ويتمكن المكلف من الجمع بين أطراف الشبهة ولو تدريجا وفى أزمنة طويلة ( وان أريد ) بذلك عدم التمكن من الجمع بينها في زمان قصير ، فهذا يحتاج إلى تحديده بزمان معين ولا معين في البين « مع أن لازمه » اندراج الشبهة الكثير في الكثير في غير المحصور من جهة تحقق الضابط المزبور كما في العلم الاجمالي بنجاسة الف ثوب في الفين ، مع أنه لا شبهة كما سيجيء في كونها ملحقة بالمحصور « وحينئذ فالأولى » ان يقال في تحديد كون الشبهة غير محصورة ان الضابط فيها هو بلوغ الأطراف في الكثرة بمثابة توجب ضعف احتمال وجود الحرام في كل واحد من الأطراف بحيث إذا لو خط كل واحد منها منفردا عن البقية يحصل الاطمينان بعدم وجود الحرام فيه الملازم للاطمينان بكون الحرام المعلوم في بقية الأطراف « وتوهم » منافاة الاطمينان بالعدم في كل واحد منها مع العلم الاجمالي بوجود الحرام في بعضها لضرورة مضادة العلم بالموجبة الجزئية مع الظن بالعدم في كل طرف بنحو السلب الكلي ( مدفوع ) بأنه كذلك في فرض اقتضاء ضعف الاحتمال في كل طرف للاطمينان بعدم التكليف فيه تعينيا ولو ملحوظا معه غيره من الأطراف الاخر ( واما ) اقتضاء الاطمينان بالعدم في كل طرف ملحوظا كونه منفردا عن البقية بنحو يلازم للاطمينان بالوجود فيما عداه فلا محذور فيه ، إذ لا يلزم منه اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظن بالسلب الكلي ، بل ما يلزمه انما هو العلم بالموجبة الجزئية مع الظن بالسلب الجزئي في كل طرف على البدل ولا تنافي بينهما كما هو ظاهر ( فإذا فرض ) حجية هذا الاطمينان لدى العقلاء لبنائهم على عدم الاعتناء باحتمال الخلاف البالغ في الضعف إلى هذه المثابة ولو لكونه من العلوم العادية لهم فلا يجب رعاية العلم الاجمالي بالاحتياط في الجميع ولو مع التمكن العادي من ذلك ( ثم اعلم ) ان العبرة في المحتملات قلة وكثرة انما هي بكثرة الوقايع التي تقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم بالحرام تفصيلا ، ويختلف ذلك في أنظار العرف باختلاف الموارد ، فقد يكون تناول أمور متعددة باعتبار كونها مجتمعة يعد في انظارهم وقعة واحدة كاللقمة من الأرز ويدخل المشتمل على الحرام

ص: 331

منها في المحصور كما لو علم بوجود حبة محرمة أو نجسة من الأرز أو الحنطة في الف حبة مع كون تناول الف حبة من الأرز في العادة بعشر لقمات فان مرجعه إلى العلم بحرمة تناول أحد لقماته العشر ومضغها لاشتمالها على مال لغير أو النجس ، وقد يكون تناول كل حبة يعد في انظارهم واقعة مستقلة كما لو كانت الحبوب متفرقة أو كان المقام يقتضي كون تناولها بتناول كل حبة حبة ، ومضغها منفردة فيدخل بذلك في غير المحصور ( واما الجهة الثانية ) فالمشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم شهرة عظيمة هو عدم وجوب الموافقة القطعية فيها على خلاف بينهم في حرمة المخالفة القطعية ، بل ونقل الاجتماع عليه مستفيض كما عن الروضى ومحكى جامع المقاصد ، بل عن المحقق البهبهاني قدس سره دعواه صريحا مع زيادة انه من ضرورة الدين قال في حاشيته على المدارك ان الاجماع وضرورة الدين وطريقة المسلمين في الاعصار والأمصار على عدم وجوب الاجتناب فيها ونحوه كلامه الاخر المحكى عن فوائده وهو كما أفادوه ، فإنه بالتتبع في كلماتهم في الفقه يظهر بان عدم وجوب الاجتناب في الشبهات غير المحصورة في الجملة عندهم من المسلمات ، بل يمكن دعوى كونه مغروسا في أذهان عوام المتشرعة أيضا ، ولا ينافي ذلك ما عن بعضهم من الاستدلال للحكم المزبور ، تارة بالعسر والحرج المنفيين ، وأخرى بعدم كون جميع الأطراف مع عدم الحصر مورد ابتلاء المكلف ، وثالثه بغير ذلك كالاضطرار ونحوه ، فان الظاهر أن ذلك منهم من قبيل بيان نكتة الشيء بعد وقوعه ، وبعد ذا لا يصغى إلى ما عن بعض من الوسوسة في الحكم المزبور ومصيره إلى الخلاف ، كل ذلك ( مضافا ) إلى كونه من مقتضيات الضابط الذي ذكرناه لغير المحصور ( فإنه ) مع بلوغ كثرة الأطراف إلى حد تورث الوهن في احتمال مصادفة كل فرد بشخصه للحرام الواقعي عند لحاظه منفردا عن البقية بحيث يطمئن فيه بالعدم ، يخرج احتمال التكليف في كل فرد عن مورد اعتناء العقلاء ، فلا يستقل العقل فيه بوجوب الاجتناب مراعاتا للاحتمال المزبور ( نعم ) لما كان ضعف احتمال وجود التكليف في كل فرد بانفراده ملازما لقوة احتمال وجوده في البقية ( أمكن ) دعوى ان بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال التكليف في كل فرد ( انما ) هو لاخذهم بالظن القائم بالوجود في البقية

ص: 332

الراجع إلى بنائهم على بدلية أحد الأطراف عن الواقع في المفرغية ولو تخييرا ( والا ) فضعف احتمال وجود التكليف في كل فرد لا يكون مصححا لجواز الارتكاب وان بلغ في الضعف ما بلغ خصوصا على مبنى علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ( ولعلة إلى ) ذلك يكون نظر الأصحاب في بنائهم على عدم وجوب الاحتياط ورعاية احتمال التكليف في كل فرد ، والا فمن البعيد جدا قيام اجماع تعبدي منهم في البين على الحكم المزبور كما هو ظاهر ( هذا بالنسبة ) إلى الموافقة القطعية ( واما المخالفة ) القطعية فيظهر حكمها مما ذكرناه ، فإنه على ما اخترناه من الضابط يكون العلم الاجمالي على تأثيره في حرمة المخالفة القطعية ، بل عرفت ان مقتضاه وجوب الموافقة أيضا كما في المحصور وان عدم وجوب الاجتناب عن كل فرد انما هو بمناط جعل البدل لا بمناط سقوط العلم عن التأثير بالنسبة إلى الموافقة القطعية ( والى ذلك يكون ) نظر الشيخ قدس سره في مصيره إلى حرمة المخالفة القطعية كما صرح به في صورة الشك في كون الشبهة محصورة ( نعم ) لو كان بناء العقلاء في عدم الاعتناء باحتمال التكليف في كل فرد من جهة عدم اعتدادهم بالعلم الاجمالي الحاصل في البين لخروجه لديهم عند كثرة الأطراف عن التأثير وصلاحية البيانية والمنجزية للواقع « لكان » مقتضاه جواز المخالفة القطعية أيضا « ولكن الشأن » في اثبات هذه الجهة ، ولا أقل من عدم احراز ذلك فيبقى العلم الاجمالي على تأثيره في حرمة المخالفة القطعية « ومنه يظهر » الكلام فيما لو كان المستند لجواز الارتكاب هو الاجماع ( فان المسلم منه ) هو قيامه على الترخيص في ترك تحصيل القطع بالموافقة بالاحتياط ، وذلك أيضا بمناط كشفه عن بدلية أحد الافراد عن الواقع في مقام المفرغية ولو بنحو كان اختيار تعينيه بيد المكلف ، والا فمع علية العلم الاجمالي حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، يستحيل بدونه الترخيص في البعض أيضا لمنافاته مع حكم العقل تنجيزيا بلزوم الخروج عن العهدة ، ومقتضى ذلك هو عدم جواز المخالفة القطعية لبقاء العلم الاجمالي على تأثيره في حرمتها ( نعم ) لو قيل بكشف الاجماع المزبور عن حجية تلك الظنون المتعلقة بعدم التكليف في كل فرد عند انفراده في اللحاظ عن غيره ، لأمكن دعوى عدم

ص: 333

حرمة المخالفة القطعية ، فإنه بعد أن يلازم الظن بعدم التكليف في كل فرد للظن بالوجود في البقية ، يصير كل ظن بقيامه على عدم التكليف في كل فرد مخرجا له عن دائرة المفرغ لاقتضائه بالملازمة لكون الحرام المعلوم في غيره من الأطراف ، نظير الامارات القائمة على تعيين المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف إلى أن ينتهى إلى الفرد الاخر فيكون الظن القائم بعدم التكليف فيه مخرجا له أيضا عن دائرة المفرغ لاثباته بالملازمة لكون المعلوم بالاجمال في غيره من الافراد التالفة الخارجة بآثارها عن مورد ابتلاء المكلف نظير الأمارة القائمة على تعيين المعلوم بالاجمال في أحد طرفي العلم بالخصوص بعد تلفه ( ولكن ) الكلام في استفادة ذلك من الاجماع المزبور ( فإنه ) غاية ما يقتضيه الاجماع انما هو الترخيص في ترك الموافقة القطعية بالاحتياط وبضميمة علية العلم الاجمالي للموافقة القطعية يكون المستكشف منه هو جعل بدلية أحد الافراد عن الواقع في مقام تفريغ الذمة بنحو يكون اختيار تعينيه بيد المكلف ( واما ) اقتضائه لحجية تلك الظنون فلا ، إذ ذلك يحتاج إلى دلالة وهي مفقودة ( ومع ) الغض عن ذلك ، فالمتيقن منها هو حجيتها تخييرا فيما عدى مقدار المعلوم بالاجمال الملازم لوجوب ابقاء مقدار الحرام وعدم ارتكابه ( لا حجية ) كل واحد منها تعينيا ( مضافا ) إلى العلم الاجمالي حينئذ بمخالفة أحد هذه الظنون للواقع الموجب بمقتضى بطلان الترجيح بلا مرجح لسقوط الجميع عن الحجية ( الا ان ) يدفع ذلك بأنه مع تدريجية هذه الظنون وعدم اجتماعها في زمان واحد لا يضر العلم الاجمالي المزبور ، إذ لا ينتهى الامر من حجية الجميع إلى التعبد بظنون متعددة على خلاف العلم في زمان واحد ، فتأمل ( وكيف كان ) فهذا كله على المشرب المختار في ضابط كون الشبهة غير محصورة ( واما ) على المشارب الاخر فعلى المشرب الأول الذي يرجع إليه ظاهر كلام الشيخ قدس سره من جعل ضابط عدم الحصر بلوغ كثرة الأطراف إلى حد يوجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل في البين وصيرورته لديهم كالشك البدوي ، لا اشكال في أن لازمة هو جواز المخالفة القطعية من غير فرق بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية ( واما ) على مشرب من جعل الضابط فيها بلوغ كثرة الأطراف حدا يوجب عدم التمكن العادي من الجمع بين المحتملات في الاستعمال ( فلازمه ) في الشبهة الوجوبية هو

ص: 334

التبعيض في الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية نظرا إلى امكان المخالفة القطعية ح ، بترك جميع الأطراف ( نعم ) لما لا يتمكن من الموافقة القطعية بالجمع بين الأطراف في الاستعمال يسقط وجوبها ، ونتيجة ذلك هو التبغيض في الاحتياط كما أشرنا إليه ( واما ) في الشبهة التحريمية ، فقد يقال بافتضائه لسقوط العلم الاجمالي رأسا ( اما ) بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فلعدم التمكن منها ، واما بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية لان وجوب الموافقة القطعية متفرغ على تعارض الأصول وتساقطها وهو متفرغ على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية ، ولو بعدم التمكن العادي منها فلا تعارض بين الأصول ومع عدم تعارضها لا يجب الموافقة القطعية ، ثم أشكل على ما افاده الشيخ قدس سره من التفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بحرمة الأولى وعدم وجوب الثانية ، بان حرمة المخالفة القطعية قرع التمكن من المخالفة ومع التمكن منها لا تكون الشبهة غير محصورة ( وفيه ) ان عدم امكان الجمع بين المحتملات بعدم التمكن من البعض غير المعين لا يقتضى الا عدم انتهاء الامر إلى القطع بالمخالفة لا عدم التمكن من المخالفة واقعا كي يقتضى عدم حرمة مخالفة المعلوم بالاجمال ، وحينئذ فمع فرض القدرة على فعل كل واحد في ظرف عدم الاخر ، تحرم المخالفة لا محالة ، وان لم ينتهى الامر إلى القطع بها ، ولازمه المنع عن جريان الأصول النافية الموجب لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ( واما ) ما أفيد من تعليل عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول في الأطراف ، نظرا إلى أن المانع من جريانها انما هي المخالفة القطعية العملية ومع عدم انتهاء الامر إلى القطع بها لا تعارض بينها فلا يجب الموافقة القطعية ( ففيه ) مضافا إلى جريان مثله في الشبهة المحصورة أيضا في فرض عدم تمكن المكلف من المخالفة القطعية بالجمع بين الأطراف كما لو علم بخمرية أحد المايعين ولم يتمكن الا من شرب أحدهما ، فإنه مع عدم التمكن من المخالفة القطعية لا ينتهى الامر على هذ المبنى إلى تعارض الأصول ، فلابد من المصير إلى جواز ارتكاب أحدهما ، مع أنه كما ترى لا يظن التزامه من أحد ، انه مبنى على القول باقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية ، ( والا فعلى ) القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ومانعيته عن جريان الأصل النافي للتكليف

ص: 335

ولو في بعض الأطراف بلا معارض كما هو التحقيق ، فلا يتم ذلك ( لان ) مجرد عدم التمكن من المخالفة القطعية بالجمع بين المحتملات لا تقتضي سقوط العلم عن التأثير بالنسبة إلى الموافقة القطعية مع التمكن منها بترك جميع الأطراف كما هو ظاهر ( واما ) اشكاله على الشيخ قدس سره فالانصاف انه في غير محله ( إذ هو ) قدس سره لم يقل بالضابط المذكور بل ، ولا ذكره أيضا في عداد الضوابط ( نعم ) مقتضى ما افاده قدس سره من الضابط كما ذكرناه هو جواز المخالفة القطعية ، ولكنه اعرض عنه والتزم بنحو ما ذكرناه من مؤثرية العلم الاجمالي في التنجيز كما في المحصور بنحو يمنع عن الترخيص على خلافه ولو في البعض الا بجعل بعض الأطراف بدلا ظاهريا عن المعلوم بالاجمال يقتضى قيامه مقامه في مقام الامتثال وتفريغ الذمة فراجع ( بقى الكلام ) في حكم الشك في كون الشبهة غير محصورة ( والظاهر ) هو اختلافه باختلاف الوجوه المتقدمة في ضابط عدم حصر الشبهة ( فعلى الوجه ) الأول الذي ارتضاه الشيخ قدس سره يكون ملحقا بغير المحصور لرجوع الشك في الحصر وعدمه حينئذ إلى الشك في بيانية العلم الاجمالي لدي العقلاء وصلاحيته للمنجزية فيكون المرجع في مثله هي البراءة ( واما على الوجه الثاني ) وهو بلوغ كثرة الأطراف حدا لا يتمكن من الجمع بينها في الاستعمال ، فلازمه هو الحاق صورة الشك في الحصر بالمحصور في وجوب الاحتياط ( لرجوع ) الشك المزبور حينئذ إلى الشك في القدرة مع العلم بالخطاب ووجود الملاك ، فلابد من الاحتياط لاستقلال العقل في مثله بلزوم الجري على ما يقتضيه العلم وعدم الاعتناء باحتمال العجز ( وكذلك ) الحال على الضابط المختار فمقتضاه أيضا هو الحاق فرض الشك في الحصر بالمحصور في وجوب رعاية العلم الاجمالي ( لان ) مرجع الشك في الحصر إلى الشك في جعل البدل الذي هو المصحح للترخيص في ترك الاحتياط ، ومع الشك فيه وعدم احرازه لابد من مراعاة العلم الاجمالي فيجب الاحتياط بالاجتناب عن جميع المحتملات ، هذا اتمام الكلام في الشبهة غير المحصورة ( واما ) شبهة الكثير في الكثير وهي ما كان المردد بين الأمور غير المحصورة افراد كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأمور المحصورة ، كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة موطوئة في الفين شاة ، حيث إن نسبة مجموع المعلوم بالاجمالي إلى

ص: 336

المشتبهات كنسبة الواحد إلى الأربعة ، فحكمها حكم الشبهة المحصورة بل هي في الحقيقة من افرادها فتجري فيها قواعد العلم الاجمالي من حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية

( الامر الخامس ) الظاهر أنه لا فرق في وجوب رعاية العلم الاجمالي بالموافقة القطعية ، بين ان يكون العلم الاجمالي بالتكليف في دائرة واحدة كالعلم الاجمالي بنجاسة أحد الانائين ، وبين ان يكون العلم الاجمالي بالتكليف في دائرتين كما إذا علم بوقوع قطرة بول في أحد الانائين ، اما الأبيض منهما أو الأحمر ، مع العلم أيضا بوقوع قطرة أخرى من البول اما في الاناء الأبيض أو الأسود بحيث تقع الاناء الأبيض طرفا للعلمين الاجماليين ( ففي القسم الثاني ) أيضا لابد بمقتضى العلم الاجمالي من الاجتناب عن الأواني الثلاث ، لرجوع العلمين المزبورين إلى علم اجمالي ، اما بتكليف واحد متعلق بالاجتناب عن الاناء الأبيض ، أو تكليفين متعلق أحدهما بالاجتناب عن الاناء الأحمر ، والاخر بالاجتناب عن الاناء الأسود ( فان ) مقتضى ذلك بعد تردد المعلوم بالاجمال بين المتبائنين انما هو الاجتناب عن الجميع تحصيلا لليقين بالفراغ ( وتوهم ) ان الواجب حينئذ هو الاجتناب عن الانائين منها وهما الاناء الأبيض الذي هو المجمع وآخر من الانائين الباقيين مخيرا بينهما ( بتقريب ) ان مرجع ذلك بعد تقارن العلمين واحتمال انطباق المعلوم بالاجمال فيهما على الاناء الأبيض الذي هو المجمع ، انما هو إلى الأقل والأكثر حيث كان الاناء الأبيض من جهة وقوعه طرفا للعلمين مما يعلم بوجوب الاجتناب عنه على كل تقدير ، غير أنه لا بد من ضم أحد الانائين الآخرين إليه من جهة طرفيته له وبالاجتناب عنهما يصير الشك بالنسبة إلى الاناء الباقي بدويا ، فيرجع فيه إلى البراءة ( مدفوع ) بمنع رجوع الشبهة في المقام إلى الأقل والأكثر ، كيف وان ضابط كون الشبهة من صغريات الأقل والأكثر كما سيجيء انشاء اللّه تعالى هو ان يكون ما فرض كونه أقلا مما يعلم بوجوبه أو حرمته على كل تقدير بحيث كان الأقل محفوظا في ضمن الأكثر ولولا بحده كما في العلم باشتغال الذمة بالدين المردد بين كونه درهما أو درهمين ( كما أن ) ضابط كون الشبهة من المتائيين ، هو ان لا يكون هناك شيء متيقن الوجوب أو الحرمة على كل تقدير بان كان التكليف المعلوم في البين مرددا في أصله بين تعلقه

ص: 337

بهذا الشيء المتيقن أو بذلك الاخر بحيث يستتبع تشكيل قضية منفصلة حقيقية من الطرفين ، فيقال اما ان يكون الواجب هذا أو ذاك الاخر ( ومن الواضح ) عدم صدق الضابط المزبور في الأقل والأكثر في مفروض المسألة ، بل الصادق فيه انما هو الضابط الثاني لعدم وجود القدر المتيقن في المأمور به ، والاناء الأبيض الذي فرضيناه مجمع العلمين لا يعلم كونه مكلفا بالاجتناب عنه على كل تقدير ، لان من المحتمل انطباق المعلوم بالاجمال في كل من العلمين على غيره من الانائين الآخرين ( ومعه ) أين يمكن دعوى اندراج المقام في الأقل والأكثر ( فلا محيص ) ح من الاجتناب عن الجميع لاندراجه في كبرى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين تكليف واحد في طرف أو تكليفين في طرف آخر ( نعم ) ما هو من قبيل الأقل والأكثر هو ان يكون المعلوم بالاجمال مرددا بين تكليف واحد في طرف أو تكليفين أحدهما ذاك التكليف الثابت في الطرف الخاص والاخر في غيره ( ولكنه انى ) يكون المقام من هذا القبيل فتدبر ( هذا ) إذ كان العلمان متقارنين زمانا ( واما لو كان ) أحدهما سابقا على الاخر ، فيمكن ان يقال انه لا اثر للعلم اللاحق لوروده على ما تنجز أحد طرفيه بالعلم الاجمالي السابق « فان » من شرط تأثير العلم الاجمالي هو ان يكون كل طرف منه قابلا للتنجز من قبله مستقلا وبعد عدم قابلية تكليف واحد للتنجزين تكون هذه القابلية مفقودة في العلم الاجمالي اللاحق ، إذ بتنجز أحد طرفيه بالعلم السابق يخرج ذلك الطرف عن قابلية التنجز بالعلم اللاحق مستقلا وبخروجه يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثرية في معلومه وهو الجامع الاجمالي القابل للانطباق على كل طرف ، ولازمه عدم تأثيره في الطرف الآخر أيضا لرجوع الشك بالنسبة إليه إلى الشك البدوي ، فيرجع فيه إلى البراءة « ولكن فيه » ان ذلك انما يتم إذا كان العلم السابق يجدونه مؤثرا في التنجيز إلى الأبد « والا فعلى » ما هو التحقيق في كل طريق من أن التنجيز في كل آن منوط بوجود العلم في ذاك الان ، فلا فرق بين هذا الفرض والفرض السابق « فان » من حين حدوث العلم اللاحق يكون حاله بعينه حال صورة تقارن العلمين ، فلابد فيه أيضا من الاجتناب عن الأواني الثلاثة لرجوعه إلى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين تكليف واحد في طرف أو تكليفين في طرفين آخرين « ثم انه » يلحق بما ذكرنا

ص: 338

في وجوب رعاية المحتملات في المحصور ما إذا اشتبه بعض أطراف العلم الاجمالي بغيره كما لو علم بنجاسة أحد الانائين ثم اشتبه أحدهما بثالث فان الواجب حينئذ هو الاجتناب عن الثلاثة لصيرورة الاناء الثالث أيضا طرفا للعلم الاجمالي.

« الامر السادس » يعتبر في الحكم بوجوب الاجتناب ان يكون العلم الاجمالي مؤثرا في ثبوت التكليف الفعلي بالاجتناب عن الحرام المشتبه على كل تقدير ، بمعنى اعتبار ان يكون كل واحد من الأطراف بحيث لو علم تفصيلا كونه هو الحرام المشتبه لكان التكليف بالاجتناب عنه منجزا « فلو لم يكن » بعض الأطراف كذلك ، بان كان بعضها مما لا يحدث العلم تكليفا بالنسبة إليه لكونه تالفا أو كثيرا لا ينفعل بملاقات النجس أو كونه مما اضطر المكلف إلى ارتكابه بسبب سابق على العلم الاجمالي ، لما كان للعلم الاجمالي تأثير في التكليف الفعلي بالاجتناب أصلا ولو بالنسبة إلى الطرف الآخر لرجوع الشك في التكليف بالنسبة إليه إلى كونه شكا في أصل التكليف لا في المكلف به « وكذا » إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل ابتلاء المكلف بمثابة يوجب خروجه عن تحت القدرة ، اما عقلا ، أو عادة بنحو يعد المكلف أجنبيا عن العمل عرفا وغير متمكن منه « وهذا على » الأول واضح لامتناع تعلق الإرادة الفعلية على نحو التنجيز بما لا يقدر عليه المكلف ( وكذا ) على الثاني ، فإنه وان لم يكن مانعا عن أصل تمشى الإرادة عقلا ولكنه مانع عرفا عن حسن توجيه الخطاب لاستهجان الخطاب البعثي نحو الفعل أو الترك عند العرف بما يعد المكلف أجنبيا عنه الا بنحو الاشتراط بفرض ابتلائه وتمكنه العادي منه ، بل قد يكون بعد الوصول إلى الشيء لبعد المقدمات بمثابة يوجب استهجانه ولو بنحو التقييد والاشتراط كان يقال لعامي بليد إذا صرت مجتهدا يجب عليك التسهيل في الفتوى ، أو لدهقان فقير إذا صرت سلطانا فلا تظلم رعيتك ، حيث إنه وان أمكن عقلا بلوغ ذلك البليد إلى مرتبة الاجتهاد وكذا الدهقان الفقير إلى مرتبة الملوكية على خلاف ما تقتضيه العادة ، الا ان بعد المقدمات يوجب عرفا استهجان الخطاب المزبور ولو بنحو الاشتراط « وبما ذكرنا » ظهر ان المناط في استهجان توجيه الخطاب انما هو ببعد وصول المكلف إلى العمل بمثابة يعد كونه أجنبيا عنه عرفا وغير قادر عليه عادة لا ان المناط فيه هو متروكية العمل قهرا كما يظهر من الشيخ

ص: 339

قدس سره وعليه فلا فرق في الاستهجان بين كون الخطاب أمرا أو نهيا « فإنه » كما أن العرف لا يحسنون توجيه الخطاب التحريمي إلى من يرونه أجنبيا عن العمل وغير قادر عليه بحسب العادة ، كذلك لا يحسنون توجيه الخطاب الايجابي أيضا في الفرض المزبور ، ولذا ترى استهجان الخطاب الايجابي على وجه التنجيز إلى سوقي فقير بتزويج بنات الملوك غير معلق بفرض الابتلاء والتمكن العادي منه ، بعين استهجان التكليف بالاجتناب عن تزويجهن ، وهكذا الخطاب بوجوب اكله من الطعام الموضوع قدام الملك أو لبسه الثياب التي لبسها الملك ونحو ذلك من الأمور التي يعد المكلف بحسب حاله أجنبيا عنها وغير قادر عليها عادة ، ومجرد كون الغرض من النهى هو الترك الحاصل قهرا ، ومن الامر الايجاد غير مجد في رفع استهجان الخطاب إلى من يرونه العرف غير قادر على العمل بحسب العادة « فان » محذور لغوية الخطاب لكونه تكليفا بأمر حاصل بالفعل غير محذور استهجانه من جهة كونه تكليفا بما هو غير مقدر عادى للمكلف ، وليس يجدي ارتفاع أحد المحذورين في ارتفاع المحذور الاخر كما هو ظاهر « فالتفصيل » حينئذ كما عن بعض في اعتبار القدرة العادية بين الخطاب التحريمي والخطاب الوجوبي باعتبارها في الأول في صحة الخطاب وحسنه دون الثاني لكفاية مجرد القدرة العقلية فيه في صحة الخطاب وحسنه « منظور فيه » يظهر وجهه مما قدمناه « نعم » يتجه الفرق المزبور بين الأمر والنهي لو كان مناط الاستهجان هو لغوية الخطاب من حيث كونه تكليفا بأمر حاصل ، لا كونه تكليفا بما هو غير مقدر عادى للمكلف « لان » المطلوب في النواهي بعد أن كان هو مجرد الترك واستمراره وعدم نقضه بالوجود فلا جرم بعدم القدرة العادية على الايجاد يتحقق الترك الذي هو المطلوب وبحصوله يصير النهي عنه لغوا مستهجنا لكونه من التكليف بترك ما يكون منتركا عادة فلا يبقى معه مجال لأعمال المولوية « بخلاف » الأوامر فان المطلوب فيها انما يكون هو الفعل لاشتماله على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع ، وحيث إن السبب لايجاده لا يكون الا دعوة امره وكان المفروض هو تمكن المكلف من الايجاد عقلا كان لأعمال المولوية فيه مجال واسع ، فله الامر بايجاده ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية للمكلف « ولكن ذلك كما ترى » إذ مضافا إلى

ص: 340

رجوعه إلى انكار دخل القدرة العادية في صحة التكليف وحسنه رأسا حتى في الخطابات التحريمية ، لعدم اجداء العجز العادي حينئذ شيئا سوى كونه منشأ للانتراك الذي هو الموجب للغوية النهى واستهجانه ، فلا يكون تفصيلا في اعتبار القدرة العادية ، ان اللازم بمقتضى التقابل بين الأمر والنهي هو الالتزام بلغوية الامر أيضا في مورد لا يتمكن المكلف من الترك عادة ، فإنه مع الجزم للأبدية؟ المكلف من الايجاد عادة لولا الامر يكون احداث الداعي في حقه لغوا ، مع أنه ليس كذلك جزما ، بل اللازم بمقتضى المناط المزبور هو لغوية النهى في كل مورد يكون حصول الترك من جهة تنفر الطبع على الاقدام على الايجاد ، كما في كشف العورة بمنظر من الناس خصوصا بالنسبة إلى أرباب المروة ، والكذب بالنسبة إلى أهل الشرف ، وكذا شرب الخمر بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ولو لم يكن في البين نهى أصلا ، حيث لا فرق في الاستهجان بمقتضى المناط المزبور بين ان يكون الترك حاصلا من جهة عدم القدرة العادية على الايجاد ، أو من جهة تنفر الطبع عنه « فلابد » من قصر النواهي الشرعي بمن لم يتنفر طبعه من ايجاد المنهي عنه بتقييد الخطاب بعدمه كتقييده بالقدرة ، مع أن ذلك مما لا يمكن الالتزام به « ودعوى » ان الترك الناشئ من تنفر الطبع راجع إلى عدم إرادة المكلف للفعل وهي مما لا دخل لها في حسن الخطاب كي يقيد بحال وجودها ، بل لا يعقل ذلك ( لان ) الخطاب انما هو لتحريك المكلف من قبله وبعث ارادته بجعله داعيا إلى المأمور به فعلا أو تركا فلا يمكن اخذها قيدا في التكليف ( مدفوعة ) بمنع رجوع التقييد به إلى التقييد بالإرادة بل تنفر الطبع بنفسه مانع عن الاقدام على الفعل وكانت الإرادة من تبعاته كتبعيتها للقدرة فلا مانع حينئذ من تقييد الخطاب بعدمه ، فيكشف ذلك عن انه لا يكون مجرد ذلك مناطا لاستهجان الخطاب ، وان المناط فيه انما هو بعد تمكن المكلف من العمل بمثابة يرى العرف كونه أجنبيا عنه وغير متمكن منه بحسب العادة ، وعليه لا فرق في الاستهجان بين كون الخطاب تحريميا أو ايجابيا ( وكيف كان ) فما ذكرنا من سقوط العلم الاجمالي عن التأثير حتى بالنسبة إلى الطرف المبتلى به انما يكون إذا كان خروج بعض الأطراف عن الابتلاء قبل العلم الاجمالي أو مقارنا له ( وأما إذا ) كان خروجه عن الابتلاء بعد العلم الاجمالي ، فلا شبهة في منجزية

ص: 341

العلم الاجمالي ووجوب الاجتناب عن الطرف المبتلى به ( وتوهم ) عدم الوجوب في هذه الصورة أيضا لانتفاء العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير عند خروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، لاحتمال كون الظرف الخارج عن الابتلاء هو المعلوم بالاجمال ( مدفوع ) بكفاية وجود العلم الاجمالي التدريجي في وجوب الاجتناب عن الطرف المبتل به فعلا كما شرحناه في طي مبحث الانحلال فراجع ( نعم ) يبقى الكلام فيما إذا شك في أن خروج الطرف عن الابتلاء كان قبل العلم أو بعده ، فإنه قد يقال بعدم وجوب الاجتناب عن الطرف المبتلى به فعلا لعدم العلم بالتكليف الفعلي مع الشك المزبور ( ولكن ) التحقيق خلافه فإنه وان يستتبع الشك المزبور الشك في ثبوت التكليف الفعلي ، ولكنه بعد ما لم يكن ذلك لقصور في اقتضاء التكليف من المولى ، بل كان ذلك لاحتمال قصور العبد عن الامتثال مع تمامية مقتضيات التكليف فلا جرم يدخل في الشك في القدرة ويكون مصبا لقاعدة دفع الضرر المحتمل لا قبح العقاب بلا بيان كما هو ظاهر ( نعم ) لو اغمض عن ذلك لا مجال لاثبات الوجوب باستصحاب بقاء القدرة وعدم خروج الطرف عن الابتلاء إلى زمان حدوث العلم الاجمالي ، لوضوح ان الأثر المقصود وهو تنجز المعلوم بالاجمال لا يكون من الآثار الشرعية للمستصحب وانما هو من الآثار العقلية المحضة والاستصحاب المزبور لا ينتج الأثر المقصود كي يترتب عليه بحكم العقل وجوب الاجتناب عن الطرف المبتلى به ( كما لا مجال ) أيضا لاستصحاب عدم وجوب الاجتناب عن المشكوك قبل العلم الاجمالي ( إذ هو ) انما يجدى إذا كان الشك في الوجوب من جهة القصور في الكاشف أو المنكشف وهو الجعل الشرعي في مرحلة اقتضائه ، لا فيما كان الشك من جهة شرائط التنجيز الراجع إلى الشك في قابلية المحل للتنجز على كل تقدير كما هو مفرض الكلام فإنه لا ينفع الأصل المزبور من هذه الجهة ، لعدم العدم المزبور حينئذ مجعولا شرعيا ولا موضوعا لاثر مجعول حتى يجرى فيه التعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، فتدبر.

( وبما ذكرنا يظهر ) ان الحكم كذلك في صورة الشك في خروج بعض أطراف العلم عن مورد الابتلاء من جهة الشبهة المصداقية أو الشبهة في الصدق كالشك في صدق الخروج عن الابتلاء بالنسبة إلى الخمر الموجود في البلاد المتوسطة

ص: 342

بين القريبة والبعيدة المستتبع للشك في ثبوت التكليف المنجز بالاجتناب عنه ( فان ) الواجب حينئذ هو مراعاة العلم الاجمالي بالاحتياط ( لوجهين ) أحدهما وهو العمدة ما عرفت من رجوع الشك المزبور إلى الشك في القدرة المحكوم عقلا بوجوب الاحتياط ( فإنه ) بعد تمامية مقتضيات التكليف من طرف المولى وعدم دخل قدرة المكلف بكلا قسميها من العقلية والعادية في ملاكات الاحكام ، يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال إلى أن يتبين العجز ، ولا مجال في مثله لجريان قبح العقاب بلا بيان ، لما عرفت من أن مصب تلك القاعدة انما هو صورة احتمال القصور من ناحية تمامية اقتضاء التكليف من طرف المولى ( وقد يتوهم ) اقتضاء المناط المزبور لوجوب الاجتناب عن الطرف المبتلى به حتى في فرض الجزم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء نظرا إلى تخيل صدق الشك في القدرة فيه أيضا ( ولكنه ) تخيل فاسد ناش عن قلة التأمل ، ضرورة وضوح الفرق بين الفرضين ( فان ) موضوع حكم العقل بالاحتياط انما هو الشك في القدرة في مورد الملاك والمصلحة ، وهذا المعنى متحقق في فرض الشك في خروج بعض الأطراف عن الابتلاء ، حيث إن الطرف المشكوك على فرض كونه ظرفا لوجود الملاك والمصلحة يشك فيه في القدرة ( بخلاف ) الفرض السابق فإنه لا شك فيه في القدرة على مورد المصلحة ، فإنه على تقدير وجود المصلحة في الخارج عن الابتلاء يقطع فيه بعدم القدرة ، وعلى تقدير وجودها في غيره يقطع فيه بالقدرة فليس للمكلف شك في القدرة على كل تقدير ، وانما الشك في أن مورد الملاك والمصلحة اي الامرين منهما ، ومرجع ذلك إلى الشك في وجود الملاك في المقدور لا في القدرة وبين الامرين فرق واضح ( الوجه الثاني ) هو ما افاده الشيخ قدس سره من التمسك باطلاق أدلة المحرمات ، بتقريب ان من البين شمول اطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر أو النجس لكلتا صورتي الابتلاء به وعدمه ، والمقيد لذلك انما هو حكم العقل باعتبار التمكن العادي من موضوع التكليف وعدم خروجه عن الابتلاء في حسن التكليف والخطاب واستهجانه بدونه وبعد اجمال مفهوم القيد وتردده بين الأقل والأكثر لابد من الاقتصار في تقييد اطلاقه على المتيقن خروجه عن الابتلاء والرجوع في الزائد إلى أصالة

ص: 343

الاطلاق ، لما تقرر في محله من أن التخصيص والتقييد بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك بالعام والمطلق فيما عدى القدر المتيقن من التخصيص والتقييد خصوصا إذا كان المقيد لبيا كما في المقام ( وقد أورد عليه ) بوجوه ، الأول ان جواز الرجوع إلى العام والمطلق عند اجمال المخصص والمقيد وتردده بين الأقل والأكثر انما هو في المخصصات المنفصلة من اللفظية وما بحكمها من العقليات النظرية ( واما ) في المخصصات المتصلة اللفظية وما بحكمها من العقليات الضرورية الارتكازية ، فلا يجوز ذلك لسراية اجمالها حينئذ إلى العام والمطلق باتصالها بهما فلا ينعقد معهما ظهور للعام والمطلق في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص والمقيد عليه حتى يجوز الاخذ بهما في المشكوك ويحكم عليه بحكم العام والمطلق ( ومن المعلوم ) ان المخصص في المقام انما يكون من قبيل الثاني ، لان حكم العقل باعتبار القدرة العادية على موضوع التكليف في صحة التكليف به واستهجان توجيه الخطاب بما لا يمكن ابتلاء المكلف به عادة انما يكون من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء بحيث ينتقل إليه الذهن بمجرد صدور الخطاب ويرى صرفه بحسب الارتكاز عما لا يقدر عليه المكلف ، فإذا اشتبه حاله وتردد لاجمال مفهومه بين الأقل والأكثر فلا محالة يسرى اجماله إلى العمومات والمطلقات فتسقط عن قابلية التمسك بها ( وفيه ) منع كون حكم العقل باعتبار القدرة مطلقا على موضوع التكليف في الارتكاز بمثابة يكون كالتخصيص بالمتصل في كونه من القرائن المحفوفة بالكلام ( ولو سلم ) ذلك فإنما هو في القدرة العقلية خاصة ، لا في مثل القدرة العرفية العادية التي بدونها يستهجن البعث والزجر ، فان من الواضح انه ليس اعتبار هذه عند العقل في الوضوح بمثابة يكون من الضروريات المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء بحيث ينتقل الذهن بدوا إلى اعتبارها عند صدور الخطاب ، بل انما هي من الأمور المحتاجة اعتبارها في صحة توجيه الخطاب إلى نحو تأمل من العقل وتدبر منه ، وعليه يكون المقيد في المقام من المقيدات المنفصلة غير الكاسرة لظهور المطلقات ، ولازمه بعد الاعتراف باجمال القيد مفهوما وتردده بين الأقل والأكثر هو الاخذ باطلاق الخطابات فيما عدى القدر المتيقن من التقييد هذا ( وأجاب عنه ) بعض الأعاظم قدس سره على ما في تقرير بعض تلاميذه تارة بنحو ما ذكرنا ، وأخرى

ص: 344

بعد تسليم انه من قبيل المخصص المتصل ، بما حاصله ان المخصص المتصل على قسمين ( أحدهما ) ان يكون الخارج عن العام عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب كعنوان الفاسق المردد مفهومه بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ( وثانيهما ) ان يكون الخارج عن العام عنوانا ذا مراتب مختلفه كعنوان عدم الابتلاء في المقام ( فالتزم ) بقدح اجمال المخصص في الأول دون الثاني نظرا إلى أن مراتب المخصص بمنزلة مخصصات عديدة ، فيقتصر في تخصيص العام على المرتبة المتيقن خروجها ويتمسك به فيما عداها من المراتب الاخر لرجوع الشك فيها إلى الشك في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به ( وفيه ) أولاً ان غاية ما يقتضيه البيان المزبور انما هو رجوع الشك في التخصيص في الزائد عن القدر المتيقن إلى الشك البدوي لانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بالأقل والشك البدوي في غيره ، ولكنه لا يدفع غائلة لزوم اجمال العام ، فإنه يكفي فيه اتصاله بما يصلح للقرينية عليه ولو بنحو الشك البدوي كما في موارد الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، ولذا ترى بنائهم على الحكم بالاجمال فيما عدى الجملة الأخيرة ، لا الاخذ بالعموم نظرا منهم إلى صلاحيته للرجوع إلى الجميع ، وما يترائى منهم من التمسك بأصالة العموم والاطلاق والحقيقة عند الشك في القرنية فإنما هو فيما كان الشك في أصل وجود القرنية ، لا فيما كان الشك في قرينية الموجود المحفوف بالكلام ، وحينئذ فبعد تسليم كون المقام من قبيل المخصص المتصل فلا محالة يكفي في اجمال العام مجرد الشك البدوي في التخصيص به ، ومعه لا يفرق بين كون الخارج عن العام عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب ، وبين كونه عنوانا ذا مراتب مختلفة فان الملاك في القدح انما هو اتصال المجمل به لا كونه ذا مرتبة واحدة ( وثانيا ) منع كون المقام من قبيل التخصيص بمختلف المراتب ، بل هو من قبيل التخصيص بعنوان غير ذي مراتب ، نظير عنوان الفاسق الخارج عن عموم اكرام العلماء الذي اعترف بسراية اجماله إلى العام عند اتصاله به ، لوضوح ان البحث في المقام انما هو في الشك في تحقق عنوان الخروج عن الابتلاء بكون موضوع التكليف في البصرة مثلا بعد القطع بان الخارج بحكم العقل هو مطلق مراتبه الصادق على أول وجوده ، فكان الشك ح في أن أول وجود الخروج عن

ص: 345

الابتلاء يتحقق بأي مرتبة من البعد من موضوع التكليف ، لا ان الشك في أن أي مرتبة من الخروج عن الابتلاء فارغا عن صدق العنوان عليه مخصص للعام حتى يكون من قبيل التخصيص بعنوان ذي مراتب ، فيكون المقام من هذه الجهة نظير عنوان الفسق الذي يشك في حصوله بارتكاب الصغيرة ( نعم ) انما يكون المقام من قبيل التخصيص بمختلف المراتب فيما لو كان حكم العقل بخروج الخارج عن الابتلاء على نحو الاهمال ، ولكنك عرفت ما فيه وعرفت أيضا عدم اجدائه لرفع غائلة اجمال العام باتصاله بالمجمل ( الثاني ) من وجوه المنع عن التمسك بالاطلاق ما افاده المحقق الخراساني قدس سره في كفايته ، من أن صحة الرجوع إلى الاطلاق انما هو فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه ، لا في الشك في تحقق ما هو معتبر جزما في صحته ( وحاصله ) بتحرير منا هو ان القدرة على موضوع التكليف بكلا قسميها من العقلية والعادية كما انها شرط في صحة الخطاب الواقعي وتشريع الحكم النفس الأمري وبدونها يقبح التكليف ويستهجن الخطاب بعثا وزجرا ، كذلك شرط في الخطاب الظاهري الدال على ايجاب التعبد بظهور الخطاب أو صدوره أيضا ، ولذا لا يصح التعبد بالظهور أو الصدور في الخارج عن الابتلاء لعدم ترتب اثر عملي حينئذ على التعبد بمثله ، وحينئذ فكما ان الخطاب الواقعي مشكوك مع الشك في القدرة على موضوع التكليف ، كذلك الخطاب الظاهري الدال على ايجاب التعبد بظهوره مشكوك أيضا ( فان ) مرجع التعبد بظهور الخطاب انما هو إلى جعله طريقا إلى الواقع مقدمة للعمل ومع الشك في القدرة على موضوع التكليف يشك في الأثر العملي فلا يقطع بحجية الخطاب حتى يجوز التمسك به لاثبات التكليف الفعلي في المورد المشكوك فيه ( فمرامه ) قدس سره في المنع عن التمسك بالاطلاق انما هو من جهة عدم احراز قابلية المورد اثباتا لحجية الخطاب مع الشك في القدرة التي هي شرط أيضا للحكم الظاهري ، لا انه من جهة اشتراط احراز قابلية الحكم النفس الأمري للاطلاق على وجه يعم المشكوك فيه ( وعليه لا وجه ) لرمي كلامه بالغرابة بمخالفته لما عليه ديدن الأصحاب من التمسك بالمطلقات واستكشاف الاطلاق النفس الأمري من اطلاق الكاشف ، والاشكال عليه باقتضائه لسد باب التمسك بالمطلقات والعمومات

ص: 346

اللفظية كلية ( إذ ما ) من مورد يشك في قيدية شيء الا ويرجع الشك فيه إلى الشك في امكان تسرية الحكم النفس الأمري إلى حالة عدمه خصوصا على مذهب العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكائنة في متعلقاتها ، لملازمة الشك في قيدية شيء للشك في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد به المستلزم على تقدير ثبوتها في الواقع لامتناع الاطلاق للنفس الأمري على وجه يشمل حال عدمه ( كما لا وجه ) للاعتراض عليه بمنافاة ذلك لما بنى عليه في مبحث العام والخاص من جواز التمسك بالعموم والاطلاق فيما إذا خصص أو قيد بأمر لبى عقلي أو غيره كقوله لعن اللّه بني أمية قاطبة مع حكم العقل بقبح لعن المؤمن ، بدعوى ان الملاك جاز في جميع القيود العقلية وليس لعدم الابتلاء خصوصية ( لوضوح الفرق ) بين المقامين ، فان المخصص العقلي هناك بقبح لعن المؤمن يكون مقيدا لخصوص الحكم الواقعي فجاز التمسك باطلاق اللعن لاثبات عدم ايمان من شك في ايمانه من تلك الشجرة الخبيثة وتسرية الحكم النفس الأمري بالنسبة إليه ( بخلاف ) حكمه باعتبار القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري أيضا ، فإنه مع الشك فيها يشك في الحكم الظاهري ، فلا يقطع بحجية الخطاب ، حتى يجوز التمسك باطلاقه لاثبات فعلية التكليف للمشكوك فيه هذا ( ولكن ) فيه ان ما أفيد من شرطية القدرة عقلا في الخطابات الظاهرية انما يتم على القول بالموضوعية ( واما ) على ما هو التحقيق فيها من الطريقية الراجعة إلى مجرد الامر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين ، فلا يلزم محذور ، فان مرجع الامر المزبور حينئذ إلى كونه منجزا للواقع في صورة المصادفة مع كونه ايجابا صوريا في فرض عدم المصادفة ( ومن ) الواضح انه مع الشك في القدرة على موضوع التكليف لا محذور في توجيه مثل هذا التكليف إلى المكلف فتأمل ولازمه بمقتضى العلم الاجمالي هو الاجتناب عن الطرف المبتلى به عقلا ( الثالث ) من وجوه المنع ما افاده المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته من أن الرجوع إلى الاطلاقات انما يجوز فيما لو كان القيد من الانقسامات السابقة على الخطاب بحيث يكون من أحوال ما أطلق وأطواره ، لا فيما كان من القيود اللاحقة للخطاب كقيد الابتلاء بموضوع التكليف ، فإنه بحكم العقل والعرف يكون من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن

ص: 347

أصل انشائه ويكون رتبة وجوده متأخرة عن رتبة أصل الخطاب ، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة في مقام أصل انشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه ( وفيه ) ما لا يخفى إذ نمنع كون الابتلاء بموضوع التكليف من القيود المتأخرة عن الخطاب ، بل هو كالقدرة العقلية من الانقسامات السابقة على التكليف والأوصاف العارضة على المكلف قبل التكليف من حيث كونه قادرا في نفسه على ايجاد موضوع التكليف مع قطع النظر عن تعلق التكليف به ، فأمكن حينئذ لحاظها في المرتبة السابقة على التكليف كغيرها من القيود الاخر كالاستطاعة والستر والطهارة ، فارجاع القدرة حينئذ إلى كونها من شرائط تنجيز الخطاب كالعلم به لا من شرائط نفسه مما لا نفهم له وجها ( فان ) العلم بالخطاب لكونه من شؤونه وفي رتبة متأخرة عنه غير صالح لتقييد مضمونه ، فمن ذلك لا محيص من ارجاعه إلى شرائط تنجيز الخطاب دون نفسه ، وأين ذلك من القدرة التي تصلح لتقييد نفس الخطاب في الرتبة السابقة عن تنجزه ، ولهذا ترى بناء الأصحاب طرا على الفرق بين العلم والقدرة في صلاحية القدرة لتقييد الخطاب ولو عقلا بخلاف العلم به ( نعم ) على فرض تسليم كونها من الانقسامات اللاحقة غير الموجبة لتقييد الخطاب بها لا مجال للاشكال عليه بان شرط التنجيز منحصر بالعلم وما يقوم مقامه فلا سبيل إلى دعوى كونها من الشرائط الموجبة للتنجيز ( إذ يمكن ) دفع ذلك بان المقصود من تنجيز الخطاب انما هو كونه منشئا لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، وهذا كما أن للوصول دخل فيه كذلك للقدرة دخل فيه ، إذ لا يترتب ذلك على مجرد الوصول محضا ( ثم لا يخفى ) ان صحة التمسك بالاطلاقات انما هو فيما كان الشك في الابتلاء وعدمه من جهة الشبهة في الصدق ، واما لو كان ذلك من جهة الشبهة المصداقية فلا يجوز التمسك بها لما حققناه في محله من عدم جواز التمسك بالعمومات والمطلقات في الشبهات المصداقية حتى في المخصصات اللبية.

إزاحة شبهة قد يقال كما عن بعض انه يلحق بالخروج عن الابتلاء موردان ( أحدهما ) ماذا كان بعض أطراف العلم الاجمالي مما لا يقدر المكلف على التصرف فيه شرعا كما لو كان ملكا للغير الذي لا يرضى بالتصرف فيه ، فالتزم فيه بعدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الاخر الذي هو ملكه وتحت تصرفه الا إذا كان في معرض

ص: 348

البيع والشراء وكان المكلف بصدد شرائه بدعوى ان النهى الشرعي عن التصرف في ملك الغير موجب لسلب القدرة عنه ولأجله يصير بمنزلة غير المقدور العادي في استهجان التكليف بالاجتناب عنه فيسقط العلم الاجمالي عن التأثير ، وبسقوطه يبقى الأصل النافي الجاري في الطرف الآخر بلا معارض ( وثانيهما ) ما إذا كان بعض الأطراف مما يبعد عادة اتفاق ابتلاء المكلف به كما لو علم اجمالا بنجاسة أحد الترابين أحدهما التراب الذي أعده للسجود عليه أو التيمم به ، والاخر تراب الطريق الذي يبعد عادة اتفاق ابتلائه به من السجود عليه أو التيمم به ، فالتزم فيه أيضا بعدم تأثير العلم الاجمالي ( ولا يخفي عليك ما فيه ) اما المورد الأول ، فلان مجرد المنع الشرعي عن بعض أطراف العلم بوجه خاص كالغصب ونحوه لا يقتضى خروجه عن قابلية توجيه النهى إليه بوجه اخر حتى يقتضى سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ( فان ) المعتبر في منجزية العلم الاجمالي كما أشرنا إليه واعترف به القائل المزبور ، هو ان يكون كل من الأطراف بحيث لو علم تفصيلا كونه هو المعلوم بالاجمال لصح من المولى توجيه التكليف الفعلي بالاجتناب إليه ( ومن الواضح ) صدق هذا المعنى في المقام ، فإنه على تقدير كون النجس المعلوم بالاجمال الاناء الذي هو ملك الغير لا قصور في صحة توجيه الخطاب بالاجتناب عنه من جهة نجاسته بعد فرض قدرة المكلف عادة على التصرف فيه بغصب أو سرقة واستيلائه عليه خارجا ( والا ) لاقتضى ذلك في المورد العلم التفصيلي أيضا ، ولازمه المنع عن امكان اجتماع النواهي المتعددة في شيء واحد بجهات عديدة وملاكات مختلفة ( مع أن ) البداهة قاضية ببطلانه ، فإنه لا شبهة في أن من شرب الخمر التي هي ملك الذمي غصبا يكون عاصيا من جهتين ويعاقب عقاب الغاصب وشارب الخمر ويترتب على النهى من كل جهة اثره الخاص من وجوب الحد عليه وضمان القيمة للذمي ، وكذا فيمن زنى بجارية الغير حال طمثها فان العصيان فيه يكون من جهات ، ولا يكون ذلك الا لكونه مجمع النواهي المتعددة ، والأمثلة لذلك كثيرة لا تحصى ، ولذا ربما تجرى البراءة عن بعض تلك النواهي إذا شك فيه من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية حيث يجرى فيه حديث الرفع والحجب ، بل ودليل الحلية أيضا على اشكال فيه ، ويترتب عليه استحقاق العقوبة من الجهة المحرمة المعلومة دون الجهة المشكوكة ، وإذا كانت

ص: 349

الجهة المعلومة في نفسها من الصغاير لا يترتب على ارتكابه اثار الفسق بعد جريان البراءة بالنسبة إلى الجهة المشكوكة ( واما المورد الثاني ) الذي أفاد الحاقه بالخارج عن الابتلاء ، ففيه ان البعد المتصور في نحو المثال ان كان بمثابة يعد المكلف عرفا أجنبيا عنه عادة فهو من مصاديق الخارج عن الابتلاء لا ملحق به ، وان لم يكن كذلك بل كان بعد اتفاق ابتلاء المكلف به من جهة بناء شخص المكلف على عدم ارتكابه واستقرار عادته على ترك السجود على تراب الطريق والتيمم به أو لكونه معرضا عنه بالطبع لمكان خسته وحقارته مع القدرة العادية عليه فلا وجه للالحاق ( كيف ) ولازمه تخصيص النواهي الشرعية بمن ينقدح في نفسه إرادة الفعل لولا النهى وهو كما ترى ، فإنه لا شبهة في صحة النهي وحسنه في الموارد التي يكون المكلف بالطبع غير مريد للفعل كما في كشف العورة بمنظر من الناس ونحوها التي يمتنع عنها الطبع البشري لولا النهي « فرع » إذا كان المكلف محدثا وكان عنده ماء وتراب وعلم بنجاسة أحدهما مع انحصار الطهور بهما ، ففي وجوب الجمع بين الوضوء والتيمم أو وجوب الوضوء فقط أو عدم وجوب شيء عليه لكونه بحكم فاقد الطهورين ، وجوه « والتحقيق » ان يقال انه ان كان التراب مورد ابتلائه أيضا من غير جهة التيمم به ، فاللازم هو الجمع بين الوضوء والتيمم للعلم الاجمالي والتمكن من تحصيل الطهارة ، بل الواجب هو تقديم التيمم على الوضوء لان في فرض العكس يعلم تفصيلا ببطلان تيممه اما من جهة نجاسة محاله أو من جهة نجاسة ما يتيمم به ( واما ) إذا لم يكن التراب مورد ابتلائه الفعلي من غير جهة التيمم به ، فالواجب هو الوضوء فقط ، لا لان أصل الطهارة الجاري في الماء يرفع الابتلاء بالتيمم كما عن بعض المعاصرين ، بل لعدم اقتضاء العلم الاجمالي حينئذ لاحداث التكليف الفعلي على كل تقدير فإنه على تقدير كون النجس هو التراب لا يحدث من قبل نجاسته تكليف بالاجتناب عنه ( لان ) فرض نجاسته ملازم لطهارة الماء المستتبع للتكليف بالطهارة المائية ، فعدم تكليفه حينئذ بالتيمم به ليس من جهة نجاسته بل هو من جهة كونه واجدا للماء الطاهر ، وحينئذ فبعد سقوط العلم الاجمالي المزبور عن التأثير يرجع الشك في نجاسة الماء إلى كونه بدويا فتجري فيه أصالة الطهارة ويترتب على جريانها وجوب الوضوء.

ص: 350

( الامر السابع ) إذا اضطر إلى ارتكاب بعض أطراف العلم الاجمالي ، ( فتارة ) يكون الاضطرار إلى البعض المعين ( وأخرى ) إلى غير المعين ( وعلى التقديرين ) تارة يكون الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو مقارنا لحدوثه ، ( وأخرى ) بعده بزمان يمكن فيه الامتثال ، وعلى الأول فاما أن يكون أمد الاضطرار بمقدار أمد التكليف المعلوم بالاجمال ، أو يكون أقل منه كما لو كان أمد الاضطرار من أول الصبح إلى الزوال وكان أمد التكليف من الصبح إلى الغروب وربما يتصور صور أخرى بمقايسته مع زمان تعلق التكليف من حيث السبق واللحوق ولكنه لما لم يوجب اختلافا في الحكم نقتصر على الصور المزبورة « فنقول » : أما إذا كان الاضطرار إلى المعين ، فان كان قبل العلم أو مقارنا لحدوثه وكان أمده أيضا بمقدار أمد التكليف أو أزيد ، فلا شبهة في عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ، فإنه بعد احتمال انطباق المعلوم على الطرف المضطر إليه لا علم بالتكليف الفعلي ، فيرجع الشك في الطرف الآخر بدويا والمرجع فيه هي البراءة ومثله ما إذا كان الاضطرار بعد العلم ولكنه بزمان لا يمكن فيه الامتثال ، من غير فرق في ذلك كله بين سبقه أيضا على التكليف المعلوم أو لحوقه له ، لان التنجيز انما يكون من لوازم العلم والكاشف لا المعلوم والمنكشف فإذا لم يكن العلم مؤثرا في تنجيز التكليف بالإضافة إلى زمان قبل وجوده ، فلا اثر لمجرد سبق زمان حدوث التكليف على الاضطرار كما هو ظاهر ( وأما إذا كان ) الاضطرار بعد العلم الاجمالي بزمان يمكن فيه الامتثال ، فالواجب هو الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه للعلم الاجمالي التدريجي بالتكليف في الطرف المضطر إليه قبل طرو الاضطرار أو في الطرف الآخر بقاء أحال طروه وهو كاف في المنجزية كما شرحناه في طي مبحث الانحلال وان شئت قلت بوجود العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين المحدود في الطرف المضطر إليه وغير المحدود في الطرف الآخر فان مقتضاه هو لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه ( وهكذا ) الكلام في عكس الفرض وهو ما يكون الاضطرار مقارنا للعلم الاجمالي مع كون أمده أقل من أمد التكليف ، فان الواجب فيه أيضا هو الاجتناب عن الطرف الآخر للعلم الاجمالي المزبور ، هذا كله في الاضطرار إلى المعين ( واما الاضطرار ) إلى غير المعين ففي كونه كالاضطرار

ص: 351

إلى المعين كما اختاره المحقق الخراساني ( قده ) قولان « أقواهما » العدم من غير فرق بين ان يكون الاضطرار قبل العلم أو بعده فإنه على كل تقدير لابد من مراعاة العلم الاجمالي بالاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار ( لان ) غاية ما يقتضيه الاضطرار المزبور بعد رجوعه إلى الاضطرار إلى ترك الجمع بين المحتملين في الامتثال انما هو رفع الحكم الظاهري بوجوب الجمع بينهما المعبر عنه بالموافقة القطعية لا رفع أصل فعلية التكليف كما في الاضطرار إلى المعين كي يلزم سقوط العلم بالمرة عن التأثير حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، ولازمه وان كان هو الترخيص في تطبيق الاضطرار على مورد التكليف ولكنه لما لم يكن الاضطرار المزبور بنفس وجوده مزاحما للتكليف مع قطع النظر عن الجهل بموضوعه كالاضطرار إلى المعين بل كان يلائمه كمال الملائمة بشهادة لزوم صرفه إلى غير مورد التكليف في فرض تبين الحال والعلم به تفصيلا ، فلا محالة كان الواقع على فعليته ، ولازمه بقاء العلم الاجمالي على تأثيره غير أنه يرفع اليد لأجله عن لزوم الموافقة القطعية ويجمع بين هذا الترخيص الظاهري في هذه المرتبة وبين فعلية الواقع بما يجمع به بين الاحكام الواقعية والظاهرية بلا مضادة بينهما « نعم » بناء على علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لابد من رفع اليد عن فعلية الواقع ولو بمرتبة منه ، لأنه بدونه يستحيل الترخيص في ترك الموافقة القطعية ولو بمناط الاضطرار فان حكم العقل تنجيزيا بلزوم الموافقة القطعية عند العلم بالتكليف ليس مما تناله يد الجعل وضعا ورفعا « فلو » ورد حينئذ ترخيص في ترك الموافقة القطعية ولو بعنوان الاضطرار إلى الجامع لابد وأن يكون برفع اليد عن منشأه أعني فعلية التكليف على تقدير تطبيقه على مورد التكليف « وعليه » قد يتوجه الاشكال بأنه إذا كان التكليف فعليا على تقدير دون تقدير فلا يصلح العلم به للمنجزية لان الشرط في تنجيزه ان يكون متعلقا بتكليف فعلي على كل تقدير ، ولعله إلى هذه الجهة نظر المحقق الخراساني « قده » فيما افاده في وجه الحاق الاضطرار إلى غير المعين بالمعين من دعوى مضادة الترخيص لأجل الاضطرار للتكليف الفعلي « لا إلى » كلية المضادة بين الاحكام الواقعية والظاهرية كي يجاب عنه بمنع

ص: 352

المضادة بينهما بعد عدم تكفل اطلاق الخطابات الواقعية للمرتبة المتأخرة عن الجهل بها هذا ( ولكن ) يمكن دفع ذلك بان غاية ما يقتضيه البيان المزبور انما هو رفع اليد عن قضية اطلاق فعلية التكليف في كل محتمل بالنسبة إلى حال الاجتناب عن المحتمل الآخر وعدمه بتقييده بحال الاجتناب عن المحتمل الاخر ، لا رفع اليد عن أصل فعليته بقول مطلق كي يوجب سقوط العلم عن التأثير رأسا ، فإنه بمثل هذا التقييد يرتفع المحذور المزبور ويترتب عليه رفع الحكم بلزوم الموافقة القطعية مع بقاء العلم الاجمالي على تأثيره بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ( ومرجع ) ذلك إلى انقلاب العلم بالتكليف المطلق إلى العلم بالتكليف الناقص الحافظ للمتعلق بمرتبة منه بالنسبة إلى المحتملين الراجع إلى الترخيص في دفع الاضطرار بكل واحد منهما مشروطا بالاجتناب عن المحتمل الاخر ، ومرجعه إلى اثبات تكليف توسطي بين نفي التكليف رأسا وبين ثبوته بقول مطلق الحافظ لمتعلقه تعيينا على كل تقدير إذ لا نعني من التوسط في التكليف الا هذا التكليف الناقص ، لا ما كان فعليا على تقدير وغير فعلي على تقدير آخر كما افاده بعض الاعلام كي يلزم صدقه في الاضطرار إلى المعين أيضا ، وبذلك أيضا يجمع بين هذا الترخيص الاضطراري وبين فعلية الواقع بلا مضادة بينهما لما عرفت من أن ما يضاد الترخيص انما هي الفعلية المطلقة لا مطلق الفعلية وبعد رفع اليد عن اطلاق فعلية الواقع بالمعنى الذي عرفت لا يبقى مضادة بينهما كما لا يخفى ( ثم إن ) ذلك بناء على المختار من علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ( واما ) بناء على اقتضاء العلم لذلك فالامر أوضح لما عرفت من أن للشارع الترخيص الظاهري في ترك الموافقة القطعية والاذن في رفع الاضطرار بما يختاره خارجا وان كان منطبقا على مورد التكليف بلا احتياج إلى التصرف في الواقع ولو برفع اليد عن فعليته المطلقة بارجاعه إلى إلى التكليف الناقص ، فإنه بعد أن كان الترخيص المزبور في طول الواقع أمكن الجمع بين بقاء الواقع على فعليته المطلقة وبين هذا الترخيص الاضطراري في هذه الرتبة بما يجمع به بين الاحكام الواقعية والظاهرية ( ومرجع ) ذلك إلى التكليف المتوسط بين نفي التنجيز رأسا الملازم لجواز المخالفة القطعية وبين ثبوته بقول مطلق الملازم لوجوب الموافقة القطعية هذا « ولكن التحقيق » انه لا فرق بين القول بالاقتضاء والعلية فإنه على كل القولين لا محيص من التوسط في التكليف نفسه

ص: 353

بالتقريب الذي قدمناه « والتفصيل » المزبور انما يصح بالقياس إلى إضافة الاضطرار إلى الحكم العقلي بوجوب الجمع بين المحتملين في ظرف قبل الاختيار ، لا بالقياس إلى اضافته إلى الواقع في ظرف تطبيق المختار على موضوع التكليف الذي هو ظرف مصداق المضطر إليه ، فان في ظرف التطبيق يصلح الاضطرار المزبور للمزاحمة مع التكليف الواقعي لكونه من حدوده وقيوده ومع الصلاحية المزبورة واحتمال انطباق مورد التكليف على ما يختاره المكلف في مقام التطبيق لا محيص ولو على الاقتضاء من التصرف في التكليف ولو برفع اليد عن اطلاق فعليته في كل طرف من حيث الاجتناب عن الاخر وعدمه لا عن أصل فعليته ونتيجة ذلك هو التوسط في التكليف نفسه لا في تنجيزه فتدبر.

« الامر الثامن » هل الملاقي لاحد أطراف العلم الاجمالي بالنجاسة في الشبهة المحصورة محكوم بحكم الملاقى في وجوب الاجتناب عنه واجراء احكامه عليه ، فيه خلاف « وتحقيق » القول في المقام يستدعى تقديم أمور « الأول » انه غير خفي في أن مركز هذا البحث انما هو فيما إذا لم يكن هناك ملاقي آخر لبقية الأطراف الاخر ، والا فيخرج عن مفروض البحث بلا كلام ، إذ لا شبهة حينئذ في وجوب الاجتناب عن كلا المتلاقيين للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما « كما » انه لابد أيضا من فرض الكلام فيما إذا لم يكن في البين ما يقتضي نجاسة كلا المشتبهين أو أحدهما المعين كالاستصحاب ونحوه ، والا فيخرج أيضا عن موضوع البحث ، فان في فرض قيام الاستصحاب على نجاسة الطرفين أو خصوص الملاقى لا اشكال في كونه اي الملاقي محكوما بالنجاسة ووجوب الاجتناب لأنها من الآثار الشرعية لنجاسة الملاقى بالفتح فكان التعبد بنجاسته تعبدا بنجاسة ملاقيه أيضا كما أن في فرض قيامه على نجاسة طرف الملاقى لا اشكال أيضا في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى فضلا عن ملاقيه لانحلال العلم الاجمالي بالنجاسة حينئذ بالعلم بالتكليف في خصوص الطرف وصيرورة الشك بدويا في الملاقى ( الامر الثاني ) لا اشكال نصا وفتوى بل وضرورة في نجاسة ملاقي النجس ووجوب الاجتناب عنه « وانما الكلام » في وجه نجاسته ، وغاية ما قيل أو يمكن ان يقال في ذلك أمور « أحدها » ان تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي بان يكون

ص: 354

الملاقي للنجس موضوعا مستقلا حكم الشارع بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه في قبال جعل النجاسة للملاقى بالفتح نظير نجاسة الكلب في قبال نجاسة الخنزير ، غاية الامر كان هذا الحكم في ظرف ملاقاته للتنجيس بحيث يكون مثل هذه الجهة مأخوذا في موضوعه على نحو الشرطية من دون ان تكون نجاسته من جهة السراية من الملاقى بأحد الوجهين الآتيين ( ثانيها ) ان تكون من جهة السراية بمعنى الاكتساب بان تكون نجاسة الملاقي ناشئة عن نجاسة الملاقي بالفتح ومسببة عنها وفي طولها نظير نشو حركة المفتاح من حركة اليد فكان الملاقاة سببا لهذا النشو لا انها حكم مجعول مستقل في عرض الحكم بنجاسة الملاقى - بالفتح - ، ولا كونها انبساطا للنجاسة الثابتة للملاقى « ثالثها » ان تكون نجاسته لأجل السراية بمعنى الانبساط بان يكون الملاقاة منشأ لاتساع دائرة نجاسة الملاقى وانبساطها إلى الملاقى كاتساعها في صورة اتصال الماء المتنجس بغيره وامتزاجه به فكانت نجاسة الملاقي حينئذ من مراتب نجاسة الملاقى بل بوجه عينها ، لا انها فرد آخر من النجاسة في قبال نجاسة الملاقى كما في الصورة الأولى ، ولا مسببا عن نجاسته بحيث تكون في طول نجاسته وفى رتبة متأخرة عنها ( هذه ) وجوه ثلاثة متصورة في وجه نجاسة الملاقي للنجس ( وبتأتي ) مثلها أيضا بالنسبة إلى ملكية المنفعة والنماءات المتصلة والمنفصلة ، فان ملكية النماء والمنفعة ( تارة ) تعتبر ملكية مستقلة تعبدية في عرض ملكية العين بان كان تبعيتهما للعين بحسب الوجود محضا لا بحسب الملكية ( وأخرى ) تعتبر كونها ناشئة عن ملكية العين بحيث أخذ ملكية العين علة لملك النماء والمنفعة ( وثالثة ) تعتبر ملكيتهما من مراتب ملكية العين ومقام انبساطها بما يشمل النماء والمنفعة ( فعلى الوجه ) الأخير لا شبهة في أنه مع العلم الاجمالي بنجاسة أحد الشيئين أو غصبيته يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم وعماله من التوابع المتصلة والمنفصلة لوقوع الملاقي والنماء بمقتضى الانبساط المزبور طرفا للعلم الاجمال بالتكليف في عرض طرفية الملاقى والعين المثمرة الموجب لرجوع العلم الاجمالي إلى العلم بتكليف واحد في طرف أو تكليفين في طرف آخر ، بخلافه على الوجهين الأوليين ، فإنه لا يجب الاجتناب فيهما عن الملاقي للشك في ملاقاته للنجس المعلوم في البين وعدم احراز صغرى

ص: 355

الخطاب بالاجتناب عن ملاقي النجس ولو اجمالا هذا ( ولكن الوجه الأخير ) منها وكذا الوجه الأول ، غاية البعد ، فإنه مما لا يساعد عليه كلمات الأصحاب من التعبير بمثل ينجسه أو لا ينجسه ويفعل ونحوه ، فان الظاهر من نحو هذه التعبيرات هو كون نجاسة الملاقي من جهة السراية بمعنى السببية لا الانبساط ولا من جهة التعبد ، وكذا ما في متفرقات النصوص من التعبير بنحو ما ذكر كقولهم (عليهم السلام) ( الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء ) الظاهر في سببية نجاسة الشيء لنجاسة الماء عند عدم بلوغه كرا ( بل كلماتهم ) مشحونة بالسراية بمعنى السببية كما يشهد له بنائهم على ملاحظة السببية والمسببية بينهما والتزامهم بعدم معارضة أصالة الطهارة في الملاقي مع استصحاب النجاسة في الملاقى - بالفتح - ( والا فعلى ) السراية بمعنى الانبساط والاتساع لا مجال لهذا الكلام فان نجاسة الملاقى حينئذ انما تكون في عرض نجاسة الملاقى لكونها مرتبة سعة نجاسته وبعد عدم اقتضاء التعبد بنجاسة الملاقى لاثبات السراية التي هي من اللوازم العادية الواقعية تجري أصالة الطهارة في الملاقي فتعارض مع استصحاب النجاسة في الملاقى مع أنهم لا يلتزمون بذلك ، كل ذلك مضافا إلى قضاء الارتكاز العرفي في التنجيسات العرفية وقذاراتهم ، فان مقتضى الارتكاز العرفي هو كون نجاسة الملاقي من شؤون نجاسة الملاقى - بالفتح - وجائية من قبل ما لاقاه ، لا انها مرتبة سعة نجاسة الملاقى كطول الخط بالنسبة إلى ذاته ، ولا انها نجاسة مستقلة تعبدية في قبال نجاسة الملاقى ، ولذا ترى اباء ، ارتكازهم عن سراية النجاسة إلى الماء العالي الوارد ( وحينئذ ) فالمتعين من مجموع الكلمات والنصوص بضميمة الارتكاز العرفي هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المتقدمة لا الوجه الأول ولا الوجه الثالث فإنهما مما لا شاهد عليه لا من الاخبار ولا من الكلمات ، بل كان الشاهد فيهما على خلافهما ، ( الامر الثالث ) لا اشكال في أن كل طريق معتبر إذا قام على عنوان ذي أثر يوجب بقيامه عليه بحكم العقل ترتيب كل ما لذلك العنوان من الآثار التكليفية والوضعية عليه من غير فرق بين كون الطريق هو العلم الوجداني أو غيره ومن غير فرق بين كونه تفصيليا أو اجماليا ، فمع العلم الاجمالي بعنوان ذي أثر كالعلم بخمرية أحد المايعين يترتب على عنوان المعلوم جميع ما له من الآثار التكليفية والوضعية كحرمة شربه ونجاسة ملاقيه وفساد بيعه ووجوب الحد على شربه ،

ص: 356

ولكن ترتب الآثار المزبورة انما يكون على نفس عنوان المعلوم بالاجمال لا على كل واحد من المشتبهين ( فان ) نتيجة منجزية العلم الاجمالي للتكليف بالجامع لا تكون الا وجوب الاجتناب عقلا عن كل واحد من المشتبهين من باب المقدمة العلمية ومناط الفرار عن الضرر المحتمل لعدم الامن عن كون ما ارتكبه هو الحرام المنجز في البين وهذا المقدار لا يقتضي اشتراكهما مع المعلوم بالاجمال في جميع الآثار ، فلو فرض حينئذ انه لم يرتكب الا أحد الطرفين بشرب أو بيع ونحو ذلك لا يترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على المعلوم بالاجمال من الحرمة والنجاسة وفساد البيع ( كيف ) وان ثبوت تلك الآثار بحسب الجعل الأولي انما كان للعناوين الواقعية ولابد في ترتيبها على موضوع من احراز انطباق عناوينها عليه كي به يحرز صغرى الخطاب فيترتب عليه الآثار المزبورة ، ومع الشك الوجداني في انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الطرفين لا مجال لترتب الآثار الشرعية المترتبة على المعلوم بالاجمال عليهما ، بل لابد في كل منهما من الرجوع إلى الأصول الجارية فيه بالخصوص فيرجع في المثال المزبور بالنسبة إلى كل أثر إلى الأصل الجاري فيه من أصالة عدم موجب الحد بشربه ، وأصالة عدم نجاسة ملاقيه ، وأصالة عدم فسقه بارتكابه بناء على عدم كون التجري موجبا للفسق ويرجع في البيع الواقع عليه خارجا إلى أصالة الفساد بناء على علية العلم الاجمالي للموافقة القطعية ومنعه عن جريان الأصل النافي في بعض الأطراف ولو بلا معارض ( نعم ) على القول بالاقتضاء يكون المرجع فيه هي أصالة الصحة لو لم يكن هناك أصل حاكم عليها كاصالة عدم السلطنة وأصالة عدم الملكية من جهة خلوها حينئذ عن معارضة جريانها في الطرف الآخر لفرض عدم وقوع البيع الا على أحدهما ( وتوهم ) معارضتها بأصالة عدم السلطنة على بيع الاخر كما عن بعض ، بدعوى ان الصحة والفساد عبارة أخرى عن السلطنة وعدمها غير أنه قبل البيع يعبر عنهما بالسلطنة على البيع وعدم السلطنة عليه وبعد البيع يعبر بالصحة والفساد فمع معارضة أصالة السلطنة وسقوطها بمقتضى العلم الاجمالي من الطرفين لا يبقى مجال الحكم بالصحة فيه ( مدفوع ) بمنع رجوع الفساد إلى السلطنة المسلوبة بل انما هو مسيب عنها ، فإنه كما أن القدرة وهي السلطنة على البيع تكون متقدمة على البيع لكونها سبب ايجاده ، كذلك في طرف النقيض يكون عدم

ص: 357

السلطنة مقدما رتبة على عدم البيع ، ومعه كيف يمكن دعوى عينية كل من الصحة والفساد مع السلطنة ونقيضها ( وعليه ) لا محيص من اعتبار الصحة والفساد في ظرف وقوع البيع خارجا كما اعترف به القائل المزبور في العلم الاجمالي بين أمرين تدريجيين ، ولازمه خصوصا على ما اختاره من عدم جريان الأصول التنزيلية مطلقا في أطراف العلم هو الرجوع إلى أصالة الصحة التي لا يكون مجراها الا بعد البيع أو مقارنه ( نعم ) على المختار من جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم في صورة عدم استلزام جريانها للمخالفة العملية للمعلوم بالاجمال لا بأس بالحكم بالفساد بمقتضى أصالة عدم السلطنة أو أصالة عدم ملزومها وهي الملكية لو فرض جريانها ولو على القول بالاقتضاء ( الامر الرابع ) لا يخفى انه عند العلم بنجاسة أحد الشيئين وملاقاة ثالث لأحدهما كما يكون العلم الاجمالي بالنجاسة حاصلا بين الشيئين نفسهما ، كذلك يكون حاصلا بين الثالث الملاقي لأحدهما وبين طرف الملاقى ، بل العلم الاجمالي حاصل أيضا بين المتلاقيين أو الطرف ( الا ) ان العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - قد يكون ناشئا عن العلم بنجاسة الملاقى - بالفتح - ومسببا عنه كما لو علم بالملاقات بعد العلم بنجاسة أحد الشيئين ، وقد يكون سببا للعلم بنجاسة الملاقى بالفتح كما لو علم من الأول بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ثم علم بأنه على تقدير كون النجس المعلوم هو الملاقي لا يكون السبب في نجاسته الا جهة ملاقاته للملاقي - بالفتح - حيث أنه من قبل هذا العلم الاجمالي يحدث علم اجمالي آخر بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف بحيث كان العلم بنجاسته في طول العلم بنجاسة الملافي وفى رتبة متأخرة عنه وان كان المعلوم بهذا العلم المتأخر ثبوتا في رتبة سابقه عن المعلوم بالعلم السابق ، وثالثة يكون العلمان ناشئين عن وجود ثالث بلا سبق رتبي لأحدهما على الاخر كما لو علم بنجاسة المتلاقيين من الأول لا من جهة الملاقاة بل بأمر آخر مفيد للعلم ، ثم علم بانحصار منشأ نجاسة الملاقي بملاقاته مع الملاقى - بالفتح -.

( إذا عرفت هذه الأمور فاعلم ) انه بناء على المختار في وجه نجاسة الملاقي - بالكسر - من كونه لأجل السراية بمعنى السببية الموجب لكون نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقي وناشئة عن نجاسته ، فعلى القول باقتضاء العلم الاجمالي

ص: 358

للموافقة القطعية لا اشكال في أن لازمه هو الاقتصار في وجوب الاجتناب على خصوص الملاقى - بالفتح - والطرف نظرا إلى جريان أصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - بلا معارض ، من غير فرق في ذلك بين طولية العلمين أو عرضيتهما ( فان ) المانع عن جريان الأصل على هذا المسلك انما هو ابتلائه بالمعارضة بجريانه في الطرف الآخر ، وبعد مسببية الشك في نجاسة الملاقي والتكليف بالاجتناب عنه عن الشك في نجاسة الملاقى - بالفتح - وسقوط الأصل الجاري في الطرف بمعارضته مع الأصل الجاري في السبب وهو الملاقى في المرتبة السابقة يبقى الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - في ظرف جريانه بلا معارض ( وبذلك ) يظهر أنه على هذا المسلك لا يحتاج في الحكم بطهارة الملاقى إلى التشبث بالانحلال ولحاظ طولية العلمين ، فإنه في فرض عدم الانحلال أيضا تجري فيه أصالة الطهارة لخلوها عن معارضة جريانها في الطرف الآخر ، بل الحكم كذلك حتى في فرض خروج الملاقى - بالفتح - عن الابتلاء بتلف ونحوه قبل العلم الاجمالي ، لما يأتي من أن مجرد خروجه عن الابتلاء قبل العلم لا يوجب سقوط الأصل الجاري فيه بعد فرض الابتلاء بأثره الذي هو نجاسة ملاقيه ، فان لازمه هو معارضة الأصل الجاري فيه بملاحظة هذا الأثر مع الأصل الجاري في الطرف الآخر في المرتبة السابقة فيبقى الأصل في الملاقي في مرتبة جريانه سليما عن المعارض ( واما على القول بعلية العلم الاجمالي ) للموافقة القطعية ومنعه عن جريان الأصل النافي ولو في بعض الأطراف كما هو التحقيق ، فحيث ان الملاقي بنفسه يكون طرفا للعلم الاجمالي بالنجاسة بينه وبين الطرف كالملاقي - بالفتح - لا انه من قبيل ضم مشكوك بمعلوم بشهادة وجود العلم الاجمالي بينه وبين الطرف حتى مع فرض تلف الملاقى - بالفتح - ، كان اللازم هو التفصيل في منجزية هذا العلم بين الشقوق المتصورة سابقا في العلمين من حيث الطولية والعرضية ( وعليه ) نقول انه إذا كان العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف ناشئا عن العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف ، فلا شبهة في اختصاص التأثير بالعلم الاجمالي السابق بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف وانه لا أثر معه للعلم الاجمالي المتأخر رتبة من جهة تنجز التكليف بالاجتناب عن الطرف في المرتبة السابقة بالعلم الاجمالي السابق رتبة ، فإنه يعتبر في منجزية العلم الاجمالي ان لا يكون مسبوقا بمنجز آخر

ص: 359

موجب لتنجز أحد طرفيه والا فيخرج عن صلاحية المنجزية ومعه يرجع الشك في نجاسة الملاقي - بالكسر - ووجوب الاجتناب عنه إلى الشك البدوي فتجري فيه أصالة الطهارة ( وأما إذا كان ) الامر بعكس هذه الصورة بان كان العلم بنجاسة الملاقى - بالفتح - ناشئا عن العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف ومسببا عنه ، فاللازم حينئذ هو الاجتناب عن خصوص الملاقي والمشتبه الاخر دون الملاقى - بالفتح - لان العلم بنجاسة الملاقي أو الطرف بسبقه رتبة يؤثر في وجوب الاجتناب عن الملاقي والطرف وبعده لا يبقى مجال لتأثير العلم المتأخر رتبة بنجاسة الملاقى - بالفتح - أو الطرف في التنجيز كي يقتضي وجوب الاجتناب عن الملاقى فضلا عن اقتضائه لانحلال العلم السابق رتبة بين الملاقي والطرف ( لا يقال ) ان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف وان كان سابقا رتبة على العلم بنجاسة الملاقى بالفتح ولكن المعلوم بالاجمال في العلم اللاحق لما كان مقدما بحسب الرتبة على المعلوم بالاجمال في العلم السابق أوجب ذلك انحلال العلم الاجمالي السابق بالعلم الاجمالي اللاحق بنجاسة الملاقى بالفتح والطرف ، لان المدار في تأثير العلم في التنجز انما هو على سبق المعلوم والمنكشف لا على سبق العلم والكاشف ، فإذا كان التكليف بالملاقى سابقا في الرتبة على التكليف بالملاقي بالكسر لكون التكليف به جائيا من قبل التكليف بالملاقى ، فلا محالة في جميع فروض العلم الاجمالي يكون سبق التكليف المعلوم بين الملاقى بالفتح والطرف على التكليف المعلوم بين الملاقي والطرف موجبا لسبق تنجزه أيضا وان كان تعلق العلم به في طول العلم بالتكليف بالملاقي بالكسر وناشئا من قبله ، ولازمه سقوط العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف عن التأثير في جمع فروض المسألة لانقلابه من حين حدوث العلم بالتكليف بين الملاقى والطرف عن صلاحية المؤثرية في تنجيز متعلقه ، فترجع الشبهة بالنسبة إلى الملاقي بالكسر بدوية تجرى فيه أصالة الطهارة بلا معارض ( فإنه يقال ) ان هذه شبهة أوردها بعض الاعلام ( قده ) على المحقق الخراساني ( قده ) بما افاده من التفصيل بين فروض المسألة في وجوب الاجتناب عن الملاقي تارة ، والملاقى أخرى ، وثالثة عنهما بما يرجع حاصله إلى ما ذكر ( ولكنه ) من غرائب الكلام ، إذ بعد الجزم بان التنجز من لوازم العلم بالتكليف وحيث انكشافه

ص: 360

لا من لوازم نفس المعلوم والمنكشف بما هو ، والجزم بان التكليف في اي مرتبة وزمان لا يمكن تنجزه الا في ظرف العلم به لاستحالة تأثير العلم من حين وجوده في تنجز معلومه في المرتبة السابقة عن تحقق نفسه كما هو الشأن في كل علة بالنسبة إلى معلومه نقول ) انه لا مجال لتوهم انحلال العلم السابق بالتكليف بين الملاقي والطرف بالعلم اللاحق بالتكليف بين الملاقى والطرف بمحض سبق معلومه رتبة على المعلوم بالعلم السابق ، الا بفرض امكان تأثير العلم اللاحق في التنجيز السابق على وجوده أو فرض كون التنجيز من لوازم نفس التكليف الواقعي لا من لوازم وصوله وانكشافه ، وبعد بطلان الفرضين لا محيص في الفرض المزبور من تخصيص التنجيز بالعلم بالملاقي بالكسر ، لأنه بسبقه رتبة على العلم بالملاقى يؤثر في التنجيز وبتأثيره لا يبقى مجال لتأثير العلم اللاحق في تنجيز التكليف السابق ولو في ظرف وجوده ، ولا يجديه مجرد سبق معلومه بعد تأخر علمه عن علمه الموجب لقيامه على ما تنجز أحد طرفيه بمنجز سابق عليه رتبة ( وما قيل ) من أن التنجز وان كان من لوازم العلم بالتكليف وحيث انكشافه ، ولكنه بعد أن كان العلم من لوازم المعلوم وتوابعه كان سبق السبب على المسبب موجبا لسبق علمه على العلم بمسببه أيضا على معنى اقتضائه لتقدم الانكشاف القائم بالسبب على الانكشاف القائم بالمسبب وبهذه الجهة يكون تنجزه أيضا سابقا على العلم بالمسبب ( مدفوع ) غاية الدفع بأنه مع فرض تأخر العلم بالسبب في مرتبة تحققه عن العلم بالمسبب كيف يتصور اقتضاء تقدم السبب لتقدم علمه على العلم بالمسبب ( واما دعوى ) اباء الذوق المستقيم عن وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي مع كون التكليف به جائيا من التكليف بالملاقي ( مدفوع ) أيضا بان مجرد تبعية أحد المحكمين للاخر ثبوتا لا يقتضي التبعية في مقام التنجز أيضا ( كيف ) وان كل تكليف لابد في تنجزه من قيام الطريق إليه بخصوصه ولا يكفي مجرد العلم بأحد الحكمين في تنجز الحكم الاخر بلا كونه بنفسه طرفا لعلم اجمالي منجز ، فإذا كان العلم الاجمالي بين الملاقي والطرف منجزا للتكليف في الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح لسقوط علمه عن قابلية المؤثرية لأجل تأثير العلم السابق ، فأي ذوق يستوحش من التفكيك بينهما في مرحلة التنجز

ص: 361

( مع أن القائل المزبور على مختاره من القول بالاقتضاء لا يحتاج في الحكم بطهارة الملاقي بالكسر إلى اتعاب النفس لاسقاط العلم بالمسبب عن التأثير ، فإنه على مبناه من جعل منشأ سقوط الأصول في أطراف العلم هي المعارضة يجرى الأصل المسببي في الملاقي بالكسر بلا معاوض لسقوط أصالة الطهارة الجارية في طرفه في المرتبة السابقة بمعارضتها مع أصالة الطهارة الجارية في السبب وهو الملاقى ( نعم ) بناء على علية العلم الاجمالي ومنعه عن جريان الأصل ولو في طرف واحد يحتاج الحكم بطهارة الملاقي إلى دعوى انحلال علمه بالعلم المتأخر بالتكليف بين الملاقى بالفتح والطرف ( ولكنك ) عرفت انه لا سبيل إلى دعواه ، وانه لابد بمقتضى قواعد العلم الاجمالي من تخصيص التنجيز بالعلم بالتكليف بين الملاقي والطرف ، لأنه بسبقه رتبة على العلم بالملاقي بالفتح يؤثر في التنجيز في الرتبة السابقة فلا يبقى بعد مجال لتأثير العلم اللاحق رتبة لأنه انما يتحقق في رتبة غير قابلة للتأثير فيرجع الشك بالنسبة إلى الملاقى بالفتح بدويا تجري فيه أصالة الطهارة ( ثم انه بالتأمل ) فيما ذكرناه يظهر الحال في الصورة الثالثة وهي صورة عرضية العلمين كما فرضنا ( فإنه ) بعد عدم اقتضاء سبق المعلوم في أحد العلمين على المعلوم بالعلم الآخر لسبق تنجزه لابد بمقتضى عرضية العلمين وتقارنهما من الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا والطرف لتأثير كل من العلمين - ح - بوروده على غير المنجز أحد طرفيه بمنجز سابق في تنجز متعلقه ، وفى الحقيقة مرجع ذين العلمين إلى علم واحد بالتكليف المردد بين تكليف واحد في طرف وتكليفين في طرفين آخرين ومقتضاه هو وجوب الاجتناب عن الجميع ( هذا كله ) بناء على كون نجاسة الملاقي بالكسر في طول نجاسة الملاقى اما بمناط التعبد محضا أو بمناط السراية بمعنى السببية كما هو المختار ( واما بناء ) على عرضية نجاستهما كما هو لازم السراية بمعنى الانبساط والاتساع ( فقد يقال ) بكفاية مجرد العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى والطرف في وجوب الاجتناب عن الملاقى بالكسر بلا حاجة إلى كونه بنفسه طرفا للعلم الاجمالي ، لأنه على هذا تكون نجاسته من شؤون نجاسة الملاقى بالفتح بل عين نجاسته فيكفي في وجوب الاجتناب عنه بمجرد العلم بنجاسة الملاقى والطرف ( ولا يخفى ) ما فيه فإنه وان كان نجاسة الملاقي بناء على الانبساط مرتبة من نجاسة الملاقى بالفتح ، ولكنه بعد أن كان الملاقي معروضا مستقلا للنجاسة لابد وأن يكون التكليف المتولد من نجاسته أيضا تكليفا مستقلا في عرض التكليف المتولد من نجاسة الملاقي ومع تعدد

ص: 362

تكليفهما لا محيص في تنجز كل تكليف من العلم به مستقلا فلا معنى لدعوى كفاية العلم بالتكليف بين الملاقي والطرف في تنجز التكليف بالملاقى ولو مع عدم كونه بنفسه طرفا للعلم الاجمالي كما هو ظاهر وحينئذ فلا محيص في وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر من فرض وقوعه بنفسه طرفا للعلم الاجمالي ليدخل بذلك في صغرى العلم الاجمالي اما بتكليف واحد في طرف أو تكليفين في طرفين آخرين ( ثم انه بما ذكرنا كله ) ظهر حال النماء والمنفعة بالنسبة إلى ذي النماء والعين على كل من فرضي كون ملك النماء والمنفعة في طول ملك العين بحيث اخذ ملكية العين علة لملك النماء والمنفعة أو في عرض ملك العين بحيث كان تبعيتهما للعين بحسب الوجود محضا لا بحسب الملكية أيضا ، فإذا كانت الشجرة المثمرة طرفا للعلم الاجمالي بالغصب يجري في الشجرة وثمرتها جميع ما ذكرناه في الملاقى والملاقي حرفا بحرف ( تذييل ) لبعض الأجلة من المعاصرين قده اشكال على من خصص وجوب الاجتناب بالملاقى بالفتح والطرف دون الملافي بالكسر بتقريب ان التكليف بالملاقى وان كان جائيا من قبل التكليف بالملاقى وبذلك تكون رتبة الأصل الجاري في السبب وهو الملاقى بالفتح متقدمة على الأصل الجاري في الملاقي ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي ، الا انه بعد سقوط أصالة الطهارة في الملاقى بمعارضتها مع أصالة الطهارة الجارية في الطرف ينتهي الامر إلى أصل مسببي آخر وهي أصالة الحلية من جهة سببية الشك في حلية كل من الملاقى والطرف عن الشك في طهارته ، وحيث إن هذا الأصل في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقي بالكسر فلا محالة في هذه المرتبة تسقط الأصول الثلاثة ، وبعد سقوطها تصل النوبة إلى أصالة الحلية في الملاقي بالكسر لسقوط معارضها وهي أصالة الحلية في الطرف في المرتبة السابقة فيلزم الحكم حينئذ بجواز شربه مع عدم صحة الوضوء به ونحوه مما هو مشروط بطهارته ، مع أن هذا التفكيك مما لا قائل به فان كل من قال بجواز شربه قال بصحة الوضوء به لأصالة طهارته ( ولا يخفى عليك ) انه على المختار من علية العلم الاجمالي ومانعيته عن جريان الأصل النافي ولو بلا معارض لا وقع لهذا الاشكال ، فإنه بتأثير العلم السابق بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف لا مجال لجريان شيء من الأصول الجارية في الطرف حتى أصالة الحلية ولو على فرض خلوها عن المعارض ومعه لا تجري أصالة الحلية في الطرف كي تصلح للمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر فتجري حينئذ أصالة الطهارة في الملاقي لرجوع الشك في نجاسته

ص: 363

إلى الشك البدري ( نعم ، بناء على مسلك اقتضاء العلم وحصر سقوط الأصول بالمعارضة لا مناص عن الاشكال المزبور ، ولا يجديه أيضا دعوى انحلال العلم الاجمالي بين الملاقي والطرف وسقوطه عن التأثير بتأثير العلم السابق بالتكليف بين الملاقى بالفتح والطرف ، لان مناط سقوط الأصول على هذا المسلك انما هي المعارضة ، فمع تحقق المعارضة بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الحلية في الملاقى والطرف لا محيص من جريان أصالة الحلية في الملاقي فيتوجه شبهة التفكيك المزبور.

( فرعان ) الأول لو فقد الملاقى بالفتح فان كان ذلك بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو المشتبه الآخر فلا اثر لفقده بالنسبة إلى ملاقيه ( واما لو كان ) ذلك قبل العلم الاجمالي كما إذا حصل الملاقاة وفقد الملاقى بالفتح ثم حصل العلم الاجمالي اما بنجاسة المفقود أو المشتبه الاخر ، فعلى مسلك علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا اشكال في وجوب الاجتناب عن ملاقيه للعلم الاجمالي بالتكليف بينه والطرف وعدم ما يوجب منعه عن التأثير من أصل أو قاعدة اشتغال مثبت للتكليف في بعض أطرافه بعد انعزال العلم الاجمالي السابق بين الملاقى بالفتح والطرف عن التأثير بحدوثه بعد خروج بعض أطرافه عن الابتلاء ( واما على مسلك ) الاقتضاء فقد يقال بقيام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب نظرا إلى معارضة الأصل الجاري فيه مع الأصل الجاري في الطرف بعد عدم جريانه في المفقود والخارج عن الابتلاء ( وفيه ان ) عدم جريان الأصل في التالف أو الخارج عن الابتلاء انما هو بالنسبة إلى اثره الخارج عن مورد ابتلاء المكلف فعلا من نحو حرمة ارتكابه ووجوب الاجتناب عنه ، واما بالنسبة إلى اثره المبتلى به فعلا كنجاسة ملاقيه فلا باس بجريان الأصل فيهما بلحاظ هذا الأثر ، ولذا ترى بنائهم على اجراء أصالة الطهارة في الماء التالف فعلا عند الابتلاء بأثره من نحو صحة الوضوء به وطهارة البدن والثوب المغسول به بلا التفات منهم إلى الأصول الجارية في نفس الأمور المزبورة ( وعليه نقول ) انه بعد أن كان نجاسة الملاقي بالكسر ووجوب الاجتناب عنه من آثار نجاسة الملاقي بالفتح ، تجرى فيه أصالة الطهارة بلحاظ هذا الأثر ولو في ظرف تلفه وخروجه بنفسه عن الابتلاء ، فتعارض أصالة الطهارة الجارية في المشتبه الاخر وبعد سقوطهما تصل النوبة إلى الأصل

ص: 364

الجاري في المسبب وهو الملاقي بالكسر ، فتجري فيه أصالة الطهارة لسقوط معارضها في المرتبة السابقة بالمعارضة مع الأصل الجاري في الملاقى بالفتح كما في في صورة عدم فقده ( واما توهم ) ان المجعول في الملاقي بالكسر لا يكون الا طهارة واحدة لا طهارتان لامتناع جعل طهارتين لشئ واحد ومع سقوطها بالمعارضة مع الأصل في الطرف لا يبقى مجال لجريانها ثانيا في الملاقي ( فمدفوع ) بان الممتنع انما هو جعل طهارتين لشئ في عرض واحد واما جعل الطهارتين الطوليتين إحداهما من حيث نفسه والأخرى من حيث سببه بنحو لا يكاد اجتماعهما في مرتبة واحدة بل وزمان واحد ، فلا برهان يقتضى امتناعه ، والا اقتضى المنع عن جريان أصالة الطهارة فيه حتى في ظرف بقاء الملاقى بالفتح ، مع أنه لا يلتزم به المتوهم المزبور أيضا ( ومع الغض ) عن ذلك ، نقول انه بعد أن كان لهذه الطهارة الواحدة المجعولة طريقان أحدهما في مرحلة الدلالة والحجية في طول الاخر بحيث لا تصل النوبة إلى الثاني الا بعد سقوط الأول عن الحجية ولو بالتعارض ، فلا مانع عن الاخذ بالأصل الجاري في الملاقي بعد سقوط الأصل في الطرف بمعارضته مع الأصل الجاري في الملاقى ، لان ذلك هي نتيجة جعل الطريقين الطوليين ، والا لا يجرى الأصل فيه حتى في ظرف وجود الملاقى بالفتح كما هو ظاهر وحينئذ فلا محيص من التفصيل في وجوب الاجتناب عن الملاقى بالكسر عند فقد الملاقى قبل العلم بين المسلكين في العلم الاجمالي ، ولعل اطلاق كلام الشيخ قده بقيام الملاقي بالكسر مقام الملاقى بالفتح عند فقده مبنى على القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره قده ، والا فعلى القول بالاقتضاء لا وجه لدعوى قيامه مقام التالف ومعارضة الأصل الجاري فيه مع الأصل الجاري في الطرف ، بل اللازم على هذا المسلك هو عدم التفصيل في جريان أصالة الطهارة في المسبب وهو الملاقي بين صورة وجود الملاقى بالفتح وبين صورة فقده أو خروجه عن الابتلاء ( نعم ) انما يتجه التفصيل المزبور بين صورة وجود الملاقى وفقده فيما إذا كان الأصل من الأصول غير التنزيلية ، كاصالة الحلية على وجه ، فإنه بعد عدم جريانها في التالف بعدم صلاحية التالف لجعل الحلية الظاهرية فيه ، ينتهي الامر مع فقده في أصالة الحلية في الملاقي ، فتعارض الأصل الجاري في الطرف ، وبعد تساقطهما يؤثر العلم الاجمالي بينهما اثره ( ثم لا يخفى ) ان ما ذكرنا من وجوب

ص: 365

الاجتناب عن ملاقي المفقود على العلية ، انما هو في صورة عدم علمه بعود المفقود بعد ذلك وصيرورته مورد ابتلاء المكلف ، والا ففي فرض عوده في زمان يمكن فيه الامتثال لا يجب الاجتناب عن الملاقي من جهة سقوط علمه حينئذ عن التأثير بسبقه بعلم اجمالي آخر وهو العلم بتكليف غير محدود في الطرف أو بتكليف محدود في الملاقى بالفتح ، فإنه بتأثير هذا العلم في التنجيز يخرج العلم بين الملاقي والطرف عن صلاحية المنجزية ، فيرجع الشك بالنسبة إلى الملاقي بدويا تجري فيه أصالة الطهارة كما هو ظاهر ( الثاني ) إذا كان لاحد طرفي العلم الاجمالي اثر واحد وللآخر اثران ولكنه يشك في أن الاثرين عرضيان أو طوليان كما في نجاسة الملاقى والملاقي بناء على الشك في أن نجاسة الملاقي من باب السراية بمعنى الانبساط أو من باب السراية بمعنى الاكتساب أو التعبد ، وكما في ضمان المنافع مع الشك في كونه في عرض ضمان العين بلحاظ ان اليد على العين يد على العين والمنفعة ، أو في طول ضمان العين ( فنقول ) ان الصور المتصورة في ذلك ثلاثة ، فإنه تارة يكون الدوران بين العرضية والطولية في كل واحد من الاثرين « وأخرى » يكون احتمال العرضية والطولية في خصوص أحد الاثرين ، واما الاخر فلا يحتمل فيه ذلك ، بل امره يدور بين ان يكون في عرض ذلك الأثر أو في رتبة سابقة عليه ، كما في نجاسة الملاقي والملاقى ، وكما في ضمان المنافع في الأعيان المغصوبة « وثالثة » لا يحتمل العرضية في شيء من الاثرين ، بل الدوران بينهما كان في الطولية خاصة لاحتمال السببية والمسببية في كل منهما كما يفرض ذلك في الملاقي والملاقى بناء على السراية بمعنى السببية فيما لو اشتبه الملاقي بالملاقى ولم يدر أيهما هو الملاقى ( فهذه ) هي الصور المتصورة في المقام ( واما حكمها ) ففي جميع الصور المزبورة على كل واحد من مسلكي العلية والاقتضاء في العلم الاجمالي هو الاحتياط ، وذلك ( واما على مسلك ) الاقتضاء فظاهر ، لان جريان الأصل النافي على هذا المسلك في بعض الأطراف انما هو بمناط السببية والمسببية الموجبة لحكومة أحد الأصلين على الاخر ، ومن الواضح ان ذلك انما يكون في فرض العلم بوجود الحاكم واحرازه بعينه المتوقف على العلم بالطولية بين الاثرين أيضا ، والا فلا يكفي مجرد احتمال وجود الحاكم واقعا في رفع اليد عن أصل المحكوم ، وحينئذ فعند الشك وعدم احراز الحاكم بعينه لابد من الاحتياط للشك في أصل وجود الحاكم ، في

ص: 366

الصورة الأولى ، والثانية ، وفي تعيينه في الصورة الثالثة ( واما على مسلك ) علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية فلما عرفت غير مرة من أن جواز الرجوع إلى الأصل النافي ولو في بعض الأطراف انما يكون بانحلال العلم الاجمالي بقيام ما يوجب انحلاله أو بدلية بعض الأطراف تعيينا عن الواقع ، ومن الواضح انه لابد في ذلك من العلم بالانحلال وجعل البدل ووصولهما إلى المكلف ، والا فلا يكفي مجرد احتمالهما في رفع اليد عما يقتضيه العلم الاجمالي من لزوم الاحتياط كما هو ظاهر ( وكيف كان ) فهذا كله في الشبهة الموضوعية التحريمية ( واما الشبهة ) الحكمية فيعلم حكمهما مما ذكرنا في الشبهة الموضوعية ، حيث يجرى فيها جميع ما ذكرناه من منجزية العلم الاجمالي وعليته لوجوب الموافقة القطعية حرفا بحرف فلا يحتاج إلى إعادة البحث فيها ( هذا كله ) إذا كان الحرام المشتبه مرددا بين المتبائنين ( واما ) إذا كان مرددا بين الأقل والأكثر فسيتضح حكمه انشاء اللّه تعالى في طي الشبهة الوجوبية

المبحث الثاني في الشبهة الوجوبية

وفيها مقامان ( الأول ) فيما إذا كان الواجب مرددا بين أمرين متباينين كما لو تردد الامر بين وجوب الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، وبين القصر والاتمام في رأس أربعة فراسخ ، ونحو ذلك ( والأقوى ) فيها وجوب الاحتياط بالموافقة القطعية ، لعين ما تقدم في الشبهة التحريمية من منجزية العلم الاجمالي وعليته بحكم العقل لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية على وجه يمنع عن مجيء الترخيص الظاهري على خلاف التكليف المعلوم بالاجمال ولو في بعض الأطراف ، الا إذا كان هناك ما يوجب انحلال العلم الاجمالي أو بدلية بعض الأطراف عن الواقع من أصل موضوعي أو حكمي مثبت للتكليف في بعض الأطراف ، من غير فرق في ذلك كله بين كون الشبهة موضوعية ، أو حكمية ، ولا في الثاني بين كون منشأ الاشتباه هو فقد نص المعتبر ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ( نعم ، في فرض تعارض النصين يكون الحكم هو التخيير في الاخذ بأحد الخبرين ، للنصوص الامرة في التخيير في الاخذ بأحدهما فيخرج مثل هذه الصورة عما هو معقد البحث في العلم الاجمالي ( نعم ، يدخل في المقصد تعارض الآيتين والاجماعين المنقولين

ص: 367

بناء على عدم الحاقهما بالخبرين المتعارضين في الحكم المزبور كما هو التحقيق أيضا ، فيرجع فيهما بعد التساقط إلى قواعد العلم الاجمالي ( ثم انه قد يتمسك ) بالاستصحاب لوجوب الاتيان بالمحتمل الاخر عند الاتيان بأحد المحتملين ، اما مطلقا ، أو في مورد لم يكن هناك قاعدة اشتغال ، كما لو حدث العلم الاجمالي بوجوب أحد الامرين بعد الاتيان بأحدهما ، وذلك تارة باجرائه في الموضوع باستصحاب عدم الاتيان بما هو الواجب المعلوم في البين ، وأخرى في الحكم باستصحاب بقاء وجوب ما وجب سابقا وعدم سقوطه بفعل أحدهما ، نظرا إلى تمامية أركانه فيهما من اليقين السابق والشك اللاحق ( ولكن فيه ما لا يخفى ) اما الأول ، فهو وان تم فيه أركان الاستصحاب لتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين السابق وهو العنوان الاجمالي المعبر عنه بأحد الامرين ، الا ان الاشكال فيه انما هو من جهة عدم تعلق اليقين والشك بعنوان ذي اثر شرعي ، فان العنوان الذي تعلق به اليقين والشك وهو العنوان الاجمالي لا يكون بهذا العنوان مما له الأثر الشرعي حتى يصح التعبد ببقائه ، وماله الأثر الشرعي انما هي العناوين التفصيلية كعنوان صلاة الظهر والجمعة والقصر والاتمام ، ومثل هذه العناوين مما اختل فيه أحد ركني الاستصحاب من اليقين السابق أو الشك اللاحق ( وبهذه الجهة ) نقول أيضا بعدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، ولا في المفهوم المجمل المردد بين الأقل والأكثر كعنوان الرضاع المحرم ( لان ) ما هو مشكوك البقاء لا اثر له وما له الأثر وهو العنوان التفصيلي مردد بين ما هو متيقن الارتفاع وما هو متيقن البقاء « فعلى كل حال » لا يجرى الاستصحاب ، اما لفقد الأثر ، واما لاختلال أحد ركني الاستصحاب وهو الشك في البقاء ( ولا يقاس ) المقام بباب استصحاب الكلى والقدر المشترك بين الفردين كاستصحاب الحدث المردد بين الأكبر والأصغر ، للفرق الواضح بين المقام وما هناك ، حيث إن الكلى بنفسه موضوع للأثر الشرعي فيجري فيه الاستصحاب - بخلاف المقام - فإنه ليس لذلك العنوان المعلوم بالاجمال وهي الصلاة المرددة بين القصر والاتمام أو الظهر والجمعة اثر شرعي بهذا العنوان حتى يصح التعبد ببقائه بلحاظه وهو واضح ( نعم لو اغمض عما ذكرنا ) وقلنا بكفاية مرأتية عنوان المشكوك بقائه لما له الأثر الشرعي في صحة التعبد ببقائه - لا يرد عليه ما عن بعض الاعلام من الاشكال باستلزامه التعبد بما هو معلوم

ص: 368

البقاء وما هو معلوم العدم - من جهة ان معنى استصحاب الفرد المردد انما هو التعبد ببقاء الفرد الحادث على ما هو عليه من الترديد وهو يقتضي الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير سواء كان هو الفرد الباقي أو الزائل - وهو ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير وبقائه على تقدير آخر ( حيث إن الاشكال ) المزبور مبني على سراية اليقين والشك من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى العناوين التفصيلية - والا فبناء على وقوفهما على نفس العنوان الاجمالي كما هو التحقيق بشهادة اجتماع اليقين الاجمالي بالشيء مع الشك التفصيلي بالنسبة إلى خصوصيات الأطراف - فلا يقتضي استصحاب الفرد المردد أيضا الا التعبد ببقاء ما هو المعلوم سابقا من دون تعديه إلى العناوين التفصيلية ( كيف ) وان التعبد الاستصحابي انما هو تابع شكه وبعد عدم تعدي الشك عن مورده الذي هو متعلق اليقين الاجمالي إلى العناوين التفصيلية لا يكاد يتعدى التعبد بالبقاء أيضا عن مورد شكه - كي يقتضى ابقاء كل واحد من الطرفين المعلوم تفصيلا بقاء أحدهما وارتفاع الاخر وحينئذ فالعمدة في الاشكال على الاستصحاب المزبور هو ما ذكرناه - فتدبر ( هذا كله ) في استصحاب الموضوع ( واما استصحاب ) الحكم والتكليف المعلوم وجوده في البين ( فان ) أريد به استصحاب شخص التكليف المعلوم بالاجمال بما هو مردد بين الوجوب المتعلق بالظهر أو الجمعة ( يتوجه عليه ) الاشكال المتقدم من عدم كون المستصحب بهذا العنوان الاجمالي اثرا شرعيا كي يجري فيه الاستصحاب ( وان أريد ) به استصحاب الكلى والقدر المشترك بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع - ( فله ) وجه بناء - على أن نتيجة استصحاب الحكم والتكليف عبارة عن جعل المماثل - حيث إنه بعد عدم امكان جعل الجامع الا في ضمن الفصل والخصوصية أمكن اثبات خصوص وجوب الفرد الباقي بالاستصحاب المزبور - لأنها حينئذ تكون من اللوازم العقلية لمطلق وجود الكلى والجامع ولو ظاهرا - لا انها من لوازم خصوص الواقع كي يرد عليه اشكال المثبتية - وبعد عدم امكان كون فصله هي الخصوصية المرتفعة فبالاستصحاب المزبور بتعين خصوص وجوب الباقي - وبذلك لا يبقى مجال لجريان قاعدة الاشتغال من جهة ورود الاستصحاب عليها لكونه بيانا ورافعا لموضوعها كما في استصحاب شخص التكليف في موردها وهو ظاهر ( نعم ) بناء على المختار من كون نتيجة الاستصحاب سواء في الحكم أو الموضوع عبارة عن مجرد الامر بالمعاملة مع المشكوك

ص: 369

معاملة المتيقن في لزوم الجري العملي على وفقه بلا جعل حكم في البين « يتوجه عليه » اشكال المثبت على تقدير إرادة اثبات وجوب الفرد الباقي ، كما أنه على تقدير عدم اثبات ذلك يتوجه عليه محذور لغوية الاستصحاب المزبور « لوضوح » انه انما يجري استصحاب الجامع في صورة الجزم بترتب الأثر العملي عليه ، وهذا انما يكون في ظرف اليقين بان المورد مورد عمله وامتثاله واحراز انه مصداق للجامع ، والا فمع الشك فيه كما في المقام لم يحرز لهذا الجعل اثر عملي فلا يجري الاستصحاب كي يقتضى وجوب الاتيان بالمحتمل الاخر ، وان لم يكن في البين قاعدة اشتغال أيضا كما هو ظاهر.

« وينبغي التنبيه على أمور » الأول ( قد يقال ) بعدم وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية في الشرائط والموانع كالقبلة والساتر وما يصح السجود عليه - بدعوى سقوط الشرطية عند الاشتباه وحكي عن الحلي قده الحكم بوجوب الصلاة عاريا عند اشتباه الساتر الطاهر بالنجس لسقوط وجوب الستر حينئذ - ولم يعلم وجه لسقوط الشرطية بمجرد الجهل بالموضوع وتردده بين أمور محصورة - الا إذا استفيد من دليل الشرطية اختصاصها بصورة العلم بموضوعها تفصيلا - والا فعلى فرض اطلاق أدلتها - لا محيص بمقتضى العلم الاجمالي من الاحتياط وتكرار الصلاة ( نعم ) في فرض اشتباه الساتر الطاهر بالنجس - أمكن دعوى سقوط الشرطية حينئذ لأهمية حيث مانعية النجاسة من شرطية الساتر في الصلاة - كما هو ذلك في فرض انحصار الساتر بالنجس - حيث إنه أفتى جماعة - بل قيل إنه المشهور بوجوب الصلاة عاريا - فيقال حينئذ ان لزوم ترك لبسهما في الصلاة بمقتضى العلم الاجمالي مستتبع لعدم القدرة على الساتر وهو موجب لسقوط شرطيته عند الاشتباه بالنجس ( ولعله ) إلى ذلك أيضا نظر الحلي قده في مصيره إلى الغاء شرطية الستر ووجوب الصلاة عاريا - لا انه من جهة استفادة اختصاص الشرطية من دليل الشرط بصورة العلم التفصيلي بطهارة الثوب ( ولكن ) مثل هذا الكلام انما يتم في صورة ضيق الوقت بحيث لا يفي الا لصلاة واحدة - واما مع سعة الوقت والتمكن من تكرار الصلاة فيهما - فلا مجال لهذه المزاحمة - بعد امكان حفظ كل من شرطية الستر ومانعية النجاسة بتكرار الصلاة فيهما - اللّهم الا ان يكون نظر الحلي قده في حكمه بوجوب الصلاة

ص: 370

عاريا إلى تقديم اعتبار الامتثال التفصيلي في العبادة على شرطية الستر - كما يكشف عنه حكمه بعدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة حتى مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي ( ولكن ) سيجيء ما فيه انشاء اللّه تعالى.

( الثاني ) إذا كان المعلوم بالاجمال من العبادات ، فهل يكفي في صحتها مجرد الاتيان بها بداعي احتمال الامر والمطلوبية كما في الشبهات البدوية المحضة ، أو لا يكتفي بذلك ، بل لابد من قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمالي على كل تقدير المتوقف على أن يكون المكلف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر أيضا ( فيه وجهان ) مبنيان على المسلكين في مبحث قصد القربة من البراءة والاشتغال في نحو هذه القيود غير المأخوذة في متعلق الامر « فعلى القول بالبرائة هناك كما هو المختار » يجوز الاكتفاء في المقام بداعي احتمال الامر في الخروج عن العهدة كما في موارد الشبهات البدوية ولا يعتبر في صحة الماتى به ان يكون حال الاتيان به قاصدا للاتيان بالمحتمل الاخر بل يصح ذلك ويحصل الامتثال به على على تقدير تعلق الامر به واقعا ولو كان قاصدا لعدم الاتيان بالمحتمل الآخر ( واما على القول ) بالاشتغال فلابد في صحة المأتي به والخروج عن عهدة الامتثال من قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ولا يجوز الاكتفاء بقصد احتمال تعلق الامر به ( ومن العجب ) ان بعض الاعلام قده مع التزامه باعتبار الامتثال الجزمي في العبادة مهما أمكن في حسن الطاعة وتحقق الامتثال وبنائه على الاشتغال في نحو هذه القيود عند الشك في اعتبارها ، التزم في المقام بجواز الاكتفاء بداعي احتمال تعلق الامر بالمأتي به ، نظرا إلى تخيل كون الامتثال احتماليا على كل تقدير ( حيث ) أورد على الشيخ قده القائل بلزوم قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير في حسن الطاعة والامتثال وعدم جواز الاكتفاء بمجرد قصد احتمال الامر ( بان ) مجرد العلم بتعلق الامر بأحد المحتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات بين البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي ، فان الطاعة والامتثال على كل حال لا تكون الا احتماليا ، لأنه لا يتمكن المكلف بأزيد من قصد امتثال الامر الاحتمالي عند الاتيان بكل من المحتملين ، فلا يتوقف تحقق الامتثال في كل منهما على قصد الامر المعلوم بالاجمال ، بل لو اتى المكلف بأحد

ص: 371

المحتملين من دون ان يكون قاصدا للاتيان بالمحتمل الاخر يحصل الامتثال ( ولا يخفى عليك ) وضوح الفرق بين ان يكون الداعي على الاتيان بالمحتمل احتمال تعلق الامر به ، وبين ان يكون الداعي على الاتيان به هو احتمال انطباق العبادة المعلومة بالاجمال المأتية بداعي امره الجزمي عليه ، فان الانبعاث على الثاني يكون انبعاثا عن الامر الجزمي وان الاحتمال مقدمة لتطبيق ما يدعوه جزما على مورده ، لا ان ما يدعوه إليه هو احتمال الامر والمطلوبية ، بخلاف الأول فإنه انبعاث عن الامر المحتمل بما هو محتمل ، وبعد الالتزام باعتبار الانبعاث الجزمي في صحة العبادة مهما أمكن لا مناص من المصير في المقام إلى لزوم قصد الامر المعلوم بالاجمال في كل من المحتملين المتوقف على كونه حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر ، فتدبر فيما ذكرنا فإنه دقيق وبالقبول حقيق.

( الثالث ) لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتبين ، كالظهر والعصر المردد بين القصر والاتمام ، أو بين الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ، فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات العصر ان يكون بعد استيفاء جميع محتملات الظهر ، أو انه لا يعتبر ذلك ، فيجوز الاتيان ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر بان يأتي بكل واحد من محتملات العصر عقيب فعل كل واحد من محتملات الظهر إلى الجهة التي صلى الظهر إليها بنحو يحصل له اليقين بحصول الترتيب بينهما بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين ( فيه وجهان ) قد يقرب الأول من جهة دعوى تقدم رتبة الامتثال التفصيلي مهما أمكن على الامتثال الاجمالي ، ببيان انه كما يجب تقديم الامتثال التفصيلي مع الامكان في موارد اشتباه القبلة واشتباه الثوب الطاهر بالنجس ، فلا يجوز تكرار الصلاة كذلك في المقام ، فإنه بعد اشتراط الترتيب بين الظهرين لابد في مقام الامتثال من احراز تحقق الترتيب حال الاتيان بمحتملات العصر ، ولا يكفي مجرد العلم بتحققه بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين بعد امكان رفع الترديد من جهة شرطية الترتيب ، بان يكون شروعه في محتملات العصر بعد القطع بفراغ ذمته عن التكليف بالظهر ( ولكن فيه ) أولاً منع تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي ، بعد كون الثاني كالأول في الخروج عن العهدة ، لعدم تمامية ما أفادوه في وجه تقديم الامتثال التفصيلي كما حققناه في محله

ص: 372

( ولو سلم ذلك ) فإنما هو إذا كان اهماله موجبا للتردد في أصل الواجب بنحو يلزم منه التكرار في العبادة ، فلا يجري في مثل المقام - حيث لا يلزم من اهماله تكرار زائد عما يقتضيه حيث اشتباه القبلة مثلا - كي يقال انه كما يجب رفع أصل الترديد مع الامكان - كذلك يجب تقليله مهما أمكن « وثالثا » مع الغض عن ذلك ( نقول ) ان ذلك انما ينتج إذا كان المعتبر في الصلاة هو القطع بوقوع محتمل العصرية بما انه محتمل عقيب الظهر الواقعي ( والا ) فبناء على أن المعتبر هو القطع بوقوع العصر الواقعي عقيب الظهر الواقعي - فلا يفرق بين الصورتين ( فان الإضافة ) القبلية كما انها مشكوكة في الصورة الثانية حال الاتيان بكل واحد من محتملات العصر ، كذلك تكون مشكوكة في الصورة الأولى - نظرا إلى الشك في عصرية المحتمل المأتى به - غير أن الفرق بينهما انه في الصورة الثانية يكون الشك في تحقق الإضافة القبلية ناشئا عن الشك في تحقق طرفي الإضافة ، وفي الصورة الأولى يكون الشك فيها ناشئا عن الشك في تحقق طرف واحد وهو عصرية المأتي به ، وهذا المقدار من الفرق غير مجد في التفرقة بينهما ( واما الجزم التقديري ) بتحقق الترتيب بينهما - فهو كما أنه حاصل في الصورة الأولى - كذلك هو حاصل في الصورة الثانية - فإنه على تقدير كون المأتي به عصرا واقعيا يقطع بتحقق الترتيب بينهما - من جهة ملازمة عصرية الماتى به واقعا لكون تلك الجهة هي القبلة الملازم لكون الماتى به أولاً إلى تلك الجهة بعنوان الظهرية واقعيا ( ولئن شئت قلت ) ان الشك في جميع المحتملات متعلق بالقبلة محضا. والا فمن حيث الترتيب لا شك فيه ولا ترديد بل هو مما يقطع بتحققه في فرض كون القبلة هي الجهة التي صلى الظهرين إليها ، لا ان هناك ترديد ان يتعلق أحدهما بالقبلة - والاخر بالترتيب - كي يقال بلزوم رفع الجهل والترديد وتقليله مع الامكان ( كيف ) ولازم تعدد الجهل انما هو بقاء أحدهما في فرض ارتفاع الاخر - كما في الجهل الحاصل من جهة القبلة واللباس وليس كذلك في المقام - فإنه لو فرض ارتفاع الجهل من جهة القبلة لا ترديد من جهة الترتيب وذلك لا من جهة لملازمة ارتفاع الترديد من جهة القبلة لارتفاعه من جهة الترتيب ، بل من جهة عدم كونه بنفسه مع قطع النظر عن الجهل بالقبلة موردا للشك والترديد ( وحينئذ ) فالتحقيق هو الوجه الثاني - وهو كفاية فعل بعض

ص: 373

محتملات الظهر في صحة الشروع في محتملات العصر على نحو يحصل اليقين بحصول الترتيب بينهما بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين فتدبر ( هذا كله ) فيما كان الواجب مرددا بين المتبائنين.

المقام الثاني

في الأقل والأكثر ، وهو اما استقلالي أو ارتباطي ، والفرق بينهما انما هو من جهة وحدة التكليف والغرض في ظرف وجوب الأكثر في الثاني وتعدده في الأول المستتبع لتعدد المثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة ، ولتحقق الإطاعة بمجرد الاتيان بالأقل ولو لم يكن في ضمن الأكثر ، بخلاف الارتباطي ، فان امتثال الأقل على فرض وجوب الأكثر منوط بكونه في ضمن الأكثر ( ثم انه لا اشكال ) في جريان البراءة عن الأكثر في الأول ، لانحلال العلم الاجمالي فيه حقيقة حسب انحلال الخطاب إلى خطابات متعددة مستقلة إلى علم تفصيلي بالتكليف بالأقل وشك بدوي في التكليف بالأكثر ، فتجري فيه البراءة عقليها ونقليها ، سواء فيه بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية ، وسواء فيه بين كون منشأ الاشتباه هي الأمور الخارجية وبين كونه فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين نعم فيه يكون الحكم هو التخيير بمقتضى النصوص الخاصة.

( وانما الكلام والاشكال ) في جريانها في الأقل والأكثر الارتباطي « وقبل » الخوض في البحث ينبغي تقديم أمور ( الأول ) ان محل الكلام في المقام ، انما هو إذا كان الأقل بنفس ذاته وحصته المعينة سوى حد الأقلية محفوظا في ضمن الأكثر ، مع كونه من جهة الزيادة مأخوذا على نحو لا بشرط « واما » إذا لم يكن الأقل محفوظا بذاته في ضمن الأكثر ، أو كان مأخوذا من جهة الزيادة على نحو بشرط لا ( فهو خارج ) عن مركز هذا النزاع ، وبذلك يخرج ما كان الدوران فيه بين الطبيعي والحصة كالانسان بالنسبة إلى زيد عن موضوع الأقل والأكثر ، لان الطبيعي باعتبار قابليته للانطباق على حصة أخرى منه المبائنة مع زيد لا تكون محفوظا بمعناه الاطلاقي في ضمن الأكثر ، فيدخل في التعيين والتخيير الراجع إلى المتبائنين ( كما أنه ) يخرج

ص: 374

باب الدوران بين القصر والاتمام عن موضوع هذا البحث ، فإنه باعتبار اخذ الأقل فيه بشرط لا عن الزيادة داخل في عنوان المتبائنين لتبائن الأقل المحدود بكونه بشرط لا مع الأكثر ( الثاني ) الظاهر هو رجوع هذا النزاع في المقام بين الاعلام إلى بحث صغروي في أن المورد من موارد الشك في التكليف الجاري فيه البراءة ، أو الشك في المكلف به الجاري فيه الاحتياط ، حيث إن هم القائل بالبرائة فيه انما هو اثبات اندراجه في صغري الشك في التكليف ، كما أن هم القائل بالاشتغال اثبات كونه من صغريات الشك في المكلف به الجاري فيه الاحتياط ، لا ان النزاع بينهم كان في أصل الكبرى حتى مع تسليم اندراج المقام في الشك في التكليف أو المكلف به ( كيف ) وهو مع بعده في نفسه ، تنافيه قضية استدلالاتهم في المقام بارجاع الشك في الأكثر إلى الشك في التكليف كما عن القائل بالبرائة ، والى الشك في المكلف به والخروج عن عهدة التكليف كما عن القائل بالاشتغال ( الثالث ) الظاهر أنه لا اختصاص لهذا النزاع بخصوص المركبات ، بل يجري في البسائط أيضا إذا كانت ذات مراتب متفاوتة ( حيث ) ان الامر البسيط باعتبار مراتبه يدخل في عنوان الأقل والأكثر فيجري فيه النزاع ( ولذلك ) قلنا في مبحث الصحيح والأعم انه لا يبتنى النزاع في الصلاة من جهة الوضع للصحيح أو الأعم ، وكذا في مرجعية البراءة ، أو الاشتغال عند الشك في دخل شيء فيها بنحو الشطرية أو الشرطية على خصوص القول بالتركب فيها ، بل يجري فيها كلا النزاعين ولو على البساطة أيضا إذا فرض كونها ذات مراتب مختلفة حاصل كل مرتبة منها من قبل جزء أو شرط ( لان ) مرجع الشك في مدخلية شيء بنحو الجزئية أو الشرطية إلى الشك في التكليف بالنسبة إلى تلك المرتبة المتحققة من قبل المشكوك فيه على تقدير دخله ، فيرجع إلى الأقل والأكثر ( نعم ) انما لا يجري هذا النزاع إذا كان البسيط أمرا وحدانيا غير مختلف المراتب ، كما أنه عليه لا يجري النزاع المعروف هناك من حيث الوضع للصحيح أو الأعم ، لدورانه حينئذ بين الوجود والعدم ، فلا يتصور له وجود يتصف بالصحة تارة ، وبالفساد أخرى حتى يجري فيه النزاع من حيث الوضع للصحيح أو الأعم كما هو ظاهر.

« وبعد ما عرفت ذلك » ( نقول ) ان للأقل والأكثر اقسام كثيرة

ص: 375

( فان ) الترديد بين الأقل والأكثر ، اما ان يكون في نفس المأمور به أعني فعل المكلف وتركه المطالب به أو لمتعلقه فيما كان لمعروض التكليف تعلق بموضوع خارجي ، واما ان يكون في الأسباب والمحصلات الشرعية أو العقلية والعادية ( وعلى التقديرين ) تارة يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ( وأخرى ) يكون من قبيل الشرط والمشروط ، ( وثالثة ) يكون من قبيل الجنس والنوع ، ثم ما كان من قبيل الشرط والمشروط ، ( تارة ) يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مغايرا معه في الوجود خارجا كالطهارة والستر بالنسبة إلى الصلاة ( وأخرى ) يكون متحدا مع المشروط وقائما به نظير قيام العرض بمعروضه كما في جميع المحمولات بالضميمة ( وعلى التقادير ) تارة تكون الشبهة وجوبية ( وأخرى ) تحريمية ومنشأ الاشتباه ، اما ان يكون هو فقد النص المعتبر واما اجماله - أو تعارضه ، ورابعة الأمور الخارجية ( ولنقدم الكلام ) في القسم الأول من الصورة الأولى وهو ما يكون الترديد بين الأقل والأكثر في اجزاء المركب المأمور به كالشك في جزئية السورة أو جلسة الاستراحة للصلاة ( فنقول ) انه اختلف فيه كلماتهم على أقوال ثلاثة ( أحدها ) البراءة عقلا ونقلا ( وثانيها ) الاحتياط كذلك ( وثالثها ) الاحتياط عقلا والبرائة نقلا ( ولكن المختار ) هو القول الأول وتوضيح المرام يستدعي تقديم أمور.

( الأول ) في أن الاجزاء في المركبات هل هي مقدمة للكل والمركب بحيث كان فيها ملاك المقدمية

( وعلى فرض ) تحقق ملاك المقدمية فيها لتحقق المركب الاعتباري ، هل يمكن ان تتصف بالوجوب الغيري علاوة عن اتصافها بالوجوب النفسي ( فنقول ) الذي يظهر منهم في مبحث مقدمه الواجب من تقسيمهم المقدمة إلى الداخلية والخارجية وعدهم الاجزاء من قبيل الأول الذي يكون دخله في أصل حقيقة الشيء وماهيته هو القول بمقدمية الاجزاء للمركبات ودخولها في حريم النزاع ( وغاية ) ما قيل أو يمكن ان يقال في وجه ذلك ، هو دعوى ان الاجراء عبارة عن ذوات الاجزاء لا بشرط من حيث الانضمام إلى الأكثر والمركب عبارة عن الذوات المزبورة بشرط الاجتماع بنحو كان لوصف الاجتماع الطارئ عليها دخل في المركب نظير الهيئة الخاصة في

ص: 376

السرير في المركب الخارجي الحاصلة من انضمام ذوات الأخشاب بعضها ببعض على هيئة مخصوصة فذوات الاجزاء حينئذ بملاحظة كونها وجودات مستقلة معروضة للهيئة الاجتماعية المقومة للكل والمركب متقدمة طبعا على الكل والمركب وبذلك تكون فيها ملاك المقدمية للمركب ، وباعتبار كونها وجودات ضمنية للمركب تكون عين الكل والمركب ( وبهذين ) الاعتبارين يقرب أيضا وجه صحة عروض الوجوب الغيري والنفسي عليها ولو مع اتحادها مع المركب في الخارج ( وذلك أيضا ) بضميمة ما مر منا مرارا من كون معروض الإرادة والكراهة وغيرهما من الصفات القائمة بالنفس هي الصور الحاكية عن الخارج بنحو لا يلتفت إلى ذهنيتها في ظرف وجودها ، مع عدم تعديها من الصور إلى الموجود الخارجي ، إذ الخارج ظرف اتصافه بها ، لا ظرف عروضها ، لان ظرف عروضها لا يكون الا الذهن ( فيقال ) حينئذ انه بعد تغاير هذين الاعتبارين في الذهن ووقوف الطلب على نفس العناوين والصور ، لا مانع من اتصاف الاجزاء بأحد الاعتبارين بالوجوب الغيري وبالاعتبار الاخر للوجوب النفسي الضمني - فان - المتصور في الذهن بهذين الاعتبارين صورتان متغايرتان غير الصادق إحداهما على الأخرى - نعم - بناء على تعلق الاحكام بالخارج اما بدوا أو بالسراية بتوسيط الصور ، يستحيل اتصاف الاجزاء بالوجوبين لكونه من اجتماع المثلين الذي هو في الاستحالة ، كاجتماع الضدين ، وفى مثله لا مجال لتوهم التأكد أيضا - لأنه - انما يصح إذا كان الحكمان في عرض واحد ومرتبة فأرده ، لا فيمثل المقام الذي كان أحد الحكمين معلولا للاخر وفي مرتبة متأخرة عنه - فان - تأخر أحد الحكمين حينئذ رتبة يمنع عن التأكد كما هو ظاهر - ولكن - أصل المبنى فاسد جدا ، لما عرفت مرارا من أن معروض الاحكام انما هي العناوين والصور ، وعليه يتجه اتصافها بالوجوب الغيري والنفسي ، هذا ( ولكن لا يخفى عليك ) فساد القول بمقدمية الاجزاء فان مناط مقدمية شيء لشئ ليس الا كونه مما يتوقف عليه وجود الشيء وفي رتبة سابقة عليه بنحو يتخلل بينهما الفاء في قولك وجد فوجد على ما هو الشأن في كل علة باجزائها بالنسبة إلى المعلول - ومن الواضح - استتباع ذلك للمغايرة والا ثنينية بين المقدمة وذيها في الوجود علاوة عن اختلافهما مرتبة ، والا فبدونه لا يكاد يصح انتزاع هذا العنوان عن

ص: 377

الشئ وبعد ذلك ، نقول انه من الواضح عدم تحقق هذا المناط بالنسبة إلى اجزاء المركب ، فإنها باعتبار كونها عين المركب بحسب الهوية والوجود لا يكاد يتصور فيها ملاك المقدمية ، ولو على القول بان المركب عبارة عن الاجزاء مع وصف الاجتماع ، لان لازم ذلك هو دخول الاجزاء في المركب وعينية وجودها مع وجوده ، غاية الامر على نحو الضمنية - لا الاستقلالية - ولازمه انتفاء ملاك المقدمية فيها أعني استقلال كل من المقدمة وذيها في الوجود وتقدمها على ذيها رتبة - نعم - لازم ذلك هو تقدم بعض اجزاء المركب على البعض الاخر وهو الجزء الصوري أعني وصف الاجتماع ، نظير تقدم ذوات أخشاب السرير على الهيئة السريرية العارضة عليها - وذلك غير مرتبط بمقدمية الاجزاء للمركب - لان المركب حينئذ عبارة عن الاجزاء الخارجية مع الجزء الصوري - لا انه عبارة عن خصوص الجزء الصوري والهيئة الاجتماعية - والا يلزم خروج الاجزاء عن كونها مقدمات داخلية - لاندراجها حينئذ في المقدمات الخارجية ، نظير الطهارة والستر والقبلة بالنسبة إلى الصلاة - وهو خلف - على أنه - من الواضح انه ليس مناط تركب الواجب بما هو واجب وارتباطه على مثل هذه الوحدة الناشئة عن اجتماع أمور متكثرة تحت هيئة واحدة خارجية ، بل المناط كله في تركب الواجب وارتباط بعض اجزائه بالآخر واستقلاله ، انما هو بوحدة الغرض والتكليف المتعلق بأمور متكثرة وتعددهما ( فإنه ) بقيام تكليف واحد بأمور متكثرة تبعا لوحدة الغرض القائم بها ، ينتزع منها في مرتبة متأخرة عن تعلق الوجوب بها عنوان التركب والارتباط للواجب وعنوان الكلية للمجموع والجزئية لكل واحد منها ولو لم تكن تحت هيئة واحدة خارجية أو غيرها من زمان أو مكان ونحو ذلك ، كما في اطعام ستين مسكينا في الكفارة ( كما أنه ) بتعلق تكاليف متعددة مستقلة وأغراض كذلك بكل واحد منها ، ينتزع منها استقلال كل واحد منها في عالم الواجبية ، فيكون كل واحد واجبا مستقلا ناشئا عن غرض مستقل له امتثال وعصيان مستقل في قبال الاخر ولو مع فرض كونها في الخارج تحت هيئة مخصوصة خارجية كهيئة السير مثلا ، غاية الامر اعتبار كونها تحت هيئة خاصة أوجب تلازم امتثالها خارجا ( ولكن ) مجرد ذلك لا يوجب خروجها عن كونها واجبات مستقلة غير مرتبط أحدها

ص: 378

بالآخر في عالم واجبيته حتى في فرض دخل الهيئة المخصوصة على نحو الشرطية في تعلق الوجوب بكل واحد منها ، فضلا عن فرض عدم دخلها ( وبمثل هذا البيان ) نفرق بين العام المجموعي والافرادي أيضا ، حيث نقول ان العمدة في الفرق بينهما انما هو من جهة وحدة الحكم المتعلق بالافراد لبا وتعدده على نحو ينحل الحكم الواحد انشاء إلى احكام عديدة مستقلة حسب تعدد الافراد - ويكون لكل إطاعة مستقلة وعصيان مستقل - لا ان الفرق بينهما من جهة خصوصية في المدخول توجب اختلافا في نحوي العموم كما توهم ، وحينئذ فإذا لم يكن مدار تركب الواجب بما هو واجب واستقلاله الا على وحدة التكليف المتعلق بالمتكثرات الخارجية وتعدده تبعا لوحدة الغرض القائم بها وتعدده ( نقول ) من الواضح انه لابد من تجريد متعلق الوجوب في عالم عروضه عن الارتباط الناشئ من قبل وحدة الوجوب أيضا لاستحالة اعتبار مثل هذا الارتباط والتركب الناشئ من قبل وحده الوجوب في معروضه ( كيف ) وان اعتبار التركب والكلية والجزئية للواجب بما هو واجب انما هو في رتبة متأخرة عن تعلق الوجوب ، وهذه الرتبة لا تكون صقع عروض الوجوب عليها وانما صقع عروضه هي المرتبة السابقة ، وفى هذه المرتبة لا يكون اعتبار الكلية والتركب للواجب كي يتعلق الوجوب بالمركب ( وحينئذ ) فلا يتصور لمتعلق الوجوب تركب وارتباط في في مرحلة عروضه ، كي يبقى مجال توهم مقدمية اجزاء الواجب ، وينتهي الامر إلى البحث عن وجوبها الغيري ، كما هو ظاهر - لا يقال - ان الممتنع انما هو اخذ الارتباط الناشئ من قبل وحدة التكليف في متعلق نفسه وكذا الارتباط الناشي من قبل اللحاظ والمصلحة في متعلقهما - واما اعتبار الوحدة الناشئة من قبل وحدة اللحاظ والمصلحة في متعلق الامر والتكليف ، فلا مانع عنه لامكان تعلق اللحاظ أو لا بما هو المؤثر والمتصف بالمصلحة ، وتعلق الوجوب بما هو المتصف بالملحوظية بهذا العنوان الطاري ، فيكون تركب الواجب وكليته حينئذ بهذا الاعتبار - فإنه يقال - ان ذلك وان كان ممكنا في نفسه ، ولكنه بهذا العنوان لا يكون معروضا للوجوب وانما معروضه هو ما تقوم به اللحاظ والغرض وهو لا يكون الا نفس المتكثرات الخارجية لكونها هي المؤثرة في الغرض

ص: 379

والمصلحة ، لا العنوان الطاري عليها من قبل قيام وحدة اللحاظ أو المصلحة بها كما هو ظاهر ، وحينئذ فإذا كان انتزاع تركب الواجب بما هو واجب أو كليته ممحضا بكونه من جهة تعلق وجوب واحد بأمور متكثرة ، فلا يتصور في معروض هذا الوجوب تركب وكلية للواجب كي يصير مركز البحث في مقدمية اجزائه ووجوبها غيريا ( نعم ) لو كانت الوجودات المتكثرة في نفسها تحت هيئة واحدة خارجية كاجزاء السرير مثلا وتعلق وجوب واحد بكل واحد من الذوات مع الهيئة المخصوصة العارضة عليها ، لا بأس بدعوى مقدمية بعض الواجبات الضمنية لواجب ضمني آخر وهي الهيئة المخصوصة ( ولكن ذلك ) مع كونه غير مرتبط بمقام تركب الواجب بما هو واجب ، لا يكاد يصلح هذا المقدار مع وحدة الوجوب المتعلق بالجميع لترشح الوجوب الغيري إليها ( فإنه ) مع وجوب كل واحد من ذوات الاجزاء في الرتبة السابقة بعين وجوب الجزء الاخر يستحيل ترشح الوجوب الغيري إليها ثانيا عما هو متحد مع وجوبها ، ولا مجال في مثله للتأكد أيضا ، لان ذلك انما هو فيما كان الوجوبان في عرض واحد ( نعم ) انما يتجه ذلك فيما لو كان كل واحد من الذوات المزبورة مع الهيئة المعارضة عليها واجبا مستقلا في قبال الاخر ، فإنه مع تعدد الوجوب لا بأس بمقدمية بعض الواجبات المستقلة لواجب آخر مستقل وترشح الوجوب الغيري من ذي المقدمة إلى مقدمته ، حيث إن نتيجة ذلك بعد عرضية الوجوبين انما هو تأكد وجوبه ، ولكن أين ذلك والمقام الذي لا يكون كذلك ، فتدبر.

« الامر الثاني » لا شبهة في أن من لوازم ارتباطية الواجب ، هو ان يكون دخل كل واحد من ذوات الاجزاء في تحقق الغرض والمصلحة على نحو المؤثرية الضمنية لا الاستقلالية ، كما هو الشأن في جميع العلل المركبة بالنسبة إلى معاليلها ، حيث يكون دخل كل واحد من ذوات اجزاء العلة في تحقق المعلول بنحو المؤثرية الضمنية الراجع إلى مؤثرية كل جزء منها لسد باب عدم المعلول من قبله ( ولازمه ) بعد عدم قابلية الغرض الواحد القائم بذوات الاجزاء للتبعيض عقلا ، وان كان إناطة الغرض في مقام تحققه بتحقق جميع الاجزاء بأسرها ، الملازم لعدم اتصاف شيء من الاجزاء بالوجوب الفعلي والمؤثرية الفعلية الا في ظرف انضمام

ص: 380

بقية الاجزاء الاخر ، لان بانتفاء بعضها ينتفي الغرض والمصلحة لا محالة ، فلا يكاد اتصاف البقية بالوجوب الفعلي والمؤثرية الفعلية ( ولكنه ) من المعلوم ان عدم اتصافها بذلك ليس من جهة قصورها فيما لها من المؤثرية الضمنية في الغرض والمصلحة ، بل انما يكون ذلك من جهة قصور المصلحة والإرادة المتعلقة بها من جهة ضمنيتها عن الشمول لها حتى في حال انفرادها عن بقية الاجزاء الاخر ، الناشئ ذلك من جهة عدم تحقق الاجزاء الاخر ، نظرا إلى عدم قابلية الإرادة الواحدة والغرض الواحد القائمين بتمام ذوات الاجزاء للتبعيض في مقام التحقق ( كيف ) وان شأن كل جزء أو شرط لا يكون الا سد باب عدم المطلوب من قبله ، ولا اشكال في أنه بتحقق كل جزء يتحقق السد المزبور لا محالة ، الا ان عدم تحقق المطلوب عند عدم انضمام بقية الاجزاء إليه انما يكون من جهة عدم انسداد عدمه من قبل اجزاء غير الماتى بها ، لا انه من جهة القصور في الاجزاء المأتى بها فيما لها من الدخل في تحقق المطلوب ( وتوهم ) رجوعه بالآخرة إلى القصور في الاجزاء المأتي بها في مرحلة اتصافها بالمؤثرية والوجوب الفعلي ، نظرا إلى تخيل تقيد الاجزاء كل واحد منها في مقام الاتصاف بالواجبية والمؤثرية الفعلية بصورة الانضمام ببقية الاجزاء ، ومع عدم تحقق جزء منها لا يكاد تتصف الاجزاء المأتية بالمؤثرية ، لان المؤثر الفعلي في الغرض انما يكون هو المقيد بالانضمام المزبور ، وهو غير متحقق ( مدفوع ) بان معروضية الاجزاء للاتصاف المزبور انما يكون تابعا لمعروضتها للوجوب والمصلحة ، وكما أن في مقام العروض لا يكون معروض الوجوب والمصلحة الا نفس ذوات الاجزاء ، لا انها بما هي متقيدة بالانضمام المزبور ، كذلك فيقام اتصافها بالواجبية والمؤثرية الفعلية في الغرض والمصلحة ( وثانيا ) مع الاغماض عن ذلك ، نقول انه بعد انحلال المقيد إلى الذات والتقيد ، فلا محالة تكون ذوات الجزء الذي هو طرف التقيد على ماله من الشأن في الدخل في تحقق الغرض سواء انضم إليه حيث التقيد المزبور أم لا ، حيث إن عدم تحقق الغرض حينئذ انما كان من جهة فقد التقيد الناشئ من جهة فقد بقية الاجزاء ، لا انه من جهة القصور في الاجزاء المأتى بها ( فعلى كل حال ) يكون انتفاء الغرض وعدم اتصاف الاجزاء الماتى بها بالواجبية والمؤثرية الفعلية مستندا إلى

ص: 381

فقد بقية الاجزاء ، لا إلى قصور الاجزاء المأتية في عالم مؤثريتها في الغرض ، قلنا بان لحيث التقيد بالانضمام المزبور دخل أيضا في تحقق الغرض أم لا ، بل كان المؤثر في تحققه هو نفس ذوات الاجزاء ، غاية الامر في حال الانضمام على نحو القضية الحينية لا التقييدية.

« الامر الثالث » لا يخفى ان وصف الأقلية والأكثرية للواجب في المقام انما يكون باعتبار حد التكليف من حيث وقوفه على الأقل أو شموله وانبساطه على الجزء المشكوك ( فمرجع ) الشك في أن الواجب هو الأقل أو الأكثر إلى أن شخص التكليف المنبسط على ذوات الاجزاء هل هو محدود بحد يشمل الجزء المشكوك أو بحد لا يشمله نظير شخص الحظ الذي يشك في أنه محدود بكونه إلى ذراع أو أزيد ( ومن الواضح ) ان هذا المقدار من الحدود المتبادلة لا يوجب اختلافا في ذات الوجوب التي هي مصب حكم العقل بالإطاعة ، ولا في ناحية معروض هذا الوجوب أيضا بحيث يكون الواجب المعروض للوجوب محدودا في الرتبة السابقة عن تعلق الوجوب به بحد القلة أو الكثرة ، بل هو من المستحيل ، بداهة ان طرو حد القلة انما نشاء من ناحية قصور الوجوب تبعا لقصور مقتضيه وهي المصلحة عن الشمول للزائد ، فيستحيل اخذ مثله في معروض هذا الوجوب ( كما أن حد الكثرة ) للأكثر أيضا لا يوجب تقييد الأقل المعروض للوجوب بكونه في ضمن الأكثر كي يختلف حاله بوجوبه استقلالا أو ضمنا ( لان ) مثل هذه الضمنية التي هي منشأ ارتباط الاجزاء بالاجزاء انما جاء من قبل وحدة الغرض والتكليف المتعلق بالجميع ، فيستحيل اخذ مثل هذه الحيثيات الناشئة من قبل الامر والتكليف في متعلقه ( نعم ) هو مانع عن اطلاقه ، فلا يكون الأقل المعروض للوجوب الضمني الا ذات الأقل بنحو الاهمال ، لا مقيدة بقيد الانضمام ولا مطلقة من حيث الانضمام ( كما أنه ) بقصور الوجوب عن الشمول للزائد عند وجوب الأقل لا يكون الواجب في عالم عروض الوجوب عليه الا الذات التوئمة مع حد القلة لا بشرط القلة ولا لا بشرطها ، مع كون الواجب من جهة الانضمام بالزائد خارجا مأخوذا بنحو لا بشرط على معنى عدم اضرار انضمام الزائد بوجوبه ، من غير اعتبار حد القلة فيه خارجا ، والا يدخل في المتبائنين ، كالقصر والاتمام

ص: 382

فيجب فيه الاحتياط بتكرار العمل خارجا ، تارة باتيان الأقل لا في ضمن أكثر ، وأخرى في ضمنه ، لا الاكتفاء باتيانه في ضمن الأكثر ، كما هو مرام القائل بالاحتياط في المقام ( وحينئذ ) فمتى شك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر لا يكون هذا الشك الا في حد الوجوب محضا في أنه محدود بحد لا يشمل الزائد أو بحد يشمله ، من غير أن يوجب ذلك اختلافا في الأقل المعروض للوجوب استقلالا أو ضمنا ، كي يتردد بذلك بين المتبائنين ، بل ما هو الواجب مستقلا بعينه هو الواجب ضمنا بذاته ومرتبته ، غير أن الامتياز انما هو بشمول الوجوب وانبساطه على الزائد وعدمه ( ومن ذلك ) لا مجال لتشكيل العلم الاجمالي في المقام بالنسبة إلى نفس الواجب وذات التكليف مع قطع النظر عن حد الأقلية والأكثرية إذ لا يكون الامر المردد في المقام من باب مجمع الوجودين كما في المتبائنين حتى يجئ فيه المناط المقرر في العلم الاجمالي من صحة تشكيل قضيتين منفصلتين حقيقيتين في في الطرفين ، وانما يكون ذلك من باب مجمع الحدين ، حيث كان العلم الاجمالي بين حدي الوجوب الطاري بالعرض على معروضه ، والا فبالنسبة إلى ذات الوجوب وحيث وجوده الذي هو مصب حكم العقل بوجوب الإطاعة لا يكون الأعلم تفصيلي بمرتبة من التكليف بالنسبة إلى الأقل وشك بدوي بمرتبة أخرى منه متعلقة بالزائد ، كما هو ظاهر.

« وإذ عرفت هذه الأمور » يظهر لك انه متى تردد الواجب بين الأقل والأكثر لا قصور في جريان البراءة العقلية عن الأكثر ، لوجود المقتضى وهو الشك وانتفاء المانع وهو العلم الاجمالي ( لما عرفت ) من أن العلم الاجمالي المتصور في المقام انما هو بالنسبة إلى حد التكليف من حيث تردده بين كونه بحد لا يتجاوز عن الأقل أو بحد يتجاوز عنه ويشمل الزائد - والا فبالنسبة إلى نفس التكليف والواجب - لا يكون من الأول الأعلم تفصيلي بمرتبة من التكليف وشك بدوي محض بمرتبة أخرى منه متعلقة بالزائد ( ولذلك ) نقول ان في تسمية ذلك بالعلم الاجمالي مسامحة واضحة - لأنه في الحقيقة لا يكون الا من باب ضم مشكوك بمعلوم تفصيلي ( نعم ) لو كان لحد القلة والكثرة وجهة الارتباط والانضمام دخل في موضوع التكليف بحيث يكون قصور الوجوب عن الشمول للزائد موجباً

ص: 383

لاختلاف الأقل في عالم معروضيته للوجوب الاستقلالي والضمني ، لكان لدعوى العلم الاجمالي كما عن المحقق صاحب الحاشية قده مجال ، نظرا إلى تردد الواجب حينئذ بين المتبائنين وصيرورته باعتبار تردد الحدود من باب مجمع الوجودين ، فإنه على تقدير كون متعلق التكليف هو الأقل يكون الأقل في عالم عروض الوجوب عليه مأخوذا على نحو لا بشرط عن الزيادة ، وعلى تقدير كون متعلق التكليف هو الأكثر يكون الأقل في عالم تعلق التكليف الضمني به مأخوذا بشرط انضمامه مع الزيادة ، ومع تباين المهية اللا بشرط القسمي للمهية بشرط شيء ، لا محيص بمقتضى العلم الاجمالي من الاحتياط باتيان الأكثر ، ( ولكنك ) عرفت فساده بما مهدناه في المقدمة الثالثة ، من أن مثل هذه الضمنية وجهة ارتباط الاجزاء بالاجزاء انما كانت ناشئة من قبل وحدة الوجوب المتعلق بالجميع ، فلا يصلح مثلها لتقييد الأقل المعروض للوجوب في ضمن الأكثر بكونه منضما بالأكثر ( وعليه ) لا يختلف معروض الوجوب على التقديرين ، بل ما هو الواجب مستقلا بعينه هو الواجب ضمنا عند وجوب الأكثر ، وانما الاختلاف يكون بالنسبة إلى حد وجوبه من حيث تردده بين انبساطه على الزائد وعدمه ( وحينئذ ) فمع الشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر لا يكون العلم الاجمالي الا بين حد الوجوب خاصة دون نفسه حيث يكون من باب العلم بشخص الوجوب المردد حده بين الحدين المتبادلين ، وبعد وضوح كون مصب حكم العقل بالامتثال والخروج عن العهدة هو ذات التكليف دون حيث حده تجري البراءة العقلية عن التكليف بالأكثر لا محالة من غير أن يمنع عنها هذا العلم الاجمالي كما هو ظاهر ( نعم ) لو اغمض عما ذكرناه ، لا مجال لما عن بعض الأعاظم قده من الاشكال عليه ، تارة بانحلال العلم الاجمالي حينئذ بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل على كل حال لكونه هو المتيقن في تعلق الطلب به وانه لا يضر به اختلاف سنخي الطلب من كونه طورا متعلقا بالمهية لا بشرط وطورا بالمهية بشرط شيء ( وأخرى ) بان المهية لا بشرط لا تباين المهية بشرط شيء ، إذ ليس التقابل بينهما من تقابل التضاد حتى يكون التغاير بينهما بالهوية والحقيقة ولا يكون بينهما جامع ، وانما التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، لان مرجع المهية لا بشرط إلى عدم لحاظ شيء معها - لا لحاظ العدم - ومعه يكون

ص: 384

الجامع بينهما نفس المهية ويكون التقابل بينهما بصرف الاعتبار محضا لا بالهوية والحقيقة ( إذ فيه ) اما الاشكال الأول - فبأنه مع تسليم اختلاف سخي الطلب وتردد الواجب بين المتبائنين من حيث كونه لا بشرط وبشرط شيء - لا مجال لدعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمطلق وجوب الأقل ( فان ) هذا العلم التفصيلي لكونه عين العلم الاجمالي المزبور ومتولدا من قبله غير صالح لحله ( واما الاشكال الثاني ) فبمنع كون مرجع المهية لا بشرط إلى مجرد عدم لحاظ شيء معها - بل مرجعها ثبوتا انما هو إلى سعة وجودها في مقابل ضيقه - ومن الواضح انه ليس التقابل بينها وبين المهية بشرط شيء الا بالهوية والحقيقة - لا انه يكون اعتباريا محضا ( نعم ) في مقام الاثبات والدلالة يكفي في إرادة المهية لا بشرط مجرد ارسالها - بخلاف المهية بشرط شيء أو بشرط لا - فإنه لابد فيها من ذكر القيد والخصوصية ( ثم إن من العجب ) ان القائل المزبور مع استشكاله على صاحب الحاشية بما عرفت - اختار القول بالاحتياط العقلي في المقام - ولم يفد في تقريب مختاره على ما في التقريرين الا الوجه المتقدم ذكره من المحقق المحشى قده - ويا ليت الناظر البصير يبين وجه الفرق بين تقريب مختاره وبين كلام صاحب الحاشية قده ( وكيف كان ) فالتحقيق ما عرفت من أن العلم الاجمالي المتصور في المقام انما هو بين حدي التكليف ( واما ) بالنسبة إلى ذات التكليف التي عليها مدار الإطاعة والامتثال - فلا يكون الموجود الأعلم تفصيلي بوجوب الأقل واستحقاق العقوبة على تركه وشك بدوي في أصل وجوب الزائد - فتجري فيه البراءة لقبح العقاب بلا بيان واصل ( وتوهم ) استتباع البراءة عن الأكثر على فرض وجوبه لعدم وجوب الأقل أيضا من جهة تبعية الأقل حينئذ للأكثر ثبوتا وسقوطا واشتغالا - ومعه لا مقتضى لوجوب الاتيان بالأقل الا على تقدير مشكوك - وهو تقدير كون الواجب النفسي هو الأقل - وهو أيضا تحت البراءة للشك في وجوبه كذلك - ولازمه عدم وجوب الاتيان بالأقل وجواز المخالفة القطعية ( مدفوع ) بأنه لو تم ذلك فإنما هو إذا قيل باقتضاء أصل البراءة نفي التكليف عن الجزء المشكوك واقعا ( والا ) فبناء على عدم اقتضائه الا نفي الالزام عنه ظاهرا في ظرف الشك بالواقع الراجع إلى نفى استحقاق العقوبة على ترك الأكثر في فرض وجوبه واقعا من قبل ترك الجزء المشكوك فيه لكونه من

ص: 385

هذه الجهة عقابا بلا بيان ، فلا محذور ولا تنافى بين جريان البراءة عن الأكثر وبين وجوب الاتيان بالأقل ( فان ) تبعية الأقل للأكثر انما تكون بحسب الحكم الفعلي لا بحسب التنجز أيضا ( كيف ) وان تنجز كل تكليف لا يكون الا بمقدار قيام البيان عليه لا أزيد ، فوجوب الاتيان بالأقل انما هو من جهة استقلاله في قيام البيان عليه ، حيث إنه يعلم تفصيلا بوجوبه واستحقاق العقوبة على تركه وان لم يعلم أن العقاب لأجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه ، وأين ذلك والجزء المشكوك الذي لم يقم عليه البيان على فرض وجوبه واقعا ، ومرجع ذلك إلى التفكيك في مجيء الأكثر في العهدة على فرض وجوبه من جهة دون جهة الراجع إلى معذورية المكلف من تركه الناشئ عن ترك الجزء المشكوك لكون العقاب عليه من هذه الجهة عقابا بلا بيان ، دون الترك الناشئ عن ترك الاجزاء المعلومة.

( ثم انه ) من التأمل فيما ذكرنا يظهر فساد الوجوه التي استدل بها في المقام لتقريب الاشتغال ( منها ) دعوى العلم الاجمالي بالتكليف النفسي المردد بين تعلقه بالأقل أو الأكثر ، وعدم صلاحية العلم التفصيلي بمطلق وجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري لحل العلم الاجمالي ، لكونه معلولا للعلم الاجمالي بالوجوب النفسي بينهما وفي رتبة متأخرة عنه ( فان ) في مثله يكون العلم الاجمالي في الرتبة السابقة مؤثرا في تنجز معلومه في الطرفين ، وبتأثيره لا يبقى مجال لتأثير العلم التفصيلي المتأخر حتى يوجب انحلاله ، ولازمه بحكم العقل هو الاحتياط ووجوب الاتيان بالأكثر ( وتوضيح ) الفساد يظهر بالمراجعة إلى ما ذكرناه في المقدمة الأولى من منع تحقق ملاك المقدمية في اجزاء المركب أولاً ، ومنع قابليتها لعروض الوجوب الغيري عليها عما هو متحد مع وجوبها النفسي ثانيا ، بداهة ان الاجزاء باعتبار كونها عين المركب خارجا يكون كل واحد منها بعروض وجوب واحد على الجميع واجبا بوجوب نفسي هو عين وجوب الكل والمركب ، ومع وجوبها كذلك يستحيل ترشح الوجوب الغيري إليها ثانيا مما هو عين وجوبها النفسي ( وما قرع ) سمعك من امكان كون الشيء واجبا بوجوبين النفسي والغيري من جهتين ، فإنما ذلك في فرض تعدد الوجوب النفسي كما في كل واجب نفسي يكون

ص: 386

هو مقدمة لواجب نفسي آخر ، ونتيجة ذلك هو تأكد وجوبه حينئذ ، لا فيمثل المقام المتحد وجوب الكل والمركب مع وجوب نفس الجزء ، فان في مثله يستحيل ترشح الوجوب الغيري إليها مما هو متحد مع وجوبها ، ولا يكون قابلا للتأكد أيضا ، لأنه فرع عرضية الوجوبين كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فبعد كون الاجزاء واجبة بوجوب نفسي هو عين وجوب الكل والمركب بلا مغايرة بينهما بالنفسية والغيرية لا قصور في انحلال العلم الاجمالي المزبور بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، بل عرفت انتفاء العلم الاجمالي حقيقة بالنسبة إلى ذات التكليف التي هي مصب حكم العقل بالإطاعة وانه لا يكون الا علم تفصيلي بشخص التكليف المتعلق بالأقل وشك بدوي محض في تعلقه بالزائد من جهة التردد بين الحدين.

« ومنها » ما عن صاحب الكفاية قده من دعوى الملازمة بين تنجز التكليف بالأقل بقول مطلق وعلى كل تقدير غيريا أو نفسيا ضمنيا أو استقلاليا ، وبين تنجزه في الأكثر ، نظرا إلى تبعية وجوب الأقل بمقتضى الارتباطية لوجوب الأكثر وعدم انفكاك وجوبه الضمني أو الغيري عن وجوبه ثبوتا وسقوطا وتنجزا ( بتقريب ) انه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير تعلقه به لم يجب الاتيان بالأقل أيضا ، لان وجوبه حينئذ يتبع وجوب الأكثر - فمع عدم تنجز التكليف بالأكثر لم يتنجز التكليف بالأقل أيضا الا على تقدير مشكوك فلا يجب الاتيان به لعدم العلم بوجوبه على كل تقدير ( فلا بد ) حينئذ بمقتضى الالتزام بوجوب الاتيان بالأقل وتنجز التكليف به على كل تقدير من الالتزام بوجوب الأكثر وتنجزه ، من غير فرق في ذلك بين القول بوجوب الاجزاء غيريا أو نفسيا ، فإنه بناء على وجوبها الغيري أيضا لابد من الالتزام بوجوب الأكثر وتنجزه بعين الالتزام بتنجز الأقل ووجوب الاتيان به على كل تقدير والعلم التفصيلي المتولد بمطلق وجوب الأقل غير صالح لانحلال العلم الاجمالي ولو قلنا بصلاحيته لذلك في غير المقام ، وذلك لما يلزمه من محذور الخلف ، حيث يلزم من تأثير العلم بوجوب الأقل وتنجزه بقول مطلق في الانحلال عدم تنجز التكليف به بقول مطلق المستلزم لعدم وجوب الاتيان به أيضا كما شرحناه « ولكن فيه » ان ما أفيد من ملازمة تنجز التكليف بالأقل على كل تقدير لتنجز التكليف بالأكثر على تقدير

ص: 387

وجوبه مبني على اخذ حيث الانضمام بالزائد على تقدير كون متعلق التكليف هو الأكثر قيدا للأقل في مرحلة كونه معروضا للوجوب الضمني كما هو مختاره أيضا فإنه حينئذ يستحيل تصور مجيء الأقل في العهدة مستقلا وانفكاكه عن تنجز الأكثر ضرورة منافاة ذلك مع اخذ حيث الارتباط والانضمام بالزائد في موضوع الوجوب ولكن المبنى فاسد جدا ، لما عرفت من أن جهة الارتباط والانضمام غير مأخوذة في موضوع الوجوب لأنها انما كانت جائية من قبل وحدة الوجوب المتعلق بالاجزاء بأسرها ، وان موضوع الوجوب في الرتبة السابقة انما كان هو نفس الاجزاء بلا ارتباط لبعضها بالآخر في عالم طرو الوجوب عليها ( وعليه ) فلا قصور في مجيء الأقل نفسه في العهدة وتنجزه مستقلا بسبب العلم بوجوبه دون الأكثر ، بداهة امكان التفكيك ( حينئذ ) بين تنجزه وتنجز الأكثر ، فان تنجز كل تكليف انما هو تابع مقدار قيام البيان عليه لا أزيد ولا شبهة في أنه بالعلم بوجوب الأقل ولو ضمنا يستقل التكليف به في قيام البيان عليه وان احتمل عدم استقلاله في الوجود لاحتمال كون الواجب هو الأكثر ، ولازمه صيرورة الأقل في العهدة مستقلا حتى على فرض وجوب الأكثر ، بخلاف الأكثر فإنه على فرض وجوبه واقعا لم يقم عليه بيان يقتضي تنجزه وجوب الاتيان به لما هو المفروض من الشك الوجداني في وجوبه ( ومرجع ) ذلك كما ذكرناه انفا إلى نحو تفكيك في مجيء الأكثر في العهدة على فرض وجوبه من جهة دون جهة الراجع إلى عدم جواز تركه من قبل ترك الاجزاء المعلومة وحسن العقوبة عليه من هذه الجهة لكونه عقابا ببيان ، وعدم استحقاق العقوبة على مخالفته الناشئة من قبل ترك الجزء المشكوك لكونه عقابا بلا بيان ، لا ان المقصود اشتغال العهدة مستقلا بالاجزاء المعلومة بما هي في قبال الكل حتى يقال ان الجزء بما هو في قبال الكل لا عهدة له مستقلا وانما عهدته يتبع عهدة الكل.

( ومنها ) التشبث بالعلم التفصيلي بالاشتغال بالأقل كما عن الفصول ( قده ) ( بتقريب ) ان التكليف بالجزء أو الشرط الزائد وان كان مشكوكا ولم يكن من هذه الجهة ما يقتضي تنجزه ووجوب الاتيان به بل كان من هذه الجهة مجرى للبرائة العقلية لقبح العقاب بلا بيان ، الا ان هناك جهة أخرى تقتضي لزوم الاتيان

ص: 388

به واستحقاق العقوبة على تركه على تقدير تعلق التكليف به ، وهي استتباع الاشتغال اليقيني بالتكليف بالأقل بحكم العقل للفراغ اليقيني عنه حيث إنه بعد ارتباطية التكليف واحتمال دخل الزائد الناشئ من احتمال وجوب الأكثر في سقوط التكليف بالأقل والخروج عن عهدته يستقل العقل بلزوم الاتيان بالأقل على نحو يقطع بوقوعه على صفة الوجوب وكونه مصداقا للمأمور به ، ومع ارتباطية التكليف واحتمال وجوب الأكثر وجدانا لا يتحقق ذلك الا بالاتيان بالأكثر ، إذ لو اقتصر على الأقل لم يعلم بالخروج عن عهدة ما تنجز عليه من التكليف المعلوم فالفراغ عن عهدة التكليف حينئذ كان احتماليا ، ومثله مما لا يجوزه العقل مع جزمه بالاشتغال ( ولئن شئت ) قلت إن سقوط التكليف واقعا فرع حصول الغرض الداعي عليه ومع احتمال دخل الزائد يشك في حصول الغرض فيشك في سقوط التكليف والخروج عن عهدته والعقل يستقل بلزوم تحصيل القطع بالفراغ عند الجزم بالاشتغال ( ونظير ) ذلك ما قيل في تقريب الاشتغال في الأوامر المستقلة عند الشك في التعبدية والتوصلية بأنه بعد دخل القربة في العبادات في تحقق الامتثال وحصول الغرض الداعي على الامر بها لا محيص عند الشك في تعبدية الواجب وتوصليته من الاحتياط باتيان العمل مقرونا بقصد القربة ، لان بدونه يشك في تحقق الامتثال وسقوط الامر المعلوم ، للشك في حصول الغرض ، غاية الامر الفرق بين المقامين هو ان الامر المعلوم في المقام على تقدير وجوب الأكثر ضمني وهناك استقلالي ، والا فهما مشتركان في لزوم الاحتياط بحكم العقل بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ هذا ( ولكنه ) يندفع بما بيناه في المقدمة الثانية من أن حكم العقل بتحصيل الجزم بالفراغ تابع لمقدار ثبوت الاشتغال بالتكليف ، والمقدار المعلوم ثبوت الاشتغال به في المقام انما هو التكليف بذات الأقل وهي الاجزاء المعلومة المحفوظة بذاتها في ضمن الأكثر وعدمه ( ومن الواضح ) انه باتيان الأقل في الخارج يتحقق الفراغ عن عهدة التكليف المتعلق به ولو لم تنضم إليه الاجزاء المشكوكة ، فان الفراغ عن عهدة كل تكليف لا يكون الا بايجاد متعلقه في الخارج على نحو لا يكون قصور في المأتي به وبايجاده لا محالة يتحقق الخروج عن العهدة بالنسبة إلى ما تنجز التكليف به سواء انضم إليه الجزء المشكوك أم لا ( ومجرد )

ص: 389

الشك في حصول الغرض وسقوط التكليف بالأقل واتصاف المأتي به بالوجوب الفعلي والمؤثرية الفعلية غير ضائر بالمقصود بعد عدم القصور في الأقل المأتى به في وفائه بالغرض ، وما قرع سمعك من عدم تجويز العقل الاكتفاء بالشك في الفراغ عند اليقين بالاشتغال انما هو فيما كان الشك في سقوط التكليف والفراغ عن عهدته لقصور من ناحية الماتى به ، لا فيما كان ذلك من جهة قصور في سقوط حكمه الناشئ من جهة فقدان الجزء المشكوك الذي هو بنفسه مجرى البراءة والترخيص كما في المقام ، حيث إن احتمال عدم سقوط التكليف بالأقل حينئذ مع الاتيان بمتعلقة انما كان من جهة احتمال ملازمة سقوطه مع ما لا يتنجز من القطعة المشكوكة المتعلقة بالزائد ( وبالجملة ) نقول ان هم العقل في حكمه بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ وعدم جواز القناعة بالشك فيه عند الجزم بالاشتغال بالتكليف ، انما هو لزوم رفع الشك عن جهة متعلق التكليف بايجاده في الخارج للتخلص عن تبعة مخالفته لا رفع الشك عنه من جهة سقوط التكليف عنه واتصافه بالوجوب الفعلي والمؤثرية الفعلية في تحقق الغرض ولو كان ذلك من جهة قصور حكمه الناشئ من جهة امر آخر هو بنفسه تحت الترخيص ( ولا ريب ) ان ذلك مما يقطع بتحققه باتيان الأقل ولو على تقدير وجوب الأكثر واقعا ، حيث إنه باتيانه يقطع بالخروج عن عهدة ما تنجز عليه من التكليف به ولا يبقى معه شك الا من جهة اتصافه بالوجوب والمؤثرية الفعلية ، وبعد ما لم يكن هم العقل رفع الشك عنه من هذه الجهة لعدم كون ذلك لقصور في الماتى به فلا يبقى مجال لاثبات وجوب الاتيان بالأكثر بقاعدة الاشتغال المزبور كما هو ظاهر ( هذا كله في البراءة العقلية.

( واما البراءة النقلية ) فعلى القول بجريان البراءة في المشكوك كما هو المختار ، فلا اشكال في جريانها أيضا من دون احتياج إلى اثبات ان الواجب هو الأقل ( واما بناء ) على القول بعدم جريان البراءة العقلية ، فعلى تقريبه من جهة العلم الاجمالي ، فان قلنا باقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، فلا اشكال أيضا في جريان البراءة الشرعية ( فان ) المانع عن جريانها على هذا المبنى انما هو ابتلائها بالمعارض وهو مفقود في المقام ، لسلامة الأصل الجاري في الأكثر من معارضة جريانه في الأقل بعد العلم التفصيلي بوجوبه على كل تقدير ، هذا بالنسبة إلى ذات الوجوب

ص: 390

المتعلق بالأقل ( واما بالنسبة ) إلى حده فلا تجري فيه الأصل أيضا ، لعدم ترتب ثمرة عملية عليه بعد حكم العقل بالاشتغال بالنسبة إلى ذات التكليف ( هذا بناء ) على تقرير العلم الاجمالي من جهة اخذ الحدود في متعلق التكليف ( واما ) على تقريره من جهة الغيرية والنفسية ، فالأصل الجاري في الأكثر في وجوبه النفسي وان كان معارضا بالأصل الجاري في الوجوب النفسي للأقل - فيبقى العلم الاجمالي على حاله من هذه الجهة ، الا انه بالنسبة إلى جزئية المشكوك للواجب لا مانع عن جريانه بعد عدم جريانه في الأقل للعلم التفصيلي بوجوبه اما لكونه تمام المأمور به أو لكونه جزئه ( وتوهم ) عدم جريان الأصل في جزئية المشكوك لعدم كونها مجعولا شرعيا ( يدفعه ) بأنه يكفي في جريانه مجرد كونها مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسط منشئه وهو التكليف ( فان ) للشارع رفع الجزئية عن المشكوك برفع اليد عن فعلية التكليف المتعلق بالأكثر ( وحينئذ ) فعلى مسلك الاقتضاء في العلم الاجمالي تجري الأصول الشرعية النافية للتكليف في الأكثر من غير حاجة إلى اتعاب النفس باثبات ان الواجب هو الأقل ( واما بناء ) على علية العلم الاجمالي للموافقة القطعية ومنعه من جريان الأصل النافي ولو في بعض أطرافه بلا معارض كما هو المختار ، فالتفكيك بين البراءة العقلية والشرعية في غاية الاشكال إذ بعد انتهاء الامر بمقتضى علية العلم الاجمالي إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجزم بالفراغ ولو جعليا لا مجال لجريان الأصول النافية ولو في فرض كونها بلا معارض ، الا على فرض اقتضاء جريانها لاثبات ان الواجب الفعلي هو الأقل ولو ظاهرا كي ببركة اثباته ذلك يكون الاتيان به فراغا جعليا عما ثبت في العهدة ، وهو أيضا في محل المنع ، لمنع اقتضاء مجرد نفي وجوب الأكثر والخصوصية الزائدة لاثبات هذه الجهة الا على القول بالمثبت الذي لا نقول به ( نعم ) قد يتوهم تكفل مثل حديث الرفع لاثبات ذلك بتقريبات ثلاثة ( أحدها ) ان الحديث ناظر إلى اطلاقات أدلة الجزئية واقعا بتقييد مفاد فعليتها بحال العلم بها وانه برفع فعلية التكليف عن المشكوك واقعا مع ضميمة ظهور بقية الاجزاء في الفعلية يرتفع الاجمال من البين ويتعين كون متعلق التكليف الفعلي هو الأقل وبالاتيان به يتحقق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف ( وثانيها ) تقريبه من

ص: 391

جهة المضادة بين فعلية التكاليف الواقعية والترخيصات الظاهرية ، بان نفي التكليف عن المشكوك ظاهرا ملازم حينئذ لعدم فعليته واقعا على تقدير تعلقه بالأكثر واقعا وبضميمة ظهور أدلة بقية الاجزاء في الفعلية يستكشف ان الواجب الفعلي هو الأقل ( وثالثها ) تقريبه من جهة الملازمة العرفية بين رفع الجزئية عن شيء ولو ظاهرا مع كلية غيره ( ولكن الجميع ) كما ترى ( اما الوجه الأول ) فلمنع صلاحية حديث الرفع لان يكون ناظرا إلى نفي فعلية التكليف عن المشكوك واقعا ، إذ مفاد الرفع فيه كما أوضحناه في محله عند التعرض لشرح الحديث انما هو مجرد الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخرة عن الجهل بالواقع ، ومثله غير صالح لتقييد إطلاق الجزئية الواقعية المحفوظة حتى بمرتبة فعليتها في المرتبة السابقة عن تعلق الجهل بها ( كيف ) وبعد ان كانت العناوين المأخوذة في الحديث التي منها عنوان ما لا يعلم من الجهات التعليلية للرفع والمانعة عن تأثير ما يقتضي انشاء الحكم ، لا محيص من أن يكون الرفع في المرتبة المتأخرة عن الجهل بالواقع ، ولازمه بعد عدم شمول اطلاق الواقع حتى بمرتبة فعليته لمرتبة الجهل بنفسه هو امتناع تعلق الرفع في تلك المرتبة بالجزئية الواقعية المحفوظة في المرتبة السابقة على الجهل بها ، لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهل بشيء على الشيء الملحوظ كونه في المرتبة السابقة على الجهل بنفسه ، ولأن رفع كل شيء عبارة عن نقيضه وبديله ، فلا يمكن ان يكون الرفع في هذه المرتبة نقيضا لما هو في المرتبة السابقة ، لان وحدة الرتبة بين النقيضين من الوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضاد ( وحينئذ ) فلو كانت مقتضيات الفعلية في المرتبة السابقة على الجهل متحققة ، لا يكاد يصلح مثل هذا الحديث للمانعية عنها كي يستكشف بمعونة ظهور أدلة بقية الاجزاء في الفعلية تحديد دائرة الواجب الفعلي بالأقل ( ومعه ) يبقى العلم الاجمالي على حاله في تأثيره في وجوب الاحتياط ( وتوهم ) ان الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي لكونه في المرتبة المتأخرة عن الشك في الحكم الواقعي الذي هو أيضا متأخر في الرتبة عن نفس وجوده ، الا ان الحكم الواقعي ولو بنتيجة الاطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري وبذلك أمكن تعلق الرفع في تلك المرتبة بفعلية الحكم الواقعي ( مدفوع ) بأنه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم

ص: 392

الواقعي كيف يمكن توهم كون الحكم الواقعي ولو بنتيجة الاطلاق في عرض الحكم الظاهري وفى مرتبته ( فان ) مرجع طولية الحكم الظاهري بعد أن كان إلى اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه كيف يعقل ان يكون الحكم الواقعي في مرتبة الشك بنفسه وهل هو الا دعوى ان المعروض في مرتبة عارضه ( نعم ) الحكم الواقعي يجتمع مع الحكم الظاهري زمانا ( ولكن ) اجتماعه معه زمانا لا يقتضي اجتماعهما رتبة ، بل كل منهما حينئذ محفوظ في رتبة نفسه بلا تعديه من مرتبة إلى مرتبة كما اجتماع العلة مع معلولها كما هو ظاهر ( واما الوجه الثاني ) ففيه انه مبنى على تسجيل المضادة بين فعلية الاحكام الواقعية والترخيصات الظاهرية ( ودون ) اثباته خرط القتاد ، لما ذكرنا غير مرة من أنه لا مضادة بين الترخيصات الظاهرية وبين فعلية الاحكام التي تتضمنها الخطابات الواقعية ( فان ) ما يضاد الترخيصات الشرعية الظاهرية بل العقلية أيضا انما هو الفعلي على الاطلاق على نحو يقتضي عدم قناعة المولى في حفظ مرامه بصرف خطابه الواقعي المتعلق بذات العمل بصيرورته بصدد حفظه حتى في المراتب المتأخرة عن الجهل بخطابه بايجاد الداعي للمكلف ولو بانشاء آخر من ايجاب احتياط ونحوه « لا الفعلي » من قبل الخطاب الواقعي الراجع إلى كون المولى بصدد حفظ مرامه من قبل دعوة خصوص خطابه الواقعي المتعلق بذات العمل ، فان ذلك مما يجتمع مع الترخيص الظاهري على الخلاف في المراتب المتأخرة عن الجهل بخطابه « والأول » مما لا طريق إلى احرازه « لان » الطريق إلى فعلية الاحكام الواقعية والاغراض النفس الامرية لا يكون الا الخطابات الواقعية ، والمقدار الذي يقتضيه كل خطاب ليس الا الفعلية بمقدار استعداد ذلك الخطاب لحفظ المرام من قبله ، لا أزيد منه « وبعد » اجتماع هذا المقدار من الفعلية مع الترخيص الظاهري على الخلاف لا يبقى مجال كشف تخصيص الفعلية بالبقية واثبات ان الواجب الفعلي هو الأقل بمجرد نفي الوجوب عن الأكثر والخصوصية الزائدة وعلى فرض تسليم التضاد بين هذه المرتبة من الفعلية أيضا ، انما يكون ذلك مع الترخيص الظاهري ، لا مع مجرد عدم الفعلية ظاهرا كما هو مقتضى حديث الرفع ، فان نتيجة ذلك لا تكون الا مجرد العذر العقلي ، ومثله لا يضاد فعلية الاحكام الواقعية عند القائل بالتضاد فتأمل « ثم إن ذلك » أيضا في

ص: 393

فرض ظهور الأوامر الواردة في مقام شرح المركب في المولوية ، واما على ما هو التحقيق من ظهورها في الارشاد إلى الجزئية والشرطية ، فالامر أشكل ( فان ) استفادة الامر الفعلي بالاجزاء حينئذ انما يكون من ناحية الامر بالكل ومع فرض اجماله وتردده بين الأقل والأكثر من أين يثبت كلية الأقل وفعلية التكليف به بمجرد الترخيص الجاري في الأكثر ، بل وكذلك الامر في فرض ظهور تلك الأوامر في المولوية الفعلية ( فان ) فعليتها حينئذ تتبع فعلية ما سيقت هذه لشرحه وهو الامر بالكل وبعد ان لا يكون لفعلية امره اطلاق يشمل حال فقد بعض الاجزاء لا مجال للاخذ باطلاق فعلية تلك الأوامر لاثبات فعلية وجوب الأقل كما هو ظاهر ( واما الوجه الثالث ) ففيه ان المورد الذي يحكم العرف بالملازمة بين الامرين حتى في مقام التنزيل ومرحلة الظاهر انما هو إذا كان التنزيل متوجها بدوا إلى عنوان أحد المتلازمين كما في تنزيل الأبوة لزيد ، لا فيما كان التنزيل متوجها بدوا إلى عنوان عام وكان المتكفل لتطبيقه على المورد هو العقل ( فان ) في مثله يمنع عن فهم العرف الملازمة بينهما حتى في مقام التنزيل ( والمقام ) من هذا القبيل حيث إن الرفع في دليل الرفع انما كان متوجها إلى عنوان عام وهو عنوان ما لا يعلم ، لا إلى عنوان الجزئية ، فلا يبقى مجال حينئذ للتشبث بفهم الملازمة لاثبات كلية الأقل ، ولذا لم يتوهم أحد اثبات كليته باستصحاب عدم جزئية المشكوك فيه بالملازمة المزبورة ( ولا أقل ) من الشك في ذلك فيبقى العلم الاجمالي على تأثيره ، لما عرفت غير مرة من أن المصحح للترخيص في أطراف العلم الاجمالي على هذا المسلك انما هو جعل البدل الواصل ، لا مجرد جعل البدل الواقعي ، فمع الشك في جعل البدلية وعدم احراز تحديد دائرة الواجب بالأقل ولو ظاهرا من جهة الشك في فهم العرف الملازمة بين التنزيلين ، كان العلم الاجمالي على مؤثريته في التنجيز والمانعية عن مجيء الترخيص على خلاف معلومه ولو في بعض الأطراف ( ثم انه من التأمل ) فيما ذكرنا يظهر الحال على سائر المسالك الاخر في الاحتياط العقلي أيضا ( فإنه ) لا مجال لجريان البراءة النقلية في الأكثر والخصوصية الزائدة المشكوكة خصوصا على مسلك صاحب الفصول قدس سره ( إذ حكم العقل ) بوجوب الاتيان بالأكثر وبالخصوصية الزائدة المشكوكة ليس من جهة الفراغ عن عهدة

ص: 394

التكليف بالأكثر نفسه ولا للتخلص عن احتمال العقوبة على ترك الخصوصية المشكوكة حتى يجديه دليل الرفع ، وانما ذلك من جهة كونه من لوازم الفراغ عن عهدة التكليف بالأقل ، ودليل الرفع على فرض جريانه لا يكاد يرفع هذا الحكم العقلي الا على فرض كونه ناظرا إلى تعيين كون الأقل هو تمام المأمور به واقعا ، وهو أيضا مما عرفت الكلام فيه مفصلا - ثم إن ذلك كله - على القول بالاحتياط العقلي في المقام - واما على القول - بالبرائة العقلية كما هو المختار ، فقد عرفت انه تجري البراءة النقلية أيضا كحديث الرفع والحجب في نفي المشكوك فيه بل ودليل الحلية أيضا في وجه ، بل وكذا يجري فيه استصحاب العدم من غير حاجة إلى اثبات كلية الأقل كي يتوجه اشكال المثبتية - فإنه - بعد رجوع العلم الاجمالي في المقام إلى علم تفصيلي بتعلق مرتبة من التكليف بالأقل وشك بدوي في تحقق مرتبة أخرى منه متعلقة بالزائد ، فلا شبهة في أن الأصل يقتضي عدمه لتحقق أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق ، ونفى هذه المرتبة وان لم يثبت حد التكليف بخصوص الأقل ، ولكنه يكفي حينئذ في عدم الالتزام بالمشكوك فيه مجرد عدم وجوبه من الأزل بضمية اكتفاء العقل في حكمه بتحصيل الفراغ بالاتيان بما علم وجوبه وان لم يعلم أنه تمام المأمور به - من غير فرق - بين ان يكون المستصحب هو عدم وجوب الجزء المشكوك فيه ، أو عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه - فإنه - على كل تقدير يجري استصحاب عدم وجوبه أزلا ، بل وأصالة عدم جعله لتحقق أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق حتى في الأول - لان - ما اختل فيه ركنه حينئذ انما هو العدم النعتي بما هو مفاد ليس الناقصة بنحو يصدق مجعول مركب لم يلحظ فيه الجزء المشكوك فيه ، لا العدم المحمولي بما هو مفاد ليس التامة - فإنه لا ريب - في كونه مسبوقا باليقين بالعدم - فإذا - كان مرجع جعل الشيء إلى تعلق اللحاظ به بجعله واجبا أو جزء وكان يختلف مراتب الجعل واللحاظ أيضا بوحدة المجعول وتعدده ، فلا جرم بعد اليقين بتحقق مرتبة منه والشك في تحقق مرتبة أخرى تجري أصالة عدم الوجوب أو أصالة عدم تعلق الجعل بالجزء المشكوك فيه وبالأكثر المشتمل عليه - وتوهم - انه لا اثر لمجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل

ص: 395

بالمشكوك فيه ، لان الآثار الشرعية بل العقلية من الإطاعة والامتثال انما تترتب على الأحكام الشرعية وجودا وعدما فلا اثر لمجرد عدم الجعل الا من جهة استتباعه لعدم المجعول وهو مبنى على حجية المثبت أو دعوى خفاء الواسطة ( مدفوع ) بان عدم جعل الوجوب واقعيا كان أو ظاهريا مستتبع لعدم الوجوب كذلك ، ومثله غير مرتبط بالأصول المثبتة ، فان عدم الوجوب الظاهري حينئذ انما كان من لوازم عدم الجعل الظاهري الذي هو الاستصحاب ، لا من لوازم نفس المستصحب واقعا ( وبعد ان كان ) نفس الجعل مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ويكتفي به في الأثر الشرعي في باب الاستصحاب ، فلا قصور في جريان استصحاب عدم تعلق الجعل به ، وان لم يثبت بنفي هذه المرتبة تحديد مرتبة الجعل بخصوص الأقل ( كيف ) ولازم المنع عن جريان أصالة عدم الجعل في المقام لأجل عدم ترتب الأثر عليه الا باعتبار ما يستتبعه من عدم تحقق المجعول ، هو المنع عن جريانه في الاحكام الكلية التي علم بعدمها قبل تشريع الاحكام وشك في ثبوتها في الشريعة عند تشريع الاحكام ، مع أن ذلك كما ترى ( واضعف من ذلك ) توهم معارضة أصالة عدم تعلق الجعل بالأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه أو أصالة عدم وجوبه بأصالة عدم تعلق الجعل بالأقل الفاقد للجزء المشكوك فيه وعدم وجوبه ( فان ذلك مبنى ) على اخذ حد القلة في معروض الوجوب في المرتبة السابقة عن تعلق الوجوب به ، وهو في محل المنع ( لما عرفت ) من أن الواجب على تقدير كونه هو الأقل انما هو ذات الأقل مهملة المحفوظة في حال الانضمام بالزائد وعدمه ، وان طرو حد القلة عليه انما نشاء من جهة قصور الوجوب أو الجعل عن شموله للزائد ، فلا يمكن اخذ مثل هذا الحد الجائي من قبل الوجوب في معروضه ( وعلية ) فبعد العلم بتعلق الوجوب بذات الأقل وحكم العقل بلزوم الاتيان به ، لا يكاد يجري فيه أصالة العدم كي يعارض الأصل الجاري في طرف الأكثر كما هو ظاهر ( وبما ذكرنا ) ظهر الحال في العدم السابق على البلوغ ، والعدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ( فإنه ) على ما ذكرنا لا قصور في جريان الاستصحاب فيهما من غير فرق بين جعل المستصحب هو عدم وجوب الجزء المشكوك فيه أو عدم وجوب الأكثر المشتمل عليه ( وحينئذ ) فما يظهر من بعض الاعلام قده من الاشكال على تلك الاستصحابات من جهة المثبتة في

ص: 396

بعضها وعدم ترتب الأثر في البعض الاخر وعدم اليقين السابق في ثالث ( منظور فيه ) يظهر وجهه مما ذكرناه ( هذا كله ) فيما لو كان الترديد بين الأقل والأكثر في الاجزاء ( وأما إذا كان الترديد ) بين الأقل والأكثر في شرائط المأمور به وموانعه ، فالكلام فيه هو الكلام في الاجزاء حرفا بحرف ، والمختار فيها أيضا هي البراءة عقلا ونقلا من غير فرق بين ان يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مبائنا معه في الوجود ، أو متحدا مع المشروط وقائما به ، فان مرجع شرطية شيء للمأمور به بعد أن كان إلى اعتبار دخل التقيد به في موضوع التكليف النفسي في المرتبة السابقة على تعلق الوجوب به بحيث كان التقيد جزء للموضوع ولو تحليلا ونفس القيد خارجا ، فلا محالة يكون مرجع الشك في شرطية شيء للمأمور به إلى الشك في أن موضوع التكليف النفسي هي ذات الشيء أو هي مع التقيد بأمر كذائي فتجري فيه أدلة البراءة عقليها ونقليها.

( واما لو كان ) الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع أو الطبيعي والحصة كما إذا دار الامر بين وجوب اطعام مطلق الحيوان أو الانسان ، أو وجوب اكرام الانسان أو خصوص زيد ، ففي جريان البراءة فيه عن الخصوصية المشكوكة اشكال ، منشئه الاشكال في كون الشهبة فيه من الأقل والأكثر أو المتبائنين ( ولكن الأقوى ) فيه وجوب الاحتياط ( لا لما قيل ) من أن الترديد بين الجنس والنوع وان كان بالتحليل العقلي من الأقل والأكثر ، ولكنه بنظر العرف خارجا يكون من الترديد بين المتبائنين ، من جهة تباين مفهوم الانسان بحسب الارتكاز العرفي مع مفهوم الحيوان ، فيجب فيه الاحتياط - إذ لازم - ذلك هو التفصيل بين ان يكون الترديد في متعلق الخطاب بين الحيوان والانسان ، وبين الحيوان والحيوان الناطق بالمصير في الثاني إلى البراءة لاندراجه في الأقل والأكثر حتى بنظر العرف بلحاظ اتحاد المفهوم من الحيوان في الحيوان الناطق مع المفهوم من الحيوان المطلق ، مع أن الالتزام بذلك كما ترى - فان محل الكلام - انما هو فيما لو كان تردد متعلق التكليف أو موضوعه من قبيل الجنس والنوع أو الطبيعي والحصة ، بأنه يندرج مثله في الأقل والأكثر أو المتبائنين ، كان التعبير عن ذلك بعنوان بسيط كالانسان أو بعنوان مركب كالحيوان الناطق ، أو بغير ذلك من

ص: 397

أنحاء التعبير ( بل ذلك ) من جهة عدم تحقق ملاك الأقل والأكثر فيه حتى بحسب التحليل العقلي ( فان ) مناط كون الشبهة من الأقل والأكثر كما عرفت غير مرة هو ان يكون الأقل على نحو يكون بذاته وحصته الخاصة سوى حده الأقلية محفوظا في ضمن الأكثر نظير الكليات المشككة المحفوظ ضعيفها بذاته لا بحد ضعفه في ضمن شديدها ( ومن الواضح ) عدم صدق المناط المزبور في مفروض البحث ( فإنه بعد ) تخصص الطبيعي في المتواطيات بالضرورة إلى حصص متعددة وآباء كذلك بعدد الافراد بحيث كان المتحقق في ضمن كل فرد حصة وأب خاص من الطبيعي المطلق غير الحصة والأب المتحقق في ضمن فرد آخر كالحيوانية الموجودة في ضمن الانسان بالقياس إلى الحيوانية الموجودة في ضمن نوع آخر كالبقر والغنم ، وكالانسانية المتحققة في ضمن زيد بالقياس إلى الانسانية المتحققة في ضمن بكر وخالد « فلا محالة » في فرض الدوران بين وجوب اكرام مطلق الانسان أو خصوص زيد لا يكاد يكون الطبيعي المطلق بما هو جامع الحصص والاباء القابل للانطباق على حصة أخرى محفوظا في ضمن زيد كي يمكن دعوى العلم بوجوبه على اي حال « لان » ما هو محفوظ في ضمنه انما هي الحصة الخاصة من الطبيعي ، ومع تغاير هذه الحصة مع الحصة الأخرى المحفوظة في ضمن فرد آخر كيف يمكن دعوى اندراج فرض البحث في الأقل والأكثر ولو بحسب التحليل بل الامر في أمثال هذه الموارد ينتهي إلى العلم الاجمالي بتعلق التكليف اما بخصوص حصة خاصة أو بجامع الحصص والطبيعي على الاطلاق بما هو قابل الانطباق على حصة أخرى غيرها ، ومرجعه إلى العلم الاجمالي اما بوجوب هذه الحصة الخاصة وحرمة ترك الاتيان ، بها مطلقا ، واما بوجوب حصة أخرى غيرها المشمولة لاطلاق الطبيعي وحرمة تركها في ظرف ترك الحصة الخاصة ، وفى مثله بعد عدم انطباق أحد التركين على الاخر وعدم قدر متيقن في البين في مشموليته للوجوب النفسي الأعم من الاستقلالي والضمني ، يرجع الامر إلى المتبائنين فيجب فيه الاحتياط باطعام خصوص زيد « لان » باطعامه يقطع بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، بخلاف صورة اطعام غير زيد ، فإنه لا يقطع بحصول الفراغ ولا يؤمن العقوبة على ترك اطعام زيد « وبما ذكرنا » يظهر الحال في جميع

ص: 398

موارد الدوران بين التخيير والتعيين الشرعي كما في الخصال الثلاث فإنه بمقتضى ما ذكرناه من البيان لابد من الاحتياط بالاتيان بما يحتمل وجوبه تعيينا ( من دون ) فرق بين القول برجوع التخيير فيه إلى التخيير العقلي الراجع إلى كون الواجب هو الجامع بين الأمور المزبورة ، وبين القول برجوعه إلى وجوب كل واحد منها بوجوب مستقل ناش من مصلحة مستقلة وانه بالاتيان بأحدها يسقط الوجوب عن البقية لمكان المضادة بين ملاكاتها في مقام التحقق « فإنه » على كل تقدير عند الشك في الوجوب التعييني لاحدها لابد بمقتضى العلم الاجمالي المزبور من الاحتياط عقلا باتيان ما يحتمل تعيينيته والى ما ذكرنا يكون نظر الشيخ « قده » في مصيره إلى الحاق المقام بالمتبائنين الا الأقل والأكثر ، فلا يلزم عليه حينئذ الالتزام بالبرائة في المقام على نحو ما اختاره في الأقل والأكثر كي يشكل عليه بأنه لا وجه للتفكيك بين المقامين فتدبر ، هذا كله في البراءة العقلية - واما البراءة الشرعية - فعلى المختار من علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لا تجري البراءة الشرعية أيضا - واما على القول - باقتضاء العلم الاجمالي لذلك ، فالظاهر أنه لا مانع عن جريانها في كل واحد من التركين وهما ترك العتق في ظرف وجود الاطعام والصيام وترك الاطعام والصيام المقرون بترك العتق - وذلك - اما من جهة العلم الاجمالي فلما هو المفروض من اقتضائه لوجوب الموافقة القطعية وقابليته لمنع المانع ، واما من جهة محذور استتباع جريانها للمخالفة القطعية ، فلعدم لزومها في المقام ، لان ما يعلم تفصيلا حرمته انما هو ترك العتق المقارن لترك الاطعام والصيام واما تركه في ظرف وجود الاطعام والصيام فلا يعلم حرمته ، كما لا يعلم أيضا حرمة ترك ، الاطعام والصيام المقرون مع ترك العتق ، لأنه من المحتمل كون العتق هو الواجب التعييني ، إذ على هذا التقدير لا يكون ترك الاطعام والصيام حراما ولا معاقبا عليه وانما العقاب حينئذ يكون على ترك العتق ، غاية الامر انه قارن ترك الاطعام والصيام مع ترك العتق الذي هو المحرم والمعاقب عليه ( وبذلك ) يندفع توهم المنع عن جريان البراءة في طرف ترك الصيام والاطعام في ظرف ترك العتق ، بدعوى العلم التفصيلي بحرمته والعقوبة عليه ( وجه ) الاندفاع ما عرفت من أن المعلوم تفصيلا حرمته انما هو ترك العتق في ظرف ترك البقية لا ترك الصيام والاطعام المقرون بترك العتق

ص: 399

المحتمل وجوبه تعيينا ، فان من المحتمل حينئذ إباحة تركهما وان العقوبة المترتبة تكون على ترك خصوص العتق ( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو فساد المبنى المزبور ، وان التحقيق هو علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية على نحو يمنع عن مجيء الترخيص على خلافه ولو في بعض الأطراف ، وعليه فلا محيص من الاحتياط باتيان ما هو المتيقن وجوبه ( هذا كله ) إذا كانت الخصوصية المشكوك دخلها في المطلوب من قبيل الخصوصيات المنوعة أو المشخصة المفردة ( واما ) إذا كانت من الخصوصيات العرضية غير المشخصة مثل العدالة والايمان ونحوها كما في الترديد بين العام والخاص والمطلق والمقيد كتردد متعلق العتق الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة ، ففي جريان البراءة فيه أيضا اشكال منشئه الاشكال المتقدم في نحو الجنس والنوع في اندراجه في الأقل والأكثر أو المتبائنين ( وقد ) يقرب البراءة فيه برجوعه إلى الشك في التكليف بالقيد والخصوصية المشكوكة فتجري فيه البراءة على نحو ما مر في الشك في الجزئية ( ولكن ) التحقيق في المقام هو التفصيل ، بين ان يكون القيد المشكوك فيه على نحو يكون كل فرد من افراد الطبيعي قابلا للاتصاف به كالقيام والقعود والايمان في الرقبة ، وبين ما لا يكون كذلك كالهاشمية ونحوها ( بالمصير ) فيما كان من قبيل الأول إلى البراءة نظرا إلى رجوع الشك حينئذ في كل ما يفرض كونه من افراد الطبيعي وينطبق عليه أول وجود الطبيعي إلى أن الواجب هذه الحصة الفاقدة للخصوصية أو هي بشرط وجدانها للخصوصية الزائدة القابلة لطروها عليها فيرجع إلى الأقل والأكثر وتجري فيه البراءة عقليها ونقليها ، من غير فرق بين ان يكون القيد متحدا مع المشروط وقائما به ، وبين ان يكون خارجا عنه ومغايرا معه في الوجود ( وفى الثاني ) إلى الاشتغال ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في أن الواجب هو خصوص الحصة الواجدة للخصوصية أو الجامع بينها وبين الفاقد الذي هو غير قابل لان يوجد مع الخصوصية فينتهى الامر إلى الدوران بين التعيين والتخيير والعلم الاجمالي بين المتبائنين بنحو ما قربناه في الدوران بين الجنس والنوع فيجب الاحتياط باتيان الواجد للخصوصية ( والسر ) في الفرق المزبور بعد اقتضاء التكليف بالطبيعي الصرف بنظر العقل مطلوبية أول وجوده ، هو ان في فرض قابلية

ص: 400

جميع افراد الطبيعي لطرو الخصوصية عليه يكون كل ما يفرض عند العقل كونه أول وجود لهذه الطبيعة يعلم بمطلوبية ذاته وانما الشك في أنه هو الواجب أو هو مع الخصوصية الزائدة القابلة لطروها عليه ، وبذلك يندرج في الأقل والأكثر ( بخلاف ) فرض عدم قابلية بعض افراد الطبيعي لطرو الخصوصية عليه ، فإنه لو فرض كون الفرد الفاقد للخصوصية أول وجوده لا يعلم بمطلوبية الحصة المحفوظة في ضمنه ، لاحتمال كون المطلوب هي الحصة الواجدة للخصوصية أو القابلة لايجادها فيها ، فيندرج بذلك في المتبائنين ، لتردد الواجب حينئذ بين الجامع بين الوجودين أو خصوص الواجد للخصوصية فيجب فيه الاحتياط باتيان الواجد للخصوصية ( وعليك ) بالتأمل فيما ذكرناه في الفرق بين الفرضين ، فإنه ينفعك أنشأ اللّه تعالى عند التباس الامر عليك في أمثال الموارد لتمييز باب الأقل والأكثر في المشروطات والمقيدات من باب التعيين والتخيير الراجع فيه العلم الاجمالي إلى المتبائنين ( هذا كله ) في شقوق الترديد بين الأقل والأكثر في معروض التكليف الذي هو فعل المكلف أو متعلقه الذي هو الموضوع الخارجي من حيث الشك في الجزئية أو الشرطية أو المانعية ( وقد عرفت ) ان المختار في جميع فروض المسألة هي البراءة عقليها ونقليها ، الا فيما كان الترديد فيه من قبيل الترديد بين الجنس والنوع والكلي والحصة ( فان ) المرجع فيمثله هو الاشتغال عقلا ( من ) دون فرق فيما ذكرناه من البراءة بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية ، لاتحاد مناط البراءة في الجميع ، غير أن الشبهات التحريمية تكون على عكس الشبهات الوجوبية ، فان في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقن الوجوب والأكثر مشكوكا ، وفي الشبهات التحريمية يكون الأكثر متيقن الحرمة والأقل مشكوكا فلو شك حينئذ في دخل شيء في الحرام المركب على نحو الجزئية أو القيدية ، تجري البراءة عن حرمة الأقل مع ترك المشكوك فيه ( بل لو قلنا ) بالاحتياط العقلي في الشبهات الوجوبية لمكان شبهة الفصول من اقتضاء الاشتغال بالأقل للفراغ اليقيني عنه الذي لا يحصل الا باتيان الأكثر ، أمكن القول بالبرائة في الشبهات التحريمية ، لمكان عدم اقتضاء قاعدة الشغل المزبور فيها وجوب الاجتناب عن الأقل ( فإنه ) بعد أن كان عصيان الحرام المركب بارتكاب مجموع الاجزاء من

ص: 401

حيث المجموع ، ويكتفي العقل في تحقق ترك العصيان بترك جزء المركب ولو كان هو الجزء الأخير منه ( فلا جرم ) مع الشك في دخل شيء في موضوع الحرمة بنحو الجزئية أو القيدية يكتفى العقل بتركه في عدم حرمة البقية ، للشك حينئذ في أصل حرمة البقية ( والفرض ) أيضا عدم اقتضاء قاعدة الشغل بترك الحرام المركب الا الفراغ عنه بترك المجموع من حيث المجموع بلا اقتضاء مجرد اليقين بالشغل المزبور لحرمة البقية ( وهذا ) بخلاف الواجب المركب ، فان عصيانه لما كان بترك جزء منه ، فمع العلم باشتغال العهدة بالتكليف بالأقل يمكن اثبات وجوب الاتيان بالأكثر بقاعدة الشغل بالأقل ( وحينئذ ) فما توهم من اقتضاء وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية لوجوبه أيضا في الشبهات التحريمية مما لا ينبغي الاصغاء إليه.

« الصورة الثانية » في دوران الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات ، فيما كان الواجب والمأمور به عنوانا بسيطا كالغسلات الخاصة في باب الطهارة الحدثية والخبثية ، بناء على أن المأمور به هي الطهارة وان الامر بالغسلات انما هو لكونها محصلة لها ، لا انها هي المأمور بها « وفى جريان البراءة » عند الشك في دخل شيء في المحقق بنحو الجزئية أو القيدية اشكال ، والمشهور العدم مطلقا في الأسباب الشرعية والعقلية والعادية ( لان ) التكليف بالامر البسيط معلوم بجميع حدوده والشك في دخل شيء في تحققه راجع إلى الشك في حصول الفراغ منه بدونه ومقتضى اطلاق كلامهم هو عدم الفرق بين كون الامر البسيط دفعي الحصول والتحقق أو متدرج الحصول من قبل اجزاء محققه ( ولكن التحقيق ) التفصيل بين ان يكون العنوان البسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول والتحقق من قبل اجزاء علته ومحققه بان يكون كل جزء من اجزاء سببه مؤثرا في تحقق مرتبة منه إلى أن يتم المركب فيتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ الآثار ، نظير مرتبة خاصة من النور الحاصلة من عدة شموع والظاهر أنه من هذا القبيل باب الطهارة كما يكشف عنه ظاهر بعض النصوص الواردة في باب غسل الجنابة من نحو قوله (عليه السلام) تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة وقوله (عليه السلام) في الصحيح فما جرى عليه الماء فقد طهر ، وقوله في الصحيح الاخر وكل شيء أمسسته الماء فقد أنقيته ( ويعضده )

ص: 402

استدلال جمع منهم على ناقضية الحدث الأصغر الواقع في أثناء الغسل ، بان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بكمالها فلابعاضها أولى « وبين » ما لا يكون كذلك بان كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب دفعي الحصول والتحقق عند تمامية محققة - فعلى الأول - لا قصور في جريان أدلة البراءة عند الشك في المحقق ودورانه بين الأقل والأكثر ، فان مرجع الشك في دخل الزائد في المحقق حينئذ بعد فرض ازدياد سعة الامر البسيط بازدياد اجزاء محققه إلى الشك في سعة ذلك الامر البسيط وضيقه ، فينتهى الامر في مثله إلى الأقل والأكثر في نفس الامر البسيط ، فتجري فيه البراءة عقليها ونقليها ، من غير فرق بين كون المحصل له من الأسباب العقلية والعادية أو الأسباب الشرعية كباب الطهارة الحدثية بل الخبثية أيضا ( واما على الثاني ) وهو فرض كون البسيط دفعي الحصول والتحقق عند تحقق الجزء الأخير من علته ، فلا محيص عند الشك في دخل شيء في محققه من الاحتياط « لان » التكليف قد تنجز بمفهوم مبين معلوم بالتفصيل بلا ابهام فيه ، والشك انما كان في تحققه وحصول الفراغ منه بدونه ، والعقل يستقل في مثله بوجوب الاحتياط تحصيلا للجزم بالفراغ عما ثبت الاشتغال به يقينا ( ولازمه ) المنع عن جريان الأصول النافية أيضا من غير فرق بين كون المحقق من الأسباب العادية والعقلية أو من الأسباب الشرعية ( نعم ) بناء على تعليقية حكم العقل بالفراغ الجزمي على عدم مجيء الترخيص على الخلاف كما هو أساس القول باقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، لا قصور في جريان أدلة المرخصة حتى في فرض كون المحقق من الأسباب العقلية والعادية فضلا عن كونه من الأسباب الشرعية ، حيث إنه يشك في حرمة مخالفة التكليف بالبسيط من قبل الجزء المشكوك دخله في محققه وان كانت سببيته عقلية أو عادية ، فيجري فيه حديث الرفع ونحوه ، من دون احتياج إلى اثبات سببيته الأقل ومؤثريته في الامر البسيط ، ولا إلى اجزاء الأصل في نفس السبب كي يرد عليه اشكال المثبتية تارة ، وعدم مجعولية السببية أخرى حتى في الأسباب الشرعية ، بدعوى انه مع تعلق الجعل الشرعي بالمسبب لا يعقل تعلقه أيضا بنفس السبب ( فان المانع ) عن جريان الأصول النافية على هذا المبنى في أطراف العلم انما

ص: 403

هو تساقطها بالتعارض ، وبعد عدم جريانها في مقطوع المخالفة من ناحية الأقل لا قصور في جريانها بالنسبة إلى مشكوك المخالفة من ناحية مشكوك الدخل في السبب كما هو ظاهر ( ولكن ) الذي يسهل الخطب كما بيناه مرارا هو فساد هذا المبنى ( فان التحقيق ) هو تنجيزية حكم العقل عند اليقين بالاشتغال بوجوب تحصيل الجزم بالفراغ الأعم من الحقيقي والجعلي على نحو يأبى عن الترخيص على خلافه ( وعليه فبعد ) رجوع الشك في دخل المشكوك فيه في السبب إلى الشك في تحقق المسبب المأمور به بدونه لا محيص من الاشتغال ، ولا مجال لجريان الأصول النافية والترخيصات الظاهرية كحديث الرفع وأصالة عدم الجزئية ، وعدم تعلق الجعل بالزائد المشكوك فيه في الأسباب الشرعية ، وان قلنا بمجعولية السببية فيها مستقلا أو كفاية مطلق المجعولية ولو تبعيا في جريان الأصل ، الا على تقدير مثبتيتها لسببية الأقل ومؤثريته في تحقق المسبب ليكون بذلك مثبتا للفراغ الجعلي الظاهري ، ومثله كما ترى خارج عن عهدة تلك الأصول الا على القول بالأصل المثبتة ( لا يقال ) انه يمكن جريان البراءة على هذا المبنى أيضا في نفس المسبب في طرف تركه ( فإنه ) بعد ما ينعدم الامر البسيط بانعدام كل واحد من اجزاء محققه على نحو العموم البدلي ، فلا محالة عند الشك في جزئية شيء لمحققه ينتهى الامر في طرف حرمة تركه إلى الأقل والأكثر ، حيث إن تركه الناشئ من قبل ترك الأقل مما يعلم تفصيلا حرمته واستحقاق العقوبة عليه للعلم بافضاء تركه إلى ترك المأمور به ( واما ) تركه الناشئ من قبل ترك المشكوك جزئيته للسبب ، فلم يعلم حرمته لعدم العلم بافضاء تركه إلى تركه وانطباق النهى عن ترك المأمور به عليه ، فتجري فيه أدلة البراءة عقليها ونقليها ، كما في صورة تركب المأمور به وتردد اجزائه بين الأقل والأكثر خصوصا في الأسباب والمحصلات الشرعية التي لا سبيل للعقل إلى معرفتها الا ببيان الشارع ( فإنه يقال ) هذا انما يتم إذا كان إضافة اجزاء المحقق بالكسر إلى المحقق بالفتح من قبيل الجهات التقييدية الموجبة لتكثر اعدام المأمور به بالإضافة إليها حيث إنه بتعدد اجزاء المحقق حينئذ بتعدد الإضافات والتقيدات ، وبذلك يتكثر الاعدام أيضا فينتهى الامر من جهة حرمة الترك إلى الأقل والأكثر ( وليس الامر كذلك ) بل إضافة اجزاء المحقق إليه انما تكون ممحضة بكونها من الجهات

ص: 404

التعليلية ، وعليه لا يكاد يتصور للبسيط الذي هو المسبب الا عدم واحد وان بلغ اجزاء محققه في الكثرة ما بلغ لا اعدام متعددة وانما التعدد المتصور فيه انما هو في إضافة ذلك العدم الواحد إلى اجزاء علته ومحققه من حيث تحققه بانعدام كل واحد من اجزاء علته ( وبعد ) العلم بوقوع العدم المزبور تحت النهي والمبغوضية الفعلية حسب اقتضاء الامر بالشيء النهى عن النقيض ، لا محيص في مقام الفراغ من تحصيل الجزم بالخروج عن عهدته ، ولا يكون ذلك الا بالاتيان بجميع ما يحتمل دخله في محققه ( وبما ذكرنا من البيان ) ظهر فساد مقايسة المقام بصورة تركب المأمور به ( فان ) جريان البراءة فيه انما هو لأجل ان لكل واحد من اجزاء المركب المأمور به عدم مستقل يكون متعلقا للنهي الضمني قبال الاخر « فإنه » بهذا الاعتبار يتصور للمأمور به اعدام متعدده حسب تعدد اجزائه ، فينتهي الامر فيها إلى الأقل والأكثر ، وأين ذلك والامر البسيط الذي لا يتصور له إلا عدم واحد.

« تذييل » قد يتولد مما ذكرنا من الوجه في أصالة الاشتغال وعدم جريان البراءة عند الشك في المحقق ودورانه بين الأقل والأكثر « الاشكال » في جريان البراءة في جميع موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات أيضا « بتقريب » ان المصالح والملاكات المبتنية عليها التكاليف الشرعية على مذهب العدلية أيضا من قبيل العناوين البسيطة والمسببات التوليدية من متعلقات التكاليف والافعال الصادرة من المكلف ، فان الغرض من الامر بالافعال الخارجية انما هو حصول تلك المصالح والملاكات ، ومع وقوعها تحت الإرادة الفعلية الموجبة لتوجيه البعث نحو محققها من الافعال الخارجية ، لابد بمقتضى البيان المتقدم من الاشتغال في جميع موارد دوران المكلف به بين الأقل والأكثر ( لان ) العقل ملزم في مثله بتحصيل مرام المولى ولو لم يكن بنفسه في حيز خطابه مستقلا ، فيلزم سد باب البراءة كلية في جميع موارد الأقل والأكثر الارتباطي ، فإنه ما من مورد يشك فيه في دخل شيء في المكلف به على نحو الجزئية أو الشرطية الا والشك فيه يرجع إلى الشك في حصول الملاك وتحققه بدون المشكوك فيه فلابد بمقتضى اشتغال العهدة بتحصيل الملاك من الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في

ص: 405

حصول الملاك ( وقد أفاد الشيخ « قده » في دفع الاشكال بوجهين ( تارة ) بفرض الكلام على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح ، أو على مذهب من يقول من العدلية بكفاية المصلحة في نفس الامر والتكليف وان لم تكن في المأمور به ( وأخرى ) بان نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا ولو لم يؤت به على وجه الامتثال وان اللطف انما هو في الاتيان به على وجه الامتثال ، فيحتمل حينئذ ان يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه كما صرح به بعضهم ( وبعد ) تعذر ذلك كما في المقام حيث إن الآتي بالأكثر لا يعلم أنه الواجب أو الأقل ، لا يعلم بحصول اللطف بالأقل المأتي به من الجاهل الخ ( ولا يخفى عليك ) ما في هذين الجوابين ( اما الأول ) فظاهر لأنه في الحقيقة تسليم للاشكال على ما يقتضيه مذهب العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكائنة في متعلقاتها ( واما الثاني ) ففيه أولاً انه خلاف ما هو التحقيق حتى على مختاره ( قده ) من عدم دخل قصد الوجه في تحقق الامتثال ( وثانيا ) ان قصد الوجه على تقدير اعتباره انما يكون مختصا بالعبادات المتوقف صحتها والخروج عن عهدة الامر بها على الاتيان بها عن قصد امتثال أمرها ، وليس محل الكلام مختصا بالعبادات ، بل يعم التوصليات ( لان ) في الأوامر التوصلية أيضا لابد من اشتمال متعلقاتها على المصالح والملاكات ( وثالثا ) ان اعتبار قصد لوجه في حصول الغرض في العبادات انما يكون في صورة التمكن من ايقاع الفعل على وجهه ، فلا يوجب سقوطه حينئذ لأجل التعذر انتفاء أصل الملاك كي يقتضى عدم وجوب الاحتياط باتيان الأكثر ، والا لاقتضى عدم وجوب الأقل أيضا ، من جهة اقتضاء وجوبه حينئذ لكونه بلا ملاك يقتضيه ( وقد تصدى ) بعض الأعاظم « قده » لدفع الاشكال المزبور على ما في تقرير بعض تلاميذه ، بما يرجع حاصله إلى منع دخول المصالح والملاكات الكائنة في متعلقات التكاليف تحت الإرادة الفعلية بحيث تصير في عهدة المكلف ويجب عليه تحصيلها ، بدعوى انه يعتبر في صحة تعلق التكليف الفعلي بشيء ان يكون ذلك الشيء مقدورا للمكلف ولو بواسطة سببه وعلته بان يكون من المسببات التوليدية لفعل المكلف كالقتل والاحراق ، اما بان يكون الفعل الصادر منه تمام العلة لحصوله ، أو الجزء الأخير

ص: 406

منها ، وبدون ذلك لا يكاد يصح ان يتعلق به الإرادة الفعلية من الآمر ، والمصالح والملاكات الكائنة في متعلقات التكاليف من هذا القبيل ، حيث إنها بنفسها لا تكون مقدورة للمكلف ، ولا كانت أيضا من قبيل المسببات التوليدية لفعل المكلف بحيث يصح ان تستند إليه كالقتل والاحراق « لعدم » كون الفعل الصادر من المكلف سببا توليديا لتلك الآثار بنحو العلية التامة أو الجزء الأخير منها حتى يصح بذلك وقوعها تحت إرادة الآمر وتكليفه ، وانما يكون ذلك من المقدمات الاعدادية المحضة لحصول الأثر ، فيتوسط بين الفعل الصادر عن الفاعل والأثر أمور اخر خارجة عن قدرة الفاعل كصيرورة الزرع سنبلا والبسر تمرا ، حيث إن الفعل الصادر من الفاعل لا يكون الا حرث الأرض ونثر البذر وهو بنفسه غير كاف في حصول السنبل ، بل يحتاج حصوله إلى مقدمات أخرى خارجه عن تحت قدرة الفاعل واختياره « وبذلك » لا يصلح شيء من المصالح والاغراض التي هي مناطات الاحكام لان يتعلق به إرادة الآمر وتكليفه ، بل ما يتعلق به الإرادة الفعلية حينئذ انما هي نفس الافعال الصادرة عن المكلف ، فيندفع الاشكال المزبور من رأسه في المركبات الارتباطية ( لان ) المأمور به فيها انما هي الافعال الصادرة عن المكلف ، دون الملاكات والمصالح والاغراض ، وانما هي من الدواعي والعلل التشريعية لإرادة الآمر ( بخلاف ) العناوين التوليدية لفعل المكلف ، فإنها من جهة كونها تحت قدرة المكلف واختياره ولو بالواسطة أمكن ان يتعلق الامر بتحصيلها ، ومع الاشتغال بتحصيلها ودوران محققها بين الأقل والأكثر لابد فيها من الاحتياط بالاتيان بالأكثر ( وفيه ما لا يخفى ) فان غاية ما يقتضيه البيان المزبور انما هو عدم وقوع المصالح والملاكات تحت الامر والتكليف بوجودها الطارد لجميع الاعدام من جهة خروجها كذلك عن تحت قدرة المكلف ، واختياره ( لا مطلقا ) حتى بحفظ وجودها من قبل الافعال الصادرة من المكلف ، فإنه بعد أن كان للأفعال الصادرة من المكلف دخل في حصول الملاكات ولو بنحو الاعداد المستتبع للانتفاء عند الانتفاء لا محيص من وقوعها بهذا المقدار تحت إرادة الآمر وتكليفه كما أوضحناه في مبحث مقدمة الواجب ، ومرجعه إلى ايجاب حفظ الغرض وسد باب عدمه من قبل ما يتمشى منه من المقدمات الاختيارية ( وعليه )

ص: 407

يتوجه الاشكال المزبور ، حيث يكفي هذا المقدار في المنع عن جريان البراءة عند الشك وتردد المأمور به بين الأقل والأكثر ، لان ما هو الموجب لعدم جريان البراءة في صورة الشك في حصول العنوان ، موجب لعدم جريانها عند الشك في حصول الملاك أيضا ( وتوهم ) عدم امكان تعلق الإرادة الآمرية بالاغراض وملاكات الاحكام رأسا حتى يحفظ وجودها من قبل المأمور به ، لان الإرادة الآمرية انما تتعلق بما يمكن ان تتعلق به الإرادة الفاعلية ، والآثار المترتبة على الأفعال الاختيارية انما تتعلق بها الإرادة الفاعلية إذا كان الفعل الاختياري علة تامة لحصولها أو جزء أخيرا منها ( وإذا ) لم يكن كذلك بان كان في البين واسطة غير اختيارية في ترتبها ، يستحيل تعلق الإرادة الفاعلية بنفس تلك الآثار ، فيستحيل تعلق الإرادة الآمرية بها أيضا ، بل لو كان هناك إرادة آمرية لابد وان تتعلق بالمقدمات الاختيارية ليس الا ( مدفوع ) بما ذكرناه من أن المستحيل انما هو تعلق الإرادة الفاعلية بوجود الأثر على الاطلاق الطارد لعدمه من جميع الجهات ( واما ) تعلق الإرادة الفاعلية بوجوده الطارد لعدمه من الجهة التي هي تحت اختياره فهو في غاية الامكان ونظائره كثيرة لا تحصى ( كما في ) الحجر الكبير المتوقف حركته على تحريك شخصين أو أزيد وكالبيع بمعنى اسم المصدر المتوقف على ايجاب البايع وقبول المشترى ( فإنه ) مع خروج وجوده الطارد لعدمه على الاطلاق عن حيز قدرة البايع واختياره ، يقصد البايع ويريد بانشاء ايجابه التوصل إلى وجود الملكية للمشتري في الخارج مع علمه بعدم كون ايجابه علة تامة لحصول الملكية ولا جزء أخيرا منها ( وكما ) انه يصحح ذلك ويقال ان مرجع قصده إلى التوصل إلى وجود الملكية في الخارج من قبل انشاء ايجابه الذي هو فعل اختياري له ويصحح بذلك أيضا صحة التكليف بايجاد ملكية شيء لزيد بمثل قوله ملك زيدا كذا وأوجد ملكية دارك لزيد ، بارجاع التكليف بايجاد الملكية لزيد في الخارج إلى ايجاب حفظ وجود الملكية من قبل ما يتمشى منه وسد باب عدمها من ناحية ايجابه ( كذلك ) في المقام حرفا بحرف ، فيتوجه الاشكال بان اشتغال العهدة بتحصيل ملاك الواجب وحفظ وجوده من قبل المردد بين الأقل والأكثر يقتضى الفراغ اليقيني عنه ، وبالاتيان بالأقل يشك في تحقق الحفظ المزبور فلابد من الاتيان بالأكثر تحصيلا

ص: 408

للقطع بالفراغ عما ثبت الاشتغال به في العهدة جزما ( فالأولى ) حينئذ في دفع الاشكال المزبور ان يقال ان حكم العقل بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ تابع لمقدار ثبوت الاشتغال بالتكليف الفعلي بالغرض ، والمقدار الثابت من فعلية الإرادة بالنسبة إلى الملاك والغرض انما هو فعليتها بمقدار حفظه من قبل الأقل ( فان الطريق ) إلى استكشاف فعلية الإرادة بالنسبة إلى الملاكات والاغراض لا يكون الا الامر والبعث الفعلي نحو الافعال المحصلة لها ، وبالمقدار المعلوم من البعث الفعلي نحو الافعال الصادرة عن المكلف يستكشف فعلية الإرادة بحفظ الغرض من قبلها ، والا فليس الغرض بنفسه تحت خطاب مستقل كي يستكشف من اطلاقه فعلية الإرادة بالنسبة إلى الغرض أو حفظه على الاطلاق ( وحيث ) انه مع تردد المأمور به بين الأقل الأكثر لم يعلم الا التكليف بالأقل ، فلم يعلم فعلية الإرادة بحفظ الغرض أزيد مما علم ارادته من العمل ، ومعه لا ملزم للعقل بالاحتياط فيرجع إلى البراءة وقبح العقاب بلا بيان ( هذا ) كله في صورة دوران الامر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الحكمية.

وأما إذا كان دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية ، فالذي يظهر من الشيخ ( قده ) هو القول بالاحتياط بارجاع الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل ( وتحقيق الكلام في ذلك ) هو ان الشبهة في المصداق ، تارة يكون من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى كالشك في اتصاف زيد بعنوان العالمية في مثال أكرم العالم ، وأخرى يكون من جهة الشك في وجود ما هو المتصف بعنوان الكبرى ( وعلى الأول ) تارة يكون الخطاب مبهما من جهة حدود موضوع الحكم بحيث يكون قابلا للانطباق على القليل والكثير كما في مثال أكرم العالم ، وأخرى يكون معينا من هذه الجهة بلا ابهام فيه من ناحية نفس الخطاب كما في الامر باكرام عشرة عالم وأمثاله ( فعلى الأول ) لا شبهة في أن الشك في المصداق موجب للترديد في مقدار إرادة المولى من حيث شمولها للمشكوك فيه وعدمه ( فإنه ) بعدما يختلف دائرة الحكم سعة وضيقا بازدياد افراد موضوعه ومتعلقه وقلتها في الخارج ، فلا محالة يكون الشك في اتصاف فرد بعنوان العالمية يستتبع الشك في

ص: 409

الحكم وضيقه من ناحية نفس الخطاب ( فإذا ) علم بمقدار من افراد العلماء وشك في عالمية زيد فالاكرام الواجب في قوله أكرم العلماء يتردد بين الأقل والأكثر ( ويكون ) المرجع في مثله هي البراءة عن وجوب اكرامه ( من غير فرق ) في ذلك بين ان يكون لحاظ العلماء في قوله أكرم العلماء على نحو العام الاستغراقي أو على نحو العام المجموعي ( فإنه ) على كل تقدير يرجع الشك في الموضوع الخارجي في اتصافه بعنوان موضوع الكبرى إلى الشك في سعة الحكم وضيقه من ناحية الخطاب ( غايته ) انه في الأول تكون الشبهة من الأقل والأكثر الاستقلالي ، وفى الثاني من الأقل والأكثر الارتباطي مع كون منشأ الشبهة في الصورتين هي الأمور الخارجية ( ولكن الظاهر ) هو خروج هذا الفرض من الشبهة في المصداق عن فرض كلام الشيخ قده سره ( فان ) محط كلامه على ما يظهر من تمثيله ببين الهلالين والشك في المحقق انما هي صورة تعين مقدار دائرة الحكم من ناحية نفس الخطاب بحيث كان الشك في وجوب الأقل والأكثر ممحضا بكونه في عالم التطبيق ليس الا بلا ابهام في ناحية دليل الكبرى ، فينحصر فرضه حينئذ بمثل الامر باكرام عشرة مساكين ونحوه مما لا ترديد في مقدار الإرادة من جهة نفس الخطاب ( والا ) فلا وجه لعدم تمثيله لفرض تردد الواجب بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة في المصداق بنحو ما ذكرناه من الأمثلة الواضحة وتمثيله له بمثل بين الهلالين والشك في المحقق الذين لا يخلوان عن المناقشة أيضا كما ستطلع عليها فإنه - من البعيد جدا خفاء ذلك على أصاغر الطلبة فضلا عن مثل الشيخ - قده - الذي هو أستاذ هذا الفن ، فلا ينبغي حينئذ نسبة الغفلة عن ذلك أو تخيل عدم امكان فرض الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر إلى مثله ( قده ) فإنه إساءة للأدب وجفاء عليه « قده » « واما على الثاني » وهو فرض كون الشك في وجوب الأقل والأكثر ممحضا من جهة التطبيق واتصاف الموضوع الخارجي بعنوان موضوع الحكم مع تبين حدوده المأخوذة في موضوع الكبرى وتعين مقدار الإرادة من ناحية نفس الخطاب بلا ابهام فيه من طرف الزيادة نظير عنوان عشرة مساكين أو العلماء في قوله أكرم عشرة مساكين أو العلماء ( فيشكل ) فرض تردد التكلف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة في المصداق ، بل الظاهر عدم

ص: 410

تصوره ( لان ) الشبهة المصداقية لعنوان العشرة مثلا ، اما ان يكون مع انحصار الامر بالمشكوك عالميته والتسعة الأخرى ، أولاً مع الانحصار بذلك ، وعلى التقديرين لا مجال لتصور تردد التكليف بين الأقل والأكثر « وذلك » على الأول ظاهر ، فإنه مع الانحصار بالمشكوك عالميته يشك في القدرة على الاكرام العشرة لأجل الشك في تحقق موضوع الحكم ، فيشك في أصل التكليف بالاكرام ، فلا يتصور حينئذ أقل معلوم الوجوب وأكثر مشكوك ( وعلى الثاني ) وان أمكن تصور الشك في الأقل والأكثر من هذه الجهة ، الا ان المشكوك حينئذ طرف الشك في الايجاب التخييري في مقام الامتثال لا الوجوب التعييني ومثله خارج عن فرض البحث في الأقل والأكثر ، فان فرض الكلام فيه انما هو الشك في وجوب المشكوك فيه بالوجوب التعييني « وكذلك » الكلام في الشبهة الموضوعية لأجل الشك في وجود ما اتصف بعنوان موضوع الكبرى ، فإنه مع الشك في أصل الوجود لا يكون في البين أقل معلوم الوجوب وأكثر مشكوكه ومع الاتيان بمقدار من المأمور به والشك في وجود بقية الاجزاء واتيانه في الخارج لا يكون الأقل معلوم الوجوب بل حينئذ يقطع بسقوطه وكان الشك في سقوطه عن البقية « واما » ما أورده الشيخ « قده » من المثالين ، فالأول منهما وهو بين الهلالين يكون مبهما من حيث الحد نظير كلي العالم في قوله أكرم العالم ، حيث يكون مرجع الشك في كونه ثلاثين أو أقل إلى الشك في سعة دائرة الحكم وضيقه في قوله صم بين الهلالين والمرجع فيه عند عدم قيام دليل في البين أو أصل محرز يقتضي وجوب الصيام هي البراءة ( واما الثاني ) وهو الشك في المحقق ، فبالنسبة إلى السبب تكون الشبهة حكمية لا موضوعية ، وبالنسبة إلى المسبب تكون الشبهة موضوعية لأمر بسيط ، ولا تردد فيه بين الأقل والأكثر الا إذا كان الامر البسيط مما له مراتب متفاوتة بالشدة والضعف كالنور مثلا ( ولكن ) الشبهة حينئذ ترجع إلى كونها حكمية بالنسبة إلى المأمور به لا موضوعية * فعلى كل حال » لا يتصور في هذه المقامات الشك في وجوب الأقل والأكثر من جهة مجرد الشك في المصداق زائدا على الشك من ناحية الكبرى ، - وبهذه الجهة - ارجع الشيخ « قده » الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر الارتباطي إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل فتدبر.

ص: 411

( بقى الكلام في حكم الشك في القواطع والموانع ( وتحقيق الكلام ) في ذلك يستدعى تمهيد مقدمة لبيان المائز بين القاطع والمانع - فنقول - الظاهر أن مرجع كون الشيء قاطعا في المركبات الاعتبارية انما هو إلى كونه بوجوده مفنيا لما هو الشرط المأخوذ في المركب المأمور به وهو الجزء الصوري المعبر عنه بالهيئة الاتصالية ، الحادثة بالتكبيرة والمستمرة إلى آخر التسليمة من غير أن يكون لعدمه دخل في المأمور به * فان « معنى القطع عبارة عن الفصل الذي هو نقيض الوصل أو ضده ، ولا يصدق ذلك الا إذا كان للمركب جزء صوري وهيئة إتصالية لها دخل في ملاك المركب ( والا ) فبدونه لا مجال لتصوير كون الشيء قاطعا للمأمور به ولا للنهي عن ايجاده بعنوانه الخاص ( وهذا بخلاف المانع ) فان مرجع مانعيته إلى قيدية عدمه للمأمور به قبال الشرائط الراجعة إلى دخل وجودها في المأمور به ( وحينئذ ) فالمانع والقاطع وان كانا يشتركان في الاخلال بالمأمور به ، الا ان المايز بينهما هو ان في المانع يكون حيث التقيد بعدمه مأخوذ في المأمور به ، وكان له دخل في في ملاكه بخلاف القاطع فإنه ليس مما لعدمه دخل في المأمور به وانما هو مفني لما هو المعتبر فيه وهو الجزء الصوري المعبر عنه بالهيئة الاتصالية هذا ( وقد يفرق ) بينهما بوجه آخر وهو جعل المانع عبارة عما يمنع وجوده عن صحة المأمور به إذا وقع في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء والقاطع عبارة عما يمنع وجوده عن صحته عند وقوعه في أثناء المأمور به مطلقا حتى في حال السكونات المتخللة بين الاجزاء « ولكن فيه نظر » فإنه كما يمكن ثبوتا كون المانع مانعا عن صحة المأمور به في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء ( كذلك ) يمكن كونه مانعا عن الصحة مطلقا حتى في حال السكونات المتخللة في البين كما * ان الامر * في طرف القاطع كذلك * حيث * يتصور فيه ثبوتا كونه قاطعا مطلقا أو في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء ، لأنه تابع كيفية اعتبار الشارع إياه * واما في مقام الاثبات فيحتاج استفادة كل من الاعتبارين في كل من المانع والقاطع إلى قيام الدليل عليه ، ويختلف ذلك باختلاف كيفية لسان الأدلة الواردة في باب القواطع والموانع ولا يبعد استفادة المانعية والقاطعية المطلقة مما ورد بلسان النهى عن ايقاع شيء في الصلاة بنحو جعل الصلاة ظرفا لعدم وقوع المانع أو القاطع فيها

ص: 412

لولا مزاحمة الجهات الاخر المقتضية بالتخصيص المانعية أو القاطعية بحال الاشتغال بالاجزاء ( ومع الشك ) وعدم استفادة أحد الامرين من الأدلة ، يندرج في الأقل والأكثر ، فان المتيقن من المانعية أو القاطعية حينئذ انما هو في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء والمرجع في الزائد هي أصالة العدم ( ثم انه بعدما ظهر ) ثبوتا وجه الفرق بين المانع والقاطع من رجوع القاطع إلى كونه قاطعا للجزء الصوري والهيئة الاتصالية القائمة بمواد الاجزاء من غير أن يكون لعدمه دخل في المأمور به وفى حصول الملاك والمصلحة ، بخلاف المانع فان مرجعه إلى دخل عدمه في ملاك المطلوب ومصلحته ( يبقى الكلام ) في مقام الاثبات في أن للمركبات الاعتبارية جزء صوري يكون له دخل في المأمور به وراء مواد الاجزاء الخارجية أم لا ( ولكن الظاهر ) عدمه ، لانتفاء الدليل عليه بالخصوص في المركبات المعهودة كالحج والوضوء والصلاة ونحوها ( فان ) غاية ما يقتضيه دليل المركب في كل واحد منها انما هو كونه عبارة عن عدة أمور معهودة متباينة في الوجود ، واما ان لهذه المركبات جزء صوري آخر قائم بمواد الاجزاء الخارجية فيحتاج ثبوته فيها إلى قيام دليل عليه بالخصوص ( نعم ) في خصوص الصلاة يستفاد من التعبير بعنوان القاطع في بعض النواهي الواردة في باب القواطع ان لها وراء الاجزاء الخارجية جزء صوري آخر قائم بمواد الاجزاء من جهة ملازمة مثل هذا العنوان مع اعتبار هيئة إتصالية وجزء صوري قائم بمواد الاجزاء يكون هو المطلوب ( واما توهم ) المنع عن ثبوت ذلك حتى في باب الصلاة نظرا إلى دعوى انه لا يكون في الأدلة الا النهي الغيري عن عدة أمور كالالتفات إلى الوراء ونحوه ولا يدل مثله على أن وراء الاجزاء الخارجية امر وجودي آخر يسمى بالجزء الصوري لامكان ان يكون النهى عنها من جهة كونها مانعا قد اعتبر عدمها في الصلاة ( فمدفوع ) بأنه كذلك لولا تعنون تلك النواهي بعنوان القاطعية « واما مع تعنونها » بذلك فلا محالة بعد امكان وجود الجزء الصوري لها ثبوتا يكشف مثلها عن أن للصلاة هيئة إتصالية وجزء صوري قد اعتبرها الشارع فيها ، لما ذكرنا من ملازمة العنوان المزبور المأخوذ في حيز تلك النواهي مع اعتبار الهيئة الاتصالية في الاجزاء الخارجية ، وبذلك يستكشف أيضا عن

ص: 413

تعلق الطلب والبعث بالجزء الصوري على نحو تعلقه بالاجزاء الخارجية ، وان النهي عن ايجاد القاطع في الأثناء انما هو لأجل النهى عن قطع الهيئة الاتصالية الذي هو عين النهى عن نقيض الاتصال المطلوب ، لا ان ذلك لخصوصية فيه أوجبت النهى عنه « وحينئذ » فما عن بعض من المنع عن تعلق الطلب بالجزء الصوري المستكشف من النواهي الواردة في باب القواطع * منظور فيه * فإنه مع الاعتراف بكشف تلك النواهي عن وجود جزء صوري للصلاة لا محيص من كونه متعلقا للطلب أيضا ، ومعه لا يكون النهى عن ايجاد القاطع الا من جهة كونه علة لرفع الجزء الصوري والهيئة الاتصالية المعتبرة في المطلوب ، لا من جهة تقيد المأمور به بعدم نفسه كي يحتاج إلى رفع الشك عن جهة نفسه في مقام الحكم بالصحة كما هو ظاهر - وبعد ما عرفت - ذلك نقول ان الشك في القاطع يتصور على وجوده - فإنه - تارة يكون الشك فيه من جهة دوران المشكوك بين القاطع والمانع وهذا اما مع العلم بعدم خلوه في الواقع منهما ، واما لا مع العلم بذلك ، بل مع احتمال عدم كونه منهما - وأخرى - يكون من جهة الشك في أصل اعتبار الجزء الصوري للمأمور به شرعا مع القطع بأنه لو كان له جزء صوري لكان ذلك قاطعا بلا كلام - وثالثه - يكون من جهة الشك في كونه مصداقا للقاطع كالشك في كون التبسم مصداقا للضحك واما حكمها - ففي الصورة الأولى لا اشكال في وجوب التحرز عن المشكوك - لأنه - مع دورانه بين القاطع والمانع يقطع بكونه مضرا بصحة المأمور به ، اما لكونه مانعا قد اعتبر عدمه قيدا للمأمور به ، واما لكونه رافعا للجزء الصوري المعتبر فيه - من دون فرق - في ذلك بين احراز وجود الجزء الصوري للمأمور به وعدمه - وذلك - على الأول ظاهر ، وكذلك على الثاني ، فإنه وان كان الشك بالنسبة إلى الجزء الصوري من الأقل والأكثر ، الا انه مع العلم بتعلق النهي عن ايجاد مشكوك المانعية والقاطعية ولزوم الاحتراز عن المعلوم المردد بينهما ، لا مجال لجريان البراءة عنه لعدم ترتب سعة على جريانها حينئذ بعد العلم بلزوم التحرز عن المشكوك - واما في الصورة الثانية - وهي صورة دوران المشكوك بين القاطع والمانع بالشبهة البدوية ، فمع الشك في اعتبار الجزء الصوري للمأمور به لا اشكال في جريان البراءة لرجوع الشك المزبور حينئذ بالنسبة إلى

ص: 414

كل واحد من جزئية الهيئة الاتصالية وقيدية عدم المشكوك فيه للمأمور به إلى الأقل والأكثر ، بل وكذلك الامر مع احراز الجزء الصوري للمأمور به ، فإنه بالنسبة إلى احتمال المانعية ترجع الشبهة إلى الأقل والأكثر ، فتجري فيها البراءة ، وبالنسبة إلى احتمال القاطعية يرجع إلى استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ( وهكذا الكلام ) في الصورة الثالثة والرابعة ، فإنه في الصورة الثالثة تكون الشبهة بالنسبة إلى اعتبار جزئية الهيئة الاتصالية من صغريات الأقل والأكثر الجاري فيها البراءة ( وفى الصورة ) الرابعة التي تكون الشك فيها في كون المشكوك قاطعا من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية يكون المرجع فيها استصحاب بقاء الجزء الصوري والهيئة الاتصالية ، فإنه بعد ما لا يجرى الأصل في السبب الذي هو مشكوك القاطعية ، اما لعدم احراز الحالة السابقة فيه أو لعدم اجدائه لرفع الشك عن مسببه الذي هو بقاء الهيئة الاتصالية ولو على تقدير وجود الحالة السابقة فيه باعتبار كون ترتب بقاء الهيئة عليه عقليا لا شرعيا ، فلا محالة ينتهى الامر إلى الأصل المسببي وهو الأصل الجاري في نفس الجزء الصوري والهيئة الاتصالية ، وبجريانه فيها تترتب صحة الصلاة الواقع فيها مشكوك القاطعية من دون احتياج في الحكم بالصحة إلى رفع الشك عن مشكوك القاطعية أيضا ، كي يقال انه بالاستصحاب المزبور لا ترتفع الشبهة من هذه الجهة لعدم كون الأصل الجاري في الشك المسببي رافعا للشك السببي ( فإنه ما لابد منه ) في الحكم بالصحة انما هو رفع الشك عما اعتبر في المأمور به على نحو الشرطية أو الشطرية ، وهو لا يكون الا نفس الجزء الصوري والهيئة الاتصالية القائمة بمواد الاجزاء ، دون القاطع نفسه ، ومع احراز الجزء الصوري بالأصل يترتب عليه قهرا صحة الصلاة ( واما النهى ) عن القاطع فهو كما عرفت انما يكون من جهة سببيته للقطع المنهى عنه بالنهي الذي هو عين النهى عن نقيض الاتصال المطلوب ، لا انه من جهة تقيد المأمور به بعدم نفسه كما في الموانع حتى يحتاج في الحكم بالصحة إلى رفع الشك عن قاطعية الموجود أيضا كما هو ظاهر ( ولعمري ) ان تمام المنشأ للتوهم المزبور انما هو تخيل ان النهي عن القطع غير النهي عن نقيض الجزء الصوري والهيئة الاتصالية ، أو عدم كفاية النهي عن نقيض الشيء لاستصحاب وجوده ، وكلا الامرين كما ترى ( واما المنع )

ص: 415

عن استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ، بان الهيئة الاتصالية بقيامها بالاجزاء المتدرجة الوجود ، تكون أيضا متدرجة الوجود ، فلا مجال لاستصحاب بقائها لأنها بين ما هي متصرمة بتصرم الاجزاء السابقة وبين ما هي لم تحدث ( فمدفوع ) بأنه لا مانع من استصحاب الأمور التدريجية كما سيأتي تحقيقه في محله انشاء اللّه تعالى ( هذا كله ) فيما يتعلق بالشك بالقاطع من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ( واما الشك في المانع ) فالحكم فيه أيضا هي البراءة كما تقدم لرجوع الشك فيه إلى الشك في تقيد المأمور به بعدمه فيرجع إلى الأقل والأكثر ، والمرجع فيه هي البراءة ، من دون فرق بين ان تكون الشبهة حكمية أو موضوعية ، ولابين ان يكون المانع مأخوذا على نحو الطبيعة السارية الموجب لانحلال تقيد المأمور به بعدمه حسب تعدد افراد المانع في الخارج إلى تقيدات متعددة ، أو مأخوذا على نحو صرف الوجود ( واما توهم ) لزوم الاشتغال في الفرض الأخير ، بدعوى ان اشتغال الذمة بعدم الطبيعي الذي هو نقيض صرف وجوده يقتضى الفراغ اليقيني عنه ولا يحصل ذلك الا بالاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه من افراد المانع ومصاديقه ( فمدفوع ) بأنه انما يتم إذا كان الفرد مقدمة لوجود الطبيعي في الخارج ، فإنه حينئذ يكون عدم الطبيعي أمرا واحدا بسيطا متحصلا من اعدام فرده ، وبالاشتغال بمثله المبين موضوعا وحكما ينتهى الامر إلى مقام تحصيل الفراغ ، فلابد من الاجتناب عما يشك كونه من افراد المانع ومصاديقه ، واما على ما هو التحقيق وعليه المحققون من عينية وجود الطبيعي مع وجود فرده ، فلا يتم ذلك ( إذ لا شبهة ) في أنه بعدما تتسع دائرة انطباق صرف الطبيعي وتتضيق بكثرة الافراد وقلتها ( كذلك الامر ) في طرف نقيضه ، فإذا كان عدم الطبيعي الذي هو نقيض صرف وجوده عبارة عن العدم المتحقق في ضمن تمام اعدام الافراد فلا محالة يختلف دائرة العدم المزبور سعة وضيقا بازدياد الافراد وقلتها ( فلو علم ) حينئذ بمطلوبية عدم الطبيعي الذي هو نقيض صرف وجوده وشك في انطباق الطبيعي على فرد فقهرا يندرج في الأقل والأكثر الارتباطي حيث إنه يشك في مقدار دائرة المأمور به من أنه بمرتبة يكون المشكوك خارجا عنه أو بمرتبة يكون المشكوك داخلا فيه ، فتجري فيه البراءة العقلية والشرعية لعدم احراز اقتضاء الخطاب

ص: 416

تكليفا بالنسبة إلى المشكوك فيه ( وحينئذ ) فلا فرق بين القسمين من هذه الجهة ( نعم ) بينهما فرق من جهة أخرى ، وهي لزوم تقليل المانع مهما أمكن عند الاضطرار إلى ايجاده في الجملة ( فإنه ) على الأول وهو كون المانع هو الطبيعي بوجوده الساري في ضمن الافراد لابد عند الاضطرار من تقليل المانع مهما أمكن والاقتصار على ما يدفع به الاضطرار كما في الاضطرار إلى لبس النجس أو الحرير ونحو ذلك في الصلاة ( بخلافه ) على الثاني فإنه لا يجب تقليله عند الاضطرار إلى صرف الطبيعي لسقوط النهي عنه بالاضطرار المزبور ( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو عدم وجود القسم الثاني في باب النواهي لا في النواهي النفسية ، ولا في النواهي الغيرية حيث لم نظفر فيها بمورد يكون النهى متعلقا بصرف وجود الشيء نعم قد يتصور ذلك في النواهي العرضية كما في باب النذر والحلف فيما لو نذر أو حلف ان لا يشرب الشاي أو التتن بنحو كان من قصده صرف وجودهما المنطبق على أول وجود الافراد ( كما أن ) الامر في باب الشرائط بعكس ذلك حيث يكون مورد التكليف فيها هو صرف الوجود ( نعم ) في الواجبات النفسية يوجد فيها كلا القسمين كما في الصلاة واكرام المؤمن وان كان الغالب فيما لا تعلق له بموضوع خارجي هو كونه على نحو صرف الوجود.

( بقى الكلام ) في أنه هل يمكن استصحاب صحة العبادة عند الشك في طرو مفسد لها لفقد ما يشك في اعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشك في اعتبار عدمه فيها ، أولاً ، حيث إن فيه خلافا مشهورا ( والذي ) اختاره الشيخ قده هو المنع عنه ( ومحصل ) ما افاده قده في تقريب المنع هو ان المراد من الصحة المستصحبة اما ان يكون هي الصحة الفعلية أو هي الصحة الشأنية التأهلية ( والأول ) مما لا سبيل إلى استصحابه لعدم كون الصحة بهذا المعنى مما له حالة سابقة لأنها انما تكون في ظرف اتيان المأمور به بماله من الاجزاء والشرائط ( ومع الشك ) في مانعية الموجود لا يقين بالصحة الفعلية بمعنى المؤثرية الفعلية للاجزاء السابقة حتى يستصحب واما الصحة بالمعنى الثاني فهي وان كانت ثابتة للاجزاء السابقة لكنها لا شك في بقائها ، إذ الصحة بهذا المعنى عبارة عن كون الاجزاء السابقة على نحو لو انضم إليها بقية الاجزاء والشرائط لالتأم الكل في

ص: 417

قبال الجزء الفاسد وهو الذي لا يلزم من انضمام بقية الاجزاء والشرائط إليه وجود الكل وهذا المعنى مما يقطع باتصاف الاجزاء والسابقة به ولو مع القطع بعدم ضم بقية الاجزاء والشرائط الباقية فضلا عن الشك في ذلك ( وكذا ) الكلام في الصحة بمعنى الموفقة للامر ، حيث إن موافقة الاجزاء السابقة للامر المتعلق بها متيقنه سواء فسد العمل أم لا ( وفيه ) ان ما أفيد من الاشكال الأول على استصحاب الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية انما يتم إذا كان الأثر المترتب عليها دفعي الحصول والتحقق عند تحقق جزء الأخير من المركب ( وأما إذا كان ) الأثر مما يتدرج حصوله شيئا فشيئا من قبل الاجزاء بحيث يكون كل جزء مؤثرا في تحقق مرتبة منه إلى أن يتم اجزاء المركب فيتحقق تلك المرتبة من الأثر الخاص المترتب على المجموع ، فلا قصور في استصحاب صحة العبادة فإنها بهذا المعنى مما تم فيه أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق ، حيث إنه باتيان جزء الأول من المركب تتحقق الصحة ويتصف الجزء المأتى به بالمؤثرية الفعلية وبوقوع مشكوك المانعية في الأثناء يشك في بقاء الصحة وانقطاعها فتجري فيها الاستصحاب كسائر الأمور التدريجية ( ومنه ) يظهر الحال بناء على تفسيرها بموافقة الامر ، حيث إنه يمكن المصير إلى جريان استصحاب الصحة فيها ، من دون فرق بين القول بامكان المعلق والالتزام بفعلية التكليف المتعلق بالجزء الأخير من المركب في ظرف الاتيان بالجزء الأول منه بالتفكيك بين فعلية التكليف المتعلق بالاجزاء وفاعليته ، وبين القول بعدم امكانه والمصير إلى تدريجية فعلية التكليف المتعلق باجزاء المركب بجعل فعلية التكليف بكل جزء في ظرف فاعليته الذي هو ظرف الفراغ عن الاتيان بالجزء السابق عليه ( وهذا ) على الأول ظاهر ، فإنه باتيان جزء الأول من المركب يتحقق الموافقة الفعلية للامر وبعد ايجاد مشكوك المانعية أو ترك مشكوك الشرطية في الأثناء يشك في بقاء الموافقة فيستصحب ( وكذلك الامر ) على الثاني ، فإنه بتبع تدريجية فعلية التكليف المتعلق بالاجزاء يتدرج الموافقة أيضا فيجرى فيها الاستصحاب ( واما توهم ) عدم شرعية المستصحب حينئذ لكونه أمرا عقليا ( يدفعه ) كونه مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسيط منشئه الذي هو امره وتكليفه ، إذ لا نعنى من شرعية الأثر الا ما كان امر رفعه ووضعه بيد

ص: 418

الشارع ولو بتوسيط منشئه فتدبر ( إزاحة شبهة ) قد يقال في الفرض المزبور بوجوب الاحتياط بالجمع بين اتمام هذه الصلاة واعادتها ، بدعوى انه بايجاد مشكوك المانعية في الصلاة أو ترك مشكوك الشرطية فيها يحصل العلم الاجمالي بوجوب أحد الامرين عليه اما اتمام هذا الفرد من الصلاة أو اعادتها باتيان فرد آخر من الصلاة مباين مع هذا الفرد ( وبعد ) رجوع العلم الاجمالي المزبور إلى المتبائنين لا الأقل والأكثر لابد من الاحتياط بالجمع بين الاتمام والإعادة ، ولا اثر لأصالة البراءة الجارية في مشكوك المانعية والشرطية قبل طروه في الصلاة مع وجود هذا العلم الاجمالي واقتضائه وجوب الاحتياط بالجمع بين الاتمام والتمام ( ولكنك ) خبير بما فيه ) إذ بعد أن كان مقتضى أصالة البراءة عن مشكوك الشرطية والمانعية هو الترخيص في ايجاد مشكوك المانعية وترك مشكوك الشرطية في الصلاة ووجوب اتمام الصلاة الواقع فيها الخلل المشكوك فيه ، فلا محالة لا يبقى معه مجال التأثير للعلم الاجمالي الحادث المزبور ، لقيامه حينئذ بما تنجز أحد طرفيه سابقا بالعلم التفصيلي بوجوب اتمام هذه الصلاة الواقع فيها مشكوك المانعية ( وحينئذ ) فإذا كانت نتيجة الشك البدوي السابق هو وجوب اتمام هذا الفرد من الصلاة في ظرف ايجاد مشكوك المانعية فيها وعدم العقوبة على ترك اعادتها في الفرض المزبور كيف يمكن دعوى تأثير العلم الاجمالي الحادث في وجوب الإعادة والعقوبة على تركها فتدبر.

« بقى التنبيه على أمور متعلقه بالجزء والشرط »

( الأول ) إذا ثبت جزئية شيء للمأمور به وشك في ركنيته فهل الأصل يقتضى الركنية فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو سهوا أو لا ( وقبل الخوض في المرام ) لا بأس بتمهيد مقدمة ( وهي ) ان الركن وان لم يكن له ذكر في الاخبار ، ولكن المراد به على ما يظهر من كلماتهم هو ما أوجب الاخلال به سهوا بطلان المركب ، فيكون غير الركن هو الذي لا يوجب الاخلال السهوي به بطلان العمل والمركب ( نعم ) يظهر من جمع آخر الحاق الزيادة بالنقيصة ، حيث فسروه بما أوجب نقصه وزيادته بطلان المركب ولعله من جهة دعوى

ص: 419

الملازمة بان كلما أوجب بطلان العمل بنقصه أوجب بطلانه بزيادته ( وعليه ) يكون الفرق بين الجزء الركني وغيره من طرفي الزيادة والنقيصة السهوية جميعا ( ولكن ) التفسير الأول أقرب إلى معناه اللغوي ، بل لعله من مقتضيات نفس الجزئية ( بخلاف ) التفسير الثاني فان مجرد الجزئية لا يقتضى قادحية الزيادة العمدية فضلا عن السهوية ، الا إذا كان الجزء مأخوذا بشرط لا من جهة الزيادة فيرجع حينئذ إلى الاخلال من طرف النقيصة ( وكيف كان ) فتحقيق الكلام يقع في مقامين ( الأول ) في حكم الاخلال السهوي بالجزء في طرف النقيصة وما يقتضيه الأصل في ذلك من البطلان وعدمه ( الثاني ) في حكم الاخلال به في طرف الزيادة السهوية والعمدية ( اما المقام الأول ) فالكلام فيه يقع من جهات ( الأولى ) في امكان تكليف الناسي ثبوتا بما عدى الجزء المنسى من سائر الأجزاء ( الثانية ) في أنه على فرض امكان ذلك فهل هناك في مقام الاثبات ما يقتضى التكليف بما عدى الجزء المنسى في حال النسيان من دليل اجتهادي أو أصل عملي أو لا ( الثالثة ) في أنه على فرض عدم امكان تكليف الناسي ثبوتا بما عدى المنسى أو عدم قيام دليل أو أصل يقتضى التكليف به اثباتا على فرض امكانه ثبوتا ، فهل هناك ما يقتضى الاجتزاء بالمأتي به حال النسيان من دليل اجتهادي أو أصل عملي وان لم يكن مأمورا به حتى لا يجب عليه الإعادة بعد زوال النسيان ( اما الجهة الأولى ) فلا اشكال في عدم امكان التكليف والبعث الفعلي بالنسبة إلى الجزء المنسي حال نسيانه * واما بالنسبة * إلى ما عدى المنسي من سائر الأجزاء ، فالذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قده هو عدم امكانه أيضا * بتقريب * انه من المستحيل توجيه التكليف الفعلي إلى الناسي حال نسيانه بما عدى الجزء المنسي على وجه يؤخذ الناسي عنوانا للمكلف ويخاطب بذلك العنوان بمثل أيها الناسي للسورة يجب عليك الصلاة بدونها * بداهة * انه لغفلته عن نسيانه لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ومخاطبا بمثل هذا الخطاب ، فلا يمكن حينئذ انبعاثه عن مثله ، لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لابد منه في الانبعاث عن التكليف ، وعلى فرض التفاته إلى نسيانه يخرج عن عنوان الناسي ويدخل في عنوان المتذكر ، فعلى كل حال يكون الخطاب المزبور * لغوا مستهجنا لعدم انتهائه إلى مقام الداعوية والمحركية نحو المأمورية في حال من الأحوال « أقول » الظاهر عدم ابتناء هذا الاشكال بصورة اخذ النسيان في موضوع

ص: 420

الخطاب عنوانا للمكلف ، بل الاشكال يتأتى حتى في صورة اخذ عنوانه قيدا للتكليف أو للمكلف به ولو كان الخطاب بعنوان عام شامل للمتذكر والناسي كعنوان المكلفين أو المؤمنين كقوله يا أيها الذين امنوا يجب عليكم الصلاة بدون السورة ان نسيتم السورة فيها ، أو ان الصلاة المنسى فيها السورة واجبة بدونها * فإنه * بعد أن كان الالتفات مر والتكليف مما لابد منه في الانبعاث عن التكليف لا يكاد يفرق في امتناع توجيه البعث والتكليف الفعلي إلى الناسي بما عدى الجزء المنسى بين اخذ النسيان عنوانا للمكلف في موضوع الخطاب ، وبين اخذه قيدا للتكليف أو للمكلف به * فلا وجه * حينئذ لتخصيص الاشكال بصورة اخذه عنوانا للمكلف كما هو ظاهر هذا * ولكن * يمكن التفصي عن الاشكال بأنه من الممكن ان يكون المكلف به في حق كل من الذاكر والناسي هي الطبيعة الجامعة بين الزائد والناقص التي يتصورها القائل بالصحيح في مقام اخذ الجامع بين المصاديق المختلفة ، وان دخل النسيان انما هو في خصوصية الفرد المتقوم بها فردية صلاة الناسي للطبيعة المأمور بها على نحو يكون الاختلاف بين الذاكر والناسي من جهة المصداق محضا من حيث إن المتمشي من كل طائفة حسب طرو الحالات المختلفة مصداق خاص غير ما يتمشى من الاخر ، لا في أصل المأمور به فإنه على هذا البيان لا محذور ثبوتا في تكليف الناسي بما عدى الجزء المنسى ضرورة امكان التفات الناسي حينئذ إلى الطبيعة المأمور بها وانبعاثه كالذاكر عن الامر المتعلق بالطبيعة المأمور بها غايته انه من جهة غفلته عن نسيانه يعتقد بان المصداق المتمشي من قبله هو المصداق المتمشى من الذاكر ولكنه بعد خروج المصاديق عن حيز الامر والتكليف لا يضر مثل هذه الغفلة والخطأ في التطبيق في عالم المصداق بمقام انبعاثه عن الامر والتكليف ، فتمام الاشكال حينئذ مبنى على اختصاص الناسي حال نسيانه بتكليف خاص مغاير لتكليفه في حال ذكره ( والا فعلى ) ما بيناه لا وقع أصلا للاشكال المزبور ( مع أنه على فرض ) تعلق التكليف بالمصداق واختلافه بحسب الحالتين نقول انه بعد أن كانت المغايرة المتصورة بين التكليفين من جهة الحدود محضا لا بحسب ذات التكليف بان كان التكليف المتوجه إلى الناسي حال نسيانه بعينه هو التكليف المتوجه إليه حال ذكره غير أنه في حال النسيان يكون بحد لا يشمل الجزء

ص: 421

المنسي ، فلا قصور في داعوية ذات التكليف المحفوظة بين الحدين ( إذ لا غفلة ) حينئذ بالنسبة إلى ذات التكليف التي عليها مدار الدعوة والإطاعة عقلا ، وانما الغفلة تكون بالنسبة إلى حيث حده من حيث تخليه لنسيانه كونه إلى حد يشمل الجزء المنسى ، مع عدم كونه في الواقع كذلك وبعد عدم دخل داعوية خصوصية الحد بنظر العقل في غرض الامر لا يكاد يضر مثل هذه الغفلة بمقام انبعاثه عن ذات التكليف كما هو ظاهر ( نعم ) لو فرض انه كان لخصوصية الحد أيضا دخل في الداعوية في غرض الآمر أو المأمور ، أو كانت المغايرة المتصورة بين التكليفين في حالتي الذكر والنسيان بحسب ذات التكليف وحيث وجوده بحيث يكون هناك وجودان من التكليف أحدهما أوسع بحسب المتعلق من الاخر ( يتجه الاشكال ) المزبور من جهة الغفلة المانعة عن الدعوة والانبعاث ( ولا يندفع ) ذلك حينئذ بما توهم من امكان داعوية الامر الشخصي حينئذ من باب الخطأ في التطبيق بدعوى ان الناسي للجزء يكون قاصدا لامتثال شخص الامر المتوجه إليه بالعنوان الذي يعتقد كونه واجدا له ، حيث إنه لغفلته عن نسيانه يرى نفسه ذاكرا ، فيتخيل بذلك ان امره الباعث له على الاتيان بما عدى المنسي هو امر الذاكر وفى الواقع يكون غيره ( إذ يرد عليه ) ان ذلك انما يثمر في دفع الاشكال إذا كان الانبعاث والدعوة من لوازم الامر والتكليف بوجوده الواقعي ( والا ) فعلى ما هو الواضح من كونه من لوازم وجوده العلمي بحيث يكون العلم به تمام الموضوع لذلك فلا يثمر حيث الخطأ في التطبيق المزبور في دفع الاشكال ( فإنه ) مع الغفلة عن نسيانه وعدم التفاته إلى ما يخصه من الامر ولو اجمالا ، لا يكون الداعي والباعث له على الاتيان بما عدى المنسي الا ما تخيله من الامر الزعمي دون الامر الواقعي لاستحالة باعثية امره حينئذ مع الغفلة عن نسيانه ( فيبقى الاشكال ) المزبور في صحة توجيه الامر إلى الناسي بالحالي عن الجزء المنسي من جهة محذور اللغوية والاستهجان على حاله ( اللّهم الا ان يدفع ذلك ) بامكان توجيه الامر إلى الناسي حينئذ ولو بتوسيط عنوان عام أو خاص ملازم لعنوان الناسي للجزء أو الملائم له مما يمكن الالتفات إليه حال نسيان الجزء كعنوان المتذكر لمقدار من الاجزاء الجامع بين البعض والتمام ( فان ) الناسي وان لم يلتفت إلى نسيانه ، لكنه بعد التفاته إلى العنوان المزبور ،

ص: 422

بل وامكان التفاته إلى أن المرئي بهذا العنوان كان هو الناسي أيضا ( أمكن ) ثبوتا تخصيص الناسي بخطاب يخصه بمثل العنوان المزبور بجعله مرآة للناسي ويقصد الناسي أيضا بالتفاته إلى العنوان المزبور الذي هو واجد له الامر المتوجه إليه ( والى ذلك ) يكون نظر المحقق الخراساني « قده » فيما أفاد في كفايته في الجواب الثاني عن الاشكال ( فلا يرد عليه ) حينئذ بان ذلك مجرد فرض لا واقع له ( لأنه ) ليس في البين عنوان يلازم نسيان جزء من الصلاة دائما خصوصا مع تبدل النسيان في الاجزاء بحسب الموارد والأوقات من كون المنسي تارة هي السورة وأخرى التشهد وثالثة الفاتحة ، وهكذا بقية الاجزاء ( ثم لا يخفى ) ان ما ذكرنا من الجواب أولى مما افاده بعض الاعلام قده في الذب عن الاشكال من أن المكلف به أولاً في حق كل من الذاكر والناسي هو خصوص بقية الاجزاء ما عدى الجزء المنسي وان الذاكر يختص بتكليف يخصه بالنسبة إلى ما كان ذاكرا له فيكون المكلف به في حقه هو العمل المشتمل على الجزء الزائد المتذكر له ، ولا محذور في تخصيص الذاكر بخطاب يخصه وانما المحذور في تخصيص الناسي بخطاب يخصه ( إذ يرد عليه ) انه مع تبدل النسيان في الاجزاء بحسب الموارد والأوقات لا يكون في البين امر مضبوط ، فان كان المأمور به المشترك في حق للذاكر والناسي حينئذ هو عنوان بقية الاجزاء مما عدى الجزء المنسي ، فالناسي غير ملتفت إلى هذا العنوان ، لان بالالتفات إليه ينقلب إلى كونه ذاكرا وان كان المأمور به هي الاجزاء المعينة بمقدار خاص يلزم ان يكون المأمور به هو المنسي في بعض الأوقات ( نعم لا يرد ) ذلك على المحقق الخراساني قده ، فإنه لم يجعل عنوان المأمور به المشترك بين الذاكر والناسي عنوان بقية الاجزاء ما عدى الجزء المنسى بل جعل ذلك عبارة عن الاجزاء التي يكون لدليلها اطلاق يشتمل حال النسيان ، حيث جعل الامر متعلقا بالخالي عما شك بحسب دليله في دخله في المركب مطلقا ( ومن الواضح ) ان الالتفات إلى مثل هذا العنوان لا يلازم الالتفات إلى نسيان نفسه ، بخلاف عنوان بقية الاجزاء ما عدى المنسى ، فإنه يستلزم الالتفات إليه الالتفات إلى نسيان نفسه أيضا « وكيف كان » فقد ظهر من ذلك كله ان أسلم ما يمكن ان يقال في تصوير تكليف الناسي ثبوتا بما عدى الجزء المنسي هو ما

ص: 423

ذكرناه أولاً وانه هو الذي ينبغي المصير إليه في تصويره « هذا كله » في الجهة الأولى.

الجهة الثانية في قيام الدليل على تكليف الناسي حال نسيان الجزء بالخالي عن الجزء المنسى وعدمه ، ونخبة الكلام فيها انه لا شبهة في أن مقتضى الأصل الأولى هو بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا فيما لو كان لدليل المثبت لجزئية المنسى اطلاق يشمل حال الذكر والنسيان « فان » مقتضى اطلاقه حينئذ بعد سقوط التكليف عن المنسى هو عدم التكليف بما عداه من سائر الأجزاء « لأنه » ليس في البين الا تكليف واحد متعلق بمجموع الاجزاء الذي منه الجزء المنسى ، وبنسيان بعض الاجراء وسقوط التكليف عنه يسقط التكليف عن البقية لا محالة « ولازمه » هو بطلان الماتى به ولزوم الإعادة عليه بعد زوال النسيان الا إذا كان هناك دليل من الخارج يقتضى التكليف بالبقية في هذا الحال « وأما إذا لم يكن » لدليل المثبت لجزئية المنسى اطلاق يعم حال الذكر والنسيان « فان كان » لدليل المركب وهو قوله أقيموا الصلاة اطلاق يؤخذ باطلاقه ويحكم بعدم كون المنسى جزء في حال النسيان اقتصارا في تقييد اطلاقه بخصوص حال الذكر « وان لم يكن » لدليل المركب أيضا اطلاق اما من جهة اتصاله بما يصلح للقرينية عليه ، أو من جهة عدم كونه مسوقا في مقام البيان من هذه الجهة بل في مقام أصل تشريع المركب « فالمرجع » عند الشك في الجزئية وعدمها في حال النسيان هي أصالة البراءة لاندراجه في الشك بين الأقل والأكثر « ولكن دعوى » ثبوت الاطلاق لدليل المركب ساقطة عن الاعتبار ، لوضوح ان مثل هذه الخطابات انما كانت مسوقة لبيان مجرد تشريع المركب بنحو الاجمال ، لا لبيان ما يعتبر فيه حتى يكون مرجعا عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمركب « واما دليل المثبت للجزئية » فلا يبعد دعوى اقتضائه للركنية لقوة ظهوره في الاطلاق والشمول لحال النسيان ، من غير فرق بين ان يكون بلسان الوضع كقوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ولا صلاة الا بطهور ، وبين ان يكون بلسان الامر والتكليف كقوله اركع في الصلاة واسجد فيها ونحو ذلك من الأوامر المتعلقة باجزاء المركب ( نعم ) في مورد يكون دليل اعتبار الجزء هو الاجماع يمكن تخصيص الجزئية المستفادة منه بحال

ص: 424

الذكر لكونه هو المتيقن من الاجماع على ثبوت الجزئية ، بخلاف ما لو كان دليل الجزء غير الاجماع ، فان اطلاقه مثبت لعموم جزئية الجزء لحال النسيان أيضا ( لا يقال ) ان ذلك يستقيم إذا كان دليل اعتبار الجزء بلسان الوضع ، كقوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ( وأما إذا كان ) بلسان الامر والتكليف ، كقوله اركع في الصلاة فلا يتم ذلك ، لان الجزئية حينئذ تتبع الحكم التكليفي ، فإذا كان الحكم التكليفي مختصا بحكم العقل بحال التذكر ولا يمكن شموله لحال الغفلة والنسيان فالجزئية المستفادة منه تتبعة وتختص بحال الذكر أيضا ( فإنه يقال ) انه لو تم ذلك فإنما هو في فرض ظهور تلك الأوامر المتكفلة لبيان الاجزاء والشرائط في المولوية النفسية أو الغيرية ( والا ) فعل ما هو التحقيق من ظهورها في الارشاد إلى جزئية متعلقاتها للمركب ودخلها في الملاكات والمصالح الكائنة فيه فلا يستقيم ذلك ( إذ لا يكون ) حينئذ محذور عقلي أو غيره في عموم الجزئية لحال النسيان ( مع أنه ) على فرض ظهورها في المولوية ولو بدعوى كونها بحسب اللب عبارة عن قطعات ذلك الامر النفسي المتعلق بالمركب غير أنها صارت مستقلة في مقام البيان ، ( نقول ) ان المنع المزبور عن عموم الجزئية لحال النسيان انما يتجه إذا كان الحكم العقلي بقبح تكليف الناسي والغافل في الارتكاز بمثابة يكون كالقرينة المحتفة بالكلام بحيث يمنع عن انعقاد ظهوره في الاطلاق ، وهو في محل المنع ( فان الظاهر ) هو عدم كونه من العقليات الضرورية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء ( وانه ) من العقليات غير الارتكازية التي لا ينتقل الذهن إليها الا بعد الالتفات والتأمل في المبادي التي أوجبت حكم العقل ( فيدخل ) حينئذ في القرائن المنفصلة المانعة عن مجرد حجية ظهور الكلام لا عن أصل ظهوره ( وعليه ) يمكن ان يقال ان غاية ما يقتضيه الحكم العقلي المزبور انما هو المنع عن حجية ظهور تلك الأوامر في الاطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي ( واما بالنسبة ) إلى ظهورها في الحكم الوضعي وهو الجزئية واطلاقها لحال النسيان ، فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة يؤخذ بظهورها في ذلك ( وعلى فرض الاغماض ) عن ذلك أيضا يمكن التمسك باطلاق المادة لدخل الجزء في الملاك والمصلحة حتى في حال النسيان ، فلا فرق حينئذ في صحة التمسك باطلاق دليل الجزء لعموم الجزئية لحال النسيان بين كونه بلسان الحكم التكليفي

ص: 425

أو بلسان الوضع ( نعم ) لو اغمض عما ذكرنا لا يستقيم الجواب عنه بما عن بعض الأعاظم قده من أن منشأ انتزاع الجزئية والشرطية ليس هو الحكم التكليفي النفسي كي يلزم اختصاصهما تبعا للحكم التكليفي بالذاكر ، بل منشأ انتزاعهما انما هو التكليف الغيري المتعلق باجزاء العبادة ، ولا موجب لتوهم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكن من الجزء والذكر له ، بل نعم العاجز والناسي وتثبت الجزئية والشرطية في حقهما إذا كان لدليل الجزء في نفسه اطلاق يشمل حال العجز والنسيان ( إذ فيه ) ان المراد من الامر الغيري ان كان هو الامر المقدمي ، فلا شبهة في أنه غير صالح لان يكون منشأ لانتزاع الجزئية والشرطية ( بداهة ) ان الامر الغيري يتعلق بما هو فارغ الجزئية والشرطية فيستحيل كونه منشأ لانتزاعهما ( بل منشأ ) انتزاع الجزئية والشرطية لابد وأن يكون هو الامر النفسي المتعلق بالمجموع أو المقيد مع تقيده ، غاية ما يكون انه قد يستقل في مقام البيان قائما بموضوعه ( ولكنه ) بذلك لا يكون أمرا غيريا مقدميا ، بل هو اما قطعة من الامر النفسي المتعلق بالمجموع كما أشرنا إليه ، أو هو امر ارشادي إلى الجزئية والشرطية وكاشف عن وجود منشأ الانتزاع لهما ( وعلى فرض ) مقدمية تلك الأوامر المتعلقة باجزاء العبادة ، لا وجه لمنع اختصاصها بحال الذكر ، فإنه يكفي في التخصيص المزبور حينئذ استقلال العقل بقبح توجيه التكليف الفعلي ولو غيريا إلى ما لا يطاق ( نعم ) لو كان المراد من الامر الغيري هو الامر الارشادي لا بأس بدعوى شمول اطلاق خطابه للناسي والذاكر كما بيناه ( هذا كله ) مقتضى الأصل الأولى المستفاد من الأدلة الاجتهادية.

( واما الأصل الثانوي ) فقد يقال ان مقتضى اطلاق أدلة الاجزاء والشرائط وان كان هو ثبوت الجزئية في حال النسيان « الا ان » مقتضى حديث الرفع الحاكم على الأدلة الأولية هو عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال الذكر ، ولازمه هو كون المأتى به في حال النسيان الفاقد للجزء المنسى هو تمام المأمور به ( أقول ) لا يخفى ان التمسك بهذا الحديث الشريف لرفع جزئية المنسى في حال النسيان ، تارة يكون من جهة تطبيق عنوان ، ما لا يعلم ، وأخرى من جهة عنوان النسيان « وتنقيح الكلام » فيه يحتاج إلى تمهيد أمور « الأول » لا شبهة في أن مورد

ص: 426

تطبيق عنوان ما لا يعلم انما يكون في فرص عدم تحقق اطلاق في البين لأدلة الاجزاء أو لدليل المركب ، لأنه مع وجود الاطلاق لدليل المركب أو لأدلة الاجزاء يكون المتبع هو الاطلاق ويخرج به الجزء المنسي عن عنوان ما لا يعلم فلا يبقى له موضوع حتى يجرى دليل الرفع ( بخلاف ) عنوان النسيان ، فإنه لابد في تطبيقه في المقام من أن يكون في فرض يكون لأدلة الاجزاء اطلاق يقتضي ثبوت الجزئية في حال النسيان أيضا ( والا ) فمع عدم اطلاقها كذلك لا موقع لجريان رفع النسيان ( إذ لا يكون ) حينئذ امر ثابت في حال النسيان حتى يرفع لأجل النسيان ( الامر الثاني ) لا شبهة في أنه لابد وأن يكون ظرف التطبيق في كل واحد من العنوانين المزبورين هو ظرف التذكر والالتفات لا ظرف الغفلة والنسيان ( لان ) في ظرف النسيان لا يكاد التفات الناسي إلى العنوان المزبور فلا يعقل ان يتوجه إليه خطاب رفع الجزئية عن المنسي ( الامر الثالث ) ان الحديث المبارك بملاحظة وروده في مقام الامتنان على الأمة انما يرفع الآثار التي في وضعها خلاف المنة ( فما لا يكون ) كذلك كان خارجا عن مصب الرفع ، ولا مجال للتمسك به في رفعه وان فرض كونه مما في رفعه التوسعة على المكلف ، ولأجل ذلك قلنا في مبحث البراءة عند التعرض لمفاد الحديث انه لا يجوز التمسك به فيما لا يعلمون لرفع الحكم الواقعي الثابت في المرتبة السابقة على الشك لعدم كونه بوجوده الواقعي مما فيه الضيق على المكلف حي يقتضي الامتنان رفعة ( الامر الرابع ) انه يعتبر ان يكون المرفوع من الآثار التي تنالها يد الوضع والرفع التشريعي اما بنفسه أو بتوسط منشئه ، فلا يرفع ما لا يكون كذلك كالآثار العقلية والعادية ( الامر الخامس ) الظاهر اختصاص الرفع في الحديث برفع ما لولاه يكون قابلا للثبوت تكليفا كان أو وضعا فما لا يكون كذلك لا يشمله الحديث وبذلك يختص المرفوع في عنوان النسيان بمثل ايجاب التحفظ دون التكليف المتعلقة بنفس المنسي فإنها مرتفعة بقبح التكليف بما لا يطاق ( إذا عرفت ذلك ) فاعلم أن التمسك بهذا الحديث في المقام لرفع جزئية المنسي واثبات عدم وجوب الإعادة بعد التذكر ، تارة يكون من جهة عنوان ما لا يعلم ، وأخرى من جهة عنوان النسيان ( اما الأول ) فالظاهر أنه لا قصور في التمسك بالحديث لرفع جزئية المنسي للطبيعة المأمور بها في حال النسيان ، حيث إنه

ص: 427

بعد ما لم يكن للأدلة اطلاق يقتضي الجزئية حتى في حال النسيان ، يشك في أن الثابت في حق الناسي للجزء هي الطبيعة الواجدة للجزء أو الفاقدة له ، فيكون من صغريات الأقل والأكثر الارتباطي ، فيجري فيه حديث الرفع ويترتب على جريانه كون المأتى به حال النسيان مصداقا ظاهريا للطبيعة المأمور بها ، فيترتب عليه عدم وجوب الإعادة بعد التذكر وزوال الغفلة ، كجريانه في غير المقام مما كان الشك في أصل جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به ( من غير فرق ) بين تطبيق الرفع على الأكثر المشتمل على الجزء المنسى أو تطبيقه على الجزء المنسى المشكوك دخله حال النسيان في المأمور به ( وتوهم ) ان الجزئية انما هي من الأمور الانتزاعية الصرفة ولا معنى لتعلق الرفع بها في المقام ( لأنه ) بالنسبة إلى مقام الدخل في المصلحة يكون الدخل المزبور تكوينيا لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، وبالنسبة إلى التكليف الفعلي الذي هو منشأ انتزاع الجزئية الفعلية لا يكون التكليف بنفسه قابلا للثبوت لولا الرفع للقطع بانتفائه في حال النسيان لمكان استحالة التكليف بما لا يطاق ( مدفوع ) بأنه يكفي في صحة الرفع وجود المقتضى لثبوت التكليف والجزئية في حال النسيان الموجب لبقاء الامر المستلزم لوجوب الإعادة بعد زوال النسيان « نعم هنا اشكال آخر » لبعض الأعاظم قده ، وحاصله ان أقصى ما يقتضيه الحديث انما هو رفع الجزئية ما دام النسيان ولا يقتضى رفعها على الاطلاق في تمام الوقت الا مع استيعاب النسيان تمام الوقت ، فلو فرض انه ارتفع النسيان في الوقت بمقدار يمكن ايجاد الطبيعة المأمور بها بتمام مالها من الاجزاء والشرائط فلا تقتضي البراءة عن الجزء المنسى في حال النسيان عدم وجوب الفرد التام عليه في ظرف تذكره ، بل مقتضى اطلاق الأدلة هو وجوبه عليه ، ولا ملازمة بين رفع الجزئية بأدلة البراءة في حال النسيان لرفعها في ظرف التذكر ، لأن الشك في الأول يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال النسيان ، والثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر ، والأول مجرى البراءة ، والثاني مجرى الاشتغال ( وفيه ما لا يخفى ) من الخلط بين رفع الجزئية بعنوان ما لا يعلم ، وبين رفعها بعنوان النسيان ( فان الذي ) يقتضيه رفع الجزئية بعنوان المشكوكية انما هو بقاء الرفع ما دام بقاء موضوعه وهو الشك في الجزئية لا ما دام بقاء النسيان ( فإذا كان ) المفروض في المقام الشك في جزئية المنسى

ص: 428

للطبيعة المأمور بها حال النسيان لفرض عدم اطلاق الأدلة وكان المفروض أيضا هو وجود هذا الشك في ظرف التذكر وزوال الغفلة ، فلا محالة يلزمه بقاء الرفع ببقاء موضوعه وهو الشك في الجزئية ولازم رفعها حينئذ هو كون المأتى به في حال النسيان مصداقا ظاهريا للطبيعة المأمور بها ، ولازمه عدم وجوب الإعادة عليه في ظرف تذكره لسقوط الامر بالطبيعة المأمور بها بالمأتي به في حال النسيان ( ومعه ) لا مجال لدعوى رجوع الشك في حال التذكر إلى الشك في سقوط التكليف بالجزء كما لا مجال لدعوى اقتضاء اطلاق الأدلة عند التذكر وجوب الاتيان بالطبيعة الواجدة للجزء المنسي ( فان فرض الكلام ) في الرجوع إلى أدلة البراءة انما هو في صورة عدم اطلاق الأدلة ، وفي هذا الفرض أين اطلاق حتى يقال ان مقتضاه وجوب الاتيان بالطبيعة الواجدة للجزء المنسي ( نعم ) يتم هذا الكلام في رفع الجزئية بعنوان النسيان لا بعنوان المتكوكية ، فإنه مع العلم بالجزئية بمقتضى اطلاق أدلة الاجزاء يشك في سقوط التكليف عن الجزء المنسي في حال التذكر باتيان ما عداه في حال النسيان ( ولكنه ) خارج عن فرض المسألة كما هو ظاهر ( هذا كله ) في رفع الجزئية بعنوان ما لا يعلم ، وقد عرفت انه مع الشك في جزئية المنسي للطبيعة المأمور بها في حال النسيان وعدم اطلاق الأدلة لا قصور في التمسك بحديث الرفع لرفع الجزئية في حال النسيان وعدم وجوب الإعادة عند التذكر وزوال الغفلة ( واما رفعها ) بعنوان النسيان ، فقد يقال ان مقتضى رفع النسيان هو عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال الذكر ولازمه الاجتزاء بالمأتى به بدون المنسى وعدم لزوم الإعادة عند التذكر * ولكن فيه اشكال * فان المرفوع ، اما ان يجعل كونه نفس النسيان بجعله في إضافة الرفع إليه عنوانا مستقلا لامرأتا إلى امر آخر غايته لا على نحو الحقيقة كي يلزم الكذب بل على نحو من العناية والادعاء فيكون رفعه بلحاظ اثره وما يترتب عليه من ترك الجزء الموجب لترك الكل وهو أيضا بلحاظ ما يترتب عليه من الفساد ووجوب الإعادة ، أو يجعل كونه هو المنسي اما بجعل النسيان بمعنى المنسي أو بجعله عنوانا مشيرا إلى ما هو المرفوع وهو المنسي ( وعلى التقديرين ) لا مجال للتمسك بالحديث لاثبات الاجتزاء بالمأتى به في حال النسيان وعدم وجوب الإعادة في ظرف التذكر وزوال الغفلة ، وذلك على الأول ظاهر ، لعدم كون

ص: 429

وجوب الإعادة في المقام من الآثار الشرعية الثابتة للنسيان ، وانما ترتبه عليه يكون بتوسيط ترك الجزء الذي يكون ترتبه على النسيان عقليا ، والرفع في الحديث كما تقدم في مقدمات المقصد يختص بالآثار الشرعية ، فلا يشمل الآثار غير الشرعية ولا الآثار الشرعية المترتبة بتوسيط امر عقلي أو عادي ( واما على الثاني ) فمع ان أثر وجود الجزء لا يكون الا الصحة لا الجزئية لأنها من اثار طبيعة الجزء لا من اثار وجود الجزء المنسي ورفع الصحة يقتضى البطلان ووجوب الإعادة ( انه ان أريد ) برفع الجزئية رفع الجزئية أو الشرطية عن الجزء والشرط المنسيين في مقام الدخل في الملاك والمصلحة ، فلا شبهة في أن هذا الدخل امر تكويني غير قابل لان يتعلق به الرفع التشريعي ، وان أريد رفعهما بلحاظ انتزاعهما عن التكليف الضمني المتعلق بالجزء والتقيد بالشرط ( ففيه ) مضافا إلى ما تقدم من اختصاص الرفع في الحديث برفع ما لولاه يكون قابلا للثبوت تكليفا أو وضعا وعدم شموله للتكاليف المتعلقة بالمنسي في حال النسيان لارتفاعها بمحض تحقق النسيان بملاك استحالة التكليف بما لا يطاق ( ان غاية ) ما تقتضيه الحديث حينئذ انما هو رفع ابقاء الامر الفعلي والجزئية الفعلية عن الجزء المنسي في حال النسيان الملازم بمقتضى ارتباطية التكليف لسقوط الامر الفعلي عن البقية أيضا ما دام النسيان ( واما اقتضائه ) لسقوط المنسى عن الجزئية والشرطية في حال النسيان لطبيعة الصلاة المأمور بها رأسا على نحو يستتبع تحديد دائرة الطبيعة في حال النسيان بالبقية ويقتضي الامر باتيانها فلا ( بداهة ) خروج ذلك عن عهدة حديث الرفع ، وذلك لا من جهة ان الامر بالبقية موجب للكلفة والضيق الذي هو خلاف الارفاق على الأمة كما توهم ، لامكان دفعه بان كلفة الاتيان بالبقية حينئذ انما يكون بالزام عقلي لا بالزام شرعي ، فلا يلزم حينئذ ضيق على المكلف من ناحية امر الشارع بالبقية ( بل ذلك ) من جهة عدم تكفل الحديث لاثبات الوضع والتكليف لان شأنه انما هو التكفل للرفع محضا ( وحينئذ ) بعد عدم اقتضاء الحديث للامر بالبقية واثبات ان المأتى به في حال النسيان تمام المأمور به ، فعند زوال النسيان تكون المصلحة الداعية إلى الامر بالمركب أولاً ابقائها غير مستوفاة مقتضية لاحداث التكليف الفعلي باتيانه إعادة في الوقت وقضاء في خارجه ( وبالجملة ) ان صحة التمسك بحديث الرفع في المقام للاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان

ص: 430

وعدم وجوب الإعادة بعد زوال الغفلة ، يحتاج إلى الالتزام بأحد الأمور الثلاثة ( اما دعوى ) ان الحديث ناظر إلى رفع دخل الجزء المنسى في ظرف النسيان في مصلحة المركب ( أو دعوى ) اقتضاء الحديث برفع جزئية المنسي تحديد دائرة الطبيعة المأمور بها في حال النسيان بالبقية واثبات التكليف بها ولو بنحو جعل البدل ( أو الالتزام ) باستفادة تعدد المطلوب من الخطاب المتعلق بالصلاة بان تكون الصلاة المشتملة على تمام الاجزاء والشرائط مطلوبا والصلاة المشتملة على ما عدى الجزء المنسى مطلوبا آخر ولو كان ذلك من جهة حديث الرفع بضميمة المطلقات الأولية المثبتة للاجزاء والشرائط ( ولكنه ) لا سبيل إلى اثبات شيء منها « اما الأول » فبما عرفت من أن دخل الجزء والشرط في المصلحة امر تكويني وحديث الرفع لا يكون ناظرا إلى مثله ، كما أنه لا يكون ناظرا إلى تحديد دائرة الطبيعة المأمور بها واقعا بالبقية واثبات التكليف بها ، لخروج مثله عن عهدة حديث الرفع « واما الثالث » فلكونه خلاف ما تقتضيه اطلاقات الأوامر المتعلقة بالمركبات من الظهور في وحدة المطلوب وما تقتضيه اطلاقات الأدلة المثبتة للاجزاء والشرائط من الجزئية والشرطية المطلقتين ، ولذلك ترى بنائهم على سقوط التكليف عن المركب عند تعذر بعض اجزائه الا إذا كان هناك ما يقتضى ثبوت التكليف بالبقية ووجوب الاتيان بها كقاعدة الميسور ونحوها « نعم » لو اغمض عما ذكرناه من الاشكال على التمسك بحديث الرفع لاثبات الاجتزاء بالمأتى به حال النسيان « لا يرد » عليه الاشكال بما عن بعض الأعاظم قده « تارة » بان المنسى ليس هي الجزئية والا يرجع إلى نسيان الحكم وهو من اقسام الجهل فيندرج في قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفع ما لا يعلمون ( وأخرى ) بان محل البحث ليس هو النسيان المستوعب لتمام الوقت في الموقتات أو لتمام العمر في غيرها ، وانما البحث في النسيان غير المستوعب لتمام الوقت ، ومن الواضح ان سقوط الجزئية في خصوص حال النسيان لا يقتضى سقوطها في تمام الوقت حتى في ظرف التذكر وزوال صفة النسيان « وثالثة » انه ليس في المركبات الا طلب واحد متعلق بعدة أمور متباينة يجمعها واحدة اعتبارية وينتزع جزئية كل واحد منها من انبساط ذلك الطلب الوحداني عليه وتعلقه به بتبع تعلقه بالكل ، لا ان جزئية كل واحد منها كانت مستقلة بالجعل ، وحينئذ فالذي يلزم من نسيان

ص: 431

بعض الاجزاء انما هو سقوط الطلب عن الكل لا عن خصوص الجزء المنسى ، فإنه مع كون الطلب واحدا لا معنى لتبعيضه وتقطيعه وجعل الساقط هو خصوص القطعة المختصة منه بالجزء المنسي ، فان ذلك يتوقف على قيام دليل عليه بالخصوص ولا يمكن الاستدلال له بمثل قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) رفع النسيان « إذ فيه » اما الاشكال الأول فبان المقصود من رفع الجزئية ليس كونها هو المنسي حتى يتوجه عليه الاشكال المزبور ، وانما المقصود من رفعها باعتبار وكونها من اثار ذات الجزء المنسى واقتضاء رفعه رفع الجزئية الثابتة له ، لان لازم جزئية المنسي للمركب حينئذ انما هو بطلان المأتى به في حال النسيان فيكون رفعه عبارة عن سقوطه عن الجزئية في حال النسيان ، ولازمه هو صحة الماتى به في حال النسيان من جهة اقتضائه لكون المأتى به حال النسيان تمام المأمور به في حقه ومثله يستتبع عدم وجوب الإعادة عليه بعد التذكر « وبذلك » يظهر اندفاع الاشكال الثاني أيضا * حيث * ان عدم وجوب الإعادة بعد التذكر انما هو من لوازم سقوط المنسى عن الجزئية في حال النسيان واقتضائه تحديد دائرة الطبيعة المأمور بها بما عدى الجزء المنسي ، فان لازمه كما عرفت انما هو كون الماتى به الفاقد للجزء المنسي تمام المأمور به ومثله يستتبع قهرا سقوط التكليف بالإعادة لمكان اتيانه بما هو مصداق الطبيعي المأمور به الثابت في حقه ( كما أنه ) بهذا البيان يندفع الاشكال الثالث أيضا ، فان سقوط الطلب عن خصوص الجزء المنسى لا عن الكل انما هو من جهة اقتضاء رفع الجزء المنسى تحديد الطبيعة المأمور بها في حال النسيان بالبقية الملازم لتحديد دائرة الطلب والبعث الفعلي أيضا بما لا يشمل الجزء المنسى ، فان لازمه حينئذ هو سقوط الطلب عن الطبيعة بالمأتي به حال النسيان لكونه تمام المأمور به الثابت في حقه ( وحينئذ ) فالعمدة في الاشكال عليه هو ما ذكرناه من منع اقتضاء رفع النسيان تحديد دائرة الطبيعة المأمور بها بالبقية واثبات الامر الفعلي بها ( إذ حينئذ ) يكفي في وجوب الإعادة عند التذكر اطلاق دليل الجزئية الموجب لدخل المنسى في مصلحة المركب وملاكه حتى في حال النسيان هذا ( وقد يقرب ) التمسك بالحديث بوجه آخر لاثبات عدم وجوب الإعادة وهو تطبيق الرفع على نفس ترك الجزء المنسى ( بتقريب ) ان رفع الترك عبارة عن جعله كان لم يكن في عالم تشريع الحكم على معنى عدم جعله

ص: 432

موضوعا للحكم بالفساد ووجوب الإعادة الراجع إلى البناء على صحة المأتى به الفاقد للجزء المنسى بجعله بدلا عن الواقع في القناعة به عنه في مقام تفريع الذمة ( ولكن فيه ) انه يتم ذلك إذا كان الرفع فيه ناظرا إلى تحديد دائرة الطبيعة المأمور بها في حال النسيان بما عدى المنسى ، والا فلا اثر لمجرد رفع الترك الأعدم بقاء الامر والتكليف بايجاد الجزء في حال النسيان ، ومثله غير مجدي في الحكم بالصحة وعدم وجوب الإعادة كما هو ظاهر ( وقد أورد عليه ) بوجه آخر وحاصله ان استفادة الاجتزاء بالمأتى به حينئذ مبنى على اقتضاء رفع الترك للبناء على وجود الجزء المنسي وتحققه وهو بمعزل عن التحقيق ( لان ) شأن حديث الرفع انما هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ( لان ) تنزيل المعدوم منزلة الموجود يكون وضعا وحديث الرفع لا يتكفل الوضع ، فمن ذلك لا يمكن تطبيق الرفع على ترك الجزء المنسي ( وفيه ) ان مرجع الرفع في الحديث بعد ما كان إلى الرفع بالعناية الراجع إلى خلو صفحة التشريع عن المرفوع على معنى عدم اخذه موضوعا في عالم تشريع الاحكام ، لا يكاد يفرق بين رفع الفعل أو الترك ( فإنه كما أن ) مرجع رفع الوجود لي عالم التشريع إلى رفع الأثر المترتب عليه وخلوه عن الحكم في عالم التشريع ( كذلك ) في رفع العدم ، فرفعه أيضا عبارة عن عدم اخذه موضوعا في عالم تشريع الاحكام ، وحينئذ فإذا كان الأثر المترتب على ترك الجزء هو الفساد ووجوب الإعادة مثلا بلحاظ دخل نقيضة وهو الوجود في الصحة ، فلا جرم يكون مرجع رفع هذا الترك إلى عدم اخذه موضوعا للحكم بالفساد وخلو صفحة التشريع عن حكمه ، لا ان مرجعه إلى قلب العدم بالوجود بالنبأ على وجوده وتحققه حتى يتوجه الاشكال المزبور ( إذ فرق واضح ) بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته وبالعكس ، وبين قلب اخذ كل من الوجود والعدم في مقام كونه موضوعا للحكم بعدم اخذه موضوعا في مرحلة تشريع الحكم ( والاشكال ) انما يرد على الأول دون الثاني وما يقتضيه حديث الرفع هو الثاني دون الأول ( نعم ) لو كان رفع الترك بلحاظ الأثر المترتب على الوجود لا بلحاظ نقيضه المترتب على العدم لاتجه الاشكال المزبور ، إذ يحتاج في الحكم بالصحة إلى تنزيله منزلة الوجود ( ولكنه ) لا داعي إليه بعد كفاية نقيض الأثر المترتب على الوجود في صحة تطبيق الرفع على

ص: 433

نفس الترك كما هو ظاهر * هذا كله * في الجهة الثانية ، وقد عرفت ان مقتضى القاعدة هو عدم الاجتزاء بالمأتى به في حال النسيان عن الواقع.

* واما الجهة الثانية * فقد ورد اخبار كثيرة في باب الصلاة على عدم لزوم اعادتها بالاخلال السهوي بما عدى الخمسة المعروفة من اجزائها وشرائطها كقوله (عليه السلام) لا تعاد الصلاة الا من خمس ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ( ولا اشكال ) في الحكم بالصحة فيها بمقتضى تلك للأخبار النافية للإعادة ( نعم انما الكلام ) في بيان مفاد هذه الأخبار ومقدار دلالتها من حيث الاختصاص بصورة الاخلال السهوي أو العموم لصورة الجهل بل العمد أيضا * فنقول وعليه التكلان * الذي يظهر من جماعة من الاعلام هو اختصاص مفاد تلك الأخبار بصورة الاخلال السهوي وعدم عمومه لما يشمل الجهل ( بتقريب ) ان الظاهر المستفاد من قوله (عليه السلام) لا تعاد انما هو نفي الإعادة في مورد لولا هذا الدليل يكون المكلف مخاطبا بايجاد المأمور به بعنوان الإعادة بمثل قوله أعد الصلاة ، وهذا يختص بموارد السهو والنسيان ( فإنه ) لما لا يمكن بقاء الامر والتكليف بايجاد المأمور به في حال النسيان يكون الامر بايجاده ممحضا بكونه بعنوان الإعادة « بخلاف موارد » الجهل والعمد ، فان التكليف بايجاد المأمور به يكون متحققا في ظرف الجهل ويكون وجوب الإعادة باقتضاء الامر الأول الباقي في ظرف الجهل ، لا انه بخطاب جديد متعلق بعنوان الإعادة كما في مورد السهو والنسيان « وبذلك » يختص لا تعاد بخصوص صورة الاخلال الناشئ عن السهو والنسيان ، ولا يشمل صورة الجهل والعمد ( ولكن فيه ) ان إعادة الشيء في الطبايع الصرفة بعد أن كانت حقيقتها عبارة عن ثاني وجود الشيء على نحو يكون له وجود بعد وجود فلا شبهة في أنه لابد في صدق هذا العنوان وتحققه من أن يكون الشيء مفروض الوجود أو لا اما حقيقة أو ادعاء وتخيلا ليكون الايجاد الثاني تكرارا لوجود ذلك الشيء وإعادة له ( والا فبدونه ) لا يكاد يصدق هذا العنوان ، فمهما فرض انه كان لصرف الطبيعي وجود مسبوقا كونه بوجود آخر له حقيقة أو تخيلا وزعما ينتزع منه عنوان الإعادة باعتبار كونه ثاني الوجود لما اتى أو لا من المصداق الحقيقي أو الزعمي ، كان تعلق الامر بهذا الوجود الثاني بعنوان الايجاد ، أو

ص: 434

بعنوان الإعادة ( وحينئذ نقول ) انه كما أن في موارد الاخلال السهوي بالجزء يصدق هذا العنوان وينتزع من الايجاد الثاني عنوان الإعادة ، كذلك يصدق العنوان المزبور في موارد الجهل بل العمدة أيضا حيث إنه ينتزع العقل من الايجاد الثاني عنوان الإعادة باعتبار كونه إعادة لما اتى أو لا من الفرد الفاسد « غاية الامر » يكون وجوب هذا العنوان في موارد الجهل والعمد من جهة اقتضاء التكليف الأول الباقي في ظرف الجهل وفى موارد السهو والنسيان بخطاب جديد * ولكن * هذا المقدار لا يوجب فرقا بينهما فيما نحن بصدده كي يوجب اختصاص لا تعاد من جهة اشتماله على لفظ الإعادة بموارد النسيان ، بل ذلك كما يشمل السهو والنسيان ، كذلك يشمل الجهل بل العمد أيضا * ويشهد لما ذكرنا * جملة من الاخبار المشتملة على لفظ الإعادة في مورد الجهل والعمد * منها * قوله (عليه السلام) من زاد في صلوته فعليه الإعادة الظاهر في العمد * ومنها * قوله (عليه السلام) فيمن اجهر في موضع الاخفات أو أخفي في موضع الجهر ، اي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلوته وعليه الإعادة فان فعل ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلوته * ومنها * قوله (عليه السلام) فيمن صلى أربعا في السفر انه ان قرء عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه فان في هذه الأخبار دلالة على ما ذكرنا من عدم اختصاص مورد الامر بعنوان الإعادة بصورة السهو والنسيان ، بل في قوله (عليه السلام) فان فعل ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلوته وكذا في قوله (عليه السلام) وان لم يكن قرأت عليه الخ شهادة على شمول لا تعاد لصورتي الجهل والنسيان ، نظرا إلى ظهورها في كون الجميع على سياق واحد فتأمل * وحينئذ * لا قصور في اطلاق لا تعاد وشموله لمطلق الاخلال بما عدى الخمسية من الاجزاء والشرائط نسيانا أو جبلا وعمدا * غير أنه * بمقتضى الاجماع والنصوص الخاصة يرفع اليد عن اطلاقه بالنسبة إلى خصوص العمد ويؤخذ به في صورتي النسيان والجهل * اللّهم * الا ان يتشبث في تقييد اطلاقه بخصوص الاخلال السهوي بما في صحيح زرارة من قوله (عليه السلام) ان اللّه فرض الركوع والسجود والقرائة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسى فلا شيء عليه ، وقوله (عليه السلام) في خيره الاخر ومن نسى القراءة فقد تمت صلوته بضميمة ما في ذيل لا تعاد في خبره الثالث من قوله (عليه السلام) القراءة سنة

ص: 435

والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة ، فان قوله (عليه السلام) القراءة سنة بمنزلة التعليل لما ذكره أولاً من نفى الإعادة * فكأنه قال (عليه السلام) * لا تعاد الصلاة بترك السنة وبعد تقييده بما في خبر زرارة من قوله (عليه السلام) فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسى فلا شيء عليه يصير المتحصل هو اختصاص نفي الإعادة بصورة الاخلال السهوي بملاحظة اندراج الاخلال الجهلي في الاخلال العمدي لصدق الترك العمدي على الاخلال بالجزء عن جهل منه بالحكم أو الموضوع ، كما لعله يشهد بذلك قضية المقابلة بين الترك العمدي والترك السهوي في رواية زرارة المتقدمة بقوله (عليه السلام) فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن ترك ناسيا فلا شيء عليه فإنه يستفاد من التقابل المزبور اندراج صورة الاخلال الجهلي خصوصا الجهل بالحكم بالاخلال العمدي الذي حكم فيه بالبطلان ووجوب الإعادة فتأمل * ثم لا يخفى * ان ما ذكرنا من اندراج الاخلال بالجزء عن جهل بالحكم أو الموضوع في الاخلال العمدي انما هو إذا لم يكن امر شرعي بالمضي في العمل * وأما إذا كان * هناك امر شرعي بوجوب المضي وعدم الاعتناء بالشك في اتيان الجزء فلا محالة يوجب ذلك خروج الاخلال المزبور عن الاخلال العمدي * لان * المكلف حينئذ من جهة كونه مقهورا من طرف الشارع بوجوب المضي يكون مسلوب القدرة على الترك ولو بحكم العقل بوجوب الإطاعة ، وبذلك يخرج الترك عن كونه عمديا فيندرج في عموم قوله (عليه السلام) لا تعاد * وعليه * يندفع ما ربما يتخيل من الاشكال في وجه الفرق ، بين صورة الشك في اتيان الجزء بعد الدخول في غيره ، وبين الشك فيه قبله في فرض مضيه في الصورتين وتبين عدم الاتيان به واقعا بعد الصلاة ، من حيث بنائهم في الأول على الصحة والبطلان في الثاني ووجوب إعادة الصلاة ، بدعوى ان ترك الجزء مع الشك المزبور ان صدق عليه الترك العمدي الموجب لاندراجه في قوله ومن ترك السنة متعمدا أعاد الصلاة ، فليكن كذلك في الصورتين ، وان لم يصدق عليه الترك العمدي فليكن كذلك أيضا في الصورتين ولا يجدي في الفرق بينهما مجرد حدوث الشك في إحدى الصورتين بعد مضي محله الشكي وفي الأخرى قبله ( وجه الاندفاع ) ما عرفت من أن الفارق بينهما في الحكم المزبور انما هو امر الشارع بالمضي في الصورة الأولى الموجب لخروج ترك الجزء

ص: 436

عن الترك العمدي الموجب لوجوب الإعادة ، وعدم امره به في الصورة الثانية ( وكيف كان ) هذا كله فيما يتعلق بالمقام الأول وهي صورة الاخلال بالجزء من طرف النقيصة ، وقد عرفت ان مقتضى القاعدة الأولية فيه هي الركنية والبطلان بالاخلال بالجزء ( الا في ) خصوص باب الصلاة ، فكان مقتضى القاعدة الثانوية المستفادة من قوله لا تعاد فيها هو عدم الركنية فيما عدى الخمسة وعدم وجوب الإعادة بعد التذكر وزوال صفة النسيان.

« المقام الثاني »

في بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا وسهوا ( والكلام فيه ) أيضا يقع من جهات ثلاث ( الأولى ) في تصوير وقوع الزيادة الحقيقة في الاجزاء والشرائط ( الثانية ) في بيان حكم كل من الزيادة العمدية والسهوية من حيث الصحة والبطلان بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية ( الثالثة ) فيما تقتضيه القاعدة الثانوية على خلاف ما اقتضته القاعدة الأولية ( اما الكلام في الجهة الأولى ) فتوضيحه يحتاج إلى تمهيد أمور ( الأولى ) لا شبهة في أنه يعتبر في صدق الزيادة الحقيقية في الشيء ان يكون الزائد من سنخ المزيد عليه وبدونه لا يكاد يصدق عنوان الزيادة الحقيقة ، ولذا لا يصدق على الدهن الذي أضيف إليه مقدار من الدبس انه زاد فيه الا على نحو من العناية ( نعم ) الصادق انما هو عنوان الزيادة على ما في الظرف بعنوان كونه مظروفا لا بعنوان كونه دهنا ، فقوام الزيادة الحقيقية حينئذ في اجزاء المركبات وشرائطها انما هو بكون الزائد من سنخ ما اعتبر جزء أو شرطا لها ( فإذا كان ) المركب بنفسه من العناوين القصدية كالصلاة مثلا على ما هو التحقيق من أن حقيقتها عبارة عن الافعال والأذكار الخاصة الناشئة عن قصد الصلوتية ، لا انها عبارة عن مجرد الافعال والأذكار والهيئات الخاصة ولا مجردة عن قصد الصلوتية بشهادة عدم حرمتها كذلك على الحائض إذا أتت بها على الكيفية الخاصة لا بعنوان الصلوتية ، يحتاج في صدق عنوان الزيادة فيها إلى قصد عنوان الصلوتية بالجزء المأتى به أيضا ، والا فمع فرض خلوه عن قصد الصلوتية وعنوان الجزئية لها لا يكون المأتى

ص: 437

به حقيقة من سنخ الصلاة فلا يرتبط حينئذ بالصلاة حتى يصدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة الا على نحو من العناية للمشاكلة الصورية ( الثاني ) يعتبر أيضا في صدق عنوان الزيادة في الشيء ان يكون المزيد فيه مشتملا على حد مخصوص ولو اعتبارا حتى يصدق بالإضافة إليه عنوان الزيادة وعدمها كما في ماء الحب أو النهر مثلا ، فإنه لابد في صدق هذا العنوان من أن يفرض للماء حد مخصوص ككونه بالغا إلى نقطة كذا ومقدار كذا ليكون الزائد موجبا لانقلاب حده الخاص إلى حد آخر فيصدق عليه بهذا الاعتبار عنوان الزيادة فيه ( والا فبدون ) ذلك لا يصدق عليه العنوان المزبور وان بلغ في الكثرة ما بلغ ( وكذلك ) الامر في المركبات ففيها أيضا لابد من اعتبار حد خاص فيما اعتبر جزء لها في مقام اختراع المركب واختراعه ليتحقق بذلك عنوان الزيادة في المكتوبة ( الثالث ) ان اخذ الجزء أو الشرط في المركب في مقام اعتباره واختراعه يتصور على وجوه ثلاثة ( أحدها ) اعتبار كونه جزء أو شرطا على نحو بشرط لا من جهة الزيادة في مقام الوجود والتحقق ( وثانيها ) اعتبار كونه جزء على نحو لا بشرط من طرف الزيادة على معنى انه لو زيد عليه لكان الزائد خارجا عن ماهية المركب باعتبار عدم تعلق اللحاظ بالزائد في مقام اعتباره جزء للمركب كما لو فرض انه اعتبر في جعل ماهية الصلاة الركوع الواحد لا مقيدا كونه بشرط عدم الزيادة ، ولا طبيعة الركوع ، فان في مثله يكون الوجود الثاني من الركوع خارجا عن حقيقة الصلاة لعدم تعلق اللحاظ به في مقام جعل ماهية الصلاة ( الثالثة ) اعتبار كونه جزء على نحو لا بشرط بنحو لو زيد عليه لكان الزائد أيضا من المركب وداخلا فيه لا خارجا عنه ( كما لو اعتبر ) في جعل ماهية الصلاة طبيعة الركوع في كل ركعة منها الجامعة بين الواحد والمتعدد ، لا الركوع الواحد كما في الصورة الثانية ( وبعدما عرفت ذلك ) نقول انه على الاعتبار الأول لا شبهة في أنه لا مجال لتصور تحقق الزيادة ( فإنه ) من جهة اشتراطه بعدم الزيادة في مقام اعتباره جزء للمركب تكون الزيادة فيه موجبة للاخلال بقيده فترجع إلى النقيضة ( وكذلك الامر ) على الاعتبار الثاني فإنه وان لم ترجع الزيادة فيه إلى النقيصة ، الا ان عدم تصور الزيادة الحقيقية انما هو لكان عدم كون الزائد من سنخ المزيد عليه ، فإنه بعد خروج الوجود الثاني عن دائرة اللحاظ في مقام جعل ماهية الصلاة يستحيل اتصاف الوجود الثاني بالصلوتية

ص: 438

فلا يرتبط حينئذ بالصلاة حتى يصدق عليه عنوان الزيادة ويصدق على الصلاة انها تكون مزيدا فيها ، بل يكون ذلك من قبيل ضم الدبس إلى الدهن ( نعم ) لو قصد الصلوتية بالوجود الثاني تشريعا بان اتى به بعنوان انه من الصلاة يصدق عليه الزيادة بهذا الاعتبار ، ولكنه ادعاء لا حقيقة ( وتوهم ) صدق الزيادة حينئذ على الوجود الثاني عرفا ( ممنوع ) جدا فان المدار في الزيادة المبحوث عنها في المقام ليس على مجرد كون الصلاة ظرفا لوقوع مطلق ما زيد على ما اعتبر فيها ولو لم تكن من سنخها بل المدار على صدق كون الصلاة مزيدا فيها ، وكونها ظرفا للزيادة على ما اعتبر فيها غير كونها مزيدا فيها ، والمستفاد من الأدلة من نحو قوله من زاد في صلوته هو الثاني دون الأول كما هو ظاهر ( واما على الاعتبار الثالث ) فالظاهر أنه لا قصور في تصور الزيادة الحقيقية ( فان المدار ) في زيادة الشيء في الشيء على ما عرفت انما هو بكون الزائد من سنخ المزيد فيه مع كونه موجبا لقلب جده إلى حد آخر ، ولا ريب في صدق ذلك وتحققه على هذا الاعتبار ، من غير فرق بين ان يكون الجزء مأخوذا في مقام الامر والطلب بشرط لا ، أو على نحو لا بشرط بالمعنى الأول الذي لازمه هو خروج الوجود الثاني عن دائرة المطلوبية ، أو اللابشرط بالمعنى الثاني الراجع إلى كون المطلوب هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجوده ( وذلك على الأولين ) ظاهر فان الوجود الثاني من طبيعة الجزء مما يصدق عليه عنوان الزيادة بالنسبة إلى ما اعتبر في المأمور به من تحديد الجزء بالوجود الواحد ، حيث إنه يتعلق الامر بالصلاة المشتملة على ركوع واحد مثلا يتحدد طبيعة الصلاة بالقياس إلى دائرة المأمور به منها بحد يكون الوجود الثاني بالقياس إلى ذلك الحد من الزيادة في الصلاة الموجب لقلب حده إلى حد آخر وان لم يصدق عليه عنوان الزيادة بالنسبة إلى المأمور به بما هو مأمور به ( غاية ) ما هناك انه على الأول تكون الوجود الثاني من الزيادات المضرة بالمأمور به من جهة رجوعه إلى الاخلال به من جهة النقيصة ( بخلافه ) على الثاني فإنه لا تكون من الزيادات المبطلة ، وانما غايته هو كونه لغوا وخارجا عن دائرة المطلوبية ( وكذلك الامر ) على الأخير ، إذ بانطباق صرف الطبيعي على الوجود الأول في الوجودات المتعاقبة يتحدد دائرة المركب والمأمور به قهرا يجد يكون الوجود الثاني بالقياس إليه من الزيادة في المركب والمأمور به فتأمل ( وحينئذ )

ص: 439

فإذا أمكن ثبوتا تصوير الزيادة الحقيقية في الاجزاء على ما بيناه ، نقول انه لا بأس بحمل ما ورد في الأدلة بعنوان الزيادة على ظاهره في الزيادة الحقيقية ، كقوله (عليه السلام) إذا استيقن انه زاد في المكتوبة ، وقوله (عليه السلام) من زاد في صلوته فعليه الإعادة ، إذ لا داعي إلى رفع اليد عن ظهور هذه النصوص وحملها على الزيادة التسامحية العرفية ( نعم ) لابد في صدق الزيادة على الوجود الثاني ان يكون الاتيان به بعنوان الصلوتية وعن قصد الجزئية لها ، والا فلا يرتبط بالصلاة كي يصدق انه زاد فيها ، بل يكون ذلك حينئذ من ضم الأجنبي إلى الأجنبي كما أشرنا إليه انفا ولا فرق في ذلك بين ان يكون ما يفرض كونه زائدا من سنخ الأقوال كالقراءة أو من سنخ الافعال كالركوع والسجود ( وتوهم ) صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني مطلقا خصوصا في الافعال ولو لم يقصد به الصلوتية والجزئية لها ( مدفوع ) بمنع صدق الزيادة عرفا مطلقا على الوجود الثاني ، بل لا أقل من الاحتياج إلى تشريع جزئيته ولا يكون ذلك الا إذا اتى به بقصد الجزئية للصلاة كما لا يخفى ( نعم ) قد يظهر من التعليل الوارد في بعض الأخبار الناهية عن قرائة سور العزائم في الصلاة بان السجدة زيادة في المكتوبة عدم اعتبار قصد الصلوتية والجزئية في صدق الزيادة فيما كان من سنخ أفعال الصلاة وانه يكفي في صدقها الاتيان بمطلق ما يكون من سنخ أفعال الصلاة ولو لم يقصد به عنوان الصلوتية والجزئية لها ، بل ومع قصد الخلاف به أيضا ( ولكنك ) بعدما عرفت قصدية عنوان الصلاة وعدم كونها عبارة عن مجرد ذوات تلك الأقوال والافعال والهيئات الخاصة ، لابد من حمل اطلاق الزيادة في تلك النصوص على السجدة العزيمة على ضرب من العناية ، اما من جهة مشاكلتها بحسب الصورة للسجدة الصلوتية ، أو لأجل كونها من توابع السورة المأتى بها بعنوان الجزئية للصلاة ( وعلى كل حال ) فحيث ان الحكم المزبور يكون على خلاف القاعدة يقتصر فيه على مورد النص ولا يتعدى منه إلى غيره كسجدة الشكر ونحوها مما لا يقصد به الجزئية للصلاة ( وربما يؤيد ) ما ذكرنا أيضا النصوص المرخصة لقرائة العزائم في غير المكتوبة من الصلوات المندوبة مع وضوح اشتراك الصلوات المندوبة مع المكتوبة في الشرائط والموانع ولذا لا يجوز فيها أيضا تكرار الركوع أو السجود بقصد الجزئية للصلاة كما لا يخفى.

ص: 440

( الجهة الثانية ) في حكم الزيادة العمدية والسهوية من حيث صحة العمل وبطلانه بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية ( واجمال القول فيه ) انه لا شبهة في أن مقتضى القاعدة الأولية هو عدم بطلان العمل بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية ( وذلك ) اما بناء على امكان فرض الزيادة الحقيقية في اجزاء المركب وشرائطه كما تصورناه بفرض اخذ الجزء في مقام جعل المركب على نحو لا بشرط بالمعنى الثاني وفى مقام الامر والطلب على نحو لا بشرط بالمعنى الأول الراجع إلى خروج الوجود الثاني مع كونه من المركب حقيقة عن دائرة المأمور به ، فظاهر لعدم اقتضاء مجرد الزيادة بطلان العمل والمركب بعد اتيان المكلف بما هو المأمور به وعدم تشريعه في امر الشارع ( بل وكذلك الامر ) مع التشريع أيضا ببنائه على شمول الامر الزائد والمزيد عليه ( إذ مجرد ) تشريعه في امر الشارع ببنائه على شموله للوجود الثاني لا يضر بامتثاله بعد أن يكون الداعي والباعث له على الاتيان بالواجب هو الامر الواقعي ( نعم ) لو كان الداعي والباعث له الاتيان بالواجب ممحضا بالامر التشريعي أو كان الداعي هو مجموع الامر الواقعي وما شرعه من قطعة الامر المتعلق بالزائد بحيث لولا ما شرعه من الامر لما يدعوه الامر الشرعي إلى الاتيان بالواجب ( لكان المتجه ) هو البطلان من جهة الاخلال حينئذ بقصد الامتثال ( ولكن ) هذا الفرض من جهة ندرته كاد ان يلحق بالعدم ، هذا بناء على تصورناه من امكان فرض الزيادة الحقيقية في اجزاء المركب ( واما بناء ) على عدم امكان فرضها ثبوتا الموجب لحمل ما ورد في الأدلة من التعبير بالزيادة على الزيادة العرفية كما هو قضية فرض اخذ الجزء في مقام جعل ماهية المركب بنحو لا بشرط بالمعنى الأول ( فكذلك أيضا ) ، إذ لا يكون في البين ما يقتضى بطلان العمل بمحض الاتيان بالزائد بقصد الجزئية للمأمور به ، لا من جهة نفس الزيادة ، ولا من جهة تشريعه في قصد الجزئية بالوجود الثاني ( اما الأول ) فظاهر بعد فرض عدم كون الجزء مأخوذا في حقيقة المركب أو المأمور به على نحو بشرط لا من الزيادة ( والا يرجع ) إلى النقيصة فيخرج عن مفروض البحث ( وكذلك الامر على الثاني ) سواء كان التشريع في أصل ماهية المركب بجعل الجزء فيه عبارة عن الجنس الشامل للوجود الثاني ، أو في المأمور به ، أو في الامر الشرعي بان يتعلق تشريعه بمرتبة امر

ص: 441

الشارع وارادته بما يشمل الزائد أيضا ما لم يكن ذلك منه راجعا إلى كونه من قبيل وحدة؟ المطلوب على نحو يوجب الاخلال باستقلال الامر الواقعي في الداعوية والباعثية على الاتيان بمتعلقه ( فان ) في جميع هذه الصور لا قصور في صحة العمل بعد عدم اضرار حيث تشريعه في المأمور به أو الامر بالنسبة إلى الزائد بالواجب المأتى به من جهة قصد التقرب والامتثال كما هو ظاهر ( هذا كله ) في فرض احراز أخذ الجزء في المركب أو المأمور به بنحو اللابشرط بالمعنى الأول الراجع إلى خروج الوجود الثاني عن المركب عن حيز الطلب والامر ( وأما ) مع الشك في ذلك واحتمال كونه مأخوذا على نحو بشرط لا ، فلا شبهة في أن مرجع الشك المزبور حينئذ إلى الشك في مانعية الزيادة المتحققة في اتصاف الوجود الأول بالجزئية للمأمورية فيكون من صغريات دوران الامر بين الأقل والأكثر فتجري البراءة العقلية والشرعية بالنسبة إلى مانعية الزيادة ، بل يمكن التمسك لعدم مانعية الزيادة باستصحاب صحة المزيد عليه من جهة ملازمة الشك المزبور حينئذ للشك في صحة المزيد عليه تأهليا فيجرى فيه استصحابها ( وتوهم ) ان الصحة بالمعنى المزبور قطعية على كل تقدير حتى مع اليقين بمانعية الزيادة فلا شك فيها حتى تستصحب ( مدفوع ) بأن الصحة التأهلية انما لا تكون مشكوكة إذا كان الجزء مأخوذا لا بشرط وقد استفيد مانعية الزيادة في الصلاة من الأدلة الخارجية كقوله (عليه السلام) من زاد في صلوته فعليه الإعادة ( وأما إذا كان ) الجزء مأخوذا في أصل جزئيته للمركب أو المأمور به بشرط عدم الزيادة ، فلا شبهة في أن وجود الزيادة كان مفنيا لأصل جزئية الجزء ولذا ترجع الزيادة فيه إلى النقيصة ، ومعه يكون الشك في أخذه لا بشرط أو بشرط لا شكا لا محالة في صحة المزيد عليه تأهليا عند وجود الزائد فتجري فيها الاستصحاب ، فنفى الشك في صحة المزيد عليه تأهليا لا يكون إلا من الخلط بين المقامين فتدبر.

( الجهة الثالثة ) فيما تقتضيه القاعدة الثانوية المستفادة من الأدلة على خلاف مقتضى القاعدة الأولية ( فنقول ) انه وإن لم يقم دليل عام يقتضى بطلان المركب بالزيادة السهوية أو العمدية مطلقا في جميع المركبات ( إلا أنه ) في باب الصلاة وكذا باب الطواف الحاقا له بالصلاة قد تظافرت الاخبار على بطلانها بالزيادة

ص: 442

في الجملة ( كقوله ) (عليه السلام) في خبر أبي بصير من زاد في صلوته فعليه الإعادة ، وقوله (عليه السلام) فيما رواه الكليني والشيخ ( قدهما ) عن زرارة وبكير بن أعين ، إذا استيقن انه زاد في صلوته المكتوبة. لم يعتد بها واستقبل صلوته استقبالا إذا كان استيقن يقينا ، ومقتضى اطلاق بعض هذه الأخبار ، هو عدم الفرق في البطلان بالزيادة بين العمدية والسهوية ، ولا بين الأركان وغيرها ( ولكن ) مقتضى حديث لانعاد في عقد المستثنى منه هو الصحة وعدم وجوب الإعادة فيما عدا الخمسة المذكورة فيه بالزيادة السهوية ، بل بمطلق الزيادة ولو عمدية بناء على عموم الحديث لغير صورة النسيان أيضا ، فإنه على كل تقدير النسبة بين مفاد الحديث في عقد المستثنى منه ، وبين عموم قوله (عليه السلام) من زاد في صلوته هو العموم من وجه ، فتقع بينهما المعارضة في الزيادة السهوية بل العمدية في غير الأركان ( والترجيح ) حينئذ لعموم لا تعاد ، أما لحكومته على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها أدلة مانعية الزيادة ، وأما لأقوائية ظهوره بمقتضى الاستثناء من ظهور عموم من زاد في مطلق الزيادة ولو في غير الأركان خصوصا مع احتمال كون المراد من الزيادة المبطلة في قوله من زاد هي الزيادة في اعداد ركعات الصلاة ، كما هو ذلك في رواية زرارة وبكير المتقدمة فيما رواه الكليني ( قده ) بزيادة لفظ الركعة فيها بعد قوله (عليه السلام) في صلوته المكتوبة ( وأما توهم ) ان حديث لا تعاد يختص بصورة الاخلال من جهة النقيصة فقط بقرينة ما في ذيله من استثناء الطهور والوقت والقبلة ، فلا عموم له حينئذ يشمل الزيادة حتى يعارض ما دل على مانعية الزيادة « فمدفوع » بان مجرد عدم قابلية الثلاثة المزبورة للتكرر لا يوجب قصر مفاد الحديث بالاخلال في طرف النقيصة كما هو ظاهر « نعم يبقى الكلام » حينئذ فيما يقتضيه الجمع بين الحديث المزبور ، والأدلة الواردة في باب الزيادة السهوية ، كقوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة ، وقوله (عليه السلام) إذا استيقن انه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته « والكلام » في ذلك يقع في مقامين « الأول » في الجمع بين قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة الشامل للركن وغيره وبين عقد المستثنى في الحديث ، حيث إن مقتضى الأول هو صحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها في زيادة الركن كالركوع والسجود ، ومقتضى الثاني هو بطلان

ص: 443

الصلاة بزيادة الركوع والسجود « الثاني » في بيان النسبة بين قوله (عليه السلام) إذا استيقن انه زاد في صلوته المكتوبة فليستقبل صلاته وبين عقد المستثنى منه في الحديث وما يقتضيه الجمع بينهما « اما المقام الأول » فقد يقال ان النسبة بين قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة وبين عقد المستثنى في الحديث هي العموم من وجه ، لان قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة تختص بصورة السهو والنسيان ويعم الركن وغيره ، وعقد المستثنى في الحديث يختص بالأركان ويعم صورة النسيان وغيره ، فتقع بينهما المعارضة في الزيادة السهوية في الأركان حيث إن مقتضى الأول هي الصحة وعدم وجوب الإعادة ، ومقتضى الثاني هو البطلان ووجوب الإعادة ، وبعد تساقطهما في المجمع يكون المرجع فيه هي القاعدة الأولية المقتضية لعدم البطلان ( نعم ) لو قلنا باختصاص لا تعاد صرفا أو انصرافا بصورة السهو والنسيان لابد بمقتضى قاعدة الاطلاق والتقييد من تقديم لا تعاد على قوله تسجد سجدتي السهو لأخصية الحديث حينئذ من دليل سجدتي السهو فيخصص به عمومه بما عدى الأركان ( ولكنه ) بعد المنع من الانصراف المزبور كما تقدم بيانه تكون المعارضة بينهما في الجمع متحققة ، وبعد تساقطهما فيه يكون المرجع هي القاعدة الأولية ( هذا غاية ما قيل ) أو يمكن ان يقال في وجه تعارض عقد المستثنى في الحديث مع ما دل على وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ( ولكنه ) كما ترى ، إذ يرد عليه ( أولاً ) ان المعارضة المزبورة انما تكون فيما لو كان دليل سجدتي السهو في مقام تكفل الحكمين ، أحدهما نفي وجوب الإعادة من جهة الزيادة ، وثانيهما وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة ( وهو في محل المنع جدا ) ، فان الظاهر منه انما هو تمحضه لتكفل حكم الزيادة السهوية من جهة وجوب سجدتي السهو في فرض احراز صحة الصلاة وعدم مانعية الزيادة من الخارج مع سكوته عن بيان انه أي مورد تصح فيه الصلاة ولا تكون الزيادة مانعة ( وعليه ) لا مجال لتصور المعارضة بينهما ، إذ لا يكون مفاد هذه الأدلة منافيا لما يقتضيه عقد المستثنى في الحديث حتى ينتهي الامر إلى توهم المعارضة بينهما ( وثانيا ) مع الاغماض عن ذلك وتسليم سوق هذه الأدلة لبيان صحة الصلاة أيضا « نقول » انه لابد من تقديم الحديث على مثل هذه الأدلة من جهة ما يلزم من العكس من لزوم محذور اللغوية في عقد المستثنى ( بيان ذلك ) انه لو أخرجنا مورد التصادق

ص: 444

عن عقد المستثنى في لا تعاد بمقتضى أدلة وجوب سجدة السهو وحكمنا بالصحة في الزيادة السهوية في الأركان وخصصناه بالزيادة العمدية ، يلزم مساواة الخمسة في عقد المستثنى مع ما عداها في الحكم « لان » فيما عدا الخمسة أيضا بمقتضى قوله (عليه السلام) ان اللّه تعالى فرض الركوع والسجود والقرائة سنة فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسى فلا شيء عليه ، مع ضميمة عدم الفصل بين النقيصة والزيادة يكون الحكم هو البطلان بالزيادة العمدية ، فيساوى عقد المستثنى حينئذ مع عقد المستثنى منه في الحكم حيث إن الزيادة العمدية فيهما تكون موجبة للبطلان ووجوب الإعادة ، والزيادة السهوية فيهما غير موجبة لذلك ، فيلزم لغوية الاستثناء المزبور « وهذا بخلاف العكس » فإنه لا يلزم من تقديم الحديث في المجمع لغوية دليل وجوب سجدة السهو لكل زيادة « وان شئت قلت » ان الحكم في العامين من وجه انما يكون هو التساقط إذا لم يكن في البين مرجح لاحد العامين ، وإلا فيؤخذ بذى المرجح منها ، وفي المقام يكون محذور لزوم اللغوية في الاستثناء مرجحا لحديث لا تعاد فيجب تقديمه على عموم قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة « هذا » وقد يقال ان اللازم حينئذ بعد تعارض الحديث مع ما دل على وجوب سجدة السهو لكل زيادة وتساقطهما انما هو الرجوع إلى عموم قوله (عليه السلام) من زاد في صلوته فعليه الإعادة « وفيه » ما لا يخفي فان دليل وجوب سجدة السهو كما يعارض الحديث ، كذلك يعارض العموم المزبور بل ويقدم عليه لكونه أخص من عموم من زاد الشامل لصورة العمد والسهو كما هو ظاهر « هذا كله » في المقام الأول « واما المقام الثاني » فالكلام فيه في الجمع بين قوله (عليه السلام) إذا استيقن انه زاد في صلوته المكتوبة فليستقبل صلاته وبين عقد المستثنى منه في الحديث ، حيث إنه قد يقال بوقوع المعارضة بينهما في الزيادة السهوية في غير الأركان ، لان النسبة بينهما هي العموم من وجه لاختصاص قوله (عليه السلام) إذا استيقن بالزيادة السهوية وعمومه للأركان وغيرها واختصاص عقد المستثنى منه في الحديث بغير الأركان ، وعمومه للزيادة والنقيصة وبعد تساقطهما في المجمع أعني الزيادة السهوية في غير الركن يرجع إلى عموم قوله (عليه السلام) من زاد في صلوته فعليه الإعادة ( وفيه ) بعد الاغماض عما ذكرناه من اختصاص الرواية بزيادة

ص: 445

الأركان وعدم عمومها لمطلق الزيادة السهوية حتى في غير الأركان كما يشهد له زيادة لفظ الركعة فيها في رواية الكليني قدس سره عنه (عليه السلام) من قوله إذا استيقن انه زاد في صلوته المكتوبة ركعة ، نقول انه لابد من تقديم لا تعاد عليه واخراج المجمع من عموم قوله إذا استيقن بعين الوجه الذي ذكرناه في تقديم عقد المستثنى في لا تعاد على قوله تسجد سجدتي السهو وهو محذور لزوم اللغوية في لا تعاد ( بيان ذلك ) انه لو قدم قوله (عليه السلام) إذا استيقن على عقد المستثنى منه في لا تعاد وحكم في الزيادة السهوية في ما عدا الأركان بالبطلان ووجوب الإعادة يلزم بمقتضى عدم الفصل بين الزيادة والنقيصة لغوية لا تعاد ، لأنه لم يبق له حينئذ مورد يتمسك به لا في طرف الزيادة ، ولا في طرف النقيصة * اما الأول * فلكونه مقتضى قوله (عليه السلام) إذا استيقن * واما الثاني * فلكونه مقتضي عدم الفصل بين الزيادة والنقيصة ، لان كل من قال ولو فرضا بوجوب الإعادة بالزيادة السهوية في غير الأركان قال به في النقيصة أيضا وان منعناه في طرف العكس ، فيلزم حينئذ لغوية قوله (عليه السلام) لا تعاد لعدم بقاء مورد له يمكن التمسك به لعدم وجوب الإعادة ، ولأجل هذا المحذور لا محيص من تقديم لا تعاد على قوله إذا استيقن وتخصيصه بالزيادة السهوية في الأركان * وثانيا * مع الاغماض عن ذلك نقول انه لابد من تخصيص قوله إذا استيقن بالأركان بمقتضى ما دل على وجوب سجدتي السهو لكل زيادة ونقيصة * لان * النسبة بينهما وان كانت هي التباين الكلي لاختصاصهما بالزيادة السهوية وعمومهما من جهة الركن وغيره * إلا أنه * بعد تخصيص قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو بما عدا الأركان بمقتضى ما دل على وجوب الإعادة في زيادته الركن ، يتعين تقديمه على قوله (عليه السلام) إذا استيقن بالنسبة إلى زيادة غير الركن ، إذ لولاه يلزم لغوية قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو لكل زيادة لبقائه حينئذ بلا مورد * وثالثا * ان ذلك هو الذي تقتضيه قاعدة الأظهر والظاهر * فإنه * لا شبهة في أن قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي أظهر في الدلالة على الصحة في زيادة غير الركن من دلالته عليها في زيادة الركن لمكان أولوية الصحة في زيادة غير الركن من الصحة في زيادة الركن * كما أن قوله (عليه السلام) إذا استيقن يكون أظهر في الدلالة على البطلان ووجوب الإعادة في

ص: 446

زيادة الركن من دلالته على البطلان في زيادة غير الركن * فلابد * بمقتضى * قاعدة الأظهر والظاهر من حمل الظاهر في كل منهما على ما يكون الآخر أظهر فيه ، وهو انما يكون برفع اليد عن عموم كل منهما بحمل عموم قوله إذا استيقن على خصوص زيادة الركن ، وعموم قوله (عليه السلام) تسجد سجدتي السهو على زيادة غير الركن * وعلى ذلك * فصار المتلخص من جميع ما ذكرنا بعد الجمع بين الأدلة هو ان الزيادة العمدية في الأركان توجب بطلان الصلاة ووجوب اعادتها ، وكذا في غير الأركان على اشكال فيه * واما الزيادة السهوية * فان كانت في الأركان فهي أيضا توجب البطلان ووجوب الإعادة « وأما إذا كانت » في غير الأركان فلا توجب البطلان ، بل مقتضي الأدلة فيها هي الصحة وعدم وجوب الإعادة.

الامر الثاني

إذا تعذر بعض ماله الدخل في المأمور به وجودا كالجزء والشرط أو عدما كالمانع باضطرار ونحوه كما لو اضطر إلى ترك جزء أو شرط أو ايجاد مانع أو أو قاطع ، ففي سقوط التكليف عن البقية وعدمه ( وجهان ) مبنيان على ما تقدم من اطلاق جزئية المتعذر أو قيديته حتى في حال التعذر أو اختصاصها بحال التمكن منه ( وتحقيق الكلام فيه ) يقع فيهما مقامين.

( الأول ) فيما يقتضيه الأصل الأولى المستفاد من دليل القيد أو المقيد ( الثاني ) فيما يقتضيه الأصل الثانوي ( اما المقام الأول ) فاجمال القول فيه كما تقدم في الامر الأول هو الرجوع أولاً إلى اطلاق دليل جزئية المتعذر أو قيديته للمركب والمقيد إذا كان له اطلاق يقتضي الجزئية أو القيدية حتى في حال تعذره فيؤخذ باطلاقه ويحكم بسقوط التكليف عن المركب والمقيد ( من غير فرق ) بين ان يكون بلسان الوضع كقوله (عليه السلام) لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ولا صلاة إلا بطهور ، أو يكون بلسان الامر والتكليف ، ولا بين ان يكون الدليل المثبت للجزئية أو القيدية هو نفس دليل المركب كما لو امر بالصلاة المشملة على القراءة والركوع والسجود أو دليل آخر منفصل عن دليل المركب أو متصل به ، فعلى كل تقدير

ص: 447

لابد بمقتضى اطلاقه من الحكم بسقوط التكليف عن البقية ، إلا إذا كان هناك دليل آخر من أصل أو قاعدة تقتضي التكليف بالبقية كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه ، ولا يرجع مع اطلاق دليل الجزء والقيد إلى دليل المركب والمقيد وان فرض له اطلاق في نفسه وكان واردا في مقام البيان ( لان ) اطلاق دليل الجزء والقيد حينئذ يكون حاكما على اطلاق دليل المركب والمقيد ( واما إن لم يكن ) لدليل الجزء والقيد اطلاق يقتضي ثبوت الجزئية أو القيدية حتى في حال تعذره ، فالمرجع حينئذ هو اطلاق دليل وجوب المركب والمقيد ان كان له اطلاق يشمل حال تعذر جزئه أو قيده فيؤخذ باطلاقه لاثبات التكليف بالبقية ( وان لم يكن ) لدليل المركب اطلاق أيضا ، فالمرجع عند الشك في وجوب فعل الفاقد للمتعذر هي أصالة البراءة عن وجوبه الا إذا كان في البين ما يقتضي وجوبه من استصحاب أو قاعدة ميسور ونحو ذلك ( ثم انه ) لا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون المتعذر هو الجزء أو الشرط ، وبين ان يكون المتعذر هو المانع ، فمع الاضطرار إلى ايجاد المانع يجري فيه ما ذكرناه في تعذر الجزء والشرط ( نعم ) يختص مورد الكلام فيه بما إذا كان مناط مانعيته راجعا إلى دخل التقيد بعدمه في مناط المطلوب ومصلحته ، أو إلى مزاحمة مفسدة وجوده مع أصل مناط المطلوب ومصلحته بحيث يوجب تقييد أصل مناط المطلوب واقعا بغير مورد النهي كما في باب النهي عن العبادة ولذا كان النهي بوجوده الواقعي مقتضيا لفساد العبادة ( واما ) إذا كان راجعا إلى مجرد الممانعة عن تأثير مناط المطلوب في الرجحان الفعلي كما في النهي في باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي في المجمع ، أو الممانعة عن تأثيره في الإرادة الفعلية بناء على القول بالجواز ، فيخرج عن موضوع هذا البحث في المقام حتى على القول بالامتناع فضلا عن القول بالجواز ، حيث إنه مع سقوط النهى بأحد موجباته من الاضطرار وغيره يمكن تصحيح العبادة باتيان المجمع والتقرب به بقصد التوصل به إلى غرض المولى ولو على القول بالامتناع وان لم يمكن التقرب بداعي امره أو بداعي رجحانه الفعلي بلحاظ عدم ارتفاع المفسدة التي هي ملاك النهي بطرو الاضطرار إلى ايجاد المنهى عنه ( نعم ) بناء على القول بالجواز وعدم سراية الامر إلى مورد النهي لا بأس بالتقرب به بداعي رجحانه

ص: 448

ومحبوبيته ، بل وبداعي امره أيضا في فرض سقوط النهي الفعلي بالاضطرار المزبور ، إذ بسقوطه حينئذ يبقى الاطلاق في طرف الامر بلا مراحم ( وتوهم ) انه على الامتناع وتقديم جانب النهى يندرج في صغرى باب النهي عن العبادة فيلزم بطلان العبادة حينئذ حتى مع الاضطرار إلى ايجاد المنهي عنه بناء على أن المانعية معلومة لملاك النهي وهي المفسدة لا لنفس النهي الفعلي الساقط بالاضطرار ( مدفوع ) بوضوح الفرق بين البابين « فان » المانعية في باب النهي عن العبادة انما هي من جهة اقتضاء النهي هناك لتقييد مناط الامر ومصلحته بغير مورد النهي ولذا كان النهي هناك بوجوده الواقعي مقتضيا للفساد « بخلاف » النهي في باب الاجتماع ( فان ) النهي المتعلق بعنوان آخر متحد مع العبادة وجودا ولو على الامتناع وتقديم النهي لا يقتضي تقييد ملاك الامر بغير مورد النهي ، وانما قضيته هي الممانعة عن تأثير مصلحة الامر في الفرد في الرجحان الفعلي والمحبوبية الفعلية مع بقاء أصل المصلحة بحالها في الشمول للمجمع ، ولذا لا يكون باب الاجتماع إلا في صورة احراز اجتماع الملاكين في المجمع ولو بمقتضى اطلاق الخطابين ولا يكون الفساد فيه أيضا إلا من لوازم تنجز النهى لا من لوازم نفس النهى بوجوده الواقعي كما هو واضح وان شئت مزيد تحقيق لذلك فراجع ما سطرناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي في الجزء الثاني من الكتاب * وكيف ما كان * فلنرجع إلى محل البحث من أن تعذر بعض ماله الدخل في المأمورية جزءا أو قيدا هل يوجب سقوط التكليف عن المركب والمقيد رأسا أو لا؟ وقد عرفت في المقام الأول ان مقتضى القاعدة الأولية في صورة اطلاق دليل المركب وعدم اطلاق دليل الجزء والقيد لحال الاضطرار هو عدم سقوط التكليف عن البقية ووجوب الاتيان بها * واما * في غير هذه الصورة فمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط التكليف عن البقية رأسا * اما * لكونه مقتضى اطلاق دليل الجزء والقيد * واما * لكونه مقتضى الأصول العملية ، إلا إذا قام دليل أو أصل في البين على عدم سقوط التكليف عن البقية.

( المقام الثاني ) في قيام الدليل على ثبوت التكليف بما عدا المتعذر على خلاف ما اقتضته القاعدة الأولية ( فنقول ) انه ربما يتمسك لاثبات وجوب ما عدا

ص: 449

المتعذر بأمور ( الأول ) الاستصحاب ( ولا يخفى ) ان صحة التمسك به لاثبات وجوب البقية انما يتم في صورة عدم اطلاق كل من دليلي القيد والمقيد وفرض انتهاء الامر إلى أصالة البراءة ، وإلا ففي صورة اطلاق دليل القيد أو المقيد لا يكاد انتهاء الامر إلى جريان الاستصحاب « لان مع وجود » اطلاق دليل الجزء والقيد يلزمه لا محالة سقوط التكليف المتعلق بالكل والمقيد فلا يبقى معه شك في بقاء التكليف حتى يجرى فيه الاستصحاب ( كما أنه ) مع اطلاق دليل المقيد وعدم اطلاق دليل الجزء والقيد يكون وجوب البقية بدليل اجتهادي ( ولعل ) اطلاق كلام الشيخ قدس سره في المقام وعدم تخصيصه الاستصحاب بفرض خلو المورد عن وجود الاطلاق ، مبنى على ايكاله قدس سره ذلك إلى وضوحه من عدم جريان الأصول العملية كلية في مورد يجري فيه الاطلاق « وعلى كل حال » فتقريب التمسك بالاستصحاب يكون من وجوه ( منها ) تقريبه باستصحاب طبيعة الوجوب الجامع بين النفسي والغيري الثابت لما عدا المتعذر قبل طرو الاضطرار ، حيث إنه بعد طرو الاضطرار يشك في ارتفاع مطلق الوجوب الثابت للبقية فيستصحب ( ومنها ) استصحاب الوجوب النفسي الثابت للكل والأكثر بتسامح من العرف في موضوعه بجعله عبارة عن الأعم من الواجد للجزء المتعذر والفاقد له نظير استصحاب كرية الماء الذي اخذ منه مقدارا ( ومنها ) استصحاب الوجوب الضمني الثابت للاجزاء الباقية سابقا في ضمن وجوب الكل ، حيث إنه يشك في بقاء هذه المرتبة من الوجوب وارتفاعها فيستصحب وان كان يستتبع بقائه عند ارتفاع الوجوب عن الجزء المتعذر لتبدل حده السابق بحد آخر نظير استصحاب بقاء مرتبة من اللون المتحقق في ضمن الشديد المقطوع ارتفاعه ، إذا شك في ارتفاعها رأسا أو بقائها محدودة بحد آخر ضعيف ( ولكن ) يرد على التقريب الأول مضافا إلى ابتنائه على الالتزام بالوجوب الغيري للاجزاء ، وهو خلاف التحقيق كما برهنا عليه مرارا ، انه انما يجري الاستصحاب ويكون من استصحاب القسم الثاني من استصحاب الكلي المتفق على جريان الاستصحاب فيه فيما لو كان ثبوت كل واحد من نحوي الوجوب مشكوكا من الأول بحيث يكون الثابت مرددا امره بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء

ص: 450

كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد فعل ما يوجب رفع الأصغر وكالحيوان المردد بين البق والفيل بعد انقضاء زمان عمر البق ، وليس الامر في المقام كذلك ( وانما يكون ) ذلك من استصحاب القسم الثالث من الكلي الذي كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم أو مقارنا لارتفاعه ( فان ) ما علم ثبوته للاجزاء سابقا انما هو الوجوب الغيري الذي علم بارتفاعه والمحتمل بقائه انما هو الوجوب النفسي من جهة احتمال مقارنة مناطه لمناط الغيرية أو قيام مناطه مقام مناطها ( والاستصحاب ) في مثله غير جار قطعا * الا * إذا كان المحتمل بقائه من مراتب الفرد الذي ارتفع كأصل اللون المتحقق في ضمن الفرد الشديد * وثانيا * ان الشك في بقاء الوجوب للاجزاء الباقية وعدمه مسبب عن الشك في بقاء جزئية المتعذر في حال تعذره ، فإنه على تقدير بقاء الجزئية في حال التعذر يقطع بارتفاع التكليف عن المركب رأسا ، فأصالة بقاء الجزئية في حال الاضطرار يقتضي سقوط التكليف عن البقية ، فلا ينتهي الامر مع جريان استصحابها لاستصحاب بقاء وجوبها ( واما ) توهم مثبتية الأصل المزبور باعتبار كون ترتب سقوط التكليف عن البقية من اللوازم العقلية للاضطرار إلى ترك الكل الذي هو من اللوازم العقلية لترك الجزء ، مدفوع ، بان ذلك لا ضير فيه ، لأنه من اللوازم العقلية المترتبة على ما يعم الواقع والظاهر ، نظير وجوب الإطاعة الذي هو من لوازم مطلق الوجوب الأعم من الواقع والظاهر ، فإنه ، كما أن من لوازم ثبوت الجزئية واقعا هو سقوط التكليف عن الكل عند تعذر جزئه لاقتضاء الاضطرار إلي تركه الاضطرار إلى ترك الكل ، كذلك ، من لوازم الجزئية الظاهرية أيضا هو سقوط التكليف الظاهري عن الكل والمركب بالاضطرار إلى ترك جزئه ، فكان الجزء الظاهري حينئذ كالجزء الواقعي في أن من لوازم الاضطرار إلى تركه هو سقوط التكليف عن الكل والمركب ، وتوهم ، انه لا معنى لاستصحاب جزئية المتعذر في حال الاضطرار إلى تركه ، فإنه ، بالنسبة إلى مقام الدخل في الملاك والمصلحة يكون الدخل المزبور تكوينيا لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، وبالنسبة إلى التكليف الفعلي الضمني الذي هو منشأ انتزاع الجزئية الفعلية لا يكون التكليف بنفسه قابلا للثبوت للقطع بارتفاعه عند تعذره لاستحالة التكليف بما لا يقدر

ص: 451

عليه المكلف ( مدفوع ) بان الجزئية لا يختص أمرها بالاعتبارين المزبورين ( لان ) لها اعتبار ثالث وهو اعتبار دخلها في المجعول في مقام جعل المركب واختراعه كما تقدم التنبيه عليه ، ومن الواضح ، ان الجزئية بهذا الاعتبار من الأمور التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي ، لان للشارع في مرحلة جعل المركب التي هي رتبة قبل الامر اعتبار المركب بنحو يدخل فيه الجزء المتعذر ، كما أن له اعتباره بنحو يخرج عنه وان كان منشأ هذا الاعتبار هي المصالح الواقعية ( وحينئذ ) فبعد كونها بهذا الاعتبار من المجعولات الشرعية ، فمع اليقين بثبوت الجزئية في حال والشك في ثبوتها في حال آخر يجري فيها الاستصحاب ويترتب على استصحابها ما ذكرناه من سقوط التكليف عن المركب رأسا وعدم وجوب الاتيان بالبقية ( واما التقريب ) الثاني للاستصحاب ، فيرد عليه انه لو يجدي ذلك فإنما هو فيما لا يكون المتعذر من الاجزاء المقومة والا فيقطع بارتفاع شخص ذلك الحكم ، ومعه لابد وأن يكون الشك في البقاء متعلقا بحكم آخر محتمل التحقق حين وجود الحكم الأول أو محتمل الحدوث حين ارتفاع الحكم الأول بحدوث مناط آخر في البين ( هذا ) مع وضوح الفرق أيضا بين المقام ومسألة استصحاب الكربة للماء الذي اخذ منه بعضه ، فان جريان الاستصحاب هناك انما هو باعتبار كون منشأ الشك في بقاء الكرية وعدمه هو ذهاب البعض المأخوذ منه المحتمل دخله في وصف الكرية ، بخلاف المقام ، فان منشأ الشك في وجوب البقية ليس هو تعذر الجزء ، وانما منشأه هو الشك في جزئية المتعذر للمركب في حال الاضطرار مع الجزم بجزئيته للمركب قبل طرو الاضطرار ودخله في شخص الحكم المتعلق بالمركب أولاً « ومع هذا » لا مجال لمقايسة المقام بما هناك فتدبر « واما التقريب الثالث » للاستصحاب ، فالظاهر أنه لا مانع منه في بعض فروض المسألة فيما كان الشك في بقاء وجوب البقية من جهة احتمال وجود مناط آخر في البين يقتضي تبدل حده الضمني بحد آخر مستقل ، واحتمال تبدل المناط السابق بمناط آخر مستقل للاجزاء الباقية يقتضي استقلالها في الوجوب عند تعدد الكل ( فان ) في أمثال ذلك لا مانع من جريان الاستصحاب ، لكونه من استصحاب الذات المحفوظة بين الحدين الباقية دقة ولو ضن أحد آخر ، نظير استصحاب بقاء أصل اللون

ص: 452

المتحقق سابقا في ضمن شديده المقطوع ارتفاعه إذا شك في ارتفاعه رأسا أو بقاء مرتبة منه بحد آخر ضعيف * نعم * لابد في جريان مثل هذه الاستصحابات من مساعدة العرف عليه أيضا بان يكون الباقي على تقدير بقائه معدودا في انظارهم كونه من مراتب الموجود السابق ، وإلا فلا يجرى فيه الاستصحاب.

« الثاني » حديث الرفع وتقريب التمسك به لاثبات وجوب البقية على نحو ما تقدم في مسألة نسيان الجزء ، وذلك أيضا تارة بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما لا يعلم ، وأخرى بقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ما اضطروا إليه ( بتقريب ) اقتضاء الحديث الشريف بكل من التقريبين رفع الجزئية عن المتعذر في حال تعذره ، فيترتب عليه وجوب الاتيان بالبقية * لان * الموجب لسقوط التكليف عنها انما هو بقاء المتعذر على جزئيته في حال التعذر وبعد ارتفاع جزئيته في حال تعذره بمقتضى حديث الرفع يترتب عليه وجوب فعل البقية « فعلى * كل من التقريبين يقتضى الحديث الشريف وجوب الاتيان بالبقية ، نعم ، غاية ما يكون من الفرق بينهما هو ان تقريب التمسك به من جهة تطبيق عنوان ما لا يعلم لابد وأن يكون في ظرف لا يكون اطلاق لدليل القيد أو المقيد ، بخلاف تقريبه من جهة تطبيق عنوان ما اضطروا إليه ، فإنه لابد وأن يكون ذلك في فرض اطلاق دليل الجزء والقيد واقتضاء اطلاقه ثبوت الجزئية والقيدية على الاطلاق الموجب لسقوط التكليف عن المركب والمقيد رأسا عند تعذر جزئه وقيده ( وفيه ) ان الحديث يختص جريانه بمورد يوجب التوسعة على العباد لا الضيق ، فلا يمكن اقتضائه لاثبات وجوب البقية لأنه من الكلفة والضيق الذي هو خلاف الارفاق على المكلف ( ولا ينتقض ) ذلك بما قربنا جريانه في مسألة النسيان ( لان ) بين المقام وما هناك فرق واضح ينشأ من وجود الملزم العقلي في النسيان باتيان ما عدا الجزء المنسى ( فان ) الناسي للجزء لغفلته عن نسيانه يرى نفسه ملزما بحكم عقله باتيان البقية وبعد زوال النسيان يجرى في حقه حديث الرفع لاقتضائه كون المأتى به حال نسيانه مصداق الواجب المستلزم لسقوط التكليف عنه بالإعادة ، فيكون في جريانه كمال الارفاق على المكلف ( بخلاف المقام ) فان ظرف تطبيق دليل الرفع انما يكون في ظرف الاضطرار إلى ترك الجزء والقيد وفى هذا الظرف بمقتضى اطلاق دليل الجزئية لا يرى المكلف نفسه ملزما باتيان البقية ، فإذا

ص: 453

جرى فيه حديث الرفع واقتضى وجوب البقية برفع جزئية المضطر إليه يكون ذلك نحو ضيق على المكلف ومثله خلاف ما سيق له الحديث الشريف ( الثالث ) عمومات الاضطرار كقوله (عليه السلام) في خبري زرارة ومحمد بن مسلم التقية في كل شيء اضطر إليه فقد أحله اللّه ، أو ان التقية في كل شيء وكل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه كما في بعض النسخ المصححة على ما ذكره بعض الأساطين قدس سره ، بناء على كون المراد من الحلية فيها معناها اللغوي الشامل للحلية الوضعية أيضا كما في قوله سبحانه أحل اللّه البيع المعلوم إرادة الحلية الوضعية منه ( وتقريب ) الاستدلال ان حلية الجزء والشرط والمانع المتعذر عبارة عن سقوطه عن الجزئية والشرطية والمانعية في حال تعذره ومقتضى ذلك بعد حكومة هذه العمومات على الأدلة المثبتة للاجزاء والشرائط والمواقع هو تخصيص الجزئية والشرطية والمانعية المستفادة منها بغير حال التعذر ولازمه وجوب الاتيان بالباقي لكونه تمام المركب المأمور به في هذا الحال المستلزم لمفرغيته عما في الذمة وعدم وجوب الإعادة عليه بعد ارتفاع الاضطرار ( لا يقال ) انه كما أن بتعذر الجزء والقيد يصدق الاضطرار إلى الجزء والقيد فيشملهما عموم قوله (عليه السلام) كل شيء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله اللّه ( كذلك ) يصدق الاضطرار إلى ترك المركب والمقيد بنفس الاضطرار إلى جزئه وقيده فيشمله عموم الحلية أيضا وبشموله له تقع بينهما المعارضة ( لان ) لازم تطبيقه على الجزء والقيد هو وجوب فعل البقية ، ولازم تطبيقه على الكل والمقيد هو سقوط التكليف عنهما رأسا لمكان تعذرهما ، وبعد عدم مرجع لأحدهما لا مجال لتطبيقه على أحدهما لبطلان الترجيح بلا مرجح « فإنه يقال » انه يكفي في ترجيح تطبيقه على الجزء والقيد المتعذر اقتضاء تطبيقه عليهما رفع الاضطرار عن الكل والمركب « لان » لازمه حينئذ هو كون تمام المركب المأمور به في حال تعذر الجزء أو القيد هو البقية المعلوم عدم صدق الاضطرار بالنسبة إليها فعدم شمول العموم حينئذ للكل والمقيد انما يكون من جهة التخصيص وعدم صدق الاضطرار بالنسبة إليه ( بخلاف ) فرض تطبيق العموم أولاً على نفس الكل والمقيد ، فإنه لما لا يقتضى ذلك رفع الاضطرار بالنسبة إلى الجزء والقيد يلزم من تطبيقه على الكل والمقيد دون الجزء والقيد تخصيص عمومه بالنسبة إليهما بلا موجب يقتضيه

ص: 454

( وإذا ) كان الدوران بينهما من باب التخصيص والتخصص فلا شبهة في أن المتعين في مثله هو الثاني ، ومعه لا محيص من تطبيق عمومات الاضطرار على خصوص الجزء والقيد والحكم بما تقتضيه من وجوب فعل البقية ( نعم ) قد يناقش حينئذ في أصل اقتضاء عمومات الاضطرار لاثبات وجوب البقية ، بدعوى ان غاية ما تقتضيه العمومات المزبورة انما هو رفع الجزئية أو الشرطية والمانعية عن المضطر إليه ( واما ) اقتضائها لاثبات التكليف بالبقية فلا ، بل يحتاج ذلك في غير مورد اطلاق دليل المركب والمقيد إلى قيام دليل عليه اما بنحو العموم أو الخصوص ولو بمثل قوله (عليه السلام) الصلاة لا تترك بحال مؤيدا ذلك بعدم بناء الأصحاب فيما عدا الموارد التي وردت فيها النصوص الخاصة على التمسك بعمومات الاضطرار لاثبات التكليف بالمركب والمقيد عند تعذر جزئه وقيده ، حيث إن بنائهم في أمثال المقام انما هو على اثباته بأمور اخر كقاعدة الميسور ونحوها مما تتضمن وجوب فعل البقية ( ولكنه ) يندفع ذلك بان تكفل هذه العمومات لاثبات وجوب البقية انما هو بعين تكفل رفع الجزئية والشرطية والمانعية عن المضطر إليه ، فان من لوازم رفع الجزئية والشرطية عن المضطر إليه هو كون الباقي في حال الاضطرار مصداق المأمور به ، فإذا فرض اقتضائها رفع الجزئية والشرطية عن المضطر إليه يستفاد منه ان الباقي تمام المأمور به في حال الاضطرار فيجب الاتيان به بلا حاجة إلى التماس دليل آخر في البين يقتضي وجوب الاتيان بالباقي ( وربما يشهد لما ذكرناه ) ما في كثير من النصوص من استشهاد الامام (عليه السلام) بمثل هذه العمومات لرفع جزئية المتعذر أو شرطيته وايجاب الامر بالبقية ، كاستشهاد (عليه السلام) في خبر عبد الاعلى لرفع شرطية المسح على البشرة بعموم أدلة الحرج ، ولرفع جزئية القيام والركوع لغير المتمكن منهما في خبر آخر بقوله وليس شيء مما حرم اللّه إلا وقد أحله لمن اضطر إليه ، وكذا ما ورد في مسألة المسلوس من قوله * (عليه السلام) ، وان لم يقدر على حبسها فاللّه أولى بالعذر ( اللّهم ) إلا ان يناقش فيها بان استشهاد الامام * (عليه السلام) » بهذه العمومات انما هو لمجرد رفع الجزئية والشرطية عن المتعذر وان ايجاب فعل البقية في تلك الموارد انما كان مستفادا من الخارج أو من نفس الامر المستفاد من تلك النصوص ، لا ان ذلك كان من جهة اقتضاء عمومات الاضطرار فتأمل.

ص: 455

الرابع قاعدة الميسور

وعمدة المدرك لها ( النبوي ) المعروف إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وقوله (عليه السلام) ما لا يدرك كله لا يترك كله ، وقوله (عليه السلام) الميسور لا يسقط بالمعسور ، واشتهار هذه الروايات الثلاث بين الأصحاب في أبواب العبادات تغنى عن التكلم في سندها ( فالمهم ) هو عطف الكلام إلى بيان مقدار دلالتها ، فنقول : ( اما قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، فقد نوقش في دلالته على المطلوب ( بدعوى ) ظهور الشيء المأمور به في الرواية بقرينة المورد في الاختصاص بالكلي الذي له افراد طولية أو عرضية ( فان ) موردها انما كان في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن وجوبه في كل عام ، فإنه بعد اعراضه صلی اللّه علیه و آله عن جواب السائل حتى كرر السائل سؤاله مرتين أو ثلاث ، أجاب صلی اللّه علیه و آله بقوله ويحك وما يؤمنك ان أقول نعم واللّه لو قلت نعم لوجب عليكم ولو وجب ما استطعتم إلى أن قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، فتكون الرواية حينئذ مختصة بالكلي الذي له افراد طولية ، وكان مفادها انه إذا أمرتكم بكلي تحته افراد فأتوا من افراد ذلك الكلى بمقدار استطاعتكم ، ولا تشمل الكل والمركب الذي له اجزاء وان كانت في نفسها ظاهرة بمقتضى كلمة من الظاهر في التبعيض في الكل ذي اجزاء * وفيه * ان مورد الرواية وان كان في الكلي ذي افراد ، ولكن مجرد ذلك لا يقتضي تخصيصها بذلك بعد عموم الشيء في نفسه وشموله لكل من الكل والكلي « فان » العبرة في مقام استفادة الحكم انما هي على عموم اللفظ لا على خصوصية المورد ، فمع عموم الشيء في نفسه لا يقتضي مجرد تطبيقه على مورد خاص تخصيص عمومه به « واما توهم » عدم امكان عموم الشيء في الرواية لكل من الكل ذي اجزاء والكلي الذي له افراد ، لمبائنة لحاظ عموم الافراد في الكلى مع لحاظ الاجزاء في الكل لاقتضاء لحاظه بالاعتبار الأول لكون كلمة من بمعنى الباء أو بيانيته وبالاعتبار الثاني تبعيضية وبعد عدم جامع بينهما يقتضي استعمال لفظة من في الأعم من الاجزاء والافراد يتعين خصوص الثاني بقرينة المورد ( مدفوع ) بمنع اقتضاء إرادة الكلى من الشيء ولحاظ الافراد لكون لفظه من بمعنى البأ أو بيانية

ص: 456

بل هو كما يلائم ذلك يلائم أيضا مع كونها بمعنى التبعيض بلحاظ تبعض الحصص الموجودة منه في ضمن افراده ، فان الكلى إذا لوحظ كونه على نحو الشياع في ضمن الافراد يصدق على كل واحد من الحصص الموجودة منه في ضمن الافراد انه بعض الطبيعي ، وبهذه الجهة لا مانع من إرادة ما يعم الكل والكلي من الشيء المأمور به حيث يمكن إرادة التبعيض من الكلى أيضا بلحاظ حصصه الموجودة في ضمن افراده « فالأولى » في الاشكال على دلالة الرواية على المطلوب هو ان يقال ان العموم المستفاد من الشيء في الرواية لكل من الكل والكلي انما هو من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة ، وحيث إن من المقدمات انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فلا مجال للاخذ باطلاقه في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو ما يقتضيه المورد من الكلى الذي تحته افراد ، فإنه مع وجود ذلك لا يبقى له ظهور في الاطلاق يعم الكل والكلي حتى يصح التمسك بظهوره لاثبات وجوب ما عدا الجزء المضطر إليه.

واما قوله (عليه السلام) ما لا يدرك كله لا يترك كله ، فالظاهر هو عموم المراد من الموصول لكل من الكل والكلي لولا دعوى ظهوره المنساق منه في خصوص الكل ذي اجزاء ، وعلى كل تقدير لا شبهة في دلالته على المطلوب من ثبوت التكليف بالاجزاء الممكنة من المركب وعدم سقوطه بتعذر بعض اجزائه أو قيوده « واما المناقشة » في الرواية بان لازم شمولها لكل من الكل والكلي هو ان يكون قوله لا يترك مستعملا في الارشاد والمولوية معا ، لأنه في الكلى الذي تحته افراد يكون الامر باتيان الميسور من افراد الطبيعي المأمور به بعد انحلال خطابه إلى خطابات متعددة حسب تعدد الافراد ارشاديا محضا لاستقلال العقل بوجوب الاتيان بالافراد الممكنة من الطبيعي وعدم سقوط وجوبها بسقوط الوجوب عن الافراد المتعذرة وفي الكل ذي اجزاء يكون الامر باتيان الميسور من الاجزاء مولويا ناشئا عن داعي البعث والتحريك لاقتضاء ارتباطية التكليف حينئذ سقوط الامر عن الاجزاء الممكنة بتعذر بعض اجزاء المركب ، وحيث لا جامع بينهما يلزم في فرض إرادة الأعم استعمال الامر في المعنيين ( فمندفعه ) بما حققناه في محله من أن المستعمل فيه الامر والصيغة في جميع الموارد لا يكون الا معنى واحدا وهو ايقاع النسبة التحريكية

ص: 457

بين المادة التي طرأت عليها الصيغة وبين الفاعل المخاطب بها ، وان حيث المولوية والارشادية وغيرهما انما تكون من دواعي الانشاء في مقام الاستعمال ، فإنه قد ينشأ المتكلم بداعي البعث الجدي والطلب الحقيقي فيكون بعثا حقيقيا وقد ينشأ بداعي الارشاد فيكون ارشادا وقد ينشأ بداعي التهديد فيكون مصداقا للتهديد وهكذا « فتلخص » انه لا قصور في الرواية في دلالتها على وجوب الاتيان بالاجزاء الممكنة من المركب وعدم سقوط حكمها بتعذر بعض اجزائه ( نعم ) يظهر من الشيخ قدس سره المناقشة في عموم الرواية للكل الافرادي ، بدعوى انه لو أريد من الكل فيها الافرادي يلزم لغوية قوله لا يترك كله ( لان ) المعنى حينئذ ان ما لا يدرك شيء من افراد الكلى لا يترك شيء منها وهو كما ترى ، فلا محيص من أن يكون المراد منه هو المجموعي لا الافرادي ( ولكنه ) كما ترى إذ ذاك انما يرد إذا كان النفي في الرواية متعلقا بكل فرد بحيث يكون مفاد القضية هو عموم السلب لا سلب العموم ، وهو خلاف ظاهر الرواية « فان » الظاهر منها هو كون النفي فيها متوجها إلى العموم المستفاد منه سلب العموم لا عموم السلب ، وعليه فلا يتوجه على حمل الكل على إرادة الافرادي منه محذور اللغوية كما هو ظاهر.

( واما قوله (عليه السلام) ) الميسور لا يسقط بالمعسور فلا شبهة أيضا في دلالته على المطلوب لظهوره كالرواية السابقة في عدم سقوط الميسور من كل شيء بسقوط معسوره الشامل بعمومه للاجزاء الميسورة من المركب ، بل لولا ظهور اللام فيه في كونه للجنس المساوق للشيء أمكن دعوى اختصاصه بالمركب والكل ذي.

اجزاء ، لوضوح انه انما يقال ذلك في مورد يكون نحو ارتباط بين الميسور والمعسور في التكليف بحيث يقتضي سقوطه عن المعسور سقوطه عن الميسور أيضا ولا يكون ذلك إلا في المركب والكل ذي اجزاء وإلا ففي الكلى الذي تحته افراد لا تلازم بين سقوط التكليف عن فرد لسقوطه عن الفرد الآخر بعد انحلال الخطاب واستقلال كل فرد في التكليف « وعلى كل حال » لا اشكال في أن المراد من عدم سقوط الميسور انما هو عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي والاستحبابي ، لوضوح ظهور مثل هذه العبارة في عدم سقوط ما ثبت سابقا وبقائه في العهدة لاحقا بعين ثبوته سابقا الراجع إلى ابقاء الامر السابق أيا ما كان

ص: 458

وجوبيا واستحبابيا نظير الحكم بالبقاء المستقاد من قوله (عليه السلام) لا تنقض اليقين بالشك في اخبار الاستصحاب التابع لكيفية ما حدث سابقا لزوميا أو غيره فتعم القاعدة حينئذ لكل من ميسور الواجب والمستحب بلا ورود محذور في البين ( نعم ) لو كان النفي في الرواية مسوقا لبيان انشاء حكم تكليفي راجع إلى الامر بمعاملة عدم السقوط مع الميسور من اجزاء المركب ، يلزم منه أحد المحذورين ، اما عدم دلالته على عدم السقوط لزوما ، أو عدم شموله للمستحبات ( لان ) الامر المستفاد من مثل هذا الانشاء اما مطلق الرجحان فلا يستفاد منه الوجوب في الواجبات ، أو لخصوص الرجحان اللزومي فلا تشمل القاعدة حينئذ للمستحبات ( ولكنه ) خلاف ظاهر الرواية ، فان الظاهر المنصرف منها هو كونها في مقام بيان القيام بوظائف الاحكام من حيث عدم سقوط ما ثبت سابقا في العهدة وجوبا كان أو استحبابا لا انها في مقام انشاء حكم بدوي خاص بلا نظر إلى بقاء الامر السابق فتأمل ( وكيف كان ) فلا شبهة في أنه يعتبر في هذه القاعدة ان يكون الميسور من الاجزاء المقدورة مما يعد كونه عرفا من سنخ المأمور به وبعضه وميسوره ، لان ذلك هو الظاهر المنساق من هذه الأخبار فلا اطلاق لها يشمل ما يعد بسبب قلة الاجزاء المقدورة كونه مبائنا مع الكل والمركب ( وانما الكلام ) في أن المدار في صدق الميسور على الباقي هل هو على الركن وما به قوام المركب بنحو يلزمه كون المعسور من الخصوصيات الخارجة عما به قوام الركب ، أو ان المدار على ما يفهمه العرف انه من سنخ المركب وميسوره ولولا يكون من أركانه ومقوماته. فيه وجهان ( أظهرهما الثاني ) فإنه ليس في الأدلة التعبير بالركن أو المقوم في المركبات الشرعية حتى يدور مداره في اخذ الميسور ، وانما الموجود فيها هو الامر بعدة أمور معينة ، فإذا بين الشارع للعباد موضوع حكمه وعرفهم ذلك ثم ألقى إليهم الخطاب بالأخذ بالميسور من المركب المأمور به عند تعذر الاتيان بالمجموع ولم يبين ما يدار عليه الميسور من المأمور به ، يكون المتبع في مثله هو فهم العرف في تشخيص كون الباقي ميسورا ، حيث يفهم من الخطاب المزبور ايكال تشخيص الميسور من كل شيء إلى فهم العرف فيما يرونه بحسب ارتكازهم كونه من سنخ المأمور به وبعضه وميسوره وفي ذلك لا يفرق بين الموضوعات العرفية والشرعية

ص: 459

( لان ) كون الموضوع شرعيا لا ينافي كون تشخيص السنخية بيد العرف بمقتضى ما بيناه ( فاندفع ) بذلك ما توهم من الاشكال بان في الموضوعات الشرعية لا طريق إلى تشخيص كون الباقي ميسورا إلا ببيان الشارع ، لأنه لا سبيل لفهم العرف فيها حتى يؤخذ بما يرونه ميسورا للمأمور به ، ولابد عند الشك من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية ( وجه الاندفاع ) ما عرفت من أنه كذلك إذا كان المدار في صدق ميسور الشيء على الركنية الواقعية التي يقصر فهم العرف عن تشخيصها في الموضوعات الشرعية ، وإلا فعلى ما ذكرناه من البيان لا فرق بين الموضوعات العرفية والشرعية فإنه على كل تقدير يكون المتبع في تشخيص كون الباقي ميسورا هو فهم العرف ( نعم ) يبقى الكلام في أن المدار في الميسور من الشيء على السنخية الصورية ، أو على السنخية المعنوية من حيث وفاء الاجزاء الباقية بمعظم الغرض القائم بالكل والمركب وان لم يصدق عليها الميسور بحسب الصورة ، غاية الامر انه جعلت السنخية الصورية التي يراها العرف في صدق الميسور من الشيء حسب ارتكازهم طريقا إلى السنخية المعنوية والوفاء بمعظم الغرض في مقام الحكم بوجوب الاتيان بالاجزاء الباقية ( فيه وجهان ) فعلى الأول يكون اخراج الميسور من الشيء في بعض الموارد وادخال غير الميسور في الميسور منه اخراجا وادخالا حكميا لا حقيقيا ( بخلاف ) الثاني فإنه عليه يكون الاخراج والادخال المزبور على خلاف ما يراه العرف حقيقيا لا حكميا لرجوع ذلك في الموارد التي ثبت الحكم فيها على الخلاف إلى تخطئة الشارع العالم بالواقعيات لانظار العرف في تشخيص الميسور عن غيره وان ما يرونه ميسور الشيء بحسب الصورة أو غير ميسور لا يكون ميسوره بحسب الوفاء بمعظم المصلحة ، لا انه يرجع إلى تخصيص تلك القاعدة في تلك الموارد كما على الأول ( وبعد ) انتهاء الامر إلى ذلك لا يبعد ترجيح الأول ، فان الالتزام بتخطئة العرف في موارد ثبوت الحكم على الخلاف مبني على أمرين أحدهما اثبات كون نظر دليل القاعدة في الاخذ بالميسور من الشيء إلى الميسور منه في مقام الوفاء بالغرض ( وثانيهما ) التفات العرف إلى هذه الجهة بجعلهم السنخية في تشخيص الميسور طريقا إلى السنخية المعنوية من حيث الوفاء بمعظم الغرض ( وكلا الأمران ) في نهاية المنع ، اما الثاني فظاهر ، لوضوح عدم التفات العرف

ص: 460

في تشخيص الميسور خصوصا في الشرعيات إلا إلى السنخية الصورية ( واما الأول ) فلانه لا طريق إلى احراز كون نظر دليل القاعدة إلى الميسور في مقام الوفاء بالغرض « نعم » من حكم الشارع بعدم السقوط يستفاد وفاء الميسور بمقدار من الغرض القائم بالمجموع ، لا انه مأخوذ في نفس الميسور الذي هو الموضوع في القضية وبين الامرين فرق واضح « وعليه » فلا يكون موضوع القاعدة إلا الميسور بحسب الصورة الذي يراه العرف بلا كونه طريقا إلى الميسور المعنوي بحسب الوفاء بالغرض وعليه فلا يكون لموارد قيام الدليل على خلاف القاعدة مساس بباب التخطئة لانظار العرف في فهم مصداق الموضوع ، بل يكون ذلك مخصصا لها محضا « وعليه » يشكل التمسك بعموم القاعدة في أبواب العبادات في غير مورد عمل الأصحاب بها ، حيث إن كثرة ورود التخصيص عليها أوجبت وهنا في عمومها بنحو يحتاج في العمل بها إلى عمل الأصحاب « نعم » على المسلك الآخر الراجع موارد قيام الدليل فيها على خلاف القاعدة اخراجا أو ادخالا إلى تخطئة العرف في تشخيص مصداق الميسور ، يمكن ان يقال بعدم اضرار كثرة موارد الردع بالأخذ بما يراه العرف كونه ميسور الشيء لاستكشاف كونه هو الميسور منه في مقام الوفاء بمعظم الغرض ( لان ) مقتضى الاطلاق المقامي حينئذ هو ايكال الشارع فهم الميسور من كل شيء إلى أنظار العرف بجعل ما يرونه ميسور الشيء في الصورة طريقا إلى الميسور منه معنى في مقام الوفاء بالغرض ، ولازمه هو الاخذ بما يراه العرف كونه ميسور الشيء إلا في الموارد التي ثبت الردع فيها ببيان الشارع ( ثم الظاهر ) انه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين ان يكون المتعذر من الاجزاء أو الشرائط فمع صدق الميسور عرفا على الفاقد للشرط المتعذر تجرى القاعدة المزبورة ولا وجه لتخصيصها بما إذا كان المتعذر خصوص الجزء.

( بقى الشيء ) وهو انه إذا كان للمركب بدل اضطراري كالوضوء والغسل وتعذر بعض اجزائه ، ففي وجوب الاتيان بالناقص أو الانتقال إلى البدل أو التخيير بينهما ( وجوه ) من أن الانتهاء إلى البدل انما هو في صورة عدم التمكن من المبدل وقاعدة الميسور بجريانها تقتضي التمكن من المبدل فلا ينتقل إلى البدل ، ومن

ص: 461

ان البدل يكون وجودا تنزيليا للمبدل ومع التمكن من الاتيان به ينتفى موضوع القاعدة لان جريانها انما يكون في ظرف تعذر الواجب المنتفي بالتمكن من البدل ، ومن أن كلا من الميسور والبدل وجود تنزيلي للواجب ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فيتخير ( ولكن ) الوجه الأول بعيد غايته ، فإنه بعد ما لم يكن مفاد القاعدة هو تنزيل الباقي منزلة الكل والمركب وانما مفاده انشاء أو اخبارا هو عدم سقوط ما ثبت في العهدة من التكليف المتعلق بالاجزاء الباقية ، يتوقف تقديمها على البدل الاضطراري على كون نظر دليل البدلية إلى صورة تعذر المبدل بجميع مراتبه ( وإلا ) فعلى ما هو الظاهر منه من كون نظره إلى صورة تعذر مبدله ولو بمرتبة الكاملة منه ، فلا مجال في الفرض لتقديم القاعدة عليه ( وكذلك الوجه الثاني ) فبعده أيضا انما هو لعدم اطلاق لدليل البدلية يقتضي قيامه مقام المبدل في الوفاء بجميع مراتب مصلحته ، لان غاية ما يقتضيه انما هو قيامه في الوفاء ببعض مراتب مصلحته ، لا بتمامها ، فيتعين الوجه الأخير وهو التخيير بين الاتيان بالمبدل ناقصا ، وبين الاتيان ببدله الاضطراري.

( فرعان ) الأول إذا دار الامر بين سقوط الجزء أو الشرط لتعذر الجمع بينهما في الامتثال ، ففي وجوب صرف القدرة إلى الجزء أو إلى الشرط ، أو التخيير بينهما مطلقا أو في صورة عدم احراز مزية لأحدهما ملاكا ( وجوه ) أقواها الأخير كما هو الشأن في كلية المتزاحمين ( الثاني ) لو دار الامر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، أو كونه جزء أو زيادة مبطلة كالجهر بالقراءة يوم الجمعة أو الجهر بالبسملة في الركعتين الأخيرتين ، وكتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة ( وحكمه ) قد تقدم سابقا من كونه هو الاحتياط ، لا التخير كما توهم ، لمكان العلم الاجمالي بين المتبائنين من وجوب إحدى الصلاتين عليه اما بدون المشكوك فيه أو معه ، هذا تمام الكلام في الجزء والشرط.

خاتمة فيما يعتبر في العمل بالأصول

والكلام فيها يقع تارة في الاحتياط ، وأخرى في البراءة ( اما الاحتياط ) فالظاهر أنه لا يعتبر في العمل به أزيد من تحقق موضوعه وهو احتمال التكليف ، ويكفي

ص: 462

في حسنه مجرد احراز الواقع المشكوك فيه ولو كان على خلافه دليل اجتهادي ، غايته انه مع وجوده لا يجب الاحتياط ، لا انه لا يجوز معه الاحتياط ( فان ) مرجع الامر بالغاء احتمال خلاف الامارة انما هو الغائه في مقام التعبد به عملا ، لا في مقام تحصيل الواقع رجاءا ، فيجوز للمكلف حينئذ ان يعمل أولاً بما يقتضيه الاحتياط ثم العمل بما تقتضيه الحجة كما يجوز له العكس ولو أن ذلك مستلزما لتكرار العمل خارجا ، كما لو قامت الامارة المعتبرة على وجوب صلاة الجمعة يوم الجمعة في عصر الغيبة واحتمل كون الواجب في عصر الغيبة هو خصوص الظهر ( وتوهم ) لزوم العمل حينئذ أولاً بما تقتضيه الحجة ، ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط ، بخيال ان في صورة العكس الغاء للتعبد بالامارة عملا ، لأنه عين الاعتناء باحتمال مخالفة الامارة للواقع ( مدفوع ) بما عرفت من أن غاية ما تقتضيه حجية الامارة انما هو وجوب العمل على طبق مفادها الذي هو وجوب صلاة الجمعة ، واما عدم جواز فعل ما يخالف مفادها لأجل رعاية احراز الواقع فلا يقتضيه دليل الامارة ، وإلا لاقتضى عدم جواز رعاية جانب الاحتياط حتى بعد العمل بما تقتضيه الامارة ( وبالجملة ) يكفي في العمل بالاحتياط مجرد تحقق موضوعه وهو احتمال التكليف ولا يعتبر فيه شيء سوى ذلك ، فمتى تحقق موضوعه يحكم العقل بحسنه ولو كان مستلزما للتكرار وكان المكلف متمكنا من إزالة الشبهة بالفحص ، وهذا في التوصليات مما لا خلاف فيه ولا اشكال ( واما في العبادات ) فقد أشكل جريانه فيها قبل الفحص عن الأدلة لوجهين ( أحدهما ) من جهة استلزامه للاخلال بقصد الوجه والتمييز المعتبر في صحة العبادة ( فان ) المشهور على ما حكى على المنع عن جريان الاحتياط في العبادات مع التمكن من إزالة الشبهة بالرجوع إلى الأدلة المثبتة لوجه الفعل ، وعلى ذلك أيضا بنوا على بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مع التمكن من أحدهما وجعلوا الاحتياط فيها على خلاف الاحتياط ( وثانيهما ) من جهة اخلاله بالجزم بالنية المعتبرة في تحقق الإطاعة عقلا حال الاتيان بالعبادة ( بتقريب ) ان للامتثال مراتب أربعة ، الأولى الامتثال التفصيلي ، الثانية الامتثال الاجمالي ، الثالثة الامتثال الظني ، الرابعة الامتثال الاحتمالي ، وانه لابد بحكم العقل في الانتقال إلى المرتبة اللاحقة من كونه في صورة تعذر المرتبة السابقة

ص: 463

لها ، وبدونه لا تتحقق حقيقة الإطاعة عقلا ( لان ) حقيقة الإطاعة هي المطاوعة الراجعة إلى كون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بنحو ينبعث عن بعثه ويتحرك بتحريكه ، وهذا المعنى يتوقف على علم المأمور بأمر الامر وبعثه نحو المأمور به ، وبدونه لا يكاد انبعاثه عن امره وبعثه حقيقة فلا يتحقق حقيقة الإطاعة والامتثال ، ولازمه هو عدم جواز الانتقال من المرتبة الأولى إلى المراتب اللاحقة إلا في صورة تعذر المرتبة السابقة وعدم التمكن من الامتثال التفصيلي الذي هو حقيقة الإطاعة ( فان ) الانبعاث عن الامر المحتمل وان كان مرتبة من العبودية ونحوا من الطاعة عند العرف والعقلاء ( ولكنه ) بعد ما لا يكون ذلك انبعاثا حقيقة يحتاج أصل حسنه بحكم العقل إلى كونه في صورة عدم التمكن من الانبعاث عن البعث الجزمي ، وحيث * ان الامتثال في جميع موارد الاحتياط حتى الموارد المقرونة بالعلم الاجمالي يكون احتماليا ، باعتبار عدم العمل بتعلق البعث بالعمل المأتي به حال صدوره من العامل ، فلا محالة يتوقف حسنه العقلي على عدم التمكن من الامتثال الجزمي التفصيلي بإزالة الشبهة بالفحص عن الواقع ، وبذلك يختص أصل حسنه بما بعد الفحص عن الأدلة وعدم الظفر بما يوجب إزالة الشبهة عن الواقع ، هذا * ولكن الانصاف * انه لا وقع لهذا الاشكال بشيء من الوجهين المزبورين ( اما الوجه الأول ) فلما فيه من منع اعتبار شيء من قصد الوجه والتمييز أو قصد الجهة التي اقتضت وجوب الإعادة أو استحبابها في صحة العبادة وفى التقرب المعتبر فيها « فان » اعتبار هذه الأمور في العبادة اما ان يكون لأجل توقف صدق الإطاعة عليه عقلا ، أو يكون ذلك لقيام دليل خاص عليه * وهما ممنوعان * اما الأول فلوضوح صدق الإطاعة والامتثال عقلا وعرفا باتيان المأمور به بقصد الامر الواقعي وان لم يعلم بوجوبه أو استحبابه ( واما الثاني ) فلا سبيل إلى دعواه لخلو الأدلة عما يدل على اعتبار شيء من ذلك في العبادة ، ولا أقل من الشك في ذلك فتجري فيه البراءة كالشك في أصل التعبدية والتوصلية ، كما تقدم بيانه في أول الكتاب وفى مبحث التعبدية والتوصلية ، بل وعلى فرض القول بالاشتغال العقلي في نحو هذه القيود باعتبار رجوع الشك فيها بعد عدم كونها من القيود الممكن اخذها في المأمور به إلى الشك في الخروج بدونها عن عهدة امتثال الامر المتعلق

ص: 464

بالعبادة ، يمكن التمسك في نفى اعتبارها في الغرض بالاطلاقات المقامية * فان * مقتضى الاطلاق المقامي هو عدم اعتبار ما يشك في دخله في الغرض من نحو هذه القيود الخفية المغفول عنها غالبا ، بل ويمكن التمسك في نفى اعتبارها بالاطلاق اللفظي أيضا بما بيناه في مبحث التعبدي والتوصلي وحققناه أيضا في أول الكتاب في مبحث العلم الاجمالي فراجع هناك ( واما الوجه الثاني ) ففيه منع اعتبار خصوص الانبعاث عن الامر الجزمي التفصيلي في تحقق العبودية وصدق الإطاعة الحقيقية بل القدر المعتبر في تحقق القرب والطاعة عقلا انما هو مطلق الانبعاث عن امر المولى جزميا كان أو رجائيا ، ففي الأخير أيضا تتحقق حقيقة القرب والطاعة لان مرجعه إلى جعل امره المحتمل داعيا له حقيقة لان يتحرك من قبله ، غير أن تحريكه يكون بواسطة احتماله ، فكل من الجزم بالامر واحتماله حينئذ يكون واسطة في محركية الامر. والتحريك والانبعاث في الصورتين يكون من قبل امر الشارع ( وان شئت ) قلت إن شرط محركية الامر هو التفات المأمور إليه اما جزما أو احتمالا وبكل منهما يتحقق محركية الامر وباعثيته على الاتيان بالعمل وبذلك تتحقق حقيقة القرب والطاعة عقلا ويصدق الامتثال عرفا ( وحينئذ ) فحصر صدق حقيقة الانبعاث والطاعة بصورة الجزم بالامر بالعمل حال صدوره من العامل لا يكون إلا مصادرة محضة ، مضافا إلى ما يلزمه من عدم صحة الامتثال والإطاعة الاحتمالية مطلقا ولو في ظرف عدم التمكن من الامتثال الجزمي التفصيلي لعدم كون مثله إطاعة وانبعاثا حقيقة ، وهو كما ترى لا يلتزم به القائل المزبور ( فتلخص ) ان المعتبر عقلا في حقيقة القرب والطاعة هو مطلق الانبعاث عن امر المولى جزميا أو احتماليا ، وانه كما يصدق الامتثال ويتحقق حقيقة الطاعة في صورة كون الانبعاث عن الامر بواسطة الجزم به ، كذلك تتحقق في صورة كون الانبعاث عنه بواسطة احتماله ، هذا ( ولا أقل ) من الشك في ذلك فتجري فيه البراءة على نحو جريانها في الشك في دخل قصد الوجه والتمييز ، وفى أصل اعتبار القرب عند الشك في التعبدية والتوصلية ( واما توهم ) ان المرجع حينئذ يكون هو الاشتغال لا البراءة باعتبار كون الترديد في المقام بين التعيين والتخيير لاحتمال تعين خصوص الامتثال التفصيلي مع التمكن منه في تحقق القرب والطاعة ، لا بين الأقل

ص: 465

والأكثر كما في الشك في اعتبار قصد الوجه والتمييز ، إذ لا جامع بين الامتثال التفصيلي والاحتمالي حتى يندرج بذلك في الأقل والأكثر ، فلابد من اجراء حكم المتبائنين في المقام من وجوب الاحتياط والاخذ بالتعيين « فمدفوع » بان الجامع والقدر المشترك بينهما هو مطلق القرب والطاعة الجامع بين الامتثالين ، فيندرج بذلك في الأقل والأكثر حيث يكون المتيقن اعتباره هو مطلق القرب والطاعة الجامع بين نحوي الامتثال الجزمي والاحتمالي كما في كلية التشكيكيات وكان الشك في اعتبار مرتبة زائدة ، كيف ولازم المنع عن وجود الجامع بينهما هو المنع عن أصل كون الامتثال الاحتمالي من مراتب القرب والطاعة وذلك كما ترى ، فإنه مضافا إلى كونه خلاف ما يقتضيه الوجدان وما عليه سيرة العرف والعقلاء في مقام الطاعة والعبودية ، مناف لما صرح به القائل المزبور من جعل الامتثال الاحتمالي مرتبة من مراتب القرب والطاعة ( فان ) لازم ذلك هو الالتزام بوجود القدر المشترك بين الامتثال الجزمي والاحتمالي ولازمه المصير إلى اندراجه في الأقل والأكثر لا في التعيين والتخيير ( فتلخص ) ان التحقيق هو جواز العمل بالاحتياط عند تحقق موضوعه وهو احتمال التكليف في العبادات وغيرها ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة ( من غير ) فرق بين كون الشبهة موضوعية أو حكمية ، ولا بين كونها بدوية أو مقرونة بالعلم الاجمالي ، ولا بين الالزامية وغيرها ، ولا بين صورة استلزامه لتكرار العمل خارجا وبين عدم استلزامه لذلك ( فإنه ) في جميع تلك الصور يجوز للمكلف العمل بما يقتضيه الاحتياط وترك الامتثال التفصيلي ولو مع التمكن منه بإزالة الشبهة بالفحص.

( فرعان ) الأول لو اشتبه ثوبه الطاهر بثوب آخر نجس ولم يتمكن من تطهير أحدهما والصلاة فيه اما لفقد الماء أو لضيق الوقت أو غير ذلك ، فعلى ما اختبرناه من عدم اعتبار الامتثال التفصيلي مع التمكن منه في صحة التقرب بالعبادة ، لا اشكال في لزوم الصلاة في الثوبين مكررا ( واما ) على القول باعتبار الامتثال التفصيلي ، ففي تقديم الامتثال التفصيلي على شرطية الستر ولزوم الاتيان بصلاة واحدة عاريا كما عن محكى الحلي قده ، أو تقديم شرطية الستر ولزوم الاتيان بصلوتين في ثوبين أو التخيير بينهما ، وجوه ( ولكن ) الحري ان يقال

ص: 466

ان ثبوت شرطية الستر في الصلاة ، تارة يكون بدليل لفظي له اطلاق يقتضى اعتباره فيها مطلقا حتى في حال اشتباهه بالنجس ، وأخرى يكون بدليل لي لا يكون له فيها هذا الاطلاق من اجماع ونحوه ( فعلى الثاني ) يلزم الاتيان بالصلاة عاريا للشك في شرطية الستر حينئذ للصلاة ( لان ) القدر المتيقن من الشرطية حينئذ انما هو في ظرف عدم اشتباهه بالنجس واما في ظرف اشتباهه به فيشك في أصل اعتباره ، فتجري فيه البراءة ، ولازمه كما ذهب إليه الحلي قدس سره هو وجوب الصلاة عاريا « واما على الأول » فاللازم هو تكرار الصلاة في الثوبين ، ولا يزاحمه حينئذ قضية شرطية الامتثال التفصيلي لان الشرطية على القول به انما هو في صورة التمكن من ذلك ، وبعد اقتضاء اطلاق دليل شرطية الستر وجوب تحصيله يصير المكلف غير متمكن من الامتثال التفصيلي ، ومع عدم تمكنه منه بمقتضى اطلاق دليل شرطية الستر تسقط شرطية الامتثال التفصيلي ( ولكن ) حيث إن الدليل على شرطية الستر هو ظواهر الأدلة ، فالتحقيق هو سقوط الامتثال التفصيلي ولزوم حفظ شرطية الستر بتكرار الصلاة في الثوبين ( وقد يقال ) بلزوم تقديم شرطية الستر على شرطية الامتثال التفصيلي بوجه آخر غير ما ذكرنا وهو لزوم الدور في فرض العكس « بتقريب » ان ثبوت اعتبار الامتثال التفصيلي حينئذ يتوقف على التمكن منه وهو يتوقف على سقوط شرطية الستر وسقوطه يتوقف على ثبوت اعتبار الامتثال التفصيلي فيدور « ولكن » فيه نظر فإنه يمكن تقريب الدور في طرف العكس ، بدعوى ان سقوط الامتثال التفصيلي حينئذ يتوقف على بقاء شرطية الستر في هذا الحال وبقائه على الشرطية يتوقف على سقوط اعتبار الامتثال التفصيلي فيدور « ولا محيص » في أمثال المقام من أن يقال انه من باب التزاحم وملازمة وجود كل واحد مع عدم الآخر فيكون الدور من الطرفين معيا ولا يضر مثله « ومعه » لا يبقى مجال دعوى سقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بمثل البيان المزبور « وحينئذ » فالأولى في وجه سقوط اعتبار الامتثال التفصيلي هو ما ذكرناه فتدبر.

( الثاني ) انه لو عرض في أثناء الصلاة ما يوجب الترديد واتمام العبادة بداعي احتمال الامر ، فتارة يكون ذلك من جهة طرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية

ص: 467

وأخرى من غير تلك الجهة « فعلى الأول » فان قلنا بعدم جريان استصحاب الصحة في الاجزاء المأتى بها عند طرو ما يحتمل المانعية كما هو مختار الشيخ قدس سره ، وعدم جريان استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية عند طرو ما يحتمل القاطعية كما اختاره بعض الاعلام حسب ما تقدم منه من ارجاع القاطع إلى المانع وجعله إياهما على نمط واحد ، فلا اشكال في أن لازمه بناء على اعتبار الامتثال التفصيلي هو وجوب القطع واستيناف الصلاة عن داعي الامر الجزمي ، حيث لا يزاحمه حينئذ دليل حرمة الابطال بناء على شموله لمطلق ابطال العبادة لان الشبهة حينئذ تكون مصداقية لاحتمال انبطال الصلاة بطرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية « واما ان قلنا » بجريان استصحاب الصحة عند ما يحتمل المانعية واستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية بطرو ما يحتمل القاطعية كما هو المختار على ما تقدم بيانه ، فعلى القول باعتبار الامتثال التفصيلي ، ففي تقديم جانب حرمة الابطال ووجوب اتمام الصلاة بداعي احتمال الامر ( أو تقديم ) اعتبار الامتثال التفصيلي ووجوب قطع الصلاة واستينافها بداعي الامر الجزمي نظرا إلى التمكن من ذلك باستيناف العمل بعد قطعه « أو التخيير » بين القطع والاستيناف وبين اتمامه بداعي احتمال الامر الواقعي ، « وجوه وأقوال » « ولكن الأظهر » هو الوجه الأخير ، نظرا إلى كونه من باب المزاحمة بين حرمة الابطال المقتضي لوجوب الاتمام ، وبين اعتبار الامتثال التفصيلي المقتضي لوجوب القطع والاستيناف « فإنه » بعد عدم قدرة المكلف على الجمع بين التكليفين في الامتثال وعدم احراز الأهمية في أحدهما يكون الحكم فيه هو التخيير كما في كلية المتزاحمين « هذا إذا كان » الترديد في الأثناء من جهة طرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية « واما لو كان ذلك » من غير تلك الجهة بحيث يقطع بصحة العبادة من غير ناحية قصد الامتثال التفصيلي ، كما لو عر ض الشك في فعل من أفعال الصلاة كالتشهد مثلا في الأثناء وتردد بين كون شكه فيه قبل تجاوز المحل حتى يجب عليه فعل المشكوك فيه أو بعده حتى يجب عليه المضي في الصلاة ، حيث إن هذه الصلاة حالها كحال قبل عروض الشك في كونها مما يقطع بصحتها ، الا ان عروض الترديد فيها كان من جهة قصد الامتثال التفصيلي « وبالجملة » ففي هذا الفرض أيضا تجري الوجوه الثلاثة المتقدمة ، والتحقيق

ص: 468

فيه أيضا هو التخيير ، إذ بعد القطع بصحة الصلاة وجريان حرمة الابطال تقع المزاحمة بين حرمة الابطال واعتبار الامتثال التفصيلي وبعد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الامتثال وعدم احراز أهمية أحد التكليفين يحكم العقل فيه بالتخيير ( واما ما توهم ) من المنع عن التخيير في المقام ، بدعوى ان الحكم بالتخيير في المتزاحمين مقصور بالتكاليف الاستقلالية ، واما التكاليف الغيرية فلا تصل النوبة فيها إلى التخيير لامكان الجمع بين القيدين المتزاحمين ولو بتكرار العمل ( فمدفوع ) بمنع القدرة على الجمع بين التكليفين بالنسبة إلى هذا الفرد من الصلاة ( فان ) هذا الفرد كما يكون متعلقا لحرمة الابطال الذي هو تكليف نفسي استقلالي ، كذلك يكون مورد الشرطية الامتثال التفصيلي ، إذ مورده ومحله وان كان هو الطبيعة ، ولكنها بعد أن كانت على نحو العموم والسريان فلا محالة تشمل هذا الفرد أيضا وبعد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في هذا الفرد يكون الحكم فيه حسب اعترافه هو التخيير ( واما دعوى ) امكان الجمع بين القيدين في المقام بتكرار العمل « ففيه » ما لا يخفى فإنه باتمام هذا العمل يحتمل كونه هو المأمور به واقعا ومع هذا الاحتمال لا يكاد يتصور القدرة على الإطاعة التفصيلية لا بالإعادة ولا بهذا الفرد المأتى به ، ومن هنا اعترف به القائل المزبور فيما ذكره في الجواب عن الوجه الرابع في المسألة الذي مقتضاه هو الجمع بين الوظيفتين ( هذا تمام الكلام في الاحتياط ) وقد عرفت ان المختار فيه هو عدم اعتبار شيء في جريانه سوى تحقق موضوعه وهو احتمال التكليف.

( واما البراءة ) فظاهر الأصحاب رضوان اللّه عليهم في غير الشبهات الموضوعية هو الوفاق على اعتبار الفحص فيها وعدم جريانها إلا بعد استفراغ الوسع في الأدلة واليأس عن الظفر بما يخالفها من الطرق الشرعية ( وتنقيح الكلام في ذلك يقع من جهات « الأولى » في اعتبار الفحص وعدمه « الثانية » في بيان مقداره « الثالثة » في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه « الرابعة » في صحة العمل المأتى به قبل الفحص وعدمه ( اما الجهة الأولى ) فالكلام فيها يقع تارة في البراءة العقلية ، وأخرى في البراءة الشرعية ( اما البراءة العقلية ) فيمكن ان يقال ان مقتضى القاعدة هو اشتراط الفحص فيها ، نظرا إلى دعوى ان اللابيان

ص: 469

الذي هو موضوع حكم العقل بقبح العقوبة عبارة عن خصوص الشك المستقر الذي لا يكون في معرض الزوال بالفحص عن الأدلة لا انه مطلق الجهل بالواقع ، فمع احتمال زواله بالفحص وتمكنه من الوصول إلى الواقع لا يكاد يحرز الموضوع المزبور ومع عدم احرازه لا يكون للعقل حكم بالقبح ، بل حينئذ يجئ احتمال الضرر والعقوبة فيتبعه حكم العقل بوجوب دفعه « نعم » ليس للعقل حينئذ حكم بحجية الاحتمال ومنجزيته للواقع نظير حكمه بحجة الظن في ظرف الانسداد لدى المشهور حتى يلزمه استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع ولو لم يكن له طريق واصل إليه على تقدير فحصه ، وانما يكون ذلك من جهة احتمال الضرر الموضوع لحكمه بوجوب الدفع لعدم احراز موضوع القبح ، ونتيجة ذلك أنه تكون العقوبة على الواقع متفرعة على فرض قيام الطريق الواصل إليه إلى المكلف على تقدير ، فحصه منه ، وعليه فلو ترك الفحص وعمل على خلاف الواقع لا يكون معاقبا على مخالفة الواقع ، بل لو عوقب حينئذ فإنما يكون ذلك على تجريه محضا على القول به ( هذا ) في البراءة العقلية ( واما في البراءة الشرعية ) فمقتضاها هو عدم اشتراطها بالفحص بعكس ما اقتضته القاعدة في البراءة العقلية ، نظرا إلى اطلاق أدلتها الشامل لمطلق الجهل بالواقع ولو قبل الفحص ( وتوهم ) انصراف هذه الأدلة أيضا إلى الشك المستقر الذي لا يكون في معرض الزوال بالفحص عن الأدلة فتوافق موضوعا مع البراءة العقلية في الاختصاص بما بعد الفحص من الأدلة والطرق الشرعية ( مدفوع ) بأنه دعوى بلا شاهد ، بل الشاهد على خلافها وهو تمسك الأصحاب باطلاق مثل دليل الرفع والحجب والحلية لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ، فإنه لولا فهم الاطلاق منها لما كان وجه لتمسكهم بهذه الأدلة لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ( مؤيدا ) ذلك بما في رواية مسعدة بن صدقة من قوله (عليه السلام) الأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم بها البينة ( وعلى ذلك ) ينقلب ما أسسناه في البراءة العقلية من اقتضاء القاعدة فيها وجوب الفحص إلى عدمه ، فإنه باطلاق أدلة الترخيصات الشرعية كدليل الحلية وحديث الرفع والحجب يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص لأجل احتمال الضرر بارتفاع موضوعه ، لوضوح انه مع جريانها يجزم بعدم الضرر ، فلا يبقى معه حكم للعقل بوجوب الفحص ، كما أنه على ذلك

ص: 470

يكون عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية على القاعدة ، لا ان ذلك لاجماع تعبدي في البين كما توهم ، فمقتضى القاعدة حينئذ في جميع الشبهات موضوعية أو حكمية هو عدم وجوب الفحص فيها ، فتحتاج في الخروج عن القاعدة في كل من الشبهات الموضوعية والحكمية إلى دليل مخرج من عقل أو نقل ( وبعد ذلك ) نقول انه في الشبهات الموضوعية قام الدليل على الخروج عن القاعدة في الجملة كما في موارد النفوس والاعراض المعلوم كثرة اهتمام فيها وكذا في مسألة النصاب في الزكاة لما ورد فيها من الامر بالتسبيك عند الاشتباه ، بل ومسألة الاستطاعة المالية في الحج عند الشك فيها في وجه قوى وكذا باب الماليات كالدين المردد بين الأقل والأكثر مع ضبطه في دفتر الحساب وتمكنه من الرجوع إليه لمعرفة مقداره فان الظاهر هو بناء الأصحاب على التعدي مما ورد في باب الزكاة إلى مثل هذه الموارد ( واما في الشبهات الحكمية ) فلا اشكال في اعتبار الفحص في جريان البراءة فيها بل ومطلق الأصول النافية للتكليف ( وعمدة الوجه ) في ذلك هو دعوى العلم الاجمالي قبل الاخذ في استعلام المسائل بالفحص بواجبات ومحرمات كثيرة في المسائل المشتبه في مجموع ما بأيدينا من الاخبار المدونة في الكتب المعهودة مع كونها على نحو لو تفحصنا عنها لظفرنا بها ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو وجوب الفحص في كل مسألة مسألة وعدم جواز الاخذ بالبرائة في المسائل المشتبه الا بعده ( وقد نوقش فيه ) بكونه أعم من المدعى ( فان المدعي ) انما هو وجوب الفحص في خصوص ما بأيدينا من الكتب المعروفة ، والمعلوم بالاجمال يعم ذلك ، لان متعلق العلم هي الاحكام الثابتة في الشريعة واقعا ، لا خصوص ما بأيدينا ، فلا ينفع الفحص حينئذ مما في أيدينا في جواز الاخذ بالبرائة « ويندفع » ذلك بأنه كما يعلم ذلك كذلك يعلم اجمالا بأحكام كثيرة في خصوص ما بأيدينا من الكتب بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها فينحل العلم الاجمالي الكبير حينئذ بالعلم الاجمالي الصغير ولازمه هو الاقتصار في الاخذ بالبرائة بالفحص عما بأيدينا من الكتب * وتوهم * منع هذا العلم الاجمالي الخاص وانه ليس لنا الأعلم اجمالي واحد وهو العلم بأحكام كثيرة في الشريعة فيما بأيدينا من الكتب فعلا وغيرها مما لا تكون بأيدينا « يدفعه » قضاء الوجدان بخلافه ، ضرورة حصول هذا العلم الاجمالي الخاص لكل أحد قبل

ص: 471

اخذه في استعلام المسائل بوجود تكاليف كثيرة في الشريعة في خصوص ما بأيدينا من الكتب « كما أن » توهم الزيادة المعلوم بالاجمالي في العلم الاجمالي العام على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الخاص الموجب لعدم جواز الاخذ بالبرائة بمجرد الفحص مما في أيدينا من الكتب « يدفعه » منع مثل هذا العلم الاجمالي ، فان مجرد عدم وصول كثير من الاخبار المدونة في كتب أصحاب الأئمة عليهم الصلاة والسلام إلينا لمكان ظلم الظالمين لا يقتضى كون مضامينها من التكاليف مغايرة للتكاليف التي تضمنتها الاخبار التي بأيدينا « فان من المحتمل » كون مضامينها بعينها هي مضامين تلك الأخبار المدونة في الكتب التي بأيدينا كما هو غير عزيز أيضا ، حيث يرى بالوجدان والعيان انه يكون حكم واحد مضمونا لاخبار كثيرة تبلغ عشرين أو أزيد * ومع هذا الاحتمال * أين يبقى مجال دعوى زيادة التكليف المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي العام من التكليف المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الخاص حتى يمنع من الانحلال المزبور كما هو ظاهر * وقد نوقش * فيه أيضا بأنه أخص من المدعى ، لان مقتضى العلم الاجمالي انما هو وجوب الفحص عن الأدلة قبل الظفر بها بمقدار المعلوم بالاجمال ولو في جملة من المسائل لا بعده ، والمقصود في المقام انما هو وجوب الفحص مطلقا في كل مسألة وعدم جواز الاخذ بالبرائة الا بعد الفحص عن الأدلة فيها واليأس عن الظفر بها ، وهذا مما لا يفي به التقريب المزبور للعلم الاجمالي قلنا بان العلم التفصيلي المتأخر بمقدار المعلوم بالاجمال الأول موجب لانحلاله أو لم نقل بذلك * وبتقرير آخر * ان كان الظفر بجملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها موجبا لانحلال العلم الاجمالي وكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف فلا مقتضى لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراءة في الباقي ، وان لم يكن موجبا لذلك فلا يجوز الرجوع إلى البراءة حتى بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل لبقاء العلم الاجمالي على حاله في المؤثرية في تنجيز أطرافه وعدم كون الفحص في محتمل التكليف واليأس عن الظفر على التكليف فيه مخرجا له عن الطرفية للعلم الاجمالي ، مع أن ذلك خلاف المقصود لان المقصود هو جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل على التكليف * ويندفع * ذلك أيضا بأنه يتجه ذلك لو كان متعلق العلم الاجمالي مطلقا ، أو كان مقيدا بالظفر

ص: 472

به على تقدير الفحص ولكن كل تقريب العلم الاجمالي هو كونه بمقدار من الاحكام على وجه لو تفحص ولو في مقدار من المسائل لظفر به ( واما لو كان ) تقريبه بما ذكرناه من العلم بمقدار من الاحكام في مجموع المسائل المحررة على وجه لو تفحص في كل مسألة تكون مظان وجود محتمله لظفر به ، فلا يرد اشكال ، فإنه على هذا التقريب يترتب عليه النتيجة المزبورة وهي عدم جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ولا يجدي في رفع اثر العلم مجرد الظفر بمقدار المعلوم بالاجمال في جملة من المسائل ليكون الشك بدويا في البقية ، كما أنه يترتب عليه جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة بعد الفحص وعدم الظفر فيها بالدليل على التكليف ، فإنه بمقتضى التقييد المزبور يستكشف من عدم الظفر بالدليل فيها عن خروجها عن دائرة المعلوم بالاجمال من أول الامر ( وقد أجاب بعض الأعاظم قده ) عن الاشكال المزبور بوجه آخر وحاصله على ما في التقرير هو ان الانحلال انما يكون في مورد يكون متعلق العلم بنفسه عنوانا مرددا بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بان في هذا القطيع من الغنم موطوئة وتردد بين كونها عشرة أو عشرين ( واما لو كان ) متعلقه عنوانا ليس بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر من أول الامر ، بل المعلوم بالاجمال هو العنوان بماله في الواقع من الافراد ، وكان التردد بين الأقل والأكثر في مصاديق ذلك العنوان ، كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع بماله من الافراد وتردد البيض بين كونها عشرة أو عشرين ( ففي هذه الصورة ) لا ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، بل لابد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه ( لان العلم ) أوجب تنجز متعلقه بماله في الواقع من الافراد ( فيجب في المثال ) الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه في الواقع من افراد البيض ولا يوجب العلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها انحلال العلم الاجمالي ( وما نحن فيه ) من هذا القبيل ، لان المعلوم بالاجمال في المقام هي الاحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب وبه قد تنجز جميع الأحكام المثبتة في الكتب ، ولازمه وجوب الفحص من جميع الكتب ولو بعد الظفر بمقدار من الاحكام في بعض المسائل يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها إذ لا ينحل العلم الاجمالي باستعلام جملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم

ص: 473

بالاجمال فيها ومن هنا لا يجوز الاخذ بالأقل لو علم اشتغال ذمته بالدين لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، بل لابد من الفحص عن جميع صفحات الطومار ( وفيه ما لا يخفى ) من الفساد ضرورة عدم اقتضاء مجرد العلم بتعلق التكليف بعنوان في الخطابات الانحلالية تنجزه بالنسبة إلى جميع ما لذلك العنوان في الواقع من الافراد ولو مع عدم احراز ان المشكوك فيه من افراده ومصاديقه ، بل لابد حينئذ في تنجز التكليف بالنسبة إلى كل فرد من احراز انه من افراد ما علم تعلق التكليف به ( والا فبدونه ) تجري فيه البراءة لا محالة ( الا ترى ) انه لو ورد في الخطاب حرمة شرب الماء من كأس زيد وتردد كأسه بين الأقل والأكثر ، أو ورد حرمة اكرام العالم الفاسق وتردد افراده بين الأقل والأكثر ونحو ذلك من الأمثلة في الخطابات الانحلالية في الشبهات الموضوعية أو الحكمية ( فهل تجد ) ان أحدا يلتزم فيه بالاحتياط ، أو ترى ذلك مجرى للبرائة ( وبالجملة ) لا فرق في مرجعية البراءة في فرض انحلالية التكليف وتردده بين الأقل والأكثر بين ان يكون متعلقه عنوانا مرددا بين الأقل والأكثر ، وبين ان يكون عنوانا ليس بنفسه مرددا من الأول بين الأقل والأكثر ، وانما التردد بين ذلك في افراد ذلك العنوان ومصاديقه كما في عنوان العالم الفاسق وعنوان البيض من الغنم في المثال ، فعلى كل تقدير في فرض انحلالية التكليف يكون العلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه موجبا لانحلاله وصيرورة الشك في البقية بدويا فلا يجب في المثال المزبور الا الاجتناب عن المقدار الذي يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ويلزمه في المقام عدم وجوب الفحص في الرجوع إلى البراءة بعد استعلام جملة من الاحكام بمقدار المعلوم بالاجمال لانحلال العلم الاجمالي بالأحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب بما استعلم تفصيلا وصيرورة الشك في البقية بدويا محضا ، وحينئذ على القول بانحلال العلم الاجمالي السابق بالعلم التفصيلي البعدي يتوجه الاشكال المزبور وينحصر دفعه بما ذكرناه من البيان ( واما ما أفيد ) في مسألة الطومار عند اشتغال الذمة بالدين ، فالوجه فيه لو قلنا بذلك انما هو من جهة دعوى انصراف أدلة البراءة بما إذا كان الجهل بالواقع من جهة القصور في المحل من حيث عدم تهيئة أسباب العلم للمكلف وعدم شموله لما كان الجهل من جهة عدم نظرا لمكلف وفحصه

ص: 474

باختياره مع حصول أسباب العلم لديه ( هذا مضافا إلى ما يرد عليه من أن لازم بقاء العلم الاجمالي في المقام وعدم انحلاله هو وجوب الفحص التام عليه إلى أن يقطع بالعدم ولا يكفيه الفحص بمقدار يحصل له الاطمينان بالعدم وخروج المورد عن معرضية وجود الحكم ، مع أن المقصود في المقام كفاية ذلك المقدار في جواز الاخذ بالبرائة ( وقد استدل ) لوجوب الفحص بأمور اخر ( منها ) الاجماع القطعي قولا وعملا على عدم جواز الاخذ بالبرائة ومطلق الأصول النافية قبل الفحص واستفراغ الوسع في الأدلة ( ومنها ) الأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم كآيتي النفر والسؤال والأخبار الدالة على الحث والترغيب في التفقه والذم على ترك السؤال ، بتقريب انه لولا وجوب الفحص لم يكن وجه لايجاب السؤال والذم على تركه مع كون الشبهة بدوية الجارية فيها عموم كل شيء لك حلال وحديث الرفع والحجب ( ومنها ) الأخبار الدالة على مؤاخذة الجاهل بفعل المعاصي من جهة ترك تفقههم في الدين ، مثل قوله صلی اللّه علیه و آله فيمن غسل مجدورا اصابته جنابة فكز ومات قتلوه قتلهم اللّه الا سئلوا ألا يمموه ( وقوله (عليه السلام) ) فيمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ما كان أسوء حالك لو مت على هذه الحالة ، بتقريب ان الذم على إطالة الجلوس لاستماع الغناء انما هو لعدم تعلمه حرمه الإطالة لاستماع الغناء ( وقوله (عليه السلام) ) في تفسير قوله تعالى فلله الحجة البالغة من أنه يقال للعبد يوم القيمة هل علمت فان قيل نعم قيل فهلا عملت وان قال لا قيل له هلا تعلمت حتى تعمل حيث يدل على وجوب التعلم مقدمة للعمل وعدم جواز الاخذ بالبرائة بمجرد الشك في التكليف قبل استفراغ الوسع في الأدلة فيقيد بها أدلة البراءة ( ولكن يرد ) على الجميع أولاً بعدم صلاحية هذه الأدلة لتقييد أدلة البراءة النقلية في الشبهات البدوية ، لظهورها في الارشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره ، فعموم أدلة البراءة حينئذ واردة عليها ( لأنه ) بقيام الترخيص الشرعي على جواز الارتكاب قبل الفحص يرتفع حكم العقل بوجوب الفحص ( نعم ) لو كان مثل هذه الأخبار مسوقا لأعمال التعبد في البين بوجوب الفحص في الشبهات الحكمية البدوية لكان لتقييد أدلة البراءة بمثلها مجال ( ولكنه ) كما ترى بابي سوقها عن إفادة ذلك ، مضافا إلى مكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الاجمالي بالحكم فتكون ظاهرة أيضا في الارشاد إلى

ص: 475

حكم العقل بوجوب الفحص ( وثانيا ) بقصورها عن إفادة تمام المطلوب ، لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص فيها مؤديا إلى العلم بالواقع ، والمطلوب يعم ذلك وما لم يكن الفحص مؤديا إلى العلم بالواقع ( واما الاجماع ) فلا وثوق به لقوة احتمال كون مدرك المجمعين هو حكم العقل وهذه الأدلة « ومنها » حكم العقل بعدم معذورية الجاهل القادر على الفحص التارك له واستحقاق العقوبة عند تأدية ترك فحصه للوقوع في مخالفة الواقع * وتقريبه * من وجهين * الأول * حكمه بمنجزية احتمال التكليف وبيانيته للواقع قبل الفحص عن الأدلة نظير حكمه بحجية الظن في ظرف الانسداد على الحكومة وحكمه بوجوب النظر في المعجزة لاحتمال صدق مدعى النبوة ( الثاني بما قربناه من كونه لأجل احتمال الضرر الموضوع لحكمه بوجوب دفعه لعدم استقرار الجهل الذي هو الموضوع لحكمه بقبح العقوبة والمعذورية لاحتمال ان يكون في البين طريق موصل إلى التكليف المحتمل وتمكنه من الوصول إليه ( ويرد عليه ) أيضا ما تقدمت الإشارة إليه من ورود اطلاق أدلة البراءة الشرعية المثبتة للترخيص في الارتكاب على الحكم العقلي المزبور بكلا تقريبه.

( الجهة الثانية ) في مقدار الفحص الواجب ، والظاهر أنه ليس له بنحو الكلية حد خاص وقدر معين ، فان المدار فيه انما هو على ما يحصل معه اليأس عن وجود الدليل فما؟ بأيدينا من الكتب بنحو يستقر معه الشك في الواقعة ، ويخرج عن معرضية الزوال على مسلك من اعتبر الفحص من جهة حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل أو منجزية نفس احتمال التكليف قبل الفحص ، وتخرج معه الواقعة عن الطرفية للعلم الاجمالي على مسلك من اعتبره لأجل العلم الاجمالي كما قربناه ، ويختلف مقدار ذلك باختلاف الاعصار بل الأشخاص أيضا ، فالواجب على المكلف حينئذ هو بذل الجهد واستفراغ الوسع لتحصيل الأدلة فيما بأيدينا من الكتب وفى فحاوي كلمات الأصحاب لتحصيل الاجماع ، بل اللازم أيضا الفحص عن أفكارهم في مقام تطبيق القواعد والكبريات على الموارد ، إذ لعله قد خفى عليه شيء وبالفحص عن آرائهم يحصل له رأى آخر على خلاف رأيه الأول ( وعلى كل حال ) لابد في الفحص من بلوغه إلى حد يحصل معه اليأس العادي عن الظفر بالدليل على معنى بلوغه بمقدار

ص: 476

تقتضي العادة بأنه لو كان في البين دليل على حكم الواقعة لوصل إليه بهذا المقدار من الفحص ولا يعتبر فيه أزيد من ذلك ، ولعل من حدده بالخروج عن مظان الوجود أو بالعسر والحرج يريد به ما ذكرناه ، لملازمة الخروج من مظان الوجود مع اليأس العادي عن وجوده ، وكذلك العسر والحرج ، فان الظاهر هو إرادة النوعي منها لا العسر والحرج الشخصي ، ومثله يلازم اليأس العادي عن وجود الدليل على حكم الواقعة.

( الجهة الثالثة ) في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه ( والأقوال ) فيه ثلاثة ( أحدها ) ، هو المنسوب إلى المدارك من استحقاق العقوبة على ترك الفحص والتعلم مطلقا صادف عمله الواقع أم خالفه * ثانيها * ، يظهر من الشيخ قده واختاره بعض الأعاظم أيضا من استحقاق العقوبة على ترك الفحص والتعلم لكن لا مطلقا بل عند أدائه إلى مخالفة الواقع * ثالثها ما نسب إلى المشهور من استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع لو اتفق لا على ترك التعلم والفحص ، فمن شرب العصير العنبي من غير فخص عن حكمه يستحق العقوبة ان اتفق كونه حراما في الواقع ، وان لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب الا من حيث تجريه على القول به * ومنشأ * هذا الخلاف هو الخلاف في وجوب التعلم المستفاد من العمومات المتقدمة من نحو قوله هلا تعلمت من حيث كونه وجوبا نفسيا استقلاليا كسائر التكاليف النفسية الاستقلالية الموجبة للعقوبة على مخالفتها ، أو تهيئا انشاء لأجل تهئ المكلف بالفحص وتعلم الاحكام لامتثال الواجبات والمحرمات الثابتة في الشريعة * أو كونه * وجوبا طريقيا كسائر الاحكام الطرقية الثابتة في موارد الأصول والامارات المثبتة الموجبة لاستحقاق العقوبة على مخالفتها عند مصادفتها للواقع * أو وجوبا * شرطيا من جهة دعوى شرطية الفحص تعبدا لحجية أدلة الاحكام والأصول النافية * أو كونه * وجوبا مقدميا غيريا نظرا إلى دعوى مقدميه الفحص والتعلم للعمل بأدلة الاحكام ( أو كونه ) ارشاديا محضا إلى حكم العقل بلزوم الفحص للفرار عن العقوبة المحتملة اما لأجل العلم الاجمالي ، أو لاستقرار الجهل الموجب لعذره ، أو لحكمة بمنجزية احتمال التكليف قبل الفحص بناء على عدم اطلاق لأدلة البراءة الشرعية يشمل مطلق الشك في التكليف ولو قبل الفحص ( ولكن التحقيق ) هو ما عليه المشهور ، لاباء مثل هذه العمومات عن كونها

ص: 477

مسوقة لأعمال تعبد في البين يقتضى كونه اي التعلم واجبا نفسيا أو شرطيا ، وظهور سوقها في كونها للارشاد إلى ما هو المغروس في الذهن من حكم العقل بلزوم الفحص في الشبهات الحكمية وعدم جواز الاخذ بالبرائة فيها قبل الفحص ، اما بمناط العلم الاجمالي بوجود التكليف في المشتبهات على التقريب المختار ، أو بمناط وجوب دفع الضرر المحتمل لعدم استقرار الجهل الموجب لعذره مع عدم اطلاق أيضا لأدلة البراءة الشرعية يشمل مطلق الشك في التكليف ( كما يشهد ) لذلك أيضا افهام العبد بما قيل له من قول هلا تعلمت وعدم تمكنه من الجواب بعدم علمه بوجوب التعلم ، فإنه لولا سوق مثل هذه الأوامر للارشاد إلى ما يحكم به العقل من وجوب الفحص والتعلم للفرار عن العقوبة المحتملة وعدم معذورية الجاهل مع التقصير في مخالفة التكليف الواقعي ، لكان له ان يجيب بعدم علمه بوجوب الفحص والتعلم كما أجاب بذلك أولاً حين ما قيل له هل عملت ( وحينئذ ) فلا مجال لرفع اليد عن ظهور هذه الأوامر في إرادة الارشاد بحملها على الوجوب النفسي الاستقلالي أو التهئ أو الوجوب الشرطي ( كما لا مجال ) أيضا لحملها على الوجوب الطريقي كما افاده بعض الأعاظم قده ، بل لا يصح ذلك في المقام ( لان الامر الطريقي ) كما ذكرناه غير مرة هو ما يكون بحسب لب الإرادة في فرض الموافقة عين الإرادة الواقعية ويكون موضوعه عين موضوعها بحيث يكون امتثاله والعمل على وفقه عين امتثال الامر الواقعي ، كما يكون ذلك في جميع الأوامر الواردة في موارد الامارات والأصول المثبتة حتى مثل ايجاب الاحتياط ( ومن المعلوم ) بالضرورة انه لا يكون المقام كك ، لوضوح مبائنة الامر بتعلم حكم الصلاة مثلا مع الامر بالصلاة لاختلاف موضوعهما وعدم كون تحصيل العلم بأحكام الصلاة عين فعل الصلاة وامتثال الامر بها ( ومعه ) كيف يمكن توهم كون الامر بتحصيل الفحص والتعلم أمرا طريقيا ( الا ) ان يجعل الامر بالفحص والتعلم كناية عن لازمه الذي هو ايجاب الاحتياط والنهي عن مخالفة التكاليف الواقعية المحتملة ، فيصلح حينئذ للطريقية ، ولكنه عليه يتعين كونه للارشاد محضا ، حيث لا مجال لأعمال المولوية بعد استقلال العقل بوجوبه وحكمه بعدم معذورية الجاهل مع تقصيره في ترك تحصيل الواقع ( نعم ) يتجه ذلك بناء على عدم حكم العقل بلزوم الفحص ، اما من جهة عموم اللابيان لمطلق الجهل بالواقع ، أو من جهة اطلاق أدلة البراءة الشرعية وشمولها لمطلق

ص: 478

الجهل بالواقع ولو قبل الفحص كما قويناه سابقا مع المنع عن تمامية تقريب العلم الاجمالي المذكور سابقا لوجوب الفحص ( فإنه على هذا المبنى ) يتعين حمل تلك الأوامر على المولوي الطريقي ، لعدم تأتي الارشادية فيها مع جريان البراءة ولو شرعية وحكم العقل بعدم وجوب الاحتياط والفحص ، وبعد كونها مسوقة لأعمال تعبد في المبين يقتضى وجوبه نفسيا لجهة موجبة لحسنه ذاتا أو شرطيا لحجية الأصول النافية ( واما احتمال ) كون الامر بالفحص والتعلم أمرا غيريا ، فيدفعه انتفاء ملاك المقدمية فيه لوضوح انه لا يكون الفحص وتحصيل العلم بالأحكام مما يتوقف عليه فعل الواجبات وترك المحرمات بوجه لامكان الاحتياط مع الشك فيها ( نعم ) في فرض يكون ترك الفحص والتعلم موجبا للغفلة عن صورة العمل في موطن ابتلائه ، أو عن حكمه كما يتصور ذلك بالنسبة إلى كثير من أهل البوادي والسواد الذين لم يتعلموا شرايع الاسلام فغفلوا لأجله عن كثير من الواجبات والمحرمات واحكامها ، أمكن دعوى مقدمية الفحص ووجوبه غيريا بمناط المفوتية ( فإنه بدونه ) لغفلته عن صورة العمل أو عن حكمه لا يقدر على الاخذ بالاحتياط في فعل الواجبات وترك المحرمات فيستقل العقل في مثله بلزوم الفحص وتحصيل العلم وعدم معذورية المكلف في تفويت القدرة باختياره على فعل المأمورية ترك المنهي عنه ( بل وكذا الكلام ) فيما لا يكون ترك الفحص والتعلم موجبا للغفلة عن صورة العمل أو عن حكمه مع كون الواجب من العباديات بناء على القول باعتبار الأمثال التفصيلي فيها ، فإنه على هذا القول تكون القدرة على تحصيل الجزم بالامتثال منوطة بالفحص وتحصيل العلم ويكون تركه موجبا لتفويت القدرة على تحصيل القيد المزبور ( وعليه ) لا وجه لما عن بعض من اطلاق المنع من كون الفحص والتعلم من المقدمات الوجودية وما يتوقف عليه القدرة على فعل المأمور به خصوصا على مختاره من اعتبار الامتثال التفصيلي مهما أمكن في صحة العبادة ( نعم ) مع التمكن من الاحتياط في الواجبات التوصلية وكذا العبادية منها على المختار من عدم اعتبار الامتثال التفصيلي فيها لا مجال لدعوى مقدميه الفحص ووجوبه غيريا ، لاستقلال العقل حينئذ بجواز ترك الفحص والاخذ بالاحتياط في مورد ابتلائه « ولكن » ذلك كله لا ينافي ما ذكرنا من ظهور هذه الأوامر في الارشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص عن الأدلة في مقام الاخذ بالبرائة للفرار عن العقوبة المحتملة بمناط العلم الاجمالي أو بمناط آخر غيره

ص: 479

كما لا ينافي أيضا ظهورها في الحكم الطريقي ولو باعتبار لازمها الذي هو ايجاب الاحتياط علي المسلك الاخر الذي قدمناه كما هو ظاهر « ونتيجة ذلك كله » على كل من المسلكين في الأوامر المتعلقة بتحصيل الفحص والتعلم من الارشادية أو المولوية الطريقية هو استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي ان اتفق ، لا على ترك الفحص مطلقا ، ولا على تركه المؤدى إلى الوقوع في مخالفة التكليف الواقعي فإذا شرب العصير العنبي قبل الفحص يستحق العقوبة إذا صادف كونه حراما في الواقع وإذا لم يصادف فلا يستحق العقوبة الا من حيث تجربة على القول به ( ولا فرق ) في ذلك بين ان يكون هناك طريق تعبدي على طبق الواقع أو على خلافه بحيث لو تفحص لظفر به ، أو لم يكن في الواقع طريق أصلا ، ( فإنه ) على المختار يكون المنجز للواقع هو العلم الاجمالي لا وجود الطريق المنصوب إليه ولأجله يحكم العقل بعدم المعذورية مع التقصير واستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع ان صادف ولو كان في الواقع طريق تعبدي يؤدى إلى خلافه ( وكذلك الامر ) على المسلك الاخر أيضا ، فإنه عليه يكون المنجز للتكليف الواقعي هو الايجاب الطريقي ولا يفرق فيه بين وجود الطريق في الواقع وعدمه ( نعم ) انما يثمر وجود الطريق في الواقع وعدمه على بعض التقريبات المتقدمة لحكم العقل بعدم معذورية الجاهل ، وهو تقريبه من جهة عدم احراز موضوع القبح لاحتمال وجود البيان في الواقع وتمكن المكلف من الوصول إليه بالفحص عنه مما بأيدينا من الأدلة ( فإنه عليه ) تكون العقوبة على الواقع مترتبة على وجدان الطريق المؤدى إليه على تقدير الفحص عنه ، وبدونه لا عقاب على مخالفة الواقع الا من حيث تجربة على القول به فضلا عن صورة وجود الطريق على خلافه ( كما لا فرق ) بين ان يكون التكليف المحتمل من التكاليف المطلقة المنجزة ، أو التكاليف الموقتة أو المشروطة قبل تحقق أوقاتها وشرائطها ، فعلى ما ذكرنا من الارشاد لا يفرق العقل في لزوم الفحص وعدم معذورية الجاهل مع التقصير في ترك تحصيل الواقع بين تلك الموارد ( وكذلك ) الحال بناء على مقدمية الفحص ووجوبه غيريا بمناط المفوتية للقدرة على العمل في الموارد التي يتحقق فيها المناط المزبور ( فإنه على المختار ) في الواجبات المشروطة من الالتزام فيها بالوجوب الفعلي المنوط قبل حصول شرطها في الخارج ، بجعل المشرط والمنوط به فيها هو الشيء بوجوده في لحاظ الامر المتحقق حالا حين انشاء الوجوب لا بوجوده العيني الخارجي

ص: 480

وان الوجود الخارجي شرط لمحركية الامر لا لأصل فعليته لاشكال في وجوبه غيريا واستحقاق العقوبة على مخالفة الواجب بتركه ، فإنه من قبل الطلب الفعلي المنوط بوجود الشرط في لحاظه الامر يترشح طلب غيري منوط بذلك الشيء في لحاظه إلى مقدماته الوجودية التي منها الفحص لحفظ القددة على الواجب في موطن حصول الشرط ( كما لا اشكال ) أيضا على مسلك من ارجع المشروطات طرا إلى المعلقات كالشيخ قده ، حيث إن فعلية وجوبها حينئذ يستتبع قهرا ترشح الوجوب الغيري نحو المقدمات الوجودية ، وبذلك يجب الفحص بوجوب غيري ( نعم ) بناء على مسلك المشهور في المشروطات من اشتراط الوجوب فيها بجميع مباديه بوجود الشرط في الخارج بحيث لا وجوب فيها الا بعد تحقق شرطه في الخارج ، يشكل جدا الالتزام بوجوب التعلم والفحص غيريا ، إذ بعد عدم اتصاف ذيه بالوجوب الفعلي قبل حصول شرطه يستحيل ترشح الوجوب الغيري إلى الفحص والتعلم ، ولازمه هو عدم استحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي بترك الفحص لعدم تعلق تكليف فعلي به لا قبل حصول الشرط لكونه مقتضى إناطة وجوبه بحصوله في الخارج ، ولا بعده أيضا لعدم القدرة على المكلف به في موطن تحقق الشرط لأجل الغفلة الناشئة من ترك التعلم والفحص « ولأجل ذلك » التزم بعضهم كصاحب المدارك قده بالوجوب النفسي التهئ للتعلم واستحقاق العقوبة على ترك نفسه لا على ما أدى إليه من ترك الواجب « وبعض آخر » بوجوبه عقلا للقاعدة العقلية المشتهرة من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار « بتقريب » ان العقل كما يحكم بقبح تعجيز العبد نفسه عن القيام بالواجب في الواجب المطلق أو المشروط بعد حصول شرطه ، كذلك يحكم بقبح تعجيز نفسه قبل حصول شرطه عن القيام بالواجب في موطن حصول شرطه فيجب عليه حفظ القدرة على الواجب في وقت امتثاله ، كما يكون على ذلك ديدن العقلاء فيما يتعلق بهم من المصالح والاغراض فيما يأتي من الزمان « فان » بنائهم على الاحتفاظ بما يتمكنون معه على نيلهم بتلك المصالح والاغراض في موطنها ( ولكنهما أيضا كما ترى ) فان الأول منهما غير دافع للاشكال ، إذ بعد ما لا يكون الغرض من الايجاب المزبور بحكم الوجدان هو مطلوبية التهيأ في نفسه ، وانما كان ذلك من جهة مقدميته للتوصل به إلى الايجاب البعدي المعلوم كون الغرض منه أيضا هو التوصل

ص: 481

به إلى وجود المطلوب في موطن حصول شرطه. فلا جرم يعود الاشكال المزبور بأنه إذا كان مطلوبية المطلوب منوطة بوجود الشرط في موطن الخارج كيف يعقل وجوب ما هو مقدمة له قبله مع أن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الوضوح كالنار على المنار ( واما الثاني ) فبان مورد تلك القاعدة العقلية المشتهرة هو ما إذا كان الامتناع ناشئا عن سوء اختيار المكلف ولا يكون ذلك الا إذا تحقق التكليف الفعلي بالواجب في حقه وقد تساهل المكلف في تحصيل مقدماته حتى عجز عن امتثاله ، وأما إذا لم يتحقق التكليف الفعلي في حقه كما هو مفروض البحث من اباطة التكليف بجميع مباديه بحصول الشرط في الخارج ففي هذه الصورة لا يكون تساهل المكلف في تحصيل تلك المقدمات قبل حصول الشرط في الخارج موجبا لتقصيره ليكون الامتناع امتناعا عن سوء اختياره فلابد حينئذ في جريان تلك القاعدة من اثبات وجوب تلك المقدمات من الخارج عقلا أو نقلا كي يصدق على ترك تحصيلها التفويت عن تقصير فيترتب عليه استحقاق العقوبة بمقتضى القاعدة المزبورة ، والا فاثبات وجوبها بتلك القاعدة وكون التفويت المذكور عن تقصير دور واضح ( وكيف كان ) فقد تلخص مما ذكرنا كله ان أقوى الوجوه في المسألة هو ما نسب إلى المشهور من كون العقاب على ترك الواقع محضا ، وان أضعف الوجوه هو ما نسب إلى المدارك من كون العقاب على نفس ترك التعلم والفحص مطلقا وان لم يؤد إلى ترك الواقع ، فإنه مبنى على كون التعلم واجبا نفسيا تهيئيا ، ومثله مع كونه خلاف المنساق من ظواهر النصوص قد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه ، كما أن أردء الوجوه هو القول بكون العقاب على ترك التعلم والفحص المؤدى إلى ترك الواقع ، إذ هو مبنى على جعل الامر بتحصيل العلم طريقيا ولو باعتبار لازمه الذي هو ايجاب الاحتياط والنهي عن مخالفة التكاليف الواقعية المحتملة ، مع الالتزام أيضا بكونه في فرض المطابقة للواقع ايجابا نفسيا متعلقا بذات العمل في طول الايجاب الواقعي المتعلق به ليكون العقاب على مخالفة نفسه ( وهو كما ترى ) لما فيه أولاً انه مع استقلال العقل بعدم معذورية الجاهل مع التقصير في ترك الواقع يتعين كون الامر به للارشاد محضا حيث لا يبقى معه مجال لأعمال المولوية ( وثانيا ) ما عرفت من أن الحكم الطريقي المصطلح في باب الامارات والأصول هو ما يكون في لب الإرادة

ص: 482

في فرض المطابقة عين الإرادة الواقعية القائمة بالمتعلق بحيث يكون امتثاله عين امتثال الامر الواقعي من دون ان يكون تحت انشائه إرادة أخرى وراء الإرادة الواقعية ومن المعلوم انه لا ينطبق ذلك على الحكم المذكور الا ان يكون لهذا القائل اصطلاح جديد في الحكم الطريقي.

( الجهة الرابعة ) في صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده ( والتحقيق ) في ذلك على ما يقتضيه أصول المخطئة هو كون العبرة في صحة عمل الجاهل وفساده بمطابقة الواقع ومخالفته ، من غير فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات ، فلو اتى الجاهل قبل الفحص بعمل عبادي أو معاملي بما يطابق البراءة ، مثل لو اتى بالصلاة بدون السورة أو عقد بغير العربية بمقتضى البراءة من جزئية السورة ومن شرطية العربية ، فان انكشف مطابقة العمل للواقع يكون صحيحا مجزيا ، وان انكشف مخالفته للواقع يكون فاسدا غير مجز ( ولا فرق ) في ذلك بين العبادات والمعاملات ، ولا بين ان يكون في البين طريق منصوب على وفق عمله أو على خلافه أو لم يكن في البين طريق أصلا ، فان وجود الطريق المنصوب على الوفاق أو الخلاف على أصول المخطئة غير مثمر في هذه الجهة ( ومن هنا لا نفرق أيضا بين ان يكون العمل الصادر من العامل حال صدوره عن استناد إلى طريق متبع من امارة معتبرة أو فتوى مجتهد ونحو ذلك ، أولاً عن استناد إلى طريق متبع ، فان العبرة كلها في الصحة والفساد تكون بمطابقة العمل للواقع ومخالفته ، فكلما كان العمل مطابقا للواقع كان صحيحا مجزيا لا محالة وان خالف الطريق المنصوب ، وكلما كان مخالفا للواقع كان فاسدا وغير مجز وان وافق الطريق المنصوب الا إذا قام دليل بالخصوص من اجماع أو غيره على الاجتزاء به عن الواقع ، والا فلا يثمر مجرد الموافقة لطريق منصوب في صحة العمل واجزائه ( نعم ) انما تثمر الموافقة للطريق المنصوب في مقام الحكم بالصحة والاجزاء ظاهرا عند عدم انكشاف المخالفة للواقع ، فإنه يكفي في صحته مجرد موافقته للطريق المعلوم حجيته في حقه الواصل إليه ولو بعد عمله ، ولا يلزم في ذلك أن يكون العمل عن اسناد إليه ( ولكن ) ذلك في صورة لم يكن في البين طريق معتبر آخر يقتضى فساد العمل والا فالحكم بالصحة والاجزاء مبنى على اخذ المكلف بالطريق الموافق لعمله ( والسر في هذا التفصيل ) انما هو من جهة احتياج الطرق عند ابتلائها بالمعارض في كونها

ص: 483

حجة فعلية إلى الاخذ بها ( فان ) مقتضى القاعدة الأولية في المتعارضين بعد أن كان هو التساقط وعدم الحجية ، فلا جرم بمقتضى القاعدة الثانوية المستفادة من اخبار التخيير يحتاج كل منهما في صيرورته حجة فعلية على المكلف إلى اخذه به واختياره ليصير بعد الاخذ حجة فعلية ، والا فقبل الاخذ لا يكون واحد منهما حجة فعلية عليه ( وعلى ذلك ) فلو اتى المكلف بعمل عبادي أو معاملي قبل الفحص ثم ظهر بعد ذلك بدليلين أحدهما يوافق عمله والاخر يخالفه ، فقبل الاخذ بأحدهما لا يكون المأتى به محكوما بالصحة ولا الفساد ، واما بعد الاخذ بأحدهما فان كان المأخوذ هو الطريق الموافق يكون المأتى به من حين الاخذ محكوما بالصحة والاجزاء من الأول ويترتب عليه الأثر المقصود ( والا ) فيكون محكوما بالفساد وعدم الاجزاء من الأول ( ويترتب ) على ما ذكرنا انه لو عمل الجاهل العامي عملا من غير تقليد ثم بنى على التقليد فان وافق فتوى المجتهد الذي قلده بعد ذلك كان العمل صحيحا مجزيا وتبرء ذمته وان كان مخالفا لفتوى من يجب تقليده حال العمل « وان انعكس الفرض بان خالف فتوى المجتهد الذي قلده فعلا كان العمل فاسدا غير مجزى وان وافق فتوى من يجب تقليده حال العمل « لان ذلك » هو الذي تقتضيه الحجة الفعلية والامر بالمعاملة معها معاملة الواقع « وكذلك الكلام » فيما لو كان العمل حال وقوعه عن استناد إلى طريق متبع في نفسه ثم انكشف الخلاف بالظفر بقيام طريق أقوى من الطريق السابق مؤدى إلى خلافه « فان » مقتضى القاعدة على ما هو التحقيق من اعتبار الطرق والامارات من باب الطريقية والكاشفية لا الموضوعية والسببية هو عدم الاجتزاء بما عمل ولزوم اعادته على طبق الطريق الفعلي « حيث لا تجدي » قضية الاستناد إلى الطريق السابق الا مجرد المعذورية في مخالفة الواقع من حيث العقاب ما دام بقاء الطريق على حجيته وطريقيته ، لا من حيث الحكم التكليفي والوضعي ، فإذا زال حجيته بقيام طريق أقوى منه على خلافه يجب إعادة ما عمل سابقا على طبق الطريق الفعلي ( وكذلك الكلام ) فيما لو تبدل اجتهاده أو تقليده السابق باجتهاده أو تقليد آخر مؤدى إلى فساد ما عمل سابقا ، فان اللازم هو إعادة ما عمل على طبق الحجة الفعلية ، الا إذا قام دليل من اجماع أو غيره على الاجتزاء بما عمل وترتيب اثار الصحة عليه ، كما في العبادات ( فان الظاهر ) هو قيام الاجماع فيها في الجملة على الاجزاء وعدم

ص: 484

وجوب الإعادة والقضاء في الصور التي يكون كشف الخلاف فيها ظنيا اجتهاديا لا قطعيا ، بخلاف المعاملات بالمعنى الأعم فإنه لم يثبت فيها اجماع كذلك ( وعلى ذلك ) فلو عقد على امرأة بغير العربية مثلا معتقدا صحته باجتهاد أو تقليد فتبدل اجتهاده أو تقليده بعد ذلك إلى فساد العقد المزبور يجب عليه تجديد العقد عليها بمقتضى الاجتهاد أو التقليد الفعلي ، وكذا فيمن اعتقد اجتهادا أو تقليدا حلية الذبيحة بفري الودجين فتبدل اجتهاده أو تقليده بعدم حليتها الا بفري الأوداج الأربعة ، ( فإنه ) يجب عليه ترتيب آثار الميتة عليها من النجاسة وحرمة الاكل وعدم جواز البيع ونحو ذلك من الآثار المبتلى بها فعلا.

( تنبيه ) قد تبين مما ذكرنا سابقا في الجاهل التارك للفحص من دوران استحقاق العقاب على مخالفة لواقع وعدمه الملازمة بين استحقاق العقاب وفساد العمل واقعا وكذلك الملازمة بين صحة العمل واقعا وعدم استحقاق العقاب ( ولكن ) قد انتقض هذه الملازمة في موردين ( أحدهما ) الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس جهلا بالحكم ولو عن تقصير ( وثانيهما ) الاتمام في موضع وجوب القصر وبالعكس على قول وان كان التحقيق خلافه ( فان الأصحاب ) قدس هم قد أفتوا تبعا للنصوص المتضافرة المروية عن الأئمة علیهم السلام بصحة الصلاة في الموردين مع الجهل بالحكم ولو عن تقصير ، مع التسالم على استحقاق العقوبة أيضا بمقتضى اطلاق كلماتهم من عدم معذورية الجاهل بالحكم عن تقصير ( ولأجل ذلك ) وقع الاشكال بأنه كيف يمكن الجمع بين صحة المأتى به واستحقاق العقاب ( بتقريب ) ان المأمور به ان كان هو المأتى به كما يشعر به قوله (عليه السلام) تمت صلوته فلا معنى لاستحقاق العقاب ، وان كان غيره فلا وجه لصحة المأتى به وتماميته في الوفاء بالفريضة مع فرض انكشاف الخلاف في الوقت والتمكن من الاتيان بما هو الواجب واقعا ( ولكن ) يمكن الذب عن الاشكال بالالتزام بتعدد المطلوب بان يكون الجامع بين القصر والتمام ، وكذا الجهر والاخفات مشتملا على مرتبة من المصلحة الملزمة ويكون لخصوصية القصرية وكذا الجهرية مصلحة زائدة ملزمة أيضا ، مع كون المأتى به الفاقد لتلك الخصوصية من جهة وفائه بمصلحة الجامع المتحقق في ضمنه مفوتا للمصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية القصرية أو الجهرية بحيث لا يبقى مع استيفائها به مجال لتحصيل مصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية ، وذلك أيضا لا بمناط العلية كي يلزم حرمته وفساده ، بل بمناط

ص: 485

المضادة بين المصلحتين ولو من جهة حديهما القائمين بالخصوصيات المفردة للطبيعة ( فإنه بهذا البيان ) يمكن الجمع بين صحة المأتى به في حال الجهل وتمامية في الوفاء بالفريضة الفعلية ، وبين استحقاق العقوبة على ترك الواجب « حيث إن » صحة المأتى به وتمامية انما هو لوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة القائمة بالجامع المتحقق في ضمنه وصيرورته بذلك مأمورا به بمرتبة من الامر المتعلق بالجامع ضمنا « واما استحقاق » العقاب فهو من جهة تفويته للمصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية القصرية ، أو الجهرية والاخفاتية « واما توهم » اقتضاء البيان المزبور للاجتزاء بالفاقد للخصوصية مطلقا حتى في صورة العلم بوجوب الخصوصية ، لوضوح عدم كون العلم بوجوبها موجبا لقلب الفاقد عما له من الوفاء بمصلحة الطبيعي والجامع ، ومثله مما يقطع بفساده « فمدفوع » بأنه كذلك لولا اختصاص فردية الفاقد بحال الجهل بالامر بالخصوصية والا فينحصر الفرد في حال العلم بخصوص الواجد ، ومعه لا يعقل تحقق المصلحة ولو بمرتبة منها بغير الواجد حتى يتوجه الاشكال المزبور « وبما ذكرنا » يندفع أيضا ما عن بعض من الاشكال على التقريب المزبور بأنه ان كان للخصوصية القصرية أو الجهرية دخل في مصلحة الواجب في حال الجهل فلا يعقل حصولها وسقوط التكليف عنه بفعل الفاقد لتلك الخصوصية خصوصا مع امكان استيفاء تلك الخصوصية في الوقت كما لو علم بالحكم في الوقت ، لأنه لا يعتبر في استيفاء المصالح الا مجرد القدرة على فعل متعلقاتها وهي بالوجدان حاصلة ، الا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف وهذا خلف ، فان لازمه خلو الصلاة المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ولازمه عدم استحقاق العقاب رأسا وان لم يكن لها دخل في مصلحة الواجب ، فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام غايته ان يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصية الزائدة ولا وجه لاستحقاق العقاب « إذ فيه » ان للخصوصية القصرية وان كان دخل في مصلحة الواجب حتى في حال الجهل الا ان دخلها انما هو في كمال المصحلة لا في أصلها ولو بمرتبة ملزمه منها وهذه المرتبة تحصل لا محالة بفعل الفاقد غايته ان يكون حصولها به موجبا لعدم التمكن من استيفاء الزائد لمكان تضاد المصلحتين ولو بلحاظ حديهما القائمين بالخصوصيات المفردة للطبيعي بنحو لا يمكن اجتماعها في الاستيفاء

ص: 486

وبهذه الجهة قلنا باستحقاق العقوبة على تفويت المصلحة الزائدة ( قوله ) انه لا يعتبر في استيفاء المصلحة الا القدرة على متعلقها وهي حاصلة بالوجدان خصوصا في الوقت ( فيه ) ان الحاصل بالوجدان انما هو القدرة على الاتيان بصورة الصلاة المقصورة ، لا القدرة على الاتيان بحقيقتها القائمة بها المصلحة الكاملة ولا ملازمة بين القدرة على صورة الصلاة والقدرة على استيفاء مصلحتها كما هو ظاهر ( واما قوله الا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا الخ ، ففيه ان المشروط بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف انما هو القدرة على استيفاء مصلحة الصلاة المقصورة لا أصل مصلحتها ، وبينهما فرق واضح ، والتوالي الفاسدة انما تترتب على الثاني لا الأول ، فإنه يكون من قبيل تفريت شرط الواجب لا الوجوب ، فالاشكال المزبور بلزوم الخلف وعدم استحقاق العقاب ناش عن الخلط بينهما فتدبر ( وحينئذ ) فعلى ما ذكرنا لا قصور في المقام بالجمع بين استحقاق العقوبة وصحة المأتى به بعنوان كونه فريضة فعلية كما هو ظاهر قوله (عليه السلام) تمت صلوته المنصرف إلى كون اتيانه بهذا العنوان ، حيث إنه بالالتزام بتعدد المطلوب يكون المأتى به صحيحا ومأمورا به بالامر بالجامع بين الفردين المتحقق في ضمن هذا الفرد أيضا ، من دون حاجة إلى اثبات الامر به من الخارج ( نعم ) انما يحتاج إلى ذلك فيما لو كان فردية الفاقد للطبيعة في ظرف الجهل بالامر بأصل الطبيعة التي هي مرتبة من المطلوب ، فإنه بعد استحالة شمول الامر بالطبيعة لمثل هذا الفرد ، لا محيص في كونه مأمورا به بالامر الفعلي من أن يكون بأمر آخر غير الامر بالطبيعي المتحقق في ضمن الخصوصية ( لا فيما كان فرديته ) في ظرف الجهل بالامر بالخصوصية ، فإنه حينئذ يمكن كونه مأمورا به فعلا بنفس الامر بالطبيعي المتحقق في ضمنه خصوصا إذا قلنا بعدم اختصاص فردية الفاقد للطبيعي بحال الجهل بوجوب الخصوصية أيضا وان غايته هو انحصار فرد الجامع عند العلم بوجوب الخصوصية بخصوصية الواجد ، لا اختصاص فردية الفاقد بحال الجاهل به ( وعليه ) فلا بأس بالاتيان به بداعي الامر بالطبيعي المتحقق في ضمنه ( ولا وجه ) لمنع كونه مأمورا به بالامر الفعلي ، إذ لا يلزم من الالتزام بما ذكرنا محذور بعد سقوط الامر بالخصوصية في ظرف الجهل به عن المحركية الفعلية خصوصا مع الغفلة عن الواقع لأجل ترك الفحص حيث لا يلزم منه اجتماع الامرين في المحركية الفعلية في زمان واحد كما هو

ص: 487

ظاهر ( وبذلك ) أيضا نقول انه لا يحتاج في تصحح الامر الفعلي بالفاقد إلى التشبث بقاعدة الترتب المعروف ، كي يمنع عن صحة كبرى القاعدة تارة ، وعن صغراها في المقام أخرى ، وان كان التحقيق هو صحة كبرى القاعدة ، بل وصغراها أيضا في المقام مع قطع النظر عما ذكرناه ولو بالالتزام بطولية المصلحتين وكون الامر بالفاقد مشروطا بمخالفة الواقع عن جهل ، فإنه بهذا المقدار يمكن الالتزام في المقام بالخطاب الترتيبي إذ لا نعني من الخطاب الترتيبي الذي هو محل النزاع الا اجتماع الامر المطلق بشيء والمشروط بمخالفته بشيء آخر في زمان واحد كان طولية الامرين من جهة طولية المصلحتين أو من جهة طولية القدرة على استيفائهما كما هو ظاهر ( وقد يتقصى ) عن الاشكال بوجه آخر ، وحاصله هو انه من الممكن في مسألة الجهر والاخفات ان يكون الواجب على عامة المكلفين هو القدر المشترك بينها ويكون الجهر والاخفات بالقراءة في موارد وجوبهما واجبان نفسيان مستقلان في الصلاة بنحو تكون الصلاة ظرفا لامتثالهما كسائر موارد وجوب الشيء في ظرف واجب آخر الا انه بالعلم به ينقلب وجوبه النفسي إلى وجوب الغيري ويصير قيدا للصلاة ولا مانع من أن يكون صفة العلم موجبة لتبدل صفة الوجوب من النفسية إلى الغيرية ، وبذلك يرتفع أصل الاشكال اما صحة المأتى به فلكونه مأمورا به في حال الجهل ، واما العقاب فهو من جهة ترك الواجب النفسي ، وكذلك الامر في مسألة الاتمام في موضع وجوب القصر فيكون الواجب على المسافر هو أحد الامرين من القصر والتمام تخييرا ، ولكن في القصر خصوصية تقتضي تعينه لا على وجه القيدية بل على وجه النفسية وبالعلم بالحكم ينقلب وتصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة ( وفيه ) مضافا إلى بعده في نفسه وان صفه استقلالية الوجوب بعد أن كانت محفوظة في رتبة سابقة على العلم بها يستحيل صيرورة العلم بها موجبا لانقلاب الوجوب عما هو عليه من الصفة في مرتبة وجوده إلى صفة أخرى ( نعم ) الممكن انما هو صيرورة العلم بوجوب الشيء موجبا لاحداث وجوب آخر في المرتبة المتأخرة عنه ، ولكن لازم ذلك في المقام هو الالتزام بتعدد العقوبة عند ترك الجهر بالقراءة مع العلم بوجوب الجهر ، أحدهما على ترك الجهر المعلوم وجوبه نفسيا ، وثانيهما على ترك الصلاة المقيدة به في الرتبة المتأخرة عن العلم وهو كما ترى « ولكنه » على ما في التقرير عدل عن ذلك فالتزم بان الواجب على المسافر الجاهل

ص: 488

انما هو التمام ولا يصح منه القصر ولو تمشى منه قصد القربة واستظهر أيضا تسالم الفقهاء على ذلك بعدما استظهر خلافه سابقا ومنع عن أصل العقاب « وفيه أيضا » لا يخفى فإنه من غرائب الكلام خصوصا فيما استظهره من تسالم الأصحاب على ذلك ، إذ هو مع كونه على خلاف ما بنوا عليه من اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل وما تقتضيه اطلاق كلامهم باستحقاق الجاهل بالحكم عن تقصير للعقاب الشامل للمقام بل تصريح بعضهم بذلك ، انه لا يستفاد من كلماتهم في المقام الا صحة المأتى به تماما في حال الجهل بالحكم تبعا لما في النصوص من أنه لا إعادة عليه إذا لم تقرء عليه آية التقصير ولم يعلمها « واما » ان الواجب واقعا في حق المسافر الجاهل هو التمام بحيث لا يصح منه القصر ولو تمشى منه قصد القربة فلا ، بل الظاهر هو تسالمهم على الصحة قصرا في الفرض المزبور « هذا تمام الكلام » في الجزء الثالث من الكتاب ويتلوه

الجزء الرابع انشاء اللّه والحمد لله أولاً وآخرا وصلى اللّه على محمد خير خلقه

وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين « وقد وقع

الفراغ من تسويده على يد العبد الاثم محمد تقي النجفي البروجردي ابن

عبد الكريم في ثلاثة خلون من شهر رجب المرجب سنة 1352

اثنين وخمسين بعد الألف وثلاثمائة من الهجرة النبوية

عليه وعلى أخيه والأئمة من ذريته آلاف الثناء والتحية

ويتلوه الجزء الرابع في الطبع انشاء اللّه تعالى

ص: 489

الفهرست

في الحالات الطارئة للمكلف عند التفاته للحكم الشرعي وعمومية الاحكام الاصولية للمجتهد والمقلد 1

في بيان وجه تثليث الاقسام... 4

المقصد الاول في حجية القطع عقلا... 6

في امتناع اخذ عنوان القطع في متعلقه وعدم صحة اطلاق الحجة عليه... 9

في صحة وقوع الظن وسطا في القياس... 11

في اقسام القطع... 14

في قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي... 18

في قيام الامارات والاصول المحرزة مقام القطع الماخوذ تمام الموضوع... 23

في قيام الامارات والاصول المحرزة مقام القطع الماخوذ جزء الموضوع... 25

في جريان الشقوق والصور المذكور في الظن ايضا... 27

في حرمة التجري ونقل الاقوال الستة فيه... 30

في الجواب عن شبهة اجتماع الضدين على القول بالحرمة... 31

في عدم استتباع التجري للحكم المولوي وتضعيف سائر الاقوال فيه... 36

الكلام في اقسام التجري وفيما يمكن ان يجعل ثمرة للنزاع في التجري... 41

في عدم الفرق بين اسباب القطع الطريقي المحض وفي مخالفة جماعة من اصحابنا الاخباريين... 42

في توجيه كلام الاخباريين في عدم اعتبار القطع الناشي من غير الادلة السّمعية... 44

في اعتبار العلم الاجمالي وتنجزه في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية... 46

في عدم لزوم الموافقة الالتزامية... 53

المقصد الثاني في امكان التعبد بالظن ووقوعه خارجا... 55

ص: 490

في ادلة القائلين بامتناع التعبد بالظن... 57

في الجواب عن تلك الادلة القائمة بالامتناع وصحة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري... 60

في جواب المحقق الخراساني قده عن شبهة اجتماع الحكمين في موضوع ومتعلق واحد... 69

في الجواب عما افاده قده وبعض الاعاظم قده... 70

في بيان وجه منجزية اوامر الطرق والاصول المحرزة... 73

الكلام في وقوع التعبد خارجا وتأسيس الاصل عند الشك في حجية شيء وعدم الظفر بالدليل على حجيته 80

في حجيته الظواهر والبحث عن مصاديقها... 85

في اناطة حجية الظهور بالظن الفعلي او بالظن النوعي... 89

في حجية مطلق الظواهر بالنسبة الى غير من قصد افهامه بالخطاب ومخالفة المحقق القمي قده... 90

في حجية ظواهر الكتاب ومخالفة بعض الاخباريين وادلّتهم والجواب عنهم... 91

في حجية ظواهر الكتاب في ما لو اختلف القرائة في الكتاب ... 93

في حجية قول اللغوي... 94

في حجية الاجماع المنقول... 96

في حجية الشهرة الفتوائية... 99

في حجية الخبر الواحد... 101

في استدلال النافين للحجية بالايات والجواب عنه... 102

في استدلال النافين للحجية بالاخبار والجواب عنه... 104

في استدلال النافين للحجية بالاجماع والعقل والجواب عنه... 106

في اثبات حجية الخبر الواحد بآية النباء... 107

في بيان ما اورد على الاستدلال بالاية على حجية الخبر الواحد والجواب عنه... 110

في بيان الاشكالات الواردة لجميع ادلة حجية الخبر الواحد والجواب عنها... 118

الاشكال في اصل شمول ادلّة الحجية للاخبار الحاكية لقول

ص: 491

الامام 7 بواسطة أو بوسائط والجواب عنه... 120

الاستدلال على حجية الخبر الواحد بايه النفر والمناقشة فيها والجواب عنها... 125

الاستدلال على حجية الخبر الواحد بايه الكتمان والسؤال... 129

الاستدلال على حجية الخبر الواحد بايه الاذن... 311

الاستدلال بالاخبار الدالة على حجية الخبر الواحد... 132

الاستدلال بالاجماع على حجية الخبر الواحد... 136

الاستدلال بالسّيرة على حجية الخبر الواحد... 137

الاستدلال بالدليل العقلي بوجوهه على حجية الخبر الواحد... 138

الاستدلال على حجية الخبر الواحد بوجوه عقلية اخر دالة لحجية مطلق الظن... 143

في دليل الانسداد وبيان المقدمات المعتبرة فيه وفي منشاء اختلاف المسالك فيه ... 145

في الاستدلال لاعتبار المقدمات في دليل الانسداد... 149

في الوجوه الدالة على بطلان الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة... 153

في ان بطلان الاحتياط التام لا يستلزم الكشف... 156

في تقرير دليل الانسداد على نحو الحكومة العقلية... 160

في بيان الوجهين المتصورين في تقرير الحكومة... 163

دليل الانسداد والتنبيه على امور... 165

الاول في كون نتيجة المقدمات هو العموم او الخصوص... 651

الثاني في ان نتيجة الانسداد هل هي مطلقة او مهملة... 174

الثالث في وجه خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد... 179

الرابع في وجوب العمل بالظن المانع والممنوع او تساقطهما... 181

الخامس في عدم اعتبار الظن بالامتثال بدليل الانسداد... 183

السادس في جابرية مطلق الظن وموهنيته للرواية سندا ودلالة... 184

في حجية الظن في الاصول الاعتقادية... 187

في بيان وجه كفر منكر الضروري هل هو لمحض انكاره او استلزامه لتكذيب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 190

في كفاية اظهار الشهادتين في الحكم بالاسلام وعدمها ولزوم

ص: 492

الاعتقاد في الباطن ايضا... 191

هل يعتبر في معرفة الواجب تعالى وصفاته ومعرفة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من كونها حاصلة عن اجتهاد ونظر أو يكفي الحزم الحاصل من التقليد 419

المقصد الثالث في أحكام الشكوك

في حكومة الامارات على الأصول... 196

في اصالة البرائة... 199

في حكم الشك في التكليف ( في الشبهة الحكميّة التحريميّة لاجل فقدان النص ) ... 201

في الاستدلال بالايات على البرائة... 202

في الاستدلال بالأخبار على البراءة... 208

في حديث الرفع... 209

في الاستدلال على البرائة بحديث الحجب... 226

في الاستدلال على البرائة بالاجماع... 235

في الاستدلال على البرائة بدليل العقل... 235

في الاستدلال على البرائة بالاستصحاب... 238

الاستدلال بالاخبار الاخر على البرائة... 239

في بيان ادلة وجوب مراعات الاحتياط في الشبهات الحكمية ( الاستدلال بالايات )... 241

في الاستدلال بالاخبار... 242

في الاستدلال بدليل العقل... 247

اعتبار عدم وجود اصل حاكم في جريان اصالة الاباحة في مشتبه الحكم... 255

في رجحان الاحتياط... 258

في الشبهة التحريمية لاجل اجمال النص... 262

في الشبهة التحريمية لاجل تعارض النصين... 263

في ذكر الشقوق المتصورة في الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية... 264

في تردد الفائتة من الصلوة بين الاقل والاكثر... 270

في رجحان الاحتياط وجريانه في التوصليات والتعبديات... 273

في التسامح في ادلة السنن... 276

عمومية ادلة البرائة في الشك في الوجوب التعييني والتخييري... 287

في دوران الامر بين الوجوب الكفائي والاباحة... 291

في دوران الامر بين المحذورين... 292

ص: 493

الموضع الثاني في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف... 297

في العلم الاجمالي... 298

في شمول ادلة الاصول بذاتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي مع قطع النظر عن منجزية العلم 300

في صلاحية العلم الاجمالي للمنجزية بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية... 305

في علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية على وجه يمنع عن مجئ الترخيص على الخلاف ولو في بعض الاطراف 307

في ان جعل البدل لا ينافي علية العلم الاجمالي... 313

لازم القول بالاقتضاء هو التخيير في الاصول النافية المشتملة على خلاف الواقع... 317

لازم القول بالاقتضاء جواز الرجوع الى الاصل النافي للتكليف في بعض الاطراف عند خلوه عن المعارض في الطرف الاخر 320

في تنبيهات منجزية العلم الاجمالي... 322

في بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة... 328

في حكم الشك في كون الشبهة غير محصورة... 335

اعتبار دخول جميع الاطراف في محل الابتلاء... 338

حكم الشك في خروج بعض اطراف العلم الاجمالي عن مورد الابتلاء... 341

فيما الحق بالخروج عن الابتلاء... 347

في انحلال العلم الاجمالي بالاضطرار الى البعض المعين والى غير المعين وعدمه... 350

حكم ملاقي ( بالكسر ) بعض اطراف الشبهة المحصورة... 353

حكم الملاقي بالفتح اذا كان نجاسته ناشئة عن العلم بنجاسة الملاقي بالكسر او الطرف... 359

في حكم ما لو فقد الملاقي بالفتح... 363

في حكم ما اذا كان لاحد طرفي العلم الاجمالي اثر واحد وللاخر اثران وشك في ان الاثرين عرضيان او طوليان 365

المبحث الثاني في الشبهة الوجوبية اذا كان الواجب مرد دابين أمرين متباينين... 366

في وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية في الشرائط والموانع وعدمه... 369

في كيفية الاحتياط في العبادة في موارد العلم الاجمالي... 370

حكم ما لو كان المعلوم بالاجمال امرين مترتبين... 371

دوران الامر بين الاقل والاكثر... 373

في اقسام الاقل والاكثر... 374

ص: 494

ذكر الوجوه التي استدل بها في المقام لتقريب الاشتغال والجواب عنها... 385

في جريان البرائة الشرعية في الاقل والاكثر وعدم صحّة التفكيك بينها وبين العقلية... 389

فيما لو كان الاقل والاكثر من قبيل الجنس والنوع... 396

في جريان البرائة الشرعية في الاقل والاكثر اذا كانا من قبيل الجنس والنوع عدمه... 398

في دوران الاقل والاكثر في الاسباب والمحصلات فيما كان المأمور به عنوانا بسيطا... 401

في دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية... 408

في بيان المايز بين القاطع والمانع وحكم الشك في القواطع والموانع... 411

في حكم الشك في المانع... 415

في امكان استصحاب صحة العبادة عند الشك في طرو المفسد لها... 416

اذا ثبت جزئية شيء وشك في ركنيته فهل الاصل يقتضي الركنية أولا... 418

في عدم امكان تكليف الفعل بالنسبة الى الجزء المنسي حال نسيانه وامكانه بالنسبة بما عداه او عدم امكانه 419

في قيام الدليل على تكليف الناسي حال نسيان الجزء بالخالي عن الجزء المنسي وعدمه... 423

صحة التمسك بحديث الرفع في عدم الجزئية في حال النسيان وعدمها... 425

في عمومية حديث لا تعاد لصورتي الجهل والنسيان وعدمها... 433

بطلان العمل بالزيادة عمدا وسهوا وتصوير الزيادة الحقيقية في الاجزاء... 436

في حكم الزيادة العمدية والسهوية من حيث صحة العمل وبطلانه بحسب ما تقتضيه القاعدة الاولية... 440

فيما تقتضيه القاعدة الثانوية المستفادة من الأدلة على خلاف مقتضى القاعدة الاولية... 441

مقتضى القاعدة في الاضطرار الى ترك الجزء او الشرط... 446

في قيام الدليل على ثبوت التكليف بما عدا المعتذر على خلاف ما اقتضه القاعدة الاولية... 448

في قاعدة الميسور واثبات ما عدا المعتذر... 455

اذا كان للمركب بدل اضطراري وتعذر بعض اجزائه فهل يلزم الاتيان بالناقص او الانتقال الى البدل او التخيير 460

الخاتمة فيما يعتبر في العمل بالاصول ، في ما يعتبر في الاحتياط... 461

ص: 495

فيما لو عرض في اثناء الصلوة ما يوجب الترديد في اتمام العبادة... 466

فيما يعتبر في العمل بالبرائة... 468

في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه... 476

في ان العبرة في صحة العمل مطلقا بمطابقة الواقع... 482

في حل الاشكال في مسئلة القصر والاتمام والجهر والاخفات... 484

ص: 496

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

الصفحات: 255

نسخة غير مصححة

الجزء الرابع

من كتابنهاية الأفكار

في مبحث الاستصحاب

لحضره

حجة الاسلام والمسلمين آية اللّه في العالمين الورع التقي الشيخ محمد تقي البروجردي قدس سره

تقرير الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره

منظورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

ص: 1

اشارة

سرشناسه: عراقي، ضياء الدين، 1240 - 1321.

عنوان و نام پدیدآور: نهاية الأفكار «في مباحث الألفاظ» / تقرير أبحاث ضياء الدين العراقي ؛ تأليف محمد تقي البروجردي النجفي.

مشخصات نشر: قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم ، مؤسسة النشر الإسلامي، 1422ق.=1380.

مشخصات ظاهري: 4 ج. (در 3 مجلد).

فروست: (مؤسسة النشر الاسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم؛ 196، 198، 199.

شابك: (دورة): 3-272-470-964-978؛ ج. 2-1: 0-950-470-964-978

ج. 3: 7-951-470-964-978؛ ج. 4: 4-952-470-964-978.

یادداشت: عربي.

یادداشت: چاپ قبلی: مؤسسة النشر الإسلامي جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، 1405 ق.= 1365.

یادداشت: ج. 1-4 (چاپ ششم: 1435 ق. = 1393).

یادداشت: كتابنامه.

یادداشت: ج. 3. في مبحث القطع والظن وبعض الأصول العلمية. - ج. 4. في مبحث الاستصحاب.

موضوع: مباحث ألفاظ.

شناسۀ افزوده: جامعۀ مدرسين حوزۀ علميۀ قم. دفتر انتشارات اسلامي.

رده بندی كنگره: 1380 9 ن 4 ع / 164 BP

رده بندی دیویی: 297/31

شمارۀ كتابشناسي ملّي: 17890-81م.

نهاية الأفكار (ج 4)

تأليف: الفقيه المحقّق والأصولي المدقّق الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (طاب ثراه)

تقرير أبحاث: العلّامة المحقّق آية اللّه العظمی الشيخ آغا ضياء الدين العراقي قدس سره

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 608

الطبعة: السابعة

المطبوع: 300

التاريخ: 1438 ه.ق

شابك ج 1-2: 0-950-470-964-978

ISBN 978-964-470-950-0

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

اشارة

هذا هو القسم الاوّل من الجزء الرابع من كتاب نهاية الافكار في مبحث الاستصحاب والتعادل والتراجيح

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على رسوله وخير خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين المعصومين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

( المقام الثاني من المقصد الثالث في الاستصحاب )

وتحقيق الكلام فيه يستدعي تقديم أمور ( الامر الأول ) في تعريف الاستصحاب وشرح حقيقته ( اعلم ) ان الاستصحاب استفعال من صحب ، وهو في اللغة اخذ الشيء مصاحبا ، ومنه استصحاب اجزاء مالا يؤكل لحمه في الصلاة ( وفي اصطلاح ) الأصوليين أطلق بالعناية على الأصل المعروف المقابل للأصول الثلاثة ( وقد عرفوه ) بتعاريف أسدها وأخصرها ما افاده العلامة الأنصاري ( قده ) من أنه ابقاء ما كان ( اما ) أخصريته فظاهرة ( واما ) أسديته فلكونه حاويا لجميع المسالك في الاستصحاب على اختلافها في وجه حجيته ( فان الابقاء ) الذي هو مدلول الهيئة عبارة عن مطلق الحكم بالبقاء والتصديق به أعم من حكم الشارع وتعبده بالبقاء ، أو حكم العقل وتصديقه الظني به ، أو حكم العقلاء وبنائهم ( والاستصحاب ) المصطلح المقابل للأصول الثلاثة عند القوم برمتهم على اختلاف انظارهم في وجه حجيته ، عبارة عن الحكم ببقاء ما كان من حيث إنه كان ( حيث إنه ) على التعبد واخذه من مضامين الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، عبارة عن الحكم الانشائي من الشارع في مرحلة الظاهر وتعبده ببقاء ما علم حدوثه سابقا وشك في بقائه لاحقا ( وعلى اخذه ) ومن العقل ، عبارة عن ادراك العقل وتصديقه الظني ببقاء ما كان للملازمة الغالبية في الأشياء بين ثبوتها في زمان وبقائها في زمان لاحق عليه ، إذ لا نعنى من حكم العقل إلا دركه الوجداني

ص: 2

وتصديقه قطعيا أو ظنيا ( كما ) انه بناء على اخذه من بناء العقلاء عبارة عن التزامهم على الجري العملي على بقاء ما كان بملاحظة كينونته في السابق ما لم يظهر لهم ارتفاعه ( فعلى جميع ) المسالك ينطبق التعريف المزبور على الأصل المذكور ، ويرد النفي والاثبات من الطرفين على معنى واحد ( نعم ) غاية - ما هناك اختلافهم في مصداقه ، ولكنه غير ضائل بوحدة المفهوم بعد كون نظر المثبتين طرا على اختلاف انظارهم إلى اثبات الجامع الذي ينفيه المنكرين ( نعم ) على ذلك يكون الاستصحاب المأخوذ من الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك عبارة عما هو لازم مدلولها ، لا نفس مدلولها ، وهذا المقدار سهل في أمثال المقام « واما » كون البقاء حقيقيا بناء على اخذه من العقل ، وتعبديا بناء على اخذه من الاخبار على مسلك ارجاع النقض في لا تنقض اليقين إلى المتيقن ، لكونه على ذلك عبارة عن تصديق وجداني جزمي بالبقاء التعبدي « فغير ضائر » بوحدة المفهوم ، إذا لا يوجب مثله اختلافا في مفهوم الابقاء ، فإذا كان الظاهر من مدلول الهيئة في قوله ابقاء ما كان هو الحكم بالبقاء فلا جرم يكون ذلك بمفهومه الوجداني حاويا لجميع المسالك ولا يكون في التعريف المزبور من جهة لفظ الابقاء قصور عن إفادة حقيقة الاستصحاب « كما أن » التعبير بما كان أيضا مشعر بخروج الحكم بالبقاء لأجل تحقق علة وجوده في الزمان اللاحق ، أو لقيام الدليل على بقاء المستصحب في الزمان الثاني « كما أنه » لا قصور فيه أيضا في إفادة اعتبار الشك الذي هو أحد ركنية وهو الشك بالمعنى الأعم الشامل لمطلق خلاف اليقين ، بداهة ان حكم العقل ببقاء الشيء استنادا إلى وجوده سابقا ، وكذا حكم الشارع وتعبده في الظاهر أو بناء العقلاء وجريهم عملا على وجوده تعبدا لا يكون الا من جهة كونه مشكوك البقاء في الزمان اللاحق ، والا لما كن لحكم الشارع وتعبده ولا لحكم العقل به ظنا ، ولا لبناء العقلاء على الجري العملي على طبق الحالة السابقة مجال كما هو ظاهر « نعم » في اعتبار الشك الفعلي في حقيقة الاستصحاب بناء على عدم اخذه من الاخبار ، أو اخذه منها على مسلك توجيه حرمة النقض إلى المتيقن لا إلى اليقين كلام سيأتي التعرض له انشاء اللّه تعالى « وانما الكلام » في استفادة الركن الاخر وهو اليقين بالوجود السابق في زمان إرادة الحكم بالبقاء من التعريف المزبور « حيث إنه » بناء على اخذه من العقل بجعله من الاحكام العقلية غير المستقلة ، أو اخذه من بناء

ص: 3

العقلاء ، يمكن ان يقال بعدم دخل الاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب ، إذ الاستصحاب على ذلك عبارة عن مجرد حكم العقل وتصديقه الظني بالبقاء ، ومن الواضح انه لا يكون للاحراز السابق دخل في هذا الحكم ، وان كان يحتاج إليه في مقام احراز الحدوث ومرحلة تطبيق الحكم الاستصحابي على المورد ( واما ) بناء على اخذه من الاخبار ، فعلى مسلك توجيه النقض ، إلى نفس اليقين فلا اشكال في دخل الاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب لكونه من أركانه كالشك اللاحق ، فلا بد من استفادته من التعريف المذكور « واما » على مسلك توجيه النقض إلى المتيقن بجعل اليقين فيه مأخوذا على نحو المرأتية إلى الواقع في مقام ايصال النهي إليه في يكون لليقين السابق دخل في حقيقته ، فان مفاد النصوص على ذلك عبارة عن مجرد تنزيل المشكوك منزلة المتيقن وترتيب آثار الواقع في مقام الجري العملي ، ومن الواضح عدم احتياج ذلك إلى الاحراز السابق وان كان مما يحتاج إليه في مقام احراز الحدوث وتطبيقه على المورد ، ولكنه غير مرتبط بمقام دخله في حقيقة الاستصحاب « بل على » هذا المسلك يمكن التشكيك في اعتبار الشك الفعلي فيه أيضا وجريانه مع الغفلة والشك التقديري كما سيجيء ، غاية الامر تكون الغفلة مانعة عن تنجزه كسائر الأحكام التكليفية ، بخلاف مسلك توجيه النقض إلى نفس اليقين كما هو المختار ، فإنه عليه لا محيص في حقيقة الاستصحاب من اليقين والشك الفعليين ( وربما يترتب ) على هذين المسلكين نتائج مهمه ( منها ) ذلك ( ومنها ) حكومة الاستصحاب على سائر الأصول العملية على المسلك المختار وعدمها على المسلك الاخر كما سيأتي ومرت الإشارة إليه في الكتاب غير مرة « ومنها » ما ، سيأتي انشاء اللّه تعالى من صحة التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في المقتضى والشك في الرافع على المسلك الآخر وعدم صحته على المختار « وكيف كان » فالمقصود بالبيان هو قصور التعريف المزبور عن إفادة اعتبار اليقين والاحراز السابق في حقيقة الاستصحاب بناء على اخذه من الاخبار وارجاع النقض في لا تنقض إلى اليقين بجعله مأخوذا على نحو العنوانية لا المشيرية « الا ان يقال » : انه يستفاد ذلك من لفظ ما كان باعتبار ملازمة كونه كان مع اليقين الفعلي بوجوده سابقا حين الحكم بالبقاء « بل يمكن » استفادته من لفظ الابقاء أيضا باعتبار كونه اثباتا للازم الشيء من حيث إن الجزم بثبوت اللازم ملازم لجزم بثبوت الملزوم

ص: 4

« ولئن » نوقش في الاستفادة المزبورة من دعوى عدم اقتضاء مجرد استلزام الابقاء ، أو الكينونة السابقة لليقين السابق لإفادة اعتباره في حقيقة الاستصحاب المأخوذ من الاخبار ، فلك ان تعرفه بما هو مضمون الاخبار ، وتقول. انه عبارة عن حرمة نقض اليقين بثبوت شيء سابقا بالشك في بقائه لاحقا ، فان الامر سهل في أمثال المقام « ثم انك عرفت » ان الاستصحاب بناء على اخذه من العقل عبارة عن ادراك العقل وتصديقه الوجداني الظني ببقاء ما ثبت تعويلا على ثبوته سابقا للملازمة الغالبية في الموجودات بين الحدوث والبقاء ، ومرجعه إلى كون اعتباره من باب الظن الشخصي لا الظن النوعي ، والا فلا دليل على حجيته الا السيرة وبناء العقلاء وهي فرض تحققها وتماميتها توجب خروج الاستصحاب من الأدلة العقلية لدخوله حينئذ فيما دلت عليه السيرة ، نظير ظواهر الألفاظ وغيرها من الامارات التعبدية فلا يناسب جعله حينئذ من الأدلة العقلية وعده من العقليات غير المستقلة كما هو ظاهر ( وعليه نقول ) انه يكفي في وهن هذا المسلك استلزامه حصول الظن الفعلي بطرفي النقيض في بعض الموارد حسب اختلاف الحالة السابقة ، كما في الماء البالغ إلى حد خاص الجاري فيه استصحاب القلة تارة والكثرة أخرى ، وهو كما ترى من المستحيل ( لا يقال ) الاشكال يتوجه إذا كان الاستصحابان جاريين فيه في زمان واحد ، وأما إذا كانا في زمانين فلا محذور من جريانهما فيه ، إذ لا يلزم منه اجتماع الظنين الفعليين بطرفي النقيض ( والمقام ) من هذا القبيل ، فان الماء الشخصي البالغ إلى نقطة كذا في ظرف يجرى فيه استصحاب القلة لا يجرى فيه استصحاب الكثرة لعدم كونه مسبوقا بالكثرة في ذلك الظرف ، وبالعكس في ظرف يجرى فيه استصحاب الكثرة لا يكون مسبوقا بالقلة حتى يجرى فيه استصحابها ، فمن أين ينتهي الامر إلى محذور لزوم حصول الظن الفعلي بطرفي النقيض في نحو المثال المزبور كي يجعل ذلك من الموهنات لهذا المسلك ( فإنه يقال ) نعم ولكن منشأ الظن الفعلي بكل من الكرية والقلة في الماء البالغ إلى حد خاص لما كان هي الملازمة بين الحدوث والبقاء ، يكون الاشكال في اعتقاد هذه الملازمة في الماء المزبور ، فان ملازمة بلوغ الماء الكذائي للظن الفعلي بالكرية تارة وبالقلة أخرى ولو في زمانين من المستحيل ، فلا محيص على هذا المسلك من المصير في أمثال هذه الموارد ، اما إلى عدم جريان أحد الاستصحابين ، أو دعوى الغفلة عن أحدهما حين حصول

ص: 5

الظن الاستصحابي بالآخر « بل من لوازم » هذا المسلك أيضا عدم صحة اطلاق التعارض في الاستصحابات المتعارضة ، ولا حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، لاستحالة تحقق التعارض بين دليلين يكون حجيتها من حيث وصف الظن الفعلي ، لان اجتماع الظنين الفعليين بالمتنافيين محال فلا يمكن حصول الظن الفعلي بعدم اللازم في فرض حصوله بالملزوم وبالعكس « وهذا » بخلاف القول باعتباره من باب الاخبار ، فإنه لا محذور عقلا في التعبد بطرفي النقيض في زمانين ، فأمكن اجراء كلا الاستصحابين في نحو المثل المتقدم « كما أنه » عليه يصح اطلاق التعارض في الاستصحابات المتعارضة والمصير إلى الحكومة في الاستصحابات السببية « وكذا » يصح ذلك بناء على اعتباره من باب الظن النوعي ودخوله في أدلة السرة كظواهر الألفاظ وغيرها من الامارات المعتبرة من حيث إفادة نوعها الظن ، فإنه عليه أيضا لا يرد محذور في البين كما هو ظاهر.

( الامر الثاني ) هل المسألة من المسائل الأصولية ، أو القواعد الفقهية ، أو من المبادئ التصديقية ، فيه وجوه ( والتحقيق ) كونها من المسائل الأصولية ، لوضوح ان الغرض من هذا العلم بعد أن كان تنقيح ما يصلح ان يقع وسطا لاثبات الاحكام الكلية الفرعية ، أو ما تنتهي إليه الفقيه عند عدم انكشاف الواقع لديه بعلم أو علمي من الوظائف العملية المقررة عقلية أو شرعية ، فلا جرم يكون المقياس في أصولية المسألة بكونها من القواعد التي لها دخل في الغرض الداعي إلى تدوين هذا العلم ( وحيث ) ان مسائله يرجع إلى صنفين صنف منها لوحظ فيه الحكاية والكشف عن الواقع ولونا قصا وكان من شأنه الوقوع في طريق استنباط الاحكام الكلية والوظائف النفس الامرية كالأمارات ، وصنف آخر منها لم يلاحظ فيه هذه الجهة ، بل كان مما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل في ظرف الجهل بالواقع واستتاره كالقواعد العملية شرعية أو عقلية وكان لكل من الصنفين دخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم ، كان الاستصحاب لا محاله على جميع المسالك معدودا من مسائل علم الأصول بل من أهم مباحثه ( وكذلك الامر ) على ما افاده العلامة الأنصاري قده من الميزان في أصولية المسألة بما يكون تطبيقه على موارده مخصوصا بالمجتهد ، حيث إنه من جهة احتياجه إلى الفحص عن الأدلة في تطبيقه على موارد الشبهات الحكمية يكون داخلا في مسائل

ص: 6

العلم ، لاختصاص امر تطبيقه بيد المجتهد « وان كان » ما افاده قده من الميزان لا يخلو من اشكال ، لاندراج كثير من القواعد الفرعية تحت الميزان المزبور كقاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية ونفوذ الصلح والشرط وعدم نفوذهما باعتبار كونهما مخالفين للكتاب والسنة أو غير مخالفين لهما ، حيث إن تطبيق عنوان مخالفة الكتاب والسنة وتشخيص موارد نفوذ الصلح والشرط عن موارد عدم نفوذهما يكون مختصا بالمجتهد وليس للمقلد فيه نصيب « واما بناء » على جعل ميزان المسألة بما يكون وسطا لاثبات حكم المتعلق كما يقتضيه التعريف المعروف بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية الظاهرية من جهة لفظ الاستنباط في إرادة وقوع القواعد طريقا ووسطا لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية « فبناء » على اخذه من بناء العقلاء من باب الا مارية لا الأصلية لا اشكال أيضا في كونه من المسائل الأصولية « وكذلك الامر » بناء على اخذه من العقل الظني المنتهى اعتباره إلى مقدمات الانسداد بمناط الكشف « واما بناء » على التعبد من جهة اخذه من الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، ففي كونه من المسائل الأصولية اشكال خصوصا على مسلك توجيه النقض فيها إلى المتيقن ، فان مضامينها حينئذ لا تكون الا قاعدة فقيهة ظاهرية منطبقة على مواردها كسائر القواعد الفقهية ، كقاعدتي الضرر والحرج ، وقاعدة الطهارة ونحوها ، واستفادة الاحكام الجزئية منها في مواردها انما يكون من باب التطبيق لا الاستنباط ، هو غير مرتبط بوقوعها وسطا لاثبات الحكم الشرعي الكلي في مقام الاستنباط « ولكن الاشكال » كله في التعريف المزبور لما فيه من اقتضائه خروج مسائل الأصول العملية طرا عن مباحث هذا العلم ، وكذا مسألة حجية الظن بملاك الانسداد على حكومة العقل ، بل وخروج الامارات عنها أيضا بناء على تنزيل المؤدى وجعل حكم المماثل في مرحلة الظاهر « فان » نتيجة دليل اعتبارها حينئذ حكم شرعي كلي ينحل إلى احكام كلية أصولية وفرعية مطابقة لمؤديات الامارات ، لا انها تكون وسطا لاثبات حكم كلي شرعي فرعى واقعي في مقام استنباطه ، مع أنه كما ترى ، فان هذه المسائل من أهم مباحث هذا العلم ، ولأجل ذلك قلنا في مبحث تعريف علم الأصول ان الجري ، هو ان يقال في تعريفه انه هي القواعد الخاصة التي تعمل في استخراج الاحكام الفرعية الواقعية ، أو الوظائف العملية عند التحير وعدم انكشاف الواقع

ص: 7

بعلم أو علمي عقلية كانت أم شرعية وان كان الامر سهلا.

( الامر الثالث ) لا اشكال في مباينة الاستصحاب مع قاعدة اليقين. فان المعتبر في القاعدة ان يكون الشك فيها متعلقا دقة بعين ما تعلق به اليقين بنحو يكون معروض الوصفين واحدا بالدقة العقلية وجودا وحدا ومرتبة ، ولذلك لا بد فيها من اختلاف زمان الوصفين مع اتحاد زمان المشكوك والمتيقن لاستحالة طروهما على محل واحد في زمان كذلك ( بخلاف الاستصحاب ) فان فيه يختلف معروض الوصفين دقة في عالم عروضهما ، حيث إن معروض اليقين فيه هو أصل ثبوت الشيء في زمان ، ومعروض الشك هو حيث بقائه في ثاني زمان حدوثه بحيث يكون المتحقق في هذه المرحلة قضيتان قضية متيقنة أبدية وقضية مشكوكة أزلية بلا ارتباط بينهما من جهة الحدوث والبقاء الا من جهة الذات التي هي منشأ انتزاعهما في مرحلة الاتصاف في الخارج ( وبذلك ) يكون الاستصحاب على عكس القاعدة ، فان يعتبر فيه اختلاف زمان معروض الوصفين لا زمان الوصفين نفسهما ، لجواز اتحاد زمانهما فيه ، كما لو علم يوم الجمعة بعدالة زيد يوم الخميس وشك في يوم الجمعة أيضا في عدالته فيه ، بل المعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك حين الحكم بالبقاء سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو بعده ، أم كان حدوثهما متقارنين زمانا كالمثال المتقدم ( والا ) فبدونه لا يصدق الشك في البقاء ، بل الشك يكون ساريا فيخرج عن موضوع الاستصحاب كما هو ظاهر.

ومن التأمل ، فيما ذكرنا يظهر انه لابد في الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة بحسب الموضوع والمحمول ، والمراد بالوحدة المزبورة انما هو وحدتهما وجودا خارجيا كي يصدق تعلق الشك بما تعلق به اليقين السابق ويصدق على القضية المشكوكة انها بقاء للقضية المتيقنة ، لا مجرد وحدتهما بحسب الذات والحقيقة ولو مع تعددهما في الخارج وجودا ( بداهة ) انه لا يكفي في الاستصحاب مجرد الاتحاد في الحقيقة والماهية ولو مع تعدد الوجود خارجا ، والا يلزم جريان الاستصحاب عند اليقين بوجود فرد والشك في فرد آخر وهو كما ترى ( ولذا ) كان بناء المحققين على عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من اقسام الشك في وجود الكلى كما سيجيء تحقيقه انشاء تعالى ( ولا ان المراد ) هو وحدتهما وجودا وحدا ومرتبة ، والا فلا يتصور

ص: 8

فيه الشك في البقاء وينطبق على قاعدة اليقين لا الاستصحاب ( لا يقال ) على هذا يشكل تطبيق الاستصحاب على الأحكام الشرعية ، فان موضوعاتها لما كان عبارة عن الموجودات الذهنية ولو بما هي مرأت إلى الخارج وكان ظرف محمولاتها محضا بكونه ذهنيا لا خارجيا ، لان الخارج ظرف اتصافها بها لا ظرف عروضها ، فلا جرم في ظرف عروض محمولاتها لا يتصور لموضوع القضيتين وحدة خارجية لا فعلية ولا فرضية كي يصدق تعلق الشك في القضية المشكوكة بما تعلق به اليقين ( بل الواحدة ) المتصورة بينهما في هذا الصقع لا تكون الا ذاتية ، والا فموضوع كل قضية لا يكون الا موجودا ذهنيا مغايرا لما هو الموضوع في القضية الأخرى ( فإذا كان ) المفروض عدم كفاية الوحدة الذاتية في جريان الاستصحاب وكان الخارج أجنبيا عن صقع عروض هذه المحمولات ، فمن أين يتصور الشك في البقاء في القضايا الشرعية التكليفية حتى يجرى فيها الاستصحاب ( فإنه يقال ) ان ظرف عروض هذه المحمولات وان كان ذهنيا وبالنسبة إلى هذا الظرف لا يتصور لموضوع القضيتين وحدة خارجية ولو فرضية ولا يتوارد اليقين والشك على محل واحد من حيث الحدوث والبقاء ، لان ما هو معلوم كان معلوما إلى الأبد وما هو مشكوك كان مشكوكا من الأزل ( الا انه ) يكتفى بوحدة منشأ انتزاعهما في مرحلة الاتصاف في الخارج في صدق البقاء والنقض في موضوع القضايا التكليفية ، حيث يصدق على القضية المشكوكة في هذه المرحلة انها بقاء للقضية المتيقنة فيشملها دليل حرمة النقض لكونه مقصورا إلى مرحلة اتصاف الموضوع بحكمه في الخارج ، لا إلى مرحلة العروض كما هو ظاهر.

( ثم إن ) في استصحاب الاحكام الكلية مطلقا وان كان مدركها النقل اشكالا آخر ، وحاصله ان الشك في بقاء الحكم الكلى لا جل اختلاف الحالات وتبادلها راجع إلى الشك في بقاء موضوعه ، لان موضوع الاحكام الكلية انما هو المفاهيم الكلية وباختلاف القيود وتبادل الحالات يختلف المفهوم المأخوذ موضوعا للحكم بعين اختلافه في مرحلة كونه معروضا للحسن والقبح والمصلحة والمفسدة ، فإذا شك في بقاء الحكم الكلي ، اما للشك في بقاء القيد المعلوم قيديته ، أو لفقد ما يشك في قيديته أو لغير ذلك ، يرجع هذا الشك لا محالة إلى الشك في بقاء موضوعه فلا يجرى فيه الاستصحاب ( ومنشأ ) هذا الاشكال هو تخيل رجوع جميع القيود التي تؤخذ في

ص: 9

القضية بحسب اللب إلى الموضوع وان كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى الحكم ( اما لقضاء الوجدان ) بدخل القيود المأخوذة في القضايا الطلبية في مصلحة موضوع الحكم وعدم تعلق الاشتياق والإرادة الفعلية الناشئة عن العلم بالمصلحة في الذات الا في ظرف تحقق جميع القيود ( أو البرهان ) من لا بدية كون موضوع الاحكام بعينه هو معروض المصالح ( فان ) لازمه في جميع موارد دخل القيد في مصلحة التكليف هو رجوعه إلى ما هو موضوع التكليف ، والا فبدونه يلزم اطلاق مصلحة الموضوع لعدم الواسطة بين الاطلاق والتقييد واستحالة الاهمال النفس الأمري ، ولازم الاطلاق المزبور هو تحقق المصلحة في الذات ولو مع عدم وجود القيد وهو مساوق عدم دخله في مصلحة التكيف وهو خلف ( ولكن فيه ) ما لا يخفى من الفرق بين قيود الحكم وقيود الموضوع ( فان ) مرجع كون الشيء قيدا للوجوب والحكم كما أوضحناه في مبحث المقدمة في شرح الواجبات المشروطة إلى دخله بنحو العلية لأصل الاحتياج إلى الشيء الذي به يصير الشيء متصفا بكونه ذات مصلحة كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلى الصلاة والحج في قبال قيود الواجب الراجعة إلى دخلها في تحقق المحتاج إليه ووجود ما هو المتصف بالمصلحة فارغا عن الاتصاف بكونه صلاحا كالطهور والستر بالنسبة إلى الصلاة ( ومن الواضح ) عدم صلاحية رجوع مثل هذه القيود في لب الإرادة إلى الذات المعروضة للمصلحة ( لان ) كون الشيء من الجهات التعليلية للحكم ومن علل اتصاف الشيء بكونه ذات مصلحة وان كان موجبا لضيق قهري في طرف الحكم والمصلحة ويمنع عن اطلاقهما ، لاستحالة ان يكون للشيء اطلاق يشمل حال عدم علمه ويستتبع ذلك أيضا نحو ضيق فرضي في طرف الذات التي هي معروض هذه المصلحة ، لامتناع أوسعية دائرة الموضوع عن حكمه ، ولكن لا يكاد يقيد به الذات ، لأنه من المستحيل تقيد الموضوع بحكمه أو بما هو من علله ( بل الموضوع ) في نحو هذه القضايا عبارة عن الذات العارية عن حيثيتي الاطلاق والتقييد ، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عرضه في الاعراض الخارجية وغيرها ( حيث ) ان كل عرض بعروضه على الذات يوجب ضيقا في ذات معروضه بنحو لا يكون لها اطلاق يشمل حال عدم عارضه ومع ذلك لا تكون مقيدة به أيضا وانما هي حصة من الذات التوئمة مع الحكم على نحو القضية الحينية لا مطلقة ولا مقيدة به

ص: 10

( وبعد ذلك ) نقول انه إذا كان مثل هذا الضيق الناشئ عن ضيق العارض في مرحلة عروضه غير مأخوذ في نفس معروض الحكم والمصلحة ، ففي موارد ظهور القضية في رجوع القيد المأخوذ فيها إلى كونه قيدا للوجوب لا للواجب لا مجال للاشكال في استصحاب الحكم الكلي من الجهة المزبورة ، فإنه على ما بيناه يكون الموضوع في أمثال هذه القضايا عبارة نفس الذات القابلة للبقاء حتى مع اليقين بانتفاء قيد حكمه فضلا عن الشك في انتفائه ، فإذا شك في قيدية ما علم انتفائه للحكم أو في بقاء ما علم قيديته له يجري فيه الاستصحاب ، كما يجري فيه عند الشك في بقاء سائر اعراضه الخارجية لأجل الشك في بقاء عللها ، فيقال : ان هذه الذات في ظرف تحقق قيد كذا كانت متصفة بالمرادية وبعد الشك في بقاء القيد يشك في بقائها على الاتصاف المزبور ، فيجري فيه الاستصحاب ولو مع البناء على كون مدار الوحدة في القضيتين على الأنظار الدقية فضلا عما هو التحقيق من كفاية الوحدة العرفية فإنه عليه ربما يجري الاستصحاب ولو كان القيد بحسب الدقة من قيود الموضوع ومن مقوماته ، لأنه ربما يرى العرف بحسب ما هو المرتكز في أذهانهم من مناسبة الحكم والموضوع كون الموضوع للحكم هو نفس الذات وان القيد من الأمور غير المقومة له أو من الجهات التعليلية لطرو الحكم عن ذات الموضوع ( نعم ) لو قلنا ان عموم لا تنقض مسوق بلحاظ ما يستفاد من لسان الدليل ويفهم منه العرف في تشخيص موضوعات الاحكام وتحديد مفاهيم الألفاظ ومداليلها ، لا بلحاظ ما يفهمه بلحاظ ما ارتكز في ذهنه في نظائره من الاحكام العرفية ومناسبات الحكم والموضوع ، كان اللازم التفصيل في جريان الاستصحاب بين الاحكام حسب اختلاف أدلتها من حيث اللسان ، فيفرق بين ان يكون القيد المشكوك دخله ولو بقاء مأخوذا في ظاهر القضية على نحو التوصيف كقوله : الماء المتغير نجس ، أو مأخوذا على نحو التعليل للحكم كقوله : الماء إذا تغير نجس باجراء الاستصحاب في الثاني دون الأول.

( لا يقال ) ان موضوع الحكم بما هو موضوع وان كان غير مقيد بقيود الحكم ولكنه لا اطلاق له أيضا يشمل حال عدم القيد ، لان ملازمة الحكم لموضوعه وعدم تخلفه عنه موجبة لضيق قهري في ذات الموضوع بنحو لا يكاد ينطبق الا على حصته من الذات الملازمة مع القيد لا مقيدة به ( ومعه ) يتوجه الاشكال المزبور ، إذ يقال : ان

ص: 12

موضوع الحكم بوصف كونه موضوعا غير معلوم البقاء في الآن الثاني مع الشك في بقاء ما علم قيديته للحكم أو العلم بانتفاء ما شك في قيديته له ولا ( يندفع ) ذلك الا بالبناء على كفاية الأنظار العرفية في وحدة القضيتين وتعددهما ، والا فبناء على اعتبار الأنظار العقلية لا محيص من الاشكال حيث يكفي فيه مجرد عدم اطلاق الموضوع بما هو موضوع الشامل لحال عدم القيد ( فإنه يقال ) : ان الغرض من لزوم اتحاد الموضوع بنحو الدقة في باب الاستصحاب ليس الا ذات الموضوع المحفوظ في الحالتين لا بوصف معروضيته ، فلا بد من تجريد متعلق اليقين والشك عن هذه الجهة كي يصدق تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، والا فمع عدم التجريد من هذه الجهة لا يتصور اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ، ويلزمه انطباقه على قاعدة اليقين لا الاستصحاب ، ولازمه المنع عن استصحاب الاعراض الخارجية أيضا كسواد الجسم وبياضه وهو كما ترى ، فلا محيص حينئذ من تجريد متعلق الشك واليقين من الحيثية المزبورة بجعله عبارة عن ذات الموضوع المحفوظة في حالتي اليقين بعروض العارض وشكه حتى يصدق تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، وعليه كما يجري الاستصحاب في الاعراض الخارجية ، كذلك يجري في الاحكام الكلية ، إذ لافرق بينهما من هذه الجهة ( نعم ) غاية ما هناك من الفرق بينهما هو ان القيود بوجوداتها الخارجية في الاعراض علل عروضها على محالها وفى الاحكام علل اتصاف الموضوعات بأحكامها ، لا علل عروضها عليها ، إذ في ظرف عروضها لا تحتاج إلى وجود قيودها خارجا وانما المحتاج إليه في هذه المرحلة هو وجودها لحاظا وتصورا كما أوضحناه في مبحث المقدمة في شرح الواجبات المشروطة.

( ثم إن العجب ) من المحقق الخراساني قدس سره انه كيف يصدق هذا الاشكال في المقام في استصحاب الاحكام الكلية ويلتجى في الجواب عنها إلى دعوى كفاية الأنظار العرفية في اتحاد القضيتين في الاستصحاب ، مع أنه على ما افاده في مبحث المقدمة من تصوير الواجب المشروط في فسحة من هذا الاشكال وحيث إن له تصوير جريان الاستصحاب فيها بنحو ما ذكرناه ولو مع البناء على لزوم اتحادهما بالنظر الدقي العقلي ( نعم ) يتجه هذا الاشكال على مسلك مثل الشيخ قدس سره فيما سلكه من عدم تصوير

ص: 13

الواجبات المشروطة وارجاعها طرا بحسب اللب إلى المعلقة.

( الامر الرابع ) لا شبهة في أنه على المختار من تعلق النقض باليقين يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشك لأنهما مما به قوام حقيقته فلا استصحاب مع الغفلة لعدم حصولهما معها ( واما ) بناء على مسلك توجيه حرمة النقض إلى الواقع بجعل اليقين المأخوذ في دليله طريقا لمجرد ايصال النهي إلى الواقع من دون دخل لليقين فيه أصلا ، فقد عرفت انه لا مجال لدعوى ركنية اليقين والشك الفعليين في الاستصحاب والتعبد ببقاء الواقع ( نعم ) غاية ، هناك دخلهما في مقام احراز الحدوث ومرحلة تطبيقه على المورد ، ونتيجة ذلك هي جريان الاستصحاب والتعبد بالبقاء مع الغفلة والشك التقديري أيضا ، غاية الامر تكون الغفلة مانعة عن تنجزه كسائر الاحكام الفعلية الواقعية ، لا عن أصل فعليته.

( وقد رتب ) على ذلك ثمرة مهمة في من كان متيقنا بالحدث ثم غفل وصلى فشك بعد الفراغ من الصلاة في تطهره قبل الصلاة ( فقيل ) في الفرض المزبور بصحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها بناء على اعتبار فعليه الشك واليقين في الاستصحاب ، لقاعدة الفراغ الحاكمة على استصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله المقتضى لترتب اثر البطلان على المأتى به من حيث وجوب الإعادة والقضاء ، لان المقدار الذي ينفع الاستصحاب المزبور انما هو بالنسبة إلى الصلوات الآتية ، واما بالنسبة إلى الصلاة المأتى بها في حال الغفلة ، فالقاعدة تكون حاكمة عليه ( واما بناء ) على كفاية الشك التقديري ، فلا بد من الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة والقضاء عند الالتفات إلى حاله ، لجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة في حال الغفلة واقتضائه محكومية الصلاة بالفساد.

( أقول ) : ولا يخفى عليك ما في الابتناء والتفريع المزبور فان كل طريق أو أصل معتبر عقليا كان أو شرعيا عند قيامه على شيء انما يجب اتباعه ويترتب عليه الأثر من المنجزية أو المعذرية في ظرف وجوده وبقائه على حجيته لا مطلقا حتى في ظرف انعدامه أو خروجه عن الحجية ( والا ) فلا يكفي مجرد وجوده وحجيته في زمان في ترتب الأثر عليه للتالي حتى في أزمنة انعدامه أو خروجه عن الحجية ( وبعد ذلك

ص: 14

نقول ) انه بناء على كفاية الشك التقديري وان كان يجرى استصحاب الحدث في ظرف الغفلة قبل الصلاة ولكنه لا يترتب عليه الا بطلان الصلاة سابقا ، واما وجوب الإعادة أو القضاء في ظرف بعد الفراغ فلا يترتب على الاستصحاب المزبور ، لأنه من آثار الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ لا من آثار استصحاب الحدث الجاري في ظرف الغفلة قبل الصلاة ، وانما اثر ذلك هو عدم جواز الدخول في الصلاة وجواز قطعها في فرض دخوله فيها غفلة ، فإذا كان الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ محكوما بالقاعدة فمن حين الفراغ لا بد من الحكم بالصحة للقاعدة لا البطلان لعدم جريان الاستصحاب من ذلك الحين ولا اثر للحكم بالبطلان سابقا بعد كون العمل محكوما بالصحة من الحين بمقتضى القاعدة ( نعم ) لو كانت القاعدة في جريانها منوطة بعدم كون المصلى محكوما بالمحدثية سابقا ، كان لاخذ الثمرة مجال ، ولكن الامر ليس كذلك قطعا ، لعدم كون هذا القيد شرطا في القاعدة ( وانما ) الشرط فيها مجرد كون الشك في الصحة حادثا بعد الفراغ من العمل ، ومن هنا لا تجري فيما لو حدث الالتفات والشك قبل الفراغ ولو لم يجر استصحاب الحدث ولا كان المكلف محكوما بالمحدثية حين الشروع في الصلاة ، كما في موارد توارد الحالتين التي لا يجري فيها الاستصحاب ، اما لعدم جريانه في نفسه مع العلم الاجمالي ، أو من جهة سقوطه بالمعارضة.

( وبذلك ) ظهر اندفاع توهم اقتضاء البيان المزبور للحكم بصحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها حتى في فرض اليقين بالحدث والشك الفعلي في الطهارة قبل الصلاة ، لفرض عدم انقضاء محكومية الصلاة بالفساد حال الاتيان بها بالاستصحاب الجاري قبل الصلاة لبطلانها بعد الفراغ ، وحكومة القاعدة على استصحاب الحادث الجاري في ظرف الفراغ : وهذا مما لا يلتزم به أحد من الأصحاب ( توضيح الاندفاع ) هو ان بنائهم على بطلان الصلاة ووجوب اعادتها في مفروض النقض انما هو لأجل عدم كون المورد مجرى لقاعدة الفراغ ، لاختصاصها بالشك الحادث بعد الفراغ وعدم شمولها لما إذا حدث الالتفات والشك قبله ، إذ حينئذ يجري استصحاب الحدث في ظرف بعد الفراغ لسلامته عما يقتضى صحة العمل ومقتضاه هو الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة ، لا ان ذلك من جهة مجرد استصحاب الحدث الجاري قبل الشروع

ص: 15

في الصلاة واشتراط القاعدة في جريانها بعدم كون الصلاة حال الاتيان بها محكومة بالبطلان ( كيف ولازمه ) هو الحكم بالصحة للقاعدة في فرض طرو الغفلة حين الشروع في الصلاة ، كما لو تيقن بالحدث وشك في الطهارة قبل الصلاة ثم غفل فصلى فتجدد له الشك في الطهارة بعد الفراغ مع القطع بعدم تطهره من الحدث الاستصحابي قبل الصلاة ( لوضوح ) انه لا يكون له حكم ظاهري بتحصيل الطهارة حين الشروع في الصلاة ، فان الاستصحاب وظيفة عملية للشاك بما هو شاك فيكون متقوما بالشك حدوثا وبقاء ، فمن حين طرو الغفلة يرتفع الحدث الاستصحابي بارتفاع شكه : فلا استصحاب حين الشروع في الصلاة يقتضى محكومية المصلى بالمحدثية حتى يمنع عن جريان قاعدة الشك بعد الفراغ ، مع أن ذلك كما ترى.

( وتوهم ) ان المانع عن صحة الصلاة وعن جريان القاعدة حينئذ هو الحدث الاستصحابي السابق على طرو الغفلة ( فمدفوع ) بان الصالح للمنع عن الصحة انما هو الحدث الباقي إلى حين الشروع في الصلاة ، لا الحدث مطلقا ، فمانعية الحدث الاستصحابي عن صحة الصلاة انما تكون في فرض بقائه على الالتفات إلى حين الشروع فيها ، والا فمع زواله بطرو الغفلة قبل الشروع في الصلاة لا يصلح الحدث الاستصحابي السابق للمانعية عن صحة الصلاة وعن جريان قاعدة الفراغ حين الشك المتجدد بعد الفراغ ، فينحصر المنع عن صحة الصلاة وعن جريان قاعدة الشك بعد الفراغ في الفرض المزبور بما ذكرنا من اختصاص القاعدة في جريانها بصورة الشك الحادث بعد الفراغ من العمل بحيث لا يكون مسبوقا بالالتفات والشك قبل العمل وان غفل حين الشروع فيه ( وعليه ) نقول : في المقام انه لا مجال لمثل هذا التفريع واخذ الثمرة المزبورة بين القولين ، فإنه بعد أن كان الشك في الحدث ممحضا بكونه بعد الفراغ من الصلاة فمن حين الفراغ تجري فيها قاعدة الشك بعد الفراغ المقتضية لصحتها والحاكمة على أصالة فسادها بعد الصلاة ، قلنا باعتبار الشك الفعلي في جريان الاستصحاب ، أو بكفاية الشك التقديري ( ولعمري ) ان ذلك واضح لا سترة عليه ، وانما أطلنا الكلام في ذلك لما يظهر من العلامة الأنصاري قده من تسليم الثمرة

ص: 16

المزبورة وتعليل بطلان الصلاة وعدم جريان قاعدة الشك بعد الفراغ بسبق الامر بالطهارة والنهى عن الدخول في الصلاة بدونها ( نعم ) يمكن ان يفرض وجود الثمرة بين القولين في عكس المسألة فيما لو علم بالطهارة فشك فيها قبل الصلاة ثم غفل وصلى وبعد الفراغ من الصلاة حصل له شك مقرون بعلم اجمالي بتوارد الحالتين عليه قبل الصلاة ، حيث إنه بناءا على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب يحكم عليها بالصحة وعدم وجوب الإعادة ( واما بناء ) على اعتبار الشك الفعلي ، فلا طريق إلى احراز صحة صلاته وفسادها ، لأنه حين حصول الشك المقرون بالعلم الاجمالي بتوارد الحالتين لا مجال لجريان الاستصحاب اما لعدم جريانه في نفسه مع العلم الاجمالي المزبور ، واما لسقوطه بالمعارضة ( واما قاعدة الشك ) بعد الفراغ فهي أيضا غير جارية لاختصاص جريانها بصورة الشك الحادث بعد الفراغ من العمل فيه فتأمل.

( الامر الخامس )

ينقسم الاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه وباعتبار الشك المأخوذ فيه إلى اقسام ( اما أقسامه ) بالاعتبار الأول ، فلان المستصحب تارة يكون وجوديا ، وأخرى عدميا ( وعلى التقديرين ) تارة يكون حكما شرعيا ، وأخرى موضوعا ذا حكم شرعي ( وعلى الأول ) تارة يكون حكما كليا ، وأخرى حكما جزئيا ( وعلى التقديرين ) فتارة يكون من الأحكام التكليفية ، وأخرى من الأحكام الوضعية ( واما أقسامه ) بالاعتبار الثاني فلان الدليل الدال على ثبوت المستصحب ، تارة يكون عقليا وأخرى شرعيا ( وعلى الثاني ) فتارة يكون لفظيا كالكتاب والسنة ، وأخرى لبيا كالاجماع ( واما أقسامه ) بالاعتبار الثالث « فلان » الشك في بقاء المستصحب تارة يكون من جهة الشك في المقتضى وقابلية المستصحب في نفسه للبقاء ، وأخرى يكون من جهة الشك في الرافع مع القطع باستعداد المستصحب للبقاء « وعلى الثاني » تارة يكون الشك في وجود الرافع ، وأخرى في رافعية الموجود « اما من

ص: 17

جهة » عدم تعين المستصحب لتردده بين ما يكون الموجود رافعا له ومالا يكون كذلك ، كفعل الظهر المشكوك كونه رافعا للاشتغال بالصلاة المكلف بها قبل العصر يوم الجمعة لتردده بين كونها هي الظهر أو الجمعة ، وكالوضوء المشكوك كونه رافعا للحدث المردد بين الأصغر والأكبر « واما » للجهل بصفة كون الموجود رافعا كالمذي ، أو الجهل بكونه مصداقا للرافع كالرطوبة المرددة بين البول والوذي « فهذه » اقسام متصورة للاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة المتقدمة « والظاهر » هو وقوع الخلاف بين الاعلام في كل واحد من هذه الأقسام « حيث » انهم بين قائل بحجيته مطلقا ، وقائل بعدم حجيته كذلك « وثالث » بالتفصيل بين الوجودي والعدمي باعتباره في الأول دون الثاني ( ورابع ) عكس ذلك ( وخامس ) بالتفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية « وسادس » مفصل بين الأمور الخارجية والأحكام الشرعية « وسابع » بالتفصيل بين الاحكام الجزئية والكلية « وثامن » بين الشك في المقتضى والشك في الرافع « وتاسع » مفصل بين كون الدليل المستصحب عقليا أو شرعيا « وعاشر » بين ثبوت المستصحب بدليل لفظي كالكتاب والسنة ، وثبوته بدليل لبي كالاجماع إلى غير ذلك من التفاصيل التي استقصاها الشيخ قدس سره في فرائده « ولكن الأقوى » هو حجية الاستصحاب في جميع هذه الأقسام باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه والشك المأخوذ فيه ، وسيتضح تحقيق ذلك أن شاء اللّه تعالى عند التعرض لذكر أدلة الاستصحاب.

« وقبل الخوض » فيها لا بأس بالتعرض لما افاده الشيخ قدس سره من التفصيل في جريان الاستصحاب بين ان يكون دليل المستصحب عقليا أو شرعيا بجريانه في الثاني دون الأول « حيث قال » الثاني من حيث إنه اي المستصحب قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ، ولم أجد من فصل بينهما الا ان في تحقق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي وهو حكم العقل المتوصل به إلى حكم شرعي تأملا ، نظرا إلى أن الاحكام العقلية كلها مبينة ومفصلة من حيث مناط الحكم الشرعي ، والشك في بقاء الحكم المستصحب وعدمه لا بد وان يرجع إلى الشك

ص: 18

في موضوع حكم العقل لان الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف الذي هو الموضوع ، فالشك في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون الا للشك في موضوعه ، الموضوع لابد ان يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب كما سيجيء « ولا فرق » فيما ذكرنا بين ان يكون الشك من جهة الشك في وجود الرافع وبين ان يكون لأجل الشك في استعداد الحكم ، لان ارتفاع الحكم العقلي لا يكون الا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الامر بالآخرة إلى تبدل العنوان ، الا ترى إذا حكم العقل بقبح الصدق الضار فحكمه يرجع إلى أن الضار من حيث إنه ضار حرام ، ومعلوم ان هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقا ، لان قولنا المضر قبيح حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه ابدا ولا ينفع في اثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر ، ولا يجوز ان يقال ان هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ، لان الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضر ، والحكم له مقطوع البقاء ( وهذا ) بخلاف الأحكام الشرعية فإنه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ولا يعلم أن المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشك أو مرتفع فيستصحب الحكم الشرعي ، انتهى كلامه قدس سره ( أقول ) : ولا يخفى ما فيه ، فان الاشكال المزبور ان كان راجعا إلى شبهة عدم احراز بقاء الموضوع في استصحاب الاحكام المستكشفة من الاحكام العقلية ، بدعوى ان القيود في الاحكام العقلية بأجمعها راجعة إلى نفس الموضوع الذي هو فعل المكلف ، فالشك في بقاء الحكم المستكشف من الحكم العقلي حتى لأجل الشك في وجود الرافع يرجع إلى الشك في بقاء موضوعه ، كما لعله هو الظاهر بل الصريح من بعض كلامه ( ففيه ) ( أولا ) منع الكلية المزبورة ، لا مكان دخل بعض القيود في الاحكام العقلية بكونه من الجهات التعليلية لطرو الحسن أو القبح على نفس الذات ، كما لعله من هذا القبيل عنوان المضرية للصدق والنافعية للكذب في الحكم عليهما بالقبح والحسن ( فان الظاهر )

ص: 19

من مثل هذه العناوين كونها من الجهات التعليلية لطرو الحسن والقبح على نفس الذات ، لا من الجهات التقييدية المأخوذة في الموضوع ، نظير عنوان المؤثرية في الاضرار والانتفاع الذي هو من الجهات التعليلية لطرو الحسن والقبح على ما هو المؤثر وهو الذات ، وعنوان المقدمية التي هي جهة تعليلية لطرو الوجوب على ما هو مصداق المقدمة من دون ان يكون لعنوان المقدمية دخل في موضوع الحكم ( وعليه ) فلا قصور في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي لان موضوع الحكم حينئذ عبارة عن نفس الذات ومثله مما يقطع ببقائه في الزمان الثاني حتى مع القطع بانتقاء قيد حكمه فضلا عن صورة الشك فيه.

( وثانيا ) على فرض تسلم الكلية المزبورة في القيود المأخوذة في الاحكام العقلية ( نقول ) انه يتوجه الاشكال المزبور بناءا على اعتبار وحدة الموضوع في القضية المشكوكة والمتيقنة بالأنظار العقلية الدقية ( ولكن ) يلزمه المنع عن جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الدليل الشرعي أيضا ، لقيام احتمال تغاير الموضوع في كل مورد يكون الشك في بقاء الحكم الشرعي من جهة الشك في انتفاء ما له الدخل في موضوع الحكم قطعا أو احتمالا سواء في الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فإذا حكم الشارع على الصدق الضار بكونه حراما واحتمل مدخلية الوصف المزبور في موضع الحكم فعند الشك في بقائه على مضريته لا يجري فيه الاستصحاب لعدم احراز بقاء الموضوع في الزمان الثاني ( بل يلزمه ) سد باب الاستصحاب في الاحكام رأسا الا في الموارد النادرة لأنه ما من مورد يشك في بقاء الحكم الشرعي لأجل الشك في انتفاء بعض الخصوصيات حتى الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود الا ويحتمل مدخلية الخصوصية المشكوكة وجودا أو عدما في موضوع الحكم الشرعي ومناطه ولو بحسب لب الإرادة ، ومع قيام احتمال تغاير الموضوع لا يجري فيه الاستصحاب ( واما ) على ما هو التحقيق من كفاية الوحدة بالأنظار العرفية حسب ما هو المرتكز في أذهانهم في نظائره من أحكامهم العرفية بمناسبات الحكم والموضوع كما هو مختاره قده أيضا فلا قصور في جريان الاستصحاب ، فإنه

ص: 20

كما يجرى الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الدليل الشرعي حتى فيما كان الموضوع مأخوذا في لسان الدليل على نحو التقييد كالماء المتغير والصدق الضار والكذب النافع ونحو ذلك لعدهم الخصوصيات المأخوذة فيه في لسان الدليل من الحالات غير المقومة للموضوع ( كذلك ) يجرى في الحكم المستكشف من الدليل العقلي ( واما الجزم ) بانتفاء الحكم العقلي حينئذ لعدم دركه فعلا مع الشك في مناط حكمه ، فغير ضائر بجريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف منه ، لما سيجيء من أن استتباع الحكم الشرعي للحكم العقلي انما هو في مقام الكشف والاثبات لا الثبوت ، وانما هو في هذا المقام تابع تحقق مناطه واقعا فيمكن بقاء الحكم الشرعي ثبوتا ببقاء مناطه وان انتفى كاشفه الذي هو الحكم العقلي ( فعلى كل تقدير ) لا مجال للتفرقة في جريان الاستصحاب بين كون دليل الحكم شرعيا وكونه عقليا ( نعم ) بناء على أن عموم لا تنقض مسوق بلحاظ ما يستفاد من لسان الدليل حسب فهم العرف في تشخيص موضوعات الاحكام وتحديد مفاهيم الألفاظ ومداليلها ، لا بلحاظ ما ارتكز في أذهانهم العرفية بما تخيلوه من الجهات والمناسبات ، لا بأس بالتفرقة في جريان الاستصحاب بين الاحكام بلحاظ اختلاف أدلتها ، فيفصل بين الثابت بالدليل اللفظي الظاهر في كون القيد من قيود الحكم كقوله : الماء إذا تغير ينجس والصدق إذا كان ضارا حرام ، وبين الثابت بالدليل العقلي المثبت للحكم لعنوان خاص كالصدق الضار والكذب النافع بجريان الاستصحاب في الأول عند الشك في انتفاء قيده المعلوم قيديته أو الشك في قيديته ما يعلم انتفائه ، لعدم تطرق الشك في أمثال ذلك إلى موضوع المستصحب ، وعدم جريانه في الثاني لعدم انفكاك الشك في بقاء الحكم المستكشف منه عن الشك في بقاء موضوعه ( ولكن ) لازم ذلك هو تعميم الاشكال المزبور من هذه الجهة في الاحكام المستكشفة من الاجماع والسيرة أيضا ، بداهة انه لا خصوصية لهذه الشبهة بالأحكام المستكشفة من الأدلة العقلية ، بل هي تجرى في كل حكم شرعي يكون طريق كشفه غير الأدلة اللفظية من اللبيات عقلا كان أو اجماعا أو سيرة ، فإذا ثبت حكم شرعي لموضوع خاص في حال من الأحوال باجماع أو سيرة قطعيه ، فعند الشك في زوال

ص: 21

ما يقطع بدخله في المناط أو القطع بزوال ما يحتمل دخله فيه تجرى فيه الشبهة المزبورة في الدليل العقلي ، لعدم انفكاك الشك في بقاء الحكم حينئذ عن الشك في بقاء موضوعه ، فلا وجه حينئذ للتفصيل بين الدليل الشرعي والعقلي وتخصيص الاشكال بخصوص الحكم المستكشف من الدليل العقلي ( هذا كله ) إذا كان مبنى المنع عن استصحاب الاحكام المستكشفة من الأدلة العقلية شبهة عدم احراز بقاء الموضوع ( وأما إذا كان ) مبنى المنع المزبور شبهة عدم تطرق الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية كما يقتضيه ظاهر بعض كلامه الاخر ، من أن الاحكام العقلية كلها من حيث المناط والموضوع تكون مبينة ومفصلة ، لأنه لا يحكم بشيء بالحسن أو القبح الا بعد درك موضوعه وتشخيصه بخصوصياته وتميز ما له الدخل في مناط حكمه مما لا دخل له فيه ، فلا يتطرق إليه الاهمال والاجمال ، وإذا كان مناط الحكم الشرعي وموضوعه هو المناط والموضوع في الحكم العقلي ، فلا يتصور فيه الشك أيضا حتى يجرى فيه الاستصحاب ( ففيه ) أولا منع لزوم كون حكم العقل بالحسن والقبح عن مناط محرز تفصيلي عنده ، بل كما يكون ذلك ، كذلك قد يكون عن مناط محرز اجمالي أيضا ( بداهة ) انه قد لا يدرك العقل دخل بعض الخصوصيات في مناط حكمه وموضوعه تفصيلا لعجزة عن تمييز ما له الدخل فيه واقعا مما لا دخل له فيه ، وانما يحكم بشيء واجد لبعض الخصوصيات بالحسن أو القبح كحكمه بقبح الكذب الضار وحسن الصدق النافع لمكان ان المشتمل على تلك الخصوصيات هو المتيقن في قيام مناط القبح والحسن به مع احتمال ان لا يكون لبعض الخصوصيات دخل في مناط الحسن والقبح ( ومن الواضح ) حينئذ امكان تحقق الشك في بقاء المناط ولو مع العلم بانتفاء بعض ما له الدخل في العلم بوجوده اجمالا فضلا عن الشك في انتفائه ( وفي مثله ) وان ارتفع الحكم العقلي فيه بالحسن أو القبح ويجزم بانتفائه فعلا ، لأنه فرع دركه المنوط بوجود جميع ما له الدخل في العلم بوجوده اجمالا ( ولكن ) ليس المقصود من الاستصحاب هو استصحاب الحكم العقلي كي ينافيه الجزم المزبور ، بل المقصود منه استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة ، والجزم بانتفاء الحكم العقلي لا يضر

ص: 22

بجريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف منه ( لان بقاء ) الحكم الشرعي ثبوتا تابع بقاء مناط القبح واقعا ، لا تابع بقاء نفس الحكم العقلي ، والملازمة المزبورة بينهما انما تكون في مقام الكشف والاثبات لا في مقام الثبوت أيضا بحيث يدور الحكم الشرعي حدوثا وبقاء مدار الحكم للعقلي بالحسن والقبح ( وحينئذ ) فإذا كان كان الشك في بقاء المناط العقلي مستتبعا للشك في بقاء الحكم الشرعي واقعا فلا محالة يجرى فيه الاستصحاب ( وثانيا ) على فرض لزوم كون الاحكام العقلية عن مناط محرز تفصيلي بخصوصياته ( نقول ) : ان غاية ، ما يقتضيه ذلك هو المنع عن تطرق الشك في المناط العقلي من جهة الشك في قيدية شيء فيه ( واما الشك فيه ) من جهة الشك في بقاء ما هو معلوم القيدية كالشك في بقاء الكذب على نافعيته والصدق على مضريته ، فهو امر ممكن ، بل كثيرا ما يقع مثل هذا الشك في المناطات العقلية ، وفى مثله وان يرتفع الحكم العقلي بالحكم العقلي بالحسن أو القبح فعلا ، ولكنه بالنسبة إلى الحكم الشرعي المستكشف منه لا محذور من استصحابه بعد استتباع الشك في بقاء المناط العقلي للشك في بقاء الحكم الشرعي ( مع امكان ) دعوى تطرق الشك في الحكم الشرعي في الأول أيضا ، نظرا إلى احتمال أوسعية مناط الحكم الشرعي من مناط الحكم العقلي بقيامه بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، أو احتمال قيام مناط آخر مقام المناط الأول عند انتفائه الموجب لبقاء شخص الحكم الأول بلا اقتضاء تغيير المناط تغييرا لشخص الإرادة ، نظير تبدل عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها الموجودة الشخصية ، فان حال المصالح والمناطات بالنسبة إلى الاحكام كحال عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها الشخصية القائمة ، فكما لا يوجب تبدل عمود الخيمة تغييرا في شخص هيئتها القائمة ، كذلك تبدل المصالح والمناطات ( ومع ) امكان تطرق الشك في بقاء الحكم الشرعي المستكشف بأحد الوجهين يجري فيه الاستصحاب ولو مع القطع بزوال بعض ما له الدخل في الحكم العقلي فتدبر ( هذا كله ) في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بالحسن أو القبح بقاعدة الملازمة.

ص: 23

( واما ) استصحاب نفس الحكم العقلي بالحسن أو القبح عند الشك في بقاء مناطه لشبهة حكميه أو موضوعيه ، فلا شبهة في أنه لا سبيل إلى استصحابه ، وذلك لا من جهة ما قيل من عدم ترتب اثر عملي على استصحابه الا باعتبار إرادة اثبات الحكم الشرعي من استصحابه وهو غير ممكن لكونه من أوضح افراد الأصل المثبت ، لأنه من استصحاب أحد المتلازمين لاثبات الملازم الآخر ( بل من جهة ) الجزم بانتفائه حينئذ وعدم امكان تطرق الشك في الاحكام العقلية الوجدانية التي منها باب التحسين والتقبيح العقليين ، فان حقيقة الحسن العقلي ليس الا عبارة عن ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة كسائر ملائمات الشيء لدى سائر قواه من الذائقة والسامعة ونحوهما مما هو في الحقيقة من الآت درك النفس ، قبال ما ينافر لدى القوة العاقلة المسمى بالقبح ( ومن الواضح ) امتناع تطرق الشك في مثل هذه الادراكيات الوجدانية ، إذ هي تدور مدار حصول صفة الانبساط والاشمئزاز ، نظير سائر الحالات الوجدانية كالفرح والحزن ، فإذا انبسط العقل من شيء لكونه ملائما لديه يحكم بحسنه ، كما أنه باشمئزازه عنه لمنافرته لديه يحكم بقبحه ولا يمكن فيه تطرق الشك والاحتمال لامتناع خفاء الوجدانيات على الوجدان ( نعم ) ما هو المشكوك انما هو مناط حكمه من المصالح والمفاسد النفس الامرية ولكنه أجنبي عن الاحكام العقلية الوجدانية ( كما أن ) ما هو القابل لتطرق الشك والاحتمال فيه في العقليات هو الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها من الأمور الواقعية كحكمه بثبوت الملازمة بين الشيئين وحكمه باستحالة اجتماع النقيضين والضدين وامتناع التكليف بغير المقدور ( فان درك ) العقل فيها لما كان طريقا إلى الواقع لا مقوما لحكمه ، كاحكامه الوجدانية التي منها باب التحسين والتقبيح كان المجال لتطرق الشك والاحتمال فيها ، كالشك في استحالة الشيء أو الشك في الملازمة بين الشيئين ، بخلافه في احكامه الوجدانية التي يكون دركه وتصديقه مقوم حكمه ، فإنه يمنع تطرق الشك والاحتمال لاستحالة خفاء الوجدانيات على الوجدان ( وبهذه ) الجهة نفرق بين سنخي الحكم العقلي في باب التخطئة والتصويب أيضا ، حيث نقول ان باب التحسين والتقبيح العقليين الناشئين

ص: 24

من ادراك العقل لما يلائمه وينبسط منه وما ينافره ويشمئز منه ليس مما يتطرق إليه التخطئة كالأحكام العقلية الاستكشافية ، بل لابد فيه من الالتزام بالتصويب المحض ، بخلاف الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها ، فان درك العقل وتصديقه فيها لما كان طريقا إلى الواقع لا مقوما لحكمه كان لتطرق التخطئة إليها مجال ( بل لا محيص ) من القول بها ، لان الملازمة الواقعية بين الشيئين وكذا الاستحالة الواقعية للشيء قد يدركها العقل فيحكم بها وقد لا يدركها أو يدرك عدمها ، وكذا المصلحة والمفسدة الواقعية والحسن والقبح الواقعيان قد يدركها العقل وقد لا يدركها أو يخطئ عنها فيحكم بعدمها ( وبالجملة ) المقصود من هذا التطويل بيان الفرق بين سنخي الحكم العقلي وان عدم جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقلي بالحسن أو القبح انما هو من جهة الجزم بانتفائه عند الشك في المناط لعدم امكان تطرق الشك في الاحكام العقلية الوجدانية ، لا انه من جهة كونه من الأصول المثبتة كي يبتنى جريانه فيه على القول بالأصل المثبت ( نعم ) ما هو المشكوك حينئذ هو مناط حكمه من المصالح والمفاسد الواقعية ، ولكنه غير مرتبط بنفس الحكم العقلي بالحسن والقبح ( كما أن ) ما هو القابل لطرو الشك فيه هو الاحكام العقلية الاستكشافية في باب الملازمات ونحوها من مثل استحالة اجتماع الضدين والنقيضين واستحالة التكليف بغير المقدور من الحكيم تعالى مما يكون درك العقل وتصديقه طريقا لفهمه الاستحالة الواقعية لا مقوما لاستحالة الشيء ( وحينئذ ) فتسليم تطرق الشك في الحكم العقلي بالحسن أو القبح لا يكون الا من جهة الخلط بين سنخي الحكم العقلي وجعلهما على منوال واحد.

( ومن التأمل فيما ذكرنا ) يظهر أيضا فساد ما توهم من ثبوت ايجاب الاحتياط العقلي عند الشك في المناط من المصالح والمفاسد المقتضية لحكم العقل بالحسن والقبح عند دركها ، بخيال انه لا يمكن ان يكون للعقل في موارد الشك في الموضوع حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي بالحسن أو القبح ، بل لا بد وأن يكون له عند الشك حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على ما لا يؤمن ان يكون هو الموضوع للقبح ، ( بخلاف ) الأحكام الشرعية فان للشارع ان يجعل في رتبة الشك في الموضوع حكما مخالفا لما

ص: 25

رتب على الموضوع الواقعي ( إذ فيه ) ان حكم العقل بايجاب الاحتياط في رتبة الشك في الموضوع الذي حكم بقبحه فرع امكان تطرق الشك في حكمه الوجداني بالحسن أو القبح ، وعلى ما بينا من امتناع ذلك لاستحالة خفاء الوجدانيات على الوجدان أين يتصور الشك في الحكم كي يبقى المجال لحكمه الطريقي بايجاب الاحتياط ( واما ) توهم كفاية مجرد الشك في الموضوع والمناط في حكمه بايجاب الاحتياط ( فمدفوع ) بان لازمه حكمه به في كل شبهة بدوية حكمية أو موضوعية ، وهو كما ترى ، فان مرجعه إلى القول بأصالة الحذر في الأشياء لدى العقل ( هذا ) في الاحكام العقلية الوجدانية ( واما احكامه ) الاستكشافية من مثل استحالة التكليف بغير المقدور وبما لا يطاق فتصور الشك فيها وان كان صحيحا ، ولكن لا يلزم ان يكون له عند الشك في الاستحالة حكم طريقي على وفق حكمه بالموضوع الواقعي ، والا يلزم حكمه بعدم التكليف مع الشك في القدرة ( مع أنه ) ليس كذلك قطعا ، بل العقل في مثله يحكم عند الشك بوجوب الاحتياط كما هو واضح ( وكيف كان ) فهذا كله في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بالحسن أو القبح بقاعدة الملازمة ، واستصحاب نفس الحسن والقبح العقليين.

( واما استصحاب ) الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه الشارع بوجوبه أو حرمته ( فإن كان ) الشك فيه لبعض الأمور الخارجية ، كالشك في بقاء وصف الاضرار في الكذب الذي حكم بقبحه ، فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه ( وان كان ) الشك فيه لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخله في موضوعية الموضوع ، فالذي يظهر من بعض الاعلام نفى الاشكال عن جريان الاستصحاب فيه أيضا ( ولكن ) دقيق النظر وفاقا للشيخ قدس سره يقتضى المنع عن جريانه فيه ( فان ) الغرض من استصحاب الموضوع في مثل المقام الذي هو من الشبهات الحكمية ، ان كان استصحابه بوصف موضوعية للحكم ، فهو يرجع إلى استصحاب حكمه لان وصف الموضوعية منتزع عن حكمه فيغني استصحاب الحكم عن استصحابه ( وان كان ) الغرض استصحاب ذات الموضوع التي عرض عليها الحكم لا هي بوصف معروضيتها للحكم ، فمثل هذا الاستصحاب غير جار في كلية موضوعات الاحكام في الشبهات

ص: 26

الحكمية ( لان ) مرجع الشك فيها إلى أن الموضوع خصوص الواجد للقيد المحتمل دخله أو هو الأعم من الواجد والفاقد ، وبذلك يدور امره بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، ومن المعلوم انه لا يجري فيه الاستصحاب لانتفاء الشك في البقاء على كل تقدير فيكون استصحابه كاستصحاب الفرد المردد ( نعم ) ما هو مشكوك البقاء حينئذ انما هو عنوان ما هو المعروض للحكم بنحو الاجمال ، ولكنه بهذا العنوان الاجمالي لم يترتب عليه اثر شرعي حتى يجرى فيه الاستصحاب وإذا الأثر الشرعي انما رتب على ما هو معروض الحكم واقعا ومثله مما لا شك في بقائه لتردده بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع فتدبر.

( ثم انك عرفت ) وقوع الخلاف في حجية الاستصحاب بين الاعلام في جميع ما له من الأقسام باعتبار المستصحب ، وباعتبار الدليل الدال عليه ، وباعتبار الشك المأخوذ فيه ( الا انه يظهر ) من بعضهم كصاحب الرياض وغيره فيما حكى عنهم تخصيص النزاع في حجية الاستصحاب بالأمور الوجودية ، حيث نفي الخلاف في الاستصحابات العدمية وجعل الاستصحاب فيها مورد وفاق الجميع ( ولعل ) منشأ ذلك ملاحظة تسالمهم على بعض الأصول العدمية كاصالة عدم القرنية وأصالة عدم النقل وأصالة عدم المعارض والمزاحم ونحوها مما جرت السيرة على الاخذ بها ، فتخيل ان ذلك من جهة وفاقهم على حجية الاستصحاب في مطلق الأمور العدمية وان المذكورات من موارد الاستصحابات العدمية وصغرياتها ( ولكنه كما ترى ) لا ترتبط تلك الأصول العدمية بالاستصحاب المصطلح ، وانما هي أصول عقلائية برأسها جارية في الموارد الخاصة ( اما ) أصالة عدم القرينة فظاهرة ، إذ هي بناء على عدم ارجاعها إلى أصل وجودي تكون برأسها أصلا عقلائيا قد استقرت سيرة العقلاء على الاخذ بها في خصوص باب الألفاظ في مقام اثبات ظهور الكلام واستفادة مراد المتكلم منه عند احتمال احتفافه حين صدوره بما يوجب عدم ظهوره في معناه الموضوع له ، ولذا ترى بنائهم طرا على الاخذ بالأصل المزبور لاثبات ظهور اللفظ

ص: 27

في معناه الموضوع له واستفادة مراد المتكلم من ظاهر لفظه حتى من لا يعتمد على الاستصحاب أصلا ومن لا يرى حجية مثبتات الأصول وينكرها أشد الانكار ( مع وضوح ) ان انعقاد ظهور الكلام واستقراره انما هو من اللوازم العادية لعدم احتفافه بالقرينة الصارفة ، ومثل هذه الجهة لا يكاد تثبت باستصحاب عدم القرينة الا على القول بالمثبت ( فاتفاقهم ) على الاخذ بالأصل المزبور لاثبات ظهور اللفظ مع مصير أكثرهم إلى رفض مثبتات الأصول وذهاب بعضهم إلى انكار حجية الاستصحاب مطلقا ، يكشف عن صدق ما ادعيناه من كونها أصلا عقلائيا برأسها غير مرتبطة بالاستصحاب ( نعم ) بناء على حجية الاستصحاب من باب الا مارية لا الأصلية ، يمكن دعوى اندراج الأصل المزبور في الاستصحاب المصطلح ، ولكن المبنى سخيف جدا ( هذا ) في القرائن المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور اللفظ.

( واما القرائن المنفصلة ) المانعة عن حجية ظهور اللفظ بعد انعقاده واستقراره ( فان قلنا ) بإناطة موضوع الحجية في الظهورات الصادرة بعدم قيام القرينة على إرادة خلاف الظاهر منها ، فلا باس بدعوى اندراج الأصل المزبور في الاستصحاب ، ولو بناء على اخذه من مضامين الاخبار : لكونه حينئذ من قبيل الموضوعات المركبة أو المقيدة المحرزة بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ، حيث إن أصل ظهور اللفظ تكون محرزا بالوجدان وقيده وهو عدم القرينة على الخلاف محرز بالأصل ، فيترتب عليه وجوب الاخذ بالظاهر ، مع امكان منع كون ذلك أيضا من باب الاستصحاب وانه أصل عقلائي استقرت على التمسك به سيرة العقلاء في باب الا لفاظ ( وان قلنا ) كما هو التحقيق ان موضوع الحجية فيها نفس ظهور اللفظ في المعنى ، وان رفع اليد عن الحقيقة والعموم والاطلاق عند قيام دليل منفصل على التجوز والتخصيص والتقييد انما هو بمناط الاخذ بأقوى الحجيتين ، لا بمناط خروج العموم والاطلاق عن موضوع الحجية ( بشهادة ) انه قد يقدم العام على الخاص والمطلق على المقيد إذا كان ظهورهما في العموم والاطلاق أقوى من ظهور دليل الخاص والمقيد في التخصيص والتقييد ، فيخرج مفروض البحث عن مجرى أصالة العدم رأسا فلا يتأتى الكلام فيه بأنه من باب

ص: 28

الاستصحاب أو من باب كونه أصلا عقلائيا برأسه ( إذ ليس ) وجوب رفع اليد عن العموم والاطلاق حينئذ من لوازم قيام القرنية الواقعية على التخصيص أو التقييد وانما هو من لوازم وصول حجة أقوى على خلافه ، فمع عدم العلم بذلك يكون المتبع هو العموم والاطلاق بلا احتياج إلى احراز عدمها بالأصل ( ولذلك ) ترى بنائهم على الاخذ بظهور الخطابات في العموم الاطلاق عند اجمال القرينة المنفصلة ، والا كان اللازم هو التوقف وعدم الاخذ بالعموم والاطلاق مع الشك في قرينية الموجود لعدم أصل في البين يحرز به حال الموجود ( ومن هذا البيان ) يظهر الكلام في المعارض والمزاحم عند الشك في وجودهما ، فان حالهما حال القرائن المنفصلة في أن مانعيتهما انما هي بوجودهما الواصل إلى المكلف ، لا بوجودهما الواقعي النفس الأمري كي يحتاج إلى احراز عدمهما بالأصل.

( واما أصالة ) عدم النقل عند الشك في أصل النقل عن وضعه الأول ، أو الشك في تقدمه على الاستعمال وتأخره عنه مع العلم بأصل النقل وتاريخ الاستعمال ، فهي أيضا قاعدة برأسها مختصة بموردها غير مرتبطة بالاستصحاب ( والا ) فلا تخلو عن اشكال المثبتية : لان حمل اللفظ على المعنى المعلوم وضعة له في الأول ، وعلى المعنى المنقول منه في الثاني انما هو من لوازم ظهور اللفظ ، وظهوره في معناه الموضوع له أولا ، يكون من اللوازم العادية لعدم نقله إلى معنى آخر : والاستصحاب بناء على الأصلية والتعبد من الاخبار لا يثبت تلك اللوازم ( نعم ) لو قيل برجوعها إلى أصالة بقاء ظهور اللفظ في معناه الأول ، أمكن دعوى كونها من باب الاستصحاب على تأمل فيه واشكال ( ولكن ) على ذلك تخرج عن مفروض كلام القائل المزبور ، لكونها حينئذ من الاستصحاب الوجودي لا العدمي ، كخروجها أيضا عن مفروض كلامه في فرض ارجاعها إلى أصالة تشابه الأزمان بنحو الاستصحاب القهقري إلى زمان الاستعمال ( ولكن التحقيق ) فيها وفي غيرها هو ما ذكرناه من كونها أصولا عقلائية مخصوصة بباب الألفاظ.

( واما أصالة ) عدم الحائل التي تمسكوا بها في باب الوضوء والغسل عند الشك

ص: 29

في وجود ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة من جص أو قير أو دم برغوث ونحوه ، فيمكن ان يقال : بعدم كونها أيضا من باب الاستصحاب ، بل ولا من باب قاعدة المقتضى والمانع ( وانها ) برأسها أصل عقلائي مدركها الغلبة من حيث إن الغالب هو خلو البشرة عن مثل هذه الموانع ، فعند الشك يلحق المشكوك بالغالب ، ولذلك يمنع عن جريان الأصل المزبور وتسالمهم عليه في الموارد التي تكون الغلبة على الخلاف ، كما في بعض ذي الصنائع المباشر للجص ونحو كالبناء ونحو ( والا ) فلو كان ذلك من باب الاستصحاب والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، توجه إليه اشكال عدم اثباته وصول الماء إلى البشرة الا على المثبت الذي هو مرفوض عندهم ( واما توهم ) حجية المثبت بالخصوص في تلك الموارد بدليل اتفاقهم على الاخذ بالأصل المزبور عند الشك في وجود ما يمنع عن وصول الماء إلى البشرة ، فبعيد جدا ، لكونه خلاف اطلاق القول منهم بالمنع في مثبتات الأصول وعدم تعرضهم لخروج هذه الموارد عن عموم الحكم بالمنع ( كما أن دعوى ) كونه من باب خفاء الواسطة أبعد ، إذ عهدة اثباته على مدعيه ( وان أبيت ) الا عن كون ذلك من باب الاستصحاب ، فليكن من الاستصحاب الجاري في المسبب وهو أصالة بقاء الماء المصبوب على جريانه في محال الوضوء والغسل ، نظير الأصل الجاري في الأمور التدريجية ( حيث إنه ) بصب الماء على المرفق مثلا يعلم باتصافه بالجريان على البشرة ، ومن جهة الشك في وجود الحائل في عضو خاص يشك في بقاء جريانه على البشرة ، فيستصحب بقائه ، وبذلك يتم الحكم المزبور ويندفع اشكال المثبتية أيضا ( ولكن ) يدخل حينئذ في الاستصحاب الوجودي لا العدمي الذي هو فرض كلام القائل المزبور ( نعم ) لازم ذلك هو الالتزام بجريان الأصل المزبور حتى في موارد غلبة وجود الحاجب على البشرة وهو أيضا مشكل ( وبالجملة ) المقصود من هذا التطويل مجرد ابطال ما زعمه المستدل في تشبثه بهذه الأصول العدمية لا ثبات اتفاق الأصحاب على اعتبار الأصحاب في مطلق الأمور العدمية ، بابداء الاشكال في كون تلك الأصول المسلمة من باب الاستصحاب ،

ص: 30

لا ان المقصود نفى هذه الأصول برمتها عن كونها من باب الاستصحاب بنحو السلب الكلى ( ومن الواضح ) انه يكفي هذا المقدار من التشكيك في المنع عن التشبث بهذه الأصول العدمية لاثبات الاتفاق المزبور ، مضافا إلى وجدان الخلاف منهم في اعتبار الاستصحابات العدمية.

( ثم إن في قبال ذلك ) توهم آخر ، وهو دعوى مفروغية عدم جريان الاستصحاب في الأمور العدمية والاعدام الأزلية الناشئة من عدم تحقق علل وجودها ( بتقريب ) انه لا بد في جريان الاستصحاب من كون المستصحب اثرا شرعيا أو موضوعا لاثر شرعي حتى يكون التعبد بالبقاء بلحاظ ذلك الأثر ، والا فلا يجرى الاستصحاب بمحض كون الشيء متيقنا سابقا ومشكوكا لاحقا ، والاعدام الأزلية كعدم الوجوب والحرمة وعدم الجعل كلها من هذا القبيل ، لان العدم بما هو عدم ليس اثرا شرعيا تناله يد الجعل والرفع فلا يجرى فيه الاستصحاب ، ومن غير فرق بين القول برجوع مفاد حرمة النقض إلى جعل المماثل أو إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك أو الشك معاملة الواقع أو اليقين به ، فعلى كل تقدير يحتاج التعبد بالبقاء إلى اثر شرعي وبدونه لا يجرى الاستصحاب ( ولكنه توهم فاسد ) فان العدم بما هو وان لم يكن اثرا شرعيا ، الا انه بقاء واستمرارا يكون من الأمور التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي ( لان ) للشارع ابقاء ذلك العدم وله رفعه وقبله بالنقيض ولو يجعل ما يقتضى الوجود ( ومن الواضح ) انه يكفي هذا المقدار من الشرعية في جريان الاستصحاب ، إذا لا نعني من شرعية الأثر في باب الاستصحاب وغيره الا ما يكون امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو ابقاء واستمرارا ، فإذا كان عدم الجعل وعدم الوجوب والحرمة بهذا الاعتبار أمرا شرعيا يجرى فيه الاستصحاب لا محالة.

( وقد يظهر من بعض الاعلام ) التفصيل في الاعدام بين ان يكون المستصحب هو عدم الجعل الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، وبين ان يكون غيره ، فمنع عن جريان الاستصحاب في الأول دون الثاني ( وأفاد ) في وجه التفصيل المزبور بما محصله

ص: 31

ان عدم الجعل وان كان من الأمور التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي فيكون المستصحب شرعيا بهذا الاعتبار ، الا انه لا يكفي مجرد شرعية المستصحب في جريان الاستصحاب ما لم ينته إلى اثر عملي ، فان الأثر العملي مما لا بد منه في صحة التنزيل والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، ولا اثر لاستصحاب عدم الجعل الا باعتبار ما يستتبعه من عدم المجعول واثبات عدمه باستصحاب عدم الجعل يكون من المثبت المرفوض عند المحققين ، إذ ليس ترتب المجعول على الجعل ترتبا شرعيا وانما هو ترتب عقلي محض ، فمن هذه الجهة لا يجرى الاستصحاب في عدم الجعل ( بخلاف غيره ) من الاعدام كعدم المجعول ، فإنه يجرى فيه الاستصحاب عند احراز الجعل والشك في تحقق ما أنيط به المجعول ( وفيه ) مضافا إلى عدم ثمرة عملية لهذا التفصيل بعد جريان الأصل باعترافه في المجعول الذي هو المسبب ، لأنه ما من مورد يشك فيه في الجعل الا ويشك فيه في تحقق المجعول فيجرى استصحاب عدمه ( والى ) ما يأتي من اباء الأحكام التكليفية بمراتبها عن تطرق الجعل التشريعي إليها ( ان الجعل والمجعول ليسا في الخارج الا أمرا وجدانيا ، فان مرجع الجعل بعد أن كان إلى لحاظ الشيء وجعله واجبا أم جزء أو شرطا لواجب فلا محالة يكون التغاير بينهما ممحضا بصرف الاعتبار نظير الايجاد والوجود ، فباعتبار اضافته إلى الجاعل جعل وباعتبار لحاظ نفسه مجعول ، وفي مثله لا محذور من استصحاب عدم الجعل وترتيب ما للمجعول عليه من الآثار ( وعلى فرض ) تسلم المغايرة الخارجية بينهما ولو بدعوى ان الجعل عبارة عن انشاء الوجوب والحرمة والمجعول عبارة عن المنشأ بهذا الانشاء ، نظير الانشاء في الاحكام الوضيعة والحقائق الاعتبارية في أبواب العقود والايقاعات ( نقول ) : ان الاشكال انما يرد إذا كان نسبة الجعل إلى المجعول من قبيل العلية والمعلولية نظير العلل الخارجية بالنسبة إلى معاليها ، والا فبناء على كون النسبة بينهما من قبيل نسبة مناشئ الاعتبار للأمور الاعتبارية كالانشاء في أبواب العقود والايقاعات « فلا قصور في استصحاب عدم الجعل ولا يرتبط المقام بالأصول المثبتة ، إذا عدم جعل الوجوب حينئذ واقعيا أو

ص: 32

ظاهريا مستتبع لعدم الوجوب كذلك ، فكان عدم الوجوب الظاهري من لوازم عدم الجعل الظاهري وهو الاستصحاب لا من لوازم نفس المستصحب واقعا حتى ، يتوجه محذور المثبتية ، فإذا كان عدم الجعل مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ويكتفى في شرعية الأثر في باب الاستصحاب وغيره بهذا المقدار من الشرعية ، فلا محالة يجرى فيه الاستصحاب ، ويترتب باستصحاب عدمه عدم الوجوب الظاهري فتدبر « وكيف كان » فالمهم هو عطف الكلام إلى ذكر الأدلة التي استدلوا بها على حجية الاستصحاب وتنقيح دلالة المختار منها على وجه يتضح ما هو المختار من الحجية مطلقا.

( وهي أمور )

« فمنها » الاجماع المحكى في كلام جماعة كالمبادئ والنهاية « وفيه ما لايخفى » إذ لا وجه لدعوى الاجماع في هذه المسألة التي كثر فيها الاختلاف والأقوال خلفا عن عن سلف ، لاعلى ثبوت الحجية ولا على عدمها « نعم » لا بأس بدعوى قيام الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في الجملة ولو في خصوص باب الطهارة في الشبهات الموضوعية مع كون الشك في الرافع ، بل يمكن دعوى اتفاقهم على ذلك ، لأنه من البعيد جدا إرادة القائل بعدم الحجية النفي المطلق حتى في الموارد المذكورة في الأسئلة الواردة في الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك.

« ومنها » بناء العرف والعقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على الاخذ بالحالة السابقة عند الشك في انتقاضها في الأمور الراجعة إلى معاشهم ومعادهم ، بل قد يقال : ان عليه بناء ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان من الوحوش والطيور ونحوهما في رجوعها إلى أوكارها ومآويها « وفيه أيضا ما لا يخفى » اما دعوى كون الاخذ بالحالة السابقة من فطريات ذوي الشعور من كافة الحيوان ، فلا ترجع إلى محصل ، بداهة ان ما جرى عليه ديدن الحيوانات من الرجوع إلى مساكنها انما هو من جهة

ص: 33

الاعتياد أو الغفلة عن الجهات المزاحمة لقصورها عن درك هذه الجهات ، لا انه من جهة الاستصحاب والبناء على الجري العملي على طبق الحالة السابقة مع الالتفات والشك في انتقاضها « واما السيرة » العقلائية والطريقة العرفية الارتكازية فهي وان كانت على الاخذ بالحالة السابقة ، ولكن يمنع كون ذلك من باب الاستصحاب والاخذ بأحد طرفي الشك تعبدا ، بل ذلك منهم انما هو من جهة الغفلة عما يوجب زوال الحالة السابقة كما هو الغالب ، أو من جهة حصول الاطمينان لهم بالبقاء ، أو من جهة مجرد الاحتياط ورجاء البقاء كما في المراسلات ونحوها من الأمور غير الخطيرة « وعلى فرض » ثبوت البناء المزبور منهم يمنع تحققه في مطلق الأمور حتى الراجعة إلى معادهم وما يتدينون به من احكام دينهم ، بل المتيقن منه كونه في الأمور الراجعة إلى معاشهم وأحكامهم العرفية.

( كيف ) وثبوت هذا البناء الارتكازي منهم حتى في الأمور الدينية ينافي هذا الخلاف العظيم بين الأعاظم من الاعلام خلفا عن سلف وذهاب جمع منهم إلى عدم الحجية إذ المنكرين للحجية أيضا من العقلاء بل كل واحد منهم بمثابة الف عاقل ، فثبوت هذا الخلاف العظيم بينهم قديما وحديثا يكشف عن عدم ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا في الأمور الدينية والأحكام الشرعية ( وعليه ) فلا يكاد ينفع مثل هذا البناء للاستدلال به على حجية الاستصحاب ولو مع اليقين بعدم ورود ردع من الشارع بنحو العموم أو الخصوص عن البناء المزبور ( إذ بعد ) عدم ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا في الأمور الدينية ، لا يحتاج إلى الردع عن بنائهم لو فرض كونه غير مرضى عند الشارع من جهة كونهم بأنفسهم مرتدعين بالنسبة إليها هذا ( ولكن الانصاف ) ان المناقشة الأولى في غير محلها ، فان ثبوت بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة من باب الاستصحاب والشك الوجداني في انتقاضها وتساوي احتمال البقاء والارتفاع مما لا سبيل إلى انكاره ، لما يرى منهم بالوجدان والعيان في ترتيبهم آثار البقاء على الشيء عملا مع الشك في ارتفاعه من حيث ارسالهم

ص: 34

المكاتيب والبضايع المهمة إلى من هو في البلاد البعيدة بلا وثوق منهم ببقائه على ما كان من الحياة والعقل والغنى مع مالهم من الاغراض المهمة ، ومن غير تحقيق عن حال من يرسل إليه البضايع من كونه حيا أو ميتا ومن حيث بقائه على عقله وأمانته كل ذلك بمقتضى ارتكازهم وجبلتهم التي أودعها فيهم بارئهم كما يشير إلى ذلك بعض الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشك ، كقوله (عليه السلام) : لزرارة لا ينبغي ان تنقض اليقين بالشك الظاهر في كون الاخذ بالحالة السابقة مع الشك في انتقاضها من الارتكازيات العرفية والطريقة العقلائية ( ولا ينافي ) ذلك ما يرى من مداقة بعض الأشخاص وعدم اخذه بالحالة السابقة الا بعد الوثوق والاطمئنان العادي بالبقاء ، فان ذلك منهم نحو احتياط لحفظ أغراضهم وعدم تضييع أموالهم ، ولذلك لا يكون الآخذ بالحالة السابقة بلا تحصيل الوثوق ملوما عندهم ولو مع انكشاف الخلاف ( نعم ) المناقشة الثانية في محلها ، لما ذكرنا من عدم ثبوت تحقق البناء المزبور منهم حتى في الأمور الدينية والاحكام ، الشرعية ، لولا دعوى وضوح انه لا يكون لهم طريقة خاصة في الأمور الدينية وراء ما يسلكونه بارتكازهم في أمورهم الدنيوية مما يرجع إلى معاشهم ونظامهم ، وانه بمقدمات عدم الردع يستكشف امضاء الشارع لتلك الطريقة المألوفة الارتكازية فتكون دليلا على حجية الاستصحاب ( ولكن الشأن ) في اثبات هذه الجهة ، والا فبدونه يكفي في المنع عنه مجرد الشك في ذلك ( وعلى فرض ) ثبوت البناء المزبور منهم في الأمور الدينية لا مجال للتشبث بمقدمات عدم الردع لكشف امضاء الشارع ( إذا يكفي ) في الردع عن بنائهم العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم ( وتوهم ) عدم صلاحية هذه النواهي للرادعية عن بنائهم ، لمكان مضادتها مع أصل وجود هذا البناء والسيرة المزبورة ولاستحالة تحقق هذه السيرة حتى من المتدينين منهم مع ثبوت ردع الشارع عنها ( فمن وجود ) هذه السيرة وتحققها بالوجدان بضميمة المضادة المزبورة يستكشف عدم صلاحية العمومات الناهية للرادعية عن بنائهم ( مدفوع ) بان بناء العقلاء من المسلمين على شيء تارة يكون بما انهم مسلمون ومتدينون بشرايع الاسلام ، وأخرى يكون ذلك منهم لا بما هم مسلمون ومتدينون بها ، بل بما هم

ص: 35

من العقلاء ، ومن أهل العرف ، والذي يضاد وجوده مع الردع الشرعي بحيث يستحيل تحققه مع ثبوته انما هو الأول ( واما الثاني ) فلا يكون ردع الشارع عنه مضادا مع أصل وجوده ، بل هو انما يكون مانعا عن حجيته ( وحيث ) ان المقصود من السيرة المزبورة هي سيرة العقلاء الذين منهم المسلمون فلا بد في تتميمها من التشبث بمقدمات عدم الردع لاثبات امضاء الشارع لها ، فينتهي المجال حينئذ إلى دعوى صلاحية الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم للرادعية عنها ( نعم ) انما لا ينتهي المجال إلى ذلك فيما لو قررت السيرة المزبورة بسيرة المسلمين بما هم كذلك لا بما هم من أهل العرف والعقلاء ( ولكن ) الكلام حينئذ في أصل الصغرى ( واما توهم ) خروج جميع موارد السيرة العقلائية عن العمل بما وراء العلم بالتخصص كما عن بعض الأعاظم قده ، بدعوى اقتضائها لخروج مواردها عن موضوع تلك النواهي ( ففيه ) انه من الغرابة بمكان ، إذ ذلك مخصوص بباب الطرق والامارات كظواهر الألفاظ ونحوها ، حيث إنها باقتضائها لتتميم الكشف واثبات العلم بالواقع تكون واردة على الآيات الناهية ومخرجه لموردها عن موضوع تلك النواهي بالتخصص ، لا فيمثل المقام الذي هو من الأصول المعمولة عند العقلاء في ظرف استتار الواقع والجهل به ، فان بنائهم حينئذ على الاخذ بالحالة السابقة لا يخرج مورده عن كونه عملا بغير العلم ( نعم ) لو كان بنائهم على الاستصحاب والجري العمل على طبق الحالة السابقة من باب الا مارية نظير ظواهر الألفاظ وباب حجية خبر الواحد ، لا من باب الأصلية ، كان لدعوى ورود السيرة في المقام على العموميات الناهية وخروج موردها عن موضوعها مجال « ولكن ذلك » مع أنه لا طريق إلى اثباته ، يلزم دخول الاستصحاب في الامارات ، وهو مما لا يلتزم به القائل المزبور ، فان المختار عنده كونه من الأصول لا الامارات.

« وبما ذكرنا » يظهر اندفاع ما أورده من الاشكال على الكفاية من منافاة ما افاده في المقام من صلاحية الآيات الناهية للرادعية عن السيرة العقلائية لما تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد من عدم صلاحية تلك النواهي للرادعية عن الطريقة

ص: 36

العقلائية « وجه الاندفاع » ما عرفت من الفرق بين المقام وباب حجية خبر الواحد ، حيث إن عدم رادعية الآيات هناك انما هو من جهة قيام السيرة العقلائية على تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع الموجب لخروج موردها عن موضوع تلك النواهي ، ( بخلاف ) المقام ، فان بنائهم على الاخذ بالحالة السابقة لا يكون من باب الا مارية وانما هو من باب الأصلية في ظرف الجهل بالواقع ، فلا يلازم القول بعدم صلاحية الآيات للرداعة عن بنائهم هناك للقول به في المقام أيضا « فما افاده » المحقق الخراساني قده في كفايته من التفكيك بين المقامين في صلاحية الآيات الناهية للرادعية عن الطريقة العقلائية في المقام دون ما هناك في غاية المتانة « نعم » لو كان المراد من عدم العلم في تلك النواهي هو عدم العلم بمطلق الوظيفة أعم من الواقعية والظاهرية ، لا عدم العلم بخصوص الواقع ، لأمكن المصير إلى عدم الرادعية في المقام أيضا « ولكنه » خلاف الظاهر جدا ، فان الظاهر المتبادر من نحو قوله سبحانه : لا تقف ما ليس لك به علم هو عدم العلم بالوظيفة الواقعية ، لا بمطلق الوظيفة ولو ظاهرية « فالأقوى » حينئذ ما افاده المحقق الخراساني من عدم اعتبار السيرة العقلائية في المقام على الاخذ بالحالة السابقة ، وان فرض كونها أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد ، إذ لا اثر لحيث اقوائيتها ما لم تنته إلى كشف امضاء الشارع لها ولو بمعونة مقدمات عدم الردع ، ومع صلاحية الآيات الناهية للرادعية عنها لا مجال لكشف امضاء الشارع لها كما هو ظاهر ( ثم انه من التأمل ) فيما ذكرنا يظهر انه لا مجال للتشبث بالحكم العقلي الظني ببقاء ما ثبت ولو بضميمة اندراجه في صغريات الانسداد بالنسبة إلى الاحكام التي في دائرة الاستصحابات ، إذ ذلك أيضا مخدوش صغرى وكبرى. ( ومنها )

الأخبار الكثيرة البالغة حد الاستفاضة ، وهي العمدة في الباب ( فمنها ) صحيحة زرارة ولا يضر بها الاضمار بعد كون مضمرها مثل زرارة الذي لا يروى الا

ص: 37

عن الإمام (عليه السلام) ، قال قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الحفقة والحفقتان عليه الوضوء ، قال (عليه السلام) : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نام القلب والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت : فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال (عليه السلام) : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجئ من ذلك امر بين ، والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ، ولكن تنقضه بيقين آخر ( وتقريب ) الاستدلال بها على حجية الاستصحاب مطلقا انما هو بتجريد اليقين في قوله (عليه السلام) : والا فإنه على يقين من وضوئه عن خصوصية اضافته إلى الوضوء وعدم دخلها في الحكم بحرمة النقض لتكون اللام في كبرى القياس وهي قوله (عليه السلام) : ولا ينقض اليقين بالشك للجنس لا للعهد.

( ولتوضيح الكلام ) في ذلك لا بأس بالتعرض لبيان فقه الحديث الشريف ( فنقول ) : الظاهر من السؤال الواقع في الفقرة الأولى من كلام الراوي هو كونه سؤالا عن مفهوم النوم الناقض من أنه بحد يدخل فيه الحفقة والحفقتان أو بحد لا يدخلان في مفهومه ، فان احتمال كونه سؤالا عن ناقضية الخفقة والخفقتان مستقلا بعيد في الغاية ولا يناسب قوله : الرجل ينام ، ولذلك اجابه الإمام (عليه السلام) بخروجهما عن مفهوم النوم الناقض ، ببيان ان النوم الناقض هو خصوص نوم القلب والاذن لا مطلق مراتبه الشامل لنوم العين وحدها ، بل المستفاد من جوابه (عليه السلام) ان المدار في الناقضية على خصوص نوم القلب الذي هو سلطان الجوارح وان نوم الاذن انما اعتبر لكونه امارة على نوم القلب ، لا لخصوصيته فيه « واما السؤال » الثاني وهو قوله فان حرك الخ ، فظاهره كونه سؤالا عن الشبهة الموضوعية بناء على ما فهمه من امارية نوم الاذن لنوم القلب الذي عليه مدار الناقضية ، حيث إنه يشك حينئذ في تحقق نوم القلب بهذه المرتبة من النوم الغالب على الاذن ، فاجابه الامام (عليه السلام) : بما هو نتيجة الاستصحاب بقوله : لا حتى يستيقن أنه قد نام « ويحتمل » كونه سؤالا عن حكم الشبهة المصداقية من أنه مع الشك في تحقق النوم هل يجب عليه الوضوء أم لا « ويحتمل » أيضا كونه سؤالا عن الشبهة المفهومية بناء على فهمه من كلام الامام (عليه السلام) موضوعية

ص: 38

نوم الاذن لا اماريته لنوم القلب فيكون السؤال عن حد النوم الناقض وصدقه على تلك المرتبة من نوم الاذن نظير سؤاله الأول الراجع إلى كونه عن صدقه على الحفقة التي هي نوم العين وحدها « ولكن » الظاهر ما عرفت من كونه سؤالا عن الشبهة المصداقية أو عن حكمها ، لا عن الشبهة المفهومية : كيف ولازمه تكفل الامام (عليه السلام) لرفع الشك عنه ببيان الواقع كما في الفقرة الأولى ، لا ابقاء السائل على شكه والتعرض لحكم الشبهة الموضوعية بقوله : لا حتى يستيقن انه قد نام ( نعم ) الذي يبعد كونه سؤالا عن الشبهة المصداقية هو تطبيق الامام الاستصحاب على الوضوء الذي يكون الشك في بقائه مسببا عن الشك في تحقق النوم ، فان من اللازم حينئذ تطبيقه على عدم النوم ، لما قرر في محله من عدم جريان الأصل المسببي مع جريان الأصل السببي ( ولا يرد ) هذا الاشكال على الفرض الأخير ، إذ عليه يكون تطبيق الاستصحاب على الوضوء على القاعدة ، بملاحظة عدم جريانه حينئذ في طرف السبب الذي هو النوم ، لان استصحابه يكون من قبيل الاستصحاب الفرد المردد بين ما هو مقطوع الوجود وما هو مقطوع العدم ، فإنه على تقدير صدقه على تلك المرتبة من نوم الاذن يقطع بتحققه وعلى تقدير كونه عبارة عن المرتبة الأخرى المنطبقة على نوم القلب يقطع بعدم بتحققه ، فعلى كل تقدير لاشك فيه حتى يجرى فيه الاستصحاب « واما المفهوم منه فهو وان كان مشكوكا ، ولكن لا يكون بنفسه موضوعا للأثر كي يجرى فيه الاستصحاب ، لان الأثر الشرعي وهو وجوب الوضوء انما يكون ترتبه على واقع النوم ومصداقه الذي يحكى عنه هذا المفهوم ، وبعد تردده بين ما يقطع بتحققه وما يقطع بعدم تحققه لا يجري فيه الاستصحاب ، كما هو الشأن في جميع المفاهيم المجملة المرددة بين الأقل والأكثر « ولذلك » نقول : في مسألة الرضاع انه لا مجرى لأصالة عدم تحقق الرضاع المحرم فيما لو تحقق عشر رضعات وشك في تحقق الرضاع المحرم به ، لعدم ترتب اثر شرعي على المفهوم منه ( تردد ) ما له الأثر الشرعي بين ما يقطع بتحققه وما يقطع بعدم تحققه ( ولا مجال أيضا ) لمقايسته أمثال المقام بباب الكلى المردد بين الفردين أحدهما مقطوع الارتفاع والاخر مقطوع البقاء ، كالحدث المردد

ص: 39

بين الأصغر والأكبر « فان جريان » الاستصحاب هناك في الكلى وهو الحدث لعد الاتيان بالوضوء انما هو باعتبار ان لنفس الكلى والجامع اثر شرعي وهو عدم جواز الدخول في الصلاة ، وهذه الجهة مفقودة في المفاهيم المجملة المرددة بين الأقل والأكثر كما في المقام ومسألة الرضاع وباب الغناء ونحوها ، لعدم ترتب اثر شرعي على عنوان النوم ومفهومه ولا على عنوان الرضاع المحرم ولا على عنوان الغناء بما هي هذه العناوين ( وحينئذ ) فعلى كل تقدير سواء كان السؤال عن الشبهة المفهومية أو المصداقية لا محيص من أحد الاشكالين « نعم » قد يدفع الاشكال الأول ، تارة بمنع تطبيق الاستصحاب في الرواية على الوضوء الذي هو المسبب ، بدعوى ان المستفاد من قوله (عليه السلام) : لا حتى يستيقن انه قد نام انما هو تطبيقه على عدم النوم ببيان انه لا يرفع اليد عن اليقين بعدم النوم الا باليقين بوجوده ، فيكون قوله (عليه السلام) : بعد ذلك والا فإنه على يقين منطبقا على عدم النوم بجعل عدم وجوب الوضوء عليه كناية عن عدم تحقق سببه وهو النوم لما بينهما من شدة الملازمة ولو في خصوص المورد « وأخرى بمنع السببية والمسببية بينهما حقيقة ، بدعوى ان الطهارة والحدث أمران وجوديان عرضيان غير مسبب أحدهما عن عدم الاخر ، غايته انه يلازم ارتفاع أحدهما مع وجود الاخر من جهة ما كان بينهما من التمانع والتعاند بحسب الوجود « وفيه » اما الوجه الأول ، فهو خلاف ظاهر الرواية جدا ، لوضوح ظهور قوله (عليه السلام) حتى يستيقن في كونه في مقام تطبيق الاستصحاب على الوضوء ، لاعلى عدم النوم ، فإنه بعد أن سئل الراوي عن وجوب الوضوء عليه بهذه المرتبة من نوم الاذن ، اجابه (عليه السلام) بما هو نتيجة الاستصحاب من أنه لا يرفع اليد عن اليقين بالوضوء ما لم يعلم بتحقق رافعة الذي هو النوم والحدث ( واما الوجه الثاني ) فلكونه خلاف ما تقتضيه الأدلة الدالة على وجوب الوضوء عند تحقق هذه الاحداث الظاهرة في كونها بنفسها من موجبات الوضوء ، ولذلك جرى عليه ديدن الأصحاب أيضا حيث جعلوها من موجبات الوضوء كما هو ظاهر ( وكيف كان ).

فقوله (عليه السلام) : والا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ابدا

ص: 40

( يحتمل ) ان يكون جزاء الشرط محذوفا وأقيمت العلة وهي قوله فإنه على يقين من وضوئه مقامه ، نظير قوله سبحانه « وان تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى « و » إن تكفروا فان اللّه غني عنكم » ، فمعنى الحديث انه ان لم يستيقن انه قد نام فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه ( ويحتمل ) ان يكون الجزاء نفس قوله فإنه على يقين من وضوئه لا علة لجواب الشرط المحذوف ، اما يجعل الجملة انشائية ، فيكون المعنى ان لم يستيقن انه قد نام فليبن على يقين من وضوئه في مقام الجري العملي.

( واما بجعلها ) على ظاهرها في الاخبار فيكون المستفاد منه بدلالة الاقتضاء انه ان لم يستيقن بالنوم فهو متيقن بالوضوء ولا ينقض اليقين بالشك ، والا فلا ترتب بين كونه شاكا في النوم وكونه متيقنا بالوضوء ( ويحتمل ) أيضا ان يكون الجزاء هو قوله (عليه السلام) : ولا ينقض اليقين بالشك ، ويكون قوله فإنه على يقين من وضوئه توطئة للجزاء ، فالمعنى ان لم يستيقن بالنوم فحيث انه كان على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك ( فعلى كل حال ) سواء جعل الجزاء نفس قوله فإنه على يقين من وضوئه ، أو جعل كونه أمرا مقدرا ، أو جعل كونه عبارة عن قوله ولا ينقض اليقين بالشك تكون الرواية دالة على حجية الاستصحاب ولو في خصوص المورد ، حيث لا يتوقف دلالتها على الحجية على تعيين ان الجزاء اي شيء ، ولذلك لا يهمنا البحث عن تعيين الجزاء وتشخيصه ( وانما المهم ) في المقام هو تجريد اليقين عن خصوصية اضافته إلى الوضوء بجعل إضافة اليقين إلى الوضوء لمجرد بيان أحد المصاديق لما يتعلق به اليقين لا لبيان تقييد اليقين به ليكون اللام في كبرى القياس وهي قوله ولا ينقض اليقين بالشك للجنس لا للعهد فيفيد قاعدة كلية مطردة في باب الوضوء وغيره ( والا ) فمع عدم تجريده عن الخصوصية المزبورة لا يفيد قاعدة كلية مطردة في جميع الموارد ، بل غايته إفادة قاعدة كلية في خصوص باب الوضوء ، فان شرط الانتاج في الشكل الأول هو ان يكون المحمول في صغرى القياس بما له من القيود موضوعا في كبرى القياس ، ومن المعلوم انه لو كان المحمول في الصغرى هو اليقين المضاف إلى الوضوء بهذه الخصوصية لا مطلق اليقين مجردا عن الإضافة المزبورة ، يلزمه اختصاص الموضوع

ص: 41

في الكبرى أيضا باليقين المتعلق بالوضوء ، ومثله لا ينتج الا حجية الاستصحاب في خصوص باب الوضوء ، لا حجيته مطلقا حتى في غير باب الوضوء ( بل إن تأملت ) ترى ان العمدة في استفادة التعميم من الرواية هي هذه الجهة أعني تجريد اليقين عن خصوصية اضافته إلى الوضوء والا فبدونه لا تجدي في استفادة التعميم مجرد كون الألف واللام في اليقين للجنس لا للعهد ، لان كون اللام للجنس لا يقتضى الا قاعدة كلية في خصوص باب للوضوء فلا يمكن التعدي منه إلى غيره من الطهارات الثلاث فضلا عن التعميم المطلق ( فلابد ) في استفادة التعميم المطلق من تجريد اليقين عن اضافته إلى طبيعة الوضوء ليكون الموضوع في الكبرى هو مطلق اليقين بالشيء المستتبع قهرا لكون اللام فيه للجنس لا للعهد حتى يفيد قاعدة كلية سارية في جميع أبواب الفقه ( وعليه نقول ) : انه يمكن دعوى الجزم بعدم دخل الإضافة المزبورة في اليقين المحكوم بعدم النقض ، لظهور الرواية حسب ما يفهمه العرف في كونها في مقام الاستدلال على نحو الشكل الأول من القياس لاعطاء قاعدة كلية لمطلق اليقين بالشيء الذي يكون مورد السؤال من جزيئاته ومصاديقه ( فان ) لازم قياسيته بعد ظهور الصغرى في كونها لبيان حكم اليقين بطبيعة الوضوء لا خصوص اليقين المتعلق بالوضوء الشخصي هو كون الكبرى أعني حرمة نقض اليقين كليا شاملا لمطلق اليقين بالشيء الملازم لكون اللام فيه للجنس المندرج فيه صغراه الذي هو من جزئياته ومصاديقه بلا اختصاصه بخصوص اليقين بالوضوء ليكون اللام فيه للعهد المشير إلى اليقين بالوضوء فيفيد قاعدة كلية في خصوص باب الوضوء ( بداهة ) ان ذلك لا يناسب قياسيته الا بفرض جعل الصغرى شخص اليقين المتعلق بالوضوء الخاص ، وهو مع كونه خلاف ظهور الصغرى في كونها لبيان اليقين المتعلق بطبيعة الوضوء لا شخص اليقين المتعلق بالوضوء الخاص ، يلزمه عدم التعدي من الوضوء إلى غيره من الطهارات وهو كما ترى ( فلا محيص ) حينئذ من جعل الكبرى كليا شاملا لمطلق اليقين بالشيء المندرج فيه صغراه الذي من جزئياته ومصاديقه ، فيكون إضافة اليقين إلى الوضوء في الرواية حينئذ وتخصيصها بالذكر من بين المصاديق من جهة كونه موردا لسؤال الراوي لا من جهة خصوصية فيه كما هو

ص: 42

ظاهر ( ومما يؤيد ) ما ذكرناه بل يشهد له وقوع هذه الجملة كبرى لصغريات متعددة في النصوص الأخرى وتطبيقها على مثل الطهارة الخبثية تارة ، وركعات الصلاة أخرى ، والصوم ثالثة ، فان ذلك قرينة عدم اختصاص الكبرى المزبورة بباب دون باب ( بل ويشهد لذلك ) أيضا ظهور سوق الرواية في كونه في مقام ادراج المورد تحت كبرى ارتكازية لا تعبدية وهي ان اليقين بالشيء لا ينقض بالشك فيه ( وبذلك كله ) لا يبقى مجال توهم اختصاص الكبرى باليقين المتعلق بالوضوء ، مضافا إلى أن التعميم هو الذي يقتضيه مناسبة الحكم والموضوع فان اليقين من جهة ابرامه واستحكامه هو المناسب لان يضاف إليه النقض ولا مدخلية في ذلك لخصوصية اضافته إلى الوضوء كما هو ظاهر ( نعم لو اغمض ) عما ذكرنا لا يتم ما افاده المحقق الخراساني قدس سره لاثبات التعميم ولو على عهدية اللام من دعوى قوة احتمال ان يكون من وضوئه متعلقا بالظرف لا باليقين ليكون المعنى انه من طرف وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين بالشك : فان المستفاد منه حينئذ بعد كون الأصغر نفس اليقين لا اليقين المتعلق بالوضوء هو عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشيء بالشك في بقائه ( إذ فيه أولا ) ان مجرد الاحتمال لا يجدى شيئا ما لم يبلغ إلى الظهور المعتد به ، والا فيسقط الكلام عن الحجية لا جماله لو فرض تكافؤ الاحتمالين ( وثانيا ) ان غاية ذلك خروج من وضوئه عن كونه من الجهات التقييدية لليقين إلى التعليلية ، ومثله لا يوجب اطلاقا في اليقين المأخوذ في الصغرى ، فان اليقين على العلية وان كان غير مقيد به ولكن لا اطلاق له أيضا يشمل اليقين المتعلق بغير الوضوء كما هو الشأن في جميع المعاليل بالإضافة إلى عللها ، حيث يستحيل ان يكون لها اطلاق يشمل حال فقد عللها ، وعليه فلا يكون اليقين في الصغرى الا الحصة الملازمة للتعلق بالوضوء العارية عن حيثية الاطلاق والتقيد به ، وحينئذ فإذا كان الألف واللام في الكبرى للعهد تلزمه الإشارة لا محالة إلى اليقين الناشئ من قبل الوضوء ، ومثله لا يدفع دعوى الاختصاص ، ولا يفيد عموم الكبرى لكل يقين كما هو واضح ( وثالثا ) ان استفادة

ص: 43

الاطلاق من الكبرى المزبورة فرع جريان مقدمات الحكمة ، وتماميتها منوط بعدم وجود المتيقن في مقام التخاطب ، وبعد فرض يتقن نوع اليقين المتعلق بالوضوء ، لا يبقى مجال الاخذ باطلاق الكبرى والتعدي عن نوع اليقين بالوضوء إلى غيره ، فلا محيص حينئذ في استفادة عموم الكبرى من جعل اللام فيها للجنس بالتقريب الذي ذكرناه ، ومعه لا يفرق بين جعل من وضوئه من الجهات التعليلية لليقين أو الجهات التقييدية ، فإنه على كل تقدير يتم دعوى التعميم كما هو ظاهر.

( إزاحة شبهة ) قد يورد على دلالة الرواية على حجية الاستصحاب ولو في خصوص موردها بما حاصله انه لابد في الاستصحاب من أن يكون المستصحب مما يتصور له البقاء والاستمرار ليكون بحدوثه متعلقا لليقين وببقائه متعلقا للشك فيجتمع فيه بهذه العناية اليقين والشك الفعليان ( والوضوء ) باعتبار كونه عبارة عن الغسلات والمسحات الخاصة لا يكون بذاته قابلا للدوام الاستمرار فلا يتصور فيه الشك في البقاء ، حتى يكون ايجاب المضي على طبق اليقين به من باب تطبيق الاستصحاب ، بل لابد وأن يكون ذلك من باب تطبيق قاعدة المقتضى والمانع باعتبار ان الوضوء مقتضى للآثار التي منها جواز الدخول في الصلاة ، والنوم وأمثاله من الاحداث المانعة عن تأثيره فيها ، ولما كان الراوي متيقنا بالمقتضى وهو الوضوء وشاكا في تحقق الحدث المانع عن تأثيره اجابه الإمام (عليه السلام) بعدم نقض اليقين بالمقتضى بالشك بالمانع من مثل النوم وأمثاله ( وفيه ) ان الوضوء بذاته وان كان أمرا حدوثيا غير قابل للبقاء والاستمرار الا انه باعتبار مسببه وهو الطهارة امر قابل للدوام والبقاء : وبهذه الجهة أمكن تطبيق الاستصحاب عليه لتمامية أركانه فيه من اليقين السابق بالحدوث والشك اللاحق بالبقاء ولذا أضيف إليه النقض في الأخبار الكثيرة ، بقوله (عليه السلام) : لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم ( وان شئت قلت ) : ان اليقين بالوضوء في المقام كناية عن اليقين بأثره من الطهور القابل لتعلق الشك ببقائه ، لا انه بنفسه موضوع النقض كي يقتضى حمل الرواية على قاعدة المقتضى والمانع ، والنكتة ، في التعبير عن اليقين

ص: 44

بالطهارة باليقين بالوضوء هي خفائها عن الأذهان في مورد الوضوء بنحو لا طريق إليها الا من جهة اليقين بسببها الذي هو الوضوء ، ويؤيده جعل اليقين بنفس الطهارة الخبثية في الرواية الآتية صغرى لهذا القياس باعتبار وضوحها وعدم خفائها عن الأذهان بحيث يحتاج الإشارة إليها إلى الإشارة إلى سببها ( وحينئذ ) فبعد ظهور الكبرى المزبورة في الرواية في اليقين الحقيقي بالشيء والشك فيه نفسه الظاهر في اتحاد متعلق الوصفين ولو بنحو من العناية لا وجه لصرفها عما تقتضيه من الظهور في الاستصحاب لاستخراج القاعدة المزبورة باعمال ضرب من المسامحة والعناية في اليقين في الكبرى بجعل اليقين بالشيء هو اليقين بالعناية الذي هو عين اليقين بمقتضيه خصوصا مع ظهور كبرى نقض اليقين بالشك في كونه من جهة المعاندة بين الوصفين لا المعاندة بين متعلقيهما ( ولا أقل ) من تقديم العرف حسب ارتكازه في مثل هذه القضية المسامحة في وحدة متعلق الوصفين بتجريده عن التقطيع الحاصل فيه من جهة تعلق الوصفين على العناية في اليقين بجعل ظهور القضية في وحدة المتعلقين بنحو من الاتحاد قرينة على كون اليقين بالوضوء كناية عن اليقين بالطهارة الحاصلة منه ، خصوصا مع ملاحظة تكرر هذه الكبرى في غير واحد من الاخبار ( وحينئذ ) فلا اشكال في دلالة الرواية على حجية الاستصحاب ، كما لا اشكال أيضا في استفادة التعميم منها في جميع أبواب الفقه.

( ومنها ) صحيحة أخرى لزرارة مضمرة أيضا ، قال قلت : له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت اثره إلى أن أصب عليه الماء فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ، ثم اني ذكرت بعد ذلك ، قال (عليه السلام) : تعيد الصلاة وتغسله .. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه اصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال (عليه السلام) : تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت انه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت ولم أر شيئا فصليت فيه فرأيت فيه ، قال (عليه السلام) : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك قال (عليه السلام) : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا ، قلت فانى قد علمت أنه اصابه ولم أدر أين هو فاغسله ، قال (عليه السلام) : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين

ص: 45

من طهارتك ، قلت. فهل علي ان شككت انه اصابه شيء قال (عليه السلام) : لا ولكن انما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك ، قلت : ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة ، قال (عليه السلام) تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك.

( وتقريب الاستدلال ) بهذه الصحيحة على حجية الاستصحاب كما في الصحيحة الأولى ( فان ) في فقرتي الرواية صدرا وذيلا دلالة واضحة على المدعي وتطبيق الاستصحاب على المورد خصوصا الفقرة الأخيرة منها فإنها بقرينة ابداء الإمام (عليه السلام) احتمال وقوع نجاسته جديدة حين رؤيتها في الصلاة ظاهرة في تطبيق الاستصحاب على المورد المقتضى لعدم الإعادة ( وحينئذ ) فلا اشكال من هذه الجهة.

( وانما الكلام ) والاشكال فيها في موضعين ( أحدهما ) فيما في الفقرة الثانية المفروضة في كلام الراوي من العلم الاجمالي بنجاسته ثوبه ، وحاصله ان مثل زرارة كيف يتصور في حقه الاقدام على الدخول في الصلاة مع العلم الاجمالي بنجاسة ثوبه ، حيث إن الحمل على غفلته عن نجاسة ثوبه حين الدخول في الصلاة بعيد في الغاية كبعد حمله على صورة حصول القطع بالعدم بعد الفحص ، وابعد منه حمله على عدم منجزية العلم الاجمالي عنده ( ولكن ) يدفع هذا الاشكال بالالتزام بغفلته عن نجاسة ثوبه حين الدخول في الصلاة ( إذ لم يكن ) في البين ما يوجب بعد ذلك منه ، ولا كان في كلامه أيضا ما يبعده غير أنه طلبها ولم يظفر بها فدخل في الصلاة ثم وجدها بعد الصلاة.

( وثانيهما ) في كيفية تطبيق الاستصحاب في الفقرة الثانية على المورد وتصحيح تعليل عدم وجوب الإعادة بعد الالتفات والعلم بوقوع الصلاة في الثوب النجس بقوله (عليه السلام) : لأنك كنت على يقين من طهارتك الخ ، مع أن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة لا تكون من نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها بل هي من

ص: 46

نقض اليقين بها باليقين ، بالنجاسة ، ولأجل هذا الاشكال وقعوا في حيص وبيص وسلك كل في حله سبيلا ( أقول ) : ولا يخفى ان أصل هذا الاشكال مبنى على كون النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة المظنونة التي خفيت عليه قبل الصلاة ، فإنه عليه يتوجه الاشكال بان هذا التعليل انما يصحح مشروعية الدخول في الصلاة مع ظن الإصابة لكون المنع عن الدخول فيها لأجل الظن المزبور نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، لا نفى إعادة الصلاة بعد اتمامها وتبين وقوعها في النجاسة ، لان إعادة الصلاة حينئذ لا تكون من نقض اليقين بالشك وانما هي من نقض اليقين باليقين ( واما لو كانت ) النجاسة المرئية مما احتمل وقوعها بعد الصلاة بحيث لم يعلم وقوع الصلاة فيها كما لعله الظاهر أيضا ولو بقرينة تغير أسلوب العبارة من كلام الراوي في هذه الفقرة بقوله : فلما صليت فيه فرأيت فيه خاليا عن الضمير الذي اتى به في الفقرة قبلها بقوله : فلما صليت وجدته مع الضمير ، فإنه لو كانت النجاسة المرئية هي المظنونة التي خفيت عليه قبل الصلاة لكان الجري ان يقول : رأيته مع الضمير لا خاليا عنه ، مؤيدا ذلك بما في الفقرة الأخيرة من الرواية التي ابدأ فيها الإمام (عليه السلام) احتمال وقوع النجاسة حين رؤيتها ، فلا يرد في البين اشكال ( بداهة ) استقامة تعليل عدم وجوب الإعادة حينئذ بعدم نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها ، إذ إعادة الصلاة باحتمال وقوعها في النجاسة عين الاعتناء باحتمال نجاسة الثوب حال الاشتغال بالصلاة وهي نقض لليقين بطهارته بالشك فيها ولكن الذي يبعد ذلك استيحاش السائل عن التفرقة بين الفرضين وسؤاله عن لم التفصيل ، فإنه لولا فرض كون النجاسة المرئية هي المظنونة.

سابقا لا مجال لاستيحاشه مع ارتكازية الاستصحاب في ذهنه ( وكيف كان ) فقد أجابوا في التفصي عن الاشكال المزبور بوجوه.

( منها ) ان حسن التعليل انما هو من جهة اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فان الراوي لما كان مستصحبا للطهارة حال الدخول في الصلاة إلى حين الفراغ منها كانت صلاته مجزية عن الإعادة ولو بعد تبين الخلاف ( وفيه ما لا يخفى ) فإنه مع

ص: 47

بعده في نفسه ينافي ظهور الرواية ( إذ عليه ) ينبغي تعليل عدم الإعادة باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، لا بعدم نقض اليقين بالطهارة بالشك ( واحتمال ) ان عدم التعليل بذلك من جهة كونه مرتكزا في ذهن الراوي ، فمن هذه الجهة لم يتعرض لبيان ذلك بل تعرض لبيان وجود الامر الظاهري باستصحاب الطهارة ( مدفوع ) بأنه مضافا إلى أنه من البعيد كل البعد اقتضاء الأوامر الطريقية للاجزاء عند مثل زرارة اما مطلقا أو في خصوص المورد بحيث كان من المرتكزات الذهنية غير المحتاج إلى التنبيه عليها ، خصوصا مع وجود الخلاف العظيم في تلك المسألة وذهاب المعظم فيها إلى عدم الاجزاء ( انه لا يناسب ) ذلك تعليل عدم الإعادة بحرمة نقض اليقين بالشك ، فان معنى حرمة نقض اليقين بالشك هو حرمة رفع اليد عن آثار المتيقن المترتب عليه ببركة اليقين ووجوب ترتبها عليه ، لا وجوب ترتيب آثار نفس الاستصحاب ، وإذا كان عدم الإعادة من آثار نفس الاستصحاب ولوازمه لا من لوازم المستصحب وآثاره ، فلا يكون نقيضه وهو الإعادة معنونا بكونه نقضا لليقين بالشك كي بذلك يحسن التعليل المزبور ، فحسن التعليل بعدم نقض اليقين بالشك لا يكون الا إذا كانت الإعادة معنونا بعنوان النقض المزبور ، ولا يكون ذلك الا إذا كانت من آثار المستصحب لا الاستصحاب ومعه يتوجه الاشكال المزبور بان الإعادة مع انكشاف الخلاف تكون من نقض اليقين باليقين لا بالشك.

( ومنها ) ما عن المحقق الخراساني قده من أن حسن التعليل بالاستصحاب انما هو باعتبار ان الشرط في باب الطهارة الخبثية حال الالتفات إليها مجردا حراز الطهارة ولو بالأصل لا نفسها ، فالحكم بصحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها انما هو من جهة ان الراوي كان محرزا للطهارة باستصحابها حال الاتيان بالصلاة وواجدا لما هو شرط صحتها واقعا ( وفيه ) انه ينبغي حينئذ تعليل عدم الإعادة بنفس احراز الطهارة حال الاتيان بها ( لا بالطهارة ) المحرزة بالاستصحاب في ظرف انكشاف الخلاف كما هو مقتضى التعليل الظاهر في كونها تمام المناط لعدم الإعادة ، لا انها جزء المناط أو مقدمة لكبري

ص: 48

أخرى تكون هي العلة لعدم الإعادة ( ودعوى ) ان ذلك انما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الخلاف أعني حال الاتيان بالصلاة كما يقتضيه أيضا ظهور القضية في الماضوية ، لا انه بلحاظ حال بعد انكشاف الخلاف ، وذلك أيضا لنكتة التنبيه على كبرى أخرى تكون هي العلة لعدم الإعادة وهي موضوعية الاستصحاب في ذلك الحال في صحة العمل وكفاية احراز الطهارة ولو بالأصل في الشرطية واقعا ( مدفوعة ) بان ذلك انما يوجب حسن التعليل بالاستصحاب إذا كانت الكبرى المزبورة مركوزة في ذهن الراوي من الخارج بنحو يوجب تحذير مثله بقوله (عليه السلام) : فليس لك الخ ، والا فعلى ما هو المرتكز في الأذهان في نحو هذه الأوامر من الطريقية المحضة لا يفيد التعليل المزبور شيئا ولو كان ذلك بلحاظ الحال السابق لا الحال الفعلي ، فإنه مع انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ، يتوجه الاشكال بان الإعادة تكون من نقض اليقين باليقين لا بالشك ، فصحة التعليل بمثل هذه القاعدة المغروسة طريقتها في الأذهان تحتاج إلى اعمال تعبد على خلاف ما هو المرتكز في ذهن الراوي من الطريقية المحضة غير المفيدة للاجزاء ، ببيان كبرى أخرى وهي موضوعية الاستصحاب وكفاية مجرد احراز الطهارة بالأصل ولو في خصوص المورد في صحة العمل وفي الشرطية واقعا ، وبدونه يبقى الاشكال في الرواية على حاله ولا يمكن الذب عنه بمثل التقريب المزبور ، الا بما ذكرناه من التقريب ( ومن التأمل فيما ذكرنا ) يظهر أيضا انه لا مجال لتصحيح التعليل المزبور بجعله من قبيل التعليل بالاسكار لحرمة شرب الخمر لإفادة كبرى كلية وهي كفاية احراز الطهارة في الشرطية وقاعا وعدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة ( إذ فيه ) ان ذلك يتم إذا كان لسان التعليل جريان الاستصحاب في المورد تعبدا ( إذ حينئذ ) بدلالة الاقتضاء يستفاد منه كفاية مجرد احراز الطهارة باستصحاب في الشرطية واقعا أو في الاجزاء وعدم وجوب الإعادة ، لا فيما كان ذلك بلسان ان جريانه في المورد كان بمقتضى الارتكاز كما هو قضية تحذيره بقوله فليس ينبغي لك الخ ( والا ) فبعد ان كان المغروس في الأذهان طريقية الاستصحاب وعدم اقتضائه الاجزاء لا موضوعيته ، فلا بد في الحكم بعدم الإعادة من التنبيه على موضوعية الاستصحاب

ص: 49

في المورد ، وبدونه يبقى الاشكال المزبور على حاله.

مع أنه على ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب في المورد لعدم ترتب اثر عملي حينئذ على الطهارة الواقعية ( فان المراد ) من أمثال هذه الأوامر الطريقية والتنزيلات الظاهرية التي منها حرمة نقض اليقين بالشك انما هو الامر بترتيب ما للواقع من الآثار العملية لولا الامارة أو الاستصحاب ، ومع فرض خروج الطهارة الواقعية عن موضوع الشرطية وعدم ترتب اثر عملي عليها لا يجري فيها الاستصحاب ، فلا تكون حينئذ طهارة استصحابية حتى يترتب عليها الآثار المزبورة.

( واما ) ما افاده في دفع الاشكال من كفاية كونها شرطا اقتضائيا في جريان الاستصحاب ( فمدفوع ) بان مجرد الشرطية الاقتضائية غير كافية في جريان الاستصحاب ما لم تبلغ إلى مرحلة الفعلية ، لان الاستصحاب وظيفة عملية ولابد في جريانه من ترتب اثر عملي على المستصحب ( كما أن ) ما افاده من كفاية كونها من قيود الشرط الذي هو احرازها بخصوصها لا غيرها في جريان الاستصحاب لعدم انعزالها حينئذ عن الشرطية بالمرة وانه بجريان الاستصحاب فيها يتحقق احرازها الذي هو شرط فعلى ( مدفوع ) بان المراد من قيد الشرط ان كان هو الطهارة بوجودها اللحاظي الاعتقادي ، فهو مع أنه منعدم بانعدام اعتقاده غير مجد في جريان الاستصحاب ( لان ) من شرط جريانه ان يكون المستصحب بوجوده الواقعي مما يترتب عليه الأثر ، لا بوجوده الذهني الاعتقادي ( وان كان ) المراد به الطهارة الواقعية فيلزم في المقام بطلان الصلاة بانعدامه حسب الفرض ( فعلى كل تقدير ) لا مجال لتصحيح التعليل المزبور بالبيان المذكور.

( ومنها ) ان حسن التعليل انما هو بلحاظ ان الشرط هو الجامع بين الطهارة الواقعية والظاهرية ، حيث إنه باستصحاب الطهارة يتحقق أحد فردي الجامع الموضوع للتكليف أو الوضع ، فيترتب عليه عدم وجوب إعادة الصلاة لكونها واجدة لما هو شرط صحتها واقعا ( وفيه ) ان هذا المقدار لا يصحح امر الاستصحاب ( لوضوح ) ان مقتضى شرطية الجامع بين الطهارتين هو خروج الطهارة

ص: 50

الواقعية بخصوصيتها عن موضوع الشرطية ، ولازمه عدم صحة تطبيق الاستصحاب عليها بخصوصها لعدم ترتب اثر عملي عليها كي يتحقق باستصحابها أحد فردي الجامع ( بل لازمه ) عدم صحة تطبيقه أيضا على الحصة من الجامع المتحقق في ضمنها ، لوضوح ان مثل هذه الحصة انما يترتب عليها الأثر العملي في فرض سبق وجودها الموجب لكونها فرد صرف الجامع الموضوع للتكليف أو الوضع ، وهذا المعنى يلازم مع مطابقة الاستصحاب للواقع ، والا ففي فرض مخالفته للواقع لا يكون لمثل هذه الحصة اثر عملي الا على فرض عدم جريان الاستصحاب ، إذ مع جريان الاستصحاب يكون الأثر للحصة الأخرى من الجامع المتحقق في ضمن الفرد التعبدي ( من الواضح ) انه لا يمكن ان يصحح به امر الاستصحاب في فرض المخالفة للواقع ، لأنه يلزم من وجوده عدمه ( فلابد ) في مثل الفرض من الالتزام بجريان الاستصحاب بلحاظ ما يترتب على نفس الاستصحاب وهو كما ترى.

( وبما ذكرنا ) ظهر انه لا مجال لتطبيق الاستصحاب على نفس الجامع بينهما أيضا من جهة استحالة انطباق الجامع المستصحب على ما يترتب على نفس استصحابه ( فعلى كل تقدير ) لا استصحاب في البين حتى يتحقق به أحد فردي الجامع فيترتب عليه صحة الصلاة واقعا هذا ( مضافا ) إلى امتناع كون الشرط في أمثال المقام هو الجامع بين الطهارة الواقعية والاستصحابية ، فإنه مع تأخر الاستصحاب عن المستصحب رتبة يستحيل قابلية الجامع للانطباق على ما يتحقق من قبل نفس الاستصحاب المتأخر عنه رتبة كما هو ظاهر فتدبر ( اللّهم ) الا ان يلتزم بكون الطهارة الخبثية بنفسها من الاحكام المجعولة الوضعية ويقال : بكفاية مجرد شرعيتها في نفسها لجريان الاستصحاب فيها ، وان الطهارة المستصحبة ولو بلحاظ نفسها شرط واقعي للصلاة ولكنه خلاف التحقيق ، فان التحقيق فيها هو كونه من الأمور الواقعية المكشوفة بنظر الشارع ، وعليه لا يبقى مجال للاستصحاب المزبور بعد عدم ترتب اثر عملي عليه غير صحة هذه الصلاة.

( ومنها ) ان حسن التعليل انما هو من جهة ان في باب الطهارة والنجاسة

ص: 51

يكون المانع عن صحة الصلاة هو العلم بالنجاسة ( اما ) من حيث كونه منجزا لاحكامها فيكون المقصود من التعليل بالطهارة التوطئة لذكر العلة وتنبيه السائل على كونه ممن لم يتنجز عليه احكام النجاسة لمكان يقينه السابق بالطهارة وعدم تبدله باليقين بالنجاسة حين الدخول في الصلاة حتى يتنجز عليه أحكامها ( ببيان ) انك أيها السائل لما كنت على يقين من طهارتك فما كنت محرزا للنجاسة كي يتنجز عليك أحكامها وتجب عليك إعادة الصلاة عند انكشاف وقوعها في النجاسة ، فمفاد هذه الصحيحة حينئذ نظير مفاد الأخبار الدالة على جواز الدخول في الصلاة مع الشك في نجاسة البدن أو اللباس وعدم العلم بها تفصيلا أو اجمالا ، ولا يكون فيها الدلالة على شرطية الطهارة ( وفيه ) انه على هذا المبنى كان المناسب تعليل عدم الإعادة بعدم احراز النجاسة حال الدخول في الصلاة ، لا باستصحاب الطهارة خصوصا مع كونه مسبوقا بعلة أخرى وهي عدم العلم بالنجاسة ( مع أنه ) على ذلك لا اثر للطهارة حتى يصح التعبد بوجودها ، فلا استصحاب حينئذ حتى يصح التعليل به ولو للتوطئة لذكر علة أخرى كما هو ظاهر ( اللّهم ) الا ان يقال ان الاكتفاء بعدم العلم بالنجاسة في صحة الصلاة انما هو في صورة الغفلة عن النجاسة ، واما مع الالتفات إليها فلا بد في صحة الصلاة ومشروعية الدخول فيها من احراز الطهارة بوجه ما ، جمعا بين ما دل على اشتراط احراز الطهارة في صحة الصلاة ومشروعية الدخول فيها ، وبين ما دل على كفاية عدم العلم بالنجاسة في صحة الصلاة واقعا ، والتعليل المزبور في الرواية ناظر إلى فرض الالتفات إلى النجاسة فلا اشكال حينئذ في صحة التعليل ( ولكن ) يتوجه عليه انه مع كونه خارجا عن الفرض موجب لعود الاشكال في صحة تطبيق التعليل على المورد.

فالأولى في التفصي عن الاشكال هو الجواب عنه بما ذكرناه من احتمال كون النجاسة المرئية غير النجاسة المظنونة سابقا ( ومع الغض ) عنه فالانصاف هو الاعتراف بالعجز عن الجواب عنه ( ولكن ) لا يضر ذلك بما نحن بصدده من عموم الكبرى ، فان دلالتها على حجية الاستصحاب في غاية الوضوح فهمنا كيفية تطبيق الكبرى على المورد أو لم نفهمه.

ص: 52

بقى الكلام

في وجه الجمع بين ما دل على صحة الصلاة وعدم وجوب اعادتها عند تبين وقوعها في النجاسة ، كهذه الصحيحة على أحد الاحتمالين وبعض النصوص الاخر ، وبين ما دل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن الظاهر في الطهارة الواقعية المقتضى لبطلان الصلاة عند فقدانها ، كسائر الشرائط الاخر من الستر والقبلة والطهارة الحدثية ، بل هذا البحث لا يختص بالمقام فيجري في كل مورد قام الدليل على الصحة وعدم وجوب الإعادة عند فقد بعض الاجزاء والشرائط.

( فنقول ) : ان الجمع بين الأدلة في المقام يتصور على وجوه ( أحدها ) ان يكون للعلم بموضوع الشرطية دخل في أصل الاشتراط واقعا بحيث تدور الشرطية أو المانعية الواقعية مدار العلم بموضوع الشرط أو المانع وبدونه لا تكون النجاسة مانعة عن صحة الصلاة ، ولا الطهارة شرطا لها ( وثانيها ) ان يكون الشرط هو الطهارة بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، والفرق بين هذا الوجه وسابقا هو انه على الوجه السابق يكتفى في صحة الصلاة بمجرد عدم العلم بالنجاسة ولا يحتاج إلى احراز الطهارة ، بخلاف هذا الوجه فإنه لا يكفي في مشروعية الدخول في الصلاة وصحتها مجرد عدم احراز النجاسة ، بل لابد في صحة الصلاة من احراز الطهارة حين الدخول فيها ولو بالأصل.

( وثالثها ) ان يكون الشرط هو الجامع بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ولو بالاستصحاب أو قاعدة الطهارة.

( ورابعها ) ابقاء أدلة الاشتراط على ظاهرها من الشرطية الواقعية والالتزام بمفوتية المأتى به ناقصا لمصلحة الواقع بمناط المضادة بحيث لا يمكن مع الاتيان به استيفاء المصلحة الكامنة في المأمور به الواقعي.

( وخامسها ) ان يكون الاجزاء وعدم الإعادة بمناط وفاء المأتى به بالطهارة الظاهرية بسنخ ما يفي به الطهارة الواقعية من المصلحة ولو بمرتبة منها على وجه يوجب

ص: 53

تفويت تدارك الباقي الوافي به خصوص الطهارة الواقعية ، لا تفويت أصل المصلحة كما هو مقتضى الوجه الرابع ، ومرجع ذلك إلى وفاء كل منهما بخصوصه بمرتبة من سنخ المصلحة غاية الامر بنحو يكون ترتب الثاني في الوفاء بالغرض على عدم الأول ، ( أو بجامعهما ) مع طولية الفردين بنحو يكون الجامع في كل مرتبة منحصر الفرد ( فهذه ) وجوه خمسة في الجمع بين الأدلة.

( ولكن ) أمتن الوجوه وأوفقها بالقواعد هو الوجه الأخير ( إذ هو نحو جمع ) بين الأدلة لكونه ابقاءا للأدلة الدالة على شرطية الطهارة على ظاهرها في اعتبار الطهارة الواقعية بخصوصها بحسب الجعل الأولى ، وموافقا لما عليه فتوى الأصحاب من لزوم احراز الطهارة بوجه في صحة الصلاة ومشروعية الدخول فيها عند الالتفات إليها وعدم جواز الاكتفاء بالشك فيها من دون مزيل شرعي له ، ومنطبقا أيضا على ظواهر الأخبار الدالة على تمامية الصلاة وعدم وجوب اعادتها عند تبين وقوعها في النجاسة ، اما لكون المكلف غافلا عن النجاسة ، واما لكونه محرزا للطهارة بوجه حال الاتيان بالعمل ( وهذا ) بخلاف الوجوه الاخر ، فإنها تنافي ظواهر الأدلة الدالة على شرطية الطهارة الواقعية بخصوصها ، ومع ذلك لا يسلم بعضها عن الاشكال أيضا ( اما الوجهان الأولان ) فمخالفتها ، لظواهر تلك الأدلة ظاهره ، خصوصا الوجه الأول منها ، فإنه ينافي ما عليه فتوى المشهور من لزوم احراز الطهاة ولو بوجه في صحة الصلاة ومشروعية الدخول فيها ، وعدم جواز الاكتفاء بالشك فيها من دون مزيل شرعي له ( وكذلك الوجه الثاني ) لمنافاته أيضا لما تقتضيه ظواهر الأدلة من شرطية الطهارة الواقعية بخصوصها ، مضافا إلى ما عرفت من الاشكال في تصوير الجامع بين الطهارة الواقعية والتعبدية من حيث عدم قابلية الجامع للانطباق على ما يترتب على التعبد بوجوده ، مع عدم جريانه أيضا في فرض الغفلة عن النجاسة لعدم وجود مصداق تعبدي لها حينئذ ( نعم ) لو اغمض عن اشكال تصوير الجامع بينهما لا يرد عليه شبهة لزوم صحة توجيه الطلب التخييري نحو الفردين ( إذ ذلك ) انما هو من تبعات عرضية الفردين ، والا فمع طولية فردي الجامع وكونه منحصر الفرد في

ص: 54

كل مرتبة لا يقتضى مجرد وفاء الجامع بالغرض صحة توجيه الامر التخييري نحو الفردين كما هو ظاهر ( واما الوجه الرابع ) فهو أيضا ينافي النصوص الدالة على عدم إعادة الصلاة وكونها ماضية الظاهرة في بدلية المأتى به ووفائه بسنخ ما يفي به الطهارة الواقعية ولو بمرتبة منه ، فيتعين الوجه الخامس لسلامته عن الاشكال وموافقته لظاهر الأدلة ، ولما عليه فتوى الأصحاب ( ولعله ) إلى ذلك أيضا يرجع ما افاده بعض الأعاظم قدس سره في الجمع بين الأدلة من أن الاجزاء وعدم الإعادة انما هو لأجل قناعة الشارع عن المأمور به بما يقع امتثالا له لان الفعل المأتى به في هذا الحال بعنوان امتثال الواقع بدل عن الواقع المأمور به وكان مما يقوم به الغرض من الامر الواقعي في هذا الحال ، فكان المقصود من قوله اشتمال المأتى به على الغرض من الامر هو اشتماله له ولو ببعض مراتبه ، لا بجميع مراتب مصلحة الواقع ( والا ) فلابد اما من الالتزام بتدارك الغرض الواقعي القائم بالطهارة الواقعية بما في المأتى به من المصلحة في هذا الحال ، أو الالتزام بقيام الغرض الواقعي بالجامع بينهما ( والأول ) ينافي البدلية الظاهرة في وفاء المأتى به بسنخ ما يفي به الواقع ( والثاني ) يرجع إلى الوجه الثاني في كلامه الذي استبعده وهو كون الشرط الأعم من الطهارة الواقعية والاحرازية فلا يكون وجها ثالثا في الجمع بين الأدلة.

( ومنها )

صحيحة ثالثة لزرارة أيضا وهي قوله (عليه السلام) : إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه تنقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبنى عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات ( ومحل الاستدلال ) قوله (عليه السلام) ولا ينقض اليقين بالشك بالتقريب الذي تقدم في الأخبار السابقة ( وقد أورد ) الشيخ

ص: 55

قدس سره على الاستدلال بها بما حاصله ان المراد من الركعة في قوله (عليه السلام) : قام فأضاف إليها أخرى ، اما الركعة الموصولة بالركعات السابقة ، واما الركعة المفصولة عنها بتكبير وسلام ( فعلى الأول ) وان كان ينطبق على الاستصحاب ، ولكنه يخالف ما استقر عليه مذهب الإمامية من البناء على الأكثر واتيان ركعة أخرى مفصولة عنها بتكبير وسلام ، ويوافق مذهب العامة ، بل يخالف أيضا ، ما في صدر الحديث من قوله (عليه السلام) : في من لم يدر في ثنتين هو أم في أربع ، يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه الظاهر بقرينة تعيين فاتحة الكتاب في إرادة ركعتين منفصلتين أعني صلاة الاحتياط ، فلا بد حينئذ من أن يكون المراد من قوله قام فأضاف إليها أخرى الركعة المفصولة المستقلة بعد التشهد والتسليم في الركعة المرددة كما هو مذهب الإمامية ، وعليه لا تنطبق الرواية على الاستصحاب ، إذ يكون المراد من اليقين في قوله لا تنقض اليقين بالشك حينئذ هو العمل الذي يوجب اليقين بالفراغ عن عهدة التكليف أعني البناء على الأكثر والآتيان بركعة الاحتياط ( وقد جرى ) اصطلاح الأئمة علیهم السلام على التعبير عن الوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات بالبناء على اليقين ، ومنه قوله (عليه السلام) : في الموثقة الآتية ، إذا شككت فابن على يقين ، فان المراد من اليقين فيه هو البناء على الأكثر واتيان ركعة الاحتياط ( وعلى فرض ) ظهور الرواية في إرادة الركعة الموصولة لابد من صرفها عن ظاهرها بما توافق مذهب الإمامية ، والا فلابد من حملها على التقية وهو أيضا خلاف الأصل ، فان أصالة الجهة فيها تقضي صدورها لبيان الحكم الواقعي ( واما ) ارتكاب التقية في تطبيق القاعدة واجرائها على المورد لا في أصل كبرى القاعدة ، فيحمل قوله ولا تنقض اليقين بالشك على بيان الواقع ، فبعيد جدا ( إذ ذلك ) مضافا إلى كونه خلاف ظاهر آخر ، ينافي ما في صدر الرواية من الظهور في لزوم الفصل في الشك بين الاثنين والثلاث على خلاف مذهب العامة انتهى ملخص الاشكال ( ولكن فيه ) ان حمل اليقين في الرواية على اليقين بالبرائة والاخذ بالوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات التي علمها الإمام (عليه السلام) في اخبار اخر بقوله الا أعلمك شيئا ان نقصت فكذا وان أتممت فكذا خلاف ظاهر الرواية جدا ، ( كيف ) وان

ص: 56

قوله (عليه السلام) : لا تنقض اليقين بالشك ظاهر بل صريح في اليقين الفعلي فارغا عن ثبوته وتحققه ، ومثله لا يناسب الا الاستصحاب ، والا فلا يناسب مع اليقين المستفاد من أدلة الشكوك ، لان مثل هذا اليقين مما يجب تحصيله باتيان الوظيفة المقررة من صلاة الاحتياط بعد النباء على الأكثر ، خصوصا بعد ملاحظة التعبير بالنقض الذي لا يناسب الا مع الاستصحاب ، وملاحظة ورود هذه الجملة في الأخبار السابقة الظاهرة بل الصريحة في الاستصحاب ( ولما ) ما جرى عليه اصطلاحهم علیهم السلام من التعبير عن الوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات فإنما هو بعنوان البناء على اليقين أو العمل على اليقين لا بعنوان نقض اليقين بالشك كما في المقام ، وبينهما بون بعيد.

( واما ما أفيد ) من منافاة الحمل على التقية حتى في مقام التطبيق على المورد لما في صدر الرواية من الظهور في إرادة صلاة الاحتياط على خلاف مذهب العامة ( ففيه ) انه لا ظهور في صدر الرواية في خلاف التقية بنحو بمنع عن حمل هذه الفقرة عليها ، وأعمال التقية في اجراء القاعدة وتطبيقها على المورد لا في نفسها ، لا بعد فيه بعد ظهور الجواب في البناء على الأقل الذي هو مقتضى الاستصحاب ( ولو سلم ) ذلك فلا يكون بأبعد من الحمل على الوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات ، بل يكون الحمل على التقية في تطبيق القاعدة على المورد أقرب من حمل اليقين فيها على تحصيل اليقين بالبرائة باتيان الوظيفة المعهودة في الشك في عدد الركعات ، إذ لا يلزم منه التصرف فيما يقتضيه ظهور قوله لا تنقض اليقين بالشك ، لان التصرف انما يكون ممحضا في تطبيق القاعدة التي استشهد بها لحكم المورد ، لا في أصل كبرى حرمة النقض.

( ومثله ) غير عزيز في الأخبار الواردة عنهم علیهم السلام ( وقد ورد ) نظير ذلك عنهم في بعض الاخبار ، كقوله (عليه السلام) للخليفة العباسي بعد سؤال اللعين عن الافطار في اليوم الذي شهد بعض بأنه يوم العيد ، ذاك إلى امام المسلمين ان صام

ص: 57

صمنا معه وان أفطر أفطرنا معه ، ومن هنا اخذ الاستصحاب بقوله (عليه السلام) ذاك إلى امام المسلمين وحملوه على بيان الواقع واستدلوا به على اعتبار حكم الحاكم بالهلال ، مع أن الإمام (عليه السلام) اتقى بقوله ذلك عن اللعين حتى أنه أفطر بعد عرض العباسي عليه الافطار مخافة ضرب عنقه ، وليس ذلك الا من جهة كون التقية في تطبيق هذه الكبرى على المورد لا في أصل الكبرى ( ونظير ) ذلك أيضا ما ورد من استشهاد الإمام (عليه السلام) بحديث الرفع المروى عن النبي صلی اللّه علیه و آله على بطلان الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة بما يملك ( وعلى ذلك ) فلا قصور في الاخذ بما تقتضيه الصحيحة من الظهور في الاستصحاب الموجب للزوم البناء على الأقل غاية الامر من جهة مخالفته للمذهب يصار إلى التقية في تطبيق لا تنقض على المورد.

( لا يقال ) ان احتمال التقية في تطبيق القاعدة على المورد معارض باحتمالها في أصل بيان الكبرى ، ومع الجزم باعمال تقية في البين تسقط أصالة الجهة من الطرفين ومع سقوطها لا يبقى مجال الاستدلال بها بأصل الكبرى أيضا.

( فإنه يقال ) ان تحقق المعارضة بينهما فرع ترتب اثر عمل على أصالة الجهة في طرف التطبيق حتى في فرض صدور الكبرى تقية ، والا فبدونه لا تجري فيه الأصل المزبور ( وحيث ) انه لا اثر عمل يترتب عليها في الفرض المزبور تبقى أصالة الجهة في أصل الكبرى بلا معارض ، فتصح الاستدلال بالرواية حينئذ بالنسبة إلى أصل الكبرى ، ولا يضربه العلم الاجمالي باعمال تقية في البين كما هو ظاهر هذا ( مع امكان ) دعوى تمامية الاستدلال بها على حجية الاستصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد ( بتقريب ان ما يقتضيه الاستصحاب من البناء على الأقل وعدم الاتيان بالركعة المشكوكة انما هو مجرد وجوب الاتيان بركعة أخرى ، واما كونها موصولة فهو خارج عن مقتضى الاستصحاب حتى من جهة قضية اطلاقه ( وانما هو ) لاقتضاء خصوصية في المورد من الحكم الأولى المجعول فيه من لزوم اتصال اجزاء الصلاة وركعاتها بعضها ببعض المنتزع من حيث مانعية التكبير والسلام في أثنائها ( الا ان ) الاجماع والنصوص الواردة في باب الشكوك بالبناء على الأكثر

ص: 58

واتيان ركعة الاحتياط ، يعينان الوظيفة الفعلية بكونها على الكيفية المعهودة عند الإمامية باتيانها مفصولة عن الركعات بتشهد وتسليم ( ومرجع ) ذلك في الحقيقة إلى تخصيص كبرى الحكم الواقعي المجعول في المورد في ظرف الشك المزبور ، لا تخصيص كبرى الاستصحاب أو تقييد اطلاقه في المورد ( لما عرفت ) من عدم اقتضاء الاستصحاب الا صرف الاتيان بذات ركعة أخرى لا بخصوصية كونها موصولة ولو من جهة قضية اطلاقه كي يلزم التخصيص في دليله أو تقييده كما ظاهر ( لا يقال ) ان اليقين السابق بعد أن كان متعلقا بعدم الاتيان بالركعة الرابعة موصولة بالركعات ، يلزمه تعلق الشك أيضا بما تعلق به اليقين السابق ، ولازم تطبيق عدم نقض اليقين بالشك في المورد انما هو الاتيان بالركعة بخصوصية كونها موصولة على نحو تعلق بها اليقين والشك ، لا مطلقا ولو مفصولة ، فلزوم الاتيان بها حينئذ مفصولة يحتاج إلى رفع اليد عن تطبيق لا تنقض على الخصوصية وهو عين تقييد الاستصحاب ( فإنه يقال ) هذا انما يتم في فرض بقاء كبرى لزوم الاتصال المنتزع عن مانعية السلام والتكبير على حالها في حال الشك ، والا فعلى فرض عدم بقاء الكبرى المزبورة على حالها في هذا الحال ، فلا يلزم تقييدا في كبرى الاستصحاب ، إذ لا يكون تطبيقها حينئذ الا على ذات الركعة العارية عن خصوصية كونها في ضمن الاتصال أو الانفصال فتأمل.

( نعم ) لنا اشكال آخر في تطبيق الاستصحاب في الرواية على الركعة حتى على مذهب العامة القائلين بالبناء على الأقل ولزوم الاتيان بالركعة الموصولة ( ينشأ ) من اختلال ركنه الذي هو الشك اللاحق ( فان الذي ) تعلق به اليقين والشك انما هو عنوان الرابعة المرددة بين الشخصين ، ( إذ هو ) قبل الشروع فيما بيده من الركعة المرددة بين الثالثة والرابعة يقطع بعدم وجود الرابعة وبعد الشروع في أحد طرفي المعلوم بالاجمال أعني الركعة المرددة بين الثالثة والرابعة يشك في تحقق الرابعة ( ولكنه ) بهذا العنوان ليس له اثر شرعي حتى يجرى فيه الاستصحاب ، إذ الأثر انما يكون لواقع ما هو الرابعة الذي ينتزع عنه هذا العنوان وهو الشخص الواقعي الدائر امره

ص: 59

بين ما معلوم الوجود وما هو معلوم العدم ، ومثله مما لا شك فيه أصلا ( إذ هو ) على تقدير كونه ما بيده من الركعة يقطع بوجوده ، وعلى تقدير كونه غيره الذي أفاد الإمام (عليه السلام) بالقيام إليه يقطع بعدم وجوده فعلى التقديرين لا شك فيه حتى يجري فيه الاستصحاب ( وبهذه الجهة ) أيضا منعنا عن الاستصحاب في الفرد المردد. بلحاظ انتفاء الشك فيه لدورانه بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ( مع أن ) وجوب التشهد والتسليم على ما يستفاد من الأدلة مترتب على رابعية الركعة بما هي مفاد كان الناقصة لا على وجود الرابعة بمفاد كان التامة وباستصحاب عدم الاتيان بالرابعة أو عدم وجودها بمفاد ليس التامة لا يثبت اتصاف الركعة المأتية بعد ذلك بكونها رابعة ، فكان المقام نظير استصحاب عدم وجود الكر غير المثبت لكرية الموجود ( وبهذه الجهة ) نقول : ان عدم جريان الاستصحاب في ركعات الصلاة انما هو على القواعد ولو لم يكن لنا أدلة خاصة بالبناء على الأكثر في الشكوك الصحيحة ، لا انه لاقتضاء تلك الأدلة ذلك ( والنكتة ) في ذلك ما ذكرناه من الاشكال تارة من جهة انتفاء الشك الذي هو من أركانه ، وأخرى من جهة عدم اثباته لحيث اتصاف الركعة الموجودة بكونها رابعة ليترتب عليه وجوب التشهد والتسليم ( نعم ) يتم ذلك على مذهب العامة من جعلهم الاستصحاب في عداد القياس والاستحسان من الأمارات الظنية المثبتة للوازمه ، والا فبناء على اخذه من الاخبار وجعله من الأصول التعبدية غير الصالحة لاثبات غير اللوازم الشرعية ، فلا مجال لتطبيقه على الركعة المشكوكة ( وبما ذكرنا ) يندفع ما أفيد في المقام من أنه يكفي في جريان الاستصحاب وتطبيقه على الركعة المشكوكة مجرد اثبات عدم الاتيان بالركعة الرابعة ، لان من آثاره حينئذ لزوم الاتيان بها عقلا من دون احتياج إلى اثباته بمقتضى الاستصحاب ( إذ فيه ) انه بعد العلم الاجمالي وتردد الركعة بين الرابعة والخامسة لا يعلم باتصافها بالرابعة ليترتب عليها وجوب التشهد والتسليم ، لاحتمال كون المأتى به أولا هو الرابعة وهذه خامسته ، ومعه لا حكم للعقل بلزوم الاتيان بها ، لان الزامه بذلك انما هو في

ص: 60

ظرف الفراغ عن تطبيق المستصحب وهو الرابعة عليها ، لا مطلقا حتى مع الشك في انطباق المستصحب عليها ، ( وحينئذ ) فبعد عدم تكفل الاستصحاب المزبور لاثبات حيث اتصاف الركعة بالرابعية لا يتمكن من اتمام هذه الصلاة ، نظرا إلى الوقوع في محذور التشهد والتسليم ، ومعه لا يبقى مجال لجريانه لعدم ترتب اثر شرعي عليه ( وبما ذكرنا ) تظهر نكتة الفرق بين الاستصحاب في المقام وبين أدلة البناء على الأكثر ، فان الالتزام بوجوب التشهد والتسليم في الثاني انما هو من جهة تكفل تلك الأدلة بالبناء على الأكثر ، لاثبات اتصاف الركعة الموجودة بكونها ثالثة أو رابعة ، فيترتب عليه وجوب التشهد والتسليم ( بخلاف الاستصحاب ) فإنه بالنسبة إلى مفاد كان الناقصة وهو ثالثية الموجود أو رابعيته لا يكون له حالة سابقة حتى يجرى فيه الاستصحاب ، واما بالنسبة إلى مفاد كان التامة وهو عدم وجود الثالثة أو الرابعة فهو وان تم فيه أركانه على اشكال فيه أيضا كما تقدم ، ولكنه لا يترتب عليه اثر شرعي ، لان الأثر الشرعي من وجوب التشهد والتسليم مترتب على مفاد كان الناقصة ومثله لا يثبت باستصحاب مفاد كان التامة الا على المثبت المرفوض عند المحققين.

( وقصارى ) ما يمكن ان يجاب به عن هذا الاشكال ، الالتزام بحجية المثبت في خصوص المقام بقرينة تطبيق الإمام (عليه السلام) الاستصحاب على المورد فإنه من جهة حفظ التطبيق عن اللغوية لا بد من الالتزام بحجية المثبت ولو باستكشاف تنزيل آخر في الرتبة السابقة عن هذا التطبيق ، فان ما تسالموا عليه من عدم حجية مثبتات الأصول انما هو لأجل قصور دليل التعبد فيها لاثبات غير اللوازم الشرعية المترتبة على المتعبد به ، لا انه من جهة محذور عقلي أو لقيام دليل بالخصوص على عدم الحجية ، فإذا فرض ان في مورد قام الدليل بالخصوص على حجية كما في المقام يؤخذ به لا محالة ، إذ بعد عدم ترتب اثر شرعي على استصحاب عدم وجود الرابعة بنحو مفاد ليس التامة لابد من استكشاف تنزيل آخر في الرتبة السابقة عن التطبيق المزبور ليترتب عليه وجوب التشهد والتسليم المترتبين على رابعية الموجود ( ولكن ) يرد على هذا التوجيه استلزامه سقوط الاستصحاب عن الجريان في مفاد كان التامة ، لأنه بكشف

ص: 61

تنزيل رابعية الركعة الأخرى في المرتبة السابقة عن التطبيق المزبور يرتفع الشك تعبدا عن وجود الرابعة فلا يبقى فيه شك حتى يجرى فيه الاستصحاب ، فيلزم من جريان استصحاب العدم في الركعة الرابعة عدم جريانه فيها وهو محال ( ولا يقاس ) ذلك بسائر المثبتات كثبات اللحية بالقياس إلى الحياة ، فان كشف التنزيل فيها في الرتبة السابقة على التطبيق على الحياة لا يقتضى رفع الشك بالنسبة إلى الحياة ، بل الشك فيها بعد على حاله فيجرى فيها الاستصحاب ( بخلاف ) المقام فان كشف تنزيل رابعته الموجود في المرتبة السابقة على التطبيق يقتضى رفع الشك عن وجود الرابعة تعبدا ( ومعه ) لا يجرى فيه الاستصحاب ( فالأولى ) حمل الرواية على وجه آخر لا ينافي الاستدلال بها على المطلوب وهو تطبيق الاستصحاب في الرواية على الاشتغال بالتكليف بالصلاة والشك في ارتفاعه بالاكتفاء بالركعة المرددة كونها بين الثالثة والرابعة ، فيكون المقصود من قوله (عليه السلام) قام فأضاف إليها أخرى هو التنبيه على حجية الاستصحاب وعدم جواز الاكتفاء بالأقل في مرحلة الفراغ ، للشك في مفرغيته لاحتمال نقيصته وانه لا بد في حصول الجزم بالفراغ وسقوط العهدة من الاتيان بركعة أخرى ، ولكن لما كان في المورد اقتضاء التقية وكان المغروس في ذهن السائل أيضا هو الاتيان بالركعة موصولة لم يتمكن الامام من التعرض لكيفية الاتيان بها تفصيلا حذرا من المخالفين ، ومع ذلك لم يدع السائل أيضا ان يأخذ بما هو المغروس في ذهنه أو ما يقتضيه اطلاق الفتوى من جواز الاتيان بالركعة موصولة ، بل تكفل لبيان حكم المسألة للسائل على نحو الايماء والإشارة بقوله (عليه السلام) : ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ايماء بالأول إلى عدم مفرغية الاكتفاء بما في يده من الركعة لاحتمال النقيصة ، وبالثاني إلى عدم مفرغية الركعة الموصولة لاحتمال الزيادة ، وغرضه من هذا التكرار التشكيك على من حضر في المجلس من المخالفين وتلبيس الامر عليهم كي لا يفهم من كلامه (عليه السلام) ما هو مذهبه ، ولكن السائل لما كان من أهل الدراية فهم من كلامه (عليه السلام) حكم المسألة وقنع بما افاده بنحو الايماء ، فكان الإمام (عليه السلام) جمع بما افاده من البيان بين التقية وغيرها فمن جهة ان السائل ليس له الاكتفاء في مقام الفراغ بما في يده من الركعة

ص: 62

المرددة بين الثالثة والرابعة طبق الاستصحاب على المورد بقوله (عليه السلام) قام فأضاف إليها أخرى ولا ينقض اليقين بالشك ، ومن جهة اقتضاء المورد للتقية وعدم تمكنه من التعرض لكيفية الاتيان بالركعة تفصيلا ، وردع السائل أيضا عن الاخذ بما هو المغروس في ذهنه أو ما يقتضيه اطلاق الفتوى ، كرر عليه بقوله ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ايماءا إلى حكم المسألة للسائل وايقاعا للشبهة على غيره ممن حضر في حكم المسألة من الاتيان بها موصولة أو مفصولة ( وعلى ذلك ) ففي الرواية دلالة على حجية الاستصحاب ولا يرد عليه شيء من المحاذير.

( ومنها ) ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين ( وفي رواية ) أخرى عنه (عليه السلام) من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ، فان اليقين لا يدفع بالشك ( وقد أورد ) الشيخ قدس سره على الاستدلال بهما ، بما حاصله ان الروايتين بقرينة اشتمالهما على لفظ كان الظاهر في اختلاف زمان الوصفين وتعاقبهما ظاهرتان في الانطباق على قاعدة اليقين لا الاستصحاب ، فان المعتبر في الاستصحاب هو اختلاف زمان متعلق الوصفين مع جواز اتحاد زمان الوصفين ، وفي قاعدة اليقين يكون المعتبر اختلاف زمان الوصفين مع وحدة زمان متعلقهما ، كان يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمان ثم يشك يوم السبت في عدالته في ذاك الزمان ، فمع ظهور لفظ كان في تعاقب الوصفين يتعين حمل الروايتين على قاعدة اليقين بلحاظ كشفه عن دخل هذه الجهة في الحكم بالمضي كما هو شأن كل عنوان مشتمل على خصوصية مأخوذ في لسان الدليل ( لوضوح ) ان مثل هذه الجهة انما تناسب القاعدة لا الاستصحاب ( ولكن فيه ) أولا منع دلالة مثله على الزمان ، بل أقصى ما تقتضيه هي الدلالة على مجرد السبق الشامل للزماني والرتبي وغيرهما نظير سبق العلة على معلولها والموضوع على حكمه ، كما تشهد له صحة قولك كان الزمان ، وكانت العلة ولم يكن معها معلول ، وقولك ادخل البلد فمن كان مطيعا فأكرمه ومن كان عاصيا فاضرب عنقه بلا عناية أو تجوز ، مع وضوح عدم كون السبق

ص: 63

المستفاد منها هو السبق الزماني ، بل هو اما سبق ذاتي كما في الأول أو سبق رتبي كما في الأخيرين ( والسبق ) المستفاد في المقام بعينه من هذا القبيل فيكون السبق فيه رتبيا بالقياس إلى الحكم الذي هو وجوب المضي عليه لا سبقا زمانيا ( وعلى فرض ) تسليم الدلالة على خصوص السبق الزماني ، لا معين لحمل الرواية على قاعدة اليقين بعد عدم ابلئها عن الحمل على الاستصحاب أيضا خصوصا مع كون الغالب فيه هو حدوث الشك بعد حدوث اليقين ، والا لاقتضى ذلك الحمل عليها في الصحاح السابقة أيضا ، وهو كما ترى لا يلتزم به القائل المزبور ، بل بمقتضى قوله (عليه السلام) فليمض على يقينه لا بد من حملها على الاستصحاب نظرا إلى ظهوره في بقاء وصف اليقين السابق على فعليته في ظرف الشك الذي هو زمان وجوب المضي عليه ، كما هو الشأن في جميع العناوين الاشتقاقية وغيرها المأخوذة في القضايا الطلبية كقوله أكرم العالم ، واهن الفاسق ، ويكره البول تحت الشجرة المثمرة الظاهرة في لزوم اتحاد ظرف الجري والتطبيق فيها مع ظرف النسبة الحكمية ، ولذلك خصصوا الكراهة في المثال بما إذا كانت الشجرة مثمرة حين إضافة البول إليها ، والتزموا في نحو مثال أكرم العالم بلزوم اتصاف الذات بالوصف العنواني حين إضافة الاكرام إليها ولو على القول بوضع العناوين الاشتقاقية للأعم من المتلبس الفعلي والمنقضي عنه البدء ، ولا يكون ذلك الا من جهة ظهور هذه القضايا في لزوم اتحاد ظرف التطبيق فيها مع ظرف النسبة الحكمية ( وعليه ) نقول : ان من البديهي عدم انطباق هذا المعنى في المقام على غير الاستصحاب ، إذا لا بقاء لوصف اليقين في القاعدة في ظرف الشك الذي هو ظرف المضي على اليقين ، فبذلك لا محيص من حمل الرواية على خصوص الاستصحاب ورفع اليد عن ظهور القيد في الدخل في الحكم بالمضي بحمله على الغالب نظير وربائبكم اللاتي بملاحظة ان الغالب في باب الاستصحاب هو حدوث الشك بعد حدوث اليقين ، أو دعوى ان اعتبار هذا الترتب بين الوصفين عرضي ناشئ من ملاحظة الترتب بين متعلقيهما ( واما توهم ) معارضة هذا الظهور مع ظهور قوله (عليه السلام) من كان على يقين فشك أو اصابه شك في تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين السابق دقة الموجب لتعين انطباقه على خصوص قاعدة اليقين بلحاظ تعلق الشك فيها بعين ما تعلق

ص: 64

به اليقين السابق بحسب الحقيقة والدقة ، بخلاف الاستصحاب ، فان فيه يكون الاتحاد الحاصل بين المتعلقين مسامحيا عرفيا ، لان اليقين فيه بحسب الدقة متعلق بأصل ثبوت الشيء ، والشك متعلقا بحيث بقائه في ثاني زمان وجوده ( فمدفوع ) بمنع ظهور الرواية في الاتحاد الحقيقي بين متعلق الوصفين ، بعد صدق إصابة الشك بالشيء بالشك فيه ولو في بقائه ( وعلى فرض ) تسليم ذلك فلا شبهة في كونه ظهورا بدويا غير صالح للمقاومة مع ظهور قوله (عليه السلام) : فليمض على يقينه في اعتبار فعلية وصف اليقين في ظرف الشك الذي هو ظرف وجوب المضي ( فلا اشكال ) حينئذ في ظهور الرواية في الانطباق على الاستصحاب خصوصا بعد ملاحظة وقوع نحو هذا التعبير المنطبق على الاستصحاب في سائر الموارد.

( ومنها ) مكاتبة علي بن محمد القاساني قال : كتبت إليه وانا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا فكتب (عليه السلام) : اليقين لا يدخله الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية ( وقد جعلها ) الشيخ قدس سره أظهر الروايات في الدلالة على حجية الاستصحاب ( بتقريب ) ان تفريع تحديد وجوب كل من الصوم والافطار على رؤية هلالي رمضان وشوال لا يستقيم الا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك اي مزاحما به وهو عين الاستصحاب ( ولكن فيه ) انه لا مجال لتطبيق وجوب الصوم والافطار في الرواية على الاستصحاب ، لوضوح ان وجوب الصوم وكذا الافطار انما يكون مترتبا على ثبوت كون النهار المشكوك من رمضان أو شوال بنحو مفاد كان الناقصة ، ومن المعلوم انه بهذا المفاد لا يجري فيه الاستصحاب لعدم احراز الحالة السابقة ، فالاستصحاب الجاري في المقام وجوديا كان أو عدميا ممحض بكونه على نحو مفاد كان التامة وليس التامة ، كاصالة بقاء رمضان وأصالة عدم دخول شوال ، وهو بهذا المفاد لم يترتب عليه اثر شرعي ، بل الأثر الشرعي من وجوب صوم رمضان ووجوب افطار أول يوم من شوال مترتب على اثبات كون الزمان المشكوك من رمضان أو من شوال على نحو مفاد كان الناقصة ، لا على مجرد بقاء رمضان في العالم وعدم دخول شوال كك ( وبعد ) ملازمة أحد المفادين للآخر عقلا وعدم تكفل أصالة بقاء شعبان

ص: 65

أو رمضان وأصالة عدم رمضان أو شوال بمفاد كان وليس التامتين لاثبات كون الزمان المشكوك من أيتها يلغو الاستصحابين المزبورين لعدم ترتب اثر شرعي عليهما ، ومعه لا يبقى مجال تطبيق مفاد الرواية على الاستصحاب ( فلا بد ) حينئذ من حمل اليقين في الرواية على اليقين بدخول رمضان ودخول شوال ، فيكون المراد من عدم دخول الشك في اليقين هو عدم ترتب آثار اليقين بدخول رمضان ودخول شوال بالشك بهما ، لا ترتيب آثار اليقين بالشعبان وآثار اليقين برمضان على المشكوك ، وحاصل التحديد بالرؤية فيها هو اعتبار اليقين بدخول رمضان وشوال في وجوب الصوم والافطار وانه لا يجوز الصوم ولا يصح بعنوان رمضان في اليوم الذي يشك انه من شعبان أو من رمضان ، ولا يجوز الافطار في اليوم الذي يشك انه من رمضان أو شوال ( ويؤيد ) ما ذكرناه في مفاد الرواية الأخبار المتواترة المصرحة بان الصوم للرؤية وانه ليس منا من صام قبل الرؤية ( وعلى هذا ) تكون الرواية أجنبية عن باب الاستصحاب.

( ومنها ) رواية عبد اللّه بن سنان الواردة في من يعتريه ثوبه الذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير وفيها هل علي ان اغسله فقال (عليه السلام) : لا لأنك اعترته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه ( حيث ) ان في التعليل دلالة واضحة على أن الوجه في عدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها بعد اعارته إياه ، لا انه من جهة قاعدة الطهارة ، والا لم يكن للتعليل المزبور مجال ، لان الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة ، فتدل الرواية على حجية الاستصحاب في هذا الباب فيتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل.

( ومن الاخبار ) التي استدل بها على حجية الاستصحاب في الجملة قوله (عليه السلام) في موثق بكير إذا استيقنت انك توضأت فإياك ان تحدث وضوءا حتى تستيقن انك أحدثت ، ودلالتها على حجية الاستصحاب ظاهرة ، فان في التحذير عقيب قوله إذا استيقنت دلالة على لزوم الجري على طبق اليقين السابق بالطهارة وعدم الاعتناء بالشك في انتقاضها ما لم يستيقن بالحدث ولا نعنى من الاستصحاب المصطلح الا ذلك ، وموردها وان كان مختصا بباب الطهارة ولكنه بضميمة عدم الفصل بينها وبين غيرها

ص: 66

يتعدی الی سائر الأبواب ( واما التحذير ) فيها مع جواز الاتيان بالوضوء رجاءا من باب حسن الاحتياط ، فلعله لدفع الوسواس المحتمل حصوله بالاعتناء بالشك ، أو لردع السائل عن اعتقاد لزوم الاخذ بقاعدة الاشتغال المحكومة بمثل الاستصحاب.

( ومنها ) قوله (عليه السلام) : في رواية مسعدة بن صدقه كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه « وقوله (عليه السلام) » في موثق عمار كل شيء طاهر أو نظيف حتى تعلم أنه قذر « وقوله (عليه السلام) » : في رواية حماد بن عثمان الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس ( وقد استدل بها ) جماعة من الاعلام على حجية الاستصحاب ( بتقريب ) ظهور هذه الروايات بصدرها في الدلالة على ثبوت الحلية والطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية ، وبالاستمرار المدلول عليه في ذيلها بحتى بقرينية جعل الغاية هو العلم بالحرمة والقذارة الظاهر في الحكم الظاهري على حجية الاستصحاب ، فكان المستفاد من تلك الأخبار حكمان مجعولان ، أحدهما الحكم الواقعي بالحل والطهارة للأشياء بعناوينها الأولية ، وثانيهما الحكم الظاهري باستمرار المحكوم به في القضية من الحيلة والطهارة إلى زمان العلم بالخلاف ، والأول مدلول عليه فيها بالمغيا ، والثاني بما في ذيلها من الغاية المدلول عليها بحتى.

( بل عن المحقق الخراساني قدس سره ) في حاشيته امكان استفادة القواعد الثلاثة منها ، أعني الحلية والطهارة الواقعية والطهارة والحلية الظاهرية التي هي مفاد القاعدة واستصحابهما ( وقد أفاد في تقريب ذلك بما ملخصه ان قوله (عليه السلام) : كل شيء لك حلال أو طاهر مع قطع النظر عن الغاية بعمومه الافرادي المستفاد من لفظ ( كل ) يدل على ثبوت الحلية والطهارة للأشياء بعناوينها الواقعية كالماء والتراب ونحوهما ، وعلى ثبوت الحلية والطهارة الظاهرية لها بمقتضى الاطلاق الأحوالي التي منها حال الشك في طهارة الشيء أو حلية بالشبهة الحكمة أو الموضوعية ، لأن الشك في حكم الشيء مما يصح ان يكون منشأ لانتزاع عنوان عرضي للشيء ، يكون من أحواله كعنوان كونه مشكوك الحلية أو الطهارة ، فتكون الرواية من جهة المغيا دليلا اجتهاديا على طهارة الأشياء وقاعدة الحلية والطهارة فيما اشتبه حليته وطهارته من غير محذور اجتماع اللحاظين في

ص: 67

استعمال واحد ( وبتقريب ) آخر يمكن ان يراد من الموضوع والمحمول في قوله : كل شيء طاهر الجامع بين الموضوعين والحكمين ( بان يراد ) من الموضوع في الصدر نفس ذات الشيء الملحوظ كونها في مرتبين ، تارة في المرتبة السابقة على الحكم عليها بالحلية أو الطهارة الواقعية ، وأخرى في المرتبة المتأخرة عن الشك بحكمها ولو بجعل الشك المزبور جهة تعليلية غير موجبة لتقييد الذات بعنوان مشكوك الحكم في الحكم الظاهري ، لا جهة تقييدية موجبة لذلك ، فتكون الذات بالاعتبار الأول موضوعا للحكم الواقعي وبالاعتبار الثاني موضوعا للحكم الظاهري ( ويراد ) من المحمول وهو قوله طاهر أو حلال طبيعة الطهارة والحلية مهملة والقدر الجامع بين الطهارتين أو الحليتين ( وحينئذ ) فإذا كانت الطهارة الواقعية والظاهرية فردان لطبيعة الطهارة المهملة فلا باس باثباتهما بجامع واحد للذات دفعة بجعل واحد وانشاء فارد وان كانت إحديهما في طول الأخرى ، فتكون الطهارة الثابتة للذات الملحوظة كونها في الرتبة السابقة طهارة واقعية ، والطهارة الثابتة لها في المرتبة المتأخرة طهارة ظاهرية بلا ورود محذور اجتماع اللحاظين في استعمال واحد من ذلك في طرف الموضوع أو المحمول أصلا ( غاية الامر ) انه تحتاج في مقام التطبيق إلى تعدد الدال والمدلول ، ولو يجعل الدال على موضوع الأولى هو ذات الشيء وعلى موضوع الثانية اطلاقه وعمومه الا حوالي ( هذا كله ) بالنسبة إلى مدلول المغيا وهو قوله كل شيء طاهر.

( واما الغاية ) فهي بقرينة جعلها عبارة عن العلم بالقذارة تدل على استمرار الطهارة الثابتة للذات عناية في المرتبة المتأخرة عن ثبوتها إلى زمان العلم بالقذارة ، وهو معنى الاستصحاب ، ففي الحقيقة يكون للمتكلم في نحو هذه القضايا نظران ، نظر إلى اثبات أصل الطهارة في قوله طاهر ، ونظر إلى استمرارها ظاهرا إلى زمان العلم في قوله حتى تعلم مع كون نظره الثاني من تبعات النظر الأول حسب تبعية استمرار الشيء لثبوته بلا كونه في مقام استعمال « حتى » في استقلال مفاده عن سابقه كي تخرج عن الحرفية إلى الاسمية ( هذا غاية ) ما قيل أو يمكن ان يقال في تقريب استفادة القواعد الثلاثة من تلك الروايات ( ولكن فيه ) ما لا يخفى ، فإنه من الممتنع استفادة الحلية

ص: 68

والطهارة الواقعية وقاعدتها ثبوتا من هذه الروايات فضلا عن استفادة المعاني الثلاثة منها ، وذلك لا لمحذور اجتماع اللحاظين في استعمال واحد في قوله كل شيء طاهر أو حلال في طرف الموضوع أو المحمول ( بل لامتناع ) شمول اطلاق المحمول الواحد المأخوذ في طي انشاء واحد لمرتبتي الواقع والظاهر ( فان ) الحكم الواقعي بعدما كان ثابتا لذات الشيء في المرتبة السابقة على الشك بنفسه يستحيل ان يكون له سعة وجود يشمل المرتبة المتأخرة عن الشك بنفسه ، كما أن الحكم الظاهري أيضا باعتبار كونه مجعولا في المرتبة المتأخرة عن الشك بالحكم الواقعي يستحيل شمول اطلاقه للمرتبة السابقة عليه ، من غير فرق بين اخذ الشك فيه جهة تعليلية ، أو جهة تقييدية موجبة لتعنون موضوعه بعنوان مشكوك الحكم ( وبهذا الوجه ) نقول بامتناع اطلاق الاحكام الواقعية بالنسبة إلى مرتبة الشك بنفسها فضلا عن المرتبة المتأخرة عن الشك بها ، كامتناع تقييدها أيضا بهذه المرتبة ، وانه لا بد من وقوفها في المرتبة السابقة المقارنة مع الشك زمانا لا رتبة ، فان ما يتصور لها من الاطلاق بالإضافة إلى الحالات المتأخرة انما يكون ذاتيا على معنى مقارنتها زمانا مع الشك بها ، لا لحاظيا بحيث كان لها سعة وجود تشمل المراتب المتأخرة عنها ( كما أنه ) بذلك نقول انه لا بد من أن يكون البقاء الحقيقي للشيء واستمراره في مرتبه ذاته وعدم تعديه من مرتبة ذاته إلى مرتبة الشك بنفسه ، وانه لو حكم عليه أحيانا بالبقاء والاستمرار في مرتبة الشك به فلا بد وأن يكون بقاء ادعائيا راجعا إلى التعبد به ظاهرا في مقام ترتيب اثره في ظرف الفراغ عن أصل ثبوته ومن هنا لا يمكن ان يكون الاستصحاب مجعولا بعين جعل مستصحبه وفي ضمنه ، بل لابد وأن يكون متعلقا لجعل مستقل في ظرف الفراغ عن وجود مستصحبه واقعا ( وعليه نقول ) : انه من الممتنع ان يكون للمحكوم به في قوله طاهر أو حلال اطلاق يشمل لمرتبي الواقع والظاهر بحيث يتحقق بجعله وانشائه في مرتبة واحدة مجعولان طوليان يكون أحدهما موضوعا للاخر وفي مرتبة سابقة عليه ( بداهة ) ان من لوزام وحدة الجعل ان يكون المجعول على فرض تعدده في مرتبة واحدة ( فإذا كان ) جعل الحكم الظاهري في ظرف الفراغ عن ثبوت الحكم الواقعي وفي المرتبة المتأخرة عن الشك به ، اما بأخذ الشك

ص: 69

المزبور قيدا لموضوعه ، أو بأخذه جهة تعليلية له ، وكان جعل الحكم الواقعي لذات الموضوع في المرتبة السابقة على الشك بنفسه بحيث لا يتعقل تصور الشك فيه قبل تمامية جعله ( يمتنع ) تحقق هذين الحكمين الطوليين بانشاء وجعل واحد في مرتبة واحدة ( ومع امتناعه ) لا مجال لتوهم استفادتهما من المعني من جهة مجرد تعميم الشيء بالنسبة إلى العناوين الثانوية التي منها عنوان كونه مشكوك الحكم ، أو من اطلاقه بالنسبة إلى الحالات وبالإضافة إلى شخص الذات الملازم مع الشك بحكمه ( فإنه ) مضافا إلى منع اطلاق الأول ، واستلزامه لكون الشيء الواحد باعتبار عناوينه المتعددة أشياء متعددة ، وعدم اثمار اطلاق الثاني على وجه يوجب خروج الحكم الثابت للذات الملازم مع الشك بحكمها عن واقعيته ، ( لوضوح ) بقاء الاحكام الواقعية الثابتة لموضوعاتها على واقعيتها في جميع الحالات حتى في حال ملازمتها مع الشك بنفسها ( وان الطهارة ) الثابتة للشيء في جميع الحالات التي منها حال الشك فيها في عين الطهارة الواقعية ، لا انها طهارة ظاهرية ، لان قوام ظاهرية الحكم انما هو بلحاظه في مقام الجعل في المرتبة المتأخرة عن الشك بالحكم الواقعي ، لا انه بصرف ثبوته في حال الشك به ( ان غاية ) ما يجدى البيان المزبور انما هو رفع محذور اجتماع اللحاظين في استعمال واحد ، لا رفع استحالة اطلاق المحمول ثبوتا وامتناع تحقق مجعولين الطوليين بانشاء وجعل واحد على وجه يكون أحدهما موضوعا للاخر ( وحيث ) ان هذه الجهة هي العمدة في المنع عن استفادة الحكمين من مدلول هذه الروايات ( فلا بد ) من حمل القضية على أحد الامرين ، اما الحكم الواقعي ، أو القاعدة ( وعليه ) نقول : ان ظاهر صدر الرويات وان كان يعطى كون المحمول فيها حكما واقعيا ( ولكن الغاية المذكورة في ذيلها بقرينة كونها العلم بالخلاف تهدم هذا الظهور وتوجب حصر المفاد منها بكونه حكما ظاهريا هو مفاد الاستصحاب ولو بالتفكيك بين المغيا والغاية بارجاع الغاية إلى حيث خصوصية المحمول الذي هو عبارة عن استمراره تعبدا ، لا إلى ذاته ( من غير فرق ) بين جعل الغاية قيدا للموضوع أو جعلها قيدا للمحمول أو قيدا للنسبة الحكمية ( وذلك ) اما على الأخير فظاهر ، فان مرجع كونها قيدا للنسبة الحكمية إلى كونها مبينة لايقاع النسبة

ص: 70

الخاصة بين ذات الموضوع والمحمول ، ومثل تلك النسبة لما كانت في ظرف الجهل كانت لا محالة نسبة ظاهرية ، وهي تستبع قهرا كون المحمول أيضا حكما ظاهريا ثابتا لذات الموضوع في الرتبة المتأخرة ، فتختص الرواية بخصوص القاعدة ليس الا ( لان ) مفادها حينئذ هو ان الطهارة ثابتة للشيء بثبوت مستمر في ظرف الجهل بالواقع إلى زمان العلم بالخلاف ، ومثل هذا المفاد لا يكون الا عبارة عن القاعدة ، والا ففي الاستصحاب لابد من أن يكون استمرار الحكم في مرتبة غير مرتبة ثبوته ، ومثله خلاف ما تقتضيه ظهور الرواية في اتحاد مرتبة ثبوت الحكم مع مرتبة استمراره ( واما ) على الثاني وهو فرض كون الغاية قيدا للمحمول كما لعله هو الظاهر فكذلك ( توضيح ) ذلك هو ان المعان الحرفية على ما حققناه في محله بعد ما كانت من سنخ النسب والارتباطات القائمة بالمفاهيم الاسمية المعبر عنها بتقيدات المعان الاسمية نظير الوجودات الرابطية الخارجية لا الوجود الربطي كما زعمه بعض ، فأداة الغاية مثل إلى وحتى انما تدل على تخصص المغيا بخصوصية ينتزع عنها مفهوم الاستمرار وتحدده بما يرتفع عنه الايهام من حيث القصر والطول ، لا انها تدل على مفهوم الاستمرار الذي هو معنى اسمي ، كما هو الشأن في سائر المعان الحرفية حيث كان أداتها موضوعة للدلالة على خصوصيات في غيرها متحدة الوجود معه تكون منشأ لانتزاع مفاهيم اخر كالابتداء والانتهاء ونحوهما ، لا على نفس هذه المفاهيم كي يلزم خروجها عن الحرفية إلى الاسمية ( فالمغيا ) موضوعا كان أو حكما عبارة عن امر وحداني خاص هو مصداق الامتداد والاستمرار ، لا انه مقيد بمفهوم الاستمرار ( وعليه ) نقول : ان من لوازم جعل الغاية قيدا للمحمول في قوله كل شيء طاهر أو حلال ان يكون المحكوم به من الطهارة أو الحلية أمرا وحدانيا حقيقيا خاصا ، غاية الامر على نحو قابل للتحليل بالنظر الثانوي إلى ذات وخصوصية ، لا ان المحكوم به في القضية أمران مستقلان بنسبتين مستقلتين ، أحدهما جعل أصل الطهارة للشيء ، والآخر جعل استمرارها إلى كذا بنحو يكون المحكوم في أحد الحكمين موضوعا للمحكوم به في الحكم الآخر ( بداهة ) وضوح الفرق بين قولنا كل شيء طاهر طاهر حتى تعلم ، وبين قولنا كل شيء طاهر حتى تعلم أو تستمر طهارته إلى كذا.

ص: 71

( والذي ) يستفاد منه تعدد المحكوم به انما هو الثاني لا الأول ( ولازم ) ذلك بعد ظهور القضية في رجوع الغاية إلى ذات المحمول لا إلى حيث استمراره هو انحصار مفادها بالقاعدة محضا لاقتضائها كون المغيا المحكوم به بشراشر وجوده الخاص المحدود إلى زمان العلم بالخلاف مجعولا بجعل واحد متعلق به استقلالا وبقيده وخصوصية ضمنا ، فتكون مفاد الجملة في قوله كل شيء لك حلال أو طاهر حتى تعلم ، ان الشيء تثبت له الحلية والطهارة الظاهرية في كل آن إلى زمان العلم بالحرمة والقذارة ، وهو عين مفاد القاعدة ، غاية الامر ان غاية النسبة الحكمية في القضية غير مذكورة ولا مقصودة أيضا ، لان غايتها هو نسخ هذا الحكم الخاص ( وعليه ) فلا مجال لما عن المحقق الخراساني قده من ابتناء استفادة القاعدة من مدلول هذه الأخبار على ارجاع الغاية إلى الموضوع لا المحمول ( كما لا مجال ) لتوهم استفادة القاعدة والاستصحاب معا من تلك الأخبار ( بداهة ) ان لازم اخذ الاستصحاب منها هو ان يكون النظر في اثبات الطاهر المحمول في القضية مقصورا بحيث خصوصية استمراره التي هي مفاد الغاية بلا نظر إلى جعل أصل الطهارة التي هي معروض هذه الخصوصية ، إذ لابد في هذا النظر من أن يكون أصل الطهارة مفروغ الثبوت من الخارج ( كما أن ) لازم اخذ القاعدة منها ان يكون النظر أي اثبات أصل الطهارة التعبدية الممتدة إلى زمان العلم بلا نظر إلى جعل استمرارها ، لان ذلك من لوزام جعلها في كل ان إلى زمان العلم بالقذارة ، لا انه متعلق جعل مستقل ( ومن المعلوم ) ان في انشاء واحد متعلق بالطهارة الخاصة التي هي المحمول في القضية لا يمكن الجمع بين النظرين المستلزم أحدهما لصرفه عن أصل الطهارة وقصره على اثبات الاستمرار ، والاخر لقصره على اثبات الطهارة الممتدة إلى زمان العلم بالقذارة وصرفه عن الاستمرار ( وذلك ) لمناط استحالة استعمال اللفظ في المعنيين وان لم يكن عينه ( وبهذا الوجه ) أيضا نمنع عن استفادة الحكم الواقعي والاستصحاب معا من مدلول هذه الأخبار ، مضافا إلى ما تقدم من امتناع تحقق الحكم الواقعي الذي هو موضوع استمراره تعبدا في الحكم الآخر بانشاء وجعل واحد ( نعم ) انما يصح ذلك فيما لو كانت القضية المشتملة على

ص: 72

على المغيا والغاية مشتملة على جعلين طوليين ، أحدهما متعلق بذات المغيا ، والآخر بمفاد الغاية الذي هو عبارة عن استمراره تعبدا في ظرف الشك في بقائه ( كما أنه ) بذلك يمكن تصحيح الجمع بين مفاد القاعدة واستصحابه ، بان يراد من الطهارة في المغيا خصوص المجعول في الرتبة المتأخرة عن الشك بالواقع بنحو الاجمال بلا اطلاق فيه ، وبلا احتياج في ظاهريته إلى ارجاع الغاية إليه ، ومن الغاية باستمراره الحكم مستقلا إلى زمان العلم بالقذارة ، بحيث يكون العلم المزبور رافعا لموضوع المستصحب الشخصي وغاية لاستصحابه ، وان كان الشك في بقاء الطهارة المجعولة للطبيعة المشكوكة باقيا بحاله حتى مع العلم بالقذارة الشخصية وكان غاية استصحابها هو العلم بنسخها ( ولكن ) ذلك بحسب الامكان محضا ، والا فلا طريق إلى اثباته ، بل هو مخالف لظاهر القضية من وجوه.

( منها ) ما عرفت من ظهورها في كون الجاعل بانشائه بصدد جعل واحد متعلق بأمر وحداني خاص ، لا بصدد جعلين مستقلين ( ولذا ) قلنا بالفرق بين قوله كل شيء طاهر حتى تعلم ، وبين قوله كل شيء طاهر ، طاهر حتى تعلم ، أو تستمر طهارته حتى تعلم ( واما ) الالتزام بالتقدير في الأول فهو وان كان ممكنا ، ولكنه خلاف الأصل.

( ومنها ) ظهور مثل هذه القيود المأخوذة في طي الانشاء في كونها ملحوظة تبعا للمغيا المحكوم به ومنشأ بعين انشائه ، لا بانشاء مستقل في طول انشاء المغيا. ( ومنها ) ظهور الغاية فيها في الاستمرار الحقيقي لا الادعائي ، ومثله لا يلائم مع إرادة الحكم الواقعي من المغيا والاستصحاب من الغاية ( بداهة ) ان الاستمرار الحقيقي للشيء لابد من أن يكون في مرتبة ثبوت الشيء ، لاستحالة بقاء الحقيقي للشيء في المرتبة المتأخرة عن الشك بنفسه ( فلا محيص ) من رفع اليد عن ظهور الغاية في الاستمرار الحقيقي بحمله على الاستمرار الادعائي ، وهو كما ترى لا وجه له بعد امكان الاخذ بظاهره في الاستمرار الحقيقي ( وحينئذ ) حفظا لظاهر القضية من الجهات المزبورة لابد من حملها على خصوص القاعدة محضا ، مضافا إلى ما عرفت من ظهور قوله كل شيء حلال أو طاهر في كونه مسوقا لاثبات الحلية والطهارة الظاهريتين للشيء

ص: 73

إلى أن يعلم الخلاف الذي لازمه الاستمرار ، لا لاثبات مفاد الغاية مستقلا الذي هو عبارة عن استمرارها تعبدا كما هو ظاهر ( وعليه ) فالروايات تكون أجنبية عن الاستصحاب المعروف ، فلا مجال للاستدلال بها في المقام على حجية الاستصحاب ( هذا كله ) على تقدير سوق هذه الروايات في مقام انشاء الحلية والطهارة للأشياء.

( واما ) على تقدير سوقها في مقام الاخبار عن ثبوت الحلية والطهارة لها ولو بانشاءات متعددة كما لعله هو الظاهر من رواية الحلية بقرينية الأمثلة المذكورة في ذيلها ، فلا بأس باستفادة القواعد الثلاثة منها ولو من جهة اطلاق الحلية المحكوم بها للأعم من الواقعية والظاهرية بإرادة الحلية المجعولة لذات الشيء بجعل مستقل في المرتبة السابقة ، والحلية الظاهرية المجعولة لها أيضا يجعل آخر مستقل في طول الجعل الأول ، مع إرادة مطلق الاستمرار الظاهري من ارجاع القيد إلى المحمول الشامل للاستمرار الحقيقي بالنسبة إلى الحكم الظاهري والادعائي منه بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، غير أنه يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول وعليه فلا يرد محذور في البين من نحو اجتماع للحاظين في مفاد المحمول أو الغاية أصلا ، غاية الامر حصول العلم بالجعلين من مفاد هذه الأخبار يكون في مرتبة واحدة ( ومثله ) مما لا ضير فيه ، وانما الضير كله في انشائها كذلك ثبوتا وهو غير لازم كما عرفت.

( وكيف كان ) فهذه جملة ما وقفنا عليه من الاخبار العامة التي استدل بها في المقام على حجية الاستصحاب ( ولقد عرفت ) وضوح الدلالة في بعضها مع صحة سنده ( نعم يبقى الكلام ) في مقدار دلالة هذه الأخبار وعمومها للأقسام المتصورة المذكورة سابقا للاستصحاب ، باعتبار اختلاف المستصحب من حيث كونه وجوديا أو عدميا موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا ، جزئيا أو كليا ، تكليفيا أو وضعيا ( وباعتبار ) الشك المأخوذ فيه من حيث كون منشأ الشك في بقاء المستصحب من جهة الشك في المقتضي أو في وجود الرافع ، أو في رافعية الموجود ( وباعتبار ) الدليل الدال على ثبوت المستصحب من كونه لبيا من عقل أو اجماع ، أو لفظيا إلى غير ذلك من الأمور التي لأجلها كثرت الأقوال في المسألة ( فنقول ) انه لولا قوله (عليه السلام) في المروى عن الحضال من كان على

ص: 74

يقين فشك فليمض على يقينه ( وقوله ع ) في التعليل الوارد في بعض النصوص المتقدمة بقوله ، فإنه لا ينقض اليقين بالشك ابدا ، لكان للخدشة في عموم دلالة النصوص لمطلق المتيقن المشكوك فيه مجال ( ولكن ) بعد قوة ظهور الاخبار المزبورة في العموم لا مجال لشيء من التفاصيل المذكورة في المقام ، فيجعل حينئذ سائر الأخبار الاخر مؤيدا لتلك النصوص ، كما أنه يجعل التعليل الوارد في بعضها معاضدا لدلالة البقية على العموم لجميع اقسام الاستصحاب ( وعليه ) فلا يهمنا التعرض لما أفادوه من التفاصيل في المسألة ( نعم ) انما المهم هو التعرض للتفصيل الذي أبدعه المحقق الخوانساري وارتضاه العلامة الأنصاري قده سرهما بين الشك في الرافع والمقتضي ( والتفصيل ) الآخر المحكي عن الفاضل التوني قده بين الأحكام التكليفية والوضعية ( فنقول : وبه نستعين ( اما التفصيل الأول ) فقد أفيد في تقريب تخصيص الحجية بالشك في الرافع دون الشك في المقتضي بوجوه

( منها ) ان حقيقة النقض المستعمل في نقض الحبل ومنه قوله سبحانه « كالتي نقضت غزلها » هو رفع الهيئة الاتصالية فيختص متعلقه بما كان له اجزاء مبرمة تأليفا كخيوط الغزل ، ولما امتنع إرادة ذلك في المقام يدور الامر بين حمله على رفع اليد عن الامر الثابت لوجود مقتضيه ، وحمله على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم مقتضي البقاء فيه في الزمان الثاني ( ولا ريب ) في أن الأول أقرب إلى المعنى الحقيقي لأنه من جهة اقتضاء البقاء فيه يشبه خيوط الغزل واجزاء الحبل من حيث الاتصال والاستمرار ، فالنقض في الحقيقة يكون متعلقا بنفس المتيقن وكان المصحح لاستعارته في المقام هو حيث استمراره وبقائه وان اضافته إلى اليقين لأجل كونه مرآة للمتيقن لا انه بنفسه متعلق للنقص.

( ومنها ) ان العناية المصححة لإضافة النقض إلى اليقين انما هي باعتبار استتباع اليقين للجري العملي على ما تقتضيه المتيقن ، لا باعتبار صفة اليقين ( لوضوح ) ان اليقين من الأمور التكوينية الخارجية وقد انتقض بنفس الشك ، ولا بلحاظ آثار نفس اليقين بما هو هو فإنه لم يترتب حكم شرعي على وصف اليقين بما هو ، وعلى فرض ترتبه عليه

ص: 75

فليس ذلك مقصودا من اخبار الباب ، إذ هو أجنبي عن الاستصحاب ، فإضافة النقض إليه انما هو بلحاظ كونه مأخوذا طريقا إلى المتيقن بحيث كان لحوق النقض به من ناحية المتيقن لا انه ملحوظ بنفسه وبحيال ذاته ، وبذلك يختص بما إذا كان للمتيقن اقتضاء البقاء والاستمرار بحيث لو خلى وطبعه لكان الجري العملي على وفق اليقين ويصدق عليه نقض اليقين بالشك وعدم نقضه به ( بخلاف ) ما إذا لم يكن للمتيقن اقتضاء البقاء والدوام ، فان الجري العملي حينئذ ينتقض بنفسه فلا يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن ، لان المتيقن حينئذ غير مقتضى بنفسه للجري العملي على طبقه حتى يكون رفع اليد عنه نقضا لليقين به فالشك في اقتضاء المتيقن للبقاء حينئذ ملازم للشك في صدق النقض عليه فلا يندرج في عموم اخبار الباب.

( ومنها ) ان النقض وان كان متعلقا باليقين لا بالمتيقن ولكن صدق النقض في مثله لما كان منوطا بوحدة متعلق اليقين والشك لأنه بدونه يكون الشك مجامعا مع اليقين لا ناقضا له فلا يكون النقض واردا على اليقين ، فتوطئة لاعتبار الوحدة المزبورة وتصحيحا لصدق النقض يحتاج إلى اعتبار وجود مقتضى البقاء في المتيقن لكونه أقرب إلى اعتبار وحدة المتعلقين وعدم ملاحظة التقطيع الحاصل فيه في فرض عدم وجود المقتضى فيه.

( ومنها ) ان صدق نقض اليقين بالشك يتوقف على أن يكون الزمان اللاحق الذي يشك فيه في بقاء المتيقن متعلقا لليقين من حين حدوثه ولو مسامحة بحيث يقتضى اليقين بوجوده حين حدوثه ترتب الأثر عليه على الاطلاق حتى في الزمان اللاحق ( وهذا ) انما يكون إذا كان المتيقن من شأنه البقاء والاستمرار لأجل وجود مقتضيه ( إذ حينئذ ) يكون اليقين به من الأول باعتبار المزبور كأنه يقين بأمر مستمر باستمرار مقتضيه ويكون المتيقن في الزمان اللاحق كأنه متيقن الوجود من حين حدوث اليقين بوجوده وقد انتقض اليقين به بطرو الشك في البقاء ، فيصدق بذلك النقض عليه ، كما أنه يصح النهى عنه بحسب البناء والعمل ، بخلاف فرض عدم وجود مقتضى البقاء فيه ، فإنه عليه لا يكون المتيقن متعلقا لليقين بالوجود الا محدودا بزمان خاص وحد مخصوص ، ولا

ص: 76

كان لليقين بوجوده اقتضاء ترتب الأثر عليه الا كذلك ، فلا يكون رفع اليد عنه في الزمان اللاحق نقضا لليقين به حتى يصح النهى عنه ( والفرق ) بين هذين التقريبين بعد اشتراكهما في كون المصحح لاطلاق النقض في المقام هو تعلقه بنفس اليقين الذي هو من قبيل الامر المبرم ، انه على التقريب ( الأول ) يكون دخل وجود مقتضى البقاء فيه في قلة المسامحة في اعتبار وحدة المتعلقين ( وعلى الثاني ) يكون دخله في المسامحة في اعتبار تعلق اليقين بأمر مستمر باستمرار مقتضيه ، لا في اعتبار وحدة المتعلقين ، بل الوحدة فيهما حينئذ تكون محفوظة دقة لا مسامحة ( هذا ) غاية ما قيل أو يمكن ان يقال في وجه التفصيل بين مورد الشك في الرافع والشك في المقتضى ( ولكن ) في الجميع مالا يخفى.

( اما التقريب ) الأول ففيه منع كون العناية المصححة لاطلاق النقض في المقام هي جهة اتصال المتيقن الحاصل من استمراره في عمود الزمان كي يصير صور وجود مقتضى البقاء فيه منشأ لا قربية اعتبار النقض من غيرها فيتعين ارادته عند عدم امكان إرادة المعنى الحقيقي للنقض ( كيف ) ومع الغض عن اقتضائه مساوقة مفهوم النقض المستعمل في أمثال المقام مع مفهوم القطع الطارئ على الهيئات الاتصالية ، يلزمه صحة استعارته في الأمور المبنية على الثبوت والدوام ولو لم تكن ذات اجزاء مبرمة فيلزم صحة اطلاقه في مثل نقضت الحجر من مكانه وصحة صدق نقض القيام والقعود ونحو ذلك من الأمور التي يقطع ببقائه ما لم يرفعه رافع ، مع أن ذلك كما ترى ( بل المصحح ) لاطلاقه في المقام هو ما في نفس اليقين من الابرام والاستحكام الذي لا يزول بالتشكيك نحو الابرام الحاصل في عقود الحبال ، فان مثل هذا العنوان منتزع من مرتبة الجزم الراسخ الذي لا يزول بالتشكيك ، وبهذه الجهة اختص اليقين من بين مراتب الجزم بخصوصية موجبة لصحة إضافة النقض إليه فيشبه النقض المستعمل في أمثال الغزل والحبل ، ولذا لا يضاف النقض إلى غيره من مثل عنوان القطع والعلم والمعرفة فضلا عن الظن والشك ( وما يرى من اطلاقه أحيانا في مورد الشك كما في قوله (عليه السلام) ولكن ينقض الشك باليقين فإنما هو من باب الازدواج والمشاكلة ، لامن

ص: 77

باب استحقاق الشك لصحة إضافة النقض إليه ( كما أن ) نكتة التعبير في أمثال المقام بعنوان اليقين مع كون موضوع الحكم بعدم الانتقاض مطلق الجزم بالشيء انما هو لأجل مناسبة هذا العنوان المبرم مع الحكم بعدم الانتقاض ، فكأنه بعد المسامحة في وحدة متعلق الوصفين ادعى بان مطلق العلم في هذا الباب يقين لا يزول بالتشكيك ولا ينقضه الشك ، لا ان ذلك من جهة غلبة استعمال اليقين في مورد ترتب آثار الواقع دون العلم والمعرفة كما توهم بخيال ان اطلاق العلم والمعرفة غالبا يكون في مقابل الظن والشك ( بل إن تأملت ) ترى ان ما ذكرناه هو المصحح لاستعارة النقض في غير المقام أيضا ، كمورد البيعة والعهد واليمين ، وكذا في مثل الصلاة والوضوء كما في الاخبار ، حيث كان المصحح لاستعماله فيها اعتبار نحو استحكام فيها يشبه الاستحكام الحاصل في عقود الحبال وخيوط الاغزال ، لا ان ذلك من جهة اعتبار هيئة إتصالية امتدادية في متعلقاتها.

( وعلى ذلك ) نقول : انه بعد أن كان المصحح لاستعارة النقض في المقام كونه متعلقا بنفس اليقين الذي هو من قبيل الامر المبرم ، لا حيث اتصال المتيقن ، فلا يفرق فيه بين ان يكون متعلقا بما فيه اقتضاء الثبوت والبقاء وبين ان يكون متعلقا بما ليس فيه اقتضاء البقاء ، إذ لا قصور حينئذ في شمول اطلاق اخبار الباب لكل من مورد اليقين بوجود مقتضى البقاء في المتيقن ومورد الشك فيه ( ومعه ) لا مجال لاعتبار استعداد المتيقن للبقاء تصحيحا للنقض وتوطئة للتفصيل المزبور ، لان حيث استعداده للبقاء حينئذ أجنبي عن الدخل في الصحيح المزبور ( كما لا قصور ) أيضا في شمول اطلاقها لمطلق الآثار العملية المترتبة على اليقين أعم من كونها من آثار نفس اليقين كاليقين المأخوذ تمام الموضوع أو جزئه ، أو من آثار الواقع المترتبة عليه لأجل اليقين ( فان المراد ) من مادة النقض المتعلق باليقين بعد أن كان هو النقض الادعائي بحسب البناء والعمل ، لا النقض الحقيقي ، يكون مرجع النهي المستفاد من الهيئة إلى الامر بالبناء على بقاء اليقين بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال الراجع إلى وجوب المعاملة مع اليقين المنقوض معاملة عدمه من حيث الجري العملي ، فكل عمل يجب في حال اليقين

ص: 78

بشئ يجب في حال الشك في بقائه سواء كان العمل من آثار نفس اليقين كاليقين الموضوعي أو من آثار المتيقن المترتب عليه بسبب اليقين كاليقين الطريقي المحض ( وبذلك ) نلتزم بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي على الوجه الطريقي لا الصفتي ما لم يؤخذ في موضوعه نفى الشك ، كما نلتزم بحكومته على سائر الأصول المأخوذ فيها المعرفة غاية للحكم بنحو تمام الموضوعي كما نبهنا عليه غير مرة.

( وبما ذكرنا ) يظهر فساد ما أفيد من التقريب الثاني أيضا ، حيث إنه مبني كما اعترف به على كون اليقين في القضية ملحوظا في توجيه النقض إليه طريقا لتوجيه التنزيل إلى المتيقن بلحاظ خصوص الآثار المترتبة عليه ، لا ملحوظا مستقلا على وجه العنوانية ( ومثله ) بمعزل عن التحقيق ، إذ هو خلاف ما يقتضيه ظهور القضية في كون اليقين المأخوذ فيها ملحوظا في إضافة النقض إليه مستقلا ( كما هو ) الأصل المعول عليه في جميع عناوين الألفاظ المأخوذة في طي القضايا من حيث ظهور كل عنوان في الحكاية عن إرادة معناه مستقلا ( مضافا ) إلى استلزامه عدم قيامه مقام العلم الموضوعي ولو على الوجه الطريقي بنحو تمام الموضوع أو جزئه ، وعدم حكومته على سائر الأصول المأخوذ فيها المعرفة غاية تمام الموضوع للحكم بالحلية والطهارة ( بداهة ) ان قيامه مقام العلم المأخوذ تمام الموضوع أو جزئه انما هو من لوازم ثبوت العلم التنزيلي بالواقع ، وهو متفرع على كون نظر التنزيل في القضية إلى نفس اليقين مستقلا ، لا مرآة إلى المتيقن ولا طريقا إلى الواقع كي يختص بخصوص آثار الواقع المترتب عليه لأجل اليقين ولا يعم آثار نفس اليقين ( فان ) هذا المقدار وان كان مجديا في قيامه مقام القطع الطريقي المحض ، الا انه لا يجدي في قيامه مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو جزء الموضوع أو تمامه ولو على الوجه الطريقي لا الصفتي ، ولا يصحح حكومته على مثل دليل الحلية المأخوذ فيه المعرفة غاية بنحو تمام الموضوع بلا دخل للحرمة الواقعية ابدا ( ومن هنا ) التجاء المحقق الخراساني قدس سره إلى جعل تقديمه على مثل هذه الأدلة بمناط الورود لا الحكومة ، بدعوى ان الغاية فيها هي المعرفة بمطلق الحرمة والنجاسة ولو ظاهرية ، وان كان ما افاده أيضا لا يخلو من اشكال بلحاظ ظهور هذه

ص: 79

القضايا في اتحاد متعلق الشك واليقين الموجب لكون الغاية فيها خصوص المعرفة بالحكم الواقعي الذي تعلق به الشك لا مطلق المعرفة بحكم الشيء ولو ظاهريا ( فان ) التزامه بتقديمه على تلك الأدلة بمناط الورود لا الحكومة لا يكون الا لما ذكرنا من انتفاء الحكومة على هذا المسلك ( ومن هنا ) نقول : ان كل من التزم بقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي ولو على الوجه الطريقي لا الصفتي ، وحكومته على سائر الأصول المغيا بالعلم والمعرفة كالشيخ قدس سره لا محيص له من التزام بان اليقين في لا تنقض ملحوظ في تعلق النقض به على وجه الاستقلال بنحو يكون محيط التزيل هو نفس اليقين بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال المخصوصة المتمشية من المكلف ، ولازمه المصير إلى عمومه لمطلق آثار العلم حتى المترتبة عليه من جهة احكام نفسه ، كما أن لازمه المصير إلى عموم الحجية حتى في مورد عدم احراز استعداد المتيقن للبقاء ( لما عرفت ) من أن حيث استعداد المتيقن للبقاء حينئذ غير مرتبط بصدق النقض حتى يلزم مراعاته تصحيحا للنقض ( نعم ) انما يثمر ذلك في فرض ارجاع التنزيل في القضية إلى المتيقن ، اما بأخذ اليقين في القضية مرآة للمتيقن في توجيه النقض إليه ، أو طريقا لايصال التنزيل إليه بحيث يكون لحوق النقض باليقين من ناحية المتيقن ( ولكن ذلك ) مضافا إلى كونه خلاف ظاهر القضية ، موجب لانهدام أساس حكومة الاستصحاب على سائر الأصول المغيا بالمعرفة ، وعدم قيامه مقام العلم الموضوعي ( ومن العجب ) ان بعض الأعاظم قدس سره مع التزامه في المقام برجوع النهي عن نقض اليقين في القضية إلى وجوب ترتيب خصوص آثار المتيقن المرتبة عليه لأجل اليقين والتفصيل لأجله بين الشك في الرافع والمقتضى ، التزم بحكومة الاستصحاب على الأصول المغيا بالعلم والمعرفة وقيامه مقام العلم الموضوعي ( ويا ليت ) شعري انه مع التزامه بذلك كيف يصح حكومة الاستصحاب على سائر الأصول المغيا بالمعرفة وقيامه مقام العلم الموضوعي على الوجه الطريقي ، ( إذا ) الالتزام بكون اليقين بعنوانه ملحوظا استقلالا في مقام التنزيل لا يناسب القول باعتبار احراز استعداد المتيقن للبقاء توطئة لصدق النقض وتصحيحا له ، كما أن تسليم كون المتيقن هو المنزل حقيقة

ص: 80

بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار وان عناية لحوق النقض باليقين كان من ناحية المتيقن لا بما هو هو لا يناسب القول بحكومة الاستصحاب على الأصول المغيا بالعلم كما هو ظاهر.

( فالتحقيق ) حينئذ ما ذكرناه من أن المصحح لاطلاق النقض في المقام هو تعلقه بنفس اليقين الذي هو من قبيل الامر المبرم وان اليقين في القضية مع كونه مأخوذا على وجه الطريقية لا الصفتية ملحوظ في تعلق النقض به استقلالا بما هو هو بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال ، ولا مرآة لمتعلقه ليكون محط التنزيل حقيقة هو المتيقن ، ولا طريقا لايصال التنزيل إلى متعلقة كسائر العناوين الطرقية ، ليكون مرجع النهي عن نقضه إلى الامر بترتيب خصوص آثار الواقع المترتبة عليه لأجل اليقين ولا يشمل آثار نفسه ( فان لازمه ) هو المصير إلى عموم الحجية لمورد الشك في الرافع والمقتضى ، كما أن لازمه هو الاخذ باطلاق التنزيل لمطلق ما يترتب على اليقين من الأعمال حتى بالنسبة إلى ما يترتب عليه من جهة احكام نفس اليقين لرجوع النهي عن نقضه حينئذ إلى الامر بالبناء على بقاء اليقين ووجوب العمل حال الشك في البقاء عمل حال اليقين به كما لو كان متيقنا بالبقاء وجدانا ، كان العمل مستندا إلى اثر شرعي لنفس اليقين ، أو كان مستندا إلى اثر شرعي للمتيقن ( واما توهم ) عدم امكان شمول التنزيل في هذه الأخبار لكل من آثار نفس اليقين وآثار المتيقن المرتبة عليه لأجل اليقين لاستلزامه محذور اجتماع اللحاظين المتنافيين في اليقين استقلالا ومرآة ( فمدفوع ) بأنه بعد أن كان للأثر المترتب على الواقع أيضا إضافة إلى اليقين لكونه سببا لترتب أعماله عليه ، يكون معدودا من آثاره وبهذه الجهة يكون اليقين ملحوظا في توجيه التنزيل إليه بلحاظ واحد وهو اللحاظ الاستقلالي ( وان شئت ) قلت إن هذا الاشكال انما يرد لو كان التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية المتمشية من الشارع ، لا بلحاظ الآثار العملية المتمشية من المكلف ، والا فلا مورد لهذا الاشكال ، لان ترتب هذه أيضا انما يكون على اليقين بالأحكام الشرعية لا على نفس الواقع ، ومعه لا يكون اليقين في القضية الا ملحوظا مستقلا بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال ، ولازم اطلاق

ص: 81

التنزيل حينئذ هو العموم لمطلق ما يترتب عليه من الأعمال سواء كان العمل من جهة احكام نفس اليقين كاليقين الموضوعي أو من جهة احكام المتيقن كاليقين الطريقي كما في مورد الرواية ( وبذلك ) انقدح انه لا وجه لما في الكفاية من الاشكال في المقام بقوله لا محيص عنه ، كما لا وجه أيضا لما افاده في الجواب عنه بقوله : انما يلزم ذلك لو كان اليقين بنفسه ملحوظا بنحو المرآتية وبالنظر الآلي كما هو الظاهر في مثل قضية لا تنقض حيث تكون ظاهرا عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل الخ ( إذ فيه ) أولا منع الاستظهار المزبور ، بل ظاهر القضية خلافه لظهورها في أن اليقين فيها ملحوظ في مقام الاستعمال وتوجيه النقض إليه بما هو هو استقلالا لا مرآة إلى متعلقه ، كما هو الأصل المعمول عليه في جميع عناوين الألفاظ الواقعة في طي القضايا الطلبية وغيرها في ظهور كل عنوان في الحكاية عن إرادة مفهومه استقلالا ( واما ما افاده ) من الاشكال على هذا التقدير فقد عرفت انه غير وارد وانه لا يكاد ينافي ذلك مع مورد الرواية ( وثانيا ) لا وجه لجعل اليقين في القضية بمفهومه مرآة إلى المتعلق ، لان لازم المرآتية على ما اعترف به في المعان الحرفية ان يكون اليقين بمفهومه مغفولا عنه في مقام الاستعمال ، مع أن اليقين في هذه القضية ليس كذلك قطعا ، بل لازم ذلك هو ان يكون لفظ اليقين الذي هو من الأسماء مستعملا حسب مختاره في خلاف وضعه ، فإنه على مختاره من وحدة المعنى الاسمي والحرفي ذاتا موضوع لان يلاحظ مفهومه حين الاستعمال مستقلا بما هو هو وفي نفسه ، بخلاف الحرف ، فإنه موضوع لان يلاحظ مفهومه حين الاستعمال مرآة لمتعلقه ( ودعوى ) سراية المرآتية من مصاديقه الخارجية إلى مفهومه بلحاظ ان الطبيعي عين مصاديقه فيتبع مصاديقه في الآلية والاستقلالية ( مدفوعة ) بمنع سراية المرآتية من المصداق الذي هو اليقين الخارجي إلى المفهوم منه ، بداهة كمال الالتفات حين الاستعمال من مثل هذا اللفظ إلى مفهوم نفسه ولذا قد يجعل كونه تمام الموضوع أو جزئه ( كيف ) ولازم سراية المرآتية من المصداق الخارجي إلى المفهوم منه هو عدم الالتفات إلى حيث استحكامه أيضا ، ومعه كيف يمكن جعل هذه الجهة مصححا لإضافة النقض إليه ، فلابد حينئذ من

ص: 82

الالتزام بان المصحح لاطلاق النقض هو حيث اتصال المتيقن الناشئ من اقتضائه للبقاء والدوام ، وهو خلاف مختاره من كون المصحح له هو ما في نفس اليقين من الابرام ولا استحكام ان يقال : ان شأن المرآت وان كان هو الغفلة عن ذاتها ولكن بعد سراية صفاتها إلى مرئيها كما في تلون السراج بلون الزجاج لا بأس بدعوى اكتساب المتيقن من اليقين حيثية الابرام والاستحكام ، فإنه لأجل هذا الاكتساب يصير المتيقن كأنه مستحكما بنحو استحكام اليقين ويكتفى بهذا المقدار في عناية اطلاق النقض ولو لم يكن فيه اقتضاء البقاء والاستمرار.

( ولعمري ) ان المنشأ كله في الالتزام بمرآتية اليقين وطريقيته في توجيه النقض إليه هو تخيل ان التنزيل في القضية ناظر إلى الأحكام الشرعية لا إلى مطلق الآثار العملية ، ان مرجع النهي المستفاد من الهيئة إلى جعل مماثل المتقين تعبدا إذا كان حكما ولحكمه إذا كان موضوعا ، حيث إنه بعد أن يرى أن اليقين الطريقي المحض ليس له اثر شرعي مجعول وانه لا يمكن ان يراد من النهي عن نقض اليقين بالشك اليقين الموضوعي وآثاره لمنافاته مع المورد بلحاظ ان الحكم المترتب في مورد الرواية على حرمة النقض هي صحة الصلاة ونحوها وهي من احكام الطهارة الواقعية المشكوكة لا من احكام اليقين بها ، التجأ إلى جعل اليقين في القضية مرآة إلى متعلقه أو طريقا لتوجيه التنزيل إليه بلحاظ الأحكام الشرعية المترتبة عليه كي لا يشمل آثار نفس اليقين حذرا من لزوم محذور اجتماع اللحاظين في اليقين استقلالا ومرآة ( والا ) فلو دقق النظر وأبقى اليقين في القضية على ظاهره في كونه ملحوظا مستقلا بلحاظ جميع ما يترتب عليه من الأعمال المتمشية من المكلف ، فلا محذور في الاخذ باطلاقه حتى بالنسبة إلى الأعمال المرتبة على اليقين من جهة احكام نفسه ، إذ مرجع النهى عن نقضه حينئذ إلى الامر بالبناء على بقاء اليقين ووجوب ترتيب اعمال اليقين بالبقاء كما لو كان حاصلا له بالوجدان ، كان العمل مستندا إلى اثر شرعي لنفس اليقين كاليقين الموضوعي ، أو كان مستندا إلى اثر شرعي للمتيقن كما في مورد الرواية.

( ثم انه ) يترتب على هذين المسلكين نتائج مهمه ( منها ) حكومة

ص: 83

الاستصحاب على مسلك المختار على الأصول المغياة بالمعرفة ، وقيامه مقام اليقين المأخوذ في الموضوع على الوجه الطريقي بنحو تمام الموضوع أو جزئه ما لم يؤخذ فيه نفى الشك ( بخلاف المسلك الاخر ) فإنه عليه لا مجال لقيامه مقام اليقين الموضوعي ، ولا لتقديمه على مثل تلك الأصول بمناط الحكومة ، بل لابد وأن يكون بمناط آخر غير الحكومة من الورود أو التخصيص ( ومنها ) انه على المختار لا قصور في شمول الاخبار للموارد التي يكون الشك فيها في بقاء المستصحب ملازما مع الشك في القدرة على امتثال حكمه كالحياة التي هي موضوع وجوب الاكرام والاطعام ونحو ذلك ، فإنه على المختار لا قصور في جريان الاستصحاب فيها فيجب في نحو المثال ايجاد مقدماته إلى أن ينكشف الحال ، بخلاف المسلك الاخر ، فإنه عليه يشكل جريان الاستصحاب في القرض المزبور ، لان جعل الحكم الظاهري مع الشك في القدرة على امتثاله غير معقول ( ومنها ) غير ذلك مما يأتي الإشارة إليه في تنبيهات المسألة ( وكيف كان ) فهذا كله في الجواب عن التقريبين الأولين.

( واما التقريب الثالث والرابع ) فيرد عليها انه لا اعتبار بمثل هذه الاعتبارات بعد اكتفاء العرف في وحدة متعلق الوصفين وصدق النقض في المقام بصرف وحدتهما ذاتا والتغافل عن التقطيع الزماني الحاصل فيه في تعلق الوصفين ، فإنه بذلك يرى كون الشك ناقضا لليقين فيصدق نقض اليقين بالشك ، بلا احتياج إلى اعمال عناية في اليقين في تصحيح إضافة النقض إليه ، خصوصا مع بعده عن أذهان العرف ، واقتضائه للالتزام بشمول اخبار الباب لقاعدة المقتضي والمانع بلحاظ ان اليقين بوجود مقتضى الشيء بالعناية عين اليقين بالشيء الذي شك في بقائه ، مع انحفاظ.

وحدة المتعلقين فيه دقة أيضا ( فإنه ) لا يندفع هذه الشبهة الا بما ذكرنا من الارتكاز العرفي في مثل القضية على تجريد متعلق الشك واليقين عن التقطيع الزماني الحاصل فيه في تعلق الوصفين ، وتقديم المسامحة في وحدة المتعلقين على العناية في اليقين في صدق النقص واستناده إلى اليقين.

( وبهذه ) الجهة منعنا عن جعل اليقين بالوضوء في صغرى القياس في الرواية

ص: 84

قرينة على تعدد متعلق الوصفين ، لتكون الكبرى دليلا على قاعدة المقتضى والمانع ، ويكون المراد منها عدم نقض اليقين بالمقتضى بالشك بالمانع من نحو النوم وأمثاله ( حيث ) قلنا ان ظهور القضية عرفا في وحدة متعلق الوصفين ، وفي كون نقض اليقين بالشك من جهة المعاندة بين نفس الوصفين لا من جهة المعاندة بين متعلقيهما ، بمثابة لا يكون قابلا للانكار ، فلابد من جعل اليقين بالوضوء في صغرى القياس كناية عن اليقين بأثره وهو الطهارة القابلة لتعلق الشك ببقائها كي بعد التجريد عن التقطيع الزماني يتحد متعلق الوصفين ، فيصدق على اليقين به انه يقين حقيقي بشيء قد شك في بقائه ، لا يقين عنائي ، هذا ( مضافا ) إلى استلزام القول بالتفصيل المزبور لسد باب الاستصحاب في الأحكام التكليفية رأسا في الشبهات الحكمية ، بل الموضوعية أيضا الا في موارد نادرة ، كمورد الشك في النسخ ، أو المبتلى بالمزاحم الأهم ، أو حصول ما يرتفع به فعلية التكليف ، كالشك في لزوم العسر والحرج أو الضرر ونحو ذلك من العناوين الثانوية الموجبة لارتفاع فعلية التكليف ( فإنه ) بعد تبعية التكاليف على مذهب العدلية للمصالح والملاكات الكائنة في متعلقاتها ، لا يكاد مورد يشك فيه في بقاء الحكم الشرعي الا ويشك في ثبوت الملاك الذي اقتضى حدوثه ( وتوضيح ذلك ) هو ان مقتضى الشيء في الأمور التكوينية كما يكون ، تارة مؤثرا في صرف حدوث الشيء لا في بقائه ، نظير البناء والبناء ، وأخرى مؤثرا في بقائه أيضا بحيث يدور الأثر في بقائه مدار بقاء علته نظير الفئ للشيء ( كذلك ) يتصور ذلك في الأمور التشريعية ( فان ) ما يدعو إلى جعلها وتشريعها من المصالح والملاكات النفس الامرية ، تارة على نحو يقتضى صرف تشريع الحكم واحداث جعله بلا دخل له في بقائه بل كان المجعول في بقائه مستندا إلى استعداد ذاته ، وأخرى على نحو يكون مقتضيا لبقائه أيضا ، بحيث يفتقر المجعول في بقائه إلى بقاء ما يقتضى حدوثه من الملاكات والمصالح النفس الامرية ( وبعد ) ذلك نقول : ان الأحكام الوضعية انما تكون من قبيل الأول في أن المقتضى لجعلها من أسبابها مؤثرا في احداثها فقط ، وان بقائها كان مستندا إلى استعداد ذاتها ، ولا ترتفع الا

ص: 85

بطرو رافع لها كالملكية والزوجية ونحوهما من الوضعيات ، فلو شك في بقائها أحيانا كان الشك فيها من جهة الشك فيما يزيلها وهو الرافع لا من جهة الشك في المقتضى ( واما الاحكام ) التكليفية فهي طرا من قبيل الثاني في أن المقتضى لاحداثها من المصالح والاغراض الكائنة في متعلقاتها هو المبقي لها أيضا ( بداهة ) ان الإرادة الحقيقية وكذا الكراهة التي هي روح الوجوب والحرمة انما تتبعان المصالح والاغراض الكائنة في متعلقاتهما ( فمهما ) كان الشيء فيه المصلحة يتعلق به الإرادة الحقيقية من المولى ، فيريد حصوله ويبعث نحوه ( ومهما ) لم تكن فيه المصلحة أو كانت فيه ولكن انتفت عنه بجهة من الجهات تنتفي عنه الإرادة بمباديها فلا يريد حصوله وتحققه ولا يبعث نحوه ( فإذا ) شك حينئذ في بقاء الحكم الشرعي بجهة من الجهات يكون الشك فيه لا محالة راجعا إلى الشك في وجود مقتضى البقاء فيه أعني الملاك والمصلحة لاستحالة استعداد التكليف للبقاء بدون بقاء المصلحة في متعلقه ، فيلزم من القول بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضى سد باب الاستصحاب في الأحكام التكليفية الا في موارد نادرة كمورد الشك في السنخ بناء على كونه رفعا لا دفعا ، وموارد الشك في فعلية التكليف من جهة الشك في طرو ما يمنع عن فعليته من وجود مزاحم أو طرو عجز عن امتثاله ونحوه ، وهو كما ترى ، فان حصر مورد تلك الأخبار الكثيرة الدالة بالسنة مختلفة وتأكيدات بليغة على عدم نقض اليقين بالشك في التكليفيات بالموارد النادرة من البعد بمكان لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ( خصوصا ) مع عدم الحاجة إلى الاستصحاب عند التأمل في أكثر الموارد المزبورة ، بلحاظ ان موارد الشك في وجود المزاحم مما استقرت عليه السيرة العرفية وبناء العقلاء على لزوم الجري على طبق المقتضى وعدم الاعتناء باحتمال وجود المزاحم الأقوى إلى أن ينكشف الحال ، نظير بنائهم على حجية العام ووجوب العمل به عند عدم قيام حجة أقوى على خلافه ، ولذا لا يعتنون باحتمال وجود خاص أو معارض في البين على الخلاف ، كما أن موارد الشك في التكليف من جهة الشك في قيد من القيود زمانا أو زمانيا مما يرجع إلى الشك في القدرة أيضا كذلك ، لاستقلال العقل عند

ص: 86

احراز ملاك التكليف والشك في القدرة بلزوم الاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال عدم القدرة على الامتثال ( فالتحقيق ) حينئذ هو حجية الاستصحاب مطلقا سواء في الشك في المقتضى أو الرافع أو رافعية الموجود ، وسواء فيه بين كون المستصحب مغيا بغاية شك في تحققها من جهة الشبهة الحكمية أو المفهومية أو الموضوعية ، وبين غيره كل ذلك لعموم حرمة نقض اليقين بالشك الشامل لجميع هذه الأقسام : وانما أطلنا الكلام في المقام حرصا لدفع بعض الشبهات عن الأذهان الناشئ من مصير مثل الشيخ قدس سره إلى التفصيل المزبور واللّه العالم بحقائق الأمور ( هذا كله ) في التفصيل الأول.

( واما التفصيل الاخر ) وهو المنسوب إلى الفاضل التوني قده بين الأحكام التكليفية والوضعية بحجية الاستصحاب في الأول دون الثاني ( فمنشئه ) هو تخيل ان الأحكام الوضعية أمور عقلية انتزاعية لا تكون بنفسها اثرا مجعولا ولا موضوعا لاثر كذلك حتى يجري فيها الاستصحاب ( ولكنه تخيل فاسد ) فان قصر حجية الاستصحاب بما إذا كان المستصحب كذلك دعوى بلا بينة ولا برهان ( فان ما لابد منه ) في باب الاستصحاب هو ان يكون الأثر المصحح لجريانه مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسيط منشأ انتزاعه ، إذ لا نعني من شرعية الأثر ومجعوليته في نحو المقام الا هذا المقدار ( وبعد ) ان كانت الأحكام الوضعية طرا مما ينتهي أمرها إلى الشارع وتنالها يد الجعل والرفع التشريعي ولو بتوسيط مناشئها ، فلا محالة يجري فيها الاستصحاب لعموم أدلته القاضي بعدم اختصاصه بما هو اثر شرعي بنفسه بلا واسطة ( وعليه ) فلا وقع لهذا التفصيل ، ولا يحتاج في دفعه بأزيد مما ذكرناه

وحيث انتهى الكلام إلى ذلك

فالحري هو عطف عنان القلم إلى البحث عن حقيقة الأحكام الوضعية وبيان مجعوليتها أو انتزاعيتها وتفصيل أقسامها بقدر ما يسعه المجال ( فنقول ) : وعليه الاتكال انه قد اختلف كلماتهم في الأحكام الوضعية ( تارة ) في عددها ومقدارها ( وأخرى )

ص: 87

في مجعوليتها وانتزاعيتها ( وذلك ) بعد وفاقهم على مجعولية الأحكام التكليفية ، كما ينبئ عنه تخصيصهم النزاع في المجعولية بالأحكام الوضعية ( ولعل ) نظرهم في تسلم الجعل في باب التكليف إلى مرحلة البعث والالزام والايجاب المنتزع من مرحلة انشاء الآمر على وفق ارادته ، بلحاظ ما يرى من احتياج مثل هذه العناوين في تحققها إلى انشاء الحاكم بحيث لولا انشائه لما كان لاعتبارها مجال ولو مع تحقق الإرادة الحقيقية من الآمر فعلا ، لأنه حينئذ وان صدق انه مريد بالفعل ويحكم العقل أيضا بوجوب الامتثال مع العلم بإرادة المولى ، ولكن لا يصدق عليه انه ملزم ولا موجب ولا باعث ( كما ) لعله إلى ذلك نظر من جعل حقيقة الطلب غير الإرادة ، فكان الغرض من الطلب هو هذا الامر الاعتباري المنتزع من مرحلة الانشاء ، لا انه معنى آخر قائم بالنفس غير الإرادة على وجه يحكى عنه الانشاء كحكايته عن الإرادة حتى يتوجه عليه انه لا يتصور معنى آخر قائم بالنفس غير الإرادة يسمى بالطلب ، وباستلزامه للالتزام بالكلام النفسي ( ولكن ) دقيق النظر يقتضى خلافه وانه لا يرتبط باب التكليف بالأمور الجعلية الا بنحو من الادعاء والعناية كما سنشير إليه ( فان ) الحقايق الجعلية عبارة عن اعتبارات متقومة بالانشاء الناشئ عن قصد التوصل به إلى حقايقها على نحو يكون القصد والانشاء واسطة في ثبوتها ومن قبيل العلة التامة لتحققها بحيث لولا القصد والانشاء لما كان لها تحقق في وعاء الاعتبار المناسب لها كما هو الشأن في جميع الأمور القصدية كالتعظيم والتوهين والملكية ونحوها من العناوين التي يكون الجعل المتعلق بها مصحح اعتبارهما في موطنها ( وبذلك تمتاز ) عن الأمور الاعتبارية المحضة التي تتبع صرف لحاظ المعتبر وتنقطع بانقطاعه كأنياب الأغوال ، منها الأمور الادعائية في موارد التنزيلات كالحياة ونحوها ، فإنها ليست مما يتعلق به الجعل بالمعنى المتقدم ولا كان لها واقعية ولا تقرر في وعاء الاعتبار وان اطلاق الجعلية عليها انما هو بمعنى الادعاء ( كما انها ) تمتاز بذلك عن الأمور الانتزاعية ، إذ هي تابعة لمنشأ انتزاعها قوة وفعلية ولا تقوم لها بالجعل والانشاء ( نعم ) قد يكون الجعل محقق منشأ انتزاعها فيما إذا كان منشأ الانتزاع من الاعتباريات الجعلية كمفهوم الملكية

ص: 88

بالنسبة إلى حقيقتها الحاصلة بالجعل والانشاء.

( وبعد ما عرفت ) ذلك نقول : ان من المعلوم عدم تصور الجعلية بالمعنى المزبور في الأحكام التكليفية في شيء من مراتبها ( واما بالنسبة ) إلى مرحلة المصلحة والعلم بها فظاهر ( واما ) بالنسبة إلى لب الإرادة التي هي روح التكليف ، فلأنها من الكيفيات النفسانية التابعة للعلم بالمصلحة في الشيء بلا مزاحم لمفسدة أخرى فيه أو في لازمه فلا ترتبط بالانشائيات ( وهكذا ) الامر بالإضافة إلى الانشاء المبرز للإرادة ، فإنه أيضا امر واقعي وكان من مقولة الفعل الخارج عن الاعتباريات الجعلية ، فلا يبقى حينئذ الامر حلة الايجاب والبعث واللزوم ونحوهما من العناوين المنزعة من ابراز الإرادة بالانشاء القولي أو الفعلي وهذه أيضا غير مرتبطة بالجعليات المتقومة بالانشاء والقصد ( لأنها ) اعتبارات انتزاعية من مرحلة ابراز الإرادة الخارجية ، حيث ينتزع العقل كل واحدة منها من الانشاء المظهر للإرادة بعنايات خاصة ( ولذا ) يكتفى في انتزاع تلك الأمور ، وكذا في حكم العقل بلزوم الاتباع بصرف انشاء الآمر بداعي الاعلام بإرادته ولو لم يقصد به مفهوم الطلب ولا خطر بباله عنوان البعث والايجاب ، ( وعليه ) فلا أصل لما اشتهر وتداول في الألسنة من جعلية الأحكام التكليفية ( نعم ) لا بأس بدعوى الجعل فيها بمعنى التكوين والايجاد ولو بلحاظ ايجاد المنشأ القهري لا القصدي للاعتبارات المزبورة ، فإنها بهذه الجهة تكون تابعة لما بيد الشارع وضعه ورفعه وهو الطلب والامر الذي هو عين انشائه الاختياري بالقول أو الفعل ، فيكون الغرض من جعليتها حينئذ مجرد احتياجها في مقام انتزاع مفاهيمها إلى الانشاء المبرز للإرادة ، لا الجعلية بالمعنى المتقوم بالقصد والانشاء من القول أو الفعل الجاري في الأحكام الوضعية كما هو ظاهر ( هذا كله ) في الأحكام التكليفية.

( واما الأحكام الوضعية ) فقد عرفت اختلافهم فيها ، تارة في تعدادها وأخرى في جعليتها وانتزاعيتها من التكليف بعد الفراغ عن كونها بحقايقها من الأمور الاعتبارية وخارجات المحمول ، لا المحمولات بالضمية ، وعدم انتزاعها من الجهة التي ينتزع عنها مفاهيم التكاليف ، والا يلزم مرادفتها مع مفهوم التكليف من الوجوب

ص: 89

والحرمة ( ولكن ) الجهة الأولى لا يهمنا التكلم فيها لعدم ترتب ثمرة مهمة عملية أو علمية عليها ، مع وضوح ان ملاك حكميتها انما هو بانتهائها إلى جعل الشارع تأسيسا أو امضاء وارادته في مقام التشريع بلا واسطة أو معها ، حيث إنه بذلك ينضبط وضعية الحكم ويميز عن غيره لانحصار مصداقه حينئذ بالاعتباريات المجعولة أو المنتزعة بحقايقها عن التكليف ( وانما المهم ) هو التكلم فيها من الجهة الثانية في أن حقايقها مجعولة بالجعل المتعلق بها أصالة أو تبعا ، أو انها منتزعة من التكليف محضا ( وتنقيح المقال فيها ) يستدعى افراد كل ما عد كونه من الوضعيات بالبحث ليتضح ما هو المجعول منها استقلالا أو تبعا ، وما هو المنتزع من التكليف محضا.

( فنقول ) ان ما عدا كونه من الوضعيات أمور ( منها ) الجزئية والشرطية والمانعية والسببية ( وقد يتوهم ) كونها بأجمعها أمورا انتزاعية صرفة من التكليف لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي لا استقلالا ولا تبعا ( ولكنه ) توهم فاسد ( بل الحري ) الحقيق هو التفصيل بين المذكورات فنقول : ( اما الجزئية ) للواجب فهي كما أفادوه انتزاعية صرفه من التكليف المتعلق بعدة أمور متكثرة خارجية ( بداهة ) ان اعتبار عنوان الجزئية للشيء في المركبات الاعتبارية كعنوان الكلية انما ينتزع من نحو ارتباط بين الأمور المتكثرة الحاصل من طرو وحدة اعتبارية عليها من قبل وحدة التكليف أو اللحاظ أو الغرض ونحوها ، حيث إنه بطرو إحدى الوحدات عليها يحصل نحو ارتباط بين تلك الأمور ، فينتزع به عنوان الجزئية لكل واحد منها وعنوان الكلية للمجموع ويختلف ذلك باختلاف ما يضاف إليه الجزئية من الملحوظ أو الغرض أو الواجب والمأمور به ، والا فمع قطع النظر عن طرو وحدة ما عليها لا كلية ولا جزئية بل لا تكون الا متكثرات خارجية ( وعليه ) فمنشأ اعتبار الجزئية للواجب يتمحض بالوحدة الطارية على المتكثرات من قبل تعلق تكليف واحد بها وانبساطه عليها دون غيرها من الوحدات الاخر لحاظية أو غيرها ، وبدونه لا مجال لاعتبار الكلية ولا الجزئية بالإضافة إلى الواجب ، وان كان هناك وحدات اخر لحاظية أو غيرها ، لان هذه انما تجدي في اعتبار الجزئية بالنسبة إلى الملحوظ وغيره لا بالنسبة إلى الواجب

ص: 90

والمأمور به كما ) هو ظاهر ( هذا كله ) بالنسبة إلى عنوان الجزئية للواجب ولقد عرفت كونها انتزاعية محضة عن التكليف لا مجعولة بالجعل الاستقلالي ، بل ولا التبعي أيضا الا بضرب من المسامحة ولو باعتبار إناطتها لسعة دائرة التكليف وانبساطه بنحو يشمل ذات الجزء الكذائي فيقال بهذه العناية انها مجعولة قهرا تبعا لجعل التكليف وبسطه على الذوات المعروضة له.

( واما الشرطية ) والمانعية ( فيقع الكلام ) فيهما تارة في شرطية الشيء ومانعيته للواجب ، وأخرى للوجوب والتكليف ( اما الأول ) فلا شبهة في عدم كونها من الأحكام الوضعية المجعولة ولا المنتزعة من التكليف ( اما عدم ) مجعوليتها بالجعل المستقل فظاهر ( واما ) عدم انتزاعيتها من التكليف ، فلأنها أمور واقعية منتزعة من الإضافة والربط بين الشيء وذات الواجب في المرتبة السابقة على وجوبه ، بحيث كان الوجوب قائما بالربط المزبور ، كقيامه بذات العمل ( لوضوح ) ان شرطية الشيء للواجب كعنوان مقدميته انما تنتزع من الجهة التي تكون علة لسراية الوجوب الغيري إلى الذات ، المتصفة بهذا الوصف ، وهي لا تكون الا عبارة عن طرفية الشيء للإضافة والقيد الذي هو معروض الوجوب ( فان ) كون الشيء قيدا للواجب ومقدمه له ليس الا كونه طرفا لشخص الإضافة والتقيد المأخوذ في موضوع الوجوب ، ولأجل هذه الطرفية تكون الإضافة المعبر عنها بالتقيد قائمة به ، فيصير مثله مقدمة للتقيد الذي هو معروض الوجوب ، فيسري إليه الوجوب الغيري ( والا ) فمع قطع النظر عن طرفيته للتقيد الذي هو جزء موضوع الوجوب لاوجه لمقدميته للواجب ولا لسراية الوجوب الغيري إليه ( لان ) ذات الشرط بالإضافة إلى ذات الواجب ربما يكون في عرض واحد بلا تقدم رتبي لأحدهما على الآخر ( وحينئذ ) فإذا كان عنوان شرطية الشيء للواجب كعنوان مقدميته منتزعا من جهة دخله وطرفيته للتقيد الذي هو جزء موضوع الوجوب ، ( نقول ) : ان من البديهي أجنبية مثل هذه الطرفية والإضافة المزبورة عن مرحلة التشريعيات الجعلية والانتزاعيات من التكليف ، إذ هي بذاتها من الأمور الواقعية القائمة بين الشيئين والمحفوظة بذاتها قبل التكليف

ص: 91

( والتشريع ) انما هو يدخل مثلها في موضوع التكليف لا بايجاد حقيقتها ، فيستحيل تحققها من قبل التكليف المتأخر رتبة عنها ( نعم ) ما هو جاء من قبل التكليف انما هو اضافتها إلى الواجب بوصف وجوبه ( حيث ) انه بتشريع دخلها في موضوع الحكم وتعلق الوجوب بالذات المرتبط على نحو خروج القيد ودخول التقيد يصير القيدية المحفوظة بذاتها مضافة إلى الواجب ، نظير إضافة سائر الأمور إليه من نحو مكان الواجب وزمان الواجب ( ففي الحقيقة ) التكليف انما كان مقوم إضافة القيدية إلى الواجب ، لا انه مقوم ذات المضاف وهي القيدية والشرطية ( وهكذا الكلام ) في المانعية حيث إنها كالشرطية منتزعة من تقيد الشيء بعدم امر كذا ولا دخل للامر والتكليف الا في اضافتها إلى الواجب كما هو ظاهر.

( وبما ذكرنا ) اتضح الفرق بين الجزئية وبين الشرطية والمانعية ( فان ) الجزئية بحقيقتها منتزعة من الوحدة الاعتبارية الطارية على الأمور المتعددة من قبل تعلق تكليف واحد بها ، فالتكليف بالنسبة إليها محقق حقيقة المضاف وهي الجزئية واضافتها إلى الواجب بحيث لولاه لا يكون منشأ لاعتبار أصل الجزئية للواجب ، بل وحدة أخرى لحاظية أو غيرها ، بخلاف الشرطية والمانعية ( فان ) حقيقة الشرطية والمانعية انما نشأت من طرفية الشيء للإضافة المحفوظة بذاتها قبل التكليف وبعده والتكليف انما كان منشأ لمجرد إضافة الشرط إلى الواجب كمنشئيته لإضافة سائر الأمور إليه كالمكان والزمان ونحوهما ( وعليه ) فلا مجال لجعل مثل الشرطية والمانعية في عداد الجزئية التي من الانتزاعيات الصرفة هي بذاتها انتزاعية صرفة من التكليف ، الا بالالتزام بانتزاع الشرطية والمانعية من تلك الإضافة الجائية من قبل التكليف ، لا من واقع الإضافة المأخوذة في الموضوع وطرفية الشيء لها ، ومثله كما ترى لا يمكن الالتزام به ( إذ لازمه ) عدم صحة انتزاع قيدية شيء لشيء لولا وجود حكم في البين ، مع أن البداهة قاضية بفساده ، لوضوح ان الشيء قد يكون قيدا للشيء وطرفا لإضافته. ولو لم يكن في العالم حكم كالرقبة المؤمنة وزيد العالم ( بل ولازمه ) ادخال سائر الأمور المضافة إلى الواجب في الأحكام الوضعية أيضا كزمان الواجب ومكانه ونحوهما مما كان تأخره عن

ص: 92

الواجب بصرف اضافته إلى الواجب لا بنفس ذاته ، بلحاظ ان اضافتها إلى الواجب انما هي كإضافة القيد والشرط إليه ، ومثله لا يظن التزامه من ذي مسكة ( فيكشف ) ذلك عن خروج مثل الشرطية والمانعية للواجب عن كونه من الأحكام الوضعية ، فان العبرة في وضعية الحكم انما هو بكون الشيء من الاعتبارات المجعولة بجعل من الجاعل وارادته في مقام التشريع ، أو بكونه من الاعتباريات المنتزعة المتأخرة بذاتها من التكليف ، لا بمجرد اضافتها إليه ( هذا كله ) في الشرطية والمانعية للواجب.

( واما الشرطية ، والسببية ) والمانعية للحكم ، فلا شبهة في أنها من الأمور الاعتبارية ، وانما الكلام في منشأ اعتبارها في أنه هل هو الجعل المتعلق بها بحيث كانت من الاعتبارات المجعولة أصالة أو تبعا ، أو انه هو التكليف المرتب على موضوعاتها ، أو لا هذا ولا ذلك بل هي خصوصية تكوينية في ذات السبب تقتضي الرشح وإفاضة الوجود ، فيه وجوه وأقوال.

( والتحقيق ) ان يقال : ان السببية للشيء انما ينتزع من إناطة الشيء بالشيء وترتبه عليه ( فان ) كان الشيء المنوط من الأمور الخارجية كالاحراق بالنسبة إلى النار فالسببية تكون حقيقة ، لكونها حينئذ عبارة عن مؤثرية الموجود الخارجي في الشيء لخصوصية ذاتية فيه تكوينية اقتضت الرشح وإفاضة وجود المسبب ، لا انها انتزاعية من التكليف ، ولا جعلية ( بداهة ) عدم قابلية هذا المعنى من السببية للجعل التكويني فضلا عن الجعل التشريعي ( كيف ) وان الجعل التشريعي لا يوجب الا احداث امر اعتباري لا يكون وعائه الا الذهن كسائر الأمور الجعلية ، ومثله يستحيل ان يغير الوجود الخارجي عما عليه من الخصوصية الذاتية التي بها قوام مؤثريته ( وان كان ) المنوط من الاعتبارات الجعلية كالملكية والوجوب بناء على جعليته كانت الإناطة والسببية أيضا تبعا لاعتبارية المنوط اعتبارية ومجعولة بتبع جعله ، لا انها واقعية ، ولا منتزعة من التكليف ( حيث ) انه بجعل الملكية أو الوجوب منوطا بأمر خاص في نحو قوله : من حاز ملك ، وقوله إذا تحقق الدلوك تجب الصولة تتحقق الإناطة والملازمة بين الحيازة والملكية ، وكذا بين الدلوك والوجوب ، وبدون هذا الجعل

ص: 93

لا ينتزع الملازمة المزبورة بينهما.

( وحيث ) ان محط البحث في المقام في موضوع السببية هي الأمور المأخوذة في تلو أداة الشرط في القضايا الشرعية المشروطة في نحو قوله : من حاز ملك لا المعنى الأول بمعنى المؤثرية والمتأثرية الخارجية ، فلا محالة تكون السببية مجعولة بعين جعل الملكية والوجوب معلقا على الحيازة والدلوك لا بجعل آخر مغاير ( ومعه ) لا مجال لدعوى انتزاعيتها من التكليف بل ولا التكليف عنها ، كما لا مجال لدعوى كونها واقعية بمقتضى الخصوصية الذاتية التكوينية ( اما الأول ) فظاهر إذ هما حينئذ اعتباران منتزعان من جعل خاص في مرتبة واحدة ، لا ان أحدهما منشأ لاعتبار الآخر ، من غير فرق بين ان يكون الخطاب بلسان جعل المعلق عليه والوجوب المنوط أو بلسان جعل الإناطة والقضية التعليقية ( فان ) مجرد لحاظ الإناطة معنى حرفيا تارة ، واسميا أخرى لا يوجب فرقا من هذه الجهة الا في مجرد التعبير ( واما الثاني ) فكذلك ، كيف وانه لو تم ذلك فإنما هو فيما له الدخل في أصل الإرادة وتشريع الحكم من المصالح والملاكات بوجودها اللحاظي ، لا بالنسبة إلى ما أنيط به المجعول الشرعي في القضايا الشرعية في نحو قوله من حاز ملك كما هو محط البحث ( بداهة ) امتناع كون السببية فيه حقيقية بمعنى المؤثرية ، والا يلزم عدم جعلية حقيقة الجزاء ، لان لازم جعلية الجزاء بحقيقته هو عدم تحققه بدون جعله ، فمع فرض جعليته وكونه فعلا اختياريا للجاعل كيف يمكن دخل مثل الدلوك والحيازة في تحقق الملكية والوجوب بمقتضي الخصوصية الذاتية ( فلا محيص ) حينئذ من نفي السببية الحقيقة عن مثله والالتزام بكونها فيه مجعولة بعين جعل الملكية أو الوجوب معلقا على الحيازة والدلوك ، لا بجعل آخر مغاير لجعله ( نعم ) كما يمكن ان يكون مورد الجعل بدوا هو الوجوب وتكون الإناطة والملازمة ملحوظة في مقام الجعل تبعا للوجوب ، كذلك يمكن ان يكون مورد الجعل بدوا نفس السببية والملازمة بلحاظها معنا اسميا على نحو يكون النظر إليها في مقام الجعل استقلاليا والى الوجوب تبعيا ، وبهذين الاعتبارين تكون السببية قابلة للجعل التبعي والاستقلالي ، ويفرق بين

ص: 94

كون القضية بلسان جعل الوجوب المنوط بالدلوك ، وبين كونها بلسان جعل الملازمة بين الدلوك والوجوب.

( والى ما ذكرنا ) نظر المحقق الخراساني قدس سره في مصيره إلى نفي كون السببية مجعولة وانها من الأمور الواقعية والخصوصيات التكوينية ( حيث ) ان التأمل في كلامه يقضى بان تمام همه انكار جعلية السببية بمعنى المؤثرية ، نظرا إلى بنائه على أن السببية الحقيقية عبارة عن خصوص الإناطة المؤثرية الناشئة من خصوصية ذاتية في الشيء تقتضي التأثير والتأثر ، لا مطلق الإناطة والترتب بين الشيئين ولو بنحو ترتب الامر الاعتباري على منشئه ( ففي الحقيقة ) مرجع انكاره إلى نفي السببية الحقيقية عما رتب عليه الحكم الوضعي أو التكليفي في الخطابات الشرعية كالدلوك والعقد والاستطاعة وان السببية المنتزعة عنها من إناطة الحكم الوضعي أو التكليفي بها في الخطابات ادعائي لا حقيقي ببيان ان مثل الدلوك لو كان شرطا وسببا حقيقيا يستحيل الجعل ، لأنه اما واجد لملاك الشرطية الواقعية من الخصوصية الذاتية أو فاقد له وعلى اي تقدير لا معنى لجعل السببية له ، لا ان المقصود هو انكار الجعلية في السببية المنتزعة من إناطة الوجوب به في حيز الخطاب ( ولذلك ) أتم مدعاه ، بقوله والا لزم الخ ، وبقوله : ومنه انقدح عدم صحة انتزاع السببية للدلوك من ايجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها كذلك نعم لا بأس باتصافه بها عناية واطلاق السبب عليها مجازا الخ ، ( وعليه ) فلا يبقى المجال لما عن بعض الأعاظم قدس سره من الاشكال عليه بأنه خلط بين علل التشريع وموضوعات الاحكام ( كيف ).

وهذا المعنى مما اعترف به هو قده قبل ذلك وبين بان السببية بمعنى المؤثرية لا تكون مجعولة ولا منتزعة من التكليف المترتب على موضوعاتها لأنها من الأمور الواقعية والخصوصيات التكوينية التي تقتضيها ذات الشيء وان السببية المنتزعة من مجرد إناطة الوجوب بشيء في الخطاب ادعائي لا حقيقي ، ومع هذا الاعتراف أين يبقى المجال لهذا الرد والاشكال بحيث يجعل له عنوان مخصوص ( نعم ) لو كان محط البحث في كلام المحقق الخراساني قدس سره هي المصالح والملاكات بوجوداتها العلمية

ص: 95

للإرادة وجعل الوجوب ، لصح نسبة الخلط إليه بين سببية الشيء للوجوب الواقع في خير الخطاب وبين شرطيته لأصل الجعل وتشريع الاحكام ( ولكنه ) ليس كذلك ، بل محط البحث في كلامه انما هو في سببية مثل الدلوك للوجوب الواقع في حيز الخطاب غير أنه أنكر فيه السببية الحقيقية بمعنى المؤثرية وجعلها ادعائية كما بيناه ( هذا بناء ) على انتزاع السببية عن الإناطة والترتب بين الشيئين ( واما ) بناء على انتزاعها عما تقوم به الإناطة ، لا من نفس الإناطة ففيها التفصيل المتقدم من كونها في المجعولية وعدمها تابع مجعولية المسبب وعدمه ، فإذا كان المسبب من الأمور المجعولة فلا محالة تكون السببية أيضا مجعولة ، فان كون العقد سببا للملكية والدلوك سببا لوجوب الصلاة لا يكون الا بجعل من الشارع والا فلا اقتضاء لذات العقد للملكية ولا للدلوك للوجوب أصلا ( هذا كله ) في الجزئية والشرطية والمانعية والسببية وقد عرفت اختلافها في المجعولية والانتزاعية وعدم كونها على نمط واحد ، فتكون الجزئية انتزاعية محضة من التكليف ، بخلاف الشرطية والمانعية ، فإنهما بالنسبة إلى الواجب تكون واقعية لا مجعولة ولا منتزعة من امر مجعول ، وبالنسبة إلى نفس الوجوب والتكليف تكون مجعولة بعين جعل الوجوب لا بجعل آخر مغاير لجعله ( غاية الامر ) ان جهة الإناطة والسببية ، تارة تكون ملحوظة في مقام جعل الوجوب تبعا للوجوب فتكون مجعولة بالتبع ، وأخرى تكون ملحوظة في مقام الجعل معنى اسميا فتكون مجعولة بالاستقلال كما شرحناه ( ولعله ) إلى مثل هذه الجهة نظر من يقول : بان للشارع في نحو المقام جعلين ، جعل متعلق بسببية العقد والدلوك للملكية والوجوب ، وجعل متعلق بالملكية والوجوب عقيب العقد والدلوك ، فيكون المقصود من أحد الجعلين هو الجعل التبعي بلحاظ استتباع الجعل الاستقلالي في كل منهما للجعل التبعي للآخر ، لا ان المقصود هو استقلال كل من السبب والمسبب بالجعل المستقل كي ترمى بالغرابة ( كما أنه ) إلى ذلك نظر القائل بان المجعول الشرعي تأسيسا أو امضاء امر واحد وهو سببية العقد والدلوك للملكية والوجوب ، فيكون المقصود من جعلية السببية هو الجعل الاستقلالي المستتبع للجعل التبعي للمسبب ، لا ان المقصود نفى الجعلية عن المسبب

ص: 96

رأسا حتى تبعا ، فان ذلك مما لا يكاد توهمه من أحد.

( ومنها ) الصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، والرخصة والعزيمة ( اما الصحة والفساد ) فالصحة على ما شرحناه في مبحث الصحيح والأعم عبارة عن تمامية الشيء بلحاظ الجهة المرغوبة منه ويقابلها الفساد تقابل العدم والملكة ( ففساد ) الشيء عبارة عن نقصه وعدم تماميته بلحاظ الأثر المرغوب منه ( نعم ) حيث إن الجهة المرغوبة من الشيء تختلف باختلاف الآثار والاغراض يختلف الشيء الواحد صحة وفسادا باختلاف الآثار والاغراض ، فيكون الشيء الواحد صحيحا بلحاظ اثر وغرض وفاسدا بلحاظ اثر وغرض آخر ، ( مثلا ) المركب من عدة أمور لتحصيل اثر مخصوص به إذا فقد منه بعض اجزائه الذي يخل ببعض آثاره دون بعض يكون هذا الناقص فاسدا باعتبار خصوص ذلك الأثر ، وصحيحا باعتبار اثر آخر ( وبهذه ) الجهة قلنا ان الاختلاف في تفسير الصحة في العبادة ، تارة باسقاط الإعادة والقضاء كما في لسان الفقيه ، وأخرى بموافقة المأتى به للشريعة وعدمها في لسان المتكلم ، وثالثة غير ذلك ، لا يكون اختلافا منهم في حقيقة الصحة لتكون من متعدد المعنى ( بل الصحة ) عند الجميع بمعنى واحد وهي التمامية ، ( وانما ) الاختلاف بينهم في تطبيق هذا المفهوم الوحداني على وجود واحد باعتبار ما هو المهم عند كل فريق من الجهة المرغوبة منه في انظارهم ( فالاثر ) المهم في نظر الفقيه في العبادة حيث إنه سقوط الإعادة والقضاء فسرها بما يوافق غرضه ، ( كما ) ان الأثر المهم في نظر المتكلم لما كان موافقة الامر والشريعة الموجبة لاستحقاق المثوبة ، فسرها بما يوافق غرضه.

( وعليه ) نقول انه بعد أن تختلف صحة الشيء الواحد وفساده بلحاظ الجهة المرغوبة منه ، فلا بد في الحكم بانتزاعية الصحة وواقعيتها من ملاحظة الجهة التي أريد تمامية الشيء بالإضافة إليها ( فان كان ) تلك الجهة من الأمور الواقعية كالملاك والمصلحة تكون التمامية والصحة واقعية ، لان كون الشيء بحيث يفي بالغرض ويترتب عليه الملاك والمصلحة امر واقعي لا مجعول شرعي ولا منتزع من امر مجعول ومن هذا القبيل ، جهة المسقطية للقضاء والإعادة التي هي تلازم الاجزاء لا عينها ( فان )

ص: 97

مثل هذه الجهة تكون دائرة مدار الوفاء بالغرض في الجملة ، وبذلك تكون الصحة والتمامية من الأمور الواقعية ( وان كانت ) من الأمور المجعولة من التكليف أو الوضع في أبواب المعاملات ، فالصحة تكون منتزعة من تلك الجهة ( لأنه ) لولا تلك الجهة لما كان مجال لانتزاع صحة الشيء وتمامية من تلك الجهة ، ( فانتزاعية ) الصحة حينئذ وواقعيتها تكون تابعة لجعلية الجهة التي لوحظ تمامية الشيء بالإضافة إليها وعدم جعليتها ( وعليه ) فلا بد في انتزاعيتها من التفصيل بحسب الآثار المقصودة من الشيء التي يراد تماميته بالإضافة إليها ( ولا مجال ) لدعوى انتزاعيتها من المجعول الشرعي مطلقا ، ولا للمنع عن انتزاعيتها كذلك ( نعم ) لا تكون الصحة من الأمور المتأصلة بالجعل تأسيسا أو امضاء بل هي اما واقعية محضه كالصحة بلحاظ الوفاء بالغرض أو المسقطية للإعادة والقضاء ، واما منتزعة من مجعول شرعي كالصحة في أبواب المعاملات من العقود والايقاعات ، فالقول بكونها متأصلة بالجعل ساقط عن الاعتبار.

( واما الطهارة والنجاسة ) فهما بمعنى النظافة والقذارة ، وقد جعلها الشيخ قده من الأمور الواقعية ، وهو كما افاده قدس سره في النظافة والقذارة العرفية المحسوسة ، إذ لا ينبغي الاشكال في كونهما من الأمور الواقعية الخارجية التي يدركها العرف والعقلاء ولذلك تريهم يستقذرون عن بعض الأشياء كعذرة الانسان ولا يستقذرون عن بعض الآخر.

( وانما الكلام ) فيهما شرعا فيما لم يكن في البين جهة محسوسة عرفية كنجاسة الخمر والكافر ونحوهما في أنهما أيضا من الأمور الواقعية الخارجية التي كشف عنها الشارع لنا بحكمه بوجوب الاجتناب ، أو انهما من الاعتبارات الجعلية ( ويمكن ) ترجيح الثاني بجعلهما من الاعتبارات الجعلية الراجعة إلى نحو ادعاء من الشارع بنجاسة ما يراه العرف طاهرا وبالعكس بلحاظ ما يرى من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو اطلع العرف عليه لرتبوا عليه آثار النجاسة ( كما يشاهد ) نظيره في العرف حيث يرى عندهم بعض المصاديق الادعائية للطهارة والنجاسة ، كاستقذارهم من أيدي غسال الموتى وأيدي من شغله تنظيف البالوعة واخرج الغائط منها واباء طبعهم عن المؤاكلة مع

ص: 98

هؤلاء من اناء واحد ولو كانت أياديهم حين الاكل في كمال النظافة الظاهرية ، وعدم استقذارهم من أيدي مثل الفلاح المستعمل للفواكه ولو كانت أيديهم من جهة استعمال الفواكه من الوسخ ما بلغ ( ومن المعلوم ) ان ذلك لا يكون الا من جهة ادعائهم القذارة في الأول الموجب لترتيبهم الآثار القذارة الخارجية عليه وعدم اعتبارهم إياها في الثاني.

( وعليه ) نقول : انه يمكن ان يكون حكم الشارع بنجاسة مالا يراه العرف قذرا كالخمر والكافر ونحوهما من هذا القبيل ، فيكون مرجعه إلى نحو ادعاء من الشارع بقذارة ما يراه العرف طاهرا ، وبالعكس بلحاظ ما يرى منه من المناط المصحح لهذا الادعاء بحيث لو يراه العرف أيضا لرتبوا عليه آثار قذاراتهم من دون ان يكون المناط المزبور هو عين الطهارة والنجاسة الشرعية كي تكونان من الأمور الواقعية التي كشف الشارع عنها ببيانه كما توهم ( وبالجملة ) فرق بين كون الشيء طاهرا أو قذرا خارجيا ، وبين كونه طاهرا أو قذرا ادعائيا لمناط مخصوص ( وعليه ) لا وجه لجعلها بقول مطلق من الأمور الواقعية ( نعم ) على كل تقدير لا تكونان من الأحكام الوضعية حتى يأتي فيهما النزاع في كونهما مجعولة أو منتزعة من التكليف ( إذ هما ) اما من الأمور الواقعية ، واما من الأمور الادعائية ، فعلى الأول لا تكونان من الأمور الوضعية ولا مرتبطة بالجعل ، ( وعلى الثاني ) وان كانتا مجعولة ولكن بالجعل بمعنى الادعاء لا الجعل الحقيقي كما هو ظاهر.

( واما الرخصة والعزيمة ) فقد عدهما بعض من الأحكام الوضعية ( ولكن ) فيه منع واضح ( فان ) الرخصة والعزيمة عبارة عن السقوط على وجه التسهيل والسقوط على وجه الحتم والالزام ، وهما مندرجان في الأحكام التكليفية لا الوضعية.

( ومنها ) الحجية وقد اختار المحقق الخراساني قدس سره وبعض آخر كونها مجعولة بنفسها لا منتزعة من امر مجعول نظير الملكية ونحوهما من منشئات العقود والايقاعات ( ولكن ) لا يخلو ذلك عن غموض واشكال ( فان ) حقيقة الحجية على ما تقدم ض في مبحث القطع لا تكون الا عبارة أخرى عن منشئية الشيء لقطع عذر العبد

ص: 99

ومصححيته لاستحقاق العقوبة على المخالفة ، ومن المعلوم ان هذا المعنى نظير السببية الحقيقية امر ذاتي للشيء لكونه في الحقيقة عبارة عن الملازمة بين انكشاف الواقع واستحقاق العقوبة على مخالفته ، من غير فرق في ذلك بين القطع وغيره من الامارات والحجج الشرعية ( غير أن ) في القطع يكون المعروض لهذه الحيثية ذات القطع لكونه عين انكشاف الواقع بلا تعلق جعل شرعي بحيث معروضيته ، وفي غيره يكون معروضها مما تعلق به الجعل الشرعي تأسيسا أو امضاء من الطريقية والكاشفية ، كما في الامارات الجعلية ، حيث إنه بتتميم كشفها وادعاء كونه علما تصير الامارة بما يستتبعه من الحكم الطريقي سببا لقطع عذر العبد ومصححا لاستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع ، بلا تعلق جعل منه بحيث منشئيتها لاستحقاق العقوبة ، ففي الحقيقية مرجع الجعل فيها إلى تتميم ما هو معروض للحيثية المزبورة ، لا إلى احداث العارض على نفس الذات ، ومرجعه إلى احداث الجزم ببلوغ الحكم المحتمل وجوده في الاهتمام لدى المولى بمرتبة لا يرضى بمخالفته حتى في ظرف الشك به الذي هو بنفسه سبب لاستحقاق العقوبة على المخالفة.

( وبتقريب ) آخر مرجع ذلك إلى قلب عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح العقوبة بالنقيض الذي هو البيان على الواقع ( نعم ) لو بيننا على عدم كفاية مجرد هذا الجعل ولو بما يستتبعه من الحكم الطريقي لتنجيز الواقع وقلب اللابيان الموضوع لقبح العقوبة بالبيان المصحح لها ( لاتجه ) القول بمجعولية الحجية بنفسها في الامارات والطرق الشرعية ، ولو بدعوى كونها من الاعتباريات الجعلية التي متى تحققت تستتبع حكم العقل بوجوب الاتباع والقاطعية للعذر ( ولكنه ) مع فساد المبني كما أوضحناه في مبحث الظن عند التعرض لوجه منجزية أو امر الطرق والامارات ، مبني على اعتبار الواسطة في مثل القطع أيضا بين حيث كاشفيته ومنجزيته ، وليس كذلك ( بداهة ) انه لا يرى العقل مصححا في حكمه بمنجزية القطع وقاطعيته للعذر الا حيث كاشفيته بلا اعتبار جهة زائدة عليها ، وعليه لا مجال لاعتبار الواسطة في الامارات والالتزام بكونها مجعولة فيها ، بل لا محيص من الالتزام بانتزاعية الحية في

ص: 100

الامارات اما من المجعول الادعائي أعني تتميم الكشف على فرض كفايته في تنجيز الواقع ، أو مما يستتبعه من الحكم الطريقي كما هو المختار ، هذا في الحجية بمعنى المعذرية والمنجرية.

( واما الحجية ) بمعني الوسطية للاثبات فهي وان كانت مجعولة في الامارات بنفس تكفل دليلها لتتميم كشفها وتطبيق عنوان العلم والاحراز عليها ، فتقوم بذلك مقام العلم الطريقي بل الموضوعي إذا كان اخذه في موضوع الحكم على الوجه الطريقي لا الصفتي ، وتصح أيضا حكومتها على أدلة الأصول المأخوذ فيها المعرفة غاية للحكم الظاهري ( ولكن ) الجعل فيها انما هو بمعنى الادعاء لا الجعل الحقيقي ، لما ذكرنا غير مرة من أن تمامية الكشف ليست من الحقايق الجعلية التي تشريعها عين تكوين حقيقتها ، وانما هي نظير الموت والحياة والفسق والعدالة من الأمور الواقعية غير القابلة للتحقق بالجعل والتشريع ( فمرجع ) الجعل فيها إلى نحو عناية وادعاء مستتبع لتطبيق عنوان العلم والاحراز عليها ، نظير سائر الأمور الادعائية ، ولذا لابد في صحة هذا الادعاء والتنزيل من اثر شرعي مصحح له ولو في طرف المنزل كسائر التنزيلات الشرعية.

( ومنها ) الملكية والزوجية ونحوهما من منشآءت العقود والايقاعات ( ولا شبهة ) في أن هذه العناوين بحقايقها من الاعتباريات القصدية التي تكون حقيقتها بجعل من ينفذ جعله واعتباره بحيث بعد تمامية جعلها يكون لها نحو تقرر في الواقع وكان الاعتبار الذهني طريقا إليها على نحو يلتفت إليها تارة ويغفل عنها أخرى ، نظير العلاقة والاختصاص الحاصل بين اللفظ والمعنى ، والملازمات الذاتية بين الأشياء المحفوظة في عالم تقررها ( لا انها ) من الاعتباريات الصرفة المتقومة بالاعتبار والمنقطعة بانقطاعه التي لا تكون لها واقعية حتى بعد انشاء النفس إياها ، كأنياب الأغوال والوجودات الادعائية التنزيلية ( فان ) كونها أمورا اعتبارية انما هو بمعنى ان الجعل منشأ لاحداثها في قبال الإضافات المقولية والنسب الخارجية الموجبة لنحو وجود هيئة عينية في الخارج لطرفيها كالفوقية والتحتية ونحوهما ، لا بمعنى كونها

ص: 101

بذاتها متقومة بالاعتبار ، كالوجودات الادعائية التنزيلية ، وإلا لزم كونها تابعة لاعتبار معتبرها حدوثا وبقاء ، فيلزم انقطاعها بانقطاع الاعتبار ، بل وبانعدام شخص المعتبر لها ، لقيام اعتباره بشخصه ، الا بفرض اعتبار معتبر آخر لها كالمعتبر الأول.

( مع ) ان الوجدان قاض بخلافه ، إذ لا شبهة في بقاء هذه الأمور بعد جعلها بأسبابها في الوعاء المناسب لها وكونها مما له نحو تقرر في الواقع بحيث كان اللحاظ طريقا إليها حتى من شخص المعتبر لها ، لا انه مقوم ذاتها كالاعتبارات الصرفة ( ففي الحقيقة ) تكون هذه الأمور وسطا بين الوجودات الادعائية ، وبين الإضافات المقولية والنسب الخارجية ( فمن حيث ) عدم احداثها لتغيير هيئة خارجية لطرفيها من المالك والمملوك والزوج والزوجة ، تشبه الاعتباريات الصرفة ( ومن حيث ) ان لها واقعية بنحو كان اللحاظ طريقا إليها بعد جعلها ، وتشبه الإضافات المقولية ( وعليه ) فلا مجال لجعل مثل الملكية والزوجية واضرابهما من منشآت العقود والايقاعات من سنخ الوجودات الادعائية بمحض عدم كونها من الاعتبارات الذهنية ، ولا من الإضافات المقولية والنسب الخارجية ( بدعوى ) ان لمفهوم الملكية وأضرابها نحو ان من من الوجود ، وجود حقيقي ووجود ادعائي هو من منشآت العقود والايقاعات ( كما ) ان مجرد اختلاف العرف والشرع ، بل واختلاف أهل العرف في اعتبار الملكية في الموارد الخاصة لا يقتضى نفي واقعيتها ( إذ مرجع ) اختلافهم انما هو إلى تخطئة العرف بعضهم بعضا فيما يرونه منشأ لاعتبار الملكية ، بلحاظ ان ما يكون منشأ لصحة الجعل عند بعضهم ليس بمنشأ عند بعض آخر ( وكذلك ) في اختلاف العرف والشرع ( والا ) فعلى فرض التوافق على منشئية المنشأ لصحة الجعل لا اختلاف بينهم في اعتبار الملكية عند تحقق المنشأ ( وحينئذ ) فلا ينبغي الاشكال في مجعولية هذه الأمور وتقررها النفس الأمري في الوعاء المناسب لها عند حصول أسبابها على وجه تكون بحقايقها محفوظة قبل التكليف ( لا انها ) انتزاعية من التكليف الشرعي كما يظهر من الشيخ قدس سره ( إذ ذلك ) مضافا إلى كونه خلاف الوجدان وعدم تماميته في نحو ما دل على سببية الحيازة للملكية بمثل قوله من حاز ملك الا باتعاب النفس لاثبات حكم تكليفي

ص: 102

ينتزع عنه الملكية ، يلزمه عدم امضاء الشارع مضامين العقود على طبق ما يقصده المتعاقدان ( فلابد ) اما من جعل الأدلة كاشفة عن ارتباط خاص واقعي غير ما يقصده المتعاقدان بانشائهما ، أو حاكية عن إضافة خاصة ناشئة من التكليف الخاص المتوجه بالنسبة إلى المبيع أو الزوجة كإباحة التصرفات في المبيع للمشتري وبعوضه للبايع ، وإباحة الاستمتاعات للزوج عند تحقق الانشاء من المتعاقدين ( وهما ) كما ترى غير مرتبطين بما يقصده المتعاقدان في أبواب المعاملات من التوصل بانشائهما إلى تحقق هذه الأمور ( مع أن ) ما افاده قدس سره ينافي ظواهر الأدلة المأخوذ فيها تلك الإضافات موضوعا للتكليف ، من نحو ما دل على حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه ورضاه ، وسلطنة الناس على أموالهم ( إذ بعد ) ان يكون الموضوع للسلطنة والحرمة في نحو هذه الأدلة هو المال المضاف إلى الشخص أو الغير ، نقول : ان نشو هذه الإضافة والاختصاص ، اما ان يكون من نفس ذلك التكليف المتعلق بالموضوع المزبور ، واما ان يكون نشوها من تكليف آخر في الرتبة السابقة عن الإضافة المزبورة ، واما ان يكون نشوها من صرف جعلها قبل تعلق التكليف بها ( والأولان ) لا سبيل إليهما ، لكون الأول منهما مستحيل ذاتا ، واستلزام الثاني لاجتماع المثلين ، أحدهما محقق الإضافة المزبورة في المرتبة السابقة والآخر مترتب عليها في المرتبة اللاحقة فيتعين الثالث وهو المطلوب خصوصا في نحو قوله من حاز ملك الذي لا يكون في مورده حكم قابل لان ينتزع منه الملكية ( فتلخص ) انه لا وجه لانكار الجعلية في مثل الملكية ونحوها من مضامين العقود والايقاعات واتعاب النفس فيها بنحو من التكلفات للالتزام بانتزاعيتها من التكليف ( خصوصا ) بعد تداول تلك الاعتبارات بين العرف والعقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممن لا يلتزم بشرع ولا شريعة ، وكونها لديهم من الاعتبارات المتأصلة بالجعل والمتحققة بصرف جعلها بقول أو فعل ، نظير سائر اعتباراتهم الجعلية من التعظيم والتوهين وأمثالهما ( فالتحقيق ) في نحو هذه الاعتبارات العرفية ما ذكرناه من كونها أمورا مجعولة بالاستقلال ، قد أمضاها الشارع.

( واما القضاوة والولاية ) فهما أيضا من الاعتبارات المتأصلة بالجعل كالملكية ونحوها وليستا منتزعتين من التكليف ولا كانتا من الأمور الواقعية ، وقياسهما يمثل

ص: 103

النبوة والإمامة الثابتة لبعض الأشخاص لأجل مالهم من خصوصية كمال النفس كما ترى ( بداهة ) وضوح الفرق بين مثل النبوة والإمامة الناشئة من أقصى مرتبة كمال النفس ، وبين الولاية والقضاوة الجعلية.

( وكذلك الوكالة والنيابة ) فهما أيضا من الاعتبارات العرفية الجعلية التي يقصد التوصل إليها بانشائها المخصوص ( فان ) مرجعهما إلى جعل نحو ولاية للغير على مال أو نفس ( على اشكال ) في الأخير لامكان دعوى خروج النيابة من الأحكام الوضعية وكونها من سنخ الحقايق الادعائية والوجودات التنزيلية بلحاظ رجوع حقيقتها إلى تنزيل النائب نفسه منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأمور الراجعة إلى المنوب عنه ، لا إلى جعل الولاية للغير بما هو غير وتفويض الامر إليه ( بخلاف ) الوكالة فان مرجعها إلى جعل الغير بما هو غير وليا وسلطنا على التصرف في مال الموكل أو نفسه ، ومن هنا لا يحتاج الوكيل في ايقاع العمل الموكل فيه إلى قصد وقوعه عن موكله بل هو بعد تحقق وكالته يستقل في ايقاع العمل الموكل فيه عقدا كان أو ايقاعا فيتصرف بما هو هو في مال موكله أو في نفسه بإجارة أو تزويج ونحو ذلك ( وبالجملة ) فرق واضح بين جعل الغير بما هو غير وليا وسلطانا على العمل الموكل فيه ، وبين جعله عناية منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو فيما يصدر منه من الأعمال كما في باب النيابة ( ومن المعلوم ) عدم ارتباط مثله بالأحكام الوضعية والاعتبارات الجعلية ( إذ مرجع ) الجعل فيها انما هو إلى تكوين حقيقتها المصطلحة عند الحكيم بالجعل ، بخلاف الأمور الادعائية ، فان الجعل فيها راجع إلى تكوين حقيقتها الادعائية المصطلحة في ألماني والبيان ( نعم ) نفس الادعاء والتنزيل فيها يكون متحققا بالجعل والانشاء بمثل قوله جعلتك نائبا ، ولكن مجرد ذلك لا يوجب كونها من الأحكام الوضعية ، والا لاقتضى عدم حصرها ، لان باب الادعاء والتنزيل واسع ، فيلزم ان يكون جميع التنزيلات الشرعية من الأحكام الوضعية وهو كما ترى ( هذا تمام الكلام في الأحكام الوضعية ).

ص: 104

( وينبغي التنبيه على أمور )

( التنبيه الأول ) قد تقدم سابقا انه يعتبر في الاستصحاب اليقين بثبوت المستصحب سابقا والشك في بقائه لاحقا ( اما الأخير ) فاعتباره ظاهر لكونه مما به قوام حقيقته ( وفي اعتبار ) خصوص الشك الفعلي أو كفاية الشك التقديري ، كلام قد تقدم تحقيق القول فيه وفيما تترتب عليه من الثمرة وقد ذكرنا ان المختار هو اعتبار خصوص الشك الفعلي فلا موجب لإعادته ( واما الأول ) وهو اليقين السابق ، فاعتباره أيضا في صحة جريانه مما لا اشكال فيه خصوصا على مبنى اخذه من الاخبار كما هو المختار ( وانما الكلام ) في أن اعتباره من جهة كونه مما به قوام حقيقة الاستصحاب ، أو من جهة كونه مما به قوام تطبيقه على المورد لا قوام حقيقته ( ولقد ) تقدم تحقيق القول فيه أيضا ، وانه على المختار من اخذ اليقين في لا تنقض على نحو العنوانية ولو بما هو طريق ، لا بما هو صفة خاصة يكون مما به قوام حقيقة الاستصحاب كالشك اللاحق زائدا عن دخله في مقام تطبيقه على المورد فلا نطيل الكلام بإعادته.

( التنبيه الثاني ) لا فرق في صحة الاستصحاب بين ان يكون المستصحب محرزا باليقين الوجداني أو بغيره من الطرق والامارات بل الأصول المحرزة أيضا كالاستصحاب ( اما ) على المختار في مفاد أدلة حجية الامارات من كونه ناظرا إلى تتميم الكشف واثبات الاحراز فظاهر ، حيث إنها بتكفلها لتتميم الكشف بعناية التنزيل يوسع دائرة اليقين المنقوض والناقض في الاستصحاب بما يعم الوجداني والتعبدي وبذلك يكون المستصحب عند قيام الامارة أو الطريق عليه محرزا باليقين التعبدي ، فمع الشك في بقائه في الزمان المتأخر يجري فيه الاستصحاب لا محالة لتمامية أركانه من الاحراز السابق والشك اللاحق ، قلنا ان اليقين في لا تنقض ملحوظ على نحو العنوانية كما هو المختار أو على وجه المرآتية للمتيقن.

ص: 105

( كما أنه ) بقيام الامارة على ارتفاع المستصحب في الزمان المتأخر تتحقق الغاية واليقين الناقض من غير احتياج إلى جعل اليقين في لا تنقض عبارة عن مطلق الاحراز كما أفيد ، لما عرفت من أن المطلوب يتم ولو بجعل اليقين في دليله عبارة عن اليقين الوجداني ( والا لاقتضى ) المصير إلى تقديم الامارة على الاستصحاب بمناط الورود ، وهو مما لا يلتزم به القائل المزبور ، لان بنائه انما هو على تقديمها عليه بمناط الحكومة ، فحفظ هذه الجهة لا يكون الا بابقاء اليقين في لا تنقض ناقضا ومنقوضا على ظاهره من اليقين الوجداني مع البناء على اقتضاء الامارة بمعونة دليل اعتبارها لليقين بثبوت مؤداها ( فإنه ) بذلك تتم حكومة الامارات على الاستصحاب ويرتفع الاشكال أيضا عن جريان الاستصحاب في مؤدياتها ( هذا ) على على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونه ناظرا بعناية التنزيل إلى تتميم الكشف واثبات الاحراز.

( واما ) بناء على استفادة كونه ناظرا إلى تنزيل المؤدى والامر بالمعاملة معه معاملة الواقع ، بلا نظر منه إلى تتميم كشف الامارة واثبات احراز الواقع بها ( فان ) قلنا ان النقض في لا تنقض اليقين متعلق بالمتيقن واقعا وان اليقين فيه ملحوظ عبرة ومرآة للمتيقن ( فيمكن ان يقال ) : انه بقيام الامارة على الحالة السابقة يجري الاستصحاب ، لان مقتضى الامارة السابقة بمعونة دليل اعتبارها وجوب ترتيب آثار الواقع على المؤدى ، ومن جملتها حرمة نقض اليقين به بالشك فيه اللّهم الا ان يقال : ان تعلق حرمة النقض بعد أن كان بغير هذه الحرمة من سائر آثار وجود الشيء فلا جرم مع الشك في وجوده يشك في هذه الحرمة أيضا فلا يصح تطبيق الاستصحاب على المورد ، وعليه فلا يكون المحرك الفعلي على حرمة نقض آثار المتيقن الا الامارة لا نفس حرمة النقض فتدبر ( نعم ) على ذلك يشكل الامر في تقديم الامارة اللاحقة على الاستصحاب بمناط الحكومة كما أشرنا إليه غير مرة ( وان قلنا ) ان حرمة النقض متعلق بنفس اليقين وان اليقين ملحوظ فيه مستقلا على نحو العنوانية ولو على الوجه الطريقي لا الصفتي ، فيشكل الاكتفاء بالامارة السابقة في صحة الاستصحاب ، نظرا إلى انتفاء الكاشف وعدم تحققه لا وجدانا ولا تعبدا ( واشكل ) منه ، ما إذا قلنا في دليل الامارة بكونه ناظرا إلى مجرد جعل الحجية المستتبعة لتنجيز

ص: 106

الواقع عقلا على تقدير ثبوته بلا نظر إلى تنزيل المؤدى والتعبد بكونه هو الواقع ، ولا إلى اثبات العلم بالواقع كما هو مختار الكفاية ، فإنه على المسلكين في مفاد حرمة النقض لا مجال للاستصحاب في مؤديات الامارات ( اما ) على مسلك رجوع التنزيل فيه إلى المتيقن فظاهر ، للشك الوجداني حينئذ في كون المؤدى هو الواقع ، وعدم تكفل دليل الامارة حسب الفرض لتنزيل المؤدى منزلة الواقع ولا لاثبات العلم به ، ومع الشك المزبور يشك لا محالة في توجيه التكليف بحرمة النقض إلى المكلف ( ومجرد ) استتباع جعل الحجية تنجيزا للواقع المحتمل على فرض ثبوته لا يقتضى اثبات ان المؤدى هو الواقع ولا ترتيب آثار الواقع عليه الا من باب الاحتياط ، نظير ما إذا وجب الاحتياط على المكلف عند احتمال مطابقة الامارة للواقع ( ومن الواضح ) ان مثل هذا الحكم الاحتياطي أجنبي عن الحكم الاستصحابي الذي هو من آثار الواقع ، لأنه حكم في ظرف الشك في وجوب ترتيب آثار الواقع وفي مرتبة متأخرة عنه ( نعم ) على تقدير مطابقة الامارة للواقع يكون التكليف الاستصحابي أعني حرمة النقض منجزا عليه بمقتضى جعل الحجية ( ولكن ) الشك في مطابقة الامارة بعد أن كان شكا في ثبوت موضوع حرمة النقض فلا مجال لتطبيق حرمة النقض على المورد ( هذا ) على تقدير تعلق حرمة النقض بنفس المتيقن واقعا ( واما ) على تقدير تعلقه بنفس اليقين فالاشكال أوضح ، إذ حينئذ يقطع بعدم توجيه التكليف بحرمة النقض إليه في الواقع ونفس الامر ، لانتفاء موضوعه الذي هو اليقين وعدم تحققه لا بالوجدان ولا بالتعبد.

( لا يقال ) : انه كذلك إذا كان اليقين في لا تنقض ملحوظا من حيث الكاشفية عن الواقع ( واما ) لو كان مأخوذا من حيث المنجزية والقاطعية للعذر فلا محذور في الاستصحاب ، لان مفاد كبرى المزبورة حينئذ هو ان ما قام عليه المنجز يحرم نقضه بالشك ، دليل الامارة حسب اقتضائه لجعل الحجية موجب لقيام الامارة مقام العلم من حيث منجزيته فيرتفع بذلك الاشكال المزبور ( فإنه يقال ) : ان موضوع حرمة النقض انما هو التكليف الذي قام عليه المنجز ، فمع الشك الوجداني

ص: 107

في مطابقة الامارة للواقع يشك لا محالة في ثبوت موضوع الحرمة ( وبعد ) عدم تكفل دليل الامارة لاثبات العلم بالواقع ، ولا لاثبات ان المؤدى هو الواقع ، لا مجال لتطبيق حرمة النقض على المورد ( فلا يفرق ) حينئذ في المنع عن جريان الاستصحاب على هذا المسلك بين ان يكون اليقين في لا تنقض ملحوظا على نحو المرآتية للمتعلق ، أو العنوانية ( ولا في الثاني ) بين ان يكون ملحوظا من حيث كاشفيته وطريقيته للواقع ، أو من حيث منجزيته له ، فعلى جميع هذه الفروض لا يصح تطبيق حرمة النقض على المورد ( اما ) للقطع بانتفاء موضوع الحرمة ، أو للشك في ثبوته وتحققه واقعا ( فما عن بعض الأعاظم قده ) حينئذ من صح الاستصحاب في فرض كون اليقين في لا تنقض ملحوظا من حيث منجزيته ولو مع عدم تكفل دليل الامارة لتتميم الكشف منظور فيه ( وهكذا ) الكلام فيما لو كان دليل الامارة بلسان مجرد ايجاب العمل على طبق المؤدى بلا تكفله لاثبات كونه هو الواقع ولا لاثبات العلم به ، فإنه على جميع المسالك في مدلول حرمة النقض لا مجال لتطبيق الاستصحاب في موارد الامارات.

( وبما ذكرنا ) ظهر ان ما افاده المحقق الخراساني قده من الاشكال في صحة الاستصحاب في المقام على مسلكه في باب الطرق والامارات من أن المجعول فيها هي الحجية في غاية المتانة ، وانه لا يمكن الذب عنها الا بما افاده من كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب وجريانه بلا احتياج إلى احراز ثبوت المستصحب واقعا ( لان ) شأن الاستصحاب انما هو مجرد اثبات البقاء التعبدي للشيء على تقدير ثبوته الراجع إلى جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه ( ولكن ) الاشكال كله في أصل هذا المبني ( فان التحقيق ) في مفاد أدلة الطرق والامارات ما أشرنا إليه غير مرة من كونه بنحو تتميم الكشف واثبات الاحراز التعبدي للواقع ، لا بنحو تنزيل المؤدي ، ولا جعل الحجية ، وعليه فلا قصور في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات على ثبوتها قلنا ان اليقين في لا تنقض اليقين ملحوظ على نحو العنوانية ، أو المرآتية ( لان ) دليل الامارة بعناية تكفله لاثبات العلم والاحراز

ص: 108

يوسع دائرة اليقين الناقض والمنقوض في الاستصحاب وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات الامارات لكونها محرزة حينئذ بالاحراز التعبدي ، كما أنه به يتم حكومتها عليه عند قيامها على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها ، بلا احتياج إلى جعل اليقين في لا تنقض كناية عن مطلق الاحراز كي يلزم تقدم الامارة عليه بمناط الورود لا الحكومة ، ولا إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب.

ثم إن بعض الأعاظم قده أورد على المحقق الخراساني قده على ما في التقرير تارة على كلامه بان المجعول في الطرق والامارات انما هو الحجية المستتبعة لتنجيز الواقع لا الاحراز والوسطية ، بما حاصله امتناع جعل التنجيز والمعذرية ( بتقريب ) ان التنجيز انما تدور مدار وصول التكليف إلى المكلف ولو بطريقه فالتكليف ان كان واصلا إلى المكلف ولو بطريقه لا يمكن ان لا يكون منجزا ، وان لم يكن واصلا إليه بنفسه أو بطريقه لا يمكن ان يكون منجزا ، بل المكلف كان معذورا لا محالة ، فالتنجيز والمعذورية مما لا تناله يد الجعل الشرعي لكونهما من اللوازم العقلية المترتبة على وصول التكليف وعدمه ( وأخرى ) على ما افاده في دفع الاشكال عن جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والامارات من كفاية الشك في البقاء على تقدير الحدوث في صحة الاستصحاب ( بان ذلك ) لا يحسم مادة الاشكال ، لان حقيقة الاستصحاب وان كان هو التعبد بالبقاء الا ان التعبد انما هو ببقاء ما ثبت عند الشك فيه ولا معنى لتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، لان الملازمة كالسببية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ( فان ) الذي يقبل الجعل هو التعبد بوجود الشيء على تقدير آخر فينتزع من ذلك السببية والملازمة ، فصحة الاستصحاب يتوقف على احراز الحدوث ليصح التعبد ببقاء الحادث عند الشك في بقائه ، ولا معنى للتعبد ببقاء ما شك في حدوثه الا ان يرد أولا التعبد بالحدوث ليكون الحدوث محرزا بوجه ثم يرد التعبد بالبقاء.

( أقول ) ولا يخفى عليك ما في هذين الاشكالين ( اما الأول ) فان كان المقصود من تبيعية التنجيز والمعذورية لوصول التكليف وعدمه عدم قابليتهما بنفسهما للوقوع تحت الجعل بدوا فهو مما لا يدعيه المحقق الخراساني أيضا.

ص: 109

( فان تمام نظره ) إلى أن الحجية كالملكية من الاعتباريات الجعلية التي تستتبع جعلها عقلا للتنجيز والمعذورية ، لا ان المجعول بدوا هو نفس التنجيز والمعذورية ، وليس في الاشكال المزبور أيضا ما يقتضي امتناع جعل الحجية ( وان كان ) المقصود ان التكليف الواقعي لا يكون منجزا على المكلف بنحو يستتبع العقوبة على مخالفته الا بوصوله إلى المكلف ولو بطريقه ، فهذا مما لا اشكال فيه ( ولكن ) المدعى انه يكفي في وصول الشيء بطريقه وصول الحجة عليه ولو جعلية وهي أيضا على مسلكه حاصلة ( وان كان ) المقصود انه لا يكون التنجز الا بالاحراز الوجداني أو الجعلي وبدونهما لا يعقل التنجز ، فهو مع أنه مصادرة محضة ، مناف لما افاده في أول هذا التنبيه بقوله إذا اخذ العلم موضوعا من حيث اقتضائه للتنجيز والمعذورية تقوم مقامه الطرق والأصول المحرزة وغير المحرزة ( إذ على هذا ) البيان أي أصل غير محرز يقوم مقام العلم من حيث التنجيز ( وان كان ) المقصود غير ذلك فلابد من بيانه ( واما الاشكال ) الثاني ، فان كان المقصود منه ان في التعبد بالبقاء يحتاج إلى احراز الحدوث وانه لا يكفيه الشك في البقاء على تقدير الحدوث ، ففيه انه مصادرة محضة يطالب بالدليل ( فان ) شأن الاستصحاب على مرامه قده ، في لا تنقض من اخذ اليقين فيه مرآة إلى المتيقن ووصلة لإيصاله النقض إليه انما هو اثبات الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء واقعا وبقائه ، وفي هذا المقدار لا يحتاج فعليه التعبد بالبقاء إلى احراز الحدوث ، نعم في مرحلة محركية التعبد المزبور لابد من احراز الحدوث اما بالعلم الوجداني أو بقيام الحجة عليه حيث كان الحجة على الملزوم حجة على لازمه التعبدي ( وان كان ) المقصود هو عدم جعلية الملازمة المزبورة وانها كالسببية من الأمور الواقعية التي لا تنالها يد الجعل والرفع ، ففيه انه كذلك في الملازمة الحقيقية الواقعية بين حدوث الشيء وبقائه واقعا ( واما الملازمة ) الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه التعبدي فجعليتها بمكان من الامكان ( كيف ) وان شأن الاستصحاب على مسلكه ومرام كل من عرفه بابقاء ما كان بعد أن كان اثبات البقاء التعبدي للواقع يلزمه قهرا كون البقاء التعبدي من آثار الواقع ( ولازم ) ذلك صيرورة الملازمة المزبورة كملازمة كل حكم لموضوعه مجعولة بعين جعل الحكم لموضوعه ( وان كان )

ص: 110

المقصود هو توقف صحة التعبد بالبقاء على احراز المستصحب لأجل انه بدونه لا ينتهى التعبد المزبور إلى العمل فيلزم لغوية التعبد بالبقاء ( ففيه ) ان اللغو انما هو التعبد بشيء لا ينتهى امره إلى احراز صغراه رأسا ، والا فمع الانتهاء إلى احراز صغراه أحيانا فلا قصور في صحة التعبد به ( فإنه ) يكفي هذا المقدار في خروجه عن اللغوية ، كما هو الشأن في التعبد بجميع الطرق المنوط صحته على احراز الطريق لدى المكلف ، فكون خبر الواحد أو البينة حجة بنحو القضية الحقيقية لا يقتضى الا إناطة فعلية التعبد بوجودهما واقعا غير المنفك كثيرا عن الجهل بهما ، وبالعلم بالصغرى يصير التعبد بالخبر والبينة منتهيا إلى العمل ومحركا فعليا نحوه وخارجا عن اللغوية ( وفي المقام ) تكون الامارة على حدوث المستصحب حجة على لازمه الشرعي من الابقاء التعبدي ، فيترتب عليه عند الشك فيه آثار البقاء من نحو وجوب الإطاعة ونحوه كما هو ظاهر فتدبر.

( ثم انه ) قد يقرب الاستصحاب بوجه آخر يسلم عن الاشكال المزبور ولو مع البناء على استفادة جعل الجية من دليل الامارات ( وحاصله ) تطبيقه على كلي الوجوب أو الحرمة الجامع بين الواقعي والظاهري ( بتقريب ) انه بقيام الامارة على وجوب شيء يقطع بمطلق وجوبه على تقدير مطابقة الامارة للواقع ومخالفته له ( حيث ) انه على تقدير يكون المتحقق هو الوجوب الواقعي ، وعلى تقدير آخر يكون المتحقق هو الوجوب الظاهري ، فإذا شك في ارتفاعه يجري فيه الاستصحاب ( وفيه ) انه لو تم ذلك فإنما هو على القول بالسببية والموضوعية في الطرق والامارات ، والا فعلى ما هو المشهور والمختار من الطريقية فيها ، فلا يصح ذلك ( لان ) مرجع الحكم الطريقي إلى كونه ايجابا حقيقيا على تقدير ، وصوريا على تقدير آخر ، وبعد عدم تصور جامع ذاتي بين الايجاب الحقيقي والصوري يندرج الاستصحاب المزبور لا محالة في استصحاب الفرد المردد بين ما له الأثر وما ليس له الأثر ، لا في استصحاب الكلى ( ومثله ) لا يجرى فيه الأصل ، لعدم تعلق اليقين والشك فيه بموضوع له الأثر ، لان ما له الأثر انما هو الوجوب الواقعي وهو مما يشك في ثبوته من الأول لاحتمال

ص: 111

مخالفة الامارة للواقع.

( وقد يقرب ) الاستصحاب بوجه ثالث ، وهو تطبيقه على الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد بالامارة ( بتقريب ) انه بقيام الامارة أو البينة على وجوب شيء أو طهارته ونجاسته يقطع بثبوت الكم الظاهري ووجوب ترتيب آثار الواقع من الطهارة أو النجاسة ، فإذا شك بعد ذلك في نجاسة ما قامت الامارة على طهارته لاحتمال ملاقاته مع النجاسة في الزمان الثاني يستصحب تلك الطهارة الظاهرية لتحقق أركانه جميعا من اليقين السابق والشك اللاحق ، ولا يحتاج إلى احراز الطهارة الواقعية التي هي مؤدى الامارة كي يشكل عليه بعدم احراز الحدوث ( وفيه ) انه يتجه ذلك إذا لم يكن منشأ احتمال مخالفة الامارة للواقع منحصرا بجهة مخصوصة ، والا فمع حصره بجهة مخصوصة ، فلا مجال للاستصحاب ، للقطع بانتقاء الحكم الظاهري حينئذ من غير تلك الجهة ، مثلا لو فرضنا انه شك في طهارة ماء ونجاسته في الصبح من جهة احتمال ملاقاته مع الدم بحيث يكون منشأ الشك في نجاسته منحصرا بالاحتمال المزبور ، فقامت البينة على طهارته في الصبح ، فلا شبهة في أن ما يقتضيه التعبد بالبنية من الطهارة الظاهرية للماء المزبور انما هو طهارته من الجهة المزبورة لا مطلقا ولو من غير تلك الجهة ( إذ لازم ) حصر منشأ الشك في نجاسته عند الصبح بالجهة المزبورة هو اليقين بعدم نجاسته من الجهات الاخر ، ومع هذا اليقين يمتنع اقتضاء التعبد بالبنية طهارة الماء حتى من الجهة المعلومة ، فلو شك في بقاء طهارته من غير تلك الجهة المشكوكة أولا في ثاني الزمان بل من جهة احتمال ملاقاته مع البول أو غيره من النجاسات فلا يجري فيه الاستصحاب للقطع بانتفاء الحكم الظاهري من الأول من غير الجهة المشكوكة أولا ( وحينئذ ) فلولا اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي الذي هو مؤدي البنية لا مجال لاجرائه في الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد بها كما هو ظاهر ( هذا كله ) في استصحاب مؤديات الطرق والامارات ، وقد عرفت نفى الاشكال عن جريانه فيها على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونه على نحو تتيمم الكشف واثبات الاحراز التعبدي حتى على القول بتعلق حرمة النقض في لا تنقض بنفس المتيقن

ص: 112

فضلا عما هو المختار من تعلقه بعنوان اليقين.

( واما الاستصحاب ) في مؤديات الأصول المحرزة كالاستصحاب وقاعدة الطهارة على وجه قوى ، ففي جريانه فيها اشكال أقواه العدم ، وذلك لا من جهة عدم احراز ثبوت المستصحب فيها ، لأنه على المختار في لا تنقض من تعلقه بنفس اليقين ، لا قصور في قيامه مقام القطع الطريقي ( بل من جهة ) حصر الغاية فيها باليقين بالخلاف في قوله (عليه السلام) ولكن انقضه بيقين آخر ( فان لازم ) غائية اليقين بالخلاف فيها هو بقاء الحكم المجعول بالأصل واستمراره إلى حين اليقين بالانتقاض ، فمع عدم اليقين بالخلاف لا وجدانا ولا تعبدا كان الحكم المجعول بالاستصحاب السابق باقيا ، ومع بقائه لا يبقى المجال لاجراء الاستصحاب بالنسبة إلى مؤدياتها ، لان الغرض من استصحابها انما هو اثبات الحكم الظاهري وترتيب آثار البقاء عليها وهو حاصل بالاستصحاب السابق الجاري أولا.

( واشكل ) من ذلك استصحاب مؤديات الأصول غير المحرزة كقاعدة الحلية والطهارة على وجه آخر ، بلحاظ عدم كون مؤدياتها الا مجرد اثبات الطهارة أو الحيلة الظاهرية للشيء في ظرف الشك فيهما بلا نظر منها إلى اثبات ان المؤدى هو الواقع ( واما ) استصحاب الحكم الظاهري المجعول في موردها ، فهو أيضا مما لا مجرى له ، لانتفاء الشك الذي هو من أركانه ، للقطع ببقاء الحكم الظاهري المجعول في مواردها ما دام بقاء الشك وعدم حصول الغاية التي هي العلم بالخلاف.

التنبيه الثالث

المستصحب اما ان يكون كليا أو شخصيا ، ( وعلى الثاني ) اما ان يكون فردا معينا قد شك في بقائه ، أو يكون فردا مرددا من طبيعة واحدة أو طبيعتين أو طبايع ، كما أنه على الأول ( تارة ) يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه ( وأخرى ) من جهة تردد الخاص الذي كان

ص: 113

الكلي في ضمنه بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر مع فعل ما يوجب رفع الحدث الأصغر ، والحيوان المردد بين كونه قصير العمر أو طويله مع مضى زمان يقطع عادة بعدم بقاء القصير في طول هذا الزمان ( وثالثة ) من جهة احتمال وجود فرد آخر للكلي غير الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ( وهذا ) أيضا على قسمين ، فان الفرد الآخر المحتمل ، تارة يحتمل وجوده في زمان الفرد الآخر ، وأخرى يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاعه ، وذلك أيضا ( تارة ) في الافراد المتواطئة ( وأخرى ) المشككة ( ثم ) الأثر الشرعي في فرض كون المستصحب من الموضوعات ( تارة ) مترتب على نفس الكلى والجامع بين الفردين ( وأخرى ) على أحد الفردين بلا ترتبه على عنوان الجامع ( وثالثة ) على كل منهما ، فهذه جهات وصور لهذا التقسيم.

ولنقدم الكلام في الاستصحاب الشخصي ( فنقول ) : أما إذا كان المستصحب شخصا معينا فلا اشكال في صحة استصحابه لتمامية أركانه جميعا من اليقين السابق والشك اللاحق ( واما ) إذا كان شخصا مرددا بين الشخصين كأحد الفردين أو الانائين في مثال العلم الاجمالي بوجوب أحدهما أو نجاسته ( فتارة ) يكون الشك في بقاء المعلوم بالاجمال من جهة ارتفاع أحد الفردين أو خروجه عن الابتلاء ( وأخرى ) من غير تلك الجهة ( فان كان ) الشك في البقاء من جهة ارتفاع أحد فردي الترديد ، فلا يجري فيه الاستصحاب ( لا لتوهم ) عدم اجتماع أركانه فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء ( بل لعدم ) تعلق اليقين والشك بموضوع ذي اثر شرعي ( لأنه ) يعتبر في صحة التعبد بالشيء تعلق اليقين والشك به بالعنوان الذي يكون بذلك العنوان موضوعا للأثر الشرعي ، والا فلا يكفي تعلق الشك بغيره من العناوين التي لم يكن كذلك ( والأثر الشرعي ) في أمثال المقام انما هو لمصداق الفرد بما له من العنوان التفصيلي ، كصلاة الظهر والجمعة ، والقصر والتمام ، ونجاسة هذا الاناء وذاك الآخر بواقعه وعنوانه التفصيلي ، ومثله مما اختل فيه أحد أركانه وهو الشك في البقاء ، لكونه بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، بل ويختل فيه كلا ركنيه

ص: 114

جميعا ( واما العنوان ) الاجمالي العرضي ، كعنوان أحد الفردين أو الفرد المردد ، أو ما هو موضوع الأثر ونحوها من العناوين العرضية الاجمالية ، فهي وان كانت متعلقة لليقين والشك ، ولكنها بأسرها خارجة عن موضوع الأثر ( إذ لم يترتب ) اثر شرعي في الأدلة على شيء من هذه العناوين العرضية ، فلا يجرى الاستصحاب حينئذ لا في العنوان الاجمالي ، ولا في العناوين التفصيلية ، لانتفاء الأثر الشرعي في الأول ، وانتفاء الشك في البقاء في الثاني.

( وبهذه ) الجهة منعنا عن جريان الاستصحاب في المفاهيم المجملة المرددة بين المتباينين أو الأقل والأكثر ، كالشك في مفهوم زيد المردد بين زيد بن عمرو وزيد ابن خالد ، والشك في أن النهار تنتهي بغياب القرض أو بذهاب الحمرة المشرقية ، والشك في مفهوم الرضاع الموجب لنشر الحرمة في أنه ما بلغ عشر رضعات ، أو خمسة عشر رضعة ، وفي مفهوم الكر المردد قدره بين ما يساوي سبعة وعشرين شبرا ، أو ثلاثة وأربعين تقريبا ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلا يصح استصحاب المفهوم المردد بين المفهومين بعد موت زيد بن عمرو ، ولا استصحاب النهار بعد غياب القرض ، ولا استصحاب عدم تحقق الرضاع المحرم بعد تحقق عشر رضعات ، ولا عدم كرية الماء بعد بلوغه الحد الأول ، كل ذلك لما ذكرنا من انتفاء الأثر الشرعي فيما هو المشكوك ، وانتفاء الشك في البقاء فيما له الأثر الشرعي ، لكونه دائرا بين المقطوعين ( وبذلك ) أيضا يتضح الفرق بين الفرد المردد ، وبين القسم الثاني من الكلى ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر ( فان ) صحة الاستصحاب هناك انما هو من جهة ان لنفس الكلى اثر شرعي وهو المانعية عن الصلاة مثلا ، بخلاف الفرد المردد ، فان الأثر الشرعي فيه انما يكون للشخص لا لعنوان أحد الشخصين والفرد المردد ( وهذه ) الجهة هي العمدة في الفرق بين المقامين ، لا بصرف كون الجامع المتعلق للشك واليقين ذاتيا هناك وعرضيا هنا ( ولذا ) لو فرض ترتب اثر شرعي هنا أيضا على مثل هذا الجامع العرضي نقول : فيه بجريان الاستصحاب ( كما ) ان في طرف الكلى لو كان الأثر الشرعي لنفس الحصة أو الفرد لا للكلي والجامع الذاتي بين الفردين نقول فيه بعدم

ص: 115

جريان الاستصحاب.

( وتوهم ) ان الأصل انما لا يجرى في الفرد المردد إذا كان العنوان الاجمالي بما هو هو وفي حيال ذاته مقصودا في الاستصحاب ( واما ) إذا كان ملحوظا على وجه الطريقية والمشيرية إلى ما هو الموضوع للأثر بنحو الاجمال ، فلا محذور في استصحابه ، لأنه بهذا اللحاظ يكون وسيلة لايصال التعبد بالبقاء إلى ما هو الموضوع للأثر الشرعي ( مدفوع ) بأنه لو سلم ذلك فإنما هو في فرض قابلية ما يحكى عنه العنوان الاجمالي لأعمال التعبد فيه ، والمفروض عدم قابليته لذلك ، لعدم تعلق الشك بعنوان من العناوين التفصلية ( فإنه ) ان اخذ كونه وجها وعنوانا لهذا الفرد كان مقطوع البقاء ( وان ) اخذ كونه عنوانا للفرد الآخر كان مقطوع الارتفاع ( فعلى كل تقدير ) لاشك في البقاء الا بعنوان أحد الفردين أو الفرد المردد أو بغيرهما من العناوين الاجمالية العرضية ، وبعد خروج مثلها عن حيز الأثر الشرعي فلا يجرى الاستصحاب فيها كما هو ظاهر.

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ظهر الحال فيما لو كان الشك في بقاء الفرد المردد من غير جهة اليقين بارتفاع أحد الفردين ، كما لو علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين مع احتمال زوال نجاسته بورود مطهر عليه من مطر ونحوه ، فإنه على ما ذكرنا لا يجرى فيه الاستصحاب أيضا ، لا في العنوان الاجمالي ، لاعتبار قيد الأثر في متعلقه ، ولا في كل واحد من الانائين ، لانتفاء اليقين بالنجاسة بالنسبة إليهما ( لان ) اليقين انما تعلق بأحدهما اجمالا المردد انطباقه على هذا الاناء وذاك الآخر ( وبعد ) احتمال طهارة كلا الانائين فعلا ، يرجع فيهما إلى قاعدة الطهارة ، بل استصحابها لاجتماع أركانه فيهما من اليقين بالطهارة والشك في البقاء ، ( وان أبيت ) الا عن جريان استصحاب النجاسة في هذه الصورة فليكن ذلك باجرائه في كل واحد من الطرفين لا في العنوان الاجمالي الذي لا اثر له ( بتقريب ) استتباع العلم الاجمالي المزبور لليقين بنجاسة كل واحد منهما في فرض انطباق المعلوم عليه ، فإنه مع هذا اليقين المنوط بكل واحد منهما يتحدد متعلق الشك واليقين فيهما فيجرى فيهما الاستصحاب ، وبالعلم الاجمالي بتحقق المعلق عليه في

ص: 116

أحدهما يعلم بتنجز أحد الاستصحابين فيترتب عليه الأثر فتأمل ( ولكن ) مثل هذا التقريب لا يجري في فرض اليقين بارتفاع أحد الفردين ، إذ لا يعلم بتحقق المعلق عليه في طرف المشكوك الباقي ، كي يترتب عليه اثر عملي كما هو ظاهر.

( ثم إن ) ما ذكرنا من المنع المذكور لا يختص بالاستصحاب ، بل يجري في عامة الأصول ، لاطراد وجه المنع في جميعها ( ويترتب ) على ذلك أنه لو صلى عند اشتباه القبلة إلى الجهات الأربع وبعد الفراغ منها علم بفساد واحدة منها معينة ، فإنه على ما ذكرنا لا يجوز الاكتفاء بالبقية في تفريغ الذمة ، بل تجب إعادة تلك الصلاة بعينها ، لعدم جريان قاعدة الفراغ في العنوان الاجمالي المردد ، كالصلاة إلى القبلة المرددة ، أو ما هو المأمورية بهذا العنوان الاجمالي ، وعدم اثمار جريانها في البقية لعدم العلم بان القبلة فيها ( بخلاف ) ما إذا علم بفساد واحدة منها مرددة ، فإنه لا يجب إعادة الصلاة ، لجريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى كل واحدة من الصلوات المأتية ( فان ) كل واحدة منها في فرض كونها إلى القبلة مما يشك في صحته وفساده بشك حادث بعد الفراغ فتجري فيها القاعدة ( غاية الامر ) يعلم اجمالا بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع ، وهو أيضا غير ضائر لاحتمال كون الفاسدة هي المأتية إلى غير القبلة ( ومثل هذا ) التفصيل من نتائج عدم جريان الأصل في العنوان الاجمالي المردد ، لاختصاص موضوعه بالشك المتعلق بما له الأثر بعنوانه التفصيلي ( والا ) فعلى فرض اطلاقه بالنسبة إلى الشك بكل عنوان لا مجال للتفصيل المزبور ( بل اللازم ) هو المصير إلى جريان القاعدة حتى في فرض العلم بفساد واحدة منها معينة ( إذ حينئذ ) يصدق الشك في صحة ما هو المأمور به وفساده بهذا العنوان الاجمالي بشك حاصل بعد الفراغ ، مع أنه لا يظن التزامه من أحد ، وعليه فلا يتم التفصيل المزبور بين فرضي المسألة الا بما ذكرناه.

( ثم انه ) لو قلنا بكفاية مرآتية العنوان الاجمالي المشكوك لما له الأثر الشرعي في صحة التعبد ببقائه ، لا يرد عليه اشكال بعض الأعاظم قده باختلاله في أحد

ص: 117

أركانه ، لانتقاء الشك ببقاء العنوان المردد بما هو كذلك بعد العلم بارتفاع أحد الفردين وبقاء الاخر ، واستلزامه التعبد بما هو معلوم البقاء وبما هو معلوم العدم ( بتقريب ) ان معنى استصحاب الفرد المردد انما هو التعبد ببقاء الحادث على ما هو عليه من الترديد وهو يقتضي الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير سواء كان هو الفرد الزائل أو الباقي وهو ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير وبقائه على تقدير آخر ( إذ فيه ) ان هذا الاشكال يتجه في فرض سراية اليقين والشك من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى عناوين الأطراف التفصيلية ( والا ) ففي وقوفهما على العنوان الاجمالي وعدم سرايتهما إلى العناوين التفصيلية ولا إلى المعنونات الخارجية كما حققناه في مبحث البراءة والاشتغال بشهادة اجتماع الشك واليقين في العلوم الاجمالية ، فلا مجال لهذا الاشكال ، ( فإنه ) كما أن اليقين الاجمالي بالعنوان المردد لا ينافي الشك التفصيلي بكل واحد من الأطراف بل يجتمع معه ( كذلك ) الشك الاجمالي ببقاء العنوان المزبور لا ينافي اليقين التفصيلي بارتفاع بعض الأطراف وبقاء البعض الاخر ، ومعه لا قصور في استصحاب العنوان المردد لاجتماع أركانه فيه من اليقين السابق والشك اللاحق ( فإنه ) من جهة احتمال انطباقه على الفرد الزائل يشك في بقاء ما تعلق به اليقين السابق فيجري فيه التعبد بالبقاء من دون اقتضائه التعدي إلى العناوين التفصيلية كي يلزم التعبد بما هو معلوم الوجود وما هو معلوم العدم ( كيف ) وان التعبد الاستصحابي تابع يقينه وشكه وبعد عدم تعديهما من العنوان الاجمالي إلى العناوين التفصيلية لا يكاد يتعدى التعبد بالبقاء أيضا عن مورد يقينه وشكه كما هو ظاهر ( ولعمري ) ان المنشأ كله للاشكال المزبور انما هو تخيل اعتبار كون المستصحب في الفرد المردد مشكوك البقاء في الزمان المتأخر بجميع عناوينه حتى بعنوانه التفصيلي المنطبق على الفرد الزائل أو الباقي ( ولكنه ) كما ترى فان القدر المستفاد من قوله (عليه السلام) لا تنقض اليقين بالشك انما هو اعتبار مجرد تعلق الشك في الزمان المتأخر بعين ما تعلق به اليقين السابق من العنوان ، فإذا كان المتعلق للعلم هو العنوان الاجمالي المردد انطباقه على أحد الفردين ، يكون معنى الشك فيه عبارة عن الشك ببقاء ذاك

ص: 118

العنوان المردد انطباقه على أحد المعلومين ، لا ان معناه كونه مشكوك البقاء بجميع العناوين حتى بالعنوان التفصيلي المنطبق على الفرد الزائل أو الباقي ( كيف ) ولازم البيان المزبور هو الاشكال في استصحاب القسم الثاني من الكلى المردد بين القصير والطويل.

( فإنه ) بعد أن كان الكلى بعروض التشخصات عليه يتحصص في الخارج بحصص متعددة بحيث يصير مع كل شخص وخصوصية حصته من الطبيعي غير الحصة الأخرى مع شخص فرد آخر ، كما اشتهر بان مع كل فرد أب من الطبيعي ، لان نسبة الطبيعي إلى الافراد كنسبة الآباء إلى الأولاد ، لا كالأب الواحد ، فلا محالة يكون مرجع العلم الاجمالي في الكلى إلى العلم بحدوث حصة من الطبيعي متخصصة بخصوصية خاصة مرددة بين كونها مقطوع الارتفاع وبين كونها مقطوع البقاء ، فيجئ فيه أيضا ما في الفرد المردد من الاشكال ( وهو ) كما ترى ( إذ هو ) مع كونه خلاف ما عليه المعظم ، لا يلتزم به المستشكل المزبور أيضا ( وحينئذ ) فكما يدفع الاشكال في الكلى بعدم اضرار اليقين بارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر في أركان استصحابه ، بدعوى تعلق اليقين والشك فيه بالجامع الاجمالي المحتمل الانطباق على كل واحد من الفردين لا بالعناوين التفصيلية ، ولا بالمحكيات الخارجية ، فلا ينافي اليقين بارتفاع أحد الفردين وبقاء الآخر مع اجتماع اليقين والشك في نفس الكلى والجامع المحتمل الانطباق على كل واحد من الفردين ( كذلك ) يدفع به الاشكال في الفرد المردد ( إذ لا فرق ) بينهما الا من جهة كون الجامع المتعلق للعلم ذاتيا في الكلى وعرضيا في الفرد المردد ، وهو أيضا غير فارق بعد وقوف اليقين في المقامين على نفس الجامع الاجمالي وعدم سرايته إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية للافراد ( ولازم ) ذلك بعد تعلق الشك ببقاء العنوان المزبور ولو من جهة الشك في انطباقه على الفرد الزائل أو الباقي هو جريان الاستصحاب فيه بعين جريانه في الكلى ، لولا شبهة انتفاء الأثر الشرعي فيه ( وقد تقطن ) المستشكل المزبور لهذا الاشكال في الكلى ، فاورد على نفسه بان اليقين في الكلى أيضا لم يتعلق الا بحدوث حصة من الكلى متخصصة بخصوصية

ص: 119

خاصة وتلك الحصة أمرها يدور بين ما يكون مقطوع البقاء ، وما يكون مقطوع الارتفاع فيكون حال الكلى الموجود في ضمن الفرد المردد حال نفس الفرد المردد ( ولكنه ) أجاب عنه بان وجود الكلى وان كان بوجود الفرد وزواله بزواله ، الا انه ليس الكلى مما ينتزع عن الفرد ، بل هو متأصل الوجود في الخارج على ما هو التحقيق من وجود الكلى الطبيعي ، ومن دون فرق بين الأمور العينية التكوينية ، وبين الأمور الاعتبارية أو الشرعية ( فالعلم ) بوجود الفرد المردد يكون منشأ للعلم بوجود الكلى والقدر المشترك خارجا ، وارتفاع أحد الفردين يصير منشأ للشك في بقاء الكلى ، فيثبت كلا ركني الاستصحاب ( أقول ) : وفيه ان المقصود من تأصل الكلى الطبيعي في الخارج ، ان كان وجوده في ضمن الفرد بوجود شخصي مستقل قبال الخصوصيات الفردية ، ففساده أوضح من أن يبين ، فان لازمه اتحاد جميع الافراد المتحدة مع الطبيعي في وجود واحد شخصي ( وان كان ) المقصود وجوده بوجود نوعي أو جنسي ، فهو أوضح فسادا ، بداهة انه لا وجود للكلي بوصف الكلية الصادقة على الكثيرين في الخارج وانما صقعه بهذا النحو في موطن الذهن لا الخارج ، فالخارج هو موطن الحصص المعروضة للتقيدات والتفحصات ( وان كان ) المقصود من وجوده باعتبار وجود حصصه المقرونة بالخصوصيات الفردية ، نظرا إلى تكثر الطبيعي في الخارج بعروض التشخصات عليه وتحصصه بحصص متعدده بنحو يصير مع كل فرد حصة من الطبيعي تغاير الحصة الأخرى الموجودة في ضمن الفرد الآخر ، غاية الأمران العقل ينتزع من هذه الحصص بلحاظ وحدتها السنخية وكونها تحت جنس واحد وفصل فارد مفهوما واحدا فيناله في الذهن بنحو الكلية الصادقة على الكثيرين ، فهو متين جدا ( ولكن ) يتوجه عليه سؤال الفرق بين الكلى وبين الفرد المردد ، في أنه بعد عدم اضرار اليقين بارتفاع إحدى الحصتين وبقاء الأخرى في أركان الاستصحاب في الكلى ولو من جهة دعوى تعلق اليقين بنفس الكلى بصورته الذهنية ووقوفه على الجامع المحتمل الانطباق في الخارج على كل واحد من الفردين ، وعدم سرايته إلى عناوين الحصص الفردية ( فليكن ) كذلك في الفرد المردد ، لان فيه أيضا يكون

ص: 120

اليقين متعلقا بالجامع العرضي والعنوان الاجمالي المحتمل الانطباق على كل واحد من الفردين المعلوم ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ( إذ لا فرق ) بينهما الا بصرف كون الجامع المعروض للعلم ذاتيا في أحدهما وعرضيا في الآخر ( وتوهم ) ان الوحدة السنخية بين الحصص التي هي منشأ انتزاع مفهوم واحد بعد أن تكون جهة زائدة عن الحصص فلا بد من وجودها خارجا ، فلا يمكن انتزاع مفهوم واحد منها مع تغاير كل واحدة من الحصص مع الأخرى ( مدفوع ) بمنع كونها جهة زائدة عنها بنحو يكون لها وجود مستقل قبال وجودات الحصص ، بل هي جهة ذاتية لها وان وجودها بعين وجود الحصص لا بوجود زائد عن وجودها كما هو واضح ( ولعله ) إليه نظر من يقول بان وجود الطبيعي بمعنى وجود افراده فيكون المقصود عينية وجوده مع وجود حصصه المحفوظة في ضمن الافراد وانه لا وجود له مستقلا في الخارج في قبال وجودات الحصص ، لا ان المقصود هو عينية وجوده لوجود افراده ، والا فمن الواضح انه بالنسبة إلى الافراد يكون وجوده ضمنيا لا عينيا ( وحينئذ ) فالعمدة في الاشكال على استصحاب الفرد المردد ما ذكرناه من انتفاء الأثر الشرعي فيما تم فيه أركانه وهو العنوان الاجمالي العرضي وعدم تمامية أركانه فيما له الأثر الشرعي ، هذا كله في استصحاب الفرد المردد ( واما الاستصحاب الكلى ) فهو على اقسام.

( القسم الأول )

استصحاب الكلى المتحقق في ضمن فرد بعينه كالانسان المتحقق في ضمن زيد ولا اشكال في صحة استصحابه ( فإنه بعد ) ما يلازم العلم بوجود الفرد للعلم بوجود الكلى المتحقق في ضمنه ويلازم الشك في بقاء الفرد للشك في بقاء الكلى ، فلا محاله يجرى الاستصحاب في كل من الفرد والكلي لتمامية أركانه فيهما ( نعم ) لا بد في صحة الاستصحاب من لحاظ ما يترتب عليه الأثر الشرعي ، فان الأثر الشرعي تارة يكون

ص: 121

لكل من الفرد والكلي ، وأخرى لخصوص الكلى دون الفرد ، وثالثة بعكس ذلك ، ورابعة يكون الأثر لمجموع الفرد والكلي بنحو يكون كل من الفرد والكلي جزء الموضوع للأثر ( فعلى الأول ) يجرى الاستصحاب في كل من الفرد والكلي ، ويترتب على استصحاب كل منهما اثره الخاص ( وعلى الثاني ) يجرى الاستصحاب في خصوص الكلى دون الفرد ( وعلى الثالث ) بالعكس ( وعلى الرابع ) يجرى الأصل في كل من الفرد والكلي باعتبار اثره الضمني على ما هو والتحقيق من كفاية هذا المقدار من الأثر في صحة التعبد بالشيء كما يجرى في مجموع الفرد والكلي.

( القسم الثاني من اقسام الكلى )

استصحاب الكلى المتيقن وجوده في ضمن أحد الفردين الذين يعلم بزوال أحدهما بعينه على تقدير حدوثه وبقاء الآخر كذلك ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر ، والحيوان المردد بين قصير العمر وطويله ، حيث إنه بارتفاع أحد الفردين يشك في بقاء الكلى المتيقن وجوده في ضمن أحدهما ( ولا ينبغي الاشكال ) في جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضا لتمامية أركانه فيه من اليقين السابق والشك اللاحق ، فان العلم بحدوث أحد فردي الترديد علم بوجود الكلى والقدر المشترك بينهما ، والقطع بزوال أحد الفردين لو كان هو الحادث وبقاء الاخر كذلك موجب للشك في بقاء الكلى ، لاحتمال ان يكون الحادث هو الفرد الباقي الذي يلازم بقائه بقاء الكلى ( فإذا ) كان الكلي بنفسه اثرا شرعيا أو موضوعا لاثر شرعي ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر ، الحيوان المردد بين قصير العمر وطويله ، فيجري فيه الاستصحاب ، ويترتب على استصحابه ما له من الآثار ، كالمانعية عن الدخول في الصلاة وحرمة مس كتابة القرآن في نحو الحدث المردد ( نعم ) لا يترتب على استصحابه الآثار الشرعية المترتبة على خصوصية الفرد من نحو حرمة الدخول في المسجد والمكث فيه وحرمة قرائة

ص: 122

العزائم ، لأنها من آثار كون الحادث هو الحدث الأكبر والأصل الجاري في الكلي القدر المشترك لا يثبت مثل تلك الآثار.

( ثم ) لا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون العلم بوجود الكلي المردد بين الفردين قبل العلم بارتفاع أحد فردي الترديد ، وبين ان يكون بعد العلم بارتفاعه ، كما لو خرج منه بلل تخيل كونه بولا فتوضأ ثم بعد ذلك حصل له العلم الاجمالي بان البلل بول أو مني ، كما لا فرق بين ان يكون الأثر مترتبا على صرف وجود الكلي ، وبين ان يكون مترتبا على وجود الساري على اشكال في الأخير كما سنذكره ( وتوهم ) خروج الفرض الأول عن مجرى الاستصحاب بلحاظ ان اثر المانعية عن الدخول في الصلاة وعدم جواز مس كتابة القران مترتب بنفس العلم الاجمالي بالحدث المردد بين الأصغر والأكبر في المرتبة السابقة عل تحقق موضوع الاستصحاب وهو الشك في بقاء الحادث خصوصا على القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، فيكون فعل ما يوجب رفع الحدث الأصغر بمنزلة تلف أحد الأطراف بعد العلم الاجمالي في تأثيره في التنجيز ، فلا ينتهي التوبة معه إلى اثبات المانعية باستصحاب بقاء الحدث ( مدفوع ) غاية الدفع ، فان مجرد علية العلم الاجمالي لحكم العقل بالاشتغال ووجوب الموافقة القطعية لا يمنع عن جريان استصحاب الحدث بعد حكومة الأصل المزبور على قاعدة الاشتغال نعم ثمرة الاستصحاب تظهر في صورة حدوث العلم الاجمالي بعد تلف أحد الفردين ولكن ذلك لا يقتضي تخصيص جريانه في هذه الصورة.

( ثم انه ) أورد على استصحاب الكلي بوجوه ( منها ) ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الباقي وأصالة عدم حدوثه ترفع الشك عن الكلي ، لان الأصل الجاري في السبب رافع ومزيل لموضوع الأصل الجاري في المسبب ومع جريان الأصل فيه لا مجال لجريانه في الكلي والقدر المشترك ( وقد ) أجاب عنه الشيخ قدس سره بان ارتفاع القدر المشترك انما هو من لوازم كون الحادث الفرد المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الفرد الباقي ، وانما لازمه ارتفاع القدر المشترك الذي كان في ضمنه لا ارتفاع القدر المشترك بين الامرين وبينهما فرق

ص: 123

واضح ( وفيه انه ) كما أن احتمال ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث هو الفرد الزائل ، كذلك احتمال بقائه من لوازم كون الحادث هو الفرد الباقي ، فلا وجه لجعل الشك في بقاء الكلى من لوازم خصوص احتمال كون الحادث هو الفرد الزائل ( فالأولى ) في الجواب عن الشبهة منع السببية والمسببية بينهما ( بدعوى ) ان الشك في بقاء الكلى وارتفاعه انما كان مسببا عن العلم الاجمالي بان الحادث هو الفرد الزائل أو الباقي ، ولا أصل يصلح لتعيين ما هو الحادث ( فان ) أصالة عدم كون الحادث هو الفرد الطويل بنحو مفاد ليس الناقصة مع أنها لا مجرى لها في نفسها لانتفاء ركنها الذي هو اليقين السابق ، لا يثبت كون الحادث هو الفرد القصير ، ولا ارتفاع القدر المشترك ( واما ) أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بنحو مفاد ليس التامة فهي أيضا غير مثبتة لارتفاع القدر المشترك ولو على فرض السبية والمسببية بينهما ، ( لان ) الترتب بينهما عقلي لا شرعي ، بداهة عدم كون الترتب بين الكلى والفرد في الوجود والعدم من المجعولات الشرعية وانما هو عقلي محض حتى في مثل الحدث والجنابة ( لان ) ما هو مترتب عليها انما هو طبيعة الحدوث مهملة ، لا الطبيعة المطلقة والقدر المشترك بينهما وبين غيرها ، وترتب عدم هذه على عدم الجنابة عقلي لا شرعي ، فتجري حينئذ أصالة بقاء الكلى والقدر المشترك بلا مزاحم ( نعم ) لو اغمض النظر عن هذه الجهة وقيل بشرعية الترتب بين وجود الكلى ووجود الفرد اما مطلقا أو في بعض المقامات ( فلا مجال ) لاشكال بعض الأعاظم عليه بمعارضة الأصل فيه مع أصالة عدم حدوث الفرد القصير فيبقى استصحاب بقاء الكلى والقدر المشترك بحاله بعد تساقطهما ( إذ فيه ) انه مع خروج الفرد الزائل عن مورد الابتلاء لا يجري فيه الأصل كي يعارض مع الأصل الجاري في الفرد الطويل ( ودعوى ) انه بمجرد العلم بحدوث أحد الفردين والشك فيما هو الحادث تجرى أصالة عدم الحدوث في كل منهما فتسقط بالمعارضة ( مدفوع ) بأنه كذلك إذا كان العلم الاجمالي حاصلا قبل خروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء ، لا ما إذا كان حاصلا بعد تلفه وخروجه عن الابتلاء ( وحينئذ ) لا معنى لجريان أصل العدم في طرف التالف والخارج عن الابتلاء ، مع أن ثمرة استصحاب الكلى انما

ص: 124

تظهر في هذه الصورة ، والا ففي الصورة الأولى تكفي قاعدة الاشتغال لاثبات المطلوب وان لم نقل بجريان استصحاب الكلى كما هو واضح.

( ومنها ) ان الكلى الطبيعي مما ينتزع عن الفرد ولا وجود له في الخارج حتى يتعلق العلم بوجوده وانما الخارج موطن منشأ انتزاعه من الافراد الخاصة الجزئية وهي التي تكون موضوعا للآثار الشرعية ( ومع ذاك ) كيف يجري الاستصحاب في الكلى بما هو كلي ( ويظهر ) فساده مما قد مناه سابقا ، فان المراد من الكلى الذي هو معروض الاحكام هو ما يكون منشأ لانتزاع هذا المفهوم أعني الجهة المشتركة المحفوظة بين الحصص الموجودة الخارجية ولا اشكال في تحققه في الخارج بعين وجود الحصص المقرونة بالتشخصات الفردية ( نعم ) هي بنحو الكلية وسعة الانطباق على كل فرد لا يكون موطنها الا الذهن ، حيث ينال العقل من شخص الموجود الخارجي الواجد لحيثية الطبيعي ولحيثيات أخرى صرف الجهة المشتركة بينه وبين غيره فتجيء في الذهن مجردة عن العلائق والضمائم بنحو تكون لها سعة الانطباق على كل فرد من غير أن يكون ما في الذهن من الصورة المجردة مخالفا مع ما في الخارج من صرف الشيء المقرون بالتشخصات كما هو ظاهر.

( ومنها ) انه مع احتمال كون الكلى في ضمن الفرد القصير الذي يعلم بارتفاعه لو كان هو الحادث ، يحتمل انتقاض اليقين السابق بيقين آخر ، ومع هذا الاحتمال لا مجال للتمسك بعموم حرمة نقض اليقين بالشك ، لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام لا للمخصص المنفصل ( وفيه ) ما لايخفى ، فان غاية ما يقتضيه اليقين بانعدام شخص الفرد انما هو اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه ، لا اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في الفردين أعني الجهة المشتركة بينهما ، ومتعلق اليقين السابق انما هو الجهة المحفوظة بينهما على نحو يكون له نحو تعلق بكل واحد منهما ( ومثله ) من المستحيل ان يتعلق به اليقين الناقض بمحض تعلقه بفرد واحد ، ومعه كيف يحتمل انتقاض اليقين السابق المتعلق بالجهة المشتركة بين الفردين بمحض اليقين بانعدام أحد الفردين كي يكون التمسك بعموم لا تنقض قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية

ص: 125

لنفس العام.

( ومنها ) معارضة استصحاب الكلى بأصالة عدمه المتحقق في ضمن الفرد الطويل بضميمة عدمه المحرز بالوجدان بالإضافة إلى الفرد القصير ، حيث إنه بذلك يثبت عدم الكلى فيترتب عليه نقيض الأثر المترتب على وجود الكلى ، نظير الموضوع المركب المحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل فيتعارضان.

( توضيح ) ذلك هو ان وجود الطبيعي إذا كان عين وجود افراده يكون عدمه أيضا عين عدم افراده بحيث يتسع ويتضيق دائرته وجودا وعدما بكثرة الافراد وقلتها ( غيران ) في طرف الوجود يكون تحقق الطبيعي بوجود فرد واحد ، وفي طرف العدم يكون عدمه بانعدام جميع الافراد ، بلحاظ ان عدمه هو العدم المنبسط في ضمن عدم تمام الافراد بنحو يكون لهذا العدم الواحد مراتب متفاوتة على حسب قلة افراده وكثرتها ( وبهذه ) الجهة قلنا بجريان البراءة العقلية في موارد تعلق التكليف النفسي أو الغيري بعدم الطبيعي في الشبهات المصداقية عند الشك في كون الشيء من افراد الطبيعي المأخوذ عدمه قيدا للمأمور به ، كالشك في كون الحيوان المأخوذ منه الوبر من مصاديق غير المأكول ، نظرا إلى اندراجه بذلك في صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين ، باعتبار مراتب عدم الطبيعي ( حيث ) يعلم بتعلق التكليف بمرتبة من العدم المنطبق على عدم الافراد المعلومة ويشك في تعلقه بمرتبة أخرى من العدم المنطبق على عدم ما شك كونه من افراده ومصاديقه ( وعلى ذلك ) نقول انه بعد أن كان لعدم الطبيعي المنبسط على اعدام الافراد مراتب متفاوتة حسب تكثر اعدام الافراد وقلتها ، فلا جرم يصير بمنزلة الامر البسيط الذي له مراتب ، فإذا شك في تحقق مرتبة منه مع العلم ببقية المراتب ، يكون كالمركب المحرز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان فيجري فيه أصل العدم بالإضافة إلى الجهة المشكوكة ، وبضميمة الجزم بانتفاء الفرد القصير يثبت عدم الكلي والقدر المشترك بينهما في قبال استصحاب بقاء الكلي ، وان لم يثبت به عدم حدوث الجامع من قبل الحادث المشكوك ، ولذا يبقى الشك فيه بحاله ويكون منشأ لجريان استصحاب بقاء الجامع ( وبذلك ) انقدح انه

ص: 126

ليس المقصود من عدم الطبيعي عدمه المستند إلى عدم الحدوث رأسا ، كي يشكل بانتقاضه بالعلم الاجمالي بالحدوث ، بل ولا العدم المستند إلى الارتفاع أيضا ، كي يشكل بان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لا يثبت ارتفاع الكلي والقدر المشترك ، اما لعدم السببية والمسببية بينهما ، واما لكون الترتب بينهما عقليا لا شرعيا ( بل المقصود ) هو العدم الملفق من الارتفاع ببعض المراتب ، ومن عدم الحدوث ببعض المراتب الاخر ( وبمثل ) هذين العدمين يثبت عدم الطبيعي الذي هو نقيض الكلى ، فيترتب عليه نقيض الأثر المترتب على وجود الكلى ، وبعد عدم امكان الجمع بين التعبدين في طرفي النقيض يقع بينها التعارض فيتساقطان ( نعم ) لو كان عدم الطبيعي عبارة عن مرتبة خاصة من العدم الملازم لعدم الافراد خارجا لا عين عدم الافراد ، أمكن الاشكال فيه بمثبتية الأصل المزبور ( ولكن ) ليس كذلك جزما ، والا لاقتضى كونه في طرف الوجود كذلك ، وهو كما ترى خلاف التحقيق ، وحينئذ فإذا كان وجود الطبيعي بعين وجود افراده فلا محالة يكون عدمه أيضا بعين عدمها ، ومعه يتسجل اشكال المعارضة المزبورة ( هذا غاية ) ما يمكن ان يقال في تشييد هذا الاشكال.

( ولكن ) التحقيق ان يقال ان ما أفيد من عينية عدم الطبيعي لعدم جميع الافراد انما يصح بالنسبة إلى غير صرف الوجود مما كان له قابلية الانطباق عرضيا على كل واحد من وجودات الافراد المتعاقبة كالطبيعة المهملة والسارية ( واما بالنسبة ) إلى صرف الوجود الذي ليس له قابلية انطباقه الا على أول وجود الطبيعي لا ثانيه فلا يصح ذلك في مفروض البحث ، لان وجود الطبيعي بهذا المعنى هو ما يكون ملازما للسبق بالعدم ، ومن الواضح ان نقيض هذا المعنى لا يكون الا العدم الخاص الملازم للسبق بنفسه لاعدام الافراد لا عينها ، فان نقيض كل شيء رفعه ، فإذا كان صرف الوجود عبارة عن الوجود الخاص الملازم للسبق بالعدم ، فنفيضه ليس الا رفع هذا المعنى ، ولا يكون ذلك الا العدم الخاص الملازم للسبق لاعدام الافراد لا عينها ( وحينئذ ) فإذا كان الأثر الشرعي مترتبا على صرف الوجود ، كالمانعية وعدم جواز مس كتابة القرآن في مثال الحدث يكون نقيض الأثر مترتبا على نقيض صرف الوجود

ص: 127

الذي هو العدم الخاص ( ومثله ) مما لا يمكن اثباته بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل بضميمة الجزم بزوال الفرد القصير ، ولا يجري فيه حكم المركب المحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ، ولو مع جريانه في البسائط بالنسبة إلى مراتبه فيبقى استصحاب بقاء الكلي حينئذ بحاله ( وان شئت ) قلت إن ما يمكن اثباته من ضم الوجدان والأصل على فرض جريان حكم المركب المحرز بعضه بالواجدان وبعضه بالأصل في البسائط التي لها مراتب انما هو العدم المطلق ، وهو من جهة عدم كونه نقيضا لصرف الوجود لا يكون موضوعا للأثر الشرعي ، وما يكون موضوعا للأثر الشرعي انما هو العدم الخاص الذي هو نقيض صرف الوجود ، ومثله مما لا يمكن اثباته بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل بعد عدم جريان حكم المركب المحرز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان فيه ، فتجري أصالة بقاء الكلي حينئذ بلا معارض ويترتب على استصحابه آثاره ، فتدبر فيما ذكرنا فإنه دقيق وبالتحقيق حقيق.

( ثم انه ) لا فرق في جريان الاستصحاب في هذا القسم بين ان يكون الكلي موضوعا للأثر الشرعي ، كما في مثال الحيوان المردد بين طويل العمر وقصيره إذا فرض ترتب اثر شرعي عليه ، ومثال الحدث المردد بين الأصغر والأكبر ، وبين ان يكون بنفسه حكما واثرا شرعيا ( كالمردد ) بين كونه واجبا نفسيا ، أو واجبا غيريا لواجب آخر قد علم بارتفاعه بنسخ ونحوه ، وكما في العلم الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة مع الاتيان بالجمعة ، فإنه على المختار في مفاد حرمة النقض من رجوعه إلى الامر بالمعاملة مع اليقين الزائل أو المتيقن معاملة الباقي من حيث الجري العملي ، يجري الاستصحاب بالنسبة إلى الكلى والقدر المشترك ويترتب عليه آثاره ، سواء فيه بين ان يكون الكلى موضوعا لاثر شرعي ، وبين ان يكون بنفسه تكليفا واثرا شرعيا ، كمثال الوجوب المردد بين الغيري والنفسي ووجوب الصلاة المردد بين الظهر والجمعة ( نعم ) على القول برجوع هذه التنزيلات إلى جعل الأثر والمماثل ، يشكل جريان الاستصحاب في الكلى فيما كان اثرا شرعيا ، ينشأ ذلك من امتناع جعل كلي الأثر والقدر المشترك بلا كونه في ضمن فصل خاص ( فإنه ) كما يستحيل جعل الوجوب الواقعي مجردا عن الخصوصية النفسية والغيرية ، كذلك يستحيل جعل الوجوب

ص: 128

الظاهري مجردا عن إحدى الخصوصتين ( فلا بد ) حينئذ ، اما من الالتزام بعدم جريان الاستصحاب فيه رأسا ، أو الالتزام بجريانه مع المصير إلى كونه محدودا قهرا بالحد النفسي بالملازمة العقلية ، كما التزم به بعض الأعاظم قده على ما حكى عنه ( بدعوى ) ان ذلك من لوازم الأعم من الواقع والظاهر ، فمتى جرى الاستصحاب بالنسبة إلى الكلى وامتنع تحدده بالحد الغيري لمكان اليقين بارتفاع ما ثبت وجوبه لأجله بنسخ ونحوه يتعين كونه محدودا بالحد النفسي ( ولكنهما ) كما ترى ، فان الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في الكلى في نحو المثال مشكل ، كما أن الالتزام بجريانه فيه واقتضائه بالملازمة العقلية لكونه وجوبا نفسيا أشكل.

( ولكن ) الذي يهون الخطب هو فساد أصل المبنى ، لابتنائه على كون المتكفل للتنزيل في أمثال المقام هو الشارع نظير قوله الطواف بالبيت صلاة ( والا ) فبناء على تكفل المكلف لذلك بايجاب من الشارع بالبناء على بقاء اليقين أو المتيقن عملا الراجع إلى الامر بالمعاملة مع اليقين الزائل أو المتيقن السابق معاملة الباقي عند الشك في بقائه بالجري العملي على طبقه من حيث الحركة أو السكون ، فلا مجال لاستفادة جعل الأثر أو المماثل من نحو هذه الأوامر الظاهرية ، لو ضوح ان التنزيل الناشئ من كل شخص لابد من أن يكون بلحاظ الأثر الناشئ من قبله ، والأثر الناشي من قبل المكلف في أمثال المقام لا يكون إلا عمله ، لاجعل الأثر والمماثل كما هو ظاهر ( ولا فرق ) في ذلك بين القول برجوع النقض في لا تنقض إلى نفس عنوان المتيقن ، أو إلى المتيقن بلحاظ اليقين مرأتا إلى المتيقن في ارجاع النقض إليه ، إذا هو على الأول ظاهر لعدم ترتب اثر شرعي على اليقين الطريقي حتى يكون التنزيل راجعا إلى جعل حقيقة الأثر أو المماثل ، فتعين رجوعه إلى الامر بالمعاملة بابقائه عملا ، ( وكذلك ) على الثاني ، فإنه وان أمكن تصدى الشارع بنفسه للتنزيل بلحاظ جعل حقيقة الأثر أو المماثل ، الا انه يلزم كون النهي المستفاد من الهيئة ارشاديا مخصا ، نظير قوله أطيعوا اللّه ، لان التنزيل مستفاد حينئذ من مادة النقض فيكون النهي المستفاد من الهيئة ارشاديا ( بخلاف ) ما ذكرناه ، فإنه عليه تكون الهيئة على ظاهرها من المولوية ( وعليه ) ترتفع الشبهة المتقدمة في استصحاب

ص: 129

الكلى في نفس الآثار.

( وهم ، ودفع ) قد يورد على استصحاب الكلي في هذا القسم باستلزامه المصير إلى نجاسة الملاقى لأطراف العلم الاجمالي في فرض وقوع الملاقاة بعد تطهير أحد أطرافه معينا ، كما لو علم بنجاسة أحد جانبي عباءة من الأسفل أو الأعلى فغسل منها جانب معين يحتمل كونه هو الجانب المتنجس.

ثم لاقى بدن المصلى مع الرطوبة كلا من جانبيها المطهر وغير المطهر ( حيث ) ان لازم صحة استصحاب الكلى في الفرض المزبور هو الحكم بنجاسة الملاقى لجانبي العباءة المطهر وغير المطهر ، لان ملاقي مستصحب النجاسة كالملاقي للنجس محكوم شرعا بالنجاسة ( مع ) انه باطل قطعا ، ضرورة انه لا يحكم بنجاسة الملاقى للطرف غير المغسول منها ، للشك في ملاقاته مع النجس ، فكيف يحكم بنجاسته بضميمة ملاقاته للطرف المطهر منها ، مع وضوح عدم تأثير ملاقاته للجانب المطهر في نجاسته ( وهذه ) الشبهة مما أورده السيد المحقق السيد إسماعيل الصدر ( قده ) في بعض مجالسه في النجف الأشرف وقد اشتهرت بالشبهة العبائية.

( وقد أجيب ) عنها بوجوه ( منها ) ما عن بعض الأعاظم قدس سره حيث أفاد في المنع عن جريان الاستصحاب في الفرض المزبور على ما في تقرير بعض تلاميذه بان محل الكلام في استصحاب الكلى هو ما يكون المتيقن السابق مما بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ( واما ) إذا كان الاجماع والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته ، فلا يكون من استصحاب الكلى ، بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي تقدم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد الفردين ، كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل ان يكون الحيوان في الجانب الغربي وتلف بانهدامه ( أو علم ) بوجود درهم خاص لزيد فيما بين الدراهم العشر ثم ضاع درهم من الدراهم واحتمل كونه درهم زيد ( أو علم ) بإصابة العباءة نجاسة خاصة وتردد بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم ، طهر طرفها

ص: 130

الأسفل ، ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجرى ، ولا يكون من استصحاب الكلى ، لان المتيقن السابق امر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وانما الترديد في المحل والموضوع ، فهو أشبه شيء باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد وليس من الاستصحاب الكلى ، ثم قال : ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المعروفة ( أقول ) : ولا يخفي ما فيه ( اما المثال ) الأول ، فهو وان كانت تام المطابقة مع الممثل في أن الترديد فيه في محل المستصحب لا في حقيقته وهويته ( ولكن نقول ) انه بعدما كان الشك في المحل موجبا للشك في وجود ما هو معلوم الهوية ، فلا قصور في استصحابه وإذ هو نظير ما لو علم بوجود زيد في الدار وقد علم بأنه شرب مايعا مرددا بين كونا ماء أو سما قاتلا من حيث اقتضاء الترديد في المشروب الترديد في حياته ( فكما ) يجري فيه الاستصحاب ويترتب على بقائه في الزمان المتأخر آثاره الشرعية من حرمة تزويج زوجته وعدم جواز تقسيم أمواله ونحو ذلك ( كذلك ) في نحو المثال ، ومجرد عدم كونه من باب الاستصحاب الكلى غير ضائر بالمقصود ، لان المقصود جريان الاستصحاب في نحو المثال المزبور وان لم يكن من استصحاب الكلى المردد في هويته ، بل كان من باب الاستصحاب الشخصي ( واما المثالين ) الأخيرين ، ( ففيه ) أولا في كونهما من قبيل المثال الأول مناقشة واضحة ، وذلك في الأول منهما وهو مثال الدرهم ظاهر ( لوضوح ) ان الترديد فيه انما يكون من الترديد في الوجود الملازم للترديد في الهوية ، لا من الترديد في محل المتيقن وموضوعه ، فكان الاجمال والترديد في شخص الدرهم الذي كان لزيد في كونه هو الدرهم التالف أو الباقي ( وكذلك ) المثال الأخير ، فإنه بعد الجزم بان النجاسة كالقذارات الخارجية من سنخ الاعراض الخارجية المتقومة بالموضوع والمحل والجزم أيضا بامتناع انتقال العرض القائم بالمحل المتقوم به إلى محل آخر ( نقول ) ان الترديد المتصور في المثال يكون من الترديد بين الوجودين الراجع إلى الترديد في الهوية لا من الترديد في المحل والموضوع ، حيث كان مرجع ذلك إلى تردد تلك النجاسة المعلومة في المثال بين الوجودين أحدهما مقطوع البقاء والآخر مقطوع الارتفاع ، فلا يرتبط ذلك بباب

ص: 131

اجمال موضوع المتيقن ومحله كما في مثال الحيوان المردد كونه في جانب الشرقي من الدار أو الغربي منها كما هو واضح ( وثانيا ) على فرض تمامية الأمثلة المزبورة في كونها من باب الترديد في محل المتيقن وموضوعه : لا في حقيقته ( نقول ) : ان الترديد في المحل بعد ما كان موجبا للترديد في وجود ما هو المتيقن سابقا بشخصيته وهويته ، فلا قصور في استصحابه لتمامية أركانه فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء ، فيستصحب بقاء شخص الدرهم الذي كان لزيد ، وبقاء شخص تلك النجاسة التي أصابت العبائة بعد غسل الجانب الأسفل منها ، فيترتب على بقائها في الزمان المتأخر آثارها الشرعية من المانعية عن صحة الصلاة معها ، فيتوجه حينئذ الشبهة المعروفة ( إذ هي ) غير مبتنية على كون الاستصحاب المزبور من باب الاستصحاب الكلى ، بل هي جارية ولو على فرض كونه من باب استصحاب الشخصي ( واما ) دعوى عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام ولو شخصيا حتى بلحاظ اثر المانعية عن صحة الصلاة ، فهو كما ترى.

( فالانصاف ) ان ايراد ما أفيد تقريبا للاشكال أولى من كونه دفعا له ( فالتحقيق ) في دفع الشبهة ان يقال : انه بعد الجزم بان الطهارة والنجاسة من سنخ الاعراض الخارجية الطارية على الموجودات الخارجية بحيث لابد في عروضها على الشيء من كونه في ظرف الفراغ عن وجوده خارجا ، لا من سنخ الأحكام التكليفية المتعلقة بالطبيعة الصرفة القابلة للانطباق خارجا ( والجزم ) أيضا بان في صحة استصحاب الشيء والتعبد ببقائه لابد من لحاظ الأثر الشرعي المصحح له في كونه من آثار وجوده بنحو مفاد كان التامة أو من آثاره بنحو مفاد كان الناقصة ( ان عدم الحكم ) بنجاسته الملاقى في الفرض المزبور انما هو لأجل ان نجاسة الملاقى من آثار نجاسة الملاقى بالفتح بنحو مفاد كان الناقصة ، لا من آثار صرف وجود النجاسة بنحو مفاد كان التامة ( ومن المعلوم ) ان مثل هذا العنوان لم يتعلق به اليقين السابق حتى يجري فيه الاستصحاب ، إذ كل واحد من طرفي العباءة من الأسفل والأعلى يكون مشكوك النجاسة من الأزل ، والقدر الجامع بين المحلين أيضا بمقتضى المقدمة

ص: 132

الأولى لا يكون معروضا للنجاسة وانما المعروض لها هو الطبيعي الموجود في ظرف انطباقه على الفرد وهو لا يكون إلا هذا الفرد والمحل أو ذاك الفرد والمحل الآخر الذي عرفت عدم تعلق اليقين به ( واما ) استصحاب نجاسة القطعة الشخصية المرددة فهو من استصحاب الفرد المردد الذي عرفت عدم جريانه فيه ( واما ) صرف وجود النجاسة في العباءة بنحو مفاد كان التامة ، فاستصحابه وان كان جاريا لتمامية أركانه فيه من اليقين بالوجود ، والشك في البقاء ( ولكنه ) بهذا العنوان لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقى بالكسر إذ هي من آثار كون الملاقى بالفتح نجسا بنحو مفاد كان الناقصة بحكم سراية النجاسة من الملاقي إلى الملاقى بالكسر ( نعم ) هو بهذا العنوان موضوع لاثر المانعية عن صحة الصلاة ، فإنها على ما يستفاد من الاخبار وكلمات الأصحاب من آثار وجود النجاسة في ثوب المصلى أو بدنه بمفاد كان التامة ، فيجري فيه الاستصحاب بلحاظ الأثر المزبور ، لا بلحاظ اثر نجاسة الملاقى ( وحينئذ ) تندفع الشبهة المعروفة ، إذا لا يلزم من استصحاب طبيعة النجاسة المرددة انطباقها على الجانب الأسفل من العباءة أو الاعلى بلحاظ اثر المانعية بعد تطهير الجانب المعين منه نجاسة الملاقى لطرفي الزائل والباقي كي ترد الشبهة المعروفة فافهم واغتنم ( هذا كله ) فيما يتعلق بالقسم الثاني من استصحاب الكلى.

( القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلى )

ما يكون الشك في بقاء الكلى لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم الذي كان الكلى في ضمنه ( وهذا ) يتصور على وجوه ( فان ) الفرد المحتمل الآخر ( تارة ) يحتمل وجوده مع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، كما لو علم بوجود زيد في الدار يوم الجمعة وخروجه عنها يوم السبت واحتمل وجود عمرو في الدار في حال وجود زيد فيها بحيث بقى هو فيها بعد خروج زيد عنها ( وأخرى ) يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم ، كما لو احتمل دخول عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد

ص: 133

عنها ( وفي هذا القسم ) ( تارة ) يكون المحتمل بقائه فردا مبائنا في الوجود مع الفرد المعلوم وان اشتركا في النوع أو الجنس ، كالمثال المتقدم ( وأخرى ) يكون من مراتبه ، كالسواد الضعيف المحتمل قيامه مقام السواد الشديد ، مع كونه ( تارة ) بمثابة يعد كونه عرفا من مراتب الموجود السابق ( وأخرى ) بنحو يعد كونه عرفا مبائنا معه ، كالحمرة الشديدة التي زالت بورود الماء عليها ولم يبق منها الا مرتبة ضعيفة كادت تلحق الصفرة ، وهذان القسمان تختصان بالتشكيكيات بخلاف الأول فإنه مختص بالمتواطئات وفيه يكون الشك في تبدل فرد بفرد آخر مغاير معه في الوجود ، وفيهما في تبدل حد بحد آخر ( فهذه ) وجوه متصورة للقسم الثالث من اقسام الكلى ( وفي جريان ) الاستصحاب في الجمع ، أو عدم جريانه كذلك ، أو التفصيل فيها بجريانه في الوجهين الأخيرين دون الأولين ، أو جريانه في الوجه الثالث وهو ما يكون المشكوك اللاحق على نحو يعد عرفا من مراتب الموجود السابق ، دون الأولين والوجه الرابع ، وجوه وأقوال ( أقواها الأخير ) اما عدم جريانه في الوجهين الأولين ، وهما صورتا كون الشك في بقاء الكلى لأجل احتمال وجود فرد آخر مع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، أو حدوثه مقارنا لارتفاعه ( فلانه ) لا منشأ لتوهم جريان استصحاب الكلى فيهما الا تخيل ان الطبيعي بعد ما كان وجوده في الخارج بعين وجود فرده وحصته ، فلا محالة يكون العلم بوجود الفرد والحصة ملازما للعلم بوجود الكلى في الخارج ، وبارتفاع الفرد المعلوم والشك في وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الأول أو مقارنا لارتفاعه ، يشك في بقاء الكلى وارتفاعه ، فيجري فيه الاستصحاب لاجتماع أركانه جميعا من اليقين بالوجود والشك في البقاء ( ولكنه ) تخيل فاسد ، فان الطبيعي وان كان موجودا في الخارج بعين وجود فرده لا بوجود آخر ممتاز عن وجود فرده ( ولكن ) بعد ما يغاير وجوده في الخارج في ضمن كل فرد وجوده في ضمن الفرد الآخر وكان بقائه أيضا كحدوثه تابع بقاء الفرد وحدوثه بلحاظ ان بقاء الشيء هو عين حدوثه حدا في كونه من تبعات الخصوصية الفردية حدوثا وبقاء ، فلا محالة يكون العلم بانعدام الفرد ملازما مع العلم بارتفاع وجود الطبيعي

ص: 134

الذي حدث في ضمنه ( لاستحالة ) بقائه بحده بحدوث فرد آخر منه ، لان ما حدث في ضمن فرد آخر انما هو وجود آخر للكلي غير ما علم بحدوثه في ضمن الفرد السابق ( وحينئذ ) فاحتمال وجود فرد آخر للكلي وان كان احتمالا لوجود الكلى في الخارج في الزمان اللاحق ، ولكن الوجود المشكوك لا يكون بقاء للوجود المعلوم سابقا ، لأنه مما علم بارتفاعه بارتفاع الفرد المعلوم ، فلا يكون الشك في الوجود المشكوك شكا في بقاء ما علم بحدوثه حدا حتى يجرى فيه الاستصحاب ( وبذلك ) يتضح الفرق بين هذا القسم من الكلى وبين القسم السابق ، فان في القسم السابق يكون نفس الكلى والقدر المشترك بين الفردين بوجوده المتحقق في ضمن أحد الفردين مشكوك البقاء والارتفاع في الزمان المتأخر من جهة احتمال كون الحادث هو الفرد الباقي ، ففيه يكون وجود الكلى بحده مركزا لليقين والشك ، بخلاف هذا القسم فان الشك فيه لم يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق ، وانما هو متعلق بوجود آخر للكلي غير ما علم بحدوثه ، فلذلك لا يجرى فيه الاستصحاب ( نعم ) غاية ما تقتضيه العينية بينهما انما هو العينية الذاتية ( ولكن ) مثله لا يكون مدارا لصدق النقض والابقاء في باب الاستصحاب كما لا يخفى.

( وقد أورد ) على الاستصحاب المزبور بوجه آخر وحاصله منع ملازمة العلم بوجود الفرد للعلم لوجود الكلي والقدر المشترك ، بدعوى ان العلم بوجود الفرد انما يلازم العلم بوجود حصة من الكلى المتحقق في ضمنه ، لا العلم بوجود الكلى بما هو هو ، فمع تغاير الحصص لا مجال لجريان الاستصحاب ، لان ما علم بوجوده هي الحصة المتحققة في ضمن الفرد المعلوم ، وقد علم بارتفاعها ، وما شك فيه هي الحصة الأخرى من الكلى غير الحصة المعلومة سابقا ( وفيه ) مالا يخفي ، فان الكلى بعد ما كان بنفسه موجودا في الخارج بعين وجود فرده وحصته ، لا بوجود آخر مغاير لوجود فرده ، لا وجه للمنع عن ملازمة العلم بوجود الفرد والحصة للعلم بوجود الكلى والقدر المشترك الذي هو منشأ انتزاع هذا المفهوم ( كيف ) ولازم المنع المزبور هو المنع عن استصحاب الكلى في القسم الثاني أيضا ، بلحاظ اقتضاء تغاير الحصص لتردد

ص: 135

المعلوم بين الحصتين الموجب لعدم جريان الاستصحاب فيه بعين ما التزم في المنع عن استصحاب الفرد المردد كما أشرنا إليه سابقا ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن استصحاب الكلى في هذا القسم هو ما ذكرناه ( هذا كله ) في استصحاب الوجه الأول والثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلى.

( واما الوجه الثالث ) من القسم المزبور ، وهو ما كان الشك في البقاء لأجل احتمال بقاء مرتبة من المستصحب بعد اليقين بارتفاعه بمرتبة أخرى ، كالسواد الشديد الذي علم بورود الماء عليه فشك في زواله بالمرة أو بقائه بمرتبة أخرى دونه ، فقد عرفت كونه على وجهين من حيث إن المرتبة التي تحتمل بقائها تارة تكون في الضعف بمثابة يحسبها العرف مبائنة مع الموجود السابق ، وأخرى بمثابة تعد كونها عرفا من مراتبه ( اما الوجه ) الأول ، فجريان الاستصحاب فيه مبني على كفاية وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بالمداقة العقلية في جريان الاستصحاب ، والا فعلى ما سيأتي من عدم كفاية ذلك واعتبار وحدتهما بالأنظار العرفية ، فلا يجرى فيه الاستصحاب ( واما ) الوجه الثاني ، فيجرى فيه الاستصحاب بلا كلام لاجتماع أركانه فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء واتحاد القضيتين بالمداقة العقلية والانظار العرفية ، حيث إنه بعد عدم اقتضاء تبادل الحدود اختلافا في ذات المحدود ، كان الموجود السابق بذاته وهويته محفوظا في جميع المراتب المتبادلة شدة وضعفا ، لان التبادل انما كان ممحضا في خصوص الحدود الموجبة لتشخص المرتبة وتميزها عما عداه ، لا في ذات المحدود المحفوظ في جميع المراتب ( فإذا ) احتمل بقاء المستصحب ولو بمرتبة ضعيفة ، فلا جرم يجرى فيه الاستصحاب الكلى لصدق البقاء في مثله على كل من النظر الدقى والعرفي ( بل إن تأملت ) ترى اندراج مثل الفرض في القسم الأول من اقسام استصحاب الكلى الجاري فيه استصحاب كل من الشخص والكلي ، لانحفاظ الموجود الأول بهويته وشخصيته في جميع المراتب المتبادلة وعدم كون الحدودات المختلفة الا من الحدودات العارضة على الفرد فارغا عن فرديته للطبيعي لا من الحدودات المقومة لفردية الفرد فتأمل.

ص: 136

( تذنيبان )

( الأول ) لو كان هناك اثر بسيط للجامع بين الفردين المتفقين في الحقيقة بنحو الطبيعة السارية ، لا صرف الوجود ، وقد علم بوجود فرد للكلي المزبور في زمان وارتفاعه في زمان فشك في وجود فرد آخر للكلي في حال وجود الفرد المعلوم أو حدوثه مقارنا لارتفاعه بلا تخلل عدم بينهما ، فبالنسبة إلى السبب لا شبهة في أنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لما تقدم من انتفاء الشك في البقاء ( واما ) بالنسبة إلى المسبب فالظاهر أنه لا قصور في استصحابه لاجتماع جميع أركانه فيه من اليقين بالوجود والشك في البقاء واتحاد متعلق الوصفين ، حيث يصدق انه كان على اليقين من وجود الأثر فشك في بقائه بارتفاع الفرد المعلوم الحدوث ، لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، نظير استصحاب بقاء هيئة الخيمة بحالها عند احتمال قيام عمود آخر مقام العمود الأول ( واما الاشكال ) عليه باستلزامه المصير إلى الاستصحاب في نظائره من الأسباب والمسببات الشرعية في أبواب التكاليف والأوضاع ، كالزوجية والوكالة والولاية ونحوها ، ( كما لو علم ) انه تزوج زيد هندا بعقد الانقطاع إلى مدة قد علم بانقضائها فشك في بقاء زوجيتها بعد ذلك ، لاحتمال تزويجها ثانيا مقارنا لانقضاء الأول بعقد جديد ، أو علم بوكالة زيد لعمرو في التصرف في ما له في زمان محدود فشك بعد انقضاء الزمان في بقاء وكالته ، لاحتمال انشاء وكالة جديدة له مقارنا لانقضاء الأول ( وكذا ) لو علم بوجوب الصوم عليه إلى مدة معينة بنذر وشبهه فشك في حدوث نذر آخر منه متعلق بصومه من حين انقضاء المدة إلى مدة أخرى إلى غير ذلك من الأمثلة ( حيث ) ان لازم البيان المزبور هو الالتزام بجريان الاستصحاب في نحو الأمثلة المزبورة ، وهو كما ترى لا يظن التزامه من أحد ( فمدفوع ) بالفرق بين ما ذكرناه وبين تلك الأمثلة ، فان الاستصحاب الجاري فيها

ص: 137

انما هو من استصحاب الوجه الأول والثاني من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي ، لان المعلوم السابق فيها فرد من الزوجية والوكالة وهو مما علم بارتفاعه بانقضاء اجله ، وما شك فيه فرد آخر من الزوجية والوكالة احتمل حدوثه بسبب جديد ، فلا يكون المشكوك في الزمان المتأخر عين الفرد المعلوم السابق ، بل مقتضى الأصل فيها هو عدم حدوث ما شك في وجوده في الزمان المتأخر ( وأين ذلك ) وما ذكرنا من استصحاب المسبب في نحو مثال هيئة الخيمة ، فان المستصحب فيه امر وحداني شخصي لا يتغير عما هو عليه من الوحدة الشخصية ولا يتعدد وجوده بتبادل أعمدة الخيمة ( مع أن ) بين مفروض الكلام والأمثلة المزبورة فرق آخر ، وهو ابتلاء الأصل الجاري فيها بالأصل الحاكم عليه وهو استصحاب عدم وجوب السبب الجديد ، فإنه يترتب على استصحابه بضم الوجدان السابق عدم وجود المسبب شرعا ( بخلاف ) ما فرضناه من نحو مثال الخيمة ، فإنه من جهة كونه من الأسباب والمسببات الخارجية لا يجري فيه الأصل في السبب حتى يقدم على استصحاب المسبب أو يعارضه ، لعدم كون الترتب في مثله الا عقليا محضا ، بخلاف الأمثلة المزبورة ، فإنها من جهة كونها من قبيل الأسباب والمسببات الشرعية يكون الترتب فيها شرعيا لا محالة ، وبذلك يجري فيها الأصل في السبب وبانضمام ذلك مع الوجدان السابق يترتب انتفاء المسبب فتدبر.

( التذنيب الثاني ) قد جرى ديدن الاعلام على التمثيل لاستصحاب القسم الثاني من الكلى باستصحاب الحدث المردد بين الأكبر والأصغر عند خروج البلل المردد بين البول والمني ( وحيث ) ان للفرض المزبور شقوق متعددة ، من حيث الجهل بالحالة السابقة على خروج البلل ، أو العلم بها من حيث الطهارة أو الحدث من الأكبر أو الأصغر ( فالحري ) هو التعرض لتلك الشقوق وافراد كل واحد منها بالبحث من حيث كونه مجرى للاستصحاب وعدمه ( فنقول ) : أما إذا لم يعلم بالحالة السابقة أو علم بها وكانت هي الطهارة ، فالأشبهة في كونه مجرى لاستصحاب الحدث ، بل هو المتيقن من مورد كلماتهم ، فإنه حين خروج البلل المردد يعلم بتحقق طبيعة الحدث والحالة المانعة عن صحة الصلاة ، وبعد فعل الوضوء يشك في ارتفاع الحدث فيجرى فيه

ص: 138

الاستصحاب بلحاظ آثار الجامع والقدر المشترك بين الفردين من نحو المانعية عن الصلاة وعدم جواز مس كتابة القرآن ، وان لم يترتب عليه آثار خصوصية الحدث الأكبر ، كحرمة دخوله في المسجد ومكثه فيه ، وحرمة قرائة العزائم ( واما ) إذا كانت الحالة السابقة هي الحدث ( فان ) كان الحدث المعلوم هو الأكبر اي الجنابة ، فلا شبهة في عدم كونه مجرى للاستصحاب الكلى ، بل هو خارج عن فرض كلامهم في المقام الذي هو فرض الشك في بقاء الحدث بعد فعل الوضوء قطعا ، بداهة عدم كون مثل الفرض من موارد العلم بالحدث المردد بين الزائل والباقي ، فلا محيص حينئذ من الغسل ، وبدونه يقطع تفصيلا ببقاء الحدث السابق ولو مع الاتيان بالوضوء ، من غير فرق بين القول بعدم تأثير الحدث بعد الحدث أو القول بتأثيره كما هو واضح ( واما ان كان ) الحدث السابق هو الأصغر ( فان قلنا ) بعدم المضادة بين الحدثين وامكان اجتماعهما في زمان واحد في محلين بحيث عند طرو الأكبر يكون المتحقق شخصان من الحدث ، غاية الامر انه مع اجتماعهما لا تأثير للأصغر في ايجاب الوضوء ، لانحصار الرافع حينئذ بما يقتضيه الأكبر وهو الغسل ، فلا مجال أيضا لاستصحاب الكلى ، لأنه من استصحاب الوجه الأول من القسم الثالث من اقسام الكلى الذي كان الشك في بقائه لأجل الشك في مقارنة فرد آخر للفرد المعلوم وجوده سابقا ، فإنه حين صدور البلل المشتبه يقطع بوجود شخص حدث ويشك في حدوث شخص حدث آخر ، فاستصحابه بعد الوضوء يكون من استصحاب القسم الثالث الذي قلنا بعدم جريانه فيه ( فيكتفي ) حينئذ بصرف الوضوء في فعل كل ما اشترط في صحته أو جوازه بالطهارة ، ولا اثر للعلم الاجمالي حين خروج البلل المشتبه ، إذ لا يعلم بتوجيه خطاب جديد من قبل البلل الحادث بعد تردده بين ما له الأثر وما ليس له الأثر ، واحتمال كونه منيأ شبهة بدوية مدفوعة بالأصل ، حيث تجري أصالة عدم حدوث سبب الجنابة ، ولا يعارضها أصالة عدم صدور البول ، لأنه لا اثر له بعد كونه محدثا بالحدث الأصغر ( وكذلك ) الامر فيما لو احتملنا عدم المضادة بين الحدثين ، فإنه وان علم حين خروج البلل بالحدث المردد بين الوجودين أو وجود واحد مردد بين الأصغر والأكبر بلا علم تفصيلي بما يوجب

ص: 139

انحلاله ( ولكن ) بعد احتمال اجتماعهما وجودا وبقاء الأصغر بحده الخاص لا يجري الاستصحاب الكلى ، لعدم احراز كون المشكوك الباقي بعد الوضوء عين المتيقن السابق ، لاحتمال كون المعلوم السابق غيره ، فيكتفي بموجب الحدث الأصغر وهو الوضوء في فعل كل ما اشترط فيه الطهارة ، باستصحاب بقاء الأصغر بحده الخاص إلى حين خروج البلل المشتبه بضميمة أصالة عدم صدور الحدث الأكبر ( وان قلنا ) بالمضادة بين الحدثين ، فتارة تكون المضادة بينهما في خصوص حديهما لا في ذاتيهما بحيث يكون الأصغر عند طرو الأكبر محفوظا بذات في ضمنه لا بحده ، نظير السواد الضعيف المندك في ضمن الشديد منه ( وأخرى ) تكون المضادة حتى بالقياس إلى ذاتيهما ، نظير ارتفاع لون بطرو لون آخر مضاد له ( فعلى الأول ) لا قصور ظاهرا في استصحاب الكلى بعد الاتيان بالوضوء ، إذ حين طرو البلل يعلم اجمالا بوجود الحدث المردد بين الحدين ، وبعد الوضوء يشك في ارتفاعه ، فيستصحب بقائه ، بل ويجري فيه الاستصحاب الشخصي أيضا ، بناء على عدم ارتفاع الأصغر المقرون مع الأكبر الا بالغسل ، واختصاص رافعية الوضوء له بحال انفراده عن الحدث الأكبر ، إذ حينئذ مع الشك في وجود الأكبر لأجل البلل المردد يشك في ارتفاعه بالوضوء فيستصحب بقائه ( نعم ) لو قلنا برافعية الوضوء للأصغر مطلقا ولو في ظرف وجود الأكبر ، مؤيدا ذلك بما ورد من مشروعية الوضوء للحائض في أوقات الصلوات والنوم الجنب لا يجري استصحب الشخص للقطع بارتفاعه بالوضوء على كل حال ، فينحصر مجرى الاستصحاب حينئذ في الكلى والقدر المشترك بين الأصغر والأكبر ، ولازمه هو الجمع بين الطهارتين وعدم الاكتفاء بصرف الوضوء في رفع مانعيته للصلاة ( اللّهم ) الا ان يمنع عن هذا الأصل بكونه من استصحاب القسم الثالث الذي كان الشك في بقاء الكلى لأجل الشك في مقارنة فرد آخر مع الفرد المعلوم سابقا ، لمكان العلم التفصيلي حين طرو البلل بثبوت الحدث الأصغر ولولا بحده الخاص ، والشك في حدوث الأكبر ، فأصالة عدم حدوثه محكمة ومقتضاها عدم الحاجة إلى الغسل وجواز الاكتفاء بصرف الوضوء في صحة الصلاة ( واما على الثاني ) من فرض تضاد

ص: 140

الحدثين ذاتا وحدا ، فيجري فيه استصحاب الكلى في الحدث المعلوم المردد وجوده حال خروج البلل بين الأصغر والأكبر لكونه من استصحاب القسم الثاني من اقسام الكلى ( حيث إنه ) باتيان الوضوء يشك في ارتفاع الحدث المعلوم وجوده اجمالا والأصل يقتضى بقائه ، ولازمه وجوب الغسل وعدم جواز الاكتفاء بصرف الوضوء في رفع اثر المانعية ( وأصالة ) عدم حدوث الأكبر غير مجدية ، لعدم كونها رافعة للشك في بقاء الكلى والقدر المشترك ، ولا لرفع اثره من مانعيته للصلاة الا على القول بالأصول المثبتة ، كما أن أصالة بقاء الأصغر بحده الخاص حال خروج البلل المردد غير مجدية أيضا لرفع الشك الوجداني عن بقاء الجامع ، ولا لرفع اثره ، بل ولا للاكتفاء بصرف الوضوء في صحة الدخول في الصلاة ( لوضوح ) ان رافعية الوضوء للحدث في هذا الحال انما هو من لوازم انحصار طبيعة الحدث بالأصغر وجدانا ، والا فشأنه ليس الا رفع الحدث الأصغر بخصوصه ، واثبات هذه الجهة من الانحصار خارج عن عهدة الأصل المزبور ، الا على فرض القول بالمثبت ( وحينئذ ) فيجري استصحاب كلي الحدث المعلوم بالاجمال حال خروج البلل المشتبه ، ولازمه بحكم العقل هو الجمع بين الطهارتين تحصيلا لليقين بارتفاع الحدث ، هذا ( ولكن ) الظاهر هو عدم التزامهم بذلك ، حيث إن بنائهم على الاكتفاء بالوضوء محضا لمن كان محدثا بالأصغر واحتمل طرو الجنابة عليه لأجل البلل المردد بين البول والمنى ، نظرا منهم إلى قاعدة الاستصحاب ( فلا بد ) حينئذ اما من الكشف عن بنائهم على عدم التضاد بين الحدثين رأسا ، أو يكون التضاد بينهما في خصوص حديهما لا في ذاتيها ، كما لعله هو الظاهر المستفاد من الأدلة أيضا من مثل قوله (عليه السلام) الوضوء نور وان الوضوء بعد الوضوء نور على نور ، وقوله (عليه السلام) اي وضوء أنقى من الغسل ، حيث إن المستفاد منها هو ان الوضوء والغسل ولو باعتبار الأثر الحاصل منهما وهو النورية والنظافة المعنوية من نسخ الحقايق التشكيكية التي لها مراتب متفاوتة شدة وضعفا ، فيستفاد بقرينة المقابلة ان الحدث الذي هو من القذارة المعنوية والكسالة الروحية أيضا من الحقايق التشكيكية المختلفة حدا ومرتبة ، كما يومي إليه قوله (عليه السلام) في المرأة التي ترى الدم وهي جنب قد اتاها

ص: 141

ما هو أعظم من ذلك ( واما ) من دعوى ان موضوع وجوب الوضوء على ما يستفاد من الأدلة عبارة عن المركب من امر وجودي وهو النوم مثلا ، وامر عدمي وهو عدم الجنابة ، فيندرج المثل في الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ، فان النائم الذي احتمل جنابته من جهة البلل المردد بين البول والمنى ، قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء ، أحدهما وهو النوم بالوجدان ، وثانيهما عدم الجنابة بالأصل فيحب عليه الوضوء ويكتفى به في صحة صلوته ، كان هناك استصحاب حدث أم لا ( ولكن ) دعوى الأخير مبنى على أن لا يكون الطهارة شرطا للصلاة ولا الحدث مانعا ، بل كان الشرط هو نفس الوضوء عند تحقق موجبه وهو النوم ونحوه ، ونفس الغسل عند تحقق الجنابة ( والا ) فعلى فرض شرطية الطهارة للصلاة كما هو مقتضى قوله (عليه السلام) : لا صلاة الا بطهور ، أو مانعية الحدث عن صحة الصلاة ، فلا يجدي هذا التقريب للاكتفاء بصرف الوضوء في صحة الصلاة ، نظرا إلى الشك في مؤثرية الوضوء في هذا الحال في الطهارة ورافعيته للحدث المعلوم وجوده باجمال فتأمل.

( تذييل ) الذي يظهر من كلمات الأصحاب قدس اسرارهم هو التسالم على جريان أصالة عدم التذكية عند الشك في تذكية الحيوان واثباتهم بها حرمة لحمه ونجاسته ( وقد خالف ) في ذلك جماعة منهم الفاضل التوني قده ، حيث أورد على المشهور في حكمهم بنجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية ، بان عدم المذبوحية لازم لامرين الحياة ، والموت حتف الانف ( والموجب ) للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني وهو الموت حتف الانف ، فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة ( فعدم ) المذبوحية اللازم للحيوة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الانف والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأول ، لا الثاني الخ ( وقد استدل ) عليه أيضا بوجهين آخرين ( الأول ) ان الموضوع لكل من حرمة لحم الحيوان ونجاسته وحليته وطهارته امر وجودي ، فموضوع الحرمة والنجاسة هي الميتة التي هي عبارة عن الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أن موضوع الحلية والطهارة عبارة عن المذكى ، فهما أمران وجوديان ولابد من احرازهما ، وأصالة عدم

ص: 142

التذكية بعد ما لم يثبت عنوان الميتة ، بلحاظ عدم اقتضاء نفي أحد الضدين بالأصل لاثبات الضد الاخر الا على المثبت ، فلا جرم يجري استصحاب العدم من الطرفين ، وبعد تساقط الأصلين بالمعارضة يرجع إلى أصالة الحل والطهارة في الحكم المشكوك ( الثاني ) انه على تقدير ان يكون الموضوع للحرمة والنجاسة هو نفس عدم التذكية لا عنوان الميتة التي هي امر وجودي ( فلا شبهة ) في أنه ليس الموضوع للحرمة والنجاسة مطلق عدم التذكية وعدم المذبوحية ، بل هو العدم المقيد في حال خروج روح الحيوان ، فلعنوان الحالية أيضا دخل في موضوع الحكم ( وواضح ) انه ليس لهذا العنوان المقيد حالة سابقة حتى يستصحب ( لان ) خروج الروح اما ان يكون عن تذكية ، واما لا عن تذكية ، فلم يتحقق زمان كان فيه خروج روح الحيوان ولم يكن عن تذكية حتى يجري فيه الأصل ( واما ) عدم التذكية في حال حياة الحيوان بمفاد ليس التامة فهو وان كان على يقين منه سابقا ، ولكن الأصل فيه لا يثبت العدم الخاص الا على القول بالأصول المثبتة فينتهي الامر حينئذ إلى أصالة الحل والطهارة ، هذا ( ولكن ) لا يخفى ما في هذين الوجهين.

( اما الوجه الأول ) ففيه أولا منع كون الميتة هي خصوص ما مات حتف الانف ، بل هي في عرف الشارع عبارة عن مطلق ما لم يقع عليه التذكية بشرائطها المقررة من الذبح بالحديد وكونه مع التسمية ومستقبل القبلة مع اسلام الذابح ، فمتى اختل أحد هذه الأمور كان الحيوان ميتة وان لم يزهق روحه حتف أنفه ( وعلى فرض ) ان تكون الميتة خصوص الموت حتف الانف ، فلا ريب في عدم اختصاص موضوع الحرمة والنجاسة بالعنوان المزبور ، فان الحكم بالحرمة والنجاسة كما رتب في الأدلة على عنوان الميتة ، كذلك رتب على عدم المذكى في قوله سبحانه : « ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه » وقوله تعالى : « وكلوا مما ذكيتم » فيكفي أصالة عدم التذكية في المشكوك لاثبات الحرمة بل النجاسة ، وان لم يثبت بها عنوان الميتة ( ومع ) الاغماض عن ذلك أيضا لاوجه للرجوع إلى أصل الحل والطهارة فيما شك في تذكيته عند تعارض الأصلين ، بل اللازم حينئذ هو الرجوع إلى أصالة الحرمة

ص: 143

والطهارة الثابتتين للحيوان في حال حياته لحكومتهما على قاعدتي الحلية والطهارة والتفكيك بين الطهارة والحلية في الظاهر غير ضائر ، لأنه غير عزيز في الاحكام الظاهرية ، فيمكن التعبد بطهارة ما شك في تذكيته وحرمة اكله ، وان لم يمكن ذلك بحسب الواقع ( وهذا ) أيضا بناء على تلازم الحكمين في غير المذكى في نفس الامر والواقع ، والا فعلى احتمال اختصاص موضوع النجاسة بعنوان الميتة والموت حتف الانف فالامر أظهر.

( واما الوجه الثاني ) ففيه أيضا منع دخل الإضافة الحالية في المقام في موضوع الحرمة بل الموضوع لها عبارة عن الجزئين المجتمعين في زمان واحد أعني زهوق روح الحيوان وعدم تذكيته والتعبير بعنوان الحالية انما هو لمجرد الظرفية واجتماعهما في الزمان ، لا من جهة دخل تلك الإضافة في موضوع الحكم ، فيمكن حينئذ اثبات موضوع الحرمة والنجاسة باستصحاب عدم تذكية الحيوان إلى زمان خروج روحه ، لكونه كسائر الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ( وكون ) عدم تذكية الحيوان في حال حياته مما لا اثر له شرعا غير ضائر بعد كونه في ظرف خروج الروح ذا اثر شرعي ( وعلى فرض ) ان يكون لإضافة الحالية دخل في ترتب الحكم ، نقول : ان المقصود من عنوان الحال في نحو هذه المقامات انما هو مجرد إضافة الشيء المشروط إلى شرطه وقيده الأعم من الواقع والظاهر ، نظير الصلاة في حال الطهارة وغيرها من المشروطات والمقيدات ، فيمكن اثباتها باستصحاب عدم التذكية إلى حين زهوق الروح ، فإنه كما أن بوجود القيد واقعا يعتبر العقل الإضافة بين الشيئين ، كذلك يعتبرها باحراز وجوده ظاهرا وتعبدا ، ولا يرتبط ذلك بباب المثبت ( ولذا ) لم يستشكل أحد في الحكم بصحة الصلاة عند الشك في الطهارة باستصحابها إلى حين الدخول في الصلاة بمثبتية الأصل المزبور ، ولا يكون ذلك الا من جهة كون مثل هذه التقيدات من لوازم الأعم من وجدان القيد واقعا أو تعبدا وتنزيلا ( وان ) شئت قلت إن اعتبار مثل هذه الإضافات تابع تحقق طرفيها فمتى تحقق طرفاها بالوجدان أو التعبد يعتبر العقل تلك الإضافة الخاصة بينهما ولا يكون ذلك مرتبطا بباب المثبت ( نعم ) انما يكون كذلك فيما كان الموضوع هو الذات المتصف بالوصف العنواني

ص: 144

بان كان القيد مأخوذا نعتا لموضوع الحكم لا مجرد كونه طرف اضافته ( ولكن ) اني باثباته في نحو المقام فتأمل.

( التنبيه الرابع )

قد يستشكل في جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية غير القارة ، كالزمان والزمانيات المبنية على التجدد والانصرام ( بتوهم ) ان مورد الاستصحاب كما يقتضيه تعريفه ويستفاد من أدلته انما يكون في فرض الشك في بقاء ما كان ، ولا يتصور البقاء في مثل الزمان ، ولا في الزمانيات من الموجودات التصرمية التي توجد وتنصرم شيئا فشيئا على التدريج كالحركة والتكلم ونحوهما حتى يشك في بقائها ، فيجري فيها الاستصحاب ( لان ) بقاء الشيء عبارة عن استمرار وجود الشيء بجميع حدوده في الآن الثاني بعين وجوده في آن حدوثه وهو غير متصور في الموجودات التصرمية زمانا كانت أو زمانية ، فإنها بقطعتها الموجودة سابقا كانت منعدمة في الآن الثاني وبقطعتها الأخرى تكون مشكوكة الحدوث ، فلا يجرى فيها الاستصحاب ، بل ولا في القار الذي كان الزمان قيدا له ( ونظير ) هذا الاشكال ، الاشكال المعروف في مبحث المشتق في نحو أسماء الزمان كالمقتل وغيره. حيث قيل بخروجها عن محل النزاع بلحاظ ان الذات المتلبسة بالمبدء فيها بنفسها متقضية مع المبدء لا ان الانقضاء مختص باتصافها بالمبدء ، فلا يصدق على الزمان الفعلي الموجود انه ذات انقضى عنها المبدء كي يجري فيها النزاع ( ولكن ) التحقيق صحة الاستصحاب فيها كغيرها من الأمور القارة ( تنقيح ) المرام يستدعى عقد الكلام في مقامات.

( المقام الأول ) في استصحاب الزمان وما يعرضها من العنوان الطارئ كاليوم والليل والشهر ونحوها من العناوين المنتزعة من مجموع الأزمنة المتعاقبة المحدودة بين الحدين والمحصورة بين الحاصرين ( ولا ينبغي ) الاشكال في جريان الاستصحاب فيها

ص: 145

فان الآنات والأزمنة المتعاقبة وان كانت في الحقيقة وجودات متعددة متحدة سنخا ، ولكنها لما كانت على نهج الاتصال ولم يتخلل سكون بينها ، كان الجميع بنظر العرف موجودا واحدا مستمرا ، وبهذا الاعتبار يعد الموجود اللاحق بقاء لما حدث أولا ، فيصدق عليه الشك في بقاء ما حدث وتتحد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة ، وان لم يكن كذلك بحسب الحقيقة والدقة ( وحينئذ ) إذا صدق الموجود الواحد المستمر على الوجودات المتعاقبة على نعت الاتصال ، وكان مدار الوحدة في متعلق الوصفين على الأنظار العرفية لا على المداقة العقلية ، فلا جرم يجرى فيها الاستصحاب كجريانه في الأمور القارة لتمامية أركانه جميعا من اليقين السابق بالوجود والشك اللاحق في البقاء ( بل ) يمكن ان يقال : انه ليس لعنوان البقاء اثر في أدلة الاستصحاب ، فان الموجود فيها هو النهي عن نقض اليقين بالشك ، ولا ريب في أن دائرة صدق النقض عرفا أوسع من البقاء الحقيقي والمسامحي ، فيكون رفع اليد عن ترتب الأثر على الامر التدريجي الذي ينعدم ويوجد على التعاقب بالشك في انقطاع سلسلة وجوداته ، نقضا لليقين بالشك عرفا ( مع أن ) الانصرام والتجدد المانع عن الاستصحاب كما افاده المحقق الخراساني انما هو في الحركة القطعية في الأين وغيره المنتزعة من الأكوان المتعاقبة على نهج الاتصال الموافية للحدود الواقعة بين المبدء والمنتهى ، وهي الصورة الممتدة المرتسمة في الوهم المجتمعة الاجزاء في مرحلة الخيال والمتفرقة في الخارج ، كحركة الجوالة الموجبة لارتسام دائرة في الخيال ، فهي باعتبار منشأ انتزاعها الذي هي الأكوان المتعاقبة المتفرقة في الخارج تدريجية ، فيأتي فيها الاشكال المزبور ( واما الحركة ) التوسطية وهي الكون بين المبدء والمنتهي والآن السيال في الزمان ، فلا قصور في جريان الاستصحاب فيها ( إذ هي ) بهذا الاعتبار من الأمور القارة ، فيصدق عليها البقاء حقيقة لا مسامحة ، هذا ( ولكن ) الانصاف انه لا سبيل إلى دعوى صدق القار على الحركة بمعنى التوسط كي يتصور فيها البقاء الحقيقي ، لما عرفت من أن البقاء الحقيقي للشيء عبارة عن استمرار وجوده في ثاني زمان حدوثه بما له من المراتب والحدود المشخصة له في آن حدوثه ( ومثله ) غير متصور في الحركة التوسطية في مثل

ص: 146

الزمان ونحوه بداهة انها ليست بحقيقتها الا عين التجدد والانقضاء والخروج من القوة إلى الفعل ، فالموجود المتحقق منها في الخارج انما هو الحصول في حد معين وهو أمر آني لا قرار له ، فهي بهذا الاعتبار عين الوجودات المتعاقبة والحصولات المتدرجة الموافية للحدود المعينة ، لان كل واحد منها كون واقع بين المبدء والمنتهي وفرد للحركة التوسطية ومرتبة من مراتب وجودها خارجا ( ومعه ) كيف يمكن التفكيك بين الحركتين وجعلها بمعنى التوسط من القار الذي يتصور له البقاء الحقيقي ( فلا محيص ) حينئذ من دفع شبهة البقاء بما ذكرناه من كفاية الوحدة العرفية الناشئة من كون الوجودات المتعاقبة على نعت الاتصال وعدم تخلل السكون بينها ، في صدق البقاء الحقيقي أو دعوى كفاية كون الوجودات التصرمية على نهج الاتصال في صدق النقض عرفا على رفع اليد عن الامر التدريجي بالشك في انقطاع سلسلة الوجودات ، لا وسعية صدق النقض عرفا من البقاء الحقيقي والمسامحي ( وعلى كل ) من التقريبين لا فرق بين الحركة بمعنى القطع أو التوسط ( فان ) المصحح للاستصحاب حقيقة انما هو الاتصال المزبور الموجب لصدق البقاء الحقيقي أو العرفي ، وهو كما يجدى في الحركة بمعنى التوسط ، كذلك يجدى في الحركة بمعنى القطع ( وعليه ) فلا اشكال في جريان الاستصحاب في نفس الزمان ( وكذا ) الكلام فيما يعرضه من العناوين الطارية المنتزعة من مجموع الأزمنة المتعاقبة المحدودة بين الحدين كاليوم والليل ونحوهما ، فإنه بهذا الاعتبار يكون كل آن جزء من الليل والنهار فيكون وجود الليل والنهار عرفا بوجود أول جزء منهما وبقائهما بتلاحق بقية الآنات المحدودة كونها بين الحدين ، فإذا شك في بقائهما يجري فيهما الاستصحاب لاجتماع أركانه من اليقين بالوجود والشك في البقاء واتحاد القضيتين ، هذا إذا كان الشك في البقاء من جهة الشبهة المصداقية ( واما ) لو كان الشك فيه من جهة الشبهة المفهومية ، كالشك في أن النهار ينتهى حده إلى آن غروب الشمس أو إلى ذهاب الحمرة المشرقية بعد القطع بغيبوبة الشمس فلا يجري فيه استصحاب ، لكونه من استصحاب العنوان الاجمالي الذي لا يكون مثله موضوعا لاثر شرعي ، لان ما له الأثر انما هو المحدود بأحد الحدين ، ولا شك فيه في البقاء ،

ص: 147

لكونه مقطوع البقاء على تقدير ومقطوع الارتفاع على تقدير آخر.

( ثم إن ) ما ذكرناه من جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث الزمان أو بقائه من الليل أو النهار أو الشهر ونحوها انما هو إذا كان الأثر الشرعي مترتبا عليه بنحو مفاد كان أو ليس التامة ( واما ) إذا كان الأثر مترتبا عليه بمفاد كان أو ليس الناقصة ، ككون الزمان الحاضر من الليل أو النهار أو من رمضان ، ففي جريان الاستصحاب اشكال ، ينشأ من أن المتصف بمفاد كان أو ليس الناقصة ليس له حالة سابقة حتى يستصحب ، لان الزمان الحاضر الذي شك في ليليته أو نهاريته حدث اما من الليل واما من النهار ، فلا يقين باتصافه بكونه من الليل أو النهار ( واستصحاب ) بقاء الليل والنهار بمفاد كان التامة لا يثبت نهارية الزمان الحاضر أو ليليته حتى يترتب عليه اثره الخاص من وقوع متعلق التكليف أو موضوعه في الزمان الذي اخذ كونه ظرفا لامتثاله ( ولأجل ) ذلك يشكل الامر في كلية الموقتات كالصلوات اليومية والصوم في رمضان ونحوهما ، نظرا إلى أن غاية ما يقتضيه استصحاب الليل أو النهار بمفاد كان التامة في مثل تلك الموقتات انما هو اثبات بقاء التكليف بالموقتات ووجوب الاتيان بها ( واما ) اثبات وقوعها في الليل أو النهار أو رمضان الذي اخذ ظرفا لها ليترتب عليه الامتثال والخروج عن العهدة فلا ( لان ) صدق كون العمل واقعا في الوقت المضروب له شرعا مبني على اثبات نهارية الزمان الحاضر أو ليليته أو رمضانيته ، ( وبعد ) عدم اثبات الأصل المزبور نهارية الزمان الحاضر أو ليليته ، فلا يترتب عليه الامتثال والخروج عن عهدة التكليف بالموقت ( وبذلك ) تقل فائدة استصحاب الوقت والزمان ، لان الأثر المهم فيه انما هو في الموقتات.

( ولكن ) يمكن دفع الاشكال ، ( اما شبهة ) استصحاب مفاد كان الناقصة فبان يقال : ان ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجية ، كذلك وصف الليلية والنهارية الثابتة لها أيضا تدريجية ، تكون حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، فإذا اتصف بعض هذه الآنات بالليلية أو النهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بالليلية أو النهارية ، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان ، ويدفع شبهة الحدوث فيما كان

ص: 148

اسما لمجموع ما بين الحدين ، كذلك يجري الاستصحاب في وصف الليلية أو النهارية الثابتة للزمان ، لان صدق البقاء في الزمان كما يكون بتلاحق بقية الآنات بالآنات السابقة ولحاظ المجموع من جهة كونها على نعت الاتصال وجودا واحدا ممتدا ، كذلك بقاء وصف ليلتها يكون بتلاحق القطعة من الوصف الثابت للزمان الحاضر بقطعات الوصف الثابت للآنات السابقة ، فلو شك حينئذ في ليلية الزمان الحاضر ، فلا قصور في استصحاب الليلية الثابتة للآنات السابقة وجرها إلى زمان الحاضر ، لرجوع الشك المزبور بعد اليقين باتصاف الآنات السابقة بالليلية أو النهارية إلى الشك في البقاء لا في الحدوث فيقال : بعد الغاء خصوصية القطعات ولحاظ مجموع الآنات من جهة اتصالها أمرا واحدا مستمرا ، ان هذا الزمان الممتد كان متصفا بالليلية أو النهارية سابقا والآن كما كان ، فيثبت بذلك اتصاف الآن المشكوك ليليته أو نهاريته بالليلية أو النهارية ( والا ) فلو فتحنا باب هذا الاشكال يلزم سد باب الاستصحاب في الزمان في مثل الليل والنهار ولو بمفاد كان التامة ، لجريان الاشكال المزبور فيه أيضا من حيث عدم تصور اليقين بالحدوث في مثل الليل والنهار الذي هو اسم لمجموع ما بين الحدين من حيث المجموع وكون القطعة الحاضرة من الزمان غير القطعة الموجودة سابقا ، ( وكما يصح ) استصحاب الليل والنهار بمفاد كان التامة ، وتدفع شبهة عدم اليقين بالحدوث ، بكفاية اليقين بوجود أول جزء من الليل عرفا في احراز وجود الليل ، كذلك يصح استصحاب اتصاف الزمان الشخصي الممتد إلى زمان الحاضر بالليلية أو النهارية :

( واما ) شبهة المثبتية في استصحاب الزمان بمفاد كان التامة في الموقتات ، فتندفع أيضا بما سيتضح لك من بيان كيفية اخذ الزمان في أدلة الموقتات ( فنقول ) : ان صور اخذ الزمان في أدلة الموقتات بنحو القيدية أو المقارنة : والمعية أربعة ، لأنه اما ان يكون راجعا إلى الهيئة والوجوب بناء على ما حققناه في محله من امكانه ( واما ) ان يكون راجعا إلى المادة ( وكل ) منهما باعتبار القيدية أو الظرفية ، أو المقارنة والمعية ينقسم إلى قسمين ، فتكون الصور أربعة ( بعد ذلك ) نقول : اما ما كان راجعا بحسب ظاهر الدليل إلى الهيئة والوجوب بنحو القيدية أو المقارنة والمعية ، فلا شبهة

ص: 149

في صحة استصحابه عند الشك في بقائه وانه يترتب عليه الوجوب بلا كونه مرتبطا بباب المثبت ، لأنه من قبيل استصحاب الموضوع واثبات الحكم الفعلي به.

( واما ) ما كان راجعا إلى الموضوع والمادة ، فان كان على نحو المقارنة والمعية ، كما لعله الظاهر في أكثر أدلة التوقيت في الموقتات ، من نحو قوله (عليه السلام) : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، وقوله سبحانه أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، حيث كان المستفاد منها مجرد لزوم وقوع المأمور به صلاة أو صوما عند تحقق أوقاتها ، بلا اقتضائها لكون الوقوع في الوقت المضروب لها شرطا شرعيا ، فلا اشكال في جريان الاستصحاب ، فإنه باستصحاب بقاء الليل أو النهار أو رمضان يترتب وجوب الاتيان بالصوم أو الصلاة ، ويترتب عليه تحقق الامتثال والخروج عن عهدة التكليف عقلا باتيان المأمور به في الوقت المستصحب ، لكونه من اللوازم العقلية المترتبة على الأعم من الواقع والظاهر ، وان لم يتحقق معنى الظرفية والقيدية ولا يصدق على المأتي به عنوان وقوعه في أزمان الذي كان من الليل أو النهار أو رمضان ( إذ لا يحتاج ) إلى اثبات هذا العنوان بعد عدم اخذ عنوان الظرفية قيدا لموضوع التكليف شرعا.

( واما ) إذا كان الزمان مأخوذا في المأمور به على نحو القيدية أو الظرفية بحيث اعتبر عنوان وقوع الفعل في الوقت المضروب شرطا شرعيا وفيمكن تصحيحه أيضا بما بيناه من صحة استصحاب الليلية والنهارية للآنات التدريجية ( إذ حينئذ ) يصدق وقوع الفعل في زمان كان ذلك الزمان ليلا أو نهارا ، فإنه لا نعنى من القيدية المزبورة الا إضافة الفعل إلى زمان متصف بالليلية أو النهارية ، فوقوع أصل الفعل في زمان كان محرزا بالوجدان واتصاف ذلك الزمان بالليلية أو النهارية كان محرزا بالأصل فيترتب عليه الامتثال والخروج عن عهدة التكليف ( ويمكن ) اجراء الاستصحاب أيضا في نقص العمل المظروف أو المقيد ، بتقريب ان هذا العمل الشخصي لو اتى به سابقا قبل الآن المشكوك ليليته أو نهاريته لوقع متصفا بعنوان كذا والآن كما كان ،

ص: 150

وهذا التقريب أولى مما افاده في الكفاية من استصحاب بقاء الامساك النهاري قبل ذلك على حاله في الآن المشكوك ، وذلك ، لما يرد عليه من أنه يتم بالنسبة إلى ما يترتب على بقاء الامساك النهاري بمفاد كان التامة ، لا بالنسبة إلى ما يترتب على كون شخص الامساك الموجود امساكا نهاريا بمفاد كان الناقصة ، ولعله إلى ذلك أشار بقوله فتأمل.

( المقام الثاني )

في استصحاب الزمانيات المتدرجة المبنية على التقضى والتصرم ، كالحركة والتكلم وجريان الماء وسيلان الدم ونحوها ( وملخص ) الكلام فيها هو ان الشك في بقاء الزماني التدريجي ( تارة ) يكون لأجل الشك في انتهاء حركته وبلوغه إلى المنتهى أو بقائه بعد على صفة الجريان ( وأخرى ) يكون لأجل الشك في طرو ما يمنع عن حركته وجريانه مع القطع باستعداده للبقاء ، كما لو شك في بقاء التكلم لأجل احتمال طرو صارف عن الداعي الذي اقتضى التكلم ، وكما لو شك في جريان الماء وسيلان الدم من عروق الأرض وباطن الرحم لاحتمال وجود ما يمنع عن ذلك ( وثالثه ) يكون لأجل الشك في كمية المبدء ومقدار استعداده ، كما لو شك في مقدار استعداد عروق الأرض وباطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم ( ورابعة ) لأجل احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول مع العلم بارتفاعه ، كما لو شك في بقاء التكلم من جهة احتمال انقداح داع آخر للمتكلم يقتضى التكلم بعد القطع بارتفاع الداعي الأول ، وكما لو شك في جريان الماء لاحتمال قيام منبع آخر مقام المنبع الأول الذي علم بنفاد مائه ( وهذا ) يتصور على وجهين ( فان ) المبدء الآخر الذي احتمل قيامه مقام المبدء الأول ( تارة ) على نحو يوجب تغييرا في عنوان المستصحب أو في الخصوصية

ص: 151

المقومة لفرديته عرفا ، بحيث يعد معه الموجود اللاحق فردا مغايرا مع الموجود السابق نظير تغيير عنوان التكلم من مثل القرآن إلى الأدعية ، أو الخطبة أو الزيارة أو تغييره من فرد إلى فرد آخر ( وأخرى ) على نحو لا يوجب ذلك ، نظير تبدل أعمدة الخيمة غير الموجب لتغيير في هيئتها ، كما في تبدل عرق الأرض الجاري منه الماء إلى عرق آخر غير موجب لتغيير في الماء وجريانه ( فهذه ) صور خمسة للشك في بقاء الامر الزماني التدريجي.

( ولا ينبغي ) الاشكال في جريان الاستصحاب في الصورة الأولى والثانية ( واما الصورة ) الثالثة ، فجريان الاستصحاب فيها أيضا مما لا غبار فيه ، لولا شبهة كونه من الشك في المقتضى ، وهي أيضا مندفعة بما حققناه في بعض المباحث المتقدمة من عموم حجية الاستصحاب حتى في مورد الشك في المقتضى ( واما الصورة ) الرابعة ، ففي الوجه الأول منها لا يجري الاستصحاب ، لكونه من استصحاب الوجه الثاني من القسم الثالث من اقسام الكلي الذي عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه ( واما الوجه ) الثاني منها ، فلا قصور في جريان الاستصحاب فيه ، لكونه مما تم فيه أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق واتحاد متعلق الوصفين ، نظير استصحاب بقاء هيئة الخيمة عند الشك في قيام عمود آخر مقام العمود الأول المنتفي قطعا ( ولعل ) من هذا القبيل استصحاب بقاء جريان الماء وسيلان الدم عند الشك في قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول الذي علم بارتفاعه ، فان مجرد اختلاف المبادئ لا يمنع عن جريان الاستصحاب فيها ما لم يوجب اختلافها تغييرا في عنوان المستصحب عرفا أو في الخصوصية المقومة له بنحو يعد الموجود اللاحق مغايرا مع الموجود السابق عرفا ( وكذا ) الحال في مثل التكلم والقرائة في بعض افرادهما فلا يمنع عن جريان الاستصحاب فيها مجرد تعدد الدواعي ( وحينئذ ) فلا وجه لما في التقرير عن بعض الأعاظم قده من اطلاق القول بالمنع عن جريان الاستصحاب في الصورة الرابعة

ص: 152

وادراجها بقول مطلق في استصحاب الوجه الثاني من القسم الثالث من اقسام الكلى ، بل لا بد من التفصيل حسب ما أشرنا إليه بين ما يكون اختلافه من قبيل اختلاف عمود الخيمة بالنسبة إلى هيئتها المخصوصة غير الموجب لتغيير فيها ، وبين ما يكون موجبا لتغيير في المستصحب اما في عنوانه أو في خصوصيته المقومة لفرديته على نحو يعد الموجود اللاحق عرفا فردا آخرا مغايرا للموجود السابق ، كتغيير عنوان التكلم من القرآن إلى الخطبة أو الزيارة أو تغيير الخطبة إلى فرد آخر مغاير للفرد الأول عرفا ، بتخصيص المنع عن الاستصحاب بالثاني دون الأول ( وحيث ) انه يختلف ذلك باختلاف الموارد حتى في مثل التكلم وجريان الماء وسيلان الدم ، فلابد في تجويز الاستصحاب أو المنع عنه من ملاحظة خصوصيات الموارد ( والضابط ) في ذلك هو بقاء الوحدة العرفية بين القضيتين وعدم بقائها كذلك ، فكل مورد اقتضى تعدد المبدء أو الداعي اختلافا في المستصحب على وجه لا يصدق عليه البقاء عرفا لا يجرى فيه الاستصحاب ، وكل مورد لا يقتضي تعددهما اختلافا فيه ولا تشكيكا في صدق البقاء عرفا على الموجود السابق يجري فيه الاستصحاب.

( المقام الثالث ) في استصحاب الأمور المقيدة بالزمان كما لو وجب الجلوس إلى الزوال مثلا ، فشك في وجوبه بعد الزوال ( وقد وقع ) فيه الخلاف بين الاعلام ( وتحقيق ) الكلام في المقام ان يقال : ان الشك في ثبوت الحكم الشرعي في المقيدات بالزمان ، تارة يكون من جهة الشك في بقاء القيد ، كالشك في بقاء الليل أو النهار ( وأخرى ) يكون من غير تلك الجهة مع القطع بانتفائه كما في نحو المثال فيما لو شك في بقاء الوجوب لاحتمال كون القيد من علل حدوثه وقيام علة أخرى تقتضي بقائه ، أو احتمال كون الواجب بنحو تعدد المطلوب ( وعلى الأول ) فالشك في بقاء القيد ( تارة ) يكون من جهة الشبهة المصداقية ( وأخرى ) من جهة الشبهة المفهومية مع القطع ببقائه بمعنى ، وزواله بمعنى آخر ، كالشك في أن النهار ينتهي بغياب القرص أو بذهاب الحرمة المشرقية ( وثالثة ) من جهة الشك في اخذ اي واحد من القيدين المبينين مفهوما ( وعلى التقادير ) اما ان يكون الزمان في ظاهر الدليل

ص: 153

مأخوذا ظرفا أو قيدا مقوما لنفس الحكم ، واما ان يكون مأخوذا في الموضوع كذلك ، فهذه شقوق متصورة للشك في بقاء الحكم الشرعي في المقيدات بالزمان.

( وبعد ) ذلك نقول ، انه لو كان الشك في بقاء الحكم الشرعي من جهة الشك في بقاء القيد المبين مفهوما ، فلا شبهة في أنه يجري الاستصحاب في نفس القيد الذي هو الزمان الخاص ، كالنهار الذي قيد به الصوم ، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ، من غير فرق بين ان يكون الزمان مأخوذا ظرفا أو قيدا مقوما ، لنفس الحكم ، أو لموضوعه كذلك ، فإنه باستصحابه يثبت المقيد ، فيترتب عليه حكمه ، كما أنه يجري الاستصحاب في نفس المقيد ، هذا إذا كان الأثر الشرعي لوجود القيد أو المقيد بمفاد كان التامة ( واما ) لو كان الأثر لوجوده بمفاد كان الناقصة ، ففيه الاشكال السابق من عدم احراز الحالة السابقة لهذا المعنى وعدم اقتضاء الأصل في الوقت المستصحب أو المقيد بمفاد كان التامة لاثبات نهارية الزمان الحاضر أو رمضانيته ، ويأتي فيه أيضا ما دفعنا به الاشكال المزبور على كل من تقريبي الاستصحاب بمفاد كان التامة والناقصة فراجع ( واما ) إذا كان الشك في الحكم الشرعي ناشئا من الشك في القيد من جهة الشبهة المفهومية ، كتردد النهار بين كونه منتهيا إلى غياب القرص ، أو إلى ذهاب الحمرة المشرقية ، كما لو شك في وجوب الامساك في النهار بعد غياب القرص ، فلا يجري الاستصحاب لا في القيد ولا في المقيد ، فإنه بالنسبة إلى ما تم فيه أركانه وهو العنوان الاجمالي المأخوذ في موضوع الحكم ، لا يكون موردا للأثر الشرعي حتى يستصحب ، وبالنسبة إلى ما هو المورد للأثر الشرعي يكون من قبيل استصحاب الفرد المردد الذي تقدم في طي استصحاب الكلى المنع عن جريان الاستصحاب في أمثاله ( ومثله ) الكلام فيما لو كان الشك في بقاء الحكم من جهة الشبهة الحكمية في اخذ أحد المعنيين المبينين مفهوما قيدا لموضوع الحكم ، ففيه أيضا لا يجري الاستصحاب لا في القيد ولا في المقيد ، لعدم تصور الشك في البقاء فيما هو موضوع الأثر بعد تردد القيد بين الزائل والباقي ، فينتهى الامر حينئذ إلى استصحاب نفس الحكم الشرعي ، ولا بأس بجريان الاستصحاب

ص: 154

فيه بناء على فهم العرف ظرفية القيد لا مقوميته لموضوعه ، والا فلا يجري فيه الاستصحاب لرجوع الشك في اخذ أحد القيدين المردد بين الزائل والباقي إلى الشك في بقاء موضوع التكليف ( هذا كله ) إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي ناشئا من الشك في بقاء القيد من جهة الشبهة الموضوعية أو الشبهة المفهومية في القيد أو الشبهة الحكمية في اخذ أحد المعنيين قيدا للتكليف أو لموضوعه ( واما ) إذا كان الشك فيه ناشئا من جهة أخرى ، بان كان الحكم مبهما من حيث الأمد بحيث يحتمل بقائه بعد انقضاء الزمان الخاص ( فان كان ) الزمان مأخوذا في ظاهر الدليل على وجه الظرفية أو القيدية للحكم الشرعي ، كقوله : يجب الجلوس في المسجد في النهار ، يجري فيه استصحاب الوجود ، دون العدم ( اما ) جريان استصحاب الوجود ، فعلى الظرفية ظاهر ، وكذلك على القيدية لاجتماع أركانه فيه ( فان ) شخص الحكم الخاص الثابت لموضوع كذلك مما علم بثبوته سابقا فشك في بقائه بعد انقضاء النهار ، لاحتمال كون القيد الخاص من علل حدوثه وقيام علة أخرى تقتضي بقائه في الليل ، أو لاحتمال قيديته لبعض مراتبه ، لا لاصله حتى ينتفي بزواله ( وتوهم ) انه على القيدية يكون الوجوب المجعول وجوبا موقتا ولا يعقل بقائه بشخصه بعد ارتفاع قيده ، وانما المعقول هو ثبوت شخص وجوب آخر مقارنا لارتفاع الوجوب الموقت ، ومعه يكون الاستصحاب المزبور من استصحاب الوجه الثاني من القسم الثالث من اقسام الكلى الذي تقدم المنع عن جريانه ( مدفوع ) بأنه كذلك إذا كان الحكم الثابت في الوقت محدودا ومبينا بالتفصيل بداية ونهاية ، ولكنه خارج عن مفروض البحث بينهم ( إذ على ذلك ) لا يتصور الشك في بقاء الحكم المجعول حتى يتأتى فيه النزاع بينهم في استصحابه حتى على فرض ظرفية الزمان للحكم المجعول ( فلا بد ) حينئذ من فرض البحث بينهم في مورد يكون الحكم والتكليف مبهما من جهة الأمد بحيث يحتمل بقائه بعد ارتفاع قيده بأحد الوجهين المتقدمين ، وفي هذا الفرض لا قصور في استصحابه على كل من الظرفية والقيدية ، فان قيدية الزمان ليس الا كسائر القيود المأخوذة في طي الخطاب للحكم أو لموضوعه ، فيجري فيه استصحاب الشخص والكلي القسم الأول ( واما عدم

ص: 155

جريان ) استصحاب العدم فيه ، فللعلم الوجداني بانتقاض العدم الأزلي المطلق بصرف الوجود وانقلابه بالنقيض ( واما توهم ) لزوم كون القيود الراجعة إلى الحكم في ظاهر الدليل قيودا للموضوع ، اما لما افاده الشيخ قدس سره من أن معنى الهيئة معنى حرفي وهو لجزئيته غير قابل للاطلاق والتقييد ، واما لما افاده في الكفاية من أن ما يكون قيدا للحكم لابد من كونه قيدا للموضوع أيضا ، لاستحالة أوسعية دائرة الموضوع من دائرة حكمه ، ومع تقييده به يتعدد الموضوع لا محالة ، فيمتنع استصحاب الوجود لكونه من اسراء حكم ثابت لموضوع خاص إلى موضوع آخر ، ومع امتناع استصحابه يتعين كونه مجرى لاستصحاب العدم ( فمدفوع ) اما التقريب الأول ، فبما حققناه في محله من أن تقييد الهيئة بمكان من الامكان ، لعموم المعنى والموضوع له في الحروف والهيئات ( واما التقريب ) الثاني فبمنع اقتضاء تقييد الحكم والهيئة تقييد الموضوع والمادة ، بل هو من المستحيل لاستحالة قيدية شيء لكل من الهيئة والمادة ، لما يلزمه من لزوم كون الشيء الواحد في مرتبتين ( فان ) لازم قيدية شيء للموضوع هو ان يكون ملحوظا في المرتبة السابقة على الحكم المتعلق به للزوم تأخر كل حكم عن موضوعه ومتعلقه بما له من القيود كما هو الشأن في كل عرض بالنسبة إلى معروضه ( ولازم قيديته لنفس الحكم كونه ملحوظا في رتبة متأخرة ، فيلزم من قيدية الشيء لكل من الحكم والموضوع ان يكون ملحوظا في مرتبتين ، وهذا مما لا خفاء في بطلانه واستحالته ( نعم ) قضية لزوم تطابق دائرة الحكم والموضوع في مفروض البحث هو عدم اطلاق موضوع الحكم ولزوم اختصاصه بحصة من الذات التوائمة مع وجود القيد ، ولكن ذلك غير تقييده به كما هو ظاهر ( وعليه ) فلا قصور في استصحاب الحكم الثابت لتلك الذات إلى ما بعد القيد لاتحاد موضوع القضيتين ولو على النظر الدقى العقلي فضلا عن العرفي التسامحي ، فيقال : انه كان على يقين بحكم الذات في الوقت فشك في بقاء حكمه بعده من جهة احتمال كون الوقت المحدود من علل حدوث الحكم ، أو احتمال كونه قيدا لبعض مراتبه لا قيدا لاصله ، ولا ينقض اليقين بالشك ، هذا إذا كان الزمان في ظاهر الدليل مأخوذا في الحكم على وجه الظرفية أو القيدية.

ص: 156

( واما ) إذا كان مأخوذا في الموضوع ، فان كان على وجه الظرفية ، فاما ان يكون المطلوب صرف وجود الطبيعي الذي لا تعدد فيه ولا تكثر ولو بالتعمل والتحليل ، أو يكون هو الطبيعة السارية في ضمن كل فرد التي لازمها انحلال الحكم المتعلق بها إلى احكام متعددة واختصاص كل فرد بحكم شخصي مستقل غير مرتبط بالآخر في مقام الإطاعة والمعصية ، ومرحلة المثوبة والعقوبة ( فعلى الأول ) لا يجري فيه الا استصحاب الوجود ، دون العدم للقطع بانتقاض العدم الأزلي بصرف الوجود ( وعلى الثاني ) يجري فيه كلا الاستصحابين استصحاب الوجود ، والعدم ( اما ) استصحاب الوجود فباعتبار ذلك الحكم المنشأ والمجعول الحقيقي الذي من شأنه الانحلال إلى احكام متعددة حسب تعدد افراد الموضوع بتعدد الآنات والأزمنة ، حيث إنه من جهة اهمال أمد ذلك الحكم المنشأ الذي من شأنه الانحلال وقابليته للزيادة والشمول للأفراد الحادثة بعد الوقت يشك في بقائه ، فيجري فيه الاستصحاب واما جريان استصحاب العدم فباعتبار أشخاص حصص الحكم المختصة بالافراد الحادثة بعد الوقت المضروب ، حيث إن كل واحد منهما تبعا لموضوعاتها المقدرة وجودها كان مسبوقا بالعدم الأزلي ، وبعد وجود موضوعاتها يشك في انقلابه إلى الوجود فيستصحب ، فيقع التعارض بين الاستصحابين كما ذهب إليه النراقي قدس سره فيما حكى عنه ( وعلى هذا ) التقريب لا يتوجه اشكال لزوم الجمع بين النظرين المختلفين مع وحدة الملحوظ ، إذ على ما ذكرنا يكون الملحوظ أيضا متعددا كاللحاظ ، أحدهما انقلاب عدم الحكم في الجملة إلى الوجود. ثانيهما عدم معلومية انقلابه بالوجود مطلقا حتى بالنسبة إلى الافراد الحادثة بعد انقضاء الوقت ( هذا ) إذا كان الزمان مأخوذا في الموضوع على وجه الظرفية ( وأما إذا كان ) مأخوذا فيه على وجه القيدية والمفردية بنحو يقتضي تعدد الموضوع بحسب الوقت وخارجه ، فلا مجال فيه لاستصحاب الحكم واثباته لذات الموضوع بعد انقضاء الوقت ، لمبائنة الموضوع مع عدم القيد للموضوع المقيد ، فلا يكون اثبات الحكم له حينئذ ابقاء للحكم الأول الثابت للمقيد ، لأنه مما قطع بارتفاعه بارتفاع موضوعه المقيد بزوال قيده ، بل احداثا له في موضوع آخر

ص: 157

( الا ان يقال ) : ان كون الزمان قيدا مقوما للموضوع انما هو بحسب لسان الدليل والنظر العقلي ( واما ) بالنظر العرفي المسامحي يكون من حالات الموضوع لامن مقوماته ، فيمكن حينئذ استصحابه ( أو يقال ) : انه من المحتمل ان يكون ثبوت الحكم للذات المتقيدة بالزمان من باب تعدد المطلوب بان يكون لذات الامساك مثلا مطلقا مصلحة ملزمة تقتضي مطلوبيته ، ولخصوصية كونه في النهار مصلحة أخرى ملزمة غير المصلحة القائمة بذات الامساك ، فتنبعث من هاتين المصلحتين إرادة قوية نحو المقيد بالنهار وبعد ارتفاع الخصوصية تبقي المصلحة الأولى بحالها فتقتضى مطلوبية ذات الامساك ، فإنه مع هذا الاحتمال لا يقين بارتفاع أصل الحكم الثابت للمقيد بزوال قيده ، بل يحتمل بقاء مرتبة من الحكم الأول المتعلق بنفس الذات حتى مع اليقين بزوال القيد ، غاية الامر يتبدل حده من الضمني إلى الاستقلالي ، وذلك أيضا بضميمة فهم العرف عدم المغايرة بين الذات في الوقت وخارجه الا بصرف الوجدان للقيد والفقدان له ، وبذلك يجري فيه استصحاب الوجود لتمامية أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق ووحدة القضيتين فتأمل ( واما ) استصحاب العدم فيجري فيه بلا كلام ، لان مرجع اخذ الزمان قيدا مفردا للموضوع بعد أن كان إلى تعدد الموضوع وكون الوجوب الثابت للذات مع القيد غير الوجوب الثابت للذات مع عدم القيد ، فلا محاله مهما يشك في ثبوته للفرد الفاقد للقيد ، يجري فيه استصحاب العدم لليقين بالعدم سابقا والشك في البقاء لاحقا ، لان ما علم بانتقاضه بالوجود انما هو عدم شخص الحكم المختص بالموضوع المقيد ، لا عدم طبيعي الحكم الجامع بينه وبين غيره كما هو ظاهر ( ولكن ) الذي يظهر من بعض الأعاظم قدس سره على ما في التقرير المناقشة في الاستصحاب المزبور ، ( فاورد عليه ) بما ملخصه ان الحكم الثابت للشيء على نحو القضية الحقيقية ينحل إلى احكام تقديرية ثابتة لموضوعات مقدرة الوجود دائرة مدارها في الفعلية والشأنية ، فإذا كان وجود الحكم الثابت للمقيد تبعا لموضوعه مقيدا بقيد خاص من الزمان أو الزماني ، فلابد من أن يكون عدمه أيضا مقيدا بذلك القيد ، لان نقيض الوجود المقيد بشيء هو العدم المقيد بذلك الشيء لا العدم المطلق ، فنقيض

ص: 158

الوجود المقيد كالوجود المقيد يكون متقوما بوجود القيد ، ثم استنتج من ذلك في المقام بأنه إذا أوجب الجلوس في المسجد إلى الزوال على نحو كان الزوال قيدا للحكم أو الموضوع ، فشك في وجوبه بعد الزوال فوجوب الجلوس بعد الزوال حسب مفردية الزمان وان كان من الحوادث المسبوقة بالعدم ، ولكن عدمه المسبوق به لا يكون هو العدم الأزلي المطلق ، لأنه مما انتقض بالوجود قطعا بوجوب الجلوس قبل الزوال ، وانما هو العدم الخاص والمقيد ببعد الزوال ، وهذا العدم الخاص باعتبار كونه كالوجود الخاص مما قوام تحققه بوجود القيد ، فقبل الزوال لا يكون الوجوب المقيد بما بعد الزوال متحققا ولا عدم الوجوب المقيد به متحققا حتى يصح استصحابه الا بنحو السالبة بانتقاء الموضوع ( وبالجملة ) العدم المتحقق سابقا انما هو العدم المطلق وهو مع أنه منتقض بالوجود قطعا ، لا يكون نقيضا للوجود المقيد بما بعد الزوال ، وانما النقيض هو العدم الخاص الذي موطنه بعد الزوال ، وهذا قبل تحقق موطنه لا يكون له تحقق الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع فلذلك لا يجري فيه استصحاب الوجود ولا العدم ، بل لابد من الرجوع فيه عند الشك إلى البراءة أو الاشتغال ( ثم قال ) نعم لا بأس باستصحاب عدم الجعل بالنسبة إلى هذا الموطن ، لأنه لا مانع من انشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس ، بل انشاء الأحكام الشرعية كلها أزلية ، فإذا شك في انشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة وجعله أزلا ، فالأصل عدم الجعل ، لان كل جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين اخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، غاية الامر انه على القيدية لوجوب الجلوس لم يعلم انتقاض عدم الجعل بالنسبة إلى يوم الجمعة أو بعد الزوال ، لأنه على القيدية يحتاج وجوب الجلوس يوم الجمعة أو بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب يوم الخميس أو بعد الزوال ( وحيث ) انه يشك في جعل الوجوب يوم الجمعة أو بعد الزوال ، فالأصل عدمه ، الا انه لا اثر لاستصحاب عدم الجعل الا باعتبار ما يلزمه من عدم المجعول ، واثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من أوضح افراد المثبت انتهى ملخص كلامه ( وفيه ما لايخفى ) فان مرجع كون الزمان قيدا للموضوع ومفردا له بعد أن كان إلى تعدد الموضوع بحسب

ص: 159

الأزمنة واختصاص كل موضوع بحكم شخصي مستقل غير الحكم المختص بالآخر ، فلا جرم يكون المجعول في المقام فردين من الوجوب الثابت أحدهما للمقيد بما قبل الزوال والآخر للمقيد بما بعد الزوال ، غاية الامر يكون الفردان تبعا لتدريجية موضوعهما المقيدين بالزمان تدريجيين.

( وحينئذ ) فإذا كان الفردان من الحوادث المسبوقة بالعدم وكان مرجع الحدوث في كل شيء إلى سبقه بعدم نفسه ، لا بعدم الطبيعي الجامع بنيه وبين غيره ، يكون الفرد الثاني أيضا حادثا مسبوقا بعدم نفسه الراجع إلى سبقه بالعدم المضاف إلى المقيد ، لا إلى العدم المقيد بنحو التوصيف ، إذ العدم المقيد لا يكون نقيضا للوجود المقيد وانما نقيضه عدم المقيد بالإضافة لا بالتوصيف ، والا يلزم ارتفاع النقيضين بارتفاع القيد وهو كما ترى من المستحيل ( وبالجملة ) نقول ان مرجع القيد في أمثال هذه القضايا إلى كونه مأخوذا في ذات المهية المسبوقة في اللحاظ على طرو الوجود عليها ، وان الوجود والعدم كانا طاريين على المهية المقيدة ، لا ان القيد مأخوذ في طرف الوجود نفسه ليكون النقيض هو العدم المقيد ( فلا بد ) حينئذ من جعل الوجود والعدم مرسلين عن القيد في مرحلة طروهما على المقيد ، لاستحالة تقييدهما بما هو مأخوذ في معروضهما ( غاية الامر ) يكون تقييد المعروض مانعا عن اطلاقهما كما هو الشأن في كل عرض بالنسبة إلى معروضه ، لا انه موجب لتقييدهما ( وحينئذ ) فإذا كان القيد مأخوذا في ذات الموضوع الملحوظ كونه في الرتبة السابقة على طرو الوجود عليه وكان الوجود مرسلا من القيد في مرحلة طروه على المقيد ، فقهرا يصير النقيض للوجود المزبور هو العدم المضاف إلى المقيد ، لا العدم المقيد بالتوصيف ( وحيث ) ان هذا العدم المضاف لا يكون الا أزليا ، لان ما ليس بازلى هو العدم المقيد ، فلا محالة يجري فيه الاستصحاب لتحقق أركانه فيه ، حيث إن شخص وجوب الجلوس بعد الزوال من الحوادث المسبوقة بعدم نفسه أزلا ، فإذا شك قبل الزوال أو حينه في ثبوته للمقيد ببعد الزوال يجري فيه استصحاب العدم ( ولعمري ) ان المنشأ كله للمناقشة المزبورة هو تخيل رجوع القيود في نحو هذه القضايا إلى

ص: 160

نفس العدم لا إلى المعدوم ، ولأجل ذلك أنكر الاستصحاب في المقام وفي كلية الاعدام الأزلية ( والا ) فعلى ما ذكرنا من رجوعها إلى المعدوم ، فلا مجال للمناقشة المزبورة كما هو ظاهر ، وتنقيح الكلام بأزيد من ذلك موكول إلى محله ( واما ) ما افاده من المنع عن استصحاب عدم الجعل ، لعدم ترتب اثر شرعي عليه في نفسه ، وعدم اثباته لعدم المجعول ولكون الترتب فيه عقليا لا شرعيا ( ففيه ) أولا ان الجعل والمجعول نظير الايجاد والوجود ، ليسا الا حقيقة واحدة وان التغاير بينهما انما هو بصرف الاعتبار ( وثانيا ) على فرض تغايرهما بحسب الحقيقة نقول : ان شدة التلازم بينهما لما كانت بمثابة لا يرى العرف تفكيكا بينهما حتى في مقام التعبد والتنزيل ، بحيث يرى التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، نظير المتضايفين كالأبوة والبنوة ، فلا قصور في استصحابه حيث يكون التعبد بعدمه تعبدا بعدم المجعول ( وحينئذ ) فعلى ما ذكرنا من التقريب في صحة استصحاب الوجود أيضا يتوجه اشكال الفاضل النراقي قدس سره من التعارض بين الأصلين.

( التنبيه الخامس )

قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب التعليقي تارة ، والمشروط أخرى ، باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقية حكم فيها بوجود الحكم على تقدير امر آخر ، كالحكم بحرمة عصير العنبي ونجاسته على تقدير غليانه ( وقد وقع ) فيه الخلاف بين الاعلام في جريان الاستصحاب وعدمه ( فقيل ) : بالعدم ، لان الاستصحاب فرع الثبوت سابقا ولا ثبوت للمستصحب في القضايا التعليقية قبل وجود المعلق عليه الا فرضا ، فان القضايا الطلبية المتضمنة للأحكام المجعولة انما تكون من سنخ القضايا الحقيقية التي تكون الحكم فيها في الفعلية والشأنية تابعا لفعلية وجود موضوعه. وشأنيته ، فما لم يتحقق الموضوع بقيوده في الخارج لا يكون الحكم الا فرضيا لامتناع فعلية الحكم والتكليف قبل

ص: 161

وجود موضوعه ، ففي مثل قوله : العنب يحرم مائه إذا غلى يكون الموضوع للحرمة هو العنب المغلى لرجوع قيود الحكم طرا إلى الموضوع ، فلو شك قبل تحقق الغليان في بقاء الحرمة لأجل تبدل بعض حالات الموضوع لا يجرى فيه الاستصحاب ، إذ لا ثبوت للمستصحب سابقا ( ولكن ) الأقوى خلافه ( وتحقيق ) الكلام في المقام يستدعي تقديم أمور : ( الأول ) ان الحكم المستصحب اما ان يكون مطلقا غير معلق على شيء حتى بالنسبة إلى وجود موضوعه بحيث يقتضي وجوب تحصيله مهما أمكن بما له من القيود المعتبرة فيه ولو بايجاده وتكوينه في الخارج ، نظير الامر بشرب الدواء ، واما ان يكون معلقا بشيء هو وجود موضوعه ، أو قيوده وحالاته ، أو امر خارج عن حدود موضوعه ( وعلى الأخير ) فالتعليق اما ان يكون واردا في لسان الدليل ، كقوله : العنب يحرم مائه إذا غلى ، واما ان يكون منتزعا من كيفية جعل الحكم الشرعي لعنوان مخصوص بنحو التنجيز كقوله : يجب اكرام العالم ، حيث إن العقل ينتزع من مثل هذا الحكم المنشأ قضية تعليقية بأنه لو وجد انسان وكان عالما لوجب اكرامه ولا يحكم بوجوب تحصيله مقدمة للاكرام الواجب ( ولا فرق ) ظاهرا في اعتبار الاستصحاب على القول به في القضايا التعليقية بين القسمين المزبورين ، إذ لا وجه لتخصيص اعتباره بالأول دون الثاني الا توهم ان القضية المستصحبة في مثله ليست شرعية ولا لها اثر شرعي ، بل عقلية محضة

( ولكنه ) مندفع بما بيناه مرارا من أنه يكفي في شرعية الأثر في باب الاستصحاب. مجرد كون الشيء مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بالواسطة ، فإذا كان منشأ انتزاع هذه القضية العقلية التعليقية قضية شرعية يجري فيها الاستصحاب ( وبذلك ) قلنا : ان البحث في جعلية الأحكام الوضعية وانتزاعيتها من التكليف قليل الجدوى في باب الاستصحاب ، لأنه على الانتزاعية أيضا يجرى فيها الاستصحاب ، لكفاية مجرد انتهائها إلى الشارع وضعا ورفعا في الشرعية المعتبرة في باب الاستصحاب.

( الامر الثاني ) قد تكرر منا مرارا الفرق بين القيود الراجعة إلى مفاد الخطاب أعني الحكم والتكليف ، وبين القيود الراجعة إلى موضوعه ، فان

ص: 162

القيدين وان كانا مشتركين في الدخل في مصلحة المتعلق ، الا انهما مختلفان في كيفية الدخل فيها ، ( حيث إن ) دخل الأول فيها يكون من قبيل دخل الشيء في أصل الاحتياج إلى الشيء واتصافه بكونه صلاحا ، وبذلك يكون من الجهات التعليلية لطرو الحكم على الموضوع ، بخلاف الثاني فان دخله انما يكون في وجود ما هو المتصف بكونه صلاحا ومحتاجا إليه فارغا عن أصل اتصافه بكونه صلاحا ( ومن الواضح ) حينئذ انه لو ثبت في مورد قيدية شيء للوجوب الذي هو مفاد الخطاب في الواجبات المشروطة لا يكاد صلوحه للقيدية لموضوعه ، لاستحالة تقييد الموضوع بحكمه أو بما هو من علله وبالعكس ( نعم ) تقييد الحكم به موجب لضيق قهري في موضوعه وللزوم تطابق سعة دائرة كل حكم مع موضوعه وامتناع أوسعية أحدهما من الآخر ، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عرضه في الاعراض الخارجية وغيرها ، ولكنه غير تقييده به ( وحينئذ ) فارجاع القيود المأخوذة في مفاد الخطاب في القضايا المشروطة إلى موضوع الخطاب بجعله مركبا من الذات والوصف كما عن بعض منظور فيه ، فإنه ناشئ عن الخلط بين نحو القيد في كيفية الدخل في مصلحة المتعلق.

( الامر الثالث ) قد تقدم في بعض التنبيهات السابقة ان حقيقة الأحكام التكليفية المستفادة من الخطابات الشرعية ليست الا الإرادة التشريعية المبرزة بأحد مظهراتها من القول أو الفعل ، وان عنوان مثل البعث والتحريك والايجاب والوجوب ونحوها من العناوين اعتباريات محضة منتزعة من مقام ابراز الإرادة ، حيث إنه بابراز المولى إرادة الشيء واشتياقه إليه باخبار أو انشاء من قول أو فعل ، ينتزع العقل من ارادته المبرزة منه عنوان البعث والوجوب واللزوم ، كل باعتبار خاص ، لا انها هي الأحكام التكليفية المستفادة من الخطابات ، ولذا ترى صحة انتزاع تلك العناوين بمحض وصول إرادة المولى إلى مقام البروز بانشائه أو اخباره ولو لم يخطر ببال المولى التسبب بانشائه إلى تحقق تلك العناوين ( وبذلك ) قلنا : ان الأحكام التكليفية بحقيقتها التي هي الإرادة التشريعية المظهرة بأحد مظهراتها ، أجنبية بجميع مباديها عن الجعليات المتصورة في باب الأوضاع ، لان الحقائق الجعلية عبارة عن أمور اعتبارية التي قوام تحققها في الوعاء

ص: 163

المناسب لها بالانشاء والقصد بحيث كان الانشاء والقصد من قبيل الجزء الأخير من العلة التامة لتحققها ، نظير الملكية والزوجية ونحوهما ، فان روح الجعل فيها عبارة عن تكوين حقائقها بالانشاء والقصد بحيث لولا قصد التسبب بانشائها إلى تحققها في الوعاء المناسب لها لما كان لها تحقق أصلا ، فكان الجعل والانشاء فيها واسطة بينها وبين ارادتها ( وهذا المعنى ) غير متصور في الأحكام التكليفية ، لا بالنسبة إلى نفس الإرادة ، لأنها امر واقعي تدور في تحققها مدار تحقق مباديها من العلم بالمصلحة والعزم والجزم ، ولا بالنسبة إلى حيث ابرازها بانشاء أو اخبار ، لكونها من الأمور المتأصلة الخارجية ومن مقولة الفعل ، فلم يبق الامر حلة البعث والتحريك والوجوب ، وقد عرفت ان هذه أمور اعتبارية انتزاعية ينتزعها العقل من مجرد ابراز الإرادة من المولى فلا ترتبط بالحقائق الجعلية ( نعم ) لا بأس بدعوى الجعل بمعنى التكوين فيها باعتبار ايجاد ما هو المنشأ القهري لا القصدي للاعتبارات المزبورة أعني الاعلام بالإرادة واظهارها خارجا باخبار أو انشاء فعلي أو قولي ، فإنه بهذه العناية تكون الأمور المزبورة منسوبة إلى الجعل التكويني وتابعة لما بيد الشارع وضعه ورفعه وهو الامر الذي عين الانشاء الاختياري والتشريع ، ولكن هذا المقدار لا يوجب كونها جعلية بالمعنى المتصور في الأحكام الوضعية كما هو واضح ( وبما ذكرنا ) انقدح ان ما اشتهر وانغرس في بعض الأذهان من أن القضايا الشرعية والاحكام الطلبية من سنخ القضايا الحقيقية التي تكون فرض وجود الموضوع فيها موجبا لفرض محموله ، فلا يكون الحكم فيها فعليا الا في ظرف فعلية موضوعه بقيوده مما لا أصل له ولا أساس.

( فان ) القضايا الحقيقية المصطلحة انما تصح في مثل الأحكام الوضعية المجعولة والاعراض الخارجية التي يكون الخارج فيها ظرفا للعروض والاتصاف ، لا في الأوصاف الوجدانية التي تكون ظرف عروضها هو الذهن وكان الخارج ظرفا لاتصافها محضا ، كالإرادة والكراهة والحب والبغض والتمني ونحوها ، فإنها من جهة قيامها بالوجودات الذهنية لا تحتاج في فعليتها باي نحو يكون لها من التعلق إلى وجود متعلقاتها في الخارج ، ولذا قلنا كرارا ان معروضات تلك الصفات الوجدانية طرا لا يكون الا الصور

ص: 164

الذهنية ، غايته بما انها ترى خارجية على وجه لا يلتفت إلى ذهنيتها كما يشهد له موارد تخلف القطع والظن عن الواقع ، فالاحكام التكليفية التي لبها الإرادة المبرزة حينئذ أجنبية عن القضايا الحقيقية المصطلحة حتى فيما كان منها بنحو الإناطة والاشتراط ( فان ) مرجع الإناطة والاشتراط فيها بعد قيامها بالملحوظات الذهنية إلى اشتياق فعلى منوط بوجود الشيء في فرض الآمر ولحاظه المتحقق في حال الانشاء في قبال الاشتياق الفعلي المطلق نحو الشيء غير منوط بشيء حتى في فرضه ولحاظه ( لا إلى ) اشتياق تقديري ، فالمنوط به فيها دائما هو الشيء بوجوده الفرضي اللحاظي لا بوجوده العيني الخارجي ، كما هو الشأن في إناطة الإرادة بموضوعه ، ومع فرض وجوده في لحاظ الآمر يكون المبرز بالخطاب حتى في المشروطات فعليا دائما ، غايته كونه منوطا بوجود المنوط به في لحاظ الآمر بلا احتياج في فعليتها إلى وجود المنوط به خارجا ( نعم ) مرتبة محركية هذه الإرادة وفاعليتها منوطة بالعلم بوجود الموضوع والمنوط به خارجا ، لأنها من تبعاث تطبيق العقل عنوان الموضوع والمنوط به على الخارج وبدونه لا يحكم بوجوب الانبعاث ( ولكن ) ذلك لا يوجب إناطة أصل التكليف في فعليته بوجوده خارجا ( كيف ) وهذه المرتبة مرتبة تأثير الخطاب في حكم العقل بلزوم الانبعاث من بعث المولى ، لا مرتبة نفس الخطاب ومضمونه ، ولذا ترى إناطة هذه المرتبة بالعلم بالخطاب أيضا ، مع وضوح حفظ مضمونه في ظرف الجهل جزما ( والا يلزم ) اختصاص مضمون الخطاب بالعالم به وهو كما ترى ( نعم ) لو بنينا على جعلية الأحكام التكليفية كالأحكام الوضعية في أبواب العقود أمكن دعوى كونها من سنخ القضايا الحقيقية التي يكون فرض وجود الموضوع فيها موجبا لفرض محموله ، ولكن عرفت كونه بمعزل عن التحقيق ( فتلخص ) ان المبرز بالخطاب التكليفي الذي هو روح الحكم المتجسم بابرازه في جميع المقامات حتى في المشروطات فعلي دائما قائم بالوجودات اللحاظية وانه لا يحتاج في فعليته باي نحو يكون له من التعلق بقيده أو موضوعه إلى فعلية وجود قيده وموضوعه خارجا.

( وحيث اتضح ) هذه الأمور ( نقول ) انه بعد فعلية الإرادة في الخطابات المشروطة

ص: 165

لرجوع الإناطة والاشتراط فيها إلى اشتياق فعلي في ظرف لحاظ الشيء خارجيا لا إلى اشتياق تقديري ، فلا قصور في جريان الاستصحاب التعليقي فيها قبل حصول المعلق عليه في الخارج لعموم أدلته الشامل لمثله ، غاية الامر انه لا اثر له الا في ظرف وجود المنوط به خارجا الذي هو ظرف تطبيق الخطاب وظرف محركيته ( ولكن ) ذلك لا يمنع عن استصحابه ، لان في استصحاب لا يحتاج الا إلى اليقين بوجود المستصحب وما هو مفاد الخطاب سابقا والشك في بقائه لاحقا ، فإذا فرضنا ان مفاد الخطاب في المشروطات حكم فعلي منوط بوجود الشيء في فرض الآمر ولحاظه ، لا انه حكم فرضي تقديري بفرض وجود المنوط به خارجا ، فلا محالة يجري فيه الاستصحاب لتمامية أركانه ، من غير فرق بين ان تكون الإناطة والتعليق فيه بوجود موضوعه ، أو بأمر خارج عنه ، ولا بين ان يكون التعليق بأمر وجداني بسيط ، أو بأمر مقيد أو مركب من أمرين أو غير ذلك ، ولا بين ان يكون الحكم المعلق كليا أو جزئيا ( فلو علم ) حينئذ بترتب الحرمة والنجاسة على العنب في ظرف غليانه أو على العنب المغلي ، فشك بعد تبدله بالزبيب قبل غليانه في بقاء تلك الحرمة والنجاسة الثابتتين للعنب ، على تقدير غليانه ، يجري فيهما الاستصحاب لا محالة بعد جعل وصف العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته ، سواء فيه بين اخذ الغليان وصفا للموضوع ، كقوله : العنب المغلي يحرم أو ينجس ، أو شرطا للحكم كقوله : العنب يحرم وينجس إذا غلى ، وبذلك ينقدح فساد ما أفيد في المنع عن الاستصحاب المزبور ، من أن الحكم المترتب على الموضوع المركب انما يكون وجوده وتقرره بوجود موضوعه بما له من الاجزاء والقيود ، لان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل ان يتقدم الحكم على موضوعه ، والموضوع في مثال العنب يكون مركبا من جزئين العنب والغليان لان شرط الحكم يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحابه ، لأنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي ان يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له ، فبوجود أحد جزئي المركب ، لا يترتب عليه

ص: 166

الحكم الشرعي ما لم ينظم إليه الجزء الآخر ، نعم الأثر المترتب على أحد جزئي المركب هو انه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنه عقلي ، يكون مقطوع البقاء في كل مركب وجد أحد جزئيه فلا معنى لاستصحابه ( وجه الفساد ) ما عرفت أولا من منع رجوع شرائط الحكم في القضايا المشروطة إلى كونها قيودا للموضوع بحسب اللب ليكون الموضوع فيها هو الذات المتقيد ، وانما هي من الجهات التعليلية لطرو الحكم على ذات الموضوع ( ومجرد ) اقتضائها لاخراج الذات عن الاطلاق ، غير تقييدها بنفس الحكم أو بما أنيط به الحكم ( بل الموضوع ) في نحو هذه القضايا هو الذات المجردة عن القيد ، غايته على نحو لا اطلاق لها ولا تقييد.

( وثانيا ) على فرض تسليم رجوع قيود الحكم إلى الموضوع نمنع توقف فعلية الحكم على فعلية وجود موضوعه باجزائه وقيوده ( لما عرفت ) من أن حقيقة الحكم وهي الإرادة التشريعية المبرزة بالخطاب ، فعلية دائما في الخطابات المشروطة وغيرها ، وان مرجع الإناطة والاشتراط فيها إلى فعلية الإرادة والاشتياق التام في فرض لحاظ الشيء خارجيا قبال الإرادة المطلقة الراجعة إلى الاشتياق إلى الشيء لا في ظرف وجود شيء آخر في لحاظه ( لا ان ) مرجع الإناطة فيها إلى اشتياق تقديري بفرض وجود المنوط به خارجا ( نعم ) مرتبة محركية مثل هذه الإرادة منوطة بوجود المنوط به خارجا كإناطتها بالعلم به أيضا ، ولكنه غير مرتبة فعلية أصل الإرادة ( نعم ) ما أفيد من عدم فعلية الحكم الا في فرض فعلية موضوعه انما يتم في فرض مجعولية الأحكام التكليفية كما هو المعروف مع البناء على أن حقيقة الحكم التكليفي عبارة عن نفس البعث والايجاب ، لا الإرادة التشريعية المبرزة بالخطاب ، فإنه على هذا المبنى ، أمكن دعوى كون المجعول في باب التكاليف من سنخ القضايا الحقيقية التي يتبع المجعول فيها وجود موضوعه بقيوده في الفعلية والفرضية ، وهذا أيضا لولا دعوى كون المجعول حينئذ على وفق الإرادة في كونه فعليا منوطا بفرض وجود القيد في لحاظه ( وبالجملة ) فعلى ، هذا المبنى يتجه الاشكال في استصحاب الحكم التعليقي قبل وجود المعلق عليه خارجا ، بناء على اعتبار لزوم كون المستصحب فعليا شاغلا لصفحة الوجود

ص: 167

خارجا ، إذ حينئذ لا فعلية للحكم المستصحب في نحو المثال قبل تحقق الغليان حتى يمكن استصحابه ( ولكن ) على ذلك يلزم المنع عن الاستصحاب في الاحكام الكلية أيضا قبل وجود موضوعاتها فيما لو شك فيها لأجل احتمال نسخ أو تغيير بعض حالات الموضوع ( إذ بعد ) اعتبار كون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود خارجا ( لا فرق ) في المنع عن الاستصحاب ، بين الاحكام الكلية ، والجزئية مع أن المستشكل المزبور ملتزم بجريانه في الاحكام الكلية قبل وجود موضوعاتها ( فإذا التزم ) فيها بكفاية فرضية وجودا الحكم في صحة استصحاب الحكم الكلى ، يلزمه الاكتفاء به في استصحاب الحكم الجزئي ( وبالجملة ) احتياج الاستصحاب في جريانه إلى وجود الموضوع خارجا بما له من الاجزاء والقيود يستلزم المنع عنه حتى في الاحكام الكلية قبل تحقق موضوعاتها سواء كان الشك فيها من جهة الشك في النسخ أو من جهة أخرى ( كما ) ان الاكتفاء بصرف فرضية وجود الموضوع في استصحاب الحكم الكلى ، يستلزم الاكتفاء به في استصحاب الحكم الجزئي أيضا ( إذ لا فرق ) في فرضية الحكم بفرضية وجود موضوعه ، بين فرضية تمام موضوعه باجزائه وشروطه ، وبين فرضية بعضه ( فعلى ) كل تقدير لا وجه للتفصيل المزبور ، بل لا محيص اما من المنع عن استصحاب الحكم التعليقي قبل تحقق الموضوع والمعلق عليه مطلقا حتى في الحكم الكلى ، واما من الالتزام بجريانه مطلقا حتى في الحكم الجزئي بناء على الاكتفاء في جريانه بصرف وجوده فرضا في زمان يقينه ، هذا ( مع ) امكان اجراء الاستصحاب حينئذ في نفس القضية التعليقية والحرمة أو النجاسة التقديرية الثابتة للعنب قبل الغليان ، فإنه يصدق عليه قبل الغليان انه يحرم أو ينجس على تقدير غليانه وبعد صيرورته زبيبا يشك في بقاء تلك القضية التعليقية بحالها فيستصحب ، إذ لا قصور في أدلته للشمول لمثل الفرض ( ودعوى ) انها ليست بشرعية لأنها عبارة عن الملازمة بين وجود الشيء ووجود الحكم فهي اعتبار عقلي منتزع من جعل الشارع وانشائه الحرمة والنجاسة على العنب المغلي ، ودليل الاستصحاب غير ناظر إلى مثله ، مضافا إلى أن الملازمة انما هي بين الحكم وتمام الموضوع ، ولا يعقل الشك في بقائها الا من جهة الشك في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ الذي لا اشكال فيه ، وهو غير الاستصحاب التعليقي

ص: 168

( مدفوع ) بما ذكرنا مرارا من أنه يكفي في الشرعية في باب الاستصحاب مجرد كون المستصحب مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسيط منشئه ، فإذا كانت القضية التعليقية والملازمة المزبورة منتهية إلى كيفية إرادة الشارع وجعله على نحو خاص ، بحيث لولا الجعل الشرعي لما يعتبر العقل تلك الملازمة ، فلا محالة يجري فيها الاستصحاب والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك بعد انتهائه إلى الأثر العملي ، كما في السببية في الأمور الجعلية حسب ما شرحناه سابقا خصوصا على المبنى المختار في لا تنقض من كونه ناظرا إلى نفس اليقين بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال حتى في الاحكام المجعولة ، لا إلى المتيقن ولو بتوسيط اليقين بنحو جعل المماثل ، أو الامر بالمعاملة مع المتيقن معاملة الواقع ( وعليه ) فلا يحتاج في اجراء الاستصحاب في نحو هذه التعليقيات وشرعيتها إلى اتعاب النفس لاثبات ان لها مرتبة من الوجود كي يورد عليه بأنها كالملازمات الواقعية بين الشيئين ليست من الموجودات الخارجية وانما هي اعتبارات عقلية منتزعة من مجرد امتناع انفكاك أحد الشيئين عن الاخر ( نعم ) ما لا يكون جعليا انما هي الملازمة والسببية في الأمور الواقعية التكوينية التي لا يكون لها مساس بالجعل الشرعي ولو بالواسطة ، لا مثل هذه التعليقيات التي عرفت انتهائها بالآخرة إلى الجعل الشرعي ، كما هو ظاهر ( واما شبهة ) عدم تصور الشك في بقاء الملازمة ألا من جهة الشك في النسخ وبدونه يقطع ببقائها لكونها كالصحة التأهلية لجزء المركب ( فمدفوع ) بان المقطوع انما هو الحكم الثابت للذات في حال العنبية لا مطلقا حتى في حال الزبيبة ، إذ هو في هذا الحال مشكوك لا مقطوع ، والمستصحب هو هذا الحكم الضمني الفرضي الثابت للذات في حال العنبية وبقائه مشكوك لا مقطوع.

( ثم ) انه أورد على الاستصحاب المزبور بوجهين آخرين ( أحدهما ) من جهة تغاير الموضوع في القضيتين ، بدعوى ان الموضوع للحرمة والنجاسة المعلقة بالغليان في القضية المتيقنة انما هو ماء العنب وقد انعدم بصيرورته زبيبا ، وفي القضية المشكوكة هو الجرم الخاص وليس هو موضوعا للحرمة والنجاسة ( والثاني ) بمعارضة الاستصحاب المزبور مع استصحاب الطهارة والحلية الثابتة قبل الغليان ، فان

ص: 169

الاستصحاب التعليقي كما يقتضى حرمة الزبيب ونجاسته بعد الغليان كذلك الاستصحاب التنجيزي للطهارة والحلية الفعلية يقتضى حليته وطهارته بعد الغليان وحيث إن الشك في أحد الاستصحابين لا يكون مسببا عن الاخر يسقط الاستصحابان فيرجع فيه إلى قاعدة الحلية والطهارة ( ولكن ) الأول مندفع بفهم العرف كون الموضوع للحرمة والنجاسة هو الجسم الخاص وان وصف العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته.

( واما الثاني ) ففيه ان المعارضة انما تتم إذا كان المستفاد من دليل الغليان مجرد سببيته للحرمة والنجاسة المشروطة بلا غائيته للطهارة والحلية الثابتتين للعنب قبل الغليان بحيث يكون ارتفاع الحلية والطهارة الثابتة قبل الغليان عند فعلية الحرمة أو النجاسة المشروطة بالغليان بمناط المضادة ( واما ) إذا كان المستفاد من دليل الغليان علاوة عن شرطية الغليان وسببيته للحرمة والنجاسة ، كونه غاية أيضا شرعا لحكم المضاد أعني الحلية والطهارة الفعلية الثابتتين للعنب قبل الغليان ، ( فلا مجال ) لتوهم المعارضة بين الاستصحابين ، نظرا إلى حكومة الاستصحاب التعليقي حينئذ على الاستصحاب التنجيزي للحلية والطهارة ، فإنه بعد أن يكون الحلية والطهارة مغياة شرعا بعدم طرو الغليان الذي هو سبب النجاسة والحرمة ، فلا جرم بالاستصحاب التعليقي يرتفع الشك في الحلية والطهارة ولا يبقى معه المجال لاستصحابهما أصلا ( ففي الحقيقة ) مرجع استصحاب الحرمة والنجاسة المشروطة إلى استصحاب بقاء الشرطية للحرمة والنجاسة ولعدم الحكم الآخر المضاد لهما المعبر عنه بالغاية ، فما هو الحاكم على هذا الاستصحاب في الحقيقية هو استصحاب الشرطية والغائية الحاصل في ضمن استصحاب الحرمة المشروطة ، والا فاحد الحكمين كان في عرض الآخر بلا طولية بينهما ولا سببية والمسببية ، وما هو في طولهما هو حيث بقاء الشرطية والغائية التوأمين في الثبوت للقيد المزبور ( حينئذ ) فلا بد في الحكم بتعارض الأصلين وعدمه من لحاظ ان الغليان كما أنه شرط للحرمة والنجاسة المجعولة ، كذلك يكون غاية شرعا للحلية والطهارة ، أم لا يكون كذلك ، بل كان غائيته للحلية والطهارة بحكم العقل محضا بلحاظ مضادة

ص: 170

الحكمين وامتناع تحقق أحدهما في ظرف تحقق الآخر.

( فعلى الأول ) كما هو التحقيق لا محيص من حكومة الاستصحاب التعليقي بالبيان المتقدم.

( وعلى الثاني ) تستقر المعارضة بين الأصلين ، لان الحكمين حينئذ عرضيان والشرطية والغائية أيضا عرضيتان ( لان ) ما هو في طول الحرمة هو وجود الشرط والغاية ، والأول وان كان شرعيا فيترتب عليه اثره الذي هو الحرمة الا ان الثاني لا يكون كذلك ، فلا مجال لرفع اليد عن استصحاب الحلية باستصحاب الحرمة المشروطة كما هو ظاهر.

( وبما ذكرنا ) يظهر النظر فيما افاده بعض الأعاظم قدس سره في تقريب السببية والمسببية بين الأصلين ، ( ببيان ) ان الشك في حلية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وان لم يكن مسببا عن الشك في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان وانما كان الشك في أحدهما ملازما للشك في الآخر ، الا ان الشك في الطهارة والحلية الفعلية في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كون المجعول الشرعي هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقا حتى في حال كونه زبيبا ، أو ان المجعول الشرعي خصوص نجاسة العنب المغلي وحمرته ولا يعم الزبيب المغلي ، فإذا حكم الشارع بالنجاسة والحرمة المطلقة بمقتضى الاستصحاب التعليقي يرتفع الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته وجه النظر ان اطلاق الحرمة المشروطة بالغليان لحال الزبيبية وثبوت ضده في هذه الحالة من المتضادين الملازم لكونهما في مرتبة واحدة من دون ان يكون لعدم أحدهما تقدم على وجود الآخر ، ولا لوجود أحدهما تقدم على عدم الآخر ، ومعه لا سببية ولا مسببية بينهما ، بل يقال : حينئذ انه لم لا تعكس الامر ، فإنه كما أن التعبد ببقاء الحرمة المطلقة الشامل لحال الزبيبة ملازم لارتفاع الحلية السابقة عقلا في هذا الحال ، كذلك التعبد ببقاء الحلية السابقة في هذا الحال ملازم عقلا للتعبد بارتفاع الحرمة التعليقية في هذا الحال ( ولقد تفطن ) هو قدس سره لهذا الاشكال ، حيث أورد على نفسه بان عدم الحلية والطهارة لا تكون من الآثار الشرعية المترتبة على حرمة العنب

ص: 171

المغلي ونجاسته وانما هو من اللوازم العقلية لجعل الحرمة للعنب المغلي مطلقا لمكان امتناع اجتماع الضدين ( ولكنه ) أجاب عنه بالفرق بين السببية والمسببية في الموضوعات وبينهما في الاحكام ، فقال : ان شرطية ترتب المسبب على السبب شرعا انما هي في الاستصحابات الموضوعية ، واما في الاستصحابات الحكمية فعدم ترتب الحكم الآخر على ثبوت حكم آخر من لوازم نفس استصحابه والتعبد به ، فإذا جرى فيه الاستصحاب يترتب عليه جميع الآثار حتى العقلية لا خصوص الآثار الشرعية ( فاستصحاب ) الحزمة التعليقية بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيبا والتعبد ببقائه مما يلازم عقلا للتعبد بارتفاع حليته وطهارته ، إذا لا معنى للتعبد بحرمته ونجاسته في هذا الحال الا الغاء حليته وطهارته في هذا الحال ، والا يكون التعبد به لغوا ، فبذلك يكون استصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية حاكما على استصحاب الحلية والطهارة انتهى ملخص ما افاده بطوله.

( وأنت خبير ) بما فيه ( إذ مضافا ) إلى أنه لا فرق في شرعية ترتب المسبب بين الأصول الموضوعية والحكمية ، يمنع الطولية والسببية والمسببية بينهما لما عرفت من المضادة بين الحكمين عقلا المستتبع لملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر ، فلو اكتفي بهذا المقدار في الحكم بارتفاع الحلية والطهارة الفعلية باستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية للعنب بما له من المراتب التي منها المرتبة الزبيبية ، فلم لا تعكس الامر ، لان التعبد بالحرمة التعليقية كما يقتضى التعبد بعدم الحلية الفعلية بعد الغليان ، كذلك التبعد ببقاء الحلية الفعلية الثابتة للعنب بعد الغليان في هذا الحال يقتضي التعبد بارتفاع الحرمة التعليقية في هذا الحال ، لان لازم تضاد الحكمين انما هو ملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر واقعا وظاهرا ، ومع امكان العكس أين يبقى المجال لتقديم الاستصحاب التعليقي وترتيب لازمه ظاهرا من نفي الحلية والطهارة كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فالعمدة في تقديم الاستصحاب التعليقي في المقام على الاستصحاب التنجيزي للحلية والطهارة هو ما ذكرناه من الحكومة بالتقريب المتقدم الراجع استصحابه إلى استصحاب بقاء الشرطية والغائية للحلية السابقة الموجب لثبوت ما هو الغاية للحلية والطهارة ، حيث إنه باستصحابه

ص: 172

يرتفع الشك في الحلية والطهارة تعبدا ، ومعه لا يبقى مجال لاستصحابهما فتدبر.

( وبما ذكرنا ) يظهر النظر فيما افاده المحقق الخراساني قدس سره في نفى التعارض بين الأصلين رأسا ، من أن التعارض انما يتصور بينهما في فرض اقتضاء بقاء الحلية إلى حين الشك بها اجتماعها مع الحرمة التعليقية المضادة لها بحيث يلزم من جريان الاستصحابين العلم بمخالفة أحدهما للواقع ، وليس كذلك ، فإنه كما أن الحرمة منوطة بوجود الغليان ، كذلك الحلية السابقة منوطة أيضا بعدم الغليان ، ومن المعلوم ان القطع ببقاء القضيتين وجدانا لا يوجب اؤلهما إلى اجتماع الضدين فضلا عن استصحابهما ( إذ فيه ) ان القطع بالحلية المغياة بالغليان وان كان يجتمع مع الحرمة المنوطة بالغليان ، حيث كان العنب دائما يثبت له الحلية والحرمة المنوطة بالغليان بلا اؤل مثله إلي اجتماع الحكمين الفعليين في زمان بلحاظ ان الغليان الذي هو غاية للحلية وشرط للحرمة بوجوده ينفى الأول ويثبت الثاني ( ولكن ) القطع بالحلية المغياة قبل حصول الغاية لما يلازم القطع بالحلية الفعلية للعنب فلا جرم مهما شك في ارتفاعها ولو من جهة احتمال بقائها في الزمان اللاحق بلا تعليق على عدم الغليان يجرى استصحاب تلك الحلية الفعلية ، كما لو شك في ارتفاعها يمثل مواجهة الشمس أو غيرها من محتمل الرافعية ، فالمعارض لاستصحاب الحرمة التعليقية حينئذ هو هذا الاستصحاب ، لا استصحاب الحلية المنوطة بعدم الغليان كي يقال : ان القطع ببقائها غير ضائر فضلا عن استصحابها ( وعليه ) فالحري هو ابداء أصل المعارضة بين الاستصحابين ثم علاج التعارض بينهما بحكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب الفعلي بالتقريب الذي ذكرناه.

( التنبيه السادس )

لا اشكال في استصحاب الحكم الشرعي عند الشك في النسخ إذا كان المستصحب من احكام هذه الشريعة المقدسة ( واما ) إذا كان من احكام الشرايع السابقة ، فقد يناقش فيه بوجهين

ص: 173

( الأول ) من جهة اختلاف الموضوع ( بتقريب ) ان المكلف بأحكام كل شريعة انما هو المدرك لتلك الشريعة ، المدرك للشرايع السابقة قد انقرضوا ، واما المدرك لهذه الشريعة مع عدم دركه للشرايع السابقة فلم يعلم كونهم مرادا من العمومات الثابتة في الشرايع السابقة ، فلا يجرى الاستصحاب في حقهم ( وبتقرير أوضح ) ان استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ انما يجري وينفع في فرض المفروغية عن شمول حكم العام من الأول لجميع الافراد المتدرجة الزمانية وهو متفرع على عدم اختصاص حكم العام بزمان دون زمان ، والا فعلى فرض اختصاصه من الأول بالزمان السابق ولو من جهة ان النسخ تخصيص في الأزمان يستحيل دخول الافراد التدريجية الحادثة في الشريعة اللاحقة في العام السابق أو اطلاقه ( وحيث ) ان الشك في النسخ يستتبع الشك في دخول الافراد الحادثة في الشريعة اللاحقة في العام من الأول ، فلا يجتمع الشك في النسخ مع العلم بدخول الافراد اللاحقة بعد زمان النسخ في العام من الأول ، ومعه لا يثمر استصحاب بقاء الحكم الثابت لعنوان عام يشك في دخول الافراد الفعلية فيه لاثبات حكم العام في حقهم ، إذ مثل هذا المعنى لو كان جزميا غير مثمر لاثبات الحكم في حقهم فضلا عن استصحابه ( نعم ) مثل هذا الاستصحاب يثمر في النسخ بمعنى البداء المتصور في حق المخلوقين ، فإنه عليه يمكن دعوى الجزم بدخول الافراد الفعلية في المراد من العام من الأول ، فمع الشك في البداء ونسخ الحكم الأول يجري استصحاب بقائه وعدم نسخه ( ولكن ) هذا المعنى غير متصور بالنسبة إليه سبحانه لأنه غير منفك عن الجهل بمصالح الأمور تعال اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

( الثاني ) من جهة العلم الاجمالي بنسخ كثير من الاحكام الثابتة في الشرايع السابقة في هذه الشريعة ، حيث إن هذا العلم الاجمالي يمنع عن جريان الأصل في أطرافه ( أقول ) ولا يخفى ما عليك في هذين الوجهين.

( اما الوجه الأول ) فمع انه جار في استصحاب احكام هذه الشريعة عند الشك في نسخها بالنسبة إلى الموجودين في الأزمنة المتأخرة مندفع ، بان الاشكال انما يتوجه إذا كان الحكم الثابت في الشريعة السابقة بنحو القضايا الخارجية المتكفلة للحكم على

ص: 174

الافراد المحققة الوجود في زمان خاص ، إذ حينئذ لا يقين بثبوت الحكم من الأول للافراد الموجودة في الأزمنة المتأخرة وانما المتيقن ثبوته بالنسبة إلى الافراد الموجودة في الزمان السابق ( واما ) إذا كان بنحو القضية الطبيعية المتكفلة للحكم على طبيعة المكلفين بنحو السريان في الافراد الفعلية المحققة الوجود والفرضية المقدرة وجودها ، فلا يلزم اشكال ، إذ بعد أن كان مقتضى العموم ثبوت الحكم من الأول لجميع الافراد الفعلية والفرضية لولا النسخ : فلا جرم عند الشك في النسخ وعدم عموم لفظي يقتضي استمراره في جميع الأزمنة يجري فيه استصحاب البقاء وعدم النسخ ولازمه ثبوته للافراد الموجودة في الشريعة اللاحقة ، لان منشأ الشك في ثبوته فعلا للافراد الموجودة في الأزمنة المتأخرة انما يكون هو النسخ لا غيره ، فاستصحاب عدمه يكفي لنفي هذه الجهة من الشك ، بلا احتياج إلى اثبات كونهم مرادا من العام بمثل هذا الأصل كي يجيئ فيه شبهة مثبتية الأصل المزبور ( وبالجملة ) الغرض من استصحاب حكم العام انما هو استصحاب الحكم الثابت لجميع الافراد من غير جهة النسخ بلحاظ ان الشك في بقائه يكون من جهة احتمال النسخ فبالاستصحاب المزبور يترتب ثبوت الحكم العام على الافراد الموجودة في الأزمنة المتأخرة ( واما توهم ) ان الاحكام الثابتة للفرضيات ليست بفعلية وانما هي اقتضائية محضة فاستصحابها لا يفيد في اثبات فعلية الحكم بالنسبة إلى الموجودات في الأزمنة المتأخرة الا على الأصول المثبتة ( فمدفوع ) بما تقدم مرارا من منع عدم فعليتها بالنسبة إليها ، إذ لا قصور في فعلية الإرادة وتوجيهها نحو الفرضيات عند تمامية المصلحة ( نعم ) الممنوع انما هو محركية هذه الإرادة بالنسبة إلى الافراد الفرضية قبل وجوداتها بلحاظ ان محركتيها من شؤون حكم العقل بلزوم الامتثال المتوقف على وجود المكلف خارجا ، وترتب هذه على الاستصحاب المزبور لا يكون من المثبت ، لأنه من اللوازم الأعم من الواقع والظاهر ، فمتى يثبت حكم على فرد وجدانا أو تعبدا يترتب عليه حكم العقل بوجوب الامتثال ( نعم ) يتم هذا الاشكال على من التزم بان حقيقة الحكم التكليفي عبارة عن البعث والزجر الفعليين المنتزعين عن مرحلة محركية الإرادة والكراهة نحو المرام ،

ص: 175

فإنه بعد مالا يمكن توجيه الحكم الفعلي بالمعنى المزبور إلى الوجودات الفرضية حين الخطاب ، لابد من الالتزام باقتضائية الحكم بالنسبة إلى الفرضيات ، فيتوجه عليه الاشكال المزبور ، ولكن نحن في فسحة من هذا الاشكال ( ثم إن ذلك ) في فرض اجراء الاستصحاب في الحكم التنجيزي ، واما الاستصحاب التعليقي بناء على صحته كما هو المختار ، فلا غبار في جريانه بالنسبة إلى الموجودين في الشريعة اللاحقة فيقال : انهم كانوا سابقا بحيث لو وجدوا كانوا محكمين بكذا والآن بقائهم على ما كانوا عليه ، فان مرجع الشك في نسخ حكم العام السابق إلى الشك في بقاء القضية التعليقة والملازمة المزبورة ، وبالاستصحاب المزبور يحكم عليهم بوجوب كذا ( وعلى ذلك ) لا يحتاج في اثبات حكم العام السابق في حق الموجودين في الشريعة اللاحقة إلى فرض وجود المدرك للشريعتين باجراء الاستصحاب في حقه والحاق البقية به بعدم الفصل كي يحتاج إلى اثبات الاشتراك حتى في الحكم الظاهري ، فيشكل ، عليه بان الاجماع على الاشتراك انما هو في الحكم الواقعي لا في الحكم الظاهري ( هذا كله ) فيما يتعلق بالجواب عن الوجه الأول.

( واما الجواب ) عن الوجه الثاني فبانحلال العلم الاجمالي المزبور بالظفر بمقدار من الاحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها ، فتكون الشبهة فيما عداها بدوية يجرى فيه الأصل بلا مزاحم ( ثم ) ان ذلك فيما إذا كان العلم الاجمالي بالنسخ بتبدل الوجوب بالحرمة أو بالعكس ، وأما إذا كان العلم الاجمالي بتبدل الوجوب إلى عدم الوجوب والحرمة إلى عدمها ، فعلى ما اخترناه من جريان الأصول المثبتة للتكليف في أطراف العلم الاجمالي لا يحتاج إلى دعوى الانحلال بل يجري الاستصحاب فيها ولو مع وجود العلم الاجمالي وعدم انحلاله إلى الأبد ، بلحاظ ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم حينئذ انما هو استتباعه لمحذور المخالفة العملية ، لا لمانعية العلم بذاته عن جريانها في الأطراف ، فمع فرض انتفاء هذا المحذور يكون وجود العلم الاجمالي كعدمه ، فتجري الأصول المثبتة في جميع الأطراف.

( ثم إن ) في التقرير اشكالا آخر على الاستصحاب المزبور ( حاصله ) انه لا جدوى

ص: 176

لاستصحاب حكم الشرعية السابقة ، فإنه على فرض بقائه في هذه الشريعة لابد من أن يكون بامضاء من الصادع به على ما يدل عليه قوله صلی اللّه علیه و آله ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار الا وقد أمرتكم به ، فمع عدم العلم بالامضاء لا جدوى لاستصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة ( ولكن ) فيه انه بعدما كان حكم كل شريعة حكما إلهيا ناشئا عن مصلحة تامة في حق العباد فبقائه في الشريعة اللاحقة ملازم لامضائه في تلك الشريعة ، لان بقائه كاشف عن تمامية ملاكه ومعه يستحيل عدم امضائه ، لان عدم امضائه مساوق لعدم تمامية ملاكه في الشريعة اللاحقة وهو خلف ، فان المفروض كونه على تقدير بقائه واجدا للملاك في حق الموجودين في الشرعية اللاحقة بلا مزاحم ( ومعه ) كيف يمكن فرض عدم امضائه في الشرعية اللاحقة الا بفرض جهل الصادع بها وهو من المستحيل ، وحينئذ يكون مرجع الشك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة إلى الشك في بقاء ما هو ممضاة في الشريعة اللاحقة ، وبالاستصحاب المزبور يثبت بقائه كما هو واضح ولعل الامر بالتأمل في كلامه إشارة إلى ما ذكرنا.

( التنبيه السابع )

قد اختلفوا في اعتبار مثبتات الأصول وعدم اعتبارها على قولين بعد الوفاق منهم ظاهرا على اعتبارها في الامارات ، والمشهور بين المتأخرين العدم وهو الأقوى خلافا لما يظهر من بعض المتقدمين ( وتنقيح المقال ) في المقام ان يقال : ان مرجع التنزيلات الواردة في أدلة الأصول بل الامارات ( اما ) ان يكون إلى تنزيل من الشارع في مقام التشريع ، نظير قوله : الطواف بالبيت صلاة ، ونحوه من التنزيلات الراجعة إلى جعل حقيقة المماثل أو الأثر الثابت للمنزل عليه ( واما ) ان يكون إلى الامر بالبناء على أن المشكوك هو الواقع بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال المتمشية من المكلف بلا نظر إلى جعل الأثر أو المماثل أصلا : فيكون مرجع حرمة النقض في الاستصحاب إلى وجوب المعاملة مع اليقين أو المتيقن السابق معاملة بقائه

ص: 177

من حيث الجري العملي على طبقه حركة أو سكونا الراجع في الحقيقية إلى نحو ادعاء منه لبقاء اليقين أو المتيقن السابق وتوسعته بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال المقصودة ، لا بلحاظ جعل الأثر الشرعي ، ( فشرعية ) تلك الأعمال كانت مستفادة من الامر بالنبأ بلحاظ استتباع الامر بالبناء وتلك المعاملة بعنوان كونها أعمالا شرعية ، لكونها محكومة بالأحكام الخمسة الظاهرية ( وحيثما عرفت ) ذلك نقول : انه على المعنى الأول الراجع إلى جعل الأثر الحقيقي أو المماثل لا مجال لتصحيح المثبت أصلا ، وذلك لا قصور في الاطلاق التنزيل ، بل لعدم امكان شموله لغير الآثار الشرعية ، لوضوح ان التنزيل من كل شخص لابد وأن يكون بلحاظ الآثار المتمشية من قبله ، والأثر المتمشي من الشارع في تنزيلاته الواردة في مقام التشريع لا يكون الا الآثار التي تنالها يد الجعل والرفع التشريعي فلا يمكن شمولها لغيرها من الآثار العقلية أو العادية ( فالمعقول ) من حكم الشارع وتعبده بحيوة زيد في استصحابها انما هو اثبات وجوب الاتفاق من ما له على زوجته وعدم جواز تقسيم ما له على ورثته ونحوهما من الآثار الشرعية الثابتة لعنوان المستصحب ، لا ما يلازمه من الأمور العقلية أو العادية كنموه ونبات لحيته ، لعدم كون هذه من الأمور القابلة للجعل والرفع التشريعي ، ( ولا الآثار ) الشرعية المرتبة عليه بتوسيط الأمور العادية أو العقلية ، كوجوب التصدق المترتب بعنوان النذر على عنوان نموه ونبات لحيته ، لان ترتب هذه لا بد وأن يكون بتوسيط جعل الواسطة وقد فرضنا انه غير معقول ، فلا يمكن شمول التنزيل حينئذ لمثل تلك الآثار ( لا يقال ) : هذا إذا أريد من جعل تلك الآثار جعلها بتوسط جعل الواسطة ( واما ) لو أريد جعلها بلا توسيط جعل الواسطة ، فهو امر معقول في نفسه ، فان للشارع في استصحاب حياة زيد جعل مطلق ما يترتب عليها من الآثار الشرعية أعم من كونه بلا واسطة أو معها ، ومع امكانه في نفسه يتمسك باطلاق التنزيل لاثبات تلك الآثار ( فإنه يقال ) : ان ذلك وان كان ممكنا في نفسه ، ولكن المنصرف منه هو خصوص الآثار المترتبة على المستصحب بلا واسطة ( ان قلت ) على ذلك يلزم عدم شمول عموم التنزيل للآثار الشرعية مع الواسطة ولو

ص: 178

كانت الواسطة اثرا شرعيا كما لو نذر ان يصلي ركعتين يوم الجمعة على تقدير حياة ولده يوم الجمعة ونذر أيضا ان يتصدق بما له على تقدير وجوب الصلاة عليه يوم الجمعة وهكذا ، مع أنه ليس كذلك قطعا ( قلت ) : ان شمول التنزيل لهذه الآثار الطولية انما هو من جهة ان قضية جعل الأثر في استصحاب الحياة لما كانت بعناية انه الأثر الواقعي يستتبع قهرا لتنزيل آخر بالنسبة إلى الأثر وهو وجوب الصلاة من حيث موضوعيته لوجوب التصدق ومثله مستتبع لجعل اثر آخر بالعناية المزبورة وهكذا ( وهذا بخلاف ) ما لو كانت الواسطة أمرا عاديا أو عقليا كنموه أو نبات لحيته ، فإنه لا يمكن شمول التنزيل للآثار الشرعية المترتبة بتوسيط الأمور المزبورة الا بفرض وقوع نفس الواسطة مستقلا موردا لتنزيل مستقل من استصحاب أو غيره ( وحينئذ ) فعلى هذا المسلك لا محيص من القول بعدم حجية المثبت ( هذا ) كله بناء على رجوع مفاد التنزيل في لا تنقض إلى جعل الأثر أو المماثل ( واما ) على ما هو التحقيق من رجوعه إلى وجوب المعاملة مع المتيقن السابق معاملة بقائه بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال بلا نظر إلى جعل الأثر خصوصا على المختار من تعلق النقض بنفس اليقين لا بالمتيقن ولو بتوسيط اليقين ( فقد يقال ) : انه من الممكن حينئذ تصحيح الأصول المثبتة ( بدعوى ) ان مرجع التعبد بالبقاء في استصحاب الموضوع إلى التوسعة الصورية للمتيقن من حيث موضوعيته للأثر بلحاظ الأعمال المترتبة عليه ، لا بلحاظ جعل الأثر الحقيقي أو المماثل للمتيقن أو لاثره ، فلا قصور في شمول التنزيل والتعبد ببقاء المتيقن لمطلق ما يترتب عليه من العمل ولو بواسطة اثر عقلي أو عادي بأحد الوجهين المتقدمين ، فإنه من الممكن حينئذ التعبد ببقاء الحياة وتوسعتها بلحاظ اثره الشرعي أو العقلي والعادي والتعبد به أيضا بلحاظ التعبد بأثره إلى أن ينتهي إلى العمل ولو بوسائط عديدة ، لان التعبد بالشيء بلحاظ موضوعيته للأثر عين التعبد بأثره ووجود محموله أو ملازم له بملازمة عرفية موجبة للانتقال من التعبد به إلى التعبد بأثره ووجود محموله ، وهكذا التعبد بوجود المحمول من حيث موضوعيته إلى أن ينتهي إلى العمل ( وبعد ) كفاية مجرد الانتهاء إلى الأثر العملي في صحة التعبد بالشيء من أول

ص: 179

السلسلة المنتهى إليه ولو بوسائط عديدة ، فلا بأس بالتشبث باطلاق دليل التنزيل لمطلق ما يترتب عليه من الأثر الشرعي ولو بوسائط عديدة ( ولا مجال ) حينئذ للتشبث في نفي الأصول المثبتة بما تقدم من أن التعبد بالشيء لا بد وأن يكون بلحاظ التعبد بأثره الشرعي لا العقلي والعادي لعدم كونهما مما تناله يد الجعل والرفع التشريعي ، إذ ذلك انما يتوجه إذا كان التنزيل في المقام راجعا إلى انشاء جعل الأثر الحقيقي كما هو المسلك الأول ، لا إلى مجرد التعبد بوجود المتيقن الراجع إلى التوسعة الصورية لوجوده بلحاظ ما يترتب عليه من العمل ، فان مثل هذا النحو من التوسعة في الآثار العقلية والعادية بلحاظ ما يترتب عليها من العمل امر ممكن وتكون من شؤون الشارع ، نظير توسعة الموضوعات الخارجية ( كما أنه ) لا مجال لنفي اعتبارها من جهة الانصراف المدعي في المقام إلى الأثر بلا واسطة ، فإنه على ما ذكرناه من التقريب يكون التعبد بالشيء من حيث موضوعيته للأثر من أول السلسلة المنتهى بوسائط عديدة إلى العمل تعبدا بالأثر بلا واسطة كما هو ذلك في فرض كون الوسائط أمورا شرعية ولذا يكتفي في ترتب الأثر مع الواسطة بالاستصحاب الجاري في أول السلسلة المنتهى إلى العمل بالتقريب المتقدم ( وحينئذ ) فلا يندفع هذه الشبهة الا بدعوى انصراف هذه التنزيلات إلى تطبيق القضايا الشرعية وتوسعة موضوعاتها ، والا فمع الانصراف المزبور لا يكاد شمولها لغيرها من القضايا العقلية والعادية كما هو الشأن في مثل حديث الرفع ونحوه ( وبذلك ) يفرق بين ان يكون الأثر الشرعي المترتب على المتيقن بتوسيط امر شرعي ، فيترتب عليه بالاستصحاب الجاري في أول السلسلة ، وبين ان يكون مترتبا عليه بتوسيط امر غير شرعي فلا يترتب عليه باستصحابه ، حيث كان الفارق بين الفرضين ما ذكرناه من الانصراف المزبور ، ( ولعمري ) ان مثل هذه الجهة هو العمدة في رفضهم الأصول المثبتة رأسا واقتصارهم على نفس مؤدى الأصل أو ما يترتب عليه من القضايا الشرعية بلا واسطة عقلية أو عادية وعدم اثباتهم شيئا من لوازم المؤدى وملزوماته ولو كانت شرعية ( لا ان ذلك ) من جهة دعوى انصراف التنزيل إلى الأثر بلا واسطة ، أو كون مؤدى دليل الأصل مجرد تطبيق العمل على المؤدى كما توهم ( والا ) يلزم عدم شموله

ص: 180

في الأصول الموضوعية للآثار الشرعية المترتبة على الآثار الشرعية الخارجة عن ابتلاه المكلف في زمان التعبد بالمؤدى ، كما في الماء التالف الذي غسل به الثوب النجس سابقا أو توضأ به غافلا فشك بعد خروجه عن الابتلاء بتلف ونحوه في طهارته أو في اطلاقه ( هذا ) إذا أريد من تطبيق العمل على المؤدى تطبيقه عليه بجميع لوازمه ( واما ) لو أريد به التطبيق في الجملة ولو بانتهائه إلى الأثر الشرعي ( فيتوجه ) عليه اشكال التفكيك بين اللوازم الشرعية المترتبة على المستصحب بتوسيط امر شرعي ، وبين اللوازم الشرعية المترتبة بتوسيط اثر عقلي أو عادى بعد فرض اشتراكهما في الانتهاء إلى الأثر العملي ( وبما ذكرنا ) انقدح بطلان المسلك الأول الراجع إلى جعل مفاد التنزيل من باب جعل الأثر والمماثل بلا واسطه ( إذ لازمه ) تخصيص حجية الاستصحاب في الموضوعات بما إذا كان الموضوع مورد ابتلاء المكلف حين توجيه التكليف بعدم النقض ، ولازمه عدم صحة استصحاب طهارة الماء التالف ، أو اطلاقه في فرض ابتلاء المكلف بأثره وملاقيه حين الشك في طهارته ، أو اطلاقه ، لامتناع جعل الأثر الحقيقي للماء التالف فعلا خصوصا لو قيل بان الطهارة منتزعة من احكام تكليفية قائمة بذات الموضوع من نحو جواز شربه وجواز استعماله في الوضوء ونحوه ، وهو كما ترى ( مضافا ) إلى اقتضائه عدم جريانه في القسم الثاني من اقسام الكلى فيما لو كان المستصحب تكليفا واثرا شرعيا ، كالوجوب المردد بين النفسي أو الغيري لواجب آخر قد علم بارتفاعه بنسخ ونحوه ، لامتناع جعل كلي الأثر والقدر المشترك بلا كونه في ضمن فصل خاص ، فإنه كما يمتنع جعل الوجوب الواقعي عاريا عن الخصوصية النفسية أو الغيرية ( كذلك ) يمتنع جعل الوجوب الظاهري بلا كونه في ضمن إحدى الخصوصيتين ( وهذا ) بخلاف المسلك المختار الراجع إلى كون نتيجة التنزيل مجرد التعبد بالمؤدى والامر بالمعاملة مع المتيقن السابق معاملة الباقي من حيث الجري العملي على طبقه حركة وسكونا ، فإنه عليه لا محذور في جريان الاستصحاب في الخارج عن الابتلاء في زمان الشك بلحاظ التعبد بأثره المبتلى به في زمان الشك من نحو طهارة الثوب المغسول به ، وصحة الوضوء السابق وصلاته ، كما لا محذور في التعبد ببقاء

ص: 181

القدر المشترك في المثال بلحاظ الجري العمل على طبقه ، كما أنه على هذا المسلك بمقتضى الانصراف المدعي إلى القضايا الشرعية يصح التفكيك في الآثار مع الواسطة بين ما يكون ترتبه على المستصحب بواسطة شرعية ، وبين ما لا يكون كذلك ( نعم ) لو اغمض عن الانصراف المزبور لا مجال لنفي الأصول المثبتة من جهة ابتلائها بوجود المعارض من طرف استصحاب العدم الجاري في الأثر العقلي المسبوق بالعدم ( إذ ذلك ) انما يتوجه في فرض كون مبنى حجية المثبت اطلاق التنزيل بلحاظ جعل الأثر الحقيقي ولو بالواسطة ( والا فعلى المختار ) في مفاد هذه التنزيلات من كونه مجرد التعبد بوجود الشيء وتوسعته من حيث موضوعيته للتعبد بأثره بلا واسطة ، وكذا التعبد به من حيث موضوعيته لاثر آخر إلى أن ينتهي إلى الأثر الشرعي العملي ، فلا يتوجه الاشكال المزبور ( فان ) الشك في وجود الأثر العقلي الذي هو أحد الوسائط بعد أن كان مسببا عن الشك في وجود موضوعه وسببه وهو الحياة مثلا ، فلا محالة يكون الأصل الجاري فيها من حيث موضوعيته للأثر حاكما على الأصل الجاري في نفس الأثر ورافعا للشك عن وجوده ، فيخرج بذلك عن عموم لا تنقض فلا يجري فيه أصل العدم حتى يعارض استصحاب الحياة ( نعم ) لو كان مقتضى الأصل الجاري في الأثر الذي هو النمو أو نبات اللحية توسعته حتى من حيث أثريته للحيوة لا من حيث ذاته فقط ، بحيث يستتبع توسعته من هذه الجهة توسعة في موضوعه وسببه ، لكان للمعارضة المزبورة مجال ، لاقتضاء كل من استصحاب الموضوع والأثر نفي الشك عن الآخر واخراجه عن عموم لا تنقض ( ولكن ) دون اثباته خرط القتاد ، ومعه يبقي الأصل الجاري في الموضوع بلا معارض ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن اعتبار المثبت ما ذكرناه من انصراف هذه التنزيلات إلى تطبيق خصوص القضايا الشرعية المترتبة على المؤدى بلا واسطة ، بلا نظر لها إلى غيرها من القضايا العقلية أو العادية كي يقتضى توسعته بلحاظ مطلق ما يترتب عليه من الأثر ولو بواسطة عقلية أو عادية.

( ثم إن ما ذكرناه ) من الانصراف المزبور غير مختص بمفاد خصوص

ص: 182

التنزيلات الواردة في الأصول ، بل هو جار في كل دليل مثبت لمثل هذه التنزيلات سواء فيه الأصول أو الامارات فلا فرق بينهما من هذه الجهة ( وانما الفرق ) بينهما في التزامهم بحجية المثبت في الامارات دون الأصول من جهة اقتضاء الطرق والامارات حكايات متعددة بالنسبة إلى المؤدى ولوازمه وملزوماته وملازماته ، حيث إنه بهذا الاعتبار ينطبق موضوع التنزيل على جميع تلك الحكايات فتكون الامارة الواحدة باعتبار تعدد حكايتها بمنزلة امارات متعددة قائمة بعضها على المؤدى وبعضها على لوازمه وبعضها على ملزوماته وملازماته في أنها باشتمالها على كل حكاية تكون مشمولة لدليل التصديق مستقلا بلحاظ التعبد بأثره في عرض الحكاية الأخرى ، مع انصراف دليل التصديق في كل حكاية كما في التعبد بالأصول إلى توسعة خصوص القضايا الشرعية المترتبة عليه بلا واسطة عقلية أو عادية ( وهذا ) بخلاف الأصول فإنها من جهة عدم كشفها عن المؤدى ولوازمه وملزوماته يكون التنزيل فيها مقصورا على خصوص المؤدى بلحاظ التعبد بأثره الشرعي بلا واسطة عقلية أو عادية ، فلا يكون المتعبد به في استصحاب الحياة مثلا الا عنوان المتيقن من حيث تيقنه به ، بلحاظ ما يترتب عليه من الأثر الشرعي بلا واسطة ، دون غيره مما هو لازمه أو ملزومه ( فتكون ) الأصول من هذه الجهة نظير ما هو المشهور في باب الرضاع من اختصاص حرمة النشر في قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب بما إذا تحقق من قبل الرضاع إحدى العناوين المحرمة بالنسب كعنوان الام وعنوان الأخت أو العمة أو الخالة ونحوها ، دون غيرها من العناوين الملازمة لها كعنوان أخت الأخت مثلا ، وان كان بينهما فرق من جهة أخرى من حيث كون الاشكال في الأصول المثبتة من جهة قصور دليل التنزيل عن الشمول للعناوين الملازمة ، بلا اشكال في ثبوت أصل الكبرى ، بخلاف باب الرضاع فان الاشكال فيه يكون من جهة ثبوت أصل الكبرى وهي حرمة أخت الأخت بهذا العنوان في باب النسب ، بلا قصور في دليل التزيل في الشمول لكل ما ثبت من الكبرى في النسب ، ففي الحقيقة يكون بين البابين تمام المعاكسة من جهة الملاك والمناط ، ولكن مثل هذه التفرقة لا يضر بما نحن بصدده من تنظير أحد البابين بالآخر ، إذ يكفي في صحته مجرد اشتراكهما في عدم اثبات

ص: 183

اللوازم وان كان ذلك في كل باب بمناط غير المناط في الباب الآخر.

( واما المنع ) عن تعدد الحكاية في الطرق والامارات ، بتوهم عدم حكايتها الا عن خصوص المؤدى دون لوازمه وملزوماته وملازماته ، بدعوى ان المخبر عن الشيء كالموت والحياة قد لا يلتفت إلى لوازمه كالنمو ونبات اللحية فضلا عما يستتبعه من اللوازم الشرعية مع وضوح ان حكاية الخبر عن الشيء فرع التفات المخبر إليه وبدونه يستحيل الحكاية ( فمدفوع ) بان الامر كذلك في الحكاية التصديقية الموجبة للاذعان بكون المؤدى مرادا للمتكلم لا مطلقا حتى بالنسبة إلى الحكاية التصورية ( واعتبار ) خصوصها حتى في لوازم المؤدى وملزوماته ممنوع جدا ( بل نقول ) : انه بعد احراز الحكاية التصديقية بالنسبة إلى المؤدى والمدلول المطابقي يكفي في صحة الاخذ بلوازمه وملزوماته ، مجرد حكاية الخبر عنها ولو تصورية الملائمة مع القطع بعدم التفات المخبر والمتكلم إليها ( ولذا ترى ) بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم وفى باب الاقرار وغيره على الاخذ بلوازم الكلام الصادر من الغير والزامهم إياه بما يقتضيه كلامه من اللوازم حتى مع قطعهم بعدم التفات المتكلم إلى تلك اللوازم وغفلته عنها ( ومن الواضح ) انه لولا كفاية مجرد الدلالة التصورية في صحة الاخذ بلوازم المؤدى وملزوماته لما صح منهم الاخذ بلوازم الكلام الصادر عن الغير واخذه بما يقتضيه كلامه من اللوازم ( نعم ) لابد في صحة الاخذ بها من احراز الدلالة التصديقية بالنسبة إلى المؤدى والمدلول المطابقي ، وبعد احراز هذه الجهة ولو بالأصول العقلائية يؤخذ بجميع ما له من اللوازم والملزومات بمقتضى الدلالة التصورية ( وعلى فرض ) تسليم اعتبار الدلالة التصديقية حتى بالنسبة إلى لوازم المؤدى وملزوماته ، نقول : انه يكفي في الحكاية المزبورة مجرد التفات المخبر والمتكلم إلى لوازم المؤدى وملزوماته ولو بنحو الاجمال ، بان لكلامه لازم وملزوم ولا يحتاج إلى الالتفات التفصيلي بالنسبة إليها ، ومع تحقق ذلك بنحو الاجمال ، لا قصور في شمول دليل التعبد بالامارة لجميع ما يحكي عنه من المؤدى ولوازمه وملزوماته ( وبذلك ) تمتاز الامارات والأدلة الاجتهادية عن الأصول في حجية المثبتات فيهما دون الأصول ( والا ) فمع المنع عن تعدد الحكاية فيهما يشكل التفرقة

ص: 184

بينهما وبين الأصول في حجية المثبتات. ( وأقصى ) ما قيل حينئذ في الفرق بينهما أمران ( أحدهما ) ان الامارة على الشيء وان لم تكن حاكية الا عن نفس المؤدى ولا كان التعبد بها الا تعبدا واحدا بمدلولها المطابقي ( ولكن ) التعبد بالمؤدى يشمل اللوازم المترتبة عليه ولو بوسائط عقلية أو عادية ( وفيه مالا يخفي ) فإنه بعد عدم كون التعبد بها الا تعبدا بمدلولها المطابقي ، كيف يمكن دعوى شموله لما يتبعه من اللوازم ، مع أن هذا الملاك موجود في الأصول أيضا ، فلم لا يقال به فيها ، فيطالب بالفرق بينهما ( وثانيهما ) ما عن بعض الأعاظم قدس سره فإنه بعد التزامه بان للامارة على الشيء كحيوة زيد لا تكون الا حكاية واحدة عن المؤدى وهو الحياة لا حكايات متعددة حكاية عن حياة زيد وحكاية عن نموه ونبات لحيته ، قال : ان الوجه في حجية مثبتات الامارة دون الأصول ، هو ان الامارة تكون محرزة للمؤدى وكاشفة عنه كشفا ظنيا وان الشارع بأدلة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها فصارت الامارة ببركة دليل اعتبارها كاشفة عن الواقع ومحرزة له كالعلم الوجداني وبعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما له من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ( وحاصل ) ما افاده هو مقايسته الامارة بالعلم الوجداني ، بدعوى انه كما أن بالعلم الوجداني بشيء كحيوة زيد مثلا يترتب جميع ما للمعلوم من اللوازم والآثار ، كذلك بقيام الامارة عليه ، فإنه بعد أن كان المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والوسطية في الاثبات تصير الامارة لا محالة ببركة دليل تتميم كشفها كاشفة عن الواقع كالعلم الوجداني فإذا أقامت على حياة زيد فبنفس اثباتها للحيوة يثبت قهرا جميع مالها من الخواص والآثار ولو بألف واسطة عقلية أو عادية على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ولا يحتاج في اثبات اللوازم إلى حكاية الامارة عنها كحكايتها عن المؤدى ( بخلاف ) الأصول العملية ، فإنه ليس فيها جهة كشف عن الواقع ولو ناقصا كي يكون المجعول فيها هو الطريقية ، وانما المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، اما بالبناء على أنه هو الواقع كالأصول المحرزة : أو بدونه كما في الأصول غير المحرزة ، فلا يمكن المصير فيها إلى حجية المثبتات لعدم اقتضاء أدلتها أزيد من اثبات نفس المؤدى أو ما يترتب عليه من الحكم

ص: 185

الشرعي بلا واسطة عقلية أو عادية ( وفيه ما لا يخفى ) فان حيثية الطريقية والكاشفية والمحرزية بعد ما كانت بحقيقتها من الأمور التكوينية الخارجية ، لامن الحقايق الاعتبارية الجعلية ، فلا محالة يكون مرجع جعل الطريقية والكاشفية للامارة تأسيسا أو امضاء إلى الجعل بمعنى الادعاء والتنزيل بادعاء ما ليس بكاشف تام حقيقة كاشفا تاما المستلزم لتطبيق عنوانه على المورد بنحو من الادعاء والعناية ، نظير جعل الحياة أو العدالة لزيد بالجعل التشريعي ، ومرجع ذلك بعد احتياج التنزيل إلى الأثر الشرعي المصحح له ولو في طرف المنزل إلى الامر بالمعاملة مع ما أدت إليه الامارة معاملة الواقع في الجري العملي على طبقه وعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للواقع ، لكونه هو الذي زمام امر رفعه ووضعه بيد الشارع ويصلح أيضا لتنجيز الواقع وقد تقدم تفصيل ذلك في الجزء الثالث من الكتاب عند البحث عن قيام الطرق والأصول مقام القطع فراجع ( وحينئذ ) نقول : انه بعد عدم حكاية الطرق والامارات على ملزوم المؤدى وملازماته ، لا مجال لترتب تلك اللوازم والآثار بمحض التعبد بانكشاف المؤدى والبناء على أنه الواقع بداهة عدم اقتضاء التعبد المزبور الا تطبيق عنوان الكشف والاحراز في مورده ، لا تطبيقه على لوازمه ، وآثاره مع الشك الوجداني فيها وعدم العلم بها لا وجدانا ولا تعبدا وتنزيلا. ( وبذلك ) يظهر فساد مقايسة المقام بالعلم الوجداني بالشيء ، فان ترتب تلك اللوازم في مورده انما هو من جهة ملازمة العلم بالشيء كالحياة للعلم بلوازمه وملزوماته كنبات اللحية ، لا انه من جهة اقتضاء مجرد العلم بالملزوم مع قطع النظر عن استتباعه للعلم باللازم كي تصح المقايسة المزبورة ، ولذا لو فرض في مورد عدم استتباع العلم بالملزوم للعلم بلازمه لا يحكم بترتب اللازم عليه بمحض الملازمة الواقعية ، لان لزوم ترتبه منوط عقلا بقيام الطريق عليه من علم وجداني أو تعبدي ( وحينئذ ) فإذا لم يكن العلم الوجداني بالملزوم بنفسه مقتضيا لترتب لوازمه وآثاره الا من جهة استتباع العلم به للعلم بلازمه ، فكيف يقتضيه مجرد العلم التعبدي بالملزوم مع الشك الوجداني في اللازم وعدم العلم به لا وجدانا ولا تعبدا ، ومعه لا مجال لترتب اللوازم والآثار في الامارات دون الأصول الا بفرض كون اللازم من آثار كشف الحياة

ص: 186

تعبدا ، أو كون التعبد بكشف اللازم من لوازم التعبد بكشف الحياة ، ولكنهما من الأغلاط ( إذ الأول ) منهما ظاهر ( الثاني ) أيضا كذلك لعدم الملازمة بين التعبد بكشف الملزوم ، والتعبد بكشف اللازم ( فلا محيص ) حينئذ من ابداء الفرق في حجية مثبتات الطرق والامارات دون الأصول بما ذكرناه من اشتمال كل من الطرق والامارات على حكايات متعددة كل واحدة منها في عرض الأخرى مشمولة لتعبد مستقل بخلاف مفاد الأصول كالاستصحاب ، فإنه لا يشمل الا ما هو متيقن سابقا ومشكوك لاحقا.

بقى التنبيه على أمور : ( الامر الأول ) ان ما ذكرنا من عدم اعتبار مثبتات الأصل انما هو فيما يلازم المستصحب واقعا من الأمور العقلية وما يترتب عليها من الآثار الشرعية ( واما ) الآثار العقلية المترتبة على ما يعم الواقع والظاهر ، فهي مما يترتب قهرا لثبوت موضوعها وجدانا ، كوجوب الإطاعة في الاحكام ، فإذا كان المستصحب حكما شرعيا يترتب باستصحابه جميع ما له من الأثر شرعيا كان أم عقليا ، كوجوب الإطاعة عقلا ووجوب تحصيل مقدمته وحرمة ضده وفساده إذا كان عبادة بناء على اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضده ، بل ذلك غير مرتبط بباب المثبت ، لان مورد الكلام في المثبت اللوازم العقلية المترتبة على وجود المستصحب واقعا ، والاشكال فيها انما كان من جهة عدم احراز موضوعها ولو تعبدا بمعونة التنزيل الجاري في المستصحب ، وأين ذلك ولوازم الامر الظاهري المتحقق بالوجدان كما هو ظاهر ( من هذا القبيل ) باب تطبيق الكليات على الجزئيات كما في استصحاب الاحكام الكلية الثابتة لموضوعاتها ، حيث إن تطبيقها على مواردها يكون من شؤون العقل ولا يرتبط مثل هذا التطبيق العقلي بباب المثبت ( وحينئذ ) فلا مجال لمقايسة مثل هذه الآثار العقلية باللوازم العقلية المترتبة على وجود المستصحب واقعا إزاحة شبهة ، قد يورد على ما ذكرنا من ترتب الآثار العقلية المترتبة على ما يعم الواقع والظاهر ، بأنه يصح ذلك على مسلك ارجاع التنزيل في لا تنقض إلى جعل المماثل ( والا ) فعلى مسلك ارجاعه إلى مجرد الامر بالبناء على وجود الأثر لا إلى جعل حقيقة فلا

ص: 187

يكون التنزيل الا مثبتا لوجوب الشيء ادعاء ، ومثله لا يكون موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة ووجوب مقدمته وحرمة ضده ، لان ترتب هذ ، انما هو على الوجوب الحقيقي ولو ظاهرا ، لا على الوجوب الادعائي الذي هو نتيجة التنزيل بلحاظ الأعمال ( ولكن ) يندفع ذلك بما حققناه من رجوع الخطابات الظاهرية طرا باي لسان كانت ، إلى كونها أحكاما طريقية راجعة في صورة المصادفة إلى كونها عين الاحكام الواقعية المبرزة بالخطابات الأولية وفى صورة عدم المصادفة إلى كونها أحكاما صورية وانشاءات محضة خالية عن الإرادة الجدية ، حيث إن كونها أحكاما طريقية مبرزة عن الإرادة الواقعية في فرض المصادفة ، يكفي في ترتب تلك اللوازم والآثار ، وقد تقدم ما يوضح ذلك في أوائل الجزء الثالث من الكتاب وعند البحث عن وجه منجزية أوامر الطرق والأصول.

( الامر الثاني ) يظهر من جماعة منهم العلامة الأنصاري قدس سره اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الوساطة خفية خفاء يعد الآثار المترتبة عليها بالدقة والحقيقة عند العرف آثارا لذي الواسطة لا لها وقد ذكر الشيخ قدس سره لذلك أمثلة وهو كما أفادوه ، فان ما ذكرنا من قصور أدلة التنزيل بمقتضى الانصراف عن الشمول للآثار الشرعية المترتبة بواسطة عقلية أو عادية انما هو في صورة عدم خفاء الواسطة بنحو يعد الأثر في العرف اثرا للواسطة ( واما ) في صورة خفائها الموجب لعد الأثر في العرف اثرا لذي الواسطة ، فلا قصور في شمول دليل التنزيل لها على كل من مسلك جعل المماثل والامر بالبناء على بقاء المستصحب بلحاظ العمل ( واما ) الاشكال عليه بأنه لا اثر لخفاء الواسطة في التفصيل المزبور ، بتقريب ان الأثر ان كان اثرا لذي الواسطة حقيقة وبحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبات الحكم والموضوع بحيث تكون الواسطة من قبيل الجهات التعليلية لترتبه على ذي الواسطة ، فحجية الأصل بالنسبة إليه وان كان مما لا مجال لانكارها الا انه لا يكون تفصيلا في المثبت ، لأنه لا يرجع إلى المثبت ( وان كان ) اثرا لنفس الواسطة حقيقة لا لذيها ، فهو وان كان من المثبت ، ولكنه لا مجال لا ثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة ، ولا ينفع فيه

ص: 188

تسامح العرف فيه بعدهم إياه اثرا لذي الواسطة ، إذ لا عبرة بالمسامحات العرفية فيما هو من هذا القبيل ( والانظار ) العرفية انما تكون متبعة في فهم مداليل الألفاظ واستفادة المرادات من حيث الأعمية والأخصية بحسب ما ارتكز في أذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع ، لا في مقام تطبيق المفاهيم على المصاديق بالنظر المسامحي على خلاف ما يقتضيه النظر الدقى العقلي ( فمدفوع ) بمنع رجوع المسامحة العرفية في المقام إلى مقام التطبيق ، وانما هي راجعة إلى تحديد مفهوم حرمة النقض ( فان ) قوله لا تنقض اليقين بالشك بعد أن كان مسوقا بالنسبة إلى ما كان نقضا له بالانظار العرفية ، لا بحسب الحقيقة والدقة ، فلا محالة تصير المسامحة العرفية مرجعا في تحديد مفهوم حرمة النقض والتعبد ببقاء المتيقن ، لا في تطبيق الكبرى المستفادة من لا تنقض على المورد ، فإذا كان الأثر من جهة خفاء الواسطة مما يعد كونه بنظر العرف اثرا للمستصحب ، لا للواسطة وان كان اثرا لها بحسب الدقة والحقيقة ، فلا بد من ترتبه عليه بمقتضى حرمة النقض المسوقة بالنسبة إلى ما يعد كونه نقضا بالأنظار العرفية ، ولا يرتبط مثل هذا التسامح بالتسامح في مقام تطبيق المفهوم على المورد كما هو ظاهر ( ثم ) ان المحقق الخراساني قدس سره الحق جلاء الوساطة بخفائها في اعتبار المثبت فيما إذا كان التلازم بينهما في الوضوح بمثابة لا يرى العرف التفكيك بينهما حتى في مقام التنزيل كالأبوة والنبوة ، وما افاده قدس سره متين جدا في فرض تمامية الصغرى والا فلا اشكال في أصل الكبرى.

( الامر الثالث ) في الفروع التي توهم ابتنائها على المثبت الممنوع حجيته ( فمنها ) ما ذكره المحقق قده وغيره من أنه لو أنفق الوارثان على اسلام أحدهما المعين في أول شعبان والآخر في غرة رمضان ، واختلفا فادعى أحدهما موت المورث في شعبان ، والآخر موته في أثناء رمضان كان المال بينهما نصفين لأصالة بقاء حياة المورث ، مع أن الأصل المزبور مثبت لموضوع التوارث بلحاظ ، ان موضوعه انما هو موت المورث عن وارث مسلم بحيث كان للإضافة الحاصلة من اجتماع موت المورث واسلام الوارث في زمان دخل في موضوع التوارث ، ومثله لا يثبت بأصالة بقاء

ص: 189

حياة المورث إلى غرة رمضان الا على القول بالمثبت ( وفيه ) منع دخل الإضافة المزبورة في موضوع التوارث ، بل الموضوع فيه مجرد اسلام الوارث في ظرف حياة مورثه ( وبعبارة ) أخرى اجتماع اسلام الوارث مع حياة مورثه في زمان موضوع للإرث ولا بأس باثباته بالأصل المزبور ، ولا يكون مرتبطا بباب المثبت ، لكونه من قبيل الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان وهو اسلام الوارث في غرة رمضان وبعضها وهو حياة المورث إلى أثناء رمضان بالأصل.

( ومنها ) حكمهم بضمان من كان يده على مال الغير مع الشك في اذن صاحبه لأصالة عدم الرضا من المالك حين وضع اليد على المال ، حيث توهم ابتناء حكمهم بالضمان على اعتبار المثبت ، بلحاظ ان موضوع الضمان هو اليد العادية والأصل المزبور غير مثبت لعنوان العدوان ( وفيه ) مع دخل عنوان العدوان في موضوع الضمان ( وانما ) موضوعه وضع اليد على مال الغير من دون اذن مالكه أو رضاه ، فيكون مركبا من أمرين : أحدهما اليد ، والآخر عدم اذن صاحب المال ، فيدخل في الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان ، وبعضها بالأصل.

( ومنها ) ما عن بعض من استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر لاثبات نجاسة الطاهر منهما ، واستصحاب رطوبة الذبابة التي طارت عن النجاسة لاثبات نجاسة الثوب الذي طارت إليه ، حيث إن نجاسة الملاقى بالفتح في الفرضين انما يكون من لوازم سراية الرطوبة من الملاقي بالكسر إليه واثباته بالأصل المزبور من أظهر افراد المثبت ( ويمكن ان يقال ) : ان المستصحب حينئذ هي الرطوبة المسرية لا الرطوبة الصرفة واستصحابها وان كان مثبتا في الحقيقة الا انه يمكن الاعتذار عنه بخفاء الواسطة في مثله ، إذ العرف لا يفهم من بقاء الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين إلى حين الملاقاة الا سراية النجاسة إلى الطاهر منهما ( ولا يقاس ) ذلك باستصحاب بقاء الماء في الحوض في الحكم بطهارة الثوب النجس الواقع فيه ( للفرق ) الواضح بينهما فان طهارة الثوب من لوازم جريان الماء على الثوب وانغساله به ، ومثله امر خارج عند العرف ملازم لبقاء ماء الحوض إلى حين وقوع الثوب في الحوض عرفا لا عين بقائه ،

ص: 190

فاستصحاب بقاء الماء في الحوض لا يثبت ذلك ، بخلاف بقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة فان العرف لا يفهم من بقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة الا سراية الرطوبة إلى الملاقي لكونها اي السراية بأنظارهم عين بقاء الرطوبة المسرية إلى حين الملاقاة ، بلا نظر منهم إلى امر ثالث هو الواسطة ، فتدبر.

( ومنها ) ما ذكره في التحرير من أنه لو اختلف الولي والجاني في سراية الجناية ، فقال الولي : ان المجني عليه مات بالسراية ، وقال الجاني : بل مات بسبب آخر من شرب سم ونحوه وان جنايته وقعت على الميت ، أو انه كان ميتا قبل الجناية ، ففي ثبوت الضمان وعدمه وجهان من أصالة عدم الضمان ، ومن استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه ( أقول ) : لا ريب في أنه لا يمكن تصحيح القول بالضمان في المثال بالأصل المزبور الا على القول بالمثبت ، إذ ليس الموضوع للضمان مركبا من الجناية وحياة المجني عليه إلى حين ورود الجناية عليه ليندرج في الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان ، وبعضها بالأصل ( وانما ) موضوعه عبارة عن امر بسيط من القتل أو السراية ونحو ذلك ، وترتب مثله على أصالة بقاء حياة المجني عليه إلى زمان ورود الجناية عقلي محض ، ولا يمكن اثباته بالأصل المزبور ، لكونه من أشنع افراد المثبت ، ولعل صدور هذا الاحتمال من العلامة قدس سره لكونه ممن يرى الاستصحاب من الامارات المفيدة للظن النوعي.

( ومنها ) استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده في محال الغسل أو المسح ، حيث إن بنائهم عند الشك في وجود الحاجب لا في حاجبية الموجود على اجراء أصالة العدم فيه ، وعدم الاعتناء باحتمال وجوده والحكم بصحة الوضوء والغسل ، مع أن صحة الوضوء والغسل من لوازم وصول الماء إلى البشرة وانغسالها به ، ومثله من اللوازم العادية لعدم وجود الحاجب ( وفيه ) ان بنائهم وان كان على الاخذ بأصالة العدم في الفرض المزبور ، ولكن نمنع كونه من جهة الاستصحاب أو من جهة قاعدة المقتضى والمانع ، بل من المتحمل قويا كون الأصل المزبور نظير أصالة عدم القرينة أصلا عقلائيا برأسه غير مربوط الاستصحاب ، وان مدركه هو الغلبة ، كما

ص: 191

هو كذلك في أصالة عدم القرينة ( فإذا ) كان الغالب خلو البشرة عن وجود ما يمنع عن وصول الماء إليها ، فعند الشك في وجوده في محال الغسل أو المسح يلحق المشكوك بالغالب ( ولذا ) نمنع بنائهم على الاخذ بالأصل المزبور في موارد غلبة وجود الحاجب على البشرة كما في بعض ذي الصنايع ، كالبناء المباشر للجص والطين والمستعمل للزفت والقير لاصلاح الحياض ( ومع الاغماض ) عن ذلك يمكن ان يقال : انه من استصحاب بقاء الماء المصبوب على محال الوضوء أو الغسل على وصف الجريان على البشرة ( أو من باب ) اندراج مثله في خفاء الواسطة ، كما يؤيده عدم تعديهم إلى صورة الشك في حاجبية الموجود ( والا ) فعلى فرض كونه من باب العمل بالمثبت فلا يفرق بين صورة الشك في وجود الحاجب وبين صورة الشك في حاجبية الموجود ( ولكن ) التحقيق ما ذكرناه أولا من كون الأصل المزبور أصلا عقلائيا برأسه مدركه الغلبة النوعية ( ومنها ) أصالة عدم تحقق الرد من المالك في عقد الفضول المانع عن اضافته إليه بالإجازة ، حيث إن بنائهم على التمسك بالأصل المزبور عند الشك في رد المالك إياه قبل اجازته ، مع أنه مثبت بالنسبة إلى إضافة العقد إليه بالإجازة ( وفيه ) مضافا إلى امكان دعوى كون الأصل المزبور قاعدة عقلائية برأسها قد أمضاها الشارع في أمثال المورد ، نمنع كونه من باب المثبت ، بل انما ذلك من جهة اندراج المورد في الموضوع المركب المحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ، حيث إن كل عقد صادر من الفضول يصح ويضاف إلى المالك بإجازته إياه إذا لم يسبقها رده ، فكان القيد العدمي محرزا بالأصل والباقي بالوجدان فتدبر.

( ومنها ) استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك المثبت لكون الغد يوم العيد ، حيث إن بنائهم على التمسك بالأصل المزبور لاثبات كون الغد يوم العيد وترتيب احكامه عليه من الصلاة والغسل والفطرة ، مع أن الأصل المزبور غير مثبت لذلك ، بل ولا لكون اليوم المشكوك فيه من رمضان ليترتب عليه وجوب الصوم ، لان كون الزمان المشكوك فيه من رمضان وكون غده يوم العيد وأول شوال من مفاد كان الناقصة ولا يثبت مثله بأصالة بقاء رمضان أو عدم دخول هلال

ص: 192

شوال الذي هو مفاد كان وليس التامتين ، نظير ( أصالة ) بقاء الكر بالنسبة إلى كرية الموجود ( وفيه ) منع كون مبنى التسالم المزبور هو الاستصحاب ، بل العمدة في ذلك هي القاعدة المضروبة في المقام المستفادة من قوله (عليه السلام) صم للرؤية وأفطر للرؤية مكنيا بذلك عن اعتبار العلم بدخول رمضان وشوال في ترتب وجوب الصوم والافطار ، اما برؤية الهلال ، أو بمضي ثلاثين يوما ، فأولية الشهر الذي هو موضوع الاحكام الخاصة من وجوب الصوم أو الافطار عبارة عن اليوم الذي ليلته ليلة رؤية الهلال ، أو الذي سبقه من الشهر الماضي ثلاثون يوما ، كما أن آخريته عبارة عن اليوم الذي ينتهي إلى ليلة رؤية الهلال ، أو اليوم الثلاثين من ذلك الشهر فتدبر ( ويمكن ) تطبيقه على الاستصحاب بنحو لا يلزم منه شبهة المثبتية ، باستصحاب رمضانية يوم الشك بمفاد كان الناقصة بالتقريب المتقدم في استصحاب الأمور التدريجية.

( الامر الرابع ) ان الاستصحاب كما يجري فيما هو تمام الموضوع للحكم الشرعي ، كذلك يجري فيما هو جزئه أو قيده ( فإذا ) كان الموضوع مركبا من جزئين أو أكثر وكان بعض اجزائه مشكوكا يجري فيه الأصل ويترتب عليه الأثر الشرعي إذا كان الجزء الآخر محرزا أيضا اما بالوجدان أو بأصل آخر ، حيث إنه باستصحابه يتحقق الموضوع المركب ، فيترتب عليه الأثر الشرعي ، وهذا مما لا اشكال فيه ( كما لا اشكال ) في جريانه فيما هو من قيود الحكم الذي أنيط به الحكم الشرعي في لسان الخطاب ، كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، فإنه مهما شك فيها يجري فيها الأصل وجودا وعدما بلا كلام ويترتب عليه الحكم الشرعي من غير أن يرتبط ذلك بالمثبت ، ( فإنه ) بإناطة الوجوب بالقيد والشرط ، تصير الإناطة والتقيد مجعولا وتكون مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع كما في إناطة الحكم بموضوعه ، فمع الشك فيه وجودا أو عدما يجري فيه الاستصحاب ويترتب على استصحابه ما له من الأثر نفيا واثباتا ( نعم ) الاشكال انما هو في شرائط الواجب وقيود المأمور به ( ينشأ ) من عدم خلو استصحابها عن شبهة المثبتية.

( وتوضيح ) المقال فيه هو ان مرجع القيود المأخوذة في الواجب والمأمور به

ص: 193

في ظاهر الخطاب ، كالطهارة والستر ونحوهما ( اما ) ان يكون إلى دخل التقيد بها في المأمور به على نحو تكون الإضافة والتقيد بالقيد والشرط جزء للمأمور به ومشمولا بحسب التحليل للامر النفسي الضمني كما هو المشهور بحيث يكون مرجع الامر بالصلاة مع الطهارة إلى ايجاب ذات الصلاة مع التقيد بالطهارة ويكون وجوب تحصيل القيد لأجل مقدمتيها للتقيد المأخوذ في الواجب بنحو الجزئية لا لذات الصلاة ( واما ) ان يكون راجعا إلى كونها بنفسها مما له الدخل في تحقق المشروط والمقيد نظير العلة بالنسبة إلى المعلول ، ونظير شرائط الوجوب بالنسبة إلى الوجوب من غير أن يكون للإضافة والتقيد بهما دخل في المأمور به كما في الفرض الأول ، كي يلزمه انحلال الواجب إلى الذات والتقيد بقيد كذا ، فيكون الواجب هو ذات الصلاة غير أن الشارع اعتبر كونها حسب إناطتها بالستر والطهارة على وجه لا يكاد يتحقق الا في ظرف الستر والطهارة ، فتكون الطهارة وكذا الستر مقدمة محضة للمأمور به وخارجة عنه ( وبعد ذلك ) نقول : انه على الفرض الأول ربما يتأتى الاشكال في استصحاب شرائط الواجب وقيوده عند الشك فيها ، بتقريب ان الإضافة والتقيد المأخوذ في الواجب امر واقعي كذات المقيد ، ولا تكون من الجعليات التشريعية وانما التشريع في دخل مثلها في موضوع الحكم ، والاستصحاب الجاري في ذات القيد والشرط مثبت بالنسبة إليها فلا يجدى الاستصحاب المزبور لاثبات مثلها الا على القول بالمثبت ، أو دعوى خفاء الواسطة ( بخلاف ) الفرض الثاني فإنه لا قصور في استصحاب القيد والشرط عند الشك فيهما ، ( إذ ) بإناطة موضوع الحكم بكونه في ظرف وجود القيد تصير الإناطة لا محالة شرعية لكونها مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع ويصير القيد طرفا لها ، وبهذا الاعتبار يعتبر العقل منه جهة المقدمية للواجب ، وحينئذ فحيث ان الشك في وجود القيد يستتبع الشك في تحقق الإناطة يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه جهة الإناطة المزبورة عقلا لكونها من لوازم الأعم من الواقع والظاهر ، حيث يعتبر العقل بضم الوجدان إلى الأصل تحقق الامر المقيد بكونه في ظرف وجود كذا ( فيكون ) الفارق بين الفرضين في جريان الاستصحاب في قيود الواجب وعدم

ص: 194

جريانه من جهة شرعية الإناطة وعدم شرعيتها ، ففي الفرض الثاني لما كانت الإناطة بين موضوع الحكم وقيده شرعية يجري الاستصحاب في القيد والشرط وتترتب على استصحابهما الإناطة بين موضوع الحكم وقيده عقلا ، بخلاف الفرض الأول فإنه تكون الإضافة والتقيد القائم بين الشيئين أمرا واقعيا كذات الموضوع ولا يقتضى الاستصحاب الجاري في القيد اثبات التقيد المزبور الاعلى القول بالمثبت ( ولا دافع ) لهذا الاشكال ، الا دعوى كونه من باب خفاء الواسطة أو جلائها ، أو دعوى كشف حجية المثبت في نحو هذه الموارد من جهة تطبيق الإمام (عليه السلام) الاستصحاب على الطهارة الحدثية والخبيثية ونحوهما هذا ( ولكن ) يندفع هذا الاشكال بأنه لا نعني من التقيد المأخوذ في الواجب على هذا المسلك الا الإضافة الخاصة المتقومة بذات المقيد والقيد ، ومن الواضح انه كما أن بوجدان القيد واقعا يعتبر العقل تلك الإضافة الخاصة فيحكم بتحقق الصلاة المتقيدة بالطهور والستر مثلا ، كذلك باستصحابه وتعبد الشارع بما هو طرف هذه الإضافة ، فيعتبر العقل باستصحابه أيضا تلك الإضافة والقيد المزبور ( وبالجملة ) ان حكم العقل بتحقق الإضافة والتقيد تابع احراز تحقق طرفيها فمتى أحرز تحقق طرفها وجدانا أو تعبدا يعتبر العقل الإضافة الخاصة ولا يرتبط ذلك بباب المثبت كي يحتاج إلى التشبث بخفاء الواسطة أو جلائها ، فلا فرق حينئذ بين المسلكين من هذه الجهة ( وانما الفرق ) بينهما في مقام الجعل من حيث جعلية الإناطة على أحد المسلكين وعدم جعليتها على المسلك الآخر لكونها أمرا واقعيا فتدبر.

( التنبيه الثامن )

يعتبر في صحة الاستصحاب ان يكون المستصحب موضوعا كان أم حكما ذا اثر عملي بلحاظ بقائه حين توجيه الخطاب بعدم النقض إلى المكلف الذي هو ظرف التنزيل ، لأنه الذي يقتضيه التعبد ببقاء الشيء عملا ، فلابد في صحة هذا التنزيل من لحاظ الأثر الثابت للشيء حين التعبد بالبقاء والا فلا يكفي في صحة الاستصحاب

ص: 195

مجرد كون المستصحب ذا اثر في الحدوث ما لم يكن ذا اثر عملي في بقائه ، لان ذلك أجنبي عن هذا التنزيل ، ولذا يكتفى في جريان الاستصحاب بمجرد كون المستصحب ذا اثر عملي في بقائه ولو لم يكن لحدوثه اثر شرعي أو عملي أصلا ووجهه ما أشرنا إليه.

( التنبيه التاسع )

لا فرق في جريان الاستصحاب بين ان يكون المستصحب مشكوك الحدوث في الزمان اللاحق رأسا ، كالشك في الطهارة بعد العلم بالحدث وبالعكس ، وبين ان يكون مشكوك الحدوث في جزء من الزمان ومن حيث ظرفه مع الجزم بأصل حدوثه في الجملة ، كالشك في تقدم حدوث الشيء وتأخره ( فكما ) يجري الاستصحاب في الأول يجري أيضا في الثاني ( فلو علم ) يوم الجمعة بموت زيد وشك في أن حدوثه فيه أو فيما قبله يجري فيه استصحاب العدم في الأزمنة المشكوك حدوثه فيها إلى زمان اليقين بأصل الحدوث اجمالا ، ويترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على عدم حدوثه فيها ، ولا يضر به احتمال انطباق زمان الحدوث الاجمالي على الأزمنة السابقة المتصلة بزمان علمه ، لان ذلك لا يخرجه عن المشكوكية واقعا بعد عدم سراية اليقين الاجمالي من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي إلى المحتملات التفصيلية ( نعم ) لا يثبت بمثله حدوثه في الزمان المتأخر لأنه من المثبت الذي نفينا اعتباره في التنبيه السابق ، الا بدعوى ان الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، فإذا أحرز وجود الشيء في زمان وثبت بالأصل عدمه قبل ذلك الزمان يتحقق مفهوم الحدوث ، لاندراجه في الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ، ولكنه ضعيف جدا ( نعم ) لا يجري فيه أصالة عدم حدوثه في الزمان المتأخر الذي هو زمان العلم بحدوث الحادث ، اما فيه ، أو فيما قبله ، لا بالنسبة إلى طبيعي الحدوث : ولا بالنسبة إلى شخص الحدوث المحتمل تحققه في زمان العلم ( والأول ) ظاهر للجزم بانتقاض عدم الطبيعي في ذلك الزمان بيقين

ص: 196

آخر ( وكذلك الثاني ) لأن الشك المتصور فيه انما هو من حيث حده المتنزع عن سبق وجوده بالعدم ، والا فاصل وجوده في الزمان المتأخر معلوم تفصيلا ( ومن الواضح ) ان الحد المزبور لم يكن معلوم العدم سابقا حتى يجري فيه الأصل ، وعلى فرض اليقين به لا يصلح ذلك امر الاستصحاب لوضوح ان اليقين به كذلك ملازم مع اليقين بوجوده سابقا فكيف يمكن ان يجري فه الاستصحاب ( وحينئذ ) فتبقى أصالة عدم حدوثه إلى زمان العلم بلا معارض ( هذا ) إذا كان الحادث على فرض حدوثه في زمان مقطوع البقاء ، كالموت والحياة بحيث اخذ حدوثاته في الأزمنة المتعددة على نحو البدلية ( واما ) إذا كان الحادث من الأمور الآنية التي يمكن ان يفرض له حدوثات عرضية وعلم اجمالا بتحقق أحدها فيجري فيه أيضا أصالة العدم بالنسبة إلى كل واحد من الحدوثات لتحقق أركانه فيها ، غاية الامر العلم الاجمالي بتحقق أحدها موجب لتعارض تلك الأصول ، وذلك في فرض اقتضاء جريان الجميع طرح تكليف الزامي لا مطلقا كما هو ظاهر ( هذا كله ) إذا كان الأثر الشرعي مترتبا على الحادث بلحاظ اضافته إلى اجزاء الزمان.

( وأما إذا كان ) الأثر الشرعي مترتبا عليه بلحاظ اضافته إلى حادث آخر من حيث التقدم أو التقارن أو التأخر ، ففي جريان الاستصحاب فيه خلاف بين الاعلام ( وحيث ) ان للفرض شقوق وصور عديدة فلا بأس بالتعرض لها وبيان أحكامها ( فنقول ) : ان كل حادث أضيف إلى حادث آخر بالقياس إلى اجزاء الزمان ( اما ) ان يكون متقدما عليه أو متأخرا عنه ، أو مقارنا معه في الزمان ( ثم العنوان ) الذي يكون موضوعا للأثر ، اما ان يكون نفس تلك العناوين أعني تقديم الشيء أو تأخره أو تقارنه للشيء الآخر بنحو مفاد كان أو ليس التامة كالموت المتقدم للأب على موت الابن وبالعكس ( واما ) ان يكون هو الشيء المتصف بكونه متقدما على الحادث الآخر أو متأخرا عنه أو مقارنا معه بنحو مفاد كان أو ليس الناقصة ( واما ) ان يكون هو الشيء في ظرف تقدمه أو تأخره أو تقارنه لحادث آخر بحيث اخذ تلك الأزمنة ظرفا محضا لموضوع الأثر ، أو قيدا ووصفا له ( وكذلك ) حال

ص: 197

الحادث الآخر بالإضافة إلى هذا الحادث ( فإنه ) يكون له هذه الأقسام بعينها ( فهذه ) اقسام متصورة في مفروض البحث للعنوان الذي يكون موضوعا للأثر.

( واما ) حكم هذه الأقسام ( اما القسم ) الأول منها ، فان قلنا في مثل هذه الإضافات ان لها حظا خارجيا عند وجود طرفيها غير متوقفة على الاعتبار بحيث كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها كما هو التحقيق ، فلا شبهة في جريان أصالة العدم في كل من التقدم والتأخر والتقارن بنحو مفاد ليس التامة ، لكونها من الخارجيات المسبوقة بالعدم أزلا ، غاية الامر بالعلم الاجمالي بانقلاب أحد هذه الاعدام المستصحبة يسقط الجميع بالمعارضة عند استلزام جريانه فيها طرح تكليف الزامي ، وذلك في فرض ترتب الأثر الملزم على كل واحد من عنوان التقدم والتأخر والتقارن أو لحادث آخر كذلك ( والا ) فمع فرض كون الأثر المهم لخصوص عنوان التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا لكل واحد منهما ، ولا لحادث آخر كذلك ، فلا معارضة في البين ( واما لو قلنا ) ان هذه الإضافات من خارجات المحمول التي لاحظ لنفسها في الخارج وان الخارج موطن منشأ انتزاعها من الحدوثات الزمانية الخاصة بلا جهة زائدة فيها ، فلا مجال لجريان أصالة العدم فيها ، لعدم كونها بنفسها من الخارجيات المسبوقة بالعدم ، بل لابد حينئذ من جعل محط أصل العدم في منشأ انتزاعها الذي هو الحدوثات الخاصة الزمانية ، لأنها هي التي تقوم بها المصلحة والمفسدة وتكون موضوعة للأثر ، فيجري استصحاب الحادث بحسب اجزاء الزمان المتقدم على الحادث الآخر والمقارن له دون المتأخر عنه للعلم الاجمالي حينئذ بانقلابه بالنقيض اما مقدما واما مقارنا واما مؤخرا ( وبذلك ) لا يبقى مجال توهم المعارضة بين تلك الأصول ، إذ هي فرع جريان أصالة عدم الحادث في الزمان المتأخر ( والا ) مع عدم جريانه فيه للعلم المزبور تنتفي المعارضة بين الأصول ( ولا مجال ) في هذا الفرض لجريان أصالة عدم الحدوث المتأخر بلحاظ بقاء وصف التأخر ، إذ ذلك فرع خارجية مثل هذه الإضافات ، الا فمع عدم خارجيتها كما هو المفروض فلا يكون محط الأصل الا شخص الحدوث الخاص بخصوصيته الذاتية ، والمفروض انتقاض العدم الخاص المتيقن

ص: 198

في ضمن اليقين بعدم الجامع بين الحدوثات باليقين بالوجود كما ذكرناه في أصالة عدم الحدوث بالقياس إلى اجزاء الزمان ( واما عدم ) شخص الحدوث الخاص في هذا الزمان فهو أيضا مما لا يجري فيه الأصل ، لما ذكرنا من أن الشك المتصور فيه انما هو بلحاظ حده المنتزع عن سبقه بالعدم ، لا بلحاظ أصل وجوده ، لكونه معلوما بالتفصيل ، وهذا المعنى مع أنه غير متيقن سابقا لا يصلح امر الاستصحاب بلحاظ ان اليقين به كذلك ملازم لليقين بوجوده سابقا ( وحينئذ ) فالقاء المعارضة بين الأصول الجارية في اعدام الحدوثات الخاصة الموصوفة بالتقدم والتأخر والتقارن مبني على جعل هذه الإضافات من الخارجيات غير المتوقفة على الاعتبار الزائدة على الحدوثات الخاصة الزمانية ( والا ) فعلى مسلك جعلها من الاعتبارات المنتزعة التي لا يكون الخارج الا ظرفا لمنشأ انتزاعها من الحدوثات الخاصة الزمانية ، فلا يتم المعارضة بين الأصول ، الا بفرض كون الشيء من الأمور الآنية التي يتصور فيه حدوثات متعددة عرضية ، إذ حينئذ بالعلم الاجمالي بتحقق أحدها تتحقق المعارضة بين الأصول الجارية في اعدام الحدوثات الخاصة الزمانية ، وذلك في فرض اقتضاء جريان الأصل في الجميع طرح تكليف ملزم ( والا فلا ) لما تقرر غير مرة من عدم مانعية مجرد العلم الاجمالي عن جريان الأصول في أطرافه ( وعليه ) فلا مجال لما في الكفاية من القاء المعارضة بين تلك الأصول مع بنائه على اعتبارية تلك الأوصاف وكونها من خارجات المحمول المنتزعة من الذوات الخاصة ، خصوصا مع تمثيله في المقام بمثل موت المتوارثين الذي ليست حدوثاته الا بدلية ، وقد عرفت انه على هذا المبنى لا يكون مجرى الأصل الا الحدوثات الخاصة الزمانية التي هي المناشئ لهذه الاعتبارات لكونها هي الموضوع للآثار الخاصة ، وان مجرى الأصل لا يكون الا عدم الحادث بلحاظ اجزاء الزمان المتقدم على الحادث الآخر أو التقارن دون تأخره عنه ( ومن التأمل ) فيما ذكرنا انقدح حال القسم الثاني وهو ما كان الأثر مترتبا على اتصاف الذات بهذه الصفات بنحو مفاد كان أو ليس الناقصة ، فإنه على مبنى اعتبارية هذه الإضافات على وجه لا يكون الخارج ظرفا لها ، بل لمناشئها اي الوجودات الخاصة

ص: 199

بحدودها الذاتية وخصوصياتها الواقعية لا مجال لجريان الاستصحاب في اعدام اتصاف الذوات بهذه الأوصاف بنحو السلب المحصل ، بلحاظ ان الذوات الخاصة بالخصوصيات الذاتية التي هي موضوع الأثر حقيقة غير صالحة للانفكاك عن ذاتياتها حتى في عالم تقررها فلا يمكن سلب ذاتياتها في عالم من العوالم ولو قبل وجوداتها ( لان ) ما يمكن سلبه عن الشيء ولو قبل وجوده انما هي اللوازم الزائدة عن حقيقة الشيء اللاحقة لوجوده ، دون اللوازم الذاتية الثابتة للشيء في عالم تقرره ( ومن هنا ) لا يجرى الأصل العدم في لوازم الماهية لأنها لا تنفك عنها ولو قبل وجودها فلا يكون لها حالة سابقة ( واما على المختار ) في أمثال هذه النسب والإضافات من كونها أمورا خارجية ، كالفوقية والتحتية مسبوقة بنفسها بالاعدام الأزلية زائدا عن عدم طرفيها فعليه وان لم يكن مجال لاستصحاب وجود المتصف بالتقدم والتقارن أو بعدمهما ، لعدم اليقين بالحالة السابقة ( ولكن ) في طرف العدم لا بأس باستصحاب عدم اتصاف الحادث بالتقدم أو التقارن ولو قبل وجوده بنحو القضية السالبة المحصلة ، فيقال في الشيء ، الكذائي انه قبل وجوده لم يكن متصفا بكذا فشك في اتصافه به حال وجوده والأصل بقائه على ما كان ، فإذا كان الأثر مترتبا على الذات المتصفة بكذا بحيث كان لحيث الاتصاف المزبور دخل في ترتبه ، فلا محالة يكفي في نفي الأثر نفي اتصاف الذات بالوصف ولو قبل وجودها ( لان ) نقيض اتصاف الشيء بشيء عدم اتصافه به لا اتصافه بعدمه بنحو القضية المعدولة كي يقتضى وجود الموصوف خارجا كالقضايا الموجبة ويكون الأصل المزبور مثبتا بالنسبة إليه ( وحينئذ ) فبعد كفاية مجرد نقيض الأثر المترتب على النقيض في استصحاب كل طرف من النقيضين بلا احتياج إلى ترتب الأثر على نفس المستصحب ، فلا قصور في استصحاب عدم اتصاف الذات بالوصف ولو قبل وجودها بنحو السلب المحصل لنفي الأثر المترتب على الذات المتصفة ، وبذلك نلتزم بجريان استصحاب العدم بمفاد ليس الناقصة فيما هو من نظائره من مثل القرشية ونحوها ( نعم ) انما يثمر هذا الاستصحاب فيما إذا اعتبر قيدية الوصف في صقع ذات الموضوع السابق في لحاظ العقل على وجودهما بنحو قابل لحمل الوجود على المقيد

ص: 200

بالوصف تارة ، والعدم أخرى ، كما في القضايا التصورية ، حيث إن من نتائج التقييد في هذه المرحلة قابلية حيث التقيد أيضا تبعا للذات للاتصاف بالوجود والعدم المستتبع لاعتبار نقيضه ما دامت الذات محفوظة في عالم تقررها ( ولازم ) ذلك توسعة نقيض التقيد والاتصاف بل القيد بما هو قيد على نحو يصدق مع السلب بانتفاء الموضوع أيضا بلا انحصاره بخصوص السلب بانتفاء المحمول ، فيجرى فيه استصحاب العدم بكل من مفاد ليس التامة والناقصة ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون الوصف ملحوضا بما هو شيء في حيال ذاته ، أو بما هو نعت لموصوفه وقائم به خارجا ، فان مجرد كون الوصف نعتا لموصوفه ومتأخرا عن وجوده خارجا لا يقتضى تأخر قيديته المساوق لاعتبار تقييد الموصوف به كي يمنع عن جريان استصحاب عدمه ( والا ) لاقتضى المنع عنه ولو مع لحاظ الوصف في حيال ذاته المعبر عن وجوده بالجود المقارن وعن عدمه بالعدم المقارن ( وحينئذ ) فبعد فرض اعتبار قيدية الوصف في صقع ذات الموصوف بنحو القضية التصورية السابق في لحاظ العقل على مرتبة وجودهما ، فلا محالة عند الشك في اتصاف الموضوع حين وجوده بالوصف ، تجري أصالة العدم في اتصافه ولو قبل وجوده ، كجريانه في ذات القيد والوصف بما هو قيد بنحو السلب المحصل بكل من مفاد ليس التامة والناقصة لتحقق أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق ، فيقال : ان الذات الكذائية قبل وجودها لم تكن متصفة بكذا فشك في اتصافها به حين وجودها والأصل بقائها على ما كانت ( والوجه ) فيه ما عرفت من أن من لوازم اعتبار التقييد في هذه المرتبة قابلية حيث التقيد أيضا تبعا للذات للاتصاف بالوجود والعدم ولازمه توسعة دائرة نقيض التقيد المزبور بنحو يصدق مع السلب بانتفاء الموضوع بلا انصحار نقيضه بالسلب بانتقاء المحمول ( هذا ) إذا اعتبر قيدية الوصف في مرتبة ذات الموصوف السابق في لحاظ العقل على مرتبة وجوده.

( واما ) إذا اعتبر قيديته للذات في المرتبة المتأخرة عن وجودها بنحو القضية التصديقية بحيث اخذ في الموصوف في مقام اعتبار التقييد صفة الموجودية للذات ، كما إذا اخذ الموضوع في طي القضية الشرطية مشروطا بالوجود ثم قيد

ص: 201

بقيد وجودي أو عدمي بمثل قوله ان وجد زيد وكان راكبا فكذا ، ففي مثله لا مجال لجريان استصحاب العدم الثابت في حال عدم الموصوف ، لا في حيث الاتصاف ، ولا في ذات القيد والوصف بما هو قيد ( لوضوح ) ان اعتبار قيدية الوصف في المرتبة المزبورة يقتضى خروج مرتبة ذات الموضوع عن صقع التقيد ، إذ صقع التقيد حينئذ انما هو في ظرف وجود الذات على نحو القضية التصديقية بنحو يرى حيث التقيد في المرتبة المتأخرة عن وجود الذات ، ومع خروج مرتبة الذات عن صقع التقيد لا يكاد يصدق نقيض التقيد ولا القيد في ظرف عدم الموضوع ، لان نقيض كل شيء ما كان في مرتبة وجوده ، فإذا كان صقع التقيد في المرتبة المتأخرة عن وجود الموضوع فلا يكون نقيضه إلا العدم في هذه المرتبة دون العدم في مرتبة الذات ، ( ولأجله ) يتضيق دائرة القيد بما هو قيد أيضا وجود أو عدما بما يكون في المرتبة المتأخرة عن وجود الموضوع ( ومن الواضح ) حينئذ انه لا مجال في مثله لجريان استصحاب العدم الأزلي ، لان ما كان نقيضا لموضوع الأثر وهو العدم في ظرف وجود الموضوع لا يكون موردا لليقين السابق بالثبوت حتى يجرى فيه الاستصحاب ، وما كان موردا لليقين بالثبوت انما هو القضية السالبة بانتفاء الموضوع ، وهي من جهة عدم كونها نقيضا لموضوع الأثر لا يجري فيها الاستصحاب ، كما أن ابقائها تعبدا إلى زمان وجود الموضوع لا يثبت العدم الخاص الذي هو نقيض موضوع الأثر الا بالملازمة العقلية التي لا نقول به ( بل إن تأملت ) ترى عدم اجداء الأصل المزبور ولو على القول المثبت ، لمكان عدم الملازمة بين بقاء المستصحب أعني العدم المحفوظ في المرتبة السابقة على وجود الموضوع ، وبين العدم الخاص المتأخر عن وجود الموضوع ، إذ في مثله لا يكاد يجدي أصالة عدمه الثابت في مرتبة الذات لاثبات العدم الخاص المتأخر عن وجود الموضوع ولو على القول بالمثبت ( وحينئذ ) فعلى كل تقدير لا يجري استصحاب العدم في الفرض المزبور ( من غير فرق ) بين ان يكون الوصف ملحوظا في عالم اعتبار القيدية نعتا للموضوع المعبر عنه بالوجود النعتي وعن عدمه بالعدم النعتي ، وبين ان يكون ملحوظا بما هو في حيال ذاته المعبر عنه

ص: 202

بالوجود المقارن وعن عدمه بالعدم المقارن.

( وبما ذكرنا ) انقدح ما هو المناط في جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية في نحو هذه القضايا التوصيفية وعدم جريانها : وانه يختلف باختلاف مرحلة اعتبار صقع القيدية للوصف المأخوذ في موضوع الأثر ، ( فمناط ) جريان الاستصحاب فيها انما يكون باعتبار القيدية في ظاهر الخطاب في صقع الذات السابق في لحاظ العقل على مرحلة وجودهما بنحو قابل لحمل الوجود على المقيد بالوصف ، تارة ، والعدم أخرى ، كما في موارد اخذ الذات بمعناه التصوري في طي التقييد ( كما أن مناط ) عدم جريانه انما هو باعتبار القيدية في المرتبة المتأخرة عن وجود الذات ( لما عرفت ) من أن من نتائج اعتبار القيدية في هذه المرتبة ، خروج مرتبة الذات بالمرة عن صقع التقييد الموجب لخروج العدم الثابت في مرتبة الذات عن كونه نقيضا لموضوع الأثر ، فلا يجرى فيه استصحاب العدم الأزلي ( من غير فرق ) في الصورتين بين ان يكون الوصف ملحوظا في عالم القيدية بما هو في حيال ذاته أو بما هو نعتا لموضوعه ( لا ان ) المناط فيه وجودا بمجرد لحاظ الوصف في حيال ذاته ، وعدما بلحاظه نعتا لموضوعه وقائما به كما توهم ، لما عرفت من أن مجرد لحاظ الوصف شيئا في حيال ذاته لا يقتضى جريان أصالة العدم فيه بنحو السلب المحصل لامكان اعتبار القيدية حينئذ في الصقع المتأخر عن وجود الموضوع ، كما أن مجرد لحاظه نعتا لموصوفه وقائما به لا يقتضى المنع عن استصحاب عدمه الثابت حال عدم الموضوع ، لا مكان اعتبار التقييد في مرتبة ذات الموضوع السابقة في لحاظ العقل على وجودهما بلا لحاظ تقدم وجود الموصوف في مقام اعتبار التقييد في مرحلة الموضوعية للأثر كما هو ظاهر ( وتنقيح الكلام ) بأزيد من ذلك موكول إلى محل آخر ( فان ) المقصود في المقام مجرد الإشارة إلى بيان مجرى الاستصحاب العدم الأزلي ، وانه انما يكون بلحاظ اعتبار التقييد في مرحلة الموضوعية للأثر في صقع الذات ، لا بلحاظ مرحلة الاتصاف الخارجي وانما أطلنا الكلام فيه حرصا لدفع بعض الشبهات عن الأذهان الصافية.

( ثم إن ) ما ذكرنا من جريان أصالة العدم بالسلب المحصل من نحو أصالة عدم

ص: 203

اتصاف المرأة بالقرشية وعدم اتصاف الحادث حين وجوده بعنوان التقدم والتأخر والتقارن بالقياس إلى حادث آخر ، انما هو إذا كان الأثر لسلب الاتصاف لا للمعنى المتصف بالعدم بنحو القضية المعدولة ( والا فعلى ) فرض ان موضوع الأثر هو الامر المتصف العدم في زمان الآخر ، فلا مجري فيه للأصل لعدم اليقين بالحالة السابقة من ارتباط الموضوع واتصافه بالعدم ، إذا الوجود من الأول غير معلوم الاتصاف بالعدم المذكور لأنه ، اما وجد متأخرا عن زمان وجود الآخر ، أو متقدما عليه ، أو مقارنا له ، وأصالة عدم اتصافه بالتقدم أو التقارن أو التأخر بنحو السلب المحصل الراجع إلى سلب الاتصاف لا يثبت الموضوع المتصف بالسلب الذي هو مفاد المعدولة الا على القول بالمثبت ، ومجرد وحدة منشأ هذه المفاهيم في الخارج غير كاف في جريان الاستصحاب في بعضها بلحاظ الأثر المترتب على بعض آخر كما هو ظاهر.

( ثم إن ذلك ) كله في فرض ترتب الأثر على وجود أحد الحادثين بلحاظ اضافته إلى الحادث الآخر بكل من عنوان التقدم ، والتأخر أو التقارن ، وقد عرفت انه على المختار في مثل تلك الإضافات من كونها بنفسها أمورا خارجية وصفاتا زائدة على الذوات الخارجية مسبوقة بأعدامها الأزلية ، لا قصور في جريان أصالة العدم فيها بمفاد ليس التامة والناقصة وترتب نقيض الأثر المرتب على النقيض عليه ما لم يكن معارضا بجريانه في الحادث الآخر أو فيه بعنوان آخر ( واما ) لو كان الأثر لعدم أحدهما في زمان وجود الآخر بحيث يكون زمان الآخر ظرفا لما هو موضوع الأثر ، كاسلام الوارث وموت المورث ، وكبيع الراهن ورجوع المرتهن عن اذنه وقد شك في تقدم أحد الحادثين على الآخر وتأخره عنه أو تقارنه ( فتارة ) يعلم بتاريخ أحدهما المعين ويشك في تاريخ الآخر في أنه قبله أو بعده أو مقارن له ( وأخرى ) يكون كل منهما مجعول التاريخ ( فعلى الأول ) لا قصور في جريان استصحاب العدم في مجهول التاريخ في الأزمنة المشكوك حدوثه فيها إلى زمان يقطع فيه بوجوده ، ففي المثال المتقدم لو علم بموت المورث في يوم الخميس مثلا وشك في اسلام الوارث في أنه قبل يوم الخميس الذي هو زمان موت المورث يجري الأصل في المجهول فيترتب عليه آثار عدم اسلامه إلى زمان

ص: 204

موت مورثه التي منها عدم ارثه منه ، حيث إنه يثبت به بضم وجدان موت المورث في الزمان المعين اجتماع عدم اسلام الوارث وموت المورث في الزمان ( وكذلك ) الامر فيما لو انعكس الفرض بان علم باسلام الوارث في يوم معين ويشك في موت المورث في أنه قبله أو فيه أو بعده ، فإنه باستصحاب عدم موته أو حياته إلى زمان اسلام الوارث يثبت موضوع التوارث الذي هو اجتماع الاسلام وحياة المورث في الزمان.

( هذا ) إذا كان الأثر لمجرد عدم أحد الحادثين في زمان الآخر ( واما ) إذا كان الأثر لوجود أحدهما المتصف بالعدم في زمان الآخر ، فلا يجري فيه أصالة بالعدم لعدم اليقين بالحالة السابقة ، وعدم اثمار استصحاب ذات عدم الامر الكذائي إلى زمان الحادث الآخر لاثبات ارتباط الموجود واتصافه بالعدم ، لان غاية ما يثبت به هو ان زمان وجود الحادث المعلوم ، زمان عدم الآخر ، وأين ذلك واثبات موضوع الأثر الذي هو الذات المتصف بالعدم في زمان الاخر ( والى ذلك ) نظر المحقق الخراساني قدس سره في تفصيله بين ان يكون الأثر للحادث المتصف بالعدم في زمان كذا ، وبين ان يكون الأثر لذات عدم أحدهما في زمان الآخر ( هذا ) في مجهول التاريخ.

( واما ) في معلوم التاريخ منهما فلا مجرى فيه للاستصحاب ، لانتفاء الشك اللاحق بالنسبة إليه فإنه قبل يوم الخميس الذي هو ظرف حدوث الاسلام مثلا كان اسلام الوارث معلوم العدم وفي يوم الخميس كان معلوم التحقق فلا يتصور الشك فيه في زمان كي يجري فيه استصحاب العدم ( وقد يتوهم ) ان المعلوم انما هو وجوده بالإضافة إلى اجزاء الزمان ، واما بالإضافة إلى زمان الواقعي لحدوث الآخر ، فحدوثه مشكوك فيه فيستصحب عدمه بهذا الاعتبار ، فيعارض مع الأصل الجاري في مجهول التاريخ ( وأجيب عنه ) بأنه ان أريد لحاظه بالإضافة إليه على وجه يكون زمان الآخر ظرفا محضا لوجوده على وجه الاجمال فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى اجزاء الزمان ، وقد عرفت انه مع العلم بتاريخ حدوثه لاشك في وجوده حتى يستصحب ( وان أريد ) لحاظه بالإضافة إليه على وجه يكون زمان الآخر قيدا ووصفا لوجوده فلا حالة له سابقا حتى يستصحب ، ولذا يمنع عن استصحاب وجود المتصف بالتقدم

ص: 205

أو بعدمه لمكان عدم الحالة السابقة ( أقول ) : ولا يخفى ان مجرد كون زمان الآخر ظرفا له لا يمنع عن استصحابه بعد صدق الشك في بقاء عدمه بالإضافة إلى زمان وجود الآخر واقعا ، فإنه يصح ان يقال في معلوم التاريخ : ان بقاء عدمه في زمان الواقعي لوجود الآخر مشكوك ( واما ) على التقيدية وان لم يجر فيه الاستصحاب لمكان عدم الحالة السابقة ، الا انه لا بأس بجريان الاستصحاب لسلب اتصاف المعلوم به ولو قبل وجوده ، لما ذكرنا من أن الأثر إذا كان للذات المتصف بكذا ، كان لحيث الاتصاف دخل في ترتبه ، فيكفي في نفي الأثر المترتب على الذات المتصف نفي اتصافها به ولو قبل الموجود إلى حين وجودها ، فيترتب عليه نقيض اثر النقيض الكافي هذا المقدار في باب الاستصحاب.

( فالأولى ) في دفع الشبهة ان يقال : ان عدم جريان الأصل ولو على الظرفية في معلوم التاريخ بلحاظ زمان الواقعي لوجود الآخر انما هو لأجل عدم احراز مقارنة الابقاء التعبدي مع زمان وجود الآخر ، لان معنى ابقاء شيء وجودا أو عدما إلى زمان الواقعي لوجود غيره ، هو ابقائه إلى زمان يقطع فيه بكونه ذاك الزمان الواقعي لوجود الآخر ، والا فبدون اليقين به لا يمكن تطبيق كبرى الأثر على المورد ( وحينئذ ) مع تردد زمان وجود الآخر بين زمانين لا يكاد يمكن الجزم بالتطبيق الا بفرض جر عدم المعلوم في جميع محتملات أزمنة وجود مجهول التاريخ ، وهو غير ممكن ( لان ) من محتملات زمان وجوده زمان اليقين بارتفاع المستصحب وانقلابه بالنقيض ، فلا يمكن جر عدمه إلى هذا الزمان ، ومع عدم جره كذلك كان البقاء التعبدي فيه مشكوك المقارنة مع زمان وجود الغير ، ومع الشك المزبور لا يثمر الأصل في ترتيب اثر البقاء المقارن لزمان وجود الغير ( هذا كله ) إذا كان أحدهما المعين معلوم التاريخ والآخر مجهوله.

( وأما إذا كانا ) مجهولي التاريخ ، فالذي يظهر من جماعة منهم العلامة الأنصاري قدس سره جريان الاستصحاب فيهما ذاتا ، غاية الامر سقوطهما بالمعارضة في فرض ترتب الأثر المهم على كل منهما كما في الأمثلة المتقدمة من مثال موت المتوارثين

ص: 206

الوالد والولد غير مقترنين والشك في المتقدم والمتأخر ، أو موت المورث واسلام الوارث كذلك ونحوهما من الأمثلة التي أوردها الشيخ قدس سره .

( ولكن التحقيق ) خلافه وانه لا مجرى للاستصحاب في واحد منهما ولو بلا معارض ( وذلك ) لا لما افاده المحقق الخراساني من شبهة الانفصال باليقين بالانتقاض ( بل لما أشرنا ) إليه آنفا من عدم اجدائه في التطبيق على موضوع الأثر في فرض امكان جر المستصحب ، وعدم امكان جره في فرض احراز التطبيق ( ولتوضيح ) المرام نفرض الأزمنة في الأمثلة المذكورة ثلاثة أيام ( الأول ) يوم الخميس الذي هو زمان اليقين بعدم موت المورث وعدم اسلام الوارث فيه ( الثاني ) يوم الجمعة الذي هو زمان الشك في حدوث موت المورث واسلام الوارث فيه ( الثالث ) يوم السبت الذي هو زمان اليقين بحدوث كل من موت المورث واسلام الوارث بنحو الاجمال مرددا كل منهما بان يكون حدوثه فيه أو في زمان سابق عليه وهو يوم الجمعة ( بعد ذلك ) نقول : ان شأن الاستصحاب بعد أن كان جر المستصحب وامتداده إلى زمان الشك ، لا إلى زمان اليقين بالانتقاض ( فتارة ) يكون منشأ الشك في بقاء شيء وجودا أو عدما إلى زمان وجود غيره ، من جهة الشك في أصل بقائه في الأزمنة المتأخرة عن زمان اليقين به ، مع الجزم بان الزمان المتأخر ، الذي حكم فيه بامتداد المستصحب وبقائه فيه هو زمان وجود الآخر ، كما في فرض العلم بتاريخ أحدهما المعين ، فإنه لو حكم ببقاء مجهول التاريخ إلى ذلك الزمان يجزم بمقارنة بقائه التعبدي لزمان وجود الآخر ( وأخرى ) يكون منشأ الشك فيه من جهة الشك في مقارنة البقاء التعبدي لزمان وجود الغير ( وبعبارة ) أخرى يكون الشك فيه من جهة الشك في كون الزمان الذي حكم ببقاء المستصحب فيه هو زمان وجود غيره بلحاظ تردد زمانه بين الزمانين ، حيث إنه بذلك يشك في مقارنة بقائه التعبدي في زمان مع زمان وجود غيره ( فان كان ) الشك في بقاء المستصحب إلى زمان وجود غيره ممحضا بالجهة الأولى ، فلا قصور في جريان الاستصحاب ، فيستصحب في المثال عدم كل من اسلام الوارث وموث المورث إلى زمان وجود الآخر ويترتب على كل منهما اثره في فرض الجزم

ص: 207

بالمقارنة مع زمان وجود الآخر ( واما ) ان كان الشك من الجهتين أو من الجهة الأخيرة ، فلا يجري الاستصحاب في واحد منهما ولو بلا معارض ( لوضوح ) ان شأن الاستصحاب انما هو مجرد الغاء الشك من جهة خصوص امتداد المستصحب إلى الأزمنة المتأخرة عن زمان اليقين به ، لا الغاء الشك فيه من جهة اقتران حيثية بقائه ولو تعبدا في زمان مع زمان وجود غيره ( وحينئذ ) فمع تردد الزمان الذي هو ظرف وجود الآخر بين الزمانين ، زمان الشك في وجود بديله الذي هو الزمان الثاني ، وزمان يقينه الذي هو الزمان الثالث ، يكون الشك في مقارنة البقاء التعبدي للمستصحب مع زمان وجود الآخر على حاله ، فلو أريد من الابقاء ابقائه إلى الزمان الثاني ، فلا يجزم حينئذ بتطبيق كبرى الأثر على المورد ، الا بفرض جر المستصحب في جميع محتملات أزمنة وجود الآخر التي منها الزمان الثالث ، وهو أيضا غير ممكن ، لان الزمان الثالث زمان انتقاض اليقين بكل منهما بيقين آخر ، فكيف يمكن جر المستصحب إلى الزمان الذي هو زمان انتقاض يقينه بيقين آخر ( ومجرد ) كونه زمان الشك في حدوثه أو حدوث غيره لا يجدي في امكان الجر إلى هذا الزمان بعد كونه زمان انتقاض يقينه كما هو واضح.

( وحيث اتضح ذلك ) نقول : ان المقام من هذا القبيل ، ففي المثال المزبور يكون منشأ الشك في حياة الوارث أو اسلامه إلى زمان موت مورثه كلا الامرين أعني الشك في أصل بقاء حياة الوارث أو عدم اسلامه في الزمان الثاني الذي فرضناه يوم الجمعة ، والشك في حيثية مقارنة بقاء المستصحب ولو تعبدا فيه لزمان موت المورث بلحاظ تردد حدوثه بين الزمانين ( ولقد ) عرفت عدم جريان الاستصحاب في مثله على وجه يجدي في ترتيب الأثر المترتب على البقاء المقارن لزمان وجود الغير ، لان ما يمكن جره بالاستصحاب انما هو جر عدم اسلام الوارث أو حياته إلى الزمان المتأخر عن زمان يقينه أعني الزمان الثاني ، ومثله لا يثمر في تطبيق كبرى الأثر على المورد ، لعدم احراز كون البقاء التعبدي مقارنا مع زمان وجود الغير ، وعدم تكفل دليل الاستصحاب الا لالغاء الشك من جهة خصوص الامتداد دون غيره ، وما يثمر

ص: 208

في التطبيق انما هو جر المستصحب إلى الزمان الثالث الذي فرضناه يوم السبت وهو غير ممكن لان زمان الثالث زمان انتقاض اليقين بكل واحد منهما بيقين آخر ، فكيف يمكن جر المستصحب إلى مثل هذا الزمان الذي هو زمان انتقاض يقينه.

( لا يقال ) ذلك انما يكون إذا قيس استصحاب عدم أحد الامرين بالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية ( واما ) لو قيس ذلك بالنسبة إلى الزمان الواقعي الاجمالي لوجود الآخر ، فلا قصور في استصحاب بقاء كل منهما إلى زمان الواقعي لوجود بديله ، إذ يصدق على كل منهما بالإضافة إليه الشك في البقاء إلى ذاك الزمان ، فيستصحب في المثال عدم اسلام الوارث إلى زمان موت مورثه وبالعكس ( غاية ) الامر يتعارض الاستصحابان ( فإنه يقال ) : ان أريد من استصحاب عدم اسلام الوارث أو حياة مورثه إلى الزمان الاجمالي ، جره إلى زمان يشك فيه في انطباق المجمل عليه فهو غير مثمر في تطبيق كبرى الأثر على المورد ، لعدم تكفل دليل الأصل لالغاء الشك من هذه الجهة ( وان أريد ) جره إلى زمان يقطع فيه بانطباق الزمان الاجمالي عليه بنحو الاجمال ، فهو وان كان مثمرا في التطبيق ، ولكنه يحتاج إلى جره في جميع محتملاته من الأزمنة التي منها الزمان الثالث ، وهو غير ممكن ، وبدون جره كذلك لا يحرز كون البقاء التعبدي مقارنا مع زمان وجوده غيره ( مع أنه ) لو كان هذا المقدار كافيا في جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ، فلم لا يلتزم بكفايته في جريانه في معلوم التاريخ في الفرض المقدم ، فإنه يصدق عليه أيضا بالإضافة إلى زمان الواقعي في مجهول التاريخ الشك في بقاء عدمه إلى زمان الواقعي لوجود الآخر ( ومن المعلوم ) انه لا يكون الوجه فيه الا ما ذكرناه ، فتدبر فيما قلناه بعين الانصاف فإنه دقيق وبالقبول حقيق.

( ثم إن للمحقق الخراساني قدس سره ) تقريبا آخرا في منع جريان الأصل في مجهولي التاريخ من جهة شبهة الانفصال باليقين الناقض الموجب لكون التمسك بعموم لا تنقض من باب التمسك بالعام مع الشك في انطباق عنوانه على المورد ( وملخص ) ما أفاد في تقريب الشبهة بتوضيح منا هو ان في فرض العلم بحدوث الحادثين كاسلام

ص: 209

الوارث وموت المورث والشك في المتقدم منهما والمتأخر ، لابد من فرض الأزمنة التفصيلية ثلاثة بفرض الزمان الأول زمان اليقين بعدمهما ، والزمان الثاني زمان العلم بحدوث أحدهما فيه اجمالا ، اما اسلام الوارث ، واما موت مورثه ، والزمان الثالث زمان اليقين بتحقق الاسلام والموت فيه مع اليقين الاجمالي بكونه ظرفا لحدوث أحدهما ، اما اسلام الوارث ، واما موت مورثه ( وهناك ) زمانان اجماليان أيضا : ( أحدهما ) زمان اسلام الوارث المحتمل الانطباق على كل من الزمان الثاني والثالث على البدل ، والثاني زمان موت مورثه المحتمل الانطباق أيضا على كل واحد من الزمانين على البدل بحيث لو انطبق أحدهما على الزمان الثاني ، كان الآخر منطبقا على الزمان الثالث ، حسب العلم بتقدم زمان حدوث أحدهما على زمان حدوث الآخر ( وحينئذ ) فبعد احتمال كون الزمان الثاني أعني يوم الجمعة مثلا ظرفا لحدوث الاسلام أو الموت ، لا مجال لاستصحاب عدم اسلام الوارث المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت مورثه ، لاحتمال ان يكون زمان موت المورث يوم السبت الذي هو الزمان الثالث ويكون زمان الاسلام يوم الجمعة الذي هو زمان انتقاض يقينه باليقين بالخلاف ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن جر المستصحب من زمان يقينه إلى زمان الآخر المحتمل كونه بعد زمان اليقين بارتفاعه ، وهكذا في استصحاب عدم موت المورث إلى زمان اسلام الوارث ، فإنه مع احتمال كون زمان الاسلام بعد زمان موت المورث يحتمل انتقاض يقينه باليقين بالخلاف ( وبعد تذيل ) بعض اخبار الباب بقوله : ولكن انقضه بيقين آخر الذي هو من القيود المتصلة بالكلام ، لابد في التمسك بعموم دليل الاستصحاب من احراز تطبيق عنوانه بقيوده على المورد ، فمع الشك في مثل هذا القيد يشك في تطبيق عنوانه ، وفي مثله لا مجال للتمسك بعموم لا تنقض حتى بناء على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية للمخصصات المنفصلة ( هذا ملخص ) المقال في تقرير الشبهة المزبورة.

( ولكن ) فيه ان الناقض لليقين السابق ليس الا اليقين بارتفاع المتيقن ، لا نفس ارتفاعه واقعا ولم يتخلل بين اليقين بعدم حدوث كل من الحادثين والشك في

ص: 210

الحدوث يقين آخر بالحدوث ليوجب عدم اتصال زمان الشك بالحدوث في كل منهما باليقين به ( واما ) اليقين الاجمالي بارتفاع المستصحب في أحد الزمانين ، اما الزمان الثاني ، أو الثالث فهو غير قابل للفصل بين اليقين بالمستصحب والشك في بقائه في زمان وجود الغير الا في فرض قابلية انطباقه على الزمان الثاني الذي هو أحد طرفي العلم ولكنه من المستحيل جدا ( لما عرفت ) غير مرة من أن قوام العلم والشك بل جميع الصفات الوجدانية كالإرادة والكراهة والتمني والترجي وغيرها انما هو بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي ملحوضة كونها خارجية بلا سراية منها إلى المعنون الخارجي ، لان الخارج انما هو ظرف اتصافها بالمعلومية ، لا ظرف عروضها بشهادة انه قد لا يكون للمعنون وجود خارجي أصلا كما في موارد تخلف العلم عن الواقع ، فمعروض العلم في جميع موارد العلوم الاجمالية عبارة عن عنوان وصورة اجمالية مبائنة مع ما هو معروض الشك والترديد ، حيث إن معروضه عبارة عن صور تفصيلية كهذا الاناء وذاك الاناء الآخر مثلا بعنوانهما التفصيلي مع وقوف كل من الوصفين في عالم عروضهما على نفس معروضه من الصور الذهنية ، من غير أن يكون وحدة المنشأ والمعنون الخارجي لهما موجبا لسراية أحد الوصفين من معروضه إلى معروض الآخر ، بشهادة اجتماع اليقين الاجمالي مع الشك التفصيلي بكل واحد من الأطراف ، مع وضوح المضادة بين الوصفين ( وبعد ) ذلك نقول : انه بعد استحالة انطباق المعلوم بالاجمال بما هو معلوم على طرفيه ، فلا يعقل احتمال الفصل باليقين بارتفاع المستصحب في أحد الزمانين بين زمان اليقين بعدم المستصحب وزمان الذي يراد جر المستصحب إليه ، فان المفروض ان الزمان الفاصل بين زمان اليقين بالمستصحب سابقا وزمان وجود غيره الذي يراد جره إليه بالاستصحاب ليس الا ما هو طرف العلم الاجمالي بين الزمانين وهو الزمان الثاني ، ومع استحالة قابلية انطباق المعلوم بوصف معلوميته على هذا الزمان الذي هو طرف العلم الاجمالي ، كيف يحتمل الفصل باليقين الناقض بين زمان اليقين بالمستصحب وزمان الذي يراد جره إليه ليكون التمسك بدليل الاستصحاب في المقام تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية للعام المزبور ، بلحاظ الشك في قيده

ص: 211

المتصل به.

( نعم ) ما هو محتمل الفصل باليقين الناقض انما هو في عالم الاتصاف والانطباق خارجا ، حيث يحتمل انطباق ما هو المعلوم بالاجمال في موطن الخارج على ما انطبق عليه معروض الشك ، ولكنه مع عدم كونه فصلا باليقين حقيقة الا على توهم مرفوض وهو سراية العلم من معروضه الذهني إلى موطن الخارج ، لا يمنع هذا المقدار عن جريان استصحاب العدم في كل من الحادثين ( والا ) لاقتضى المنع عن جريانه في مجهول التاريخ منهما أيضا بلحاظ ان حدوثه بعد أن كان مرددا بين ما قبل معلوم التاريخ وما بعده كان زمان الشك بعدمه وهو زمان حدوث معلوم التاريخ غير محرز الاتصال بزمان يقينه لاحتمال انفصاله عنه بانطباق زمان اليقين بالاجمال بحدوثه على ذلك الزمان ، بل وكذلك في جميع فروض العلوم الاجمالية ( وحينئذ ) فلولا ما ذكرناه من الوجه للمنع عن جريان استصحاب العدم في مجهولي التاريخ من لزوم احراز مقارنة زمان بقاء المستصحب ولو تعبدا مع زمان وجود غيره ، وعدم صلاحية جريان الاستصحاب إلى الزمان الثاني لرفع الشك في المقارنة المزبورة ، وعدم جريانه إلى الزمان الثالث الذي هو زمان اليقين بوجود الغير لكونه زمان اليقين بارتفاع المستصحب ، لما يمنع عنه ، شبهة الفصل المزبور.

( ثم لا فرق ) فيما ذكرنا من عدم صلاحية العلم الاجمالي بالارتفاع في الزمان الاجمالي للفاصلية بين ان يكون المعلوم بالاجمال من الأول مجملا مرددا بين أمرين كأحد الانائين أو الثوبين في العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، وبين ان يكون من الأول عنوانا تفصيليا كاناء ، زيد أو الاناء الشرقي ، فطرء عليه الاجمال والترديد من جهة اشتباهه بغيره ، كما لو علم بنجاسة اناء زيد بخصوصه وطهارة غيره ثم اشتبه بالاناء الآخر ، أو علم بنجاسة الاناء الشرقي وطهارة الاناء الغربي فاشتبه أحدهما بالآخر ، فإنه مع تقوم الصفات الوجدانية التي منها العلم والشك بالصور الذهنية ولولا بما يلتفت إلى ذهنيتها ، بل بما انها ترى خارجية ، يكون معروض العلم الاجمالي بما هو معروضه في جميع تلك الفروض عبارة عن صورة اجمالية مبائنة مع الصورة التي هي معروض الشك

ص: 212

ذهنا بنحو يستحيل اتحادهما في عالم المعروضية للشك واليقين وان كانتا متحدتين وجودا خارجا ، كاستحالة سراية كل من الوصفين من معروضه إلى معروض الآخر ، أو سرايتهما إلى موطن الخارج ( لا يعقل ) الفصل باليقين الناقض في شيء من هذه الفروض كي يمنع عن جريان الاستصحاب ( نعم ) ما هو محتمل الفصل باليقين في جميع هذه الفروض انما هو في عالم الاتصاف والانطباق خارجا ، حيث يحتمل انطباق ما هو معروض اليقين في الخارج على ما انطبق عليه معروض الشك ( ولكنه ) مع عدم كونه فصلا باليقين حقيقة ، لا يمنع هذا المقدار عن جريان الاستصحاب ( والا ) لاقتضى المنع عن جريانه في كل علم اجمالي بالنسبة إلى طرفه ولو كان المعلوم بالاجمال من الأول عنوانا عرضيا كعنوان أحدهما ( وعليه ) فما عن بعض الاعلام من تشقيق تلك الفروض وتسليم احتمال الفصل باليقين الناقض المانع عن الاستصحاب فيما كان من قبيل الاناء الشرقي المتميز عن الاناء الغربي ، اما بفرض الترديد والاجمال مقارنا للعلم ، كالعلم بإصابة المطر لما هو في الطرف الشرقي ، واما بطرو الاجمال والترديد بعد ما علم بإصابة المطر له ، وعدم تسليمه فيما كان المعلوم بالاجمال من الأول عنوانا عرضيا كالعلم بإصابة المطر لاحد الانائين اما الشرقي أو الغربي ، منظور فيه ( نعم ) لا بأس بذلك في عالم الاتصاف والانطباق الخارجي ، ولكنه لا يختص بالأمثلة المزبورة بل يجري في جميع موارد العلم الاجمالي ولو كان المعلوم بالاجمال من الأول عنوانا عرضيا كعنوان أحدهما ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن جريان مثل هذا الاستصحاب ما ذكرناه ، والا فلا قصور في الاستصحاب إذ لا يمنع عنه الا المعارضة بجريانه في الآخر في فرض ترتب الأثر على كل منهما.

( بقى الكلام )

( في تعاقب الحادثين المتضادين )

مع الشك في المتقدم منهما والمتأخر من حيث جريان الاستصحاب فيهما وعدمه ، كالطهارة والنجاسة ، والطهارة والحدث في المسألة المعروفة ( وفيه ) أيضا تجري

ص: 213

الشقوق السابقة من الجهل بتاريخهما ، تارة وبأحدهما ، أخرى ( والمقصود ) بالكلام في المقام هو الاستصحاب الوجودي دون العدمي ( كما أن ) المقصود هو استصحاب وجود كل منهما في حد نفسه ، لا بلحاظ كونه إلى زمان وجود الآخر أو عدمه ( فنقول ) : انه لو علم بالطهارة والحدث وشك في المتقدم والمتأخر منهما فمع الجهل بتاريخهما ، قد يظهر من الشيخ قدس سره بل نسب إلى المشهور جريان الاستصحاب في كل من الطهارة والحدث وتساقطهما بالتعارض ( وأورد ) عليه المحقق الخراساني قدس سره بما تقدم من شبهة الفصل باليقين الناقض لاحتمال انفصال زمان الشك في بقاء الطهارة عن زمان اليقين بها بزمان اليقين بالحدث بان يكون الطهارة في الساعة الأولى والحدث في الساعة الثانية وكذلك الامر بالعكس ( ولقد ) تقدم الجواب عنه بما لا مزيد عليه.

( والتحقيق ) في المقام عدم جريان الاستصحاب فيهما أيضا ولو مع قطع النظر عن التعارض ( لعدم اتصال ) زمان الشك فيه بزمان اليقين بتقريبات ( ولتوضيح ) المرام نقول : انه حفظا لموضوع الاستصحاب الذي هو الشك في وجود ما انطبق عليه البقاء لابد من فرض الأزمنة فيه ثلاث ساعات مثلا ، الأولى والثانية زمان اليقين الاجمالي بتحقق كل من الحادثين الطهارة والحدث ، والثالثة زمان الشك في بقاء كل منهما ، والا فلو فرض انه ما مضى الا الزمانان اللذان علم بحدوث الطهارة والحدث فيهما وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فلا مجال لتوهم جريان الاستصحاب فيهما لعدم تصور الشك في البقاء حينئذ ، لان في الزمان الأول لا يقين بحدوث الطهارة ، ولا بالحدث ، وفي الزمان الثاني وان علم بحدوثهما ولكن امر كل واحد منهما فيه مردد بين الحدوث والارتفاع ، فلا يتصور الشك في البقاء في واحد منهما ، وهذا بخلاف فرض الأزمنة ثلاثة ، حيث إن في الزمان الثالث يتصور الشك في البقاء في كل واحد منهما ، فكان موضوع الاستصحاب الذي هو الشك في وجود ما ينطبق عليه البقاء محرزا ( وبعد ذلك ) نقول : ان عدم جريان الاستصحاب في المتضادين المجهولين تاريخهما لوجوه.

ص: 214

( الأول ) ان المستفاد من أدلة الباب بمقتضى لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ، اعتبار اتصال زمان الشك في بقاء المستصحب بزمان اليقين بوجوده بحيث يصدق الشك في البقاء على الحادث في الزمان المشكوك فيه وليس هنا كذلك ( لان ) ما حدث وهو الطهارة في المثال بعد أن كان زمانه زمانا اجماليا مرددا بين زمان الأول والثاني ، فقهرا يكون زمانه المتصل لحدوثه أيضا مرددا بين زمان الثاني والثالث ، وهكذا في طرف الحدث ، ففي الزمان الثالث لم يحرز اتصاله بزمان اليقين ، لان الطهارة ان كانت واقعة في الساعة الأولى ففي الساعة الثانية كانت مرتفعة قطعا فيكون الزمان الثالث الذي هو زمان الشك في البقاء منفصلا عنه ، وان كانت واقعة في الساعة الثانية ، فزمان الثالث وان كان متصلا بزمان حدوثهما ، الا انه على هذا التقدير لا يكون الزمان الثالث زمان الشك في البقاء والارتفاع للقطع حينئذ ببقاء الطهارة فيه ( وان شئت قلت ) بانتفاء الشك في البقاء في الزمان الثالث بالنسبة إلى كل واحد من الطهارة والحدث ، لأنه على تقدير يقطع بارتفاعه ، وعلى تقدير يقطع ببقائه ، فان ما يتصور من الشك في البقاء فيه انما هو من جهة الشك في الحدوث المتصل به لا من جهة الشك في نفس بقاء ما هو الحادث فارغا عن حدوثه المتصل به ، وموضوع الاستصحاب صرفا أو انصرافا انما كان هو الثاني لا الأول ، ولا مطلق الشك في البقاء ولو كان من جهة الشك في الحدوث في الآن المتصل به ( وحينئذ ) فلا ينتقض ما ذكرناه بموارد الشكوك البدوية ( فإنه ) لو علم بالطهارة في ساعة فشك في بقائها في الساعة الأخرى كان زمان الشك في البقاء متصلا بزمان اليقين بحدوثها حيث يحتمل ملازمة حدوثها في الساعة الأولى لبقائها في الساعة الثانية ويحتمل عدم ملازمة حدوثها للبقاء ، وشأن الاستصحاب ابقاء ما شك في بقائها في الزمان المتصل بالحدوث.

( الثاني ) انه لا شبهة في أن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء المستصحب وارتفاعه في الزمان المتصل بزمان اليقين بحدوثه ، بحيث يحتمل ملازمة حدوثه في الزمان الأول مع بقائه في الزمان الثاني ، ويحتمل عدم

ص: 215

ملازمته وانفكاك وجوده في الزمان الثاني عن حدوثه في الزمان الأول ( ومثل ) هذا المعنى لاشك في تحققه في الشكوك البدوية ( بخلاف المقام ) فإنه لا يتصور فيه احتمال بقاء المستصحب وارتفاعه في الزمان الثالث الذي أريد جر المستصحب إليه ( فإنه على تقدير ) ان يكون حدوث الطهارة في الساعة الأولى ، يقطع بارتفاعها في الساعة الثانية بحدوث ضده الذي هو الحدث ، فلا يحتمل فيها البقاء في الساعة الثالثة ( وعلى تقدير ) ان يكون حدوثها في الساعة الثانية يقطع ببقائها في الساعة الثالثة ، فلا يحتمل انفكاك حدوثه عن بقائه في الزمان الثالث ، وهكذا بالنسبة إلى إلى الحدث ، ومع انتفاء الشك في البقاء والارتفاع لا يجري فيه الاستصحاب ( واما ) ما يرى من الشك في البقاء والارتفاع بالنسبة إلى كل من الطهارة والحدث ، فقد عرفت رجوعه في الحقيقة إلى الشك في زمان حدوثه المتصل به ، لا انه من جهة الشك في انقطاع ما هو الحادث فارغا عن حدوثه في الزمان المتصل به كما هو ظاهر.

( الثالث ) ان المنصرف من دليل الاستصحاب هو ان يكون زمان الذي أريد جر المستصحب إليه على نحو لو تقهقرنا منه إلى ما قبله من الأزمنة لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب ، كما في جميع موارد الاستصحابات الجارية في الشكوك البدوية ( وليس المقام ) من هذا القبيل ، فان في كل من الطهارة والحدث لو تقهقرنا من زمان الشك الذي هو الساعة الثالثة لم نعثر على زمان اليقين بوجود المستصحب ، بل الذي نعثر عليه فيما قبله من الأزمنة انما هو زمان اليقين بعدم حدوث المستصحب من الطهارة أو الحدث ( لان ) كلا من الساعة الثانية ، والأولى إذا لاحظنا فيه المستصحب طهارة أو حدثا يرى كونها ظرفا للشك في وجوده إلى أن ينتهى إلى الزمان الخارج عن دائرة العلم الاجمالي الذي هو زمان اليقين بعدم كل منهما ( وحيث ) انه لم نعثر في تقهقرنا على زمان تفصيلي نعلم فيه بالطهارة أو الحدث ، امتنع الاستصحاب لانصراف الدليل عنه ( هذا بالنسبة ) إلى الأزمنة التفصيلية ( واما بالنسبة ) إلى الزمان الاجمالي المشار إليه بكونه بعد زمان اليقين بحدوث المستصحب ، فاتصاله بزمان اليقين وان كان متحققا بنحو الاجمال ، ولا مانع من هذه الجهة من استصحاب

ص: 216

كل من الطهارة والحدث إلى الزمان الثاني الاجمالي المتصل بزمان اليقين بالحدوث في كل منهما ، ولكنه انما يثمر إذا لم يحتج إلى التطبيق على الأزمنة التفصيلية كما لو كان الأثر لمجرد بقاء الطهارة أو الحدث في زمان ما اجمالا ، والا فعلى فرض الاحتياج إلى التطبيق على الأزمنة التفصيلية بلحاظ ترتب الأثر المهم من نحو صحة الصلاة على ثبوت الطهارة في زمان تفصيلي ( فلا مجال ) لهذا الاستصحاب ، لعدم اثماره في التطبيق على واحد من الأزمنة بخصوصه ، بل عدم صحته ( لما عرفت ) من أن الزمان الثاني الذي هو طرف العلم لا يحتمل فيه البقاء لكونه مرددا بين زمان الحدوث والارتفاع ( والزمان ) الثالث وان احتمل فيه البقاء لكن لا يحتمل فيه الارتفاع ، لكونه على تقدير مقطوع البقاء ، وعلى تقدير آخر مقطوع الارتفاع فيه ( هذا ) ( وقال الأستاذ قدس سره ان المحقق الخراساني قدس سره في سالف الزمان في مجلس بحثه قرر شبهة الانفصال بمثل ما ذكرناه ) ( ولكنه ) قررها في الكفاية من جهة شبهة الفصل باليقين الناقض.

( اشكال ودفع ) اما الاشكال فقد يورد على ما ذكرنا من شبهة عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين بوجود المستصحب ، بان لازم اعتبار الاتصال بالمعنى المزبور في صحة الاستصحاب عدم جريانه حتى في الشك البدوي في الرافع الوارد على المعلوم بالاجمال من حيث الزمان ، كما لو علم اجمالا بطهارته اما في الساعة الأولى أو الثانية وشك بشبهة بدوية في حدوث حدث بعده في الزمان الأخير الذي هو طرف العلم على فرض حدوث المعلوم في الزمان الأول أو مطلقا ، حيث إنه بمقتضى البيان المزبور لا يجري استصحاب الطهارة ، لا في الزمان الثاني الذي هو طرف العلم بحدوث الطهارة لكونها مرددة فيه بين الحدوث والارتفاع ، ولا في الزمان الثالث ، لعدم احراز الاتصال بالمعنى المزبور ، إذ لو انتقلنا من زمان الشك إلى الوراء متقهقرا لم نعثر الا على زمان اليقين بعدم المستصحب ، لان كل واحدة من الساعة الأولى والثانية التي هي قبل زمان الشك إذا لوحظت يرى كونها زمان الشك في حدوث المستصحب من حيث احتمال حدوث المعلوم بالاجمال من حيث الزمان فيه أو فيما قبله أو ما بعده ، مع

ص: 217

انه لا يظن التزامه من أحد.

( واما الدفع ) ففيه أولا ان بنائهم على جريان الاستصحاب في مثله ليس باعتبار الأزمنة التفصيلية كي يصير نقضا على ما ذكرنا ، بل هو باعتبار جريانه في الأزمنة الاجمالية لحدوث المستصحب المستتبع لليقين في الزمان الثاني التفصيلي الذي هو طرف العلم الاجمالي ، اما بالطهارة الواقعية أو التعبدية ( ومن الواضح ) عدم جريان هذا التقريب في فرض العلم بحدوث الحدث مع الشك في تقدمه على الطهارة وتأخره عنه ( وثانيا ) يمكن دعوى جريان الاستصحاب التقديري في مفروض النقض ، فإنه على تقدير عدم حدوثها في الزمان الأخير الذي هو طرف العلم يشك في بقائه فيه فيستصحب ولازمه العلم الاجمالي في زمان الآخر بوجود طهارة واقعية أو ظاهرية ( وهذا ) التقريب غير جار في المقام أيضا ( إذ في ) فرض العلم بالناقض والشك في المتقدم والمتأخر يكون امر كل واحد من الطهارة والحدث في الزمان الثاني مرددا بين الحدوث والارتفاع ، لا في البقاء والارتفاع ( ودعوى ) ان الاستصحاب التقديري في مفروض النقض انما يجري في فرض كون موضوع حرمة النقض هو نفس الشيء بوجوده الواقعي ولولا بما هو معلوم ، والا فعلى فرض دخل اليقين في موضوع حرمة النقض فلا يجري الاستصحاب ، لعدم اليقين الفعلي حينئذ بوجود المستصحب ( مدفوع ) بان ما هو غير متحقق فعلا انما هو اليقين المطلق ، لا مطلق اليقين به ولو منوطا ، ولا شبهة في تحقق اليقين الفعلي المنوط فيه ( فإنه ) في فرض عدم حدوث المستصحب في الزمان الثاني الذي هو طرف العلم يصدق انه كان على يقين فعلي بوجوده غايته منوطا بالتقدير المزبور ، وهذا المقدار من اليقين المنوط يكفي في تحقق موضوع حرمة النقض فتدبر ( فتلخص ) مما ذكرنا انه لا مجال لجريان الاستصحاب في واحد من الحالتين المتضادتين ولو مع قطع النظر عن المعارضة ( هذا كله ) في صورة الجهل بتاريخ الحالتين المتضادتين.

( واما صورة ) العلم بتاريخ إحديهما ، فعلى تقرير شبهة الانفصال بما

ص: 218

افاده المحقق الخراساني قدس من احتمال الفصل بالانتقاض باليقين لا يجري الاستصحاب في هذا الفرض أيضا لا في مجهوله ولا في معلومه ( واما ) بناء على تقريرها بما ذكرناه من اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين بوجود المستصحب فيمكن التفصيل بينهما بجريان الاستصحاب في معلومه دون مجهوله لعدم الاتصال فيه.

( التنبيه العاشر )

يعتبر في صحة الاستصحاب ان يكون المستصحب موضوعا كان أم حكما تكليفيا كان أم وضعيا ذا اثر عملي حين الاستصحاب ولو بوسائط عديدة كوجوب قضاء الفريضة باستصحاب نجاسة الماء الذي توضأ به ( واما ) مالا يقتضى عملا بالفعل ، كالخارج عن ابتلاء المكلف رأسا ولو بلحاظ اثره ، والحكم التعليقي قبل حصول المعلق عليه ، فلا يجرى فيه الاستصحاب لعدم كفاية مجرد شرعية الأثر بلا انتهائه إلى ترتب اثر عملي في جريانه ، واعتبار هذا الشرط على ما اخترناه من رجوع لا تنقض إلى الامر بالمعاملة مع المشكوك معاملة المتيقن من حيث الجري العملي ظاهر ، فإنه بدونه يمتنع التعبد للغويته ( واما بناء ) على القول برجوعه إلى جعل المماثل أو الأثر فمن جهة ظهور اخبار الباب صرفا أو انصرافا بمقتضى ورودها في مقام بيان الوظيفة الفعلية العملية للشاك والجاهل المتحير في وظيفته في الاختصاص بمورد يترتب عليه اثر عملي حين توجيه الخطاب بحرمة النقض إلى المكلف وهذا مما لا اشكال فيه ، كما لا اشكال في لزوم كون الأثر من لوازم نفس الواقع أو الواقع المعلوم من حيث طريقيته لامن حيث نوريته في نفسه ، والا فلو كان الأثر من لوازم الواقع المعلوم من حيث كونه نورا في نفسه وصفة خاصة قائمة بالنفس ، فلا مجال للاستصحاب ووجهه واضح ( كما أن ) الامر كذلك لو كان المأخوذ في موضوع الأثر عدم استتاره ، كما لعله من هذا القبيل باب الشهادة ، لوضوح ان الاستصحاب انما يجري ويحرز الموضوع في ظرف الشك

ص: 219

بالواقع واستتاره ، فلا يمكن ان يكون رافعا لاستتاره ( وبهذه ) الجهة يمتاز الاستصحاب بناء على اخذه من الاخبار عن الامارة ، فان الامارة بمقتضى لسان دليل اعتبارها الدال على تتميم كشفها ترفع ستره الواقع ، بخلاف الاستصحاب فإنه باعتبار اخذ الشك في موضوعه يمتنع ان يكون رافعا لسترة الواقع ، لامتناع ان يكون الحكم رافعا لموضوعه ، وبهذه الجهة تكون الامارة حاكمة عليه لكونها رافعة للشك المأخوذ في موضوعه ( وحينئذ ) فلابد من ملاحظة كبريات الآثار الواقعية في أنها ثبتت باي كيفية ، والا فبعد الفراغ عن احراز كيفية ثبوتها لا اشكال في جريان الاستصحاب على بعض التقادير وعدم جريانه على بعض التقادير الاخر حسب ما عرفت من التفصيل.

التنبيه الحادي عشر

لا فرق في الاستصحاب بين ان يكون المستصحب من الموضوعات الخارجية ، أو اللغوية ، أو الأحكام الشرعية ، أصولية أم فرعية ، وبين ان يكون من الأمور الاعتقادية التي كان المطلوب فيها عمل الجوانح من نحو التسليم والانقياد والاعتقاد بمعنى عقد القلب على نبوة نبي أو امامة امام ، فيجري فيها الاستصحاب موضوعا وحكما في فرض تحقق أركانه ( فلو شك ) في نبوة شخص أو إمامته بعد اليقين بثبوتهما له سابقا يجري فيهما الاستصحاب ويترتب على استصحابهما الآثار المزبورة من لزوم الانقياد وعقد القلب بناء على كونها من آثار البنوة الواقعية لا من آثار النبوة المعلومة بوصف معلوميتها ( والا ) فلا مجال للاستصحاب وان فرض تمامية أركانه من اليقين السابق والشك اللاحق كما تقدم في التنبيه السابق ( من غير فرق ) في ذلك بين ان تكون النبوة وكذا الإمامة من المناصب الجعلية الأهلية ، أو من الأمور الواقعية الناشئة من كمال نفسه الشريفة وبلوغها إلى مرتبة عالية التي بها صار سببا متصلا بين الخالق والمخلوق وواسطة في ابلاغ الأحكام الإلهية ( فإنه ) على كل تقدير

ص: 220

يمكن تصور الشك فيهما ، لامكان تطرق الشك في النبوة أو الإمامة عقلا على فرض الجعلية ، لاحتمال كونهما محدودة في الواقع إلى وقت خاص ، وعلى فرض الواقعية ، لاحتمال الانحطاط عن الرتبة ، أو لوجود من هو أكمل من السابق ( وحينئذ ) فمتى فرضنا ترتب اثر عملي من الأعمال الخارجية أو الجوانحية من مثل عقد القلب ونحوه على واقع النبوة أو الإمامة القابل لترتيبه بالاستصحاب يجري فيهما الاستصحاب ويترتب عليهما الأثر ، وان قلنا بأنهما من الأمور التكوينية الناشئة من كمال النفس ومتى لم يكن اثر عملي لواقع النبوة أو الإمامة بان كانت الآثار المزبورة من لوازم النبوة المعلومة بوصف معلوميتها ، لا مجال لجريان الاستصحاب فيها ، وان قلنا بأنها من المناصب المجعولة ، لان مجرد جعليتها لا يجدي في صحة الاستصحاب ما لم يترتب عليها اثر عملي ( هذا ) ولكن من البعيد جدا كون تلك الآثار من لوازم النبوة المعلومة ، إذ لم يساعده الدليل ولا الاعتبار ، بل الظاهر كونها آثارا لنفس النبوة الواقعية الثابتة في ظرف العلم والجهل بها ، لأنها من مراتب شكر المنعم ووسائط النعم الحاكم به العقل السليم والذوق المستقيم ، ولازمه بعد الفحص واليأس امكان ترتبها ببركة الامارة أو الأصل المنقح لموضوعها ، لولا دعوى عدم تمشي التسليم والانقياد الحقيقي لنبي أو امام مع التزلزل في نبوته أو إمامته ، وان أمكن دفعه بان مالا يتمشى مع الشك انما هو التسليم والانقياد الجزمي ، واما التسليم والانقياد له بعنوان كونه نبيا أو إماما ظاهرا بمقتضى الامارة أو الأصل المنقح فلا بأس به.

( ولكن ) الذي يسهل الخطب انتفاء الشك الذي هو ركن الاستصحاب في نحو هذه الاستصحابات ، فان المسلم المتدين بالاسلام لا يكون شاكا في بقاء نبوة عيسى (عليه السلام) ، بل هو بمقتضى تدينه قاطع بانقطاع نبوته ونسخ شريعته بمجئ نبينا صلی اللّه علیه و آله ( كيف ) ولا طريق له إلى اليقين بنبوة عيسى (عليه السلام) ولو في سالف الزمان الا القرآن واخبار نبينا صلی اللّه علیه و آله ، والا فمع قطع النظر عن ذلك لا يقين له بأصل نبوته بمحض تدين جماعة بدينه ، ومن المعلوم ان القرآن وكذا نبينا صلی اللّه علیه و آله كما أخبرا عن

ص: 221

نبوته سابقا ، كذلك أخبرا باختتام نبوته ونسخ شريعته ، ومعه ( كيف ) يتصور للمسلم المتدين بنبوة النبي اللاحق ، الشك في بقاء نبوة النبي السابق وبقاء شريعته كي ينتهى المجال إلى الاستصحاب ، كما أن المتدين بدين النصارى والمتثبت فيه قاطع ببقاء شريعة عيسى (عليه السلام) ( نعم ) قد يتصور الشك في البقاء بالنسبة إلى بعض النصارى ممن اطلع على مزايا الاسلام على ساير الأديان ، فان مثله ربما يشك في نبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فيشك في بقاء نبوة نبي السابق وشريعته ( ولكن ) الاخذ بالاستصحاب لمثل هذا الشاك في الشريعتين لو يجدى فإنما هو فيما يرجع إلى عمل نفسه ، ولا ينفع في الزامه المتدين بدين الاسلام ( لان ) الاستصحاب وظيفة عملية للشاك والمتحير ، ولا شك للمسلم في بقاء نبوة السابق لكونه قاطعا بانقطاع نبوته ونسخ شريعته بمجئ النبي اللاحق ، ولا حجة للجاهل على العالم ( كما أن ) صحة اخذه بالاستصحاب ولو في عمل نفسه انما هو في فرض علمه بحجية الاستصحاب في الشريعتين لعلمه اجمالا حينئذ اما ببقاء السابق واقعا أو بكونه محكوما بالبقاء بحكم الاستصحاب ( والا ) فعلى فرض عدم علمه بحجيته الا في الشريعة السابقة أو في خصوص الشريعة اللاحقة ، فلا يجديه الاستصحاب ولو لعمل شخص نفسه ، لان علمه بحجية على الأول دوري ، وعلى الثاني غير مجد لمكان جزمه بمخالفة الاستصحاب حينئذ للواقع بلحاظ ملازمة حجيته في الشريعة اللاحقة لنسخ الشريعة السابقة ، فلا يحصل له العلم الاجمالي ببقاء الشريعة السابقة اما واقعا أو استصحابا كما هو واضح.

( وبما ذكرنا ) ظهر ان تمسك الكتابي بالاستصحاب في مناظرته مع السيد المتبحر السيد باقر القزويني في بلدة ذي الكفل ان كان لأجل اقناع نفسه في عمله بالشريعة السابقة فما ارتكب في دعواه شططا ، واما ان كان ذلك لأجل الزامه المسلمين على التدين بدين النصرانية ، ففساده غنى عن البيان ، لما عرفت من أنهم وان كانوا مذعنين بنبوة عيسى (عليه السلام) حسب اخبار نبينا الصادق الأمين صلی اللّه علیه و آله بذلك وتصديقهم إياه في كل ما قال ، الا انهم عالمون بانقطاع نبوته ونسخ شريعته فلا شك لهم في ذلك

ص: 222

كي ينتهى المجال إلى الزامهم بالالتزام بالشريعة السابقة بمقتضى الاستصحاب المعلوم حجيته لديهم ، ( وان كان ) لا هذا ولا ذاك ، بل لأجل الزام المسلمين على إقامة الدليل على مدعاهم من الدين الجديد ، فله وجه وجيه ، الا ان مدعى بقاء الدين السابق أيضا يحتاج إلى إقامة الدليل على بقائه ، ولا يكفيه الاخذ بالاستصحاب الذي هو الوظيفة الفعلية العملية للمتحير الشاك في اثبات البقاء ، ولكن هذا المعنى خلاف ما هو المحكى عنه من قوله فعليكم كذا وكذا ، فإنه ظاهر بل صريح في أن غرضه الزام المسلمين على الاخذ بالدين السابق بالاستصحاب بمقتضى يقينهم السابق بنبوة عيسى (عليه السلام) ، ولذا أفاد السيد الجليل في جوابه في مجلس المناظرة بما هو مضمون ما ذكره الرضا (عليه السلام) في جواب جاثليق من انا نعترف بنبوة كل موسى وعيسى الخ ، وعليه عرفت ما فيه من أن الاستصحاب وظيفة عملية للشاك في البقاء والارتفاع لا للمتيقن بالارتفاع ، واليه يرجع ما افاده السيد قدس سره من الجواب في مجلس المناظرة من انا نؤمن ونعترف بنبوة كل موسى وعيسى أقر بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فكان الغرض من هذا الجواب بيان ان علمنا بنبوة الشخص الخارجي المسمى بموسى أو عيسى (عليه السلام) لا يلزمنا البقاء على شريعتهما ، لأنا كما نقطع بنبوتهما سابقا كذلك نقطع بنسخ شريعتهما ، بل وباعترافهما بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله حسب تصديقنا النبوة للنبي الجديد صلی اللّه علیه و آله وتصديقنا إياه في كل ما قال الذي منها اخباره باخبارهما بمجئ نبي بعدهما اسمه احمد ، بل ووجوب البشارة عليهما لا متهما بمجئ نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فكان المقصود من ذكر القيد اخذه معرفا للشخص الخارجي المسمى بموسى وعيسى كسائر معرفاته من كونه طويلا أو أسمر اللون ونحو ذلك ، لا ان المقصود اخذه منوعا قد جيئ به تضييقا لدائرة الكلى كي يتوجه عليه الاشكال بان موسى أو عيسى موجود واحد جزئي اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوته ( ومن الواضح ) ان اعتراف المسلمين بنبوة هذا الشخص المبشر لا يكاد يضرهم ولا ينفع الكتابي أيضا فتدبر فيه فإنه ظاهر واضح.

ص: 223

التنبيه الثاني عشر

إذا ورد عام افرادي يتضمن العموم الزماني وخرج بعض افراد العام عن الحكم بالتخصيص في بعض الأزمنة فشك في أن خروجه عنه في تمام الأزمنة أو في بعضها ، فهل المرجع بعد انقضاء الأمد المتيقن خروجه عنه هو عموم العام كما عن بعض ، أو استصحاب حكم المخصص كما عن بعض آخر ، وجهان ( وقد ) عد من ذلك قوله سبحانه أوفوا بالعقود باعتبار أدلة الخيارات كخيار الغبن ونحوه إذا شك في أنه للفور أو التراخي ( وتنقيح ) الكلام فيه يستدعى تقديم أمور.

( الامر الأول ) ان الزمان في دليل العام اما ان يكون قيدا للموضوع أو الحكم ، واما ان يكون ظرفا لهما ( وعلى الأول ) تارة يكون مجموع آنات الزمان لوحظ على وجه الارتباطية قيدا واحدا ، نظير العام المجموعي بحيث لو خلا آن واحد عن وجود الموضوع أو الحكم لا ارتفع الموضوع والحكم من أصله ، كما لعله من هذا القبيل باب الصوم من حيث إن حقيقة الصوم المأمور به هو الامساك المتقيد بكونه في مجموع آنات النهار من طلوع الفجر إلى الغروب من حيث المجموع بنحو يتحقق العصيان وينتفى المأمور به بخلو آن من آنات النهار عن الامساك تعمدا ( وانما قلنا ) ان منه باب الصوم احتمالا لا جزما ، لقوة احتمال عدم كونه من باب التقييد بالزمان ( بل من باب ) كونه عبارة عن مرتبة خاصة من الامساك المحدود بالحدين أوله بما يقارن الفجر وآخره بما يقارن الغروب بنحو يكون الفجر والغروب معينين للحدين وكاشفين عنها بنحو كشف اللازم عن الملزوم وكان النهار من أوله إلى آخره ملازما لتلك المرتبة من الامساك الخاص ، لا انه اخذ قيدا فيه ( وعلى كل حال ) فعلى القيدية ، اما ان يكون مجموع الأزمنة من حيث المجموع على نحو الارتباطية لوحظ قيدا

ص: 224

واحدا للموضوع أو الحكم ، واما ان يكون لوحظ كل آن من آنات الزمان قيدا مستقلا بنحو يتكثر الموضوع أو الحكم بتكثر آنات الزمان ويصير الموضوع الوحداني الخارجي باعتبار تكثر الآنات موضوعات متعددة يتبعها احكام عديدة نظير العام الأصولي كما لو ورد في الخطاب يجب اكرام زيد في كل زمان ، أو ان اكرام زيد واجب في كل زمان ، فان تقسيم العام إلى المجموعي والأصولي كما يجري في العموم الافرادي ، كذلك يجري في العموم الازماني ، غير أن الارتباط والاستقلال في العموم الافرادي يلاحظان بالنسبة إلى الافراد ، وفي العموم الزماني يلاحظان بالنسبة إلى اجزاء الزمان وآناته ، ومن غير فرق بين سعة دائرة الزمان بكونها ما دام العمر ، أو محدودة بالسنة أو الشهر أو اليوم ( والفرق ) بين هذين القسمين انما هو من حيث وحدة الإطاعة والمعصية وتعددهما التابع لوحدة التكليف والموضوع وتعدده.

( وعلى الثاني ) وهو الظرفية للموضوع أو الحكم ( فتارة ) يكون مفاد العام اثبات حكم شخص مستمر وحداني لكل فرد من افراد موضوعه المستمر على نحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا بحيث لو انقطع هذا الشخص لم يكن الخطاب متكفلا لحكم آخر لشخص موضوعه ( وأخرى ) يكون مفاده اثبات حكم سنخي لذات كل فرد بما هي سارية في جميع الحالات والأزمان على وجه قابل للانحلال حسب القطعات المتصورة للفرد الشخصي بحسب الأحوال والأزمان إلى احكام متعددة ثابتة لكل قطعة من القطعات الموجودة للفرد الشخصي المستمر ، ومن غير نظر في تكفله لثبوت ذلك الحكم السنخي لذات كل فرد إلى كل زمان ليكون قطعات الزمان افرادا مستقلة للعام كما يقتضيه فرض اخذ الزمان قيدا للموضوع أو الحكم ( وثالثة ) يكون مفاد العام اثبات حكم سنخي لطبيعة الموضوع القابل للانطباق على كل فرد على وجه الاطلاق والسريان بالنسبة إلى الحالات والأزمان مع فرض كون الزمان في جميع هذه الفروض ظرفا بحيث لو اخذ في لسان الدليل كان لمحض الإشارة إلى أمد استمرار الحكم أو موضوعه.

( ومن نتائج ) هذه الفروض انه على الأول لو ورد دليل على نفي الحكم عن فرد في زمان معين فشك في ثبوت الحكم له بعد زمان التخصيص ، لا مجال للتشبث بدليل

ص: 225

العموم لاثبات حكمه بعد زمان التخصيص ( بل لابد ) حينئذ من التماس دليل آخر ( والا ) فالدليل الأول لم يتكفل الا لاثبات حكم شخصي مستمر زمانا لموضوع شخصي مستمر ومثله انقطع بالدليل المخرج ( بخلاف ) الأخيرين ، فان الدليل الأول بلحاظ تكفله لاثبات الحكم الشخصي القابل للانحلال لذات الفرد أو الطبيعي الجامع على نحو الاطلاق والسريان بالنسبة إلى الحالات والأزمان يكون مثبتا لحكم هذا الفرد فيما بعد زمان التخصيص ، ومن هذه الجهة لا قصور في التشبث به لثبوت حكمه بعد التقطيع ( من غير فرق ) بين ان يكون التقطيع من الوسط أو من الأول ( والسر في ذلك ) هو ان ما يقتضيه نفس دليل الحكم انما هو ثبوت الحكم لذات الفرد أو الطبيعي في الجملة بحيث لو شك فيه بالنسبة إلى بعض الأحوال أو الأزمان يرجع فيه إلى الأصول العملية ( واما ) ثبوته له مستمرا إلى الأبد وفى جميع الأحوال فإنما هو بمقتضي اطلاق دليله ، وبذلك يستكشف من الدليل المخصص المزبور المخرج للزمان ، تحديده من الأول إلى الزمان الخاص ، فيكون الدليل المخصص في الحقيقة محددا له إلى زمان خاص ، لا انه مخصص ومخرج للفرد عن حكم العام ، والا يلزم عدم ثبوت حكم العام من الأول لمثل هذا الفرد ، وليس كذلك بل العام باق على عمومه حتى بالنسبة إلى هذا الفرد ( غاية الامر ) يرفع اليد عن اطلاقه بالنسبة إلى بعض الأزمنة ويؤخذ باطلاقه فيما عداه ، إذ لا وجه لرفع اليد عن اطلاقه بالنسبة إلى غير هذا الزمان ، لان المطلق لا يخرج عن الحجية بمجرد ورود تقييد على بعض جهاته ( وبهذه ) الجهة نفرق في الفرض الأول بين منقطع الوسط ومنقطع الأول والأخير ، حيث نقول بمرجعية العام باطلاقه المتكفل لشخص الحكم في الأخيرين بلحاظ عدم خروج الحكم الشخصي الثابت للفرد بعد التقطيع المزبور بالنسبة إلى غير زمان المخرج عن الوحدة والشخصية ( بخلاف ) التقطيع من الوسط فإنه من المستحيل بقاء الحكم المزبور على وحدته مع تخلل العدم بينهما ( فلو ) ثبت له حكم بعد الزمان المخرج ، يلزم تكفل دليل العام لاثبات الحكمين ، والمفروض عدم تكفله الا لاثبات حكم وحداني شخصي كما هو ظاهر.

( الامر الثاني ) لا اشكال في أن اعتبار العموم الزماني بنحو القيدية أو

ص: 226

الظرفية لنفس الحكم أو لمتعلقه لابد وأن يكون بقيام الدليل عليه ، والدليل المتكفل لذلك ( كما أنه ) قد يكون هو الدليل الخارجي ( كذلك ) قد يكون نفس الدليل المتكفل للحكم ( فإنه ) يمكن ان يكون هو المتكفل للعموم الزماني بالنصوصية أو بقضية اطلاقه ( من غير فرق ) في هذه الجهة بين ان يكون مصب العموم الزمان متعلق الحكم الذي هو فعل المكلف كقوله يجب اكرام العالم في كل زمان أو دائما ومستمرا إلى الأبد ، وبين ان يكون مصبه نفس الحكم من الوجوب أو الحرمة كقوله يجب مستمرا أو في كل زمان اكرام العالم ، أو ان اكرام العالم واجب في كل آن ، أو واجب بوجوب مستمر في كل زمان مع إقامة القرينة الحافة بكلامه على وجه يصير ظاهرا في رجوع القيد إلى نفس الحكم دون متعلقه ( فعلى كل تقدير ) يمكن ان يتكفل اعتباره نفس دليل الحكم بلا احتياج إلى التماس دليل آخر منفصل كما هو ظاهر.

( ولكن ) الذي يظهر من بعض الأعاظم قدس سره على ما في التقرير عدم امكان تكفل نفس دليل الحكم لبيان التقييد إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ( بتقريب ) ان استمرار الحكم ودوام وجوده انما هو فرع أصل ثبوته ووجوده ، فنسبة الحكم إلى عموم أزمنة وجوده نسبة الحكم والموضوع ، والعرض والمعروض ، إذ العموم الزماني كان واردا على الحكم وواقعا فوق دائرته فلا يمكن ان يكون الدليل المثبت لأصل ثبوت الحكم متكفلا لبيان أزمنة وجوده ( بل لابد ) من التماس دليل آخر منفصل يكون هو المتكفل لبيانه ( بخلاف ) ما لو كان مصب العموم المزبور متعلق الحكم ، فإنه يمكن ان يكون المتكفل لبيانه نفس دليل الحكم ، لان العموم الزماني حينئذ كان تحت دائرة الحكم وكان الحكم واردا عليه كوروده على المتعلق ، فلو شك حينئذ في أصل التخصيص أو في مقداره يجوز التمسك بعموم العام الازماني في فرض كون مصب العموم هو المتعلق ، بخلاف فرض كون مصبه نفس الحكم ، فإنه لا يجوز التمسك بدليل الحكم لعدم امكان تكفله لأزمنة وجوده ، ولا بما دل على عموم أزمنة وجوده ، بلحاظ ان الشك في أصل التخصيص الزماني ، أو في مقداره مستتبع للشك في وجود الحكم ( وحيث ) ان وجود الحكم بمنزلة الموضوع للعموم الزماني ، فلا يمكن تكفل

ص: 227

العموم الزماني لوجود الحكم مع الشك فيه ، لأنه يكون بمنزلة اثبات الموضوع بالحكم انتهى ملخص مرامه بطوله.

( وفيه ) ان استمرار كل شيء ودوامه موضوعا كان أو حكما ليس الا عبارة عن سعة دائرة وجوده في أزمنة بعد حدوثه فعنوان البقاء وان كان بمنشأ انتزاعه متأخرا عن الحدوث ، ولكنه ليس من قبيل تأخر المعلول عن علته والحكم عن موضوعه والعرض عن معروضه بنحو موجب لتخلل فاء بينهما الكاشف عن اخلاف مرتبتهما ، بل تأخره عن الحدوث انما كان ذاتا لا مرتبة ، لوضوح انه انما ينتزع عن وجود الشيء في ثاني زمان حدوثه وثالثه ، والا فالباقي عين الحادث وجودا ومرتبة ( وحينئذ ) فإذا كان ذلك شأن الحدوث والبقاء ( نقول ) ان كل مورد يكون مصب العموم الزماني نفس الحكم لابد من جعل الحكم الذي هو مصب هذا العموم مهملة عن هذا القيد ليكون العموم واردا عليه ، كما هو شأن كل موضوع بالنسبة إلى المحمول الوارد عليه ( وحينئذ ) فكلمة يجب في قوله يجب اكرام كل عالم مستمرا انما تدل على ثبوت هذا الحكم المهمل من حيث القيد المزبور لكل فرد ، ويكون الدوام والاستمرار من عوارض هذه الطبيعة المهملة.

( واما ) استفادة العموم الزماني فإنما هو من استمرار وجود هذه الطبيعة المهملة من هذه الجهة في الأزمنة المتمادية لا من نفسها ، لأنها ليست الا المعنى المهمل من هذه الجهة ، فلا يمكن استفادة العموم الزماني منها ( بل لا فرق ) في هذه الجهة بين ان يكون مصب العموم الزماني نفس الحكم أو المتعلق ( فإنه ) على كل تقدير لابد من تجريد مصبه حكما كان أو موضوعا من هذه الجهة ، ( ومعه ) يكون استفادة العموم الزماني ممحضا بما دل على استمرار وجوده في أزمنة بعد حدوثه ، لا من نفس ما طرء عليه العموم ( وعليه ) فالتفصيل بين كون مصب العموم الزماني هو المتعلق وبين كونه نفس الحكم في امكان تكفل دليل الحكم لبيان العموم الزماني في الأول وعدم امكانه في الثاني واحتياجه إلى دليل منفصل عنه ( منظور فيه ) لما عرفت من احتياج كل منهما في استفادة العموم الزماني إلى ما دل على استمرار وجوده زائدا عما دل على ما طرء

ص: 228

عليه العموم ( وبما ذكرنا ) انقدح عدم تمامية ما أفيد من التفريع على التفصيل المزبور أيضا من مرجعية أصالة العموم عند الشك في أصل التخصيص أو مقداره في فرض كون مصب العموم الزماني هو المتعلق ، وعدم مرجعية العموم ولزوم الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند الشك في التخصيص ، واستصحاب حكم المخصص في فرض كون مصبه نفس الحكم ( إذ نقول ) ان العموم وان كان من قبيل المحمول بالنسبة إلى الحكم ، الا ان دليل الحكم بعد ما لم يكن متكفلا الا للطبيعة المهملة لا الطبيعة السارية في الأزمنة المتمادية ، بل كان المتكفل لحيث الاستمرار الحاكي عن انبساط وجود الحكم في جميع الأزمنة ، غير الدليل المتكفل لأصل ثبوته ، فلا جرم عند الشك في انقطاع هذا الاستمرار يكون المرجع هو الدليل المتكفل لعمومه الزماني بلا احتياج إلى دليل منفصل ( ومعه ) لا يكاد رجوع الشك فيه إلى الشك في أصل وجود الحكم المهمل لان وجوده انما كان محرزا بدليله ، وانما الشك في سعة وجود الحكم من جهة الزمان ( ولا ملازمة ) بين الشك في استمرار الحكم وعمومه ، وبين الشك في أصل وجوده ( وان شئت ) مزيد بيان لذلك فاستوضح بالمثال المعروف من أوفوا بالعقود في ما لو شك في وجوب الوفاء في زمان بعقد من العقود ( فإنه ) بعد أن كان له عموم افرادي متكفل لثبوت الحكم لكل فرد من العقود بنحو الاجمال ، وعموم زماني متكفل لسريان الحكم الثابت لكل فرد في جميع الأزمنة ، وكان عمومه الازماني تابعا للعموم الافرادي لكونه واردا عليه ورود الحكم على موضوعه ، بحيث لو لم يكن له عموم افرادي يقتضى ثبوت وجوب الوفاء لكل عقد لا يتصور له عموم أزماني ( فتارة يكون الشك في حكم فرد من العقود من جهة احتمال التخصيص في عمومه الافرادي بنحو يوجب خروج الفرد عن حكم العام ( وأخرى ) يكون الشك في سعة وجود الحكم الثابت لكل فرد واستمراره في الأزمنة المتمادية ( فان كان ) الشك من الجهة الأولى ، فلا شبهة في أن الرافع لهذا الشك لا يكون الا ما يقتضي عمومه الافرادي ، والا فدليل العموم الازماني غير متكفل لرفع هذا الشك ، لما عرفت من أن العموم الازماني وارد عليه ورود الحكم على موضوعه ، فعلى فرض هذا التخصيص يكون

ص: 229

الفرد المزبور خارجا من أصل الحكم فلا يتحقق موضوع للعموم الازماني بالنسبة إليه ( وان كان ) الشك من الجهة الثانية فالرافع لهذا الشك انما يكون هو الدليل المثبت لعمومه الازماني بلا حاجة إلى التماس دليل آخر منفصل ( ولا مجال ) حينئذ لدعوى استتباع الشك في العموم الزماني بالنسبة إلى هذا الفرد للشك في أصل ثبوت حكم العام لهذا الفرد ( لان ) الشك في الاستمرار والعموم الزماني فرع دخوله في العموم الافرادي ، فكان هذا التخصيص كتعميمه فرع عمومه الافرادي ( ففي المثال ) المزبور لو خرج فرد من العقود عن الحكم في زمان وشك في أن خروجه للتالي أو في بعض الأزمنة ، فمقتضى تبعية العموم الازماني للعموم الا فرادى وان كان لا مجال بدوا للعموم الازماني ( ولكن ) بعد أن كان العموم الافرادي مثبتا للحكم بالنسبة إلى هذا الفرد ، يرجع فيه إلى عمومه الازماني المثبت لاستمرار حكمه في بقية الأزمنة ، ومعه لا يكاد انتهاء الامر إلى استصحاب حكم المخصص كما هو واضح.

( الامر الثالث ) كل ما ذكرنا من الشقوق في دليل العام يجري في دليل المخصص ، ففيه أيضا تارة يكون الزمان مأخوذا في دليله قيدا للموضوع أو الحكم على نحو المفردية بنحو يقتضى تكثر الحكم والموضوع حسب تكثر الأزمنة ، كقوله : لا تكرم زيدا في كل يوم أو زمان بعد قوله : أكرم العلماء في كل يوم أو زمان ، ( وأخرى ) على وجه الظرفية للموضوع أو الحكم بنحو موجب لاثبات حكم مستمر لموضوعه المستمر ، ( وكونه ) على الثاني تارة في مقام اثبات حكم شخصي تبع استمرار موضوعه ( وأخرى ) اثبات حكم سنخي لذات موضوعة المطلق بما هي سارية في جميع الأحوال والأزمان كما هو الشأن في كل مطلق متكفل لاثبات الحكم للطبيعة المطلقة السارية في جميع الأحوال والأزمان على وجه قابل للانحلال حسب قطعات موضوعه الساري في اجزاء الزمان ، مع كون مفاد دليله ، تارة نقيضا لحكم العام ، وضدا له أخرى ( وحيث ) اتضح هذه الجهات ( نقول ) : ان الدليل المتكفل للعموم الزماني قسمان ( قسم ) يكون الزمان فيه ملحوظا على وجه العموم بحيث يكون كل فرد من افراده بالنسبة إلى كل قطعة من قطعات الزمان موضوعا مستقلا لحكم

ص: 230

مستقل على وجه لو خرج فرد في قطعة من الزمان عن حكم العام كان العام المزبور وافيا لاثبات حكمه في بقية القطعات ، نظير العموم الافرادي ( وقسم ) منه يكون الزمان ملحوظا فيه على وجه الاستمرار والدوام بالنظر الوحداني ( فمن الأول ) ما لو كان العموم بلسان كل يوم أو كل زمان كقوله : أكرم العلماء في كل يوم أو زمان ( ومن الثاني ) ما لو كان بلسان الدوام والاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائما أو مستمرا أو ما يفيد ذلك ( اما القسم الأول ) فلا شبهة في أنه إذا خصص بعض افراد هذا العام في بعض الأزمنة وشك في خروجه للتالي يكون المرجع فيه بالنسبة إلى الأزمنة المشكوكة هو العموم الزماني ، كمرجعية العموم الافرادي فيما لو شك في أصل التخصيص الفردي ، أو في زيادة التخصيص ( من غير فرق ) بين أن يكون الزمان ملحوظا في دليله على وجه القيدية والمفردية للموضوع أو الحكم ، وبين أن يكون ملحوظا فيها على وجه الظرفية ( إذ لا ملازمة ) بين تكثر الحكم والموضوع حينئذ ، وبين قيدية الزمان ومفرديته ، لامكان تعدد الحكم والموضوع حينئذ ولو مع لحاظ الزمان على وجه الظرفية ، بان يكون المشخص لكل فرد من الاكرامات المتصورة في قطعات الزمان أمرا آخرا ملازما مع قطعات الزمان ، فلا يكون تعدد الموضوع والحكم دائرا مدار القيدية كما لا يكون وحدتهما دائرة مدار الظرفية ( ومن غير فرق ) بين أن يكون الزمان مأخوذا في دليل المخصص على نحو القيدية أو على نحو الظرفية ( ولا بين ) أن يكون الخروج من وسط الأزمنة أو من أولها أو آخرها ، فان المرجع على كل تقدير عند الشك في غير مورد دلالة المخصص على الخروج هو العموم الأزماني المتكفل لنحو ثبوت الحكم في كل قطعة من قطعات الزماني ، لبقائه على حجيته في غير ما دل عليه المخصص ، كان استفادة مثل هذا العموم من العموم اللغوي ، أو من قضية الاطلاق المنزل عليه بدليل الحكمة ، ومعه لا ينتهى المجال إلى جريان الاستصحاب مع وجود العموم الذي هو من الأدلة الاجتهادية ، لا في طرف المخصص ، ولا في طرف العام ( بل في بعض ) هذه الفروض لا مورد لجريان الاستصحاب ولو مع قطع النظر عن وجود هذا العام لكونه من اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر بل في مثله يكون المرجع استصحاب عدم ثبوت حكم

ص: 231

العام له في القطعات المشكوكة من الزمان بلحاظ سبق وجوب كل قطعة بالعدم الأزلي ، الا في فرض اخذ الزمان في طرف المخصص ظرفا محضا ، فإنه حينئذ لولا وجود العام أمكن المجال لاستصحاب حكم المخصص ( ومثل ) هذا العموم الزماني ، ما إذا كان هناك مطلق متكفل لاثبات الحكم للطبيعة المطلقة بما هي سارية في جميع الأحوال وجميع قطعات الزمان ، بلا نظر منه في سريان الطبيعي بحسب الحالات والأزمان إلى كون قطعات الأزمنة قيدا ، فإنه لو قيد مثل هذا الاطلاق بخروج فرد منه في بعض الأحوال أو الأزمان فشك في خروجه ، للتالي ، كان مثل هذا المطلق كالعموم الزماني وافيا لاثبات حكمه في بقية الحالات والأزمان ، اقتصارا ، في تقييده بقدر ما يقتضيه الدليل الدال عليه ، ولو مع الجزم بظرفية الزمان فيه كما هو الشأن في سائر المطلقات ( ومن هنا ) نقول في المطلقات الواردة لاثبات القصر في السفر انه لو خرج المسافر المقيم عن بلد الإقامة أو ما بحكمه كالثلثين مترددا بعد قطع حكم سفره بالإقامة ( لا يحتاج ) في وجوب القصر عليه إلى انشاء سفر جديد ، بل يكفيه مثل هذه المطلقات في وجوب القصر عليه ، لولا دعوى اقتضاء اطلاق التنزيل لاجراء جميع آثار الوطن الحقيقي على اقامته في محل حتى قصد المسافة الجديدة ، وان كان مثل هذا الدعوى لا يخلو عن اشكال لمكان عدم كون مثل هذه الجهة من الآثار الشرعية للوطن الحقيقي كي يكون التنزيل ناظرا إليه ، وانما هي من جهة اقتضاء طبع الوطن لتقطيع أصل السفر عند مروره إليه ، مع اختصاص مثل هذا التنزيل بالإقامة عشرا في محل وعدم شموله لمثل الثلثين مترددا ونحوه ( ولكن ) المسألة فقهية تنقيحها موكول إلى محل آخر ( والمقصود ) في المقام بيان وفاء هذا النحو من المطلقات كالعموم الزماني لتكفل اثبات الحكم لما بعد زمان الخارج من الأزمنة المتأخرة ولو مع الجزم بظرفية الزمان وانه مع وجوده لا ينتهى الامر إلى الاستصحاب ( واما القسم الثاني ) وهو ما كان الزمان ملحوظا في العموم الأزماني على وجه الاستمرار والدوام كقوله : أكرم العلماء دائما أو مستمرا ، فان كان العنوان المزبور ملحوظا في الموضوع أو المتعلق على نحو القيدية أو الظرفية وكان العام ناظرا إلى اثبات حكم سنخي لذات موضوعه المستمر

ص: 232

في أجزاء الزمان على نحو قابل للتكثر تحليلا ، فلا إشكال أيضا في أن المرجع عند الشك هو عموم هذا العام دون الاستصحاب ، من غير فرق بين أن يكون التقطيع من الأول أو الوسط. فان الموضوع حينئذ وان كان واحدا شخصيا مستمرا إلا أن وحدته الشخصية لا ينافي تعدد الحكم المتعلق به تحليلا باعتبار قطعات وجوده التحليلي بالإضافة إلى اجزاء الزمان ، بل يكفي مجرد قابليته لذلك في حمل الدليل المتكفل لحكم العام على بيان سنخ الحكم الا شخصه الآبي عن التعدد ولو تحليلا « وحينئذ » فإذا خرج بعض أفراد هذا العام عن الحكم في زمان وشك في أن خروجه في جميع الأزمنة أو في بعضها ، فلا قصور في مرجعية العموم المزبور بالنسبة إلى الأزمنة المتأخرة عن زمان اليقين بخروجه ، لوقائه حينئذ في التكفل لحكم الفرد الخارج في زمان ، في الأزمنة المتأخرة ، ومعه لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب لا في مفاد العام ، ولا في مفاد المخصص.

( نعم ) لو كان دليل العام في تكفله لاثبات الحكم لكل فرد ناظرا إلى حيث وحدة الحكم وشخصيته بنحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا ، كان للمنع عن الرجوع إلى العام كمال مجال ، لارتفاع ما تكفله دليل العام من الحكم الشخصي المستمر بالتقطيع في بعض الأزمنة وعدم تكفله أيضا لاثبات حكم آخر له بعد التقطيع المزبور ( إذ حينئذ ) لا محيص من الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص ، لا إلى عموم العام ، بل ولا إلى استصحاب مفاده ، للقطع بعدم امكان بقائه على وحدته الشخصية بعد انقطاعه وتخلل العدم في البين ( ولكن ) ذلك في فرض كون التقطيع من الوسط ( والا ) ففي فرض كونه من الأول أو الآخر لا قصور في مرجعية دليل العام كما ذكرناه ( وبما ذكرنا ) يظهر الحال فيما لو كان العموم الزماني بنحو الدوام والاستمرار مأخوذا في الحكم لا في الموضوع أو المتعلق ، فإنه يأتي فيه أيضا ما ذكرناه من التشقيق في الدليل المتكفل لثبوته ، من حيث كون النظر فيه ، تارة إلى حيث وحدته واستمراره على نحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا ، وأخرى إلى صرف ثبوت الحكم الشخصي لذات موضوعه بما هي سارية في جميع الأحوال والآنات بلا نظر منه في اثباته إلى حيث وحدته الشخصية

ص: 233

ولا إلى خصوصية استمراره إلى أمد مخصوص ، بل تمام النظر في قوله دائما أو مستمرا إلى بيان إطلاقه في نحو ثبوته لذات موضوعه الساري في جميع الآنات والأحوال ( فعلى الأول ) يكون المرجع عند الشك هو الاستصحاب في مفاد المخصص في فرض كون الزمان ظرفا بالنسبة إليه لا قيدا مكثرا ، ولا مجال للتشبث بدليل العام ، بل ولا باستصحابه ولو مع عدم جريان استصحاب الخاص ( وعلى الثاني ) يكون المرجع في غير مورد دلالة الخاص هو دليل العام ، نظرا إلى وفائه لاثبات حكم الفرد الخارج في زمان في الآنات المتأخرة ( ومعه ) لا يكاد انتهاء الامر إلى الاستصحاب لا في مفاد العام ولا في مفاد الخاص كما هو ظاهر ( ولكن ) مرجع ذلك في الحقيقة إلى التمسك بقضية الاطلاق الناشئ من تعليق الحكم على طبيعة موضوعه من حيث هي السارية في جميع الأزمنة والأحوال ، فالعموم الزماني كان مستفادا من هذا الاطلاق لا من جهة أخذ الزمان ولو بنحو الدوام والاستمرار قيدا للحكم ( نعم ) يكفي هذا المقدار في الرجوع إلى حكم العام ولو باطلاقه الا حوالي الراجع إلى تعليق الحكم بذات موضوعه الساري في جميع الأزمنة ( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ينقدح ما في كلام الشيخ قدس سره من اطلاق القول بمرجعية استصحاب الخاص في فرض كون العموم الأزماني على نحو الدوام والاستمرار مع اطلاق القول في طرف المخصص من حيث كون الزمان فيه مأخوذا ظرفا أو قيدا مكثرا ( فان ) مجرد أخذ العموم الأزماني في دليل العام بنحو الدوام والاستمرار المستلزم لكون جميع الآنات ملحوظا بلحاظ واحد لا بلحاظات متعددة لا يقتضي سقوط العام عن المرجعية بقول مطلق حتى في فرض عدم تكفل دليله لحيث وحدة الحكم بنحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا ، كما أن مجرد فرض تكفله لوحدة الحكم على النحو المزبور لا يوجب صحة التمسك باستصحاب حكم المخصص على الاطلاق ( لوضوح ) ان مدار الاستصحاب حينئذ على ملاحظة دليل المخصص من حيث ظرفية الزمان فيه وقيديته ، ولا ملازمة بين لحاظ الزمان في طرف العام ظرفا أو قيدا مكثرا ، وبين لحاظه كذلك في دليل الخاص ( فإنه ) يمكن ان يكون الزمان

ص: 234

في العام مأخوذا على نحو الظرفية والاستمرار ، وفي طرف الخاص مأخوذا على نحو القيدية والمكثرية ، كما أنه يمكن أن يكون الامر بالعكس ( وحينئذ ) فإذا كان الاستصحاب تابعا لدليل المستصحب لا لغيره ، فلابد في استصحاب حكم المخصص من ملاحظة دليل المخصص من حيث ظرفية الزمان فيه أو قيديته ، فإذا كان الزمان مأخوذا فيه قيدا مكثرا لا مجال لاستصحابه لكونه من اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ( من غير فرق ) بين أن يكون مفاد المخصص نقيضا لحكم العام أو ضدا له.

( تكملة )

بعد ما تبين لك تشخيص موارد التمسك بالعموم الزماني ، وموارد التمسك بالاستصحاب عند تبين العموم الزماني بنحو المفردية أو الاستمرار وتبين مصبه ، يبقى الكلام فيما يقتضيه الأصل عند الشك في أصل العموم الزماني أو في مصبه ( فنقول ) انه تارة يكون الشك في أصل العموم الزماني للحكم أو المتعلق ، وأخرى يكون الشك في مصبه بعد اليقين بأصله ( اما لو كان ) الشك في أصل العموم الزماني بنحو المفردية أو الاستمرار كما لو قال أكرم العلماء وشك في استمرار وجوبه في جميع الأيام ( ففيه صور ) فإنه ، اما ان يعلم بوجوب الاكرام في خصوص اليوم الأول وانما الشك في تعميم الخطاب حكما أو موضوعا فيما عداه ، واما لا يعلم بوجوبه فيه بخصوصه ( وعلى الثاني ) اما ان يتم البيان ولو بمقدمات الحكمة لاثبات الوجوب لصرف الطبيعة الجامعة بين افراد الأيام وكان الشك في وجوب كل فرد بحسب الأزمنة ، واما أن لا يتم البيان بالنسبة إلى صرف الطبيعة أيضا ( فعلى الأول ) يرجع فيما عدا اليوم الأول الذي ثبت فيه الوجوب إلى البراءة ، لان أخذ العموم الزماني بنحو الاستمرار أو المفردية في المتعلق أو الحكم يحتاج إلى لحاظه ثبوتا وبيانه اثباتا ، فإذا لم يقم عليه بيان فمقتضى الأصل البراءة عن التكليف فيما عدا اليوم الأول ( وعلى الثاني ) ينتهى الامر إلى العلم الاجمالي في الأيام التدريجية فيجب الاحتياط باكرام العلماء في

ص: 235

جميع الأيام ما لم ينته إلى غير المحصور ( هذا الفرض ) وان كان بعيدا في نفسه ، ولكن المقصود من هذا التشقيق بيان عدم صحة اطلاق القول بوجوب خصوص اليوم الأول والرجوع إلى البراءة في غيره كما افاده بعض الاعلام ، وانه يصح في الفرض الأول دون بقية الفرض ، مع احتياجه أيضا إلى قيام دليل عليه يقتضى وجوب خصوصه ( والا ) فصرف الخطاب لا يقتضى الا وجوب اكرام كل فرد في الجملة المساوق لمطلوبية صرف الجامع بين الافراد التدريجية ( ثم إن ) ما ذكرنا من مرجعية البراءة عند الشك انما هو إذا لم يلزم من عدم العموم الزماني لغوية تشريع الحكم ( والا ) فربما تقتضي الحكمة عدم كون الحكم في الخطاب بنحو صرف الوجود ، بل على نحو الدوام والاستمرار خصوصا إذا كان العام افراديا ، فان مقدمات الحكمة تقتضي عدم الاهمال بالنسبة إلى الزمان كما في قوله تعالى أوفوا بالعقود ( وحينئذ ) فإذا كان للعام عموم زماني اجمالا فهل الحكمة تقتضي كونه على نحو العموم الافرادي الملازم للمفردية أو على نحو العموم المجموعي الملازم للاستمرار ( وجهان ) أقربهما عند العرف الثاني ( وعليه ) فلو شك في التخصيص ، فان كان الشك في أصل التخصيص فالمرجع هو العموم ، وان كان الشك في زيادة التخصيص ، ففيه التفصيل المتقدم بين كون الحكم سنخيا أو شخصيا غير قابل للتكثر ولو تحليلا بالرجوع إلى العموم في الأول والى الاستصحاب في مفاد المخصص في الثاني ( وذلك ) أيضا في فرض كون التقطيع وسطا لا أولا كما ذكرناه ( هذا ) إذا كان الشك في أصل العموم الزماني ( واما ) لو كان الشك في مصبه في كونه هو المتعلق أو الحكم بعد العلم بأصل العموم بأحد الوجهين من المفردية أو الاستمرار ( فان ) علم كونه على نحو المفردية ، فالمرجع هو العموم على كلا تقديري كون مصبه هو المتعلق أو الحكم ( ولكن ) يظهر من بعض الأعاظم قده تعين رجوعه إلى الحكم حينئذ من جهة جريان أصالة الاطلاق في المتعلق مبتنيا ذلك على ما تقدم منه ، ومن دعوى عدم امكان تكفل دليل الحكم لبيان أزمنة وجوده ، وانه لابد من كونه بدليل آخر منفصل ، فعلى هذا الأساس ، التزم في المقام بأن مقتضى الأصل اللفظي وهو

ص: 236

أصالة الاطلاق ، عدم اعتبار العموم الزماني في المتعلق فيتعين ان يكون مصبه نفس الحكم الشرعي ، والتزم لأجله بعدم جواز التمسك بالعموم عند الشك في أصل التخصيص أو في مقداره ، وانه لابد من الرجوع إلى الاستصحاب باستصحاب حكم العام في الأول ، واستصحاب حكم المخصص في الثاني ( ولكن ) قد عرفت فساد أصل المبني بما لا مزيد عليه فراجع ، مع أنه على مختاره من كون مصب العموم الزماني نفس الحكم لا معنى لمرجعية الاستصحاب عند الشك في التخصيص أو في مقداره ، إذا لا قصور حينئذ في التمسك بما دل على عمومه واستمراره الثابت لموضوعه ولو بدليل آخر كما هو ظاهر ( هذا إذا كان ) العموم الزماني الذي شك في مصبه على نحو المفردية ، وقد عرفت انه على المختار لا أصل يقتضي اعتباره في خصوص المتعلق أو الحكم ، فكان اعتبار هذا المعنى من السريان في جميع الأزمنة المتمادية مشكوكا في كل من المتعلق والحكم ، وان كان لا ثمرة مهمة على المختار تترتب على هذه الجهة ، باعتبار مرجعية دليل العموم على كل تقدير ( واما لو كان ) العموم الزماني على نحو العموم المجموعي الملازم للاستمرار فشك في مصبه في كونه هو المتعلق أو نفس الحكم الشرعي ، ففيه أيضا لا أصل يقتضي تعيين أحد الامرين ( ولكن ) عند الشك في التخصيص يكون المرجع أصالة العموم ( وكذا ) الشك في مقداره إذا كان التخصيص من الأول لامن الوسط ، والا فالمرجع استصحاب حكم المخصص إذا لم يكن الزمان مأخوذا في طرف المخصص قيدا مكثرا ، فان احتمال كون المفيد نفس الحكم الشرعي دون متعلقه كاف حينئذ في المنع عن الرجوع إلى العموم كما شرحناه سابقا ( وبذلك ) يظهر حال ما لو علم برجوعه إلى الحكم وشك في مفردية العموم أو استمراريته ، فان احتمال عدم مفرديته كاف في المنع من الرجوع إلى العموم ( وهذا ) بخلاف ما لو علم برجوعه إلى المتعلق وشك في مفرديته واستمراريته ، فان المرجع حينئذ عند الشك في مقدار التخصيص كالشك في أصله هو العموم ولا يرجع مع وجوده إلى الاستصحاب ، لما تقدم من امكان كون الحكم المتعلق به حكما سنخيا مستمرا يتبع استمرار شخص موضوعه على نحو قابل للتعدد

ص: 237

تحليلا حسب القطعات التحليلية لموضوعه في الأزمنة المتمادية ، ومعه لا قصور في التمسك بما دل على استمرار هذا الحكم الثابت لموضوعه ( هذا ) في الأحكام التكليفية ( واما ) الأحكام الوضعية ، فما كان منها متعلقا بالأعيان الخارجية كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة ، فيمكن ان يقال فيها بأنه من جهة عدم قابلية الأعيان الخارجية عرفا للتقطيع بحسب الزمان يكون مصب العموم الزماني فيها نفس الحكم الوضعي دون الموضوع ( واما ) ما كان منها متعلقا بغير الأعيان كالمنافع في مثل سكنى الدار ونحوه ، فحيث انها كانت قابلة للتقطيع في الزمان عرفا ، فلا قصور في جعل مثلها مصبا للعموم الزماني ، فإذا شك فيها في مصب العموم الزماني يجري فيها ما ذكرناه في تأسيس الأصل ، ولا مجال حينئذ لاطلاق القول بكون مصب العموم الزماني في الأحكام الوضعية نفس الحكم الوضعي دون المتعلق فتدبر.

( التنبيه الثالث عشر )

في استصحاب صحة العبادة ( وقد ) وقع هذا التنبيه في كلمات السابقين في مواضع عديدة ، ونحن وان ذكرنا شطرا من الكلام فيها في ذيل تنبيهات الأقل والأكثر الا انه لا بأس بالتعرض لها ثانيا لعدم خلوه عن الفائدة ( وتوضيح ) المرام يحتاج إلى بيان أمرين ( الأول ) ان طرو الفساد في العبادة يتصور على وجوه ، فإنه تارة يكون من جهة وجود ما هو ضد للعبادة ومناف لها جعلا أو عقلا أو عرفا باعتبار محدوديتها عند الجاعل أو العقل أو العرف بحد ينافيها بعض الأمور كالوثبة في الصلاة مثلا والأكل والشرب ونحوها مما يضاد وجودها مع العبادة ( وأخرى ) من جهة فقد ما اعتبر وجود في العبادة شرطا ، كالطهارة والستر ونحوهما ( وثالثة ) من جهة وجود ما اعتبر عدمه قيدا فيها المعبر عنه بالمانع ( ورابعة ) من جهة وجود ما يكون قاطعا للهيئة الخاصة المعتبرة فيها ( والفرق ) بينه وبين المانع ظاهر ، فان المانع بنفسه يقدح في العبادة ولو بملاحظة دخل عدمه في صحتها ، بخلاف القاطع فإنه بنفسه لا يمنع عن صحة العبادة وانما شأنه الاخلال بما اعتبر فيها وهو الجزء الصوري

ص: 238

المعبر عنه بالهيئة الاتصالية ( وقد يفرق ) بينهما بوجه آخر وهو كون المانع قادحا في صحة العبادة إذا تحقق في حال الاشتغال بالاجزاء ، بخلاف القاطع فإنه يقدح وجوده في صحتها مطلقا ولو كان في حال السكونات المتخللة بين الاجزاء ( وفيه نظر ) جدا ، فان المانع كما يمكن ثبوتا كونه مانعا عن صحة العبادة في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء ، كذلك يمكن ثبوتا كونه مانعا مطلقا ولو في حال السكونات المتخللة بين الاجزاء ، لكونه تابعا لكيفية اعتبار الشارع إياه ، وهكذا الامر في القاطع فإنه يتصور فيه ثبوتا كونه قاطعا مطلقا أو في خصوص حال الاشتغال بالاجزاء ، هذا في مقام الثبوت ( واما ) في مقام الاثبات فلابد في استفادة أحد الامرين من ملاحظة كيفية لسان الأدلة الواردة في باب الموانع والقواطع ( ولا يبعد ) دعوى استفادة المانعية والقاطعية المطلقة مما ورد بلسان النهى عن ايجاد المانع أو القاطع في الصلاة بنحو تكون الصلاة ظرفا لعدم وقوع المانع أو القاطع فيها ومع انتهاء الامر إلى الشك يندرج في الأقل والأكثر الارتباطيين ( الامر الثاني ) ان الصحة في اجزاء المركب التدريجي ، تارة يطلق ويراد بها الصحة التأهلية الاقتضائية وهي كون الجزء بحيث لو انضم إليه سائر الأجزاء لا التئم منها الكل وتتصف بالمؤثرية الفعلية ( ولا يخفى ) ان الصحة بهذا المعنى انما يتوقف على تمامية الجزء في نفسه ولا يعتبر فيها لحقوق بقية الاجزاء والشرائط ، ( لوضوح صدق هذه القضية الشرطية ولو مع اليقين بعدم لحوق بقية الاجزاء ، ومن هذه الجهة لا يطرء فيها الشك ولا ينفع استصحابها أيضا ) وأخرى يطلق ويراد بها الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية ، وهذا المعنى من الصحة في الدفعيات والاجزاء المجتمعة في الوجود ، والا ففي التدريجيات لا يتصور اتصاف جزء منها بالمؤثرية الفعلية الا بفرض تدريجية الأثر أيضا بحصوله شيئا فشيئا ( وثالثة ) يطلق ويراد بها الصحة بمعنى قابلية الاجزاء السابقة للحوق الاجزاء اللاحقة منها بنحو يلتئم منها المركب ويترتب عليه الأثر ( وبعد ) ما اتضح ذلك ( نقول ) ان منشأ الشك في صحة العبادة بعد أن كان أحد الأمور المتقدمة ( فلابد ) عند الشك من لحاظ المنشأ المزبور ( فإذا ) تسبب الشك في

ص: 239

الصحة من جهة احتمال انتفاء ما اعتبر وجوده قيدا في العبادة كالشرط ، أو احتمال وجود ما اعتبر عدمه قيدا لها كالمانع ، أو احتمال وجود ما هو القاطع للهيئة المعتبرة فيها ، فلا شبهة في أنه يجري الأصل في طرف السبب ويستغنى به عن جريانه في المسبب وهو الصحة ، لان بجريان الأصل فيه يترتب صحة العبادة ( واما ) لو تسبب الشك فيها من جهة احتمال وجود القاطع ( فان قلنا ) ان القاطع اعتبر عدمه شرطا للهيئة المعتبرة في الصلاة فلا شبهة في أنه مع الشك يجري فيه الأصل ويترتب عليه بقاء الهيئة والصحة ( وان قلنا ) انه لم يعتبر عدمه شرطا لها شرعا وانما قاطعيته من جهة مضادة وجوده عقلا أو عرفا مع الهيئة المعتبرة في الصلاة فلا مجرى فيه للأصل لعدم اجدائه في اثبات ترتب بقاء الهيئة والصحة الفعلية إلا على القول بالمثبت ، فينتهي الامر حينئذ إلى جريانه في نفس الهيئة الاتصالية المعتبرة في العبادة ، ويترتب على جريانه فيها الصحة الفعلية ، فان الهيئة ، حينئذ كسائر الاجزاء والشرائط ، فمتى أحرزت ولو بالأصل يترتب عليها الصحة ( وأما إذا ) تسبب الشك في الصحة من جهة احتمال وجود ما يكون ضدا للعبادة ، فلا يجري الأصل بالنسبة إلى نفس السبب الذي هو الضد لمكان عدم اجدائه لاثبات صحة العبادة بعد كون الترتب فيه عقليا لا شرعيا ( واما ) بالنسبة إلى المسبب وهو الصحة ، ففي جريان الأصل فيها ( خلاف مشهور ) والذي اختاره الشيخ ( قد سره ) هو المنع عنه ( ومحصل ) ما افاده ( قد سره ) في تقريب المنع هو ان المراد من الصحة المستصحبة للاجزاء ، ان كان هو الصحة الشأنية فهي مما لا يطرء فيه الشك حتى يستصحب للقطع ببقائها ولو مع القطع بعدم انضمام بقية الاجزاء والشرائط إلى الاجزاء الماضية فضلا عن الشك في ذلك ( وان كان ) المراد منها الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية ، فهي مما لا سبيل إلى استصحابها لعدم كون الصحة بهذا المعنى مما له حالة سابقة ، لأنها انما تكون في ظرف الاتيان بالمأمور به بما له من الاجزاء والشرائط وعدم الموانع والأضداد ( ومع الشك ) في مانعية الموجود لا يقين بالصحة الفعلية بمعنى المؤثرية للاجزاء السابقة حتى يستصحب ( ولكن فيه ) ان ما أفيد في غاية المتانة إذا كان الأثر المترتب

ص: 240

عليها دفعي الحصول والتحقق عند تحقق الجزء الأخير من المركب ، اما لكون المؤثر الفعلي هو الجزء الأخير ، أو لتكون مؤثرية الفعلية لها منوطة بتحقق الجزء الأخير ( والا ) فعلى فرض تدريجية حصوله شيئا فشيئا من قبل الاجزاء بحيث يكون كل جزء مؤثرا في مرتبة منه إلى أن يتم اجزاء المركب ، فيتحقق تلك المرتبة من الأثر الخاص المترتب على المجموع ، كما لو كان الأثر من الحقائق التشكيكية المترتبة كل مرتبة منه على وجود جزء من اجزاء المركب التدريجي ، فلا قصور في استصحاب الصحة للاجزاء السابقة ، فإنه بتحقق أول جزء من العبادة تحقق الصحة والمؤثرية الفعلية فيتصف الجزء المأتى به بالمؤثرية ، وبوقوع مشكوك المانعية في الأثناء يشك في بقاء الصحة وانقطاعها ، فيجري فيها الاستصحاب كسائر الأمور التدريجية ( وان شئت ) قلت إن الصحة بالمعنى المزبور تبعا لمنشأ انتزاعها التدريجي تكون تدريجية ، فإذا علم بتحقق جزء أو جزئين يقطع بتحقق الصحة وبعد تحقق المشكوك المانعية يشك في بقاء الصحة بتلاحق بقية الاجزاء والشرائط ، فتستصحب ( ومن هذا البيان ) ظهر الحال في الصحة بمعنى موافقة الامر ، فإنه على ما ذكرنا لا قصور في استصحابها أيضا ( ومن دون ) فرق بين القول بامكان المعلق وفعلية التكليف الجزء الأخير من المركب في ظرف الاتيان بالجزء الأول منه ولو بالتفكيك بين فعلية الامر المتعلق بالاجزاء وفاعليته ، وبين القول بعدم امكانه والمصير إلى تدريجية فعلية التكليف المتعلق باجزاء المركب بجعل فعلية التكليف بكل جزء في ظرف فاعليته الذي هو طرف الاتيان به ( وهذا ) على الأول ظاهر ( وكذلك ) على الثاني فإنه بتبع تدريجية التكليف المتعلق بالاجراء يتدرج الموافقة الفعلية أيضا وبايجاد مشكوك المانعية مثلا في الأثناء يشك في بقاء الموافقة الفعلية التدريجية ، فيجرى فيها الاستصحاب على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية ( واما توهم ) عدم شرعية المستصحب حينئذ لكونه أمرا عقليا ( يدفعه ) كونه مما امر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتوسيط منشئه الذي هو امره وتكليفه ، ويكفي هذا المقدار من شرعية الأثر في باب الاستصحاب ( وبما ذكرنا ) ظهر الحال في الصحة بمعنى قابلية الاجزاء السابقة

ص: 241

المأتى بها للحوق بقية الاجزاء بها واتصافها بلحوق البقية بالمؤثرية في الفرض ( فإنها ) أيضا مما تم فيه أركانه ، لأنها أي الاجزاء السابقة قبل احتمال وجود المانع أو طرو مشكوك المانعية كانت مقطوعة صحتها بالمعنى المزبور وبعد احتمال وجود المانع يشك في بقائها على القابلية المزبورة فتستصحب ( والصحة ) بهذا المعنى واسطة في الحقيقة بين الصحة الاقتضائية المحضة المجامعة مع اليقين بوجود المانع ، وبين الصحة الفعلية الدفعية أو التدريجية ( نعم ) قد يتوجه على هذا الاستصحاب اشكال المثبتية بلحاظ كون ترتب الصحة الفعلية للكل على بقاء القابلية المزبورة عقليا ، لا شرعيا ( ويمكن ) دفعه بأنه من باب تطبيق الكبرى الشرعي على الصغريات فلا يكون من المثبت الممنوع فتأمل.

( التنبيه الرابع عشر )

قد عرفت تمامية اخبار الباب في الدلالة على حجية الاستصحاب خصوصا بملاحظة الظاهر من الأسئلة فيها ( وانما الكلام ) في استفادة قاعدة اليقين منها ، وذلك بعد الجزم بعدم امكان شمولها لكل من القاعدة والاستصحاب بالخصوص ، بلحاظ ان قوام حقيقة الاستصحاب بارجاع الشك إلى المتيقن مسامحة وقوام القاعدة بارجاعه إليه دقة مع عدم تحمل عبارة واحدة في قوله لا تنقض اليقين بالشك لكلا النظرين واللحاظين ( فنقول ) ان قصارى ما قبل أو يمكن ان يقال في شمول الاخبار لمورد القاعدتين دعوى كون اليقين فيها عبارة عن مطلق اليقين بشيء الأعم من الزائل والباقي حين الحكم بحرمة النقض ، مع اخذ متعلق اليقين والشك المقدر في العبارة مطلق الشيء الأعم من حدوثه وبقائه ( إذ يستفاد ) من مثله حكم صورة اليقين بالحدوث والشك فيه وصورة اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، والأول مورد القاعدة ، والثاني مورد الاستصحاب ( وعلى هذا ) التقريب لا يرد عليه ما أفيد

ص: 242

في المنع عن شمول الاخبار لكل من الاستصحاب والقاعدة من دعوى عدم امكان الجمع بينهما في اللحاظ ، لا من جهة اليقين ، ولا من جهة المتيقن ، ولا من جهة النقض ، ولا من جهة الحكم ( اما ) من جهة اليقين فلانه في الاستصحاب ملحوظ من حيث كونه طريقا ، وفى القاعدة يكون ملحوظا من حيث نفسه لبطلان كشفه مع تبدله بالشك ( واما ) من جهة المتيقن فلانه في الاستصحاب كان معرى عن الزمان وغير مقيد به ، وفي القاعدة يكون مقيدا بالزمان ( واما ) من جهة النقض فلكونه في الاستصحاب باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة باعتبار نفس اليقين ( واما ) من جهة الحكم فلان المجعول في الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك ، وفي القاعدة البناء العملي على ثبوته في زمان اليقين ، ومع تباين القاعدة مع الاستصحاب في هذه الجهات فلا يمكن ان يعمها اخبار الباب ( إذ فيه ) ان اليقين في كلا البابين لم يؤخذ الا طريقا وكاشفا في زمان وجوده فعلا أم سابقا ، كما أن المتيقن في البابين مجرد عن الزمان ، إذ لا يحتاج في القاعدة إلى أزيد من تعلق اليقين بالحدوث والشك فيه ، وحينئذ للقائل بالجمع بينهما بجامع واحد ان يقول إن المتيقن هو طبيعة العدالة مثلا الجامعة بين الحدوث والبقاء فان هذا المعنى ينطبق على مورد القاعدة والاستصحاب ولا يريد القائل باستفادتهما من عموم الاخبار الا هذا المقدار ( واما ) من جهة النقض والحكم فالمراد بهما أيضا عدم نقض اليقين الجامع بين الزائل والباقي ولزوم الجري العملي على طبقه وان لم يكن اليقين موجودا حين الجري العملي كما في مورد القاعدة ( فالأولى ) حينئذ الاشكال على اخذ الجامع بين القاعدتين في استفادتهما من الاخبار بما ذكرناه أولا ، من محذور الجمع بين اللحاظين في عبارة واحدة في اللحاظ المقوم لاطلاق النقض في ارجاع الشك إلى المتقين لكونه في القاعدة حقيقي وفي الاستصحاب مسامحي لعدم تعلق الشك فيه بعين ما تعلق به اليقين دقة بل بقطعة أخرى تكون عينه مسامحة لا دقة ( وبعد ) عدم امكان الجمع بين هذين اللحاظين في كلام واحد فلا بد من أن يكون بأحد النحوين ، اما الدقى أو المسامحي ( وفي مثله ) يتعين استفادة خصوص الاستصحاب

ص: 243

بقرينة الأسئلة الواردة في اخبار الباب وتطبيق الإمام (عليه السلام) حرمة النقض على الاستصحاب ، فلا يمكن حينئذ استفادة القاعدة منها ( ومع الغض ) عن ذلك نقول ان قوام الاستصحاب بعد أن كان باليقين بالثبوت والشك في البقاء ، كان التعبد به تعبدا ببقاء الشيء في ظرف الفراغ عن أصل ثبوته ، بخلافه في القاعدة فان التعبد بها ناظر إلى الحكم بأصل ثبوته ( ومن المعلوم ) حينئذ اقتضاء الجمع بينهما للجمع بين لحاظ المتيقن في مرحلة التعبد مفروغ الثبوت والتحقق تارة ، وعدم لحاظه كذلك أخرى وحيث لا يمكن ذلك ، فلابد من أن يكون بأحد النحوين اما بإرادة خصوص القاعدة أو الاستصحاب ، فيتعين الثاني بقرينة الأسئلة والتطبيقات الواردة في تلك الأخبار ( وهنا ) تقريب آخر في وجه عدم شمول الاخبار للقاعدة ، وهو ان الظاهر من كل عنوان مأخوذ في حيز الخطاب ومنه عنوان اليقين والشك في اخبار الباب ان يكون جريه بلحاظ حال النسبة الحكمية في الكلام ، ولازمه كونهما فعليا في ظرف الحكم والتعبد بعدم النقض ، ومثله مختص بالاستصحاب ، لان في مورد القاعدة لا يكون اليقين فعليا في ظرف التعبد بعدم النقض ( نعم ) يتوجه على هذا التقريب شبهة معارضة هذا الظهور مع ظهور النقض في النقض الحقيقي الملازم لحملها على إرادة القاعدة ( ولكن ) يمكن ترجيح الأول بملاحظة التطبيقات على النقض الادعائي فتدبر.

( تذنيبان ) ( الأول ) انه أورد الشيخ قدس سره اشكالا على القاعدة على تقدير شمول اخبار الباب لها ، وحاصله معارضة القاعدة دائما مع الاستصحاب ، لأنه ما من مورد يشك في ثبوت ما تيقن به سابقا كعدالة زيد يوم الجمعة الا ويعلم بعدم وجوده قبله ، ومع هذا العلم بالعدم والشك في الثبوت يجري فيه استصحاب عدمه ، كما تجري فيه القاعدة فيتعارضان ، لان مقتضى القاعدة ترتيب اثر عدالة زيد يوم الجمعة ، ومقتضى الاستصحاب المزبور عدم ترتب اثر عدالته يوم الجمعة ، ومع هذه المعارضة الدائمية لا يثمر شمول الاخبار لها شيئا ( وقد أورد عليه ) بانتقاض اليقين السابق بالعدم باليقين بالوجود في ظرف حدوث اليقين ، فكانت القاعدة

ص: 244

مقتضية لاعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق ( ويدفعه ) انه بعد تبدل اليقين بالوجود فعلا بالشك ، يكون انتقاض اليقين السابق بالعدم مشكوكا فعلا ، حيث يشك في بقاء العدم السابق واستمراره إلى زمان اليقين الزائل وبعده فيستصحب ( نعم ) يمكن ان يجاب عن اشكال الشيخ ( قده ) بمنع كون المعارضة دائمية كي توجب الغاء القاعدة بالمرة ، لأنه كثيرا يمكن فرض عدم جريان الاستصحاب ، اما لأجل توارد الحالتين أو من جهة عدم اليقين السابق ، اما لفرض الغفلة ، واما من جهة عدم الحالة السابقة ، فان في مثل تلك الموارد تجري القاعدة بلا معارضتها مع الاستصحاب.

( الثاني ) انه لو بنينا على شمول اخبار الباب للقاعدة فلا شبهة في مورد اليقين بالثبوت والشك فيه كما في اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة والشك فيها يوم الجمعة فيترتب آثار عدالته في يوم الجمعة من صحة الطلاق ونحوه ( وانما ) الكلام في صحة ترتيب اثر الاستصحاب عليه في فرض الشك في بقاء الحادث على تقدير حدوثه ، كما لو علم عدالة زيد يوم الجمعة فحصل له الشك بعد ذلك تارة في أصل عدالته ، أخرى في بقائها على تقدير ثبوتها ، حيث إن فيه ( وجهين ) أقربهما في النظر الجواز ، فان مجرد كون تطبيق إحدى القاعدتين على المورد في طول تطبيق الأخرى عليه لا يمنع عن ذلك ، إذ القاعدة على فرض مشموليتها للاخبار تكون بمنزلة الامارة المثبتة لأصل الثبوت وبذلك يتحقق موضوع الاستصحاب ، لان مفاد لا تنقض انما هو التعبد ببقاء ما ثبت عند الشك في بقائه ، فكل ثابت كان ثبوته بالوجدان أو بالتعبد إذا شك في بقائه يشمله دليل الاستصحاب ( وحينئذ ) فإذا جرت القاعدة وأثبتت عدالة زيد يوم الجمعة تترتب على ثبوت عدالته يوم الجمعة جميع الآثار التي منها وجوب التعبد بالبقاء ( بل يمكن ) دعوى عدم الفرق بين ان يكون للقاعدة اثر عملي آخر غير وجوب التعبد بالبقاء الذي هو مفاد كبرى حرمة النقض ، وبين ان لا يكون لها اثر الا هذا الأثر الاستصحابي ، كما لو كان الأثر العملي لخصوص البقاء لا للحدوث فتجري القاعدة وبعد جريانها يترتب الحكم بالبقاء بمقتضى الاستصحاب فتأمل.

ص: 245

التنبيه الخامس عشر

قد اجرى بعضهم الاستصحاب عند تعذر بعض اجزاء المركب الارتباطي لاثبات وجوب الباقي المتمكن منها ( وقد تقدم ) منا تفصيل الكلام في تنبيهات الأقل والأكثر ، واجمال الكلام فيه في المقام ، هو انه بعد ما استشكل وجوب الاتيان بما عدى الجزء المتعذر نظرا إلى ارتفاع التكليف المتعلق بالمركب لأجل تعذر بعض اجزائه وعدم اطلاق لدليله يقتضي وجوب الاتيان بما عدى الجزء المتعذر ( استدل ) لوجوب الاتيان بالباقي الممكن ، بوجوه ( منها ) الاستصحاب ، وتقريب التمسك به من وجوه ( الأول ) استصحاب مطلق الوجوب الجامع بين النفسي والغيري الثابت لما عدى الجزء المتعذر قبل تعذر الجزء وبعد طرو الاضطرار يشك في ارتفاع مطلق الوجوب الثابت للاجزاء الممكنة منها ، لاحتمال بقاء وجوبها ولو بتغيير صفة وجوبها فيستصحب ( الثاني ) استصحاب الوجوب النفسي الثابت للكل بتسامح من العرف في موضوعه بجعله عبارة عن الأعم من الواجد للجزء المتعذر أو الفاقد.

له نظير استصحاب كرية الماء الذي نقص منه مقدار ( الثالث ) استصحاب الوجوب النفسي المردد بين تعلقه بالمركب على أن يكون المتعذر جزء له مطلقا ليسقط الوجوب عن البقية بتعذر الجزء ، وبين تعلقه به على أن يكون المتعذر جزءا اختياريا له ليبقى الوجوب بعد تعذره بحاله ( الرابع ) استصحاب الوجوب الضمني النفسي الثابت للاجزاء الممكنة منها سابقا في ضمن وجوب الكل ، حيث يشك في بقاء هذه المرتبة من الوجوب وارتفاعها فيستصحب وان كان يستتبع بقائه عند ارتفاع الوجوب عن الجزء المتعذر تبدل حده السابق بحد آخر ، نظير استصحاب بقاء مرتبة من اللون المتحقق في ضمن اللون الشديد المقطوع ارتفاعه إذا شك في ارتفاعها أو بقائها ولو بحد آخر ضعيف ( ولكن ) يرد على التقريب الأول مضافا إلى ما فيه من منع كون وجوب الجزء وجوبا غيريا ، لمنع مناط المقدمية للاجزاء كما حققناه في

ص: 246

محله ( انه انما يجري ) الاستصحاب ويكون من استصحاب القسم الثاني من استصحاب الكلى إذا كان ثبوت كل واحد من نحوي الوجوب مشكوكا بحيث يكون الثابت مرددا من الأول بين ما هو مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني ، وما هو مقطوع البقاء ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد فعل ما يوجب رفع الأصغر ، وليس الامر كذلك في المقام ( وانما ) هو من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي الذي كان الشك في بقاء الكلى لاحتمال وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم حدوثه ( فان ) ما علم ثبوته سابقا انما هو الوجوب الغيري الذي علم بارتفاعه ، والمحتمل بقائه هو الوجوب النفسي لاحتمال مقارنة مناطه لمناط الغيرية أو قيام مناطه مقام مناطها ، والاستصحاب في مثله غير جار قطعا الا إذا كان المحتمل بقائه من مراتب الفرد الذي ارتفع ، بان يكون من الحقائق التشكيكية شدة وضعفا ، وليس المقام من ذلك أيضا لوضوح مبائنة الوجوب النفسي وكونه غير سنخ الوجوب الغيري ( وثانيا ) ان الشك في بقاء وجوب الاجزاء المتمكن منها مسبب عن الشك في بقاء المتعذر على جزئيته حال تعذره ، فأصالة بقاء جزئيته للمركب يقتضى سقوط التكليف عن البقية ، ومعه لا ينتهي المجال إلى استصحاب بقاء وجوبها ( ودعوى ) مثبتية الأصل المزبور باعتبار ان ترتب سقوط التكليف عن البقية من اللوازم العقلية للاضطرار إلى ترك الكل الذي هو من اللوازم العقلية لترك الجزء ( مدفوع ) بأنه كذلك لولا كونه من اللوازم الأعم من الواقع والظاهر ، والا فلا ضير في ذلك ، نظير وجوب الإطاعة الذي هو من لوازم مطلق الوجوب الأعم من الواقع والظاهر ، فإنه كما أن من لوازم ثبوت الجزئية المطلقة للمتعذر واقعا سقوط التكليف عن الكل بتعذره لاقتضاء تعذره تعذر الكل والمركب ، كذلك من لوازم الجزئية الظاهرية أيضا سقوط التكليف الظاهري عن الكل بالاضطرار إلى ترك الجزء ( وتوهم ) انه لا معنى لاستصحاب الجزئية للمتعذر في حال تعذره ، لأنه بحسب مقام الدخل في المصلحة امر تكويني لا تناله يد التشريع ، وبالنسبة إلى التكليف الفعلي الذي هو منشأ انتزاع جزئيته الفعلية للمأمور به لا يكون التكليف قابلا للثبوت للقطع بارتفاعه

ص: 247

بتعذره ( مدفوع ) بان الجزئية لا يختص اعتبارها بالنحوين المزبورين ، بل لها اعتبار ثالث وهو اعتبار دخلها في المجعول عند جعل المركب واختراعه ، وفى هذه المرحلة كانت مما امر رفعه ووضعه بيد الشارع فان للشارع في مرحلة جعل المركب اعتباره بنحو يدخل فيه الجزء المتعذر ، كما أن له اعتباره بنحو لا يدخل فيه ، وان كان منشأ هذا الاعتبار هي المصالح الواقعية ، وحينئذ فإذا كانت بهذا الاعتبار من المجعولات الشرعية فلا جرم يجري فيها الاستصحاب ( واما التقريب ) الثاني ، فيرد عليه انه لو يجدي ، فإنما هو إذا كان المتعذر من غير الاجزاء الركنية ، والا فيقطع بارتفاع الحكم ، ومعه لابد وأن يكون الشك في البقاء متعلقا بشخص حكم آخر محتمل التحقق حين وجود الحكم الأول أو محتمل الحدوث حين ارتفاعه ولو لاحتمال حدوث مناط آخر في البين ، مع وضوح الفرق بين المقام وبين استصحاب الكرية للماء ، فان منشأ الشك في ذهاب الكرية هناك انما هو ذهاب البعض الذي احتمل دخله في وصف الكرية ، بخلاف المقام فان منشأ الشك في وجوب البقية ليس هو تعذر الجزء ، وانما منشأه هو الشك في جزئية المتعذر للمركب في حال تعذره مع الجزم بجزئيته للمركب قبل تعذره ودخله في شخص التكليف المتعلق بالمركب ، ومع هذا لا مجال لمقايسته المقام بما هناك فتدبر ( واما التقريب الثالث ) فقد أورد عليه بأنه من أردء أنحاء المثبت ، ولعله من جهة اقتضائه لاثبات كون متعلق التكليف عند تعذر الجزء ، ما عدى الجزء المتعذر ، والا فلا نفهم وجها لمثبتيته ( ولكن ) يمكن ان يقال ان المقصود في المقام من الاستصحاب انما هو مجرد اثبات التكليف للبقية ، لا اثبات كون موضوع التكليف من الأول هو الواجد للجزء في خصوص حال التمكن كي يتوجه شبهة المثبتية ( ولما التقريب ) الرابع للاستصحاب ، فالظاهر أنه لا بأس به في بعض فروض المسألة فيما كان الشك في بقاء وجوب البقية من جهة احتمال وجود مناط آخر يقتضي تبدل حده الضمني بحد آخر مستقل أو احتمال تبدل المناط السابق عند تعذر الجزء بمناط آخر مستقل يقتضي استقلال البقية في الوجوب ، إذ في أمثال ذلك لا مانع من جريان الاستصحاب ، لكونه من استصحاب الذات

ص: 248

المحفوظة بين الحدين الباقية دقة ولو في ضمن حد آخر ، نظير استصحاب بقاء أصل اللون المتحقق في ضمن الشديد منه سابقا فتدبر.

ص: 249

فهرس مطالب

في تعريف الاستصحاب والاشكال على تعاريف القوم... 3

في النتائج المترتبة على بعض التعاريف مثل حكومة الاستصحاب على سائر الاصول... 4

في تضعيف جعل الاستصحاب من الادّلة العقلية... 5

هل الاستصحاب من المسائل الاصولية او القواعد الفقهيّة أولا... 6

في انّ الاستصحاب من المسائل الاصولية وبيان الدليل عليه... 7

في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين... 8

في اعتبار اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة في الاستصحاب... 9

الاشكال في استصحاب الاحكام الكليّة... 10

في دفع الاشكال عن استصحاب الاحكام الكلية والايراد على الاخوند. ره ... 12

في اعتبار فعليّة اليقين والشك في الاستصحاب على المختار... 13

في بيان الثمرة بين القولين... 14

في ابطال الثمرة بين القولين... 15

في بيان اقسام الاستصحاب... 17

في بيان الاقوال في اقسام الاستصحاب وبيان تفصيل الشيخ ره ... 18

في استصحاب الاحكام المستكشفة من الاحكام العقليّة... 19

في الاشكال الاوّل والثاني على التفصيل المذكور ... 20

في جريان الاستصحاب في الحكم المستكشف من حكم العقل... 21

في جريان الاستصحاب في الحكم المستكشف من حكم العقل ... 23

في عدم تصوّر الشك في العقليات الوجدانية ... 24

الحقّ عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات العقليّة وفاقاً للشيخ ره ... 26

هل النزاع في حجية الاستصحاب مختّص بالوجودية او يشمل العدميّة ايضاً ... 27

ص: 250

في اصالة عدم القرينة... 28

في اصالة عدم النقل... 29

في اصالة عدم الحاجب... 30

في بيان الاشكال في استصحاب الامور العدميّة... 31

في التفصيل المذكور في الامور العدميّة... 32

في ادلّة الاستصحاب من الاجماع وبناء العرف والعقلاء... 33

في الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجيّة الاستصحاب... 34

في وجوب الردع عن هذه السيرة العقلائية... 35

في دلالة الآيات الناهية الرادعة عن هذه السيرة ونقل كلام الاخوند. ره... 36

في الاستدلال على حجية الاستصحاب بالاخبار المستفيضة... 37

في بيان صحيحة زرارة على حجية الاستصحاب... 38

في عدم توقف الاستدلال بالرواية على تعيين الجزاء... 41

في عدم اختصاص الرواية بباب الوضوء... 42

في استفادة تعميم الحجيّة من الرواية... 44

في الاستدلال بصحيحة اخرى مضمرة لزرارة... 45

في تقريب الاستدلال بهذه الصحيحة وبيان الاشكال في الموضعين منها... 46

في التفصّى عن الاشكال بوجوه ، منها أنّ حسن التعليل من جهة الاجزاء... 47

في نقل كلام المحقّق الخراساني في التفصيّ عن الاشكال... 48

في التفصيّ عن الاشكال بانّ حسن التعليل بلحاظ انّ الشرط هو الجامع... 50

في حسن التعليل من جهة انّ في باب الطهارة المانع هو العلم بالنجاسة... 51

في الوجوه الخمسة للجمع بين الادلّة... 53

في اختيار الوجه الخامس وبيان الدليل عليه... 54

في الاستدلال لحجيّة الاستصحاب بصحيحة ثالثة لزراره بقوله اذا لم يدر في ثلاث هو الى آخره 55

في الاشكال على الاستدلال بالصحيحة... 56

في حمل الرواية على التقيّة وبيان الاشكال فيه... 57

في دفع الاشكال عن الاستدلال بالرواية... 58

ص: 251

الاشكال في صحة تطبيق الاستصحاب على ركعات الصلوة... 59

في الاستدلال لحجيّة الاستصحاب برواية الخصال بسنده عن محمد ابن مسلم عن ابي عبداللّه (عليه السلام) ... 63

في الاستدلال لحجيّة الاستصحاب بمكاتبة علي ابن محمد القاساني... 65

في الاستدلال لحجيّة الاستصحاب برواية عبداللّه ابن سنان وموثق بكير... 66

حجيّة الاستصحاب باخبار الحلّ والطهارة... 67

في تقريب استفادة القواعد الثلاثة من اخبار الحلّ والطهارة... 68

في تقريب امتناع استفادة القواعد الثلاثة من اخبار الحلّ والطهارة ... 69

تحقيق الكلام في مفاد اخبار الحلّ والطهارة... 71

في حصر مفاد اخبار الحلّ والطهارة بالقاعدة... 72

في مقدار دلالة هذه الاخبار وعمومها للاقسام المتصوّرة للاستصحاب... 74

في تقريب اختصاص حجيّة الاستصحاب بالشكّ في الرافع... 75

في تقريب التفصيل بين الشك في المقتضى والرافع ... 76

في بطلان التفصيل بين الشكّ في الرافع والمقتضى... 77

تحقيق الكلام في العناية المصححّة لاضافة النقض الى اليقين... 81

في الثمرة بين هذين المسلكين... 83

فيما ورد على القول بالتفصيل... 86

في التفصيل المنسوب الى الفاضل التوني ره بين الاحكام التكليفية والوضعية... 87

في حقيقة الاحكام الوضعيّة وبيان مجعوليّتها وانتزاعيتها وتفصيل اقسامها... 88

في عدم مجعولية الاحكام التكليفيّة... 89

في تحقيق الكلام حول الاحكام الوضعية... 90

في الشرطية والمانعية والجزئية للواجب... 91

في الشرط والسببيّة... 93

في السببيّة والشرطية للتكليف او الوضع... 94

في الصحة والفساد... 97

في الطهارة والنجاسة... 98

في الرخصة والعزيمة... 99

ص: 252

في الحجيّة بمعنى منشئية الشيء لقطع عذر العبد ومصححيته لاستحقاق العقوبة... 100

في الحجية بمعنى الوسطيّة للاثبات... 101

في الملكية والزوجية ونحوهما... 102

في القضاؤة والولاية... 103

في الوكالة والنيابة... 104

في التنبيه الاوّل والثاني من الاستصحاب... 105

في جريان الاستصحاب في مؤديات الأمارة... 106

في استصحاب مؤديات الطرق والامارات وبيان صحة كلام الآخوند. ره... 108

في اشكال بعض الاعاظم على المحقق الخراساني ره... 109

في دفع ما اورد على المحقق الخراساني ره... 110

في تقريب آخر لاستصحاب مؤديات الامارات... 111

في تقريب آخر ايضاً لاستصحاب مؤديات الامارات... 112

في عدم جريان الاستصحاب في مؤديات الاصول وبيان التنبيه الثالث... 113

في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب... 114

في الاشكال على استصحاب الفرد المردّد... 115

تقريب اشكال بعض الاعاظم على استصحاب الفرد المردّد... 118

الجواب عن اشكال بعض الاعاظم... 119

في القسم الاوّل من اقسام استصحاب الكلّي وصحة استصحاب الكلّي المتحقق في ضمن فرد بعينه ... 121

في القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلّي... 122

في بيان الاشكالات على استصحاب الكلّي ودفعها... 125

في الشبهة العبائية المعروفة... 130

في دفع الشهة العبائية المعروفة... 132

في القسم الثالث من اقسام استصحاب الكليّ... 133

في الاشكالات على القسم الثالث من اقسام استصحاب الكليّ... 135

في التذنيب الاوّل... 137

التذنيب الثاني في استصحاب الحدث المردّد بين الاصغر والاكبر... 138

ص: 253

اشكال الفاضل التوني ره في اصالة عدم التزكية... 142

التنبيه الرابع في استصحاب الامور التدريجية... 145

استصحاب الزمان وما يعرضه من العتاوين الطارية... 146

في استصحاب الامور الغير القّارة... 151

في استصحاب الامور المقيّدة بالزمان... 153

التنبيه الخامس في استصحاب التعليقي... 161

في الاشكالات الواردة على الاستصحاب التعليقي... 169

في دفع الاشكالات الواردة على الاستصحاب التعليقي... 171

التنبيه السادس في استصحاب احكام الشرايع السابقة... 173

فيما يورد على استصحاب احكام الشرايع السابقة... 174

في دفع ما يورد على استصحاب احكام الشرايع السابقة... 175

التنبيه السابع في الاصل المثبت... 177

في الفرق بين الاصول والامارات في حجيّة المثبتات... 183

في حجيّة الاصل المثبت مع خفاء الواسطة بناء على قول الشيخ ره... 188

في الفروع التّي توهم ابتنائها على الاصل المثبت... 189

في جريان الاستصحاب في الاجزاء والشرائط وقيود المأمور به... 193

التنبيه الثامن في اعتبار ان يكون المستصحب ذا اثر عملي بلحاظ ابقائه حين توجيه الخطاب بلا تنقض... 195

التنبيه التاسع في تعاقب الحادثين... 196

في اصالة تأخر الحادث... 197

في مجرى استصحاب العدم الازلي... 200

في عدم جريان استصحاب العدم في مفاد المعدولة... 204

اقسام الجهل بالتاريخ وجريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ... 205

في عدم جريان الاستصحاب في معمولي التاريخ... 206

في تقريب عدم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ... 207

في عدم جريان الاصل في مجهولي التاريخ... 208

في تقريب آخر للمحقّق الخراساني ره في مجهولي التاريخ... 209

ص: 254

في الجواب عن شبهة المحقق الخراساني ره في مجهولى التاريخ... 211

في دفع شبهة بعض الاعلام ره... 213

في تقريب عدم جريان الاستصحاب في الحادثين المتضاديّن... 214

في بيان وجوه لعدم جريان الاستصحاب في المتضادين المجهولين تاريخهما... 215

التنبيه العاشر في اعتبار ترتّب اثر عملي حين الاستصحاب ولو بوسائط عديدة... 219

التنبيه الحادي عشر في جريان الاستصحاب في الامور الاعتقادية... 220

في الجواب عن تمسك الكتابي باستصحاب النبوّة... 222

التنبيه الثاني عشر في استصحاب حكم المخصّص... 224

في الامور المتقيّدة بالزمان... 225

في تشخيص مصبّ العموم الزماني... 227

في تأسيس الاصل عند الشك في مصّب العموم الزماني... 235

التنبيه الثالث عشر في استصحاب صحة العبادة... 238

التنبيه الرابع عشر في عدم شمول اخبار الباب لقاعدة اليقين... 242

في عدم امكان شمول اخبار الباب للقاعدتين... 244

التنبيه الخامس عشر في استصحاب حكم المركّب عند تعذّر بعض اجزائه... 246

ص: 255

القسم الثاني من

الجزء الرابع

من كتاب نهاية الافکار

في مبحث الاستصحاب والتعادل والتراجيح

لحضرة

حجة الاسلام والمسلمين آية الله في العالمين الورع التقي

الشيخ محمد تقى البروجردى قدس سره

تقریر

بحث استاذ الفقهاء والمجتهدين آيه الله العظمى

الشيخ ضياء الدين العراقي

قدس سره

منشورات

جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

في معنی بقاء الموضوع في الاستصحاب

( خاتمة )

يذكر فيها امور ( الاول ) انه قد اشتهر في كلماتهم اعتبار القطع ببقاء الموضوع الذي هو معروض المستصحب في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضاً له سابقاً في جريان الاستصحاب حتى انه صار مثل هذه الجهة في الوضوح عندهم كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار ، غير انهم اختلفوا في ان المدار في البقاء بالنظر العقلى او الدليلي او النظر العرفي بحسب مرتكزاتهم ( وعمدة ) المستند فيا افادوه ظهور اخبار الباب في كون قوام حقيقته باتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة موضوعا ومحمولا ، بل هذه الجهة الاتحاد من من مقتضيات طبع الاستصحاب ولو كان اعتباره من باب افادته الظن او من باب بناء العقلاء ، فعلى جميع المسالك لا بد في الاستصحاب من الاتحاد المزبور بين القضيتين ، والا فمع اختلافهما موضوعاً او محمولا فلا استصحاب ( ولاجل ) ذلك التزموا بلزوم احراز الموضوع في الزمان اللاحق في جريان الاستصحاب ( ولكن ) لا يخفى عليك ان غاية ما يقتضيه البرهان المزبور أنما هو اعتبار الجزم بتعلق الشك في القضية المشكوكة بعين ما تعلق به اليقين السابق في القضية المتيقنة ، وفي هذا المقدار لا يحتاج الى احراز وجود الموضوع خارجاً والجزم به في جريان الاستصحاب ، بل يكفي في هذا الاتحاد احتمال بقاء الموضوع ايضا .

فانه مع هذا الاحتمال يصدق الشك في بقاء ما تيقن بثبوته سابقاً بماله من الخصوصية فيكون الشك متعلقاً بعين ما تعلق به اليقين السابق حتى في المحمولات الثانوية والاوصاف الخارجية كمدالة زيد وقيام عمرو او سواد جسم ونحو ذلك ( فاذا علم ) بعدالة زيد مثلا وشك في بقانها يجري فيها الاستصحاب ولو مع الشك في بقاء زيد في الخارج ( فان ) العبرة في اتحاد القضيتين انما هو تعلق الشك بما تعلق به اليقين السابق ،

ص: 3

هل يشترط استعداد موضوع الاستصحاب للبقاء ام لا

وهذا المعنى كما يصدق في الشك في العارض والمحمول من جهة الشك في طرو المانع على نفس المارض في ظرف اليقين بوجود معروضه ، كذلك يصدق عند الشك فيه من جهة الشك في بقاء معروضه ، اذ القضية المتيقنة هي عدالة زيد وهي بعينها مما تعلق به الشك اللاحق ( وحيث ) انه لا دليل على اعتبار ازيد من الاتحاد بين القضيتين موضوعا ومحمولا ، فلا يحتاج فى التعبد الاستصحابي الى احراز بقاء الموضوع خارجا ، بل يكفيه مجرد الشك في بقاء المحمول والمعارض ولو مع الشك في بقاء موضوعه ومعروضه ( من غير فرق ) بين ان يكون المستصحب هو الوجود المحمولي او الوجود الرابط ، فانه على كل تقدير يكفي في التعبد الاستصحابي مجرد اتحاد المتيقن والمشكوك ولا يحتاج الى احراز بقاء الموضوع ( نعم ) قد يحتاج الى احراز وجود الموضوع احياناً فيما اذا كان الاثر مما يحتاج فى ترتبه الى تطبيق الموضوع المتعبد به خارجا ، كاكرامه و اطعامه والاقتداء به، لا مثل التقليد ونحوه ( ولكن ) ذلك الخصوصية في كبرى الاثر تقتضي تطبيق موضوعه خارجا ، والا فطبع الاستصحاب لا يقتضي اكثر من اتحاد المتيقن والمشكوك ، ولذا لو لم يكن الاثر مما يحتاج في ترتبه الى احراز بقاء موضوع المستصحب خارجاً كجواز التقليد عند عدالة المجتهد او إطعام الفقير عند بقاء عدالة زيد، يكتفى في استصحاب عدالته بصرف وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ( نعم ) على القول باختصاص اخبار الباب صرفا او انصرافاً بصورة اليقين باستعداد المستصحب للبقاء والشك في الرافع لا بد في جريان الاستصحاب في الاعراض والمحمولات الثانوية من احراز بقاء الموضوع في الخارج ( لانه ) مع الشك في بقائه يشك في استعداد العرض المتقوم به للبقاء ، لامتناع بقاء العرض بلا موضوع او انتقاله من محله المتقوم به الى محل آخر ، ومع الشك في استعداده للبقاء لا يجري في______ه الاستصحاب ( والى ذلك ) نظر الشيخ ( قدس سره ) في استدلاله على مدعاه بقوله لانه لو لم يعلم بتحققه لاحقا فإذا اريد ابقاء المستصحب الع______ارض له المتقوم به ( فاما ) ان يبقى في غير محل وموضوع وهو مجال واما ان يبقى في موضوع غير

ص: 4

موضوع السابق وهو ايضاً محال ( الخ ) ( فان ) تشبته بالبرهان المزبور انما هومن جهة ملازمة الشك في بقاء الموضوع للشك في استعداد العرض القائم به للبقاء لامتناع بقائه بلا موضوع ( فما افاده ) ( قدس سره ) على مسلكه من تخصيص الاستصحاب بخصوص الشك في الرافع في غاية المتانة ( ولا يتوجه ) عليه اشكال الكفاية بان الكلام في البقاء التعبدي لا في الحقيقي والبرهان المزبور انما يتم في الثاني دون الاول ( لان ) مرجع البقاء التعبدي الى لزوم ترتيب اثر البقاء في الظاهر ، ولا استحالة فيه مع الشك في الموضوع ( كيف ) ولا يحتمل من مثل الشيخ الذي هو خريط هذه الصناعة الغفلة عن الفرق بين البقاء الحقيقى والتعبدي كي يورد عليه الاشكال المزبور ( ومن العجب ) ان بعض الاعلام مع سلوكه مسلك الشيخ ( قدس سره ) في تخصيص لا تنقض بصورة الشك في الرافع بعد احراز استعداد المستصحب للبقاء اعرض عن الكبرى العقلية المزبورة واتكل في اعتبار بقاء الموضوع بكبرى اتحاد القضيتين حتى اورد على الشيخ بأن التشبث بالكبرى المقلية لاعتبار بقاء الموضوع تبعيد للمسافة من غير وجه يقتضيه ، لامكان اثبات المدعى بنفس اتحاد كبرى القضيتين بلا احتياج الى ضم الكبري العقلية ( اذ قد عرفت ) انه على هذا المسلك لا محيص من تبعيد هذه المسافة وبدونه لا يمكن اثبات المدعى بنفس كبرى اتحاد القضيتين ( وبذلك ) نقول ان هذه الجهة من الثمرات المترتبة على المسلكين في الاستصحاب ( فانه ) على المختار من تعميم لا تنقض لصورة الشك في المقتضى والرافع لا يحتاج الى احراز وجود الموضوع لاحقا حتى في استصحاب المحمولات الثانوية ، إلا في الموارد المحتاجة إلى تطبيق الموضوع خارجا فيمقام ترتيب الاثر العملى ( وهذا ) لا من جهة اقتضاء التعبد الاستصحابي ذلك ، بل من جهة خصوصية في كبرى الاثر في ترتبه على مفاد كان الناقصة من نحو اتصاف الموجود بوصف كذا كالعالمية والعادلية ، نظير وجوب إكرامه وإطعامه وقبول شهادته خصوصاً على القول بأن مفاد لا تنقض عبارة عن جعل المائل وإن العمل المترتب عليه من شؤن إطاعة الامر الظاهرى المستفاد من جعل المماثل ، فان الاحراز المزبور

ص: 5

حينئذ شرط لتطبيق كبرى حرمة النقض فيمقام الامتثال ، لا انه شرط لاصل الكبرى ( واما ) على القول بالتخصيص بالشك في الرافع بعد احراز استعداد البقاء ، فلابد في اصل التعبد الاستصحابى من الجزم ببقاء الموضوع ، والا فمع الشك فيه لا استصحاب، لملازمة الشك في وجود الموضوع لاحقا للشك في استعداد العرض القائم به للبقاء (من دون ) فرق في ذلك بين ان يكون الاثر لنفس العارض فقط، او لمجموع العارض والمعروض ( ولا بين ) ان يكون المعروض بنفسه مجرى للاصل ، وبين عدم كونه مجرى له ( ولا بين ) كون الشك في العارض والمحمول مسببا عن الشك في بقاء معروضه وموضوعه بترتب شرعي ام عقلى و بين كونه مسبباً غير الشك في بقاء موضوعه ، كالشك في عدالة زيد لاحتمال فسقه مع الشك فى حيوته ايضاً ( فانه ) على كل تقدير لا يجري الاستصحاب فيه ولو كان موضوعه بنفسه مجرى للاصل ( اذ على هذا المسلك ) لا بد في جريان الاصل في نفس العارض والمحمول من احراز استعداد المستصحب للبقاء ، ومع الشك في الموضوع يشك في استداد العارض والمحمول للبقاء ( ولا يجديه ) مجرد كون موضوعه بنفسه محطا للاصل ، لعدم وفاء الاصل الجاري فيه لاثبات استعداد المستصحب للبقاء الا على الفول بالمثيت ( نعم ) لو كان الشك فيه مسبباً شرعيا عن الشك في بقاء موضوعه ، كالشك في مطهرية الماء لاجل الشك في بقائه على كريته او اطلاقه يجري الاصل في موضوعه ويترتب عليه آثار المحمول المترتب عليه ، بلا مجال لجريانه في محموله ، وذلك لا من جهة حكومة الاصل الموضوعى على الاصل الحكمي ، بل من جهة عدم كونه بنفسه مجرى الاصل ولو مع قطع قطع النظر عن حكومة الاصل الموضوعي ، بلحاظ عدم احراز استعداده للبقاء مع الشك في موضوعه ( وهكذا ) الكلام فيها اذا كان الشك فيه مسبباً عن سبب غير الشك في بقاء موضوعه كالشك في عدالة زيد لا حتمال فسقه الشك في حيوته ايضاً .

( ولكن الذي ) يظهر من الشيخ قده وبعض آخر جريان الاستصحاب في هذا الفرض في الموضوع والمحمول ، في فرض كون الاثر المجموعها ( حيث افاد ) بانه يكفي في استصحاب العدالة حينئذ الشك في بقائها على تقدير الحيوة ،

ص: 6

نظرا الى ان موضوع العدالة انما هو زيد على تقدير الحيوة ، لا ان الموضوع هو زيد مطلقا حيا كان او ميتا ، وليس المستصحب عدالة مطلقاً زید بل عدالته في فرض كونه حياً ، وفي هذا الفرض يحرز استعدادها للبقاء ، اذ لا يكون الشك فيها إلا من جهة احتمال فسقه ، فلا قصور حينئذ في استصحابها على هذا الفرض ، ( وبجريان ) الاستصحاب في الموضوع يحرز ظرفه فيلتئم الموضوع المركب حينئذ من ضم أحد الاصلين الى الآخر ويترتب عليه الاثر ، كما يلتئم من ضم الوجدان الى الاصل فيما كان بعضه محرزا بالوجدان وبعضه بالاصل ( فهنا ) مستصحبان احدهما حيوة زيد والآخر عدالته على تقدير الحيوة وبضم احد الاصلين الى الآخر يلتئم موضوع الاثر ( ولكن ) لا يخفى ما فيه اذ نقول ان الاستعداد المحرز في المقام بعد ان كان تعليقيا لا تنجيزيا ، يلزمه تعليقية اصل استصحابه والتعبد بعدم نقض اليقين بالشك ، ( وهذا المقدار ) غير مجد في مقام العمل وتنجيز الاثر الا بعد وصول هذا التعليق الى مرحلته الفعلية والتفجيز ، ولا يصل الى هذه المرحلة الا بعد احراز المستصحب للبقاء تنجيزبا ، ومع الشك في الحياة لا يحرز ذلك لا وجدانا كما هو ظاهر ، ولا تعبدا لعدم وفاء الاصل الجاري في الموضوع لا ثبات استعداد محموله للبقاء الا على المثبت ( ومعه ) كيف يجري الاصل في المحمول كى بضم جريانه في الموضوع يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه الاثر ( نعم ) ذلك يتم على المختار من تعميم لا تنقض الصورة الشك في الرافع والمقتضى وعدم الاحتياج الى احراز الاستعداد ( اذ عليه ) يكفيه مجرد اتحاد القضيتين بمعنى تعلق الشك بما تعلق به اليقين السابق موضوعا ومحمولا الصادق ولو مع الشك في بقاء معروض المستصحب خارجاً ، فمع احراز هذه الجهة لا بأس بجريان الاستصحاب في العارض والمعروض، حيث يلتئم بها الموضوع المركب فيترتب على استصحابها اثر المجموع ( وذلك ) ايضاً اذا لم يحتج فيمقام ترتيب الاثر الى تطبيق موضوع المتعبد به وجداناً ، والا فلا يجري الاستصحاب على المختار ،ايضا لعدم ترتب الاثر العمل المقوم لجريانه ، الا اذا فرض كفاية احرازه تعبدا فيمقام ترتب الاثر العملى عليه ، فيجري الاستصحاب حينئذ في كل من الموضوع

ص: 7

والمحمول ( و بذلك ) ظهر الحال فيما لو كان الشك في العارض والمحمول مسبباً شرعيا عن الشك في الموضوع ، فانه يجري الاصل في الموضوع ويترتب عليه الاثر ، بلا جريانه في طرف المحمول ولو على المختار من تعميم لا تنقض بصورة الشك في المقتضى ، وذلك لا من جهة حكومة الاصل الموضوعي عليه ، بل من جهة عدم ترتب اثر عملى عليه حينئذ الا بعد التطبيق الملازم لسقوطه ، لانه قبل تطبيق الموضوع واجراء الاستصحاب فيه لا يترتب على استصحاب المحمول اثر عملى لما هو الفرض من احتياج تربته الى تطبيق موضوع المتعبد به ولو تعبدا ، وبعد تطبيقه باجراء الاستصحاب فيه يسقط استصحاب المحمول ، لانه باستصحاب الموضوع يترتب عليه الاثر المزبور بلا احتياج الى جريانه في نفس المحمول ( هذا كله ) اذا كان الشك في المحمول المترتب مسبباً عن الشك في بقاء الموضوع ذاتاً او في بقاء قيده الذي له دخل فيه مع العلم بحقيقته بحدوده وقيوده ( واما لو كان ) الشك في المحمول مسبباً عن الشك في حقيقة الموضوع التردده بين الزائل والباقي، في فرض العلم بانتفاء ما يحتمل دخله في حقيقة الموضوع ، كالماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه ، اذ يشك حينئذ في بقاء المحمول الذي هو النجاسة من جهة الشك في موضوعها في انه الماء المتغير بوصف تغيره ، او ذات الماء المحفوظ مع التغير وعدمه ( فلا مجال ) لاستصحاب الموضوع ( اذهو ) من جهة تردده بين العنوانين المعلوم انتفاء احدهما وبقاء الاخر مما يختل فيه احد ركنى الاستصحاب وهو الشك على كل تقدير ( نعم ) ما هو المشكوك حينئذ انما هو العنوان المرضى كعنوان موضوع الحكم ، ومثله لا يكون موضوعا لاثر شرعى حتى يجري فيه الاستصحاب ( وبهذه الجهة ) منعنا عن جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، وفي جميع الشبهات المفهومية الحكمية نظرا الى انتفاء الشك فيها كان موضوعا للاثر الشرعي لدورانه بين ماهو المعلوم وجوده وتحققه و بين ما هو المعلوم عدم وجوده، وانتفاء الاثر فيها كان مشكوكاً ( فلابد ) في امثال هذه الموارد من الرجوع الى الاصل الحكمي ( فيتأتي ) فيه التفصيل المتقدم بين المسلكين في لزوم احراز بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب على مسلك تخصيص

ص: 8

الاستصحاب بخصوص الشك في الرافع بعد احراز استعداد المستصحب للبقاء ، و عدم لزوم احراز بقائه على المسلك الاخر الا في موارد احتياج الاثر العملي في تربته الى تطبيق موضوع المتعبد به في الخارج فتدبر .

فى الاتحاد بين القضية المشكوكه والمتيقنه

( بقى الكلام )

في تحديد الموضوع والوحدة والاتحاد في الاستصحاب في انه بالنظر الدقى العقلى ، أو النظر العرف الدليلي او بالنظر العرف المسامحي حسب ما هو المرتكزه في اذهانهم من مناسبة الحكم وموضوعه ، ولو على خلاف نظرهم الدليلي ( فان للعرف ) نظرين ( أحدهما ) من حيث كونه من أهل المحاورة ومن اهل فهم الكلام وبهذا النظر يحدد الموضوع الدليلى في فهم المرادات ولو بواسطة القرائن الحافة بالكلام ( فيفرق ) بين قوله الماء المتغير ينجس ، وبين قوله الماء اذا تغير ينجس ، من حيث فهمه الموضوع فى الأول هو الماء المتغير بما هو متغير ، وفى الثاني ذات الماء وكون التغير جهة تعليلية لثبوت النجاسة للماء ( وثانيها ) بما هو المرتكز في ذهنه من المناسبة بين الحكم وموضوعه ولو على خلاف ما هو المتفاهم من الكلام ، فيرى ان موضوع النجاسة حتى في مثل قوله الماء المتغير ينجس ذات الماء وان التغير واسطة في ثبوت النجاسة ومن الجهات التعليلة ، لماهو المرتكز في ذهنه من أن النجاسة من عوارض الماء لا من عوارض الماء والتغير ، وان كان بحسب نظره الدليلي خلاف ذلك فيفهم ان موضوع النجاسة في المثال هو الماء بوصف تغير. ( غاية الامر ) لا بد من تحديد هذا الارتكاز بجد لا يكون من القرائن الحافة بالكلام بحيث يمنع عن انعقاد الظهور ، ولا من القرائن المنفصلة الموجبة لرفع اليد عن الظهور ( بل على وجه ) يرى الخصوصية المأخوذة في الموضوع من الجهات التعليلية لا بنحو تكون علة منحصرة .

ص: 9

( و بذلك ) يندفع ماقد يتوهم من الاشكال في المقام بانه بعد الجزم ، بمرجعية العرف في تحديد مفاهيم الالفاظ وتشخيص مداليلها بلا مدخلية المعقل في ذلك ، وعدم العبره بالمسامحات العرفية في باب التطبيقات ولزوم كون التعويل فيها على النظر المقلى الدقى ( لا وجه ) المقابلة بين العقل والعرف والدليل ( فانه ) ان اريد من الرجوع الى العرف الرجوع اليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه ، فهو صحيح الا انه لا يختص بباب الاستصحاب لعموم مرجعية نظر العرف في تشخيص مفاهيم الالفاظ وتحديد مداليلها في القضايا الشرعية وغيرها ، فلا معنى لجعل الموضوع العربي مقابلا لموضوع الدليلي في خصوص باب الاستصحاب ، لرجوع موضوع الدليلى حينئذ الى الموضوع العرفي ( وان اريد ) من الرجوع الى العرف الرجوع اليه فيما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل فى مقام التطبيق مع عدم كونه بالنظر الدقى من مصاديقه ، نظير اطلاقه مفهوم الكر والفرسخ والحقه على ما ينقص ويزيد بقليل على المقدار أو الوزن المحدود ( فقد عرفت ) انه لا عبرة بالمسامحات العرفية في باب التطبيقات بعد تشخيص المفاهيم ( وعليه ) فلا وقع لجعل الموضوع العرفي مقابلا للموضوع الدليلي في باب الاستصحاب . ( وجه الاندفاع ) ما عرفت من ان للعرف نظرين ، تارة من حيث كونه من أهل المحاورة وفهم مداليل الالفاظ ، واخرى من حيث ما ارتكز في ذهنه ولو من جهة مناسبات الحكم وموضوعه بنحو يرى الخصوصية المأخوذة في الموضوع من الجهات التعليلية لثبوت الحكم ، أو من القيود غير المقومة لحقيقية الموضوع ، مع حكمه بان ماهو ظاهر الدليل مراد الشارع من خطابه ( فالمقابلة ) بين العرف والدليل انها هو بلحاظ النظر الثاني الناشيء من المناسبات المغروسة في اذهان العرف بنحو يرى الموضوع شيئاً صالحا للبقاء ( اذ حينئذ ) احتمال مطابقة الشرع مع العرف في واقع الحكم ولبه ، منشاء للشك في بقائه ( فيقع ) الكلام في ان عموم لا تنقض في توجيه التعبد بالبقاء سيق بای لحاظ ( فان سيق ) بالانظار الدقية

ص: 10

العقلية ، فيشكل امر الاستصحاب في كل مورد احتمل رجوع القيد الى الموضوع ( لان ) مع هذا الشك لا يجزم بأتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة ( وان سيق ) بالنظر الدليلي ، فلابد من لحاظ لسان الدليل بكونه على نحو يكون القيد مأخوذا في الموضوع كقوله الماء المتغير ينجس أو مأخوذا شرطاً للحكم كقوله الماء ينجس اذا تغير بإجراء الاستصحاب في الثاني دون الاول ( وان سيق ) بالانظار العرفية ، فلابد من ملاحظة نظرهم من انه في أي مورد يفي بالاتحاد فيجري الاستصحاب وان لم يساعده العقل والدليل ، وفي أي مورد لا يفي بالاتحاد فلا يجري الاستصحاب وان ساعده العقل والدليل .

( وبعد ما اتضح ذلك ) نقول في تنقيح المرام اولا بعد عدم وقوع عنوان البقاء والاتحاد في حيز الخطاب الشرعي ، واحتياج الاستصحاب الى اعمال نحو من المسامحة في ارجاع القضية المشكوكة الى المتيقنة في اخبار الباب ، بلحاظ ان ارجاعها اليها دقة يوجب عدم اجتماع اليقين والشك في زمان واحد ، فيلزم استفادة قاعدة اليقين من اخبار الباب لا الاستصحاب ، وهو مع كونه خلاف جرى عنوان اليقين والشك بلحاظ حال النسبة المقتضى لوجود الوصفين حالها ، ينا في التطبيقات الواردة فيها من الامام ( علیه السلام ) على مورد الاستصحاب ( ان استفادة ) البقاء والاتحاد ، تارة يكون من جهة انتزاعها من ارجاع الشك الى اليقين بتوسيط لحاظ اليقين بالشيء في متعلق الشك ، في مثل قوله لا تنقض اليقين بالشك ، حيث ان اللحاظ المزبور في ارجاع الشك الى اليقين يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين الموجب لا نتزاع عنوان البقاء منه ( واخرى ) من جهة اطلاق النقض في المقام الصادق حقيقة على مجرد اتحادها باحد الانظار وان لم يكن واقعياً دقياً ( فعلى الاول ) يكون مرجع الخلاف في المقام الى ان المسامحة المزبورة هل بمقدار الغاء وحدة الزمان فيها مع حفظ سائر الجهات دقة عقلية ، كى يلزم احتياج الاستصحاب في جريانه في المتيقن الى صدق البقاء دقة عقلية ، كما في فرض أخذ عنوان البقاء والاتحاد في حيز الخطاب ( أو أن المسامحة ) ملحوظة من سائر الجهات أيضاً ( فعلى المسلك الاول )

ص: 11

لا بد من جعل مركز البحث في المقام في اختلاف الانظار، فيما قام به عنوان الاتحاد والبقاء والابقاء التعبدي الذي هو نفس كبرى المستصحب وما هو موضوع الحكم فى القضية المتيقنة ، لا في عنوان البقاء والاتحاد ، اذها كعنوان الماء والكلا من المفاهيم المحرزة من العرف في مقام شرح الفاظها ، مما لا اختلاف فيه بين العقل والشرع والعرف ، ولا بد في تطبيق عنوانها على المورد من كونه دقياً عقليا لا مسامحياً ، نظير الاوزان والمقادير ( وحينئذ ) فبعد اختلاف الانظار في موضوع الحكم باعتبار انه قد يكون عند المقل شيئاً لا يصدق عليه البقاء حتى بنظر العرف لو التفت اليه ، وعند العرف شيئاً يصدق عليه البقاء حقيقة حتى بنظر العقل ( وعدم ) امكان سوق لا تنقض في لحاظ الاتحاد بين القضيتين بجميع الانظار ، لاستلزامه اجتماع اكثر من لحاظ واحد في اللحاظ المقوم لارجاع الشك الى ما تعلق به اليقين ، كما عرفت نظيره في وجه المنع في الجمع بين القاعدة والاستصحاب ( يرجع البحث ) المزبور الى ان سوق التعبد بالبقاء في الكبريات الواقعية بلحاظ اي موضوع من العقلى او الدليلي، او العرفي بلحاظ ما يفهم من نظائره بمقتضى الارتكاز من مناسبات الحكم وموضوعه ( وبعد الجزم ) بعدم كون المدار في اخذ الموضوع واتحاد القضيتين في باب الاستصحاب على الدقة المقلية باجماع منهم ، يدور الامر بين ان تكون الكبريات الواقعية عند توجيه التعبد بالبقاء اليها ملحوظة على نحو يراها العرف من ظاهر الدليل ، كى يفرق بين ان يكون القيد المشكوك دخله مأخوذاً في الدليل بنحو التوصيف، كقوله الماء المتغير ينجس، او بنحو التعليل ، كقوله الماء ينجس اذا تغير باجراء الاستصحاب في الثاني دون الاول ( او ملحوظة ) بانظار العرف المسامحية ، كي لا يفرق بين اللسانين ، ويدور جريان الاستصحاب مدار فهم كون القيد المشكوك دخله في الموضوع من القيود غير المقومة الحقيقة الموضوع او من القيود المقومة ( فيلتزم ) بجريان الاستصحاب في الاول ولو كان اخذه في الدليل بنحو التوصيف ، وعدم جريانه في الثاني ولو كان اخذه في الدليل بلسان التعليل ( وبذلك ) ظهر انه ليس المقصود من المسامحة في المقام المسامحة

ص: 12

في تطبيق كبرى المستصحب على المورد ، كي يورد عليه بان تطبيق الكبريات الواقعية على مصاديقها لا يكون الا عقلياً ( وانما المقصود ) هو المسامحة فيها في مقام توجيه التعبد في بالبقاء اليها ، لا في نفسها مع قطع النظر عن توجيه التعبد بالبقاء نحوها ، بل ولا في البقاء والابقاء المأخوذ في كبرى الاستصحاب ( واما على المسلك الثاني ) وهو كون المسامحة في ارجاع الشك الى اليقين من سائر الجهات أيضاً على نحو يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين ( فلازمه ) كون النظر الى الكبريات الواقعية دقيقياً عقلياً حتى في مقام توجيه التعبد بالبقاء اليها فضلا عن مرحلة تطبيقاتها ( وعليه ) لا بد من جعل مركز الخلاف فى الانظار فى نفس البقاء والابقاء التعبدي الذي هو مأخوذ في نفس الاستصحاب وفي كبرى لا تنقض اليقين ، لا في كبرى المستصحب ( فانه ) يختلف فيه اللحاظ من حيث كونه ، تارة متعلقاً بالشيء بتمام خصوصياته المحفوظة فيه دقة ، واخرى لا بهذه الخصوصية بل بالنظر المسامح الموجب لانتزاع عنوان البقاء والاتحاد المسامحي ، مع كون الملحوظ ايضاً تارة ذات الشيء ، واخرى بما هو مدلول الدليل ، اما بدوا او مستقرا ولو بواسطة القرائن المتصلة او المنفصلة ( وبكل نظر ) ينتزع نحواً من البقاء ( وعلى ذلك ) فليس اختلاف العقل والعرف في صدق البقاء من جهة الاختلاف في حقيقة البقاء ، بل ولا من جهة الاختلاف في حقيقة الموضوع المأخوذ في كبرى المستصحب ( وانما كان ) ذلك في ارجاع الشك الى اليقين فى كبرى لا تنقض اليقين بالشك في انه بلحاظ ونظر دقي ، او بلحاظ ونظر مسامحي موجب لا تتزاع عنوان البقاء والاتحاد المسامحي ولو مع فهم العرف حقيقة موضوع كبرى الحكم في الدليل على نحو ما يراه العقل موضوعا بنحو لا يصدق البقاء عليه حقيقة حتى بنظر العرف ( ومن هنا ) يظهر انه لا يحتاج على هذا المسلك الى تنقيح موضوع كبرى الحكم الواقعي ، كى يفرق بين الاحكام المستكشفة من الاحكام المقلية والنقلية ثم التشبث في النقلية بفهم العرف موضوعاً آخراً ولو على خلاف ما يفهم من ظاهر الدليل بمناسبات ارتكازية ( بل الموضوع ) ايما كان يكتفي بالمسامحة في النظر في ارجاع القضية

ص: 13

المشكوكة الى المتيقنة في تطبيق عموم لا تنقض على المورد دقة ( بخلاف المسلك السابق ) فانه يحتاج الى تنقيح موضوع كبرى الدليل ولو بالتشبث بفهم العرف

بمناسبات ارتكازية .

( وحيث اتضح ذلك ) نقول بعد فرض عدم اخذ عنوان البقاء والاتحاد في حيز الخطاب الشرعي ، وفرض انتزاعها من ارجاع الشك الى اليقين بلحاظ اليقين بالشيء في متعلق الشك الموجب لنحو من الاتحاد بين القضيتين بنحو ينتزع منه عنوان الابقاء والبقاء ايضاً ( انه يكفي ) نفس موارد نصوص الباب والتطبيقات الواردة فيها على الاستصحاب في ترجيح المسلك الثاني من اثبات كون النظر في ارجاع الشك الى اليقين تسامحياً لا دقياً حقيقياً ( اذ مع ) لابدية اعمال المساحة في النظر في ارجاع القضية المتيقنة الى المشكوكة في انطباق أخبار الباب على الاستصحاب ( يكتفى ) بهذا المقدار من الاتحاد المسامحي في تطبيق عمومات الباب دقة على المورد ( ولا يحتاج ) الى الاتحاد الحقيقي ، كى يحتاج الى استفادة كون الموضوع في كبرى المستصحب شيئاً قابلا للبقاء الحقيقى ، ليصدق علي____ه الاتحاد الحقيقى ولو بالتشبث بفهم العرف بمقتضى الارتكاز والمناسبات ( فان ذلك ) كله انما يناسب المسلك الاول ( والا فعلى ) هذا المسلك يكفي مجرد صدق البقاء والاتحاد المسامحي بين القضيتين في جريان الاستصحاب وتطبيق عمومات الباب دقة على المورد ( ومرجع ) هذه المسامحة كما عرفت الى المسامحة في أصل كبري لا تنقض

اليقين بالشك في ارجاع الشك التى اليقين ، لا في تطبيق هذه الكبرى على المورد ، ليكون على خلاف قاعدة تطبيق الكبريات الواقعية على مصاديقها دقة عقلية ، بل التطبيق فيها ايضا يكون على الدقة العقلية ( وعلى ذلك ) لافرق في جريان الاستصحاب بين انحاء الستة الدليل ( بل مهما ) كان القيد المشكوك دخله من القيود غير المقومة يجرى الاستصحاب ( لان ) المناط فيه حينئذ على مجرد اتحاد القضيتين ولو مسامحياً ( هذا كله ) بناء على استفادة ( اتحاد القضيتين من عموم لا تنقض بلحاظ تكفله لارجاع الشك الى متعلق اليقين ) ( واما بناء ) على عدم تكفل

ص: 14

العموم المزور لمثل هذا الارجاع ، وقلنا ان الاتحاد بين القضيتين مستفاد من اطلاق النقض ( فان قلنا ) انه يصدق النقض حقيقة على مجرد وحدة القضيتين باحد

الانظار وان لم يكن حقيقيا ، فلا شبهة في شموله لجميع الانظار ، اذ مفاد العموم المزبور حينئذ حرمة كل ما يكون نقضاً لليقين بالشك سواء كان منشئه الوحدة العقلية أو الدليلية أو العرفية ، ولازمه كفاية الوحدة باحد الانظار في صدق النقض ( وأما إن قلنا ) إن صدق النقض الحقيقي يدور مدار وحدة القضيتين دق__ة عقلية ، فلا يشمل النقض العرفي المسامحي الذي هو في الحقيقة من افراده الادعائية ( لوضوح ) أنه لا جامع بين النقض الحقيقى والادعائي ، كى يشمله عموم حرمة النقض ، فيحتاج حينئذ الى قيام دليل في البين يقتضي الحاق النقض الادعائي بالنقض الحقيقى ، والا فلا يشمل إلا ما كان نقضاً حقيقياً ( اللهم إلا ) أن يقال أن مقتضى الاطلاق اللفظي في النقض و إن كان هو الاختصاص بالنقض الحقيقي ( ولكن ) مقتضى الاطلاق المقامي شموله لما كان : فى الانظار العرفية ( وحينئذ ) فبعد سوق مثل هذه القضية على الانظار العرفية يستفاد مقتضى الاطلاق المقامي كون المدار على ما يكون نقضاً بالنظر العرفي ولو لم يكن نقضاً بمعناه الحقيقي ، ولا يعتنى بما يقتضيه الاطلاق اللفظي من الاختصاص بالنقض الحقيقي المستتبع الوحدة الحقيقة بين القضيتين ( لان ) تمامية هذا الاطلاق فرع عدم تمامية الاطلاق المقامي الذي من مقدماته غفلة العرف غالباً عن كثير من المصاديق الحقيقية ، وإلا فبعد تمامية الاطلاق المقامي من الخطاب المتوجه الى العرف يستكشف عن ان المدار التام على ما هو نقض بنظر العرف لا على النقض الحقيقي ( بل وبناء ) عليه يمكن دعوى عدم شمول مثل هذا الخطاب المتوجه الى العرف للنقض الدقي الذي لا يفهمه العرف كما هو ظاهر ( بل و لعل ) مثل هذه الجهة هو المنشأ أيضاً في مصيرهم الى كون المدار في بقاء الموضوع واتحاد القضيتين على الانظار العرفية ، بلا اعتناء منهم على صدق النقض عممناه الحقيقي والله العالم بالحال .

ص: 15

فى شرح الورود والحكومة والتخصص والتخصيص

( الامر الثاني )

يعتبر في الاستصحاب ان يكون ما احرز ثبوته مشكوك البقاء والارتفاع والا فلو احرز بقائه او ارتفاعه فلا استصحاب ووجهه ظاهر ( وهذا ) في الاحراز الوجداني واضح ( وانما الكلام ) في الاحراز التعبدي الحاصل مما أقامه الشارع مقام الاحراز الوجداني ، كالطرق والامارات المعتبرة ( ومنشأ ) الاشكال بقاء الشك الوجداني فى البقاء والارتفاع على حاله وعدم زواله بقيام الطرق والامارات على البقاء او الارتفاع ( ولكن ) مع ذلك لا اشكال بينهم في الاخذ بالطرق والامارات وعدم الاعتناء معها بالاستصحاب ( وان كان ) قد يظهر من بعضهم في بعض المسائل الفقهية اعمال المعارضة بينها أو الاشكال في تقديم الامارة عليه ( ويمكن ) أن يكون ذلك منهم للبناء على كون الاستصحاب من الامارات الظنية كما يشهد به استدلالهم للاستصحاب بكونه مفيدا للظن بالبقاء وحكم العقل بالاخذ بالراجح ( وإلا ) فبناء على اخذه من الاخبار وكونه من الاصول العملية كما عليه المحققون فلا اشكال في تقديم الامارة ولو على البقاء وعدم جريان الاستصحاب معها ( نعم ) انما الخلاف بينهم في وجه تقديم الامارة من كونه بمناط الورود او الحكومة او التخصيص .

( ولتحقيق ) الكلام في المقام لا بأس بالاشارة الاجمالية الى معنى الورود والحكومة وبيان الفارق بينها وبين التخصص والتخصيص ( فنقول ) : اما الورود فهو عبارة عن كون أحد الدليلين بجريانه رافعاً لموضوع دليل المورود وجدانا وحقيقة بحيث لولا جريانه لمكان المورود جارياً ، كما في الطرق والامارات المعتبرة بالنسبة الى الاصول العقلية ، كالبرائة والاحتياط والتخيير ( حيث ) ان الامارة بقيامها في مورد على الوجوب أو الحرمة مثلا تكون بياناً على الواقع ، فير تفع

ص: 16

اللابيان الذي هو موضوع البرائة العقلية ، كما انه يتحقق المؤمن عند قيامها على الاباحة فيرتفع احتمال الضرر والعقوبة الذي هو موضوع حكم العقل بالاحتياط ، ويرتفع به ايضاً التحير الذي هو موضوع حكمه بالتخيير ( نظير التخصص ) غير ان الميز بينها هو ان في التخصص يكون خروج المورد عن تحت دليل الآخر ذاتيا ، كما في خروج زيد الجاهل عن عموم اكرم العلماء ، بخلافه في الورود ، فان خروج المورد عن تحت دليل المورود عرضي ناشيء عن تصرف من الشارع بالتعبد بدليل الوارد ، بحيث لولا عناية التعبد بدليله لكان دليل المورود جاريا وشاملا للمورد ( ولذلك ) نفرق في الاصول العقلية تخصصاً وورودا بين الادلة القطعية والتعبدية بخروج المورد عن مجرى الاصول في الاول من باب التخصص وفي الثاني من باب الورود ( وأما الحكومة ) فهي عبارة عن كون أحد الدليلين متعرضا لحال مفاد دليل آخر ، اما بعناية التصرف في عقد وضعه توسعة او تضييقاً بإدخال ما يكون خارجاً عنه أو اخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله زيد عالم او ليس بعالم عقيب قوله اكرم العالم ( وأما ) في عقد حمله بكونه ناظرا ولو بدوا الى تعيين مفاده ، كقوله لا ضرر ولا ضرار ولا حرج في الدين بعد تشريع الاحكام ، أو قبله ( وبذلك ) يفترق الحاكم عن المخصص ، فان الحكومة بحسب النتيجة وان كانت تشارك التخصيص من حيث كون خروج المورد عن تحت دليل الآخر حكيا لا حقيقياً ، ( الا ان الفرق ) بينها هو ان في التخصيص يكون خروج المورد عن تحت العام بلا تصرف من المخصص في عقد وضع العام أو عقد حمله كما في قوله لا تكرم زيدا بعد قوله اكرم العلماء ، وفي الحكومة يكون ذلك بعناية تصرف من الحاكم في عقد وضع المحكوم ادخالا او اخراجا ، او في عقد حمله ( وربما ) يكون بينها الفرق من جهات اخرى يأتي تفصيله في مبحث التعادل والتراجيح .

( وبعد ما عرفت ذلك ) نقول ان التنزيل المستفاد ادلة الامارات ، اما من ان يكون ناظراً الى حيث تتميم الكشف واثبات العلم بالواقع ، واما أن يكون ناظرا الى المؤدى باثبات كونه هو الواقع ، بلا تكفله الحيث تتميم كشف الامارة

ص: 17

( فعلى الاول ) كما هو التحقيق يكون تقديم الامارة على الاصول التي منها الاستصحاب بمناط الحكومة لا غيرها ( اذهى ) بدليل تتميم كشفها تكون رافعة المشك الذي اخذ موضوعا في الاصول ، ومثبتة للمعرفة المأخوذة غاية في مثل دليل الحلية ودليل حرمة النقض ، وبهذا الاعتبار تكون ناظرة الى نفى الحكم المترتب على عدم انكشاف الواقع واستتاره ( ومعه ) لا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب من نقض اليقين بالشك ، بل كان من نقض اليقين باليقين

( من غير فرق ) في ذلك بين ان نقول برجوع التنزيل في مفاد لا تنقض الى المتيقن ولو بتوسط اليقين ، او الى نفس اليقين ، فانه على كل تقدير يكون تقديم الأمارة عليه بمناط الحكومة لا بمناط الورود ( اذ لا وجه ) حينئذ لدعوى ورودها عليه بعد بقاء الشك الوجداني على حاله الا باحد الامور ( اما دعوى ) كون المراد من اليقين الناقض مطلق اليقين الصالح للنا قضية عملا كي يشمل اليقين الوجداني والتعبدى ( او دعوى ) ان المراد منه خصوص اليقين الوجداني ولكن متعلقه اعم من الحكم الواقعي والظاهري ( واما دعوى ) كون المراد منه مطلق الحجة سواء كانت عقلية كالعلم او شرعية كالامارات ، وهكذا في العلم المأخوذ غاية في سائر الاصول ( فانه ) على كل واحد من هذه الوجوه تكون الامارة واردة على الاصول لكونها موجبة لخروج المورد حقيقة عن موضوع دليل الاصول ( ولكن ) الجميع كما ترى تخالف جدا ظواهر ادلة الاصول ( لوضوح ) ظهورها في ان الغاية فيها هي خصوص اليقين الوجداني المتعلق بخصوص الحكم الواقعي ، كظهورها في اختصاص الشك المأخوذ في موضوعها بالشك بالحكم الواقعي ، لا الشك بمطلق الحكم ( ومع هذا ) الظهور ، لا مجال لتوهم ورود الامارة عليها ، بل لا محيص من ان يكون تقديمها عليها بمناط الحكومة بالحكومة الظاهرية، لا الواقعية اذ عليه يكون كل من المعرفة والمتعلق في الاصول على ظاهره في الاختصاص بالمعرفة الوجدانية المتعلقة بخصوص الحكم الواقعي ( واما على الثاني ) الراجع الى كون التنزيل فيها راجعا الى المؤدي بالبناء على كونه هو الواقع بلا نظر الى تتميم كشفها واثبات الاحراز

ص: 18

التعبدي للواقع ( فلا مجال ) لتقريب حكومة الامارات على الاصول ( لوضوح ) عدم اقتضاء الامارة حينئذ لا ثبات الاحراز التعبدي للواقع و نفى الحكم المترتب على عدم انكشاف الواقع ( فان ) غاية ما يقتضيه دليل الامارة حينئذ انما هو مجرد تنزيل المؤدي منزلة الواقع والامر بالمعاملة معه معاملة الواقع ، ومثله غير مثبت للع_ المسلم بالواقع واو تعبدا کي به يتحقق مناظ حكومتها على ادلة الاصول ( وبذلك ) نقول ان ما افاده المحقق الخراساني قده من منع الحكومة على هذا المسلك الذي هو مختاره في غاية المتانة ، وان كان ما افاده حينئذ من تقريب الورود في غير محله كما بيناه ( وحينئذ ) فبعد انهدام اساس حكومة الامارات وورودها على ادلة الاصول، يتحقق التنافي لا محالة على هذا المسلك بين مفاد الامارات وبين مفاد الاصول ( حيث انه ) مع بقاء الشك الوجداني بالواقع على حاله وعدم ارتفاعه

بقيام الامارة لا وجدانا ولا تعبداً وتنزيلا ، يجري فيه الاستصحاب لا محالة ، ومعه لابد وان يكون تقديم الامارة عليه بمناط التخصيص ، لا بمناط الحكومة او الورود ( بل لازم ) هذا المسلك ايضاً عدم قيام الامارة مع مقام القطع المأخوذ جزء الموضوع او تمامه على وجه الطريقية ( لان ) ذلك من لوازم رجوع زيل فيها الى تتميم الكشف واثبات الاحراز التعبدي للواقع ( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو فساد اصل هذا المسلك ( فان التحقيق ) كما حققناه في محله هو المسلك الاول ، وعليه يكون تقديمها على الاصول التي منها الاستصحاب بمناط الحكومة ، كما انه عليه يصح قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي جزءاً او تماماً ( ثم ان ) ما ذكرناه من حكومة الامارات على الاصول انما هو بالنسبة الى الاصول الشرعية ، والا فبالنسبة الى الاصول العقلية ، كالبرائة والاحتياط والتخيير فتقديمها عليها لا يكون الا بمناط الورود كما اشرنا اليه ووجهه واضح .

ص: 19

في نسبة الاستصحاب مع مشكوك الاماريه اومع الاصول و وجه تقديمها عليه

( الامر الثالث )

قد ظهر من مطاوى ما ذكرنا الفرق بين الامارة والاصل ، وان الميزان في كون الشيء اصلا انما هو بعدم كون دليل اعتباره ناظراً الى تتميم كشفه وان كان فيه جهة كشف عن الواقع ، كما ان الميزان في كون الشيء امارة انما هو بكونه كاشفاً عن الواقع ولو بمرتبة ما مع كون دليل اعتباره ناظراً الى تتميم كشفه ( فكل ) ما اعتبره الشارع بلحاظ كشفه عن الواقع يكون امارة ( وكل ) مالم يعتبره الشارع من هذه الجهة ، اما بان لا يكون له كشف عن الواقع اصلا ، اوكان له ذلك ولكن لم يكن اعتباره من هذه الجهة يكون اصلا ، وان كان في نفسه مقدماً على بعض الاصول كالاستصحاب مثلا ( وعلى ذلك ) قد يتردد بعض الامور ، بين كونه اصلا ، او امارة ، بلحاظ خفاء وجه اعتباره في انه من حيث كشفه ، او من حيث نفسه تعبدا ، كما في اليد ، واصالة الصحة ، وقاعدتي الفراغ والتجاوز ونحوها ( ومن هنا ) وقع فيها البحث والخلاف في انها من الامارات او من الاصول والقواعد التعبدية ( وكذا ) في وجه تقديمها على الاستصحاب في انه بمناط الحكومة او التخصيص ، كوقوع الخلاف بينهم في وجه تقديم الاستصحاب على سائر الاصول ، وفي حكم معارضته مع القرعة ونحوها ( وتنقيح الكلام ) في هذه الجهات يحتاج الى التكلم في مقامات ( الأول ) في نسبة الاستصحاب مع ما يشك كونه من الامارات او الاصول ، كاليد واصالة الصحة ونحوها ( الثاني ) في معارضة الاستصحاب مع القرعة ونحوها ( الثالث ) في عدم معارضة سائر الاصول مع الاستصحاب ( الرابع ) في حكم تعارض الاستصحابين .

( اما المقام الاول ) فيقع الكلام فيه فى مسائل ( المسئلة الاولى ) في اليد فنقول لا اشكال في اعتبارها في الجملة ، وتقدمها على الاستصحاب والحكم لصاحبها

ص: 20

تقديم اليد على الاستصحاب وهل اليد امارة اواصل

بالملكية ( كما لا اشكال ) ايضاً فى عدم كونها من الامور التي ثبت اعتبارها بتأسيس من الشرع ، بل هي نما استقرت عليه طريقة العرف والعقلاء ، كما يرشدك الى ذلك التعليل الوارد في ذيل رواية حفص بن غياث بقوله ( علیه السلام ) ولو لم يجز هذا ما قام المسلمين سوق ( وانما الكلام ) فى انها من الامارات او من الاصول العملية ( فان ) مجرد بناء العرف والمقلاء على الاخذ بها وترتيب آثار ملكية ما في اليد لصاحبها لا يقتضى اماريتها ( لان ) العقلاء كما ان لهم أموراً يرجعون اليها لكونها كاشفة عن الواقع ، كذلك لهم امور يرجعون اليها عند استتار الواقع باعتبار كونها وظيفة عملية في ظرف الجهل بالواقع ( فيمكن ) ان يكون اعتبارهم اليد في الحكم بالملكية لصاحبها من جهة كونها من الاصول المتوقف عليها نظام معاملاتهم ، لا من جهة كونها من الامارات الكاشفة عن الواقع ( كما ان ) مجرد تقدم الاقرار والبينة عليها لا يقتضي اصليتها ، لا نه كثيرا يتقدم الامارات بعضها على بعض من جهة اقرائية كشفه ، فيمكن ان تكون اليد من الامارات الكاشفة عن الواقع ، ومع ذلك يقدم الاقرار والبينة عليها ( وبما ذكرنا ) ظهر انه لا مجال للتشبت بالاخبار الواردة في الباب لاثبات امارتيها ( لانها ) انما كانت واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء وبنائهم على ترتيب اثر الملكية على ما في اليد لصاحبها ، وهذا المقدار كما يناسب امارية اليد يناسب اصليتها ايضا ( ولكن ) الانصاف هو كونها من الامارات الكاشفة نوعا عن الواقع ( لان ) الظاهر من بناء العرف والعقلاء على الاخذ باليد انما هو لكشفها الناشيء عن غلبة ما في اليد لصاحبها بنحو موجب لركون النفس اليها ، لان الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكا لما في يده ، ( لا ان ) ذلك منهم المحض تعبدهم بها لاستقامة نظام معاملاتهم ، فان ذلك وان كان ممكنا في نفسه كما اشرنا اليه الا انه بعيد جدا ( وحينئذ ) فلا ينبغي الاشكال في كونها من الامارات العرفية العقلائية ، وفي تقدمها على الاستصحاب بمناط الحكومة ( نعم ) يبقى الكلام في ان اعتبار اليد في باب الاملاك ، هل هو بنحو الاطلاق ولو مع كونها معلوم العنوان من بدو حدوثها ككونها عادية او امانية او عدم كون المال

ص: 21

اقسام اليد واحكامها

بطبعه مما يقبل للنقل والا نتقال كالوقف مثلا ( اوان ) اعتبارها مخصوص بما كان اليد من الأول مجهول العنوان بحيث يحتمل انتقال المال الى ذي اليد من بدو حدوثها ( وعلى الاول ) فهل يجري الاستصحاب في عنوان اليد وعنوان المال و يقدم على اليد ام لا .

(وتحقيق ) المرام في المقام يستدعى بيان اقسام اليد والشقوق المتصورة فيها ( فنقول ) ان اليد على الشيء تارة يعلم عنوانها عند حدوثها من كونها عادية او امانية باجارة ونحوها الا أنه يحتمل انقلابها بقاء الى يد مالكية بشراء ونحوه ( واخرى ) لا يعلم عنوانها من بدو حدوثها بل يحتمل ملكية ما في اليد لصاحبها حين وضع اليد عليها ( وعلى الثاني ) فتارة تكون اليد على ما كان ملكا للغير واحتمل انتقاله اليه بناقل شرعى من بيع ونحوه ( واخرى ) تكون اليد على ما كان وقفاً قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله اليه باحد مجوزات بيع الوقف ( وثالثة ) لا يعلم ذلك بل يحتمل ملكية ما في اليد بالحيازة ( وعلى الاول ) فتارة يكون في قباله من يدعى ملكية المال من اجنبي ، او من ذي اليد السابق ( واخرى ) لا يكون في قباله من يدعى الملكية ( وعلى الأول ) فتارة يقيم المدعى البينة على دعواه ( واخرى ) لا يقيم البينة على دعواه ( وعلى الاخير ) فتارة يعترف ذو اليد بملكية ما في اليد للمدعى، واخرى لا يعترف بذلك ( فهذه ) صور متصورة فيها وينبغي افراد كل واحدة منها بالبحث .

( فنقول ) اما الصورة الاولى وهى ما اذا علم عنوان اليد وأنها حدثت على وجه الغصب او الامانة او الاجارة ، ثم احتمل انتقاله اليه بناقل شرعي ( فالظاهر ) عدم شمول دليل اعتبار اليد لمثلها ، لقوة دعوى اختصاص ادلة اليد بغير هذا الفرض ، بل يكفي في عدم حجيتها الشك في شمول دليل الاعتبار لمثلها ( لان ) عمدة الدليل على الحجية انما هى السيرة وبناء العقلاء وهى لكونها لبية لا اطلاق لها والقدر المتيقن منها ما عدا هذا الفرض ( واما الاخبار ) الواردة في الباب ، فقد عرفت ورودها في مقام تقرير سيرة العقلاء من الاخذ باليد وترتيب اثر الملكية

ص: 22

فيما اذا علم عنوان اليد وانها غصب ثم احتمل انتقاله اليه شرعاً

لصاحبها ، لا في مقام التأسيس ، كي يمكن الاخذ بإطلاقها لحجية مثل هذا اليد ( نعم ) لو اغمضنا ذلك وقلنا باماريتها واعتبارها مطلقا ( لا مجال ) لتقديم استصحاب ملكية المال للمالك او استصحاب حال اليد عليها ( بدعوى ) ان استصحاب حال اليد يمنع عن المارية اليد للمسكية لان اليد انما تكون امارة على الملك وتثبت الملكية الفعلية اذا لم تكن معنونه بعنوان الغصب او الامانة او الاجارة، والاستصحاب يثبت بمدلوله المطابقي تعنونها بالغصبية او الامانية، فلا يبقى معه مجال السكشف بها عن الملكية ( اذ فيه ) انه بعد فرض المارية اليد واحتمال انقلابها بقاء الى يد مالكية لا مجال لجريان الاستصحاب المزبور فضلا عن تقدمه عليها ، ( لان ) لازم امارية هذا اليد وشمول دليل الاعتبار لها ، هو كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما في اليد لصاحبها ، ولازم تطبيق يد المالكية عليها هو عدم كونها غصبية ولا امانية في الظاهر ، فيرتفع به موضوع الاصل من جهة حكومتها عليه ( كما هو الشأن ) في مطلق معارضة غير الامارات معها ( نعم ) انما يكون لمثل هذا الكلام مجال ، اذا كان الجهل بالعنوان في دليل الاعتبار مأخوذاً في موضوع اليد ، لا مأخوذاً فيها على نحو الموردية ( اذ بعد ) عدم اقتضاء اليد لرفع مثل هذا الجهل المأخوذ في موضوعها تكون الاستصحاب المزبور باثباته لعنوان اليد حاكما عليها ( ولكن ) ليس الامر كذلك بل الجهل فيها مأخوذ على نحو الموردية ، فيرتفع بدليل اعتبارها تعبدا ، وبذلك يرتفع موضوع الاستصحاب المزبور ( مع ان ) لازم ذلك هو كون اليد من الاصول ، لا من الامارات وهو مع انه خلاف التحقيق ، خلاف مختار القائل المزبور ايضاً ( وحينئذ ) فالالتزام بكون اليد من الامارات الملازم لاخذ الجهل بالعنوان فيها على نحو الموردية ، مع دعوى جريان الاستصحاب في عنوان اليد وحكومته على اليد لا يخلو عن تهافت واضح ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن حجية مثل هذه اليد ما ذكرناه من عدم مشموليتها من الاول لدليل الاعتبار ، لا انها تكون بنفسها مشمولة لدليل الاعتبار وان استصحاب عنوان اليد مانع عن حجيتها ( فعلى كل تقدير ) يكون الاستصحاب

ص: 23

المزبور اجنبياً عن مرحلة المانعية عن امارية اليد المزبورة وحجيتها ( لانها ) اما ان لا يشملها دليل الاعتبار من الأول ، واما ان يشملها ( فعلى الثاني ) لا يصلح الاستصحاب المزبور للمنع عن امارية اليد المزبورة وحجيتها ( وعلى الاول ) هى بنفسها غير مشمولة لدليل الاعتبار ولو لم يكن هناك استصحاب ( فالتمسك ) بالاستصحاب المزبور في هذه المرحلة اجنبي غير مفيد ( نعم ) في فرض عدم شمول دليل الاعتبار لليد المزبورة ، يثمر هذا الاستصحاب في مرحلة ضمان صاحب اليد ( حيث ) انه بعد عدم اقتضاء اصالة بقاء ملكية الغير للمال لاثبات الغصبية او الامانية لليد الا على المثبت ، يؤخذ باستصحاب عنوان غصبية اليد او امانيتها للحكم بالضمان وعدمه ( ولكن ) هذه الجهة غير مرتبطة بمقام مانعية الاصل عن امارية اليد كما هو ظاهر .

فيما اذا كان اليد على مالا يكون قابلاً للانتقال الا باحد المجوزات....

( ومن هذا البيان ) يظهر الحال فيما بنوا عليه من قبول السجلات وانتزاع المال من ذي اليد المدعى للملكية اذا كان في يد الطرف ورقة الاستيجار المعتبرة المثبتة لكون اليد على المال يدا اجارية ( حيث ان ) بنائهم على قبول السجلات وانتزاع المال من صاحب اليد ليس من جهة تقديم الاستصحاب المزبور على اليد ، بل انما هو من جهة عدم مشمولية اليد المعلوم حدوثها على مال الغير بعنوان الغصب او الامانة من الاول لدليل الاعتبار ( اذ حينئذ ) يكفي في انتزاع المال عن ي______ده مجرد استصحاب بقاء ملكية الغير للمال ، بلا احتياج الى استصحاب عنوان اليد الا في مقام الحكم بالضمان وعدمه .

( واما الصورة الثانية ) وهي ما اذا كان اليد على مالا يكون قابلا للمنقل والانتقال الاباحد المجوزات كالوقف ( فتارة ) يعلم كيفية حدوثها على المال وانها حدثت على ما كان وقفاً بعنوان الغصب او الاجارة واحتمل بعد ذلك طرو بعض مسوغات انتقاله الى ذي اليد ( واخرى ) لا يعلم ذلك بل يحتمل اقترانها حين حدوثها على المال ببعض المجوزات الموجبة لانتقالها اليه ، و بالجملة يحتمل حدوثها بعد بطلان الوقف وكونها يدا مالكية من بدو حدوثها ( فعلى الاول ) فالحكم

ص: 24

فيه كما تقدم حرفاً بحرف ( واما على الثاني ) فالذي يظهر من السيد الطباطبائي اليزدي قده في كتاب قضائه هو الحكم بإمارية مثل هذا اليد للملكية وعدم انتزاع المال من صاحبها وتسليمها الى ارباب الوقف ، ولعله اخذه من استاذه العلامة السيد محمد باقر الاصبهاني قده ، حيث اشتهر منه هذا الحكم في اصبهان .

( وقد اورد ) عليه بعض الاعلام على ما في التقرير بان اليد انما تكون حجة وامارة على الملك اذا كان المال بطبعه قابلا للنقل والانتقال الى ذى اليد ) والوقف ( لا يكون كذلك ( فان ) قابليته لذلك انما هو بعروض احد مسوغات البيع ، فلابد اولا من اجراز هذه الجهة كى في المرتبة التالية ينتهي الأمر الى امارية اليد للملكية ( ولا يكاد ) يحرز القابلية المزبورة بالمارية اليد ، لان غاية ما تقتضيه اليد انما هو ملكية المال الذى اليد وانتقاله اليه باحد اسباب النقل ، واما اقتضائها لقابلية المال للنقل والانتقال فلا ( لان ) مثل هذه الجهة انما تكون من قبيل الموضوع بالنسبة الى الجهة التي تقتضيه اليد من الملكية ، بلحاظ ان امارية اليد للملكية انما هي في موضوع قابل للنقل والانتقال ( فكان ) مثل هذه الجهة من القابلية مأخوذة في موضوع اليد ، لا انها من قبيل اللوازم والملزومات كى يقال ان الامارة على اللازم امارة على الملزوم وبالعكس ( وحينئذ ) فمع الشك في قابلية المال للنقل والانتقال للشك في طرو مجوزات النقل عليه ، وعدم امکان احراز هذه القابلية بنفس اليد ، تجري اصالة عدم طرو مسوغات النقل عليه وبذاك تسقط اليد عن الحجية ، فيحكم بعدم الملكية لاقتضاء الاستصحاب المزبور ارتفاع موضوع اليد ( اقول ) ولا يخفى ان اناطة اليد في اعتبارها واماريتها ، اما ان تكون بالقابلية الواقعية ، واما ان تكون بعدم العلم بعدم القابلية ، وكفاية الشك فيها في اعتبارها واماريتها ( وذلك ) ايضا تارة باناطة عقلية ، واخرى شرعية ( فعلى الاول ) لا شبهة في انه بمجرد الشك في القابلية تسقط اليد عن الحجية ( لاقتضاء ) الشك في الشرط الذي هو القابلية، الشك في المشروط ( ومعه ) لا يحتاج الى الاستصحاب المزبور وتحكيمه على اليد ، لوضوح انه مع الشك في القابلية المزبورة تسقط اليد بنفسها

ص: 25

عن الحجية والامارية ولو لم يكن هناك استصحاب ، لا انها كانت حجة وبالاستصحاب تسقط عن الحجية ( فتحكيم الاستصحاب ) حينئذ على اليد واسقاطها به عن الحجية ممالا وجه له ( واما على الثاني) وهو اناطة الحجية بالشك وعدم العلم بعدم القابلية ( فان كانت ) الاناطة عقلية فلا مانع عن الأخذ باليد والحكم بالملكية الشك المزبور ( واستصحاب ) عدم القابلية وعدم طرو مجوزات النقل والانتقال ، غير مثمر في المقام بعد عدم اقتضائه لنفي الشك في القابلية ، وعدم كونه ناظرا الى الآثار المقلية من نفي ما هو شرط حجية اليد واماريتها على ملكية ما في اليد ( بل اليد المزبورة ) حينئذ بمقتضى دليل اعتبارها ترفع الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب فتكون حاكمة عليه ( وان كانت ) الاناطة شرعية ( فإن قلنا ) في مفاد لا تنقض بان التنزيل فيه راجع الى المتيقن بلحاظ اليقين مرآتا او طريقا الى المتيقن ، فلا ثمرة ايضا للاستصحاب في اسقاط اليد عن الحجية ، بلحاظ عدم اقتضائه لرفع الشك عن القابلية المزبورة ( لوضوح ) ان مثل هذه الجهة مخصوص بالامارات دون الاصول، فيجري حينئذ دليل اليدو يقتفى الحكم بملكية ما في اليد لصاحبها ( نعم ) غابة ما يقتضيه الاستصحاب المزبور حينئذ وقوع المعارضة بينه وبين اليد ( فانه ) بعد عدم اقتضاء اليد حسب اناطة حجيتها شرعاً بالشك في القابلية ، لرفع هذا الشك الذي انيط به حجيتها ، يجري الاستصحاب ، فيتحقق بينها المعارضة ( وان قلنا ) برجوع التنزيل فيه الى نفس اليقين والامر بالمعاملة مع اليقين السابق معاملة الباقي ، يكون الاستصحاب حاكما على اليد ( من جهة ) كونه بالعناية مثبتاً للمعلم بعدم قابلية المال المنقل والانتقال فيرتفع به ما هو شرط حجية اليد واماريتها .

( فتلخص ) ان الاستصحاب اما ان لا يحتاج اليه اصلا ، كما في فرض اناطة اليد في حجيتها بالقابلية الواقعية ، فان مجرد الشك في القابلية كاف في سقوط اليد عن الحجية بلا احتياج الى الاستصحاب ( واما ) ان لا يجري لحكومة اليد عليه

ص: 26

كما في فرض اناطة الحجية فيها عقلا بالشك في القابلية ، فانه من جهة موردية الشك للامارة تجري اليد وبجريانها يرتفع الشك الذي هو مأخوذ في الاستصحاب ( واما ) ان يجرى ويعارض اليد ، كما في فرض اناطة اليد في حجتها شرعا بالشك في القابلية وعدم العلم بها بعد البناء على رجوع التنزيل في مفاد لا تنقض الى المتيقن ( نعم ) ، على المختار من رجوع التنزيل فيه الى نفس اليقين يجري الاستصحاب في هذا الفرض فيوجب سقوط اليد عن الحجية بمناط الحكومة وذلك بناء على امكان امارية الشيء بالنسبة الى الملزوم دون اللازم او بالعكس ، وإلا فعلى فرض عدم التفكيك بينها في امارية الشيء لا محيص من المعارصة بين اليد والاصل المزبور ( لان ) كل واحد يرفع موضوع الآخر ( وبعد ) انتهاء الامر الى ذلك ، امكن دعوى تعين الأخير ( لانه ) القدر المتيقن من دليل حجية اليد، كما هو الشأن في كل مورد دار الامر في الشيء بين المطلق والمقيد مع لبية دليله ، حيث ان المتيقن منه هو المعنى المضيق دون الموسع ( وعليها )فيندفع احتمال عدم اناطة حجية اليد بشيء اصلا ، أو اناطتها بالشك في القابلية باناظة عقلية المستلزمة الجريان دليل اليد ولو مع قيام الاستصحاب على الخلاف ( واما ) احتمال كون المنوط به هو القابلية الواقعية المستتبعة لسقوط اليد بنفسها عن الحجية بصرف الشك في القابلية فبعيد جدا ، لاقتضائه الفاء اليد في كثير من الموارد التي يرجع الشك فيها الى الشك في قابلية المحل الملكية والنقل والانتقال ( وهو ) كما ترى ينا في التعليل المذكور في الرواية عمانه لو لم يجز هذا لم يبق للمسلمين سوق الظاهر في التوسعة والتسهيل فى ذلك حفظا لنظام المعاملات وعدم اختلال السوق وتعطيله فتدبر .

فيما يكون اليد على ما يقبل الانتقال واحتمل انتقال المال الى صاحب اليدمن بدوحدوثها

( واما الصورة الثالثة ) وهي ما تكون اليد على ما يقبل النقل والانتقال بطبعه واحتمل انتقال المال الى صاحب اليد من بد وحدوثها ( فهي ) على اقسام ( منها ) ما اذا لم يكن في مقابل ذى اليد من يدعى ملكية المال ، ولم يكن اعتراف من ذى اليد ايضا على خلاف ما تقتضيه اليد ، ولا قيام البينة على ملكية ، ما في اليد للغير ( ولا اشكال ) فى الاخذ باليد في هذا القسم ووجوب ترتيب آثار الملكية لذى اليد .

ص: 27

غير فرق في ذلك بين ان تكون مسبوقة بيد اخرى محترمة اولا ( فانه ) على كل تقدير يعامل مع ذى اليد الفعلى معاملة المالك لما في يده ، ولا يعتني باستصحاب بقاء المال على ملك المالك الاول ، لحكومة اليد على الاستصحاب المزبور ( وكذا الحال ) فيما اذا اقر ذو اليد او قامت البينة على الملكية السابقة لشخص آخر ( فانه ) مع عدم من يدعى الملكية لا اثر لاقراره ولا لقيام البيئة المزبورة ، اذ لا يزيد ذلك عن العلم بملكية المال سابقا لغير ذي اليد ، فلا ينتزع المال من يده .

( ومنها ) ما اذا كان في مقابل ذي اليد من يدعى ملكية المال ( فان ) لم تثبت ملكية المال للمدعي ، ببينة ونحوها فلا اشكال في استقرار المال في يده ايضا و عدم انتزاعه منه وتسليمه الى المدعي ( وان ثبت ) كون المال ملكا للمدعي ( فان كان ) الثابت هو الملكية الفعلية ببينة ، أو اقرار من ذي اليد ، او بعلم الحاكم ، فلا اشكال في انه ينتزع منه المال ويسلم الى المدعي ، على اشكال في الاخير ينشأ من جواز حكم الحاكم بعامه ( واما ان كان ) الثابت هو الملكية السابقة قبل استيلاء ذي اليد على المال ، ( فتارة ) يكون ثبوت ذلك بعلم الحاكم ( واخرى ) يكون بالبينة ، ( وثالثة ) باقرار من ذى اليد بالملكية السابقة للمدعي .

( فعلى الاول ) لا اشكال في عدم انتزاع المال عن ذي اليد ، لانه لا اثر لعلم لحاكم بان المال سابقاً كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه بعد احتمال انتقاله اليه بناقل شرعى ( واستصحاب ) بقاء المال على ملك المدعي، قد عرفت كونه محكوما باليد التي هي امارة على الملكية الفعلية لذي اليد .

( وعلى الثاني ) فالمحكى عن بعض انه ينتزع المال عن ذى اليد بقيام البيئة على الملكية السابقة للمدعي الا أن يقيم ذو اليد البينة على انتقال المال اليه ( وحكى ) عن آخر انتزاعه عن يده اذا ضم الشاهدان الى شهادتها بالملكية السابقة عدم العلم بالانتقال الى ذي اليد ( ولكن الأقوى ) عدم انتزاع المال عن ذى اليد مطلقا ( لوضوح ) ان البينة على الملكية السابقة لا تزيد حكمها عن علم الحاكم بذلك مع احتمال انتقال المال الى

ص: 28

ذي اليد بناقل شرعي ( اذاقصى ) ما يلزم في المقام هو التشبث باستصحاب بقاء الملكية السابقة للمدعي ، ( وهو ايضاً ) محكوم باليد التي هي امارة على الملكية الفعلية لذي اليد ( وبذلك ) ظهر انه لا أثر لضم الشاهد عدم العلم بالمزيل بشهادته في انتزاع المال عن ذي اليد في مقابل اليد الفعلية ( نعم ) انما ينتزع المال عن يده اذا شهدا بالملكية الفعلية للمدعى ولو بمقتضى استصحابها الملكية السابقة عملا بالبينة وعدم تعطيلها في الدعاوي ( وتوهم ) عدم جواز ذلك لكونه من التدليس في الشهادة واعمالا منهما للاستصحاب في مورد لا يجوز اعماله ، لكونه محكوما باليد التى تكون حجة على الملكية الفعلية حتى بالنسبة الى الشاهدين ( مدفوع ) بانه كذلك لو لا علم الشاهدين بعنوان اليد من الاول الموجب لعدم حجية اليد عندهما ( والا ) مع علمها بعنوان اليد من الاول لا محذور في الشهادة بالملكية الفعلية استناداً الى استصحاب عنوان اليد وبقاء الملكية السابقة ( خصوصا ) مع ندرة علم البنية في الاملاك بالملكية الفعلية الجزمية لذى اليد السابق ( فان الغالب ) فيها عدم علم الشاهدين بذلك ولو بضم علمها بعنوان اليد من الاول واحتمال انتقال المال الى ذي اليد الفعلى بناقل شرعي ( اذ حينئذ ) مقتضى عدم تعطيل بينة المدعى في الاملاك في الموارد الغالبة ، لابد من الالتزام بانتزاع المال عن ذى اليد اللاحقة بمقتضى البيئة على الملكية الفعلية لذى اليد السابقة .

( واما على الثالث ) وهو ما اذا اقر ذو اليد بالملكية السابقة للمدعي ( فتارة ) لا ينضم الى اقراره دعوى انتقال المال اليه ( واخرى ) ينضم الى اقراره ذلك ( فعلى الاول ) قد يقال انه باقراره ينتزع عنه المال ويسلم الى المدعى ( لان ) اقراره مكذب لدعواه الملكية الفعلية ( فانه ) لا يمكن خروج المال عن ملك من كان مالكا له ودخوله الى ملك ذي اليد بلا سبب ، فدعواه الملكية الفعلية تكون مناقضة لاقراره ، ومقتضى الاخذ باقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه الا بالبينة ( وفيه ) ان مجرد اقراره بالملكية السابقة للمدعى لا يقتضي تكذيب نفسه في دعواه الملكية الفعلية وبطلان يده فى الكاشفية عن الملكية الفعلية ( إذ لا تنافي ) بين

ص: 29

اقراره با الملكية السابقة للمدعى ، وبين امارية يده على الملكية الفعلية بعد احتمال انتقال المال اليه حين وضع اليد عليه بناقل شرعي، كي يستبعد بانه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان مالكا له بلا سبب ( و مجرد ) عدم ضم دعوى الانتقال الى اقراره لا يقتضي تكذيب دعواه في الملكية الفعلية ( وانما ) المكذب لها هو دعوى عدم الانتقال اليه ، لا عدم دعوى الانتقال ( وحينئذ ) فبعد احتمال انتقال المال اليه واقعاً ، وعدم التنافي بين اقراره وبين ما تقتضيه اليد من الملكية الفعلية ( لاوجه ) لانتزاع المال عن يده وتسليمه الى المدعى.

( وعلى الثاني ) وهو ضم دعوى انتقال المال اليه من المدعى ، فالمشهور ان__ه ينقلب ذو اليد في دعواه الى كونه مدعيا والمدعى منكرا ، وهل تخرج اليد بذلك عن الامارية على الملكية الفعلية فينتزع المال من يده ويسلم الى المدعى اولا ( فيه وجهان ) المشهور الأول ، والمحكى عن جماعة منهم المحقق الخراساني ( قده ) ، الثاني ، حيث افاد بان مجرد عدم آمارية اليد بالنسبة الى مصب الدعوى الثانية وهو الانتقال اليه بشراء ونحوه لا يوجب خروجها عن الامارية رأسا حتى بالنسبة الى اصل الملكية الفعلية بل يبقى ذو اليد على حجته في استمساك المال في يده ، لان غاية ما تقتضيه اصالة عدم الانتقال هو جعل مدعيه مدعيا لكونه على خلاف الاصل الجاري في المسئلة ، واما اقتضائها الاسقاط حكم اليد من الامارية لاصل الملكية الفعلية ، فينتزع عنه المال ، فلا ( بل هي محكومة ) من هذه الجهة باليد لبقائها على اماريتها بالنسبة الى صرف الملكية وان لم تثبت الانتقال ( وحينئذ ) فانتزاع المال من ذي اليد يحتاج الى دليل آخر يقتضى لغوية اليد وسقوطها عن الامارية باقترانها بدعوى الانتقال ( ولكن ) فيه ان تسليم الانقلاب في المقام كما هو المشهور لا يكون الالحجية اصالة عدم الانتقال اذ لولا حجية الاصل المزبور لما كان مجال لجعل مخالفه مدعياً ( ومن المعلوم ) ان لازم البناء على حجية الاصل المزبور في مقابل اليد المزبورة هو سقوط اليد عن الامارية بالنسبة الى الملكية الصرفة ( لان ) معنى حجية الاصل في المقام هو ترتيب اثر بقاء المال على ملك المدعى وعدم انتقاله منه الى ذي اليد ، والا فلا معني لحجيته واقتضائه

ص: 30

لكون مخالفه مدعيا ( فتسليم ) حجبة هذا الاصل حينئذ واقتضائه للانقلاب المزبور ، يلازم سقوط اليد عن الامارية ، فيترتب عليه انتزاع المال من يده وتسليمه الى المدعى عملا باصالة عدم الانتقال ( ومرجع ) ذلك الى ملازمة حجية الاصل المزبور مع سقوط اليد عن الحجية بالنسبة الى الملكية الفعلية ، لعدم امكان الجمع بينها في الحجية ( وبذلك ) يفترق هذا الفرض المقرون بدعوى الانتقال عن الفرض السابق ، فان بنائهم على الانقلاب في هذا الفرض يستدعى حجية اصالة عدم الانتقال ( ومثله ) يلازم ارتفاع حكم اليد ، بخلاف الفرض السابق ، فانه من جهة عدم اقتران الاصل فيه بدعوى الانتقال تبقى اليد على حجتها بالنسبة الى الملكية الفعلية ، ولازم حجتها عدم جريان الاصل المزبور لانتفاء الشك في اثره بمقتضى حكومة اليد عليه ( الا ) اذا فرض هناك اجماع ايضا على الانقلاب وتقديم قول المدعى على ق___ول ذي اليد فيمقام تشخيص المدعى والمنكر ( ولكن ) عهدة اثباته على مدعيه ، او يقال ان الاقرار بالملكية السابقة للمدعى اقرار له باليد الفعلية ، فينتزع منه المال وهو ايضا كما ترى ( هذا اذا كان ) الاقرار بالملكية السابقة للمدعى.

( واما اذا ) كان الاقرار بالملكية السابقة لمورثه فحكمه حكم الاقرار للمدعى في انه بانضمام دعوى الانتقال من المورث ينقلب الى كونه مدعيا ، فينتزع المال من يده ، لا بدونه ( وذلك ) لا من جهة توهم ان الاقرار بالملكية السابقة لمن يرته المدعى اقرار من ذي اليد لوارث المدعى ، بخيال ان الوارث بقيامه مقام مورثه يصير طرفا لاضافة الملكية القاعة بالمالك والمملوك ، وبذلك يكون الاقرار بالملكية للمورث اقرارا بها للوارث ( لوضوح ) ان مجرد الاقرار بالملكية للمورث في زمان لا يكون اقرارا للوارث فعلا، خصوصا مع طولية ملكيته المال لملكية مورثه له ( بل انما ) هو من جهة اصالة بقاء المال على ملك المورث وعدم انتقاله منه الى حين موته المبتني حجتها على عدم حجية اليد من الخارج ولو للاجماع ( هذا ) اذا كان الاقرار الملكية السابقة مع دعوى الانتقال اليه من المدعى او من مورثه.

( واما اذا ) كان الاقرار بالملكية للموسي مع كون المدعى هو الوصي او

ص: 31

فى اقرار ذى اليد الملكية السابقة للموصى

او الموصى له ، ففي كونه كالاقرار للمدعى او المورثه فينتزع المال من يده الاباثبات الانتقال ببيئة ونحوها ، اشكال ( اقواه العدم ) ( وذلك ) لا لما افيد من ان الاقرار بالملكية للموصى كالاقرار بها الثالث اجنبي عن المدعي ، ( لا كالاقرار ) بها لمورث المدعى ( بتقريب ) ان الموصى اجنبي عن الموصي له فلا يجديه اقراره بان المال كان ملكا للموصي وانتقل منه اليه ، فليس له ولا للوصي او الولى انتزاع المال من ذي اليد بدعوى نه اوصى به اليه به اليه ( بخلاف ) الوارث فانه يجديه الاقرار بان المال كان لمورثه ، لانه بقيامه مقام مورثه يصير طرفا لاضافة الملكية القائمة بين المورث والمال بلا تبدل في اصل اضافة الملكية ، فيكون الاقرار للمورث اقراراً للوارث بنفس الملكية السابقة نظراً الى بقاء الملكية السابقة بحالها ، غير انه تبدل احد طرفيها في قبال المعاوضات التي منها الوصية التمليكية ، فان المتبدل فيها اصل الاضافة الملكية ، حيث تنعدم شخص الاضافة الاولى القائمة بين المملوك و المالك الأول ، وتحدث اضافة اخرى بين المالك الثاني والمملوك ( اذ فيه ) بعد الاغماض عن امتناع بقاء شخص الاضافة الخاصة المتقومة بطرفيها الخاص بانعدام احد طرفيها ( انه ) لا وجه لقياس الاعتراف للموصى بالاعتراف لثالث اجنبي ( الوضوح ) ان الاعتراف لثالث اجنبي عن المدعى ولو بالملكية الفعلية غير مجد للمدعى ( بخلاف ) الاعتراف بالملكية السابقة للموصى والانتقال منه ، فانه يجدى الموصى له والوصى ويجديها ايضاً اصالة عدم الانتقال منه الى ذي اليدالى حين موته بعين ما يجدى للوارث ( ومع هذا الفرق ) كيف يصح قياس الاعتراف للموصى بالاعتراف لثالث اجنبي عن المدعى كما هو ظاهر ( بل العمدة ) فى المنع عن انقلاب ذي اليد الى كونه مدعياً في مفروض البحث هو التشبث بقاعدة اليد وعموم اماريتها و تقدمها على اصالة عدم . الانتقال الا في خصوص دعوى الانتقال من المدعى او من مورثه ( وذلك ) ايضاً مقتضى الاجماع على الاخذ بالاصل فيها الملازم لسقوط حكم اليد من الخارج ، ( والا ) فلولا الاجماع المزبور لكانت اليد مقتضيه للاخذبها حتى مع الاعتراف بالملكية السابقة للمدعى والانتقال منه الى ذي اليد لحكومتها على الاصل المزبور ( وحينئذ ) فحيث انه لا اطلاق للاجماع يشمل مورد البحث لكونها لبيا ، فالقدر المتيقن منه ما عدى هذه الصورة ، ولازمه الاخذ

ص: 32

بعموم اليد وتقدمها على اصالة عدم الانتقال حتى في مقام تشخيص المدعى والمنكر ( وبذلك ) يندفع ماقد يتشبت به الخصم لتصحيح مطالبة الاول بالبينة من الصديقة عليها السلام في اعترافها بكون الفدك نحلة اليها من رسول الله (ص) ، وانتزاعه الفدك من يدها للحديث المجعول عليه ( صلی الله علیه و آله وسلم ) نحن الانبياء لا نورث الخ من دعوى ان فاطمة سلام الله عليها صارت مدعية فى دعوى انتقال الفدك اليها من رسول الله (ص) نحلة فلذلك طالبها الاول بالبينة وانتزع الفدك من يدها للحديث المجعول ، بان ما كان لرسول الله (ص) في حيونه يكون فيئاً للحسين بعد وفاته ( وجه الاندفاع ) ماذكرناه من اطلاق اليد وعموم اماريتها و تقدمها على اصالة عدم الانتقال حتى في مقام تشخيص المدعى والمنكر ، الا في خصوص دعوى الانتقال من المدعى او من مورثه ، وذلك ايضا مقتضى الاجماع على الانقلاب فيها ، لا لقصور اليد عن الشمول المورد الاقتران بدعوى الانتقال ، كما يشهد له ما في خبر الاحتجاج من محاجة علي (ع) مع الاول حينما سئل عن الزهراء عليها السلام البيئة ( وعليه ) فلا يغنيهم الحديث المجعول ولا يصحح ماصنعوا مع فاطمة ( علیه السلام ) من مطالبة البيئة منها وانتزاع الفدك من يدها ( علیه السلام ) مع ان انتزاع الفدك منها كان قبل دعويها النحلة ، فانه بعد ما استقام له الامر جمع المهاجرين والانصار وبعث الى فدك من اخرج وكيل فاطمة منها ، وبعد ذلك جائت فاطمة سلام الله عليها فوقع بينها وبين الاول من الاحتجاجات وكذا بين علي ( علیه السلام ) وبينه بما اتضح وبان مخالفتهم للكتاب والسنة ( ومع ذلك ) فقد جائت بالشهود ، ولكنهم غضوا طرفهم عنها وعاندوا الحق فلم يقبلوا شهودها حتى جاوزوا الحد معها واسلوا الادب اليها بما يقرح القلوب ويفتت الأكباد ولنعم الحكم الله .

هل يختص اعتبار اليد بالنسبة الى غير صاحبها او يعم حتى بالنسبة الى ذى اليد نفسه

( بقى امور )

( الاول ) هل يختص اعتبار اليد واماريتها بالنسبة الى غير صاحبها ، أو يعم حتى بالنسبة الى ذي اليد نفسه ( فلوشك ) في ان ما بيده ملك له او لغيره يحكم بانه له ( فيه وجهان )

ص: 33

اقوها الثانى لعموم امارية اليد في اختصاص ما في اليد لصاحبها ، فيجوز له التصرف فيما بيده و تحت استيلائه تصرف الملاك في املاكهم ( ويدل ) عليه مضافا الى السيرة عموم التعليل في خبر حفص بن غياث باختلال السوق ونظام المعاملات الشامل لمثل الفرض ( مؤيداً ذلك ) في ذيل صحيحة جميل بن صالح عن الصادق ( علیه السلام ) قلت : فرجل وجد في صندوقه ديناراً ، قال ( علیه السلام ) : يدخل احد يده في صندوقه غيره او يضع فيه شيئاً قلت : لا قال ( علیه السلام ) : فهو له ، حيث يستفاد من حكمه ( علیه السلام ) بان ما في

الصندوق له مع كونه شاكاً فيه ، عموم اعتبار اليد حتى بالنسبة الى صاحبها .

( الثاني ) اذا قامت البيئة على عدم مالكية انسان لما في يده ، او اقر ذو اليد بذلك فهل تسقط اليد عن الاعتبار رأساً حتى بالنسبة إلى سائر الاختصاصات ، فينتزع المال من يده ، او ان سقوطها عن الاعتبار ممحض من جهة خصوص الاختصاص الملكي ( فيه وجهان ) اقوهما الثاني ، لعموم المارية اليد لجميع مراتب الاختصاص التي اعلاها الاختصاص الملكي، فبالاقرار او البنية على نفي الملكية ترفع اليد عن ظهورها في الاختصاص الملكي به ، ويؤخذ بظهورها في بقية مراتب الاختصاص ونفيها عن غيره ، نظير حجية العام المخصص في الباقى ، فاذا ادعى اختصاصه بما في يده من الجهات الاخر من اجارة او عارية او وكالة من صاحب المال ونحو ذلك تسمع منه الدعوى حتى في مقام تشخيص المدعي والمنكر اخذا بامارية يده في نحو تلك الاختصاصات.

هل اليد تكون امارة على الطهارة والتذكيه

( الثالث ) هل اليد كما تكون امارة على ملكية ما في اليد لصاحبها ، تكون امارة ايضا على سائر اضافاته كالطهارة والنجاسة والتذكية ونحوها ، فيحكم على ما في يد المسلم بالطهارة والتذكية اذا كان من الجلود ولو مع عدم احراز معاملة ذي اليد المسلم معه معاملة الطاهر والمذكى ، بان كنانخن ونفس اليد بما هى مع قطع النظر عن اقترانها باخبار ذى اليد بطهارته او نجاسته او تذكيته ، او اقترانها بتصرفه فيه على الوجه الممنوع كونه في الميته ( فيه اشكال ) وان كان الظاهر من بعض كلماتهم كبعض النصوص اعتبارها في الحكم بالتذكية ، كالسوق ( بل قد ) يقال ان الظاهر المستفاد من

ص: 34

نصوص اعتبار السوق واماريته كونه من جهة غلبة يد المسلمين ، كقوله ( علیه السلام ) اذا كان الغالب عليها المسلمون الخ، فيكون اعتباره لكونه امارة على اليد التي هي الامارة على التذكية ، لا لكونه بنفسه امارة عليها في مقابل اليد ( ولكن ) في الاستفادة المزبورة نظر ، فان الظاهر من نصوص السوق كونه بنفسه امارة على التذكية ، كما ان القدر المستفاد من نصوص الباب بعد حمل مطلقاتها على مقيدانها انما هو الحكم بتذكية ما في يد المسلم من اللحوم والجلود في صورة اقتران اليد بالتصرف فيه على الوجه الممنوع كونه في الميتة ، لا مطلقاً ولو مع عدم اقترانها بما لا يليق صدوره من المسلم ( ولقد ) اجاد صاحب الجواهر فيما افاد في المقام بقوله : ان المراد بيد المسلم التصرف فيه على الوجه الممنوع في الميتة او اتخاذه لذلك ، وهل يكفي في الثاني مجرد كونه في يده وان احتمل انه يريد الالقاء مثلا اشكال ، اقواء العدم لاصالة عدم التذكية والشك في انقطاعها بذلك ، اذ ليس ما نحن فيه بعد التأمل في النصوص والفتاوى الا من جزئيات اصالة الصحة في فعل المسلم الخ ( الا ) ان يدعي استقرار السيرة المتشرعة على الحكم بتذكية ما في يد المسلم من الجلود واللحوم ولو مع تجردها عن التصرفات الممنوع كونها في الميئة ( ولكن ) الاشكال في اثبات ذلك ( نعم ) لو اخبر المسلم بتذكية ما في يده من الجلود واللحوم يسمع منه ذلك ، كما يسمع منه اخباره بطهارة ما في يده او نجاسته ( ولكن ) ذلك من جهة قوله ، لا من جهة يده.

هل يقدم قاعدة التجاوز والفراغ على الاستصحاب بمناط الحكومة او التخصيص

( المسألة الثانية )

في قاعدة التجاوز والفراغ ، ولا اشكال في تقدمها على الاستصحاب ( وأنما الكلام ) في مقامين : ( الاول ) في وجه تقدمها على الاستصحاب من انه بمناط الحكومة او التخصيص ( الثاني ) في انهما قاعدة واحدة وان الكبرى المجعولة في احديهما عين الكبرى المجعولة في الاخرى ، او انها قاعدتان مستقلتان وان الكبرى المجمولة

ص: 35

في احديهما غير الكبرى المجعولة في الاخرى ( اما المقام الاول ) فقد يقال ان الوجه في تقدمهما على الاستصحاب كونه بمناط الحكومة، بدعوى انهما الامارات الكاشفة

فى تقريب حكومة القاعدتين على الاستصحاب

من عن الواقع ، كاليد والسوق ونحوهما ( لان الغالب ) عند تعلق الارادة بالفعل المركب من الاجزاء الجرى على وفق الارادة باتيان كل جزء من اجزائه وشرائطه في محالها بحسب القصد الاجمالى المتحقق في اول الشروع في المركب وان لم يلتفت تفصيلا الي الجزء في محله عند الاتيان به ولم يتعلق القصد به كذلك ، وان الشارع قد اعتبر هذه الغلبة بما في بعض نصوص الباب من التعليل بقوله هو حين يتوضأ اذكر ( فاذا ) كانت القاعدة من الامارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه في الخارج ، تكون حاكمة على اصالة عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ( وفيه ) ان الغلبة وان كانت مسلمة ، لكن مجرد ذلك لا يقتضي صيرورتها من الامارات ما لم يحرز اعتبار الشارع اياها من جهة تتميم كشفها ( واستفادة ) ذلك من اخبار الباب ممنوعة ( بل المستفاد ) من الاخبار المأخوذ في موضوعها الشك خلاف ذلك ( فان ) قوله ( علیه السلام ) اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، وقوله ( علیه السلام ) كل شيء شك فيه وقد جاوزه فليمض عليه ، وكذا الاخبار الاخر ، تنادي بالغاء جهة الكشف المزبور لظهورها ، في عدم جعل الشك الموجود مانعاً عن المضي في العمل ، لا في الغاء الشك وتتميم كشفها ( وبذلك ) تكون الاخبار ظاهرة في كون القاعدة من الاصول العملية المضروبة في ظرف الشك ، لامن الامارات ، الكاشفة عن الواقع ( فماورد ) من التعليل بالاذكرية في بعض النصوص حينئذ محمول على بيان حكمة الجعل والتشريع ، بقرينة ماعرفت من الاخبار الظاهرة في كونها في مقام التعبد بوجود المشكوك فيه او صحته في ظرف الشك ، لمكان اظهرية تلك النصوص في اصلية القاعدة من التعليل بالا ذكرية في اماريتها ( ولا اقل ) من تصادم الظهورين ، فيجري حكم الاصلية عليها ( ومعه ) لا مجال لتقديمها على الاستصحاب بمناط الحكومة ( واما توهم ) حكومتها على الاستصحاب ولو على الاصلية ، بدعوى مسببية الشك في بقاء الحالة السابقة في الاستصحاب

ص: 36

في انّ قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة اوقاعدتان مستقلتان

عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، ومؤدى القاعدة بعد ان كان هو البناء على حدوث ما يكون رافعاً للحالة السابقة ، رافعة لموضوعالاستصحاب ( فمدفوع ) بمنع السببية والمسببية بينها ( كيف ) وان بقاء عدم الشيء مع حدوث وجوده الطارد لبقاء عدمه من النقيضين المحفوظين في مرتبة واحدة . ومعه اين يمكن دعوى السببية والمسببية بينها حتى تكون القاعدة حاكمة على الاستصحاب ورافعه الموضوعه ( فالاولى ) حينئذ في وجه الحكومة ان يقال ان القاعدة لما كانت ناظرة الى نفى الشك وانه ليس بشيء في المنع عن الجري العملي على وفق احتمال الوجود في الاستصحاب تقتضى رفع الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، فتكون حاكمة عليه بخلاف الاستصحاب اذهو لم يكن ناظرا الا الى اثبات المتيقن او اليقين في ظرف الشك بلا نظر منه إلى نفي الشك فتكون القاعدة من هذه الجهة نظير ادلة النافية للشك في كثير الشك ، و لشك كل من الامام والمأموم مع حفظ الآخر، بالنسبة الى ادلة الشكوك الدالة على البناء على الاكثر في الشكوك الصحيحة ، وعلى البطلان في صلوة الصبح والمغرب وفي الاوليين من الرباعية ، في انها من جهة تكفلها لنفي الشك وكونه ليس بشيء تكون حاكمة على الاستصحاب ، وان لم تكن ناظرة الى تتميم الكشف لتصير امارة كما هو مبنى الوجه الاول ( ومع الاغماض ) عن ذلك لا محيص في تقديمها على الاستصحاب بكونه بمناط التخصيص ( اما للاجماع ) ، واما من جهة ورود القاعدة في مورد الاستصحاب ( فانه ) لولا تقديمها عليه يلام لغوية جعلها ( لانه ) ما من مورد تجري فيه القاعدة الا ويجري فيه الاستصحاب .

فى ان قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة

واما المقام الثاني

فقد اختلف كلماتهم في ان ما يسمى بقاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة عامة لموارد الشك في الشيء بعد التجاوز عن المحل ، والشك في صحته بعد الفراغ عن العمل وان الكبرى المجعولة فيها كبرى واحدة ( او انهما ) قاعدتان مستقلتان غير مرتبطة احديهما بالاخرى ولا يجمعها جامع واحد ، ظاهر كلام الشيخ قدس سره وتبعه غير

ص: 37

واحد من الاعلام ( الاول ) حيث ارجع الشك في صحة المأتى به الى الشك في وجود الصحيح وجعل الجامع بينهما الشك في الوجود ( بدعوى ) ان الشك في قاعدة التجاوز متعلق بوجود الشيء ، و في قاعدة الفراغ بوجود الصحيح الراجع الى الشك في وجود العمل بتمام اجزائه وشرائطه ، فالجامع بينهما هو الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وان الكبرى المجعولة في موردها كبرى واحدة وهى التعبد بوجود ماشك في وجوده بعد التجاوز عنه ، سواء كان الشك في اصل وجوده ، او في صحته و تماميته ( لان ) الشك في الصحة راجع الى الشك في وجود الصحيح ( ولكن التحقيق ) وفاقا لغير واحد من المحققين ، هو الثانى ( وتنقيح ) البحث يحتاج الى التكلم في موردين

في امكان تصور جامع قريب بين مفاد القاعدتين ثبوتاً

( احدهما ) في امكان جامع قريب بين مفاد القاعدتين ثبوتاً ( وثانيهما ) فيما تقتضيه اخبار الباب من الدلالة على الوحدة او التعدد اثباتاً ( اما المورد الاول ) فتوضيح المقال فيه هو ان الشك في الشيء يتصور على وجوه ( فان ) الشك تارة يكون متعلقاً بالشيء بنحو مفاد كان التامة ( واخرى ) يكون متعلقاً باتصاف الشيء بوصف عنواني بنحو مفاد كان الناقصة ، كالشك في اتصاف الشيء المفروغ وجوده بالصحة والتمامية ( وعلى الاول ) تارة يكون تعلق الشك في الشيء مفاد كان التامة بلحاظ الشك في اصل وجوده ( واخرى ) بلحاظ الشك في بعض ما اعتبر فيه من القيود ، كالشك في وجود الصحيح ( فان ) الشك في قيد الشيء شك في وجود المقيد بنحو مفاد كان التامة ( ولا يخفى ) كمال التباين بين المفاهيم الثلاثة ، كالتباين بين الشك في اصل وجود الشيء او وجوده التام ، وبين الشك في صحة الموجود و تماميته بمفاد كان الناقصة ، بنحو لا يجمعها جامع قريب حتى يصح ارادتهما من لفظ واحد ، بلحاظ اقتضاء النسبة في مفاد كان الناقصة مفروغية تحقق ذات الشيء في الخارج ولو تصوراً ، وعدم اقتضائها لذلك في مفاد كان التامة ( وحينئذ ) نقول : ان الشك في قاعدة التجاوز بعد ما كان متعلقاً باصل وجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ بصحة الموجود ، نظير الشك في وجود الكر والشك في كرية الموجود ، فلا يتصور بينهما جامع قريب ثبوتاً حتى يمكن ارادتهما من لفظ واحد ( ولا مجال ) لارجاع الشك في صحة الموجود الى الشك في

ص: 38

وجود الصحيح او التام ( اذ فرق ) واضح بين الشك في وجود الصحيح ، و بين الشك في صحة الموجود ( ومجرد ) كون منشأ الشك في وجود الصحيح هو الشك في بعض ما اعتبر فيه ، لا يخرجه عن الشك في الشيء بمفاد كان التامة الى الشك في صحة الموجود الذي هو مفاد كان الناقصة ( وان كان ) يلازمه خارجا ، نظير ملازمة الشك في وجود الكر مع كرية الموجود ( وحينئذ ) فاذا كان المهم في قاعدة التجاوز اثبات اصل وجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ اثبات صحة الموجود المفروغ الوجود بمفاد كان الناقصة ، لا اثبات وجود الصحيح بمفاد كان التامة ( فلا مجال ) لارجاع اح______د المفادين الى الاخر ، ولا لترتيب اثر المترتب على صحة الموجود ، باثبات الوجود الصحيح بمحض ملازمة احد المفادين مع الآخر واتحادهما بحسب المنشأ ، لأنه من المثبت المرفوض عندهم ( ولذا ) لا يحكمون بترتيب آثار كرية الموجود باستصحاب وجود الكر وبالعكس ( واما توهم ) كفاية مجرد اثبات وجود الصلاة الصحيح في فراغ الذمة وخروج المكلف عن العهدة بلا احتياج الى اثبات صحة المأتى به ( مدفوع ) بان كثيراً ما تمس الحاجة الى اثبات صحة الموجود بمفاد كان الناقصة ، كما في قضاء السجدة وسجدتى السهو ونحوهما مما اخذ في موضوعها صحة الموجود ، لا مجرد وجود الصحيح ( اذ في نحو ) هذه الآثار لا يكفي مجرد اثبات وجود الصحيح في ترتبها ( مع ) ان قاعدة الصحة تعم الوضعيات ايضا من العقود والايقاعات التي لا بد فيها من اثبات صحة العقد او الايقاع في ترتيب آثارهما ، ولا يكفي في ترتبها مجرد اثبات وجود الصحيح بمفاد كان التامة ( مع انه ) لا يتم فيما لو كان الشك في الصحة من جهة الشك في فقد الترتيب او الموالات مثلا لا من جهة الشك في فقد الجزء ( فانه ) من جهة انصراف الشيء عرفا عن مثل هذه الاضافات الى ما كان له وجود مستقل ، لا يصدق على الكل انه شيء مشكوك ( لانه ) بما هو شيء بلحاظ اجزائه مقطوع الوجود والتحقق ، و بلحاظ الترتيب والموالات لا يصدق عليه الشيء عرفا ، فما منه يكون الكل شيئاً عرفا لا يكون مشكوكا ، وما منه يكون مشكوكا لا يكون شيئاً ، فلا يمكن تصحيح الصلاة الا باثبات صحة الموجود ( نعم ) لواغمض عما ذكرنا لا مجال

ص: 39

للاشكال على الشيخ قدس سره بما في التقرير من ان العنوانين وان كان يجمعها جامع قريب وهو الشك في الوجود بمفاد كان التامة ( ولكن ) لا يمكن ان يعمهما لفظ الشيء في قوله ( علیه السلام ) انما الشك في شيء لم تجزه ( بتقريب ) ان متعلق الشك في قاعدة التجاوز انما هو اجزاء المركب ، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس الكل والمركب بما له من الوحدة الاعتبارية ، ولا يمكن ارادتهما من لفظ الشيء ( لان ) لحاظ الجزء شيئاً بحيال ذانه انما يكون في المرتبة السابقة على تأليف المركب ، لان في مرتبة تأليف المركب لا يكون الجزء شيئاً بحيال ذاته في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية البكل ، ويكون لحاظه تبعياً ( ففى مرتبة ) لحاظ الكل لا يمكن لحاظ الجزء شيئاً آخر امستقلا ، لان الكل ليس الا الاجزاء بالاسر (فلا يمكن ) ان يراد من لفظ الشيء في الرواية ما يعم الكل والجزء ( بل ) اما ان يراد منه الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز ، واما ان براد منه الكل ، فتختص بقاعدة الفراغ ( وحاصل ) الاشكال هو ان في قاعدة التجاوز يكون الجزء ملحوظا استقلالياً فيحتاج الى لحاظه بما هو شيء في حيال ذاته ، وفي قاعدة الفراغ يكون الجزء ملحوظا تبعياً بتبع لحاظ لكل ، وارادتهما من لفظ الشيء مستلزم لاجتماع اللحاظين في الجزء وهو محال ( فلابد ) من ان يراد من الشيء في الرواية ، اما خصوص قاعدة التجاوز ، او خصوص قاعدة الفراغ ( اذفيه ) ان الاشكال انما يرد في فرض ارادة الكل من الشيء وارادة جزئه منه يحيث استعمل الشيء فيها ( واما ) لو اريد من الشيء في الرواية معناه الكلي العام الجامع بين المصاديق ، ومن اطلاقه في مقام التطبيق شموله لاى مصداق منه ، بلالحاظ خصوصية كل ولا جزء ، فلا يتوجه الاشكال المزبور ( اذ لا قصور ) حينئذ في شمول اطلاق الشي لكل من عنوان المركب وجزءه ، فيمكن الجمع بين قاعدة التجاوز والفراغ بمثل هذه الرواية بناء على ارجاع الشك في صحة الشيء و تماميته الى الشك في الوجود التام ، بدعوى عموم الشيء لكل من المركب وجزئه ( لا يقال ) على ذلك لم لا تلتزم ا بين مفاد كان التامة ، ومفاد كان الناقصة الذي هو مؤدى قاعدة الفراغ ، فانه على التقريب المزبور لاقصور في شمول اطلاق الشيء لكل من المفادين ( فانه يقال ) نعم وان امكن ذلك ، ولكن

ص: 40

مع عدم كونه من الجامع القريب ، مبني على مقدمة ممنوعة ، وهى صدق الشيء عرفا على حيثية الربط التي هي من الاضافات ( والا فبناء ) على انصرافه الى ما يكون له وجود مستقل بنظر العرف ، فلا يشملها عموم الشيء او اطلاقه ( ولذا ) ترى بناء الشيخ وغيره على انصرافه عما هو أعظم من ذلك كالترتيب والموالات المعتبرة بين الاجزاء والكلمات ، بل واجزاء الكلام الواحد كالباء من البسملة والميم منها ونحو ذلك ( و من هنا ) استشكل الشيخ قدس سره فى جريان قاعدة الشك في الوجود في فرض كون الشك في وجود الكل والمركب من جهة الشك في فقد الموالات والترتيب كما اشرنا اليه آنفاً ( ثم انه ) بما ذكرنا يندفع الاشكال الآخر على الشيخ قدس سره جهة التجاوز ( بتقريب ) ان التجاوز في قاعدة التجاوز انما يكون بالتجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ يكون بالتجاوز عن نفس الكل والمركب لا عن محله ، فيلزم على القول باتحاد القاعدتين استعمال التجاوز في المعنيين وهو باطل ( اذ فيه ) انه يمكن ان يكون التجاوز استعمل في معنى واحد وهو التجاوز عن نفس الشيء المشكوك فيه ، وان التجاوز عن محل المشكوك فيه عناية وادعاء تجاوز عن نفس ( غير انه ) اريد في مقام التطبيق بدالين مصداقه الحقيق والادعائي كل بدال خاص ، وهو غير استعماله في المعنى الحقيقي والادعاني ( كما انه ) يندفع عنه اشكال ثالث وهو ان متعلق الشك في قاعدة التجاوز هو نفس الجزء ، واما في قاعدة الفراغ فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل، بل هو ظرف للشك فلا يمكن ان يجمعها كبرى واحدة ( اذ فيه ) ان مجرد كون المركب في الحقيقة ظرفا للشك لا يمنع عن صدق الشك فيه ( وبعد ) تسليم كون الجامع بين المفادين الشك في وجود الشي. مفاد كان التامة ، فلا قصور في عموم الشيء لكل من الشك في وجود الجزء كالر كرع والشك في الكل بما هو كل ( فالعمدة ) حينئذ في الاشكال ما ذكر ناه من تغاير القاعدتين على نحو لا يجمعها كبرى واحدة ، لتغاير متعلق الشك فيهما من كونه في قاعدة التجاوز اصل وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ صحة الموجود بمفاد كان الناقصة ( فان ) هذين المفادين من جهة تغايرهما لا يجمعها جامع وحداني قريب ( نعم ) بين الشك في اصل الشيء او

ص: 41

في وجوده التام يتصور جامع قريب وهو الشك في وجود الشيء مفاد كان التامة، ولكنه غير مرتبط بالشك في صحة الشيء الذي هو مفاد قاعدة الفراغ كما هو ظاهر واضح .

فيما يقتضيه اخبار الباب اثباتا من الوحدة اوالتعدد في القاعدتين

( المورد الثاني ) في ان المستفاد من الاخبار الواردة في المقام هل هو قاعدة واحدة ، وهي حكم الشك في الوجود بمفاد كان التامة ( او ان المستفاد ) منها قاعدتان ( احديهما ) حكم الشك في الوجود ( والاخرى ) حكم الشك في صحة الموجود بنحو مفاد كان الناقصة المعبر عنها بقاعدة الفراغ ( فنقول ) و به نستعين ، اعلم ان العمومات الواردة في المقام على طائفتين ( احديهما ) ما يكون بلسان انه اذا شككت في الشيء بعد الدخول في غيره فشكك ليس بشيء ( والاخرى ) بلسان ان كل شيء شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو ( اما الطائفة الأولى ) فمنها مارواه زرارة في الصحيح عن ابي عبد الله ( علیه السلام ) وفيه بازرارة اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس

بشيء ( ومنها ) رواية اسماعيل بن جابر قال قال ابو عبد الله ( علیه السلام ) : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ( ومنها ) قوله ( علیه السلام ) فى موثقة ابن ابى يعفور : اذا شككت في شيء من الوضوء ودخلت في غيره فشكك ليس بشي ٠ ا نما الشك في شيء لم نجزه ( ومنها ) رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر ( علیه السلام ) رجل شك بعدما سجد انه لم يركع قال ( علیه السلام ) يمضي في صلاته حتى يستيقن ( ولا يخفى ) ان هذه الطائفة في غاية الظهور في كونها فى مقام ضرب القاعدة الكلية للشك المتعلق باصل وجود الشيء بمفاد كان التامة ، لظهور الشك فيها في الشك المتعلق باصل وجود الشيء خصوصاً بملاحظة تصدرها بالاسئلة المزبورة ( ومع ) قوة ظهورها في ذلك لا يبقى مجال معارضة هذه الجهة بظهور قد جاوزه في التجاوز عن نفس الشيء لا عن محله ( اذ لا بأس ) بارتكاب العناية في المضي عن الشيء والتجاوز عنه بعضى محله بعد مساعدة العرف على اعتبار التجاوز عن الشيء بلحاظ التجاوز عن محله خصوصاً بقرينة الفقرات المذكورة في الاسئلة في صدرها ( نعم لولا ) الروايتان المصدر تان بالاسئلة المزبورة ، لا مكن حمل الشك فيهما على الشك في وجود المركب التام بلحاظ الشك في بعض ما يعتبر

ص: 42

فيه شطر او شرطاً ( لان ) الشك فى الشيء يشمل مثل الشك في وجود المركب التام ، بضميمه ابقاء التجاوز عن الشيء على معناه الحققي ( ولكن ) مع وجود هذا الصدر ، لا يبقى مجال لهذا المعنى ( لان ) مقتضى الصدر هو كون اضافة التجاوز اليه مسامحياً ، بخلاف هذا المعنى ، فانه مستتبع لكون الاضافة المزبورة حقيقياً ( وبذلك ) يمكن دعوى عدم امكان استفادة الجامع بين الشك في اصل وجود الشيء ، والشك فيه بلحاظ بعض ما اعتبر فيه المعبر عنه بالشك في وجود الصحيح او التام ، نظراً الى اوله الى اجتماع اللحاظين في اضافة التجاوز اليه ( فلابد ) حينئذ من حمل الروايتين على خصوص الشك في اصل وجود الشيء مفاد كان التامة .

فيما يقتضيه اخبار الباب اثباتاً من الوحدة او التعدد

( واما الطائفة الثانية ) من العمومات ( فمنها ) قوله (ع) في موثقة ابن مسلم : كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو ( ومنها ) قوله ( علیه السلام ) في موثقة اخرى له : كلما مضى من صلاتك وطهورك ، فامضه كما هو وبهذا المضمون ماورد في الموارد الخاصة من نحو قوله ( علیه السلام ) : في من شك في الوضوء بعد ما فرغ هو حين يتوضأ اذكر ( وهاتان ) الموثقتان بصدرها وان يلائم مع الشك في الوجود بمفاد كان النامة اما رأساً او بلحاظ بعض ما يعتبر فيه ( ولكن ) بملاحظة التوصيف الوارد في ذيلهما بكونه مما قد مضى فامضه كما هو ، في غاية الظهور بل الصراحة في ان المشكوك فيه هو صحة الشيء مفاد كان الناقصة الذي هو مفاد قاعدة الفراغ ( خصوصاً ) قوله قامضه كما هو ، فانه كالصريح في ارادة المضى عليه كما ينبغي ان يقع عليه من والتمامية ( ومن الواضح ) ان ذلك لا يكون الا اذا كان الشك في اتصاف الشيء بالصحة مفاد كان الناقصة ( بل ان ) لوحظ ظهور المضى والتجاوز فيها في التجاوز عن نفس المشكوك فيه لا عن محله ، ترى كونه قرينة اخرى على صرف ظهور الصدر عن الشك في وجود الشيء الى الشك في صحة الموجود ، لملازمة التجاوز عن الشيء المفروغية اصل وجوده ( وحينئذ ) اقول انه بعد تباين كل طائفة من حيث المفاد والمدلول مع الطائفة الاخرى ( لا مجال ) لاتعاب النفس في مفاد هذه الاخبار بارجاع الجميع الى مفاد واحد وهو بيان حكم الشك في الشيء بمفاد كان التامة بارجاع الطائفة الثانية الى بيان

ص: 43

حكم الشك في وجود الصحيح ( كما افاده الشيخ قدس سره ) مع اعترافه بظهور هذه الطائفة من جهتين في بيان حكم الشك في صحة الشيء بمفاد كان الناقصة ، خصوصاً مع اباء كل من الطائفتين عن الحمل على بيان حكم الشك في الوجود التام بلحاظ الشك في وجود بعض ما اعتبر فيه شطراً او شرطاً ( اذ لا داعى ) لارتكاب هذا التعويل في مفاد تلك الاخبار بعد ظهور كل طائفة في معنى غير ما يظهر من الاخرى ( بل يؤخذ ) بظهور كل طائفة فيما يقتضيه من المدلول ، ويستفاد منها قاعدتان مستقلتان ( احديهما ) متكفلة لبيان حكم الشك في الشيء بمفاد كان التامة المعبر عنها بقاعدة التجاوز ( والاخرى ) لبيان حكم الشك في صحة الشيء وتماميته بمفاد كان الناقصة المعبر عنها بقاعدة الفراغ ( مع المصير ) الى اعتبار الدخول في الغير في الاولى ، دون الثانية ( بلا وقوع ) معارضة بين الاخبار من هذه الجهة ، كي ينتهي الامر الى اعمال

) قاعدة الاطلاق والتقييد بحمل المطلق منها على المقيد ( اذ المعارضة ) انما تكون في فرض اتحاد القاعدتين واستفادة كبرى واحدة من مفاد تلك العمومات وهي حكم الشك في الشىء بمفاد كان التامة ( والا ) فبناء على تمدد القاعدة وتعدد الكبرى المستفادة منها ( فلا تعارض ) بين الاخبار من هذه الجهة ( لان ) ما كان منها متكفلا لاعتبار الدخول في الغير فى الحكم بالمضى انما هو صحيحة زرارة ، وموثقة ابن ابي يعفور ، ورواية اسماعيل بن جابر ( وهذه ) الطائفة متمحضة في الاختصاص بكبرى قاعدة التجاوز ( وما كان ) منها غير متكفل لاعتبار هذا القيد انما هو موثقتا محمد ابن مسلم و موردها انماهو الشك في صحة الشئ و تماميته الذي هو مفاد قاعدة الفراغ ، لا الشك في اصل وجود الشيء ، او في وجود الصحيح بمفاد كان التامة ( ومع ) تغاير المفاد في هذه الاخبار من حيث تمحض بعضها في قاعدة التجاوز ، وتمحض بعضها بقاعدة الفراغ ، اين يبقى مجال توهم المعارضة بينها من جهة اعتبار هذا القيد ، كى يحتاج الى اعمال قاعدة الاطلاق والتقييد يحمل المطلق منها على المقيد ( ولعمرى ) ان المنشاء كله لهذه التكلفات انما هو لاجل مصير مثل الشيخ قدس سره الى اتحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة فيهما بارجاعه المختلفات من الاخبار الى مفاد واحد وبيان

ص: 44

كبرى واحدة وهي حكم الشك في الشيء بمفاد كان التامة الذى هو الجامع بين الشك في اصل الوجود والشك في الوجود التام (والا) فبناء على الاخذ بما يقتضيه ظواهر تلك الاخبار من تعدد القاعدة وتمحض بعضها في قاعدة التجاوز ، وبعضها ، بقاعدة الفراغ ، لا يبقى مجال لهذه التكلفات ، ولا لالقاء المعارضة بين مفاد الاخبار كما ظاهر واضح ( واما توهم ) ان وحدة السياق في تلك الاخبار يقتضى حمل الجميع على معنى واحد وبيان كبرى واحدة وهى حكم الشك في الشيء بمفاد كان التامة الجامع بين الشك في اصل وجود الشيء ، والشك فى الوجود التام ( فكلام ظاهري ) بالنسبة إلى الاخبار المستقلة المنفصلة بعضها عن بعض المختلفة مفاداً من كونه في كل واحد معنى غير ما يظهر من الآخر ( اذ في مثله ) لا مجال لتوهم وحدة السياق بينها كي تقتضي ارجاع تلك المختلقات مضموناً الى معنى واحد ( فالتحقيق ) في المقام هو ان المستفاد من اخبار الباب قاعدتان ( احديها ) قاعدة الشك في الشيء بمفاد كان التامة بعد خروج وقته وتجاوز محله المعبر عنها بقاعدة التجاوز ( والثانية ) قاعدة الشك في صحة الشيء مفاد كان الناقصة المعبر عنها بقاعدة الفراغ ( واما ) قاعدة الشك في جود العمل الصحيح بمفاد كان التامة ، فلا يستفاد من اخبار الباب ، ولا يكون له في شيء منهاعين ولا اثر ( ثم ان هاتين ) القاعدتين متصادقتان بعد الفراغ عن مركب شك في صحته من جهة الشك فى وجود بعض اجزاءه مما تجاوز محله فما عدى الجزء الاخير ، فانه بالنسبة الى الجزء المشكوك وجوده ، يكون مورد للقاعدة الاولى، وبالنسبة الى نفس العمل المركب الذى شك في صحته ، يكون مورد للقاعدة الثانية ( و تفترق ) الأولى عن الثانية ، فيما لو شك في وجود جزء من اجزاء العمل المركب بعد تجاوز محله وقبل الفراغ عن العمل ، كالشك في الركوع بعد ما سجد ( كما انه ) تفترق الثانية عن الاولى فيما لو شك بعد الفراغ عن العمل في صحته من جهة الشك فى بعض ما اعتبر في صحته كالترتيب والموالات ونحوها مما ليس له وجود مستقل يصدق عليه الشيء .

( ثم انه ) لما يترتب على اتحاد القاعدتين وتمددها ، انه لو علم بفوت سجدة واحدة

ص: 45

او التشهد وقد شك في صحة صلاته من جهة احتمال الاخلال بالترتيب . او الموالات المعتبرة فيها ( فانه ) على ما ذكرنا من تعدد القاعدة وتعدد الكبرى المجعولة فيهما ، تجرى في الصلاة قاعدة الفراغ الحاكمة بصحتها ، ويترتب على صحتها وجوب قضاء السجدة او التشهد وسجدنى السهو ( واما ) على القول بوحدة القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة فيهما ، كما هو مختار الشيخ قدس سره ومن تبعه ، فيشكل اثبات وجوب قضاء السجدة او التشهد في الفرض المزبور ( فانه ) بالنسبة الى المشكوك فيه وهو الموالات او الترتيب لا يصدق عليه الشيء حتى يجري فيه قاعدة الشك في الشيء بعد تجاوز محله ( واما بالنسبة ) الى المركب الذي شك في وجوده التام ، فكذلك ( لانه ) بلحاظ ما يكون منه مشكوكا اعني الترتيب والموالات لا يكون شيئاً حتى تجرى فيه القاعدة ، و بلحاظ ما يكون منه شيئاً وهو الاجزاء لا يكون مشكوكا ( وعلى فرض ) جريان القاعدة فيه واقتضائها لاثبات وجود العمل الصحيح ، لا يترتب عليه وجوب قضاء السجدة او التشهد لانهما من آثار صحة الصلاة بمفاد كان الناقصة فلا يمكن ترتیب مثل هذا الاثر عليه الا على القول بالمثبت .

فى عموم القاعدة لجميع المركبات الا الشك في ابعاض الوضوء والغسل والتيمم

( وينبغى التنبيه على امور )

( الأمر الاول ) قد عرفت دلالة اخبار الباب في قاعدة التجاوز على البناء على وجود ما شك فيه من اجزاء العمل بعد خروج وقته وتجاوز محله وعدم الاعتناء بالشك فيه ، بل مقتضى عموم الشيء في قوله ( علیه السلام ) كل شيء شك فيه وقد جاوزه في رواية اسماعيل بن جابر ، وموثقة ابن ابي يعفور صدراً وذيلا هو عموم القاعدة لجميع المركبات وعدم اختصاصها بباب الصلاة وما يتعلق بها من الاذان والاقامة ( الا ) انه خرج عن هذه الكلية الشك في أبعاض الوضوء قبل اتمام الوضوء ، وكذا ابعاض الغسل والتيمم على قول قوى ، فانهم اجمعوا على ان الشاك في فعل من افعال الوضوء قبل اتمام الوضوء يجب عليه العود لاتيان المشكوك فيه وان دخل في فعل آخر منه

ص: 46

( وقد نص جماعة ) على ذلك في الغسل والتيمم ايضاً على نحو يظهر منهم كونه من المسامات ( والعمدة ) في مستند خروج الوضوء من الكلية المزبورة بعد الاجماع هي صحيحة زرارة ، اذا كنت قاعدا في وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك ام لا فاعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله او تمسحه مما سمى الله تعالى ما دمت في حال الوضوء ، فاذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حالة اخرى في الصلاة او في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله تعالى مما أوجب الله عليك لا شيء عليك ( ولا اشكال ) في تخصيص عمومات قاعدة التجاوز بمقتضى الاجماع والصحيحة المذكورة بالنسبة الى الوضوء ، بل الغسل والتيمم ايضاً ( وانما الكلام ) في التوفيق بين الصحيحة وبين موثقة ثقة ابن ابي يعفور المتقدمة ، اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه ( حيث ) ان الظاهر منها هو ان حكم الوضوء من باب القاعدة لا خارج منها ، لظهورها في عود ضمير غيره الى الجزء المشكوك فيه ، كظهور قوله من الوضوء في كون المشكوك بنفسه صغرى للكبرى المشتملة على الحصر في ذيلها ، لا انه توطئة لبيان ما هو الصغرى وهو الوضوء الذى شك فيه بلحاظ احتمال الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطراً او شرطاً ( ولاجل ) ذلك ، وقع الاشكال بانه كيف التوفيق بين الصحيحة و بين الموثقة ( فان ) اخراج مورد الموثقة بمقتضى الاجماع والنص المتقدم عن عموم الذيل المضروب لبيان قاعدة كلية غير ممكن ( لان ) عموم الذيل بالنسبة الى المورد المذكور في الصدر كالنص غير القابل المتخصيص ( وقد تفضّوا ) عن الاشكال المزبور بوجوه .

فى اشكال على خروج الطهارات الثلاث عن عموم القاعدة بموثقه ابن ابى يعفور

( منها ) تم حمل الموثقة على بيان حكم الشك في صحة الشيء بمفاد كان الناقصه ( بتقريب ) ظهورها في ان المراد من الشيء في ذيلها هو العمل الذي وقع الشك فيه لاجل احتمال الاخلال بشيء من اجزائه وشرائطه ( لا الشيء ) الذي شك في وجوده لتكون دليلا على قاعدة التجاوز ( فانه ) خلاف ما يقتضيه ظهور التجاوز عن العمل المشكوك فيه ، لا عن محله ( فظهور ) الذيل في القاعدة يكون رافعاً لا جمال مرجع الضمير فى الصدر ( لكون ) القاعدة المذكورة في الذيل بمنزلة البرهان لاثبات

ص: 47

الحكم المذكور في الصدر ، فيجب ان يكون الحكم المذكور في الصدر من جزئيات ماهو الموضوع في تلك القاعدة ، حتى يستقيم البرهان المزبور ( فالمستفاد ) من الموثقة حينئذ امران ( احدهما ) انه لو تعلق الشك بصحة عمل مركب بعد الفراغ عنه لا يعتد بالشك ( الثاني ) ان عدم الاعتداد بالشك بعد الفراغ من الوضوء انما هو لكونه من جزيئات هذه القاعدة ( كما ان ) المستفاد منها هو ان مفهوم الصدر من مصادیق منطوق الذيل ، انتهى ملخص ما افيد بطوله (و حاصله) تخصيص عموم قاعدة التجاوز بباب الصلاة او بغير باب الوضوء بل جميع الطهارات ، وان حكم الامام ( علیه السلام ) بعدم الاعتداد بالشك في الموثقة انما هو لقاعدة الفراغ الحاكمة بصحة العمل المأتى به ، لا لقاعدة التجاوز ، فالموثقة من ادلة قاعدة الفراغ لكونها متحدة السياق مع موثقة ابن مسلم ، لا من ادلة قاعدة التجاوز ( فلاتهافت ) حينئذ بين الموثقة وبين الصحيحة . ( وفيه ) منع ظهور الموثقة في القاعدة المذكورة ( بل هي ) صدر أو ذيلا ظاهرة في بيان حكم الشك في الشيء بمفاد كان التامة

في الوجوه التي تفضوا بها عن الاشكال الوارد على خروج الطهارات الثلاث عن عموم القاعدة

( فان ) ظهور الشك في شيء في عموم الذيل كظهور الصدر في الشك في اصل وجود الشيء بمثابة لا يكون قابلا للانكار ، خصوصاً اذا لوحظ ظهور قوله من الوضوء في كون المشكوك فيه بنفسه صغرى للكبرى المذكورة في الذيل ، لا انه توطئة لما هو الصغرى وهو الوضوء ( وبالجملة ) جعل المراد من الشيء في الرواية صدرا وذيلا هو العمل المركب الذى شك فيه لاجل احتمال الاخلال ببعض ما اعتبر فيه جزء او شرطاً ، خلاف الظاهر من الشك في الشيء ، ولا يستقيم الا بجعل من فى قوله من وضوئه بيانية لا تبعيضية المستتبع لعود ضمير غيره الى الوضوء الذي شك في صحته ، وهو خلاف ظاهر آخر في تبعيضية من ( مع انه )على ذلك يتوجه اشكال المعارضة بين منطوق هذه الموثقة مع مفهومها في صورة الشك في صحة فعل . من افعال الوضوء وما يلحق به من الغسل والتيمم بعد الدخول في غيره كالشك في صحة غسل اليد باعتبار جزء من اجزائه ( فانه ) يتصور له في عمل واحد مصداقان يكون الشك بعد الفراغ في احدهما وقبله في الآخر ، بل الاشكال يعم غير باب الطهارات ، كالشك في صحة القراءة باعتبار جزء من اجزائها بعد الدخول في غيرها

ص: 48

( الا ان يدعى ) انصراف الشيء في الرواية عن مثلها الى ما كان له نحو استقلال بنظر العرف وان كان في اعتبار الشارع جزء لعمل مركب ، كالطواف والسعى ونحوهما . ( ومنها ) تزيل الموثقة على بيان حكم الشك في وجود الصحيح بعد الفراغ منه او تنزيلها على ضرب القاعدة في الشك المتعلق بجزء العمل المركب بعد الفراغ عن العمل ، فيرتفع التهافت بينها وبين الصحيحة المصرحة بوجوب الالتفات الي الشك في جزء من الوضوء مادام الاشتغال به ، حيث لا منافات حينئذ بين ظهور الموثقة في كون حكم الوضوء من باب القاعدة مع وجوب الالتفات الى الشك ما دام الاشتغال بالوضوء ( وفيه ) ما لا يخفى فان دعوى استفادة قاعدة الشك في الوجود الصحيح او الشك المتعلق بجزء من العمل بعد الفراغ عن العمل من الموثقة خارجة عن السداد ، لوضوح ظهورها في بيان حكم الشك المتعلق باجزاء العمل بعد تجاوز محله بالدخول في غير المشكوك فيه ، كظهور التجاوز في كبرى الذيل في مطلق التجاوز عن الشيء ، لا التجاوز الخاص الملازم للفراغ عن اصل العمل المركب ، خصوصاً بملاحظة ظاهر من في التبعيضية ( فالموثقة ) بحسب المدلول مساوق ساتر عمومات الباب ، بلا اختصاصها بجهة زائدة عنها ( بل يمكن ) دعوى عدم استفادة شيء من المعنيين من شيء من عمومات الباب وخصوصاته ( لان اخبار الباب ) باجمعها بين ما يستفاد منه حكم الشك المتعلق باصل وجود الشيء بمفاد كان التامة بعد خروج محله ، مثل قوله كل شيء شك فيه وق_______د جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ، وهذه الموثقة ( وبين ) ما يستفاد منه حكم الشك في صحة الموجود بمفاد كان الناقصة ، مثل قوله كل شيء شك فيه مما قد مضى فامضه كما هو ، فلا يكون لشيء من المعنيين عين ولا اثر في شيء من اخبار الباب من عموماته وخصوصاته .

( ومنها ) ما افاده الشيخ قدس سره من ان الوضوء بتمامه باعتبار اثره ومسببه وهو الطهارة فعل واحد في نظر الشارع لا جزء له مؤيداً بما في بعض اخبار الوضوء من ان الوضوء لا يتبعض ، ومع عدم ملاحظة الشارع اجزائه افعالا مستقلة ، فلا يلاحظ كل فعل منه بحياله شيئاً يشك فيه بعد تجاوز محله ليكون مورداً للقاعدة ،

ص: 49

فيتوجه عليه اشكال التهافت ، اذ الشك في فعل من افعال الوضوء حينئذ كغسل اليد قبل الفراغ عن الوضوء لا يكون الاشكاً في الشيء قبل التجاوز عنه ( وفيه ) مضافا الى ان ما ذكر من الوحدة خلاف ظاهر تبعيضية من فى صدر الرواية ( ان مجرد ) بساطة اثر الوضوء لا يقتضي هذا الاعتبار في مؤثره الذي هو نفس الوضوء ( والا ) لا اقتضى جريان المناط المزبور في سائر العبادات ايضاً كالصلاة بالنسبة الى آثارها المترتبة عليها من نحو الانتهاء عن الفحشاء والمقربية ، فيلزم ان يكون الشك في كل جزء منها قبل الفراغ عنها شكاً فيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء باعتبار وحدة السبب الناشى عن وحدة الاثر وبساطته ( واما ) ما ايدنا به من الرواية بان الوضوء لا يتبعض فغير مرتبط بالدعوى المذكورة ( فان المراد )من التبعيض الممنوع فيه ، عبارة عن انفراد بعض اجزاءه عن بعض خارجاً ( لا ان المراد ) ان الوضوء باعتبار بساطة اثره اعتبر امراً واحداً بسيطاً لا يلاحظ حكم الشك بالنسبة الى اجزائه .

( فالتحقيق ) في التقصي عن الاشكالات هو الالتزام برجوع الغير فى صدر الموثقة الى الوضوء ولو بملاحظة قرب المرجع الراجع إلى تقييد التجاوز عن المشكوك فيه في خصوص اجزاء الوضوء وما يلحق به من الغسل والتيمم بمقتضى الاجماع والصحيح المتقدم بالتجاوز الخاص المساوق للتجاوز عن الوضوء، مع ابقاء التجاوز في كبرى الحصر في الذيل على اطلاقه في مطلق التجاوز عن الشيء ( و مرجع ) ذلك الى كشف التوسعة بمقتضى الاجماع والنص في خصوص المورد في محل ابعاض الوضوء وما يلحق به من الغسل والتيمم الى ما بعد الفراغ عن الوضوء ، مع ابقاء ظهور كبرى الذيل في مطلق التجاوز عن محل الشيء الذي شك فيه على حالها بلا تخصيصه بالتجاوز الخاص ( ولا محذور ) في الالتزام بهذا المقدار ، فان تقييد المورد مع اطلاق الكبرى غير عزیز ( نظیر) تقیید مورد مفهوم آية النباء المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر ، مع ابقاء اشتراط كبرى قبول الخبر الواحد بكون المخبر عادلا على اطلاقه لصورة عدم ضم خبر عدل آخر اليه .

( وعلى هذا ) البيان يندفع الاشكالات الواردة على الرواية ( تارة ) من جهة

ص: 50

لزوم تخصيص مورد الرواية عن العموم المضروب في ذليلها لبيان القاعدة الكلية ( واخرى ) من جهة معارضه منطوق هذه الرواية مع مفهومه في صورة الشك في صحة جزء من الوضوء مع الدخول في جزء آخر قبل الفراغ عن الوضوء ( وثالثة ) من جهة المعارضة مع العمومات الدالة على عدم الاعتداد بالشك في الشيء بعد التجاوز عن محله ( توضيح الاندفاع ) هو ان الاشكال الأول فرع ارجاع ضمير غيره الى الشيء المشكوك فيه ( والا ) فعلى فرض ارجاعه الى الوضوء بقرينة الاجماع والنص المتقدم وقرب المرجع ولو بتقييد التجاوز في المورد بمرتبة خاصة من التجاوز المنطبق على اتمام الوضوء فلايرد هذا الاشكال ( واما الاشكال ) الثاني فانما يرد لوكان المراد من الشيء في كبرى الذيل هو المركب المشكوك فيه باعتبار بعض ما اعتبر فيه جزء او شرطاً ، او كان المراد من التجاوز في الكبرى هو التجاوز عن الشيء باعتبار الخروج عن مركب اعتبر جزئيته له ( اذ حينئذ ) يمكن ان يتصور له مصداقان في عمل واحد يكون الشك بعد الفراغ في احدهما ، وقبل الفراغ في الآخر فيجيء فيه اشكال المعارضة المذكورة ( والا ) فعلى ما ذكرنا من ارجاع القيد في الرواية الى خصوص الصغرى ، بجعله توطئة لتقييد خصوص التجاوز في المورد بالتجاوز الخاص المنطبق على الفراغ من عام الوضوء ، مع ابقاء التجاوز في كبرى الذيل على اطلاقه ، لا مجال لهذا الاشكال ( اذ لا يحتمل ) حينئذ انطباق التجاوز الخاص في باب الوضوء على سائر الافعال كي يتوجه الاشكال الثاني .

( وبذلك ) اتضح حال الاشكال الثالث ( اذهو ) ايضاً فرع كون المراد من الشيء في كبرى الذيل هو المركب الذي شك فيه باعتبار اجزائه ، او كون المراد من التجاوز فيها هو التجاوز الخاص ، بارجاع القيد في الرواية الى كونه توطئة لبيان التجاوز في الكبرى لا شرحا للتجاوز في خصوص الصغرى بكونه هو التجاوز الخاص ، فانه على احد المعنيين يرد اشكال المعارضة بين مفاد هذا العام ، ومفاد عموم قوله كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل فى غيره فليمض عليه في صورة التجاوز عن محل الجزء مع عدم الفراغ عن العمل المركب ( ولقد عرفت ) ان استظهار هذين المعنيين من

ص: 51

الرواية خارج عن السداد ( وان التحقيق ) هو ابقاء الكبرى في الرواية على ظاهرها من الشك فى وجود الشيء بمفاد كان التامة ، مع ابقاء التجاوز فيها ايضاً على اطلاقه بارجاع القيد في الرواية الى كونه توطئة لبيان خصوص التجاوز في المورد ، دون غيره ( وعليه ) تندفع شبهة المعارضة من رأسها ( اذ حينئذ ) يكون الجميع على مفاد واحد ، غاية الامر يقيد خصوص مورد هذه الرواية في الوضوء وما يلحق به من الغسل والتيمم كما هو المشهور. مقتضى النص و الاجماع بمرتبة خاصة من التجاوز ( ومن(المعلوم )ان هذا التقييد في الوضوء الذي هو مورد الرواية وما يلحق به من سائر الطهارات كما يوجب رفع اليد عن عموم كبرى ذيل الرواية ، كذلك يوجب رفع اليد عن الكبرى المضروبة في ذيل افعال الصلاة ( وعلى هذا البيان ) تبقى القاعدة ايضاً على عمومها الشامل لافعال الصلاة وغيرها من سائر المركبات ، بلا احتياج الى تخصيصها بأفعال الصلاة ( اذ التخصيص ) المزبور مع كونه خلاف ظاهر كل شيء في الدلالة على العموم والاستيعاب الجميع ما يصلح انطباق المدخول عليه بحسب الوضع كما حققناه في محله ، وقيامه بذلك مقام مقدمات الحكمة الجارية فى المدخول ( انما يثمر ) فى فرض ورود شبهة المعارضة ، كما على المبنيين المتقدمين ( والا ) فعلى ما ذكرنا من المبنى لا موقع لشبهة المعارضة حتى يحتاج الى منع التعميم في مثل عموم كل شيء وعموم قوله ( علیه السلام ) انما الشك في شىء لم تجزه ( مع انه ) على فرض ورود شبهة المعارضة حتى على المبنى المختار ، لا يجدى مجرد منع التعميم في قوله كل شيء في دفع الاشكال ، فانه مع عموم قوله انما الشك وشموله لباب الصلاة يتوجه اشكال المعارضة المزبورة في افعال الصلاة كما هو ظاهر .

يعتبر في القاعدة ان يكون الشك متعلقا بوجود الشى بمفاد كان التامه

( الامر الثانى ) قد عرفت انه بعتبر في قاعدة التجاوز امران (احدهما) ان يكون الشك متعلقاً بوجود الشيء بمفاد كان التامة ، وبذلك يختص جريانها بما لو كان الاثر المهم على وجود المشكوك فيه ، لا على حيث اتصافه بكذا ، ومن هنا لا تجرى القاعدة في الشك في ركعات الصلاة ( لان ) الاثر المهم على ما يستفاد من الادلة من نحو قوله ( علیه السلام ) تشهد وسلم في الرابعة انما هو على حيث انصاف الركبة بالرابعة بمفاد كان الناقصة لا على وجود الرابعة بمفاد كان التامة ( ولا جل ) ذلك قلنا ايضا ان عدم

ص: 52

جريان الاستصحاب في ركعات الصلاة ولو في غير الموارد المنصوصة انما يكون على القواعد بلحاظ عدم اقتضاء التعبد بعدم الاتيان بالمشكوك لاثبات كون ما في اليد ثالثة او رابعة ، لا انه لقصور فيه عن الجريان فيها ، بخلاف ادلة الشكوك الآمرة بالبناء على الاكثر ، فانها ناظرة الى اثبات كون الموجود ثالثة او رابعة ، فيترتب عليه وجوب التشهد والتسليم المترتبين على رابعية الركبة .

في اعتبار الدخول فى الغير في قاعدة التجاوز وانه من جهة كونه محققا للتجاوز او لخصوصية فيه

( وثانيهما ) كونه بعد التجاوز عن محله والدخول في غيره وهذا مما لا اشكال فيه ( وانما الكلام ) في ان اعتبار الدخول في الغير هل هو من جهة كونه محققاً للتجاوز عن محل المشكوك فيه او انه الخصوصية فيه في الحكم بالمضي على المشكوك فيه ( فيه وجهان ) اقويها الاول ، فان الظاهر المستفاد من عمومات الباب وخصوصاته هو كفايه مجرد المضي عن محل المشكوك فيه في الحكم بالمضي ، وان التقييد بالدخول في الغير في بعض تلك الاخبار انما هو لكونه محققاً للتجاوز عن محل المشكوك باعتبار عدم صدق التجاوز عنه الا بالدخول فيما رتب على المشكوك شرعاً بحسب الجعل الاولى ، لا نه بدونه يكون المحل باقياً ، فلا يصدق التجاوز المزبور ( وعليه ) فذكر هذا القيد في بعض نصوص الباب لا يقتضي ازيد مما يقتضيه اطلاق بعض الآخر ، كموثقة ابن ابي يعفور من كونه مقوماً لصدق التجاوز المزبور ( فلا يتوهم ) المعارضة حينئذ بين الاخبار المطلقة ، والاخبار المقيدة بالدخول في الغير ( هذا ) في قاعدة التجاوز ( واما قاعدة الفراغ ) المستفادة من نحو قوله ( علیه السلام ) : كل ما مضى من صلاتك وطهورك قامضه كما هو ( فلا يعتبر ) فيها في الحكم بالمضى كما هو الا مجرد صدق المضى على المشكوك ، ويكفي في الصدق المزبور مجرد الفراغ عن العمل بلا احتياج الى الدخول في عمل آخر ( ولذلك ) اطلق في الروايات المتكفلة لهذه القاعدة ولم يقيد شيء منها بالدخول في غير المشكوك في مقام الحكم بالمضى على المشكوك فيه ( اذ التقييد ) طراً انما يكون في اخبار التجاوز غير المرتبط باخبار قاعدة الفراغ ، فلا يتوهم حينئذ المعارضة بين المقيدات ، وبين هذه المطلقات كما هو ظاهر .

تحديد الغير الذي اعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز

( الامر الثالث ) ظاهر المستفاد من اخبار الباب ، ان المراد من الغير الذي

ص: 53

اعتبر الدخول فيه في الحكم بالمضى ، هو خصوص ما اعتبر الترتيب بينه وبين المشكوك فيه شرعا من الاجزاء والافعال دون غيره مما لم يكن كذلك ، بل كان ترتبه عليه بحكم العقل او العادة ( وحينئذ ) فلا بد في جريان القاعدة من ملاحظة ان الشارع اعتبر الترتيب بين المشكوك فيه واى فعل ( فكل فعل ) اعتبر الشارع الترتيب بينه وبين المشكوك فيه ، يصدق التجاوز عن المحل بالدخول فيما رتب عليه ، فتجري فيه القاعدة ( وكل فعل ) لم يرتب شرعا على المشكوك فيه ، لا يجدى الدخول فيه في الحكم بالمضى لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في مثله ، وان كان من مقدمات ما ترتب على المشكوك فيه ( ويترتب ) عليه وجوب العود لتدارك المشكوك فيما اذا شك في السجدة في حال النهوض الى القيام ، او في الركوع في حال الهوى الى السجود ( لان ) مثل النهوض والهوى من مقدمات مارتب على المشكوك فيه ، لا من الأمور المترتبة عليه بنفسه بالجعل الشرعى ( و توهم ) كفاية الدخول في مطلق الغير ولو كان الترتب بينه وبين المشكوك فيه عقلياً او عادياً ( مدفوع ) اولا بما ذكرنا من ان اعتبار الدخول في الغير في الحكم بالمضى على المشكوك فيه انما هو لكونه محدداً للمحل الذي اعتبر التجاوز عنه ، لا انه الخصوصية فيه ، فمع عدم كونه مما رتب عليه شرعا لا يصدق التجاوز عن محل المشكوك فيه ، فلا تجري فيه القاعدة ( وثانياً ) يمنع الاطلاق في اخبار الباب من هذه الجهة ( بل الظاهر ) منها بقرينة الامثلة المذكورة فيها ، هو اختصاص الغير الذي اعتبر الدخول فيه في الحكم بالمضى بخصوص مار تب على المشكوك فيه شرعا ( ولقد ) أجاد المحقق الانصاري قدس سره في جعل الامثلة المذكورة في الاخبار تحديداً للغير الذي اعتبر الدخول فيه ( وحينئذ ) فلا اشكال في خروج مثل الهوى والنهوض ووجوب الاعتداد بالشك في الركوع والسجود اذا كان في حال الاشتغال بهما ( نعم ) يظهر من خبر عبد الرحمن بن عبد الله عدم الاعتداد بالشك في الركوع في حال الهوى الى السجود قال قلت : رجل اهوى الى السجود فلم يدر اركع ام لم بركع قال ( علیه السلام ) : قد ركع ( ولكن ) بعد ضعف الخبر في نفسه يمكن حمله على آخر مراتب الهوى الذي يتحقق به السجود ( وعلى فرض ) القول به لابد من الاقتصار على

ص: 54

مورده وعدم التعدى منه الى غيره من المقدمات .

في عدم الفرق فى الغير بين كونه جزء للمركب و بين غيره و بين كونه جزء مستقلاً و بين كونه جزء الجزء وكذا بين كونه من الواجبات اولا

( ثم لا فرق ) فى الغير المترتب على المشكوك فيه بين كونه جزء للمركب ، و بين غيره ( و احتمال ) اختصاصه ما يكون جزء ( يدفعه ) ظهور هذه النصوص في عدم الاعتناء بالشك في السجود بعد الدخول في القيام الشامل باطلاقه لحال عدم الاشتغال بالقرائة او التسبيحات ، مع وضوح ان وجوبه انما كان في حال القراءة او التسبيحات ، ( ولذا ) لو قرء جالساً نسيانا ثم تذكر بعدها او في اثنائها صحت قرائته ولا يجب عليه القيام لقوات محله ، وان وجب عليه ذلك لاجل الركوع ، للزوم كونه عن قيام ( وكذا ) لا فرق بين كونه جزء مستقلا، وبين كونه جزء الجزء كا بما ض القراءة ، فلوشك المصلى في آية بعد الدخول في آية اخرى من الحمد او السورة ، لا يجب العود الى تدارك المشكوك فيه ، فضلا عما لو شك في أول السورة وهو في آخرها ( ومجرد ) عدم ذكر مثله في امثلة اخبار الباب لا يقتضى المنع عن شمول القاعدة لاجزاء الاجزاء بعد صدق الشك في الشيء بعد تجاوز محله بالدخول في غيره عليه ، واندراجه في الكبرى الكلية التي افادها الامام ( علیه السلام ) بقوله ، كل شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ( والا ) لاقتضى المنع عن جريان القاعدة فيما لو شك في قراءة الفاتحة بعد الدخول في السورة ، بل وبعد الدخول في القنوت ( اذ المذكور ) في الرواية رجل شك في القرأنة بعد ما ركم ، مع انه ليس كذلك ( نعم ) قد يشك في شمول الاخبار للشك في ابعاض آية بعد الدخول في البعض الآخر منها ( و اولى ) بالتشكيك مالو شك المصلى في جزء من الكلمة بعد الدخول في الجزء الآخر منها ، لا مكان دعوى انصراف الشيء وكذا الغير فى الاخبار ولو بقرينة الامثلة المذكورة فيها الى ما يكون له وجود مستقل عرفا ، وان كان في اعتبار الشارع جزء للجزء ، لا جزء مستقلا ( و من التامل ) فيما ذكرنا ظهرانه لا فرق ايضاً في الغير المترتب على المشكوك بين ان يكون من الاجزاء الواجبة ، او المستحبة كالقنوت على اقوى الوجهين ، بل وجلسة الاستراحة ( ولا ) بين كونه جزء مستحباً ، وبين كونه مستحباً نفسياً في حال الصلوة ، كالفنون على الوجه الآخر ( ولا ) بين كونه من المستحبات الداخلية ،

ص: 55

والمستحبات الخارجية كالتعقيب ونحوه ، فلو شك المصلى في الجزء الاخير وهو في حال التعقيب ، تجرى فيه القاعدة ، كل ذلك لاستفادة عموم الحكم بالمضي من الاخبار بالدخول فيما رتب على المشكوك بالجعل كان جزء الصلاة ، او مستحبا نفسياً في حالها ، او في خارجها مما هو من تبعاتها كالتعقيب ( لا انه ) للتعدي عما هو جزء الصلاة الى غير سنخه مما هو مستحب نفسى في حالها او في خارجها .

هل يعتبر فى القاعدة كون الغير متصلا بالمشكوك فيه

( الأمر الرابع ) هل يعتبر في قاعدة التجاوزان يكون الغير الذي اعتبر الدخول فيه متصلا بالمشكوك فيه ، او لا يعتبر ذلك بل يكفي في جريانها الدخول في مطلق الغير ولو كان غير ملاصق بالمشكوك فيه فيه وجهان ( اقواهما الثاني ) لما تقدم من ان المعتبر في القاعدة هو مجرد الشك في الشيء بعد تجاوز محله وان اعتبار الدخول في الغير في الاخبار انما هو لكونه محققاً لعنوان التجاوز عن محل المشكوك فيه الموجب لصدق الشك في الشيء بعد تجاوز محله ، لا انه لخصوصية فيه تقتضى الحكم بالمضي على المشكوك فيه ( وحينئذ ) فبعد صدق الشك في الشيء بعد تجاوز محله بالدخول في غير الملاصق بالمشكوك ، تجرى فيه القاعدة )( وعلى فرض ) الخصوصية لعنوان الدخول في الغير ( نقول ) : انه يكفيه اطلاق الغير فى الاخبار الشامل لغير المتصل بالمشكوك ( فان دعوى ) انصرافه الى خصوص المتصل بالمشكوك فيه مما لا شاهد له .

( وتظهر الثمرة ) بين الوجهين فيما لو شك في الجزئين المترتبين ، كما لو شك المصلى في الركوع والسجود وهو في التشهد ( اما ) بان يكون كل واحد منهما متعلقاً لشك مستقل بحيث يحتمل التفكيك بينهما في الوجود والتحقق ( واما ) بان يكون المجموع متعلقاً لشك واحد بنحو لا يحتمل التفكيك بينهما في الوجود ( فانه ) على المبنى المختار لا غبار في جريان القاعدة في الركوع والسجود في الصورتين ( واما على المبنى الآخر ) فيشكل جريان القاعدة فيهما ، فانه الشك في السجود يشك في الدخول في الغير المتصل بالنسبة الى الركوع ، فلا تجرى فيه القاعدة ( ومع ) عدم جريانها فيه لا تجرى في السجود ايضاً ، لعدم ترتب اثر شرعى عليه حينئذ ، لبطلان الصلاة التي لم يحرز فيها الركوع ( وبذلك ) يندفع ماقد يتوهم ، من

ص: 56

امكان جريان القاعدة فيها، باجرائها في السجود اولا ، لمكان تحقق شرطها الذي هو الدخول فى الغير المتصل به ( ثم ) اجرائها بالنسبة الى الركوع ثانياً ( لان ) القاعدة بجريانها في السجود محقق لعنوان الدخول في الغير المتصل بالركوع ولو تعبداً لا وجداناً ، وبتحقق هذا العنوان تجرى في الركوع ايضاً ( وجه الاندفاع ) مضافاً الى عدم اقتضاء التعبد بوجود السجود لاثبات عنوان الدخول في الغير المتصل بالنسبة الى الركوع الا على فرض القول بالمثبت ( ان جريان ) القاعدة في السجود فرع ترتب اثر شرعى عملى عليه لانه مما لابد منه في جريان القاعدة ( وهو متوقف ) على جريانها في الركوع ، اذ لولا جريانها فيه لا يترتب اثر شرعى على وجود السجدة لبطلان الصلاة التي لم يحرز الركوع فيها ، فإذا توقف جريانها في الوكوع على جريانها في السجود يلزم الدور ، وهو باطل ( هذا ) في الصورة الاولى ( واما ) في الصورة الثانية ، فالامر اشكل ( فانه ) مع اليقين بملازمة الاتيان بالسجود مع الاتيان بالركوع وعدم احتمال انفكاك احدهما عن الآخر في التحقق ، يقطع بعدم الاتيان بالسجود في فرض عدم اتيانه بالركوع ، ومع هذا القطع لا تجرى القاعدة في الركوع للقطع بع______دم الدخول في الغير المتصل به ( وبالجملة ) القاعدة انما تجري في مورد يجامع عدم الاتيان بالمشكوك مع الدخول في الغير المتصل به ، وفي هذا الفرض لا يحتمل ذلك كى تجري فيه القاعدة ( ولكن الذى ) يسهل الخطب هو فساد اصل المبنى ، لما عرفت من ان المعتبر في جريان القاعدة هو الشك في الشيء بعد تجاوز محله ، وهذا مما لاشك في صدقه بالدخول في مطلق الغير .

الجزء المشكوك فيه قديكون هو الجزء الاخير وقد لا يكون

( الأمر الخامس ) ان الجزء المشكوك فيه ( تارة ) يكون هو الجزء الاخير من العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وغسل جانب الايسر في الغسل ، ومسح الرجل اليسرى في الوضوء ( واخرى ) يكون ما عدى الجزء الاخير ، ( فان كان ) المشكوك فيه ما عدى الجزء الاخير ، فلا اشكال في انه قبل الدخول فيما رتب عليه شرعا يجب العود اليه ، وبعد الدخول فيه بحكم عليه بالمضي وعدم الاعتداد بالشك ( وان كان ) المشكوك فيه هو الجزء الاخير ، كالتسليم في باب الصلاة ، فقد يقال : بوجوب الاعتداد بالشك ،

ص: 57

لعدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لاشتراطها بالدخول في الغير المترتب عليه من الاجزاء ، وليس للصلاة وراء التسليم شيء يتصور الدخول فيه ( ولا قاعدة ) الفراغ عن العمل ايضاً ، للشك في تحقق الفراغ بدونه ( وتحقيق الكلام ) فيه ان الشك في التسليم ( تارة ) يكون في حال الاشتغال بالتعقيب ( واخرى ) بعد فعل ما ينافي الصلاة عمداً وسهواً ، كالحدث والاستدبار ، او عمداً لا سهواً ، كالتكلم ( وثالثة ) في حال السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة عرفا ) ورابعة ) في حال السكوت غير الماحي لصورة الصلاة ( فان كان ) الشك فى التسليم في حال الاشتغال بالتعقيب ، فلا ينبغي الاشكال في عدم الاعتداد بالشك لجريان قاعدة التجاوز فى المشكوك ( فان التعقيب ) ، وان كان من توابع الصلاة الخارجة عن حقيقتها كالاذان والاقامة لا من اجزائها ( ولكن ) الشارع لما اعتبر له محلا خاصاً بكونه عقيب التسليم ، فلا جرم عند الشك في التسليم تجري فيه قاعدة التجاوز ، لصدق الشك في الشيء بعد تجاوز محابه على مثله ( كما انه ) لو كان الشك في التسليم في حال السكوت القصير غير الماحى لصورة الصلاة لا اشكال في الاعتداد بالشك ووجوب التسليم لبقاء محله ( و اما لو كان ) الشك فيه بعد فعل ما ينافي الصلاة عمداً وسهواً ( فقد يقال ) : انه تجرى فيه ايضاً قاعدة التجاوز ( بتقريب ) ان الشارع وان لم يجعل لما ينافي الصلاة محلا خاصاً ، بل جعله من المبطلات ، الا انه لما كان تحليلها التسليم كان محل التسليم قبل فعل المنافي ، وبهذا الاعتبار يجرى عليه حكم المحل الشرعي ، فتجري فيه قاعدة التجاوز ( وفيه ) ان مجرد كون التسليم تحليلا لفعل المنافي لا يقتضى ترتباً شرعياً بينهما ، بل غاية اقتضائه هو جواز فعل تلك المنافيات بعد ان كانت محرمة على المكلف في اثناء الصلاة ( فما هو المترتب ) على التسليم حينئذا نما هو جواز فعل المنافيات ، لا نفسها ( والغير ) الذي اعتبر الدخول فيه للتجاوز عن محل المشكوك ، هو الغير المترتب عليه بنفسه ، لا ما يكون بحكمه مترتباً عليه ، وبينهما بون بعيد ، فلا مجال حينئذ لتوهم جريان قاعدة التجاوز في التسليم وهكذا الكلام فيه الوشك في التسليم في حال السكوت الطويل الماحى لصورة الصلاة، فلا تجري فيه ايضا قاعدة التجاوز ( واما قاعدة ) الفراغ الحاكمة بصحة الصلاة ، فجريانها مبنية على

ص: 58

كفاية الاتيان بمعظم الاجزاء في صدق الفراغ عن العمل ( فان قلنا ) به يحكم بصحة الصلاة للقاعدة ، والا فيشكل تصحيح هذه الصلاة ، لانه مع الشك فى التسليم يشك في الفراغ الذي هو موضوع القاعدة ( ولكن ) الالتزام بكفاية صرف الاتيان بمعظم الاجزاء مع الشك في التسليم في تحقق الفراغ الذي هو موضوع القاعدة ، لا يخلو عن اشكال ( فان ) ما يمكن الالتزام به بعد الاخذ بمعظم الاجزاء هو اعتبار امر آخر من كونه عند الشك في حال يرى نفسه فارغا من الصلاة ، او يكون فعل المنافي من الأول صادر أمن المكلف باختياره باعتقاد فراغه ، وبعد فعل المنافي او في اثنائه يشك في الجزء الاخير الذي هو التسليم ، والا فمجرد كون الشك في التسليم في حال الاتيان والمنافي لا يكفي في جريان القاعدة ( وبماذكرنا ) يتضح الحال في الفرع المعروف ، وهو مالو انتبه عن نومه في حال السجدة ، وشك في أنه سجدة شكر او سجدة صلاة ( فانه ) على ماذكرنا لا تجري قاعدة التجاوز في السجدة والتشهد لعدم احراز عنوان التجاوز عن المحل ( ولا قاعدة ) الفراغ ، لعدم احراز موضوعها مع الشك المزبور ، فلا مصحح لتلك الصلاة ، الا في فرض عامه بان نومه من الاول كان عن اختيار منه لزعم فراغه من الصلاة ، هذا كله في الشك في الجزء الاخير في باب الصلاة .

فى حكم الشك فى الجزء الاخير في غير باب الصلوة

( واما الشك ) في الجزء الاخير في غير باب الصلاة ، كالشك في مسح الرجل اليسرى في الوضوء ، وغسل الجانب الايسر في الغسل فحكمه حكم الشك في التسليم ، فلا تجرى فيه قاعدة التجاوز ، وان كان الشك فيه بعد جفاف تمام الاعضاء السابقة ، لعدم صدق التجاوز عن المحل بالنسبة الى الجزء الاخير منها ( الا بتوهم ) ان المحل الشرعى المعتبر في مسح الرجل اليسرى في الوضوء بمقتضى ادلة اعتبار عدم جفاف الاعضاء السابقة ، هو كونه قبل جفاف الرطوبة من تمام الاعضاء السابقة ( وفي غسل الجانب الايسر في الغسل الترتيبي لمن اعتاد الاتيان بغسل الاعضاء متوالياً ، قبل فصل طويل ينافي عادته ( فاذا ) كان الشك في الجزء الاخير من الوضوء بعد جفاف الاعضاء السابقة ، وفي الجزء الاخير من الغسل الترتيبي بعد فصل طويل ينافي عادته ، تجري فيها قاعدة التجاوز ( ولكنه ) توهم فاسد ( اما ) في الغسل فيهما ذكرنا من ان العبرة

ص: 59

في صدق التجاوز عن الشيء ، انما هو التجاوز عن محله الشرعي المقرر له حسب الترتيب المعتبر شرعا بينه و بين غيره، ولا عبرة بالمحل العادي او العقلي ( واما ) في الوضوء ، فبان مجرد اعتبار الشارع عدم جفاف العضو السابق او تمام الاعضاء السابقة في صحة غسل العضو اللاحق او مسحة لو قلنا به ولم نقل برجوع هذه التحديدات الى عدم فوات الموالات العرفية ، لا يقتضى اعتبار المحل الشرعي لغسل العضو اللاحق او مسحه بكونه قبل جفاف الرطوبة من العضو السابق ، كي بالجفاف المزبور يصدق عنوان التجاوز عن محل الشيء ( خصوصاً ) في مسح الرأس والرجلين ، لقوة دعوى كون الامر باعادة الوضوء في الخبر مع عدم بقاء البلة ، لاجل تعذر المسح ببلة الوضوء مع جفاف الاعضاء، لا أنه من جهة اشتراطه بعدم جفاف الاعضاء السابقة ، فضلا اقتضائه الاعتبار المحل الشرعي لمسح الرأس والرجلين بكونه قبل جفاف الاعضاء السابقة ، كما يشهد له ظهور قوله ( علیه السلام ) في مرسلة الصدوق ، وان نسيت مسح رأسك ، فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك الى قوله ( علیه السلام ) وان لم يبق من بلة وضوئك شيء أعدت الوضوء ( وحينئذ ) فلا يبقى مجال لاجراء قاعدة التجاوز في مسح الرجل اليسرى عند الشك فيه بصرف كون الشك المزبور في حال جفاف تمام الاعضاء السابقة ( نعم ) لا بأس بجريان قاعدة الفراغ في الوضوء ، وكذا في الغسل عند الشك في الجزء الاخير منهما بعد صدق عنوان الفراغ عن العمل عرفا ولو بعضي زمان طويل او الدخول في عمل آخر من صلاة ونحوها .

فى كون المشكوك فيه ممّا يجزم بكونه مأتيا على وفق امره على تقدير وجوده

( الأمر السادس ) يعتبر في جريان قاعدة التجاوز ان يكون المشكوك فيه على تقدير وجوده مما يجزم بكونه مأنياً على وفق امره ، بحيث وقع امتثالا لامره ( لان ) المجعول في قاعدة التجاوز انما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه بلحاظ ما يترتب عليه من تحقق الامتثال الموجب لسقوط امره ( فلو لم يكن ) المشكوك فيه كذلك ، بل كان ما يجزم بكونه على تقدير وجوده غير موافق لامره ، فلا تجرى فيه القاعدة امدم ترتب اثر عملي حينئذ على التعبد بالمضى عليه ( فلو علم ) اجمالا في حال القيام انه ، اماترك الركوع ، او التشهد ، لانجرى القاعدة في التشهد ( لان ) وجوده ملازم

ص: 60

لفوت الركوع وهو مستلزم لبطلان صلاته ، فلا يترتب على وجوده اثر عملي حتى تجرى فيه القاعدة ( وان شئت ) قلت في الفرض المزبور انه يعلم تفصيلا بعدم الاتيان بالتشهد على وفق امره ، اما لعدم الاتيان به رأساً ، واما للاتيان به في صلاة فاسدة ( ومع ) هذا العلم لانجرى فيه قاعدة التجاوز حتى تعارض مع جريانها في الركوع ، لعدم احتمال الاتيان به في صلاة صحيحة ( فتجرى ) القاعدة حينئذ في الركوع بلا معارض ، ومقتضاه وجوب الاتيان بالتشهد بقاء محله ، وبقضائه بعد الصلاة مع عدم بقاء محله بدخوله في ركن آخر ( فان ) احتمال عدم وجوبه حينئذ انما هو من جهة احتمال بطلان الصلاة الناشيء من احتمال فوت الركوع ( وهذا ) الاحتمال مرتفع بقاعدة التجاوز الجارية في الركوع الحاكمة بصحة الصلاة، والا فاصالة عدم الاتيان بالتشهد غير مقتضية لوجوب الاتيان به مع بقاء محله وبقضائه بعد الصلاة مع ع_دم بقائه ( فان ) جريان هذه القواعد الظاهرية حتى قاعدة الاشتغال انما يكون في ظرف احتمال الاتيان بالمشكوك في صلاة صحيحة وعدم الاتيان به كذلك ( ومع ) دوران المشكوك بين عدم الاتيان به رأساً ، او الاتيان به في صلاة فاسدة ، لا يحتمل الاتيان بالمشكوك في صلاة صحيحة ، فلا تجري فيه القواعد الظاهرية المثبتة لوجوب الاتيان به حتی قاعدة الاشتغال ( لان ) مجرى تلك القاعدة انما هو الشك فى فراغ العهدة من جهة احتمال الاتيان بالمفرغ في صلاة صحيحة ، ولا يحتمل ذلك في نحو تلك الموارد ( وهكذا ) الكلام في كل مورد تردد الفائت بين الركن وغيره ( فان ) في جميع تلك الموارد تكون قاعدة التجاوز بالنسبة الى ما عدى الركن غير جارية، لمكان الجزم بعدم الاتيان به على وفق ،امره ، فتجرى بالنسبة الى الركن بلا معارض ، وبجريانها فيه يترتب صحة الصلاة ، فيجب الاتيان بغير الركن مع بقاء محله ، وبقضائه بع______د الصلاة مع عدم بقاء محله ان كان مما له القضاء بعد الصلاة ( فان احمال ) عدم وجوبه حينئذ انما هو من جهة احتمال فساد الصلاة ، وهذا الاحتمال مرتفع بقاعدة التجاوز الجارية في الركن الحاكمة بصحة الصلاة ظاهراً ( نعم ) في فرض بقاء المحل الشكى للركن تجرى القاعدة في غير الركن فيجب الاتيان بالركن في محله لقاعدة الشك

ص: 61

في المحل ( وبما ذكرنا ) يتضح لك الحال في كثير من الفروع التي أوردها السيد الطباطبائي ق______دس سره في العروة الوثقى فراجع وتأمل فيها تجد ما ذكرناه حقيقا بالتحقيق فيها .

فى عمومية القاعدتين لغير باب الطهارة والصلوة

( الامر السابع ) الظاهر انه لا اختصاص لقاعدة التجاوز بياب الطهارة والصلاة ، لعموم قوله ( علیه السلام ) كل شيء شك فيه وقد جاوزه الشامل لغيرهما ايضاً كالحج ونحوه ، ومع هذا العموم لا يحتاج الى استفادة التعميم من لفظ الشيء الوارد في صحيح زرارة في قوله ( علیه السلام ) اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، كى يقال : ان الشيء في الرواية لولم يكن ظاهراً في الاختصاص باجزاء الصلاة بقرينة الاسئلة فلااقل من التشكيك في ظهوره في التعميم لغير باب الصلاة ( وما يقال ) ان لفظ كل وان كان دالا على الاستيعاب بلا ارتياب الا انه على استيعاب ما يراد من مدخوله الذي هو الشيء ( والاشكال ) انما هو في المراد من المدخول من انه مطلق الشيء او هو الشيء الخاص وهو الصلاة واستفادة العموم مبنى على تمامية مقدمات الحكمة وهى ممنوعة بعد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب المذكور في صدر الرواية ( مدفوع ) بان التعميم كما يستفاد من قضية الاطلاق ومقدمات الحكة ، كذلك يستفاد من لفظ كل ، لما هو التحقيق من كونه موضوعا للدلالة على استيعاب جميع ما يصلح لانطباق المدخول عليه ، فيقوم حينئذ مقام مقدمات الحكمة ويستفاد منها ما يستفاد من مقدمات الحكمة، هذا في قاعدة التجاوز ( و اما قاعدة الفراغ ) فلا اشكال في عمومها ، بل هى اوسع من قاعدة التجاوز ، فتجرى في جميع الابواب من العبادات والمعاملات ، بل الظاهر عدم اختصاصها ببعد الفراغ الاعمال من المستقلة التي لها خطاب مستقل ، كالصلاة والوضوء ونحوهما ، فتجرى في اثناء العمل الواحد ايضاً اذا كان المشكوك صحته وفساده مما له نحو استقلال بنظر العرف بنحو يعد كونه عملا من الاعمال وان كان في اعتبار الشارع جزء للعمل ، كالسعي والطواف ، بل والركمة في الصلاة فتدبر .

( الامر الثامن ) يعتبر في جريان قاعدة التجاوز والفراغ ان يكون الشك متعلقاً بالعنوان الذى له الاثر الشرعى في كبرى الدليل ( لان ) شأن قاعدة التجاوز

ص: 62

والفراغ وغيرهما من الاصول المحرزة انما هو تطبيق الكبريات الواقعية على الموارد بالعناوين التي لها الاثر الشرعي ، لا بغيرها من العناوين ( فلو صلى ) من وظيفته تكرار الصلاة الى اربع جهات ، وعلم بعد الفراغ منها بفساد الصلاة الواقعة في احدى الجهات الاربع بنحو الاجمال ، لانجرى قاعدة الفراغ بالنسبة الى الصلاة الواقعة الى القبلة المرددة بين الجهات بهذا العنوان الاجمالي كما توهم ، بدعوى صدق الشك في صحة تلك الصلاة وفسادها ( وذلك ) لانه لا أثر للصلاة الى القبلة المرددة بهذا العنوان الاجمالي العرضى ، كى تجري فيها القاعدة ( وانما ) الاثر الشرعي لواقع ما يكون الى القبلة بعنوانه التفصيلي ، كالصلاة الى هذه الجهة وتلك الجهة الاخرى ( والا ) لا قتضى جريان القاعدة حتى في فرض العلم التفصيلي بفساد الصلاة الواقعة الى جهة معينة ( اذ يصدق ) في هذا الفرض الشك في صحة الصلاة الواقعة الى القبلة بهذا العنوان الاجمالي ( مع انه ) لا يظن التزامهم به ( نعم ) لا بأس بإجراء القاعدة في كل واحدة من الصلوات المأتية الى الجهات الاربع بعناوينها التفصيلية ( فان ) كل واحدة منها على تقدير كونها الى القبلة مما يترتب عليه الاثر ( فاذا ) شك في صحتها وفسادها تجرى فيها قاعدة الفراغ ( واما العلم الاجمالي ) بمخالفة بعض هذه الأصول للمواقع، فغير ضائر بعد احتمال كون الفاسدة هى الواقعة الى غير القبلة ( وعلى هذا ) البيان لا يتوجه ما ذكرناه من النقض بفرض العلم التفصيلي بفساد الصلاة الواقعة الى الجهة المعينة ( اذ في هذا ) الفرض لا تجرى القاعدة بالنسبة الى تلك الصلاة ، ولا يجدى جريانها بالنسبة الى غيرها ايضاً ، لعدم احراز كونها صلاة الى القبلة كما هو ظاهر .

في كون الشك متعلقاً بالعنوان الذى له الاثر الشرعي في قاعدتى التجاوز والفراغ معاً

( الامر التاسع ) هل الشك في الشروط ، كالشك في الاجزاء ، فتجري فيها قاعدة التجاوز اولا ( وتنقيح ) الكلام فيها هو ان الشرائط المعتبرة في الصلاة على اقسام ( الاول ) ما يكون شرطاً عقليا في تحقق عنوان المأمور به ، من الصلاتية والظهرية والعصرية ونحوها ، كالنية ( فان ) هذه العناوين باعتبار كونها امورا قصدية لا يكاد يتحقق عقلا الا بالقصد والنية ( والثاني ) ما يكون شرطاً شرعياً لصحة المأمور به فارغا عن اصل تحقق عنوانه من الصلاتية او الظهرية والعصرية ، كالطهور

ص: 63

والستر والاستقبال ونحوها ( الثالث ) ما يكون شرطاً عقلياً لنفس الجزء بمعنى كونه مما يتوقف عليه وجود الجزء عقلا ، كالموالات بين حروف الكلمة ( الرابع ) ما يكون شرطاً شرعياً للجزء ، كالجهر والاخفات بناء على القول بكونها شرطاً للقراءة ، لا شرطاً للصلاة في حال القراءة ، كما هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى ولا تجهر بصلاتك الآية ( ثم ) ان ما يكون شرطاً شرعياً للصلاة ( اما ) ان يكون شرطاً لها في خصوص حال الاجزاء ( واما ) ان يكون شرطاً لها مطلقاً حتى في حال السكونات المتخللة بين الاجزاء ، كالستر والاستقبال والطهارة الحدثية ( وعلى التقديرين ) ، اما ان يكون له محل مقرر شرعى بكونه قبل الدخول فى المشروط كصلاة الظهر والمغرب بالنسبة الى صلاة العصر والعشاء على ما يقتضيه ادلة الترتيب ، وكالطهارة الحدثية في الجملة ، كما يقتضيه قوله تعالى اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ( واما ) ان لا يكون له محل مقرر شرعی كالستر والاستقبال .

الشك فى الشروط كالشك في الاجزاء فى جريان قاعدة التجاوز فيها ام لا

( وبعد ) ما تبين ذلك ، نقول : ( اما الاول ) وهو ما يكون شرطاً مقوماً لعنوان المأمور به من الصلاتية او الظهرية او العصرية ، كالنية ( فلا اشكال ) في انه مع الشك فيها لا تجري قاعدة التجاوز فيها ( فانه ) مضافا الى اختصاص القاعدة بما اذا كان المشكوك امراً شرعياً له محل مقرر شرعى ، لا يكاد تجدى في احراز عنوان المشروط ، فان جهة نشو الافعال عن قصد الصلاتية او الظهرية والعصرية انما تكون من لوازم وجود القصد والنية عقلا ، والتعبد بوجود القصد لا يقتضى اثبات هذه الجهة ( وحينئذ ) فمع الشك في نشو المأتى به عن مثل هذا القصد يشك في تعنونه من اول شروعه فيه بعنوان الصلاتية او الظهرية او العصرية ، ومع هذا الشك لا تجرى قاعدة الفراغ في المشروط ايضاً ، لاختصاصها بما اذا كان العمل محرزاً بعنوانه، وكان الشك متمحضاً في صحته وفساده ، كما هو كذلك في قاعدة الصحة الجارية في عمل الغير ايضاً ( من غير فرق ) فيما ذكرنا بين ان يكون الشك في النية في اثناء العمل ، وبين ان يكون بعد الفراغ منه ، فأنه على كل تقدير لا تجري قاعدة التجاوز بالنسبة الى الشرط ، ولا قاعدة الفراغ بالنسبة الى المشروط ( فلو شك ) فى ان ما بيده صلاة او غيرها بطل

ص: 64

ويجب استينافه بمقتضى قاعدة الاشتغال بالصلاة ( كما انه ) لو شك في ان ما بیده ظهر و عصر يبطل ايضاً اذا علم انه قد صلى الظهر ، ( لانه ) لا يعلم كونه من حين شروعه بعنوان العصر ( نعم ) لو علم انه لم يصل الظهر ، او شك في الاتيان بها عدل به اليها و صحت صلاته ( ثم ان ) هذا كله في النية بمعنى القصد المقوم لعنوان المأمور به .

في حكم الشك في النية

( واما ) النية بمعنى قصد القربة ، فلو شك فيها في اثناء الصلاة ، فقاعدة التجاوز فيها ايضاً غير جارية ولو قلنا بكونها شرطاً شرعياً معتبراً في العبادة كسار الشروط المعتبرة فيها ، لا شرطاً عقلياً معتبراً في مقام الامتثال ، لعدم كونهما على فرض الشرعية مما له محل مقرر شرعى حتى يصدق عليها عنوان التجاوز عن المحل والدخول في الغير ( واما ) قاعدة الفراغ فجريانها في الاجزاء التي شك في اقترانها بقصد القربة ، مبنى على كونها شرطا شرعياً مأخوذاً في العبادة ولو بنحو نتيجة التقييد ( والا ) فعلى القول بكونها شرطاً عقلياً معتبراً في مقام الامتثال ، فلانجرى قاعدة الفراغ ايضاً ، لا نتفاء الشك في صحة المأتى به بمعنى المستجمع للاجزاء والشرائط الشرعية، ولو مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة ، للقطع بكون المانى به بدونه واجد الجميع ما اعتبر في المأمور به شطراً وشرطاً .

( واما الثاني ) وهو ما يكون شرطاً الصلاة في حال الاجزاء ، او مطلقاً حتى في السكونات المتخللة بين الاجزاء ( فان لم يكن ) للشرط محل مقرر شرعى بكونه قبل الدخول في الصلاة ، وانما المعتبر شرعا مجرد وقوع الصلاة في حال وجود الشرط ، كالستر والاستقبال ( فلا شبهة ) في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لعدم صدق عنوان التجاوز عن المحل حينئذ بالنسبة اليه بالدخول في المشروط ( ومجرد ) حكم العقل بوجوب تحصيله قبل الصلاة مقدمة ليكون افتتاح الصلاة بالتكبير في حال وجوده ، غير مجدى في جريان القاعدة فيه ( لما عرفت ) من ان العبرة في جريان قاعدة التجاوز ، انما هو بالتجاوز عن المحل الشرعي للمشكوك فيه حسب الترتيب المقرر شرعاً بينه و بين غيره ( وانه ) لا عبرة بالمحل العقلى او العادي ( وحينئذ ) فاذا لم يكن لمثل هذه الشروط محل شرعى ، فلا يصدق عليه بالدخول في المشروط عنوان التجاوز عن المحل ( ومعه ) لا تجري فيه القاعدة ( ولا فرق ) في ذلك بين ان يكون الشك في الشرط في اثناء

ص: 65

المشروط ، وبين ان يكون الشك فيه بعد الفراغ منه ( نعم ) تجري قاعدة الفراغ في المشروط اذا كان الشك في الشرط بعد الفراغ منه ( فانه ) يشك حينئذ في صحته وفساده والقاعدة تقتضى صحته ( واما ) اذا كان الشك فيه في اثناء المشروط ، فتجري فيه ايضاً قاعدة الفراغ اذا كانت الاجزاء الماضية بنحو يكون لها عند العرف عنوان مستقل بحيث تعد عملا من الاعمال ، كالركعة مثلا ، دون غيره مما لا يكون كذلك ، كالآية ونحوها ( وكون ) الشرط شرطاً لنفس العمل لا للاجزاء ( لا يضر ) بجريان القاعدة فيها بعد رجوع شرائط العمل الى الاجزاء ايضاً ، بلحاظ ان المركب هو عين الاجزاء بالاسر ( ثم ان ذلك ) اذا كان محرزاً للشرط بالنسبة الى ما بيده من الاجزاء المستقبلة ( والا ) فمع الشك فيه حتى بالنسبة الى ما بيده ، فلا تجري القاعدة بالنسبة الى الاجزاء الماضية ايضاً ، لعدم ترتب اثر عملى على جريانها فيها مع الشك في الشرط بالنسبة الى ما بيده ( فلابد ) حينئذ بمقتضى قاعدة الاشتغال من استيناف الصلاة فتدبر .

( واما اذا كان ( المشرط محل مقرر شرعى ، كصلاة الظهر والمغرب بالنسبة إلى صلاة العصر والعشاء على ما تقتضيه ادلة الترتيب من نحو قوله ( علیه السلام ) : الا ان هذه قبل هذه ، وكالطهارة الحدثية على وجه ( ففي جريان ) قاعدة التجاوز في الشرط عند الشك فيه في اثناء المشروط ، و عدم جريانه ( وجهان ) . . وعلى تقدير الجريان ( ففي جواز ترتيب ) جميع آثار وجود الشرط مطلقاً حتى بالنسبة الى مشروط آخر لم يدخل فيه ، فلا يجب تجديد الوضوء فى مثال الطهارة لسائر الأمور المشروطة بالطهارة ، ولا الاتيان بالظهر بعد اتمام العصر لو شك في الظهر في اثناء العصر ( او وجوب ) الاقتصار على خصوص آثار شرطيته بالنسبة الى المشروط الذي دخل فيه ، دون غيره ( فيجب ) في مثال الطهارة تجديد الوضوء لمشروط آخر لم يدخل فيه ( ويجب ) في مثال الظهر والعصر الاتيان بالظهر بعد اتمام ما بيده عصراً ( فيه وجهان ) . . ظاهر المستفاد من العلامة الانصاري وجماعة هو الوجه الثاني ( حيث ) قال : أن معنى البناء على حصول المشكوك فيه انماهو البناء على حصوله بالعنوان الذي يتحقق معه تجاوز المحل لا مطلقاً،

ص: 66

فلو شك في اثناء العصر في فعل الظهر بني على تحقق الظهر بعنوان انه شرط للعصر في عدم وجوب العدول اليه ، لا على تحققه مطلقا حتى لا يحتاج الى اعادتها بعد فعل العصر فالوضوء المشكوك فيه فيما نحن فيه انمافات محله من حيث كونه شرطاً للمشروط المتحقق ، لا من حيث كونه شرطاً للمشروط المستقبل ( وقداورد ) عليه بانه لا وجه للتفكيك بين الآثار ( فان القاعدة ) انما تكون من الاصول المحرزة ، حيث كان مفادها هو البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه ( فاذا ) فرضنا جريانها في الشرط عند الشك فيه في اثناء المشروط ، فلابد من ترتيب جميع آثار وجوده التي منها ، في مثال الظهر والعصر ، عدم وجوب الاتيان بالظهر بعد اتمام ما بيده عصراً ، وفي مثال الطهارة عدم وجوب تجديد الوضوء لسائر الغايات المشروطة بالطهارة ( وفيه مالا يخفى ) اذ نقول : ان القاعدة انما تجرى في المشكوك في مورد يصدق عليه عنوان التجاوز عن المحل ( وصلاة ) الظهر أنما يصدق عليها عنوان التجاوز عن المحل من حيث كونها شرطاً الصحة العصر ، لا من حيث نفسها ، فانها من حيث نفسها لا يكون لها في الوقت المشترك محل مقرر شرعي بكونه قبل العصر حتى يصدق عليها عنوان التجاوز المزبور ، بل محلها باق الى الوقت المختص بالعصر ( وحينئذ ) فجريان القاعدة في الظهر بعنوان کونه شرطاً للعصر لا يقتضى الا البناء على وجوده من حيث شرطيته ، لا من حيث عنوان نفسه ( فلا تنافي ) بين البناء على وجود الظهر من حيث شرطيته للعصر ، وبين الحكم بوجوب الاتيان به بعد فعل العصر بمقتضى الاستصحاب ( وحكومة ) القاعدة على الاستصحاب انما تكون بالنسبة الى عنوان شرطية الظهر للعصر ، لا بالنسبة الى عنوان ذاته ( لما عرفت ) من انها بالنسبة الى ذات الظهر غير جارية ، لانتفاء شرطها الذي هو التجاوز عن محله ( وتوهم ( العلم الاجمالي حينئذ بكذب احد الاصلين ، اما القاعدة او الاستصحاب ( مدفوع ) بأنه غير ضائر في المقام ، لعدم استلزام جريانهما لمحذور المخالفة العملية المتكليف ( والتفكيك ) بين المتلازمين في الاحكام الظاهرية ، غير عزيز ، وله نظائر كثيرة ( منها ) في من توضأ غفلة بمايع مردد بين الما. والبول ( فان ) بنائهم فيه على الحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث ، مع وضوح

ص: 67

الملازمة التامة في الواقع بين بقاء الحدث ونجاسة البدن بحيث لا يمكن التفكيك بينهما في الواقع هذا .

في حكم الشك في الظهر في اثناء العصر

( ولكن التحقيق ) في المقام هو الوجه الأول ، وهو المنع عن جريان القاعدة في الشرط عند الشك فيه في اثناء المشروط ( اما ) في مثال الظهر والعصر ، فلظهور ادلة تشريع العدول في الأثناء في كون الشرطية ملحوظة بالنسبه الى جميع اجزاء المشروط على وجه يكون كل جزء من اجزاء العصر مشروطاً مستقلا ، ، بحيث ينتزع من الشرطية اشتراطات متعددة حسب تعدد الاجزاء ( لا انه ) اعتبر العصر باجزائه امراً وحدانياً مشروطاً باشتراط واحد ( فان ) لازم ذلك بعد ظهور اخبار الباب في اختصاص الحكم بالمضي بخصوص ما يصدق عليه التجاوز ، لا مطلقاً حتى بالنسبة الى ما لا يصدق عليه التجاوز ( هو عدم ) الغاء الشك في الشرط بصرف الدخول في المشروط ، الا بالنسبة الى الجزء المدخول فيه ، لا مطلقاً حتى بالنسبة الى تمام المشروط به ( وحينئذ ) فبعد الشك الوجداني فيه بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ، لا محيص من العدول الى الظهر ، واتمام ما بيده ظهراً ، ثم الاتيان بالعصر ( وتوهم ) اختصاص ادلة تشريع العدول بصورة العلم بعدم الاتيان بالظهر ، فلاتشمل صورة الشك في الاتيان به ، كي يستفاد منها الشرطية لكل جزء من اجزاء العصر ( مدفوع ) بان تشريع العدول انما هو من لوازم عدم الاتيان بالظهر واقعاً والتذكر والعلم بالعدم طريق اليه ( فباصالة ) عدم الاتيان بالظهر عند الشك يترتب وجوب العدول اليه ظاهراً ( لا يقال ) انه مع تقدم القاعدة على الاستصحاب حكومة او تخصيصاً لا مورد لتطبيق كبرى جواز العدول على المورد ، كي تمنع عن جريان القاعدة ( فانه يقال ) ان عدم جريان القاعدة في المورد ليس من جهة قضية الاستصحاب ( وانما ) ذلك لقصورها فى نفسها عن الجريان في المورد ، لانتفاء شرطها الذى هو التجاوز عن المحل بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ، حسب كشف دليل تشريع العدول في الاثناء عن شرطية تقدم الظهر بالنسبة كل جزء من اجزاء العصر ، وان لم يكن هناك استصحاب ، ولا امر فعلي بالعدول ( وعلى فرض ) المعارضة

ص: 68

بين القاعدة ، وبين دليل تشريع العدول في مقام التطبيق على المورد ، لا ناطة جواز العدول على عدم جريان القاعدة ، وبالعكس ( نقول ) : انه بعد عدم مرجح لاحد الامرين يوجب تقدمه على الآخر ( يصير موردية ) المورد القاعدة مشكوكة ، المشك في تحقق شرطها الذى هو التجاوز عن المحل ( ومع ) هذا الشك لا تجرى القاعدة ، فينتهي الامر الى اصالة عدم الاتيان بالظهر ( فلا بد ) في مقام اسقاط التكليف وتفريغ الذمة من العدول الى الظهر ولو برجاء الواقع واتمام ما بيده من الصلاة ظهراً ، ثم الاتيان بصلاة العصر ( هذا ) اذا كان الشك في الظهر في اثناء العصر ( واما ) لو كان الشك فيه بعد الفراغ عنه ، فلاشبهة في صحة المأتى به عصراً ( لان ) الترتيب بينهما شرط ذكرى لا شرط واقعى ( وفي جريان ) قاعدة التجاوز حينئذ في الظهر ، كي لا يجب الاتيان به ولو مع بقاء الوقت ( اشكال ) تقدم ان الاقوى هو المنع ، لعدم تحقق عنوان التجاوز عن المحل بالنسبة الى عنوان ذاته فى الوقت المشترك .

فى حكم الشك في الطهور في اثناء الصلوة

( وبما ذكرنا ) من البيان يتضح الحال في مثال الشك في الطهارة في اثناء الصلاة ( اذا نقول ) ان الحكم بالمضى فيه والغاء الشك في الوضوء حتى بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ( مبني ) على اعتبار الشرطية المنشاء لا نتزاع المحل ، بين الصلاة باجمعها ، والوضوء بنحو لم يلحظ كل جزء مشروطاً مستقلا، بل اعتبر الصلاة باجزائها أمراً وحدانياً مشروطاً باشتراط واحد بالوضوء السابق ( والا ) فعلى ما هو التحقيق من اعتبار الشرطية المنشاء لانتزاع المحل ، بين الوضوء السابق ، وبين كل جزء بنحو يكون كل جزء منه مشروطاً مستقلا ( فلا يكفي ) في الغاء الشك في الوضوء ، مجرد الدخول في المشروط حتى بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ، بل لا بد من احراز الشرط بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ايضاً ( وبدونه ) لا بد من قطع الصلاة ، واستينافها بعد تجديد الوضوء ( لان ) نسبة الشرط حينئذ الى جميع اجزاء المشروط نسبة واحدة ، وتجاوز محله باعتبار كونه شرطاً للاجزاء الماضية لا يكفي بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة بعد عدم صدق تجاوز المحل بالنسبة اليها .

( ثم ان ذلك ) ايضاً بناء على تسليم ان شرط الصلاة هو الوضوء على ما يقتضيه

ص: 69

قوله سبحانه اذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . الظاهر في كون الشرط هو الوضوء قبل الصلاة ( والا ) فعلى ماهو التحقيق من ان الشرط هو الطهور المسبب عنه ، لقوله ( علیه السلام ) لا صلاة الا بالطهوروان الامر بالوضوء في الآية المباركة من جهة كونه محققاً للشرط الذي هو الطهور ( يدخل ) في الشروط المقارنة العمل ، كالستر والاستقبال ( وعليه ) يمكن المنع عن اعتبار محل شرعى له بكونه قبل الدخول في العمل ، اذ لا طريق الى اثبات هذه الجهة بعد حكم العقل بوجوب تحصيله بايجاد محققه الذي هو الوضوء قبل الصلاة مقدمة ، ليكون الصلاة بمالها من الاجزاء في حال الطهارة ( والآية ) المباركة لا ظهور لها في اثبات هذه الجهة ، لاحتمال كونها ارشادا الى حكم العقل بوجوب الوضوء قبل الصلاة تحصيلا المطهور الذي هو من الشروط المقارنة للصلاة لعدم امکان تحصيله بدونه حال الصلاة ( وبالجملة ) يكون حال الظهور حال سائر الشروط المقارنة المعمل ، ولا مجرى فيه لقاعدة التجاوز اذا كان الشك فيه في اثناء الصلاة ( وعلى فرض ) جريانها ، فحيث انه شرط لكل جزء من اجزاء الصلاة ، لا تجدى القاعدة بالنسبة الى الاجزاء المستقبلة ، بل لابد من احراز الشرط بالنسبة اليها ايضاً، وبدونه لابد من قطع الصلاة واستينافها بعد تجديد الوضوء ( نعم ) لو كان الشك فيه بعد الفراغ عن الصلاة بحكم بصحة الصلاة ، ولكنه لا من جهة قاعدة التجاوز في الشرط، بل من جهة قاعدة الفراغ في نفس المشروط ، لمكان الشك حينئذ في صحته وفساده، فتجرى فيه قاعدة الفراغ الحاكمة بصحته ( ثم انه ) مما يؤيد ما ذكرناه بل يشهد له مارواه الشيخ قدس سره في فرائده من صحيحة على بن جعفر عن اخيه ( علیه السلام ) .. قال سألته عن الرجل يكون على وضوء ، ثم يشك على وضونه هو ام لا .. قال ( علیه السلام ) اذا ذكرها وهو في صلاته انصرف واعادها ، وان ذكر وقد فرغ من صلاته اجزيه ذلك ، بناء على ان مورد السؤال هو الكون على الوضوء باعتقاده ثم شك في ذلك ( والا فلو كان ) التفصيل المزبور في الاستصحاب لكان مخالفاً للاجماع وللنصوص المستفيضة الدالة على عدم نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها .

( واما الثالث ) وهو ما يكون شرطاً عقلياً للجزء ، كالموالات بين حروف الكلمة

ص: 70

فحيث ان الشك فيه يرجع الى الشك في وجود الكلمة، تجرى فيها قاعدة التجاوز الحاكمة بوجودها ( واما الرابع ) وهو ما يكون شرطاً شرعياً الجزء ، كالجهر والاخفات بناء اعلی حد الوجهين ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشيء على مثله حتى تجري فيه القاعدة ( واما ) بالنسبة الى المشروط وهو القراءة ، فهى وان صدق عليها الشيء الا انه لا يشك في وجودها ( نعم ) الشك انما هو في صحتها ، فتكون موردا لقاعدة الفراغ ( ولكن ) البحث في ذلك قليل الجدوى لورود النص على عدم وجوب العود الى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكر قبل الركوع ، فضلا عن صورة الشك فيهما ( ولم نعثر ) ايضاً على مثال له غير الجهر والاخفات ، كي نبحث عن بيان حكمه.

في كون مجرى القاعدين مورد الشك في الانطباق

( الامر العاشر ) يعتبر في قاعدة التجاوز والفراغ ان يكون الشك فى وجود الشيء او في صحته راجعاً الى الشك في انطباق المأتى به على متعلق التكليف ، بعد العلم با جزائه وشرائطه ومواقعه ( لا نهما ) انما جعلنا لتصحيح العمل المأتى به من حيث انطباقه على المأمور به باجزائه وشرائطه ، فلا بد من ان يكون الشك متمحضأ من جهة خصوص الانطباق ( واما ) لو كان الشك في الصحة راجعاً الى الشبهة الحكمية ، كالشك فى ان الشيء الكذا جزء للمأمور به او شرط له او مانع عنه ، فهو خارج عن مصب قاعدة التجاوز والفراغ ، وان حصل منه الشك في الانطباق ايضاً ( ولا بد ) فيه من الرجوع الى الاصول الاخر من البرائة ، او الاحتياط ( ولقد ) ذكرنا تحقيق القول فيه في الجزء الثالث من الكتاب فى مبحث الاقل والاكثر الارتباطيين فراجع ( نعم ) لافرق في الشك في الانطباق الذي هو مصب قاعدة التجاوز والفراغ بين ان يكون من جهة الشك في اتيان العمل بجزئه او شرطه المعلوم مصداقه ، وبين ان يكون من جهة الشك فى مصداقية المأنى به لما هو جزء المأمور به او شرطه ( فلو صلى ) الى جهة معينة وشك بعد السلام في كونها مصداقا للقبله تجرى فيه قاعدة الفراغ ( ولا وجه ) لتخصيص القاعدة بالشك الاول بعد صدق الشك في انطباق المأتى به على المأمور به باجزائه وشرائطه المعلومة في الصورتين

ص: 71

( و تنظير ) الثاني بفرض الاتيان بالصلاة بلا سورة مع الشك في جزئيتها للصلاة ، كما ترى ( فان الشك ) فيه انما كان ناشأ عن الشبهة الحكمية ( بخلاف ) الفرض ، فان مرجع الشك فيه الى الشك في الاتيان بما هو جزء المأمور به او شرطه المعلوم جزئيته او شرطيته ، ومرجعه الى الشك في انطباق المأتى به على المأمور به المعلوم .

فى الوجوه التي يقع عليها الشك في الصحة والفساد

( ثم ان المراد ) من الشك فى اخبار الباب في قاعدة التجاوز و الفراغ ، هو خصوص الشك الحادث بعد تجاوز المحل وبعد العمل ( لا الاعم ) منه ومن الشك الباقي قبل العمل بلا تخلل غفلة في البين ( فلو كان ) شاكا في الوضوء او في القبلة من حين الدخول في الصلاة ، لا تجرى في صلاته قاعدة الفراغ . وهذا لا اشكال فيه ( وانما الكلام ) في ان المراد من الشك الطاري بعد تجاوز المحل في قاعدة التجاوز و بعد اتمام العمل في قاعدة الفراغ ، هو الشك الناشي عن احتمال ترك الجزء او الشرط غفلة او نسياناً ( او يعمه ) والشك الناشي عن احتمال الترك العمدى ايضاً ( وعلى التقديرين ) فهل المراد من الشك ، هو الشك الذي لم يسبق بشك آخر من سنخه او من غير سنخه ( او يعم ) الشك المسبوق بالشك الآخر ايضاً ( وعلى التقادير ) فهل القاعدة تختص بصورة الجزم بانتفات المكلف الى صورة العمل وما ينبغي ان يقع عليه عند الشروع في العمل ( او نعم ) صورة الجزم بعدم التفاته الى صورة العمل في حال الشروع فيه .

( وتنقيح ) المقال يحتاج الى بيان صور الشك في صحة العمل وفساده ( فنقول ) اعلم ان الشك في صحة العمل وفساده يتصور على وجوه ( الاول ) أن يكون جازماً بالتفاته حال الشروع في العمل الى صورة العمل باجزائه وشرائطه وما ينبغي ان يقع عليه ، ولكن بعد العمل طره الشك في وقوع العمل على ما ينبغي ان يقع عليه ، لاحتمال انه حصل له الغفلة وترك جزء او شرطاً ( ولا ينبغى ) الاشكال في دخول ذلك في اخبار الباب ، بل هو المتيقن منها ، فتجرى فيه قاعدة التجاوز والفراغ .

( الثاني ) هذه الصورة بعينها ، لكن مع احتمال ترك الجزء او الشرط عن

ص: 72

عمد واختيار ، لا عن غفلة ونسيان ( والظاهر ) دخولها ايضاً في اطلاق الاخبار ( والاشكال ) عليه بما في بعض نصوص الباب من التعليل بالاذكرية الظاهر في اختصاص الحكم بالمضي وعدم الاعتداد بالشك، بموردكان احتمال ترك الجزء او الشرط ناشئاً من جهة الغفلة لا من جهة العمد ( مدفوع ) بان قوله ( علیه السلام ) حين يتوضأ اذكر ظاهر في كونه صغرى لكبرى مطوية ، وهى اعتبار ظهور حال المسلم المريد للامتثال في انه لا يتركه سهواً ولا عمداً ، فينفع هذا التعليل لمن احتمل الترك نسياناً،

كما ينفع لمن احتمل الترك عمداً ( بل دلالته ) على الثاني اقوى ، كما هو ظاهر .

( الثالث ) ان يشك بعد التجاوز او الفراغ في صحة العمل مع الجزم بغفلته عن صورة العمل حال الاشتغال به ، بحيث لو كان ملتفتاً حال الاشتغال به ليشك في صحة ما يأتي به وانطباقه على المأمور به ( كما لو علم ) كيفية غسل اليدوانه كان بار تماسها في الماء ، ولكن شك في ان ماتحت خاتمة الغسل بالارتماس ام لا ( وكما ) لوصلي غفاة الى جهة وشك بعد الصلاة فى ان الجهة التي صلى نحوها هي القبلة ( وفي جريان ) القاعدة في هذه الصورة اشكال ( من اطلاق ) اخبار الباب من نحو قوله ( علیه السلام ) كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو ( ومن التعليل ) بالا ذكرية في بعضها ، فانه بمقتضى المفهوم موجب لتقييد مطلقات اخبار الباب بغير فرض الجزم بالغفلة في حال العمل ، بل واحتمالها ايضاً ( ولكن الأول ) اوجه ( ظن ) التقييد المزبور فرع ظهور الاذكرية في العلية للحكم بعدم الاعتداد بالشك ، وهو ممنوع ( بل الظاهر ) كونه حكمة لبيان تشريع الحكم بالمضي ، بلحاظ ان الغالب كون المكلف حين العمل اذكر ( وعلي_ه ) فلا مفهوم له يوجب تقييد المطلقات ( مع ان ) مجرد العلية ايضاً لا يقتضى المفهوم ، الا في فرض ثبوت الانحصار ، وكون الحكم المعلق عليه حكماً سنخياً لا شخصياً وهو اول الكلام ( ولا اقل ) من الشك في ذلك ، فتبقى مطلقات الاخبار على حالها .

( الرابع ) ان يشك بعد الفراغ في الصحة والفساد ، مع الجزم بكونه في حال الشروع في العمل محتملا ايضاً لصحته وفساده ( كما لو كان ) مستصحب الحدث ، ثم غفل وصلى ( وهذا الوجه ) يتصور على وجهين ( احدهما ) ان يكون بعد

ص: 73

الصلاة محتملا لاتيانة بوظيفة الشاك وهو الوضوء فى المثال قبل الصلاة ( وثانيهما ) ان لا يحتمل ذلك ، بل يعلم انه لم يتوضأ قبل الصلاة بعد ماشك في الطهارة ، ولكن يشك في صحة صلاته من جهة احتمال كونه متطهراً واقعاً ( وفي اندراج ) هذين الوجهين في عموم القاعدة ( وجهان ) مبنيان على ان المستفاد من الشك في اخبار الباب هو مطلق الشك الحادث بعد العمل ولو كان مسبوقا بشك آخر قبل العمل من سنخه او غير سنخه ( او هو ) خصوص الشك غير المسبوق بالشك والالتفات قبل العمل ( فعلى الاول ) تجري القاعدة فيحكم بالصحة حتى في الوجه الثاني ، لحكومتها على الاستصحاب الجارى بعد الفراغ ( بخلافه ) على الثاني ، فانه لا تجري في حقه قاعدة الفراغ حتى في الوجه الأول ( لانه ) لاموضوع لها مع سبق الشك في الحدث قبل الدخول في الصلاة ( وحيث ) ان الظاهر من الشك المأخوذ في موضوع القاعدة في اخبار الباب هو طبيعة الشك الحادث بعد التجاوز او الفراغ على الاطلاق الغير الصادق على الشك المسبوق بالشك قبل العمل ، فلا يجرى القاعدة في حقه ، لا في الوجه الاول ، ولا في الوجه الثاني ، كان هناك استصحاب او لم يكن .

( ولكن ) يظهر من بعض الاعاظم قدس سره ، التفكيك بين لوجهين ( فالتزم ) بجريان القاعدة فى الوجه الاول ، وعدم جريانها في الوجه الثاني ( وقد افاد ) في وجه التفكيك بينهما ( بان ) جريان القاعدة في الوجه الاول ، انما هو من جهة انه لا يزيد حكم استصحاب الحدث عن حكم العلم الوجداني بالحدث ( فكما ) انه لو كان عالما بالحدث واحتمل بعد الفراغ عن العمل انه توضأ قبل العمل تجري في حقه قاعدة الفراغ ( كذلك ) لو كان مستصحب الحدث ( واما ) عدم جريانها في الوجه الثاني وهو ما اذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث ، فأنما هو من جهة الاستصحاب الجاري قبل العمل ( لان ) قاعدة الفراغ انما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل ( لا على الاستصحاب ) الجاري قبل العمل ، لانه لا موضوع لها قبل العمل ( ولما كان ) المكلف قبل الصلاة مستصحب الحدث يكون في حكم من دخل في الصلاة عالماً بالحدث ، فلا تجري في حقه قاعدة التجاوز ولا الفراغ

ص: 74

( ولا ينتقض ) ذلك بالوجه الاول ، فان جريانها فيه ليس لاجل حكومتها على الاستصحاب الجاري قبل الصلاة ( بل لاجل ) كون المكلف محتملا للوضوء قبل الصلاة بعد استصحاب الحدث وهو مانع عن جريانه لرجوع الشك المزبور الى الشك في انتقاض اليقين باليقين ، ومثله مساوق احتمال عدم جريان استصحاب الحدث السابق ، ولا دافع لهذا الاحتمال الا استصحاب الحدث المستصحب ( وهذا ) الاستصحاب انما يجري بعد الصلاة ، فتكون القاعدة حاكمة عليه ، واين هذا مما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث .

( اقول ) وفيه ان ما افيد في وجه التفكيك بين الوجهين في جريان قاعدة التجاوز والفراغ ، مبني على مقدمتين ممنوعتين ( الاولى ) تعميم الشك المأخوذ في قاعدة التجاوز والفراغ المطلق الشك الحادث بعد التجاوز وبعد الفراغ وان كان مسبوقاً بشك آخر قبل العمل ( وإلا ) فعلى فرض تخصيصه بالشك غير المسبوق بشك آخر قبل العمل من سنخه أو غير سنخه ، كما استفدناه من أخبار الباب فلا تجري القاعدة فيها ( لان ) في كلا الوجهين يكون الشك مسبوقا بشك آخر قبل العمل ( غير ) ان الفرق بينها ، هو ان فى الوجه الأول يكون المتحقق فردان من الشك ( احدهما ) الشك في الحدث ( وثانيها ) الشك في اتيانه بوظيفة الشاك ، فيكون الشك فيه بالنسبة الى احد الشكين مسبوقاً بشك من سنخه ، وبالنسبة الى الآخر بشك من غير سنخه ( بخلاف ) الوجه الثاني ، فان الشك فيه مسبوق بشك واحد من

سنخه ، وهو الشك في الحدث .

( الثانية ) اقتضاء الاستصحاب الجاري في زمان لترتيب الأثر عليه للثالي حتى في ازمنة انعدامه أو خروجه عن الحجية وهى واضحة الفساد ( لوضوح ) ان كل طريق أو اصل معتبر عقليا كان أو شرعياً عند قيامه على شيء انما يجب اتباعه ويترتب عليه الاثر من المنجرية أو المعذرية في ظرف وجوده وبقائه على حجيته ، لا مطلقاً حتى في ظرف انعدامه ، أو خروجه عن الحجية حتى في مثل العلم الذي هو من اقوى الحجج . ( ولذا ) لو شك في صحة فعل أو فساده فعلا ، لا يجدي العلم

ص: 75

السابق بصحته أو فساده لرفع هذا الشك ، ولا لترتيب اثر الصحة أو الفساد عليه فعلا ، بل لا بد من الرجوع الى ما تقتضيه الاصول الجارية في المسئله ( وعلى ذلك ) نقول انه قبل الدخول في العمل وان كان يجري في حقه استصحاب الحدث ( ولكن ) الاثر المترتب عليه انما هو عدم جواز الدخول في الصلاة وبطلانها سابقا لو فرض دخوله فيها ( واما ) وجوب الاعادة والقضاء في ظرف بعد الفراغ ، فلا يترتب على الاستصحاب المزبور ( لانه ) من آثار الاستصحاب الجاري بعد الفراغ ، لا من آثار الاستصحاب الجارى قبل الصلاة فاذا كان هذا الاستصحاب محكوماً بالقاعدة، فمن حين الفراغ لابد بمقتضى القاعدة من الحكم بالصحة حتى فى الوجه الثاني ، لا البطلان ) لانه ( لا اثر للاستصحاب السابق بعد كون العمل محكوماً بالصحة من حين الفراغ بمقتضى القاعدة ( ولا فرق ) في ذلك بين القول باعتبار الشك الفعلى في الاستصحاب ، والقول بكفاية الشك التقديري ايضاً ( فانه ) على القولين لا قصور في جريان القاعدة في الوجه الثاني ايضاً ( فالتفصيل ) بين الوجهين في جريان القاعدة حينئذ مما لا وجه له ( وبمثل ) هذا البيان ايضاً نفينا الثمرة بين القولين هناك في نحو الفرع المزبور ( حيث ) قلنا بجريان القاعدة فيه حتى على القول بكفاية الشك التقديري في الاستصحاب ، نظراً الى عدم اجداء الاستصحاب الجاري في ظرف الغفلة حال الشروع في العمل ، لترتيب وجوب الاعادة والقضاء بعد الفراغ من العمل ، لكونه من آثار الاستصحاب الجاري بعد الفراغ الذي هو محكوم بقاعدة الفراغ ( ولقد ) تقدم منا تفصيل الكلام في تلك المسئلة فراجع ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن جريان القاعدة ، ما ذكرناه من خروج المورد عن مجرى القاعدة ، القاعدة ، باعتبار اختصاص موضوعها بالشك غير المسبوق بشك آخر قبل الدخول فى العمل ( اذ حينئذ ) يكون عدم جريان القاعدة مع السبق بالشك والالتفات قبل العمل لاجل انه لا موضوع لها ( لا انه ) لاجل الاستصحاب السابق الجاري في ظرف العمل ( ولازمه ) عدم التفكيك بين الوجهين ، لاشتراكها فى السبق بالشك والالتفات قبل العمل ، كما هو ظاهر واضح .

ص: 76

( الوجه الخامس ) ان يشك بعد الفراغ من العمل في الصحة والفساد ، مع احتمال كونه شاكاً في ظرف العمل في وجدانه لشرائط الصحة ، أو قاطعاً بالع__دم ( ويمكن )ان يقال فيه بالصحة ، لعموم قوله ( علیه السلام ) كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو والتعليل بالاذكرية ، فان مقتضاه هو نفي الغفلة ونفي الترك العمدي أيضاً ( ولكن ) يشكل ذلك على ما اخترناه من تخصيص موضوع قاعدة التجاوز والفراغ بطبيعة الشك الحادث بعد تجاوز المحل وبعد العمل على الاطلاق التي من لوازمها العقلية عدم كونها مسبوقة بالشك والالتفات قبل التجاوز أو الفراغ ، حيث انه مع الاحتمال المزبور يكون التمسك بالقاعدة من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفس العام ( واصالة ) عدم حدوث الشك والالتفات قبل العمل انما تجدى إذا كان الموضوع في القاعدة معنى تركيبياً، وهو الشك الذي لم يكن مسبوقا بالشك والالتفات في ظرف العمل ، لاندراجه حينئذ في الموضوعات المركبة المحرزة بعضها بالوجدان وبعضها بالاصل ( وإلا ) فعلى فرض كون الموضوع امراً بسيطاً ملازماً عقلا لعدم الشك والالتفات في ظرف العمل ، فلا تجدى الاصل المزبور لاثبات عنوان الموضوع ( والمسألة تحتاج الى التأمل ) .

فى ان المضى على المشكوك فيه فى القاعدة عزيمة لا رخصته

( الامر الحادي عشر ) الظاهر ان المضى على المشكوك فيه في قاعدة التجاوز عزيمة لا رخصة ، فلا يجوز الاتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع ( لظهور ) الامر بالمضي في أخبار الباب ، وقوله ( علیه السلام ) بلى قد ركعت في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه في محله والغاء الشك فيه ( فانه ) مع هذا الأمر وهذا البناء لا يجوز العود الى المشكوك فيه ولو رجاءاً . ( لا نه ) لا موضوع له مع حكم الشارع بوجوده ، فيكون الاتيان به حينئذ من الزيادة العمدية بالنسبة الى نفس المشكوك فيه، و بالنسبة الى الغير الذي دخل فيه ، وهى موجبة لبطلان الصلاة ( مع ان الظاهر ) كون المسئلة اتفاقية ، فلا يعتنى حينئذ بما يختلج بالبال من الاحتمالات ( هذا تمام الكلام ) في قاعدة التجاوز والفراغ

ص: 77

فى بيان مايكون مدركألاصالة الصحة

( المسئلة الثالثة )

في اصالة الصحة في عمل الغير ( وتنقيح الكلام فيها ) انما هو بتوضيح امور ( الامر الاول ) لا اشكال في اعتبارها في الجملة ( ويدل عليه ) بعد الاجماع المحقق فتوى وعملا ، والسيرة القطعية من المسلمين بل من كل ذي دين في جميع الاعصار على حمل الافعال الصادرة من الغير على الصحيح فيما يتعلق بعباداته ومعاملاته وترتيبهم اثر الصحة عليها ( مناط التعليل ) الوارد في اخبار اليد فى رواية حفص بن غياث من لزوم العسر والحرج واختلال النظام بقوله ( علیه السلام ) ولولا ذلك ما قام للمسلمين سوق ( بل الاختلال ) اللازم من ترك العمل بهذه القاعدة ازيد من الاختلال الحاصل من ترك العمل باليد ، لا نمية موارد القاعدة من موارد اليد ، لجريانها في جميع ابواب الفقه من العبادات والمعاملات في العقود والايقاعات ، والى ذلك ايضاً نظر من استدل على اعتبار هذا الاصل بحكم العقل ( بل لعل ) هذه الجهة هي المستند للمجمعين ، وللسيرة المستمرة من المسلمين ، وذوى الاديان وغيرهم في جميع الاعصار والامصار حسب ارتكاز هم وجبلتهم على حمل الفعل الصادر من الغير على الصحة وترتيب آثارها ( فان ) من البعيد جداً ان يكون ذلك منهم لمحض التعبد ( نعم لو اغمضنا ) عما ذكر ، لا يتم الاستدلال لها بالكتاب والسنة ، من نحو قوله سبحانه : وقولوا للناس حسناً بناء على تفسيره بما في الكافي من قوله ( علیه السلام ) : لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو ( وقوله سبحانه ) اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن اثم وقوله ( علیه السلام ) ضع امر اخيك على احسنه ، ولا تظن بكلمة خرجت من اخيك سوءاً، وانت تجد لها في الخير سبيلا وقوله ( علیه السلام ) ان المؤمن لا يتهم اخاه وانه إذا اتهم اخاه انماث الايمان في قلبه كانميات الملح في الماء : وان من اتهم اخاه فلا حرمة بينها : وان من انهم اخاه فهو ملعون ملعون ( وقوله ( علیه السلام ) ) لمحمد بن الفضل كذب سمعك وبصرك

ص: 78

عن اخيك المؤمن، فان شهد عندك خمسون قسامه انه قال: وقال لم اقل فصدقه وكذبهم الى غير ذلك من الاخبار المشتملة على هذه المضامين او ما يقرب منها ( فان ) من الواضح عدم دلالة شيء من تلك الادلة على ما نحن بصدده من الصحة بمعنى ترتيب آثار الصحيح على الافعال والاقوال الصادرة من الغير ( فانها ) طرا ناظرة الى مقام تعليم آداب المعاشرة مع الناس من عدم ترتيب آثار القبيح على الفعل أو القول الصادر من الاخ المؤمن عند الظن به ، بعد امكان الحمل على الوجه الحسن ، كما يدل عليه قوله ( علیه السلام ) وانت تجد لها في الخير سبيلا ( لا في مقام ) ترتيب آثار الحسن عليه ، كوجوب رد السلام في الكلام الصادر من الغير المردد بين الشتم والسلام ، فرجع الحمل على الوجه الحسن الى حسن الظن بالاخ المؤمن فيما يصدر منه من الافعال والاقوال وعدم السرعة الى ترتيب آثار القبيح عليه عند احتماله أو الظن به مها امكن لا لزوم ترتيب آثار الحسن عليه ، من الحكم بصحة المعاملة المرددة بين الربوية وغيرها، كما هو مفروض البحث في المقام ( فلا ينا في ) الحمل على الوجه الحسن من حيث انه حسن ، مع التوقف عن ترتيب آثار الحسن ( بل الظاهر ) من بعض هذه الاخبار هو ذلك ، كما في رواية اسماعيل المعروفة ( وكيف كان ) فعدم وفاء هذه الأخبار بما يحن بصدده من الصحة بمعنى ترتيب الاثر على ما يصدر من الغير من الافعال والاقوال أوضح من ان يحتاج الى البيان ( فالعمدة ) حينئذ في مدرك القاعدة ما ذكرناه من الاجماع والسيرة ، ولزوم الاختلال الذى علل به في اخبار اليد .

هل المدار فى الصحة على الصحة الواقعية او الصحة باعتقاد الفاعل او الصحة باعتقاد الحامل

( الامر الثاني ) هل المدار في الصحة على الصحة الواقعية ، أو الصحة باعتقاد الفاعل ، أو الصحة باعتقاد الحامل ( فيه وجوه ) والمشهور الاول : وهو الاظهر ، لما ذكرنا من الاجماع والسيرة ولزوم الاختلال ، فلا عبرة حينئذ بالصحة عند الفاعل باعتقاده اجتهاداً ، أو تقليداً ( فان ) اعتقاده ، كاعتقاد الحامل طريق الى الواقع الذي عليه مدار الصحة في مقام ترتيب الاثر ، لا ان له موضوعية في ذلك ( نعم ) لو كان مدرك القاعدة ظهور حال المسلم في عباداته ومعاملاته على الاتيان بها على وجه يراه صحيحاً ، امكن دعوى تخصيص الصحة بالصحيح عند الفاعل

ص: 79

( ولكنه ) مضافا الى اختصاصه بصورة علمه بالصحيح والفاسد ، خلاف التحقيق ( فإن الصحيح ) من مدارك هذا الاصل انما هو الاجماع والسيرة ، وبرهان اختلال النظام ( وعليه ) فمدار الحمل على الصحة الواقعيه لا غيرها ، كما عليه المشهور ( ولازمة ) العموم لصورة علم الفاعل بالصحيح من الفعل وفاسده، وجهله به ( كعمومه ) لصورة الحامل بمخالفة اعتقاده لمعتقد الفاعل في صحيح الفعل وفاسده بنحو العموم المطلق بل التباين ايضاً على وجه ، فضلا عن صورة جهله بالحال ( فان ) المدار في الحمل على الصحة على مجرد احتمال مطابقة العمل الصادر من الغير عبادة أو معاملة الواقع ( فمها ) شك في صحة العمل وفساد. تجرى فيه اصالة الصحة ويترتب عليه اثره ، من غير فرق فيه بين الصور المزبورة ( وهذا ) والمضح بعد ملاحظة اختلاف الفتاوي والابتلاء باعمال عوام الناس من اهل الاسواق واهل الصحارى والبرارى من الرجال والنساء مع عدم معرفتهم بالاحكام فى العبادات والمعاملات ( نعم الاشكال ) انما هو في صورة علم الحامل بمخالفة معتقده اجتهادا أو تقليدا لمعتقد الفاعل كذلك على نحو التباين ، كما لو كان معتقد الفاعل وجوب الجهر بالبسملة في الصلوات الاخفاتية ووجوب الجهر بالقرائة في يوم الجمعة ، وكان معتقد الحامل وجوب الاخفات فيها ( اذ ليس ) لنا دليل لفظي يكون هو المدرك للقاعدة حتى نتمسك باطلاقه ( بل عمدة ) المدرك لها هو الاجماع والسيرة ، وبرهان الاختلال في النظام ( والاولان ) لا اطلاق لها يعم هذا الفرض ، والاختلال ايضاً غير لازم في عدم العمل بالقاعدة في هذا الفرض لقلة مورده في الفقه ( فالمسئلة ) محل اشكال من اطلاق الاصحاب ، ومن عدم مساعدة الادلة .

هل يجرى الاصل فى الشك في الاثناء كما يجرى بعد الفراغ من الفعل

( الامر الثالث ) ان هذا الاصل كما يجرى ويثبت صحة الفعل إذا كان الشك فيه بعد الفراغ منه ، كذلك يجري ويثبت صحته إذا كان الشك في اثنائه وان لم يصدق عليه المضي ، فمن اشتغل في غسل الميت أو الصلاة عليه وشك في ان ما يوقعه الغير صحيح أو فاسد تجرى فيه اصالة الصحة ويترتب عليه الآثار المقصودة .

( الأمر الرابع ) لا تجرى هذا الأصل إلا بعد احراز صدور العمل المشكوك

ص: 80

صحته وفساده بالعنوان الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الاثر ( فاذا كان ) موضوع الاثر من العناوين القصدية ، كالوضوء ، والصلاة ، والبيع لابد في جريان هذا الاصل من احراز عنوان العمل ( اما ) بالعلم الوجداني ، أو بما يقوم مقامه من الامارات المعتبرة ، أو الاصول العقلائية ، وإلا فلا يكفي في جريان هذا الاصل مجرد اجراز صدور ذات العميل مع الشك في عنوانه الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الاثر ( فلو شوهد ) من يأتي بصورة عمل من وضوء ، او صلاة ، أو زكاة ، أو بيع ونحو ذلك ، وشك في انه قصد بما يأتي به من العمل تحقق العبادة أو المعاملة ، أم لا، لم يحمل على ذلك ولا تجري فيه قاعدة الصحة ( إلا ) إذا كان هناك ظهور حال في كون الفاعل بصدد الانقياد والاطاعة ، وفي مقام التوصل بالانشاء الصادر منه الى حقيقة البيع أو الاجارة ونحوهما (نعم) في العناوين غير القصدية كغسل اليد والثوب يكفي في الحمل على الصحة مجرد احراز ذات العمل ( فاذا ) شوهد من يجري الماء على يده او ثوبه بحيث تحقق عنوان الغسل العرفي وشك في صحته وفساده من جهة الشك في بعض ما اعتبر الشارع فيه في حصول الطهارة ، تجرى فيه اصالة الصحة ويترتب عليه آثار الطهارة الواقعية ، وان لم يحرز كون الفاعل بإجراء الماء على المحل في مقام التطهير الشرعي وازالة الدنس ( نعم ) لو كان مدرك القاعدة ظهور حال المسلم في عدم اقدامه على الفاسد ، لكان للاشكال في جريان اصالة الصحة عند عدم احراز كون الفاعل بصدد التطهير وازالة الدنس مجال ( ولكن ) ليس الامر كذلك ، بل المدرك لها انما هو الاجماع والسيرة وبرهان الاختلال الذي علل به في بعض اخبار اليد ( ولا ريب ) في ان مقتضاها التعميم فتأمل .

في اعتبار احراز صدور العمل بما تعلق به الامر وترتب عليه الاثر

( الامر الخامس ) لا اشكال في جريان اصالة الصحة في ابواب العقود وتقدمها على اصالة الفساد ، كجرياتها في غيرها من العبادات والمعاملات ( بل قيل ) ان جريانها في ابواب العقود بالخصوص معقد الاجماع ( وانما الكلام ) في ان المراد من الصحة فيها استجماع العقد للشرائط المعتبرة فيه بما هو عقد ، كالعربية والماضوية والتنجيز واشباهها ، فتختص اصالة الصحة في جريانها فيها بما إذا كان الشك في الصحة

ص: 81

والفساد مسبباً عن الشك في احد الشرائط المذكورة ( او ان المراد ) ما يعمها والشرائط المعتبرة في المتعاقدين والعوضين ( وبعبارة ) اخرى كل شرط شرعي او عرفي اعتبر في ترتب الاثر وتحقق النقل والانتقال الفعلي سواء كان الشرط راجعا الى العقد بما هو عقد ، او الى المتعاقدين ، او العوضين ، او الى نفس المسبب في قابليته المتحقق ( وحيث ) ان اصالة الصحة في العقود بنفسها من المسائل التي تعم بها البلوى خصوصاً في باب الترافع والتخاصم في تشخيص المدعي والمنكر ( فالحرى ) هو بسط المقال فيها لمعرفة ماهو الموصوف بالصحة والفساد ،

ما معنى الصحة في العقود استجماعه للشرائط المعتبرة فيه بما هو عقدا و يعمها

وما يكون مجرى لاصالة الصحة ( وتوضيح ) الكلام يتم برسم امرين ( الامر الاول ) لا شبهة في ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد وتماميته في المؤثرية الفعلية لترتب الاثر لا تكون على نمط واحد ( بل هي ) بين ما يرجع اعتباره الى دخله في نفس السبب الذي هو العقد من حيث تماميته في السببية والمؤثرية ، كالموالات بين الايجاب والقبول والترتيب والتنجيز والعربية والماضوية واشباهها ، وبين ما يرجع اعتباره الى دخله في قابلية المسبب للتحقق عند تحقق سببه باجزائه وشرائطه ( وهذه ) الطائفة بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ والرشد والعقل ونحوها ، وبين ما يكون محله العوضين كالمعلومية والمالية ونحوهما، وبين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية والغررية في البيع ( فان ) هذه الامور وان كانت معتبرة في فعلية الاثر وترتبه على السبب ( ولكنها ) اجنبية عن مقام الدخل في السبب بما هو سبب و تماميته فى السببية والمؤثرية ( لوضوح ) ان العقد بدونها على تماميته في الاقتضاء والسببية ( وان عدم ) اتصافه بالمؤثرية الفعلية بدون الأمور المذكورة أنما هو لقصور المحل عن قابلية التأثر من قبله ( لا انه ) لقصور في العقد في اقتضائه وسببيته ( كيف ) ولا يزيد ذلك عن العلل والاسباب التكوينية كالنار مثلا ، ( فكما ) ان عدم ترتب الاحراق الفعلي على النار عند وجود الرطوبة المانعة في المحل او انتفاء المحاذات الخاصة لا يوجب قصوراً في النار من حيث تماميتها في السببية والمؤثرية ، كذلك في المقام ( فان ) حال العلل والاسباب في الامور الاعتبارية حال الملل والاسباب التكوينية في الامور الخارجية .

ما معنى الصحة في العقود استجماعه للشرائط المعتبره فيه بما هو عقد او يعمها

( الامر الثاني )

ص: 82

لا ريب فى ان الصحة في كل شيء بحسيه ( لانها ) بمعنى التمامية ، و تمامية كل شيء انما هو بلحاظ وفائه بالاثر المرغوب منه في قبال فاسده الذي هو عدم تماميته في الوفاء بما هو الاثر المرغوب منه ( فصحة الايجاب ) مثلا عبارة عن كونه مؤثراً ضمنياً بحيث لو تعقبه قبول صحيح الحصل اثر العقد، في مقابل فاسده الذى لا يكون كذلك ، كالايجاب بالفارسي بناء على القول باعتبار العربية فيه ، ( فلو تجرد ) الايجاب عن القبول لم يوجب ذلك فساد الايجاب ( لان ) القبول معتبر في العقد لا في الايجاب فالا يجاب يدونه على صحته وتماميته في المؤثرية الضمنية ( كما ان ) صحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه فى المؤثرية بحيث لو ورد على محل قابل لترتب عليه الاثر والصف بالمؤثرية الفعلية ، في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ( وبعبارة ) اخرى ان الصحة في العقد عبارة عن مفاد قضية تعليقية ( وهي ) كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا تصف بالمؤثرية الفعلية ، نظير العلل والاسباب التكوينية بالقياس الى معلولاتها ( لا ان ) معنى الصحة فيه هو المؤثرية الفعلية في حصول الاثر على الاطلاق ، كما يتوهم ( فلو تجرد ) العقد عن الاثر ، لاجل انتفاء ما يكون شرطاً لقابلية المسبب للتأثر من قبله ، فلا يوجب ذلك فسادا في العقد ، بل العقد بدونه على تماميته في السببية والمؤثرية ( وحيث ) اتضح ذلك : نقول ان مرجع الشك في الصحة والفساد بعد ان كان الى تمامية الشيء بلحاظ الاثر المرغوب منه ( فلابد ) في جريان اصالة الصحة والفساد في العقود والايقاعات من معرفة ما يكون معروضاً للشك في الصحة والفساد من السبب او المسبب ، وذلك لا يكون إلا بملاحظة منشأ الشك في الصحة في كونه هو الشك في فقد الشرائط الراجعة الى السبب ، أو الشرائطا لراجعة الى المسبب ( مع ملاحظة ) ان الشرط المشكوك فيه من الشرائط العرفية للسبب أو المسبب ، أو من الشرائط الشرعية لها ( فان كان ) الشك في الصحة والفساد مسبباً عن الشك في فقد بعض الشرائط العرفية للسبب أو المسبب : كالشك في التوالي المعتبر عرفاً بين الايجاب والقبول : ومطلق المالية في العوضين ( فلا مجرى ) الاصالة الصحة لا في السبب ، ولا في المسبب الرجوع الشك المزبور الى الشك في مجرى اصالة الصحة ( ولقد )

ص: 83

تقدم في الأمر السابق انه لا بد فى جريان هذا الأصل من احراز عنوان موضوعه عرفاً ( وإلا ) فمع الشك فيه لا تجرى اصالة الصحة ( وأما إذا كان ) الشك في الصحة والفساد مسبباً عن الشك في فقد بعض الشرائط الشرعية ( فان كان ) الشرط المشكوك فيه من الشرائط الراجعة الى العقد كالتنجيز، والعربية والماضوية بناءاً على اعتبارهما فيه والترتيب بين الايجاب والقبول : تجرى اصالة الصحة في العقد ( لانه ) عقد عرفي قد شك في صحته وفساده شرعا ( وان كان ) من الشرائط الراجعة الى المسبب، وهو البيع مثلا ، كالشك في كون المبيع أو التمن خمرا ، أو خنزيرا ، أو الشك في بلوغ البائع أو المشترى ، أو الشك في كون المعاملة ربوية أو غررية ونحوها ( فلا تجرى ) الاصل في العقد بما هو عقد ( لما عرفت ) من ان الصحة فيه عبارة عن تمامية العقد في نفسه في السببية والمؤثرية ، وهذا مما يقطع به ولو مع القطع بعدم ترتب المسبب عليه فضلا عن الشك فيه ( وعلى فرض ) جريانه فيه لا يجدى لاثبات صحة المعاملة ، ولا لاثبات قابلية المسبب للتحقق ورفع الشك من جهته ( ولو قلنا ) بان اصالة الصحة من الاصول المحرزة ( لان ) غاية اقتضائها انما هو اثبات تمامية العقد في نفسه في السببية لترتب النقل والانتقال ( وأما ) اثبات قابلية المحل للتحقق من قبله فلا .

( نعم ) لا بأس حينئذ باجراء اصالة الصحة في عنوان المسبب وهو البيع مثلا وترتيب آثار الصحة عليه بعد احراز عنوانه عرفاً ( لانه ) بيع عرفي قد احرز عنوانه وشك في صحته وفساده شرعا من جهة الشك في صدوره من البالغ ، أو الشك في المالية الشرعية في الثمن أو المثمن ، فتجرى فيه اصالة الصحة ( ومن هنا ) قلنا ايضاً ( انه لا يجدى التمسك بالادلة المتكفلة للاسباب ، كعموم الوفاء بالعقد عند الشك في صحة المعاملة من جهة الشك في شرطية شيء للمسبب لاجل الشبهة الحكمية ، بلحاظ عدم تكفل هذه الادلة لاثبات قابلية المحل ورفع الشك من جهته ( وانه ) لابد في اثبات الصحة من التمسك بالعمومات المتكفلة للمسببات ، من نحو قوله سبحانه : أحل الله البيع ، وتجارة عن تراض ونحو ذلك ( وان كان ) الشرط المشكوك فيه من الشرائط الشرعية الراجعة الى السبب والمسبب ، بان كان الشك في الصحة والفساد

ص: 84

ناشئاً من الجهتين : تارة من الشك فى فقد بعض الشرائط المعتبرة في السبب : واخرى من الشك في فقد بعض الشرائط المعتبرة في المسبب ( فلابد ) في الحكم بالصحة وترتيب الأثر من اجراء اصالة الصحة ، تارة في السبب ، واخرى في المسبب بعد احراز عنوان العقد والبيع العرفي ( ولا يكنى ) في الحكم بالصحة وترتيب الاثر مجرد اجرائها في العقد ، لما عرفت من ان اصالة الصحة في العقد لا تقتضي ازيد من تمامية العقد في المؤثرية ، فليس شأنه اثباث قابلية المحل للتأثر ( وأما ) المنع عن جريان اصالة الصحة في المسبب، بانه لا دليل على اصالة الصحة في العقود إلا الاجماع وليس لمعقد الاجماع اطلاق يعم جميع موارد الشك في الصحة ، بل القدر المتيقن منه هو ما إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال من جهة احتمال فقد بعض ما يعتبر فيه : بعد الفراغ عن اهلية المتعاملين وقابلية المعقود عليه شرعا للنقل والانتقال ( فمدفوع ) بمنع انحصار الدليل بالاجماع المدعى في المسئلة ( بل العمدة ) في الدليل على المسئلة ، هو برهان اختلال النظام الذي جعل مناطاً لاعتبار اليد في رواية الخفص ولازمه التعميم لجميع موارد الشك في الصحة سبباً كان أو مسبباً ) من غير ( فرق بين انحاء القيود الشرعية للمسبب او المسبب .

( و توهم ) ان اهلية العاقد لا يجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه النقل والانتقال مأخوذ في عقد وضع اصالة الصحة ، فلابد من احرازهما ، وإلا فمع الشك فيها لانجرى اصالة الصحة لرجوع الشك فيها الى الشك في عقد وضع هذا الاصل ، فكان المرجع حينئذ هو سائر الاصول العملية حسب ما يقتضيه المقام ( مدفوع ) بانه ان كان المقصود بذلك كونها من القيود العرفية للعقد بما هو عقد بحيث لا يصدق المقد عرفاً على العقد الصادر من غير البالغ ، ولا على العقد الواقع على مالا يقبل الانتقال ، كما هو الظاهر من كلام المحقق الثاني قده في مسئلة اختلاف الضامن والمضمون له من قوله بعد ترجيح قول الضامن ( فان قلت ) ان للمضمون له اصالة الصحة في العقود وظاهر حال البالغ انه لا يتصرف باطلا ( قلنا ) ان الاصل في العقود الصحة بعد استكمال اركانها ليتحقق وجود العقد ، واما قبله فلا وجود له ... الخ ما نقله الشيخ

ص: 85

عنه ( ففساده ) أوضح من ان يخفى ، لوضوح تحقق العقد العرفي مع القطع بعدم صدوره من البالغ وعدم وقوعه على ما يقبل الانتقال شرعاً فضلا عن الشك فيها ( ودعوى ) الفرق في صدق المقد عرفاً بين العقد الصادر من البالغ ، والعقد الصادر من غيره ولو كان مراهقا ، كما ترى ليست إلا المكابرة مع الوجدان ( وان كان ) المقصود ان اهلية العاقد وقابلية المعقود عليه للنقل والانتقال من القيود الشرعية لصحة هو عقد العقد بما من حيث تماميته فى السببية والمؤثرية ( ففيه ) مضافاً الى فساده في نفسه ( انه ) يبقى سؤال الفرق ، بين الشك فى صحة العقد وفساده من جهة الشك في اهلية العاقد لا يجاد المعاملة أو قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، وبين الشك في الصحة والفساد من جهة سائر القيود الشرعية المعتبرة في العقد كالماضوية والترتيب بين الايجاب والقبول بناء على اعتبارهما فيه ، والتنجيز وعدم الافتران بالشرط الفاسد ( فكما ) انه تجرى اصالة الصحة في الثاني عند احراز موضوعها عرفاً ( كذلك ) تجرى في الاول ( اذ لا فرق ) بينها بعد كون الجميع من القيود الشرعية للعقد ( مع ان ) هذه الدعوى ، دعوى بلا بينة ، ولا برهان حتى بالنسبة الى البلوغ ( لان ) عمدة ما دل على اعتباره في مقابل مطلقات الادلة ، انما هو حديث رفع القلم ، ( وما ورد ) بانه لا يجوزامر الصبي ( وغاية ) ما يستفاد منها انما هو اثبات قصور الصبي عن السلطنة في استقلاله على التصرفات المالية فيما يرجع الى ماله أو نفسه ( لا اثبات ) كونه مسلوب العبارة بحيث يكون العقد الصادر منه لا يجاد المعاملة بمنزلة العدم حتى فى مقام ايجاد المعاملة الغير ( وان كان ) المقصود كونها من الشرائط الشرعية في تأثير العقد وقابلية المسبب للتأثر ( وان ) المنع عن جريان اصالة الصحة في العقد ، لمكان عدم اقتضاء الاصل الجاري في السبب لاثبات قابلية المسبب ورفع الشك من جهته ( لان ) غاية ما تقتضيه اصالة الصحة في العقد انما هو مجرد تماميته في نفسه من حيث السببية والمؤثرية لا اثبات قابلية المحل للتأثر ( فهو وان كان ) متيناً جداً كما ذكرناه ( ولكن ) ذلك مع كونه خلاف الظاهر من كلامه في كون الأمرين مأخوذا في عقد وضع اصالة الصحة ، لا يقتضى المنع عن جريانها بقول مطلق حتى في طرف

ص: 86

المسبب عند احراز مجريها عرفاً ( اذ لا فرق ) حينئذ بين الشك في الصحة من جهة الشك في اهلية العاقد وقابلية المعقود عليه ، وبين الشك فيها من جهة الشك في مالية العوضين شرعا ، أو الشك في ربوية المعاملة أو غرريتها ( اللهم ) الا ان يكون المقصود دخل اهلية العاقد وقابلية المعقود عليه للنقل والانتقال عرفاً فى قابلية المسبب للترتب على السبب ( ولكن ) دون اثباته خرط القتاد ( اذ الظاهر ) انه لا قصور في صدق عنوان البيع والاجارة والضمان ونحوها عرفاً بدون الامور المذكورة.

فى ان التحقيق تعميم مجرى اصالة الصحة في العقود

( فالتحقيق ) حينئذ بالنظر الي الادلة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال هو التعميم في جميع ما يتصور له الصحة والفساد ، بعد احراز مجريها عرفاً ( ولازمه ) التفصيل في جزيان هذا الاصل بحسب الموارد با جرائه، تارة في خصوص السبب إذا كان الشك في الصحة مسبباً عن الشك في بعض ما اعتبر فيه شرعاً ، واخرى في المسبب دون السبب إذا كان الشك في الصحة مسبباً عن الشك فيما اعتبر فيه شرعا في قابليته للترتب على السبب ، وثالثة في كل من السبب و المسبب ، إذا كان الشك في الصحة وترتب الاثر الجهتين ( من غير فرق ) بين ان يكون الشرط المشكوك فيه مما محله العقد أو المتعاقدين او العوضين ، أو نفس المسبب فإن جميع هذه القيود راجعة ،اما الى السبب أو المسبب لاستحالة تمامية السبب وقابلية المسبب مع عدم الاثر ، فلا بد في جريان هذا الاصل من ملاحظة مجريه بعد احرار عنوانه عرفاً في كونه هو السبب أو المسبب أو كليها .

( ثم انه ) يظهر من الشيخ ( قده ) وبعض آخر الاشكال في جريان اصالة الصحة فى بعص الفروع ( منها ) الشك في صحة بيع الصرف من جهة الشك في تحقق القبض في المجلس بعد العلم بتحقق الايجاب والقبول ، وكذا الشك في صحة البيع من جهة الشك في اجازة المالك لبيع الفضول ( ومنها ) الشك في صحة بيع الوقف ولو من المتولى من جهة الشك في وجود المصحح له ، لمكان ان بيع الوقف لو خلى وطبعه مبنى على الفساد ( ومنها ) الشك في صحة بيع الراهن من جهة الشك في اذن المرتهن أو اجازته ( ومنشأ ) الاشكال انما هو لدعوى ان المتيقن من مجرى هذا

ص: 87

الاصل في عناوين المسببات هو صورة نردده حين وجود العقد بين الصحة الفعلية والبطلان ، لا الصحة التأهلية ( كما في صورة ) الشك في صحة البيع وفساده من جهة بلوغ العاقد أو مالية العوض أو المعوض ، او من جهة ربوية المعامله وغرريتها ( فان ) مجرى الأصل في جميع هذه الصور مردد من حين وجود العقد بين الصحة الفعلية والبطلان محضاً ( وهذا ) المعنى لا يتصور في الامثلة المزبورة ( فانه ) على المشهور من كون القبض في الهبة والصرف والسلم ، واجازة المالك لبيع الفضول شرطا ناقلا من الحين لا كاشفاً ، لا يحتمل فيه الصحة والفساد من حين حدوث العقد ، وانما المحتمل فيه عند وجود العقد هي الصحة الفعلية أو التأهلية ، فلا تجري اصالة الصحة بالنسبة الى عنوان الهبة والصرف والسلم

فى اشكال على جريان اصالة الصحة في الصرف عندالشك في القبض والشك في بيع الوقف للشك في وجود المصحح له

( كما لا تجرى ) بالنسبة الى المقد ايضاً مع الشك في القبض أو الاجازة فى بيع الفضول ( لان ) صحة العقد ليست إلا عبارة عن تمامية العقد بما هو عقد من حيث اقتضائه للتأثير ، وهذا المعنى مما يقطع به ولو مع اليقين بعدم حصول القبض في المجلس في بيع الصرف وعدم الاجازة من المرتهن لبيع الرهن، ولا اجازة من المالك في بيع الفضول ( وان شئت ) قلت ان الصحة في العقد ليست إلا تأهلية معناها كون العقد بحيث لو تعقبه ما يتوقف عليه الصحة الفعلية من القبض أو اذن من المرتهن في المجلس أو من المالك في عقد الفضول، لكان مؤثراً فعلياً في النقل والانتقال ، لا ان الصحة فيه بمعنى المؤثرية الفعلية ، كي يقال ان القبض وكذا الاجازة بعد ما لا يكون من اجزاء السبب ، بل من شرائط نفوذه وتأثيره ، فالصحة الفعلية فيه تكون مشكوكة بلحاظ الشك في تحقق ما هو شرط نفوذه وتأثيره ( ولا مانع ) من اجراء اصالة الصحة الفعلية فيه للحكم بترتب النقل والانتقال في بيع الصرف والسلم ، إلا بقصر مجرى الاصل على صحة العقد عند حدوثه ، لا مطلقا ولو بقاء ( فانه ) بلحاظ حدوثه مع الشك في القبض لا تكون الصحة فيه الا التأهلية التي هي ايضاً غير مشكوكة ( نعم ) لو كان القبض في الهبة والصرف والسلم من قبيل الشرائط المتأخرة كاشفاً عن تحقق الملكية والنقل والانتقال من حين العقد بالكشف الحقيقي، كما قيل به في اجازة المالك في عقد الفضول ، لكان للتمسك باصالة الصحة في عنوان

ص: 88

المسبب من الهبة وبيع الصرف والسلم وفي بيع الراهن بعد احراز عنوانه العرفي مجال ( ولكنه ) خلاف التحقيق ( فان ) التحقيق هو كون القبض من الشرائط المقارنة الناقلة من حين وجوده ( ومعه ) لا تجرى فيه اصالة الصحة مع الشك في تحقق القبض ( بل الامر ) في اجازة المالك لعقد الفضول حتى على مذاق المشهور من الكشف الحقيقي اشكل ( لان الاثر ) انما هو للبيع المنتسب الى المالك الذي هو الموصوف بالصحة الفعلية، ولا انتساب إلا بالاجازة ، فمع الشك في الاجازة يشك في الانتساب المزبور بور ، فلم يحرز عنوان موضوع الاصل ، وعلى فرض احرازه لا يعقل الشك في العقد المنتسب الى المالك من جهة الشك في الاجازة ( نعم ) لو قلنا انه يكفي في صحة عقد الفضول مجرد رضى المالك في نفس الامر ، وان الاحتياج الى الاجازة في الحكم بالصحة وترتب النقل والانتقال انما هو لكشفه عن رضى المالك ، لا انه لخصوصية فيها تقتضى اضافة العقد الصادر من الفضول الى المالك ( لا مكن ) التمسك باصالة الصحة عند الشك في الاجازة على التفصيل المتقدم في القبض بين الكشف الحقيقى والنقل ( ولكن ) المبني ضعيف جداً ( وبمثل هذا ) البيان انقدح الحال في بيع الوقف عند الشك في عروض ما يسوغ معه بيعه ( فان ) بيع الوقف لو خلى وطبعه لما كان مبنياً على الفساد ، لاباء طبع الوقف بعنوانه الاولى عن قابلية النقل والانتقال يحتاج صحة بيعه الى طرو ما يسوغ معه بيمه ، ومع الشك في ذلك لا مجري لاصالة الصحة فيه ، وذلك لا من جهة . ان اصالة الصحة فيه لا يثبت عروض مسوغات بيعه ، بل من جهة عدم احراز ما هو موضوع الصحة ( الا ان يقال ) انه ليس فى الادلة إلا ان بيع الوقف حال صدوره مع عدم المسوغ فاسد لا يصلحه لحوق الشيء ، ومع المسوغ صحيح ، نظير البيع الصادر من البالغ وغير البالغ ، بلا اخذ هذا العنوان في موضوع الصحة ( ولازمه ) الحمل على الصحة خصوصاً إذا كان البيع صادراً من المتولى ، كما هو الشأن فى كل عمل صادر من الغير بعنوانه الاجمالي القابل للاتصاف بالصحة الفعلية والفساد ، والمسئلة غير نقية عن الاشكال ، فتحتاج الى مزيد تأمل فيها ( ثم ان ذلك ) كله بالنظر الى ترتيب الشاك في الصحة للاثر ، مع قطع النظر

ص: 89

عن تخاصم المتعاملين في بعض ما يتفرع عليه صحة المعاملة ( وإلا ) وجب العمل فيه بالقواعد المقررة لفصل الخصومة بالنسبة الى مورد المخاصمة ، ويختلف الحكم في ذلك باختلاف كيفية تحرير الدعوى .

( تفريع ) إذا علم بوقوع الرهن على مال الغير وصدور اذن ايضا من المالك في رهن ماله مع رجوعه عن اذنه ، وشك في تقدم الرجوع على الرهن وتأخره عنه ( أو علم ) وقوع البيع من الراهن وصدور اذن ورجوع من المرتهن ، وشك في تقدم الرجوع على البيع وتأخرة عنه ( ففى جريان ) اصالة الصحة في الرهن في الفرع الأول ، وفي البيع فى الفرع الثاني ، الاشكال المتقدم من دوران الامر في كل من الرهن والبيع عند وجود العقد بين الصحة الفعلية والتأهلية ، لا بين الصحة الفعلية والفساد ( بل يزداد ) الأول اشكالا بما ذكرناه في بيع الفضول عند الشك في الصحة فعلا من جهة الشك فى اجازة المالك ، من حيث عدم احراز عنوان الموضوع وعدم اثبات اصل الصحة لحيث انتساب البيع الى المالك ( واما ) اصالة بقاء الاذن أو عدم الرجوع عنه الى حين وجود المقد ( فقد ) يقال بجريانها في الفرعين واقتضائها صحة كل من الرهن والبيع ( ولكنه ) مشكل في الفرع الاول ( لان ) مقتضى التجارة عن تراض هو ان يكون الرهن حين وجوده ناشئاً عن اذن مالك العين المرهونة، بل ذلك يكون من مقتضيات طبع الوثيقة عرفاً ( فكان ) لحيث النشو المزبور دخل فى موضوع الاثر ( واصالة ) بقاء اذن المالك ، او عدم رجوعه عن اذنه غير مثبت لمثل هذه الاضافة النشوية ( لان ) نشو الرهن عن كونه من رضى المالك واذنه من اللوازم العقلية لبقاء الاذن الى حين وجود العقد ( نعم ) يتم ذلك فى الفرع الثاني ( فان ( الاحتياج الى اذن المرتهن او اجازته ليس لاجل انتساب الرهن الى المرتهن ، كما فى اجازة المجيز المالك لعقد الفضول ( وانما ) هو لاجل ابطال حقه المتعلق بالعين المرهونة المانع عن نفوذ بيع الراهن المالك ( فاصالة ) ع_______دم الرجوع عن الاذن السابق الى حين وجود العقد تكون مجدية في ترتيب آثار الصحة على البيع الصادر من الراهن

ص: 90

فى ان مقتضى هذا الاصل ترتيب جميع الآثار الثابتة للفعل الصحيح ونقل كلام الشيخ ره فى الاعمال النياتيه

( الامر السادس ) قد عرفت ان مقتضى هذا الاصل ترتيب الشاك الحامل جميع الآثار الثابتة للفعل الصحيح التي لها مساس به ( فلو صلى ) شخص على ميت وشك في صحتها تحمل على الصحيح ويسقط عنه الصلاة عليه ، وكذا لو آجر شخصاً لتطهير ثوبه ، فغسله وشك في صحته من جهة الشك في بعض شروطه من

اطلاق الماء او وروده على النجاسة ونحو ذلك حكم بطهارته بعد احراز الغسل العرفي من غير فرق في ذلك بين العناوين القصدية وغيرها نعم ، في العناوين القصدية كعنوان الصلاة يحتاج في جريان اصالة الصحة إلى احراز القصد المقوم للعنوان ايضاً ، ولا يكتفى فى الحكم بالصحة بصرف احراز ذات العمل مع الشك في تعنونه بالعنوان الذي ترتب عليه الاثر او تعلق به الأمر ( واذا كان ) العمل من الاعمال النيابية كالصلوة عن الميث ، والحج عن العاجز ( لا بد ) في الحكم بالصحة وترتيب الاثر من استحقاق العامل الاجير للاجرة ، وتفريغ ذمة المنوب عنه زائداً عن احراز العمل المعنون من احراز وقوعه من الفاعل النائب على وجه النيابة عن المنوب عنه، اما بالوجدان او بالبينة او باخبار الفاعل اما مطلقاً ، او بشرط عدالته على ما يأتي تفصيله ( فاذا ) احرز صدور العمل من النائب علي وجه النيابة وتفريغ الذمة عن الغير المكلف بالعمل اولا وبالذات ، كالحج عن العاجز والصلاة عن الميت ، وشك في صحته لاجل احتمال اخلاله ببعض ما يعتبر في صحته، يحمل على الصحيح، ويترتب عليه جميع ما له من الآثار .

( ولكن ) الذي يظهر من الشيخ ( قده ) هو الاشكال في الحكم بالصحة في تفريغ ذمة المنوب عنه ولو مع احراز قصد الفاعل بعمله تفريغ ذمة المنوب عنه ( و محصل ( ما افاده قده هو ان لفعل النائب حيثيتين ( الاولى ) كونه فعلا جميع افعال النائب ، وبهذا الاعتبار يترتب عليه آثار صدور الفعل الصحيح منه ، كاستحقاقه للاجرة وجواز استيجاره ثانياً ( الثانية ) كونه فعلا للمنوب عنه عرضا لكونه بمنزلة الفاعل بالتسبيب ، فكان الفعل الصادر منه بعد قصد النيابة قاما بالمنوب عنه ، و بهذا الاعتبار يترتب عليه تفريغ ذمة المنوب عنه وعدم وجوب الاستيجار عليه ثانياً ( والصحة ) من الحيثية الاولى لا يستلزم الصحة من الحيثية الثانية لا نه من هذه الحيثية

ص: 91

فعل من الافعال القائمة بالمنوب عنه والشاك الحامل لا من افعال الصادر من الغير ( فاصالة الصحة ) فيه بماهو فعل من افعال الغير ، لا يثبت الصحة بما هو فعل من افعال المنوب عنه ( فيجب ) التفكيك بين اثرى الفعل من الجهتين ، فيحكم باستحقاق النائب الاجير للاجرة ، وعدم تفريغ ذمة المنوب عنه

( وفيه ما لا يخفى ) فإن الصحة من الجهة الثانية انما هى من آثار الصحة الجهة الاولى ( لوضوح ) ان الفعل الواحد الصادر من الغير بعنوان النيابة عن المنوب عنه اذا كان صحيحاً تعبداً ، فهذا الصحيح بعينه هو المنسوب الى المنوب عنه بنحو من الانتساب ، فكيف لا يكون مبرء للذمة ( اذ لا معنى ) لحكم الشارع البناء على صحة فعل النائب من حيث النيابة عن الغير ولاستحقاق الاجرة عليه بهذا العنوان ، الا البناء على تفريغ ذمة المنوب عنه ( واما حكم ) المشهور باعتب_____ار العدالة فى النائب عن الحى والميت ( فليس ) من جهة عدم كفاية صحة التعبدية في فعل النائب من حيث النيابة للصحه من جهة برائة ذمة المنوب عنه ( بل انما ) هو من جهة احراز صدور الفعل على وجه النيابة بلحاظ اقتضاء العدالة للوثوق بصدور العمل النيابي عنه ( والا ) مع احراز صدوره على وجه النيابة عن الغير ، اما بالوجدان ، او بغيره من الامارات المعتبرة ، لا يظن باحد منهم التشكيك في اقتضاء الصحة من الجهة الاولى للصحة من الجهة الثانية ( مضافاً ) الى منع كون الفعل الصادر عن النائب بعنوان النيابة عن الغير من قبيل الفعل بالتسبيب او الآلة بالنسبة الى المنوب عنه بحيث يصاف ويستند اليه باسناد حقيقي ( اذ نقول ) أنه ليس لفعل النائب حتى بمعناه الاسم المصدر الا اضافة واحدة وقيام واحد بالفاعل المباشر دون المنوب عنه ( وان ) ما يقع عن المنوب عنه انما هو اثره من تفريغ ذمته وتخضعه للمولى وتقربه اليه كما يقع نظيره في الخضوعات العرفية من نحو تقبيل اليد وغيره ( فانه ) بايجاد ما هو آلة الخضوع عن الغير ، يقع الخضوع لذلك الغير مع رضائه به بلا احتياج إلى أمره بذلك، بخلاف باب التسبيب ، فانه يحتاج فيه الى امر من الامر بالايجاد ولا يكفيه صرف رضائه بفعله ( مخضوع ) المنوب عنه وتقربه الى المولى وتفريغ

ص: 92

ذمته انما يكون من آثار فعل النائب بايجاد ما هو آلة الخضوع ووظائف العبودية عن قبله ، كما ان من آثاره فى فرض الاستيجار عليه استحقاق النائب الاجرة عليه ، لا انها من آثار أضافة فعل النائب اليه وقيامه به ولو بمعناه ، الاسم المصدر ،لما عرفت من انه ليس له الا اضافة واحدة قائمة بالنائب ، لا ان له اضافتين ، اضافة الى النائب واضافة الى المنوب عنه ( وما يرى ) احياناً من انتساب العمل واسناده الى المنوب عنه ( فأنما ) هو بنحو من العناية ، لا انه باسناد حقيقي كما في التسبيبيات ( وحينئذ» فإذا كان العمل الصادر من النائب بعنوان النيابة عن الغير وتفريغ ذمته محكوماً بالصحة ، يترتب عليه لا محالة ، كلا الاثرين من استحقاق العامل للاجرة وبراءة ذمة المنوب عنه

فى اعتبار احراز موضوع الاثر في جريان اصالة الصحة

( بقى الكلام ) فيما يحرز به موضوع الاثر ( فنقول ) اما في العناوين غير القصدية ، كتطهير الثوب وازالة الخبث عنه ، فلا اشكال في انه يكتفى في جريان اصالة الصحة مجرد احرازها بصورتها ( فاذا ) شوهد من يأتي بصورة الغسل المزيل عرفاً للخبث وشك في كونه مز يلا شرعاً لاحتمال الاختلال ببعض شروطه ، يحمل على الصحيح ويترتب عليه اثره ( واما في العناوين القصدية ) ، كالعبادات والمعاملات من العقود والايقاعات المتقومة بالقصد ( فالظاهر ) كفاية احراز عناوينها بصورتها ايضاً في الحمل على الصحة ، ولا يعتنى باحتمال كونها مجرد صورة قصد بها التعود او غيره من الدواعي العقلائية ( ولذا ) لا يتوقف احد في الاخبار عمن شوهد كونه متلبساً بصورة هذه الاعمال من صلاة او زيارة، او نسك ، بانه يصلى ويزور ( فلو شوهد ) من يأتي بصورة الصلاة على ميت وشك في صحتها من جهة اجتمال كونها مجرد صورة قصد بها التعليم ، يحمل على كونها صلاة فيسقط عنه التكليف بالصلاة عليه ( وكذا ) من يأتى بصورة عقد في مقام المعاملة من بيع ونحوه ، حيث يحمل على كونه صادرا عن قصد التسبب به الى المعاملة بحيث يقدم قول من يدعي الصحة اذا تنازعا في صحة العقد وفساده لاجل التنازع في القصد وعدمه ( والعمدة ) في ذلك هي السيرة العرفية وبرهان اختلال النظام ( حيث انها ) يقضيان بالحمل على الصحيح

ص: 93

في نحو هذه الامور من حيث اقترانها بالقصد ما لم يعلم كونها مجرد صورة خالية عن قصد عناوينها ، ومن حيث اشتمالها على الشرائط الشرعية المعتبرة في صحتها ، وان لم يكن اخبار من الفاعل باقترانها بالقصد المقوم لعناوينها ( هذا ) في غير الاعمال النيابية ( واما ) في الاعمال النيابية كالصلاة عن الميت ، والحج عن العاجز ( فان كان ) الشك فيها من جهة القصد المقوم لعنوان العمل من الصلاتية ونحوها ، فحكمها ما تقدم من الاكتفاء في احراز عناوينها باحراز صورتها ( وان كان ) الشك من جهة وقوعها عن قصد النيابة عن المنوب عنه ( فلا طريق ) الى احرازها الا اخبار العامل بعمله من كونة قاصدا به عن المنوب عنه ( ولا اشكال ) في قبول قوله ، لكونه مما لا يعلم الا من قبله ( وهل يعتبر ) فيه العدالة ، او يكفى فيه الوثوق ، او لا يعتبر فيه العدالة ولا الوثوق فيه وجوه ( اظهرها ) الاخير ، لكونه مما لا يعلم الا من قبله ، فيكتفى باخباره في الحكم بفراغ ذمته واستحقاق الاجرة ، وفراغ ذمة المنوب عنه ( هذا ) اذا كان العمل بصورته او بعنوانه محرزا بالوجدان ( و اما لو كان ) الشك في اصل وجود العمل وتحققه ( فالظاهر انه ) لا طريق الى احرازه الا العلم او البينة من غير فرق بين العناوين القصدية وغيرها ، فلو استأجر شخصا لتطهير ثوبه او للصلاة عن الميت فشك في اصل صدور الغسل المزيل للخبث منه او اتيانه بالصلوة فلا بد من احراز اصل العمل اما بالعلم أو بالبينة ( ولا يكتفي ) باخب_____اره في احراز العنوان وان كان عدلا او ممن يحصل الوثوق من قوله ( اذ لا دليل ) على حجية اخباره ( بل مقتضى الادلة ) كرواية مسعدة بن صدقة من قوله ( علیه السلام ) حتى تستبين او تقوم بها البينة اعتبار التعدد والعدالة في الموضوعات الخارجية ( وشمول ) ادلة حجية خبر الواحد لمثله ، ممنوع ( لاختصاصه ) بالاخبار القائمة على الاحكام الشرعية ( وعلى ) فرض عمومها للموضوعات الخارجية ، لا بد من تقييدها بما دل على اعتبار التعدد والعدالة فيها ( نعم ) لو فرض كونه مندرجاً في مورد تحت قاعدة من القواعد

المقتضية لقبوله ، كقاعدة من ملك شيئاً ملك الاقرار به ملك شيئاً ملك الاقرار به ، او قاعدة الايمان ، يقبل قوله في ذلك المورد بلحاظ تلك القاعدة ، فيحرز به عنوان الموضوع ،

ص: 94

وتجرى فيه اصالة الصحة عند الشك في صحته وفساده ( والا ) فيشكل اثبات حجيته قوله ولو مع كونه عدلا او ممن يوثق بقوله .

فى عدم حجية مثبتات اصالة الصحة

( الأمر السابع ) ان الثابت بهذه القاعدة انما ان الثابت بهذه القاعدة انما هو خصوص ترتب الآثار الشرعية المترتبة على العمل الصحيح ( دون ) ما يلازم الصحة من الامور الخارجة عنها ( فلو شك ) في صحة عقد من العربية او الماضوية ، او من جهة بلوغ العاقد ، يحمل على الصحة بلحاظ ما يترتب عليها من تحقق الملكية والنقل والانتقال ( لا بلحاظ ) الآثار المترتبة على ما يلازمها من عربية العقد ، وماضويته او بلوغ المتعاقدين ( لقصور ) اصالة الصحة عن اثبات هذه اللوازم ، حتى على القول بامارية هذه القاعدة ، فضلا عن اصليتها ( لان ) مجرد كون الشيء امارة لا يقتضي حجيته بجميع مداليله مطابقة والتزاماً ( وانما ) هو تابع اطلاق دليل تتميم كشفه في الشمول الجميع ما يحكى عنه من المدلول المطابقي والالتزامي ( والا ) فبدونه لا بد من الاقتصار في تتميم كشفه على المدلول المطابقي ( وحيث ) انه ليس في المقام دليل لفظي يقتضى باطلاقه حجية هذه القاعدة وتتميم كشفها في جميع ما تحكى عنه مطابقة والتزاما ( لان ) العمدة في الدليل على حجيتها هو الاجماع ، والسيرة ، ومناط الاختلال ( فلا بد ) من الاقتصار على ما هو المتيقن منها ، ولا يكون ذلك الا تتميم كشفها من حيث الصحة ، دون ما يلازمها ( هذا ) على المختار في وجه حجية مثبتات الامارة من كونه مناط تعدد الحكاية في الامارة مطابقة والتزاما ( واقتضاء ) دليل حجيتها لتتميم كشفها بجميع مداليها ( واما ) على ماسلكه بعض الاعاظم قده ، من كونه بمناط ان المجعول في الامارات في نفسه معنى يقتضى حجية مثبتا تها فلا بد ) من الالتزام بعدم التفكيك ، بين أمارية هذه القاعدة ، ومثبتيتها ( ولكن ) الكلام فى اصل المبني ( ولقد ) اشبعنا الكلام في ضعفه بما لا مزيد عليه في التنبيه السابع في شرح مثبتات الاصول والامارات فراجع .

( ثم ان ) الشيخ قده افاد في التفريع على هذا البحث مسئلة الشك في كون الشراء بما يملك او ما لا يملك ( حيث قال ) : فلو شك في ان الشراء الصادر من الغير

ص: 95

كان بما لا يملك أو بعين من اعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته الى البايع : انتهى ( وظاهر ) اطلاقة شمول الحكم بعدم الانتقال ، لما اذا كان المبيع عيناً معيناً قد شك بشهة بدوية في كونه خمراً او خلا ( مع انه ) في هذا الفرض ، كما يحكم بصحة الشراء وانتقال الثمن الى البايع، كذلك يحكم ايضاً بانتقال العين المعين الخارجي الى ملك المشترى ( لان ) الحكم بصحة الشراء الصادر ليس إلا الحكم بانتقال كل من الثمن و المثمن من ملك صاحبه الى ملك الآخر ( نعم ) لا يحكم عليه بالمالية الشرعية ، لكونه مما يقصر الحمل على الصحة عن اثباته ( نعم لو كان المقصود ) من التفريع المزبور صوره تردد ما وقع عليه الشراء بين الفردين احدهما الخل والآخر الخمر ( لكان ) ما افاده قدس سره من صحة الشراء وعدم الحكم بانتقال شيء من الى البايع في غاية المتانة ( وذلك ) اما الحكم بصحة الشراء الصادر في الفرض مع الشك في مالية الثمن شرعاً ، فلوجود المقتضى للحمل على الصحة ( لان ) ما به قوام الشراء عرفاً انما هو مطلق المالية في العوضين ، لا خصوص المالية الشرعية فيها ( ولذا ) لا شبهة في صدق عنوان البيع والشراء عرفاً عند كون التمن او المثمن خمراً او خنزيراً

فى شرح كلام الشيخ ره فى الشك فى كون الشراء بما يملك او مالا يملك

( وحينئذ ) فبعد احراز عنوانه العرفي بالوجدان والشك في صحته وفساده من جهة الشك في مالية المن شرعاً وقابليته للانتقال ، تجرى فيه اصالة الصحة ( واما ) عدم الحكم بانتقال عين من اعيان ماله مما له المالية الشرعية ، كالخل مثلا ( فانما ) هو من جهة كونه من لوازم تطبيق العنوان المعلوم بالاجمال الذى وقع به الشراء على خصوص الخل ( ومثله ) خارج عن عهدة هذا الاصل ( لان ) غاية ما يقتضيه الاصل المزبور أنما هو التعبد بانتقال العوض المعلوم بالاجمال المردد بين الحمر والخل الى البايع ( واما ) كونه هو الخل بالخصوص فلا ، وان كان ذلك مما يلازم الصحة واقعاً ( كما نظيره ) في استحباب الكلى المردد بين الباقي والزائل من حيث عدم اثباته لكون الموجودهو الفرد الباقي ( وان كان ) بينها فرق من جهة اخرى ( ولا تنافي ) بين الحكم بصحة الشراء وانتقال المبيع الى المشتري ظاهرا، وبين عدم الحكم بانتقال شيء من تركته الى

ص: 96

البايع ، بل ومع الحكم ببقائه على ملك المشتري ظاهرا بمقتضى اصالة عدم النقل ( لان ) مثل هذا التفكيك في الاحكام الظاهرية ، غير عزيز ( نعم ) ما ينافي الحكم بصحة الشراء انما هو الحكم بعدم انتقال شيء الي البايع ولو بالعنوان الاجمال المردد بين الفردين ( وقد ) فرضنا اقتضاء الحمل على الصحة انتقال المعلوم بالا جمال بالعنوان الاجمالى الى البايع ، غير انه لا طريق الى تطبيقه في الخارج على خصوص الخل .

فى تقريب الاشكال على الشيخ قده ودفعه

( وبما ذكرنا ) من البيان ، يظهر اندفاع ما أورد عليه من الاشكال ( تارة ) على أصل حكمه بصحة الشراء ، من جهة ما توهم من تخصيص مورد القاعدة بما اذا كان الشك في الصحة والفساد من غير جهة الشك في اهلية العاقد وقابلية العوضين شرعا للنقل والانتقال ( واخرى ) على قوله بعدم الحكم بانتقال شي من تركته الى البايع ( بدعوى ) انه لا معنى الحكم بصحة الشراء مع القول بعدم انتقال شيء من تركته الى البايع ( لانه ) اما ان تقول بانتقال المبيع من البايع الى المشترى ، واما ان لا نقول بذلك ( فعلى الاول ) يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون ان يدخل في ملك البايع ما يقابله من الثمن وهو كما ترى ) وعلى الثانى ( لا اثر لاصالة الصحة في شرائه ( لان ) كلا من الثمن والمثمن بعد باق على ملك مالكه ، فای أثر يترتب على اصالة الصحة ( وجه الاندفاع ) يعلم مما بيناه ( اما الاشكال ) الاول ، فيما ذكرنا من ان ما به قوام الشراء عرفاً انما هو مطلق المالية في العوضين ( وبعد ) احراز عنوانه عرفاً والشك فى صحته وفساده شرعا من جهة المالية الشرعية في الثمن او المثمن ، لا قصور في جريان القاعدة والحمل على الصحة ( واما الاشكال ) الثاني ، فاندفاعه انما هو بالالتزام بخروج المبيع من ملك البايع الى ملك المشتري ، ولكن لا بلا عوض، بل بازاء المعلوم بالاجمال المردد بين الخمر والخل ، وان لم يكن طريق شرعى الى تطبيقه على خصوص الخل ، او شيء من اعيان تركته ، بلحاظ عدم كون مثل هذا التطبيق من شؤن هذه القاعدة ، إلا على القول بالمثبت ( فالاستغراب ) المزبور من كلام الشيخ قده في حمل الشراء الصادر على الصحة مع عدم الحكم بانتقال

ص: 97

خصوص شيء من اعيان تركة المشتري الى البايع ، لا يخلو عن غرابة ( اللهم ) الا ان يقال ان الحكم بانتقال المعلوم بالاجمال بعنوانه الاجمالي الى البايع انما يصح ، اذا كان بحيث على تقدير انطباقه على كل من الفردين قابلا للانتقال الى البايع بإزاء المبيع ( والا ) فعلى فرض عدم قابليته لذلك الا على تقدير خاص ، فلا يصح الحكم بانتقاله بازاء المبيع ( وبعد ) عدم الحكم بانتقال شيء من اعيان تركته الى البايع ، يلزمه عدم الحكم بصحة الشراء ايضا ( ولكن ) هذه الدعوى غير وجيهة ( والا ) لاقتضت الحكم بعدم الصحة حتى في فرض العلم بوقوع الشراء بعين معينة محتمل بشبهة بدوية كونها خمرا او خلا ، الجريان المناط المزبور فيه أيضاً ( وهو ) كما ترى ( ثم انه ) قد يورد على الشيخ قده اشكال آخر ، ( وهو ) استلزام الحمل على الصحة في الشراء الصادر ، وعدم الحكم بانتقال شي من تركة المشتري الى البايع ، الوقوع في محذور مخالعة العلم الاجمالى في مجموع التركة ، وفيما لو جمع بعض الورثة أو الثالث بين المبيع ، والعوض الذي حكم ببقائه على ملك المشترى ( ولكنه ) كما ترى فان الوقوع في محذور مخالفة العلم الاجمالى احياناً امر غير مرتبط بصحة الشراء من حيث الشراء في الحكم بانتقال المبيع الى المشتري تعبداً .

فى نسبة اصالة الصحة مع الاستصحاب وتقديمها عليه مطلقا

( الامر الثامن ) في نسبة القاعدة مع الاستصحاب وتقديمها عليه في استصحابات الحكمية والموضوعية ( فنقول ) : اما تقديمها على استصحاب الفساد وما فى معناه من الاصول الحكمية ، فلا اشكال فيه ( من غير فرق ) بين القول بكون القاعدة من الامارات الكاشفة ، أو من الاصول المحرزة ( ولا بين ) جعل الصحة في القاعدة بمعنى التمامية ، او بمعني ترتب الاثر ( فانه ) على جميع التقادير تكون القاعدة مقدمة على الاصول الحكمية المقتضية لفساد المعاملة ، وعدم ترتب النقل والانتقال ( وهذا ) على امارية القاعدة واضح ، فانها بمقتضى دليل تتميم كشفها تكون حاكمة على تلك الاصول لكونها رافعة للشك في ترتب النقل والانتقال المأخوذ في موضوع تلك الاصول ( وهكذا ) الكلام على اصلية القاعدة مع البناء على كون الصحة فيها بمعنى التمامية ، لا بمعنى ترتب الاثر ( بلحاظ ) مسببية الشك في ترتب

ص: 98

الاثر وتحقق النقل والانتقال عن الشك في تمامية العقد في المؤثرية ، وتمامية المسبب فى قابليته للمتأثرية ( واما ) بناء على كون الصحة فيها عبارة عن نفس ترتب الاثر ( فتقديم ) القاعدة عليها يكون بمناط التخصيص ( لانه ) ما من مورد يمكن ان تجري فيه القاعدة إلا وفيه اصل يقتضي الفساد وعدم ترتب الاثر المقصود ( فلولا ) تقديم القاعدة على تلك الاصول ، ليلزم لغوية جعلها ( بخلاف ) المكس ، فانه لا يلزم من تقديم القاعدة على الاصول الحكمية محذور الغوية في جعل الاصول ( لان ) لها موارد كثيرة لا تجرى فيها القاعدة ( مع امكان ) دعوى الحكومة على هذا المبنى ايضا بناء على ما عو لنا عليه من الدليل لهذه القاعدة من السيرة واختلال النظام المستفاد من التعليل الوارد في بعض اخبار اليد بانه لولاه ماقام للمسلمين سوق ( فان ) مثل هذا اللسان ناظر الى تخصيص مجرى الاصول الحكمية المقتضية للفساد ، بغير مجرى هذه القاعدة ( اذ لا نعنى ) من الحكومة الا ما يكون ناظراً الى دليل آخر بتوسعة او تضيق في دائرته ، ولولا يكون بلسان تتميم الكشف .

( واما تقديمها ) على الاستصحابات الموضوعية ، كاصالة عدم البلوغ ونحوها فقد اختلف فيه كلمات الاعلام ( والظاهر ) اختلاف الحكم في المقام باختلاف المباني في مفاد دليل الاستصحاب من حيث جعل المائل والاثر ، او مجرد الامر بالمعاملة من حيث الجري العملي، وكذا في القاعدة من جهة الامارية والاصلية، ومن حيث معنى الصحة فيها في كونه نفس ترتب الاثر ، او التمامية ( فنقول ) : ان جعلنا هذا الاصل من الامارات والظواهر المعتبرة ، كما هو ظاهر جماعة ( فان ) قلنا بحجتيه في جميع ماله من المدلول مطابقة والتزاماً ( فلا شبهة ) في تقديمه على تلك الاستصحابات مناط الحكومة ، لاقتضائه بدليل كشفه ارتفاع الشك المأخوذ في موضوع تلك الاصول ( واما ان قلنا ) بعدم حجيته الا في خصوص مدلوله المطابق دون غيره ، كما هو التحقيق وتقدم الكلام فيه في الامر السابق ( فان بنينا ) في مفاد لا تنقض على كونه ناظراً إلى جعل المماثل في استصحاب الاحكام وجعل الأثر في استصحاب الموضوعات ( فلا محيص ) من التعارض بين هذا الاصل ، وبين استصحاب عدم

ص: 99

بلوغ العاقد حين العقد ( اذ بعد ) عدم اقتضاء هذا الأصل لاثبات بلوغ العاقد ورفع الشك من جهته ، يجري فيه استصحاب العدم ويترتب عليه أثره الذي هو فساد العقد وعدم ترتب النقل والانتقال ، فتقع بينها المعارضة ( ومع ) هذا التعارض لا مجال لتقديم القاعدة على الاستصحاب الا بمناط التخصيص بما ذكرنا من لزوم اللغوية في جعلها لولا تقديمها على تلك الاستصحابات ( كما لا مجال ) لتقديم الاستصحاب عليها من جهة الحكومة ( بتوهم ) تسبب الشك في الصحة والفساد حينئذ عن الشك في بلوغ العاقد ، وباصالة عدمه يرتفع الشك عن صحة العقد تعبداً ( فانه ) لو ذلك فأنما هو فيما اذا كان الشك مأخوذاً في موضوع القاعدة ، لا مورداً لها ( والا ) فعلى فرض اخذه فيها على نحو الموردية ، كما هو المفروض من امارية القاعدة ، فلا حكومة للاستصحاب عليها ( واما ان بنينا ) في مفاد لا تنقض على كونه ناظراً الى مجرد الامر بالمعاملة مع المستصحب معاملة الواقع من حيث الجرى العملى كما هو المختار ( فيمكن ) ان يقال بتقديم القاعدة على الاستصحاب الموضوعي بمناط الحكومة ( لانها ) بمقتضى دليل تتميم كشفها توجب الغاء احتمال فساد المعاملة ( ومعه ) لا يجري استصحاب عدم البلوغ ، لخلوه حينئذ عن الاثر ( لا يقال ) على هذا الفرض لابد من التعارض ايضاً بين الاستصحاب والقاعدة ، كالفرض السابق ، فكيف التفكيك بينها ( فانه يقال ) ان مرجع التنزيل في الفرض الثاني .

في تعارض القاعدة مع الاستصحاب

في استصحاب الموضوع إلى تعبدين تعبد بالموضوع وتعبد بأثره حسب تعدد الشك من حيث الموضوع واثره من الحكم التكليفي أو الوضعي ( فاذا ) كان التعبد الثاني محكوماً باصالة الصحة ، يكون التعبد بالموضوع لغوا لخلوه عن الاثر ( بخلاف ) الفرض الاول ( فان) فيه لا يكون الا تعبد واحد بالموضوع بلحاظ جعل اثره ( ولاجله ) يقع التعارض بين التعبد بالصحة بمقتضى القاعدة ، وبين التعبد بعدمها مقتضى استصحاب عدم البلوغ ( ولا مجلل ) فيه لتقديم القاعدة على الاستصحاب الا بمناط التخصيص من جهة محذور اللغوية في جعلها ، من غير فرق في ذلك بين القول بأن الصحة في القاعدة بمعنى التمامية ، أو ترتب الاثر ( هذا كله ) على القول بامارية هذه القاعدة ( واما

ص: 100

على القول ) بأصليتها ، كما هو التحقيق فيها ( فان جعلنا ) الصحة فيها عبارة عن نفس ترتب الاثر ، كما هو المشهور ( فلا محيص ) من حكومة الاستصحاب على القاعدة ( بلحاظ ) تسبب الشك في ترتب الاثر عن الشك في بلوغ العاقد ، وباستصحاب عدمه يرتفع الشك المزبور ، فيترتب عليه الحكم بالفساد وعدم ترتب الاثر من النقل والانتقال ( من غير ) فرق في ذلك بين القول باستفادة جعل الأثر من دليل حرمة النقض في استصحاب الموضوع ، و بين القول باستفادة الأمر بالمعاملة منه من حيث الجري العملى منه ( وان كانت ) الحكومة على الاول اظهر ( وان جعلنا ) الصحة فيها بمعنى التمامية ، كما هو المختار ( فقد يتوهم ) كونها محكومة ايضا باستصحاب عدم البلوغ ، باعتبار تسبب الشك في تمامية العقد عن الشك في بلوغ العاقد ، فاصالة عدم البلوغ تكون مزيلة للشك في تمامية العقد ( ولكنه ) توهم فاسد ( إذ نقول ) انها وان كانا متغايرين مفهوما ، ولكنها متحدين منشئاً ، فان تمامية العقد في مرحلة السببية والمؤثرية ، وكذا تمامية المسبب في مرحلة القابلية للمتأثرية ليست الاعين واجدية العقد والمسبب للشرائط المعتبرة فيها ( وانما الفرق ) بينها بصرف الاجمال والتفصيل بلا سببية ولا مسببية في البين ( ومعه ) كما تجرى استصحاب عدم البلوغ فيترتب عليه الفساد ، كذلك تجرى اصالة الصحة ، فيتعارضان ولازمه الحكم بسقوطها معاً ( الا ) ان يتشبث لتقديم القاعدة عليه بما ذكرناه من محذور اللغوية في جعل القاعدة ( لانه ) ما من مورد يشك في صحة عمل وفساده في ابواب العقود وغيرها الا وكان الشك في بعض ما يعتير فيه وجوداً وعدماً مما كان في نفسه مجرى الاستصحاب ( فلو قيل) حينئذ بسقوط القاعدة في تلك الموارد لاجل الاصول الجارية فيها لم يبق لجريانها الا الموارد النادرة ، فيلزم من جعلها محذور اللغوية ويلزمه محذور الاختلال في النظام ( بخلاف ) فرض العكس ، فانه لا يلزم محذور من تقديم القاعدة على الاستصحاب في موارد جريانها في طرف الاستصحاب ( فالاقوى ) حينئذ تقديم القاعدة على الاستصحاب مطلقا سواء في الاستصحابات الحكمية الا الموضوعية ، وسواء بين

ص: 101

الصحة بمعنى التمامية ، وبينها بمعنى ترتب الاثر ( ثم ان ) المشيخ الاعظم قده كلاماً في المقام في وجه بيان المعارضة وتقديم اصالة الصحة ، ولاجل تلامذته السيد العلامة الشيرازى قده كلام آخر في وجه المعارضة ، ولا يسعني المجال للتعرض لهما ، خصوصا لماعرض على من ضعف الحال وضيق .. مع تشتت البال واليه شكواى وهو المستعان .

فى اصالة الصحة فى الاقوال والاعتقادات

( بقى الكلام ) في اصالة الصحة في الاقوال والاعتقادات ( اما الاقوال ) فالشك في صحتها يتصور على وجوه ( الاول ) من حيث كونه مباحاً ، او حراما موجباً لفسقه ( ولا اشكال ) في الحمل على الصحة من هذه الجهة ( الثانى ) من حيث كونه على طبق القواعد العربية من حيث المادة والهيئة ، كما ( لو شوهد ) صدور عقد او ايقاع من الغير وشك في كونه على طبق القواعد العربية من حيث المادة والهيئة ( ولا اشكال ) فى الحمل على الصحة من هذه الجهة ايضا وانه يترتب عليه آثار الصحة من حيث النقل والانتقال وغيرهما ( الثالث ) من حيث كونه كاشفاً عن المعنى المقصود ( والشك ) من هذه الحيثية يكون من وجوه ( الاول ) من جهة ان المتكلم قصد المعنى بقوله بعت او ملكت ام لم يقصده بل تكلم من غير قصد ( ولا ريب ) في الحمل على الصحة من هذه الجهة وترتيب اثارها ، بحيث لو ادعى عدم قصد المعنى بقوله بعت او انه تكلم لغواً او للتعلم ونحو ذلك لم يسمع منه ( الثانى ) من جهة ان المتكلم اراد من اللفظ معناه الحقيقي حتى يترتب عليه الاثر او اراد منه المعنى المجازي في مقام الاستعمال بلا ذكر القرينة ( وفي جريان ) اصالة الصحة في هذه الصورة اشكال ينشأ من عدم تصور الفساد في استعماله ذلك . لعدم كون استعمال اللفظة في المعنى المجازى في نفسه بلا ذكر القرينة استعمالا فاسدا ، مع وضوح اختصاص هذا الاصل بما اذا كان مجريه مما له فرد صحيح وفرد فاس_______د ( وكذا الكلام ) فيما لو شك في كون المتكلم معتقدا لمؤدي قوله من الاخبار او الانشاء ( نعم ) في فرض تصور الصحة والفساد في انشائه او اخباره ، لا اشكال في الحمل على الصحيح ( ولكن ) ذلك مع قطع النظر عن اصالة الحقيقة واصالة الظهور ونحوها من الاصول اللفظية المرادية ( والا ) فلا مجال لاصالة الصحة في الكلام

ص: 102

الصادر من المتكلم مع وجود هذه الاصول كما هو ظاهر ( الرابع ) من جهة كون اخباره مطابقاً للواقع في نفس الامر، وهذا معنى حجية خبر المسلم ( ولا ينبغى ) الاشكال في عدم جريان قاعدة الحمل على الصحيح في هذه الصورة ( وذلك ) لا من جهة الاجتماع على عدم قبول كل خبر صدر من مسلم ( بل من جهة ) عدم دخل حيث المطابقه واللامطابقة للواقع في صحة اخبار المسلم ( لان ) هذه الحيثية من الامور الاتفاقية غير الملازمة لخبرية الخبر ( مضافاً ) الى انه لا اثر لحيث مطابقة الخبر للواقع ونفس الاثر ، كى عند الشك في المطابقة وعدمها تجرى فيه اصالة الصحة ( لوضوح ) ان الامر وهو الحجية او المعذرية انما هو من لوازم احراز الواقع بخبره ، لا من لوازم صدق الخبر ومطابقته للواقع في نفس الامر ( ولذا لو اخبر ) بوجوب شيء واحرز كونه مطابقاً للواقع يترتب عليه الحجية ووجوب العمل على طبقه ، وان كان ما اخبر بوجوبه مباحا في الواقع ( و بالعكس ) لو اخبر بعدم وجوب ما كان واجبا في نفس الأمر ، يترتب عليه مع الاحراز المزبور المعذرية ( فاذا كان) عنوان المطابقة واللا مطابقة للواقع اجنبياً عن موضوع الاثر ، وعن حيث دخله في اتصاف الخبر بالصحة والفساد ، فلا تجري فيه هذا الاصل لما عرفت من اختصاصه بما اذا كان مجراه مما له فرد صحيح يترتب عليه الاثر ، وفرد فاصد لا يترتب عليه الاثر ( وحينئذ ) فعدم جريان هذا الاصل من هذه الحيثية انما يكون من جهة عدم المقتضى للحمل على الصحة ، لا انه من جهة عدم وفاء الدليل عليه ، كما يظهر من الشيخ قده .

( واما الصحة في الاعتقادات ) فاجمال الكلام فيها ، هو ان الشك في صحة اعتقاد الغير ( ان كان ) من جهة نشوه عن مدرك صحيح من دون تقصير منه في مقدماته ، او نشوه عن مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ( فالظاهر ) هو الحمل على الصحيح ، كما في المفتى وغيره ممن يعتبر رأيه واعتقاده بالنسبة الى مقلديه ، فان الحجة بالنسبة الى المقلد انما هو رأي المجتهد واعتقاده في المطلب ، وان حجية قوله بأنه يجب كذا و يحرم كذا انما يكون من جهة كونه كاشفا عما هو الحجة وهو رأيه واعتقاده

ص: 103

( فاذا ) شك في صحة اعتقاده من الجهة المزبورة يحمل على الصحة ( وان كان ) الشك في صحته من جهة المطابقة للواقع ، فلا يحمل على الصحة لما تقدم من عدم

المقتضى للحمل على الصحة من هذه الجهة .

فى القرعة والكلام فى مقدار دلالة دليلها وموارد جريانها

المقام الثانى

في تعارض الاستصحاب مع القرعة ( والكلام ) فيها يقع تارة في مقدار دلالة دليلها وموارد جريانها ( واخرى ) في بيان نسبتها مع الاستصحاب وغيره من الأصول ، كاصالة التخيير ، والاباحة ، والاحتياط ( اما الاول ) فمجمل القول فيه هو ان اخبارها العامة فى بعضها : كل شيء مجهول فيه القرعة ، كما في التهذيب عن محمد بن حكم قال سألت ابا الحسن موسى ( علیه السلام ) عن القرعة في أى شيء : قال ( علیه السلام ) كل شيء مجهول ففيه القرعة فقلت له ان القرعة تخطىء وتصيب : فقال ما حكم الله به فليس بمخطىء ( و في بعضها ) القرعة لكل أمر مشتبة ( وفى ثالث ) انها لكل أمر مشكل ( ولكن ) الظاهر رجوع الاولين الى مفاد واحد، بلحاظ ان المجهول هو المشتبه والمشتبه هو المجهول ( ولازمها ) الاختصاص بالموارد التي يكون للشيء نحو تعين في الواقع ونفس الامر، إلا أنه طره عليه الاشتباه ولم يعلم كونه هذا اوذاك ، فتكون القرعة بالنسبة اليه من قبيل الواسطة في الاثبات ، حيث يتعين بها ما هو المجهول والمشتبه في البين ( بخلاف الثالث ) وهو المشكل ، فانه ظاهر في الاختصاص بالمبهات المحضة التي لا تعين لها في الواقع ونفس الامر ( فتكون ) القرعة بالنسبة اليها من قبيل الواسطة في الثبوت، حيث يستخرج بها ما هو الحق ( كما ) في باب القسمة ، وباب العتق والطلاق فيما لو اعتق أحد عبيده لا على التعيين ، أو طلق احدى زوجاته كذلك بناءاً على صحة هذا الطلاق ( ولا يخفى ) انه على هذا المعنى لا تعارض القرعة شيئاً من الادلة والاصول الجارية في الشبهات الحكمية والموضوعية ( لا نها ) بنفسها غير

ص: 104

جارية فى مواردها ( فلا يكون ) العمل بأدلة الاصول في مواردها تخصيصاً لدليل القرعة، وان ابيت عما ذكرنا من المعنى للمشكل وقلت انه في العرف عبارة عما يصعب حله وما يتحير المكلف في مقام العمل ، فلا يشمل ايضاً موارد الاصول الجارية في الشبهات الحكمية والموضوعية ، لانه بجريان تلك الاصول فى مواردها لا صعوبة على المكلف ولا تحير له في مقام الوظيفة الفعلية ( نعم ) انما يتصور ذلك في مثل عنوان المجهول والمشتبه ( حيث ) يقع المجال لتوهم المعارضة بين دليل القرعة ، وادلة الاصول الجارية فى مواردها ( من جهة ) دعوى عموم المشتبه للشبهات الحكمية والموضوعية بالشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالى ( وان كان ) دقيق النظر يقتضي خلافه ( لظهور ) عنوان المجهول والمشتبه في قوله ( علیه السلام ) القرعة لكل امر مجهول او مشتبه في الاختصاص بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالى وعدم عمومها للشبهات الحكمية مطلقا ولا الشبهات الموضوعية البدوية ( بداهة ) ظهور عنوان المشتبه في قوله القرعة لكل امر مشتبه في كونه وصفاً لذات الشيء المعنون من جهة تردده بين الشبئين او الاشياء ( لا وصفا ) لحكمه ولا لعنوانه ، ليكون من قبيل الوصف بحال المتعلق ( فالشبهات ) الحكمية مطلقا حتى المقرونة بالعلم الاجمالي خارجة عن مورد جريان القرعة ( لان ) الشبهة فيها انما هي في حكم الشيء لا في ذات الشيء ( كما ) ان الشبهات الموضوعية البدوية ايضا خارجة عن مورد القرعة ( لان ) الشبهة فيها انما تكون في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم كالخمر ونحوها على الموجود الخارجي ( لا فيما انطبق ) عليه عنوان الموضوع فارغاً عن الانطباق في الخارج ، بكونه هذا او ذاك ، كالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي حيث ان فيها يكون كل من الخطاب وعنوان الموضوع وانطباقه في الخارج معلوماً بالتفصيل ( ولكن ) الشك في ان المنطبق عليه عنوان المحرم أي الامرين ( ومع خروج ) موارد الاصول الجارية في الشبهات الحكمية مطلقا والشبهات الموضوعية البدوية من مورد جريان القرعة ، بالبيان المتقدم، يعمل بتلك الاصول في موارد جريانها ( ولا يحتاج ) الى

ص: 105

ملاحظة النسبة بين القرعة ، وبين تلك الاصول ( إذ لا يلزم ) من العمل بتلك الاصول في موارد جريانها تخصيصاً لدليل القرعة كما هو ظاهر ( نعم ) حيث ان مصب الاستصحاب في القرعة وموارد جريانها يعم الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي بين الشخصين في الحقوق والماليات ، يحتاج الى ملاحظة النسبة بين القرعة ، وبين الاستصحاب وغيره من الاصول كما سنذكره .

( وكيف كان ) فبعد ما عرفت من اختصاص مورد جريان القرعة بموارد العلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية نقول : ان الموضوع المشتبه في موارد العلم الاجمالي بين المتبائنين ( اما ) ان يكون متعلقاً لحق الله سبحانه ( واما ) ان يكون متعلقاً لحق الناس ( فان كان ) مما يتعلق به حق الله سبحانه ، فلا مجال لجريان القرعة فيه وذلك لا من جهة قصور القرعة في نفسها عن الجريان فيه ( بل من جهة ) وجود المانع وهو العلم الاجمالي بالتكليف الملزم واقتضائه بحكم المق____ل الجزمي بلزوم الفراغ ( فان ) الوظيفة حينئذ هو الاحتياط في جميع المحتملات مع الامكان ( الا اذا كان ) هناك ما يوجب انحلال العلم الاجمالى ، أو بدلية بعض الاطراف على التعيين عن المعلوم بالاجمال ، فلا يجب معه مراعات الاحتياط في بقية المحتملات ( ومن المعلوم ) ان القرعة في نفسها غير صالحة للانحلال ، ولا لاثبات البدلية عن المعلوم بالاجمال ( اما الاول ) فمن جهة تأخرها عن العلم الاجمالي ( اذ لا تزيد ) القرعة عن العلم التفصيلي المتأخر بثبوت التكليف في بعض الاطراف على التعيين ( فكما ) ان العلم التفصيلي المتأخر لا يوجب الانحلال ( كذلك القرعة ) في المقام ( ولقد ) اشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثالث من الكتاب في مبحث انحلال العلم الاجمالي فراجع ( واما الثانى ) وهو عدم كونها مثبتة لجعل البدل ولو على القول با ماريتها ( فلان ) غاية ما يقتضيه دليلها هو التعبد بكون مؤديها هو الواقع ، واما اثبات عدم كون المعلوم بالاجمال في المحتمل الآخر ، فلا الا على فرض اقتضاء دليلها لتتميم كشفها بجميع مالها من المدلول مطابقة والتزاماً من المدلول مطابقة والتزاماً ، وهو ممنوع جذاً ( ولكن ) الانصاف انه يكتفى في جعل البدل مجرد قيام امارة أو أصل على تعيين المعلوم بالاجمال

ص: 106

في طرف معين ( وهذا ) مما يتحقق بقيام القرعة عليه ، حيث يتعين بها المعلوم بالاجمال فيرتفع اثر العلم الاجمالي ( فالعمدة ) حينئذ في المنع عن جريان القرعة هو الاجماع وعدم القول بجواز تعيين الحكم الشرعى او موضوعه بالقرعة ، الا في بعض الموارد الخاصة التي ورد النص فيها بالخصوص ، كما في اشتباه الموطوء بغيره في قطيع الغنم .

( وان كان ) مما يتعلق به حق الناس ، كما في الحقوق والاموال ( فان امكن ) فيه الاحتياط التام ( فلا مجرى ) ايضاً للقرعة ، لما ذكرنا من العلم الاجمالى ( وكذلك ) الامر في فرض امكان الاحتياط ولو بالتبعيض ، كما في صورة العلم الاجمالى بكون أحد المالين ملكاً للغير ( فان مقتضى ) العلم الاجمالى وان كان وجوب الاحتياط باعطاء كلا المالين اليه ( ولكن ) بعد ان يكون ذلك ضرراً على الدافع منفياً بقاعدة نفى الضرر ، ويحرم على الغير ايضا اخذها لعامه بكون أحد المالين ملكا للغير يسقط العلم المزبور عن التأثير بالنسبة الى الموافقة القطعية ويبقى تأثيره بالنسبة الى المخالفة القطعية ، فيجب عليه التبعيض في الاحتياط باعطاء احد المالين الى الغير ولو بدسه فى امواله كي يلائم مع حرمة اخذه على الغير بمقتضى الحكم الظاهري في حقه فتأمل ( وان لم يمكن ) الاحتياط ولو تبعيضاً كالولد المردد بين كونه من حر أوعبد او مشرك فيما لو ادعى كل واحد منهم الولد ، و كالمال المردد بين الشخصين ( ففيه ) تجري القرعة ، والظاهر انهم عملوا أيضاً بالقرعة فيما كان من هذا القبيل مما يتعلق بالحقوق والاموال ( وان كانت ) الوظيفة قد تقتضى العمل بمناط النص الوارد في باب الدرهم الودعى من قاعدة العدل والانصاف من التنصيف او التثليث والتربيع اختلاف الموارد والدعاوى ، هذا ( ولكن ) الانصاف ان تشخيص موارد القرعة عن موارد جريان الاحتياط والتخيير وقاعدة العدل والانصاف في غاية الاشكال ( ولنعم ) ما قيل من انه لا يجوز العمل بالقرعة الا في مورد عمل الاصحاب بها .

في بيان نسبة القرعة مع الاستصحاب

( و اما نسبتها ) مع الاستصحاب ( فقد يقال ) انه لا مورد لنا تجري فيه القرعة والاستصحاب حتى يحتاج الى ملاحظة النسبة بينها ( لان ) المورد الذى تجري فيه القرعة لا تجري فيه الاستصحاب ( لان ) التعبد بالقرعة انما يكون في

ص: 107

موارد اشتباء موضوع التكليف و تردده بين الامور المتبائنة ( وفي تلك ) الموارد لا تجري الاستصحاب لسقوطه عن الجريان من جهة العلم الاجمالى ( ولكن ) فيه ان التعبد بالقرعة وان كان مخصوصاً بموارد العلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية ( الا ) ان غالب موارد جريانها انما يكون في موارد العلم الاجمالى بين الشخصين في باب الحقوق والاموال ، وحيث ان في تلك الموارد تجرى الاستصحاب ( فلا محالة ) يبقى المجال لملاحظة النسبة بينها وبين الاستصحاب ومعارضتها معه ( وعليه ) نقول ان النسبة بينها و بين الاستصحاب وان كانت على نحو العموم من وجه ( الا ) انه لا بد من تقديمها عليه ، نظرا الى قلة موردها وكثرة موارده ( فانه ) لو ق_____دم الاستصحاب عليها يلزم محذور اللغوية في جعلها ( لانه ) قل مورد تجري فيه القرعة ، ولا تجري فيه الاستصحاب ( بخلاف ) ما لو قدم القرعة على الاستصحاب ( فانه ) يبقى للاستصحاب موارد كثيرة لا تحصى لا تجري فيها القرعة .

فى نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العمليه

المقام الثالث

في نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العملية سائر الاصول العملية من البرائة والتخيير والاحتياط عقليها ونقليها ( فنقول ) : اما الاصول العقلية ( فلا شبهة ) في عدم معارضتها مع الاستصحاب لكونه وارداً عليها ( فان ) حكم العقل بالبرائة ، وكذا الاشتغال انما يكون في ظرف عدم وجود البيان على التكليف وجوداً وعدما وعدم وجود المؤمن من العقوبة المحتملة من قبل الشارع ، والاستصحاب بیان شرعی على وجود التكليف أو عدمه، فيرتفع موضوع حكمه وجداناً ( كما ) انه مؤمن شرعي من العقوبة ، فيرتفع العقوبة ، فيرتفع حكمه بوجوب الاحتياط ( واما الاصول ) النقلية ، كحديث الرفع ودليل الحلية ونحوهما مما مفاده الترخيص في الارتكاب ، او مف__اده وجوب الاحتياط ( فلا اشكال ) ايضا في تقديم الاستصحاب عليها ( نعم ) انما الكلام في وجه تقديمه عليها ، من كونه للورود ، او الحكومة ، او التخصيص ( حيث ) ان فيه وجوه واقوال ( منشئها ) الخلاف المتقدم في مفاد

ص: 108

دليل الاستصحاب من ان قوله ( علیه السلام ) لا تنقض اليقين بالشك ناظر الى اثبات اليقين بالواقع في ظرف الشك ، او الى المتيقن باثبات كونه هو الواقع ولو بتوسيط اليقين بجعله في القضية مرأتا اليه ( فعلى الاول ) كما اخترناه سابقاً ، يتعين الوجه في تقديمه عليها بكونه بمناط الحكومة دون غيرها ( لانه ) بتكفله لاثبات اليقين بالواقع مثبت لما هو الغاية المأخوذة في حديث الرفع والحجب ودليلى الطهارة والحلية ، وهو المسلم والمعرفة فيكون بهذا الاعتبار حاكماً على الاصول المغياة بالعلم والمعرفة ( وهكذا ) بالنسبة الى قوله ( علیه السلام ) كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، حيث يكون الاستصحاب بدلیل اعتباره حاكما عليه ورافعا لموضوعه تعبدا ، بناء على كون المراد من الورود فيه هو وصول النهى والعلم به ، لا صرف ورود النهي الواقعى حتى يكون اجنبيا عن ادلة البرائة ( واما على الثانى ) وهو رجوع النقض فيه الى المتيقن ( فلا مجال ) لحكومة الاستصحاب عليها ( بل لا بد ) وان يكون تقديمه على تلك الاصول بمناط الورود ، او التخصيص ( فعلى القول ) بان الغاية فيها عبارة عن العلم بمطلق الحكم اعم من الواقع والظاهر يكون الاستصحاب واردا عليها لا محالة ( اذ باستصحاب ) الوجوب او الحرمة يحصل العلم الوجداني بالحكم الظاهري فير تقع موضوع تلك الاصول ( واما على القول ) بان الغاية فيها عبارة عن العلم بخصوص الحكم الواقعي ( فلا محيص ) من ان يكون تقديمه عليها بمناط التخصيص دون الورود ودون الحكومة ( لعدم ) حصول العلم بالحكم الواقعي من قبل الاستصحاب لا وجداناً ولا تعبداً ( لان ) غاية ما يقتضيه دليل الاستصحاب حينئذ انما هو العلم الحقيقي بالحكم الظاهري ، وهذا العلم لم يجعل غاية للحكم الظاهري في هذه الاصول ( ولازمه ) وقوع التعارض بين الاستصحاب ، وبين تلك الاصول ( اذ مفاد ) الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن من الوجوب او الحرمة في ظرف الشك بالواقع، ومفاد تلك الادلة هو التعبد بحلية المشكوك فيه ونفى الالزام عليه ( ومعه ) لا محيص في تقديم الاستصحاب عليها من كونه بمناط التخصيص دون الحكومة ( ولا يفيد) في اثبات حكومة الاستصحاب عليها مجرد كونه من الاصول التنزيلية المحرزة

ص: 109

للواقع ما لم يكن بلسان اثبات العلم بالواقع بلحاظ الآثار المترتبة عليه نفسه وآثار متعلقه ( والا ) لاقتضى جريان ذلك في غيره من الاصول التنزيلية ايضا ، كقاعدة الطهارة ( فانها ) ايضا من الاصول التنزيلية المحرزة للواقع ، بشهادة صحة الوضوء والغسل بالماء المشكوك طهارته ونجاسته ( والا ) فلو لم تكن القاعدة ناظرة ولو تنزيلا الى اثباث الطهاره الواقعية ( يلزم ) احد المحذورين ( لان ) المستفاد من ادلة شرطية طهارة ماء الوضوه ( اما ان يكون ) شرطية الطهارة الواقعية ( او الاعم ) من الواقعية والظاهرية ( فعلى الاول ) يلزم عدم جواز الوضوء بالماء المزبور ، لعدم احراز الطهارة الواقعية بقاعدة الطهارة ( وعلى الثانى ) يلزم الحكم بعدم اعادة الوضوء مع تبين الخلاف وكشف نجاسة الماء بعد الوضوء ، لكونه واجداً حين وجوده لما هو شرط صحته واقعاً وهو مطلق طهارة الماء ولو ظاهرية ( مع انه ) لا يلتزم بها احد ( فلا محيص ) حينئذ من الالتزام بان قاعدة الطهارة من الاصول التنزيلية الناظرة الى اثبات الطهارة الواقعية ، حتى يمكن الجمع بين صحة الوضوء بالماء الجارى فيه القاعدة ، وبين الحكم باعادة الوضوء مع انكشاف نجاسته واقعاً بعد الوضوء ومعه يشكل تقديم الاستصحاب على القاعدة بمناط الحكومة بصرف كون الاستصحاب من الاصول التنزيلية الناظرة الى الواقع ، كما هو ظاهر .

( تنبيه ) قد يقع الاشكال في بعض اخبار اصالة البرائة في الشبهة الموضوعية ذكره الشيخ قده ، وهو قوله ( علیه السلام ) في الموثقة كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ( وذلك ) مثل الثوب عليك ولعله سرقة ، والمملوك عندك ولعله قد باع نفسه او قهر فبيع ، او امرأة تحتك وهى اختك او رضيعتك ، والاشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غيره او تقوم به البينة ( فانه ) قد استدل بها جماعة كالعلامة في التذكرة وغيره على اصالة الاباحة ، لمكان تطبيق قاعدة الحلية في الموثقة على الامثلة المذكورة ( وجه الاشكال ) ان اصالة الاباحة في الثوب والعبد ان لوحظت باعتبار اليد عليها فالحلية مستندة اليها لا الى اصالة الاباحة وان لوحظت مع قطع النظر عن اليد فهى معارضة باستصحاب حرمة التصرف في الاشياء المذكورة ،

ص: 110

كاصالة عدم التملك في الثوب والعبد لاصالة الحرية فى كل انسان مشكوك الحرية والرقية ، واصالة عدم تأثير العقد في الامرئة ( ولو اريد ) من الحلية في الرواية ما يترتب على اصالة الصحة في شراء الثوب والمملوك ، واصالة عدم تحقق النسب والرضاع في المرأة ، كان خروجاً عن الاباحة الثابتة باصالة الاباحة ، كما هو ظاهر الرواية ( ويمكن ) دفع هذا الاشكال بما ذكرناه في مسئلة اصالة البرائة ( وحاصله ) حمل الرواية على كونها اخباراً منه ( علیه السلام ) عن ثبوت الحلية للامثلة المذكورة لامور منها اليد ، ومنها القاعدة ، ومنها غيرهما ( لا انشاأ ) منه ( علیه السلام ) للحلية بحيث تكون الامثلة من تطبيق قاعدة الحلية عليها حتى يتوجه الاشكال المزبور ( ويمكن ) دفع الاشكال بوجه آخر ( وحاصله ) جعل الامثلة في الرواية تنظيرا منه ( علیه السلام ) للمقام ، لا تفر بعاً على ما افاده من الكبرى ( فكان ) الامام ( علیه السلام ) بعد اثبات الحلية الظاهرية للاشياء بقوله كل شيء الخ صار بصدد التنظير للمقام بالامثلة المذكورة لتقريب ذهن السائل ودفع استيحاشه ، بان الحلية كما هي ثابتة في الامثلة المذكورة لامور خاصة من نحو اليد وغيرها ( كذلك ) هي ثابتة للاشياء المشكوكة حليتها بقاعدة الحلية المستفادة من قوله ( علیه السلام ) كل شيء لك حلال ( وعلى ذلك ) يكون قوله ( علیه السلام ) كل شيء الخ باقيا على ظاهره في كونه في مقام اثبات الحلية للاشياء ، لا في مقام الاخبار عن ثبوتها لها لامور خاصة كما هو مقتضى الوجه الاول .

في تعارض الاستصحابين

المقام الرابع فى تعارض الاستصحابين

( وتفصيل الكلام ) فيه هو ان في تعارض الاستصحا بين لا يخلو ( اما ان يكون ) الشك في بقاء احد المستصحبين مسبباً عن الشك في بقاء الآخر ( واما ان يكون ) الشك في كل منها مسبباً عن امر ثالث ، وهو العلم الاجمالي الموجود في البين ، ولا ثالث لا ( لان ) كون الشك في كل منها مسبباً عن الشك في الآخر غير معقول ( والتمثيل ) له بالعامين من وجه فاسد ( لان ) الشك في اصالة العموم في كل منها انما يكون مسبباً عن العلم بعدم ارادة العموم في احدهما ( وكيف كان ) فعل الاول اما

ص: 111

ان يكون ترتب المسبب على السبب شرعياً ، واما ان يكون عقلياً ( واما على الثاني ) فله اقسام عديدة ( فان ) الاصلين ، اما ان يكونا نافيين للتكليف المعلوم في البين اما مطابقة أو التزاماً بحيث يلزم من العمل بها طرح تكليف ملزم ( واما ) ان يكونا مثبتين للتكليف بحيث لا يلزم من العمل بها إلا المخالفة الالتزامية ، كما في الم_ الاجمالى بطهارة أحد الا تائين مع كون الحالة السابقة فيها النجاسة ( واما ) ان يكونا مختلفين ، كما في العلم بوجوب أحد الامرين مع كون الحالة السابقة في أحدهما الوجوب ، وفي الآخر الاباحة أو الاستحباب ( وعلى الاخير ) فاما ان يحتمل مطابقة كلا الاستصحابين للواقع ، كما في المثال المزبور ( وأما ) لا يحتمل ذلك ، لما يلزمها التفكيك بين المتلازمين واقعاً ( وعلى الاخير ) اما ان يقوم دليل خارجي على عدم امكان الجمع بين المستصحبين لعدم التفكيك بين المتلازمين ولو ظاهراً ، كما في الماء النجس المشمم كراً بماء طاهر ، حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين الممتزجين وعدم امكان بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ( واما ) ان لا يقوم دليل خارجي على عدم ا الجمع بينها ، كما في استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمايع مردد بين الماء والبول ( فهذه » اقسام عديدة لتعارض الاستصحابين ( وبعد ) ذلك نقول .

البحث الاول في بيان تقديم الاصل السببي على المسببى

( اما القسم الاول ) وهو ما يكون الشك في بقاء احد المستصحبين مسبباً عن الشك في الآخر ( فان كان ) التسبب عقلياً ، كما في الشك في بقاء الكلى لاجل الشك في كون الحادث هو الفرد الباقي ، يجري الاستصحاب في كل من السبب والمسبب بعد تمامية اركانه فيها ولا يقدم احد الاستصحابين على الآخر ( واما ان كان ) التسبب فيها شرعياً بأن يكون أحد طرفي الشك في أحدهما من الآثار الشرعية لاحد طرفي الشك في الآخر ، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء علم طهارته سابقاً مع كونه في حال التطهير به مشكوك الطهارة والنجاسة ( حيث ) ان الشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول به وارتفاعها مسبب شرعاً عن الشك في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ( لان ) طهارته من الآثار الشرعية لطهارة الماء ( ولا ينبغى )

ص: 112

الأشكال في تقديم الاستصحاب في السبب على الاستصحاب في المسبب والحكم لاجله بطهارة الثوب ، من غير ملاخطة معارضته بالاستصحاب في المسبب ( بل الظاهر ) ان المسئلة اتفاقية ، فلا يصفى حينئذ بما يظهر من بعض من القاء المعارضة بينها ( بل ما ذكرناه ) يجري في كل أصل سببي وان لم يكن له حالة سابقة ( ومن هنا ) لا اشكال في الحكم بطهارة الثوب النجس المغسول بالماء الجاري فيه قاعدة الطهارة ، من غير ملاحظة المعارضة بين القاعدة الجارية في السبب والاستصحاب في المسبب ( فلا اشكال ) حينئذ في تقديم الاصل السبي على الاصل المسببي ( وانما الكلام ) في وجه تقديمه عليه في كونه للورود ، او الحكومة او التخصيص بعد الفراغ

، عن كون كل من السبب والمسبب موردا للاستصحاب ومشمولا لعموم مادل على عدم نقض اليقين بالشك .

( فنقول ) : الذي يظهر من المحقق الخراساني قده ، هو الأول ، حيث افاد في تفريب الورود بما حاصله ان الاستصحاب الجاري في السبب في المثال والحكم بطهار ته موجب لليقين بطهارة الثوب المغسول به لكونه من آثاره ، فيوجب خروج المسبب حقيقة من افراد عموم حرمة نقض اليقين بالشك ( اذ ) يكون رفع اليد عن بقاء نجاسة الثوب المغسول به من باب كونه نقضاً لليقين باليقين ، لا من نقض اليقين بالشك ( بخلاف ) الاستصحاب في المسبب الذي هو نجاسة الثوب ، فانه موجب لتخصيص دليل الاستصحاب في طرف السبب وجواز نقض اليقين يه بالشك بعدم ترتيب اثره الشرعي بلا وجه يقتضيه ( لكن ) فيه ما لا يحفى ( فان ) ما افاده من تقريب الورود مبني على شمول اليقين الناقض في لا تنقض اليقين لليقين بالحكم باى عنوان حتى بعنوان عدم نقض اليقين بالشك ( والا ) فعلى فرض انصرافه الى اليقين المتعلق بما تعلق به الشك وهو اليقين بحكم الشيء بعنوانه الاولى ، فلا يكاد مجال لهذا الورود ( لوضوح ) ان مفاد الاستصحاب حينئذ وان كان حرمة نقض المتيقن بلحاظ اثره ، الا انه لا يكاد يتحقق من قبل استصحاب طهارة الماء الا العلم بطهارة الثوب المغسول به بعنوان كونه نقض يقين بالشك ، بلحاظ ان عدم الحكم بطهارة

ص: 113

الثوب نقض يقين بطهارة الماء بالشك به ( فاذا ) لم يكن اليقين بطهارة الثوب بهذا العنوان مشمولا لليقين الناقض فى اخبار الباب ، فلا محالة يكون الشك في بقاء نجاسته الواقعية على حاله ، من غير ان يرفعه الاستصحاب السببي لا حقيقة ولا تنزيلا، ومع بقاء الشك بحاله يجري فيه استصحاب النجاسة ( اذ يكون ) رفع اليد عن اليقين بنجاسته الواقعية من نقض اليقين بالشك ( نعم ) انما يتجه دعوى الورود لو قلنا ان المأخوذ في كبرى طهارة الثوب واقعا غسله بكل ماء محكوم بالطهارة ولو بعنوان ثانوي ظاهري ( او قلنا ) ان مفاد التعبد في استصحاب طهارة الماء هو جعل الطهارة الحقيقية في ظرف الشك ، لا مجرد البناء العملى على طهارته بلحاظ اثره ( ولكن ) يلزمها الحكم في الثوب بالطهارة الواقعية حتى مع انكشاف كون الماء نجساً واقعاً لا نفساله بالماء الطاهرة حين الغسل ( وهو كما ترى ) مما لا يمكن الالتزام به ( فان ) ما يمكن الالتزام به في فرض نجاسة الماء واقعا انما هو الطهارة الظاهرية ، كالطهارة الظاهرية لاصل الماء المغسول به الثوب النجس ( وعليه ( كيف يمكن تقديم الاصل السببي على الاصل المسببي بمناط الورود .

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ظهر عدم تمامية تقريب الحكومة ايضا بناء على توجيه التنزيل في لا تنقض الي المتيقن ، لا الى اليقين ( خصوصا ) في قاعدة الطهارة الجارية في الماء المشكوك الذي غسل به الثوب النجس ( لوضوح ) ان غاية ما تقتضيه القاعدة انما هو التعبد بالبناء على طهارة الماء واقعاً وباثره الذي هو طهارة الثوب ، بلا نظر فيه الى الغاء الشك في بقاء النجاسة السابقة في الثوب ، ولا الى اثبات اليقين الناقض بها ، ولو على المختار بكونها من الاصول التنزيلية الناظرة الى الواقع ، فضلا عن القول بعدم كونها من الاصول التنزيلية ( نعم ) لازم التعبد المزبور هو اليقين بطهارته بعنوان ثانوى ( ولكن ) مثل هذا اليقين لا يكون ناقضاً ولا بمنزلته ( الا ) بدعوى عموم اليقين بحكم الشيء ولو بعنوان ثانوى ظاهري ( وهذا المعنى ) مع كونه مستلزما للقول بالورود ، كما اختاره العلامة الخراساني قده ، لا الحكومة، خلاف التحقيق ( فان ) المنصرف من اليقين الناقض في

ص: 114

قوله ( علیه السلام ) ولكن انقضه بيقين آخر هو خصوص اليقين المتعلق بما تعلق به الشك ، ولا ريب في انه لا يكون الا اليقين بالحكم الواقعي الثابت للشيء بعنوانه الاولى ( ومعه ) فلا ورود للقاعدة ولا حكومة ، لبقاء الشك في بقاء النجاسة الواقعية المتيقنة فى الثوب على حاله وعدم ارتفاعه لا حقيقة ولا تبعدا وتنزيلا ( وهكذا الكلام ) في الاستصحابين ( فانه ) على هذا المسلك يكون كل من الاصل السببي والمسببي مثبتاً للتعبد ، بالحكم طهارة ونجاسة في ظرف الشك ، من دون ان يكون لأحدهما النظر الى نفي موضوع الآخر من الشك في الطهارة والنجاسة ، ولا الى اثبات ما هو اليقين الناقض ( وتوهم ) ان تقدم الاصل السببي على الاصل المسببي من جهة سبق رتبة شكه على شكه يقتضي جريانه في المرتبه السابقة بلا معارض ، وبجريانه فيه في المرتبة السابقة واقتضائه طهارة الثوب، لا يبقى المجال لجريانه في الثوب في المرتبة المتأخرة ( مدفوع ) اولا بان مجرد تقدم رتبة المشكوك لا يقتضى تقدم رتبة شكه مطلقا ، كما بينا نظيره في العلم الاجمالي في مسئلة الملاقي والملاقي ( وثانياً ) ان التعبد بالاثر فى استصحاب طهارة الماء انما يكون في طول التعبد بطهارة الماء ( ولازمه ) كونه في عرض التعبد بنجاسة الثوب بمقتضى استصحابها فيقع بينها التعارض لتحقق موضوعها الذي هو الشك في مرتبة واحدة ( وعليه ) فما افاده بعض الاعاظم قده من تقريب الحكومة للاصل السببي تبعاً للشيخ الأعظم قدس سره ، مع التزامه بتوجيه التنزيل في لا تنقض الى المتيقن بلحاظ البناء العملى على كونه هو الواقع ، لا الى نفس اليقين ( منظور فيه ) لما عرفت من بقاء الشك الوجداني الذي هو موضوع استصحاب نجاسة الثوب على حاله وعدم ارتفاعه باستصحاب طهارة الماء على هذا المبنى لا حقيقة ولا تعبداً وتزيلا ( واما ) ما افاده من برهان التخصيص والتخصص بالنسبة الى نجاسة الثوب وطهارتها ( فقد ) عرفت اندفاعه ، حيث انه مبني على اقتضاء الاستصحاب الجارى في السبب لرفع الشك المأخوذ في استصحاب المسبب ، اما حقيقة او تعبداً وتنزيلا ( والا ) فعلى فرض عدم اقتضائه لرفعه ولو تعبداً وتنزيلا يكون تقديم كل منهما على الآخر من هذه الجهة من باب التخصيص محضا

ص: 115

( نعم ) على المختار من توجيه التنزيل في باب الاستصحاب الى نفس اليقين ولو من حيث طريقيته ( يمكن ) تقريب الحكومة للاصل السبي ( ببيان ) ان شأن الاستصحاب حينئذ بعد ان كان هو التعبد بالعلم بالواقع بلحاظ المعاملة ، يتعدي منه الى التعبد بالعلم باثره واثر اثره ، الملازمة التعبد بالعلم بموضوعية شيء للتعبد بالعلم باثره بالملازمة العرفية ، حتى في الموارد التي يكون الاثر المزبور خارجاً عن ابتلاء المكلف ، وكان الاثر المبتلى به هو اثر الاثر ( فلا محالة ) يكون مثل هذا بمنزلة اليقين الناقض في طرف استصحاب المسبب ، فيكون رفع اليد عن النجاسة المتيقنة سابقاً في الثوب ببركة استصحاب طهارة الماء من نقض اليقين بما هو بمنزلة اليقين ( وهذا ) بخلافه على مبنى توجيه التنزيل الى المتيقن ، فانه لا يتحقق اليقين الناقض من استصحاب طهارة الماء لا وجدا ناولا تعبداً وتنزيلا ( ولكن الانصاف) عدم تمامية الحكومة على هذا المبني ايضا ( لما فيه ) اولا منع اقتضاء التعبد بالعلم بالموضوع التعبد بالعلم بائره ( بل نقول ) ان مرجع التعبد ببقاء اليقين السابق في باب الاستصحاب ، انما هو الى الامر بمعاملة عمل اليقين بالواقع في ظرف الشك بالبناء العملى على وجوده في ظرف الشك من حيث ترتيب الآثار المترتبة عليه التي منها في استصحاب طهارة الماء المعاملة مع الثوب النجس المغسول به معاملة المغسول بالماء المعلوم طهارته ، بلا تكفله لاثبات العلم التعبدى بطهارته الواقعية ليتحقق به اليقين الناقض ( وثانيا ) على فرض تسليم ذلك نقول : ان التعبد في استصحاب نجاسة الثوب ايضا مثبتة لليقين ببقاء نجاسته الناظر الى نفي الشك عن طهارته ( ومعه ) يتوجه الاشكال با نه مع اقتضاء كل من الاستصحابين لاثبات العلم ، لم لا يجري اولا استصحاب نجاسة الثوب الناظر الى نفي الشك عن طهارته كى لا يبقى مجال النظر لعموم لا تنقض في استصحاب طهارة الماء الى هذا الاثر ( واما ) توهم تقدم الاستصحاب الجاري في الماء طبعاً على هذا الاستصحاب ( فقد عرفت ) الاشكال فيه ، بان التعبد بالاثر

انما يكون في طول التعبد بالموضوع ، فيكون في عرض التعبد بالنجاسة .

( وحينئذ فالتحقيق ) في تقريب حكومة الاصل السببي على الاصل المسببي

ص: 116

( ان يقال ) ان قوام الحكومة انما هو بكون احد الدليلين او الاصلين بمدلوله ناظراً الى مفاد الآخر ومدلوله ( وهذا ) كما يتحقق برجوع مفاده الى التصرف في عقد وضع الآخر بتوسعة او تضييق فيه بادخال ما يكون خارج عنه او اخراج ما يكون داخلا فيه بنحو من التصرف ( كذلك ) يتحقق بالتصرف في عقد حمل الآخر ، كادلة - نفى الحرج والضرر بالنسبة الى الاحكام الأولية ، حيث ان حكومتها على ادلة الاحكام الاولية انما كانت بالتصرف في عقد حملها ببيان ، ما هو المراد منها ( وبعد ) ذلك نقول ان حكومة الاصل السببي في المقام من قبيل الاخير ( حيث ) ان الاصل السببي بتكفله لاثبات الطهارة للماء المشكوك طهارته ناظر الى اثبات آثار طهارته ، وبذلك يكون ناظراً الى مؤدى الاصل المسببي من نفى ترتيب آثار طهارة الماء ( ولا نعنى) الحكومة الا ما كان ناظراً الى نفى الآخر اما بدواً ، او بتوسيط نظره الى نفى موضوعه

حق حكومة الاصل السببي على المسببي بنحو التصرف في عقد حمل الآخر

( وعلى ذلك ) نقول : انه يكفي في تقديم الاصل السبي هذا المقدار من النظر ، بلا احتياج في وجه تقديمه الى كونه ناظرا الى نفي الشك عن المسبب في الاستصحاب المسببي ( لا يقال ) انه كما ان نظر الاصل السببي الى نفي السببي الى نفي التعبد بعدم آثار طهارة المأللشكوك طهارته ( كذلك ) الاصل المسببي بالتعبد بنجاسة الثوب ناظر الى نفي التعبد باثر طهارة الماء ( فانه يقال ) كلا فان غاية ما يقتضيه الاصل المسببي من النظر انما هو الى نفى ما نظر اليه الاصل السببي الذي هو نقيض مؤداه ، لا الى اصل نظره ( وبالجملة ) نظر الأصل المسببي اما هو الى نفى التعبد بنقيض مؤداه الذي هو عين المنظور في الاصل السبي ، لا الى نفى اصل نظره الى لوازمه وآثاره التي منها نفى التعبد بعدم ترتيب آثار طهارة الماء المشكوك ، بل بالنسبة اليه يكون من باب تخصيص نظر الاصل السبي الى غير هذا الاثر ( وحينئذ ) فمن طرف الاصل السبي كان نفى الاصل المسببي من جهة نظره اليه ، ومن طرف الاصل المسببي كان نفى نظر الاصل السبي الى اثره من باب التخصيص ، لا باب الحكومة والنظر ( ومن المعلوم ) انه عند الدوران بين الحكومة والتخصيص ،

ص: 117

تكون الحكومة مقدمة على التخصيص ( ومن هنا ) ترى بنائهم على تقديم الحاكم بعد ثبوت اصل نظره ، ولو مع كون المحكوم اقوى دلالة من الحاكم ( هذا كله ) في القسم الاول .

البحث الثانى من تعارض الاستصحابين فى كون الشك فى كلّ من المستصحبين مسبّبا عن امر ثالث

( واما القسم الثاني ) وهو ما يكون الشك في كل من المستصحبين مسبباً عن امر ثالث وهو العلم الاجمالي ، فقد عرفت انه على اقسام ( الاول ) ان يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، كما لو علم بنجاسة احد الطاهرين ( وقد وقع ) الخلاف بين الاعلام في جريان كلا الاستصحابين وعدم جريانها ، او جريان احدهما تخييرا ( ومنشأ ) الخلاف فيه هو الخلاف في العلم الاجمالي من حيث الاقتضاء والعلية بالنسبة الى المخالفة والموافقة القطعيتين ( وتفصيل ) الكلام وان تقدم في الجزء الثالث من الكتاب في مبحث الشك في المكلف به ( ولكن ) لا بأس بالاشارة الاجمالية في المقام الى بيان المسالك في العلم الاجمالي وبيان ما يترتب عليها من اللوازم ( فنقول ) اما على القول بعلية العلم الاجمالي حتى بالنسبة الى الموافقة القطعية كما هو التحقيق ( فلا اشكال ) في سقوط الاصول عن الجريان ولو في بعض اطراف العلم حتى مع خلوه عن المعارض ( لان ) مرجع علية العلم الاجمالى حتى بالنسبة الى الموافقة القطعية ، انما هو الى حكم العقل تنجيزاً بثبوت التكليف في العهدة ولزوم التعرض للامتثال بتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة ما تنجز عليه من التكليف ( ومقتضى ) ذلك بعد تردد المعلوم بالاجمال من حيث الانطباق، ومساوقة احتمال انطباقه على كل طرف لاحتمال وجود التكليف المنجز في مورده المستتبع لاحتمال العقوبة على ارتكابه ، هو استقلال العقل بلزوم الاجتناب عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه من الاطراف ، وعدم جواز القناعة بالشك في الفراغ والموافقة الاحتمالية ، لعدم الامن من العقوبة عند مصادفة ما ارتكبه مع الحرام المنجز عليه ، فتجري فيه قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( ولازمه ) اباء العقل أيضا عن مجيء الترخيص الشرعي على خلاف معلومه ولو في بعض الأطراف ، من جهة كونه من الترخيص في محتمل المعصية الذي هو من

ص: 118

الحكيم في الاستحالة كالترخيص في مقطوعها ( وبذلك ) ظهر ان سقوط الاصول المرخصة النافية للتكليف عن الجريان في اطراف العلم ليس من جهة المعارضة ، ولا من جهة قصور ادلة الترخيص عن الشمول لاطراف العلم الاجمالي ، كي يفرق بين المخالفة القطعية وموافقتها ، بعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الاولى وانحفاظها في الثانية ( وانما ) هو من جهة اباء العقل عن مجيء الترخيص على خلاف معلومه ولو في بعض الاطراف بلا معارض ، لكونه بنظره من الترخيص في محتمل المعصية الذي هو كالترخيص في مقطوعها ( كما يفرض ) ذلك في العلم الاجمالي بنجاسة أحد المايعين مع كون الحالة السابقة في احدهما الطهارة دون الآخر ( فانه ) بعد تعارض استصحاب الطهارة في طرف مع قاعدة الطهارة في الآخر ، تبقى قاعدة الطهارة في الطرف الجاري فيه استصحابها بلا معارض ( فانه ) على القول بعلية العلم الاجمالي لا تجري فيه القاعدة ايضا ، لمكان مانعية العلم الاجمالي ( هذا ) على المختار من علية العلم الاجمالي حتى بالنسبة الى الموافقة القطعية .

فى كون الشك فى كل من المستصحبين مسببا عن امر ثالث

( واما على القول ) باقتضائه بالنسبة الى الموافقة القطعية المستتبع لتعليقية حكم العقل بوجوب تحصيلها على عدم مجيء ترخيص شرعي على خلافه في بعض المحتملات ( فلا اشكال ) ايضا في عدم جواز اعمال كلا الاصلين المشتملين على الترخيص ، لما يلزمه من الوقوع في محذور المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين ( وانما الكلام ) في جواز اعمال احد الاصلين ولو على نحو التخيير ( فان ) الذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قده وتبعه بعض الاعاظم هو عدم جوازه ، والقول بتساقط الاصول الجارية في اطراف العلم ، بتقريب ان ادلة اعتبار تلك الاصول تقتضي اعمال كل اصل بعينه ، فاذا لم يمكن ذلك فلا بد من التساقط ( لعدم ) الدليل على التخيير في اعمال احد الاصلين المتعارضين ( وبهذه ) الجهة جعل الاصل في تعارض الاصول مطلقا التساقط دون التخيير ( ولكن ) لا يخلو من اشكال ( بل نقول ) انه لا ما مانع على هذا هذا المسلك من الالتزام بالتخيير في اعمال احد الاصلين المتعارضين ، وذلك لا من جهة بقاء احدهما المخير تحت عموم دليل الترخيص ، كي يقال ان احدهما المخير ليس من افراد العام ( بل من جهة ) تقييد ا طلاق دليل الترخيص الجاري في كل طرف بحال

ص: 119

عدم ارتكاب المحتمل الآخر ( لان ) منجزية العلم الاجمالي وعليته لحرمة المخالفة القطعية على هذا المسلك انما يكون مانعاً عن اطلاق الترخيص في كل واحد من طرفى العلم المستتبع لتجويز الجمع بينهما في الارتكاب ، وبالتقييد المذكور يرتفع المحذور المزبور ، ولا نعني من التخيير في اعمال احد الاصلين الا ذلك ( ولا فرق ) في ذلك بين الاصول التنزيلية ، وغيرها ، فانه بما ذكرنا من التقييد يرتفع المعارضة من البين البقاء كل من الطرفين حينئذ تحت عموم دليل الترخيص ، غايته يقيد اطلاق كل منهما بصورة عدم ارتكاب الآخر ، من غير احتياج الى ارتكاب التخصيص با خراج كلا الفردين عن عموم ادلة الترخيص ولو بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح

فى ان العلم الاجمالى مانع عن جريان الاصول المرخصه ولوفى بعض المتحملات حتى مع خلو المعارض اذا كان الاصلان نافيين للتكليف

( ثم ان ذلك كله ) فيما اذا كان الأمر لكل من الاصلين ( واما اذا كان ) الاثر لاحدهما المعين دون الآخر ، كما اذا كان احد المستصحبين خارجا عن ابتلاء المكلف حين العلم الاجمالي بحيث لا يعلم بتوجيه تكليف منجز الى المكلف من قبل العلم الاجمالى فلا شبهة في انه يعمل بالاصل الجاري في الآخر على جميع المسالك بل يكون ذلك خارجا في الحقيقة عن تعارض الاصول ( هذا ) على القول باقتضاء العلم الاجمالى بالنسبة الى الموافقة القطعية مع عليته بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية ( واما على القول) باقتضائه حتى بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية ( فلا اشكال ) في ان لازمه جواز اعمال كلا الاصلين في طرفي العلم لان مرجع اقتضاء العلم الاجمالي حينئذ الى تعليقية حكم العقل في عدم جواز ارتكاب المشتبهين على عدم ورود ترخيص شرعي على الخلاف وبجريان الاصول المرخصة يرتفع حكم العقل ( واولى ) بذلك هو القول بعدم الاقضاء في العلم الاجمالي رأسا ( ولكن ) ذلك كله خلاف التحقيق ، حتى القول بالتفصيل في الاقتضاء والعلية بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ) فان ( التحقيق هو علية العلم الاجمالي مطلقا حتى بالنسبة الى الموافقة القطية ، ولازمه كما عرفت هو المنع عن جريان الاصول المرخصة ولو في بعض المحتملات حتى مع الخلو عن المعارض ( هذا ) اذا كان الاصلان نافيين للتكليف .

( واما اذا كانا ) مثبتين للتكليف ( كما لو علم ) بطهارة احد الثوبين النجسين

ص: 120

( فالظاهر ) انه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة في الثوبين ( اذلا يلزم ) من جريانها محذور المخالفة العملية ( واما ) المخالفة الالتزامية فهى وان كانت لازمة الا انها غير ضارة ( وتوهم ) منافات التعبد ببقاء الواقع في كل منها بمقتضى الاستصحاب مع العلم الاجمالي بعدم بقاء الواقع في احدهما ، فلا يمكن ثبو تا جعل الاستصحابين في الطرفين والتعبد ببقاء الاحراز السابق فيهما ، مع الاحراز الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في احدهما ( من غير ) فرق بين ان يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وبين أن لا يلزم ذلك ، كما في المثال ( مدفوع ) بمنع المضادة بين الاحراز التعبدى فى كل من الطرفين بعنوانه التفصيلي ، وبين الاحراز الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ( فانه ) مع تغاير متعلق اليقين والشك ووقوف كل منهما على نفس معروضه من العنوان التفصيلي ، لا وجه لدعوى المضادة المزبورة ( فان ) موضوع الابقاء التعبدي فيها لا يكون الا المتيقن أو اليقين السابق بنجاسة كل من الثوبين او الاناثين بعنوانه التفصيلي ، وبالعلم الاجمالي المزبور لم ينقلب اليقين السابق في شيء منها الى اليقين بالخلاف ( لان ) كل واحد منها بعنوانه الخاص مما يشك فيه وجدانا في بقاء نجاسته بعد كونه مسبوقاً باليقين بها

فى ان العلم الاجمالي لا يمنع عن الاستصحاب اذا كان الاصلان مثبتين للتكليف و بيان الدليل عيله

( نعم ) ما هو المنقلب بالعلم الاجمالي إنما هو احد اليقينين او اليقين باحد العنوانين بهذا العنوان الاجمالي ( ولكن ) موضوع التعبد بالبقاء لا يكون هو اليقين باحد العنوانين ولا احد اليقينين حتى ينا في العلم الاجمالي ( وانما ) موضوعه خصوص اليقين بنجاسة هذا الثوب ، واليقين بنجاسة ذاك الثوب الآخر بعنوانه التفصيلي ، ولا يعلم بانتقاض شيء منها حتى يمنع عن جعل كلا الاستصحابين ( نعم ) لو قيل بسراية اليقين من متعلقه الذي هو العنوان الاجمالي الى الخارج او الى متعلق الشك ، لكان لدعوى المضادة المزبورة وجه وجيه ( ولكنه ) ممنوع بشهادة اجتماع اليقين ، والشك في كل علم اجمالي بتوسيط العنوان الاجمالي والتفصيلى ( فانه ) لولا وقوف كل من الوصفين على عنوان معروضه للزم اجتماع اليقين والشك في موضوع واحد مع ما كان بينها من المضادة ( وحينئذ ) فاذا لم يكن الاحراز الوجداني القائم بالعنوان الاجمالي منافياً مع

ص: 121

الشك القائم بالعنوان التفصيلي ( فكيف ) يكون منافياً مع ما هو من احكام هذا الشك القائم بالعنوان التفصيلي المعبر عنه بالاحراز التعبدى ( مع ان ) لازم البيان المزبور ، هو المنع عن جريانها في الموارد التي يلزم من الجمع بين الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين ، کاستصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن في المتوضى غفلة بمايع مردد بين الماء والبول ( فانه ) كما ان التعبد ببقاء نجاسة الانائين واقعاً ينا في الاحراز الوجداني بعدم بقاء الحالة السابقة في احدهما ( كذلك ) التعبد ببقاء الحدث وطهارة البدن ينافي الاحراز الوجداني بعدم بقاء احدهما ( ومجرد ) مخالفة الاصلين في مفروض النقض في المؤدى ، غير مجد في رفع المضادة بين الاحراز التعبدي ببقاء الامرين ، والعلم بعدم بقاء احدهما تفصيلا ( لان ) العقل كما يرى المضادة بين العلم بطهارة أح___د الأمرين واقعا ، وبين التعبد بنجاستها ( كذلك ) يرى المضادة بين التعبد ببقاء طهارة البدن وبقاء الحدث مع العلم بعدم بقاء أحدهما ( مع ان القائل ) المزبور وفاقا للمشهور ملتزم بالجمع بين الاستصحابين ( فالانصاف ) ان ما افاده قده في وج______ه المنع عن جريان الاستصحابين في طرفي العلم من برهان المضادة بين الاحرازين مما الى محصل

ردّ كلام الشيخ ره فى منع جريان الاستصحاب فى طرفى العلم الاجمالى بمناقضة الصدر والذيل في بعض اخبار الاستصحاب

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا يظهر عدم تمامية ما افاده الشيخ قده أيضا لمنع جريان الاستصحاب في طرفي العلم ، من محذور مناقضة الصدر والذيل في بعض أخبار الاستصحاب ، في مثل قوله ( علیه السلام ) لا تنقض اليقين بالشك ولكن انقضه بيقين آخر ( بتقريب ) ان حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأمرين ينا في وجوب نقض اليقين في احدهما بمقتضى الذيل ( فمع ) العلم الاجمالي بارتفاع الحالة السابقة في احد المستصحبين ، لا بد من خروجها عن عموم لا تنقض اذ ( لا يمكن ) ابقاء كل منها تحت عمومه لمحذور المناقضة ، ولا ابقاء احدهما المعين ، لعدم الترجيح ، ولا احدهما المخير ، لعدم كونه من افراد العام ، اذ ليس فرداً ثالثا غير الفردين المشخصين ( اذ فيه ) بعد الغض عن انصراف الذيل الى اليقين المتعلق بما تعلق به الشك واليقين السابق ، وعدم شموله لليقين المتعلق بالعنوان الاجمالي ( والغض ) عن كون الامر بالنقض باليقين في الذيل ارشاديا لا مولوياً ، كما شرحناه

ص: 122

سابقاً ( يتوجه عليه ) ما اوردناه آنفاً حرف بحرف

الحق شمول ادلة الاصول لاطرف العلم الاجمالى مالم يستلزم جريانها طرح تكليف ملزم في البين

( وكيف كان ) فالتحقيق انه لا قصور في شمول ادلة الاصول لاطراف العلم الاجمالي من هذه الجهات ما لم يستلزم جريانها طرح تكليف ملزم في البين من غير فرق بين الاصول المحرزة كالاستصحاب ، وبين غيرها كدليل الحلية وحديث الرفع والحجب ونحوها ( وان ما ذكرنا ) من عدم جريان الاصول المرخصة في موارد العلم بالتكليف ، قانما هو من جهة مانعية العلم الاجمالي من حيث منجزيته للتكليف ، لا من حيث ذاته ( ولا من جهة ) قصور ادلتها بنفسها عن الشمول لموارد العلم الاجمالي ، ولا من جهة محذور مناقضة الصدر والذيل في اخبار الاستصحاب ( وبما ذكرنا ) ظهر الحال فيما اذا كان مؤدى الاستصحا بين مختلفين ( فانه ) مع احتمال مطابقة الاستصحابين للواقع يعمل بالاستصحابين بلا كلام ، كما في العلم الاجمالي بنجاسة احد الثوبين مع كون الحالة السابقة في احدهما النجاسة وفي الآخر الطهارة ، فانه يعمل بكلا الاصلين ولا تأثير للعلم الاجمالي ، بل هذا الفرض خارج عن مسئلة تعارض الاصول كما هو ظاهر ( ومع ) عدم احتمال مطابقتها للواقع لاستلزام جريانها التفكيك بين المتلازمين واقعاً ( فان ) لم يقم دليل على عدم جواز التفكيك بينها ظاهراً ، يعمل بهما ايضا بلا كلام ، كما في استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث فيمن توضأ غفلة بمايع مردد بين الماء والبول ( وان ) قام دليل خارجي على عدم جواز التفكيك بينها ولو ظاهرا ، كالماء النجس المتمم كراً بطاهر ، حيث قام الاجماع على عدم تبعض الماء الواحد في الحكم نجاسة وطهارة فيسقط الاستصحابان فينتهي الامر فيه الى اصالة الطهارة ( هذا ) تمام الكلام في الاستصحاب والحمد لله اولا وآخراً و ظاهراً وباطناً ( وقد وقع ) الفراغ من تسويده في جوارابي الأئمة عليهم الصلاة والسلام على يد العبد الآثم محمد تقي ابن عبد الكريم في الثامن من الشهر الثاني سنة ١٣٥٣ ثلاث وخمسين بعد الالف وثلثمائة من الهجرة النبوية عليه وعلى اخيه والأئمة من ذريته آلاف الثناء والتحية .

ص: 123

في التعادل والترجيح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه واشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم ومخالفيهم اجمعين الى يوم الدين .

خانة في التعادل والترجيح

ولما كان موردها الدليلين المتعارضين ( كان الحري ) هو البحث عن عنو ان التعارض وشرح معناه، والتكلم فيه بجمل تعارض الادلة عنواناً للبحث، ومقسم للجمع والعنوانين المذكورين ( وتنقيح ) الكلام يقع في امور ( الامر الاول ) في تعريف التع__ارض ( فنقول ) ان التعارض لغة من العرض بمعنى الاظهار ، ومنه عرض المتاع للبيع . ) واطلق ) في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعها باعتبار المدلول والمنكشف بها من حيث أولهما الى اجتماع الضدين وثبوت النقيضين ( ولذلك ) عرفه الشيخ قده تبعاً للمشهور بتنا فى مدلولى الدليلين على وجه التناقض او التضاد من جهة عرض كل واحد من المتنافيين نفسه في مقام الاراثة عن الواقع واثباته على غيره ( ولا يخفى ) وجه مناسبة اطلاق التعارض في الادلة على هذا التعريف ( نعم ) حيث ان التنافي المزبور قائم حقيقة بنفس المدلولين بلا مساس بالدليل بما هو دليل

ص: 124

الا بنحو من العناية باعتبار ان الحاكى عن المتنافيين ، كانه عين المحكى ، عدل في الكفاية عن تعريف المشهور ، الى تعريفه بتنافيها في مرحلة الدلالة ومقام الاثبات من حيث عرض كل من الدليلين نفسه لدليل الاعتبار في مقام الحجية ( حيث ) انه على هذا التعريف يكون التنافي المزبور حقيقة قأما بنفس الدليلين بلا رعاية عناية ، ويكون اتصافها بالتنافى المزبور من باب وصف الشيء بحال نفسه لا بلحاظ حال متعلقه

في تعريف التعارض

( كما انه ) على هذا التعريف يكون التعارض الذي هو محط عنوان البحث ، عين ما وقع موضوعاً للاخبار العلاجية بناء على انصرافها عن موارد الجمع العرفي ( فانه ) على هذا التعريف يخرج موارد الحكومة والجمع العرفي بين العام والخاص والمطلق والمقيد والظاهر والاظهر عن موضوع التعارض ( لان الجمع ) العرفي مانع عن حجية الظاهر في قبال النص والاظهر وعن حجية العام والمطلق في مقابل الخاص والمقيد ، فلا يكون بينها التنافي فى مقام الاثبات والدلالة ومرحلة الحجية ( بخلافه ) على تعريف الشيخ قده ( قانة ) يدخل فيه موارد الجمع العرفي بالحكومة وغيرها ، بلحاظ استقرار الظهور لكل من العام والمطلق في العموم والاطلاق ، وعدم انقلابه بالدليل المنفصل ( لان ) غاية ما يقتضيه دليل الخاص المنفصل من تقديم اقوى الحجتين انما هو رفع حجية ظهورهما في العموم والاطلاق لا رفع تنافيها في مقام الدلالة وهكذا فى موارد الحكومة ( وبذلك ) يكون التعارض الواقع في عنوان البحث مغايراً مع العنوان الواقع في موضوع الاخبار العلاجية ( كما انه ) عليه يكون توصيف الدليلين بالتنافي المزبور من باب وصف الشيء بحال متعلقه ( ولكن ) مع ذلك فالمتجه هو عدم العدول عن تعريف المشهور باخراج موارد الجمع العرفي بالحكومة وغيرها عن موضوع التعارض ( اذ لا وجه ) لاخراج مثل هذه المسئلة المهمة عن مقاصد الباب ، لمحض عدم اعمال المرجحات السندية او التخيير في مواردها ، ليكون التكلم في احكام الجمع وما يتعلق به في هذا البحث لمحض الاستطراد ( وكيف كان ) فالظاهر ان المراد بالتن____ا في في كلماتهم هو مطلق تنافي الدليلين ولو كان لامر خارجي ( كما اذا ) كان مفاد احد الدليلين وجوب الظهر يوم

ص: 125

الجمعة ، ومفاد الآخر وجوب الجمعة ( حيث ) ان الدليلين غير متنافيين بحسب المدلول ابتداء ( ولكن ) بعد العلم بعدم وجوب احدهما على المكلف ( يقع ) بينها التنافي والتكاذب ( لان) كل منها يثبت مؤداه وينفى بلازمه مؤدى الآخر ، فيدخل بذلك في عنوان البحث ( ثم ان ) توسعة التنافي على التعريف الاول بكونه على وجه التناقض والتضاد مبني على عدم تعميم المدلول للمدلول الالتزامي ( والا ) فعلى التعميم لا يحتاج الى اضافة قيد التضاد ، بل يكتفي في التعميم بالاقتصار على التناقض فقط ( لان ) الدليلين الدالين بالمطابقة على المتضادين ، كالوجوب والحرمة (دالان) بالالتزام على المتناقضين ايضا ( كما انه ) على التعريف الثاني لا بد من الغاء قيد التناقض ( بلحاظ ) ان التنافي بين الدليلين في مرحلة الاثبات والحجية دائما يكون على وجه التضاد حتى فيا كانا بحسب المدلول من المتناقضين لكون التنافي بينها بين الوجوديين ( فلا وجه ) حينئذ لتوسعة التنافي بكونه على وجه التناقض ، اذ ذلك انما يناسب مع تنافيها مدلولا لا مع تنافيها في مقام الدلالة والحجية كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فحق التعريف على هذا المسلك هو الاقتصار على قيد التضاد ( كما أنه ) على التعريف السابق هو الاقتصار على قيد التناقض بعد تعميم المدلول للمطابقة والالتزام .

فى خروج التزاحم من تعريف التعارض

( ثم انه ) قد يورد على تعريف المشهور باستلزامه دخول باب التزاحم ايضا في موضوع تعارض الدليلين ، كموارد الامر بالضدين و موارد تصادق متعلق الامر والنهى بناء على الامتناع ( بتقريب ) انه بعد امتناع ثبوت الحكمين الفعليين اما ذاتا ، كموارد تصادق متعلق الأمر والنهي على الامتناع ، واما عرضا كموارد الامر بالضدين لكونه من التكليف بالمحال مع عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في مقام الاستثال ، يقع التنافي بحكم العقل بين المدلولين من حيث اقتضاء كل منها ثبوت الحكم الفعلى تعييناً في مورده ( ولازمه ) اندراج باب التزاحم على هذا التعريف في موضوع التعارض ( ولكن ) يندفع ذلك بان المقصود من تنافي مدلولى الدليلين على وجه التناقض او التضاد ، انما هو تنافيها في مقام الجعل والتشريع حتى في الملاك والمقتضى ، بحيث يعلم بعدم ثبوت الملاك في احدهما ، لا مجرد تنافيها في

ص: 126

مقام الحكم الفعلى ( ومن الواضح ) حينئذ خروج موارد التزاحم عن موضوع التعارض المصطلح ( لان ) باب التزاحم لا يكون الا في مورد الجزم بوجود الملاكين و الغرضين مع ضيق خناق المولى من تحصيل كلا الفرضين ، واين ذلك وباب التعارض الذي يجزم بعدم ثبوت الملاك والمقتضى لاحد الحكمين ( وبالجملة ) مرجع باب التعارض المصطلح الى تكاذب المدلولين حتى فى مرحلة الملاك والمقتضى ، وهذا لا يكون الا في صورة العلم بكذب احد الدليلين فيما يؤدى اليه من الملاك والمقتضى ( ومن هنا ) نقول ان باب اشتباه الحجة بلا حجة خارج من موضوع التعارض ، كصورة العلم بصدور احد المدلولين تقية ولو مع اليقين بصدور كلا الخبرين عن الامام ( علیه السلام ) ( نعم ) لا يختص باب التعارض بما اذا كان الدليلان مؤديين الى ثبوت النقيضين ( بل يعم ) مطلق فرض العلم بتكاذب الدليلين ولو عرضاً لامر خارجي ، كمثال وج_ ، كنال وجوب الظهر والجمعة ( من غير فرق ) بين اتحاد سنخ الحكم فيها كما في المثال وعدم اتحاده ، كمالو كان مؤدى احد الدليلين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل عبد المدبر مع العلم بعدم تشريع احد الحكمين ( فانه ) يدخل ذلك ايضا في باب التعارض بعين ملاك دخول مثال الظهر والجمعة فيه من حيث امكان تشريع كلا الحكمين ذاتا وامتناعه عرضاً ( لا في باب ) اشتباه الحجة بغيرها كما توهم بصرف عدم اتحاد سنخ الحكم فيهما .

فى ضابط التعارض والفرق بينه وبين التزاحم

( الامر الثاني ) قد ظهر من مطاوى ما ذكرناه الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم فان الضابط في باب التزاحم انما هو بوجود الملاك والفرض في كل واحد من الخطابين مع ضيق خناق المولى من تحصيلها (سواء) كان تزاحمها في عالم التأثير في الرجحان والمحبوبية الفعلية لدى المولى ، كموارد تصادق الامر والنهى في مثل الصلاة والغصب على القول بالامتناع ( او كان ) تزاحمها محضاً في عالم الوجود ومرحلة الارادة الفعليه ، كما في المتضادين وجوداً ، ومنه مورد التصادق في باب الاجتماع على القول بالجواز خصوصا مع عدم المندوحة ( كما ان ) الضابط في باب التعارض انما هو بعدم الملاك والمقتضى في احد الخطابين ، ولذا قلنا برجوع التعارض بين الدليلين من حيث المدلول الى

ص: 127

تكاذيبها حتى في مرحلة اصل الاقتضاء ( فكل مورد ) احرز ولو من الخارج عدم وجود الملاك والمقتضى الا لاحد الحكمين ، يكون داخلا في صغرى التعارض الذي ملا که تكاذب الدليلين حتى في اصل الاقتضاء فيجب اجراء احكامه عليه من الترجيح بقوة السند مع عدم امكان الجمع العرفي بينها ( وكل مورد ) احرز فيه وجود الملاكين والغرضين في الخطابين يكون داخلا في صغرى التزاحم الذي يكون الملاك في ترجيح احد الخطابين على الآخر بقوة مناطه لا بقوة سنده سواء كان تزاحمها في مرحلة ايراث الحب والبغض الفعلى لدى المولى ، او في مرحلة الوجود محضا كما في المتضادين وجوداً ( اذ لا وجه ) لتخصيص باب التراجم بالمتضادين وجوداً الا الجمود بظاهر لفظ تزاحم الحكمين ( والا ) فلا نعنى من باب التزاحم الا صورة الجزم بوجود الملاكين والغرضين في الخطابين مع عدم امكان تحصيلها الذي من احكامه تقديم الاقوى ملاكا وان كان اضعف سندا ، بل ودلالة ، وان كان تمانعها في عالم التأثير من حيث الرجحان لدى المولى ( نعم ) قد يحتاج في بعض موارد التزاحم الى اعمال احكام التعارض ، بلحاظ رجوع الامر الي تكاذب الدليلين من حيث الملاك ، كما اذا احرز او احتمل الاهمية لاحدهما لا على التعيين ، فانه من هذه الجهة يقع بين دليلها التنافي والتكاذب لاقتضاء اطلاق كل واحد منها لكونه هو الاهم الذي يجب صرف القدرة اليه .

( وبما ذكرنا ) انقدح فساد الفرق بين البابين بما افيد من الضابط فيها بكونه في باب التعارض بعدم امكان اجتماع الحكمين في مرحلة الجعل والتشريع ثبوتاً ، لما يلزم من تشريعها اجتماع الضدين او النقيضين في نفس الامر ( وفي باب ) التزاحم بعدم امكان اجتماعهما في مرحلة الامتثال ( وحاصله ) تخصيص باب التزاحم بالمتضادين وجودا ( ببيان ) ان التزاحم انما يكون بين الحكمين في عالم الوجود ومرحلة صرف القدرة على الامتثال بعد الفراغ عن اصل تشريع الحكمين حسب ما اقتضته الملاكات ، كما في المتضادين وجودا ، و موارد اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كونها متغايرين ذاتاً وهوية ( واما التزاحم ) ب_____ين

ص: 128

الملاكين في عالم تشريع الاحكام وجعلها ، فهو خارج من باب التزاحم ومندرج في صغرى التعارض الذي ملاكه تنا في الدليلين باعتبار مدلولها في مقام الجعل والتشريع نظير العامين من وجه ، ومنه مورد تصادق متعلق الأمر والنهي على الامتناع بناء على كون التركيب بين المتعلقين اتحاديا نظير التركيب من الجنس والفصل بحيث كان احد المتعلقين متحداً مع الآخر بالذات والهوية ( فانه ) يندرج مورد التصادق حينئذ في صغرى التعارض ، ولا يكون من باب التزاحم ( اذ فيه ) ما لا يخفى ( اما اولاً ) فبانه لا وجه لارجاع تزاحم الملاكين في التأثير من حيث الرجحان لدى المولى الى باب التعارض المحكوم بالاخذ بالأقوى دلالة وسندا الاتوهم ان في التزاحم في التأثير من حيث الرجحان الفعلي لدى المولى يكون العقل منعز لا عن تعيين مرامه ويكون زمام امربیانه بيد المولى فيمكن ان يوكل امر بيانه الى ما هو اقوى سندا ، بخلاف التزاحم في عالم الوجود ومرحلة صرف القدرة فى مقام الامتثال ، فانه ليس مما امر تعيينه ييد المولى ، لا نه مبين لاصل مرامه بخطابه ، ففي هذه المرحلة لا بد من ايكال امر التزاحم الى العقل المستقل بالاخذ بما هو اقوى ملاكاً لا سنداً ( وهو ) في غاية الضعف ( اذ نقول ) انه بعد اطلاق الخطابين وظهورها في وجود الملاك والغرض في كل منها وعدم المانع عن تأثير هما الفعلى الا تمانعهما ، كيف يمكن للمولى ترجيح اقوائهما سنداً على اقوالها مناطا مع فرض احراز الأقوائية لدى العقل ( نعم ) انما يمكن ذلك في فرض احتمال وجود مانع آخر في البين عن تأثير ما هو الاقوى مناطاً بنظر العقل ، لانعزال العقل حينئذ عن الحكم ، ولكنه خلاف الفرض من عدم احتمال مانع آخر في البين عن تأثير الاقوى مناطاً ( ولذلك ) ترى بناء المحققين في مثل الفرض على اعمال قواعد التزاحم من الاخذ بالأقوى مناطاً ( مع ان لازم ) هذا القول هو الالتزام بفساد الصلاة عند ايقاعها في مكان مغصوب مع الجهل بالموضوع ، بل ومع الجهل بالحكم ايضا قصور الا تقصيراً ( لان ) من لوازم كونه من باب التعارض بعد ترجيح النهى ، اما لاقوائية دلالته ، واما من جهة رجوعه الى حقوق الآدمي التي هي اولى بالمراعات عند التزاحم مع حق الله سبحانه ، هو تقييد التكليف بالصلاة واقعا بغير

ص: 129

مورد تصادق العنوانين ( ولازمه ) هو خروج المأتي به عن دائرة المطلوبية بمباديها من الملاك والغرض الذي هو مساوق بطلانه ( وهو ) كما ترى خلاف ما بنوا عليه من الحكم بالصحة في الفرض المزبور حتى على القول بالامتناع و تقديم جانب الهى ( وثانياً ) ان ما افيد من الضابط في البابين بتخصيص باب التزاحم بتزاحم الحكمين بعد تشريعها في مقام الامتثال ، انما يتم اذا كانت القدرة كالعلم من شرائط تنجيز التكليف ( والا ) فعلى ما هو التحقيق وعليه بنائهم من كونها شرطاً لاصل تشريع الحكم الفعلى وتوجيهه الى المكلف في رتبة سابقة عن تنجزه لاستقلال المقل بقبح توجيه التكليف الفعلى الى العاجز عن الامتثال ( فلا جرم ) بعد عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتتال ، يمتنع تشريع اطلاق الحكمين حتى في المتضادين وجودا ، نظير امتناع تشريع اطلاق الحكمين في العامين من وجه بالنسبة الى المجمع ( و مرجع ) ذلك بعد تقييد مضمون الخطابات بالقدرة على هذا المسلك الى نفي الصغرى لباب التزاحم رأساً ( لا ندراج ) جميع موارد التزاحم بمقتضى الضابط المذكور فى صغرى التعارض بين اطلاقي الخطابين نظير العامين من وجه ( وتوهم ) الفرق بين العجز الدائمى والعجز الاتفاقى بتسليم شرطية القدرة في الاول ، دون الثاني ( فاسد ) فان العقل لا يفرق في قبح توجيه التكليف الفعلى الى العاجز بين العجز الدائمى والاتفاقي ( فكما ) يمتنع عقلا مع العجز الدائم اصل تشريع الحكمين، كذلك يمتنع تشريع اطلاق الحكمين على نحو يشمل مورد العجز ، نظير امتناع تشريع اطلاق الحكمين في العامين من وجه ( وحينئذ ) فعلى ما افيد من الضابط في تزاحم الحكمين ، يلزم من تقييد مضمون الخطابات بالقدرة ارجاع موارد العجز عن الامتثالين الى باب التعارض بين اطلاق الخطابين ، كما في العامين من وجه بالنسبة الى المجمع ، وهو كما ترى ( فلا محيص ) حينئذ من الفرق بين باب التعارض والتزاحم بما ذكرناه من الضابط فيها ( هذا كله ) في اصل الفرق بين باب التعارض والتزاحم ( واما تشخيص ) صغرياتها ، فهو موكول الى نظر الفقيه ( نعم ) يمكن ان يقال في تشخيص صغريات البابين ( ان كل ) مورد اتحد عنوان المأمور به والمنهى عنه

ص: 130

كعنوان الاكرام في قوله اكرم العالم ولا تكرم الفساق كان من صغريات باب التعارض، حيث ان قوله اكرم العالم يدل باطلاقه على ثبوت الحكم بمباديه حتى في حال فسقه كما ان قوله لا تكرم الفساق يدل باطلاقه الشامل لحال كونه عالما على عدم ثبوت الملاك في اكرام الفاسق ، فيقع التكاذب في المجمع بين الدليلين ، حتى بحسب الملاك والمقتضى ( اذ كان ) الاول مثبتا لوجود الملاك للاكرام بالنسبة الى المجمع، وكان الثاني ولو بمدلوله الالتزامي نافيا له ، فيقع بينها التعارض فلا بد من الرجوع فيها الى الجمع الدلالي ان امكن والا فالى المرجحات السندية ان كان لاحدهما مرجح ، وبدونه فالتخيير بمقتضى النصوص العلاجية ( وكل مورد ) تمدد عنوان المأمور به والمنهى عنه بان يكون معروض الحكمين عنوانين مختلفين ، كعنوان الغصب والصلاة في قوله صل ولا تغصب ، وعنوان الاكرام والتوهين كقوله اكرم العالم وأهن الفاسق ، كان من صغريات باب التزاحم ( حيث يستكشف ) من اطلاق المادة بل الهيئة ايضاً في كل من الخطابين وجود الملاك في كل من العنواتين حتى في المجمع كما هو الشأن في الخطابات ، ولذا ترى بنائهم على كشف قيام المصلحة بمتعلق التكاليف على حتى في حال العجز عن امتثالها ، مع الجزم باختصاص فعلية التكاليف بحال القدرة من غير تخصيص للمصلحة بحالها الا في فرض اخذ القدرة قيداً في حيز الخطاب ، كما في الحج ونحوه ( وحينئذ ) فمع كشف قيام الملاك والمقتضى من اطلاق كل من الخطابين بموضوعها من العنوان على الاطلاق حتى في المجمع ، يندرج قهرا في باب التزاحم الذي حكمه هو الاخذ باقوى الملاكين ( وحينئذ ) فينبغى ملاحظة معروض الحكمين من كونه عنوانا واحدا كعنوان الاكرام ، او عنوانين متغايرين ( فعلى الاول ) يندرج في صغرى باب التعارض ، ( وعلى الثانى ) يندرج في صغرى باب التزاحم ، من غ____ير فرق في الصورتين بين ان يكون متعلق معروض الحكم عنواناً واحداً او متعدداً ( لان ) المدار في وحدة العنوان وتعدده على وحدة مايكون معروض الحكم وتعدده لا على وحدة متعلق معروض الحكم وتعدده كما هو ظاهر ( ولقد ) تقدم من______ا في الجزء الثاني من الكتاب في مبحث اجتماع الأمر والنهي شطراً وافياً من

ص: 131

الكلام فيما يتعلق بالمقام فراجع ( و اما مرجحات ) باب التزاحم ، فهي امور ( منها ) اقوائية الملاك ، فيقدم الاقوى ملاكاً على غيره ( ومنها ) ما اذا كان احدهما مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر ، فيقدم ما لا يكون مشروطا بالقدرة الشرعية على المشروط بها وان كان اقوى ملاكاً منه ( ومنها ) ما اذا كان احدهما مضيقاً والآخر موسعاً ، فان المضيق مقدم بحكم العقل على الموسع جمعاً بين الفرضين ( ومنها ) ما اذا كان لاحدهما بدل اضطراري ، فانه يقدم بحكم العقل مالا بدل له على ماله البدل ( واما مرجحات ) باب التعارض فسيجى الكلام فيه انشاء الله تعالى .

فى خروج الورود والحكومة عن التعارض

( الأمر الثالث ) لا اشكال في ان التعارض بكل واحد من المعنيين غير صادق في موارد الورود التي يكون احد الدليلين نافياً لموضوع الآخر حقيقة ، نظير الامارات المعتبرة بالنسبة الى الاصول العقلية من البرائة والتخيير والاحتياط ( واما موارد ) الحكومة ، فقد عرفت خروجها عن موضوع التعارض على احد المعنيين للتعارض ( واما ) على المعنى الآخر ، فيمكن دعوى خروجها عن موضوعه ايضا ( اذ بعد ) ان يكون دليل الحاكم متعرضا لحال غيره وناظراً الى شرح مدلوله وبيان المراد منه ، لا يكاد يرى العرف تنافياً بين مدلولیها ، کی تدخل موارد الحكومة في موضوع التعارض ( بل الحاكم ) عند العرف بعناية شارحيته لبيان مدلول الغير وتعرضه له يكون بمنزلة القرائن المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد ، بلحاظ ان مدلول المحكوم هو الذي تكفل الحاكم لشرحه لا غيره ، غير ان في القرائن المتصلة ، كما كان المدلول فيها واحدا ، كذلك الدال يكون واحدا ( وفي الحكومة ) باعتبار عدم اقتضاء الحاكم مع انفصاله قلب ظهور المحكوم، يكون المدلول فيها واحدا والدال متعددا ( وبذلك ) يكون الحاكم وسطا بين القرائن المتصلة والمنفصلة ، فمن حيث وحدة المدلول يشبه بالقرائن المتصلة ، ومن حيث تعدد الدال يشبه بالقرائن المنفصلة .

( وكيف كان ) فقوام الحكومة انما هو يكون احد الدليلين ناظرا الى مفاد غيره ومبيناً لكية مدلوله ولو واقعاً ، لا بما هو مدلوله ، ولا يعتبر فيها كون

ص: 132

الحاكم بمدلوله اللفظي شارحاً لمغاد الغير بما هو مدلوله ، کی يلزم اعتبار کونه دائما بلسان اى التفسيري او مصدراً بإداته ( وان شئت ) قلت ان ما به قوام الحكومة انما هو بنظر احد الدليلين الى مفاد غيره من حيث عقد حمله ( اما ) بعناية التصرف في عقد وضعه ادخالا او اخراجا بتوسعة فيه او تضييق، كقوله زيد عالم عقيب قوله اكرم العلماء ، او ان النحويين ليسوا من العلماء ( واما ) بكون نظره اليه بدواً بلا توسيط عناية تصرف في عقد وضعه ادخالا او اخراجا ، كان ذلك بلسان اى التفسيري ومصدرا بإداته، او بصرف نظره اليه ، كما في ادلة الضرر و الحرج النسبة الى ادلة التكاليف الواقعية ( فان ) جميع ذلك مما ينطبق عليه ضابط الحكومة ويجري فيه خواصها ( ولذلك ) ترى بنائهم على تحكيم ادلة الضرر والحرج على ادلة الاحكام الواقعية الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية ، مع وضوح عدم كونها بلسان اى التفسيري في مقام الشارحية

فى شرح الحكومة وامتياز عنها التحضيص

( مضافا ) الى ان الحكومة ليست مدلول دليل لفظي حتى يدعي ان المستفاد منه ما يكون بلسان اي التفسيري في مقام شرح مدلول الغير ( وانما هو ) اصطلاح خاص نمبر بها عن كل دليل او اصل يكون ناظراً الى مفاد غيره ومبيناً الكمية مدلوله ، ولولا بما هو مدلوله ، بل بما هو امر واقعي ، كان ذلك بلسان اى الشارحة ، او بعناية التصرف في عقد وضعه ادخالا او اخراجا او بصرف النظر الى عقد حمله والتصرف فيه ، بلا توسيط عناية التصرف في عقد وضعه بتوسعة او تضييق ( فكما ) تتحقق الحكومة المصطلحة بما يكون بمدلوله اللفظى شارحا ومفسراً لمدلول الغير بما هو مدلوله ( كذلك ) تتحقق بغيره ( خصوصا ) مع ندرة الحكومة بالمعنى المزبور فيما بايدينا من الادلة المتكفلة للاحكام الكلية ( فان ) الغالب فيها كونه بلسان نفي الموضوع او اثباته ، كقوله لا شك في النافلة ، او مع كثرة الشك او مع حفظ الامام او المأموم ، او بلسان نفى المحمول ، كادلة الضرر والحرج ( ولعل ) الي ماذكرنا يرجع كلام الشيخ قده في الفرق بين الحكومة والتخصيص: بقوله ان كون التخصيص بياناً للعام انما هو بحكم العقل بعدم جواز ارادة العموم مع القرينة الصارفة وهذا بيان لفظى ومفسر للمراد من العام الخ ( فيكون ) المقصود

ص: 133

من البيان مطلق ما يكون ناظراً الي شرح المراد من العام ومبيناً لمقدار مدلوله ولو واقعاً ، لا خصوص ما يكون بلسان شرح اللفظ ( والا ) فقد عرفت ع__دم انطباق الحكومة فيما بايدينا من الادلة على هذا الضابط مع وجود خواص الحكومة فيها .

( وكيف كان ) فالتحقيق في شرح الحكومة ما ذكرناه من انه لا يعتير فيها ازيد من كون مفاد احد الدليلين ناظراً ولو بوجه الى مفاد الآخر وشارحا لكمية مدلوله و لو واقعا لا بما هو مدلوله ( لان ) ذلك ايضا نحو شارح للغير بتضييق المراد منه او توسعته بما هو امر واقعى اما بدواً او بتوسيط عناية التصرف في عقد وضعه ( ثم ان ) هذه الجهة من الشارحية للحاكم بعد ان كان من تبعات الحكم المجعول للغير ، فلا جرم يحتاج صحة تشريعه الى وجود المحكوم وتشريعه حتى تتحقق جهة الحكومة والشارحية ، والا فبدونه يكون دليل الحاكم لاغياً ، كما في قوله لا شك في النافلة ، او مع كثرة الشك ، فانه لو لا تشريع حكم للشكوك عموماً ، او خصوصا ، لما كان مورد للادلة النافية لحكم الشك في الامثلة المزبورة ( وكذلك ) ادلة نفي الضرر والجرح ، فانه لو فرض عدم تشريع حكم في الشريعة لم يكن مورد للادلة النافية للجرح والضرر ( نعم ) لا يعتبر في الحكومة ان يكون تشريع المحكوم متقدما على تشريع الحاكم زماناً ( بل يكفي ) في صحة تشريعه وعدم لغويته مجرد تشريع مفاد المحكوم ولو في زمان متأخر عن زمان تشريع الحاكم ( واما ) المنع عن اصل احتياج الحاكم الى وجود المحكوم ، كما عن المحقق الخراساني قده من دعوى انه لا يعتبر في الحكومة الا سوق الدليل بنحو يصلح للنظر الى كمية موضوع الآخر مستشهداً بادلة الامارات بالاضافة الى ادلة الاصول من حيث صحة التعبد بها ولو مع عدم جعل الاصول الى يوم القيامة ( فمدفوع ) بانه كذلك على مختاره في ادلة الامارات من كون التنزيل فيها راجعا الى نفس المؤدى، لا الى تتميم كشفها والغاء احتمال الخلاف ( اذ حينئذ ) لا نظر لدليل الامارة الى شرح المراد من ادلة الاصول المثبتة للحكم في ظرف الشك واستتار الواقع ، بل

ص: 134

كل منها في ظرف استتار الواقع مثبت لحكم تعبدي على خلاف الآخر ( ولكن ) قد عرفت منع الحكومة على هذا المسلك ( واما على التحقيق ) كما هو المختار من توجيه التنزيل فيها الى تتميم الكشف واثبات كونها عاما تنزيليا الذي هو المايز بين الامارة والاصل ( فلا محيص ) من سوقها لبيان كمية مدلول ادلة الاصول بتوسعة او تضيق ( وبهذه ) الجهة قلنا ان الامارة ، كما تضيق دائرة الاستصحاب السابق برفع شكه ، كذلك توسع دائرة الاستصحاب اللاحق باثبات اليقين السابق ، فيصح بذلكالاستصحاب في الموارد التي كان ثبوت المستصحب بالامارة لا باليقين الوجداني، كما هو ظاهر .

( ثم انه ) بما ذكرنا من الشارحية للحاكم تفترق الحكومة عن التخصيص وسائر موارد الجمع العرفي من جهات ( منها ) هذه الجهة ، فان في باب التخصيص لا يكون دليل المخصص ناظراً الى شرح مدلول العام وبيان كمية مفاده غاية الأمر لا يتحير العرف في تقديمه عليه من جهة اقوالية دلالته ( ومن المعلوم ) ان مجرد ذلك غير ملازم لكونه بلسانه شارحاً للمراد من العام واقعاً ( ولذلك ) ترى صحة التعبد بالخاص الاظهر لكونه مفيدا للفائدة التامة المستقلة ولو مع عدم تشريع حكم العام الى يوم القيامة .

( ومنها ) تقديم الحاكم على دليل المحكوم بعد ثبوت نظره اليه ، وان كان اضعف دلالة على مؤداه من المحكوم من غير ملاحظة النسبة بين دلي__ل الحاكم والمحكوم ولا ملاحظة قوة الظهور وضعفه، بل يقدم الحاكم بعد ثبوت نظره ولو مع كون النسبة بينه وبين دليل المحكوم العموم من وجه ( بخلاف )باب التخصص وسائر موارد الجمع ( فان ) تقديم الخاص والاظهر على العام والظاهر على ما هو التحقيق انما يكون بمناط الاخذ باقوى الدلالتين وطرح الأخرى ) ولذلك ) قد يتوقف في تقديم الخاص على العام ، كما في فرض تساويها في الدلالة ، فيعامل معها في الجهة المشتركة بينها معاملة سائر المتعارضين ( بل قد يقدم ) العام على الخاص في المقدار الذي كان العام نصاً في______ه او اقوى ظهوراً من الخاص ( و بذلك ) ربما يظهر جهة اخرى فارقة بين التخصيص

ص: 135

والحكومة ( وهي ) ان في موارد الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى في فرض اقتضاء الحاكم طرح ظهور المحكوم رأسا بحيث لا يبقى تحت ظهوره شيء من مدلوله ( لان ) الحاكم بلحاظ تكفله لشرح مدلول المحكوم يكون بمنزلة القرينة المتصلة في تعيين المراد الواقعى من مدلول المحكوم وانه هو الذي تكفل لشرحه ، وبذلك لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار ، لانتهاء الامر الى العمل بما هو المراد منه ولو بتوسيط شارحه ( وهذا ) بخلاف باب التخصيص وسائر موارد الجمع العرفي ( فان ) دليل المنفصل الاظهر بعد مالا يكون بلسانه ناظراً الى شرح المراد من الظاهر، ولا موجبا لقلب ظهوره كالقرائن المتصلة ) فلا محالة ) يكون العام باقياً على ظهوره في المراد منه مع احتمال كون المراد الواقعي على طبق ظهوره ( غاية الامر ) يجب رفع اليد عن حجية ظهوره في المقام الذي قام الاظهر على خلافه اعنى الجهة المشتركة بينها فيؤخذ بظهوره في المقدار الباقي من الجهة المختصة بالعام ، وهو المصحح للتعبد بسنده ( فاذا ) فرض انتها الأمر في مورد الى طرح ظهوره رأساً ، يلزمه خروج سنده ايضا عن الاعتبار ، لعدم انتهاء امر التعبد بسنده الى العمل ، فيصير مثل هذا الظاهر بعد عدم حجية ظهوره كالمجمل المعلوم عدم التعبد بسنده .

( ومنها ) سرايه الجمال الحاكم الى المحكوم ولو مع انفصاله حتى فيما لا يسرى الاجمال الى العام من الخاص المنفصل المجمل المردد مفهوما بين الاقل والاكثر ( فان ) الحاكم بعد ان كان ناظراً الى شرح مدلول المحكوم وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً لا بمقدار ما فيه من الارائة والدلالة ، فلا محالة يكون اجماله وتردده بين الاقل والاكثر موجباً لا جمال المحكوم بمعنى صيرورته بمنزلة المجمل في عدم جواز الاخذ بظهوره ( نعم ) لو كان نظره اليه بمقدار دلالته وارائته ، لكان المتبع عند اجماله هو ظهور المحكوم في مقدار اجمال الحاكم ( ولكن ) مرجع ذلك في الحقيقة الى عدم حكومته بالنسبة الي مقدار اجماله، لا الى عدم اتباعه فارغاً عن نظره ( والا ) فعلى فرض النظر المقوم لحكومته لا محيص من اتباع الحاكم مجملا كان او مبيناً ( لان ) المدار على ما اريد من الشارح ( وتوهم ) انه لا معنى حينئذ لا تباع المجمل

ص: 136

فلا يشمله دليل التعبد بسنده ( مدفوع ) بانه كذلك اذا لم يترتب عليه اثر اصلا ( واما ) لو ترتب عليه هذا المقدار من الاثر من نفي العمل على طبق ظهور المحكوم فيكفي ذلك في صحة التعيد بسنده ( وعليه ) فما افاده المحقق الخراساني قده في الحاشية من الاخذ بظهور المحكوم ورفع اجماله به منظور فيه ( الا ان يقال ) ان كون الحاكم ناظراً الى شرح الغير وتفسيره بما هو المراد من لفظه واقعاً لا بقدار دلالته انما يتم اذا كان بلسان الى الشارحة بمثل قوله المراد من العلماء هو العدول او غير الفساق منهم ( اذ حينئذ ) يسرى اجماله الى المحكوم ( واما ) لو كان بلسان نفي الموضوع او الحكم عن بعض افراده ، كما هو الغالب فيما بايدينا من الادلة ( فلا يكون ( النطر منه الى مدلول المحكوم الا بمقدار ارائته ودلالته ( وعليه ) فعند اجماله لا تكون حكومته الا بالنسبة الى المقدار المعلوم دلالته عليه ( ولازمه ) الرجوع في مقدار اجماله الى ظهور دليل المحكوم ،كما في الخاص المنفصل المجمل المردد بين الاقل والأكثر فتأمل ( ثم ان ) ما ذكرناه من تقديم الحاكم على المحكوم ولو كان اضعف دلالة منه ( انما يكون ) اذا لم يزاحمه دليل المحكوم في اصل نظره ( والا ) ففيما زاحمه المحكوم في نظره يعامل معها من تلك الجهة معاملة سائر المتعارضين ، ( كما لو كان ) مفاد دليل المحكوم وجوب اكرام العلماء وحرمة لعنهم ، وكان مفاد الحاكم عدم كون النحويين من العلماء ( فانه ) بالنسبة الى حرمة اللعن ولو من جهة انغراس الذهن بعدم جواز لعن المؤمن يزاحمه دليل حرمة اللعن في نظره ، فيوجب صرف نظره الى حيث الاكرام ( ولكن ) ذلك في الحقيقة خارج عن مفروض الكلام من تقديم الحاكم بما هو حاكم على المحكوم ، لرجوعه الى نفى نظره الذي هو مقوم حكومته بالنسبة الى حيث حرمة اللعن .

فى خروج الجمع العرفى عن حكم التعارض وان دخل فى موضوعه

( الامر الرابع ) ان موارد الجمع المصطلح العرفي وان كانت داخله في موضوع التعارض على احد المعنين في شرح التعارض ، لصدق تنا في المدلولين في مثل العام والخاص والمطلق والمقيد والظاهر والاظهر المتنافيين بالايجاب والسلب بحسب

ص: 137

مالكل منها في نفسه من الظهور النوعى في المعنى المراد ( ولكن ) لا شبهة في خروجها عن حكمه ( لان ) التعارض الذي هو موضوع الاحكام الخاصة من الترجيح والتساقط والتخيير ، انما هو فيما يتحير العرف في التوفيق بين الظهورين ( ولا تحير ) للعرف في التوفيق بين مثل العام والخاص والمطلق والمقيد ونحوهما من الظهورين المنفصلين الذين يصلح احدهما المعين للقرينية على التصرف في الآخر ( نعم ) حيث ان هذا الجمع لا يكون الا بين الظاهر والاظهر ، يعتبر فيه بقاء مقدار الدلالة المظاهر بعد تقديم الاظهر عليه ليكون هو المصحح للتعبد بسنده والجمع بين الظهورين ( والا ) ففي فرض اقتضاء تقديم الاظهر طرح ظهوره رأساً لا يشمله دليل التعبد بالسند فيخرج عن موضوع هذا الجمع ، كما اشرنا اليه فينتهى الامر فيها الى اعمال قواعد التعارض من التساقط او الترجيح او التخيير ( كما ان ) موضوع البحث في هذا الجمع انما هو في الكلامين الصادرين من شخص واحد او الشخصين ها بمنزلة شخص واحد ، كالاخبار الصادرة بعضها عن امام وبعضها عن امام آخر ( والا ) فني غيره كالبينتين المتعارضتين ونحوها ( لا يجرى ) هذا الجمع ، لعدم الدليل على الجمع بينها بحمل الظاهر منها على الاظهر ، بل لا بدفيها من الحكم بالتساقط الا اذا كان هناك دليل خارجى على الترجيح من بعض الجهات ( ومن هذا ) البيان ظهر اعتبار امر آخر في الجمع بين الاخبار وهو احتمال صدور كلا الخبرين عن الامام ( علیه السلام ) بمعنى عدم العلم بكذب احد الراوييين في حكاية صدور الخبر عن الامام ( علیه السلام ) ، ولو لاشتباهه في نقله عنه ( والا ) ففي فرض اليقين بعدم صدور احد الخبرين عن الامام ( علیه السلام ) لا ينتهى الامر الى التعارض بين الدلالتين فارغاً عن سندها كي تجرى قاعدة الجمع المزبور ( لان ) اصالة التعبد بالسند في كل منها حينئذ تقتضى بالالتزام عدم صدور الآخر من الامام ، ولازمه نفي التعبد بدلالته ايضا ، ومع_ه لا ينتهى الامر الى التعارض بين الدلالتين ( وبعبارة اخرى ) المدار فى هذا الجمع انما هو على التصرف في كلام امام ورد على خلافه اظهر من الامام ( وهذا ) يقطع تفصيلا بعدمه ( لانه ) على تقدير كون الصادر هو الاظهر ، فلا ظاهر في

ص: 138

قباله حتى يقتضى الاظهر التصرف فيه (وعلى تقدير ) كون الصادر هو الظاهر، فلا اظهر في قباله ( ومرجع ) ذلك الى العلم بعدم صدور ظاهر من الامام ( علیه السلام ) يجب التصرف فيه بجمله على الاظهر ، اما لعدم صدور الظاهر نفسه ، واما لعدم صدور اظهر على خلافه ( وحينئذ ) فبعد خروج هذا الفرض عن موضوع الجمع بين الدلالتين ينتهى الامر فيها الي التساقط اذا لم يمكن الاحتياط بالجمع بينها في مقام العمل كما لو كان مفاد العام وجوب اكرام العلماء ، وكان مفاد الخاص حرمة اكرام النحويين من العلماء وسيأتى مزيد توضيح لذلك عند تأسيس الاصل في المتعارضين انشاء الله .

الجمع الدلالي لا يمكن الا بين النص او الاظهر والظاهر لا بين الظاهرين

( وكيف كان ) فموضوع الجمع الدلالي انما يكون في مورد ساعد عليه العرف في التوفيق بين الظهورين ، وهو كما عرفت لا يمكن الا بين النص ، او الاظهر والظاهر ( لا في الظاهرين ) كالعامين من وجه ونحوه اذا تساويا في الظهور ، لعدم الدليل بعد عدم مساعدة العرف عليه ( وعليه ) فما يظهر من بعض الكلمات من وجوب الجمع بين الدليلين ولزوم تقديم الترجيح الدلالي مها امكن على الترجيح السندي والتخيير ، محمول على الامكان العرفي ( والا ) فلا دليل عليه ( مضافاً ) الى ما يلزمه من سد باب الترجيح بالمرة ( لانه ) ما من خبرين متعارضين الا ويمكن الجمع بينهما عقلا ببعض جهات الحمل والتأويل حتى في مثل قوله يجب اكرام زيد ويحرم اكرام زيد ( وهو كما ترى ) يستتبع تأسيس فقه جديد ( ثم ان الارتكاز ) العرفي في الجمع بين الظهورين المنفصلين في مثل العام والخاص ونحوه بعد ما لم يمكن بمثابة يوجب كون المراد الواقعى من العام والمطلق هو الخاص والمفيد ، بل يحتمل مع ذلك كون المراد الجدى منها على طبق ظهورهما في العموم والاطلاق ، وان وجب رفع اليد عن ظهورها بمقتضى النص والاظهر ( يقع الكلام ) في وجه تقديم النص او الاظهر على الظاهر في مثل العام والخاص من انه بمناط الورود ، او الحكومة ، أو بمناط الاخذ باقوى الظهورين والحجتين من جهة الاهمية ، نظير المتزاحمين .

( ومورد ) الكلام انما يكون فيما عدى الخاص القطعي السند والدلالة كالنص الكتابي ، او المتواتر المحفوف بالقرائن القطعية ( والا ) فيقطع بعدم كون العموم

ص: 139

مرادا من ظهور العام فيقطع بخروجه عن موضوع دليل الاعتبار للجزم بعدم صلاحيته عقلا للطريقية واعمال التعبد فيه ( بل عليه ) يكون خروجه من باب التخصص دون الورود ( ثم ان ) مبنى الوجوه المتقدمة ، هو الخلاف المعروف في اصالة الظهور، من حيث تقيد موضوع الحجية بعدم قيام الحجة على وجود الاقوى ، على الخلاف او بعدم العلم او بعدم وجوده واقعا ، ( وعدم ) تقيده بشيء من ذلك ( فانه ) على الأول يكون دليل الخاص ولو كان ظنياً وارداً على اصالة الظهور في العام ، لان التعبد بسنده حجة على وجود الاقوى وبيان على التخصيص ، فيرتفع به موضوع الحجية في العام حقيقة لا حكماً وتعبدا ( من غير ) فرق بين الوجهين في اعتبار اصالة الظهور من كونه بمناط الظهور والكشف النوعي عن المراد ، او لاجل اصالة عدم القرينة ( فانه مهما ) كان التعليق على عدم قيام الحجة على وجود الاقوى على الخلاف ، فلا محيص من الورود ، ولا مجال في هذا الفرض لتقريب الحكومة في تقديم دليل الخاص ( واما ) على فرض كون التعليق على عدم العلم بوجود الاقوى او عدم و وجوده واقعاً ( يكون ) دليل الخاص حاكماً لا وارداً ( لان ) دليل التعبد بسند الخاص باعتبار تكفله لتتميم الكشف و نفي احتمال عدم صدوره ، مثبت لوج_______ود الاقوى ظاهرا ، وللعلم التعبدي بصدوره عن المعصوم ( علیه السلام ) ( فيكون ) رافعاً لموضوع اصالة الظهور في العام تعبداً وتنزيلا لا حقيقة ( من غير فرق ) في هذه الجهة بين فرضى التعليق

في بيان وجه تقديم الخاص على العام فى انه بالورود او الحكومة

( غاية الامر ) ان الحكومة في الفرض الأول من باب حكومة ادلة الاحكام الظاهرية على مثلها ، نظير حكومة الاستصحاب على مثل دليل الحلية والطهارة وحديث الرفع والحجب حيث كان الحاكم والمحكوم في مرتبة واحدة وهي في مرتبة الشك في وجود الاظهر ، فكان الحاكم بتكفله لنفي الشك عن وجود الاظهر ناظرا الى تضييق دائرة اصالة الظهور في العام والظاهر في مرحلة الثبوت فتامل ( وفي الفرض ) الثاني تكون الحكومة فيه من قبيل حكومة ادلة الاحكام الظاهرية على الاحكام الواقعية ( حيث ) ان التعبد بالظهور من جهة تعليقه بعدم وجود الاظهر واقعاً ، يكون من قبيل الحكم الواقعي بالاضافة الى التبعد بالسند في الاظهر فيكون التعبد بالسند في الاظهر بتكفله

ص: 140

لا ثبات وجوده ناظرا الى توسعة موضوع التعبد بالظهور او تضييقه في مرحلة الظاهر وعند الشك في وجود الاظهر وان لم يوجب تضييقاً فيه واقعا ( من غير ) فرق في ذلك ايضا بين الوجهين في اعتبار اصالة الظهور ، ولا بين كون الخاص الظني السند فطعى الدلالة او ظني الدلالة ( فعلى ) كل تقدير في فرض كون الاناطة والتعليق على عدم العلم بوجود الاقوى او عدم وجوده واقعاً، لا محيص من الحكومة، ولا وجه لتقريب الورود ( نعم ) لو كان الخاص قطعيا من جهة السند وظنياً من جهة الدلالة ، كالمتواتر الظاهر في المؤدى، يكون تقديمه على جميع فروض التعليق بمناط الورود ولا مجال للحكومة للقطع الوجداني بوجود ما هو الاقوى ظهوراً من ظهور العام ووروده عن المعصوم ( علیه السلام ) .

( وبما ذكرنا ) انقدح فساد ما عن بعض الاعاظم قده من ابتناء التفصيل في المقام حكومة ووروداً على الوجهين في اعتبار اصالة الظهور : بقوله ان بنينا على كون الوجه فيها اصالة عدم القرينة يكون الخاص حاكما على العام ( وان بنينا ) على كون الوجه فيها الظن النوعى يكون الخاص وارداً عليه حتى انه جعل هذه الجهة منشئاً لترديد الشيخ قده في الحكومة والورود ( وجه الفساد ) يظهر مما عرفت من عدم الفرق حكومة ووروداً بين الوجهين في اعتبار اصالة الظهور ( فان المناط ) كله في ورود الخاص او حكومته على ملاحظة المعلق عليه ( فان كان ) التعليق في اصالة الظهور على عدم قيام الحجة على وجود الخاص والاظهر يكون دليل الخاص ولو كان ظنياً واردا على اصالة الظهور في العام لا حاكماً : قلنا ان الوجه في اعتبارها الظن النوعى الكاشف عن المراد ، او اصالة عدم القرينة ، فانه على كل من الوجهين في فرض التعليق بذلك يكون دليل الخاص حجة على ورود الاقوى على التخصيص ، فيرتفع موضوع اصالة الظهور حقيقة ( وان كان ) التعليق على عدم العلم بورود الخاص ، او عدم وروده واقعاً ، يكون دليل الخاص حاكما عليه لا وارداً كما ذكرناه : قلنا ان الوجه في اعتبار اصالة الظهور هو اصالة عدم القرينة ، او الظهور النوعي ( واما ) ترديد الشيخ قده في الورود والحكومة في المقام ، فليس منشئه

ص: 141

اختلاف الوجهين في اعتبار اصالة الظهور ( بل المنشأ ) فيه اختلاف فروض التعليق من كونه ، تارة على عدم الحجة على التخصيص ، واخرى على عدم ورود المخصص واقعا، وثالثة على عدم العلم بوروده ( كما انقدح ) بما ذكرناه فساد ما التزم به في المقام على ما في تقرير بعض تلامذته من القول بوجوب الاخذ بالخاص وتخصيص العام به مطلقا ولو كان ظهوره اضعف من ظهور العام مستدلا بان اصالة الظهور في الخاص تكون حاكمة على اصالة الظهور في طرف العام ، لكونه بمنزلة القرينة على التصرف في العام فيقدم على العام ولو كان اضعف ظهوراً منه ، كما يقدم ظهور يرمي في الرمي بالنبل على ظهور اسد في الحيوان المفترس في قوله رأيت اسداً يرمى ، مع كون ظهور الاسد في الحيوان المفترس اقوى من ظهور يرمى في رمي النبل ، لكونه بالوضع ، وذلك بالاطلاق ( اذ فيه ) ما لا يخفى فانه لم يرد تقديم الخاص بما هو خاص على العام بهذا العنوان في دليل لفظى حتى نتمسك بإطلاقه ( وانما العمدة ) في الباب هي السيرة العرفية وبناء العقلاء على الاخذ بالخاص وتخصيص العام به ( والمتيقن ) من بنائهم على ذلك انما هو في مورد يكون الخاص اقوى ظهوراً من العام ، كما هو الغالب في التخصيصات ( واما ) في غيره فلم يعلم بنائهم على الاخذ بالخاص كي يستكشف منه عن تقييد بنائهم على العمل بالعام بعدم ورود مطلق الخاص في قباله ( كما ان ) بناء الاصحاب على تقديم الخاص انما هو من جهة أقوائية ظهور الخاص من العام ( والا ) فلو فرض في مورد يكون العام ملاحظة بعض الخصوصيات اقوى ظهورا من الخاص يكون الأمر بالمكس فيقدم على الخاص ويجرى عليه حكم القرينة على التصرف في الخاص ) واما التعليل ) الذي افاده لتقديم الخاص بما هو خاص وحكومته ، من كونه بمنزلة القرينة على التصرف في العام ( فعليل جدا ) : فان كون الخاص بما هو خاص بمنزلة القرينة على التصرف في العام ، مبنى على كونه ناظرا بمفاده الى شرح مدلول العام ، وهو كما ترى لا يكون الا من شؤن الحاكم ( والا فشأن ) المخصص كما اعترف به هو قده لا يكون الا اثبات حكم آخر مضاد او مناقض لحكم العام في بعض افراده بلا سوقه للقرينية على شرح مدلول العام

ص: 142

( ومثله ) لا يكون الا معارضا مع العام ، لا قرينة على التصرف فيه ( وعليه ) فلا بد من الترجيح بالاقواثية واجراء حكم القرينة على الاقوى منها بلا كونه قرينة حقيقة ( فاجراء ) حكم القرينة حينئذ على الخاص لا يكون الا بأقوائية دلالته ، والا فمع تساويها في الدلالة بالنسبة الى الجهة المشتركة يعامل معها معاملة المتعارضين ( ومع ) اقوائية دلالة العام على المورد ولو من جهة ابائه عن التخصيص يقدم العام عليه ويجرى عليه حكم القرينة على التصرف في الخاص ( فما افاده ) قده في المقام من القول بتقديم الخاص على العام مطلقا ولو كان اضعف ظهورا لا يخلو عن غرابة ( واغرب منه ) استشهاده على مرامه بتقديم ظهور يرمى في رمى النبل على ظهور الاسد في الحيوان المفترس مدعيا بان ظهور الاسد في الحيوان المفترس من جهة كونه بالوضع اقوى من ظهور يرمى في رمى النبل ( اذ فيه ) ان مجرد وضعية الدلالة لا يقتضى الاقوائية خصوصاً في المثال ( فان ) ظهور برمی بمقتضى الانصراف والانسباق في رمي النبال غير المناسب للحيوان اقوى بمراتب من ظهور الاسد في الحيوان الخاص ( فكيف ) يصح قياس المثال بالخاص المنفصل عن العام .

الاشكال في تقريب الحكومة بالاضافة الى الادلة اللفظية ودفعه

( ثم انه ) اورد على جريان تقريب الحكومة بالاضافة الى الادلة اللفظية الثابتة حجيتها ببناء العقلاء بوجهين ( الأول ) ان حقيقة الحكومة عبارة عن كون احد الدليلين ناظراً بمدلوله اللفظي الى تفسير مدلول الآخر وشرح المراد منه ( وهذا العنوان ) مختص بالادلة اللفظيه ، ولا معنى لجريانه في اللبيات التي تكون من مقولة المعنى ( الثاني ) ان في ظرف وجود الاظهر ان كان البناء الفعلى من العقلاء على العمل بالعام الظاهر ، فيستحيل مع وجود هذا البناء بناء آخر منهم على الاخذ بسند الاظهر ) وان كان ( البناء على الاخذ بالاظهر وتخصيص العام به عند المعارضه ، فلا يكون ذلك الا من جهة ان بنائهم على العمل بالظاهر كان معلقا على عدم التعبد بالاظهر ( ولازم ) ذلك هو كون التعبد بالاظهر وارادا على التعبد بظهور الظاهر ، لا حاكماً عليه ، لوضوح ارتفاعه بمثله حقيقة لا حكماً ( فعلى

ص: 143

كل حال ) لا يتصور للعرف وجود بنائين فعليين عموماً وخصوصا يكون احد البنائين رافعاً للآخر حكماً ، كما هو قضية الحكومة ( وانما المتصور ) دائما بناء فعلى واحد ، اما على العمل بالظاهر عند عدم الاظهر ، واما على الاخذ بالاظهر عند وجوده وتخصيص العام به ( ولكن يندفع ) الاشكال الاول بانه انما يتم بناء على الحكومة بمعنى الشرح والتفسير ، وهو كون احد الدليلين شارحاً لفظياً لمدلول الآخر ، اذ حينئذ لا مجال لاطلاقها على الادلة اللبية التي لا يكون فيها لفظ كما في المقام ( واما ) على ماذكرنا سابقاً من الضابط فيها بكونها متقومة بصرف نظر احد الدليلين الى مفاد الآخر بتوسعة او تضييق ولو بما هو امر واقعى ، فلا قصور في تصويره في اللبيات ( اذ لا فرق ) على هذا الضابط بين الادلة اللفظية و اللبية ( واما الاشكال ) الثاني ( فيمكن دفعه ) ايضا بان بناء العقلاء على العمل بالظاهر اذا كان معلقاً على عدم ورود اظهر على من الشارع واقعا ، فلا جرم يكون بنائهم على التعبد بسند الاظهر ناظراً الى توسعة البناء الآخر او تضييقه في مرحلة الظاهر تعبدا لا حقيقة ، وليس هذا الا الحكومة ) وما افيد ) من التنافي بين البنائين حينئذ ( مدفوع ) بانه كذلك اذا كان البنائان عرضيين ( واما ) اذا كانا طوليين وفي مرتبتين فلا تنافي بينها ( وتوضيح ذلك ) هو ان موضوع التعبد بالظاهر بعد ان يكون مقيداً بعدم ورود اظهر على خلافه الشارع واقعا ، يكون التعبد بالظاهر باعتبار قيد موضوعه من قبيل الحكم الواقعى بالاضافة الى التعبد بسند الاظهر، ويكون التعبد بسند الاظهر في رتبة متأخرة عن الشك في ورود الاظهر واقعاً من الشارع ، وبذلك يكون البناثان في مرتبتين بحيث لا يشمل فعلية كل واحد لمرتبة الآخر ، نظير الحكم الواقعي والظاهري غير المتنافيين باختلاف مرتبتها ( غاية ) الامر يكون العمل الفعلى على طبق البناء الظاهرى على وجود الاظهر ووروده من الشارع ( ولكن ) لا بعنوان عدم ثبوت موضوع البناء الواقعي حقيقة ، بل بعنوان عدم ثبوته تعبداً وتنزيلا ، كما هو الشأن في جميع موارد حكومة الادلة الاحكام الظاهرية على الاحكام

ص: 144

الواقعية الراجعة الى توسعه الواقعيات او تضييقها في مرحلة الظاهر ( واما توهم ) ان بناء العرف والعقلاء على شيء ليس الا عبارة عن معاملتهم ( فاذا كان ) عملهم الفعلى في المقام على طبق الاظهر ، يلزمه عدم معاملتهم فعلا على طبق الظاهر ، ولازمه هو تعليق البناء على العمل على طبق الظاهر على عدم البناء على طبق الاظهر، فيلزم ارتفاع البناء على طبق الظهور حقيقة لا حكماً وتعبدا ( فمدفوع ) بمنع كون بناء العرف والعقلاء عبارة عن صرف عملهم ( بل العمل ) انما يكون مترتباً على بنائهم لكونه في الحقيقة اطاعة وامتثالا لبنائهم ( وبالجملة ) نقول ان نسبة العمل الى بنائهم انما هو كنسبة الوفاء بنذورهم وعهودهم في كونه الطاعة وفي مرتبة متأخرة عن بنائهم ( وعليه ) فلا بأس بالالتزم ببنائين طوليين للعقلاء من حيث الواقعية والظاهرية مع الالتزام بكون عملهم الفعلى على طبق الأظهر بمناط الحكومة بعناية كونه هو الواقع الراجع الى توسعة للبناء الآخر او تضييقه في مرحلة الظاهر حكماً وتنزيلا لا حقيقة ( نعم ) في فرض تقيد موضوع التعبد بالظهور بعدم العلم بورود اظهر من الشارع على خلافه يتجه الاشكال المزبور على تقريب حكومة سند الاظهر على الظاهر ولا يجديه مجرد كون التعبد بسنده ناظراً الى الغاء احتمال الخلاف وتتميم كشفه ( لان ) مقتضى التقييد المزبور هو كون البنائين في مرتبة واحدة وهي مرتبه الشك في وجود الاظهر ، ولازمه تحقق المضادة، بين البنائين ، ومع تضادها وجودا لا وجود للبناء على طبق الظاهر مع البناء الفعلى منهم على الاخذ بسند الاظهر والعمل على طبقه حتى يصلح لرفعه تنزيلا لا حقيقة ، كما هو ظاهر .

فى بيان وجه تقديم الاظهر على الظاهر ثبوتاً

( ثم ان ذلك ) كله في فرض الالتزام بتقييد موضوع التعبد بالظهور باحد الوجوه المتقدمة ( واما في فرض ) عدم تقييده بشيء كما هو المختار فلا سبيل الى تقديم الاظهر بمناط الورود ، ولا بمناط الحكومة بالتقريب المتقدم ، لعدم ترتب شرعى حينئذ للتعبد بالظهور على عدم وجود الاظهر حتى يصلح التنزيل المستعاد من التعبد بسند الاظهر لان يكون ناظراً اليه شرعاً ( بل الوجه ) في تقديم الاظهر على هذا المبنى ينحصر بكونه بمناط الاخذ باقوى الملاكين وتقديمه على اضعفها ،

ص: 145

كما في جميع ابواب المزاحم_ات ( فان المقتضى ) المؤثر في نفوس العقلاء للاخ_______ذ بالكلام الصادر من المتكلم للاستطراق به الى الواقع ، انما هو ظهوره وكشفه النوعي عن المراد الجدي وارائته المتعلق الارادة الواقعية ( وحيث ) ان هذا الملاك يوجد في الاظهر على نحو اقوى من الظاهر ، فلا جرم يكون مورد التزاحم مندرجاً في صغرى باب التزاحم الذى حكمه هو الاخذ باقوى الملاكين والمقتضين ، فيجب الاخذ بالاظهر ، لا قوائية كشفه من الظاهر ، كما هو ذلك في جميع موارد تزاحم الملاكين والمقتضيين ، حيث يكون التأثير الفعلي للاقوى ملاكاً منها ( هذا ) اذا كان الاظهر قطعي السند ( واما ) اذا كان ظنيا ( فلازم ) التزاحم المزبور وان كان هو الاخذ بالظاهر عند الشك في وجود الاظهر وصدوره من الشارع ، لحكم العقل في باب التزاحم بلزوم الاخذ بالمهم مع الشك في وجود المزاحم الاهم بمناط الاشتغال في مطلق الشك في القدرة ( ولكن ) موضوع حكم العقل بذلك لما كان معلقا على عدم الحجة على وجود الاهم ، فلا محالة يكون دليل التعبد بسند الاظهر رافعا لموضوع حكم العقل ، حيث يكون بياناً وحجة على وجود الاظهر وصدوره من الشارع ، فيكون وارداً على هذا الحكم العقلى حقيقة ، وعلى التعبد بالظاهر عناية ، بلحاظ ملازمة ارتفاع حكم العقل بالاخذ بالظاهر لتحقق البناء على طبق الاظهر ، كما هو ذلك في كل مورد قام الدليل على وجود المزاحم الاهم ( ففي الحقيقة ) يكون ذلك نحو تقريب لورود اصالة السند في الاظهر على اصالة الظهور في الظاهر ، ولكن لا بالورود بالمعنى المتقدم في فرض اناطة موضوع التعبد بالظهور بعدم الحجة على وجود الاظهر ( فان اصالة ) السند في الاظهر على التقريب السابق رافع للتعبد بالظاهر حقيقة لارتفاعه بارتفاع موضوعه ( بخلاف ) ما ذكرنا من التقريب ( فان ) المرتفع حقيقة ليس هو البناء على التعبد بالظهور واقعا لكونه وجوداً وعدما تابع قيام الاظهر على خلافه واقعا وعدم قيامه ، وانما المرتفع هو حكم العقل بمقتضى الاشتغال بالاخذ بالظاهر عند الشك في وجود الاظهر والمزاحم الاقوى ، غاية الامر ارتفاعه يلازم للبناء الفعلى على طبق

ص: 146

الاظهر ظاهرا ( هذا كله ) فيما قيل او يمكن ان يقال في وجه تقديم الاظهر على الظاهر ثبوتا .

في تشخيص الاظهر والمزايا التي توجب الاقوائية فى الظهور اثباتاً

( واما ) تشخيص الاظهر وتمييز الاقوائية في الظهور اثباتا ، فلا يدخل تحت ضابط كلي ، وانما هو موكول الى نظر العرف ( وحيث ) انه يختلف ذلك باختلاف الموارد من حيث اقتران الكلام بالقرائن الشخصية الحافة الخارجة عن تحت الضبط وعدم اقترانه بها ، فلابد للفقيه من اتعاب النفس في تشخيص اقوائية احد الظهورين كتشخيص اصل الظهور من ملاحظة الخصوصيات المكتنفة بالكلام من القرائن الحالية او المقالية ، ومناسبات الحكم والموضوع ، بل وخصوصيات المتكلم والمخاطب و نحوها من الأمور الموجبة لصيرورة احد الكلامين باقترانها به بمثابة من الظهور توجب عرفاً قرب التصرف في الآخر ، لا مجرد كون التصرف في احدهما ابعد من الآخر ( ويمكن ) جعل الضابط فيه ، بفرض كون الجميع في كلام واحد ، ولحاظ ان ايها في هذا الفرض يكون موجباً لقلب ظهور الآخر ، فكل ما يكون منشئاً لقلب ظهور الآخر فهو الاقوى ، هذا بالنسبة الى شخص المتعارضين .

( واما ) بالنسبة الى نوعها ( فقد ذكروا ) اموراً في ضابط الاقواثي____ة والترجيح ( منها ) ما اذا تعارض العام الاصولي مع الاطلاق الشمولي ، ودار الامر بين تخصيص العام او تقييد المطلق ، كما لو قال اكرم العالم ولا تكرم الفساق ( فانه ) بعد تعارضها في مادة الاجتماع يدور الامر بين تقييد قوله اكرم العالم بغير الفاسق و بين تخصيص قوله لا تكرم الفساق بما عدى العالم ( حيث ) قيل بان شمول العام الاصولي المورد الاجتماع اظهر من شمول المطلق له ( لان شمول ) الأول لمادة الاجتماع يكون بالوضع وشمول الثاني له يكون بالاطلاق ومقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح ان يكون بياناً للتقييد ، والعام الاصولي يصلح لذلك ، فلا تم معه مقدمات الحكمة في المطلق الشمولي ، فيقدم العام الاصولي عليه ويقيد به المطلق بما عدى مورد الاجتماع ( وبتقريب ) آخر ان ظهور العام الاصولي من جهة كونه بالوضع ظهور تنجيزي ، وظهور المطلق في الاطلاق ظهور تعليقي على تمامية مقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح ان يكون بيانا على التقييد،

ص: 147

و بعد صلاحية العام الاصولي لذلك لا ظهور للمطلق فى الاطلاق في مقابل العام الاصولي حتى يدور الامر بين الاخذ بالمطلق أو العام ( ولكن ) فيه انه يتجه ذلك اذا كان اساس مقدمات الحكمة على كون المتكلم في مقام بيان مرامه بمطلق كلامه ولو منفصلا عن كلامه الملقى الى المخاطب في مجلس التخاطب ( اذ حينئذ ) يكون لعدم القرينة على التقييد ولو في كلام آخر منفصل دخل في ظهور المطلق في الاطلاق ، فيتجه معه اخذ النتيجة المزبورة فى المقام لصلاحية العام المزبور البيانية على التقييد ( واما ) اذا كان اساس المقدمات على كون المتكلم في مقام بيان تمام مرامه بخصوص الكلام الذي وقع به التخاطب ، لا به وبكلام آخر منفصل عنه ولو بعدستين ، كما عليه بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم ( فلا محالة ) عند عدم نصب البيان على التقييد متصلا بكلامه الملقى الى المخاطب في مجلس التخاطب ، ينعقد الظهور الاطلاقي للمطلق وتتحقق الدلالة التصديقية النوعية التي عليها مدار الحجية في باب الالفاظ ( ولازم ) ذلك مع احراز المقدمات جزماً آخر منفصل للجزم بخلافه ، ومع طرح ظهور القيد الوارد في كلام احرازها بالاصل و ظاهر حال المتكلم في كونه بصد تمام مرامه بتمام لفظه الملقى الى المخاطب هو وقوع المزاحمة بين ظهور كلامه في الاطلاق وظهور كلامه المنفصل في التقييد ( وفي مثله ) لا بد من الترجيح بالاقوائية ، بلاورود احدهما على الآخر ( ولا يكفي) حينئذ في رفع اليد عن الاطلاق مجرد وضعية الدلالة فيما دل على التقييد ( لان ) مجرد وضعية الدلالة لا يكون منشئاً للاقواثية كما هو ظاهر ( وحيث ) ان بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم على الاخذ بالاطلاق في الكلام الصادر من المتكلم عند عدم نصب البيان على التقييد متصلا بالكلام الملقى الى المخاطب في مقام الافادة والاستفادة ( فلا محيص ) عند التزاحم في مادة الاجتماع من الاخذ باقوى الظهورين والعمل على طبقه من تخصيص العام او تقييد المطلق على قواعد الاظهر والظاهر .

في بيان تعارض العام الاصولى مع الاطلاق الشمولي

( و بما ذكرنا ) اتضح الحال فيما لو دار الامر بين تقييد الاطلاق البدلى ، وتخصيص العام الاصولى كقوله اكرم عالماً ، وقوله لا تكرم الفساق ( فانه ) قيل

ص: 148

فيه ايضا بتقديم تقييد الاطلاق البدلي على تخصيص العام الاصولي بعين ما تقدم بيانه في فرض الدوران بين العام الاصولي، والاطلاق الشمولي ( بل قيل ) ان الامر في تقديم تقييد الاطلاق البدلي اوضح من تقديم التقييد في الاطلاق الشمولي ( بتقريب ) ان المطلوب في الاطلاق البدلى انما هو صرف الوجود ، ومثله لا يصلح لان يعارض العام الاصولي الذي يكون المطلوب فيه هو الوجود الساري ( لان ) الاول انما يقتضي الاجتزاء باى واحد من الافراد اذا كانت متساوية الاقدام ولم يكن في البين ، ما يقتضي المنع عن بعض الافراد ( والعام الاصولى ) باعتبار شموله لجميع الافراد واقتضائه الحرمة اكرام كل فرد من افراد الفساق يقتضي خروج العالم الفاسق في مادة الاجتماع من دائرة الاطلاق البدلي ( وفيه ما تقدم ) من ابتنائه على كون عدم البيان الذي هو اساس مقدمات الحكمة هو مطلق عدم البيان ولو في كلام آخر منفصل ( والا ) فعلى فرض كون المدار على عدم البيان في مقام التخاطب كما اوضحناه لا مطلقا ولو بعد حين ( فلا جرم ) بعدم نصب القرينة على التقييد ما دام التخاطب يستقر الظهور الاطلاقي ، ( ومعه ) لا محيص في تقديم احدهما على الآخر في مادة الاجتماع من الاقوائية فى الظهور والدلالة من غير فرق بين ان يكون ورود العام قبل المطلق او مقارنا له او متأخراً عنه ( وهذا ) هو الذي اختاره المحقق الخراساني قده ( وما افاده ) في فوائده من لزوم جمع كلمات الأئمة ( علیهم السلام ) المتفرقة في الزمان وفرض ورودها فى زمان واحد والاخذ بما هو المتحصل منها على فرض الاجتماع ، لا ينا في ذلك ( فان المقصود ) من ذلك انما هو بيان تشخيص الاظهرية الموجبة للجمع ، كما اشرنا اليه آنها قبال عدم صلاحية مجرد ابعدية التصرف فيه من غيره ، فلا تنافي بين ما افاده في المقام من انعقاد الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب القرينة على التقييد متصلا بالكلام مادام التخاطب ، وبين ما افاده في فوائده حتى يشكل عليه كما هو ظاهر .

فى تعارض الاطلاق البدلى مع الاطلاق الشمولي

( ومنها ) ما اذا تعارض الاطلاق البدلى مع الاطلاق الشمولي ، ودار الامر بين تقييد الاطلاق البدلي او الشمولي ، كقوله اكرم عالماً ، ولا تكرم الفاسق

ص: 149

( حيث ) قيل بتقديم الأول على الثاني بالتقريب المتقدم في تعارض الاطلاق البدلي مع العام الاصولى ( ويرد عليه ) ما تقدم من استقرار الظهور الاطلاقي لكل واحد منها عند عدم اتصال الكلام الذي وقع به التخاطب بما يصلح لتقييده ( ومجرد ) كون احد الاطلاقين شمولياً غير موجب لخروج الافراد في الاطلاق البدلى عن كونها متساوية الاقدام في مقام الاطاعة ( لان ) ذلك انما يتم في المتصلات في كلام واحد ( والا ) ففى المنفصلات لا بد في الترجيح من لحاظ الجهات الموجبة لاظهرية احد الاطلاقين و اقواثيته

فى تعارض الاطلاق البدلى مع الاطلاق الشمولى وتعارض بعض المفاهيم مع بعض آخر

( ومنها ) ما اذا تعارض بعض جمل ذوات المفهوم مع بعض آخر ( كتعارض ) مفهوم الغاية مع مفهوم الشرط في مثل قوله يجب الامساك الى الليل ، وقوله ان جائك زيد فلا يجب الامساك في الليل ( فان ) مفهوم الغاية تقتضي عدم وجوب الامساك في الليل ، ومفهوم الشرط يقتضي وجوبه في الليل ( وكتعارض ) مفهوم الشرط مع مفهوم الوصف بناه على كون القضية الوصفية ذات مفهوم ( حيث ) قيل في الأول بتقديم مفهوم الشرط ( لان ) ثبوت المفهوم للقضية الشرطية بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، بخلاف القضية الغائية ، فان دلالتها على انقضاء حكم ما قبل الغاية عما بعدها تكون بالوضع ( وفي الثاني ) بتقديم ظهور مفهوم الشرط على مفهوم الوصف ، لكون القضية الشرطية اظهر في المفهوم من القضية الوصفية ( ويرد ) على الاول ما ذكرناه من ان المدار في عدم البيان المقوم للاطلاق انما هو على عدمه المتصل بالكلام الذى وقع به تخاطب المتكلم في مجلس التخاطب، لا على عدمه مطلقا ولو منفصلا عنه ( فلا مجال ) لهذا الكلام في المنفصلين ، بل لا بد فيها عند الترجيح من لحاظ الجهات الموجبة لا ظهرية احدهما على الآخر ( وعلى الثانى ) بان الحكم باظهرية الجملة الشرطية في المفهوم من القضية الوصفية بنحو الموجبة الكلية ، غير تام ، لاختلافه باختلاف المقامات والخصوصيات المكتنفة بالكلام ومناسبات الحكم والموضوع ونحوها ، فانه بملاحظة هذه الجهات قد تكون القضية الوصفية اظهر في المفهوم من القضية الشرطية ، وقد تكون ظهورهما في المفهوم متكافئين فيتعارضان

ص: 150

( ومنها ) ما اذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ( حيث قيل ) بتقديم التخصيص على النسخ، لكثرة الاول وشيوعه ، وقلة الثاني وندرته ( وقيل ) بتقديم الثاني ( وقبل الخوض ) في تنقيح المرام ينبغي التعرض لبيان الشقوق المتصورة للعام والخاص المتخالفين ناسخا ومخصصاً ومنسوخاً ( فنقول ) اذا ورد عام وخاص متخالفان ( فاما ) ان يكونا متقارنين ، واما ان يكونا متعاقبين ( وعلى الثانى ) فالمتقدم منها ، اما ان يكون هو العام ، واما ان يكون هو الخاص ( وعلى التقديرين ) فالخاص او العام المتأخر ( اما ) ان يكون وروده قبل وقت العمل بالمتقدم ( واما ) يكون وروده بعد وقت العمل به ( والظاهر ) ان في جميع هذه الفروض يتأنى الدوران المزبور بين النسخ والتخصيص ( فان في فرض ) تأخر العام عن الخاص كما يحتمل كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر ( كذلك ) يحتمل كونه منسوخاً بالعام ( كما ان ) في فرض تأخر الخاص عن العام يتصور احتمال المخصصية والناسخية للخاص المتأخر ( من غير فرق ) بين ان يكون ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام او بعده ( وهكذا ) في فرض ورودها متقارنين ، حيث يتصور احتمال المخصصية والناسخية بل المنسوخية للخاص .

في دوران الامر بين النسخ والتخصيص وبيان الشقوق المتصوره

( ولكن ) الذي يظهر من جماعة هو التفصيل بين الشقوق المذكورة للعام والخاص من حيث الناسخية تارة والمخصصية ، اخرى ، والقابلية للامرين ثالثة ( حيث ) انهم اعتبروا ( في التخصيص ) ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام لا بعده معللين ذلك بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ( وفي النسخ ) وروده بعد وقت العمل بالعام ( لان ) النسخ رفع للحكم الثابت الفعلى من جميع الجهات ، فلا يكفي فيه مجرد فرضية الحكم ولو بفرض موضوعه مالم يصل الى مرحلة الفعلية ، فقبل وقت العمل بالعام لا يكون الحكم الا فرضياً ( فعلى هذا الضابط ) يكون الخاص المقارن للعام والخاص الوارد بعد العام قبل وقت العمل به مخصصاً محضاً لا ناسخاً ، لعدم حكم فعلى حينئذ للعام كي يقبل النسخ ( وكذا ) في العام الوارد بعد الخاص قبل وقت العمل به ( حيث ) يكون الخاص في هذه الفروض الثلاثة

ص: 151

مخصصاً وبياناً المعام لا ناسخاً ولا منسوخاً ( ويكون ) الخاص الوارد بعد العام و بعد حضور وقت العمل به ناسخا للعام لا مخصصا لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ( فيختص ) مورد الدوران بين النسخ والتخصيص بما اذا كان الخاص مقدماً على العام ، وكان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص ( اذ في مثله ) كما يحتمل كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر ( كذلك ) يحتمل كونه منسوخاً بالعام ( هذا ) ملخص ما افادوه في المقام من التفصيل بين الصور المذكورة ناسخاً ومنسوخاً ومخصصاً ( وقد عرفت ) ابتنائه ( على مقدمتين ) احديها قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ( وثانيتها ) كون النسخ رفعاً للحكم الفعلي الثابت ( ولكن لا يخفى ) ما في المقدمتين .

في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة

( اما المقدمة الأولى ) وهي قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ( ففيه ) ان المراد من الحاجة ان كان حاجة المولى الى الفعل او الى البيان ( فالكبرى ) وان كانت مسلمة، فان التأخير حينئذ قبيح بل مستحيل ، لانه من نقض الغرض المستحيل من الحكيم حتى عند الاشعرى ( ولكن ) الصغرى ممنوعة ( اذ يمنع ) تعلق الغرض الجدي من القاء تلك العمومات لبيان المراد الواقعي ( ومجرد ) كونه وقت حاجة المكلف في العمل بالعموم ، لا يقتضي كونه وقتاً لحاجة المولى الى الفعل اوال البيان بل نفس تأخير البيان فى المنفصلات دليل على عدم حاجة المولى اليه ( وان كان ) المراد من الحاجة حاجة العبد إلى العمل ولو لم يكن وقتاً لحاجة المولي ، فقبحه غير معلوم ، بل معلوم العدم ( بداهة ) انه لا قبح فيه اذا كان التأخير عن مصلحة او جبت اخفاء الحكم الواقعى الى زمان ورود المخصص ( فيمكن ) ان تكون المصلحة في القاء الظهور الى المكلف على خلاف المراد الواقعي ليتكل عليه العبد ويكون حجة له وبياناالى ان تقتضي المصلحة بيان المراد الجدي ( وبالجملة ) اخفاء المراد الجدى مع القاء الحجة على خلاف الواقع لمصلحة مما لا قبح فيه ( كما يظهر ) ذلك من ملاحظة نصب الطرق غير العلمية في الموارد التي يؤدى الى خلاف الواقع، كما اجبنا به عن ابن قبة ببعض تقريباته ( وحينئذ ) فكما ان الوظيفة الظاهرية في موارد الطرق المنصوبة المؤدية احيانا الى خلاف الواقعيات هو الاخذ بها حجة وبياناً ، وفي غير مواردها هو

ص: 152

الرجوع الى ما يستقل به العقل من البرائة او الاحتياط ( كذلك ) في المقام ، فقبل ورود البيان على التخصيص يكون المكلف محكوما بالحكم الظاهري بالعمل على طبق العام الى مجىء البيان على المراد الواقعي بلا ورود محذور قبح في البين ( والمراد ) من الحكم الظاهري انما يكون هو الحكم المستفاد المستفاد من اصالة الظهور اصالة الظهور عند الشك في مطابقة ظهور العام للواقع ، لا ما تضمنته العمومات ( فان ) مفاد العمومات ليس الا الحكم الواقعي، فما في تقرير بعض الاعاظم من جعل الحكم الظاهري عبارة عن مفاد العمومات مبنى على المسامحة او طغيان القلم ، والا فبطلانه واضح ( و بما ذكرنا ) ظهر ان مخصصية الخاص للعام لا يتعين بوروده قبل وقت العمل بالعام ، بل كما يصلح للمخصصية في الفرض المزبور يصلح للمخصصية ايضا في فرض وروده بعد وقت العمل بالعام ، فيمكن ان تكون المخصصات المتأخرة الواردة عن الأئمة ( علیهم السلام ) هي المخصصات حقيقة ، لا انها كاشفات عن اتصال كل عام حين صدوره بمخصصه ( وتوهم ان ) مصلحة الحكم الواقعي الذي هو مفاد المخصصات المنفصلة ان كانت تامة فلا بد من اظهاره والتكليف به من الاول ( وان لم تكن ) تامة ولو بحسب مقتضيات الزمان بان يكون للزمان دخل في الملاك فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام الى زمان ورود الخاص ، وفي مثله يكون الخاص المتآخر عن وقت العمل بالعام ناسخاً لا مخصصاً ( مدفوع ) بما ذكرنا من ان مجرد تمامية ملاك الحكم الواقعى في المخصصات المنفصلة لا يلازم وجوب اظهاره والتكليف به من الاول ، لا مكان ان يكون فى التأخير مصلحة ولو كانت هي التسهيل على المكلفين في الصدر الاول او جلب رغبتهم في الاطاعة والعبودية او غير ذلك ( فيمكن ) حينئذ ايكال اظهاره الى اوصيائه عليهم السلام مع اعطاء الحجة فعلا على خلاف الواقع .

هل يكون النسخ رفعاً للحكم الفعلى الثابت اولا

( واما المقدمة الثانية ) ففيها منع كون النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت الفعلى من جمع الجهات ( بل نقول ) انه يكفي في صحته مجرد ثبوت الحكم ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة بينه وبين شرطه في مقابل عدمه كما في الموقتات والمشروطات

ص: 153

قبل تحقق وقتها وشرطها ( فانه ) كما يصدق على جمل مثلها نه ايجاد للحكم كذلك يصدق على رفعه ا نه نسخ له ، بلا حتياج في صحة رفعه الى فعليته ( ولذلك ) ترى صحة النسخ في الاحكام العرفية في الموقتات والمشروطات قبل وقتها وشرطها في مثل قول المولى لعبده يجب اطعام العلماء في شهر كذا ، او ان جائك عالم فاكرمه ( وقوله ) بعد هنيئة نسخت هذا الحكم ( فاذا كان ) هذا المقدار من الثبوت في الاحكام العرفية كافياً في صدق الرفع وصحة النسخ ( كذلك ) في الاحكام الشرعية ، فيكتفي في صحة النسخ فيها كونه رفعاً لما هو المنشأ بالانشاء السابق ولو كان ذلك مجرد احداث الملازمة بين الحكم وشرطه ( ثم ان ذلك ) بناء على المشهور من اناطة فعلية الحكم في الواجبات المشروطة بوجود شرائطها خارجاً ، لجعلهم الخطابات الشرعية الطلبية من سنخ القضابا الحقيقية التي يتبع المحمول فيها فى الفعلية والفرضية فعلية وج_______ود موضوعه وفرضيته ( واما ) على المختار فيها من اناطة الحكم فيها بفرض وج_____ود الشرط في لحاظ الآمر ولو طريقا الى الخارج ، لا بوجوده خارجاً كما شرحناه فى الجزء الاول من الكتاب فى مبحث الواجب المشروط في مقدمة الواجب ، فلا محالة يكون الحكم فعليا فيها، غايته منوطاً بفرض وجود الشرط في لحاظه الآمر ( ومع ) فعلية الحكم فيها قبل وجود شرائطها خارجاً ( لا بأس ) بالالتزام بصحة النسخ فيها قبل تحقق شرطها خارجاً وقبل وقت العمل بها ولو على القول بكون النسخ رفعاً للحكم الفعلى الثابت ( اذ لا يحتاج ) فى صحة النسخ حينئذ الى ازيد من فعلية الخطاب بمضمونه حسب استعداد الخطاب لها ( نعم ) لو كان المقصود من فعلية الخطاب بعمضمونه هى الفعلية المطلقة حتى بالمرتبة المساوقة لمحركية العبد فعلا نحو الامتثال ( لكان ) للاشكال المزبور كمال مجال لاحتياج صحة النسخ حينئذ الى فعلية وجود الشرط خارجا الملازم للمحركية الفعليه المساوق لوقت العمل ( ولكنه) من الاغلاط ( لوضوح ) ان هذه المرتبة من الفعلية أنما هى من شؤن تطبيق العبد مضمون الخطاب على المورد خارجاً ( ومثله ) كما ترى اجنبي عن مضمون الخطاب ، لكونه في مرتبة متأخرة عن الخطاب بمضمونه ، فلا يمكن اخذ هذه المرتبة في

ص: 154

مضمون الخطاب المحفوظ في مرتبة نفسه كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فلو قلنا ان النسخ رفع للحكم الفعلي الثابت ، فلا بد من أن يراد به رفع ما هو مضمون الخطاب الصادر من المولى بماله من الفعلية المناسبة له المحفوظة في المرتبة السابقة عن مرحلة المحركية الخارجية التي هي من شؤن تطبيق العبد مضمون الخطاب على المورد ( وبعد ) تحقق الفعلية بهذا المعنى على المختار في الموقتات والمشروطات ، لا يحتاج في صحة النسخ الى حضور وقت العمل ووجود شرائط الحكم خارجاً ( ولازمه ) بطلان التفصيل السابق ، لتساوى جميع الفروض المتقدمة للعام والخاص في صحة التخصيص والنسخ ، لدوران الامر في الخاص المتقدم على العام بشقيه بين كونه مخصصاً للعام أو منسوخاً ، وفي الخاص المتأخر عن العام بكلا شقيه بين كونه مخصصا او ناسخا ( فلا بد ) حينئذ من وجود مرجح لترجيح احد الامرين على الآخر .

في توهم ترجيح التخصيص على النسخ لكثرته ودفعه

( وبعد ذلك ) نقول : انه قد يرجح التخصيص على النسخ لكثرته وشيوعه حتى قيل ما من عام الا وقد خص ( ولان ) النسخ تخصيص في الازمان وهو اقل مورداً من تخصيص الافراد فيجب تقديم التخصيص على النسخ عند الدوران ( وفيه ) اما الوجه الاول ، فيرد عليه اولا انه تفرض الكلام في اول زمان ورودها الذي لم يبلغ التخصيص بعد الى حد الكثرة ( فان الظاهر ) هو بنائهم قديما وحديثاً على تقديم التخصيص على النسخ عند الدوران بينها حتى في الخصوصات الواردة في بدو الشريعة ( ودعوى ) ان المقصود من كثرة التخصيص الموجب للحمل عليه عند الدوران انما هو بالنظر الى الاحكام العرفية ، لا بلحاظ الخطابات الشرعية ، كي ينتقض بفرض ورودها في بدو الشريعة ( مدفوعه ) بمنع اكثرية التخصيص من النسخ في الاحكام العرفية ( بل الامر ) فيها يكون بالعكس ، بلحاظ ما هو الغالب من خفاء الموانع والمزاحمات الواقعية على العرف والعقلاء حين تشريعهم الاحكام وعدم اطلاعهم عليها الا بعد ابتلائهم بها ( بل ان تأملت ) ترى رجوع اكثر التخصيصات الواردة في احكامهم الى النسخ ، كما هو المشاهد بالعيان والوجدان ( وعلى فرض ) تسليم اكثرية التخصيص من النسخ في احكامهم يمنع كون مجرد الاكثرية موجباً

ص: 155

لترجيح احتمال التخصيص ما لم تكن بمثابة توجب انس الذهن به ( واما الوج______ه الثاني ) ففيه مضافاً الى ما أوردناه على الوجه الاول ، انه يمنع كون النسخ تخصيصاً في الازمان الراجع الى التصرف الدلالي ( بشهادة ) صحة النسخ عقيب العموم الازماني ولو بزمان يسير بلا استبشاعه ( في مثل ) قوله اكرم زيدا في كل يوم اوكل زمان ، وقوله عقيب ذلك بزمان يسير نسخت هذا الحكم خصوصاً قبل حضور وقت العمل بالعام ( فانه ) لو كان النسخ تخصيصا في الازمان يلزم في نحو المثال التخصيص المستهجن بل القبيح لكونه من التخصيص المستوعب لجميع افراد الازمنة ( فصح_ة ) النسخ في نحو المثال اقوى شاهد على عدم ارتباط النسخ ب__اب التخصيص الذي هو من التصرف الدلالي ( بل التحقيق ) في النسخ كما بيناه في مبحث العام والخاص كونه من سنخ التصرفات الجهتية الراجعة إلى التصرف في جهة الحكم ، بعدم كونه مجعولا على مقتضى الجهات الموجودة في موضوعه المقتضية له ، لا الى التصرفات الدلالية الراجعة الى عدم كون الدلالة مطابقاً للمراد الجدي ( ففرق ) واضح حينئذ بين التخصيص والنسخ

فى بيان عدم كون النسخ تخصيصاً في الازمان

( فان ) في باب التخصيص يكون المراد الجدى من العام على خلاف مدلوله ، فيكون الخاص يتكفله للتصرف في الدلالة مبيناً لما هو المراد الجدى من العام ( بخلاف ) باب النسخ ، فان المراد الجدى فيه يكون على طبق مدلول العام بما هو عام ، غاية الامر لا تكون ارادة الجد بالمدلول لبيان الجد بالمراد الواقعي ، كما في التقية وبذلك يكون النسخ تصرفاً في الحكم المجعول في المورد ومبيناً لعدم كونه مجعولا على طبق الجد بالواقع على حسب المقتضيات الموج_______ودة في موضوعه ، من غير فرق بين ان يكون النسخ راجعاً الى اصل ثبوت الحكم ، اوالي دوامه واستمراره من بيان انتهاء أمده أو ابتلائه بالموانع والمزاحمات اوغير ذلك من الوجوه في التي تقتضي الحكمة تحميل شيء على المكلف لامتحان او غيره على خلاف الجهات الواقعية الموجودة من اظهار اصل ثبوت الحكم أو دوام______ه واستمراره مع علمه بانه ليس له في الواقع ثبوت ولا دوام واستمرار ، لوجود

ص: 156

الموانع والمزاحمات المهمة في نظره مع قيام المصلحة على اخفائها على المكلف الى غير ذلك من الوجوه التي يصحح بها النسخ الوارد في الاحكام الشرعية ، بلا ورود محذور جهل او تغيير ارادة في ساحة قدسه سبحانه تعال الله عن ذلك علواً كبيراً ( وكيف كان ) فقد يقال في ترجيح التخصيص على النسخ عند الدوران بوجوه اخر

فيما ذكره بعض الاعاظم فى وجه تقديم التخصيص على النسخ و بيان دفعه

( منها ) ما عن بعض الاعاظم قده من ان النسخ متوقف على ثبوت حكم العام لما تحت الخاص من الافراد من الأول ( ومقتضى ) حكومة اصالة الظهور في طرف الخاص على اصالة الظهور في العام هو عدم ثبوت حكم العام لافراد الخاص ، فيرتفع موضوع النسخ ( وفيه ) انه يتم ذلك بناء على ما سلكناه من انعقاد الظهور الاطلاقي للمطلق واستقراره بعدم البيان على التقييد متصلا بالكلام الذي وقع به التخاطب ( واما ) على مختاره من تعميم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة لمطلق البيان ولو منفصلا وتحكيم الظهور الوضعى على الظهور الاطلاقي حتى في المنفصلين : لا مجال لتحكيم اصالة الظهور في الخاص في المقام على اصالة العموم في العام بعد كون ظهور الاول في الدلالة على ثبوت مدلوله من الاول بمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة وظهور العام فيه بالوضع ( ومنها ) ترجيح التخصيص عليه بما يرجح التصرف الدلالي على التصرف الجهتي عند الدوران بين التخصيص والتقية ، من الجمع بين السندين مها امكن ( بتقريب ) ان الحمل على النسخ يوجب الغاء التعبد بسند المنسوخ رأساً ، لعدم انتهاء الامر في التعبد به الى اثر عملى لا بالنسبة الى الازمنة المتقدمة لخروجه من محل الابتلاء حتى باثره ، ولا بالنسبة الى الازمنة المتأخرة لفرض منسوخيته ( بخلاف ) الحمل على التخصيص فانه معه يبقى للعام مقدار من الدلالة يوجب الاخذ بسنده ( فعند الدوران ) بين النسخ والتخصيص ، يكون اصالة التعبد بسندهما مها امكن مرجحاً للتصرف الدلالي على التصرف الجهتي ( وفيه ) انه لو تم ذلك ، فأنما هو في الخاص المتقدم ، لما يلزم من فرض منسوخيته بالعام المتأخر طرح اصل مضمونه الموجب للغوية التعبد بسنده ايضا ( واما ) في الخاص المتأخر عن العام ( فلا مجال ) لهذا الكلام ( لبقاء )

ص: 157

العام على حاله فى بعض مدلوله بالنسبة الى بقية الافراد المندرجة تحته على تقديرى مخصصية الخاص وناسخيته ، بلا انتهاء الأمر فيه الى لغوية التعبد بسنده

وجه تقديم التخصيص على النسخ هو الاصل الجهتى المقدم رتبة على الاصل الدلالي

( ومنها ) ان تقديم التخصيص على النسخ انما هو من جهة اقتضاء الاصل الجهتي وتقدمه الرتبي على الاصل الدلالي ( وبتقريب ) ان اصالة الظهور انما تجري في الظهورات الصادرة لبيان الحكم الواقعي ، فيكون الاصل الجهتي كالاصل السندي منقح موضوع الاصل الدلالي وفي رتبة متقدمة عليه ، لكونه مثبتاً لصدور الظاهر لبيان الحكم الواقعي ، لا لتقية ونحوها ( ولازم ذلك ) هو جريانه في المرتبة السابقة على الاصل الدلالي بلا معارض في مرتبة جريانه ( وبعد ) جريانها لا بد من التخصيص والتصرف الدلالى فى العام ( من غير فرق ) بين ظهور الخاص على فرض المخصصية في ثبوت مدلوله من الاول، وبين عدم ظهوره في ذلك او ظهوره في ثبوت مدلوله من الحين ( وان كان ) على الاخير لا ثمرة عملية بين النسخ والتخصيص ، للعلم بحجية ظهور العام ومرجعيته على كل تقدير الى حين صدور الخاص ، ولزوم الاخذ بالخاص ورفع اليد عن عموم العام بعد صدور الخاص كذلك ( وفيه ) ان مجرد تقدم الطبعى لبعض هذه الاصول لا يقتضى الاناطة والشرطية بين بعضها وبعض الآخر في مقام الحجية ( لوضوح ) ان الانتهاء الى العمل شرط في التعبد بكل واحد من الأصول الثلاثة اعنى اصالة الصدور والجهة والظهور ( وبعد ) ان كان الانتهاء الى العمل منوطاً بسد الاحتمالات الثلاثة من احتمال عدم الصدور وعدم كون الصادر لبيان غير الحكم الواقعي ، وعدم مخالفة الظاهر لماهو المراد الواقعي ( فلا محالة ) يكون مجموع الاصول الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الاثر العملي يحيث بانتفاء بعضها ينتفى الاثر فينتفي التعبد عن البقية من غير ترتب في هذه المرحلة لبعضها على البعض الآخر بحيث يكون بعضها مأخوذاً في موضوع الآخر ( نعم ) هى متلازمات في مقام الحجية بحيث لا يكون بعضها حجة الا في ظرف حجية الآخر لاجل ان الاثر العملي لا يكون إلا في ظرف حجية الجميع ، نظير اجزاء المركب المأمور به في كونها متلازمات في مقام الاتصاف بالوجوب بلا اناطة

ص: 158

بعضها بوجود غيره ( ولازم ) ذلك عدم تقدم احد هذه الاصول الثلاثة الجارية في السند أو الجهة أو الدلالة على الآخر في مقام الجريان على وجه يكون جريان بعضها منقحا لموضوع الآخر وفي رتبة متقدمة على جريانه ( بل اللازم ) في مثله تزاحم الاصول الثلاثة عند العلم يمخالفة بعضها للواقع وسقوطها عن الاعتبار الافي الموارد التي يبقى مقدار من الظهور والدلالة القابلة للاخذ بها ، فيؤخذ حينئذ بالجميع بملاحظة العمل المترتب عليه بالنسبة الى هذا المقدار ، كما في موارد الجمع الدلالي العرفي ( وعلى ذلك ) فبعد عدم مرجح خارجي لتقديم التخصيص على النسخ ينتهى الامر الي الاصول العملية ( فاذا كان ) الخاص مقدماً على العام ، كان المرجع بعد تعارض اصالة الجهة في الخاص مع اصالة الظهور في العام وعدم مرجح لاحدهما ، هو استصحاب حكم الخاص المتقدم ( واما ) اذا كان الخاص متأخراً عن العام فان كان الخاص واردا قبل وقت العمل بالعام، فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخاً أو مخصصاً ( لان ) العمل على كل تقدير يكون على طبق الخاص المتأخر ( وان كان ) وارداً بعد العمل بالعام ، فان لم يكن له ظهور في ثبوت مدلوله من حين ورود العام ، فلا اشكال في ان المتبع هو اصالة العموم الى حين ورود الخاص، لجريان كل من الاصل الجهتي والدلالي في العام الى حين ورود الخاص ، وبعد ورود الخاص يكون المتبع هو الخاص على كل تقدير ( وان كان ) له ظهور في ثبوت مدلوله من الاول ، فبالنسبة الى الازمنة المتأخرة عن زمان ورود الخاص ، لا يترتب اثر عملى على كونه ناسخاً أو مخصصاً ، لان العمل على كل تقدير يكون على طبق الخاص دون العام ناسخاً كان أو مخصصاً ( واما بالاضافة ) الى الازمنة المتقدمة عن ورود الخاص ، فيدور الأمر في العام بين التصرف في ظهوره أو التصرف في جهته ( ولكن ) طرف المعارضة بدواً لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مدلوله من الاول لمنافاته مع قضية ظهور العام في العموم ، ( فلا جرم بعد تساقطهما یجري ) عليه حكم التخصيص اذا كان مف__اد الخاص نقيضاً لحكم العام ، وحكم النسخ اذا كان ضدآ له ( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو عدم ترتب اثر عملي على هذه الفروض بالنسبة الينا مع تأخر زماننا عن

ص: 159

زمان ورود العام والخاص لخروج ذلك كله عن محل ابتلائنا حتى بلحاظ آثارها ( فان الواجب علينا ) هو الاخذ بالخاص المتأخر والعمل على طبقه ناسخاً كان أو

مخصصاً ( نعم ) في الخاص المتقدم على العام يترتب ثمرة عملية مهمة على كونه مخصصاً أو منسوخاً ( ولكن ) عرفت ، ان المرجع فيه بعد سقوط الاصل الجهتي في الخاص بالمعارضة مع الاصل الدلالي في العام هو استصحاب حكم المخصص ( هذا كله ) اذا كان التعارض بين الدليلين لا اكثر .

في بيان صور التعارض بين اكثر من دليلين و بيان ما اذا ورد عام و خاصان متبائنان

( الامر الخامس ) اذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، ففيه صور كثيرة ( الصورة الاولى ) ما اذا ورد عام و خاصان متباثنان ، كما لو قام دليل على وجوب اكرام العلماء ، وقام دليل آخر على عدم وجوب اكرام الكوفيين من العلماء ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب اكرام البصريين من العلماء ( فان النسبة ) بين قوله اكرم العلماء ، وبين كل من قوله لا يجب اكرام الكوفيين ، وقوله لا يجب اكرام البصريين فى العموم المطلق ( وبالنسبة ) بين كل من الخاصين مع الآخر هي التباين ( ولا اشكال ) فى تخصيص العام بكل واحد من الخاصين اذا لم يلزم منه التخصيص المستهجن ، أو بقاء العام بلا مورد ( واما ) اذا لزم منه التخصيصا لاكثر المستهجن أو التخصيص المستغرق ( فلا بد ) في مثله من معاملة التعارض بين العام و مجموع الخاصين باعمال المرجحات السندية ( فان ) اخذ بالخاصين ترجيحا او تخييراً طرح العام ولا تعارض بينهما ( وان اخذ ) بالعام كذلك، فحيث ان المعارض للعام هو مجموع الخاصين دون الجميع ، يقع بين الخاصين تعارض بالعرض فيعامل معها معاملة المتعارضين ( فان كان ) لاحد الخاصين مزية على الآخر يؤخذ به ويخصص به العام ويطرح الآخر ( والا ) فيؤخذ باحدهما تخييراً ويخصص به العام ويطرح الآخر ( ثم ان ذلك ) اذا لم يكن بين الخاصين معارضة ذاتية كما في المثال ، والا فلا بد من اعمال الترجيح بينها اولا ، ثم تخصيص العام بالراجح منها ولا وجه حينئذ لاعمال الترجيح فى العام لانه فرع معارضة الخاصين معه ، فاذا كان الترجيح بمنها اقتضى قصر الحجية بذى المرجح منها يسقط الآخر عن صلاحية المعارضة

ص: 160

مع العام ولو بضميمة غيره ، فينحصر المعارض للعام بالخاص الراجح فيخصص به العام لا قوائية دلالته منه ( هذا ) اذا كان الخاصان متساوى الافراد بمعنى عدم اباء العام عن تخصيصه بكل واحد منها منفرداً ( واما ) اذا كان احد الخاصين اكثر افرادا من الآخر بحيث يأبى العام عن تخصيصه به بانفراده ( فلا شبهة ) في انه يخصص العام بالخاص الآخر الذي لا يلزم من التخصيص به محذور الاستهجان ، ويعامل مع ما يلزم منه المحذور معاملة التباين ، الا اذا فرض كون العام اصنافيالا افرادياً ، فلا بضر حينئذ كثرة افراده بتخصيص العام به كما هو ظاهر .

فى بيان ورود عام وخاصان بينهما العموم المطلق

( الصورة الثانية ) ما لوورد عام و خاصان بينها العموم المطلق ، كقوله اكرم العلماء ، وقوله لا تكرم النحويين منهم ، ولا تكرم الكوفيين من النحويين ( فان ) النسبة بين العام وبين كل واحد من الخاصين هى العموم المطلق ( والنسبة ) بين الخاصين أيضاً هي العموم المطلق ( و تحقيق ) الكلام في حكم هذا القسم هوالحكم في الخاصين ، اما ان أحرز كونه على نحو وحدة المطلوب ( واما ) ان احرز كونه على نحو تعدد المطلوب بان يكون اكرام مطلق النحوى مبغوضاً ، واكرام الكوفي من النحوى مبغوضاً آخر بنحو الاشد ( فعلى الاول ) يخصص العام باخص الخاصين ( لانه ) كما يخصص به العام ، يخصص به الخاص الاعم أيضاً حسب احراز وحدة المطلوب فيها ( ومع ) تخصيصه به يخرج عن الحجية فيما عدى مورد الاخص ، فلا يصلح للمعارضة مع العام كي تلاحظ النسبة بينه وبين العام فيخصص به ، بل العام يبقى على حجيته في ما عدى مورد الخاص الاخص وهو الكوفي النحوى من غير ان يزاحمه حجة اخرى ( وعلى الثاني ) وان يبقى المجال في بدو الامر لتخصيص العام بكل من الخاصين ( ولكن ) بعد خروج اخصها من حكم العام على كل تقدير اما مستقلا واما في ضمن الخاص الاعم ، ينقلب النسبة بين العام وبين الخاص الاعم الى العموم من وجه لان النحوى يعم النحوى و غيره ( فعلى القول ) بالانقلاب كما هو مسلك جماعة ، تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع وهو النحوى غير الكوفي ، حيث كان مقتضى العام وجوب

ص: 161

اكرامه ، وكان مقتضى الخاص الاعم حرمة اكرامه ( لا يقال ) انه لا وجه لتخصيص العام اولا باخص الخاصين ، ثم ملاحظة النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الاعم ( بل اللازم ) بعد تسوية نسبة العام الى كل من الخاصين هو تخصيص العام بكل منها دفعة ( فانه يقال ) ان تخصيص العام باخص الخاصين قهرى للعلم بعدم حجية العام بالنسبة اليه لخروجه عن تحته على كل تقدير ( وحينئذ ) فعلي القول لا محيص من لحاظ نسبة العموم من وجه بين العام وبين الخاص الا الاعم ، لا نسبة العموم المطلق بينها كما هو ظاهر ( نعم ) على المختار من عدم انقلاب النسبة في التخصيصات المنفصلة كما سيأتي تحقيقه انشاء الله تعالى يخصص العام بها جميعاً

فى ميزان استهجان التخصيص او قبحه

( وهذا ) اذا لم يلزم من تخصيص العام بكل من الخاصين التخصيص المستهجن أو المستوعب ( واما اذا لزم ) منه ذلك ، فحيث ان المحذور لا يكون الامن جهة عدم صلاحية الاعم من الخاصين لتخصيصه والا فصلاحيته لذلك ملازم لصلاحية الاخص ايضا لتخصيصه ( فلا محالة ) لا بد من تخصيصه بالخاص الاخص والرجوع الى المرجحات السندية بين العام والخاص الاعم كما اشرنا اليه آنفاً ( وبما ذكر نا ) انقدح عدم صحة ما عن بعض الاعاظم قده من الحاق حكم هذا القسم بالقسم الاول خصوصا على مختاره من انقلاب النسة ، فراجع كلامه قده ترى فيه مواقع للنظر .

( تبصرة ) اعلم ان العبرة في استهجان التخصيص أو قبحه انما هو على لغوية القاء العام الى المكلف مع التخصيص الكثير او المستوعب ( وهذا المحذور ) انما يتحقق اذا كان الخاص مستوعباً للعام بما له من الافراد الفعلية والفرضية ( والا ) فمجرد استیعا به لافراده الفعلية لا يوجب لغويته ، فاذا ورد دليل على وجوب اكرام العلماء ، ودليل آخر على حرمة اكرام فساقهم يخصص به العام المزبور وان كان مستوعباً لافراده الفعلية ( اذ يكفي ) في عدم لغوية العام ان يكون له افراد فرضية بعد التخصيص ( نعم ) انما يرد المحذور فيما اذا كان مفاد العام على وبينها كما لا يخفى. نحو القضية الخارجية، نظير قوله كل من في الدار هلك ، لا على نحو القضية

ص: 162

الحقيقية ( وعلى هذا ) الضابط يختلف الحال في ورود محذور التخصيص المستهجن والقبيح وعدم وروده باختلاف الموارد حسب كون مفاد العام وكذا الخاص على نحو القضية الحقيقية او الخارجية ( فكل مورد ) يكون مفاد العام والخاص على نحو القضية الخارجية يتحقق المحذور باستيعاب الخاص للافراد الفعلية الخارجية فيرجع الى المرجحات السندية بين العام والخاص ( وكل ) مورد يكون مفادها على نحو القضية الحقيقية الناظرة الى الافراد الفعلية والفرضية ، فلا يتحقق المحذور الا باستيعاب الخاص لجميع افراده الفعلية والفرضية ،اولا كثرها ، لا بصرف استيعابه للافراد الفعلية كما هو ظاهر ( الصورة الثالثة ) ما اذا ورد عام وخاصان تكون النسبة بينها العموم من وجه ، كما اذا قال اكرم العلماء ، ثم قال لا تكرم النحويين ، وقال ايضاً يستحب اكرام الصرفيين ( فان ) النسبة بين قوله اكرم العلماء وبين كل من قوله لا تكرم النحويين ويستحب اكرام الصرفيين هي العموم المطلق ، والنسبة بينها هي العموم من وجه ومجمع التصادق فيها هو النحوى الصرفي ( وحكمه ) انه يخصص العام بكل واحد من الخاصين امع الامكان حتى بالنسبة الى مجمع تصادق الخاصين ( ومع ) عدم امكان تخصيصه بها يرجع الى التفصيل الذي ذكرناه في الصورة الاولى ( لا يقال ) ان في مجمع تصادق الخاصين يسقط الخطابان عن الحجية بالمعارضة ، فلا وجه لتخصيص العام بها حتى في مجمع تصادقها ( بل لا بد ) حينئذ من ان يكون العام مرجعاً بالنسبة الى المجمع بعد تعارض الخطابين وتساقطها فيه عن الحجية ( فانه يقال ) ان سقوط الخطابين عن الحجية في المجمع انما هو بالنسبة الى مدلولها المطابق ( واما ) بالنسبة الى مدلولها الالتزامي في نفي الثالث فها على حجيتها ، ولازمه هو خروج المجمع عن تحت العام وكونه محكوماً بغير حكمه ، وسيأتي تنقيح البحث في ذلك انشاء الله تعالى .

فى ورود عامان بينهما العموم من وجه وخاص

( الصورة الرابعة ) ما اذا ورد عامان بينها العموم من وجه وخاص ، كما اذا قال أكرم النحويين ، ثم قال لا تكرم الصرفيين ، وقال ايضا يستحب أكرم النحوى غير الصرفى ( فتارة ) يكون مفاد الخاص اخراج مورد اقتران احد العامين كما في

ص: 163

المثال ( واخرى ) يكون مفاده اخراج مورد اجتماع العامين . كقوله يستحب اكرام الصرفي من النحويين ( فعلى الاول ) تنقلب النسبة بين العامين بعد التخصيص الى العموم المطلق ( لانه ) بخروج النحوى غير الصرفي يختص قوله لا تكرم النحويين بالنحويين من الصرفيين ، فتصير النسبة بينه وبين قوله لا تكرم الصرفيين هي العموم المطلق ( وعلى الثاني ) تنقلب النسبة بين العامين بعد اخراج مورد الاجتماع الى التباين ، لاختصاص قوله لا تكرم النحويين بما عدا الصرفيين ، وقوله لا تكرم الصرفيين بما عدا النحويين ، فتوجب هذا الانقلاب على القول به في مقام اخذ النسبة لنحو جمع بين العامين المزبورين .

فى ورود عامان متعارضان بالتبائن و بیان انقلاب النسبة

( الصورة الخامسة ) ما اذا ورد عامان متعارضان بالتباين ، كقوله اكرم العلماء ، وقوله لا تكرم العلماء ( فانه ) بملاحظة ورود دليل ثالث قد يقال بانقلاب النسبة بينها من التباين الى العموم المطلق تارة ، والى العموم من وجه اخرى ( فالاول ) ما لو كان مفاد دليل الثالث اخراج عدول العلماء ن قوله لا تكرم العلماء ، او اخراج فساق العلماء من قوله اكرم العلماء ( فانه ) تنقلب النسبة بذلك بين العامين الى العموم المطلق ( ومن ذلك ) الادلة الدالة بعضها على إرث الزوجة من العقار مطلقا و بعضها على عدم ارثها منها مطلقا، وبعضها على ارثها من المقار ان كانت ام ولد ( والثاني ) في الوورد دلیل رابع يوجب تخصيص قوله اكرم العلماء بالفقهاء منهم ( فانه ) بعد هذا التخصيص تنقلب النسبة بين قوله اكرم العلماء وبين قوله لا تكرم العلماء بعد تخصيصه بما عدى العدول الى العموم من وجه ( وهكذا ) الكلام في النسبة بين اكثر من دليلين ، كقوله اكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ويستحب اكرام الشعراء ( فان ) النسبة بين كل واحد من الادلة الثلاثة مع الآخر هى العموم من وجه ( وبعد ) ورود دليل رابع على اخراج مجمع التصادق فيها وهو العالم الفاسق الشاعر تنقلب النسبة بينها من العموم من وجه الى التباين ( وعلى ) اخراج مورد الافتراق عن احدى الادلة الثلاثة تنقلب النسبة بينه وبين الآخرين الي العموم المطلق ، وهكذا ( فانه ) قد يتوهم كون المدار في ملاحظة كون الا دلة متعارضة او

ص: 164

غير متعارضة على هذه النسبة المنقلبة بعد تخصيص بعض الادلة ببعضها لا على النسبة الأولية المتحققة بينها .

في تقريب وجه انقلاب النسبة بين الادلة

( وغاية ما قيل ) او يمكن ان يقال في تقريب الانقلاب ، وجهان ( احدهما ) ان التعارض انما يلاحظ بين الادلة بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الامرى ( ولا شبهة ) في ان العام المخصص بعد التخصيص يتضيق دائرة كشفه وحكايته عن الواقع ولا يبقى حيث كشفه على ما كان له قبل التخصيص ( لان ) دليل الخاص في مثل قوله لا تكرم الفساق من العلماء يكشف عن عدم كون عنوان العام في قوله اكرم العلماء تمام المراد وان المراد الجدي منه هو ما عدا الفساق فيوجب تضييق دائرة كشف العام عن المراد النفس الامري ( ومع ) تضيق دائرة كشفه وحكايته عن الواقع يلزمه انقلاب النسبة بينه وبين العام الآخر المقابل له من حيث كشفه الى العموم المطلق ( وثانيها ) ان ملاحظة النسبة بين المتعارضين لا بد ان تكون بين الحجتين بان يكون كل واحد من المتعارضين من حيث ذاته مع قطع النظر عن معارضه حجة فعلية تصح الركون اليه فى استفادة الحكم الشرعى والافتاء بمضمونه وحيث ان العام المخصص بالمتصل أو المنفصل لم يكن حجة فعلية في تمام مدلوله، وانما حجيته فيما عدا عنوان الخاص وهو المقدار الباقي تحته بعد التخصيص ( فلا محيص ) في مقام لحاظ النسبة من لحاظها بينه وبين العام الآخر في مقدار يكون حجة فعلية فيه لولا معارضه ، ولا يكون ذلك الا بعد تخصيصه بالخاص الوارد عليه ( وهذا ) معنى انقلاب النسبة بين الدليلين او الاكثر .

فى الجواب عن شبهة انقلاب النسبة

( اقول ) ولا يخفى ما فيه من الفساد ( اما الوجه الأول ) ففيه ان تعارض الادلة وان كان باعتبار كشفها عن المراد الواقعي بمعنى الدلالة التصديقية على المراد ، لا الدلالة التصورية ( ولكن ( المدار في الحجية في باب الالفاظ بعد ان كان على الكاشفية النوعية الحاصلة من القاء الظاهر في مقام الافادة والاستفادة ، لاعلى الكاشقية الفعلية المنافية مع الظن بالخلاف ( نقول ( انه مع انعقاد الظهور النوعي العمومي للعام الملقى في مقام الافادة والاستفادة وعدم انثلامه بقيام القرينة المنفصلة

ص: 165

على التخصيص ، لعدم اقتضاء الخاص المنفصل الاقصر حجية ظهور المدلول ورفع اليد عن البعض الآخر ( لا يبقى ) مجال دعوى انقلاب النسبة بين العام المخصص، بالمنفصل بعد التخصيص و بين العام أو الخاص الآخر المنفصل ( ولا فرق ) في ذلك بين ان يكون المتكلم من عادته افادة مرامه بكلامين منفصلين ، أو لم يكن كذلك ( فان ) مثل هذه العادة غير مغيرة للمكاشفية النوعية التي عليها مدار دلالة الالفاظ على المراد الجدي ، بل غاية ما تقتضيه هو عدم ترتب الاثر على ظهور كلام مثله قبل الفحص عن القرينة المنفصلة على خلاف ما يقتضيه ظهور كلامه ( ولذا ) لا يكون الظفر بالقرينة على التخصيص الارافعاً لحجية ظهوره لا كاشفاً عن عدم ظهوره من الاول ولا رافعاً لظهوره بعد انعقاده ( نعم ) لو قلنا ان القرائن المنفصلة كالمتصلة منها تكون كاسرة لاصل ظهور الكلام ودلالته على المراد ( أو قلنا ) ان مناط الحجية في الظهورات على الكاشفية الفعلية عن المراد الجدى ( لا تجه ) القول بانقلاب النسبة في الموارد المذكورة ، لارتفاع الظهور النوعي العمومي للعام على الاول ، وارتفاع كاشفيته الفعلية عن المراد الواقعى على الثاني بقيام القرينة المنفصلة على التخصيص ( ولكن ) المبنيين مع كونها سخيفان في نفسها لا يلتزم بها القائل بالا نقلاب ( ومن التأمل ) فيما ذكرنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني ( اذ نقول ) ان التعارض في الادلة وان كان بين الحجتين ، للزوم ان يكون كل من المتعارضين في نفسه مما يصح الركون اليه لولا المعارض ( ولكن ) الكلام في الظهور الذي هو موضوع الحجية وانه ليس ظهورا آخر وراء ما يقتضيه العام اولا من الظهور النوعي العمومي ( لما ذكرنا ) من ان نتيجة التخصيص بالمنفصل ليست الاقصر حجية ظهور العام ببعض مدلوله ورفع اليد عنه ببعضه الآخر ( ومن البديهى ) ان قصر حجيته ببعض مدلوله غير موجب لقلب دلالته النوعية على العموم ، ولا لاقوائية دلالته في مقدار حجيته ( لان ) ظهوره ودلالته في مقدار حجيته انما هو بعين ظهوره ودلالته على تمام مدلوله قوة وضعفاً لا بظهور آخر غيره ( وحينئذ ) فاذا كان هذا الظهور مساوياً او اضعف من ظهور غيره ، فكيف يقدم ظهوره في مقدار الحجية على ما كان مساوياً أو أقوى

ص: 166

ظهوراً منه بصرف اخصيته ( وتوهم ) ان الخاص اينما وجد يقدم على العام ولو كان ظهوره مساويا أو أضعف من ظهور العام ( مدفوع ) بانه على فرض تسليمه انما يتم في الخاص الحقيقي لا في الخاص الاعتبارى الناشيء من طرو حد اعتباري على بعض مدلول العام لاجل قصر الحجية عليه ( نعم ) لو كانت الاخصية حاصلة من قرينة متصلة بالعام لكان لتقديمه على غيره مجال ( ولكن ) أين ذلك والقرينة المنفصلة غير الكاسرة لظهوره في العموم كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فالتحقيق في جميع الموارد المذكورة هو ملاحظة النسبة الاولية الثابتة بين الدليلين أو أزيد ، من التباين أو العموم من وجه أو المطلق بفرض وجود المخصص من هذه الجهة كان لم يكن ثم العمل على ما تقتضيه النسبة الأولية من التعارض أو الترجيح .

فى بيان النسبة بين ادلة ضمان العاريه

تکملة

ينبغى تتميم البحث بالاشارة الى بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية ( فنقول ) ان الاخبار الواردة في هذا الباب على طوائف اربع

( الاولى ) ما يدل بعمومه أو اطلاقه على عدم ضمان العارية مطلقاً من غير تقييد بشيء ، كصحيحة الحلبي عن الصادق ( علیه السلام ) : ليس على مستعير عارية ضمان

وصاحب العارية والوديعة مؤتمن ، وقريب منها صحيحة بن مسلم عن الباقر ( علیه السلام ).

( الثانية ) بهذا المضمون الا انه استثنى مطلق الذهب والفضة ، كرواية اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله أو ابى ابراهيم عليها السلام : قال العارية ليس على مستعيرها ضمان الا ما كان من ذهب أو فضة فانها مضمومان اشترطا اولم يشترطا .

( الثالثة ) بهذا المضمون الا انه استثنى الدنانير ، كرواية عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله ( علیه السلام ) لا تضمن العارية الا أن يكون قد اشترط فيها الضمان الا الدنانير فانها مضمونة وان لم يشترط فيها ضماناً .

( الرابعة ) بهذا المضمون الا أنه استثنى الدراهم خاصة ، كرواية عبد الملك

ص: 167

عن أبي عبد الله ( علیه السلام ) قال ليس على صاحب العارية ضمان الا أن يشترط صاحبها الا الدراهم فأنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط ( فهذه ) طوائف أربع من الاخبار قد توافقت على عدم ضمان العارية فى غير جنس الذهب والفضة الا مع اشتراط الضمان فيها ( واما ) في جنس الذهب والفضة فقد اختلف فيها الاخبار المذكورة حيث ان مقتضى اطلاق صحيحة الحلبي هو عدم الضمان فيها أيضاً ، ومقتضى البقية هو ثبوت الضمان فيها ( كما ان ) بين الطائفة الثانية وبين الطائفة الثالثة والرابعة ايضا اختلاف في مطلق الذهب والفضة ( فان مقتضى ) الطائفة الثانية ثبوت الضمان فيهما ، ومقتضى الطائفة الثالثة والرابعة نفى الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة وبينها العموم من وجه ( وأيضا ) بين الطائفتين الاخيرتين اختلاف آخر في ضمان الدرهم والدينار من حيث اقتضاء العقد السلبي في كل منها ففي ما يثبته الآخر بالعقد الاثباتي ( فلا بد ) حينئذ من العلاج بالجمع بين هذه الاخبار

فى الجمع بين ادلة ضمان العاريه

( فنق______ول ) اما الطائفتان الاخيرتان فالجمع بينهما انما هو بتقييد اطلاق العقد السلبي في كل منها بالعقد الاثباتى في الآخر ، فتصير الننيجة هي عدم الضمان الا في عارية الدراهم والدنانير ( لان ) الروايتين حينئذ بمنزلة رواية واحدة نافية للضمان الا في عارية الدراهم والدنانير ( وبهاتين ) الطائفتين يخصص عموم نفي الضمان في العارية في صحيحة الحلبي ، فيصير نفي الضمان فيها مختصاً بما عدا الدراهم والدنانير ( فيبقى التعارض ) بينهما ، وبين رواية اسحق بن عمار في الذهب والفضة المسكوكين ( فان ) مقتضى رواية اسحاق بن عمار هو ثبوت الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة وان لم يكونا مسكوكين ، ومقتضى العقد السلبي في روايتي الدراهم والدنانير هو عدم الضمان فيما عدا الدرهم والدينار مطلقا ، وبينها العموم من وجه ، فيتعارضان في مجمع تصادقها ، وهو الذهب والفضة غير المسكوكين ، ويكون المرجع بعد تساقطها فيه ، عموم ما دل على نفي الضمان كصحيحة الحلبي المتقدمة من قوله ( علیه السلام ) ليس على مستعير عارية ضمان وصاحب العارية والوديعة مؤتمن ( وقد يتوهم ) بان النسبة بين عموم ما دل على نفى الضمان ، وبين ما دل على ثبوت الضمان في مطلق الذهب والفضة بعد

ص: 168

ما كانت على نحو العموم المطلق وجب تخصيص الاول بالثاني كتخصيصه بما دل على ثبوت الضمان في عارية الدراهم والدنانير ، لما تقدم من انه اذا ورد عام وخاصان بينها العموم المطلق وجب تخصيصه بكل من الخاصين ولو كانت النسبة بين الخاصين هي العموم المطلق ( ولكنه ) مدفوع بان عدم تخصيصه به انما هو من جهة عدم حجيته لا بتلائه بالمعارضة مع ما دل على نفي الضمان فيما عدا الدراهم والدنانير ( إذ حينئذ ) يبقى عموم ما دل على نفي الضمان في العارية بالنسبة الى الذهب والفضة غير المسكوكين على حاله ، فيكون مرجعاً في مجمع التصادق عند تصادم الظهورين وتساقطها في المجمع ( هذا ) على ما اخترناه من عدم انقلاب النسبة بين الدليلين بعد تخصيص أحدهما بدليل ثالث ( واما على القول ) بالانقلاب تكون النتيجة أيضاً هي عدم الضمان في عارية غير المسكوك من الذهب والفضة ( لانه ) بتخصيص عموم نفي الضمان في العارية في صحيحة الحلبي بما دل على الضمان في الدرهم والدنانير ، تنقلب النسبة بين العام المزبور وبين ما دل على ثبوت الضمان في مطلق الذهب والفضة الى العموم من وجه وبعد تعارضها في مجمع التصادق وهو الذهب والفضة غير المسكوكين ، يكون المرجع اصالة البرائة عن الضمان في حلى غير المسكوك من الذهب والفضة ، فتكون النتيجة على المسلكين هي عدم الضمان ( غير ان ) عدم الضمان على المختار يكون من جهة الاصل اللفظى وهو عموم نفي الضمان ( وعلى مسلك ) انقلاب النسبة من جهة الاصل العملي ( ثم ان ) ما ذكرناه من مرجعية عموم نفى الضمان في عارية الذهب والفضة غير المسكوكين ، أو مرجعية اصالة البرائة على ! الآخر مبنى على تصادم كلا الاطلاقين وتساقطها ( والا ) فيمكن ترجيح تقييد اطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منها على تقييد اطلاق العقد السلبي في روايتي الحصر في الدرهم والدينار لاظهرية الثاني في العموم بملاحظة الاستثناء الوارد فيه من الاول في اطلاقه لمطلق الذهب والفضة ( واما ) توهم بعد تقييد اطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منها لكونه من التقييد بالفرد النادر المستهجن عرفاً ( لان ) الغالب في عارية الذهب

ص: 169

والفضة هو عارية الحلي غير المسكوك ، لانه هو الذي يستعار للزينة ، فيكون حمل اطلاق رواية ضمان عارية الذهب والفضة على المسكوك منها حملا له على الفرد النادر ( فمدفوع ) اولا بمنع ندرة عارية المسكوك من الذهب والفضة خصوصاً مع كثرة الحلي المتخذ منها ( وثانيا ) ان حمل المطلق على الفرد النادر انما يستهجن اذا لم يكن المتكلم متكفلا لبيان الفرد النادر ، والا فلا استهجان فيه ، وبعد تكفل روايتي الدرهم والدينار لبيان حصر الضمان في العارية بخصوص المسكوك من الذهب والفضة ابن يبقى المجال للتوهم المزبور ( ولا اقل ) من تصادم الاطلاقين فى المجمع وعدم ترجيح احدهما على الآخر ، فيكون المرجع فيه عمومات نفي الضمان في مطلق العارية التي لم يتصل بها استثناء الدراهم والدنانير ( هذا كله ) اذا كان لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي الجمع العرفي بينها ( واما ) اذا لم يكن لا حدها مزية تقتضي ذلك بان كانا متكافئين في الدلالة ( ففيه ) يقع الكلام في مقامين ( الاول ) في حكم المتعارضين بالنظر الى ما يقتضيه الاصل الاولى في المتعارضين بلحاظ عموم دليل الحجية من انه هو التساقط وفرضها كان لم يكونا او هو التخيير ( الثانى ) فى بيان حكمها بالنظر الى ما يستفاد من الاخبار العلاجية من الترجيح او التخيير .

في تأسيس الاصل فى المتعارضين من التساقط او التخيير

اما المقام الاول

فالبحث فيه يقع ( تارة ) على الطريقية في الامارات ( واخرى ) على السببية والموضوعية فيها ( فيقول ) ان تحقيق الكلام في المقام ، هو أن يقال ان التنافي بين الخبرين او ازيد ( اما ان يكون ) من جهة العلم الاجمالي بكذب احد الخبرين مضموناً للواقع ، لتناقضها او تضادها اما ذاتاً او غرضاً ، كما في مثال وجوب صلاة الظهر ووجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة ،مع احتمال صدور الخبرين معاً عن الامام ( علیه السلام ) ( واما ان يكون ) التنافى بينها من جهة العلم بعدم صدور كلا الخبرين

ص: 170

من الامام ( علیه السلام ) ولولاشتباه احد الراويين في حكاية صدور مضمون الخبر عن الامام ( علیه السلام ) ، مع احتمال مطابقة كلا المضمونين للواقع بعكس الفرض الاول ( فانه ) لاجل العلم الاجمالى المزبور يقع التنافي بين الخبرين بلحاظ صدورهما عن الامام ( علیه السلام ) لا بلحاظ مضمونها الاحتمال مطابقتها للواقع ( ولا يخفى ) ان مورد الكلام الذي انعقد هذا البحث لاجله من الحكم بالجمع أو الترجيح أو التخيير انما ه____و في خصوص الفرض الاول ( واما ) الفرض الثانى فهو خارج عن مصب هذه الاحكام ، فلا تجرى فيه الجمع العرفي بين الاظهر والظاهر ولا الترجيح والتخيير ( لان ) ذلك كله فرع تنافي الخبرين بمضمونها للواقع ( بل الحكم ( فيه عند كون الخبرين نصين في المؤدى هو وجوب الاخذ بسند كل منها والعمل علي طبقه لعدم مخالفة عملية من اعمال كل من التعبد بن فيها ( و مجرد ) العلم الاجمالي بعدم صدور احد الخبر بن عن الامام ( ع )، لا يضر بالاخذ بالامر الطريقي في كل منها بعد عدم سراية العلم الاجمالي من متعلقة الذي هو العنوان الاجمالى الى الخارج، وكون كل من الخبرين بعنوانه التفصيلي محتمل الصدور ( اذ في مثله ) لا قصور في شمول دليل السند لكل منها بعنوانه التفصيلي و تتميم كشفه ( كما ان ) عدم شمول الامر الطريقي لما هو معلوم الكذب بنحو الاجمال ، لا يمنع عن شموله لكل منها بعد كون كل منها محتمل الصدق بعنوانه الخاص وقابليته لتتميم كشفه ( وحكمة ) الأوامر الطرقية التي هي غلبة الايصال ايضا غير مانعة عن شمولها لمثل الفرض ( وتوهم ) ان المدلول الالتزامي في التعبد بكل من السندين لما كان نافياً لصدور الآخر بمقتضى العلم الاجمالى ، امتنع دخولهما معاً تحت دليل الحجية لاد ائله الى التناقض ، ودخول احدها بعينه تحته دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، فلابد من الحكم بخروجها معاً عن تحت دليل السند ( مدفوع ) بانه كذلك اذا كان الخبران متناقضى المضمون ( واما ) اذا لم يكونا متناقضى المضمون ، فلا اثر لمدلولها الالتزامى خصوصاً بعد كون الخبرين نصين في المؤدى ( اذ لا اثر ) حينئذ لمجرد عدم صدور الخبر عن الامام ( علیه السلام ) كى يترتب ذلك على ما يقتضيه المدلول الالتزامي فيها ( وانما ) الاثر العملى على مطابقة مضمون

ص: 171

الخبر للواقع ، وعدم مطابقته ( وبعد ) عدم اقتضاء المدلول الالتزامى فيها نفي مطابقة مضمونها للواقع ، لعدم التلازم بين عدم صدور الخبر عن الامام واقعا ، و بين عدم مطابقة مضمونه للواقع ، فلا محالة يسقط المدلول الالتزامي في الطرفين عن الحجية ويكون وجوده كعدمه ( فيصير ) حال الخيرين من هذه الجهة حال الاستصحابين الجاريين في طرفي العلم الاجمالى مع عدم استلزام جريانها للمخالفة العملية ( اذ لا فرق ) بين اوامر الطرق ، وبين نهى لا تنقض من حيث كونها امرين طريقيين ( ومجرد ) اختلافها في كيفية اللسان من حيث التعرض لتتميم الكشف في اوامر الطرق وعدم التعرض له في نهى لا تنقض لا يوجب فرقا بينها من هذه الجهة ( بل الأمر ) في المقام ( اوهن ) لان فيه لا علم بمخالفة احد المضونين للواقع ، بخلاف الاستصحا بين الجاريين في طرفي العلم .

( وبما ذكرنا ) ظهر انه يمكن الالتزام بشمول دليل التعبد للامارتين المعلوم كذب احدهما مضمونا للواقع في فرض عدم حجية مدلولها الالتزامي ( كما لعله ) من هذا الباب حجية الاقرار ، فيمالو أقر بعين لواحد ثم أقر بكونها للآخر ، فأنه يحكم باعطاء العين للاول ، وباعطاء القيمة للثانى مع فرض العلم بمخالفة احد الاقرارين للواقع ( اذ بعد ) عدم حجية المدلول الالتزامي في الاقرارين من نفي استحقاق الغير للعين ، لكونه من الاقرار على الغير غير المسموع منه ( وعدم ) استلزامها المخالفة العملية الموجبة لطرح تكليف ملزم في البين لا من الحاكم ولا المقر له لكونه من العلم الاجمالي بالتكليف بين الشخصين ( فلا جرم ) يؤخذ بكل من الاقرارين بمقتضى التعبد بها بلا ورود محذور في شمول دليل التعبد لهما فيحكم الحاكم على طبق كلا المضمونين حتى على القول بطريقية الاقرار لا موضوعيته كما توهمه بعض ( كما انه بما ذكرناه ) من شمول دليل التعبد بالسند لكل من الخبرين يظهر الحال فيما اذا لا يمكن العمل بمضمون كل واحد منها من جهة العجز عن الجمع بينها ( فانه ) يصار الى التخيير في العمل بكل واحد منها برفع اليد عن اطلاق المنع عن جميع انحاء الترك في كل منها بقصره على بعضها الراجع الى جواز ترك كل

ص: 172

منهما في ظرف الاتيان بالآخر ، وعدم جوازه في ظرف ترك الآخر كما هو الشأن في كل واجب تخييرى على ما حققناه في محله ( هذا کله ) اذا كان الخبران نصين في المؤدى ( واما ) اذا كانا غير نصين في المؤدى بحيث يحتاج في ترتيب الاثر على التعبد بسندهما الى تعبد آخر بالمؤدى ( ففيه ) يسقط الخبران عن الحجية ولكن لا بمناط تصادم الظهورين ( بل من جهة ) اقتضا التعبد بكل واحد من السندين بالالتزام نفي صدور الآخر الملازم شرعاً لنفي التعبد بدلالته ايضا ( لوضوح ) ان التعبد بدلالة كل خير فرع صدوره عن الامام ( علیه السلام ) ، ومع اقتضاء المدلول الالتزامي للتعبد بكل من السندين طرح موضوع التعبد بالدلالة في الآخر ، فلا يعمها التعبد بالدلالة ( ولازمه ) عدم شمول التعبد بالسند لها ايضا لصيرورتها حينئذ في عدم الانتهاء الى الاثر العملي بمنزلة المجمل الذى لا ظهور فيه فلا يشملها دليل التعبد بالسند ، للغوية التعبد بسند ما لا يكون له ظاهر متعبد به ( ولا فرق ) في ذلك بين ان يكونا متعادلين في الدلالة ، وبين ان يكون احدهما اقوى من الآخر ( فان جهة ( الاقوالية في الدلالة غير مثمرة في هذا الفرض ( ولذا ) قلنا يخروج هذا الفرض عن موضوع الجمع العرفي بين الدلالتين ( لان ) المدار فيه انما هو في الكلامين الصادرين من متكلم واحد أو المتكلمين هما بمنزلة متكلم واحد كالاخبار الصادرة من المعصومين ( علیه السلام ) ( ومثله ) مما يقطع بعدمه في مفروض البحث ( لانه ) على تقدير كون الصادر هو الظاهر فلا وجود الاظهر حتى يقتضي التصرف في ظهوره ( وعلى تقدير ) كونه هو الاظهر فلا وجود للظاهر حتى يتصرف فيه ( وهذا ) بخلاف ما لو كان الخبران نصين في المؤدى ( اذ في مثله ) لما لا يحتاج في الانتهاء الى الاثر العملي الى التعبد بالدلالة الفرض كونها نصين في المؤدى ، فلا محالة يعمها الدليل التعبد بالسند فيؤخذ بكل واحد من الخبرين ويعمل على طبقها بلا اقتضاء المدلول الالتزامى فيها شيئاً ( وبذلك ) يظهر الحال فيما لو كان احد الخيرين نصاً في المؤدى والآخر ظاهراً فيه ( فانه ) يؤخذ بالنص منها ويطرح الآخر الظاهر ( هذا كله ) اذا كان التنافي بين الخبرين لاجل

ص: 173

العلم بعدم صدور احدهما من الامام ( علیه السلام ) واقعاً .

فى التنافى بين المتعارضين لاجل التنافي بين مدلوليهما

( واما اذا كان ) التنافي بينهما لاجل التنافي بين مدلوليهما اما على وجه التناقض او التضاد ذاتاً أو عرضاً ( فالبحث فيه ) تارة يكون على القول بالطريقية والكاشفية في الامارات ، واخرى على السببية والموضوعية فيها ( فنقول ) اما على الطريقية ، فلا ينبغى الارتياب في ان مقتضي الاصل في المتعارضين هو سقوطها عن الحجية ( وذلك ) لا لما توهم من مانعية العلم الاجمالى ، لما تكرر منا غير مرة من عدم ما نعية مجرد العلم الاجمالي عن شمول دليل الحجية لكل واحد من المتعارضين الا على مبنى سخيف وهو سراية العلم الى الخارج ( بل ) من جهة ان الدليلين المتعارضين لما كان كل واحد منها دالا على نفى الآخر اما بالمطابقة لو كانا متناقضى المصمون بالايجاب والسلب ، أو بالالتزام لو كانا متضادى المضمون كالوجوب والحرمة ، وكان اطلاق دليل حجيتيها في المدلول المطابقى والالتزامي في عرض واحد ( يمتنع ) دخولهما تحت دليل الحجية ، لا داء التعبد بسند كل واحد منها ما لها من المضمون مطابقة والتزاما الى التعبد بالنقيضين، وهو من المستحيل حتى فيما كان التعارض بينها عرضياً ، كوجوب صلاة الظهر ووجوب صلاة الجمعة ( واما دخول ) أحدهما بعينه تحت دليل التعبد دون الآخر ، فهو ايضا ممتنع لكونه ترجيحاً بلا مرجح ( فلا بد ) من سقوطها معاً عن الحجية ( لا يقال ) انه كذلك اذا كانا نصين في المؤدى ( واما ) اذا كانا ظاهرين فيه فلا محذور في الاخذ بالمتعارضين بمقتضى عموم دليل التعبد بالصدور ثم الجمع بينها مع عدم امكان العمل بها ولو بضرب من التأويل كما في مقطوعى الصدور ( فانه يقال ) اولا منع وجوب التأويل في مقطوعى الصدور بنحو يستخرج مراد المتكلم منها ولو ببعض المحامل البعيدة التي لا يساعد عليها العرف وطريقة المحاورة فضلا عن مظنوني الصدور ( لان ) القطع بالصدور لا يقتضى التأويل حتى يجب ذلك في مظنونه ( بل اللازم ) في مثله ، هو الحكم باجمال المراد والتوقف محضاً ( وعلى فرض ) وجوب التأويل في مقطوعى الصدور ، فأنما هو لاجل ان القطع بالصدور قرينة على عدم ارادة المتكلم ظاهر كل واحد منها

ص: 174

( وفي المقام ) لا ملزم للاخذ بسند المتعارضين حتى يلتجىء الى التصرف في ظاهرهما بضرب من التأويل ( فلا محيص ) حينئذ من القول بتساقطها ، لعدم امكان دخولها معا تحت دليل الحجية ، ولا دخول احدهما المعين لعدم المرجح .

( واما توهم ) التخيير في الاخذ بها بدعوى شمول عموم دليل الحجية للواحد منها بلا عنوان القابل للانطباق على كل واحد ولو بتوسيط اختيار المكلف ، كما لو ورد من الاول التعبد باحدهما المخير نظير التخيير في خصال الكفارة ( فمدفوع ) بان الوجوب التخييري غير متصور في مثل المقام المنتهى الى التعبد بالنقيضين ولو باعتبار المدلول المطابقي والالتزامي ( لان ) مرجع الوجوب التخييرى أنما هو إلى الأمر بكل واحد من الامرين في ظرف عدم وجود بديله، وهذا انما يتصور اذا لم يكونا ما نعتي الخلو بحيث أمكن اعمال المولوية بالنهي عن ترك مجموع الامرين ، لا في مثل النقيضين أو الضدين لا ثالث لهما مما يكون وجود الشيء في فرض عدم ضده أو نقيضه حاصلا قهراً ( نعم ) لو كان مفاد دليل التعبد وجوب الالتزام بمؤدى احد الخبرين ولو مقدمة للعمل ( لا مكن ) تصوير الوجوب التخييري في مفاد دلي_ل التعبد ، وامكن ايضا استفادته من قضية اطلاق دليل التعبد بها برفع اليد عن اطلاق كل من التعبدين في صورة الاخذ بالآخر ( ولكن ) المبنى فاسد جداً ( لوضوح ) ان متعلق وجوب التعبد في الامارات والاصول انما يكون هو العمل محضاً ، ولا يجب الموافقة الالتزامية حتى في مورد الامارات غير المتعارضة ( ومعه ) لا يتصور الوجوب التخييري بعد انتهاء الأمر في التعبد بالمتعارضين بمدلولها المطابقى والالتزامي الى النقيضين او الضدين لا ثالث لهما من وجوب الشيء وعدم وجوبه او حرمته ( هذا كله ) بالنسبة الى خصوص مؤدى الخبرين .

( واما بالنسبة ) الى نفي الحكم الثالث بمقتضى مدلولها الالتزامي ( فلا اشكال ) في عدم سقوطها في الجملة عن الحجية ( وانما الكلام ) في ان نفي الثالث هل يكون بها معاً ( او انه يكون ) باحدهما غير المعين ، حيث ان فيه خلاف ، منشئه الخلاف

ص: 175

المتقدم في سراية العلم الى الخارج وما نعيته عن صلاحية دليل التعبد للشمول لكل من المتعارضين ( فعلى المختار ) من عدم منع مجرد العلم الاجمالي بالخلاف عن شمول دليل التعبد لاطرافه بعناوينها التفصيلية المشكوكة كما مر مراراً ( فلا شبهة ) في ان لا زمه هو القول باشتراكها في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية ( لعدم ) مانع حينئذ من الاخذ بمدلولها الالتزامي بالنسبة الى مالا يلزم منه مخالفة عملية للمعلوم بالاجمال واما على القول بما نعيته العلم الاجمالي ذاتاً عن شمول دليل التعبد لكل من المتعارضين، بما لمنافات التعبد بها معامع العلم بكذب احدهما بنحو الاجمال ( فلازمه ) هو خرج معلوم الكذب منها بنحو الاجمال من تحت دليل التعبدر أساً بماله من المدلول المطابقي والالتزامي ، فلايكون الباقي تحته الاغيره المشكوك اجتمالا بلا تعيين ولا عنوان ( ولازمه ) هو تخصيص نفي الثالث باحدهما بلا تعيين لا بها معاً

فى حجيّة المتعارضين فى نفى الحكم الثالث

( ولا مجال ) في مثله لما عن بعض من توهم لزوم استناد نفي الثالث اليها معاً ، بدعوى ان الدلالة الزامية فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية ، فلا يلزم من سقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى سقوطها عن الحجية في نفي الثالث ( لان ) سقوطها في المؤدى انما هو لاجل التعارض ولا تعارض بينها في نفى الثالث ( اذ فيه ) ان ذلك انما يتم في فرض عدم مانعية العلم الاجمالى ذاتاً عن شمول دليل الحجية لكل من المتعارضين ، فأنه بعد وجود مقتضى الحجية في كل من المتعارضين يقتصر في رفع اليد عنها على مقدار المانع وهو تعارضها في خصوص المؤدى ، فيؤخذ بها بالنسبة الى نفي الثالث الذي لا تعارض بينها ( والا ) فعلى مسلك مانعية العلم الاجمالي ذاتاً فلا يدخل معلوم الكذب بنحو الاجمال من الاول تحت دليل التعبد حتى يفكك بين مدلوله المطابقي والالتزامي ، ولا يبقى تحته الا غيره بنحو الاجمال بلا تعيين ( ولذلك ) يكون التعارض بينهما في المؤدى من باب اشتباه الحجة بغير الحجة لا من باب تعارض الحجتين ( ومعه ) كيف يمكن دعوى اشتراكها في نفي الثالث مع البناء على هذا المسلك في الاصول التنزيلية ( ومن العجب ) شدة انكاره على المحقق الخراساني قده في مصيره الى استناد نفي الثالث الى احدهما لا اليهما معاً ( مع ان )

ص: 176

ما افاده قده على مبناه من خروج معلوم الكذب بالاجمال بلا تعيين ولا عنوان عن تحت دليل الحجية ، وبقاء الآخر كذلك تحته في غاية المتانة ( نعم ) يرد عليه قده بمنافات ما افاده في المقام لما اختاره في الاستصحابين المثبتين من عدم اضرار العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما بجريانه في طرفي العلم ( اذ لا فرق ) في ما نعية العلم الاجمالى وعدم ما نعيته بين الاصول و بين الامارات ( هذا كله ) على القول بحجية الامارات من باب الطريقية .

فى تأسيس الاصل على الموضوعية فى الامارات و بيان الموضوعية فيها تطلق على معان

( واما على القول ) بحجيتها من باب السببية والموضوعية ( فالمصرح ) به في كلام الشيخ قده هو ان الاصل في المتعارضين هو التخيير ( وتحقيق القول ) فيه هو ان السببية في الامارات تطلق على معان ( أحدها ) انحصار المصالح في حق الجاهل بالاحكام مؤديات الامارات ، بلا مصلحة اخرى في البين تقتضى وجوب شيء عليه واقعاً مع قطع النظر عن قيام الامارة ، وهذا هو التصويب الباطل الذى اتفق النقل والعقل على بطلانه واستحالته ( وثانيها ) ما ينسب الى المعتزلة من أن قيام الامارة على وجوب شيء أو حرمته سبب لحدوث مصلحة او مفسدة في المؤدى غالبة على المصلحة او المفسدة الواقعية المقتضية لوجوب الشيء أو حرمته ( وهذا ) أيضا من التصويب الذي قام الاجماع على بطلانه ، لرجوعه الى نفي الحكم الواقعى الفعلى في موارد قيام الامارة على الخلاف ( وثالثها ) اقتضاء الامارة بقيامها على وجوب شيء أو حرمته لحدوث مصلحة او مفسدة في المؤدى تقتضي وجوبه أو حرمته ظاهرا في المرتبة المتأخرة عن الشك بالحكم الواقعى مع بقاء الحكم الواقعي الناشيء عن المصلحة الواقعية القائمة بذات العمل في المرتبة السابقة على الشك على حاله من الفعلية بلا مضادة بينها ، ففي العمل الذي قامت الامارة على وجوبه اجتمع حكمان فعليان في مرتبتين أحدهما الحكم الواقعي المحفوظ بفعليته في مرتبة ذاته (والآخر ) الحكم الظاهري الحادث بسبب قيام الامارة في المرتبة المتأخرة عن الشك بالحكم الواقعي بلا مضادة بينها ( ولا يخفى ) ان الموضوعية بهذا المعنى امر ممكن في نفسه ولم يتم ايضاً اجماع على بطلانه لبقاء الحكم الواقعى على فعليته بالنسبة الى العالم والجاهل بلا

ص: 177

تغيير فيه ولا تبدل بقيام الامارة على خلافه ، ولا لزوم محذور اجتماع الضدين او المثلين كما أوضحناء في الجزء الثالث من الكتاب في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهرى ( رابعها ) ما ينسب الي بعض الامامية من ان قيام الامارة علي وجوب شيء لا يكون من العناوين المغيرة للمصالح والمفاسد الواقعية ، ولا يكون محدثاً لمصلحة في المؤدى تقتضى وجوبه ظاهرا ( الا ان ) في سلوك الامارة والتطرق بها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند عدم اصابة الامارة للواقع ( وهذا ) ايضاً أمر ممكن في نفسه ولم يقم اجماع على بطلانه لكونه ملائما مع مذهب المخطئة ( وبعد ما عرفت ) ذلك فاعلم ان مورد البحث في المقام انما هو على السببية بالمعنيين الاخيرين الملائمين للتخطئة .

في حكم المتعارضين على السببية

( فنقول ) اما على السببية بالمعنى الاول الموجب لقيام المصلحه بالمؤدى عند الشك ( فملخص ) الكلام فيه هو ان تعارض الامارتين تارة يكون لاجل تضاد المتعلقين ، كما اذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب شيء وكان مفاد الآخر وجوب ضده ( واخرى ) يكون لاجل اتحاد المتعلقين ( وعلى الثانى ) فتارة يكون تعارضها بنحو الايجاب والسلب ، كما اذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب شيء كالدعاء عند رؤية الهلال ، وكان مفاد الآخر عدم وجوبه عنده ( واخرى ) يكون على وجه التضاد ، كما اذا كان مفاد أحدهما وجوب شيء وكان مفاد الآخر حرمته ( وعلى الاول ) تارة تكون للامارة النافية للوجوب اقتضاء المصلحة في الترخيص في المؤدى ، نظير الاباحات الاقتضائية ( واخرى ) اقتضاء عدم المصلحة فيه ( واما ) حكم هذه الاقسام ( في القسم ) الاول الذي كان التعارض بين الامارتين لاجل تضاد المتعلقين ( فلا شبهة ) في كونه من باب تزاحم الحكمين في مرحلة الامتثال وحكمه انه مع تساويها في الاهتمام هو التخيير عقلا بين الامتثالين بتقييد اطلاق الوجوب التعييني في كل من الحكمين فى مقام صرف القدرة على الامتثال بصورة عدم الاتيان بالآخر المنتج لعدم جواز تركها معاً ( واما ) في القسم الثاني الذي كان التعارض بينها لاجل وحدة الموضوع والمتعلق فيها ( فلا شبهة ) أيضا

ص: 178

في اندراجهما في تزاحم المقتضيين في أصل تشريع الحكم الفعلي على طبقها ، لا في عالم الوجود والتحقق كما في الفرض الاول ( وحكمه ) انه مع وجود مزية لاحدهما على الآخر توجب اقواثيته يكون التأثير الفعلى في تشريع الحكم الفعلى لذي المزية منها دون الآخر ( ومع ) تساويها في الاقتضاء قوة وضعفاً لا تأثير لواحد منها في تشريع الحكم الفعلى على طبقه ، وتكون النتيجة بعد سقوطها عن التأثير الفعلى في الاباحة والتخيير بمعنى اللاحرجية في الفعل والترك ، لا الحكم التخييرى ولو عقليا لوضوح ان الحكم التخييري شرعياً أو عقلياً غير متصور بين النفي والاثبات ، وانما المعقول في مثله هو التخيير العملى محضاً بمقتضى اللاحرجية العقلية في الفعل والترك ( وحينئذ ) فما يظهر من الشيخ قده من ان مقتضى الاصل على السببية في تعارض الامارتين هو التخيير بينها منظور فيه، الا ان يكون المقصود التخيير الناشيء من تقييد اطلاق التعبد بكل واحد منها بصورة الاخذ به الراجع في الحقيقة الي التخيير في المسئلة الأصولية ( ثم لا فرق ) فيما ذكرنا بين أن يكون الاختلاف بين الامارتين على وجه التضاد ، كالوجوب والحرمة او في الايجاب والسلب كالوجوب واللاوجوب ( بل ولا ) في الثانى بين أن يكون للامارة النافية للوجوب اقتضاء المصلحة في الترخيص، كالاباحات الاقتضائية ، او اقتضاء عدم المصلحة في المتعلق في قبال الامارة المثبتة لها فيه ( فانه ) على جميع هذه الفروض يندرج باب تعارض الامارتين على السببية ووحدة المتعلق ، في كبرى تزاحمين المقتضيين في مرحلة التأثير في تشريع الحكم الفعلى على طبقها ( وقد عرفت ) انه مع وجود المزية لاحدهما على الآخر يكون التأثير الفعلي لذى المزية منها دون الآخر ( ومع ) تساويها في الملاك لا تأثير لواحد منها ، وتكون النتيجة هى الاباحة اللا اقتضائية والتخيير العملى في الفعل والترك لا الحكم التخييرى ، حتى فيما كان التزاحم بين الامارتين من حيث اقتضاء المصلحة واقتضاء عدمها ( وتوهم ) ان المتيقن حينئذ هو العمل على طبق الامارة القائمة على الوجوب فانه يكفي في وجوبه اقتضاء الوجوب فيه بعنوان قيام خبر العادل على وجوبه بلا منافاته مع الامارة النافية للوجوب لا في مقام العمل لكون

ص: 179

العمل به عملا أيضا على طبق الامارة النافية للوجوب من حيث كونه اختيار اللفعل ( اذ لم يكن ) مفادها الا جواز الترك لا وجوبها ( ولا ) في مرحلة الحكم الشرعى ، لعدم التنافي بين ان يكون في الشيء اقتضاء الوجوب ببعض العناوين ولم يكن فيه هذا الاقضاء ببعض العناوين الاخر ( فمدفوع ) بانه كذلك لولا اقتضاء الامارة النافية نفي اقتضاء الوجوب فيه خصوصا بملاحظة مدلولها الالتزامي الراجع الى سببية الخبر لنفى المقتضى فيه والا فتقع المزاحمة قهراً بين مقتضى الوجوب ومقتضى عدمه ، ولازمه هو سقوط مقتضى الوجوب من التأثير في الحكم الفعلي ( ومعه ) لا ملزم على اختيار الفعل ، كما هو ظاهر ( هذا كله ) على السببية بالمعنى الاول .

( واما السببية ) بالمعنى الثانى الراجع الى قيام المصلحة الملزمة في سلوك الامارات والتطرق بها الى الواقع في مقام العمل ، فحكمه يظهر مما بيناه من انه بعد وقوع المزاحمة بين المصلحتين في مقام السلوك وعدم امكان الاخذ بكلتا الامارتين لا محيص مع تساويها في الملاك من التخيير عقلا في الاخذ باى واحد منها والعمل على طبق المأخوذ ( وفي فرض ) تعارض الامارتين من حيث وجوب المؤدى وعدم وجوبه يتخير بين الاخذ بالامارة المثبتة للوجوب ليصير الفعل متعينا عليه بعد الاخذ بها ، و بین الاخذ بالامارة النافية للوجوب ليصير الفعل مباحا لا اقتضائياً ( فكان ) التخيير بين الاخذين ، لا بين العمل بهما ليكون من التخيير العملى بين النفي والاثبات.

( وهم ودفع ) قد يورد على ما افاده الشيخ قده من ادراجه السببية بمعنى المصلحة السلوكية في باب التزاحم ( بان ) المصلحة السلوكية على القول بها انما تكون قائمة بالطريق بلحاظ ان سلوك الطريق يكون ذو مصلحة ملزمة، فطريقية الطريق تكون بمنزلة الموضوع للمصلحة السلوكية ( ومع ) سقوط المتعارضين بالنسبة الى المؤدى لا يبقى موضوع للمصلحة السلوكية حتى يقال بوقوع المزاحمة بين المصلحتين في مقام الاستيفاء ( ولكنه توهم ) فاسد ( فان ) لمقصود بالطريق الذى هو موضوع المصلحه السلوكية ( إن كان ) ذات الطريق ، فلا معنى لدعوي سقوطه

ص: 180

بالمعارضة ( لان ) مرجع سقوط الطريقين انما هو الى عدم شمول دليل الحجية لواحد منها بمناط الترجيح بلا مرجح ، ومع فرض عدم دليل في البين يقتضي الاخذ بها سابقاً على المصلحة السلوكية كيف يبقى مجال القول بتساقط الطريقين ( وان كان ) المقصود من الطريق الذي هو موضوع المصلحة السلوكية هو الطريق بوصف الطريقية والحجية الفعلية ، فلا معنى للمصلحة السلوكية الموجبة للامر بالعمل على طبق الطريق ( فان ) الالتزام بالمصلحة السلوكية انما هو لتصحيح الامر بسلوك الطريق والعمل على طبقه ( فمع فرض ) حجية الطريق في رتبة سابقة على المصلحة المزبورة ، لا معنى للالتزام بالمصلحة السلوكية ( مع ان ) لازم ذلك هو كون المصلحة السلوكية دائماً مسبوقة بالامر بالأخذ بالطريق ( ولازمه ) هو الالتزام في باب الامارات بامرين طوليين حتى مع عدم المعارض ، احدهما ما هو المقوم لموضوع المصلحه السلوكية ) والآخر ) هو الأمر الناشيء من المصلحة المزبورة وهو كما ترى لا يلتزم به احد ( هذا كله ) فيما يقتضيه الاصل في المتعارضين بالنظر الى الادلة العامة من حيث الطريقية والموضوعية .

في الجمع بين اخبار التوقف والتخيير

( واما بالنظر ) الى ما تقتضيه اخبار العلاج الواردة في خصوص المتعارضين من الاخبار فلا اشكال في عدم سقوطها مع فقد المرجح ( وهل الحكم ) حينئذ هو التخيير او التوقف والعمل بما يوافق منها الاحتياط ان امكن ( فيه خلاف ) منشئه اختلاف الاخبار و تحقيق القول فيه هو أن الاخبار الواردة في المقام على طوائف ( منها ) ما يدل على التخيير المطلق ، كرواية الحسن بن الجهم عن الرضا ( علیه السلام ) : قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايها الحق قال (ع) اذا لم تعلم فوسع عليك بايها أخذت ، و بهذا المضمون روايات اخر ذكرها في الوسائل ( ومنها ) ما يدل على التخيير في زمان عدم التمكن من الوصول الى الامام ( علیه السلام ) الشامل لحال الغيبة ، كرواية الحرث بن المغيرة عن ابي عبد الله قال : اذا سمعت من أصحابك الحديث فموسع عليك حتى ترى القائم فترد اليه بناء على ما فهمه الاصحاب من ظهوره في كونه في مقام بيان التخيير في المتعارضين من الاخبار ، لا في مقام بيان التوسعة في الاخذ بالاخبار

ص: 181

المروية عنهم ( علیه السلام ) والعمل بها في نفسها مع قطع النظر عن تعارضها ( والا ) فلا ترتبط الرواية بما نحن بصدده من التوسعة في الاخذ باحد الخبرين المتعارضين ( وقد يتوهم ) اختصاص التخيير فيها بحال الحضور والتمكن من الوصول الى الامام ( علیه السلام ) ( ولكنه ) مندفع بان التحديد في قوله ( علیه السلام ) حتى ترى القائم كناية عن مرور الازمنة السابقة على زمان التمكن من الوصول الى الحجة وبهذه الجهة تكون الرواية كالصريح في الشمول لحال الغيبة ( اذ لا خصوصية ) لزمان الحضور وانما المدار على التمكن من الوصول الى الامام وعدم التمكن منه ( ومنها ) ما يدل على التوقف في زمان الحضور والتمكن من الوصول الى الامام ( علیه السلام ) ، كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة من فوله ( علیه السلام ) : اذا كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك ( وقد يقال ) بوجود طائفة اخرى رابعة تدل على التوقف المطلق ( ولعلها ) هي الخبر المروى عن محمد بن ادريس في آخر السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجالي لعلی ابن محمد ان محمد بن على بن عيسى كتب اليه يسئله عن العلم المنقول عن ابالك واجدادك «ع» قد اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه او الرد اليك فيما اختلف فيه ، فكتب ( علیه السلام ) ما علمتم انه قولنا فالزمو . ومالم تعلموا فردوه الينا ( والا ) فلم نقف في الاخبار على رواية تدل على التوقف المطلق في فرض تعارض الخبرين .

( ولا يخفى ) ان هذه الاخبار بظاهرها متعارضة ، ولا بد فيها من العلاج بالجمع بينها ( فنقول ) ان النسبة بين ما يدل على التخيير المطلق وبين ما يدل على التخيير عند عدم التمكن من الوصو : الامام ( ع )، وان كانت هي العموم المطلق، كالنسبة بين ما يدل على التوقف المطلق على تقدير وجوده، وما يدل على التوقف في زمان الحضور ( ولكن ) لما لا تنافي بين التخيير المطلق ، والتخيير في زمان عدم التمكن من الوصول الى الحجة ( علیه السلام ) ( ولا بين ) التوقف المطلق ، والتوقف في حال الحضور لكونها مثبتين ( فلا يحمل ) المطلق منها على المقيد ، بل يبقى اطلاق المطلق في كل منها على حاله ( نعم ) انما التعارض بين ما يدل على التخيير عند عدم التمكن من الوصول الى الامام ( علیه السلام ) ، كرواية الحرث بن المغيرة على ما قويناه ، وبين ما يدل

ص: 182

على التوقف المطلق ( وكذا ) بين مطلقات التخيير ، وما يدل على التوقف في زمان الحضور ( وحيث ) ان النسبة بين كل طائفة مع الاخرى العموم المطلق فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد هو تقييد المطلق من كل منها بعقيده ( وبذلك ) ترتفع المعارضة من بين الاخبار ( اذ بعد ) هذين التقييد بن تختص مطلقات التخيير بغير زمان الحضور، كما تختص مطلعات التوقف على تقدير وجودها بزمان الحضور والتمكن من الرجوع الى الامام ( علیه السلام ) ( هذا ) بناء على ما قربناه في مفاد رواية الحرث بن المغيرة ( واما ) بناء على الاحتمال الآخر الذي توهمه بعض من تخصيص مفاد الرواية بحال الحضور ( فلازمه ) وقوع المعارضة بين ما يدل على التوقف في زمان الحضور ، وما يدل على التخيير في زمان الحضور ( لان ) النسبة بينها يكون بالتبابن وبعد سقوطها عن الحجية بالمعارضة ، ينتهى الامر الى مطلقات التخيير والتوقف لسلامتها عن المقيد ، فيقع بينها التعارض بالتباين وفا نقدح بذلك فساد توهم ان مطلقات التخيير بعد تقييدها بما دل على التوقف في زمان الحضور تختص بما عدا زمان الحضور فيقدم على مطلقات التوقف لانقلاب النسبة بينها الى العموم والخصوص ( اذ فيه ) مضافا الى فساد مبنى الانقلاب ( ان ) ذلك فرع عدم ابتلاء دليل التوقف في زمان الحضور بالمعارضة مع ما دل على التخيير في زمان الحضور ، والافع سقوطه عن الحجية بالمعارضة كيف يصلح لتقييد مطلقات التخيير حتى ينتهى الامر الى الانقلاب المزبور ( وحينئذ ) فبعد ان كانت النسبة بينها هي التباين تستقر المعارضة بينها ( ولكن ) الذي يسهل الخطب انه لم نعثر على رواية تدل على التوقف المطلق في المتعارضين وما ذكرناه من خبر محمد بن علي بن عيسى المروى عن كتاب مسائل الرجال مع ضعف سنده غير ظاهر الدلالة في التوقف المطلق ، لو لا دعوى ظهوره في الاختصاص بزمان الحضور والتمكن من الرجوع الى الامام ( علیه السلام ) ( فان ) قوله ( علیه السلام ) : وما لم تعلموا ، فردوه الينا ظاهر في الرد الى الامام الموجود في ذلك الزمان بالرجوع اليه ، نظير ما في المقبولة من قوله ( علیه السلام ) فارجه حتى تلقي امامك ( لا انه ) من قبيل الرد الى الله ورسوله ( صلی الله علیه و آله وسلم ) الذي هو وارد في الاخبار

ص: 183

( وعلى فرض ) ان يكون لنا دليل آخر في الاخبار يقتضي التوقف في العمل مطلقا ولو في زمان الغيبة ( نقول ) ان التوقف والاحتياط في العمل يقتضي اختصاصه بصورة التمكن من الاحتياط ( ولازمه ) وان كان هو اخصيته مما دل على التخيير المطلق ، فيوجب مقتضى صناعة الاطلاق والتقييد حمل مطلقات التخيير على صورة

عدم التمكن من الاحتياط ( ولكن ) بعد اباء تلك المطلقات عن هذا الحمل وعدم القول به من الاصحاب، لابد من حمل مادل على التوقف في العمل على الاستحباب ( نعم ) لو كان مفاده مجرد التوقف في الفتوى والحكم مع مراعات الاحتياط في العمل ، لا تجه التعارض بينها ، ولا يتأتى الحمل على الاستحباب في اخبار التوقف ( ولكن ) الكلام في وجود مثل هذا الخبر ودلالته على المعنى المزبور ( هذا كله )، فيما لو كان المقصود من الخبر الدال على التوقف المطلق خصوص ما يكون وارداً في موضوع تعارض الخبرين ( واما )، لو كان المقصود منه هو الاخبار الآمرة بالتوقف في مطلق الشبهة ، كقوله ( علیه السلام ) قفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ( فلا ارتباط ) لها بالمقام حتى تعارض عمومات التخيير لوضوح ، ان مورد التوقف في تلك الاخبار إنما هو في صورة فقد الحجة وعدم الطريق الى الواقع ومفاد الاخبار الآمرة بالتخيير إنما هو اثبات وجود الحجة وهو احد الخبرين فعلى فرض ، عموم الشبهة في تلك الاخبار لمثل المقام تكون اخبار التخيير بتكفلها لاثبات الحجة حاكماً عليها ( ثم لا يخفى ) ان التخيير المستفاد تلك الاخبار ليس هو التخيير في العمل بمؤدي احد الخبرين ، ليكون من التخيير في المسئلة الفرعية كالتخيير بين القصر والاتمام : لما عرفت ، من ان في باب تعارض الطرق المنتهى فيه الامر في الاغلب الى النفي والاثبات يمتنع الوجوب التخييري بين المدلولين في العمل بهما ( نعم ) لا مانع من التخيير بين الفعل والترك بمعنى اللاحرجية فيها عقلا كما في الدوران بين المحذورين ، ولكنه خارج عن مصب هذه الاخبار قطعا ( بل التخيير )المستفاد من إطلاقات التخيير إنما هو في المسئلة الأصولية أعنى التخيير في الاخذ بأي واحد من الخبرين في مقام الاستطراق به الى

ص: 184

الواقع المنتج لتعين العمل على طبقه ( و مرجعه ) بحسب اللب الى وجوب التعبد بكل واحد من الخبرين والعمل بمضمونه في ظرف اختياره والاخذ به المنتج لصيرورة المأخوذ بعد الاخذ به حجة تعيينه يجب العمل بمضمونه كما لو لم يكن له معارض ( فطرف التخيير )، المستفاد من ظاهر قوله ( ع )، بأيها أخذت من باب التسليم وسعك انما يكون هو الأخذ باى الخبرين في مقام الاستطراق الذى لازمه تعين مضمونه عليه ، ومرجع وجوبه الى كونه ارشاداً الى حكم العقل بلزومه مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية، لا شرعياً مولوياً هذا كله ، فيما يتعلق بالمقام الاول ( وقد عرفت )ان حكم المتعارضين على ما هو التحقيق من الطريقية في الامارات التساقط بالنظر الى عموم أدلة الحجية ، ( وبالنظر )، الى ما يستفاد من أخبار العلاج هو التخيير في الاخذ باى الخبرين .

المقام الثانى فى الترجيح

وهو تقديم أحد الخبرين على الآخر في العمل به المزية له عليه بوجه من الوجوه وفيه ، مطالب ( الاول )، في تأسيس الاصل عند الشك في وجوب ترجيح إحدى الامارتين بالمزايا الداخلية أو الخارجية الموجودة فيها ( الثاني ) في ذكر المزايا المنصوصة في الاخبار ( الثالث )، في وجوب الاقتصار على المزايا المنصوصة أو التعدى التي غيرها .

( اما المطلب الاول ) فقد يقال ان مقتضى الاصل في المقام هو وجوب الترجيح بكل مزية يحتمل اعتبارها عند الشارع ( لانه ) من صغريات مسئلة التعيين والتخيير في المكلف به ، حيث يعلم تفصيلا بوجوب العمل على طبق ذي المزية اما تعيينا او تخييرا ويشك في وجوب العمل على طبق مضمون غيره لاحتمال عدم وجوبه مع وجود ما يحتمل التعيين ( والاصل ) فيه يقتضي التعيين بناء على ما هو التحقيق من الاشتغال في تلك المسئلة ( وفيه ) ما لا يخفى من الفساد ( كان ) جعل المقام من

ص: 185

صغريات تلك المسئله مبني على جعل التخيير في المقام التخيير في المسئلة الفرعية اعنى التخيير في العمل بمؤدي احد الخبرين ( وهو ) باطل قطعا لما عرفت من امتناع الوجوب التخييري في باب التعارض المنتهي فيه الامر الى التناقض في المدلول والا فعلى فرض كون التخيير فيه في المسئله الاصولية الراجع الى كون طرف التخيير هو الاخذ باي الخبرين في مقام الاستطراق به الى الواقع ( فلايرتبط ) بباب التعيين و التخيير ( فان ) مرجع التخيير في المقام انما هو الى ايجاب التعبد بكل واحد من الخبرين مشروطا بالاخذ به ( ولازمه ) بعد دوران ذي المزية منها عند الشك المزبور بين كون التعبد به مطلقاً غير مشروط بالاخذ به، واختياره هو عدم العلم بوجوب واحد منها قبل الاخذ بها و كذا بعد الاخذ بغير ذي المزية ومع هذا الشك كيف يندرح المقام في مسئلة التعيين والتخيير المستلزم للعلم بوجوب المعين على كل تقدير ( وبذلك ) ظهر عدم ارتباط المقام بباب الدوران بين معلوم الحجة ومشكوكها ايضاً ( فالاولى ) في تقريب الاصل ان يقال ان الاخذ بذي المزية لما كان موجبا للقطع بحجيته على كل تقدير ، بخلاف غيره ، فان الاخذ به لا يوجب إلا الشك في حجيته ( فلا جرم )، يحكم العقل بمناط الشك قبل الفحص مع التمكن من تحصيل الحجة الشرعية ، بوجوب الاخذ بذي المزية منها مقدمة لتحصيل الحجة ( لان ) بالاخذ به يعلم تفصيلا بحجيته ( بخلاف ) غيره فانه بالاخذ به لا يعلم بحجيته، فلا يخرج عن عهدة حكم العقل بوجوب تحصيل الحجة الشرعية وبهذا البيان نقول بالتعيين في المقام ولو لم نقل به في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المسئلة الفرعية .

مقتضى الاصل هو الترجيح بكل مزية محتمل الاعتبار عند الشارع

( المطلب الثاني ) في الترجيح بالمزايا المنصوصة ( فتقول ) الاخبار الواردة في المقام على طوائف ( منها ) ما اقتصر فيه على الترجيح بمخالفة العامة أو ما يميل اليه حكامهم ، كالمروى عن القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الحسن بن الجهم في حديث قلت له يعني العبد الصالح ( علیه السلام ) : يروى عن ابي عبد الله ( علیه السلام ) شيء ويروى عنه أيضا خلافه فبايها تأخذ قال ( علیه السلام ) خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه ( والمروي ) عنه ايضا بسنده عن محمد بن عبد الله : قال قلت للرضا ( علیه السلام ) كيف نصنع بالخبرين المختلفين : فقال ( علیه السلام ) إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا الى

ص: 186

ما يخالف منها العامة فخذوه ، وانظروا الى ما يوافق اخبارهم فدعوه ( والخبر ) المروي عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران : قال قلت لابي عبد الله ( علیه السلام ) يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ به والآخر ينهانا قال ( علیه السلام ) لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك : قلت لا بد ان نعمل قال ( علیه السلام ) خذ بما فيه خلاف العامة .

( ومنها ) ما اقتصر فيه على الترجيح بموافقة الكتاب ( كرواية حسن بن الجهم عن الرضا ( علیه السلام ) ) قلت يجيئنا الاحاديث عنكم مختلفه : فقال ( علیه السلام ) ما جائك عنا فقس على كتاب الله عز وجل واحاديثنا فان كان يشبهها فهو منا وان لم يشبهها فليس منا قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايهما الحق قال ( علیه السلام ) فاذا لم تعلم فوسع عليك با يهما اخذت ( وخبره الآخر ) أيضا عن العبد الصالح ( علیه السلام ) قال اذا جائك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله واحاديثنا فإن اشبههما فهو حق وان لم يشبههما فهو باطل .

فى الترجيح بالمزايا المنصوصه كمخالفة العامة

(ومنها ) ما يدل على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ( مثل ما رواه ) القطب الراوندي سعید بن عبدالله بسنده الصحيح عن الصادق ( علیه السلام ) قال اذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالف کتاب الله فردوه وان لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة فما وافق اخبارهم فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه .

فى الترجيح بموافقة الكتاب و بالشهرة كما فى مقبولة عمر ابن حنظله

(ومنها ) ما يشتمل على الترجيح بهما وبالشهرة والشذوذ ( كمقبولة ) عمر بن حنظلة قال سئلت ابا عبدالله ( علیه السلام ) عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة ايجل ذلك قال ( علیه السلام ) من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فانما ياخذه سحنا وانكان حقه ثابتا لانه أخذه بحكم الطاغوت وانما امر الله سبحانه ان يكفر به قال الله تعالى ويتحاكمون الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به : قلت فكيف يصنعان قال ( علیه السلام ) ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فليرضوا به حكما فاني قد

ص: 187

جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا قد رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله : قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من اصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلقا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم قال ( علیه السلام ) الحكم ما حكم به اعدلهما وافقهها واصدقهما في الحديث واورعها ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر : قلت فانها عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منها على الآخر : قال ( علیه السلام ) ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمها ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه وانما الامور ثلاثة ، امر بين رشده فيتبع ، وامر بين غيه فيجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه الى الله قال رسول الله ( صلی الله علیه و آله وسلم ) حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم : قال قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال ( علیه السلام ) ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامه فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة : قلت جعلت فداك ارأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا احد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا باى الخبرين يؤخذ : قال ( علیه السلام ) ما خالف العامة ففيه الرشاد : فقلت جعلت فداك فان وافقها الخبران جميعا قال ( علیه السلام ) ينظر إلى ما حكامهم اليه اميل وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر : قلت فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا قال ( علیه السلام ) اذا كان ذلك فارجه حتى تلقي امامك فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ( وهذه ) الرواية وان تضمنت الترجيح بالصفات ايضا كالا عدلية والاوثقية ، الا انها كانت بالنسبة الى الحكمين في مقام تقديم حكم احدهما على الأخر ، لا بالنسبة الى الروايتين ( ولذا ) بعد ان فرض الراوي تساوي الحكمين في الصفات وبين كون الوجه فى اختلاف حكمها هو الاختلاف في مدركها احاله الامام ( علیه السلام ) الى النظر في مستند حكمها ، واول المرجحات في هذا المقام هو الشهرة والشذوذ الذى امر الامام ( علیه السلام ) بالاخذ بالمشهور وترك الشاذ منها ( ومنها )

ص: 188

ما يدل على الترجيح بالمذكورات وبالصفات والاحتياط ( مثل ) ما رواه ابن ابي الجمهور الاحسائى في غوالى اللئالى عن العلامة قده مرفوعا الى زرارة قال سئلت ابا جعفر ( علیه السلام ) فقلت جعلت فداك يأتى عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيها آخذ : فقال ( علیه السلام ) يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر : فقلت يا سيدى انها مشهوران مأثوران عنكم : فقال خذ بما يقول اعدلها عندك واوثقها في نفسك : فقلت انها معاً ، عدلان مرضیان موثقان فقال ( علیه السلام ) انظر ماوافق منها لعامة فأتركه وخذ بما خالف فان الحق في خلافهم : قلت ربما كانا موافقين لهم او مخالفين فكيف اصنع : قال ( علیه السلام ) اذا فخذ بما فيه الحائط لدينك واترك الآخر : قلت فانها معا موافقان للاحتياط او مخالفان فكيف اصنع : فقال ( علیه السلام ) اذا فتخير احدهما فتأخذ به ودع الآخر ( فهذه ) طوائف خمس من الاخبار الدالة على الترجيح واجمعها الطائفة الاخيرة وهى المرفوعة ( وهنا ) طائفة اخرى سادسة تدل على الاخذ باحدثها وهي اخبار كثيرة ) ولكن ( نحن ندع تلك الطائفة لاختصاصها بزمان الحضور لشواهد تشهد به مما في نفس تلك الاخبار من نحو قوله ( علیه السلام ) انا والله لا ندخلنكم الا فيما يسعكم ( ولذلك ) لم يكن بناء الاصحاب ايضا على ع__د الاحدثية من المرجحات في تمارض الاخبار .

فى الترجيح بالمذكورات وبالصفات والاحتياط فى مرفوعة زرارة

( ثم انه ) بعد ما تلونا عليك هذه الاخبار يبقى الكلام في انه هل يجب الترجيح بجميع هذه المرجحات ، او لا يجب الترجيح بها ، او يفصل بينها بوجوب الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، وعدم وجوبه في غيرهما ( فيه ) وجوه واقوال ( اقويها الاخير ) : اما وجوب الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فللاخبار الكثيرة الظاهرة في وجوب الترجيح بها المعمول بها بين الاصحاب ( فان ) من تتبع كلماتهم في الفقه يرى ان ديدنهم عند تعارض الاخبار وتنافيها على الترجيح بها من الاخذ بالخبر الموافق لظاهر الكتاب والمخالف للعامة ، وطرح ما يخالف الكتاب ويوافق العامة ( وبمثل هذه ) الاخبار يقيد مطلقات اخبار التخيير بغير صورة ذين المرجحين .

ص: 189

( وما قيل ) من ان اخبار التخيير لورودها في مقام البيان والحاجة آبية عن هذا التقييد ، فلا بد من حمل تلك الاخبار على استحباب الترجيح ( مدفوع ) بان مجرد ورود مطلقات التخيير في مقام البيان والحاجة لا يمنع عن تقييدها بها ( مع ان ) حمل تلك الاوامر الدالة على الترجيح بها على الاستحباب ايضا مما يأبى عنه نفس هذه الاخبار والتعليل الوارد فيها بان الرشد في خلافهم ( ولا ينافي ) ذلك ما في بعض تلك الاخبار من الاقتصار على العرض على الكتاب ، وفي بعضها الاخرى الاقتصار على العرص على الاخبار العامة ( لان ) غاية ذلك هو كونها مطلقين ، فيقيدان بما في المقبولة وخبر الراوندى المشتملين على الترجيح بها ( فلا يكون ) ذلك شاهداً على استحباب الترجيح بها ( كما لا ينافيه ) ايضا ما في بعض الاخبار الواردة في طرح المخالف للكتاب ، من انه زخرف ، او باطل ، او فاضربه على الجدار مما ظاهرة نفى اصل صدور الخبر ولو بلا معارض ، لا نفي حجية ( فان ) ظهور هذه الطائفة في ورودها في نفي صدور الخبر المخالف رأساً ولو بلا معارض وتمييز الحجة عن لا حجة ، لا ينافي ظهور غيرها مما اقترن بالمخالف للعامة فى كونه في مقام الترجيح عند المعارضة ( وحينئذ ) فيحمل الطائفة الاولى على صورة كون مخالفة الخبر للكتاب على نجو التباين الكلى ، والطائفه الثانية على التباين بنحو العموم من وجه ، كما سنذكره الله تعالى .

فى الاشكال على المقبولة باختصاصها بترجيح الحكمين

( و اما عدم ) وجوب الترجيح بغيرهما ، فلعدم دليل صالح يقتضى تقييد مطلقات التخيير ( فان المستند ) لذلك لا يكون الا المقبولة والمرفوعة ، وهما غير صالحين لاثبات الترجيح بالصفات وبالشهرة والشذوذ في مقابل اطلاقات التخيير ( اما المقبولة ) فهى وان كانت مقبوله عند الاصحاب ، ولا مجال للخدشة في سندها ( ولكنها ) بصدرها المشتمل على الترجيح بالصفات من الا عدلية وتالييها مختصة بترجيح الحكمين ، نظير روايتي داود بن الحصين والنميرى ، ولا ترتبط بمقام ترجيح الروايتين وان كان الحاكمين فى الصدر الاول راويين للاخبار ايضا ( لان ) ترجيح احدهما من حيث الحكومة غير مرتبط بترجيحه من حيث الراوية ( واما ) بذيلها

ص: 190

المشتمل على الترجيح بالشهرة والشذوذ فهى وان كان ظاهرة في وجوب الترجيح بها ، ولا مجال لتوهم كونها ايضا من مرجحات الحكمين ( ولكن ) الاشكال فيها انما هو لعدم كونها بمثل هذا الترجيح معمولا بها عند الاصحاب في موردها حتى يتعدى منها الى غير موردها في مقام الفتوي ( اذ ليس ) بناء الاصحاب في مقام ترجيح أحد الحكمين على الرجوع الى مدركها ( بل الحاكم ) بعد ما اخذ بالرواية وحكم في الواقعة على وفق رأيه في الشبهات الحكمية كان ذلك متبعاً حتى بالنسبة الى مجتهد آخر لان الحكم لا ينقض بالفتوى ، ومع تعارضه فرضا يرجح حكم احدهما في مقام فصل الخصومة من حيث صفات الحاكم من الاعدلية والاوثقية والافقهية ، ومع فرض تساويها من حيث الصفات ، فغايته هو سقوط الحكمين والرجوع الى حكم حاكم ثالث في رفع الخصومة ( لا الرجوع ) الى مدرك الحكمين حتى بالنسبة الى مجتهد ثالث فضلا عن المتخاصمين ( وذلك ) أيضا فيما لو حكما في الواقعة دفعة ( والا ) فعلى فرض تعاقب الحكمين يكون المتبع هو الاسبق منهما ، لا ندفاع الخصومة بحكمه في الواقعة ، ولا ينظر الى ما حكم به الآخر ( فلا محيص ) حينئذ من الاعراض عن ذيل المقبولة في موردها ( ومعه ) لا يكون دليلا على لزوم الترجيح ليقيد به مطلقات اخبار التخيير ( واما ) توهم اختصاص الاشكال بقاضي المنصوب ( واما ) في قاضي التحكيم فلا مانع من الارجاع الى مدرك الحكمين ، فيمكن حمل المقبولة عليه ( فمدفوع ) بانه خلاف ظاهرا الرواية ( فان ) قول الراوى قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا ظاهر في كونه سؤالا فرض الوقايع المتجددة بعد هذه المقبولة ( ومن المعلوم ) انه بعد نصب الامام ( علیه السلام ) القاضي لا يتصور القاضي التحكيم حتى يصح الامر بالرجوع الى مدرك الحكم.

( واما المرفوعة ) فهي من جهة وهنها سندا غير صالحة لان تكون دليلا على وجوب الترجيح ما ذكر فيها من المرجحات حتى انه ناقش فيها بعض الاخباريين الذين ليس من دأ بهم الخدشة في سند الاخبار ( مضافا ) الى ما فيها من الاشتمال على الترجيح بموافقة

ص: 191

الاحتياط التي ليس بناء الاصحاب على الترجيح بها ( ومثله ) موجب لو هن آخر فيها ( وما يظهر ) من الشيح قده من تصحيحها بدعوى جبر ضعفها بعمل الاصحاب ( فممنوع ) جدا يل بناء الاصحاب على ما يشهد به التتبع في كلماتهم في الفقه انما هو على الاخذ بما يوافق الكتاب ويخالف العامة في مقام الترجيح وطرح ما يقابلها وان كان راويه اوثق واعدل من غير اعتناء منهم الى صفات الراوى ، خصوصا اذا لوحظ الترتيب بين المرجحات حسب ما في المرفوعة وخصوصا مع ندرة الترجيح بها بلحاظ توقفه على احراز هذه الصفات في جميع سلسلة الرواية بالقياس الى ما يقابله ( فان ) ذلك أقوى شاهد على اعراضهم عن المرفوعة ( مع انها ) معارضة ايضا مع المقبولة ( فان ) المقبولة مع كونها في مقام بيان المرجحات وتعرضها للترجيح بالصفات بالنسبة الى الحاكمين في تقديم حكم احدهما على الآخر ، غير متعرضة للترجيح بالصفات عند الاحالة الى مدرك الحكمين بل اقتصرت على الترجيح بالشهرة والشذوذ وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة ( وحينئذ ) فما عن الشيخ قده من الجمع بينهما بجعل المدار على ما في المرفوعة والتصرف في المقبولة بتقييد اطلاقها بما تضمنته المرفوعة من الترجيح بالصفات ( منظور فيه ) فان ذلك انما يتم لولا أشمال المقبولة على الترجيح بالصفات بالنسبة الى الحاكمين ( والا ) فسكوتها عن التعرض للترجيح بها في مدرك الحكمين يكون بمنزلة البيان على عدم اعتبار صفات الراوى في مقام الترجيح

فى وجوه المناقشة في المرفوعة

( ولازمه ) معارضتها من هذه الجهة مع المرفوعة ( مع ان ) لازمه هو الالتزام بتقييد الاخبار المقتصرة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة خصوصاً على القول بالترتيب بين المرجحات ( وهذا ) مما تأبى عنه تلك الاخبار ( فتلخص ) ان المقدار الذي يمكن استفادته من الادلة في وجوب الترجيح وتقييد مطلقات التخيير انما هو بالنسبة الى خصوص موافقة الكتاب ومخالفة العامة ( واما بالنسبة ) الى غيرها من المرجحات ، فالمتبع هو مطلقات اخبار التخيير ، لعدم الدليل على الترجيح بها سوى المقبولة والمرفوعة اللتين عرفت عدم صلاحيتها لتقييد مطلقات التخيير ( واما ) الاجماع المدعى في المقام على وجوب الترجيح بالمرجحات

ص: 192

المزبورة ( فعلى فرض ) تسليمه انما يكون دليلا إذا لم يعلم مدرك المجمعين ، وإلا فمع العلم به كما في المقام من كون مستندهم هو المرفوعة والمقبولة ، فلا يعتني بمثله ( مضافا ) الى كونه موهو نا بذهاب الكثير على الخلاف كما أشرنا اليه ( ويكفيك ) في ذلك ما نص به الكلينى قده في ديباجة الكافي بقوله : اعلم يا أخى انه لا يسع أحد تمييز شيء مما اختلفت الرواية عن العلماء ( علیه السلام ) برأيه الا ما أطلقه العالم ( علیه السلام ) بقوله أعرضو هما على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه ( وقوله ( علیه السلام ) ) دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم : وقوله خذوا بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه ونحن لا نعرف ذلك إلا أقله ولا نجد شيئاً أحوط ولا اوسع من رد علم ذلك كل الى العالم ( علیه السلام ) قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله بايها اخذتم من باب التسليم وسعكم انهى .

فى جواز التعدى عن المرجّحات المنصوصه ونقل مختار الشيخ ره وادلته

( فان ) هذا البيان منه قده مع كونه في عهد الغيبة الصغرى واختلاطه مع النواب والسفراء شهادة على عدم بناء الاصحاب على الترجيح بالمرجحات المذكورة المطلب الثالث في انه بناء على وجوب الترجيح هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة أو يتعدى الى غيرها ( فيه وجهان ) ثانيها مختار الشيخ قده ، لوجوه ( منها ) الترجيح بالاصدقية في المقبولة والاوثقية في المرفوعة ( بتقريب ) ان مناط الترجيح بهاتين الصفتين إنما هو الاقربية إلى الواقع في نظر الناظر في المتعارضين فيتعدي إلى كل ما يكون موجباً لا قربية أحد الخبرين إلى الواقع ولو لم يكن من صفات الراوى ( ومنها ) التعليل الوارد فى الاخذ بما يخالف العامة بقوله ( علیه السلام ) فان الرشد في خلافهم ( ومنها ) التعليل الوارد في الترجيح بالشهرة : بقوله ( علیه السلام ) فان المجمع عليه لا ريب فيه الدال على الاخذ بكل ما ليس فيه الريب بالاضافة إلى الخبر الآخر ( ولكن ) الاوفق بالقواعد هو عدم التعدى ، لعدم صلاحية شيء منها للنهوض علي تقييد مطلقات أدلة التخيير ( اما الاول ) وهو الترجيح بالاصدقية والاوثقية ( ففيه ) بعد الغض عن ان الترجيح بالاوصاف في المقبولة راجع إلى الحكمين لا إلى الروايتين كما اعترف به هو قده ( نقول ) ان الترجيح بالوصفين ليس إلا كالترجيح

ص: 193

بالاعدلية والأفقهية ( فكما ) انه يحتمل في الترجيح بها كونه لخصوصية في القرب الحاصل من السبب الخاص في نظر الشارع ، كذلك يحتمل ذلك في الترجيح بالوصفين ايضا ( ومع احتمال ) ذلك لا يستفاد من الترجيح بها كبرى كلية ليتعدى منه الى كل ما يوجب اقربية احد الخبرين بنظر المكلف الى الصدور او الواقع ( واما الثاني ) وهو التعليل بالرشد ( ففيه ) بعد الجزم بعدم كون الرشد في المقام رشداً جزمياً، للقطع بان كثيراً من الاحكام الحقة توافق مذهبهم ، ولاقتضائه خروج الفرض من كون الترجيح به من باب ترجيح الحجة على الحجة ( نقول ) انه يدور الامر فيه بين كونه رشداً واقعيا غالبيا ملحوظاً في نظر الشارع فى مقام الأمر بالترجيح به، نظير غلبة الايصال الى الواقع التي هى الحكمة في جعل الطرق غير العلميه وفي أصل التعبد بالخبر ، وبين كونه رشداً اضافياً بالقياس الى الخبر الموافق لهم ، او رشدا ظياً او اطمينانياً بنظر المكلف ( وفى مثله ) لولا دعوى اظهرية الاول ، فلا أقل من احتماله المانع عن ظهوره في احد الاخيرين ( ومعه ) لا يبقى مجال استفادة المناط من التعليل به حتى يتعدى بحكم التعليل الى الترجيح بكل ما كان معه امارة الرشد والحق وترك ما فيه مظنة خلاف الحق والبعد عن الصواب

فى ان الحق عدم جواز التعدى و بیان ادلته

( خصوصاً ) بعد العلم بانه ليس كل ما يخالفهم مظنة الحق ، ولا كل ما يوافقهم مظنة خلاف الحق لمكان القطع بان كثيراً من الاحكام الحقة توافق مذهبهم ( فان ) ذلك يوجب خروج التعليل المزبور عن ضابط منصوص العلة التي امر تطبيقها في الموارد بنظر المكلف ( نعم ) غاية ما يكون ، هو غلبة الباطل في احكامهم ( ولكن ) مثله لا يصلح للحكم ما بالترجيح الا بنظر الشارع ، نظير غلبة الايصال الى الواقع في جعل الطرق غير العامية ، لا بنظر المكلف الا في فرض احرازه ( وعليه ) فلا يكون التعليل بالرشد الا بياناً لعلة تشريع الحكم ، لا ضابطاً كلياً للمكلف ، كي ينطبق على منصوص العله فيتعدى منه الى غير مورده كما هو ظاهر .

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا يظهر الحال في التعليل الوارد في قوله ( علیه السلام ) بان المجمع عليه لا ريب فيه ( فانه ) يأتى فيه جميع ما ذكرناه في التعليل بالرشد حرفا

ص: 194

بحرف ( فلا بد ) من حمله ايضا على بيان علة تشريع الحكم في نظر الآمر ، لا بيان ضابط كلى ليكون من منصوص العلة ( وعلى فرض ) تسليم كون الريب المنفي فيه هو الريب بنظر المكلف ، ولو بملا خطة تثليث الامور والاستشهاد في رد المشكل الى الله تعالى بقول النبي ( صلی الله علیه و آله وسلم ) .. حلال بين ... الخ فلا شهادة فيه على كون المراد من الريب المنفي فيه هو الريب الاضافي بالقياس الى معارضه حتى يتعدى الى كل ما يوجب اقربية احد الخبرين من الآخر الى الصدور أو الواقع ( بل الظاهر ) منه هو عدم الريب بقول مطلق من حيث السند بمعنى كون أحد الخبرين في نفسه مع قطع النظر عن ملاحظة اضافته الى ما يقابله مما يطمئن بصدوره بحيث يصدق عليه عرفا إنه لا ريب في سنده ( فان ) ذلك هو الذي يقتضيه مورد التعليل بالشهرة ( لوضوح ) ان كون الخبر مشهوراً عند الاصحاب لاسيما بين أرباب الاصول في الطبقة الاولى وأرباب الكتب المدونة لروايات الاصول مما يوجب الاطمينان غالبا بسنده بحيث يصح أن يقال عرفا انه مما لا ريب فيه ( بخلاف ) الخبر الذي لم يدون في كتب الاصحاب ولا كان معروفا بين ارباب الاصول من الرواة ( فانه ) مما لا يطمئن بصدوره ( ومن المعلوم ) ان غاية ما يقتضيه التعليل المزبور حينئذ بناء على التعدي إنما هو التعدي الى كل ما يوجب الاطمينان بسند احد المتعارضين في نفسه لا الى كل ما يوجب اقربيته بالاضافة الى معارضه كما هو مرام القائل بالتعدي ( لان ) مثله خارج عن مقتضى التعليل المزبور كما هو ظاهر ( ومع الاغماض ) عن ذلك تقول أنه بعد اختلاف المزايا المنصوصة في مناط الاقربية من حيث سند الرواية و من حيث نفس الخبر ومن حيث مضمونه وجهة صدوره ، كان اللازم على القول بالتعدي هو التعدي من كل مزية الى ما هو الاقرب من سنخه ، فيتعدى من التعليل بالمجمع عليه الى الاقربية بحسب الصدور ومن التعليل بالرشد الى الاقربية بحسب الجهة وهكذا ( لا التعدي ) بقول مطلق الى كل ما يوجب كون أحد الخبرين اقرب الى الواقع أو الصدور ، كما هو مرام القائل بالتعدي ( نعم ذلك ) انما يتم بناء على المختار من إرجاع جميع هذه المرجحات الى مرجح واحد صدوري ولا زمه ايضا هو سقوط

ص: 195

الترتيب بين المرجحات كما سيأتي بيانه خصوصا على القول بالتعدي بلا وقوع محذور معارضة في فرض اشتمال احد الخبرين على مزية من جهة واشتمال الآخر على مزية من جهة اخرى ( ولكن ) القائل بالتعدي لا يلتزم بذلك ، فان بنائه على تعدد المرجحات والترتيب بين المرجحات الصدورية والمضمونية ( وكيف كان ) فالتحقيق هو وجوب الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم جواز التعدي منها في مقام الترجيح الى غيرها .

فى حل الاشكال عن الترجيح بموافقة الكتاب

بقى التنبيه على امور

( الامر الاول ) الاخبار الواردة في الاخذ بما يوافق الكتاب و طرح ما يخالفه على طائفتين ( الاولى ) الاخبار المتقدمة الواردة في مقام العلاج في خصوص الروايات المتعارضة التي منها المقبولة الآمرة بالاخذ بما يوافق الكتاب في مقام الترجيح وطرح ما يخالفه ( الثانية ) الاخبار الواردة في عرض الاحاديث على القرآن الآمرة بطرح المخالف للكتاب في نفسه والاعراض عنه ، بمثل قوله ( علیه السلام ) ما خالف قول ربنا لم اقله .. او فاضر به على الجدار ، وانه زخرف او باطل ونحو ذلك من التأكيدات البليغة الواردة فيها بلزوم طرح المخالف وعدم العمل به ( وبعد ) سقوط الخبر المخالف للكتاب من الاعتبار بمقتضى هذه الاخبار يقع الاشكال في التوفيق بين هاتين الطائفتين ( بتقريب ) ان الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته انما يكون في فرض كون الخبر المخالف في نفسه واجداً لشرائط الحجية .

( فاذا كان ) من شرائط حجية خبر الواحد عدم مخالفته للكتاب، يكون المخالف له ساقطا بنفسه عن الحجية ( فكيف ) تكون الموافقة للكتاب من المرجحات ( ولكن ) حل الاشكال ان يقال بحمل المخالفة في الطائعة الثانية على مخالفة الخبر للكتاب بالتباين الكلي ( وفي الطائفة ) الاولى على المخالفة بنحو العموم المطلق والعموم من وجه ( والوجه ) فيه انما هو للعلم بصدور اخبار كثيرة منهم ( علیهم السلام )

ص: 196

مخالفة لظاهر الكتاب بالعموم المطلق والعموم من وجه ( مع وضوح ) اباء الاخبار الدالة على ضرب المخالف للكتاب على الجدار وانه زخرف او باطل من التخصيص ( فانه ) من ضم الوجدان المزبور الى إباء تلك النصوص وامتناعها من التخصيص يعلم ان المراد من المخالف الذي امر بضربه على الجدار وانه زخرف وباطل هو خصوص المخالف للكتاب بالتباين الكلي بنحو لا يمكن الجمع بينها ، وانه هو الذي يوجب سقوط الخبر من درجة الحجية وخروجه عن موضوع التعارض ومرحلة الترجيح وبذلك يرتفع التنافي بين الطائفتين ويندفع المحذور من البين ( اذ يختص ) موضوع اخبار الترجيح بالموافقة والمخالفة للكتاب على نحو العموم المطلق والعموم من وجه ( فاذا ) كان احد المتعارضين موافقا للعام الكتابي ، وكان الآخر مخالفا له اما بنحو العموم المطلق او العموم من وجه ، يكون الترجيح للخبر الموافق للكتاب ( وبما ذكر نا انقدح ) ضعف الاشكال بان المخالفة للكتاب لفظ واحد وظاهره في المقامين بمعنى واحد فلا وجه لحمل المخالفة في احد المقامين على المخالفة بالتباين وفي المقام الآخر على المخالفة بالعموم من وجه والعموم المطلق ( لما عرفت ) من ان الموجب لهذا الحمل انما هو العلم بصدور الاخبار الكثيرة منهم ( علیهم السلام ) على غير وجه التباين الكلى مع اباء مادل على ان المخالف للكتاب زخرف او باطل من التخصيص ( وعليه ) فلا وجه لاخراج الخبر المخالف للكتاب بقول مطلق من اخبار المقام والمصير الى كون المخالف غير حجة في نفسه مطلقا وان الموجب للترجيح هو عنوان الموافقة للكتاب لا هو وعنوان المخالفة ( كيف ) وان ذلك خلاف ما يقتضيه اخبار الباب كما هو ظاهر ( فلا محيص) حينئذ من المصير الى ما ذكرناه من ادراج المخالفة على غير وجه التباين الكلى في اخبار الباب ( وتوهم ) عدم اندراج المخالف للكتاب بالعموم المطلق في اخبار الترجيح ، لعدم التنافي بين العام والخاص، ولما هو التحقيق من تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد كتخصيص المتواتر به ( مدفوع ) بانه كذلك لولا ابتلاء الخاص الخبرى بالمعارض ( فلا تنافي ) حينئذ بين تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، وبين دخول هذا النحو من المخالفة في ادلة الترجيح واقتضائها لطرحه

ص: 197

عند معارضته مع الخبر الموافق للكتاب ( كيف ) ولا زم خروج هذا القسم من المخالف للكتاب عن موضوع اخبار الترجيح هو حصر مورد الترجيح بالموافقة والمخالفة بما يكون على نحو العموم من وجه ( وبعد ) ندرة المخالف للكتاب وقلة وجوده في الاخبار المتعارضة ، يلزم حمل ما اطلق فيه الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفته على المورد النادر الذي هو بحكم المعدوم ، وهو كما ترى ( فلا محيص ) حينئذ من تعميم المخالفة في تلك الاخبار بما يعم العموم المطلق ( ثم ان ) الحكم بالترجيح بموافقة الكتاب او مخالفته انما يكون اذا كان التنافي بين الخبرين بالتباين الكلى ، كما اذا كان مفاد احد الخبرين حرمة لحم الحمار ، وكان مفاد الآخر حليته ( فانه ) في مقام الترجيح يقدم ما دل على حليته لكونه موافقا للعام الكتابي وهو قوله سبحانه احل لكم ما في الارض جميعا ( واما ) لو كان التنافي بينها بنحو العموم المطلق ، فلا ترجيح بموافقة الكتاب ولا بمخالفته ، بل يقدم الخبر المخالف ويخصص به العام الخبري والكتابي على قواعد الجمع بين الاظهر والظاهر ، لما تقدم من خروج موارد الجمع العرفي عن موضوع اخبار الملاج ( هذا ) اذا كان التنافي بين الخبرين على نحو التباين الكلى أو العموم المطلق ( واما ) اذا كان التنافي بينها بنحو العموم من وجه فسيأني حكمه انشاء تعالى . ( هذا كله ) في الترجيح بموافقة الكتاب .

في الوجوه المتحمله لترجيح مخالف المحتملة العامة

( واما الترجيح ) بمخالفة العامة فلا ريب في أصل الترجيح بها لدلالة غير واحد من الاخبار التي منها المقبولة على وجوب الاخذ بما يخالف العامة وطرح ما يوافقهم ( وانما ) الكلام في وجه الترجيح بها ( فان ) المحتمل بدواً في الترجيح بمخالفة العامة امور ( الاول ) ان يكون وجه الترجيح لمجرد حسن المخالفة لهم ، كما قيل انه ظاهر مرسل داود بن حصين من قوله ( علیه السلام ) من وافقنا خالف عدونا ومن وافق عدونا في قول او عمل فليس منا ولا نحن منه ( الثاني ) ان يكون لمحض التعبد، لقوله ( علیه السلام ) في رواية سماعة بن مهران خذ بما خالف العامة ( الثالث ) ان يكون

ص: 198

لاجل أن الرشد والصواب في خلافهم ، كما هو ظاهر كثير من الاخبار التي منها التعليل بالرشد ( ومنها ) قول الرضا (ع) في خبر ابن اسباط انت فقي______ه البلد واستفته ، فاذا افتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه ( ومنها ) قوله ( علیه السلام ) في خبر الارجائى : اندري لم امرتم بالاخذ بخلاف ما يقوله العامة : قلت لا ادرى فقال ( علیه السلام ) : ان عليا ( علیه السلام ) لم يكن يدين الله بشيء الا خالف عليه العامة ارادة لابطال امره ، وكانوا يسئلون عن الشيء لا يعلمونه ، فاذا افتاهم بشيء جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس ( الرابع ) ان يكون لاجل صدور الموافق لهم تقية ، كقوله ( علیه السلام ) ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية ، وما سمعته مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه .

( ولكن ) الاحتمالين الاولين بعيدان جداً عن ظاهر الاخبار خصوصاً الاول منها، اذ لا اشعار لرواية داود بن حصين عليه فضلا عن الدلالة ( فان ) قوله ( علیه السلام ) وافقنا خالف عدونا ... الخ ظاهر في الموافقة معه_ في معتقداتهم الفاسدة وفي أخذ معالم دينه منهم ، كما يدل عليه رواية حسين بن خالد من قوله ( علیه السلام ) شيعتن_____ا المسلمون لا مرنا الخ ( مضافا ) الى اقتضائها لكون الأمر فى الترجيح بمخالفتهم نفسيا لا طريقيا ( فيدور ) الامر بين الاحتمالين الاخيرين ( ولا ينبغى ) الاشكال في ان المتعين منها هو الاحتمال الثالث ، لظهور الاخبار المزبورة في ان الترجيح بمخالفة العامة انما هو من جهة كون الخبر المخالف لهم أقرب الى الواقع من الموافق لا لان الموافق فيه التقية لتكون المخالفة من المرجحات الجهتية ، خصوصا بملاحظة ما اقترن الترجيح بها بموافقة الكتاب كما في المقبولة الظاهر في انها من سنخ واحد ، لا سنخين احدهما المرجح المضمونى الملحوظ فيه الاقربي__ة الى الواقع والآخر المرجح الجهتي ( واما ) قوله ( علیه السلام ) ما سمعته مني يشبه قول الناس في______ه التقية الخ ، فغير ظاهر في مفروض البحث ، بل ظاهره هو كونه في مقام تمييز الحجة من لا حجة ، لا في مقام ترجيح الحجة على الحجة .

( الامر الثاني ) المزايا المنصوصه المرجحة لاحد المتعارضين وان كانت

ص: 199

على انحاء مختلفة ومواردها متعددة من راوى الخبر ، كالا وثقية والاعدلية ونحوهما ، و نفس الخبر ، كالشهرة والشذوذ ، ومضمونه كالموافقة للكتاب ووجه صدوره كالمخالفة للعامة بناء على ان الترجيح بها لاحتمال كون الموافق صدر تقية ( ولكن ) مرجع الجميع عند التأمل الى الترجيح الصدوري والتعبد باحد السندين وطرح الآخر ( فانه ) مع سقوط الخبرين بالتعارض من الحجية الفعلية وعدم شمول عموم دليل السندلواحد منها بمقتضى بطلان الترجيح بلا مرجح بشهادة مرجعية الاصول العملية لولا الاخبار العلاجية ( لا مناص ) من ارجاع الجميع الى الترجيح الصدوري حتى في المخالفة للعامة ( والا ) فبدونه لا يكاد انتهاء النوبة الى الترجيح بها من حيث الجهة ( اذ بعد ) ان يكون التعبد بالجهة والدلالة من آثار كلام الصادر ممن له الحكم ، فلا جرم لا بد في انتهاء الامر الى الترجيح بها من احراز كون الخبر كلاماً واقعياً للامام اما بالوجدان أو بالتعبد ، والا فما لم يحرز موضوعها يمتنع الترجيح بها ومع سقوط عموم دليل السند في اثبات الموضوع الذي هو كلام الامام وعدم مرجح سندى في البين لم يحرز كون ذى الجهة كلاما للامام حتى يترتب عليه آثاره من حجية دلالته وجهته ( ومجرد ) اقتضائه للحجية ومشموليته في نفسه لدليل السند لا يكفي في التعبد الفعلى بالترجيح بها مالم يحرز كونه كلاما للامام بالتعبد به فعلا

فى ان المزايا المنصوصه مرجعها الى الترجيح الصدورى

( واما توهم ) جريان اصالة السند فيها معا ولو من حيث كونها موضوعا لادلة التخيير والترجيح ، فينتهى الامر حينئذ الى الترجيح الجهتي او المضمونى بمخالفة العامة وموافقة الكتاب الموجب لسقوط المرجوح جهة او مضموناً عن الحجية ( مدفوع ) بات شمول ادلة السند لها ولو من هذه الجهة متفرع على ترتب اثر عملى للمكلف على التعبد بها، والا فبدونه لا يكفي مجرد موضوعيتها لاخبار الترجيح في توجيه التعبد الفعلى بها الى المكلف كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فلا محيص من ارجاع الامر بالاخذ بما يخالف العامة وما يوافق الكتاب الى التعبد بالبناء على انه هو الصادر وان الموافق للعامة والمخالف للكتاب غير صادر و مرجع ذلك الى ما ذكرنا من رجوع المرجحات الى الترجيح الصدورى ، اذ لا نعنى من كونها مرجحاً صدوريا الا هذا ، غاية الامر

ص: 200

يختلف وجه ترجيح السند في هذه المرجحات من كونه تارة لاجل قوة احتمال الصدور ، واخرى لاجل قوة المضمون ، وثالثة لاجل قوة الجهة ( نعم ) انما تتمحض المخالفة للعامة في الترجيح بالجهة فيما اذا كان الخبران مقطوعى الصدور ( ولكن ) ذلك لا يقتضى كونها كذلك حتى في غير مقطوعى الصدور .

فى عدم الترتيب بين المرجحات

( ويترتب ) على ما ذكرنا عدم ملاحظة الترتيب بين المرجحات لان الجميع حينئذ في عرض واحد ( ولازمه ) وقوع التزاحم بين المرجحات ، فيما لو كان لاحد الخبرين مزية من جهة كالشهرة في الرواية ، وللآخر مزية اخرى كالمخالفة للعامة فيقدم ما هو أقوى مناطا في القرب الى الصدور ، ومع تساويها فالتخيير بينها ( نعم ) بناءاً على الاقتصار في الترجيح على المرجحات المنصوصة يمكن الالتزام بالترتيب بينها تعبدا حسب الترتيب المذكور في المقبولة والمرفوعة بعد الجمع بينها ، لولا دعوى ان مفادها مجرد بيان ان هذا مرجح وذاك مرجح آخر ( بخلافه ) على القول بالتعدى واناطة الترجيح بالظن أو بمطلق الاقربية العرفية الى الواقع أو الصدور ( فانه ) بعد اقتضائه رفع اليد عن خصوصية المرجحات بمقتضى التعليلات الواردة فيها ( لا محيص ) من الغاء الترتيب بين المرجحات الغاء الترتيب بين المرجحات ، لعدم اجتماع القول بالترتيب بينها مع البناء على التعدى منها ( ولذلك ) اشكل المحقق الخراساني قده على العلامة الانصاري قده ، بعدم امكان الجمع بين القول بالترتيب بين المرجحات مع الالتزام بالتعدى عنها ( هذا ) على المختار استفادة كون الاخبار المرجحة بصدد اثبات مرجح واحد .

( واما ) بناءاً على استفادة كونها بصدد اثبات مرجحات متعددة من حيث الصدور تارة والجهة اخرى والمضمون ثالثة ( فلا شبهة ) في ان لازمه هو الترتيب بين المرجح الصدوري ، والمرجح الجهتي ( لا من جهة ) تقدم رتبة التعبد بالصدور على التعبد مجهة الصدور والمضمون ( لوضوح ) ان التعبد بالجهة والمضمون بعد ان كان من آثار الكلام الواقعى الصادر من الامام يكون التعبد بالسند بالنسبة الى التعبد بالجهة والمضمون بمنزلة المنقح لموضوع الاثر الواقعي ، نظير

ص: 201

التعبد بالحيوة بالنسبة الى الاثر المترتب على الحيوة الواقعية ، ويكون نسبة التعبد بها الى التعبد بالسند من قبيل الحكم الواقعي لموضوع قامت الامارة على اثباته ظاهرا (ولازمه ) هو تقدم التعبد بالجهة والمضمون رتبة على التعبد بالسند، كتقدم الاثر الواقعى المترتب على موضوع قامت الامارة أو الاصل على اثباته ظاهراً ( بل من جهة ) ان موضوع التعبد بالجهة والمضمون هو الكلام الواقعي الصادر من المعصوم ( علیه السلام ) ، فان لازمه هو عدم جريان التعبد بالجهة والمضمون الا بعد الفراغ عن ثبوت اصل السند و احرازه بالوجدان أو التعبد ( فلو كان ) احد المتعارضين واجداً للمرجح السندى كالشهرة في الرواية ، وكان الآخر واجداً للمرجح الجهتي او المضمونى كالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب يقدم ذو المرجح السندى على ذي المرجح الجهتي أو المضموني لان المرجح السندى باقتضائه لطرح المرجوح سنداً موجب لسقوط موضوع إصالة الجهة والدلالة فلا يبقى معه كلام الامام حتى تنتهى النوبة الى ترجيح جهته او مضمونه على الآخر ( هذا ) في الترتيب بين المرجح الصدوري، والمرجح الجهتي والمضموني ( وأما المرجح الجهتي ) والمضمونى فالظاهر انه لا ترتيب بينها ( لان ) التعبد بالجهة والدلالة اثران عرضيان للكلام الواقعي بلا تقدم رتبي لاحدهما على الآخر ( وما يرى ) من بنائهم على تقديم الجمع على التقية في مقام الترجيح ، فأنما هو من جهة انطرح الجهة يؤدى الى طرح السند ، بخلاف طرح الدلالة فى مقام الجمع فانه لا يوجب طرح السند رأساً، إذ يبقى معه مقدار من الدلالة يوجب الاخذ بسنده ( لا انه ) من جهة تقدم الاصل الجهتي على الاصل الدلالي .

( ثم انه ) على هذا المبنى وان صح الجمع بين الترتيب في المرجحات وبين الالتزام بالتعدى ( ولكن ) اللازم حينئذ ان يكون التعدى من كل مرجح الى ما هو الاقرب من سنخه لا مطلقا ، فيتعدى من التعليل بعدم الريب في المجمع عليه ومن تعليق الحكم على الأوصاف الى الاقربية الصدورية ( ومن ) التعليل بالرشد في مخالفة العامة بناء على كونها من المرجحات الجهتية الى الاقربية الجهتية ( ومن الترجيح ) بموافقة الكتاب الى الاقربية المضمونية للواقع ، مع ان هذا التفصيل خلاف

ص: 202

ظاهر كلمات الشيخ قده ( فان ) ظاهره هو التعدى الى مطلق الاقرب الى الواقع أو الصدور ، وهو كما ترى لا يتم الا بارجاع جميع المرجحات الى مرجح واحد صدوری .

فى نقل نظر المحقق الخراسانی ره ودفع ما اورد عليه

( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو فساد اصل هذا المبنى ( لما عرفت )من ان موضوع الاصل الجهتي والدلالى هو الكلام الصادر من المعصوم ( علیه السلام ) ولا بد فى جريانها من احراز موضوعها بالوجدان او التعبد ، و بعد سقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية وعدم شمول عموم السند لها ، وعدم مرجح سندي في البين حسب الفرض لذى المرجح الجهتي او المضمونى لم يحرز كلام الامام حتى ينتهى الى ترجيح اصله العقلانى على غيره ( وحينئذ ) فبعد عدم كفاية مجرد اقتضاء الحجية لمثل هذا الترجيح ، فلا محيص من ارجاع هذين المرجحين الى المرجح الصدورى بارجاع الأمر بالأخذ بما يخالف العامة وما يوافق الكتاب عند التعارض الى التعبد بالبناء على انه هو الصادر وان غيره الموافق للعامة او المخالف للكتاب غير صادر ولازمه هو كون جميع المرجحات في عرض واحد بلا تقدم لاحدها على الآخر .

( والى ما ذكرنا ) نظر المحقق الخراساني قده فيها افاد من عدم الترتيب بين المرجحات ووقوع التزاحم بينها فيما لو وجد في احد المتعارضين مرجح وفي الآخر آخر .. الخ : فلا يرد عليه ما اورد : تارة بان الترجيح بمخالفة الكتاب ، وموافقه العامة يرجع الى التخصيص في الاصول العقلائية التي تقتضي البناء على صدور الكلام على وفق المراد وان مضمونه تمام المراد . والترجيح بالشهرة وبالصفات يرجع الى التخصيص في ادلة حجية خبر الواحد فلا وجه لارجاع المرجحات كلها الى المرجح الصدوري .. واخرى على ما افاده بقوله لا معنى للتعبد بعند ما يتعين حمله على التقيه : بانه ناش. عن الخلط بين الحمل على التقية في باب تعارض الخبرين ، وبين الحمل على التقية في غير باب التعارض ، فان ما لا يمكن فيه التعبد بالصدور مع الحمل على التقية انما هو فيما لو كان الخبر في حد نفسه ظاهراً في التقية ( واما ) لو كان الخير في نفسه غير ظاهر فيها فالحمل على التقية انما هو بعد وقوع التعارض بينه وبين

ص: 203

الخبر المخالف للعامة ، ووقوع التعارض بينها فرع شمول ادلة التعبد بالصدور لكل من الموافق والمخالف ( اذ فيه ) ان مبنى الاشكال على كون المخالفة للعامة من المرجحات الجهتية اذا كان من جهة امتناع جريان اصالة الجهة مع عدم احراز موضوعها الذي هو كلام الامام ( علیه السلام ) ، فكيف يصير ذلك جواباً اشكاله ، وكيف يكون هذا المقدار من البيان مصححا لكون المخالفة والموافقة للعامة من المرجحات الجهتية بعد عدم احراز موضوعها الذى هو كلام الامام لا وجداناً ولا تعبداً ، لسقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية وعدم شمول عموم دليل السند لواحد منها بالفعل ، مع عدم مرجح سندى في البين حسب الفرض يقتضي التعبد الفعلى بصدور المخالف ( اذ في مثله ) اين كلام الامام حتى ينتهي الامر الى التعبد بترجيح جهته على الجهة في الآخر ( وشمول ) عموم التعبد بالسند لكل واحد من الخبرين في حد نفسه مع قطع النظر عن معارضه ، غير مجد في التعبد الفعلى بهذا الترجيح ( اذ بمثل هذه ) الحجية الاقتضائية لا يحرز كون الخبر المخالف كلاماً للامام حتى يترتب عليه اثره الذي هو التعبد بترجيح اصالة الجهة فيه على اصالة الجهة في الخبر الآخر الموافق للعامة ( وعلى فرض ) كفاية مجرد اقتضاء الحجية لذلك .. نقول ان اصالة الجهة بعد ان تكون من آثار الكلام الواقعى للامام لا من آثار التعبد به فلازم الترجيح بها هو تقديم هذا الترجيح على الترجيح السندى ، لاقتضاء دليل الترجيح بها في الخبر المخالف للعامة للعلم الاجمالى في الخبر الموافق لهم اما بعدم صدوره ، او بوجوب حمله على التقية ، ومع هذا العلم الاجمالي لا مجال لترجيح سنده في فرض وجود مرجح سندي فيه من اوصاف الراوي او الشهرة في الرواية والى ذلك يرج_____ع مقالة المحقق الرشتي قده فيما أورده في بدايعه على العلامة الانصاري قده ( فلا يتوجه ) عليه اشكال المحقق الخراساني قده بمنع دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا وعدم صدور المخالف المعارض له ( اذ هذا ) الاشكال انما يرد عليه فيما لو اراد بالدوران المزبور في الخبر الموافق الدوران الواقعى مع قطع النظر عن ملاحظة ادلة الترجيح

ص: 204

بالجهة المقتضية لكون الخبر الموافق لهم على تقدير صدوره صادراً تقية ( كيف ) وهذا الاحتمال مما لا يكاد خفائه على الاصاغر من الطلبة فضلا على مثله قده ( بل المقصود ) هو الدوران الحاصل من ملاحظه الادلة المرجحة لاصالة الجهة في الخبر المخالف للعامة على اصالة الجهة في الخبر الموافق لهم المقتضية لحمل الموافق على تقدير صدوره واقعا على التقية ( فانه ) بملاحظة ادلة الترجيح يصير الخبر الموافق محصوراً بين الاحتمالين لارتفاع احتمال صدوره لبيان حكم الله الواقعى ( فعدم ) الالتزام بذلك يشهد بما ذكرناه من رجوع المرجح الجهتي ايضاً الى المرجح الصدورى فتأمل .

فى مرجحيّة الشهره واقسامها واحكامها

( الامر الثالث ) في مرجحية الشهرة ، وهى على اقسام الشهرة الروائية ، والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية ( اما الشهرة ) الروائية فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وارباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الاصول وفي كتب المحدثين الجوامع للاخبار ( ولا اشكال ) في الترجيح بها ، بل هو المتيقن من المقبولة المصرحة بالترجيح بالشهرة .

( واما الشهرة ) العملية ، فهي عبارة عن عمل المشهور بالرواية واستنادهم اليها في الفتوى ( والنسبة ) بينها وبين الشهرة الروائية هى العموم من وجه ( اذرب ) رواية مشهورة بين الرواة ومدونة في كتب المحدثين ولم يعمل بها المشهور ( ورب ) رواية قد عمل بها المشهور ولم تكن مشهورة بين الرواة وارباب الحديث ( ورب ) رواية اجتمع فيها الامران ( ولا اشكال ) فى الترجيح بهذه الشهرة ، بل الترجيح بها اولى من الترجيح بالشهرة الروائية ، لكونها جابرة لضعف الرواية ومصححة للعمل بها وان كانت الرواية بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف ( بل اطلاق ) المرجح عليها لا يخلو من مسامحة ( فان ) هذه الشهرة كما تكون جابرة لضعف الرواية ، كذلك تكون موهنة للرواية التي على خلافها وان كانت مشهورة قد رواها الثقات ، نظرا إلى كشف أعراضهم عنها عملا عن خلل فيها يوجب سقوطها عن الاعتبار لارتفاع الوثوق عنها ( فان ) المناط في حجية خبر الواحد بعد ان كان هو الوثوق بسنده وجهته ولو بالاصول العقلائية ، فلا جرم باعراض المشهور من المتقدمين عنه يرتفع الوثوق النوعي بسنده فيخرج عن درجة الاعتبار وان كان بحسب القواعد

ص: 205

الرجالية في منتهى درجة القوة ( ومن هنا ) قيل انه كلما ازداد الخبر صحة ازداد باعراض الاصحاب عنه ضعفاً ( وعليه ) فالعبرة على الشهرة العملية الاستنادية في الوثوق الذى عليه مدار حجية الخبر ( بل مع ) وجود هذه الشهرة لا يكاد انتهاء الامر الى الترجيح بشيء من المرجحات ولكن بشرط ان تكون من المتقدمين من ارباب المتون ، وإلا فلا اثر لشهرة المتأخرين ما لم تتصل بشهرة المتقدمين .

( واما الشهرة ) الفتوائية فهى عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى من المتقدمين على طبق مضمون الرواية مع عدم العلم باستنادهم في الفتوى الى الرواية الموجودة في المسألة ( ولا اشكال ) في كون هذه الشهرة موهنة للرواية التي علي حلافها ( فان ) اشتهار الفتوى منهم في المتون على خلاف مضمون الرواية مع قرب عصر هم بزمان صدور الاخبار وكون الرواية بمريثهم ومنظرهم ، يكشف كشفاً اطمينانيا عن اطلاعهم على خلل فيها سنداً أوجهة، بحيث لو كنا نحن في عصر هم لكنا نطرح الرواية ايضا ( ولا يخفى ) انه على هذا البيان لا يحتاج الى ضم شهرة المتأخرين الى شهرة المتقدمين، بل يكفي في طرح الرواية شهرة الفتوى من القدماء على خلاف مضمون الرواية ، وان كان شهرة المتأخرين على طبق مضمونها ( نعم ) لو احرز ان فتويهم على خلاف مضمون الرواية من جهة مناقشتهم في دلالتها ، لكان المتبع هو الرواية إذا كانت واجدة لشرائط الحجية ولو لم تكن الشهرة المتأخرة ايضا على طبق مضمونها فضلا عما لو كانت على وفقها ( ومع الشك ) في ذلك وعدم العلم بان فتويهم على خلاف مضمون الرواية ، لاجل اعراضهم عن الرواية سنداً أو جهة ، او لاجل المناقشة في دلالتها يحكم عليها بحكم الاعراض ، لعدم الوثوق الذي عليه مدار حجي_____ة الخبر .

( وانما الكلام ) في كون هذه الشهرة مرجحة لاحد المتعارضين ، او جابرة لضعف الرواية ( ومنشأ ) الاشكال ان الترجيح والجبر بها متفرع على استنادهم في الفتوى الى الرواية واعتمادهم عليها ، ولا يكفي فيها مجرد تطابق فتويهم لمضمون الرواية مع عدم احراز استنادهم اليها في الترجيح أو الجبر ، كما لا يكفي فيها عمل المتأخرين

ص: 206

بالرواية مالم يتصل بشهرة المتقدمين ( ولكن ) التحقيق هو التفصيل بين أن يكون الفتوى على طبق القاعدة وبين كونها على خلافها ( فعلى الاول ) لا تكون الشهرة الفتوائية مرجحة لاحد المتعارضين ولا جابرة لضعف الرواية ( فانه ) مع كون الفتوى على طبق ما تقتضيه القاعدة ، يحتمل قريباً كونها هي المستند في فتويهم لا الرواية الموجودة في المسألة ( ومع ) هذا الاحتمال لا يحصل الوثوق باستنادهم في الفتوى اليها ، وان استند اليها المتأخرون في فتواهم ، لما تقدم من انه انه لا عيرة بعمل المتأخرين بالرواية في الترجيح والجبر ما لم يتصل بشهره المتقدمين ( فلا تكون ) الشهرة الفتوائية حينئذ مرجحة للرواية على معارضها ولا جابرة لضعفها اذالم يكن لها معارض ( واما على الثاني ) وهو كون الفتوى في المسألة على خلاف ما تقتضيه القاعدة ، فلا قصور في جابرية الشهرة الفتوائية لضعف الرواية الموجودة في المسألة ومرجحيتها خصوصا اذا توافق شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى على طبق مضمون الرواية ، لحصول العلم العادي بان مستند فتوى المتقدمين هو تلك الرواية ( والموجب ) لذلك امور ثلاثة بعد انضمام بعضها ببعض ( احدها ) كون الحكم المفتي به على خلاف ما تقتضيه القاعدة ( وثانيها ) إياء عدالتهم وعلو مقامهم عن الفتوى في المسألة بلا مستند صحيح عندهم (وثالنها ) بعد ان يكون لهم مستند آخر غير ما وصل الينا من الرواية بطرقهم ( اذ لو كان ) لهم مستند آخر غير الرواية الموجودة فيها بايدينا لوصل الينا منهم ، ولكان المتأخرون الشارحون للمتون يستندون اليه في فتويهم بعثورهم عليه لقرب عصرهم بعصرهم ( حيث ) انه بانضمام هذه الامور بعضها ببعض مع اتصال شعرة المتأخرين بشهرة المتقدمين يحصل العلم العادي بانه لا يكون المستند في فتويهم إلا تلك الرواية الموجودة في المسألة ( ومعه ) تكون هذه الشهرة

ص: 207

جابرة لضعف الرواية إذا لم لها يكن معارض ومرجحة لها على معارضها على تسامح في ذلك .

فى حكم تعارض العامين من وجه

( الأمر الرابع ) في أنه هل يرجع في تعارض العامين من وجه الى اخبار العلاج باعمال المرجحات الصدورية والجهية والمضمونية ( أو لا يرجع ) فيهما اليها بل يحكم فيها في مورد الاجتماع بالتساقط مع تساويها في قوة الدلالة ويكون المرجع هو الاصل الجاري في المسئلة ( وعلى الاول ) فهل الرجوع الى المرجحات في تمام الخبر فيؤخذ باحد العامين ويطرح الآخر في تمام مدلوله حتى في مادة الافتراق ( اوان ) الرجوع اليها في مورد تعارضها وهو مادة الاجتماع ( فيه وجوه ) من انصراف اخبار الترجيح والتخيير الى صورة تعارض الخبرين بتمام مدلوليها الموجب لخروج العامين من وجه من مصب الاخبار ( ومن صدق ) التعارض ولو في الجملة وكفايته في دخولها في مصب الاخبار ( ومن ان ) التعارض بينها أنما هو في بعض مدلوليها فلا وجه لاعمال المرجحات وطرح احد هما سنداً حتى فيما لا تعارض بينهما ( ولكن الاقوى ) الوجه الاول وهو عدم الرجوع الى المرجحات حتى في مجمع تصادقها الذي هو مورد التعارض وفاقا للمشهور بل المعظم ( وذلك ) لا من جهة عدم قابلية الخبر للتبعيض فى المدلول من حيث السند ، لا مكان دفعه بان ماهو غير قابل للتبعيض أنما هو التبعيض الحقيقي بحيث يكون الخبر صادراً في بعض مدلوله وغير صادر في بعض آخر ( واما التبعيض ) التعبدي ، فلا محذور فيه عقلا ، لا مكان التعبد بصدور الخبر في بعض مدلوله ، وعدم التعبد به في البعض الآخر ، كيف والتفكيك بين اللوازم والآثار في التنزيلات الشرعية فوق حد الاحصاء ، ولا يأبى العرف ايضا عنه ( بل من جهة ) خروجها من مصب اخبار العلاج ، لاختصاصها صرفا او انصرافا بما اذا كان التعارض بين الخبرين بنحو لا يتمكن من الجمع بين سنديها والعمل على طبق مدلولها ولو في الجملة ( وفي العامين ) من وجه يمكن الجمع بين سنديها ولو بلحاظ مادة افتراقها ( فان ) هذا المقدار يكفي في صحة التعبد بسندها وجهتهما ، نظير

ص: 208

التعبد بسند العام المتصرف في ظهوره في قبال الخاص الاظهر ( غاية ) الامر يقع بينها التكاذب في الدلالة في مجمع تصادقها ، وحيث لا ترجيح لاحد الدلالتين يحكم عليهما في المجمع بحكم الاجمال والرجوع الى الاصل الموجود في المسئلة ، كما في مقطوعي الصدور ، لا الى المرجحات السندية ، ولا الى المرجحات الجهتية والمضمونية كالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب، كما هو ظاهر بعض الاعاظم قده على ما ذكر في التقرير خصوصا على مسلك المختار من ارجاع المرجح الجهتي والمضموني الى المرجح الصدوري كما تقدم بيانه ( وما ذكرنا ) هو الوجه في تسالم الاصحاب على التساقط في العامين من وجه في مجمع تصادقها والرجوع الى الاصل .

فى ان الاصل مرجع لا مرجح

( الامر الخامس ) في الترجيح بالاصل بناء على التعدي من المرجحات المنصوصة ( فان الذي ) يظهر من بعضهم الترجيح به وتقديم الخبر الموافق للاصل على المخالف له ( ولكن ) فيه نظر واضح ( فان ) الاصول الفقاهية من جهة تأخر مضمونها لا تكون في مرتبة الادلة الاجتهادية حتى تصلح للمرجحية وتقوية مضمونها ( كيف ) ومورد جريانها انما هو ظرف فقد الدليل الاجتهادي المطابق او المخالف أما رأسا ، أو لسقوطه عن الحجية بالمعارضة ، فلا مورد لجريان الاصل قبل سقوط المتعارضين ، وبعد سقوطهما عن الحجية يكون الاصل مرجعا لا مرجحا ، من غير فرق في ذلك بين الاصول العقلية والشرعية ، ولا في الثاني بين الاصول التنزيلية وغيرها ( وأما الترجيح ) بالظنون غير المعتبرة ، فعلى القول بالتعدى من المرجحات ، فلا بأس بالترجيح بها مالم يكن من الظنون المنهى عن اعمالها كالظن القياسي ، والا فلا يعتني به ، لانه نحو اعمال له الذي هو المنهى المنهى عنه .

( بقى الكلام ) فيما يتعلق بالتخيير وهي امور ( الاول ) قد تقدم ان حكم المتعارضين على الطريقية في الامارات بالنظر الى عموم دليل الحجية هو التساقط ( وعلى السببية ) والموضوعية هو التخيير على التفصيل المتقدم بين أن يكون التعارض بين الخبرين لاجل تضاد موضوعى الحكمين ولو عرضا ، وبين ان يكون لاجل وحدة موضوعها ( وبالنظر ) الى ما يستفاد من اخبار العلاج هو عدم سقوطها ووجوب

ص: 209

الترجيح والاخذ بذي المرجح منها ان كان هناك مرجح ، ومع فقده وتساويها فالتخيير بينها ( وقد عرفت ) ان هذا التخيير ليس تخييرا في المسئلة الفقهية ، كالتخيير بين القصر والاتمام في المواطن الاربعة ( إذ بعد ) انهاء الامر في المتعارضين ولو بمقتضى المدلول الالتزامي لهما في اغلب الموارد الى النفي والاثبات يمتنع الوجوب التخييري في العمل بمؤدى الخبرين لكونه من ايجاب التخيير بين النقيضين ( بل ولا تخييرا ) عمليا منتجا للاباحة الظاهرية بمقتضى اللاحرجية بين الفعل والترك كما في الدوران بين المحذورين ( فان ) ذلك وان كان ممكنا في نفسه ، ولكنه لا يساعده ادلة التخيير ( بل هو ) تخيير في المسئلة الاصولية اي في الاخذ باحدهما في مقام الاستطراق الى الواقع المنتج لكون المأخوذ حجة تعيينية يتعين العمل بمضمونه بعد الاخذ به ( فان ) الظاهر من قوله ( علیه السلام ) .. بايها اخذت من باب التسليم وسمك ، هو أن طرف التخيير هو الأخذ باحدهما ليكون المأخوذ حجة وطريقا محرزاً للواقع الذى لازمه تعين العمل بمضمونه ( ومرجعه ) في الحقيقة الى الامر التعييني بالعمل بكل واحد من الخبرين مشروطا بالاخذ به ( فان ) ذلك مما يستتبع تخيير المكلف بالأخذ باحدهما مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية ( ومن هنا ) لا يكون الحكم بالتخيير في الاخذ باحدهما حكما مولويا يترتب العقوبة على تركه من حيث نفسه، وانما هو ارشاد الى حكم العقل بوجو به مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية مع القدرة عليه، كما هو الشأن في حكمه في الشبهة قبل الفحص للقادر على تحصيل الحجة الشرعية .

فى ان التخيير تخيير في المسألة الاصولية

( الثاني ) في انه هل بتعين على الحاكم وكذا على المفتي في مقام الافتاء ان يختار احد الخبرين والافتاء على طبق مضمون ما اختاره من الحكم الفرعي ( اوان ) له الافتاء بالحكم الاصولي وهو التخيير في الاخذ باحد الخبرين ، فيختار المقلدما أحب منها ولو على خلاف ما اختاره مجتهده ( او الافتاء ) بالتخيير في العمل بكل منها ( فنقول ) اما الحاكم والقاضي فلا اشكال في انه يتعين عليه اختيار احدهما والحكم على طبقه ، لعدم فصل الخصومة إلا به ولا معنى لتخيير المتخاصمين في الاخذ او في العمل باحد الخبرين .

فى انه يجوز الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية

( واما المفتى ) في مقام الافتاء ( فقد ) يقال بابتناء الخلاف المزبور على

ص: 210

الخلاف فيما هو المستفاد من أدلة التخيير من كون التخيير في المسألة الاصولية فيكون التخيير للمفتى او كونه في المسألة الفرعية فيكون التخيير للمستفتي في العمل بمضمون أحدهما ( ولكنه ) ليس كذلك لتأتى ، الخلاف المذكور ولو على القول بكون التخيير في المسألة الاصولية ( بل التحقيق ) ابتناء هذا الخلاف على الخلاف في شمول الاحكام الطرقية المستفادة من ادلتها كالاحكام الواقعية للجاهل المقلد ، وعدم شمولها له واختصاصها بالمجتهد ( فان قلنا ) باختصاص الأوامر الطرقية بالمجتهد المتمكن من تحصيل شرط العمل بها من الفحص و نحوه وعدم شمولها للعاجز عنه ( فلا شبهة ) في انه ليس للمجتهد الفتوى بمضمون هذه الوظائف الفعلية غير الشاملة للمقلد العاجز ، لعدم شمول ادلة رجوع الجاهل الى العالم لمثله ( لوضوح ) ان المراد من العالم هو العالم بوظيفة المقلد لا العالم بوظيفة نفسه ، فيتعين عليه حينئذ اختيار احد الخبرين والافتاء بمضمون ما اختاره من الحكم الواقعي ( و توهم ) ان الامر التعيينى بمضمون كل واحد من الخبرين بعد ان يكون مشروطا بالاخذ الذي هو وظيفة المجتهد ، فيلزم اختصاص الحكم التعييني المستفاد من المأخوذ بخصوص المجتهد ، فلا يشمله دليل رجوع الجاهل الي العالم بعد اختصاصه بالعالم بوظيفة المقاد لا العالم بوظيفة نفسه ( مندفع ) بان مجرد اناطة التعبد بمضمون الخبر بالأخذ به لا يقتضي اختص______اص مضمونه بخصوص المجتهد الأخذ بل هو حكم واقعي شامل لجميع افراد المكلفين واحتياج التعبد به الى الفحص والأخذ غير ضار بعد كون فحص المجتهد وأخذه مجزياً فحصه وأخذه ( وبتقريب آخر ) أن أخذ المجتهد بعد ان كان بملاك تحصيل الحجة فبالأخذ باحد الخبرين يصير المأخوذ حجة تعيينيه عليه ( فاذا ) كان دليل تتميم كشفه مثبتاً للعلم التنزيلى بالمؤدى يكون المجتهد بمنزله العالم بالوظيفة الواقعية المقلده فيفتي بمضمون ما اختاره من الحكم الواقعي المشترك بين الجاهل والعالم ، فيترتب عليه رجوع الجاهل اليه ( واما ان قلنا ) ان الاحكام الطرقية الظاهرية كالاحكام الواقعية شاملة للمقلد الجاهل ايضا ، كما هو الظاهر من اطلاق ادلتها ، بلا اختصاص خطاباتها بالمجتهد لا ذاتا ولا عرضا من جهة اشتراطها بالفحص ( لان ) المتيقن من دليل الفحص اشتراطه باعم من فحص نفسه او مجتهده ، فيكون

ص: 211

فحص المجتهد بمقتضى ادلة الافتاء والاستفتاء فحصا للمقلد ايضا ( فلازمه ) جواز الافتاء في التخيير بالأخذ باحد الخبرين ( لان ) رأى المجتهد كما هو حجة في تعيين الحكم الفرعي الواقعي باستنباطه من الادلة ، كذلك حجة في تعيين الحكم الظاهري ، بل قد يقال ان المتعين حينئذ حجية رأيه فيما استنبطه من الادلة عند تكافؤ الخبرين ، لا ما اختاره لنفسه في مقام العمل لعدم الدليل على حجية ما اختاره لنفسه على مقلده بحيث يكون تكليفاً تعيينياً بالنسبة اليه ( نعم ) ليس له الافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية بالعمل على طبق احد الخبرين ( اذهو ) مع عدم كونه مفاداً لادلة التخيير ، لا يكون مؤدى واحد من الخبرين ايضا ، فيكون الفتوى بالتخيير بالعمل بها فتوى بلا دليل ، مضافا الى ما تقدم من امتناع الوجوب التخييري بين العمل بها بعد انتهاء الامر بينها في الغالب الى النقيضين ( هذا ) اذا اريد من التخيير الوجوب التخييرى ( واما ) لو اريد التخيير العملي بمعنى الاباحة ، فعليه وان لم يتوجه الاشكال الأخير ، ولكنه يتوجه عليه اشكال كونه فتوى بلا دليل ( نعم ) لا بأس بالفتوى بالوجوب التخييرى بناء على استفادة كون التخيير في المسألة الفرعية ولكنه يتوجه عليه الاشكال الاخير من انه لا معنى للوجوب التخييري بعد انتهاء الامر بينها الى النفي والاثبات ( فعلى كل تقدير ) يسقط القول بالافتاء بالوجوب التخييري .

فى ان التخيير بدوى اواستمراري

( الامر الثالث ) هل التخيير في المسألة بدوى فليس للمكلف ان يختار في الزمان الثانى غير ما اختاره في ابتداء الأمر ، او انه استمراری فلامکلف الاختيار في كل زمان فى الأخذ باي الخبرين شاه ( فيه وجهان ) بل قولان ، ومورد البحث أنما هو في فرض كون التخيير في المسألة الاصولية ( والا ) فني فرض كونه في المسألة الفرعية ، فلا اشكال في استمراره وان للمكلف ان يعمل بمضمون احد الخبرين تارة ويمضمون الآخر اخرى ، كما في التخيير بين القصر والاتمام في المواطن الاربعة ( وبعد ذلك ) نقول .. انه قد يقرب الاول بوجهين ( احدهما ) ما افاده العلامة الانصارى قده من ان الاخبار الدالة على التخيير مسوقة

ص: 212

لبيان وظيفة المتحير في ابتداء الأمر ، فلا اطلاق فيها بالنسبة الى حال المتحير بعد الالتزام باحدهما ، واستصحاب التخيير غير جار ( لان ) الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخير ، فائباته لمن اختار والتزم اثبات للحكم في غير موضوعه ( ويتوجه عليه ) اولا ، منع سوق الاخبار لبيان وظيفة المتحير في بدو الامر ( بل هي ( ظاهرة في سوقها لبيان حكم المتحير من حيث هو ، ومقتضى اطلاقها عدم الفرق في الحكم بالتخيير بين ابتداء الامر أو بعده ( وثانيا ) منع كون موضوع التخيير هو المتحير اذ لا دليل على اخذ عنوانه في موضوع التخيير ( بل الموضوع ) هو من جائه الحديثان المتعارضان ، فالتحير حكمة لجعل الحكم المذكور ، كما هو ذلك في الحكم بالترجيح ( ومن الواضح ) بقاء هذا الموضوع على حاله في جميع الازمنة وعدم انقلابه بالاختيار وبالعلم بالحكم الفعلي ( مع ان ) التحير في الحكم الواقعى متحقق حتي مع الاختيار ، والتحير العقلي في المتعادلين مرتفع بالعلم بالتخيير ( فلا يمكن ، ان يكون عنوانا للموضوع يدور الحكم مداره .

( وثانيها ) ان طبع الاطلاق في التخيير المأخوذ موضوعا للوجوب يقتضي كون المطلوب صرف وجود الاختيار ، لا الطبيعة المهمله ، ولا السارية ، كما هو ذلك في كلية الأوامر ( ولازمه ) سقوط حكمه بمجرد حصوله في الزمان الأول بلا احتمال بقائه ( فلو شك ) حينئذ في بقاء التخيير ، فلا بد وان يكون من جهة احتمال تعلق امر جديد به في الزمان الثاني ( وفي مثله ) لا مجال لاستصحاب التخيير ، بل الاستصحاب جار فى وجوب العمل بما اختاره في الزمان الاول ( وفيه ) انه كذلك اذا كان الأمر بالاختيار شرعيا مولويا ، وليس الأمر كذلك ( بل هو ) ارشادي الى حكم العقل به بمناط وجوب تحصيل الحجة الشرعية للمقادر على تحصيلها ، كما ذکر ناه ( وما هو ) شرعى انما هو ملزومه الذي هو الامر بالتعبد بكل منهما في ظرف الأخذ به واختياره فيكون اطلاقه تابع اطلاق ملزومه ( فاذا كان ( الظاهر من اطلاق هذا النحو من القضايا الشرطية هو كون الشرط الطبيعة السارية في كل زمان فلا محالة يتبعة اطلاق الامر بالتخيير ولو ارشادا في كون المطلوب طبيعة الاختيار

ص: 213

السارى في كل زمان ، فيتم المطلوب من استمرار التخيير بلا احتياج الى استصحابه ( اللهم ) الا ان يقال ان ذلك انما يتم لو كانت القضية الشرطية من القضايا الملفوظة، وليس الامر كذلك ( فان ) منطوق الرواية ليس الا مجرد الأمر باختيار أحد المتعارضين ولو ارشادياً ، لا ملزومه الذي هو حجية ما يختاره المكلف في ظرف اختياره ( فاذا ) اقتضت المقدمات الحكمة في التخيير المأخوذ موضوعاً للوجوب ولو ارشاداً كونه على نحو صرف الوجود المنطبق بتمامه على الاختيار في الزمان الاول ، يتبعه اطلاق ملزومه المستفاد منه ( ولا اقل ) من عدم استفادة شرطية الاختيار بنحو الطبيعة السارية في كل زمان ( نعم ) على ذلك يبقى المجال لاستصحاب بقاء التخيير في الزمان الثانى ( فانه ) يكفي فيه مجرد عدم استفادة صرف الطبيعي المنطبق على الاختيار في الزمان الاول ( واما توهم ) معارضته مع استصحاب التعيين في طرف المأخوذ ( فمندفع ( بكون الشك في الثاني مسبباً شرعياً عن الاول فاستصحابه يكون حاكماً على استصحاب التعيين .

هذا تمام الكلام في الجزء الرابع من الكتاب والحمد الله أولا وآخراً وصلى الله على محمد خير خلقه وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى قيام يوم الدين ( وقد ) وقع الفراغ من تسويده على يد العبد الآثم المحتاج الى رحمة ربه الغني محمد تقى النجفى البروجردي ابن عبد الكريم على الله عنها في ثلاث بقين من شهر جمادى الثانية سنة ١٣٥٣ ثلاثة وخمسين بعد الالف وثلثمائة من الهجرة النبوية عليه وعلى اخيه والأئمة من ذريته آلاف الثناء والتحية .

ص: 214

فى تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحاً

في الاجتهاد والتقليد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه واشرف بريته محمد وآله الطاهرين المعصومين الغر الميامين : ولعنة الله على اعدائهم ومخالفيهم اجمعين الى قيام يوم الدين .

( وبعد ) فهذه وجيزة فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد قد حررناها في سالف الزمان فاجبت الحاقها بالكتاب وهو الموفق للصواب ( اما الاجتهاد ) ففيه مواضع للبحث .

الموضع الاول

في تعريفه ( فنقول ) الاجتهاد لغة من الجهد بالفتح بمعنى تحمل المشقة ومن الجهد بالضم بمعنى صرف الطاقة ، وقيل انه بالفتح والضم بمعنى المشقة ( واما اصطلاحا ) فقد اختلف عباراتهم في شرح معناه فمن محكى العلامة قده والحاجي تعريفه باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي وعن البهائى قده فيما حكى عنه انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعى ( وعن ) ثالث انه حالة او قوة قدسية الهيئة الى غير ذلك مما هو مذكور في المطولات ( ولكن ) الظاهر ان اختلاف عباراتهم في شرح معناه المصطلح ليس لاجل إختلافهم في حقيقته ( بل هو ) عند الجميع عبارة عن استفراغ الوسع في اعمال القواعد لتحصيل المعرفة بالوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية ( وان ) المقصود من تلك العبارات المختلفة هو مجرد الاشارة اليه بوجه ما ( فمن

ص: 215

جهة ) ان استخراج الاحكام والوظائف الفعلية من ادلتها لا يكون الا عن قوة راسخة في تنقيح القواعد النظرية واعمالها في مواردها ، عرف بالملكة تارة ، وبالقوة القدسية اخرى باعتبار كونها من المواهب الآلهية والنور الذي يقذفه الله في قلب من يشاء ( ومن جهة ) ملازمة اعمال القواعد في مقام الاستنباط لاتعاب النفس وتحمل المشقة ، عرف باستفراغ الوسع في تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي ، كما ان اشتماله على المشقة هو الموجب لصحة اطلاق معناه اللغوي عليه لكونه حقيقة من افراده و مصادیقه، فكان اطلاقه عليه من باب اطلاق الكلى على فرده، لا من باب العناية و المجاز ( نعم ) لا وجه لما عن العلامة قده والحاجبي من شرحه باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ( اذ لا عبرة ) بصرف الظن بالحكم مالم ينته الى الحجية الفعلية ( ومعه ) تكون العبرة بها ( فكان ) الحري هو تبديل الظن بالحكم الشرعي بالحجة عليه عقلية كانت او شرعية ، ليدخل فيه اعمال مسائل الانسداد حتى على الحكومة ( واحرى ) من ذلك تبديل الحكم الشرعى ايضا بمطلق الوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية الشرعية او العقلية ، ليدخل فيه الاجتهاد المؤدي الى البرائة وغيرها من الوظائف العقلية كالاحتياط والتخيير ( وبما ذكرنا ) ظهران الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة جهة مشتركة بين العامة والخاصة الاصوليين منهم والاخباريين ( غاية الامر ) انه تختلف انظارهم في حجية بعض القواعد ، كاختلاف العامة والخاصة في حجية القياس والاستحسان ، واختلاف الاخبارى والاصولى في حجية ظواهر الكتاب والقطع الحاصل من غير الادلة السمعية ، و تمامية البرائة العقلية في الشبهات الحكمية البدوية التحريمية ، فتكون منازعة كل طائفة في حجية ما يقول به الطائفة الاخرى لا في اجتهاده ( ومن الواضح ) ان مثل هذا الخلاف غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بالمعنى المزبور ( اذ هذا النزاع ) كما هو موجود بين العامة والخاصة الاصوليين منهم والاخباريين ( كذلك ) موجود بين اخباری و اخباری و بین اصولی ، واصولى نظير النزاع بين القائل بالظن المطلق من المجتهدين والقائل بالظنون الخاصة منهم ( فلا وجه ) حينئذ لتأبي الاخباريين واستيحاشهم من اطلاق الاجتهاد على تحصيل

ص: 216

المعرفة بالاحكام من ادلتها باعمال القوة النظرية فى تطبيق القواعد الكلية بعد اتقانها على مواردها و إكثارهم التشنيع على المجتهدين في أصل الاجتهاد ، مع كونهم موافقين لمعناه في استخراجهم الاحكام والوظائف الفعلية من ادلتها عصمنا الله الزلات ( وكيف كان ) فالطاهر ان المراد من الاجتهاد المصطلح هو الاستفراغ الفعلى في تحصيل المعرفة بالاحكام ( لان ) الاجتهاد هو الاستنباط الفعلى من الادلة، ولا يكفي فيه مجرد الملكة الموجبة للقدرة على الاستنباط، كما هو الظاهر المتبادر من المواد المأخوذة في كل هيئة في فعليتها ، كالفتوى والقضاء والكتابة والتجارة ( ولا ينافي ) ذلك صدق المجتهد والقاضي والمفتي في حال عدم الاشتغال الفعلى بالاجتهاد والقضاءة والافتاء لنوم او شغل ونحوهما ( اذ من الممكن ) دعوى كون ذلك من جهة اقتضاء الهيئة في المشتقات الوصفية نحو توسعة في التلبس بالمبدء الفعلى على وجه لا ينافيه التخللات العدمية ( او دعوى ) كفاية بقاء المقتضى فيها في صحة اطلاق عنوان المجتهد والقاضي في حال عدم الاشتغال الفعلي بلا اخذها في المادة اصلا كى يلزم اختلاف المادة المحفوظة في ضمن الهيئات المصدرية وغيرها ( فان ) ذلك مما يأبى عنه ارتكاز الذهن ( لا يقال ) على ذلك يلزم عدم صدق المجتهد على من له ملكة الاستنباط ولم يستنبط بعد حكما من الاحكام ( فانه يقال ) انه لا بعد في الالتزام به كما نلتزم فى غيره من الكاتب والتاجر ونحوهما ( وعلى فرض ) صدق عنوان المجتهد عليه ، نقول انه من باب العناية والتنزيل ( فلا شهادة ) حينئذ في صحة اطلاق المجتهد على مثله على ارادة الملكة من المبده ( مع انه ) لم يرد عنوان المجتهد في آية ولا رواية في موضوع حكم من الاحكام ( وانما ) الموضوع للآثار عنوان الفقيه والناظر في حلالهم وحرامهم والعارف باحكامهم كما في المقبولة وغيرها ( ولا ريب ) في عدم صدق هذه العناوين على من له مجرد الملكة على الاستنباط ولم يستنبط حكما من الاحكام .

ص: 217

في اقسام الاجتهاد

الموضع الثانى

ينقسم الاجتهاد الى مطلق وتجزى ( فالاول ) هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الشرعية والوظائف الفعلية من امارة معتبرة ، او اصل معتبر عقلی او نقلی في الموارد التي لم يظفر بدليل معتبر ( والثانى ) ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام الشرعيه والوظائف الفعلية العملية لا كلها اوجلها ( ولا اشكال ) في امكان الاول وحصوله للاعلام ( ولا ينافيه ) ترددهم في بعض المسائل النظرية ( فان ) ذلك انما هو بالنسبة الى الحكم الواقعي لاجل عدم الظفر بدليل صالح مساعد لحكم المسألة بعد الفحص التام عنه ، لا ان ذلك لاجل قصور باعهم او قلة اطلاعهم ( والا ) فلا تردد لهم بالنسبة الى ما هو الوظيفة الفعلية في المسألة كما هو ظاهر ( كما لا اشكال ) في وجوب العمل بهذا الاجتهاد لمن هو متصف به وعدم جواز رجوعه الي غيره ، سواء فيه بين كونه ممن انفتح له باب العلم والعلمى بالاحكام، او ممن انسد عليه بابها فيها في غير الضروريات من المسائل النظرية ( فانه ) على كل تقدير يكون اجتهاده حجة في حق نفسه ( واما ) حجية فتواه لغيره ممن لم يتضف بالاجتهاد سواء كان له نصيب من العلم ام لا ( فان ) كان المجتهد ممن يرى انفتاح باب العلم والعلمي بالاحكام فلا اشكال ايضا في حجية فتواه لغيره وجواز رجوعه اليه خصوصا على القول يتعميم مفاد ادلة الطرق والاصول بالنسبة الى المقلد .

( واما ) ان كان المجتهد ممن يرى انسداد باب العلم والعلمى بالاحكام ، ففي جواز رجوع الغير اليه اشكال ( والذي ) يظهر من المحقق الخراساني قده هو المنع عن جواز رجوع الغير اليه وحجية فتواه بالنسبة اليه ، لعدم صدق العارف بالاحكام على مثله ، وكون الرجوع اليه من باب رجوع الجاهل الى مثله لا الى العالم بناء على الحكومة ( فلا يشمله ) ادلة التقليد، وقضية مقدمات الانسداد ليست الا حجية ظنه في حقه لا في حق غيره ( فلا بد ) في جواز الرجوع الى فتواء من التماس دليل

ص: 218

آخر غير دليل التقليد ودليل الانسداد الجاري في حق المجتهد من اجماع أو جريان مقدمات الانسداد في حقه ( والاول ) مفقود ( والثانى ) غير نام بعد وجود المجتهد الانفتاحي وتمكنه من الرجوع اليه والأخذ بفتواه ( وفيه ) اولا النقض برجوع المقلد الى المجتهد الانفتاحى في مورد الوظائف العقلية او الشرعية الظاهرية من البرائة والاحتياط والتخيير ونحوها مما كان موضوعه عدم العلم بالواقع او بالحجة عليه ، بل مطلقا بناماً على ان نتيجة دليل اعتبار الطرق مجرد جعل الحجية المستتبعة لتنجيز الواقع مع الاصابة والعذر مع عدمها ، بلا جعل الحكم المماثل ظاهرا ، او تتميم الكشف الموجب للعلم التعبدى بالواقع ، لعدم صدق المعرفة بالاحكام بصرف العلم بالحجة القاطعة للعذر كما هو ظاهر ( وثانيا ) ان الاشكال انما يتوجه اذا كان دليل التقليد هو المقبولة ونحوها مما اعتبر في الموضوع عنوان العارف باحكامهم ( واما ) لو كان الدليل القاعدة المرتكزة المقتضية لرجوع الجاهل بالوظيفة الفعلية الظاهرية من العقلية والشرعية الى العالم بها ) وبعبارة ) اخرى رجوع من لم يكن ذا حجة على الوظيفة الفعلية الظاهرية ولو عقلية الى من كان ذا حجة عليها شرعية أو عقلية ( فلا قصور ) في جواز رجوعه الى الانسدادي بعد كونه ذا حجة عقلية في فتواه بمناط الحكومة أو شرعية بمناط الكشف ( فاذا ) تعلق ظن المجتهد بالتكليف الذي له مساس بالغير وكان ظنه ذلك حجة ولو من باب الحكومة ، كان له الافتاء على طبق ظنونه ( ولازمه ) بمقتضى القاعدة

المرتكزة جوار رجوع الغير اليه وحجبة فتواه في حقه بعد رجوعه اليه .

فى ردّ شبهة عدم جواز الاخد بفتوى الانسدادي

( وبتقريب ) آخر ان المقلد العامي اذا التفت الى الاحكام ( فلما ) ان يعلم بها اجمالا ( واما ) ان لا يعلم بها بل كان شاكاً في جميعها ( وعلي الاول ) اما ان لا يكون له ظنون بان كان محتملا للتكليف في جميع الموارد ( واما ) ان يكون له ظنون ايضا ( اما الصورة الاولى ) وهي علمه بالتكليف اجمالا تساوی احتمالاته ، فعليه وان لم يلتفت المقلد الى وظيفته الفعلية لكونه جاهلا بها ( ولكن ) المجتهد بعد ما يرى عدم تمكنه من الاحتياط التام للعسر والحرج

ص: 219

الشاملين له بعموم دليلها ( ويرى ) انه في ظرف الانسداد يتعين عليه بمقضى المقدمة الرابعة الاخذ بالاقرب الى الواقع ، وان الاقرب الى الواقع من محتملات المقلد ، هو ما يكون على طبق ظنه لكونه هو الاقرب الى الواقع بنطره ، والا فنفس شكوك المقلد من جهة كونها قبل الفحص لا يكون مدارا للحكم ، لان المدار على ما حصله المجتهد بعد فحصه من اقرب الطرق ( فلا جرم ) يفتي على طبق ما هو الاقرب بنظره وهو ما ادى اليه ظنونه التي هى مؤدى احتمالات المقاد ايضا ( واما الصورة الثانية ) وهى ما اذ كان للمقاد ظنون ايضا ولو على خلاف ظنون المجتهد ، ففي مثله لا يرجع الى المجتهد في مؤدى ظنونه ، بل المجتهد يعلمه بان تكليفه هو الأخذ بما هو اقرب الطرق الى الواقع بنظره اعني الأخذ بظنونه ، لا بما هو اقرب بنظر مجتهده ( لان ) الجاهل يرجع الى العالم في المقدار الذى كان جاهلا به لا مطلقا حتى في المقدار الذى لم يكن جاهلا ، فيصير المقلد حينئذ هو المجري لدليل الانسداد ، ويكون ذلك نحو اجتهاد مشوب بالتقليد ، ولازمه هو الأخذ بمؤدى ظنونه وان كان على خلاف ظنون المجتهد ( اللهم ) الا ان يقال ان ظنون المقلد حينئذ لكونه قبل الفحص مما لا عبرة به ، وانما العبرة بما يكون بعد الفحص ، وهو لا يكون الا ظنون المجتهد ( ولازمه ) هو الاقتصار في ظنونه على ما لا يخالف ظنون مجتهده ( الا ) ان يمنع اصل وجوب الفحص فى فرض المسألة حتى في فرض القدرة على الفحص بدعوى ان الفحص انما يجب عقلا في فرض احتمال تحصيل الاقرب الى الواقع ، كما في موارد الشكوك الفعلية المحتمل تبدل بعضها بعد الفحص بالظن بالتكليف، لا في مثل الفرض المحتمل تبدل ظنه الفعلى بالتكليف بالشك او الظن بالخلاف ( فان ) لازم وجوبه حينئذ هو جواز التنزل عما يقطع فعلا باقر بيته الى الواقع الى ما يقطع فعلا بالعديته ( وفي مثله ) يمنع حكم العقل بوجوب الفحص ( ومعه ) لا قصور في مرجعية ظنه قبل فحص نفسه أو فحص من ينوبه على الاطلاق ولو على خلاف ظنون مجتهده فتأمل ( وكيف كان ) فلا فرق في هاتين الصورتين في الرجوع الى الانسدادي في المسألة الاصولية بين وجود القائل بالظنون الخاصة ، وعدمه

ص: 220

( اذ لا يفرق ) العقل في رجوع الجاهل بالوظيفة الى العالم بها ، بين الانفتاحي القائل بانحلال العلم الاجمالى بما في موارد الظنون الخاصة ، وبين الانسدادي القائل بعدم انحلاله ( فكما ) ان الاول عالم بالوظيفة الشرعية الظاهرية ( كذلك ) الثاني عالم بالوظيفة المقلية الظاهرية ، وهو الأخذ بالاقرب الى الواقع الأخذ بالاقرب الى الواقع لعلمه بعدم الوظيفة الشرعية ( وبالجملة ) لا يفرق العقل في حكمه برجوع الجاهل الى العالم بين العالم بالوظيفة الشرعية الظاهرية ، والعالم بعدمها ( فلا يتعين ) عليه الرجوع في هذه المسألة الاصولية الى خصوص الانفتاحي ( بل هو ) مخير بين الرجوع الى الانفتاحى ليدخل في من له الحجة الشرعية فينحل علمه الاجمالى ولا تجري في حقه مقدمات الانسداد ، وبين الرجوع الى الانسدادي ليدخل في من ليس له الحجة الشرعية ، فتجري في حقه مقدمات الانسداد ( فان ) التخيير في المقام كالتخيير في باب تعارض الخبرين راجع الى التخيير في الاخذ باحدى الفتوائين ومرجعه الى حكم العقل بمنجزية فتوى كل واحد منها على تقدير الأخذ به ( نظير ) المجتهد الذى تعارض عنده خبران القائم احدهما على حجية طائفة من الاخبار الوافية عنده بمعظم الفقه ، والآخر على عدم حجيتها بنحو يحتاج الى اعمال مقدمات الانسداد ( فكما ) انه لا يتعين على المجتهد اختيار الاول ( بل كان ) له الاخذ بأي واحد منها بنحو يصير انفتاحيا بالاخذ ياحدهما ، وانسداديا باخذه بالآخر ( كذلك ) المقلد مخير في هذه المسألة بين الأخذ بفتوى الانفتاحى ليدخل في من له الحجة الشرعية فينحل علمه الاجمالي ، وبين الأخذ بفتوى الانسدادى القائل بعدم الحجة الشرعية ، ولا يتعين عليه الرجوع في هذه المسألة الى خصوص الانفتاحي ، كما لا يتعين عليه ايضاً الرجوع الى المجتهد في خصوص المسألة الفرعية الا من جهة توهم تخصيص المسائل الاصولية بالمجتهد وعدم تعميمها للمقلد ( وعلى ما ذكرنا ) لا يبقى موقع لاشكال العلامة الخراساني قده ، بان مع وجود المجتهد القائل بالظنون الخاصة يكون باب العلم منفتحا في حق المقاد، فلا تجري معه مقدمات الانسداد الا بفرض الحصار المجتهد

ص: 221

بالانسدادي ( نعم ) ما افاده قده ، انما يتم في فرض تعين الرجوع الى المجتهد في خصوص المسائل الفرعية ، ولولدعوى اختصاص المسائل الاصولية بالمجتهد و عدم نصيب للمقلد منها ، اما ذاتا او عرضاً لاجل اشتراطها بالفحص الذي يكون المقلد عاجزاً عنه ( وذلك ) ايضاً بضميمة تخصيص أدلة التقليد برجوع الجاهل بالحكم الشرعي الى العالم به لا بمطلق العالم بالوظيفة الفعلية ولو كانت عقلية ( والا ) فعلى ما هو التحقيق من تعميم المسائل الاصولية كالفرعية للمجتهد والمقلد كما هو مختاره قده ، فلا يتعين عليه الرجوع الى المجتهد في خصوص المسألة الفرعية ( بل له ) الرجوع الى المجتهد في المسألة الاصولية أيضاً ( وفي هذا ( الفرض لا يتعين عليه الرجوع الى المجتهد الانفتاحى بالتقريب المتقدم .

( ومن التأمل ) فيما ذكرناه يظهر الحال في الصورة الثالثة ، وهى ما اذا كان المقلد شاكاً في جميع الاحكام وغير عالم بها حتى اجمالا ( اذ بعد ) عدم كون شكوكه مداراً للحكم يجب عليه الرجوع الي العالم بالاحكام ولو اجمالا ، فان صدقه وحصل له العلم الاجمالي بالاحكام من قوله ( وإلا ) يكون عامه اجمالا حجة في حق المقلد ( وبعد ) ذلك تنتهى النوبة الى رجوعه اليه في تعيين وظيفة من له العلم الاجمالي بالاحكام ، فيأتي فيه جميع ما ذكرناه في الصورة الاولى والثانية ، فتكون النتيجة هو التخيير في رجوعه الى كل من المجتهد الانفتاحي والانسدادي بالتقريب المتقدم آنفا .

( و بما ذكرنا ) يظهر أيضاً وجه رجوع المقلد الى المجتهد في مورد الوظائف العقلية أو الشرعية الظاهرية ، كالاحتياط والبرائة والاستصحاب ( فلو كان ) المجتهد عالماً بحكم المسألة اجمالا ورجع اليه الجاهل في حكم المسألة يفتي المجتهد على طبق معتقده من لزوم الموافقة القطعية أو جواز المخالفة القطعية او التفصيل بينها ( ولو لم يكن ) عالما بالحكم لا اجمالا ولا تفصيلا ورجع اليه الجاهل يفتيه بالاحتياط او بالترخيص العقلى او الشرعي ( وكذا ) في موارد الاستصحابات الحكمية ، فانه مع علم المجتهد بوجود الحجة على الحكم السابق وعدم قيام حجة على ارتفاعه يحكم بمقتضى ادلة الاستصحاب بان حكمه وحكم كل من كان على يقين بحكم فشك في بقائه هو عدم

ص: 222

نقض اليقين بالشك ( فاذا ) رجع اليه المقلد مع تشخيصه للموضوع يفتي اياه بحرمة نقض اليقين بالشك ( ومع ) فرض عدم التفات المقلد الى الحالة السابقة وكونه شاكاً في حكم المسألة يكون علم المجتهد وفحصه يمنزلة علم المقلد وفحصه ، فيدخل بذلك تحت عنوان الشاك الفعلى العالم بالحكم السابق فيفتيه بحرمة تقض اليقين بالشك ( ثم ان ) ذلك كله بناء على الحكومة ( واما ) بناء على الكشف عن كون الظن طريقا مثبتاً للتكليف شرعا ، فلا اشكال في جواز الرجوع اليه ( اذهو ) حينئذ كالقائل بالظن الخاص ، حيث يتحقق مورد التقليد في موارد ظنونه لكونه عالما فيها بالحكم الشرعي ، فيكون الرجوع اليه من باب رجوع الجاهل الى العالم لا الجاهل كما هو ظاهر .

فى جواز الرجوع الى الانسدادي في امر القضاوة

( واما قضائه ) ونفوذ حكمه في المخاصمات ، فعلى تقرير الانسداد بنحو ينتهى الى الكشف عن حجية الظن شرعا في مقام اثبات التكليف ، فلا اشكال في نفوذ حكمه ( فانه ) يصدق على مثله انه ناظر في حلالهم ( علیه السلام ) وحرامهم وعارف باحكامهم ( علیه السلام ) فيكون مشمولا للمقبولة ( واما بناءاً ) على تقريره بنحو الحكومة ( ففيه ) اشكال ( ولكن ) يمكن الالتزام بجواز الترافع اليه ونفوذ حكمه ، من جهة كفاية عامه بجملة من الاحكام الضرورية من المذهب والمسائل الواقعة في موارد الاجماعات القطعية والاخبار المتواترة لفظاً او معنى او المحفوفة بالقرائن القطعية ، فانه بذلك يصدق عليه انه عالم بشيء معتد به من الاحكام وقضایاهم ( علیهم السلام ) فتشمله مشهورة ابي خديجة من قوله ( علیه السلام ) انظروا الى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا ( وان انسد ) عليه باب العلم والعالمي بمعظم المسائل بحيث يحتاج الى اعمال مقدمات الانسداد ( بل ويمكن ) دعوى التوسعة في صدق العرفان بالنظر الى مثل هذا العرفان الظني الحاكم به العقل المستقل ( وبالجملة ) المدار في صدق المعرفة بحكمهم على قيام الحجة عليه وان كانت عقلية ( بل وبالتوسعة ) في الحكم المتعلق للمعرفة ايضا باعم من كونه بلاواسطة او بتوسيط منشئه بقرينة اضافة الحكم اليهم في الوقايع الجزئية بقوله ( علیه السلام ) فاذا حكم بحكمنا ، كما هو ظاهره من كون المحكوم به على طبق حكمهم من حيث الموازين الثابتة عندهم ( اذ حينئذ )

ص: 223

لا بأس بدعوى شمول الحكم للوظائف المعلومة له ، لانها ناشئة من قبل حكمهم ، فيصدق بهذه العناية انه عارف باحكامهم ، وكيف كان فهذا كله في الاجتهاد المطلق .

فى امكان التجزى فى الاجتهاد

( واما التجزي في الاجتهاد فيقع الكلام فيه من جهات )

( الاولى ) في اصل امكانه ( فنقول ) قد يقال بعدم امكانه لدعوى بساطة الملكة وعدم قابليتها للتجزية ( وان ) الاقتدار على استنباط بعض الاحكام الشرعية ملازم مع الاقتدار على استنباط الجميع ( ولكنه ) كما ترى مما يكذبه الوجدان لما هو المشاهد بالعيان من حصوله لكثير من افاضل الطلاب ( لوضوح ) ان مسائل الفقه ليست على نهج واحد ( بل تختلف ) وضوحا وغموضاً من حيث المدرك عقلا ونقلا ( وكذلك ) الاشخاص يختلف من حيث طول الباع وقصوره ( فرب شخص لمهارته ) في المبادىء العقلية او النقلية يكون له من القوة ما يقتدر به على استنباط طائفة المسائل المرتبطة بتلك المبادى دون غيرها المسائل الاخرى ( ورب ) شخص آخر بعكس ذلك ( فان ) معرفة كل علم من العلوم النظرية انما توجب القدرة على استنباط طائفة من الاحكام المناسبة لتلك المبادى، دون غيرها ( وحينئذ ) فلا يلزم من الاقتدار التام على استنباط بعض المسائل الشرعية اما لسهولة مدركه او مهارة الشخص في مباديه ، الاقتدار على استنباط الجميع ( وبساطة ) الملكة وعدم قابليتها للتجزية لا تنافي ذلك بعد كونها ذات مراتب مختلفة شدة وضعفاً و اختلاف المسائل وضوحا و غموضاً من حيث المدرك و المبادى. ( مع انه ) لا اثر لهذا الخلاف ( اذ لم يقع ) عنوان الاجتهاد موضوعاً لأثر من الآثار في آية ولا رواية ( وانما ) الآثار المهمة من نحو جواز عمله بفتويه ، ورجوع الغير اليه وجواز تصديه للقضاء وفصل الخصومات ، مترتبة على عنوان الفقيه والعارف بالاحكام ( وترتب ) هذه الآثار تابع شمول ادلة كل باب لمثله وعدمه ، قلنا بامكان التجزي ام لم نقل به ( وعليه ) فترك التعرض له اولى من اطالة البحث فيه بالنقض والا برام .

( الجهة الثانية ) هل للمتصف بهذه المرتبة من الاجتهاد التعويل على نظره

ص: 224

واجتهاده في عمل نفسه ، او يتعين عليه الرجوع الى فتوى المجتهد المطلق او الاخذ باحوط القولين ( فيه وجوه ) اقواها الأول ( اذ بعد ) استقصاء المتجزي ادلة مدرك المسألة وفحصه عن معارضاته وانتهاء امره الى الجزم بحجية الامارة الكذائية في حقه فعلا سندا وجهة ودلالة ، لا معنى للمنع عن تحويله في عمله على ما استقر عليه رأيه في المسألة ( اذهو ) حينئذ يساوي المجتهد المطلق الذى إستقرغ وسعه فيها من حيث القدرة على الفحص ورفع معارضاته ( وعدم ) قدرته على استنباط مسألة اخرى اجنبية غير ضائر بعد فرض عدم الارتباط بينها ( ولازمه ) عدم جواز رجوعه الى الغير في المسألة التي تخالف فتواه لرأيه ، كيف وهو جازم بخطأ غيره في نظره ، فلا معنى لتمويله على رأيه ( وتوهم ) اختصاص ادلة حجية الطرق بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، كما ترى دون اثباته خرط القتاد ( هذا اذا كان ) قادرا على استنباط بعض ابواب الفقه باعمال جميع ما تحتاج اليه المسألة من القواعد ( واما ) لو لم يقدر الاعلى اعمال بعضها بان كان مجتهداً في بعض القواعد المعمولة في كل مسألة لا في جميعها ، فلا شبهة في عدم تحقق الاجتهاد في مسألة من المسائل ، لعدم قابليته للتجزية من هذه الجهة، ولازمه كونه مقلدا في المسألة لا مجتهداً ( وانما الكلام ) في انه هل له الاكتفاء بتطبيق ما يقدر عليه من قواعد المسألة بضميمة التقليد في غيرها وتطبيقها على المسألة واخذ نتيجتها والعمل بها ولو مع مخالفة نظره لرأي غيره ليكون نحو اجتهاد مشوب بالتقليد أو يتعين عليه التقليد في المسألة بتمامه ، فيه وجهان ، من ان الجاهل ببعض جهات المسألة جاهل باصل المسألة ، ومن ان رجوع الجاهل الى العالم انما هو في الجهة التي يكون جاهلا بها لا مطلقا حتى في الجهة التي هو عالم بها مع كونه مخطئاً لنظر غيره ، لا يبعد تعين الاول .

هل للمتجزى التعويل على اجتهاده في عمل نفسه

( الجهة الثالثة ) هل يجوز رجوع الغير الى المتجزي في المسائل التي استخرجها من الادلة ( فيه وجهان ) اظهرهما الاول لعموم ادلة التقليد الشامل لمثله ( وعدم ) اقتداره على استنباط ساير المسائل غير ضائر بجواز الرجوع اليه فيما اقتدر على استنباطه ( بل قد ) يتعين اذا كان اعلم فيه ممن له القدرة على استنباط

ص: 225

جميع الاحكام بناءاً على ما سيأتى من وجوب تقليد الاعلم ( ولا غرو ) في كون المتجزي لمهارته في يعض المبادىء المقلية او اللفظية اعلم من المجتهد المطلق في استنباط طائفة من الاحكام المناسبة لتلك المبادى ( نعم ) لو كان المتجزي دون المطلق في العلم والفضل فيما اقتدر على استنباطه ، لكان المتجه هو المنع عن حجية فتواه في حق الغير ، ولكن ذلك لا من جهة كونه متجزيا في الاجتهاد ( بل من جهة ) الاشكال في اصل جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل ولو كان مجتهداً مطلقا .

في حجية فتوى المتجزى فى حق الغير ونفوذ حكمه عند الترافع اليه

( الجهة الرابعة ) في جواز تصدي المتجزي للقضاء وفصل الخصومات ( وفيه ) ايضا اشكال بين الاعلام ، ظاهر كلمات جماعة منهم المسالك قدس الله اسرارهم العدم ( ولكن ) الاظهر الجواز اذا كان ما يقتدر على استنباطه جملة معتد بها من الاحكام ( والعمدة ) في ذلك هي مشهورة ابي خديجه من قوله ( علیه السلام ) انظروا الى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا او قضايا، على اختلاف النسخ ، فاجعلوه بينكم قاضيا فاني قد جعلته قاضياً فتحاكموا اليه ( فان ) ظاهره كفاية المعرفة بمقدار معتد به من الاحكام وقضاياهم في جواز التصدي للقضاء وفصل الخصومات بلا اعتبار المعرفة بجيع الاحكام ( وتوهم ) ان حرف الابتداء في قوله ( علیه السلام ) من قضايانا للبيانية لا التبعيضية ولازمه اعتبار المعرفة بجميع المسائل في مثل هذا المنصب ، نظير ما في المقبولة من قوله ( علیه السلام ) ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا من حيث افادة الجمع المضاف العموم ( مدفوع ) بظهور لفظة من في المقام في التبعيض دون البيان ( والا ) كان المناسب ان يقول اشياء من قضايانا ليوافق البيان المبين ( واما ) المقبولة فعلى فرض تسليم افادة الجمع المضاف العموم ، فغايته الدلالة على الاذن في التصدى للمجتد المطلق العارف بجميع الاحكام ، ( واما ) نفي الاذن في التصدي عن غيره ممن هو عارف ببعض الاحكام فلا ، فتبقى المشهورة على حالها في الشمول للمتجزي المقتدر على استنباط بعض الاحكام ( نعم ) يعتبر ان يكون ما يقدر على استنباطه جملة معتداً بها من المسائل على وجه يصدق عليه عرفا انه عارف

ص: 226

بشيء من قضاياهم ، لانصرافه جزماً عمن عرف اقل قليل من الاحكام ، نظير انصراف اطلاق الشيء من البحر عن القطرة والقطرات وان كان يصدق عليها بحسب الدقه .

فى احتياج الاجتهاد الى المعرفة بالقواعد التي يتوقف عليه الاستنباط

( ثم انه ) لا بد في الاجتهاد والقوة على الاستنباط من معرفة العلوم التي يتوقف عليها الاستنباط من العلوم العربية وغيرها كالتفسير وعلم الرجال والاصول ونحوها ( فانه ) بدونها يستحيل حصول القوة على استنباط الحكم الشرعي ويكفي من العلوم العربية كالصرف والنحو واللغة معرفة مقدار معتد به بحيث يقدر على استخراج المسائل الشرعية المتوقف عليها ولو بالرجوع الى ما دون فيه هذه العلوم ( وكذا ) التفسير ولو بالمراجعة الى الاخبار المدونة في كتب التفاسير للعلم الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر في كثير من الآيات المتعلقة بالاحكام ( وعمدة ) ما يحتاج اليه الاجتهاد معرفة قواعد الاصول ( فانه ) ما من مسألة الا ويحتاج في استنباط حكمها الى اعمال قاعدة او قواعد متعددة من قواعد الاصول ( من غير فرق ) بين الاصولي والاخباري ( فان ) الاخباري ايضاً يحتاج في استنباط الاحكام من ادلتها الى اعمال القواعد المبرهنة عليها في الاصول ، كاحتياجه الى اعمال غيرها من قواعد الصرف والنحو ، وبدونه لا يمكن استنباط الاحكام ( ومجرد ) تدوين هذه القواعد عليحده بعد شتاتها ، وتسميتها باسم خاص لا يوجب كونها بدعة ( والا ) كان تدوين غيرها مما يتوقف علي______ه الاستنباط كالصرف والنحو وغيرهما ايضاً بدعة ( فلا وجه ) حينئذ لمنازعة الاخباري مع الاصولى في ذلك واكثارهم التشنيع عليهم ( كما ان ) علم الرجال أيضاً من عمدة ما يحتاج اليه الاجتهاد في مقام استنباط الاحكام بناءاً على كون مدار حجية الخبر على الصحيح الاعلى المعدل كل من رجاله بعد لين، خصوصا عند تعارض الاخبار بناء على الترجيح بالصفات من الاعدلية والأوثقية والأفقهية ( فان ) احراز هذه الصفات في رجال الاسناد موقوف على الرجوع الى اهل خبرته ، فلا بد من مراجعة الكتيبة الموجودة في كتب الماهرين في هذا الفن والعارفين بالطبقات ( نعم ) بناءاً على ما هو المعروف في زماننا هذا المحرر في الاصول من كون مدار الحجية على الخير الموثوق الصدور ، فتقل فائدة الرجال جدا لمكان حصول الوثوق بصدور الخبر

ص: 227

باتكال المشهور عليه ، وان كان بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف ، كما ان اعراضهم عنه يوجب وهنا فيه وان كان جميع دجال اسناده عدلا ، لكشف مع كونه بين اظهرهم عن وجود خلل في_ه يوجب سلب الوثوق بصدوره ، ، ولذا اشتهر ان الخبر كلما ازداد صحة واعتباراً ازداد باعراض الاصحاب عنه ضعفاً وانكساراً ( وعلى كل حال ) لا بد من كونه مجتهداً في هذه القواعد في استخراج الحكم الشرعى ، ولا يكفي فيها التقليد ، بل لو فرض تقليده في واح___د منها كانت النتيجة تقليدية ، لانها تابعة لأخص المقدمتين ( وفي الاكتفاء ) باجتهاده في سائر القواعد وتطبيقها على المسألة بضميمة تطبيق القاعدة التقليدية عليها واخذ النتيجة الفرعية والعمل بها كلام قد تقدم سابقا .

( هذا كله ) في القواعد المعمولة في طريق استنباط الاحكام الكلية ( واما القواعد ) المعمولة في تطبيق الاحكام الكلية على مصاديقها ، كقواعد الهيئة والحساب ونحوهما ، فهى غير مرتبطة بمرحلة الاجتهاد ولا يضر الجهل بها باصل الاجتهاد ، ولا بأس برجوع المجتهد فيها في مقام تطبيق الاحكام الكلية الى العالم بها من باب الرجوع الى اهل الخيرة .

فى التخطئة والتصويب فى الشرعيات

الموضع الثالث فى التخطئة والتصويب

قد اختلف كلماتهم في التخطئة والتصويب في الشرعيات ، بعد اتفاقهم على التخطئة في العقليات ( ولعل ) هذا الوفاق في المقليات انما هو بالنظر الى العقليات الاستكشافية التي يكون درك العقل طريقاً محضاً الى الواقع لا مقوماً، لحكمه ، كما في باب الملازمات ونحوها من الأمور الواقعية ( فان ) درك العقل وتصديقه فيها لما كان طريقا اليها كان لتطرق التخطئة اليها مجال ( بل لا محيص ) من القول بها ( فان ) الملازمة بين الشيئين امر واقعى قد يدركها العقل فيحكم بها وقد لا يدركها او يخطىء عنها فيحكم بعدمها ، وكذا الاستحالة الواقعية للشيء والمصلحة والمفسدة الواقعيتين

ص: 228

والحسن و القبح الواقعيين ونحوها ( والا فبالنظر ) الى العقليات الوجدانية التي يكون درك العقل وتصديقه مقوما لحكمه ، كالتحسين والتقبيح العقليين ( فلا يتطرق ) اليها التخطئة، بل لا محيص فيها من التصويب محضاً ( فان ) حقيقة الحسن العقلي ليس الا عبارة عن ملامة الشيء لدى القوة العاقلة ، كسر ملائمات الشيء لدى سائر القوى من الذائقة والسامعة والشامة ونحوها مما هو في الحقيقة من آلات درك النفس وجنودها قبال منافرته لدى القوة العاقلة المسمى بالقبح ( ومن الواضح ) استحالة تطرق التخطئة في مثل هذه الادراكيات الوجدانية ( لانه ) ليس لها واقع محفوظ وراء حصول صفة الانبساط والاشمئزاز الوجدانية ( ولذلك ) قلنا بامتناع تطرق الشك في مثل هذه الادراكيات الوجدانية ، لامتناع خفاء الوجدانيات على الوجدان ( نعم ) ما هو القابل للتخطئة و التطرق الشك اليها انما هو مناط حكمه بالحسن والقبح من المصالح او المفاسد الواقعية النفس الامرية وكذا الحسن و القبح الواقعيان ( واما الاحكام الشرعية ) فالظاهر اطباق القول من اصحابنا الامامية رضوان الله عليهم على التخطئة فيها لا تفاقهم على ان له سبحانه وتعالى في كل مسألة حكم مخصوص يؤدي الي___ه الاجتهاد تارة، والى غيره اخرى ( وانما القول ) بالتصويب فيها من مخالفينا ، حيث قالوا ان الله سبحانه وتعالى احكاماً بعدد آراء المجتهدين فما يؤدي اليه الاجتهاد فهو حكم الله الواقعي .

فى انحاء التصويب و بيان ما يمكن منها

( وحيث ) انتهى الكلام الى ذلك ، فلا بأس بالاشارة الاجمالية الى انحاء التصويب وبيان ما يمكن منها ( فنقول ) اعلم ان الوجوه المتصورة في المقام ؛ اربعه ( احدها ) ان لا يكون قبل الاجتهاد وحصول الرأي حكم اصلا ، وانما يحدث الحكم حال الاجتهاد وحصول الرأي على معنى انشاء الحكم لنفس الذات لكن لا مطلقا بل في حال اعتقاد المجتهد به لا بشرط الاعتقاد ، نظير ما ذكره المحقق القمي قده في قوله اللفظ موضوع للمعنى لا بشرط الانفراد ولالا بشرط الانفراد ( وثانيها ) ان يكون له سبحانه احكاماً متعددة حسب تعدد الآراء بمعنى انه سبحانه لعلمه بما ينتهى اليه رأي المجتهدين في كل مسألة ينشأ احكاما متعددة على

ص: 229

طبق ما يستقر عليه رأي المجتهدين ( ومرجع ) ذلك ايضا الى خلو الواقعة عن الحكم مع قطع النظر عما يؤدي اليه نظر المجتهد واجتهاده ، غير ان الفرق بينهما هو خلو الواقعة في الاول عن الحكم رأساً قبل اجتهاد المجتهد واستقرار رأيه بالحكم ( وفي الثاني ) كانت الواقعة محكومة عند الله بما سيستقر عليه رأيه من الوجوب او الحرمة او غيرهما ( وثالثها ) خلو الواقعة عن الحكم الفعلى ، بمعنى ان له سبحانه حكم واقعى في كل واقعة يشترك فيه العالم والجاهل ، الا ان الحكم الفعلي يكون على طبق ما يؤدي اليه اجتهاد المجتهد ، فربما يتوافق الحكم الواقعي والفعلي وربما يتخالفان ، فكان التصويب في مرحلة الفعلية ، لا في مرحلة الواقع ( ورابعها ) ان يكون التصويب في مرحلة الحكم الظاهري الثابت في المرتبة المتأخرة عن الشك بالواقع مع كون الحكم الواقعي حتى بمرتبة فعليته مشتركاً بين العالم والجاهل ، كما هو لازم القول بموضوعية الامارات وسببيتها .

( ولا ينبغى ) الاشكال في بطلان الوجه الاول وذلك لا من جهة الدور او محذوره وهو تقدم الشيء على نفسه ( فان العلم ) بالحكم او الظن به لا يتوقف على ثبوته التحقيق ( لأن ) معروض هذه الصفات انما هو ذات الشيء بوجوده الزعمي الذهني ولكن لا بما انه يلتفت الى ذهنيته في قبال الخارج ، بل بما يرى كونه عين الخارج، كما ان الحكم بحقيقته غير متوقف على علم المجتهد او ظنه به ، لما ذكرنا من ان حدوث الحكم للذات أنما يكون في حال اعتقاد المجتهد به لا مقيداً به ( بل العمدة ) في المحذور بعد الاجماع على عدم خلو الوقايع عن الحكم الشرعي ، هو عدم تصور الاجتهاد في المسألة والفحص عن حكمها ولو بنظر ذى الرأي ( اذكيف ) يمكن تعلق رأي المجتهد ونظره في حكم المسألة بما لا يكون له في الواقع باعتقاده عين ولا اثر ( واما الوجه الثاني ) فهو وان يسلم من المحذور السابق ، حيث كان المجال لفحص المجتهد عن حكم الواقعة ( الا إنه ) مع كونه خلاف الاجماع وما تواتر عليه الاخبار من أن له سبحانه في كل واقعة حكم يشترك فيه العالم والجاهل ( يلزمه ) اجتماع الظن الفعلى بالحكم واليقين به في زمان واحد، فأنه باعتبار تعلق ظنه بالواقع

ص: 230

يكون مظنونا ، وباعتبار أن مؤدى ظنه هو حكم الله المجعول في حقه يكون مقطوعا فيلزم اجتماع الظن الفعلى بالحكم مع القطع الفعلي به في زمان واحد ( نعم ) لو كان المقصود من جعل الحكم على طبق الرأي جعله على طبق الرأى القطعي الناشيء من الأدلة القطعية ، لا يتوجه هذا المحذور ( ولكن كلام )القائلين بالتصويب يعم موارد الظن بالحكم ايضاً .

( واما الوجه الثالث ) وهو التصويب في مرحلة فعلية الحكم ، فالظاهر امكانه في نفسه لكونه سليماً عن المحذورات المتقدمة ، اذ كان الفحص عن الاحكام الانشائية المنبعثة عن المصالح الواقعية ( ويمكن ) ايضاً ان تكون الأحكام الواقعية المجامعة مع الجهل بها احكاما انشائية وان فعليتها وبلوغها الى مرتبة الانقداح منوطة بالعلم بها بحيث بقيام العلم او العالمى عليها تبلغ الى مرحلة الانقداح والارادة الفعلية فيتنجز ( الا ) انه بعيد عن ظاهر الأخبار ومعاقد اجماعاتهم في كون الحكم المشترك بين العالم والجاهل هو الحكم الفعلى البالغ الى مرحلة الانقداح الفعلى من المولى ، دون الحكم الاقتضائي او الانشائي فصرف هذه الأخبار عن ظاهرها كما أفاده في الكفائية يحتاج الى دليل .

( واما الوجه الرابع ) وهو التصويب فى الحكم الظاهري بناءاً على السببية والموضوعية في الامارات ، لا الطريقية والكاشفية فيها ( فعلى ما اخترناه ) من الوجه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري باختلاف المرتبة بينها ولو يجعل الجهل بالحكم من الجهات التعليلية للحكم الظاهرى ، لا من الجهات التقييدية المأخوذة في ناحية موضوعه ( فلا اشكال ) لخلوه عن جميع المحاذير المتقدمة ، وملامته لظواهر الأخبار ومعاقد اجماعاتهم في اشتراك العالم والجاهل في الاحكام الواقعية حتى بمرتبة فعليتها الراجعة الى مرحلة الأنقداح الفعلي من المولى ، مع اندفاع شبهة التضاد بين فعلية الاحكام الواقعية والترخيصات الشرعية الظاهرية على خلاف الواقعيات ايضاً من دون احتياج في رفع المضادة بينها الى الالتزام بمراتب الحكم بجعله ببعض مراتبه مشتركا بين العالم والجاهل و ببعضها الآخر مختصاً من قامت عنده الامارة الموافقة للواقع ( واما ) بناء على عدم كفاية هذا المقدار من اختلاف المرتبة بينها في رفع التضاد فلا محيص من

ص: 231

المصير الى ما في الكفاية من حمل الحكم المشترك على الانشائي المحض والالتزام بعدم بلوغ التكليف الى مرحلة الفعلية في موارد الجهل به و موارد قيام الامارات على خلاف الواقع ، اما لمزاحمة مصلحة اخرى اقوى في جعل الحكم الظاهري ، او لمانعية الجهل به عن بلوغه الى مرحلة الانقداح الفعلى ( بل لا محيص ) من الالتزام به حتى على القول بالطريقية والكاشفية في الامارات ( فانه ) كما يضاد الحكم الظاهري مع الواقعى على السببية والموضوعية في الامارات ، كذلك يضاده الترخيص الفعلي على خلاف الواقع على الطريقية ، بل يضاد . الترخيص الناشيء من العذر العقلى ايضاً ( ولكن ) التحقيق في دفع الشبهة ما ذكرناه من اختلاف المرتبة بين الحكمين وقد ذكرنا تفصيل الكلام فيه في الجزء الثالث من الكتاب عند التعرض لدفع شبهة ابن قبة بما يندفع به جميع المحاذير المتوهم ورودها في التعبد بالامارات غير العلمية على الطريقية والموضوعية في ظرف الانفتاح والانسداد فراجع .

( ثم ان ) تمام المنشاء في التفكيك بين مرتبة الانشاء والفعلية في الاحكام الواقعية ( انما هو ) تخيل ان فعلية الحكم الواقعي عبارة عن البعث والزجر الفعلي المنتزع عن مرحلة انشاء المولى بداعي التحريك الفعلى نحو العمل ( فانه ) من جهة مضادة هذا المعنى مع الترخيص الفعلى على خلاف المرام الواقعي في موارد الامارات المؤدية الى خلاف الواقع والوظائف المقررة شرعاً في حق الجاهل، التجىء الى التفكيك المزبور ، فالتزم بان التكليف مالم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعلياً وما لم يصر فعليا لم يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة ( والا ) فبناء على جعل فعلية التكليف عبارة عن الخطاب الصادر من المولى نحو المرام بداعي التوصل الى حفظ مرامه من ناحية خصوص خطابه المجامع مع الجهل به والمذر العقلى لا التوصل اليه بقول مطلق ولو من غير ناحية خطابه ، فلا يحتاج في رفع التضاد الى الالتزام بالتفكيك المزبور ( فان ) الفعلى بهذا المعنى محفوظ في ظرف الجهل به و يجامع مع الترخيص الشرعى كما يجامع مع العذر العقلى ، ولا يكاد اقتضاء تنجزه بقيام الطريق اليه ايضا اختلافاً في مرتبة التكليف في لب الارادة ( بل الارادة )

ص: 232

والانقداح القلبي من المولى في خطابه المتوصل به الى مرامه ليست الا المرتبة الخاصة المتحققة في ظرف الجهل أيضاً ، وانما الاختلاف في حكم العقل بتنجزه عند قيام الطريق اليه ، وعدم تنجزه عند عدمه ( نعم ) لو كان المراد من فعلية التكليف توجيه الارادة المطلقة من المولى نحو مقصوده بانشاء الخطاب بقصد التوصل به الى التحريك الفعلى نحوه في ظرف عدم تحقق اسباب تنجيزه ، لسكان للاشكال المزبور مجال ( ولكن ) لازمه أن لا يقتصر بصرف خطابه المتعلق بذات العمل ، بل اللازم حينئذ كونه بصدد رفع جهل المكلف ولو بانشاء آخر في ظرف الجهل بخطابه کی به يرفع عذره العقلى ( لأن ) مثل هذه المرتبة من الفعلية المطلقة كما لا يجامع مع الترخيص الشرعي ، كذلك لا يجامع مع الترخيص المقلي بمناط المذر ايضاً ، فلا بد من انشاء آخر منه في ظرف الجهل بايجاب احتياط ونحوه ، والا فبدونه لا يكاد التوصل الفعلى بانشائه الى مقصوده ( وحينئذ ) يبقى مجال السؤال عن المراد من البعث والزجر الذي يجامع مع الاعذار المقلية ولا يجامع مع الترخيصات الشرعية في موارد الامارات والوظائف المقررة شرعا في حق الجاهل ( فان ) اريد به الانشاء بداعي التوصل به الى التحريك الفعلى نحو المراد في ظرف عدم تحقق اسباب التنجيز فعلا ، فهذا كما لا يجامع مع الترخيص الشرعى على خلاف المراد ، كذلك لا يجامع مع الترخيص المقلى بمناط العذر ، ( فلا بد ) في هذا الفرض من كون المولى بصدد رفع العذر المقلي بانشاء آخر في ظرف الجهل بخطابه المتعلق بذات العمل ( وان ارید ) به الانشاء بداعى التوصل به الى مراده في ظرف تحقق أسباب التنجيز من الخارج، فهذا كما يجامع مع الاعذار المقلية، بجامع أيضاً مع الترخيضات الشرعية ( فان ) مرجعه الى ما ذكرنا من فعلية الحكم المجامع مع الجهل به والعذر المقلى و تفصيل الكلام بازيد من ذلك موكول الى مجله فراجع الجزء الثالث من الكتاب .

فى حكم تبدل رأى المجتهد بالنسبة الى الاعمال السابقه

( الموضع الرابع ) اذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي بما يخالفه او بزواله بدونه ( فلا شبهة ) في انه فى الاعمال اللاحقة لا بد من اتباع الاجتهاد الثانى او العمل بما يقتضيه الاحتياط فيها في الاول وتعين الاحتياط في الثاني ( واما

ص: 233

فى الاعمال السابقة ) الواقعة على وفق الاجتهاد الاول المختل بعض ما اعتبر فى صحتها حسب الاجتهاد الثاني ( فقد اختلفت ) فيها كلماتهم في الاجزاء وعدمه ( ونحن ) وان أشبعنا الكلام في المسألة فى مبحث الاجزاء ( ولكن ) لا بأس بالتعرض لها في المقام وتحقيق الحال فيها على نحو الاجمال والاختصار ( فنقول ) ان انکشاف الخلاف تارة يكون قطعياً واخرى ظنياً اجتهادياً بحجة معتبرة ( فان كان ) كشف الخلاف قطعياً ( فلا شبهة ) فى عدم الاجزاء ولزوم المعاملة مع الاعمال السابقة معاملة البطلان ، حيث لا تكليف سابقاً ولا وضع حتى يقال فيه بالاجزاء ، فكان الامر الواقعى على حاله بلا موافقة ولا معنى حينئذ للقول بالمضي عليها ، الا اذا دل دليل خاص من الخارج على المضي فيها ، كما في باب الصلوة من نحو حديث لا تعاد وغيره ( ولا فرق ) فيما ذكرنا بين ان يكون مؤدى الاجتهاد الاول ايضاً قطعياً او ظنياً اجتهاديا ، فمها كان انكشاف الخلاف قطعياً يعامل مع الاعمال الواقعة على وفق الاجتهاد الاول معاملة البطلان ( واما اذا كان ) انكشاف الخلاف ظنياً اجتهادياً اما من حيث اختلاف الرأي في اصل الظهور واما من حيث العثور على مخصص للعموم بعد ان لم يكن أو العثور على المعارض الاقوى من الدليل الاول ( فقد ) يقال بالمضى على الاعمال السابقة وعدم نقضها ( لعدم ) انكشاف الخلاف حقيقة ، حتى ينتقض ، ولعدم حجية الامارة اللاحقة الا من حين قيامها ، فلا تكون حجة الا بالاضافة الى الاعمال المستقبلة دون الماضية مع اقتضاء الأوامر الشرعية الظاهرية للاجزاء ( وفيه ) ان الحجة اللاحقة القائمة على الرأي الجديد وان لم تكن حجة الا من حين قيامها ( ولكن ) بعد قيامها على خلاف الحجة السابقة واقتضائها لكون السورة مثلا جزءاً للصلاة وكون العربية او الماضوية شرطاً في صحة العقد من دون اختصاص بزمان دون زمان، فلا بد من الحين من ترتيب اثر البطلان على الصلاة المأتية سابقاً بلا سورة وعلى العقد الواقع بغير العربية والماضوية ، فإذا كان من آثار بطلان العمل الواقع سابقاً وجوب قضائه واعادته فعلا يجب بمقتضى الحجة اللاحقة تدارك ما وقع قبلا خالياً عن الجزء والشرط لكونه اثراً فعلياً للحجة اللاحقة .

ص: 234

( والتحقيق ) في المسألة هو ان مؤدى الاجتهاد الظني السابق اذا كان ما قامت عليه امارة شرعية كالخبر مثلا ( فاما ) ان نقول بحجيتها من باب الطريقية والكاشفية واما من باب السببية والموضوعية ( وعلى التقديرين ) فتارة تكون الامارة قائمة على نفس الحكم الشرعى ( واخرى ) على موضوعه ( فان كان ) مؤدى الامارة نفس الحكم الشرعي وقلنا بالطريقية فيها ( فلا ينبغى ) الاشكال في أن مقتضاء هو عدم الاجزاء ووجوب نقض الآثار مطلقا الآثار مطلقا من غير فرق في كيفية التنزيل في مفاد ادلة حجيتها بين كونها بنحو تتميم الكشف، او تنزيل المؤذى منزلة الواقع أو مجرد الأمر بالعمل على طبق الامارة ( فانه ) على كل تقدير لا حكم حقيقي في فرض مخالفة الامارة للواقع ، ولا كان في مؤداه ايضا مصلحة قابلة لتدارك المصلحة الواقعية ، فالتكليف المعلى الواقعى كان باقياً على حاله بلا موافقة ومصلحته بلا استيفاء ولا متداركة ( ووجود ) المصلحة في جعل الامارة طريقا إلى الواقع غير صالح لجبر مصلحة الواقع كي يتوهم الاجزاء لاجله ، والا لأقتضى الجبر ولو قبل العمل بها ( لأن ) هذه المصلحة وهي التسهيل على العباد انما كانت قائمة بفعل الآمر وهو جعله ، لا بفعل المأمور ( فان ) المفروض على الطريقية هو خلو العمل عن المصلحة رأساً ( فكيف ) يمكن ان يتدارك بها ما يفوت من المصلحة الواقعية ( نعم ) غاية ما يكون هو اهمية هذه المصلحة وهى التسهيل على العباد لدى الشارع من حفظ المصالح الواقعية الفائتة عند تخلف الامارات عن الواقعيات عند الانفتاح ، ولكن ذلك أجنبي عن تدارك المصالح الفائتة بها كما لا يخف ( لا يقال ) هذا اذا كان الاجزاء بمناط استيفاء المصالح الواقعية او تداركها ( واما ) اذا كان بمناط التفويت فلا بأس باستفادة الاجزاء من نفس الأمر بالعمل على طبق مؤديات الامارات ( فان ) الأمر بسلوك الامارة مع العلم بكونها مؤدية كثيراً إلى خلاف الواقع مع عدم التنبيه على لزوم الاعادة عند انكشاف خطأ الامارة عن الواقع يكشف عن عدم امكان تدارك الواقع بما له من الخصوصية المطلوبة ( فانه ) يقال انه يكفي في التنبيه على وجوب الاعادة عند كشف خطأ الامارة عن الواقع نفس ادلة الاحكام الواقعية الشاملة بفعليتها للعالم والجاهل

ص: 235

( هذا كله ) في الامارات المؤدية الى الحكم الشرعي .

( وأما الامارات ) المؤدية الى موضوع الحكم الشرعى او قيوده، فحكمها على الطريقية حكم الامارات المؤدية الى الحكم الشرعى في عدم الاجزاء ولزوم نقض الأعمال السابقة من حيث الاثر المبتلى به فعلا ( من غير فرق ) بين ان يكون الموضوع الذي قامت الامارة عليه أمراً شرعياً قد اعتبره الشارع في موضوع حكمه كطهارة الماء للوضوء والغسل ، وطهارة التراب للتيمم ، وحلية الأكل في الحيوان في لباس المصلي ونحوها، وبين ان يكون أمراً واقعياً غير شرعي ، كالماء والتراب ، والغنم ونحوها من الامور الواقعية الخارجية التي جعلها الشارع موضوعات لا حكامه .

( فان ) مرجع التعبد بالموضوع بعد ان كان الى التعبد بأثره من الحكم الشرعي ، فيجري فيه على الطريقية ما ذكرناه في التعبد بالامارة القائمة على الحكم الشرعي ( نعم ) لو كان مفاد دليل التنزيل فيها ناظرا الى اثبات التوسعة الحقيقية للمنزل عليه بما يعم الواقعي والظاهري ، او اثبات جعل الأثر ومماثله حقيقة في مرحلة الظاهر ( لكان ) مثله مفيداً للاجزاء قطعاً ( إذ حينئذ ) تكون مؤدى الامارة من المصاديق الحقيقية لما هو موضوع الحكم في الكبريات الواقعية ، حيث يكون له مصداقان أحدهما واقعى والآخر ظاهرى ( فتكون ) الصلاة المأتية مع الوضوء بالماء الذي قامت الامارة على طهارته واجدة لما هو شرطها حقيقة عند الاتيان بها ، وانكشاف الخلاف موجب لارتفاع الموضوع من الحين ، لا من الاول ( ولكنه ) ليس كذلك قطعاً ( والا ) لاقتضى القول بصحة الوضوء والصلاة عند تبين كون المايع الذي قوضاً به بولا او خمرا مع قيام الامارة على كونه ماءاً طاهرا ، وهو كما ترى لا يلتزم به ذو مسكة ( بل نقول ) ان غاية ما يقتضيه مثل هذا اللسان في دليل التنزيل انما هو مجرد توسعة الواقع في ظرف الشك عملا ، لا اثرأ حقيقة ( ولازمه ) عند تبين الخلاف ولو بالامارة الظنية المعتبرة هو عدم الاجزاء ( من غير فرق ) بين العبادات والمعاملات من العقود والايقاعات وغيرها ( هذا ) على المختار من الطريقية في الامارات .

ص: 236

( وأما ) على السببية والموضوعية فيها ( فعلى السببية ) بمعنى انقلاب الواقع حتى بمصلحته الى مؤدى الامارة ( فلا اشكال ) في ان لازمه الاجزاء ( ولكنه ) تصويب محال مجمع على بطلانه ( واما بمعني ) سببية الامارة لحدوث المصلحة في المؤدى عند تخلفه عن الواقع بنحو موجب للأمر باتباعه ( فالظاهر ) عدم الاجزاء ايضاً مطلقاً سواء كان مؤدى الامارة نفس الحكم الشرعى او موضوع______ه وقيوده ( فان ) مجرد اشتمال المؤدى على المصلحة لا يقتضى الاجزاء ما لم تكن مصلحته مسانحة لمصلحة الواقع ، او جابرة ، او مفوتة لها ( فاستفادة ) الاجزاء حينئذ مبنية على احراز كون مصلحة المؤدى من سنخ المصلحة الواقعية الموجبة للتوسعة الحقيقية للأثر في الكبريات الواقعية بما يعم الواقعي والظاهري ، او احراز كونها جابرة للمصلحة الواقعية بخصوصيتها ، او مفوتة لها بمناط المضادة ( والا ) فبدون احراز احدی هذه الامور ، لا يكفي مجرد امكان مسانحة مصلحة مؤديات الامارات للمصالح الواقعية ، او مفوتيتها لها بمناط المضادة ، او جابريتها للمصالح الواقعية الفائتة في الحكم بالاجزاء والمضي على الاعمال السابقة حتى فيما كان دليل تنزيل الامارة بنحو جعل الماثل او الأثر ، فضلا عما لو كان بلسان تتميم الكشف، او مجرد الامر بالعمل على طبق المؤدى ، لا مكان كون نظر التنزيل الى مجرد التوسعة للواقع عملا، لا اثراً ( ومع امكان ) ذلك لا مجال للحكم بالاجزاء لأجل مجرد موضوعية الامارة واشتمال مؤديها على مصلحة ( ما اذ فى مثله ) تبقى الكبريات الواقعية على ظهورها في دخل الخصوصيات الواقعية المقتضية لعدم الاجزاء بالمأتى به الا بمناط التفويت الممنوع في المقام ايضا لعدم اقتضاء مجرد الأمر بالعمل بمؤدى الامارة حينئذ الرضا بتفويت الواقع ( فما عن المحقق الخراساني ) قده من تسليم الاجزاء بالمأتى به على الموضوعية منظور فيه ( وبما ذكرنا ) يظهر الحال فيما لو كان زوال الاجتهاد الاول لاجل الظفر بالامارة المعارضة للامارة الاولى مع تساويها في جهات الترجيح دلالة وسنداً ( اذ في مثله ) يكون مخيراً في الأخذ بأيها ( فان ) اختار الخبر الاول فلا اشكال (واما اذا اختار ) الثاني الحاكم ببطلان العمل على طبق الأول ( فلا بد ) من عدم الاجزاء

ص: 237

وترتيب اثر البطلان من الحين على الاعمال السابقة ( كما انه بما ذكرنا ) من عدم الاجزاء فى الامارات على السببية والطريقية يظهر الحال في الأصول العملية عند انكشاف الخلاف ( فان التحقيق ) فيها أيضاً عدم الاجزاء حتى في الاصول التنزيلية كالاستصحاب وقاعدة الطهارة على وجه قوى وغيرهما ( فانها ) لا تزيد عن الامارات التي قلنا فيها بعدم الاجزاء حتى على السببية ( التحقيق ) حينئذ عدم الاجزاء مطلقا سواء في الامارات او الاصول وسواء في العبادات وغيرها الا اذا قام دلیل بالخصوص في مورد على الاجزاء من اجماع او غيره هذا كله في الاجتهاد .

في تعريف التقليد لغة واصطلاحاً

واما التقليد

( ففيه مقامات ) ( المقام الاول ) : التقليد لغة من القلادة بمعنى جعل القلادة في العنق ، وهو يتعدى الى مفعولين، أحدهما القلادة او ما هو بمنزلتها ، وثانيها ذو القلادة ، ومنه تقليد السيف اي جعل حمالته في عنقه ، وتقليد الهدي ، وفي حديث الخلافة وقلدها رسول الله ( صلی الله علیه و آله وسلم ) عليا ( علیه السلام ) .

( واما اصطلاحا ) فقد إختلف كلماتهم في تفسيره ( فقيل ) أنه عبارة عن الأخذ بمعني الالتزام الكلى بالعمل على فتوى مجتهد معين في الوظائف التكليفية والوضعية ( لأن ) المقلد التزامه الكلى وبنائه على تبعية فتوى المجتهد في مقام العمل من غيرتأمل و نظر كأنه جعل فتواه قلادة في عنقه ، نظير أخذ البيعة والالتزام بالقيام بلوازمها ( وقيل ) أنه عبارة عن نفس العمل بفتوى المجتهد المعين اعتماداً على فتواه وأنه لا مدخل لحيث الأخذ و الالتزام في مفهوم التقليد ، ولا يتحقق عنوانه خارجاً إلا بنفس العمل لا بصرف أخذ الفتوى أو الرسالة ( ولا يخفى ) أن التفسير الاول وإن كان اوفق بالمعنى اللغوي ، ولازمه تحقق عنوانه بصرف أخذ الرسالة وتعلم المسائل ، لصدق المقاد حقيقة على الآخذ بفتوى الغير للعمل بها وان لم يعمل بعد بفتواه لفسق او لعدم وقوع العمل مورد ابتلائه ( إلا ) أن الاشكال في قيام

ص: 238

الدليل على وجوبه بهذا المعنى ( لوضوح ) أن موضوع الوجوب الشرعى في التقليد الذي هو مورد البحث بمقتضى السيرة والادلة الشرعية والفطرة السليمة المقتضية لرجوع الجاهل بالوظيفة الى العالم بها ليس الا ما هو الموضوع للوجوب الشرعى في التعبد بالخبر في حق المجتهد ( فكما ) ان حجية الخبر منشأ لوجوب معاملة المجتهد مع مؤداه معاملة الواقع في جواز الافتاء بمضمونه ووجوب العمل على طبقه بلا وجوب امر آخر عليه من التزام وبناء على العمل به ( كذلك ) حجية الفتوى في حق المقلد منشاء لوجوب العمل على طبقها بلا لزوم بناء والتزام منه على العمل بها ( ولذا ) لو عمل المكلف على طبق رأي المجتهد بلا التفات الى هذا البناء لم يكن عاصياً وكان عمله صحيحا ومجزياً ( فما هو ) الواجب شرعاً في المقامين ليس إلا ما هو مفاد صدق الخبر في حق المجتهد وصدق الرأى في حق المقلد ، ومرجع وجوب التصديق في المقامين الى وجوب العمل على طبق مؤدى الخبر والرأي عند الالتفات اليها، بلا وجوب شيء آخر من بناء والتزام بالعمل بالخبر او الفتوى مقدمة للعمل فإن مثل هذا المعنى مع كونه اجنبياً عن موضوع الوجوب الشرعي في التقليد الذي هو موضوع البحث لا يكون له دخل في حجية الفتوى، بل ولا في صحة العمل ايضاً وانما هو امر مستقل في نفسه يحتاج وجوبه الى قيام دليل عليه بالخصوص، وإلا فهو اجنبي عمادل على وجوب التقليد من السيرة والعقل الفطري الأرتكازي وسائر الادلة الشرعية ( هذا كله ) في فرض انحصار المجتهد المتعين حجية فتواه في حقه .

فى أنّه لا ثمرة على النزاع في شرح التقليد

(واما في فرض عدم ) انحصار المجتهد و اختلاف فتاويهم مع تساويهم في الفضل ( فعليه ) وان لم يكن محيص من الالتزام بفتوى خصوص احد المجتهدين في حجية رأيه في حقه ، فانه بعد عدم امكان حجية فتوى الجميع في حقه للتكاذب الموجب للتناقض ولا احدها المبهم ، ولا المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح ، ولا التساقط رأساً والرجوع الى غير الفتوى ، لكونه خلاف الاجماع ، ( فلا جرم ) ينتهي الامر الى التخيير في الأخذ باحدى الفتاوى للاستطراق بها الى الواقع ، نظير التخيير في الخبرين المتعارضين ( وفى مثله ) يتعين الحجة بما يختاره ، فيحب عليه عقلا الاختيار

ص: 239

بمعنى الالتزام بالعمل على طبق احدى الفتويين او الفتاوى معيناً مقدمة لتحصيل الحجة على امتثال الاحكام بمناط حكمه في الشبهة قبل الفحص بوجوب تحصيل الحجة على الجاهل المتمكن من تحصيلها ، لا بمناط وجوب رجوع الجاهل الى العالم وحجية فتويه ( لان ) حجية كل واحدة من الفتويين او الفتاوى مشروطة بالاخذ بها بمعنى الالتزام بحجيتها والعمل على طبق مؤديها ، والافقبل الأخذ باحدى الفتاوى لا تكون واحدة منها حجة في حقه ( وعلى ذلك ) نقول ان الأخذ والالتزام وان كان مقدمة للعمل، لا نفسه وينتزع من هذا الالتزام الكلى عنوان التقليد ، الا ان وجوبه حينئذ لا يكون الا عقليا بمناط تحصيل الحجة على امتثال الأحكام لا شرعياً مولويا ( بل لو ورد ) دليل شرعى على وجوبه يكون ارشاداً الى حكم العقل ( وانما ) الوجوب الشرعي متعلق بما يختاره في ظرف اختياره ، كما ذكرناه في الامر بالتخيير في الخبرين المتعارضين ( فلا مجال ) حينئذ للتشبث على وجوبه بمثل السيرة وسائر الادلة الشرعية ، ولا بالعقل الفطري الارتكازي بوجوب رجوع الجاهل الى العالم ( لما عرفت ) من ان هذه الادلة ، نظير ادلة حجية خبر الواحد ناظرة الى اثبات حجية فتوى المجتهد الراجع الى ايجاب العمل على طبق فتوى المجتهد ، لا الى وجوب تحصيل الحجة على امتثال الأحكام ( بل لا بد ) حينئذ في اثبات وجوبه من التشبث بحكم العقل المستقل بوجوب تحصيل الحجة على المتمكن منها مقدمة لامتثال الاحكام .

(مع انه ) لا ثمرة مهمة تترتب على هذا النزاع ، لا في مرحلة المصححية للعمل ولا في مقام المعذرية ( فانه ) في فرض انحصار المجتهد يكفي في الصحة مجرد تطبيق العمل على فتوى المجتهد المنحصر حجية فتويه في حقه ، بل يكفي فيها مجرد اتفاق مطابقة العمل لرأي من يجب اتباع رأيه تعييناً ولولم يتحقق عنوان التقليد بالاخذو الالتزام او تطبيق العمل على الفتوى معتمدأ عليها ( ولذلك ) تريهم مصرحين في فتاويهم بان المقلدلو عمل عملا واتفق كونه مطابقاً لفتوى المجتهد المنحصر حجية فتويه في حقه اجزئه ( وهكذا الكلام ) في فرض عدم انحصار المجتهد واتفاقهم في الفتاوى ( فان تعدد ) الفتاوى حينئذ كتعدد الخبر الدال على وجوب شيء في كون الجميع حجة على المقلد

ص: 240

من غير احتياج في مرحلة صحة العمل ولا في المعذرية والمنجزية الى تعيين شخص خاص في العمل برأيه ( واما ) في فرض تعدد المجتهد واختلافهم في الفتاوى وتساويهم في الفضل ، وان كان لا محيص من الاخذ والاختيار مقدمة لتحصيل الحجة على امتثال الاحكام ، ويجب العمل شرعا على طبق ما يختاره لصيرورته بعد الأخذ حجة تعيينية على المقلد ( إلا ) انه لا يتفاوت الحال فيه بين القولين في التقليد .

فى وجوب التقليد على العامى و بيان ادلته

( المقام الثانى ) فى وجوب التقليد او جوارة على العامى ، وبيان ادلته ( ولا يخفى ) أن عمدة المستند على لزوم التقليد بالنسبه الى المقلد العامي ، هو الامر الجيلي الفطري الارتكازي في نفوس عامة الناس على لزوم رجوع الجاهل بالوظيفة الى العالم بها بنحو موجب الجربهم عليه طبعاً وعلمهم بالحكم بلا التفاث منهم الى وجه علمهم ، كما في سائر ارتكازاتهم بحسب الفطرة والجبلة التي اودعها فيهم بارئهم ( والى ذلك ) ايضاً يرجع السيرة المعهودة من العرف والعقلاء والمتدينين من الصدر الأول على رجوعهم في كل ما جهلوا به الى العالم، بل ويرشد اليه ما ورد في الادلة الشرعية من ارجاع الجاهل الى العالم ( وعليه ) فيكفي مثل هذا الارتكاز الفطري دليلا على المسألة ( ولا يحتاج ) الى العاب النفس بجعل المستند الحامل للعامي على التقليد بالنسبة الى الوظائف التكليفية والوضعية دليل الانسداد ( بتقريب ) ان المقلد العامي بعد علمه بثبوت المبدأ وارسال الرسل وتشريع الشريعة ، وعلمه بلزوم التعرض للوظائف الشرعية المقررة له ، وعدم تمكنه من الامتثال التفصيلي باستخراج وظائفه من الادلة ، ولا من الامتثال الاجمالى بالاحتياط ، لعدم معرفته بموارد الاحتياطات ، وللعسر والحرج المنفيين في الشريعة ، يحكم عقله السليم بلزوم الرجوع الى فتوى المجتهد لكونها اقرب الطرق لديه الى الواقع (كيف ) وعلى ذلك يشكل في مرجعية فتوى المجتهد فى تعيين وظائفه في الموارد التى يكون المقلد ظانا على خلاف راي المجتهد ( فنفس بنائهم ) على الرجوع الى فتوى المجتهد وعدم اعتنائهم بظنونهم على خلاف رأي المجتهد من غير نكير من احد يكشف عن ان المستند الباعث على حملهم على التقليد هو الامر الجبلى الفطري السليم على لزوم

ص: 241

رجوع الجاهل الى العالم ، لا انه ملاك الانسداد ( ولقد ) عرفت كفاية هذا العلم الارتكازي في لزوم التقليد على العامي في الاحكام الفرعية ( والا ) فبعد ع_دم تمكن المقلد من الرجوع الى الادلة والاجتهاد فيها لا يمكن اثبات هذه المسألة بالتقليد للزوم الدور أو التسلسل ( إلا ) اذا كان العامى غير ملتفت بحصر الوظيفة بالتقليد في الاحكام الفرعية ، بأن كان شاكاً في تعيين وظيفته الفعلية من حيث التقليد او الاحتياط او تحصيل الاجتهاد في المسائل الفرعيه ( حيث ) ان مثله جاهل في مسألة الرجوع الى الغير في المسائل الفرعية ايضاً ( فيجعل ) مركز اجتهاده حينئذ ولو بمقتضى الاركاز في الرجوع الى المجتهد في تعيين هذه الوظيفة ، من غير ان يكون اجتهاده ذلك من أدلة جواز التقليد في الاحكام الفرعية ، فيفتيه المجتهد بما استقر عليه رأيه من كون الوظيفة الفعلية هو التقليد دون الاحتياط او تحصيل الاجتهاد ( وعلى كل حال ) ففي كل تقليد لا بد من من انتهاء امر التعبد بقول الغير الى اجتهاد المقلد العامي وقطعه الوجداني بمرجعية الغير ولو بمقتضى الفطرة الارتكازية في نفوس عامة الناس من مرجعية العالم بالوظيفة للجاهل بها ( فان ) مرجع الحجج التعبدية الى حجتها بالغير ولا بد من انهاء كل ما بالغير الى ما بالذات .

فى الدليل الارتكازى على التقليد

( وكيف كان ) فما ذكرناه من الدليل الارتكازى هو العمدة في المستند لوجوب اصل التقليد ( والا ) فما عداه من الادلة الشرعية قابل للمناقشة ( اما الاجماع ) المدعى في المقام ، وكذا السيرة المستمرة من الصدر الأول فالمناقشة فيها ظاهرة ، لقوة احتمال كون مدرك المجمعين، وكذا مبنى السيرة هي القاعدة المرتكزة في نفوس عامة الناس ( ومع ) هذا الاحتمال لا يحصل الوثوق من هذا الاتفاق بنحو يكشف عن رأي المعصوم ( علیه السلام ) ، ليكون بنفسه دليلا على المسألة في مقابل العقل الفطري الارتكازي ( واما الآيات ) فعمدتها آينى النفر والسؤال ( وهما ( ايضاً قاصرتان عن افادة حجية فتوى العالم في حق العامي ( أما ) آية السؤال ، فلقوة إحتمال كون ايجاب السؤال عن اهل الذكر لاجل حصول العلم بالواقع ، لا لمحض التعبد بقولهم ولو لم يعد العلم للمسائل ( فالمراد ) من الآية والله العالم فأسئلوا اهل الذكر

ص: 242

الذكر إن كنتم لا تعلمون حتى تعلموا ، كما يقال لمن ينكر شيئا لعدم علمه به سل فلانا ان كنت لا تعلم ( مضافاً ) الى ورود الآية المباركة في اصول العقائد التي لا يكتفي فيها بغير العلم ، لظهورها بمقتضى السياق في ارادة علماء اهل الكتاب والسؤال عنهم فيما لديهم من علامات النبوة المكتوبة في كتبهم السماوية ( والى ) ماورد من تفسير اهل الذكر بالأئمة المعصومين ( علیه السلام ) المعلوم إفادة قولهم العلم بالواقع

في الاستدلال على وجوب التقليد بالاجماع وآيتى النفر والسؤال

( واما ) آية النفر ، فاصنع اقتضائها وجوب الحذر مطلقا ولو مع عدم حصول العلم للمنذرين بالفتح ( إذ لا إطلاق ) من هذه الجهة وإنما اطلاقها مسوق لا يجاب الانذار على النافرين بما تفقهوا من الأحكام ، لا لبيان وجوب الحذر والقبول مطلقا ، فيمكن ان يكون الحذر المطلوب عقيب الانذار منوطا بحصول العلم لاقتضاء تراكم إخباراتهم لانشاء الحق الموجب لحصول العلم ( فمعنى الآية ) والله العالم انه يجب على النافرين الانذار بما تفقهوا اذا رجعوا الى المتخلفين لعله يحصل لهم العلم فيحذرون ( وربا يشهد ) لذلك إستشهاد الامام ( علیه السلام ) بالآية على وجوب نفر جماعة من كل بلد لمعرفة الامام اللاحق اذا حدث على الامام السابق حدث ( كقول ابی عبد الله ( علیه السلام ) ) ليعقوب بن شعيب بعد ما سئله عن الامام اذا حدث عليه حدث كيف يصنع الناس . اين قول الله عز وجل فلولا نفر الآية : ثم قال ( علیه السلام ) هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع اليهم اصحابهم ، مع وضوح ان الامامة لا تثبت الا بالعلم ( مؤيداً ) ذلك بما في الآية من التعبير بالطائفة التي هي عبارة عن الجماعة ( اذ من المعلوم ) ان اخبار الجماعة بشيء موجب عادة للعلم بذلك الشيء ( لا يقال ) انه كذلك لو اريد من الجمع في الآية انذار مجموع النافرين من حيث المجموع ( واما ) لو اريد منه العموم الأفرادي ، فلا موقع لهذا الاشكال ( فانه يقال ) ان مجرد كون الجمع في الجملات المذكورة فى الآية على نحو العموم الاستغراقي لا يقتضى اطلاق الآية من حيث مطلوبية الحذر عقيب إنذارهم على الاطلاق ( إلا ) فى فرض كون الانذار الواجب هو انذار كل واحد من النافرين طائفة من المتخلفين ( فان ) وجوب انذارهم كذلك يلازم

ص: 243

اطلاقها على وجه يستفاد منه وجوب القبول تعبداً وإثبات مثله من الآية محل منع ( نعم ) لو اغمض النظر عما ذكرنا لا وجه للمناقشة فيها من جهة تخصيصها بباب الخبر والحكاية عما رووه وسمعوا من الأحاديث المشتملة على التخويف ( كيف ) وان الانذار بما تفقه ظاهر في دخل الفقاهة وانشاء التخويف في الحجية ووجوب الحذر عقيب الانذار ( ومن المعلوم ) أن ذلك إنما يناسب مقام الفتوى لا مقام الرواية والحكاية عن قول المعصوم ( علیه السلام ) الذي لا يكون لحيث فهم الراوي واستفادته دخل في الحجية ووجوب الحذر ( فاذا ( كان ظاهر الآية هو الانذار بما تفقه من حيث فقاهته واستفادته من كلام المعصوم ( علیه السلام ) ( فلا محالة ) تكون من ادلة حجية الفتوى ، ولا يكون لها مساس بباب الانذار في مقام الحكاية والرواية الذي هو اخبار عن قول المعصوم ( علیه السلام ) .

في الاخبار الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء مفهوماً ومنطوقا

( وأما الاخبار ) الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء مفهوماً ومنطوقاً مطابقة والتزاماً ، فهى وإن كانت احسن ما في الباب ( كقول الباقر ( علیه السلام ) ) لابان بن تغلب . إجلس في المسجد وأنت الناس فاني احب ان يرى في شيعتي مثلك ( وقول الصادق ( علیه السلام ) ) في خبر طويل .. فأما من كان من الفقهاء صائنا لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لامر مولاه فللعوام أن يقلدوه ( ومفهوم ) ما ورد في النهى عن الافتاء بغير علم ( وما ورد ) من الارجاع الى مثل الاسدى يعني ابا بصير ، وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن وأضرابهم من ثقات اصحابهم عليهم السلام ( وكذا ) ما ورد من الارجاع إلى رواة الاحكام في الترافع ، كمقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة ابي خديجة ، والتوقيع الشريف لاحمد بن اسحاق .. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى روات أحاديثنا الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ( فيخصص ) بها مادل على النهي عن إتباع غير العلم والذم على التقليد من الآيات والأخبار على فرض شمولها للتقليد في الأحكام الفرعية بالحمل لها على التقليد في الاصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، وعلى تقليد الفسقة من العلماء في الفروع الفقهية ( كما يشهد ) به المروى في الاحتجاج من قوله ( علیه السلام ) وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق

ص: 244

الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا الى قوله ( علیه السلام ) . . من قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله سبحانه بالتقليد لفسقة فقهائهم ( ولا مجال ) للمناقشة في دلالة تلك الأخبار بجعلها من ادلة حجية الرواية لا الفتوى بمحض كون الافتاء في الصدر الأول بنقل الرواية بالفاظها او بمضمونها ( اذ نقل ) الرواية منهم في مقام الافتاء بالواقع للجاهل بالأحكام إنما كان باعمال الرأي والنظر في حكم المسألة والاجتهاد في استفادته من ظاهر الرواية ، لا بصرف نقل الرواية عن الامام بما هو ، كيف وان صرف نقل الرواية لا يكون إفتاء لحكم المسألة ، ولا يصدق على مثله عنوان الفقيه والعارف بالاحكام الذي افيد في تلك الأخبار لزوم رجوع العوام اليه في أخذ الفتوى وتقليده في المسائل الفرعية ( ولذلك ) اعتبر في المقبولة حيث النظر والمعرفة بالأحكام فيمن يترافع لديه بقوله ( علیه السلام ) ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا وكذا في مشهورة الى خديجة ( ودعوى ) أن المقبولة ونظرائها واردة في مقام القضاء ولا ربط لها بباب الفتوى ، مندفعة بعدم الفصل بينها ( فحمل ) تلك الأخبار حينئذ على بيان حجية الرواية لا الفتوى ناش عن قلة التأمل فيها ( نعم ) بعد استقلال عقل المقلد بمرجعية فتوى العالم في جميع الأحكام الفرعية لا يثمر بحث المجتهد فيها إلا من حيث اطلاقها من جهة بعض خصوصيات المرجع من حيث الحيوة والأعلمية والاوثقية ونحوها مما كان المقلد جاهلا في اعتبار. في المرجع ( وإلا ) فبالنسبة الى اصل وجوب التقليد لا يكون البحث فيها مثمراً لا في حق المجتهد في افتائه بالوجوب ولا في حق المقاد ( الا ) اذا فرض كون المقلد جاهلا في تعيين الوظيفة الفعلية من حيث التقليد او تحصيل الاجتهاد في الاحكام الفرعية او الاحتياط ، فيكون لبحث المجتهد حينئذ واستنباطه من تلك الأدلة مجال ، فيفتي إياه بكون الوظيفة هو التقليد في الأحكام الفرعية .

( وعلى كل حال ( فالتقليد حيثما قلنا بوجوبه على العامي فوجوبه لا يكون الا طريقياً لا شرطياً لصحة العمل ، كما يوهمه اطلاق كلامهم بطلان عمل تارك

ص: 245

طريقي الاجتهاد والتقليد، بداهة أنه لا مدخلية للتقليد في صحة عمل العامي ( بل يكفى ) في صحته واقعاً مجرد كونه مطابقا للواقع ولو من باب الاتفاق ، وظاهرا مجرد اتفاق كونه على وفق رأي من وجب عليه تقليده تعييناً والاستطراق به الى الواقع ولولم يكن حين العمل ملتفتا الى فتوى من وجب عليه تقليده ، فقولهم بوجوب التقليد على العامى انما هو من جهة كونه طريقا له الى الاحكام الواقعية وأنه بدونه لا يتمكن الجاهل الملتفت من قصد التقرب في عباد انه ( مع أنه ) لا وجه لحصر طريق تصحيح الاعمال الصادرة من المكلف عبادة ومعاملة بالأمرين المزبورين بعد امكان تصحيحها بالاحتياط الحاوي لجميع ما احتمل دخله في صحة العمل وجوداً وعدماً ، كما هو ظاهر .

( ثم ان ) مرجع حجية فتوى المجتهد بالحكم الشرعي على المقاد العامي انما هو باعتبار كشفه عن رأيه واعتقاده الذي هو الحجة على المقلد ، لا باعتبار كشفه بنفسه عن الواقع ، فما هو موضوع الحجية في باب الفتوى انما هو رأي المجتهد بما هو طريق الى الواقع لا نفس فتواه واخباره بالحكم فتكون حجية فتواه في حق المقلد من باب كونها طريقا الى ما هو الطريق الى الواقع وهو رأيه واعتقاده في حكم المسألة ( ولذلك ) يصح للمقاد الاعتماد في مقام العمل على رأيه المستكشف بطريق آخر غير فتواه كما لو علم من مذاقه ان رأيه على اقتضاء الأمر بالشيء للنهى عن ضده الخاص ( فلو افتى ) بوجوب شيء في مسألة ليس له الاتيان بضده ولا يكاد يصح عنه ايضاً اذا كان عبا يا ولو لم يكن له فتوى في تلك المسألة اصلا ( وبذلك ) اتضح الفرق بين باب حجية الفتوى وباب حجية الخبر ( فان ) موضوع الحجية في باب الخبر هو نفس الاخبار بماهو حاك عن الواقع ولا مدخل في الحجية لحيث فهم المخبر واعتقاده ، بخلاف باب الفتوى ، فان الحجة على العامي النماهو رأى المفتى واعتقاده فيكون بين البابين من هذه الجهة تمام المعاكسة ( وبذلك ) يظهر وجه رجوع الاصحاب عند اعواز هم النصوص الى فتاوى على بن بابويه وغيره ممن دأبه على الافتاء بمضامين الاخبار ( حيث ) أن رجوعهم الى مثله انا هو باعتبار كشف فتويه في المسألة عن كونها مضمون رواية عن المعصوم ( علیه السلام ) ، لا باعتبار كشفها عن

ص: 246

رأيه واعتقاده الذي هو موضوع الحجية في باب التقليد ( لوضوح ) ان فتوى الفقيه من هذه الجهة انما تكون حجة في حق العامي ، لا في حق مجتهد آخر مثله .

( ثم لا يخفى ) ان الارتكاز العقلى على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم أنما هو قضية اجمالية لا يكاد يستكشف منها الخصوصيات المحتملة دخلها في المرجع من مثل الحيوة والايمان والعدالة والاعلمية والذكورية والحرية ونحوها لا اثباتاً ولا نفياً ( ولذلك ) كان المجال لرجوع المقلد في هذه الخصوصيات بحكم العقل الاجمالي الى العالم اذا شك في اعتبارها في المرجع كلا او بعضاً ( ولا محيص ) له عند الشك من الرجوع اولا الى من هو جامع جميع ما احتمل دخله في المرجع من الصفات ، فيفتيه العالم بها بما استقر عليه رأيه بمقتضى استفادته من الأدلة الشرعية اطلاقا وتقييداً .

في وجوب تقليد الاعلم

( المقام الثالث ) قد اختلفوا في وجوب تقليد الأعلم عند اختلاف الأحياء في العلم والفضيلة وعدم وجوبه ومساواته مع العالم من هذه الجهة على قولين ( والظاهر ) أن الخلاف كما يظهر من تصريح بعضهم انهما هو في فرض كون فتوى الاعلم مخالفة لفتوى غيره ، بل ومع علم المقلد باختلافها في الفتوى ايضا ( والا ) فني فرض توافقها في الفتوى وعلم المقاد بذلك لا اشكال ظاهراً في التخيير بينها لعدم الدليل على تمين الرجوع الى الاعلم ، بل لا ثمرة للنزاع في هذا الفرض ، لان العمل بفتوى احدهما عمل بالآخر ايضاً ولا تختص الحجية حينئذ بواحد معين لكونها من قبيل تمدد الرواية في حكم المسألة ، وقد عرفت خروج البناء والالتزام في العمل على طبق الحجة عن موضوع الحكم الشرعي والمصححية للعمل ( ودعوى ) سقوط فتوى المفضول عن الحجية مع وجود الأفضل بالمرة واندراجها فيما دل على النهي عن اتباع غير العلم ( يدفعها ) اطلاق الادلة المتقدمة كتاباً وسنة ( بل ويدفعها ) السيرة القطعية والقاعدة الارتكازية الفطرية ( وحينئذ ) فلا ينبغي التشكيك في حجية فتوى غير الاعلم في نفسها ( وانما ) الاشكال كله في فرض كون فتوى

ص: 247

الاعلم مخالفة لفتوى غيره مع علم المقلد بالمخالفة ايضاً ( والا ) ففي فرض عدم العلم بمخالفة الفتويين يمكن احراز عدم المخالفة بالاصل ، نظير احراز عدم المخالفة للكتاب والسنة بمثله في الشرط ونحوه

فى بيان ادلة وجوب تقليد الاعلم

( وقد عرفت ) ان المسألة ذات قولين ( احدهما ) تعين تقليد الأعلم وهو المعروف المشهور بين الاصحاب ، بل عن المحقق الثاني الاجماع عليه ، وعن محكى السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة ( وثانيها ) جواز الرجوع الى غير الاعلم كما عن جماعة منهم الفصول لامور يأتي ذكرها ان شاء الله تعالى ( ولكن التحقيق ) وفاقا للمشهور هو الأول ( للاصل ) للشك في حجية فتوي المفضول عند معارضتها مع فتوى الأفضل، وهو كاف في عدم حجيتها وعدم جواز الاعتماد عليها في مقام العمل ( بل يمكن ) أن يقال بصيرورة مشكوك الحجية حينئذ مشمولا لما دل على النهي عن اتباع غير العلم كتاباً وسنة بناء على حمل النهي فيها عن العمل المنشأ للتشريع بموداه ولو كان ذلك من جهة عدم الحجية فيها ، لا لاقتضاء عدمها كما في نواهي القياس ( من غير ) أن يكون في البين ما يقتضي خروجه من الاصل ومن مورد تلك النواهي ، عدا ما توهم من أدلة مشروعية التقليد ( وهى ) غير صالحة لذلك ( اما القاعدة ) الارتكازية التي هي عمدة ما في الباب ، فظاهرة ( اذ لا اطلاق ) لها يقتضي جواز الرجوع الى كل عالم ولو مفضولا حتى عند تعارض فتواه مع فتوى الافضل في زمانه ، لولا دعوى اقتضائها تعين الرجوع حينئذ الى الافضل من باب القدر المتيقن في الحجية ( واما سيرة ) المتشرعة فلم يعلم قيامها على الرجوع الى المفضول مطلقا ، بل المتيقن منها في الرجوع اليه مع وجود الافضل انما هو في ظرف عدم العلم بالمعارضة والمخالفة لفتوى الافضل ( وأما الآيات ) كايتى النفر والسؤال فعلى فرض نهوضها على حجية فتوى العالم تعبدا والغض عما ذكرنا فيها من الاشكال ، فغايتها الدلالة على حجية فتوى كل عالم في الجمله موجبة جزئية ( وأما ) اطلاقها لحال تعارض فتوى العالم مع فتوى الاعلم فلا وهكذا ( الكلام في الأخبار ) اذ تقول ان غايتها الدلالة على حجية فتوى كل عالم ولو كان مفضولا في الجملة ( وأما ) اطلاقها لحال المعارضة مع فتوى

ص: 248

الافضل فلا ( وبالحملة ) ان اثبات حجية فتوى العالم مطلقا حتى مع المعارضة والمخالفة لفتوى الاعلم في زمانه منوط بثبوت الاطلاق الاحوالي لتلك الاخبار ( وحيث ) انه لم يحرز ثبوت هذا الاطلاق، ولم تكن قضية اطلاقها الاحوالي ايضا تابعة لعمومها الأفرادي ( فلا جرم ) عند الشك تسقط فتوى المفضول من الحجية عند المعارضة لفتوى الافضل ، للشك في حجيتها حينئذ ، فتبقى تحت فتبقى تحت الأصل والاطلاقات الناهية عن اتباع غير العلم بالتقريب الذي ذكرناه

( ثم لا يخفى ) ان العمدة في تخصيص الحجية عند المعارضة مع فتوى الأعلم هو ما ذكرناه من قضية الأصل ( وإلا ) فلا مجال لاثبات تمين تقليد الأعلم بمقتضى الأخبار الدالة على ترجيح الاعلم والأفقه عند المعارضة التي ( منها ) المقبولة من قوله ( علیه السلام ) الحكم ما حكم به اعدلها وأفقهها ( ومنها ) خبر داود بن حصين من قوله ( علیه السلام ) .. ينظر الى قول أفقهها و أعلمها ) ومنها ) ما في خبر موسى بن اكيل من قوله ( علیه السلام ) ينظر الى أعدلها وأفقهها فيمضي حكمه ( بتقريب ) انها وان كانت ظاهرة في الاختصاص بباب القضاء وفصل الخصومات ( ولكن ) الترجيح بالا علمية والأفقهية فيها لما كان بمناط تقديم الفتوى ، يتعدى الى باب الفتوى ايضاً لوحدة المناط ( لأن ) حكم الحاكم في الشبهات الحكميه ليس الا انشاء الفتوى المستنبطة من الأدلة في الواقعة الجزئية التي وقعت المنازعة فيها ، فالحكم والفتوى مشتركان في المدرك مختلفان في الموضوع ، فتكون الفتوى هو الاخبار عن ثبوت الحكم الكلي للموضوع الكلى ، والحكم هو انشاء تلك الفتوى في الموضوع الشخصى المترافع فيه ، فحجية كل حكم مستلزمة الحجية الفتوى ( مضافا ) الى امكان دعوى عدم الفصل بينها بالاجماع المركب فان كل من قال بتقديم حكم الاعلم في مقام فصل الخصومة قال بتقديم فتواه مطلقا ( بل قد يقال ) ان المراد من الحكم في تلك الأخبار هو معناه اللغوي ، نظير قوله سبحانه وتعالى ومن لم يحكم بما انزل الله الآية .

( ولا يخفى ) ما في هذا الاستدلال من الضعف ( اما الاجماع المركب )

ص: 249

فممنوع جداً مع هذا الخلاف العظيم في المسألة والتزام القائلين بجواز تقليد العالم مطلقاً بالتفكيك بين باب القضاء وباب الفتوى ( ومثله ) في المنع دعوى المناط المزبور واستفادته من الأخبار المزبورة ( فان ) الترجيح بالاعلامية فيها لاجل رفع الخصومة وحسم مادة النزاع عن البين لا يقتضى الترجيح به في باب الفتوى والتقليد ، وكون حكم الحاكم في الواقعة الجزئية انشاءاً للفتوى المستنبطة من الادلة لا يلازم اتحادهما في الترجيح حتى يتعدى الى باب الفتوى والتقليد ( فان ) الخصومة لا بد من رفعها بأي نحو كان ( ولذلك ) ذكر الترجيح بالاعدلية والأورعية والأصدقية في تلك الأخبار ، مع أنها غير معتبرة في باب الفتوى بلا اشكال ( وعليه ) اين يبقى مجال الاستدلال بتلك الأخبار على الترجيح بالاعلمية في باب الفتوى عند المعارضه والمخالفة ، و اين مناط قطعى يتعدى به الى باب التقليد (واما ) احتمال كون المراد من الحكم في تلك الاخبار معناه اللغوى ، نظير ما في الآيه المباركة ، فهو كما ترى لا يستأهل رداً.

( واضعف ) من ذلك الاستدلال على وجوب تقليد الاعلم وتعينه بملاك التعيين والتخيير لكونه في الحقيقة من صغريات مسألة التعيين والتخيير ، حيث يعلم تفصيلا بوجوب العمل على طبق فتوى الاعلم اما تعييناً او تخييراً ويشك في وجوب العمل على طبق فتوى غيره لاحتمال عدم حجيته مع وجود ما يحتمل التعيين ( والاصل ) فيه يقتضى التعيين بناء على ماهو التحقيق من الاشتغال في تلك المسألة ( اذفيه ) ان جمل المقام من صغريات تلك المسألة مبني على جعل التخيير فيه في المسألة الفرعية

وهو باطل قطعا لا متناع الوجوب التخييري في العمل فى كلية باب التعارض المنتهي فيه الأمر الى التناقض في المدلول ( بل التخيير ) فيه راجع الى التخيير في المسألة الأصولية اعني الأخذ باحدى الفتويين الراجع الى ايجاب التعبد بكل منها مشروطاً بالأخذ ( وفى مثله ) يكون المقام من باب دوران الأمر بين حجية فتوى الاعلم و وجوب العمل على طبقها من غير اشتراطها بالاخذ والالتزام بمؤديها ، وبين حجية كل منها مشروطاً بالأخذ بها ( ومن المعلوم ) أن لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية

ص: 250

فتوى الأعلم مطلقا ( فانه ) قبل الأخذ بها يشك في حجيتها ووجوب التعبد بها وكذا بعد الأخذ بفتوى غيره ( ومع ) هذا الشك كيف يمكن دعوى اندراج المقام في مسألة التعيين والتخيير المستلزم لليقين بوجوب العمل على طبق المعين على كل تقدير ( نعم ) حيث أن الأخذ بفتوى الأعلم موجب لليقين بحجيتها ، بخلاف فتوى غيره ، فانه مع الأخذ بها يشك في حجيتها ، ينتهى الأمر الى مقطوع الحجية بالأخذ ومشكوكها فيحكم المقل بوجوب الأخذ بماهو مقطوع الحجية دون مشكوكها ) وبذلك ( يفترق المقام عن مسألة التعيين والتخيير في المسألة الفرعية ، حيث نقول بالتعيين في المقام ولو مع عدم القول به في تلك المسألة والمصير فيها الى البرائة ( ولعل ) مثل هذه الجهة ايضاً هو الموجب لمصيرهم الى التعيين في المقام مع تشكيكهم في تلك المسألة .

( وقد استدل ) لوجوب تقليد الاعلم والمنع عن تقليد غيره بوجهين آخرين ( أحدهما ) دعوى الاجماع على وجوب تقليد الاعلم عند التعارض واختلاف الفتوى ( وثانيها ) ان فتوى الأعلم اقرب الى الواقع من فتوى غيره ، فيجب الأخذ به لقضاء العقل بلزوم الأخذ بالاقرب عند التعارض والاختلاف ( وفيها ) من الضعف ما لا يخفى ( أما الاجماع ) فلا وجه لدعواه في المسألة مع وجود هذا الخلاف العظيم ( مضافاً ) الى قوة احتمال كون مدرك المتفقين هو الأصل الذي قررناه ( اذ معه ) لا مجال لتحصيل الاجاع بالظفر باتفاق جماعة من الاعلام ( وأما الدليل ) المقلى فممنوع صغرى وكبرى ( اما الصغرى ) فيمنع كون فتوى الاعلم أقرب الى الواقع من غيره ( بل قد يكون ) فتوى غيره أقرب الى الواقع من فتواه خصوصا لموافقته لفتوى من هو أعلم منه ممن مات، او للشهرة ونحوها من الامور الداخلية والخارجية ( واما دعوى ) ان المناط في الاقربية انما هو على اقربية الفتوى في نفسها مع قطع النظر عن الامور الخارجية ولا شبهة في اقربية فتوى الاعلم من فتوى غيره ( فهى ) مع كونها ممنوعة لا تكون صغرى لتلك الكبرى العقلية ( اذ هي ) غير مختصة بالاقربية الحاصلة من نفس الفتوى ( واما الكبرى ) فبانه لا دليل على اعتبار الاقربية بنظر العقل في الامارات التعبدية

ص: 251

التي منها فتوى المجتهد في حق المقاد ( فان ) حجية فتوى العالم في حق العامى وان كانت من باب الطريقية كغيرها من الطرق التعبدية لا من باب السببية والموضوعية الا انه لم يعلم كون المناط في التعبد بها هو القرب الى الواقع بنظر العقل كي يدور في مقام الترجيح مدار الأقربية ( فلعل ) المناط في نظر الشارع في التعبد بها شيء آخر يكون الاعلم وغيره فيه سيان ( وكون ) غلبة الايصال في نظر الشارع حكمة لجعل مطلق الطرق غير العالمية ( لا يقتضي العلية والا ) لاقتضى القول به في التعبد بساير الطرق والامارات غير العلمية كالبينة ونحوها ( مع انه ) قد يكون فتوى العالم اقرب الى الواقع من فتوى الاعلم لموافقته لفتوى اعلم الميت ، أو لجهة اخرى ، فيلزم الأخذ بفتوى العالم المطابق لفتوى الاعلم الميت ، ولا اقل من تأتي احتمال التعيين في فتوى العالم ايضا ( وفى مثله ) ربما ينتهي الأمر إلى الأخذ باحوط القولين في المسألة ( نعم ) لو كان القولان مخالفين للاحتياط تعين الأخذ بفتوى الأعلم لاحتمال عدم مناطية الأقربية الحاصلة من أمر خارجي ( بل بما ذكرنا ) يمكن الخدشة في مرجعية الاعلم على الاطلاق حتى فيما كان فتواه في المسألة مخالفة للاحتياط وكان فتوى غيره موافقة للاحتياط ( اذ في مثله ) يمكن القول بجواز الأخذ بفتوى غيره لانتفاء ما يقتضي تعين الأخذ بخصوص فتوى الاعلم .

فى ادلة القول بجواز تقليد العالم مطلقا ومساواته مع الاعلم

( بقى الكلام ) في أدلة القول بجواز تقليد العالم مطلقا ومساواته مع الاعلم وهي امور ( منها ) إطلاقات الأدلة كتاباً وسنة ( ومنها ) سيرة المتشرعة من الصدر الأول على الرجوع الى اصحاب الأئمة وارباب النظر والاجتهاد مع العلم باختلافهم في العلم والفضيلة ، بل واختلافهم في الانظار ( ويظهر ) الجواب عنها مما تقدم سابقاً فراجع ( ومنها ) أن وجوب الرجوع الى الاعلم عمر منفى في الشريعة ، ( لانحصاره ) في واحد مضافاً الى لزوم المشقة الشديدة في حق المرجع من رجوع جميع المقلدين اليه لاخذ الفتوى منه ( وفيه ) منع عسرية تقليد الاعلم، لا عليه ولا على المقادين خصوصاً في زماننا الذي تداول فيه طبع الكتب والرسائل العمليه ( فان ) الرجوع الى كتبه ورسائله لأخذ الفتوى امر سهل في نفسه ( وأما ) تشخيص

ص: 252

الأعلمية ، فليس باشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ( فكما أن ) المرجع في تشخيص الاجتهاد هو اهل الخبرة ، كذلك في تشخيص الاعلمية ( واما العمل ) على طبق فتوى الاعلم ، فليس فيه ايضاً صعوبة ، بل الصعوبة في العمل بفتوى غ__يره لكثرة إفتائه بالاحتياط بلحاظ عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة عن مداركها كما هو خصوصا اذا كان مغمورا في بحر التقوى والورع ( ومنها ) انه لو وجب تقليد الأعلم لما جاز رجوع الشيعة في الصدر الاول الى فتاوى اصحاب الأعة ( علیه السلام ) تمكنهم من الوصول الى الامام واستعلام حكم الواقعة منه ( علیه السلام ) والتالى باطل فالمقدم مثله ، ومنافاته ايضا لما يظهر من الاخبار من ارجاع الأئمة إلى فتاوى اصحابهم واظهارهم الشوق في جلوسهم للفتيا ( ومنها ) ما استند اليه المحقق القمى قده من دليل الانسداد القاضي بجواز الرجوع الى العالم مطلقا ( ولكن ) في الاول ما لا يخفى من فساد المقايسة ( لوضوح ) أن مورد البحث في المقام إنما هو فى فرض العلم بمخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم ، وفي هذا الفرض يقطع بعدم رجوع الشيعة الى من يخالف قوله قول الامام ( علیه السلام ) ، لمكان البقين ببطلان قوله ومخالفته للواقع ، واين ذلك ومفروض البحث في المقام ( واما ) ما استند اليه المحقق القمى قده ، فله وجه على اصله ( لان ) المدار عنده على الظن بالواقع من ايها حصل ( ولكن ) الكلام معه فى اصل المبنى ( لما تقدم ) سابقاً من أن عمدة المستند على وجوب رجوع الجاهل الى العالم ولزوم التقليد انما هو الارتكاز الفطري الجبلي في نفوس عامة الناس بضميمة تقريم الشارع وامضائه اياه ، لا انه قضية مقدمات الانسداد ( ولذا ) ترى بناء كل من تعرض للمسألة على جعله من الظنون الخاصة ، كساير الطرق والامارات التعبدية ، لا من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد ( هذا كله ) بالنظر الى ما يستفيده المجتهد من الادلة .

( وأما بالنظر الى ) ما يصلح ان يكون مستنداً للمقلد العامي في حكم المسألة ( فان ) استقل عقله بتساوى الاعلم وغيره في الرجوع اليه لأخذ الفتوى ( وإلا ) فلا بد من رجوعه الى الاعلم في تعيين هذه الوظيفة ( اذ بعد ) ان كانت قضية

ص: 253

الارتكاز الفطري قضية اجمالية من حيث الخصوصيات المحتملة دخلها شرعاً في موضوع الحجية بحيث لا يكاد يستكشف منها هذه الخصوصيات لا نفياً ولا اثباتاً ( فلا جرم ) يستقل عقله بمناط حكمه الاجمالي بالرجوع الى من هو مجمع جميع ما احتمل الصفات ، فيجب عليه الرجوع في هذه المسألة الى الاعلم ، وليس له الرجوع بدواً الى غيره في استعلام حكم المسألة إلا على نحو دائر ، اذ لم يثبت بعد جواز تقليده ( نعم ) لا بأس بالرجوع اليه في سائر المسائل الفرعية اذا افتى الاعلم بجواز تقليد المفضول، فصح تقليده اياه في المسائل الفرعية حينئذ بمقتضى فتوى الاعلم بجوازه .

فى معنى الاعلم وتقديم الاعلم على العالم الاعدل

تنبيهات

( الأول ) المراد من الأعلم من كان أحسن استنباطاً من غيره لكونه أقوى نظراً في تنقيح قواعد المسألة ومداركها ، واكثر خبرة في كيفية تطبيقها على مواردها ، وأجود فيها للاخبار في استنباط المسائل الفرعية من مضامينها مطابقة والتزاماً واشارة وتلويحاً ، واكثر اطلاعاً بمدارك المسألة ونظائرها ، كما يرشد اليه قوله ( علیه السلام ) أنتم أعلم الناس ان عرفتم معاني كلامنا ( نعم ) لا عبرة بكثرة الاستنباط والاحاطة بالفروع الفقهية ( لان ) ذلك يجامع مع ضعف الملكة ايضاً .

(الثاني ) اذا دار الامر بين الاعلم العادل والعالم الاعدل الاورع ففى تقديم الاعلم على الاورع او التخيير بينها وجهان ، اقويها الاول لبناء العقلاء

على تعينه وعدم دخل لحيث الاعدلية والاورعية فيما هو مناط التقليد وحجية الفتوى ( نعم ) لو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة مختلفان في الفتوى ، وكان احدهما اورع من الآخر ، فقد يقال كما عن جماعة من الاساطين بلزوم تقديم الاورع ( ولكنه ) لا يخلو عن اشكال ، لعدم الدليل على الترجيح بالاورعية سوى ما يظهر من اخبار العلاج كالمقبولة ونحوها ( ومثله ) مختص بباب القضاء وفصل الخصومات ( وعلى فرض ) التعدي الى باب تعارض الاخبار لا يتعدي الى باب الفتوى الا بعدم الفصل

ص: 254

بينها ، وهو ايضاً غير معلوم ، بل المعلوم عدمه ( ومعه ) يكون الحكم هو التخيير في الأخذ باحدى الفتويين كما لو كانا متساويين في الورع والعدالة ( نعم ) لو انتهى الأمر الى الشك يمكن دعوى وجوب تقديم الأورع لكونه هو المتيقن في الحجية عند التعارض والاختلاف في الفتوى ( ولكن ) أنى ينتهى الأمر إلى ذلك .

انّما يجب تقليد الاعلم والفحص عنه فيما لوعلم بالتفاضل والاختلاف في الفتوى

( الثالث ) انما يجب تقليد الاعلم ويجب الفحص فيما لو علم بالتفاض______ل والاختلاف في الفتوى تفصيلا أو اجمالا ( واما ) اذا لم يعلم باختلاف الفتوى لا تفصيلا ولا اجمالا ، فلا يجب تقليد الاعلم ولا الفحص ايضاً ( وتفصيل ) الكلام في ذلك ، هو أنه تارة يعلم تفصيلا أو اجمالا بالتفاضل والاختلاف في الفتوى ( واخرى ) يعلم بالتفاضل دون الاختلاف ) وثالثة ) بعكس ذلك ( ورابعة ) لا يعلم بالتفاضل ولا بالاختلاف في الفتوى ( اما الصورة الاولى ) فمع العلم التفصيلى باختلاف الفتوى وافضلية شخص معين ، لا اشكال في لزوم الرجوع الى الافضل ، ومع العلم الاجمالي بها يجب الفحص ولا مجال للرجوع الى فتوى احدهما المعين او المخير قبل الفحص ، لكونه من باب اشتباه الحجة بغير الحجة ، ومع العجز عن معرفة الافضل يجب الأخذ باحوط القولين ( واما الصورة الثانية ) وهي صورة العلم بالتفاضل تفصيلا ام اجمالا مع الجهل في اصل الاختلاف في الفتوى ، فلا يحب عليه تقليد الافضل ولو مع العلم به تفصيلا ولا الفحص ايضاً ( اذ لا مانع ) حينئذ عن الأخذ بإطلاق دليل الحجية بالاضافة الى فتوى المفضول المنتهى بعد تمارض الفتويين الى التخيير في الأخذ بايهما ( ولا يعتنى ) باحتمال الاختلاف الموجب لسقوط فتوى المفضول من الحجية الفعلية ، لاندفاعه بالاصل ، نظير اصالة ع_دم المخالفة للكتاب والسنة في الشرط ونحوه ( واما الصورة الثالثة ) وهي صورة العلم بالاختلاف في الفتوى والجهل بالتفاضل ، فتتصور على وجهين ( قانه ( تارة يكون احتمال الاعلامية ثنائيا بان يحتمل تساويها في الفضيلة ويحتمل أعلمية زيد ( واخرى ) يكون الاحتمال ثلاثياً بان يحتمل كونها متساويين ، ويحتمل اعلامية زيد من عمرو ، ويحتمل العكس ايضاً ( وقد يقال ) في الأول بوجوب الأخذ بفتوي محتمل

ص: 255

الاعلمية للقطع بحجية فتواه والشك في حجية فتوى غيره ( وفي الثاني ) بلزوم العمل باحوط القولين ( لان ) مع العلم باختلاف الفتوى والشك في الاعلمية بالنسبة الى كل واحد منها تصير كل من الفتويين مشكوكة الحجية ولا مجال في مثله للأخذ بواحدة منها ولو تخييرا ( ويندفع ) الاول باصالة عدم التفاضل ( فان ) المانع عن جواز العمل بفتوى الآخر انما هو حيث الافضلية المدفوعة بالاصل ( فاذا جرى ) الاصل المزبور يترتب عليه جواز الاخذ بفتوى غيره وعدم تعين الأخذ بفتوى من احتمل اعلميته ( واذا ) ثبت هذا الجواز الشرعى فلا جرم ينتهي الأمر الى التخيير في الأخذ بها ، بلا احتياج الى احراز عنوان تساويها في الفضل كي يقال بمثبتي__ة الأصل المزبور بالنسبة اليه ( وتوهم ) انتفاء اليقين السابق في مثله مدفوع بان______ه لا نعني من افضلية شخص الا مزيد فضل لشخص لا يكون لغيره تلك المزية ، ومن المعلوم كون ذلك بنفسه أمراً حادثاً مسبوقاً بالعدم فاذا شك في حدوثه له فالاصل عدمه ( ولو سلم ) عدم اجداء مثل هذا الاصل في المقام ، لكون المجدي هو نفي افضليته بالقياس الى المجتهد الآخر نقول أنه يمكن تصويره فيما لو علم سابقا بتساويها في الفضل فشك في حصول مزيد فضل لاحدهما بالقياس الى الآخر ، حيث يقال انه لم يكن ذلك افضل من هذا والآن كما كان ( ويمكن ) تقريب الاصل بوجه آخر وهو ان يقال ان هذا المجتهد قبل بلوغه مرتبة الاجتهاد لم يكن افضل من هذا المجتهد الآخر وبعد بلوغه مرتبة الاجتهاد يشك في افضليته منه والاصل عدمه ) وهكذا ) الكلام في فرض احتمال الافضلية في كل منهما ( فانه ) يجري اصالة عدم التفاضل بالنسبة الى كل منها ونتيجة ذلك عدم وجوب الفحص وجواز الأخذ بفتوى كل منها بمقتضى حكم العقل بالتخيير وحجية ما يختاره من الفتويين ( واما الصورة الرابعة ) وهي عدم العلم لا باختلاف الفتوى ولا بالتفاضل فالحكم فيها اظهر مما ( سبق ) .

ص: 256

في جواز تقليد الميت ابتداء أو البقاء عليه استدامة

المقام الرابع

( قد اختلف ) كلمات الاعلام في اشتراط الحيوة في المفتى وعدمه على اقوال ( ثالها ) التفصيل بين التقليد ابتداء ، والبقاء عليه استدامة ( ويظهر ) من بعضهم تفاصيل اخر ( كالتفصيل ) بين صورة وجود المجتهد الحى وتمكن المقلد من الرجوع اليه في اخذ المسائل الفرعية ، وصورة عدم وجوده بالاشتراط في الاول دون الثاني ( والتفصيل ) بين ان يكون المفتي ممن يعلم من حاله انه لا يفتى الا بمنطوقات الادلة كالصدوقين واضرابها من المتقدمين فيجوز تقليده حيا وميتاً ، وبين من يعلم أن__ه يعمل بالافراد الخفية للعمومات واللوازم غير الجلية للملزومات فلا يجوز تقليده حيا وميتاً ( ولكنها ) في الحقيقة ليسا تفصيلا فيما هو مورد البحث في المقام ( لأن ) الاخير تفصيل في اصل التقليد ولذلك لم يفرق جوازا ومنعا بين الحى والميت (والاول) خارج عن مورد البحث ( فان ) مورد البحث جوازا ومنعا انما هو في فرض وجود المجتهد الحى وتمكن المقلد من الرجوع اليه ( وإلا ) ففي فرض الحصار الطريق للعامى بالرجوع الى فتاوى الاموات فلا يظن باحد الاشكال في جواز الرجوع الى فتاوى الاموات ( ثم الظاهر ) ايضا ان مورد الكلام إنما هو في صورة مخالفة رأى الميت لرأي المجتهد الحى، وإلا ففي صورة موافقة رأيه لرأيه ، فعلى ما ذكرنا سابقا من ان الواجب على المقلد هو العمل على طبق رأي الغير واحدا كان او متعدداً ، لا تترتب على هذا النزاع ثمرة عملية من حيث صحة العمل وعدم صحته ( اذ العمل ) المطابق لرأي الميت المطابق لراي المجتهد الحى مما يقطع بصحته مطلقاً قلنا بجواز تقليد الميت ام لم نقل به ، غاية الامر تكون صحته على فرض القول بالجواز لأجل موافقته لرأي الجميع ، وعلى فرض عدم الجواز لاجل موافقته لرأي المجتهد الحى فعلى كل حال تكون صحة العمل محرزة عند العقل ( نعم ) ثمرة النزاع على ذلك انما يكون من حيث التشريع وعدمه في العمل الناشيء عن التعبد برأى الميت ( وكيف كان ) فتنقيح البحث في هذه المسئلة تارة يكون فى جواز تقليد الميت ابتداء ( واخرى ) في جواز البقاء عليه استدامة

ص: 257

( اما الاول ) فالمعروف بين الاصحاب عدم الجواز ، وهو المختار ، للشك في حجية رأى الميت ولو مع الأخذ به والاصل عدم الحجية بالتقريب المتقدم في المسئلة السابقة ( بعد ) عدم ثبوت قيام السيرة وبناء العقلاء على الرجوع الى الاموات ابتداء ، واجمال الارتكاز الفطري من هذه الجهات على نحو لا يمكن ان يستكشف منه الاطلاق من جهة هذه الخصوصيات ، وقصور الادلة اللفظية من الآيات والاخبار عن اثبات حجية فتوى الميت بالنسبة الى التقليد البدوي لعدم كونها مسوقة في مقام الاطلاق من جهة هذه الخصوصيات ، وعدم امكان شمولها للفتاوى المختلفة على فرض كونها مطلقة ( مضافا ) الى استفاضة نقل الاجماع على عدم الجواز من اعاظم العلماء واكابر الفقهاء الذين لهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان ( بل يمكن ) تحصيل الاجماع في المسئلة من اصحابنا الامامية من نقل هذه الاجماعات ( فان ) كل من تعرض المسئلة إدعى الاجماع و اتفاق الامامية على عدم الجواز في التقليد الابتدائي ، مع تلقي الاصحاب لنقلهم له بالقبول بلا تشكيك او توقف من احد، مع ما يرى من بنائهم غالبا على التشكيك في الاجماعات المنقولة في الموارد الاخرى ( فان ) ذلك كله موجب للحدس القوى بالاتفاق المزبور ويستكشف به رأي المعصوم ( علیه السلام ) فى المسئلة ( مضافا ) الى انه لم ينقل الخلاف في المسئلة إلا من جماعة من علمائنا الاخباريين ، وبعض المجتهدين ، كالاردبيلي والفاضل التوني والمحقق القمي و نظرائهم ( ومن المعلوم ) عدم إضرار خلافهم بالاتفاق المزبور ( خصوصا ) مع ظهور كلمات بعضهم في غير ما هو مورد الكلام ( اذ الظاهر ) ان مخالفة الاخباريين في التقليد بمعنى آخر غير ما هو مورد البحث ( لأن ) ما يجوز عندهم من الفتوى التي يعول عليها عبارة عن نقل الأحاديث بالمعنى ، وهو الذي قالوا يجواز التعويل عليها حيا وميتاً ، لا ما يدعيه المجتهدون من العمل بالرأي الحاصل من اعمال الظنون الاجتهادية في الادلة ( فان ) ذلك مما لم يجوز الاخباري العمل على وفقه لا في حق المجتهد نفسه ولا في حق المقلد ، ( بل هو ) جار عندهم مجرى العمل بالاستحسان والقياس ، ولذا منعوا عنه اشد المنع وشددوا النكبر على المجتهدين وارباب الفتاوي بانه من

ص: 258

العمل بالرأي المنهى عنه في الاخبار ( ومثله ) خلاف فاضل التوني قده ( فان ) الظاهر منه كون خلافه كالأخباريين في التقليد بمعنى آخر ( ولذا ) بني على التفصيل فيما حكي عنه بين من لا يفتي إلا بمنطوقات الادلة ومداليلها الظاهرة ، وبين من يفتي بالمداليل الالتزامية ويأخذ بالافراد الخفية للعمومات ، فالتزم في الاول بجواز التقليد حياً وميتا ، وعدم جوازه في الثاني كذلك

في البقاء على تقليد الميت مطلقا او فى المسائل التي قلده فيها وعمل بها في حياته

( واما ) سائر المجتهدين فظاهر خلاف بعضهم ايضا إنما هو في فرض عدم وجود المجتهد الحي او عدم تمكن المقلد من الرجوع اليه ( ومثله ) ايضا خارج عن مفروض البحث وعن مورد الا جماعات ( وحينئذ ) ففي هذه الاجماعات كفاية في حكم المسئلة وسقوط مايتصور في المقام من الاستصحابات الجارية أو المتوهم جريانها بتقريبات مختلفة من استصحاب حجية الفتوى تارة ، ووجوب العمل على طبقها اخرى، واستصحاب الاحكام الظاهرية من نحو وجوب السورة في الصلاة وحرمة العصير العنبي ووجوب القصر في الثمانية الملفقة الذهاب والاياب وغيرها بنحو التنجيز أو التعليق على وجود المكلف او الأخذ او البلوغ ونحوها من انحاء التعليق ( فان ) العمدة في سقوط هذه الأصول إنما هو هذا الاجماع ( وإلا ) فلا قصور في جريانها ولو ببعض تقريباتها ، كما سنشير اليها في المسئلة الآتية ( ولا ينتهى النوبة ) مع جريانها الى اصالة عدم الحجية ( لأن ) جریانها موقوف على عدم جریان هذه الاصول الشرعية ( وإلا ) كان هى المعول عليها دونها ( بل لولا ) هذا الاجماع يشكل تعين مرجعية المجتهد الحي مطلقا حتى في فرض كون الميت اعلم فضلا عما لو كان فتواه موافقة للمشهور او الاحتياط (فان) في مثله يمكن دعوى حكم العقل بتعين الأخذ بفتوى الميت لأقربيتها الى الواقع ( ولكن ) اطلاق معاقد اجماعاتهم على عدم جواز تقليد الميت ابتداءاً يمنع عن ذلك كله ( فاذا ) العمدة في المسئلة هو الاجماع و به كفاية والله العالم ( هذا كله في تقليد الميت بدواً ) .

( وأما البقاء عليه استدامة ) ففيه ايضا خلاف بين الاعلام في الجواز مطلقاً او العدم كذلك ، او التفصيل بين المسائل التي قاده فيها وعمل بها في حيوته، وبين غيرها،

ص: 259

بالجواز في الاول وعدم جوازه فى الثاني ( ولكن ) المختار وفاقا لغير واحد من الاعاظم هو الجواز مطلقا حتى في المسائل التي لم يعمل بها إما لفسق او لعدم وقوعها مورد ابتلائه الفعلى ( فانه ) وإن لم يكن مجال للاستدلال له بالادلة اللفظية كتابا وسنة ولا بالعقل الارتكازى لاجما له من جهة هذه الخصوصيات ( إلا انه ) قضية استصحاب بقاء الاحكام التكليفية والوضعية الظاهرية الناشئة عن قيام رأي المجتهد وحجيته الثابتة في حق المقاد سابقا في زمان حيوته بناءاً على ما هو التحقيق من كون مفاد دليل حجية الفتوى كسائر ادلة حجية الامارات هو الامر بالمعاملة واحداث احكام تكليفية ظاهرية على طبق المؤدى ( فاذا افتى ) المجتهد بوجوب السورة في الصلاة وحرمة العصير العنبي ونحو ذلك تكون هذه الاحكام بدليل حجية الفتوى ثابتة في حق المقلد ظاهرا ومنجزة عليه في زمان حيوته وإن لم يعمل بها فسقا ( فاذا ) شك في بقائها بعد موته لأجل الشك في حجية رأيه بعده يجرى فيها استصحاب البقاء التمامية اركانه من اليقين بالثبوت سابقا والشك في البقاء لاحقا واتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا ) وذلك ( بعد عدم قيام اجماع منهم بالخصوص على المنع في المسئلة واختصاص معقد الاجماع المتقدم بالتقليد البدوي للميت ( واما الاشكال ) على هذا الاستصحاب بأن ثبوت تلك الاحكام الظاهرية لمعروضاتها في حق المقلد سابقا إنما هو باعتبار كونها مما قام عليه رأي المجتهد ، لأنه من جزيئات وجوب اتباع رأي المجتهد وظنه ( فإذا كان ) لرأي المجتهد دخل في الموضوع ، فلا بد في استصحاب بقائها من احراز بقاء الرأي بعد الموت ( والا ) فمع اليقين بزواله بالموت عند النزع كما قيل او الشك فيه ، فلا استصحاب لعدم احراز اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا مع الشك الوجداني في بقاء الرأي الذي هو مقوم المعروض ( إلا ) بتوهم كفاية مجرد حدوث الرأي في زمان في بقاء حجيته وثبوت تلك الاحكام الى الابد ( وهو ) واضح البطلان ، بشهادة بنائهم على عدم جواز اتباع رأيه عند زواله بنسيان غير عادي او جنون او اغماء ونحو ذلك ( كيف ) وان حجية رأي المجتهد بالاضافة الى المقلد ليست باعظم منها بالاضافة الى المجتهد

ص: 260

نفسه ( ومن المعلوم ) أن حجية الرأي بالاضافة اليه في كل زمان منوطة ببقائه في ذلك الزمان لا بمجرد حدوثه سابقا ( فمد فوع ) بانه كذلك اذا كان رأي المجتهد في المسئلة من مقومات المعروض والجهات التقييدية لثبوت تلك الاحكام لمعروضاتها ولو عرفا ( وإلا ) فعلى ما هو التحقيق من كون رأي المجتهد كسائر الححج التعبدية من علل ثبوت تلك الاحكام الظاهرية ، بلا دخل لعنوان قيامه فيما هو معروض تلك الاحكام، فحرمة العصير العنبي ظاهراً على المقلد العامي مثلا لاجل انه افتى المجتهد بحرمته لا بعنوان كونها مما قام عليه رأي المجتهد ( فلا قصور ) في استصحاب تلك الاحكام الظاهرية مع الشك في بقاء الرأي ، بل ومع القطع بزواله عند النزع مثلا لتمامية اركانه جميعا من اليقين بالثبوت سابقاً والشك في البقاء لاحقا لاحتمال دخل الحيوة في حجية الرأي مع اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا عرفا ودقة ( ولا ينتقض ) ذلك يتبدل الرأي في زمان الحيوة ( فان ) عدم جواز اتباع الرأي في مفروض النقض إنما هو من جهة اشتراط حجية الرأي بعدم عدول المجتهد عنه بظهور الخطأ في مستنده ، لانه بذلك يخرج الرأي عن الصلاحية للطريقية والكاشفية عن الواقع ، نظير ما اذا ظهر للشاهد الخطأ في مستنده ، لا انه من جهة اشتراط حجية الرأي وثبوت الاحكام الظاهرية ببقاء الرأى ( فبين ) البابين فرق واضح ومقايسة احدهما بالآخر ناشيء عن قلة التأمل ( لا يقال ) على ذلك يلزم جواز البقاء على تقليد المجتهد مع زوال رايه بالجنون او الاغماء او النسيان غير العادي ونحوها ، مع أنه ليس كذلك اجتماعا ، فاذا لم يجز البقاء على التقليد والعمل بالرأي السابق في الموارد المذكورة لم يجز البقاء في الموت الذي يوجب زوال الرأي ويصير الذهن معه جماداً لاحس فيه بالاولوية ( فانه يقال ) ان بناء الاصحاب واجتماعهم على ذلك إنما هو لانتفاء ما اعتبر في المفتى من العقل والضبط وغيرهما في حجية رايه ، نظير سائر ما اعتبر فيه من الايمان والعدالة ونحوهما مما ترتفع حجية الرأي بارتفاعه ، لا أنه لاجل زوال الرأي ( وعلى فرض كون المناط فيها ) هو هذه الجهة فالفارق هو الاجماع ، ولا اجماع في مورد الكلام الذي اختلف فيه كلمات الاصحاب ( والاجماع ) المتقدم ذكره في المسئلة

ص: 261

السابقة مختص بالتقليد الابتدائي للميت ولا يشمل الاستدامة على تقليده ، هذا ( مع انه ) لاقصور ايضا فى استصحاب بقاء الرأي السابق عند الشك في زواله بالموت وتبدله بانكشاف كونه على خلاف الواقع في تلك النشأة ، لو لا شبهة كونه بانظار العرف متقوما بحيوته وبدنه العنصري في النشأة الدنيوية لكون الموت عند العرف منشأ لا نعدام الميت ورأيه ( فانه ) كما يجري في الرأي استصحاب البقاء عند الشك في زواله وتبدله في ظرف الحيوة ويترتب عليه آثاره من الحجية وغيرها ، كذلك يجري فيه الاستصحاب عند الشك في زواله فى ظرف بعد الموت ( إذ لافرق ) بينها إلا من حيث كون منشأ الشك في تبدل الرأي في ظرف الحيوة احتمال ظهور خطائه فى المدرك بنظره من حيث عثوره على مالم يعثر عليه او لا من قرينة أو معارض ارجح بنظره وغيرهما وفي التبدل في ظرف الموت احتمال انكشاف كون مؤدي المدرك على خلاف الواقع لانكشاف الواقع لديه في تلك النشأة وهذا المقدار لا يوجب فرقا بينها في جريان الاستصحاب ( واما توهم ) كفاية هذا المقدار من الفرق في عدم جريان استصحاب بقاء الرأي بعد الموت كما عن بعض بان تبدل الرأي في عالم الحيوة انما هو بتبدل منشأه في نظره مع احتمال مطابقة الرأى الاول للواقع بخلاف تبدل الرأي في ظرف الممات فانه لا يكون إلا بانكشاف كونه مخالفا للواقع ، فما لا ينبغي الاصغاء اليه ( كيف ) وكثير أما يكون تبدل رأي المجتهد في حيوته بالقطع الوجداني بمخالفة الرأي الاول للواقع .

( واما ) توهم ان آراء المجتهد ليست إلا عبارة عن ادراكاته الظنية الحاصلة له من النظر في الأدلة ( وهي ) باعتبار كون موطنها الذهن الذي هو من القوى الجسمانية مما تزول بالموت و بذهاب القوة الجسمانية ، بل وتزول ايضا بضعف القوى وعروض العوارض من مرض ونحوه ، فلا يمكن بقائها بعد الموت وفناء البدن ، لامتناع بقاء العرض بعد زوال موضوعه ( وفيه ) ما لا يخفى ، فان ادراكات المجتهد وإن كانت حاصلة بتوسيط القوى المتعلقة بالبدن العنصري من الواهمة او المتخيلة ونحوهما ( إلا ) انها قائمة بالنفس الناطقة الباقية بعد فناء البدن واضمحلاله ، فالقوى المتعلقة

ص: 262

بالبدن العنصري هي آلات درك النفس فى هذه النشأة والنفس هي المدركة لها بتوسيطها ، ، كما تدرك الاشياء الخارجية المحسوسة بتوسيط القوى الحساسة ، فانه بالنظر الى الامور الخارجية المحسوسة والتدبر فيها وفي اتفانها وكونها على ما ينبغي يحصل للنفس العلم بوجود صانع حكيم فتتحلى بذلك بحلية العارفين وتنال مقام المقربين في النشأة الآخرة ( كيف ) ولولا قيام الادراكات بالنفس الناطقة الباقية بعد فناء البدن واضمحلال القوى الجسمانية يلزم زوال العلوم والمعارف الحاصلة للانسان في مدة عمره بعد اتعاب شديد ومجاهدات عظيمة فتبطل الحكمة الالهية والعناية الربانية في بعث الرسل وانزال الكتب ( لأن ) الغرض من ذلك ليس إلا تكميل العباد لاجل المعرفة بالمبدأ والمعاد وبلوغهم بما حصل لهم من المعارف الآلهية والقوانين الشرعية المتعلقة باعمالهم الجوارحية والجوانحية مع العمل بها في هذه النشأة الى الدرجات الرفيعة ومقام المقربين ومنزلة المرسلين ( فالقضايا ) المتعلقة بالاحكام الشرعية المدركة للمجتهد باستنباطها من الادلة التي اتقنها بنظره بعد اتعاب شديد علمية تكون ام ظنية كالمعارف الآلهية لا نكون محلها إلا نفس المجتهد فتكون باقية ببقائها ، ولا يطره عليها الزوال بالموت إلا بانكشاف خلافها في النشأة الاخروية التي هي دار الكشف والشهود ولا تزول ايضا بمثل الهرم والنسيان والمرض والجنون والاغماء وانما هي باقية وفى خزانة النفس محفوظة ( غاية الامر ) النفس غير متمكنة عند عروض هذه العوارض على البدن العنصري في هذه النشأة من ترتيب الاثر عليها، لمكان اشتغالها بتدبير البدن او التوجه الى نشأة اخرى ، كما في حال النوم ونحوه ( وحينئذ ) فاذا كان الحامل لتلك الادراكات القوة العاقلة والنفس الناطقة الباقية بعدفناء البدن واضمحلاله وذهاب القوى الحيوانية المتعلقة به ( فلا جرم ) مها شك في زوال آراء المجتهد بالموت لأجل احتمال انكشاف مخا لفتها للواقع لديه في النشأة الاخروية يجري فيها الاستصحاب ، ويترتب على بقائها مالها من الاثار كجواز التقليد والحجية ( لا يقال ) ان الامر كذلك في الاراء القطعية ، ( واما الآراء ) الظنية فلا مجال لاستصحاب بقائها للقطع بزوالها بانكشاف الواقع في تلك النشأة نفياً او اثباتا ( فانه يقال ) ان

ص: 263

انقلابها الى اليقين ليس إلا خروجها من حد الضعف الى الشدة ، موضوع الحجية في مثله باق بذاته ولو لا بجده، ولا مدخلية في خصوصية حده في موضوع الحجية ( لان ) الحجة انما هو مطلق تصديقه واعتقاده ، فإذا شك في انقلابه في تلك النشأة باليقين بالخلاف ، يجري فيه الاستصحاب ويترتب على بقائه ماله من الآثار لولا شبهة تقوم الرأي بالحيوة في انظار العرف .

( فتلخص ) مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من كون مفاد دليل اعتبار الرأي كسائر أوامر التصديق في الامارات هو احداث احكام تكليفية ظاهرية في مواردها يجري فيها الاستصحاب ، ولا مجال لشبهة الشك في الموضوع في استصحابها من غير فرق بين القول بكون المجعول الظاهري جعل المماثل ، او القول بكون المجعول هو الحكم الطريق ( واما ) بنا على كون مفاده مجرد جعل الحجية واحداث احكام عقلية في موارد رأي المجتهد من تنجيز الواقع عند المصادفة وصحة الاعتذار للعبد عند المخالفة بلا جعل حكم تكليفي ظاهري ولا امر بالمعاملة مع المؤدي معاملة الواقع إلا من باب الاحتياط فلا مجال للاستصحاب ، لا لعدم كون المستصحب اثراً مجعولا ( لأنه ) يكفى في شرعية الاثر في باب الاستصحاب مجرد كون المستصحب مما ينتهي امر رفعه ووضعه بيد الشارع ، كما في غيره من المقليات المنتهية الى جعل شرعي وبعض الاحكام الوضعية كالجزئية والسببية ( بل من جهة ) انتفاء الشك الذي هو ركن الاستصحاب في الحكم المقلي ( لان ) قوام حكم العقل انما هو بدركه الوجداني فهو إما جازم بالوجود واما بالعدم ومع الشك يجزم بعدم حكمه ودركه ( فلا يبقى حينئذ ) إلا اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي المجعول ( وهذا ) وان تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب من كفاية قيام الحجة على الوجود السابق في الحكم بالبقاء وصحة الاستصحاب عند الشك في البقاء بلا احتياج الى احراز ثبوت المستصحب واقعا بالعلم الوجداني او التعبدي ( لان ) شأن الاستصحاب انما هو اثبات البقاء التعبدي للشيء على تقدير حدوثه الراجع الى جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه ، فيكفى فى جريانه مجرد قيام الحجة على الوجود السابق ( إلا انه )

ص: 264

يتوقف على قيام الحجة الفعلية على الوجود السابق حال الاستصحاب ولا يكفي فيه قيام الحجة سابقا على الوجود مع الشك في حجيته فلا ، كما هو المفروض من الشك في حجية الرأي بعد الموت ( نعم ) لو قلنا ان الحجية بنفسها من الاحكام الوضعية المجعولة كالملكية ونحوها بحيث يصح اعتبارها من مجرد جعلها ويترتب عليها آثارها العقلية من صحة احتجاج المولى واعتذار العبد بها ، كان لاستصحابها مجال لولا شبهة الشك في الموضوع ( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو فساد اصل المبنى ( فان ) التحقيق في جميع أدلة اعتبار الطرق والامارات التي منها دليل حجية الفتوى باي لسان تكون من تتيمم الكشف او غيره انما هو كونها متكفلة لاحداث احكام ظاهرية طريقية في موارد الطرق الراجعة الى الامر بالمعاملة مع مؤدي الطريق معاملة الواقع ظاهراً من حيث الجري العملى على طبقه ( وعليه ) فلا قصور في صحة استصحاب بقاء الاحكام الظاهريه الناشئه عن قيام رأي المجتهد الثابتة في حق المقلد سابقاً في زمان حيوته ، ومقتضاه هو جواز البقاء على تقليد الميت في المسائل التي استقر رأيه عليها في زمان حيوته مطلقاً عمل بها المقلد سابقاً ام لم يعمل ( إذ بعد ) ان تكون فتوى الميت في المسئلة حجة تعيينية على المقلد اما مطلقاً ، لانحصاره او لكونه اعلم ، وإما بعد الاخذ بها عند التعارض ومثبتة بدليل اعتبارها لاحكام ظاهرية فى حق المقلد ، فلا يفرق في استصحابها بين ان يكون المقلد عمل على طبق فتوى الميت فى زمان حيوته ام لم يعمل بها فسقاً او لعدم الابتلاء بالعمل بها اتفاقا ( ولذلك ) قلنا ان النزاع في مفهوم التقليد في انه الالتزام بالعمل بفتوى المجتهد او نفس العمل بها غير مثمر لشيء حتى في مسئلة البقاء على تقليد الميت ( فالقول ) بالتفصيل في المسئلة حينئذ بتخصيص الجواز بالمسائل التي قلد الميت فيها وعمل بها في زمان حيوته دون غيرها من المسائل التي لم يعمل فيها بفتواه مما لا يساعده دليل ولا برهان ، وان كان القائل به من الاعلام ( نعم ) لو كان دليل الجواز سيرة المتشرعة في عصر المعصومين عليهم السلام على البقاء على تقليد الميت كما هو المظنون قوياً يمكن ان يقال ان القدر المتيقن من السيرة على البقاء انما هو في المسائل التي عمل بفتوى الميت فيها في زمان

ص: 265

حيوته لا مطلقا ، ولكن الكلام فى اتمام هذه السيرة بنحو يصح ان يعتمد عليها في المسئلة ( فانه ) وان قلنا بكونها مظنونة بالظن القوي ولكن النفس بعد في دغدغة من ذلك ( فالعمدة ) حينئذ هو الاستصحاب ( وإلا ) فمع المناقشة فيه ايضا لا محيص من الاخذ باحوط القولين من الميت او الحى ان كان ، والا فمع احتمال التعيين في كل منها ينتهى الامر الى التخيير بينها بالتقريب الذي تقدم شرحه سابقاً في المجتهدين المختلفين في الفتوى المتساويين في الفضيلة حذرا من الترجيح بلا مرجح وبطلان تساقطها وبقاء المقلد بلا طريق الى الاحكام الواقعية او رجوعه الى غير الفتوى ( ولكنك ) عرفت انه لا قصور في الاستصحاب ( ولا زمه ) هو تعين البقاء على تقليد الميت اذا كان اعلم ، بل ومع تساويها اذا قلنا بكون التخيير بدويا لا استمراريا وإلا فيجوز العدول الى الحى بلا كلام بل مطلقا اذا كان هناك اجماع منهم على عدم وجوب البقاء على تقليد الميت وجواز الرجوع الى الحى حتى في فرض كون الميت اعلم ( ولكن ) الاشكال في تحقق هذا الاجماع ( وحينئذ ) فالقول بوجوب البقاء اذا كان الميت أعلم لا يخلو من قوة ( نعم ) في فرض كون الحى اعلم يتعين الرجوع اليه بلا اشكال .

فى انّ حكم المقلد هو الرجوع الى المجتهد الحي في يقين هذه الوظيفة

( ثم ان ذلك ) كله بالنسبة الى المجتهد فيما يستفيده من الادلة جوازا اومنعا ( واما ) بالنسبة الى المقلد العامي فحكمه عند الالتفات والشك هو الرجوع الى المجتهد الحى في تعيين هذه الوظيفة ولو على القول بجواز البقاء ، لانه المتيقن في الحجية وليس له البقاء على تقليد الميت مع الشك المزبور إلا اذا افتى المجتهد الحي بوجوبه او جوازه بعد رجوعه اليه ( ومن ذلك ) تكون ثمرة هذا البحث جوازاً او منعا كالبحث في الاعلامية مختصة بالمجتهد في افتائه بالجواز او المنع اذا رجع اليه العامى واستفتى منه حكم المسئلة كما هو الشأن في جميع الشروط الخلافية في المفتى ( فان ) وظيفة المقاد في جميع هذه الامور عند الالتفات والشك هو الرجوع الى المجتهد كما هو ظاهر .

فيما لو قلد مجتهد أفمات فقلد آخر فمات ايضاً فقلد من يقول بوجوب البقاء

( فرعان ) الاول لو قلد مجتهدا فمات فقلد آخر فمات ايضا فقلد من يقول

ص: 266

بوجوب البقاء على تقليد الميت او جوازه ( فهل ) يبقى على تقليد الأول ، او الثاني او يتخير فى البقاء على ايها ، او يفصل بين ان يكون مذهب الثالث وجوب البقاء فيبقى على تقليد الأول ، او جوازه فعلى تقليد الثاني، وجوه واقوال اظهرها الاخير فانه مع كون مذهب الثالث وجوب البقاء يكون رجوعه الى الثاني بنظره في غير محله و تقليده اياه تقليداً غير صحيح ( ولازمه ) تعين البقاء على تقليد الاول ( بخلاف ) ما إذا كان مذهبه جواز البقاء ( فانه ) معه يكون رجوعه إلى الثاني بنظره في محله ، وتقليده اياه من التقليد الصحيح ( فاذا ) اراد البقاء على تقليد الميت يتعين البقاء على تقليد الثاني دون الاول ، لانقطاع تقليده برجوعه منه الى الثاني بتقليد صحيح فلا يكون رجوعه الى الاول حينئذ من البقاء على تقليده ، بل هو من التقليد الابتدائي للميت ( ويحتمل ) التخيير في البقاء على ايها في هذا الفرض ، بل مطلقا بناءاً على القول بعدم انتقاض التقليد الواقع في زمان سابق بتقليد مجتهد آخر في زمان لاحق بالاضافة الى اثره المبتلى به في الزمان اللاحق ( فان مستند ) الثالث بوجوب البقاء او جوازه انما يكون هو الاستصحاب لاحتمال بقاء الاحكام المأخوذة من المجتهد السابق ولو واقعاً ( وحيث ) ان هذا الاحتمال بنظره بالاضافة الى الاحكام المأخوذة من كل منها على السوية بلا ترجيح لاحدهما على الآخر ( يلزمه ) التخيير في البقاء على تقليد ايها من الاول او الثاني ( وما ذكرناه ) من عدم صدق البقاء على التقليد بالاضافة الى الاول ، لانقطاع تقليده برجوعه الى الثاني بتقليد صحيح ( مخدوش ) باشتراكها في هذه الجهة ( فانه ) كما انقطع تقليد الأول برجوعه الى الثاني بتقليد صحيح ، كذلك انقطع تقليد الثاني برجوعه الى المجتهد الحى فالحكم الظاهري في كل من التقليدين تبعا لموضوعه مرتفع قطعاً ، فلا يبقى إلا احتمال بقاء الاحكام المأخوذة من السابق ولو واقعاً ( وبعد ) ان كان هذا الاحتمال بالاضافة الى كل من الحكمين السابقين على السوية ، بلا ترجيح لاحدهما على الآخر ، يلزمه اعتقاد الثالث جريان الاستصحاب في حق مقلده بالاضافة الى كل منها من غير ترجيح لاحدهما ، ولازمه تخيير المقلد في البقاء على تقليد ايها من الاول او الثاني بلا ترجيح

ص: 267

للثاني على الأول ، ولذا لو سئل المجتهد الحي عن ذلك ليفتيه بالتخيير في البقاء على الاول او الثاني ، فاحتمال تعين البقاء على تقليد الثاني كما افاده السيد الطباطبائي قده في عرو ته ضعيف على كل تقدير خصوصاً على مبنى انتقاض التقليد الواقع في زمان سابق بتقليد مجتهد آخر في زمان لاحق على خلاف فتوى السابق بالاضافة الى الآثار المبتلى بها في الزمان اللاحق .

فيما لوقلّد من يقول بحرمة البقاء فمات فقلّد من يقول بوجوب البقاء

( الثاني ) اذا قلد من يقول بحرمة البقاء على تقليد الميت فمات ، فقلد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت او جوازه ( فهل ) الحكم بالبقاء وجو با او جوازاً يختص بسائر المسائل الفرعية ولا يعم مسئلة حرمة البقاء ، او انه يعم الجميع حتى هذه المسئلة ، فللمقلد البقاء على تقليده في مسئلة حرمة البقاء كي يلزمه العدول في المسائل الفرعية ( فيه وجهان ) اقويها الاول ، لا لاستلزامه التخصيص المستهجن كي يندفع بالالتزام بالتقييد فى مثله ( بل من جهة ) امتناع اخذ مثل هذا المضمون في موضوع فتوى المجتهد بجواز البقاء على تقليد الميت لامتناع فتوى المجتهد بوجوب البقاء على تقليد الميت او جوازه في حرمة البقاء على تقليد الميت او جوازه ، او الفتوى بحجية فتوى الميت في عدم حجية فتوى الميت ، فلا محيص من كون التقليد الذى هو موضوع الجواز في البقاء على التقليد هو التقليد في غير هذه المسئلة ولا يمكن شمول اطلاقه للتقليد في نفس هذه المسئلة ، بل لا يفرق في الامتناع بين ان يكون رأي الميت على حرمة تقليد الميت او جوازه ، فانه على كل تقدير يمتنع اخذ هذا الحكم او نقيضه في موضوع الحكم بجواز تقليد الميت ولو من حيث اطلاقه لاستلزامه شمول اطلاق الشيء لمرتبة الشك بنفسه ( وبهذه ) الجهة قلنا بعدم امکان شمول مفهوم آية لنباء لمثل خبر السيد الحاكي للاجماع على عدم حجية الخبر الواحد ، بل ولا لمثل خبر الشيخ الحاكي للاجماع على حجيته ، بلحاظ ان شموله للتعبد بخبر السيد بعدم الحجية انما هو في ظرف الشك في الحجية واللاحجية الذي هو عين مضمون الآية فيستحيل شمول اطلاق مضمون الآية لمرتبة الشك بنفسه ( هذا كله ) مضافا الى ما يلزم من شمول اطلاق الحكم بجواز البقاً على تقليد الميت لنفس هذه

ص: 268

المسئلة خروجها عنه ( لان ) فتوى الميت بحرمة البقا على تقليد الميت كما تشمل المسائل الفرعية، كذلك تشمل نفسها في هذه المسئلة فلا يمكن الرجوع الى الميت في نفس هذه المسئلة فتأمل ( مع انه ) برجوع المقاد الى الحى في مسئلة جواز البقاء على تقليد الميت لا يبقى المجال لرجوعه ايضا فيها الى الميت لان المسئلة الواحدة لا تتحمل تقليدين ولو مترتبين ( لان ) بافتاء المجتهد الحى بجواز البقا" او وجو به يصير المقلد ذو حجة في البقاً على تقليد الميت في المسائل الفرعية وعالماً بجوازه بالعلم التعبدي فلا يبقى له الشك في الجواز وعدمه حتى ينتهى الامر الى الرجوع الى الميت في هذه المسئلة كما هو ظاهر واضح، فالمتعين حينئذ هو البقاً على تقليد الميت في جميع المسائل الا مسئلة حرمة البقاً ( هذا ) آخر ما أوردناه في الاجتهاد والتقليد والحمد لله اولا وآخراً وظاهراً وباطناً وقد وقع الفراغ من تسويده على يد العبد الآثم الراجي لعفو ربه محمد تقي النجفي البروجردي ابن عبد الكريم على الله عنها في يوم الثلاثا فى الرابع من شهر صفر المظفر سنة ثلثمائة وستين بعد الالف من الهجرة النبوية عليه وعلى ابن عمه والأمة من ذريته آلاف الثنا والتحية ١٣٦٠ والرجا من اخواني ان لا ينسوني من الدعاء في حيوتي و بعد مماتي .

ونسئله التوفيق لطبع الجزء الاول والثاني

ص: 269

فهرس مطالب

في معنی بقاء الموضوع في الاستصحاب....3

هل يشترط استعداد موضوع الاستصحاب للبقاء ام لا....4

فى الاتحاد بين القضية المشكوكه والمتيقنه....9

فى شرح الورود والحكومة والتخصص والتخصيص....16

في نسبة الاستصحاب مع مشكوك الاماريه اومع الاصول و وجه تقديمها عليه....20

تقديم اليد على الاستصحاب وهل اليد امارة اواصل....21

اقسام اليد واحكامها....22

فيما اذا علم عنوان اليد وانها غصب ثم احتمل انتقاله اليه شرعاً....23

فيما اذا كان اليد على مالا يكون قابلاً للانتقال الا باحد المجوزات....24

فيما يكون اليد على ما يقبل الانتقال واحتمل انتقال المال الى صاحب اليدمن بدوحدوثها....27

فى اقرار ذى اليد الملكية السابقة للموصى....32

هل يختص اعتبار اليد بالنسبة الى غير صاحبها او يعم حتى بالنسبة الى ذى اليد نفسه....33

هل اليد تكون امارة على الطهارة والتذكيه....34

هل يقدم قاعدة التجاوز والفراغ على الاستصحاب بمناط الحكومة او التخصيص....35

فى تقريب حكومة القاعدتين على الاستصحاب....36

في انّ قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة اوقاعدتان مستقلتان....37

فى ان قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة واحدة....38

في امكان تصور جامع قريب بين مفاد القاعدتين ثبوتاً....39

فيما يقتضيه اخبار الباب اثباتا من الوحدة اوالتعدد في القاعدتين....42

فيما يقتضيه اخبار الباب اثباتاً من الوحدة او التعدد....43

فى عموم القاعدة لجميع المركبات الا الشك في ابعاض الوضوء والغسل والتيمم....46

فى اشكال على خروج الطهارات الثلاث عن عموم القاعدة بموثقه ابن ابى يعفور....47

ص: 270

في الوجوه التي تفضوا بها عن الاشكال الوارد على خروج الطهارات الثلاث عن عموم القاعدة....٤٨

يعتبر في القاعدة ان يكون الشك متعلقا بوجود الشى بمفاد كان التامه....52

في اعتبار الدخول فى الغير في قاعدة التجاوز وانه من جهة كونه محققا للتجاوز او لخصوصية فيه....53

تحديد الغير الذي اعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز....54

في عدم الفرق فى الغير بين كونه جزء للمركب و بين غيره و بين كونه جزء مستقلاً و بين كونه جزء الجزء وكذا بين كونه من الواجبات اولا....55

هل يعتبر فى القاعدة كون الغير متصلا بالمشكوك فيه....56

الجزء المشكوك فيه قديكون هو الجزء الاخير وقد لا يكون....57

فى حكم الشك في الجزء الاخير من الصلوة....58

فى حكم الشك فى الجزء الاخير في غير باب الصلوة....59

فى كون المشكوك فيه ممّا يجزم بكونه مأتيا على وفق امره على تقدير وجوده....60

فى عمومية القاعدتين لغير باب الطهارة والصلوة....62

في كون الشك متعلقاً بالعنوان الذى له الاثر الشرعي في قاعدتى التجاوز والفراغ معاً....٦٣

الشك فى الشروط كالشك في الاجزاء فى جريان قاعدة التجاوز فيها ام لا....64

في حكم الشك في النية....65

في حكم الشك في الظهر في اثناء العصر....67

فى حكم الشك في الطهور في اثناء الصلوة....69

في كون مجرى القاعدين مورد الشك في الانطباق....71

فى الوجوه التي يقع عليها الشك في الصحة والفساد....72

فى ان المضى على المشكوك فيه فى القاعدة عزيمة لا رخصته....77

فى بيان مايكون مدركألاصالة الصحة....78

هل المدار فى الصحة على الصحة الواقعية او الصحة باعتقاد الفاعل او الصحة باعتقاد الحامل....79

هل يجرى الاصل فى الشك في الاثناء كما يجرى بعد الفراغ من الفعل....80

في اعتبار احراز صدور العمل بما تعلق به الامر وترتب عليه الاثر....81

ما معنى الصحة في العقود استجماعه للشرائط المعتبرة فيه بما هو عقدا و يعمها....82

ما معنى الصحة في العقود استجماعه للشرائط المعتبره فيه بما هو عقد او يعمها....83

فى ان التحقيق تعميم مجرى اصالة الصحة في العقود....87

ص: 271

فى اشكال على جريان اصالة الصحة في الصرف عندالشك في القبض والشك في بيع الوقف للشك في وجود المصحح له....88

فى ان مقتضى هذا الاصل ترتيب جميع الآثار الثابتة للفعل الصحيح ونقل كلام الشيخ ره فى الاعمال النياتيه....91

فى اعتبار احراز موضوع الاثر في جريان اصالة الصحة....93

فى عدم حجية مثبتات اصالة الصحة....95

فى شرح كلام الشيخ ره فى الشك فى كون الشراء بما يملك او مالا يملك....96

فى تقريب الاشكال على الشيخ قده ودفعه....97

فى نسبة اصالة الصحة مع الاستصحاب وتقديمها عليه مطلقا....98

في تعارض القاعدة مع الاستصحاب....100

فى اصالة الصحة فى الاقوال والاعتقادات....102

فى القرعة والكلام فى مقدار دلالة دليلها وموارد جريانها....104

في بيان نسبة القرعة مع الاستصحاب....107

فى نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العمليه....108

في تعارض الاستصحابين....111

البحث الاول في بيان تقديم الاصل السببي على المسببى....112

الحق حكومة الاصل السببي على المسببي بنحو التصرف في عقد حمل الآخر....117

البحث الثانى من تعارض الاستصحابين فى كون الشك فى كلّ من المستصحبين مسبّبا عن امر ثالث....118

فى كون الشك فى كل من المستصحبين مسببا عن امر ثالث....119

فى ان العلم الاجمالى مانع عن جريان الاصول المرخصه ولوفى بعض المتحملات حتى مع خلو المعارض اذا كان الاصلان نافيين للتكليف....120

فى ان العلم الاجمالي لا يمنع عن الاستصحاب اذا كان الاصلان مثبتين للتكليف و بيان الدليل عيله....121

ردّ كلام الشيخ ره فى منع جريان الاستصحاب فى طرفى العلم الاجمالى بمناقضة الصدر والذيل في بعض اخبار الاستصحاب....122

ص: 272

الحق شمول ادلة الاصول لاطرف العلم الاجمالى مالم يستلزم جريانها طرح تكليف ملزم في البين....123

في التعادل والترجيح....124

في تعريف التعارض....125

فى خروج التزاحم من تعريف التعارض....126

فى ضابط التعارض والفرق بينه وبين التزاحم....127

فى خروج الورود والحكومة عن التعارض....132

فى شرح الحكومة وامتياز عنها التحضيص....133

فى خروج الجمع العرفى عن حكم التعارض وان دخل فى موضوعه....137

الجمع الدلالي لا يمكن الا بين النص او الاظهر والظاهر لا بين الظاهرين....139

في بيان وجه تقديم الخاص على العام فى انه بالورود او الحكومة....140

الاشكال في تقريب الحكومة بالاضافة الى الادلة اللفظية ودفعه....143

فى بيان وجه تقديم الاظهر على الظاهر ثبوتاً....145

في تشخيص الاظهر والمزايا التي توجب الاقوائية فى الظهور اثباتاً....147

في بيان تعارض العام الاصولى مع الاطلاق الشمولي....148

فى تعارض الاطلاق البدلى مع الاطلاق الشمولي....149

فى تعارض الاطلاق البدلى مع الاطلاق الشمولى وتعارض بعض المفاهيم مع بعض آخر....150

في دوران الامر بين النسخ والتخصيص وبيان الشقوق المتصوره....151

في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة....152

هل يكون النسخ رفعاً للحكم الفعلى الثابت اولا....153

في توهم ترجيح التخصيص على النسخ لكثرته ودفعه....155

فى بيان عدم كون النسخ تخصيصاً في الازمان....156

فيما ذكره بعض الاعاظم فى وجه تقديم التخصيص على النسخ و بيان دفعه....157

وجه تقديم التخصيص على النسخ هو الاصل الجهتى المقدم رتبة على الاصل الدلالي....158

في بيان صور التعارض بين اكثر من دليلين و بيان ما اذا ورد عام و خاصان متبائنان....160

فى بيان ورود عام وخاصان بينهما العموم المطلق....161

فى ميزان استهجان التخصيص او قبحه....162

ص: 273

فى ورود عامان بينهما العموم من وجه وخاص....163

فى ورود عامان متعارضان بالتبائن و بیان انقلاب النسبة....164

في تقريب وجه انقلاب النسبة بين الادلة....165

فى الجواب عن شبهة انقلاب النسبة....166

فى بيان النسبة بين ادلة ضمان العاريه....167

فى الجمع بين ادلة ضمان العاريه....168

في تأسيس الاصل فى المتعارضين من التساقط او التخيير....170

فى التنافى بين المتعارضين لاجل التنافي بين مدلوليهما....174

فى حجيّة المتعارضين فى نفى الحكم الثالث....176

فى تأسيس الاصل على الموضوعية فى الامارات و بيان الموضوعية فيها تطلق على معان....177

في حكم المتعارضين على السببية....178

في الجمع بين اخبار التوقف والتخيير....181

مقتضى الاصل هو الترجيح بكل مزية محتمل الاعتبار عند الشارع....185

فى الترجيح بالمزايا المنصوصه كمخالفة العامة....186

فى الترجيح بموافقة الكتاب و بالشهرة كما فى مقبولة عمر ابن حنظله....187

فى الترجيح بالمذكورات وبالصفات والاحتياط فى مرفوعة زرارة....189

فى الاشكال على المقبولة باختصاصها بترجيح الحكمين....190

فى وجوه المناقشة في المرفوعة....192

فى جواز التعدى عن المرجّحات المنصوصه ونقل مختار الشيخ ره وادلته....193

فى ان الحق عدم جواز التعدى و بیان ادلته....194

فى حل الاشكال عن الترجيح بموافقة الكتاب....196

في الوجوه المتحمله لترجيح مخالف المحتملة العامة....198

فى ان المزايا المنصوصه مرجعها الى الترجيح الصدورى....200

فى عدم الترتيب بين المرجحات....201

فى نقل نظر المحقق الخراسانی ره ودفع ما اورد عليه....203

فى مرجحيّة الشهره واقسامها واحكامها....205

فى حكم تعارض العامين من وجه....208

ص: 274

فى ان الاصل مرجع لا مرجح....209

فى ان التخيير تخيير في المسألة الاصولية....210

فى انه يجوز الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية....211

فى ان التخيير بدوى اواستمراري....212

فى تعريف الاجتهاد لغة واصطلاحاً....215

في اقسام الاجتهاد....218

فى ردّ شبهة عدم جواز الاخد بفتوى الانسدادي....219

فى جواز الرجوع الى الانسدادي في امر القضاوة....223

فى امكان التجزى فى الاجتهاد....224

هل للمتجزى التعويل على اجتهاده في عمل نفسه....225

في حجية فتوى المتجزى فى حق الغير ونفوذ حكمه عند الترافع اليه....226

فى احتياج الاجتهاد الى المعرفة بالقواعد التي يتوقف عليه الاستنباط....227

فى التخطئة والتصويب فى الشرعيات....228

فى انحاء التصويب و بيان ما يمكن منها....229

فى حكم تبدل رأى المجتهد بالنسبة الى الاعمال السابقه....233

في تعريف التقليد لغة واصطلاحاً....238

فى أنّه لا ثمرة على النزاع في شرح التقليد....239

فى وجوب التقليد على العامى و بيان ادلته....241

فى الدليل الارتكازى على التقليد....242

في الاستدلال على وجوب التقليد بالاجماع وآيتى النفر والسؤال....243

في الاخبار الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء مفهوماً ومنطوقا....244

في وجوب تقليد الاعلم....247

فى بيان ادلة وجوب تقليد الاعلم....248

فى ادلة القول بجواز تقليد العالم مطلقا ومساواته مع الاعلم....252

فى معنى الاعلم وتقديم الاعلم على العالم الاعدل....254

انّما يجب تقليد الاعلم والفحص عنه فيما لوعلم بالتفاضل والاختلاف في الفتوى....255

في جواز تقليد الميت ابتداء أو البقاء عليه استدامة....257

ص: 275

في البقاء على تقليد الميت مطلقا او فى المسائل التي قلده فيها وعمل بها في حياته....259

فى انّ حكم المقلد هو الرجوع الى المجتهد الحي في يقين هذه الوظيفة....266

فيما لو قلد مجتهد أفمات فقلد آخر فمات ايضاً فقلد من يقول بوجوب البقاء....267

فيما لوقلّد من يقول بحرمة البقاء فمات فقلّد من يقول بوجوب البقاء....268

ص: 276

أ : الكتب التي أنجز طبعها ونشرت وهي:

إسم الكتاب / إسم المؤلف

الآداب الطبية / للسيد جعفر مرتضى العاملي

الإختصاص / للشيخ المفيد

الأمالي / للشيخ المفيد

تحرير الوسيلة / للامام الخميني

التوحيد / للشيخ الصدوق

الحدائق الناظرة المجلدات ٩ الى ١٣ / للشيخ الصدوق

الحياة / لمحمد رضا الحكيمي

الحياة السياسية للامام الرضا (ع) / للسيد جعفر مرتضى العاملي

شرح مئة كلمة / لابن ميثم البحراني

العدل الألهي / المفكر الاسلامي الكبير الشهيد مرتضى المطهري

كتاب الخمس والأنفال /

السماحة آية الله المنتظري /

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان / للمقدس الأردبيلي

المحجة البيضاء ثمانية اجزاء / للفيض الكاشاني

معاني الأخبار / للشيخ الصدوق

المعجم المفهرس لألفاظ وسائل الشيعة ١-٩ / للسيد حسن طبيبي

المنتخب من سياق تاریخ نیشابور / لابى اسحاق ابراهيم بن محمد بن الازهر الصريفينى

نهاية الافكارج ٣ / لضياء الدين العراقي

ص: 277

ب : الكتب التي تحت الطبع هي:

إسم الكتاب / إسم المؤلف

إيضاح الفوائد / لفخر المحققين

تحف العقول / لفخر المحققين

تفسير الميزان / للعلامة الطباطبائى

تقريب المعارف / لابى الصلاح الحلبي

الحاشية في المنطق / لملا عبد الله

الحدائق الناظرة المجلدات ١٤ الى ٢... / للبحراني

الحكم الزاهرة عن النبي وعترته الطاهرة / للصابري

الخصال مع فهرس الأعلام / للشيخ الصدوق

الرسائل / للشيخ الطوسي

شرح تبصرة المتعلمين ج 7 / للعراقي

شرح نهج البلاغة / لابن ميثم البحراني

كشف المراد / للعلامة الحلّي

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ج 2 و 3 / للمقدس الأردبيلي

منتقى الجمان / للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني

من لا يحضره الفقيه / للشيخ الصدوق

نهاية الحكمة / للعلامة الطباطبائي

ج : الكتب التي في طريقها الى المطبعة هي:

أحاديث العترة من طرق أهل السنة

إصباح الشيعة بمصباح الشريعة / للصهرشتي

الأمالي / للشيخ الطوسي

تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة / للسيد شرف الدين علي الحسيني الاسترآبادى

التدوين / للرافعي

ص: 278

إسم الكتاب / إسم المؤلف

تفسير التبيان / للشيخ الطوسي

تهذيب الأحكام / للشيخ الطوسي

الدروس الشرعية / للشهيد الاوّل

الذخيرة في علم الكلام / للسيد المرتضى علم الهدى

الرجال / للنجاشي

الرسائل / للشيخ الانصاري

الرسائل / للشيخ المفيد

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقيه / للشهيد الثاني

السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي / لابن إدريس الحلّي

شرح المنظومة / للسبزواري

عدة الاصول / للشيخ الطوسي

فقه الرضا /

قاموس الرجال / للتستري

الكافي / للكليني

كشف الرموز / للفاضل الآبي

كفاية الأصول / للآخوند الخراساني

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان / للمقدس الأردبيلي المجلدات ٤ - ٥

معالم الأصول مع حاشية لسلطان العلماء / للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني

المقنعة / للشيخ المفيد

المقنع والهداية / للشيخ الصدوق

المكاسب / للشيخ الانصاري

الملخص في اصول الدين / للسيد المرتضى علم الهدى

المنقذ من التقليد والمرشد الى التوحيد (المعروف بالتعليق العراقي) / للشيخ سديد الدين الحمصي

المهذب / لابن البراج

المهذب البارع / لا بن فهد الحلى

ص: 279

ص: 280

رسالة نخبة الافكار في حرمان الزوجة من الاراضي والعقار

من مؤلفات فقيه العصر

حجة الاسلام والمسلمين آية الله في العالمين الورع التقي

الحاج شيخ محمد نفى النجفى البروجردي

منشورات

جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

ص: 1

رسالة نخبة الافكار في حرمان الزوجة من الاراضي والعقار

من مؤلفات فقيه العصر

حجة الاسلام والمسلمين آية الله في العالمين الورع التقي

الحاج شيخ محمد نفى النجفى البروجردي

منشورات

جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

ص: 1

رسالة نخبة

الافكار فى حرمان الزوجة من الأراضي والعقار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه واشرف بريته محمد ( صلی الله علیه و آله وسلم ) وآله الطاهرين المعصومين الغر الميامين ، ولعنة الله على أعدائهم اجمعين الى قيام يوم الدين .

بیان عدم الخلاف بين الاصحاب في حرمان الزوجة من بعض تركة زوجها في الجمله

( وبعد ) فأعلم انه لا خلاف معتد به بین اصحابنا الامامية رضوان الله تعالى عليهم في حرمان الزوجة في الجملة من بعض تركة زوجها ، بل في الانتصار أنه مما انفردت به الامامية حرمان الزوجة من رباع الارض، و في الخلاف والسرائر الاجماع على حرمان الزوجة من الرباع والدور والأرضين ( مضافاً ) الى ما يأتي من النصوص المتواترة المصرحة بحرمانها في الجملة من تركة زوجها ( ومخالفة ) الاسكافي في المسئلة غير ضائرة، اذ يكفي في رده سبقه ولحوقه بالاجماع فقوله حينئذ بعدم حرمانها من التركة متروك ، كما عن كاشف الرموز التصريح به ، وفي المحكي عن غاية المراد بعد حكاية اجماع أهل البيت على حرمان الزوجة من شيء ما من تركة زوجها ، أنه لم يخالف فيه الا ابن الجنيد وقد سبقه الاجماع وتأخر عنه ( مع انه ) لاصراحة لكلام الاسكافي في المخالفة في اصل المسئلة ، فانه قال إذا دخل الروج أو الزوجة على الولد والابوين كان للزوج

ص: 2

الربع وللزوجة الثمن من جميع التركة عقاراً وأثاثاً وصامتاً ورقيقا انتهى ،

تضعيف كلام الاسكافي قدس سره على فرض ظهور كلامه فى المخالفة في اصل المسئلة

فيمكن ان يكون خلافه في بعض فروع المسئلة أعني حرمان ذات الولد بان كان مقصوده بقرينة

كر الولد أن الزوجة إذا كانت ذات ولد من الزوج ترثه من جميع تركته ، لا أن المقصود هو الخلاف في أصل المسئلة ( وعلى فرض ) ظهور كلامه فى المخالفة في أصل المسئلة قد عرفت ضعفه بسبقه ولحوقه بالاجماع ( وأما ) خلو جملة من كتب الاصحاب من ذلك على ماقيل كالمقنع والمراسم والايجاز ونحوها ، فغير مؤيد لهذا القول ، فان الظاهر أن عدم تعرضهم للمسئلة لمكان وضوحها عندهم من كون حرمانها من بعض التركة مذهب أهل البيت عليهم السلام ( مع ) أن المتبع في المسئلة هو الدليل ، ويكفي فيه بعد الاجماع وتسالم الفتاوى النصوص الآتية التي هي فوق مرتبة التواتر ( حيث ) يخصص بها عمومات الكتاب والسنة المقتضية لارتها من جميع تركة زوجها ( فلا يبقى ) حينئذ مستند للاسكافى إلا بعض الأخبار ، كرواية ابن أبي يعفور وأبان والفضل بن عبد الملك عن ابي عبدالله ( علیه السلام ) قال سئلته عن الرجل هل يرث من دار امرأته اوأرضها من التربة شيئاً أو يكون ذلك بمنزلة المرئة فلا يرث من ذلك شيئاً قال ( علیه السلام ) يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت ، وموثقة عبيدة بن زرارة والبقباق عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) قلنا ماتقول في رجل تزوج امرأة ثم مات عنها وقد فرض لها الصداق فقال ( علیه السلام ) لها نصف الصداق وترثه من كل شيء ( ولكنهما ) محمولان على التقية فلا يصلحان للمقاومة مع النصوص المتواترة الصريحة في حرمان الزوجة من بعض تركة زوجها ، كما يؤيده بل يشهد له ظهور الرواية الأولى فى مفروغية حرمانها من الأرض والدار عند الراوي من حيث جعل محط سؤاله عن الرجل فى أنه كالزوجة في الحرمان من الأرض والدار على ما هو المسلم عند الشيعة فاجابه الامام ( علیه السلام ) بجواب متكفل للتقية بالنسبة الى حكم الزوجه لعدم تمكنه من الاقتصار علي بيان حكم الزوج فقط لمكان وجود من

ص: 3

يتقيه الامام ( علیه السلام ) في المجلس ( لأن ) سكوته عن حكم الزوجة مع كونه غير مسؤل عنه يكون تقريراً للسائل على معتقده بنظر من في المجلس ممن يتقيه الامام ( علیه السلام ) ، مع إمكان حملها على ذات الولد من الزوج ، أو الالتزام فيهما بالتخصيص بمقتضى الأجماع والنصوص الآتية ( ولكن ) الالتزام بالتخصيص بعيد جداً في الرواية الاولى فيتعين حملها على النقية ، أو على ذات الولد من الزوج ( وكيفكان ) فلا اشكال في اصل المسئلة بين الامامية فتوى و نصاً ( وإنما ) الكلام والاشكال في مقامين (الاول) في الذي تحرم منه الزوجة عيناً وقيمة أو عيناً لاقيمة ( الثاني ) في أن الحرمان مخصوص بغير ذات الولد من الزوج ، أو انه عام يشمل ذات الولد من الزوج أيضا ( فنقول ) وبالله التوفيق .

( اما المقام الاول )

اشارة

فقد اختلف فيه كلماتهم تبعاً لاختلاف الاخبار على أقوال ( احدها ) وهو المنسوب الى المشهور حرمانها من مطلق الارض عيناً وقيمة خالية كانت الأرض أو مشغولة ببناء أو زرع ، وحرمانها عينا لاقيمة من الأبنية والأشجار ( وثانيها ) حرمانها عينا وقيمة من خصوص أرض الرباع وهي الدور والمساكن لا من مطلق الارض كالضياع والبساتين وحرمانها عيناً لاقيمة من البناء والآلات والاخشاب المستدخلة فيها تقليلا للتخصيص في عمومات الكتاب والسنة المقتضية لارثها من جميع التركة وهذا القول منسوب الى المفيد في المقنعة و ابن ادريس فى السرائر وكاشف الرموز ، ( ونسب ) الى بعض الأجلة من المحققين من أعاظم العصر اختيار هذا القول ( وثالثها ) ما ارتضاه المرتضى ( قدس سره ) فيما حكى عنه من تخصيص حرمانها بخصوص اعيان الرباع أرضاً وعمارة لا من قيمتها وحاصله توريثها من جميع تركة زوجها عدا الرباع فتحرم من خصوص أعيانها لا من قيمتها ( ورابعهما ) حرمانها من عين الارض مطلقا لا من قيمتها

ص: 4

جمعاً بين أدلة الارث وأدلة الحرمان بجعل الحرمان المذكور فى الاخبار الحرمان من اعیان الاراضي لامن قيمها ، وقد نسب في الجواهر هذا القول الى المرتضى ( قده ) لا القول المتقدم ، ولم يحضرني كلامه فى الحال حتى اتأمل فيه ( وخامسها ) ما نسب الى الشيخ ( قده ) واتباعه ، وهو التفصيل فيما تحرم منه عيناً لاقيمة بين الابنية وبين النخيل والاشجار بتوريثها من أعيان النخيل والاشجار ( ولعل ) منشأ هذه النسبة اليهم من جهه تخصيصهم الحرمان في الذكر بالارض واقتصارهم فيما تحرم منه عيناً لا قيمة على ذكر الابنية والآلات المعلوم عدم شمولها للاشجار ، و الا فلم أجد من صرح منهم بارئها من اعيان النخيل والأشجار .

( وعلى كل حال ) فهذه اقوال خمسة في المسئلة، ومنشئها كما قلنا اختلاف السنة اخبار الباب مع اختلاف انظار هم في فهم المراد منها من حيث اقتصار ( بعضها ) فيما تحرم منه الزوجة عيناً على عنوان الرباع وهي الدور والمساكن والمنزل كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) ترث المرئة الطوب ولا ترث من الرباع شيئاً ( وفي بعضها ) على الأرض والتربة داراً او عقاراً اوضيعة ( وفي ثالث ) على عنوان العقار تارة وباضافة الدور اليها أخرى، والعقار ثالثة ( ولكن ) المختار ما هو المشهور وهو حرمانها عينا وقيمة من مطلق الارض والتربة ، من غير فرق بين الدور والمساكن وغيرهما ، وعيناً لا قيمة من كل ما هو ثابت في الأرض من الابنية والنخيل والاشجار « لنا على ذلك » الأخبار الكثيرة التي فيها الصحيح والموثق البالغة في الكثرة حد التواتر على اختلاف اساليبها من حيث اشتمال بعضها على عنوان الدور والعقار ، وبعضها على عنوان العقار ، وبعضها على عنوان الضيعة وبعضها على عنوان الارض والتربة .

( فمنها ) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) ترث المرئة الطوب ولا ترث من الرباع شيئاً قال قلت كيف ترث من الفرع ولا ترث من الرباع شيئاً .

ص: 5

فقال ( علیه السلام ) ليس لها منه نسب ترثه به واتماهي دخيل عليهم فترت من الفرع ولا ترث من الأصل ولا يدخل عليهم داخل بسبها .

( ومنها ) ما رواه الفضلاء الخمسة وهم زرارة ، وبكير وفضيل ، وبريد ، ومحمد ابن مسلم منهم عن أبي جعفر ( علیه السلام ) وابي عبدالله ( علیه السلام ) ، ومنهم عن أبي عبد الله ( علیه السلام ) ومنهم عن أبي جعفر ( علیه السلام ) ، ومنهم عن أحدهما : أن المرئة لاترث من تركة زوجها من تربة دار أو ارض إلا أن يقوم الطوب والخشب قيمة فتعطى ربعها أو ثمنها ان كان له ولد من قيمة الطوب والخشب .

( ومنها ) صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر ( علیه السلام ) النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً .

( ومنها ) رواية ميسرة بياع الزطى عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) قال سئلته عن النساء مالهن من الليراث . فقال ( علیه السلام ) قيمة الطوب والخشب والقصب ، فاما الارض والعقار فلا ميراث لهن فيه : قلت فالبنات قال ( علیه السلام ) البنات لهن نصيبهن قال قلت كيف صار ذا ولهذه الثمن ولهذه الربع مسمى قال ( علیه السلام ) لان المرئة ليس لها نسب ترث به وانما هي دخيل عليهم وإنما صار هكذا لئلا يتزوج المرئة فيجي، زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحم قوما في مقارهم .

( ومنها ) صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر ( علیه السلام ) ان النساء لا يرثن من الدور ولا من الضياع شيئاً ، إلا أن يكون قد احدث بناء فير تن ذلك البناء .

( ومنها ) رواية يزيد الصائغ عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) قال سئلته عن النساء هل يرثن الارض .. فقال ( علیه السلام ) لا ولكن يرثن قيمة البناء قال قلت ان الناس لا يرضون بهذا فقال ( علیه السلام ) إذا وليناهم ضر بناهم بالسوط فان لم يستقيموا ضر بناهم بالسيف .

( ومنها ) صحيحة زرارة عن أبي جعفر ( علیه السلام ) ان المرأة لاترت مما ترك زوجها

ص: 6

من القرى والدور والسلاح والدواب شيئاً وترث من المال والرقيق والثياب ومتاع البيت مما ترك ويقوم النقض والجذوع والقصب فتعطى حقها منه .

( ومنها ) صحيح الاحول لا يرثن النساء من العقار شيئا ولهن من قيمة البناء والشجر والنخل يعني من البناء والدور وإنما عني من النساء الزوجة .

( ومنها ) صحيحة زرارة عن أبي جعفر ( علیه السلام ) ، ومحمد بن مسلم عنه ( علیه السلام ) قال لاترث النساء من عقار الارض .

( ومنها ) رواية حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (ع ) قال انما جعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلا يتزوجن فيدخل عليهم من يفسد مواريثهم .

( ومنها ) رواية حماد بن عثمان عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبدالله ( علیه السلام ) قال لا ترث النساء من عقار الدور شيئا ولكن يقوم البناء والطوب وتعطى ثمنها أو ربعها قال (ع ) وانما ذلك لئلا يتزوجن فيفسدن على أهل المواريث مواريثهم .

( ومنها ) المروي في بصائر الدرجات عن عبد الملك بن اعين قان دعى أبو جعفر ( علیه السلام ) بكتاب على فجاء به جعفر ( علیه السلام ) مثل فخد الرجل مطويا ، فاذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا توفى عنهن شيء فقال أبو جعفر ( علیه السلام ) هذا والله خط علي واملاء رسول الله ( صلی الله علیه و آله وسلم ) .

( ومنها ) رواية بن سنان فيما كتب اليه الرضا ( علیه السلام ) في جواب مسائله : علة ان المرأة لاترث من العقار شيئاً الا قيمة الطوب والنقض لأن العقار لا يمكن تغييره وقلبه والمرئة قد يجوز أن ينقطع ما بينها وبينهم من العصمة ويجوز تغييرها وتبديلها وليس الولد والوالد كذلك ، لانه لا يمكن التفصى منهما والمرئة يمكن الاستبدال بها فما يجوز أن يجي. ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تبديله وتغييره إذاً شبيها وكان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام .

ص: 7

( ومنها ) رواية عبد الملك بن أعين عن أحدهما ( علیه السلام ) قال ليس للنساء من الدور والعقار شيئاً ولهن من قيمة البناء والشجر والنخل .

( ومنها ) رواية طربال بن رجاء عن ابي جعفر ( علیه السلام ) إن المرئة لا ترث فيما ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب شيئاً وترث من المال والرقيق والثياب

ومتاع البيت مما ترك ويقوم النقض والجذوع والقصب فتعطي حقها منه .

( ومنها ) رواية موسى بن بكير الواسطي قال قلت لزرارة ان بكيراً حدثني عن أبي جعفر ( علیه السلام ) ان النساء لاترث مما ترك زوجها من تربة دار ولا ارض إلا أن يقوم البناء والجذوع و الخشب فتعطى نصيبها من قيمة البناء وأما التربة فلا تعطى شيئاً من الأرض ولا ترية دار قال زرارة هذا مما لاشك فيه ( الى غير ذلك )، من الأخبار الصريحة على اختلاف السنتها في حرمان الزوجة مطلقا من مطلق الأرض والتربة عيناً وقيمة فارغة كانت الأرض أو مشغولة ببناء أو زرع أو غرس ، وعينا لاقيمة من كل ما هو ثابت في الأرض من البناء والآلات والأشجار بعد حمل مطلقاتها على مقيداتها ( فيخصص ) بها حينئذ عموم ما دل من الكتاب والسنة على توريث الزوجة ربعاً أو ثمناً من تركة زوجها بما عدا الأرض والتربة دوراً كانت أم ضياعاً ، ( كما ) أنه بالنسبة الى ما يكون ثابتا في الأرض كالبناء والاشجار والنخيل يقيد ايضا كيفية ارثها منها بكونه من قيمتها لا من أعيانها كل ذلك بمقتضى صناعة الاطلاق والتقيد .

دفع المناقشات في اخبار الباب

( ولا ينافي ذلك ) ما فى بعض تلك الأخبار من الاقتصار في حرمان الزوجة على

عنوان الرباع وعقار الدور ( لوضوح ) ، ان حرمانها منها لا ينافي حرمانها من مطلق الأرض والتربة ، إذهو من قبيل قولك لا تضرب الرجال ولا تضرب زيداً في اتفاقها فى النفي بنحو العموم تارة والخصوص اخرى ( فليس ) لتلك النصوص المقتصرة على الحرمان من الرباع ورباع الأرض وعقار الدور مفهوم يقتضي توريثها مما عدا الرباع

ص: 8

وعقار الدور كي تصلح للمعارضة مع النصوص الأخر الدالة بالصراحة على حرمانها من مطلق الأرض والتربة من الضياع وغيره ( وأنما ) غايته سكوتها عن حرمانها مما عدا الرباع المعروف كونه بين اللغويين عبارة عن المنزل والدار والمسكن ( فتبقى ) النصوص النافيه لأرثها من العقار والأرض والتربة والضيعة على حالها سليمة عما يصلح للمعارضة معها ( فيخصص ) بها حينئذ عمومات الارث كتاباً وسنة ، كتخصيصها بما دل على حرمانها من الرباع والدار ( وعلى ) فرض دلالتها على ارثها مما عدا الرباع فغايته كونها بالاطلاق ، فيقيد بالنصوص المصرحة بحرمانها من مطلق الأرض والتربة بمثل قوله المرئة لا ترث من تربة دار ولا أرض أولا يرثن النساء من الأرض ولا من العقار شيئاً ، كما يخصص بها عمومات الأرث .

( وأما المناقشة ) فيها من جهة ضعف السند ، فمندفعة جداً ( اذ مضافا ) الى كون اكثرها من المعتبرة والصحاح كانت منجيرة بالشهرة وفتوى الأصحاب ( كاندفاع ) المناقشة فيها ايضا ، تارة بعموم النساء فيها الشامل للزوجة وغيرها ، واخرى بعدم صراحتها بل ولا ظهورها فى المنع عن مطلق الأرض والتربة، لاحتمال كون المراد من العقار والأرض والتربة في النصوص هو عقر الدار وارضها ،وثالثة باشتمالها على مالا يقول به أحد وهو حرمانها من السلاح والدواب ، ورابعة غير ذلك من المناقشات.

( اذ فيه ) أما المنافشة من جهة عموم النساء فيها وشمولها للبنات ( فلا وجه ) لتوهم العموم فيها بعد تبين المراد منها من كونه خصوص الزوجة ، كما وقع التصريح به في رواية الميسرة المتقدمة في قوله قلت فالبنات قال ( علیه السلام ) البنات لهن نصيبهن ، وفي رواية الأحول من قول الراوي إنما عنى بالنساء الزوجة ، وفي التعليل الوارد في رواية

ابن سنان بقوله ( علیه السلام ) لأن العقار لا يمكن تغييره وقلبه والمرأة قديجوز أن ينقطع ما بينها

ص: 9

و بينهم من العصمة الى قوله وليس الولد والوالد كذلك الى قوله فما يجوز أن يجي. ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تبديله وتغييره إذا شبيها و كان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام ( وأما المناقشة ) في دلالتها على عموم المنع عن ارثها من مطلق الأرض والتربة فواهية جداً ( إذ كيف ) ، يمكن المناقشة في دلالة قوله ( علیه السلام ) النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً كما في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، وقوله ( علیه السلام ) في صحيحة الفضلاء لا ترث المرئة من تربة دار أو ارض ، وقوله ( علیه السلام ) في صحيحة اخرى لزرارة ومحمد بن مسلم لا يرثن من الدور ولا من الضياع شيئاً ، وقوله ( علیه السلام ) في رواية عبد الملك بن أعين ليس للنساء من الدور والعقار شيء ، وقوله «ع » لا تعطى من الارض شيئا . ( مع وضوح ) كون المراد من العقار بالفتح في غير مورد اضافته الى الدور هو الضيعة كما اعترف به في كشف اللثام وجعله الأشهر في معناه وفسره في مجمع البحرين بكل ملك ثابت له أصل كالدار والأرض والنخل والضياع وفى لسان العرب العقار بالفتح المنزل والضيعة يقال ماله دار ولا عقار وفي الحديث من باع داراً أو عقاراً ( وعلى كل حال ) فلا ريب في أن المراد منه في غير مورد اضافته الى الدور هو الضيعة وأرض الغلة ( وأما ) ما اشتمل منهما على ما لا يقول به الأصحاب ، فليس الا روايتا زرارة وطربال بن رجاء الكوفي من حيث تضمنهما لعدم ارثها من السلاح والدواب ( ولكن ) نقول ان مجرد ذلك لا يضر بصحة الاستدلال بهما فيما عدا السلاح والدواب ، لما قرر في محله من أن اشتمال الرواية على مالا يكون حجة لا يخرجها بالمرة من الحجية حتى بالنسبة الى غيره فهي من هذه الجهة من قبيل العام المخصص في كونه حجة في الباقي هذا ( مع امكان ) حملهما على أعيان الحبوة كما قيل بارادة السيف من السلاح والراحلة من لدواب كما ورد ذلك في بعض أخبار الحبوة وان كنا لا نقول بكون الزاحلة من الحيوة ( مع ان ) في بقية النصوص

ص: 10

الدالة على حرمان الزوجة من مطلق الأرض غنى وكفاية في تخصيص عمومات الأرث بها.

تضعيف قول المفيد والسيد والمنسوب الى الشيخ قدس سرهم

( و بذلك ) كله يظهر لك ضعف سائر الأقوال في المسئلة ( أما قول ) المفيد ومن تبعه من تخصيص المنع بالدور والمساكن فظاهر ، اذ لاوجه له الا الاقتصار في تخصيص عمومات الارث بما هو المتيقن من المجمع عليه والمتواتر به الأخبار والرجوع فيما عداه الى العمومات لكون الشك فيها في أصل التخصيص ( ولكنك ) عرفت ضعفه من أنه مع وجود هذه الأخبار الصحيحة الصريحة في حرمان الزوجة من مطلق الأرض والتربة وعمل المشهور بها لا يشك في تخصيص عمومات الارث بها ( نعم ) ما افاده من تخصيص الحرمان بالدور والمساكن والرباع انما يتم على القول بعدم تخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، إذ حينئذ مع اختلاف أساليب تلك الأخبار لابد من الاقتصار في التخصيص على ما هو المجمع عليه والمتواتر به الأخبار ولا يكون ذلك الا الرباع المفسر بالدور والمساكن ( ولكن ) الشأن في أصل المبنى لما حقق في محله من جواز التخصيص الكتاب بالخبر الواحد كتخصيصه بالمتواتر .

( وأما قول السيد قده ) بانها تحرم من عين الأرض دون قيمتها ، فمع تفرده به وعدم موافق له من الاصحاب لا يكاد يتصور له وجه الاكونه جمعاً بين أدلة الارث وأدلة الحرمان كما عن المختلف وكونه ايضا هو المتيقن من الاجماع وما تواتر عليه الأخبار ( وهو ) كما ترى ، اما الاجماع فمن جهة تصريحهم بحرمانها من الأرض في الجملة عيناً وقيمة وان اختلفوا في ما تحرم منه من انه مطلق الأرض والتربة أو خصوص الدور والمساكن ( وأما الأخبار ) فلما عرفت من صراحتها بقرينة المقابلة بين البناء والارض في حرمانها من الأرض عينا وقيمة ( وأما الجمع ) المزبور بين أدلة الارث وأدلة الحرمان ، فمع انه لا شاهد عليه ، يكون طرحاً للاخبار حقيقة ، لمنافاته بالضرورة لما هو

ص: 11

المصرح به في تلك النصوص المتواترة من حرمانها من نفس الارض عيناً وقيمة خصوصاً بملاحظة المقابلة في تلك الأخبار بين الأرض والبناء والآلات بالتصريح باعطاء القيمة من البناء والخشب والقصب ونحوها دون الارض ( مضافا ) الى ان اندراج العين و القيمة في العمومات ليس من قبيل اندراج المصاديق في مفهوم العام ليكون حمل كل منهما على بعض أفراده عملا بهما في الجملة فتأمل .

( وأما ما نسب ) الى الشيخ ( قده ) واتباعه من القول بتوريثها من أعيان النخيل والاشجار تقليلا للتخصيص ، فيدفعه رواية الاحول المتقدمة القاضية بالصراحة بالمساوات بين الابنية وبين النخيل والاشجار في كون توريثها من قيمتها لا من اعيانها ( وأما المناقشة ) فيها بضعف السند فضعيفة بكونها من الصحيح لان طريق الصدوق ( قده ) الى الحسن بن محبوب صحيح فكانت الرواية صحيحة ( ويمكن ) الاستدلال لذلك ايضا بالنصوص النافية لارتهن من العقار والضياع، نظراً الى دخول الاشجار فيها كدخول الحائط والبناء ، غاية الامر بالنسبة الى الابنية والأشجار يخصص بما دل على تقويمها واعطاء القيامة اليها ربعاً أو ثمناً فتأمل ( فالتحقيق ) حينئذ وفاقاً للمعظم بل المشهور القول الأول وهو حرمانها من مطلق الارض عينا وقيمة داراً كانت أو غيرها مشغولة بغرس أو زرع أو خالية ، وعينا لا قيمة من مطلق ما هو ثابت في الارض كالبناء والأشجار ( هذا كله ) في المقام الاول .

( وأما المقام الثاني )

في أن الحرمان يعم مطلق الزوجة ، أو يختص بغير ذات الولد منها ( فنقول ) ان في المسئلة قولان متكافئان ( أحدهما ) اختصاص الحرمان بغير ذات الولد من الزوج الميت ، وهو منسوب الى جماعة من أعاظم الفقهاء رضوان الله عليهم ، كالصدوق في الفقيه والشيخ في النهاية والمبسوط ، والسبزواري في الوسيلة ، والشهيد في الدروس

ص: 12

واللمعة ، والمحقق في الشرايع ، والعلامة في القواعد ، وشرحها مفتاح الكرامة ( بل قيل ) انه المشهور بين المتأخرين كما في المسالك والروضة ، بل ادعى عليه الاجماع ( وثانيهما ) عموم الحرمان المطلق الزوجة ولو كانت ذات ولد ( وهو على ما في الجواهر) خيرة اكثر الاصحاب، كالكليني ( قده ) ، والمفيد والمرتضى والشيخ في الاستبصار والحلبي وابن زهرة والحلي ، بل هو المشهور بين بين المتأخرين شهرة كادت تكون اجماعاً، بل هو ظاهر كل من أطلق حرمانها من الأرض، بل في محكي السرائر الاجماع عليه وفي المحكي عن المفيد في الرسالة التي ردفيها على رجل ناصي اجماع الشيعة على ذلك ( ولكن التحقيق ) هو الثاني ، إذ لم نقف للاول على دليل معتد به يقتضى التفصيل المزبور ، بل ظاهر النصوص المتقدمة خلافه خصوصاً المشتمل منها على التعليل بقوله ( علیه السلام ) لئلا يتزوجن فيدخل عليهم يعني أه__ل المواريث من يفسد مواريثهم ( فان ) مقتضاها عدم الفرق في الحرمان بين ذات الولد وغيرها ، وكذا المشتمل منها على أعطاء الربع والثمن من قيمة البناء والطوب والخشب كصحيحة الفضلاء من قوله ( علیه السلام ) إلا ان يقوم الخشب فتعطى ربعها أو تمنها انكان له الولد الشامل باطلاقه لكون الولد من الزوجة التي يعطى اليها منها أو من غيرها .

( وأما ) ما استدل به للقول الأول من روايتي عبيد بن زرارة وابن أبي يعفور المتقدمتين من قوله ( علیه السلام ) يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت بعد حملها على ذات الولد ففيه انه لا شاهد لهذا الحمل ( نعم ) في مقطوع ابن اذينة الذي رواه الصدوق قده في الفقيه عن ابن أبي عمير النساء إذا كان لهن ولد اعطين من الرباع ( ولكنه غير صالح ( للاستدلال به وتقيد مادل على حرمان الزوجة من الرباع والمقار والأراضي والضياع بغير ذات الولد ( لان ) ذلك فرع أحرار كونه رواية عن الامام ( علیه السلام ) ، وهى مشكوكة لاحتمال كونها رأيا من الراوي لارواية عن الامام (ع ) ( ورواية ) أجلاء الرواة كابن ابن عمير للحديث عنه لا يدفع الاحتمال المزبور ، فان غايته كونه

ص: 13

مفيداً للظن بكونه رواية عن الامام ( علیه السلام ) ( ولكن )، ذلك لا يقتضى حجيته مالم يقطع بكونه زواية عن الامام ( علیه السلام ) ( وبذلك ) ظهر وضوح الفرق بينه وبين المرسل المجبور ضعفه بالشهرة وفتوى الاصحاب ( فان ) الشهرة إنما تجير بها الخير إذا استدالى الامام ( علیه السلام ) دون مالا يكون كذلك مما شك في كونه رواية عن الامام ( علیه السلام ) ، فلا مجال حينئذ لمقايسته المقام بالمرسل المنجير ضعفه بالشهرة بمحض رواية الاجلاء للحديث عنه بارسالهم له على نسق الرواية وتدوين مشايخ الحديث له في اصولهم المعمولة لتدوين الروايات فيها وتكرره في الجوامع الثلاثة الفقيه والاستبصار والتهذيب ( فكيف ) يمكن حينئذ رفع اليد بمثله عن تلك المطلقات الكثيرة النافية لارثهن من الدور والمقار والأراضي والضياع مع ما فيها من التعليلات والتأكيدات وورودها في مقام البيان وعدم تعرض شيء منها على كثرتها واختلاف أساليبها وتفاوت أزمنة صدورها للتفصيل المزبور ( ودعوى ) كون التفصيل بين ذات الولد وغيرها جمعاً بين أدلة حرمانها من جميع ما ترك من الأراضي وأدلة ارتها من الجميع وتقليلا التخصيص في عمومات الارث مما لا شاهد لها وكثرة أفراد المخصص مما لاضير فيه بعد قيام الدليل المعتبر عليه.

( وأما الاستدلال ) للتفصيل المزبور بأنه قضية صناعة الاطلاق والتقييد في الاخبار المتعارضة ( بتقريب ) أن النسبة بين عمومات الارث كتابا وسنة والمطلقات النافية لارثهن من الأراضي والدور والعقار والضياع وإن كانت هي العموم المطلق ( ولكن ) بعد تخصيص العمومات بالاجماع على حرمان غير ذات الولد تنقلب النسبة بينها وبين المطلقات المانعة بعكس الاول ، حيث انه تصير عمومات الارث بعد التخصيص بالاجماع أخص مطلقا من المطلقات المانعة من الارث فتخصص تلك المطلقات بها ونتيجة ذلك هي التفصيل المزبور بين ذات الولد وغيرها ولو مع قطع النظر عن المقطوعة المزبورة ( ففيه ) مالا يخفى ( أما أولا ) فبأن المسلم من فرض انقلاب

ص: 14

النسبة إنما هو في التخصيص بالمتصل الموجب لقلب ظهور العام ، لا في التخصيص بالمنفصل الذي لا يوجب إلا قصر حجية ظهوره ببعض مدلوله لاسلب أصل ظهوره ( فان ) في مثله لا موقع لدعوى إنقلاب النسبة بين الدليلين بمحض تخصيص أحدهما بدليل منفصل كما في مفروض البحث المدعى فيه تخصيص عمومات الارث بالاجماع الذي هو دليل منفصل ( وتوهم ) ان النسبة في المتعارضين من الأدلة انما تلاحظ بين الحجتين لا بين الظهورين بما هما مع قطع النظر عن حجيتهما ، فلا بد في مقام لحاظ النسبة بين المتعارضين من أن يكون كل واحد منهما في ذاته مع قطع النظر عن التعارض حجة فعلية يصح الركون اليه فى استفادة الحكم الشرعي والافتاء بمضمونه ، ولا ريب في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل لا يكون كذلك إذ هو بعد التخصيص لا يكون حجة إلا فيما عدا عنوان الخاص وهو المقدار الباقي بعد التخصيص ( ولازم ) ذلك هو لزوم لحاظ النسبة بينه وبين العام الآخر في خصوص المقدار الذي يكون حجة فعلية لولا المعارض ، ولا نعنى من انقلاب النسبة بين الدليلين بعد تخصيص أحدهما بالخاص الوارد عليه الا هذا ( فمدفوع ) بان التعارض بين الأدلة وإن كان بين الحجتين للزوم أن يكون المتعارضين كل منهما لولا التعارض حجة في نفسه يصح الركون الي__ه ( ولكن ) الكلام في الظهور الذي هو موضوع الحجية ( فان ) تعارض الأدلة في باب الألفاظ بعد أن يكون باعتبار كشفها النوعي عن المراد الواقعي الحاصل من القاء الظاهر فى مقام الافادة والاستفادة ، لا باعتبار كشفها الفعلي المنافي مع الظن الفعلى بالخلاف، و يكون تقديم الخاص المنفصل على العام بمناط تقديم أقوى الحجتين على الاخرى ، لا من باب تعبد مخصوص اقتضى تقديم الأخص مضموناً على الاعم، ولا من جهة اقضتائه لقلب ظهور العام الى ظهور آخر أقوى في المقدار الباقي بعد التخصيص ( فلا محالة ) يكون ظهور العام بعد التخصيص في ما عدا عنوان المخصص بعين ظهوره النوعي الثابت

ص: 15

له قبل التخصيص لا بظهور آخر غيره ( فاذا فرضنا ) ان ظهور العام في مقدار حجيته بعد التخصيص بعين ظهوره النوعي ودلالته على تمام مدلوله قوة وضعفاً لا بظهور آخر غيره وكان هذا الظهور مساوياً أو اضعف من ظهور غيره ( فكيف ) يمكن تقديم ظهوره في مقدار حجيته على ما كان مساوياً أو أقوى ظهوراً منه بصرف اخصيته في مقدار حجيته ( نعم ) لهذا الكلام مجال لو كان المناط في تقديم الخاص في المنفصلات من باب التعبد بصرف أخصية مضمونه ( وليس ) كذلك وإنما هو من باب تقديم أقوى الظهورين والحجتين ، ولذا قد يقدم العام على الخاص فيما كان ظهوره في العموم أقوى من ظهور الخاص المنفصل في الخصوص (واممرى) ان المنشاء لهذا التوهم إنما هو تخيل كون الخاص المنفصل كالمتصل منه موجباً لقلب ظهور العام إلى ظهور آخر فما عدا عنوان الخاص ، والا فعلى فرض عدم اقتصائه الاقصر حجيته في المقدار الباقي لا مجال لدعوى انقلاب النسبة بين الظهورين بمجرد ورود مخصص لاحد العامين ، هذا .

( وثانياً ) لو بنينا على انقلاب النسبة في المخصصات المنفصلة ، نقول أنه لا يكاد جريانه في مثل المقام ( فانه لم يقم ) اجماع بالخصوص على حرمان غير ذات الولد بعنوانه المخصوص كي ينتهى الأمر الى دعوى الانقلاب المزبور ( ومجرد ) كونه هو القدر المتيقن من الاجماع على حرمان الزوجة لا يجدى في أخذ النتيجة المزبورة لعدم اقتضاء هذا المقدار للكشف عن كونه بالخصوص رأى المعصوم ( علیه السلام ) ( لان ) من المحتمل كون رأيه ( علیه السلام ) على حرمان مطلق الزوجة ذات الولد وغيرها ( ومع ) هذا الاحتمال أين يبقى المجال لدعوى كون مفاد الاجماع المستكشف منه رأى الامام أخص مطلقاً من تلك الاخبار لامبائنا معها ( فالتحقيق ) حينئذ هو عموم الحرمان لمطلق الزوجة ذات الولد وغيرها ( ولكن ) مع ذلك فالاحوط هو التصالح في المقام حذراً من مخالفة هؤلاء الاعلام الذين هم من أئمة الفقه ، وان كان الأقوى ماعرفت

ص: 16

من عموم الحرمان المطلق الزوجة .

( التنبيه على أمور )

( الامر الاول )

الظاهر أنه لا فرق في حرمان الزوجة من الأراضي عيناً وقيمة ومن البناء والأشجار عيناً لا قيمة بين أن يكون معها وارث غير الامام من الطبقات السابقة وبين أن لا يكون معها وارث غير الامام ( فانه ) بناء على ماهو المشهور بين الاصحاب من عدم الرد عليها لا يكاد يفرق بين الصورتين ، فتحرم مع الامام ايضا كما تحرم مع وجود وارث آخر غير الامام ( اذلاوجه ) لتخصيص حرمانها بصورة كون الوارث غير الامام ، عدا توهم انصراف الاخبار المتقدمة الى صورة وجود وارث آخر معها غير الامام مؤيداً بما في بعضها من التعليل بقوله ( علیه السلام ) لئلا يتزوج المرأة فيجي، زوجها أو ولدها فيزاحم قوماً آخرين فى عقارهم ( وهو ) توهم فاسد لمنع الانصراف اولا و كونه على فرض تسليمه بدويا يزول بادنى تأمل فيها ( والتعليل ) المزبور مع كونه حكمة لتشريع الحكم لا علة غير مجد بعد اقتضاء التدرج في طبقات الارث قيام كل لاحقه مقام سابقتها ( فان ) لازمه هو حرمانها مع الامام كحرمانها مع غيره من الطبقات السابقة كما هو ظاهر واضح .

( الامر الثاني )

(قد عرفت ) ان ما تحرم منه الزوجة عيناً وقيمة من تركة زوجها انما هو عين مطلق الارض دوراً كانت أو غيرها من الضياع والعقار ( واما ) بالنسبة الى الأبنية والآلات فلا تحرم منها الا من أعيانها لا من قيمتها ، بل تقوم البناء والآلات فتعطى حصتها من القيمة ربعاً أو ثمناً ( من غير فرق ) بين الرباع المفسر بالدور والمساكن وبين غيره كالدكاكين والخانات والحمامات ( فان المدار ) في ذلك على مانص عليه بعض أخبار الباب إنما هو على عنوان البناء والآلات فتحرم عيناً لا فيمة من مطلق

ص: 17

الأبنية داراً كانت أو غيرها كالخانات والحمامات والدكاكين والارحية ، بل وبيوت الدواب والغم ومحارز الغلة وعلف الدواب ، وبالجملة تحرم الزوجة من أعيان كل أبنية أعدث لأي مصلحة وتعطى حصتها من قيمتها ، ويدخل فيها ايضا حيطان البساطين الصدق اسم البناء عليها ( و ان ) قبل بارئها من أعيان الأشجار ( اذ لاتلارم ) بين ارثها من أعيان الأشجار وارثها من عين الحيطان المحيط بها ( فان ) كل من المحيط والمحاط يتبع دليله ، فاذا صدق البناء على الحائط المحيط بالاشجار يلزمه حرمانها من__ه عيناً ، قلنا بارثها من الاشجار أو لم نقل بذلك .

( وأما الآلات ) التي تعطى حصتها من قيمتها فالمراد بها كل ما يعد كونه جزءاً للبناء ، فيدخل فيها الأخشاب والآجر والأبواب والاعتاب والشبابيك ولو كانت من حديد وغيرها مما هو مستدخل في البناء ويدخل فيها الأعمدة المنصوبة في الأرض المعمولة للطوارم في عصرنا ولو كانت من حديد ، وكذا السلم المنصوب للصعود والنزول اذا كان ثابتاً على نحو يعد كونه جزء البناء، دون المنفصل الذي ينقل من مكان إلى مكان ( وكذا ) يدخل المرآني والزجاجات المنصوبة في سقف البيت وجدرانه للزينة كل هذه لصدق كونها جزء البناء ( من غير فرق ) بين اشراف البناء على الخراب وعدمه فما دام البناء باقياً بحاله يترتب عليه وعلى ما يتبعه من الآلات والادوات المستدخلة أو المنصوبة فيه الحكم المزبور ( نعم ) لا يدخل فيها الآلات المنفصلة عن البناء كالآجر والأخشاب والأعمدة والشبابيك وغيرها ، لعدم كونها جزء البناء مع فرض انفصالها عنه ( من غير فرق ) بين طرو الانفصال عليها بهدم ونحوه و بين كونها معدة للبناء و بعد لم تبن ( لأن ) العبرة في الحرمان من تلك الآلات على فعلية ثباتها في البناء وكونها جزء فعلياً البناء ، لا على مجرد قابليتها لأن تكون جزء البناء فلا تحرم الزوجة من أعيانها ( نعم ) قد يشك في الأعمدة المنصوبة في الأرض لاجل وضع البناء والطوارم

ص: 18

عليها بعد ذلك بلا كونها مشغولة ببناء فعلى عليها ( وكذا ) في الجذوع والأخشاب الموضوعة على جدران البيت لأجل التسقيف بلا وضع بنيان عليها ولا نصب للاخشاب المزبورة بمسامير ونحوها ( وبالجملة ) مورد الشك في صورة مجرد وضع الاعمدة والاخشاب على الهيئة التي يبنى عليها الطوارم والسقف مع عدم وضع شيء عليها من بناء ونحوه ، حيث أن فيها اشكالا من صدق كونها جزء البناء بهذا المقدار من الوضع على الهيئة الخاصة ، ومن عدم وضع بناء بعد عليها ( ويحتمل ) الفرق بين الأعمدة المنصوبة في الأرض لاجل وضع البناء والطوارم عليها ، وبين الجذوع والأخشاب الموضوعة على جدران البيت لاجل التسقيف بلا نصبها ببناء أو مسمار ، بالقول بحرمان الزوجة منها عيناً في الأول لكفاية مجرد نصبها في الأرض على الهيئة الخاصة في صدق كونها جزءاً فعليا للبناء ، دون الثاني لعدم الصدق فيها ومثله ) في الاشكال القدور المنصوبة في بعض الدكاكين لطبخ الهريسة والرؤس ، وكذا الظروف المنصوبة في محال صنع الحلوى ، والظروف الكبيرة والأنجانات المنصوبة في محال صبغ اللباس ( وان كان ) الأظهر عدم حرمان الزوجة منها ( لأن ) مناط التقويم في الأدوات والآلات إنما هو يكونها جزءاً للبناء ، لا أنه بصرف ثباتها في الارض كى يقال باقتضائه التعدي الى كل ثابت في الارض ولو لم يصدق عليه كونه جزءاً للبناء ( وحينئذ ) فاذا لم يصدق عليها كونها جزءاً للبناء فلا جرم ترث منها الزوجة كسائر الأمتعة ( ولا أقل ) من الشك في ذلك فالمرجع هو عمومات الارث ( وما في بعض ) الكلمات من التعبير بالآلات المثبتة وغير المثبتة تارة ، وبالمنقولة وغيرها أخرى ، فليس المراد منه مجرد ثبات الشيء في الارض ، بل المراد منه ما يكون جزء البناء لأجل ثباته في الارض، ولذلك لم يلتزم أحد بحرمان الزوجة من الزرع ونحوه مما هو ثابت فى الأرض ، كما أن قولهم بحرمانها من الأشجار إنما هو لأجل النص وهو صحيح الاحول ، لا أنه من جهة ثباتها في

ص: 19

الارض ( اذ لا أثر ) لمثل هذا العنوان في موضوع هذا الحكم ( وبالجملة ) أن الخارج من عمومات الارث بمقتضى الاجماع والنصوص المتقدمة فيما تحرم منه الزوجة عينا لاقيمة إنما هو عنوان الأشجار وعنوان البناء والطوب والخشب والقصب المستدخل في البناء ، ففي ماعدا عنوان الأشجار من سائر الامور التي لها نحو ثبات يدور حرمان الزوجة منها مدار صدق عنوان البناء عليها أو جزئيتها له دوراً كانت أم حانوتا أو غير ذلك ، فمتى لم يصدق عليها عنوان البناء ولا جزئيتها له ، أوشك في الصدق المزبور كالا مثلة المزبورة في نحو القدور والأنجانات المنصوبة في الدكاكين المعدة لطبخ الرؤس والهريسة ومصانع صبغ الألبسة ونحوها بحكم عليها بارثها من اعيانها ، لعمومات الارث ( نعم ) في مثل صفرية الحمام وأحجار الرحي في الارحية ومعصرة الزيت والسمسم، فالظاهر دخولها في آلات البناء للصدق العرفي ( كما أن الظاهر) دخول أعيان النواعير المنصوبة في البساتين لسقى الأراضي على اشكال في دولابها ( وأما البيوت ) المتخذة من البواري وسعاف النخل ونحوهما مما هو المتعارف عند أهل القرى والمعدان فى عصرنا هذا فلا يبعد أن يقال بحرمان الزوجة منها لكونها من قبيل البيوت المتخذة من الأخشاب والألواح ، لا من قبيل الخيم والفسطاط .

( وأما ) العيون والآبار فلا ينبغي الاشكال في الحرمان منها عيناً وقيمة كالأراضي بل هي هي عينا ( نعم ( الظاهر هو ارتها من عين المياه المجتمعة في الآبار الموجودة حال موت المورث ( وتوهم ) المنع عن ارئها منها أيضاً لكونها تابعة لنفس الآبار ( مدفوع ) بمنع تبعيتها حتى من حيث الحكم بالحرمان وإنما هي مملوكة بملكية مستقلة في قبال الارض والعيون والآبار ( ولا أقل ) من الشك فيحكم عليها بالارث بمقتضى العمومات ( وأما المياه ) المتجدده بعد الموت فلا اشكال في عدم ارثها منها لكونها ملكا للورثة محضاً .

ص: 20

( وأما الأشجار ) فقد عرفت حرمانها منها عيناً لا قيمة لرواية الأحول المتقدمة (من غير ) فرق بين الكبار منها والصغار والمثمرة وغيرها ، بل وما لا ينتفع بها لصدق الشجر عليها ( بل وكذا ) الأشجار اليابسة على اشكال فيها ، ويدخل فيها الأغصان والسعاف المتصلة بها على اشكال في اليابسة منها مما صار حطبا ، وترت عيناً مما كان مقلوعا من النخيل والأشجار حال موت الزوج وان كانت معدة للغرس في محل آخر كما أنها ترث من الثمار عيناً ولو على الشجرة ، كارثها من الزرع الموجود في الارض حال موت الزوج وان لم يستحصد ، بل وان كان بذراً لعموم أدلة الارث، وعدم اقتضاء الحرمان من الارض والشجر حرمانها من الزرع والمرة ( وقد يتوهم ) حرمانها من عين الزرع بلحاظ ثباته فى الارض ( ولكنه ) توهم فاسد ، لما تقدم من أنه ليس المدار فيما تحرم منه الزوجة عيناً لاقيمة على مجرد الثبات في الأرض ( وإنما ) المدار كله على العناوين المخصوصة المأخوذة في لسان الأدلة وهي لا تكون إلا عنوان الشجر وعنوان البناء واجزائه من الطوب والخشب والقصب ونحوها ، ففي ماعدا هذه العناوين بحكم عليها بالارث بمقتضى عمومات الارث ( وترث ) ايضا من العريش المتخذة الأخشاب التي توضع عليها اغصان الكرم ، وكذا من الاخشاب المربوط بها الأشجار الصغار الحفظها من الرياح العاصفة للعمومات .

( الامر الثالث )

في تقويم البناء والآلات التي ترث الزوجة من قيمتها لا من أعيانها وكيفيته أن تقوم البناء والآلات ، على الهيئة التي هي عليها باقية في الارض بلا اجرة الى أن تفنى، وكذلك الأشجار والنخيل فيفرض كون البناء داراً كانت أو حانوطاً أو غيرها كأنها مبنية في ملك الغير بنحو يستحق البقاء فيه بلا اجرة الى أن تقنى ، فيقوم ويعطى من القيمة ربعها أو ثمنها ، لا أنها تقوم نفس ذوات الأخشاب مجردة من الهيئة البنائية وعن

ص: 21

ملاحظة استحقاقها للبقاء في الارض ، أو تقويمها باقية فيها بما لها من الهيئة مع الاجرة ( فان ) ذلك كل خلاف ظواهر الاخبار المتقدمة المقتضية لارتها بما هي ثابتة في

الارض على مالها من الهيئة البنائية المخصوصة ، خصوصاً المشتمل منها على ارتها من البناء كصحيح زرارة ومحمد بن مسلم ، وكذا المشتمل منها على ارئها من قيمة البناء ( اذ لا شبهة ) فى ظهور هذه النصوص في ارثها من البناء والدور ولو من قيمتها من حيث البناء والعمارة ( نعم ) قد يتوهم في بدو النظر من قوله ( علیه السلام ) فى بعض نصوص الباب قيمة الطوب والخشب والقصب والجذوع كون المراد تقويمها بنفسها مجردة عن البناء ( ولكن ) التأمل فيها يقضى كون المراد تقويمها بما هي ثابتة ومعروضة للهيئة البنائية الخاصة الطارية عليها ، لا بما هي ذوات الاخشاب والأحجار مع قطع النظر عن كونها معروضة للهئية الخاصة البنائية ( وحينئذ ) فلا ينبغي الاشكال في لزوم تقويمها على النحو الذي ذكرناه من ملاحظة هيئة البناء الخاص في مقام التقويم باقية في الارض الى أن تفنى مع كون بقائها ايضا مجاناً ، لا باجرة .

( نعم ) ربما احتمل كما عن محكى ثاني الشهيدين ( قده ) في رسالته لزوم تقويمها باقية في الارض لكن باجرة لا مجاناً ، بل عن المحقق الفمي (قده) التصريح به في موضع من أجوبة مسائله ( ولكنه ) ضعيف جداً ( فان ) الاجرة مما تنفيه ظواهر النصوص المتقلمة في استحقاق الزوجة من قيم ما تركه الميت من الأبنية والأشجار على الكيفية التي فارقها الميت وانتقلت الى الورثة ، وهي لا تكون الا كونها مستحقة للبقاء بلا أجرة ( مع أنه ) لا موجب يقتضي استحقاق الورثة للاجرة على بقائها ليكون ذلك نحو جمع بين الحقين ( اذا السبب ) في ذلك ليس إلاكون ملك شخص شاغلا لملك الغير بوضع ونحوه ( ومثله ) مفقود في المقام لان الزوجة على ماهو المشهور ونطق به أخبار الباب لم تملك شيئاً من أعيان البناء والاشجار، وإنما استحقاقها كان من المالية القائمة بتلك

ص: 22

الاعيان ( فاعيان ) البناء والأشجار التي هي شاغلة للارض إنما كانت ملكا لسائر الورثة دون الزوجة ( فاين ) يتصور حينئذ وجه لدعوى استحقاق الورثة الاجرة على بقائها في الارض ( ومجرد ) كون أعيان البناء والاشجار متعلقاً لحق الزوجة باعتبار قيمتها لا يقتضى استحقاق الاجرة على بقائها كما لا يخفى .

( نعم ) بناء على القول بتعلق ارث الزوجة بدواً بأعيان البناء والاشجار ، و أن إستحقاقها للقيمة إنما هو من جهة بدليتها عن العين المملوكة لها بالارث من باب الارفاق على الورثة ، لا انه من باب الارث القهري كما هو ظاهر المحقق القمى ( قده ) في غير موضع من أجوبة مسائله ( امكن ) دعوى لزوم تقويم الأبنية والاشجار بما هي باقية في الارض مع الاجرة ، بلحاظ تحقق سبب الاستحقاق حينئذ وهو شاغلية مالها لملك الغير ، كما هو الشأن في نظائره في من ملك الحال والمظروف دون الظرف والمحل فان في مثله لا محيص من الالتزام بلزوم دفع الاجرة لأجل الوضع الشاغل لملك الغير حتى في فرض استحقاق الوضع الشاغل البقاء في ملك الغير ، لعدم اقتضاء مجرد استحقاق الشاغل للبقاء كونه بلا اجرة وعلى نحو المجان ( إلا ) ان يثبت المجانية من الخارج من اجماع ونحوه ( وإلا ) فقاعدة احترام الاموال تقتضي الاجرة على الوضع الشاعل لملك الغير ، هذا ( ولكن ) يتوجه عليه بأنه يتم ذلك في فرض طرو الوضع الشاغل على ملك الغير ولو عن حق كما في موارد اجارة الاملاك للغرس والبناء ( لافي مثل المقام ) الذي انتقل الارض الى ملك الورثة من مورثهم مشغولة بالأبنية والأشجار التي هي ملك الزوجة أو متعلقة لحقها ( اذ في مثله ) لا مجال لدعوى استحقاق الورثة الأجرة علي تبقيتها في أرضهم ( فالمقام ) من قبيل ما اذا اشترى الشخصان بعقد واحد أو بعقدين من شخص أحدهما نفس الاشجار أو الزرع بما أنها باقية في الأرض من غير اشتراط الاجرة على بقائها فيها ، والآخر عين الارض بما هي مشغولة لا باشجار

ص: 23

أو الزرع ، فانه لا شبهة في عدم استحقاق مشترى الأرض بعد شرائها مشغولة بالشجر والزرع الأجرة على تبقيتهما في ملكه ( ولا أقل ) من الشك في ذلك والاصل يقتضي برائه ذمتها عن وجوب دفع الاجرة ( ثم ان ذلك ) أيضا مع قطع النظر عما استظهر ناه من الأدلة من لزوم تقويم الأبنية والأشجار بما هي باقية بلا اجرة في بقائها ( وإلا ) فمع ملاحظة ظواهر تلك الأخبار لا يبقى مجال التشكيك في لزوم تقويمها بما هي مستحقة للبقاء محاناً الى أن تفنى ( ولعله ) الى ماذكرنا نظر المحقق القمى قده في موضع آخر من أجوبة مسائله في اختيار كون التقويم على نحو المجان ( وإلا ) ، فهو ظاهر المنافات لما افاده من المبنى الذي قرره مراراً من عدم كون استحقاق الزوجة القيمة من باب حكم إجبارى ، وإنما هو من باب بدليتها عن العين المملوكة لها بأصل الارث ، فكان للوارث بلحاظ الارفاق المستفاد من الأخبار دفع القيمة اليها بدلا عما ملكتها بالارث ، كما كان له دفع حصتها من العين ، بلا أن يكون لها الامتناع من قبولها والمطالبة بقيمتها ( ولكن ) الشأن في تمامية هذا المبني ، كما يأتي في التنبيه الآتي ان شاء الله .

( ثم انه ) قد يقال في كيفية التقويم بوجه آخر ، وهو أن تقوم الارض مجردة عن البناء والغرس ، وتقوم مبنية ومغروسة فتعطى حصتها من تفاوت القيمتين ، وقد استحسنه في الجواهر معللا بأنه يمكن زيادة قيمة الأرض بملاحظة مافيها من الغرس والشجر والنخل واستحقاقها لهذه الزيادة مناف لما دل على حرمانها من الارض عينا وقيمة ( وفيه ) أن الارض والشجر والنخل إنما كانت ملكا لمن عدا الزوجة من الورثة ، والتقويم إنما كان لاجل إعطاء ماتستحقه الزوجة من قيمة الشجر والنخل والطريق فيه منحصر بما ذكرناه من تقويم نفس الشجر والنخل والبناء بما لها من الخصوصية الخاصة التي كونها في محل خاص ، وإلا فتقويم الارض تارة فارغة ومجردة عن البناء والفرس واخرى مشغولة بالبناء والغرس مع كونه أجنبياً قد يكون موجباً

ص: 24

لتنقيص حق الزوجة من قيمة البناء والأشجار ، فلا محيص حينئذ من الاقتصار في التقويم على النحو الذي ذكرناه .

( الأمر الرابع )

في ان استحقاق الزوجة للقيمة هل هو باصل الارث من باب حكم اجباري أو أن استحقاقها لها من باب بدليتها عن العين على معنى تعلق حقها أولا باصل الارث بالعين كغيرها من أعيان التركة وأنتقالها ثانياً إلى القيمة بدلا عن العين ارفاقا لحال الوارث كما هو خيره جماعة منهم المحقق القمي ( قده ) من دعوى ظهور الأخبار في كون العلة في الحرمان هو الارفاق بالوارث فيكون للوارث ولاية التبديل بدفع القيمة اليها ، نظير تعلق حق الفقير بالعين الزكوى بنحو الاشاعة أو الكلى في المعين ، مع ولاية مالك النصاب على التبديل بدفع القيمة من الخارج كي يلزمه عدم اجبار الوارث على التقويم لو أراد دفع حصتها من العين ، بل اجبار الزوجة على الرضا بها ( وعلى الأول ) قبل يكون حقها متعلقاً بخصوص المالية المنقومة بالعين بحيث كان دفع القيمة خارجاً من باب كونها تداركا لما تستحقه من المالية القائمة بأعيان البناء والأشجار ، نظير قيم المتلفات كما هو خيرة كثير من الأصحاب ، أو يكون حقها من الأول متعلقاً بمطلق القيمة في ذمة الوارث ولو باعتبار تنزيل الشارع حرمانها من العين وتخصيصها بمن عداها من الورثة منزلة التالف عليها في ضمانهم لها بالقيمة ، كما هو مختار الجواهر وثاني الشهيدين وبعض آخر ، ومال اليه ايضا السيد العلامة الاستاذ الأصبهاني دام ظله العالى ( أو أن ) وجوب دفع القيمة اليها مجرد حكم تكليفي على الوارث من دون أن يكون لها حق في ذمة الوارث فضلا عن تعلقه بأعيان البناء ( فيه وجوه ) وأقوال ( أضعفها الاخير ) لكونه مخالفاً لظواهر الأخبار المتقدمة ، بل لم نجد القول به صريحاً لاحد من الأصحاب ، وإنما هو مجرد احتمال احتمله بعضهم .

ص: 25

( و يتلوه ) في الضعف ما افاده صاحب الجواهر و بعض آخر من تعلق حقها بقيمة البناء في ذمة الورثة وانتقال الأعيان بماليتها إلى ملكهم بموت مورثهم ( وذلك )

لبعده ايضا عن ظواهر النصوص من نحو قوله ( علیه السلام ) يرثن قيمة البناء والشجر والنخل خصوصاً المتضمن منها لا رثها من عين البناء ( إذ لا شبهة ) ، في ظهور تلك النصوص ، بل صراحة بعضها في أن محل القيمة التي ترثها الزوجة هو أعيان الأبنية والأشجار لا ذمة الورثة ( وبالجملة ) لا شبهة في أن المستفاد من ظواهر تلك النصوص هو كونها في مقام التفكيك في إرث الزوجة وحرمانها من البناء والآلات والأشجار بين أعيانها وماليتها القائمة بها بتخصيص حرمانها من الارث من جهة خصوص أعيانها لا مطلقا حتى من حيث ماليتها القائمة بها كي يكون محل استحقاقها من القيمة ذمة الوارث تعبداً ( فان ) ذلك يحتاج الى قيام دليل عليه بالخصوص ( وإلا ) فلا يكاد استفادته من أخبار الباب كما لا يخفى .

( مضافاً ) ، الى استلزامه للقول بوجوب دفع القيمة على الوارت في فرض تلف العين بعد الموت بآفة مماوبة من سيل ونحوه ، بل ومع غصب غاصب اياها بعد الموت ( لأن ) محل القيمة على هذا المبني هو ذمة الوارث دون العين ( والعين ) قد انتقلت بماليتها الى ملك الوارث بلا مساس لها بالزوجة ، فكان التلف والغصب واردين على ملكه لا على متعلق حقها ( فلا بد ) من خروج الوارث عن عهدة ما استقر في ذمته كسائر دیونه «وهذا» وإن التزم به بعض القائلين بهذا الملك كما عن محكى ملحقات البرهان ( ولكن ) الالتزام بمثله كما ترى .

ومن التأمل ، فما ذكرنا يظهر ضعف القول بتعلق ارث الزوجة بدواً بأعيان الأبنية والأشجار وأن للوارث تحويل حقها من العين بدفع القيمة اليها بدلا عنها ( فان ) ذلك وإن كان يوافق عمومات الارث ( ولكن ) مضافاً إلى كونه خلاف المشهور

ص: 26

بين الاصحاب ، يدفعه ظواهر الأخبار المتقدمة من نحو قوله ( علیه السلام ) يرثن قيمة البناء والشجر والنخل ، وقوله ( علیه السلام ) لا ترث من العقار شيئاً إلا قيمة الطوب والنقض ، لوضوح ظهور هذه النصوص بل صراحتها في تعلق ارثها بدواً بقيمة البناء والشجر والنخل وحرمانها من أعيانها ( وكذا ) ما كان منها بلسان الأمر بالتقويم واعطاء نصيبها ربعا أو ثمناً من القيمة ، لظهوره ايضا في أن ما يعطى اليها من القيمة من باب حكم اجباري نظیر سائر المواريث ، لا انه من باب كونه ارفاقاً بحال الوارث بحيث كان حقها متعلقاً باصل الارث بالعين وللوارث إعطاء القيمة اليها بدلا عن العين ( و أما المناقشة ) في دلالتها يكونها واردة في مقام دفع توهم استحقاقها من أعيان الأبنية والاشجار بنحو يكون لها المطالبة بها ومجير الوارث على اعطاء ارتها منها اذا لم ترض إلا بها كسائر أعيان التركة من الثياب والرقيق ومتاع البيت ، فلا يستفاد منها أزيد من جواز دفع القيمة اليها ، نظير الأمر الوارد عقيب توهم الحظر الذي لا يفيد مثله أزيد من مجرد الاباحة والترخيص ( فمدفوعة ) مضافا الى عدم مجيء هذا الاحتمال فيما كان منها بلسان حصر الارث بالقيمة ، كقوله ( علیه السلام ) لا ترث المرأة من تركة زوجها من تربة دار أو ارض إلا قيمة الطوب والنقض ( وقوله ع ) المرأة لا ترث من تربة دار أو أرض إلا أن يقوم الطوب والخشب قيمة فتعطى ربعها أو تمنها ، نظراً الى قوة ظهورها في أن استحقاق القيمة من باب حكم اجباري ) انه ليس ( باولى من دعوى كونها فى مقام دفع توهم حرمانها عيناً وقيمة من البناء والآلات والأشجار نظير حرمانها من الاراضي والضياع ( لولا ) دعوى كون الثاني هو الأولى ( وأما التعليل ) الوارد في بعض تلك الأخبار بعدم الاضرار بالورثة ، بقوله ( علیه السلام ) لئلا يتزوجن الخ ( ففيه ) مع أن التعليل إنما هو لنفي إرثها من الأراضي والعرصات ، لا لارثهن من قيمة الأبنية والأشجار دون أعيانها ( فغاية ) مايستفاد منه كونه حكمة لتشريع الحكم المزبور ، لا كونه علة له كى

ص: 27

يقتضى إرثها من أعيانها، بحيث تجبر الزوجة على الرضا بالعين مع إعطاء الوارث نصيبها منها ( ولا أقل ) من الشك في ذلك بعد تصادم الاحتمالين فيحكم عليه بالحكمة ، كما هو الشأن في كل موردشك في كون الشيء حكمة أو علة فيبقى ظهور غيرها من الأخبار بحالها في نفي إرثها من عين البناء والأشجار وتخصيص حقها باصل الارث من قيمتمها سليمة عن المعارض ( إذ لم يكن ) في قبالها ما يقتضي تعلق إرثها بعين البناء والأشجار ولو في ظرف رضاء الوارث بذلك حتى يعارض معها ( وبذلك ) ظهر فساد مقايسته المقام بباب الزكاة الذي ثبت ولاية مالك النصاب على تبديلها بالقيمة ( إذ في باب ) الزكاة ثبت تعلق حق الفقير بالعين الزكوى بمقتضى ظهور أخبارها من نحو قوله ( علیه السلام ) فيما سقت السماء العشر الظاهر في تعلق حق الفقير بالعين على نحو الاشاعة أو الكلي في المعين ، غير أنه قام الدليل على جواز إعطاء مالك النصاب القيمة بدلا عن العين ( وفي المقام ) لم يقم دليل على تعلق إرثها بالعين ولو برضاء الوارث عدا ظواهر عمومات الارث التي عرفت لزوم تخصيصها بتلك الأخبار الكثيرة الظاهرة بل الصريحة في تخصيص ارث الزوجة بقيمة البناء والاشجار دون اعيانهما ( هذا ) مع احتمال تعلق حق الفقراء في الأعيان الزكوية ايضا بماليتها لا باعيانها كما لعله قضية الجمع بين مادل بظاهره على تعلق حق الفقير بالعين الزكوى ، وبين مادل على الشاة في الابل الظاهر في كونها تقديراً لما يستحقه الفقير من مالية الابل فتامل ( نعم ) ظاهر بعض أخبار الباب تعلق إرث الزوجة بعين البناء ، كقوله ( علیه السلام ) في رواية بن مسلم وزرارة المتقدمة إلا أن أحدث البناء فيرثن ذلك البناء ( ولكنه ) محمول على ارادة قيمة البناء بقرينة تلك الأخبار الكثيرة الشارحة لكيفية إرث الزوجة بكونه من قيمة الطوب والقصب والخشب، وقرينة نفي إرثها في صدر الرواية من الدور ( وإلا ) فابقاء ذيل الرواية على ظاهره والتصرف فى ظواهر تلك النصوص الكثيرة بحملها على جواز إعطاء الوارث

ص: 28

نصيبها من القيمة بدلا عن العين بعيد جداً لا يكاد يساعد عليه العرف وأبناء المحاورة ( فالمتجه ) حينئذ هو المسلك المشهور دون غيره من المسالك الآخر ( وكيف كان ) فيترتب على هذه المسالك مرات مهمة .

بيان بعض الثمرات المترتبة على الوجهين

( الثمرة الاولى )

( منها ) كون المدار في القيمة على مبنى تعلق حق الزوجة في ذمة الوارث على قيمة وقت الموت ، لأنها هي التي إعتبرها الشارع في ذمة الوارث بدلا عن العين ولو باعتبار تنزيل حرمان الشارع لها من العين وتخصيص من عداها بها منزلة الاتلاف عليها فيضمنوا لها القيمة ، فالقيمة ، تكون حقاً لها تتعلق بالموت في ذمة الوارث كسائر ديونه ( فلا محيص ) من ملاحظة خصوص القيمة في ظرف الموت ولا وجه لرعاية القيمة وقت الأداء ( وأما على المبنيين ) الأولين ، فيتعين القيمة بكونها قيمة وقت الأداء ( وهذا ) على مبنى تعلق إرثها بعين البناء وكون القيمة بدلا عنها فظاهر ، لبقاء حقها المتعلق بالعين على حاله وعدم تحوله إلى القيمة إلا بدفعها اليها أو بتقويم الوارث على نفسه ( وأما ) على ماهو المختار والمشهور من تعلق حقها بمالية تلك الأعيان ( فلان ) دفع القيمة اليها خارجاً إنما يكون تداركا لحقها المتعلق بمالية العين ، فلابد من رعاية القيمة وقت الأداء ( وإلا ) فمع إختلاف القيمة في الوقتين بزيادة القيمة وقت الدفع عن قيمة وقت الموت لا يكون دفع قيمة وقت الموت تداركا لتمام حقها من المالية القائمة بالعين، كما أنه في صورة العكس لا تستحق الزوجة تلك الزبادة ( وتوهم ) عدم اقتضاء مجرد تعلق حقها بمالية العين لاعتبار خصوص القيمة وقت الدفع، بل هو مطلق من هذه الجهة فيمكن الاكتفاء بدفع القيمة وقت الموت ( بل لعل ) ذلك هو المتعين بلحاظ كون زمان الموت ظرفاً لتعلق حقها بقيمة العين فيراعي تلك القيمة ( مدفوع ) بأن مجرد ظرفية زمان الموت لاستحقاق القيمة لا يقتضي إطلاق القيمة فضلا عن اقتضائه تخصيصها بخصوص وقت الموت ( بل نقول ) أنها تابعة لنفس العين في جميع الأزمنة

ص: 29

فما لم يدفع القيمة اليها من الخارج تستحق من العين ماليتها الفعلية القائمة بها ( وبالجملة ) فرق واضح بين كون زمان الموت ظرفا لتعلق حق الزوجة بمالية العين ، وبين كونه قيداً لمتعلق حقها. وما أفيد إنما يتم في الثاني دون الأول ، ولا دليل إيضا يقتضى التقييد المزبور ( هذا ) اذا لم يقومها الوارث على نفسه بعد الموت الى وقت الأداء .

( وأما لوقومها ) على نفسه بعد الموت بتصديق أهل الخبرة ولو بمحضر الحاكم فالظاهر أن المدار على القيمة وقت التقويم وإن لم يدفعها بعد اليها ( قانه ) بعد أن يكون

المدار فى القيمة على القيمة الواقعية لا القيمة الجعلية المنوطة برضاها ، ويكون للوارث ايضا التقويم وإعطاء ما قابل حقها من مالية العين من الخارج ، فلا جرم مع تقويم الوارث العين على نفسه تكون العبرة على تلك القيمة وان أخر فى أدائها اليها ( ودعوى) أنه لا تأثير لتقويم الوارث على نفسه بقيمة في ذمته في تحويل حقها من مالية العين ، وإنما المؤثر في ذلك دفع القيمة اليها خارجاً لكونه نظير المعاطات التي لم يتحقق عنوان النقل والانتقال إلا بالتعاطى الخارجي فما لم يدفع القيمة اليها من الخارج كان حقها المتعلق بالعين أو بماليتها باقياً بحاله ولازمه لزوم رعاية القيمة وقت الأداء ( منظور فيه ) يظهر وجه مما عرفت من أن للوارث الولاية على التقويم ودفع القيمة اليها ( فاذا ) قومها على نفسه بتصديق أهل الخبرة ومحضر الحاكم يلزمه تحويل حقها من العين الى القيمة في ذمته ، من غير فرق بين القول بتعلق حقها بنفس العين أو بماليتها فتأمل .

( الثمرة الثانية )

( ومنها ) أنه على مبنى تعلق حق الزوجة بالقيمة في ذمة الوارث يجوز للوارث التصرف في أعيان البناء والأشجار باتلاف أو نقل أو غير ذلك ولو قبل دفع القيمة اليها ، بل ومع عدم دفعها اليه إلى الأبد ( لأن ) العين على هذا المبني كانت ملكاً طلقاً للوارث فله التصرف فيها بانحاء التصرفات المتلفة والناقلة وغيرهما ( والقيمة ) انما كانت حقا لها في ذمته فكانت كسائر ديونه التي لا يمنع اشتغال ذمته بها عن التصرف

ص: 30

في ماله حتى مع الامتناع عن أداء حقها، غاية الامر يجبره الحاكم على الأداء مع الامتناع كسائر الممتنعين من أداء الحق ، ويجوز لها التقاص من ماله مع عدم إمكان الاجبار ( اللهم ) إلا أن يدعى أن حق الزوجة وإن كان متعلقاً بالقيمة في ذمة الوارث إلا أن له نحو تعلق ايضا بالعين على نحو يمنع عن تصرف الوارث فيها باتلاف أو نقل لها بماليتها قبل أداء حقها اليها نظير تعلق حق الرهانة بالعين المرهونة ( ولأجل ) ذلك يكون الوارث قبل دفع القيمة اليها كالمحجور عليه فى التصرفات المتلفة للعين والنافلة لها ( ولكنه ) يحتاج الى دليل عليه بالخصوص ( وإلا ) فلا يكون حقها في ذمته إلا كسائر ديونه في عدم اقتضائه المنع عن تصرفه في الأعيان المملوكة له بالارث ( ولذلك ) التزم في الجواهر تبعا للمحكي عن ثاني الشهيدين في رسالته بأنه يجوز للوارث التصرف في العين باتلافها أو نقلها حتى مع إمتناعه عن دفع القيمة اليها لبقاء حقها في ذمته إلى أن يتمكن الحاكم من إجباره على أدائها أو البيع عليه قهرا كغيره من الممتنعين من أداء الحق ، أو تتمكن الزوجة من تخليص حقها ولو مقاصة منها أو من غيرها من أعيان ماله ( هذا ) على مبنى تعلق حقها بالقيمة في ذمة الوارث بالموت ( واما على مبنى ) تعلق إرثها بدواً بالعين وان كان للوارث تحويله عنها بدفع القيمه اليها ، فلا يجوز للوارث قبل دفع القيمة اليها التصرف فيها لكونه من التصرف في مال الغير بدون رضاه فيكون باطلا غير نافذ ( وكذا الحال ) على مبنى تعلق حقها بماليه العين إما مطلقا أو منوطاً بعدم رضاء الوارث على اعطاء حصتها من العين وإلا فيكون حقها متعلقاً بنفس العين كما هو أحد المحتملات في المسئلة وصرح به المحقق القمي ( قده ) ( فان ) إرثها حينئذ وان كان متعلقاً بمالية العين لا بخصوصية العين إلا ان قضية كونها بماليتها متعلقة لحقها تمنع عن ذلك ، فيتوقف جواز تصرفه فيها باتلاف أو نقل لها بماليتها على تدارك ما للزوجة من مالية العين ( وإلا ) فبدونه يكون حقها ثابتاً في المالية القائمة بالعين ، فيمنع عن التصرف فيها باتلاف أو نقل

ص: 31

كما في الصورة الاولى ( لأن ) نسبة تعلق حقها بمالية العين كنسبة تعلقه بنفس العين في المنع عن تصرف الوارث فيها قبل تدارك حقها بدفع القيمة اليها ( نعم ) بينهما فرق من جهة اخرى وهي اقتضاء تعلق حقها بنفس العين عموم المنع عن مطلق التصرف فيها قبل دفع البدل اليها حتى التصرفات اليسيرة غير المتلفة للعين أو الناقلة لها ( بخلاف ) هذا المبني ( فان ) لازمه تخصيص المنع بالتصرفات الناقلة والمتلفة للعين أو المنقصة لما ليتها ولا يعم مطلق التصرفات حتى السيرة غير المنقصة لما ليتها ( لعدم ) اقتضاء هذا المقدار من الحق الثابت فى مالية العين منع مالكها عن مطلق التصرف فيها ، كي يتوقف جوازه على تدارك مالها من المالية القائمة بها .

( وكيف كان ) فلو باع الوارث العين قبل دفع القيمة اليها أو تقويمها على نفسه بمحضر الحاكم يقع البيع فضولياً بالنسبة الى ما يخص الزوجة من حصتها ربعاً أو ثمناً ( فان ) أجازت نفذ البيع فى التمام وترجع الزوجة الى الوارث في مقدار حصتها من المسمى بناء على تعلق إرثها بعين البناء والأشجار ، ومن القيمة الواقعية بناء على تعلق إرثها بمالية العين ، ولها الرجوع الى المشترى ايضا وأخذ حصتها منه ، فترجع المشتري بما دفع اليها الى الوارث البايع ( وان لم تجز ) بطل البيع في مقدار نصيبها مطلقا على مبنى تعلق حقها بالعين ولو مع رد القيمة البها بعد البيع الا على القول بصحة البيع فيمن باع شيئاً ثم ملك ( ومع عدم ) دفع القيمة اليها على المبنى الآخر فتأمل فان الظاهر بنائهم على صحة البيع ونفوذه في التمام اذا دفع اليها حقها من القيمة بعد البيع حتى ممن التزام بعدم الصحة فيهن باع شيئا ثم ملك ( فان ) ذلك يكشف عن كون البطلان مراعى بعدم اعطاء القيمة اليها .

( ومنها ) ما تقدم من وجوب دفع القيمة على الوارث مع تلف العين أوغصب غاصب اياها بعد الموت على مبنى تعلق حق الزوجة بقيمة العين في ذمة الوارث لورود

ص: 32

التلف و الغصب على ملكه وإستقرار القيمة لها بالموت في ذمته فيجب عليه الخروج عن العهدة كسائر ديونه ( وأما على مبنى ) تعلق حقها بدواً بالعين فلا يجب عليه دفع القيمة اليها مع تلف العين أو مغصوبيتها ( لأن ) التلف أو الغصب كما أنه وارد على مال الوارث ، كذلك وارد على متعلق حق الزوجة ( وكذلك ) الأمر بناءاً على ماهو المشهور من تعلق حقها بقيمه العين لا بشخصها ( فان ) العين حينئذ وان كانت ملكا للوارث إلا انها من جهة ماليتها القاعة بها كانت متعلقة لحق الزوجة ( فاذا » تلفت باقة سمارية من سيل ونحوه لا بتفريت من الوارث أو أنه غصبها غاصب كان التلف أو الغصب وارداً على متعلق حقها ايضا ، ومعه لاوجه لضمان الوارث لها بالقيمة ( بخلاف ) المبني المتقدم ( فانه ) عليه يكون محل القيمة ذمة الوارث دون العين ، فلا يتصور فى مثله ورود التلف على متعلق حق الزوجة ( لا يقال ) أن محل القيمة على هذا المبنى وإن كان ذمة الوارث ، إلا ان استقرار القيمة في ذمته منوط ببقاء العين وتمكنه من التصرف فيها ، وبدونه لا إستقرار للقيمة في ذمته حتى يجب عليه الخروج عن العهدة بدفع القيمة اليها ( فلاثرة ) حينذ من هذه الجهة بين تلك المسالك ( فانه يقال ) أنه يكفي في أخذ الثمرة المزبورة كونها مقتضى القاعدة المستفادة من الأدلة بعد إطلاق النصوص وإنتفاء ما يقتضي الاناطة المزبورة في استقرار القيمة فى ذمته ( ومجرد ) قيام الاجماع في مفروض الكلام على عدم وجوب دفع القيمة على الوارث لا يقتضي الكشف عن التقييد والاناطة المزبوره ، لولا دعوى كشفه عن بطلان المبني ( نعم ) لو ثبت منهم الاجماع على عدم وجوب شي. على الوارث في مفروض الكلام حتى على المبنى المزبور ، لكان لاستفادة الاناطة المزبورة مجال ( ولكن ) الشأن في هذا الاجماع فان دون إثباته خرط القتاد ( وحينئذ ) فيمكن قوياً أن يكون إتفاقهم على عدم شيء على الوارث من جهة رفضهم هذا المبنى وبنائهم في المسئلة على ما تقتضيه ظواهر الأدلة

ص: 33

من تعلق حق الزوجة بمالية العين لا بقيمتها في ذمة الوارث ( ولذا ) جعلنا هذا المعنى من المحاذير والتوالى الفاسدة للمنى المزبور .

( الثمرة الثالثة )

( ومنها ) إختصاص المنافع و التماآت المتصلة والمنفصلة المتجددة المتخللة بين الموت وزمان دفع القيمة بالوارث بناءاً على مبنى تعلق حق الزوجة بالقيمة في ذمة الوارث ( وكذلك ) على مبنى تعلقه بمالية العين ( لأن ) المنافع والتماآت من توابع ملك العين لا ملك المالية ( وأما بناءاً ) على مبنى تعلق حقها بالعين وأن للوارث دفع القيمة بدلا عنها ، فتشترك الزوجة مع الوارث فيها بحصتها ربعاً أو ثمنا كما صرح به المحقق القمي وقواه في موضع من أجوبة مسائله لكونها نماءاً لما ملكتها بالارث فلا وجه لتخصيص الوارث بها دون الزوجة ( نعم ) فى موضع آخر منها التزم باختصاصها بالوارث دون الزوجة معللا بان الزوجة لا تملك من العين حتى تستحق المنافع المتجددة بين الموت وزمان دفع القيمة ، وإنما هي ملك لغيرها من الورثة ( ولعل ) ذلك منه ( قده) رجوع عما اختاره اولا ( وإلا ) فهو مناف لما اسسه من المبنى الذى قرره مراراً في كلامه .

( الثمرة الرابعة )

( ومنها ) ما تقدمت الاشارة اليه سابقاً من إجبار الوارث على التقويم واعطاء القيمة إذا لم ترضى الزوجة الا بها بناءاً على مبنى تعلق حقها بمالية العين أو بقيمتها في ذمة الوارث ( وأما بناءاً ) على مبنى تعلقها بالعين أو بماليتها بمناط الارفاق بالوارث وعدم الاضرار به المنتفى مع رضائه باعطاء العين ، فلا يجب عليه دفع القيمة ولا يجبر على التقويم ، بل لو أراد الوارث إعطاء نصيب الزوجة من العين تجبر الزوجة على القبول ، كما أنه لو أراد دفع القيمة اليها تجبر ايضا على القبول وليس لها الامتناع من قبولها ( وقد يتوهم ) أن الامر كذلك حتى على مبنى تعلق حقها بمالية العين بخيال أن دفع حصتها من العين دفع لعين حقها من المالية القائمة بالعين مع زيادة خصوصية

ص: 34

العين فلاوجه لامتناعها من قبولها ومطالبتها بالقيمة و لكنه» توهم فاسد « فان العين» بعد أن كانت ملكاً للوارث كان لها الامتناع من قبولها لقاعدة السلطة المقتضية لعدم دخول شيء في ملك شخص الا باذنه ورضاه ، و مجرد رضاء الوارث باعطاء العين اليها لا يوجب دخولها في ملكها قهراً ولا يقتضي ايضا إجبارها على القبول كما هو ظاهر .

( الامر الخامس )

إذا اجتمعت ذات الولد وغيرها وقلنا باختصاص الحرمان من مطلق الارض عيناً وقيمة ، ومن البناء والأشجار عينا لاقيمة بالثانية ، فهل ترث الاولى كمال الثمن من رقبة الأرض من غير مشاركة أحد من الورثه معها وكماله من أعيان البناء والآلات والأشجار ، وعليها للاخرى نصف ثمن قيمة البناء والأشجار ، أو انها لاترث إلا نصف الثمن من رقبة الأرض والبناء والأشجار ونصفه الآخر لسائر الورثة وعليهم دفع قيمة نصف الثمن من الأشجار والبناء الى غير ذات الولد ( فيه وجهان ) بل قولان ثانيهما مختار المحقق القمي ( قده ) و بعض آخر ، نعم ما هو الموجود في موضع من أجوبة مسائله تخصيص نصف الثمن من البناء والأشجار بغير ذات الولد دون الورثة ولعل ذلك على أصله من ارث الزوجة من عين البناء والأشجار ( ولكن الاقوى ) وفاقاً للمشهور الأول ( فان الزوجة ) بوجودها ترث ثمن التركة بالفريضة واحدة تكون أم متعددة غير أنه مع التعدد يقسم الثمن بينهن حسب تعدد الزوجات ( فاذا حكم ) الشارع بحرمان غير ذات الولد من العرصات مطلقا ومن أعيان البناء والآلات والأشجار تصير المحرومة من هذه الجهة بحكم المعدومة في ( ولازمه ) إختصاص ذات الولد بتمام الثمن من العرصات من غير مشاركة أحد من الورثة معها فيها ، وتمام الثمن من البناء والآلات والأشجار كما في فرض انحصارها وعليها للاخرى نصف ثمن قيمة البناء والأشجار ،

ص: 35

فلاوجه حينئذ لدعوى رجوع نصف الثمن منها الى الورثة ( فان ) ذلك يحتاج الى دليل بالخصوص يقتضي حجبها من نصف المن عند إجتماعها مع غيرذات الولد ، وهو مفقود في المقام ( ولا فرق ) في الولد على التفصيل المزبور بين الذكر والانثى، ولا بين الولد وولد الولد ، بل ولا بين الحمل وغيره ولكن مع مراعات الولادة حياً، ولا بين الخشى وغيرها ولا بين كون الولد من نكاح دائم أو متعة، كما لو اولدها وهي متعة ثم تزوجها بعقد دائم ومات عنها ، ولا بين كون الولد من نكاح صحيح أو شبهة منهما بل ومن أحدهما ايضا على اشكال فيه خصوصاً إذا كانت الشبهة من طرفها كل ذلك لاطلاق المقطوعة المتقدمة المؤبدة بالعمومات ( نعم ) لا يلحق بذلك ولد الزنا منهما لا نتفائه شرعاً وكون المنصرف من المقطوعة ذات الولد الشرعي .

( الأمر السادس )

إذا كان على الميت دين ونحوه يوزع على مجموع التركة مما ترث منه الزوجة وما تحرم منه فلا يدفع جميعه من غير الأرض ليلزم الضرر على الزوجة ، ولا من خصوص الأرض ليلزم الضرر على الورثة دونها ( فان ) ذلك هو مقتضى تعلقه بمجموع التركة من الأراضي وغيرها ، مضافاً الى كونه مقتضى قاعدة العدل والانصاف الذي هو عدم توجيه الضرر على بعض الورثة دون بعضها ( وكذلك الأمر ) في كفن الميت ووصاياه فيخرجان من مجموع التركة على معنى توزيعها على ما تحرم منه الزوجة وماترث منه فتنقص من نصيبها ما يقابله من الدين والكفن والوصية كما هو الشأن في الحبوة ايضا حيث يوزع الدين والكفن على مجموع التركة فينقص منها شيء بازاء ما يقابله لما هو الظاهر من الآية من ان الميراث لا يثبت إلا بعد أداء الدين والحيوة من جملة الميراث.

ص: 36

( الأمر السابع )

حق الزوجة حق مالي يجوز الصلح عليه لأجنبي أو لبعض الورثة وبالصلح ينتقل حقها الى المصالح له فيجب على الورثة دفع القيمة الى من انتقل اليه الحق أجنبياً كان أو بعض الورثة ، من غير فرق في ذلك بين المسالك المتقدمة كما هو واضح ( نعم ) بناء على ما أحتمله بعض في دفع القيمة من كونه مجرد حكم تكليفي محض بلا شائبة وضع كما أشرنا اليه سابقاً يكون الصلح باطلا سواء كان الصلح لأجنبي أو لبعض الورثة ولكن الاشكال في المبنى ، فانه مخالف لما هو المصرح به في اخبار الباب من إرثها من القيمة مع أنه لم أجد القول به صريحا لأحد من الأصحاب ( وما في البلغة ) من نسبته الى بعض معاصريه لعله كان منه المحض إبداء الاحتمال كما هو ديدن المحققين ( وعلى فرض ) القول به فلا ريب في ضعفه .

( الامر الثامن )

لا فرق فيما تحرم منه الزوجة عيناً لا قيمة بين أن تكون الأرض التي فيها البناء والأشجار ملكاً للزوج الميت ، وبين أن تكون ملكا للزوجة قد ملكتها بأح___د الأسباب المملكة من بيع أو ارث ونحوهما ( فان ) حكم البناء والأشجار حكمهما فيما لو لم تملك شيئاً من العراص فتحرم منها عيناً لا قيمة من جهة الارث منها كما هو ظاهر .

( الامر التاسع )

إذا كان في الارض التي تحرم الزوجة منها مطلقا زرع ، فلا إشكل في أنها ترث نصيبها ثمناً أو ربعاً من عين الزرع وان لم يبلغ أوان حصاده ، بل ولو كان بذراً لعموم الأدلة وإنتفاء ما يوجب حرمانها ، عدا توهم قياسه بالبناء والأشجار، بلحاظ ثباته في الأرض ( ولقد عرفت ) فساده من أنه ليس المدار فيما تحرم منه الزوجة عيناً لاقيمة على عنوان الثبات فى الأرض أو عنوان غير المنقول كما يوهمه بعض تعابيرهم حتى يتعدى

ص: 37

من البناء والأشجار الى كل ماله ثبات في الارض ، وإنما المدار فيه على العناوين المأخوذة في الأدلة من نحو عنوان البناء وما يكون جزءاً منه كالطوب والخشب ، بل لولا صحيح الأحول ، لكنا نقول بارئها من عين الأشجار بمقتضى عمومات الارث ( وحينئذ ) فبعد إقتضاء الأدلة توريثها من عين الزرع فلا مجال لتوهم حرمانها منه عيناً بمحض ثباته في الأرض كما لا يخفى ( نعم ) انما الكلام فى أنه هل للزوجة ابقاء الزرع في الأرض إلى أن يحصد بدون الاجرة أو معها بحيث لم يكن للوارث الامتناع من بقائه في الارض حتى مع بذل الاجرة ( أو انه ) ليس لها ذلك ، وأن لمالك الارض الذي هو الوارث أمرها بقلعه وإزالته مع الأرش أو بدونه ( فيه وجوه ) أوجهها بظاهر المستفاد من أخبار الباب الأول لعين ماذكرناه في الأشجار والبناء من ظهور الأدلة في استحقاق الزوجة إبقائها في الارض بلا اجرة من غير أن يكون للوارث الأمتناع من ذلك ولا المطالبة بالاجرة على التبقية ، بلحاظ انتقال الارض اليه من مورثه مشغولة بالزرع والفرس .

( نعم ) لو نوقش في استفادة ذلك من أخبار الباب كان المتجه بمقتضى قاعدة تسلط الناس على أموالهم وعدم حل مال المسلم الا بطيب نفسه عدم حق لها على تبقية الزرع في الأرض الى وقت حصاده حتى مع الاجرة فضلا عن كونها بلا اجرة فالوارث أمرها بقلعه وإزالته ، ( فان ) هذه المسألة من صغريات مسئلة من ملك غرساً أوزرعاً في أرض لم يملك إبقائه فيها مع كون الوضع فيها بحق لعارية أو مزارعة أو اجارة ونحو ذلك ، كما إذا أعار أرضاً أو استأجرها في مدة لغرس أو زرع فمضت المدة والزرع باق ، ولولا بتفريط من المستأجر ، بل لاتفاق كثرة الأمطار وتغيير الأهوية ونحوهما ( فانه ) وإن اختلف فيها كلماتهم على أقوال ( ولكن ) التحقيق فيها وفاقاً للمعظم أنه ليس لمالك الزرع إبقائه بعد المدة ولو بالأجرة ، بل لمالك الأرض الأمر

ص: 38

بقلعه وإزالته بلا أرش لقاعده تسلط الناس على أموالهم وعدم حل التصرف في مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه ( وعدم ) اقتصاء مجرد كون الوضع بحق في مدة الاجارة لاستحقاق بقائه بعد مضي المدة كي يجب على المالك ابقائه في أرضه ( والاستدلال ) على ذلك بمفهوم قول الصادق عليه السلام في رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي أو اندر اوردى .. ليس لعرق ظالم حق ، أما بتنوين العرق أو باضافته ، بدعوى دلالته بالمفهوم على أن لعرق المحق وغير ظالم حق ، كما نرى فان الكلام ليس في مدة الاجازة وإنما الكلام فيما بعد انقضاء المدة وزوال اهو الموجب لصحة التصرف ، ولا شبهة في دخول ذلك في منطوق الرواية، لعدم حق للمزارع على إبقاء زرعه فى ملك الغير بعد إنقضاء المدة ( وما أفاده ) فخر المحققين ( قده ) من أنه أجمع الأصوليون على دلالة الوصف على المفهوم في هذا الحديث وإن اختلفوا في دلالة مفهوم الوصف في غيره من غرائب الكلام ، فان شأن الأصولي إنما هو بيان القواعد الكلية المنطبقة على مواردها كقولهم بحجية مفهوم الشرط ومفهوم الوصف مطلقا أو بشرط خاص فلا معنى لدعوى إجماعهم على دلالة الوصف على المفهوم في مورد خاص في المسئلة الفقهية إلا باعتبار كون المورد من أفراد ما بنوا على دلالة الوصف على المفهوم و إلا فلا وجه لتخصيص دلالة المفهوم بمورد هذا الحديث إلا من جهة فهمهم من الحديث ثبوت الحكم تعبداً ، ومثله غ_ي_ر مرتبط بدعوى الاجماع على حجية المفهوم في المورد الخاص كما لا يخفى ( مع أن ) مجرد فهمهم المفهوم من الحديث غير صالح لأن يكون دليلا في المسئلة ، لعدم كشف مثله عن رأى المعصوم كما هو ظاهر .

( وأما التشبث ) بقاعدة نفي الضرر لاستحقاق مالك الزرع ابقائه الى وقت حصاده ولو بالاجرة من غير أن يكون لمالك الأرض إزالته ( بتقريب ) أن في قلعه قصیلا ضرر على مالكه خصوصاً في المقام الذي لا يكون ذلك بتسبيب من الزوجة

ص: 39

وهو أي الضرر منفي في الشريعة لعموم قوله ( صلی الله علیه و آله وسلم ) لاضرر ولا ضرار في الاسلام كما في بعض أخبارها بزيادة لفظ الاسلام، فيتعين تبقيته على مالك الأرض ، غاية الأمر بالاجرة لا مجاناً لينا فى قاعدة إحترام الأموال في حقه ( ففيه ) مالا يخفى ( إذ بعد ) الاغماض عن كونه معارضا مع تضرر المالك في بقاء الزرع في ملكه وعدم تسلطه على تفريغ ماله من مال الغير وتخليصه منه ( نقول ) أنه لا مجال لتطبيق عموم نفي الضرر في أمثال المقام من موارد تزاحم الحقوق ( فان ) لازم سوق العموم المزبور مساق الامتنان على الامة إختصاص مورده بما إذا لا يلزم من نفي الضرر فيه في حق شخص خلاف الامتنان في حق شخص آخر ) ولازمه ) عدم صلاحيته لرفع الاحكام الارفاقية التي منها قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ( فلا يمكن حينئذ تطبيق ) عموم نفي الضرر على مورد البحث لرفع سلطنة مالك الأرض على ملكه في تفريغ ماله من زرع الغير وتخليصه من_____ه لكونه خلاف الامتنان في حقه ( ومعه ) يكون للمالك بمقتضى قاعدة سلطنة الناس على أموالهم الامتناع من بقاء الزرع في ملكه و او بالاجرة فكان له الامر يقلعه بل له از الته وتفريغ ماله منه .

( وتوهم تعارض ) السلطنتين والضررين في المقام فيؤخذ بأقلهما دفعاً لكثرة الضرر الوارد في البين ( مدفوع ) بأن قاعدة السلطنة على الأموال لا تقتضى الا سلطنة كل من المالكين على ماله في تفريغ ماله من مال الغير وتخليصه منه ( وأما السلطنة ) عليه بنحو يقتضى التصرف في مال الغير بحبسه في ماله أو باشغاله ، فهي خارجة عن مقتضى هذه القاعدة ( إذ هي ) من جهة كونها من الأحكام الارفاقية قاصرة عن الشمول المطلق انحاء تصرفات المالك في ملكه حتى المستتبع منها للتصرف في مال الغير باتلاف أو حبس ونحوها ( إذ عمومها ) من هذه الجهة ينافي الارفاق في حق الغير ، فتكون منافية لا رفاقية نفسها ( فالمالك ) إنما يكون سلطانا على التصرف

ص: 40

فى ماله اذا لم يكن مستلزماً للتصرف في مال الغير و إلا فلا يكون له السلطنة على مثله، ومن هنا ليس لمالك المعول مطلق السلطنة على التصرف فيه حتى بما ينطبق عليه عنوان الضرب على جدار الغير و بتحريبه ، بل كان لمالك الجدار السلطنة على منعه من التصرف المزبور ( وحينئذ ) نقول أن لكل من مالك الأرض والزرع وإن كان السلطنة على ماله بأنحاء التصرفات فيه ( و لكن ) ليس لمالك الزرع مطلق السلطنة عليه بنحو يقتضي إبقائه في ملك الغير من غير إذنه وطيب نفسه ، كي يزاحم سلطنة مالك الأرض على تفريغ أرضه من زرع______ه وتخليصها منه ( كما أنه ) ليس لمالك الارض ايضا مطلق السلطنة على ماله بنحو يمنع مالك الزرع عن قلع زرعه وإزالته ، كي براحم سلطنة مالك الزرع على زرعه، لعدم سلطنته على ابقاء مال الغير في ملكه ( فاذا ) لم يكن لمالك الزرع السلطنة على اشغال ملك الغير بابقاء زرعه فيه ولا لمالك الأرض السلطنة على ابقاء زرع الغير في أرضه من غير إذنه وطيب نفسه ( فلا يبقى ) إلا سلطنة كل منهما على تفريغ ماله وتخليصه من مال الغير ( وفي هذا ) المقدار ليس للآخر منعه من ذلك ( فكان )، لمالك الزرع السلطنة على قلع زرعه من غير أن يكون لمالك الأرض منعه من ذلك ، كما أن لمالك الأرض السلطنة على تفريغ أرضه من زرع الغير بازالته أو الامر بقلعه من غير أن يكون لمالك الزرع السلطنة على ابقائه في أرضه ( ومعه ) ابن تقع المزاحمة بين السلطنتين كي يقال بانه مع تزاحمهما وتعارض الضررين يؤخذ بأفل الضررين ( هذا ) مع أن الأخذ باقل الضررين إنما يصح ويصار اليه إذا دار الأمر بين أحد الضررين الواردين على شخص واحد فيختار أقلهما ( وأما ) إذا دار الامر بين أحد الضررين الواردين على شخصين فلا وجه للحكم بتقديم أقلهما (وتوهم) أن حكم الضرر الوارد على أحد الشخصين حكم أحد الضررين الوارد على شخص واحد في لزوم تقديم أقلعها ( مدفوع ) بأنه لا دليل عليه بل مقتضى القاعدة خلافه ( كاندفاع ) توهم لزوم التبقية بالاجرة على مالك الأرض

ص: 41

إن أراد صاحب الزرع الابقاء، بتخيل أن شمول لاضرر للضرر المجبور بالاجرة في جانب مالك الأرض وتوجهه نحو الزارع أضعف ظهور أمن شموله لضررا لقلع المجبور بالأرش المتوجه نحو مالك الأرض، فيقدم دليل نفي الضرر في جانب مالك الزرع عليه في جانب المالك ولا يتمسك بعموم دليل السلطنة بالنسبة الى مالك الأرض لكونه محكوماً بدليل نفي الضرر ( وجه الاندفاع ) يظهر مما قدمناه من أن عموم نفي الضرر باعتبار كونه مسوقاً في مقام الامتنان غير صالح لنفي الأحكام الامتنانية من نحو سلطنة المالك وذى الحق على ملكه وحقه ( مضافا ) الى منع أضعفية شموله لضرر المالك المجبور بالاجرة من شموله لضرر مالك الزرع المجبور بالا رش وتدارك نقصان ماليته ( فالتحقيق ) هو أن لمالك الارض عدم التبقية واو بالاجرة وجواز تفريغ ملكه من مال الغير زرعاً أو غرساً بازالته بلا أرش، من غير فرق بين أن يكون الوضع بحق أو بغير حق كالغصب ونحوه ( اللهم ) إلا أن يدعى الفرق بينهما من حيث عدم ضمان الارش في فرض كون الوضع من غصب لان الغاصب يؤخذ بأشق الاحوال فلا احترام لماله ( بخلاف ) فرض كون الوضع عن حق ( فان ) قاعدة احترام الاموال تقتضي وجوب الأرش على مالك الارض عوض نقصان مالية زرع الغير وغرسه إذا كان هو المقدم والمتولى للقل_ ( لعدم ) اقتضاء تسلطه على تفريغ أرضه من زرع الغير أو غرسه لسلب احترام مال الغير بحيث لا يجبر نقصان ماليته بالأرش، كافتضائها وجوب أجرة علم حفر الأرض على مالك الزرع والغرس لو كان هو المقدم والمتولى لازالته الزرع والفرس ، لضمانه النقص الوارد على مالك الأرض بقلع ماله ( نعم ) لو كان الاقدام من الطرفين فلا جبران عليها لمكان اقدامها .

( ثم أنه ) لا فرق فيما ذكرنا من تسلط مالك الأرض على الازالة وتفريغ ملكه من مال الغير بين مثل الزرع الذي له أمد قريب محدود يتربص وبين مثل

ص: 42

البناء والاشجار الذي ليس له أمد محدود مترص ( فانه ) على كل تقدير لا يجب على مالك الأرض التبقية ولو بالاجرة ، بل له الازالة لتخليص ماله من مال الغير من غير أن يكون لمالك الزرع أو الغرس الابقاء ( فما يظهر ) من بعضهم من التفصيل بين الزرع ونحوه، و بين مثل البناء والشجر بوجوب التبقية على مالك الارض بالاجرة في الأول ( وعدم ) وجوبه في الثاني وجواز قلعه مع الارش أو بدونه (منظور فيه) إذ لا أصل لهذا التفصيل عدا توهم قاعدة نفي الضرر التي عرفت قصورها عن الجريان في امثال المقام والتحكيم على قاعدة السلطنة على الاموال التي هي من الاحكام الارفاقية لذوى الاموال والحقوق على اموالهم وحقوقهم .

( نعم ) ربما يتمسك لوجوب التبقية في نحو الزرع بالنصوص الواردة في بيع الزرع الظاهرة في أن لصاحب الزرع التبقية الى أن يسنبل ( كقوله ) عليه السلام في خبر حريز لا بأس أن تشتري الزرع والقصيل ثم تتركه إن شئت حتى يسنبل ثم تحصده ( وإن ) شئت ان تعلف دابتك قصيلا فلا بأس قبل أن يسنبل فاما اذا سنبل فلا تعلقه رأساً فانه فساد ( وقوله ) عليه السلام فيما رواه ثقة الاسلام و الشيخ قدسر هما في الصحيح أو الحسن عن الحلبي لا بأس أن تشترى زرعاً أخضر ثم تتركه حتى تحصده إن شئت أو تعلفه قبل أن يسنبل وهو حشيش ( وقوله ع ) فيما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن خالد لا بأس أن تشترى زرعاً أخضر فإن شئت تركته حتى تحصد وإن شئت بعته حشيشاً ( لكنها ) كما ترى لا إطلاق لها بنحو يشمل صورة إطلاق العقد من حيث إشتراط التبقية أو القطع فصيلا لتكون صالحة لتخصيص عموم مادل على سلطنة المالك على ملكه ( بل المنساق ) منها إنما هو صورة اشتراط التبقية على البايع إن أراد إبقاء الزرع إلى أن يسنبل ويحصد ، أو إقتضاء العادة على تبقية الزرع بنحو موجب لانصراف العقد اليه الذى هو بمنزلة إشتراطها ( ولذا ) ترى بناء

ص: 43

غير واحد في فرض الطلاق العقد وانتفاء العادة المقتضية للتبقية الى أن يحصد على كون البايع بالخيار إن شاء قطعه وإن شاء تركه لقاعدة السلطنة المقتصية لتسلط مالك الارض على تفريغ أرضه من مال الغير ( وعلى فرض ) إطلاق تلك النصوص من حيث إشتراط التبقية على البايع في بيع الزرع وعدم اشتراطها في فرض عدم اقتضاء العاده أيضا التبقية في شراء الزرع حال كونه أحضر ( فلا بد ) من تقييدها في موردها بما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الموثق عن سماعة .. قال سئلته عن شراء القصيل يشتريه الرجل فلا يقصله ويبدو له في تركه حتى يخرج سنبله شعيراً أو حنطة وقد اشتراه من أصله على أن ما يلقاه من خراج فهو على العلج : فقال ع إن كان إشترط عليه إلا بقاء حين اشتراه إن شاء قطعه قصيلا وإن شاء تركه كما هو حتى يكون سنبلا وإلا فلا ينبغي له أن يتركه حتى يكون سنبلا، فان فعل فعليه طبقه و نفقته وله ما خرج منه ( فان ) ظاهره عدم جواز الابقاء بدون الاشتراط على البايع لكونه من التصرف في ملك الغير بغير الوجه المشروع ، فيقيد به إطلاق النصوص المتقدمة لو فرض إطلاقها من هذه الجهة كما هو مستند الاصحاب فيما قدمنا نقله عنهم من انه متى بيع لاجل الفصل من غير إشتراط الابقاء إن شاء لا يجوز التبقية بل يجب ازالته ( وما في الجواهر ) والرياض من حمل لا ينبغي على الكراهة ( منظور فيه ) لظهور الرواية في كون المراد به الحرمة وكون الحكم على طبق القاعدة المقتضية لمنع التعدى والتصرف في ملك الغسير من غير طيب نفسه ( نعم ) لا بأس بحمل ذيله على الندب وهو كون الطبق عليه إذ لا معنى لوجوب كونه عليه مع فرض اشتراط كونه على العلج ( ومع الاغماض ) عن ذلك كله يجب الاقتصار في مخالفة القاعدة على خصوص موردها والمصير في غير موردها الى العمومات المقتضية لسلطنة مالك الأرض على تخليص ملكه من مال الغير ( ولازمه ) كما قدمناه عدم الفرق بين مثل الزرع الذي له أمد

ص: 44

متربص ، وبين غيره كالبناء والأشجار ( إلا ) أن يدعى قيام الاجماع على الفرق بينهما في التفصيل المزبور كما قيل ) ولكن ) دون اثباته خرط القتاد.

لا فرق فيما ذكرنا من عدم وجوب التبقية على مالك الأرض بين أن يكون ملكية الزرع ونحوه بالاجارة أو المزارعة أو غيرهما ) ولكن ) يظهر من جماعة منهم العلامة ( قده ) التفصيل بين كون ملكية الزرع بالاجارة او بالمزارعة بوجوب التبقية على مالك الارض بالاجرة في الاول وعدم وجوبها في الثاني وكونه مخيراً بين التبقية بالاجرة وبين الازالة مع الأرش : قال في القواعد ما لفظه فان إستأجر للزرع وانقضت المدة قبل حصاده ، فان كان لتفريط من المستأجر كأن يزرع ما يبقى بعدها فكا لغاصب ، وإن كان لعروض برد وشبهه فعلى الموجر التبقية وله المسمى عن المدة واجرة المثل عن الزائد ( وقال ) في باب المزارعة ، فلو ذكر مدة يظن فيها الادراك فلم يحصل فالاقرب أن للمالك الازالة مع الأرش أو التبقية بالاجرة ، سواء كان بسبب الزارع كالتفريط بالتأخير أو من قبل الله سبحانه كتأخير الأهوية وتأخر المياه إنتهى ونحوه عبارة البلغة .

( أقول ) ولم يعلم وجه التفصيل المزبور بين البابين ( فان ) قاعدة نفي الضرر إن كانت جارية في أمثال المقام وصالحة للحكومة على قاعدة سلطنة الناس على أموالهم فلا فرق بين البابين ( وإن لم تكن ) صالحة للجريان كما في باب المزارعة حيث حكم فيه بتخيير المالك بين التبقية بالاجرة والازالة مع الأرش ، فلتكن كذلك فلتكن كذلك في باب الاجارة إيضا [ لأن ] المناط في أمثال هذه الموارد أمر واحد وهو عدم إقتضاء مجرد ملكية الحال والمظروف لشخص لاستحقاق ابقائه في محل يملكه غيره إلا بدليل خارج ولم يقم دليل على استحقاق بقائه الزرع في باب الاجارة دونه في باب المزارعة فالتفصيل بين البابين مما لم نقف له على مستند ( وما أفيد ) في البلغة في وجه التفرقة

ص: 45

المزبورة بين البابين ، من أن تخيير المالك في باب المزارعة بين الابقاء بالاجرة والازالة مع الأرش إنما هو لأجل أن الزرع مشترك بينهما ولا يجبر المالك على إبقاء حصته من الزرع لأن له قلعه قصيلا ، كما كان للمستأجر ذلك ، غير أن قلعه لحصته لما كان مستلزماً لضرر الزارع في حصته وجب عليه تداركه بالا رش ( منظور فيه ) فان المالك وإن لم يجبر على ابقاء حصته من الزرع فكان له القلع قصيلا ( ولكن ) مجرد ذلك لا يقتضي تخيره بين الابقاء والقلع بالنسبة الى حصة الزارع ، لامكان تقسيم الزرع بينهما بنحو لا يلزم من قلع حصة نفسه قصيلا إضراراً بالزارع في حصته ( وحينئذ ) فلو بنينا على جريان قاعدة نفى الضرر في امثال المقام وتحكيمها على قاعدة السلطنة على الأموال كما التزم به في باب الاجارة فلا محيص من القول به في باب المزارعة ايضا ( وإلا ) يلزم القول بجواز القلع في الاجارة ايضا ، فعلى كل تقدير لاوجه للتفرقة بين البابين ( بل المتعين ) بمقتضى ما ذكرناه هو القول بعدم وجوب التبقي_ة على المالك مطلقا مالم يثبت استحقاقه للبقاء بدليل خارج ، من غير فرق بين أن يكون ملكية الزرع أو الغرس بالنحو المزبور بالاجارة أو المزارعة أو الشراء أو الانتقال بالارث أو غيرها ( نعم ) في خصوص مانحن فيه وهو الانتقال بالارث الى الزوجة يمكن دعوى استحقاقه للبقاء، كما استظهرناه من أخبار الباب .

( الأمر العاشر )

لا خلاف ظاهراً بين الاصحاب في استحقاق الزوجة في الجملة من الخيار بأنواعه لكونه من الحقوق الموروثة فترث منه الزوجة كما ترث من غيره من الحقوق والأموال ( وإنما الكلام ) في الخيار المتعلق بما تحرم منه الزوجة كالاراضي والعقار في انها هل تحوم من هذا الخيار مطلقا أولا تحرم منه كذلك ( حيث ) ان فيه وحوه بل أقوال ، ثالثها التفصيل بين كون ما تحرم منه الزوجة منتقلا إلى الميت أو عنه ،

ص: 46

فترث في الأول دون الثاني ( ولكن التحقيق ) عدم الحرمان مطلفا ، لعموم أدلة الارث والبنوى : ماترك الميت من حق فهو لوارثه [ وإنتفاء ] ما يقتضى حرمانها منه ( عدا ) ما افيد من اعتبار التسلط على العوضين من حيث الرد والاسترداد في حقيقة الخيار ( لأنه نه ) علاقة لصاحبه فما انتقل عنه توجب السلطنة على إسترداده في ظرف تسلطه على التصرف فيما انتقل اليه بازائه ليكون له رد ما في يده لملك ما انتقل عن____ه وهذا المعنى لا يتصور في حق الزوجة المحرومة بالنسبة الى الأراضي والعقار ( اما ) في صورة كون الارض منتقلة الى الميت ، فلكونها ملكاً فعلياً لسائر الورثة دونها ولا معنى لتسلطها على مال الغير ( وأما ) في صورة كونها منتقلة عنه ، فهي وان كانت مسلطة على ما يخصها من الثمن ، ولكن مجرد ذلك لا يوجب سلطنتها على استرداد ما انتقل عن الميت ، إذ لا ينتقل اليها بإزاء ما ينتقل عنها من الثمن شيء من الثمن ( لأنه ) يعتبر في الخيار تملك الرد والاسترداد الى نفسه ( وفيه ) مالا يخفى ، إذ يمنع كون الخيار من تبعات السلطنة على العوضين، بل هو حق متعلق بالعقد، لا بما انتقل عنه أو اليه ، فليس حقيقة الخيار إلا مجرد السلطنة على حل العقد الذي لازمه القهري رجوع العوضين كل منهما بعد الفسخ الى ملك مالكه السابق ، وفي هذا المقدار لا يعتبر الملكية ، بل ولا كون صاحبه مسلطاً على العوضين أو أحدهما حتى تحرم عنه الزوجة ، بشهادة ثبوته للوكيل في اجراء الصيغة ، وللاجنبي المجمول له الخيار ، مع وضوح عدم كونهما مسلطين على العوضين ، بل على مجرد حل العقد ( ولا دليل ) على اعتبار أزيد من ذلك في حقيقة الخيار حتى في المالكين ، وكون المالك مورداً للرد عن نفسه والاسترداد الى نفسة غير مرتبط بحقيقة الخيار التي هي ملك فسخ العقد و اقراره كعدم ارتباط تسلطها الخارجى على العوضين من حيث الرد والاسترداد في حقيقته ، فان لملك فسخ العقد و اقراره مقام وللسلطنة على المنتقل اليه أو عنه مقام آخر .

ص: 47

( وحينئذ ) نقول إن اريد من السلطنة على العوضين من حيث الرد والاستراد السلطنة عليهما إعتباراً من حيث كونه من لوازم حل العقد وفسخه ، فهو مسلم ( ولكن ) المدعى ، ثبوت ذلك للزوجة ايضاً بأدلة الارث حتى في الخيار المتعلق ببيع الأرض والعقار، حيث لا يمنع عن إرثها من الخيار حرمانها منهما ( لان ) ثبوت الخيار لها أنما كان بدليل الارث ، لا يمناط التبعية لارثها من المال حتى يقتضى حرمانها من الارض حرمانها من الخيار المتعلق بها ( ومن هنا ) تقول بثبوت الخيار للوارث في صورة كون الدين مستوعباً للتركة حتى على القول بعدم انتقال التركة الى الوارث مع استيعاب الدين لها ( وكذا ) في غير الولد الاكبر بالنسبة الى الحبوة ( وان اريد ) اعتبار أزيد من هذا المقدار في حقيقة الخيار من التسلط على استرداد ما انتقل عنه الى نفسه والتسلط على المنتقل اليه ، فهو مما يطالب بالدليل حتى في المالكين فان مجرد كونهما موردين لهذين لا يقتضى اعتبارهما في حقيقة الخيار .

( وحينئذ ) فاذا لا يعتبر في الخيار الثابت للمالك إلا مجرد السلطنة على حل العقد وجعله كأن لم يكن بلا إعتبار أمر زائد فلا يعتبر في إرثه ايضا ذلك ( لأن ) معنى أرث الخيار إنما هو تملك الوارث ما كان للميت ، ولازمه هو إرث الزوجة من الخيار الثابت المميت ولو كان متعلقاً بما تحرم منه الزوجة ( من غير ) فرق بين أن يكون ما تحرم منه الزوجة منتقلا إلى الميت أوعنه ( اذ لا يعتبر ) في الخيار الذي هو حل العقد التبعية لملك المال او السلطنة عليه ولا استرداد الفاسخ الى نفسه والرد عن نفسه بشهادة ما عرفت من ثبوته للوكيل والأجني المجعول له الخيار وإن أبيت الا من اعتبار الرد والاسترداد اما الى نفسه أو الى من هو منسوب من قبله وأن خيار الوكيل والاجنبي انما هو باعتبار كونهما منصوبين من المالك كما أفاده الشيخ قده ( نقول ) أن الزوجة باعتبار واريثيتها تكون خليفة عن الميت فيما كان له وباعمالها الخيار تسترد أحد الموضين الى الميت وترد الآخر وان

ص: 48

كانت هي محرومة من أصل المال ( وتنقيح ) الكلام بأزيد من ذلك موكول الى محل آخر ( ولقد ) ذكر نا شطراً وافياً من الكلام فيما يتعلق بالمقام في باب البيع في مبحت أحكام الخيار ( والمقصود ) في المقام مجرد الاشارة الى ثبوت الخيار لها فيما يتعلق بالأراضي والعقار وأنه ليس إرثها من الخيار من توابع إرثها لاصل المال ، ولا كان معنى الخيار حق الرد والاسترداد الى نفسه وعنه وانما هو مجرد حق حل العقد وجعله كأن لم يكن الذي لازمه رجوع العوضين كل منهما الى مالكه السابق .

( الامر الحادي عشر )

إذا كان للميت أرض مشتراة بخيار له أو لصاحبه ، ففي استحقاق الزوجة حصتها من المن بعد الفسخ أو حرمانها منه خلاف بين الاعلام ( ولا يخفى ) ان الخلاف فى هذه المسئلة غير مبتنى على الخلاف في المسئلة السابقة ، لامكان القول بارئها من الثمن في هذه المسئلة مع البناء على حرمانها من الخيار في المسئلة السابقة ، كامكان القول بالعكس فبين المسئلتين تكون النسبة العموم من وجه ولا تلازم بينهما .

( ثم ان المختار ) في المسئلة هو استحقاقها مما قابلها من الثمن بعد فسخ المعاملة ، لاقتضاء الفسخ ولو من الحين تبديل عنوان التركة من الخصوصية الموجبة لحرمان الزوجة منها الى عنوان آخر غير موجب لذلك ( ولازمه ) إرثها في مقدار حصتها مما قابل العين من الثمن بعد الفسخ ( لا يقال ) أن الأمر كذلك اذا كان قضية الفسخ كونه ح____لا للعقد من الاول ( وإلا ) فبناءاً على كونه حلا للعقد من الحين كما هو التحقيق فلازمه رجوع العوضين كل منهما بالفسخ الى المالك الفعلى الاخر دون غيره ( فاذا ) كان المفروض ملكية الأرض المشتراة لسائر الورثة دون الزوجة ودون الميت لفرض إنتقالها بالموت الى الوارث ، فلا بد من رحوع ماقابلها من الثمن الى الوارث الذي خرج الأرض بالفسخ من ملكه ، فلا وجه لرجوعه الى الميت ، ولا لصيرورته بحكم

ص: 49

ماله كي يتجدد الارث فترث منه الزوجة ( و بهذه ) الجهة منع ايضا من ارثها من الخيار المتعلق بمعاملة الأراضي والعقار ( فانه يقال ) أن مجرد كون الفسخ حلا للعقد من الحين لامن الأول غير مجد في منع الزوجة من إرث الثمن ، إلا بضميمة مقدمة خارجية ممنوعة ( وهي ) دعوى كون مفاد العقد عبارة عن مجرد أحداث العلقة البدلية بين المالين في عالم الاعتبار من دون ملاحظة إضافتها الى طرفي العقد أعنى المالكين من حيث الدفع والجذب ( إذ حينئذ ) يمكن منع استحقاق الزوجة نصيبها من الثمن «لأن» حل العقد في كل زمان يقتضي قلب العلقة البدلية بين المالين في ذلك الزمان ( فني ) زمان ملكية الأرض للميت تكون قضيته الفسخ رجوع الثمن إلى ملكه بمقتضى الملكية السابقة ( وفى زمان ) ملكيتها للوارث يكون الفسخ موجباً لرجوع الثمن إلى خصوص الوارث المالك للارض ولازمه حرمان الزوجة من الثمن المسترد بالفسخ ( كما ان ) لازمه ، فى فرض عكس المسئلة وهو كون الأرض منتقلة عن الميت ، الالتزام باستحقاق الزوجة نصيبها من الأرض المستردة بالفسخ ، لعدم كون إستحقاقها منها حينئذ بعنوان الارث من الميت حتى يمنع عنه ، وأنما هو بعنوان الفسخ الموجب لرجوع العوضين كل منهما إلى المالك الفعلى للآخر .

( ولكن ) الشأن في تمامية هذا المبني ( بل نقول ) أن مفاد العقد الذي اقتضى الفسخ حله عبارة عن العلقة البدلية بين المالين على نحو لو حظ ايضا اضافتها الى المالكين ولو باعتبار إشراب حيث الدفع الى الغير والجذب منه فى الالتزام العقدي من المتعاقدين في مقام المعاوضة والمبادلة ( ولازمه ) إقتضاء الفسخ قلب عنوان دافعية البائع للمثمن من الحين الى جاذبيته له ، وبالعكس في طرف المشتري ( الملازم ) في الفرض لاعتبار خروج الأرض من ملك الميت ودخول الثمن في ملكه ولو حكما المساوق لقلب عنوان التركه من الحين بعنوان آخر ينتقل مثله اليها ولازمه هو الالتزام بارث الزوجة من الثمن ( كما ان )

ص: 50

لازمه فى عكس المسئلة هو الالتزام بحرمان الزوجة ، لصيرورة الأرض المستردة بالقنح يحكم مال الميت الذي لا ينتقل مثله الى الزوجة .

( وإن شئت )قلت أن مقتضى كون الفسخ حلا للعقد ولو من الحين وجعله كان لم يصدر من المتعاقدين هو رجوع كل من العوضين الى من له العقد بمقتضى الملكية السابقة ولا يكون من له العقد الا البايع الميت دون الوارث ، ولازمه إستحقاق الزوجة من الثمن المقابل للعين ، لتبدل عنوان التركة من الحين الى عنوان آخر لا تحرم

الزوجة من مثله .

( وأما ) توهم عدم قابلية الميت لان ينتقل اليه المال حقيقة ولا حكما بصيرورة الثمن بحكم ماله ( فمدفوع ) بانه لو سلم عدم قابلية الميت للانتقال الجديد ، فلا مانع من صيرورته بحكم ماله ( فان ) الملك الحكمي مما لا محذور فيه ، كما في نماء ثلثه وأرش جنايته .

( ودعوى ) أن من له العقد بعد الموت إنما يكون هو الوارث ( فانه ) باعتبار كونه خليفة عن الميت الموجب لاعتبار كون العقد على مال الميت واقعاً على ماله المستقبع الرجوع الثمن بالفسخ اليه لا الى الميت حتى يرثه الوارث منه ( مدفوعة ) بأن كون الوارث خليفة عن الميت ونازلا منزلته في كون العقد الواقع على المال واقعاً على ماله إنما يقتضي رجوع المال اليه في فرض عدم امكان رجوعه الى الميت ومن له العقد التحقيقي ( والا ) فعلى فرض امكان رجوعه الى الميت ولو حكما فلا مجال لرجوعه الى من هو نازل منزلته في كونه ممن له العقد ( وحينئذ ) فاذا كان قضية الفسخ عود المال الى من له العقد التحقيقي ، يلزمه ارث الزوجة من الثمن المسترد بالفسخ ، كما أن في عكس المسئلة يلزمه حرمانها من الأرض المستردة ، من غير فرق في ذلك كله بين أن يكون الخيار للميت أو لطرفه .

ص: 51

( ولكن ) يظهر من بعض من عاصر ناه التفصيل في المسئلة بين أن يكون الخيار للمشتري الميت أو للبايع فقال بارث الزوجة من الثمن في الأول دون الثاني ببيان ، أن الزوجة وان لم ترث من العقار شيئاً ، الا أنها بارتها للخيار ملكت أن ملك بالفسخ ، فاذا فسخت ملكت بقدر نصيبها لارثها للعلقة ( ولكنه ) كما ترى فان الفسخ لو اقتضى رجوع ما قابل العين الى ملك الميت ولو حكما ، فلا فرق فيه بين كون الفسخ بخيار للمشتري الميت أو للبايع ، فان الزوجة في الصورتين تستحق من الثمن بقدر نصيبها ، بلحاظ تبدل عنوان التركة من الحين بعنوان آخر ينتقل مثله اليها ( وان اقتضى ) رجوعه الى المالك الفعلى للأرض حين الفسخ الذي هو الوارث يلزمه حرمان الزوجة من الثمن في الصورتين ( ومجرد ) ارئها للخيار لا يؤثر في ارتها من المال ، ولذلك أشرنا في أول المسئلة بانه لا تلازم بين ارئها للخيار وبين ارثها من المال ، لان النسبة بين المسئلتين تكون بنحو العموم من وجه ( هذا ) آخر ما أوردناه في هذه المسئلة والحمد لله أولا وآخراً ( وقد حصل ) الفراغ من تسويدها على يد العبد الجاني على نفسه الراجي رحمة ربه محمد تقي النجفي البروجردي ابن عبدالكريم على الله عن جرائمهما بالنبي محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين في شهر ذى القعدة الحرام سنة الالف وثلاث مائة و احدى وستين من الهجرة النبوية عليه وعلى وصيه وابن عمه وعلى الأئمة المعصومين من ذريته آلاف الثناء والتحية .

ص: 52

فهرس

فهرس ما فى رسالة نخبة الافكار فى حرمان الزوجة من الاراضي والعقار

بیان عدم الخلاف بين الاصحاب في حرمان الزوجة من بعض تركة زوجها في الجمله....2

تضعيف كلام الاسكافي قدس سره على فرض ظهور كلامه فى المخالفة في اصل المسئلة...3

المقام الاول : بيان الاقوال والاخبار الدالة على حرمان الزوجة من مطلق الارض....4

دفع المناقشات في اخبار الباب....8

تضعيف قول المفيد والسيد والمنسوب الى الشيخ قدس سرهم....11

المقام الثاني: اثبات عموم الحرمان لمطلق الزوجة و هو ثاني القولين في المسئلة....12

التنبيه على بعض الامور المهمة....17

الامر الاول : عدم الفرق في حرمان الزوجة من الاراضى مطلقا ومن البناء والاشجار عيناً بين ان يكون معها وارث غير الامام (ع) و بين ان لا يكون معها وارث غيره....17

الامر الثاني: الامور التي تحرم الزوجة من اعيانها....17

حرمان الزوجة من اعيان الابنيه....17

حرمانها من اعيان آلات البناء....18

حد حرمانها من العيون والآبار....20

حرمانها من اعيان الاشجار و غصانها....21

الامر الثالث: في كيفية تقويم البناء والآلات....21

ص: 53

الامر الرابع: في تحقيق ان استحقاق الزوجة للقيمة هل هو باصل الارث او من حيث بدليتها عن العين....25

بيان بعض الثمرات المترتبة على الوجهين....29

الثمرة الاولى : كون العبرة في القيمة على وقت الموت او الاداء....29

الثمرة الثانية : عدم جواز تصرف الوارث فى العين الا بعد دفع حق الزوجة وجوازه....30

جوب دفع القيمة على الوارث اذا تلف العين، وعدم وجوبه....32

الثمرة الثالثة : اختصاص المنافع والنماءات الحاصلة بين الموت و زمان دفع القيمة بالوارث او اشتراك الزوجة معه فيها....34

الثمرة الرابعة : وجوب دفع القيمة على الوارث و اجباره على التقويم و عدمهما....34

الامر الخامس : في حكم اجتماع ذات الولد و غيرها....35

الامر السادس: لزوم توزیع دین الميت على مجموع التركة مما ترث منه الزوجة و ما تحرم منه....٣٦

الامر السابع : في ان حق الزوجة حق مالي يجوز الصلح عليه للاجنبى او لبعض الورثة....37

الامر الثامن : في عدم الفرق فيما تحرم منه الزوجة عيناً بين ان تكون الارضى التي فيها البناء والاشجار ملكاً للزوج الميت او للزوجة....37

الامر التاسع : فى ان الزوجة ترث نصيبها من عين الزرع و ذكر بعض ما يتعلق به....٣٧

الامر العاشر : في ارث الزوجة من الخيار المتعلق بالاراضي والعقار....46

الامر الحادى عشر : فى استحقاق الزوجة مما قابلها من ثمن الارض المشتراة بخيار للميت او لصاحبه بعد فسخ المعاملة....49

ص: 54

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.